مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرّ الأمور مُحدَثاتها، وكل مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70 - 71.

لاشكَّ أن الداعية إلى الله تعالى لا يكون ناجحاً موفقاًَ مسدداً في دعوته إلا بإخلاص عمله كله لله، ومتابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أموره، وبالتزامه بالصفات والمقوِّمات التي تجعله مستقيماً في دعوته معتدلاً، لا إفراط ولا تفريط. ولا ريب أن معرفة الداعية للمقوِّمات التي تجعله ناجحاً في دعوته من أهم المهمّات؛ لأن نجاح دعوته، وفوزه برضى ربه، وتوفيقه موقوف على العمل بهذه المقوّمات، ومقوّمات الداعية الناجح متعددة وكثيرة؛ ولكني سأقتصر على ذكر أصولها، وأسسها التي تتفرّع منها جميع المقوِّمات التي لابدّ لكل داعية من معرفتها، والعمل بها، وتطبيقها في حياته. وهذا موضوع مهم جداً ينبغي أن يُبيَّن ويُبرز من قبل العلماء المبرزين الذين بذلوا حياتهم وجهدهم في سبيل نشر هذا الدين، وإيصاله للناس بالوسائل والطرق النافعة المشروعة؛ ولكني سأذكر ما يسّر الله لي من هذه المقوّمات التي لا يستغني عنها الداعية في دعوته. وقد قسمت البحث إلى تمهيدٍ، وتسعة فصول، وتحت كل فصل مباحث، وتحت كل مبحث مطالب في الغالب على النحو الآتي: التمهيد: مفهوم مقومات الداعية الناجح. الفصل الأول: العلم النافع المبحث الأول: أهمية العلم المبحث الثاني: أقسام العلم النافع المبحث الثالث: العمل بالعلم

المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم الفصل الثاني: الحكمة المبحث الأول: مفهوم الحكمة. المبحث الثاني: أهمية الحكمة المبحث الثالث: أنواع الحكمة المبحث الرابع: درجات الحكمة المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة. المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم. الفصل الثالث: الحلم المبحث الأول: مفهوم الحلم المبحث الثاني: أهمية الحلم المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة. المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم. الفصل الرابع: الأناة والتثبت المبحث الأول: مفهوم الأناة. المبحث الثاني: أهمية الأناة. المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الأناة في الدعوة. المبحث الرابع: العجلة والاستعجال. الفصل الخامس: الرفق واللين المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين. المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين.

المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الرفق واللين في الدعوة. الفصل السادس: الصبر المبحث الأول: مفهوم الصبر. المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة. المبحث الثالث: مجالات الصبر. المبحث الرابع: حكم الصبر. المبحث الخامس: أنواع الصبر. المبحث السادس: صور من مواقف تطبيق الصبر والشجاعة في الدعوة. المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر. الفصل السابع: الإخلاص والصدق المبحث الأول: مفهوم الإخلاص. المبحث الثاني: أهمية الإخلاص. المبحث الثالث: النية أساس العمل. المبحث الرابع: خطر الرياء وأنواعه وأقسامه. المبحث الخامس: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء. المبحث السادس: الصدق. الفصل الثامن: القدوة الحسنة المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة. المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة. المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة. الفصل التاسع: الخلق الحسن

المبحث الأول: مفهوم الخلق الحسن. المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن في الدعوة. المبحث الثالث: طرق تحصيل الخلق الحسن. المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن وتطبيقها في الدعوة. والله أسأل بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، أن يجعل هذا العمل مباركاً، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به إخواني الدعاة، وجميع من انتهى إليه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم موافقاً لسُنّة سيد الناس أجمعين؛ فإنه سبحانه خير مسئول، وأكرم مأمولٍ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف عصر يوم الجمعة 5/ 3/1415هـ

التمهيد: مفهوم مقومات الداعية الناجح

التمهيد: مفهوم مقوّمات الداعية الناجح القِوامُ: نظام الأمر، وعماده، وملاكه الذي يقوم به. يُقالُ: هذا قِوام الدين، وقِوام الحق: أي الذي يقوم به. ويقال: فلان قِوام أهل بيته: عمادهم. ويقال: الدستور هو قِوام الدولة: أي الضابط لها تقوم عليه. ويقال: قوّم الشيء تقويماً: أزال اعوجاجه وعدَّله، وقِوامُ كل شيء ما استقام به .. وقوَّمتُ الشيء فهو قويم: أي مستقيم (¬1). فتبين من هذه التعريفات اللغوية أن مقوِّمات الداعية الناجح: هي المعدِّلات التي تُعدّل الداعية، وتقيم اعوجاجه فتجعله: مستقيماً، معتدلاً، حكيماً، منضبطاً في كل أموره، ناجحاً في دعوته وموفقاً مسدداًًًًًًًًًً، ملهماً بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، 12/ 504، والقاموس المحيط، ص1487، ومختار الصحاح، ص233، والمعجم الوسيط، 2/ 768، وجمهرة اللغة لابن دريد، 3/ 166، والهادي إلى لغة العرب للكرمي، 3/ 581، والمنجد الأبجدي، ص821، ومحيط المحيط للمعلم بطرس، ص764.

الفصل الأول: العلم النافع

الفصل الأول: العلم النافع المبحث الأول: أهمية العلم النافع. المبحث الثاني: أقسام العلم النافع. المبحث الثالث: العمل بالعلم. المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم.

المبحث الأول: أهمية العلم النافع

المبحث الأول: أهمية العلم النافع العلم من أعظم المقوّمات للداعية الناجح، وهو من أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬1). وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذه الآية بقوله: ((باب: العلم قبل القول والعمل)) (¬2). وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله}، ثم أعقبه بالعمل في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}، فدلّ ذلك على أن مرتبة العلم مُقدَّمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (¬3). والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون علم من غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة (¬4). ولا يكون الداعية إلى الله مستقيماً حكيماً إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، قبل الحديث رقم 68. (¬3) انظر: فتح الباري 1/ 160، وحاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، جمع عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي، ص15. (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 136، 6/ 388.

فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين. ولاشك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطَّاع الطريق، ونوّاب إبليس وَشُرَطه (¬1). وقد مدح الله - عز وجل - أهل العلم وبيَّن فضلهم، وأثنى عليهم، قال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬2)، {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬3)، {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬4)، وبيَّن سبحانه أن العلم نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬5)، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬6)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) (¬7). وقال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين للإمام ابن القيم، 2/ 464. (¬2) سورة الزمر، الآية: 9. (¬3) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬4) سورة فاطر، الآية: 28. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬6) سورة الشورى، الآية: 52. (¬7) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037.

منها أجادِبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به)) (¬1). وهذا يدل على أهمية العلم للدعاة إلى الله تعالى، وأنه من أهم المهمات، وأعظم الواجبات؛ ليدعوا الناس على بصيرة. فيجب أن يكون الداعية على بيّنة في دعوته؛ ولهذا قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2)، والعلم الصحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن كل علم يتلقَّى من غيرهما يجب أن يعرض عليهما، فإن وافق ما فيهما قُبل، وإن كان مخالفاً وجب ردّه على قائله كائناً من كان (¬3). وهذا معنى كلام الشافعي رحمه الله: كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ ... إلاّ الحديث وعلم الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين (¬4) ومقصوده - رحمه الله - بوسواس الشياطين العلوم التي تخالف الكتاب والسنة، أو التي ليس فيها نفع للمسلمين. ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلّم، برقم 79، ومسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم، برقم 2283. (¬2) سورة يوسف، الآية: 108. (¬3) انظر: زاد الداعية إلى الله للعلامة ابن عثيمين، ص6. (¬4) انظر: ديوان الشافعي، ص124، والبداية والنهاية لابن كثير، 10/ 124.

المبحث الثاني: أقسام العلم

المبحث الثاني: أقسام العلم وقد قسّم الإمام ابن تيمية رحمه الله العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه الله: ((والعلم الممدوح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورّثه الأنبياء)) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ)) (¬1). وهذا العلم ثلاثة أقسام: القسم الأول: علم بالله، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي ونحوهما. القسم الثاني: علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك. القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، برقم 3641، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم 2682، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم 223، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 1/ 43.

الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وُجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة p فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين. وقد أشار الإمام ابن القيم إلى هذه الأقسام بقوله: العلم أقسام ثلاثة ما لها ... من رابع والحقّ ذو تبيان عِلمٌ بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم لا يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أُوتي القرآن، ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترُجّة، ريحها طيبّ، وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعمها مرّ)) (¬1). فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، برقم 5111، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن، برقم 5111.

كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما يُنتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمنٌ حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته (¬1). ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية 11/ 396، 397 بتصرف، والفتاوى أيضاً 7/ 21 - 25، وقال ابن تيمية رحمه الله: ((العلوم خمسة: فعلم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين، وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه)). انظر: فتاوى ابن تيمية، 10/ 145.

المبحث الثالث: العمل بالعلم

المبحث الثالث: العمل بالعلم والعلم لابدّ فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيراً كثيراً - هو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذَّر الله المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحساناً، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬1). وحذّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله - عز وجل - لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬2). وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتّصف بكتمان ما أنزل الله من البيّنات الدّالات على الحق، المُظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيه في غشّ الخلق وفساد ¬

(¬1) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬2) سورة البقرة، الآية: 159.

أديانهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزيَ من جنس عمله، كما أن معلّم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة الله، فَجُوزيَ من جنس عمله (¬1). وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ((من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار)) (¬2). فتبيّن بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان (¬3) في العمل بالعلم والحرص عليه: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله)) (¬4). وقال رحمه الله: ((يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر)) (¬5). وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((تعلّموا، تعلّموا، ¬

(¬1) انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي،1/ 186،وتفسير البغوي،1/ 134،وابن كثير، 1/ 200. (¬2) الترمذي، في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، برقم 2649، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم، برقم 3658، وابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، برقم 266، وأحمد، 2/ 263، 305، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 1/ 49، وصحيح الترمذي، 2/ 336. (¬3) سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة 107هـ، في النصف من شعبان، وعاش (91) سنة. انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 454 - 474. (¬4) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب فضل العلم والعالم، 1/ 81. (¬5) المصدر السابق، 1/ 81.

فإذا علمتم فاعملوا)) (¬1). وقال - رضي الله عنه -: ((إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبّخ نفسه)) (¬2). وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله - عز وجل -)) (¬3). وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ((لا تكون تقيّاً حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً)) (¬4). ولهذا قال الشاعر: إذا العلم لم تعمل به كان حجةً ... عليك ولم تُعذر بما أنت جاهلُه فإن كنت قد أُوتيت علماً فإنما ... يصدق قولَ المرء ما هو فاعلُه (¬5) وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل. ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/ 195. (¬2) المرجع السابق، 2/ 6. (¬3) جامع بيان العلم وفضله، 2/ 7. (¬4) المرجع السابق، 2/ 7. (¬5) جامع بيان العلم وفضله، 2/ 7.

وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مقروناً بالعمل؛ ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها)) (¬1). وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالحكمة، والفقه في الدين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم علمه الحكمة))، وفي لفظ: ((اللهم علمه الكتاب))، وفي لفظ: ((اللهم فقهه في الدين)) (¬2). فكان رضي الله عنهما حَبْراً للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما استجابة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم 1343، ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم 816. (¬2) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، برقم 3546، 6842، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس رضي الله عنهما، برقم 2477.

المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم

المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم والعلم النافع له أسباب يُنال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها: 1 - أن يسألَ العبد ربّه العلمَ النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بسؤاله أن يزيده علماً إلى علمه (¬1)، فقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬2)، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علماً)) (¬3). 2 - الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة في ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة (¬4). وقد جاء رجل إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال: إني أريد أن أتعلّم العلم وأخاف أن أُضيِّعه، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((كفى بتركك له تضييعاً)) (¬5). ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي يُنال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يُتبع، وبالحب له يُستمع، وبالفراغ له يجتمع، [عَلِّم علمك من يجهل، وتعلّم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما تعلّمت] (¬6). ¬

(¬1) انظر: تفسير الإمام البغوي، 3/ 233، وتفسير العلامة السعدي، 5/ 194. (¬2) سورة طه، الآية: 114. (¬3) الترمذي، في الدعوات، باب في العفو والعافية، برقم 3599، وابن ماجه في العلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم 3833، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 47. (¬4) انظر: تفسير السعدي، 5/ 194. (¬5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 104. (¬6) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 102، 103.

3 - اجتناب جميع المعاصي

ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبئك عن تفصيلها ببيان ذكاءٌ، وحرصٌ، واجتهادٌ، وبُلغةٌ ... وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان (¬1) 3 - اجتناب جميع المعاصي بتقوى الله تعالى؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2)، وقال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (¬3). وهذا واضح بيِّن أنَّ من اتقى الله جعل له علماً يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل (¬4)؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله)) (¬5). وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: ((خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطة (¬6) كانت فيه وصمةً (¬7) أن يكون: فهماً، حليماً، عفيفاً، صليباً (¬8)، عالماً سؤولاً عن العلم)) (¬9). ¬

(¬1) ديوان الشافعي، ص116. (¬2) سورة البقرة، الآية: 282. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 338، وتفسير السعدي، 1/ 349. (¬5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 196. (¬6) خطة: أي خصلة. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬7) وصمة: عيباً. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬8) قوياً شديداً، يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬9) البخاري مع الفتح، كتاب الأحكام، باب متى يستوجب الرجل القضاء، 13/ 146.

4 - عدم الكبر والحياء عن طلب العلم

وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: شَكوتُ إلى وكيعٍ (¬1) سوء حفظي وأخبرني بأن علم الله نور ... ونور الله لا يُهدى لعاصي (¬2) وقال الإمام مالك للإمام الشافعي رحمهما الله تعالى: ((إني أرى الله قد جعل في قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية)) (¬3). 4 - عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ((نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)) (¬4). وقالت أم سُليم رضي الله عنها: يا رسول الله، إن الله لا يسْتَحْيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأت الماء)) (¬5). وقال مجاهد: ((لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر)) (¬6). 5 - الإخلاص في طلب العلم والعمل به، بل أعظمها ولُبُّها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلّم علماً ممّا يُبتغى به وجه الله - عز وجل -، لا يتعلّمه إلا ليصيب ¬

(¬1) وكيع بن الجراح بن مليح، الإمام، الحافظ، محدث العراق، ولد سنة 129هـ، ومات سنة ... فأرشدني إلى ترك المعاصي 196هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 9/ 140، وتهذيب التهذيب، 11/ 109. (¬2) ديوان الشافعي، ص88،وانظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص104. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص 104. (¬4) البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، قبل الحديث رقم 130. (¬5) متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، برقم 130، وصحيح مسلم، كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، برقم 332. (¬6) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، قبل الحديث رقم 130.

به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) (¬1) يعني ريحها. فيظهر مما تقدم أن العلم لا بدَّ فيه من العمل والإخلاص والمتابعة. ¬

(¬1) أبو داود بلفظه في العلم، باب في طلب العلم لغير الله، برقم 2885، وابن ماجه في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم، برقم 54، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 48.

الفصل الثاني: الحكمة

الفصل الثاني: الحكمة المبحث الأول: مفهوم الحكمة. المبحث الثاني: أهمية الحكمة. المبحث الثالث: أنواع الحكمة. المبحث الرابع: درجات الحكمة. المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة. المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم.

المبحث الأول: مفهوم الحكمة

المبحث الأول: مفهوم الحكمة المطلب الأول: تعريف الحكمة في اللغة جاءت كلمة الحكمة في اللغة بعدة معان، منها: 1 - تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل. وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد (¬1). 2 - والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويُتقنها: حكيم (¬2). 3 - والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب (¬3). 4 - والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى: الحاكم، والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مفعل (¬4). 5 - والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل (¬5). 6 - والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها ¬

(¬1) القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، المتوفى سنة 817هـ، باب الميم، فصل الحاء، ص1415، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص62. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة حكم، 1/ 119، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 140، والمعجم الوسيط، مادة: حكم، 1/ 190. (¬3) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص 62. (¬4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة: حكم، 1/ 419. (¬5) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم، ص127.

7 - الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس

تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة، الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزدد عليها ما ليس منها. والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء، إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير (¬1). 7 - والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرَس، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (¬2). 8 - والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسمّيت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد (¬3). ومما تقدّم يتّضح ويتبيّن أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معانٍ تتضمن معنى المنع: فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم. والحِلْمُ: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب. والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل. ¬

(¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/ 288 بتصرف يسير. (¬2) انظر: المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي، المتوفى سنة 770هـ، مادة: الحكم، 1/ 145، وتاج العروس، 8/ 253. (¬3) مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، 2/ 91، باب الحاء والكاف، مادة: حكم.

والنبوة

والنُّبُوّة، والقرآن، والإنجيل: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعِثَ لمنع من بعث إليهم من عبادة غير الله، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها الله تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح. ومن فسّر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه)) (¬1). المطلب الثاني: تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة: النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع، والعمل الصالح، وقيل: الخشية لله، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين الله، وقيل: العلم والعمل به، ولا يُسمَّى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه ¬

(¬1) مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية، 2/ 7.

والحكمة في كتاب الله نوعان:

[بإحكامٍ، وإتقانٍ]، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة (¬1). فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبيّن الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهِماً، خاشياً لله، فقيهاً، عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه ... والحكمة أعمّ من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مُسدَّدون، مُفهَّمون، ومُوفَّقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور (¬2). والحكمة في كتاب الله نوعان (¬3): مفردة، ومقرونة بالكتاب. فالمفردة كقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬4). وقوله تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬5). وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ¬

(¬1) انظر: التعريف بالتفصيل في الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى للمؤلف، ص26 - 31. (¬2) انظر: تفسير الطبري، 1/ 436، 3/ 61. (¬3) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 478، والتفسير القيم لابن القيم، ص227. (¬4) سورة النحل، الآية: 125. (¬5) سورة البقرة، الآية: 269.

المقرونة

وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬1). وهذه الحكمة فُسِّرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة وهذا النوع كثير في كتاب الله تعالى. وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة (¬2). ((وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السَّفَه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كلُّ فعلٍ قبيح ... )) (¬3). وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضمّ جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو: ((الإصابة في الأقوال والأفعال، والإرادات، والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه)). أما الحكمة المقرونة بالكتاب، فهي السنة من: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته، وسيرته، كقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬4). ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 12. (¬2) انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان، 2/ 320. (¬3) انظر: شرح النووي على مسلم، 2/ 33. (¬4) سورة البقرة، الآية: 129.

وقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). قال الله - عز وجل - {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬2). وقال - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬3)، وغير ذلك من الآيات. وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب بالسنة: الإمام الشافعي، والإمام ابن القيم، وغيرهما من الأئمة (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 231. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 2. (¬4) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 478، والتفسير القيم، ص227.

المبحث الثاني: أهمية الحكمة

المبحث الثاني: أهمية الحكمة 1 - قد بيّن القرآن الكريم طرق الدعوة إلى الله تعالى، ويأتي في مقدمة هذه الطرق: الحكمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -، وقد أمر الله تعالى نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، فقال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1). 2 - من تتبّع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد أنه كان يلازم الحكمة في جميع أموره، وخاصة في دعوته إلى الله - عز وجل -، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم - صلى الله عليه وسلم - الذي ملأ الله قلبه بالإيمان والحكمة، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو ذر يُحدّث أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل فَفرجَ صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست (¬2) من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي .. )) الحديث (¬3). وهذا يُثبِتُ أن الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى الله تعالى، حيث امتلأ بها صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صاحب الدعوة، مع الإيمان، وهو قضية الدعوة في لحظة واحدة، كما يؤكّد قيمة وأهمية ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 125. (¬2) إناء كبير مستدير. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/ 460، والمعجم الوسيط، مادة: (الطّسْت)، 2/ 557. (¬3) البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، برقم 3164، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات وفرض الصلوات، برقم 163.

3 - من الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين

الحكمة من خلال مجيئها يحملها جبريل وهو روح القدس، في طست من ذهب، وهو أغلى المعادن، في مكة المكرمة، وهي البقعة المباركة؛ ليمتلئ بها صدر محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خير الخلق، بعد غسله بماء زمزم وهو أطهر الماء وأفضله. كل هذا يؤكد أن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى أمرها عظيم، وشأنها كبير، وقد قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1). ثم سار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريقه وهديه في الدعوة إلى الله بالحكمة، فانتشر الإسلام في عهدهم - رضي الله عنهم - انتشاراً عظيماً، ودخل في الإسلام خلق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، وجاء التابعون، وكمّلوا السير على هذا الطريق في الدعوة إلى الله بالحكمة، وهكذا سارت القرون الثلاثة المفضلة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان، فأظهر الله الإسلام وأهله، وأذَلَّ الشرك وأهله وأعوانه. 3 - ومن الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم .. فحسب، وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون: - باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 269.

وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة

- وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات، وأهواء تصدّه عن اتّباع الحق. - وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بِحُسنِ خُلُقٍ، ولُطفٍ، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، وردّ الباطل بأقرب طريق، وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرّد المجادلة والمغالبة وحبّ العلوّ، بل لابدّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد. - وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل الله تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين، مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل ردّه ووقف في طريقه (¬1). وما أحسن ما قاله الشاعر: دعا المصطفى دهراً بمكةَ لم يُجب ... وقد لان منه جانبٌ وخطابُ فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (¬2) ¬

(¬1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 194، وتفسير ابن كثير، 3/ 416، و4/ 315، وفتاوى ابن تيمية، 2/ 45، و19/ 164. (¬2) ذكر سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز ابن باز في مجموع فتاواه، 3/ 184، و204: ((أن هذا الشعر يروى لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -)).

4 - الحكمة تجعل الداعي إلى الله يقدر الأمور قدرها

وصدق هذا القائل فقد قال: قولاً صادقاً مطابقاً للحق (¬1)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الشِّعرِ حكمة)) (¬2). 4 - الحكمة تجعل الداعي إلى الله يُقدِّر الأمور قدرها، فلا يُزَهِّد في الدنيا، والناس بحاجة إلى النشاط والجدّ والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع، والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء، وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة. 5 - الحكمة تجعل الداعية إلى الله يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتَون من قبلها، والقدر الذي يبيّن لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشقّ بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى الله بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلِّم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 10/ 540، 6/ 531، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 33، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 354. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشِّعر والرَّجَزِ والحداءِ وما يكره منه، برقم 5793.

أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى الله بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح.

المبحث الثالث: أنواع الحكمة

المبحث الثالث: أنواع الحكمة الحكمة نوعان: النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الاطِّلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقاً وأمراً، وقدراً وشرعاً. النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه (¬1). فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الإنسان في أمرين: أن يعرف الحق لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح. وقد أعطى الله - عز وجل - أنبياءه ورسله ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا}، وهو الحكمة النظرية، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬2)، وهو الحكمة العملية. وقال تعالى لموسى - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلَهَ إِلا أَنَا}، وهو الحكمة النظرية، {فَاعْبُدْنِي} (¬3)، وهو الحكمة العملية. وقال عن عيسى - صلى الله عليه وسلم -: {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}، وهو الحكمة النظرية، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (¬4)، وهو ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 478. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 83. (¬3) سورة طه، الآية: 14. (¬4) سورة مريم، الآيتان: 30 - 31.

الحكمة العملية. وقال في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله}، وهو الحكمة النظرية، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} (¬1)، وهو الحكمة العملية. وقال في جميع الأنبياء: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ}، وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {فَاتَّقُونِ} (¬2)، وهو الحكمة العملية (¬3). ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) سورة النحل، الآية: 2. (¬3) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي، 7/ 68.

المبحث الرابع: درجات الحكمة

المبحث الرابع: درجات الحكمة الحكمة العملية لها ثلاث درجات: الدرجة الأولى: ((أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعدِّيه حدّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخّره عنه)). لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعدّاها، ولها أوقات لا تتقدّم عنها ولا تتأخّر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره، ولا تتعدّى بها حدّها فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدّي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب (¬1). الدرجة الثانية: معرفة عدل الله في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا فجور، قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬2)، وكذلك معرفة بِرِّه في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 2/ 479. (¬2) سورة النساء، الآية: 40، وانظر: مدارج السالكين، 2/ 481.

الدرجة الثالثة: البصيرة وهي قوة الإدراك والفطنة والخبرة

الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته. الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك والفطنة والخبرة (¬1). والبصيرة أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئيّ إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختصّ بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أعلى درجات العلماء (¬2)، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، فقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (¬4). والبصيرة في الدعوة إلى الله في ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يكون الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً ¬

(¬1) المعجم الوسيط، مادة: بصر، 1/ 59. (¬2) انظر: مدارج السالكين، 2/ 482. (¬3) سورة يوسف، الآية: 108. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 496، وتفسير السعدي، 4/ 63.

الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة بحال المدعو

وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحلّه الله لهم. الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة بحال المدعو، فلابد من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، الاعتقادية، والنفسية، والعلمية، والاقتصادية حتى يُقدِّم له ما يناسبه. الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة (¬1)، وقد رسم الله - عز وجل - طرق الدعوة ومسالكها في آيات كثيرة منها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ ... } (¬2)، وهذه الآية قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى الله تعالى، ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب: وهي الدعوة إلى الله: بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن (¬3)، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬4). قلت: والباب الرابع: الدعوة إلى الله باستخدام القوة عند الحاجة إليها كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا ¬

(¬1) انظر: زاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص7. (¬2) سورة يوسف، الآية: 108. (¬3) هذا التقسيم الجيد للقاعدة والثلاثة أبواب، للشيخ عبد القادر شيبة الحمد في محاضرة بعنوان: طرق الدعوة إلى الله، ألقيت بجامع الراجحي بالربوة، بالرياض، عام 1408هـ. (¬4) سورة النحل، الآية: 125.

الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬1). ولاشك أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريقة القرآن، ومخاطبته لهم ودعوته، ومجادلتهم (¬2). ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 46. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 19/ 158 - 173.

المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة

المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة تمهيد: الحكمة هبة وفضل من الله - عز وجل - يهبها لمن يشاء من عباده وأوليائه، والحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء له طرق تحصيلها، فالعبد لا يكون حكيماً إلا إذا سلك طرق تحصيل الحكمة، ولا يمكن أن يحصل على الحكمة إلا إذا كانت طرقها مستقاة من الكتاب والسنة، وإذا وُفِّقَ الداعية المسلم لطرق الحكمة فلا يخرجها ذلك عن كونها هبة من الله تعالى، لقوله تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1)، بل الله الذي وفّقه وسدّده، وأعطاه خيراً كثيراً، جليلاً قدره، عظيماً نفعه، ولهذا استنبط بعض المحققين من قوله: {خَيْرًا كَثِيرًا} أن إيتاء الحكمة خير من الدنيا وما فيها كلها؛ لأن الله وصف الدنيا في قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ} (¬2)، فدلّ فذلك على أن ما يؤتيه الله من حكمته خير من الدنيا وما عليها؛ لأن من أوتيها خرج من ظلمة الجهل إلى نور الهدى، وحمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد والاعتدال، والبصيرة المستنيرة، وإتقان الأمور وإحكامها، وتنزيلها منازلها، وهذا كله من أفضل العطايا وأجلّ الهبات (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 269. (¬2) سورة النساء، الآية: 77. (¬3) انظر: صفوة الآثار والمفاهيم للعلامة عبد الرحمن الدوسري، 4/ 131، وتيسير الكريم الرحمن، 1/ 332، وفي ظلال القرآن، 1/ 312، ولقمان الحكيم وحكمه، ص30.

المطلب الأول: السلوك الحكيم

والحكمة لها طرق تكتسب بها بتوفيق الله تعالى، ومن أهم هذه الطرق التي إذا سلكها المسلم صار حكيماً بإذن الله تعالى ما يأتي: العلم النافع، والحلم، والأناة، وهذه الثلاثة: هي أركان الحكمة التي تقوم عليها (¬1)، والرفق واللين، والإخلاص والتقوى، والصبر والمصابرة، والسلوك الحكيم، والعمل بالعلم، والاستقامة والخبرات والتجارب، وجهاد النفس والشيطان، وعلوّ الهمّة، والعدل، والدعاء، والاستخارة والاستشارة، وفقه وإتقان أركان الدعوة إلى الله تعالى. وسأذكر في هذا المبحث بالتفصيل بعض هذه الطرق التي إذا سلكها الداعية المسلم - مع ما تقدَّم من الطرق - كان حكيماً في أقواله وأفعاله، وتصرفاته، وأفكاره، موافقاً للصواب في جميع أموره بإذن الله تعالى، وذلك في المطالب الآتية: المطلب الأول: السلوك الحكيم السلوك: مصدر سلك يقال: سلك طريقاً، وسلك المكان يسلكه سلكاً وسلوكاًً (¬2)، وسلكه غيره. والسلوك: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك (¬3). ¬

(¬1) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، للمؤلف، ص43 - 78. (¬2) لسان العرب لابن منظور، حرف الكاف فصل السين، 10/ 442. (¬3) المعجم الوسيط، مادة (سلك)، 1/ 445.

الخلق

أما الخُلق فهو: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروِيَّة، وجمعه: أخلاق. والأخلاق عِلْمٌ موضوعه أحكام قَيِّمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح (¬1)، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه. القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويّة والفكر، ثم يستمر عليه حتى يصير مَلَكَة وخُلقاً (¬2). والسلوك عمل إرادي، كقول: الصدق، والكذب، والبخل، والكرم، ونحو ذلك. فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولابد لنا من مظهر يدلّنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو السلوك، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دل على خلق حسن، وإن كان سيئاً دل على خلق قبيح، كما أن الشجرة ¬

(¬1) المعجم الوسيط، مادة (خلق)، 1/ 252. (¬2) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، د/محمود حمدي زقزوق، ص39.

تعرف بالثمر، فكذلك الخُلق الطيّب يعرف بالأعمال الطيبة (¬1). والحكمة تتفرّع إلى فروع، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم، والتزام فضائل الأخلاق، واجتناب رذائلها ظاهراً وباطناً هو السلوك الأخلاقي الحكيم (¬2). والداعية إذا التزم السلوك الأخلاقي الحكيم كان ذلك من أعظم طرق اكتساب الحكمة، ومن أسباب توفيق الله له في دعوته، وفي أموره كلها، واستقامته، وحسن سيرته، وأدعى لقبول دعوته، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي، سواء كان ذلك من قبل قيامه بالدعوة أو بعده، وكثيراً ما سمعنا أن أناساً قاموا بدعوة الإصلاح، وخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم، وعن دعوتهم ما يذكرونه لهم من ماضٍ ملوّث، وخلق غير مستقيم، بل إن هذا الماضي السيئ مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة، بحيث يُتَّهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح؛ لأغراض خاصة، أو يتهمون بأنهم ما بدءوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا بعض أوقات أو مراحل أعمارهم، وأخذوا نصيبهم من ملذّات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عَرَضٍ أو مالٍ، أو شهرة، أو جاهٍ. ¬

(¬1) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، ص43. (¬2) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 1/ 13.

المسالك الحكيمة

أما الداعية المستقيم في شبابه وحياته كلها، فإنه يظل أبداً بفضل الله رافع الرأس، ناصع الجبين، ولا يجد أعداء الدعوة سبيلاً إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد، ولا يتخذون من الماضي المنحرف وسيلة إلى التشهير به، أو دعوة الناس إلى الاستخفاف به وبشأنه. ولاشك أن الله - عز وجل - يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة. والداعية إذا استقامت سيرته، وحسنت سمعته الطيبة الحميدة، وسلوكه الحكيم (¬1) نجح في دعوته بإذن الله تعالى. وإذا سلك الداعية المسالك الحكيمة في سلوكه فقد سلك أعظم الطرق في اكتساب الحكمة، ومن هذه المسالك على سبيل المثال ما يأتي: المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه ينبغي للداعية أن يتخذ في سلوكه وأعماله كلها قدوة حكيماً، وإماماً نبيلاً، وهو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان حسن السيرة والسلوك، بل كان أعظم خلق الله في حسن خُلقه الذي دلّ عليه سلوكه الحكيم، ولا غرابة فقد مدحه ربه وأثنى عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2)، وعرف قومه ذلك منه، ولكن صدّ بعضهم عن تصديقه الكبر والجحود {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} (¬3)، ولهذا عندما قال - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص39. (¬2) سورة القلم، الآية: 4. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 33.

لقومه: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مُصدقيَّ؟))، قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) (¬1). وفي حديث أبي سفيان مع هرقل حينما سأله عن أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلوكه، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: قلت: لا ... ثم قال: ماذا يأمركم به؟ قال أبو سفيان: قلت: يقول: ((اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة ... ))، ثم قال هرقل لأبي سفيان في نهاية الحديث: ((فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)) (¬2). وفي حديث جعفر بن أبي طالب للنجاشي: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه: من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وحسن الجوار، والكفّ ¬

(¬1) البخاري، كتاب التفسير، سورة تبت، باب حدثنا يوسف، برقم4687، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، برقم 529. (¬2) البخاري، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان، برقم 7.

عن المحارم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا: بالصلاة، والزكاة، والصيام ... وعدد عليه أمور الإسلام، فصدّقناه، ثم قال النجاشي لجعفر ووفده: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أُقبّل نعله (¬1). فهذا الرسول الكريم هو قدوة الداعية، وإمامه الذي يسير على هديه، ويلتزم أخلاقه، وسلوكه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - حسن السيرة والسلوك الحكيم في حياته كلها، ولم يُتّهم بشيء مما كان يعمله قومه، فقد نشأ - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع كثرت فيه المفاسد، وعمّت فيه الرذائل: فالبغاء، والاستبضاع، والزنى الجماعي، والإفرادي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، كل ذلك كان شائعاً في قومه قبل الإسلام، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، هذا بالإضافة إلى وَأْدِ البنات، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، ولعب الميسر، وشرب الخمر، أمور تُعدُّ في الجاهلية من المفاخر والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كله يرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضى بها، وهذا ما يدعو إلى انتشارها إلى جانب الأفكار الأخرى. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل أي عمل أو يباشر أي خُلق من هذه الأخلاق الرذيلة، بل قد اتصف بجميع مكارم الأخلاق بين قومه، فكان صادقاً لا يعرف الكذب، أميناً لا يعرف الخيانة، وفيًّا لا يعرف الغدر، حتى كان ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 505 - 605، والرحيق المختوم، ص92.

معروفاً في مجتمعه بهذه الصفات، مُميزَّاً بها عن غيره، ولا يجهل ذلك أحد ممن عرفه، ولا يساويه في ذلك أحد من خلق الله، ولا ينكر ذلك أحد، سواء كان عدوًّا أو غيره، ولا يمكن أن يتهمه خصم، فقد بُعِثَ - صلى الله عليه وسلم - وناصَبَهُ قومه العداء، ولكن لم يستطع واحد منهم أن يتهمه بصفة غير لائقة، أو خُلق يعيبه به، ولو عرفوا شيئاً من ذلك - وقد عاش بينهم أربعين عاماً - لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها عندما يحل الموسم، ويلتقي بالناس في الحج حتى يبعدوه عنهم فعجزوا عن ذلك، ووجدوا أن كلمة ((ساحر)) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه حيث يفرق بدعوته إلى الله بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والرجل وزوجته، واتهموه بالجنون؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة الله وحده، ولم يستطيعوا أن يأتوا بأي خلق رذيل فينسبوه إليه - صلى الله عليه وسلم -، وعندما سألهم - صلى الله عليه وسلم - عن صدقه قالوا: ((ما جرّبنا عليك كذباً)) (¬1)، ولهذا لُقِّبَ بين قومه بـ ((محمد الأمين)) (¬2). فالصدق والأمانة من أولى الأخلاق وأحكم السلوك التي يجب على الدعاة إلى الله الاتّصاف والتخلّق بها، والصدق يكون في: القول، والنية، والعزم، والعمل. ¬

(¬1) البخاري، كتاب التفسير، باب حدثنا يوسف، برقم 33، ومسلم، كتاب الأيمان، باب: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، برقم 220،وتقدم تخريجه. (¬2) أحمد في المسند من حديث السائب بن عبد الله - رضي الله عنه -، بإسناد حسن، 3/ 425، قال الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي، وله شاهد من حديث علي - رضي الله عنه -، رواه الطيالسي بترتيب الشيخ عبد الرحمن البنا، 2/ 86.

فالصدق في القول هو أشهر أنواع الصدق، ويكون بالإخبار، فإن نقل الداعية أو غيره من المسلمين خلاف الواقع وما هو عليه فهو كاذب ومفتر، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان} (¬2). والصدق في النية: الإخلاص في العمل لوجه الله تعالى. والصدق في العزم على العمل: كأن يقول المسلم: لئن عافاني الله لأتصدّق في سبيله بكذا، فإذا عوفي دخل الصدق بالوفاء فيما نذر به. وقد ذمّ الله - عز وجل - عدم الصدق بالوفاء بالعهد: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} (¬3). والصدق في العمل: يكون بأن لا يختلف ظاهر الداعية المسلم عن باطنه (¬4)، فما أجمل وما أحسن، وما أحكم، وما أكرم من سار على هديه ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 105. (¬2) البخاري، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، برقم 33، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 746. (¬3) سورة التوبة، الآيات: 75 - 77. (¬4) انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، 1/ 33.

المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم:

- صلى الله عليه وسلم - واتبع سلوكه الحكيم، وكل سلوكه حكيم - صلى الله عليه وسلم - وكيف لا يكون كذلك وهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين، متمّماً لمكارم الأخلاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)) (¬1). وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِهِ، فقالت: ((فإن خُلُقَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن)) (¬2). ولنا فيه خير أسوة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬3)، فحريٌّ بالداعية أن يلتزم سلوكه، وبذلك يكون حكيماً في دعوته، موافقاً للصواب بإذن الله تعالى. المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم: لقد جعل الله - عز وجل - للسلوك الحكيم قواعد عظيمة، إذا التزمها الداعية إلى الله - عز وجل - كان ذلك من أسباب توفيق الله له، واكتسابه الحكمة، ومن أجمع الآيات في هذا الشأن، قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬4). وهذه الآية من أعظم قواعد السلوك الحكيم وأصوله العظيمة، فهي جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء إلا دخل فيها، وهذه ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بلفظه، 10/ 192، وأحمد، 2/ 381، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 613، وانظر: صحيح الجامع الصغير، 3/ 8، برقم 2830، والأحاديث الصحيحة، 1/ 75، برقم 45. (¬2) مسلم، في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، برقم 776. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬4) سورة النحل، الآية: 90.

العدل

قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي قربى، فهي مما أمر الله به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر، أو بغي، فهي مما نهى الله عنه. وبهذا يُعْلَم حسن ما أمر الله به، وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وتُردّ إليها سائر الأحوال (¬1). فهذه الأوامر والنواهي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وأنواع التكاليف التي رسمها الله وحث عليها؛ لما فيها من إصلاح النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب (¬2)؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((أجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في سورة النحل)): {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ... } الآية (¬3). والداعية المسلم من أولى الناس بتطبيق هذا السلوك الحكيم، فيكون عدلاً محسناً واصلاً لأقربائه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، والبغي. والعدل: ضد الجور (¬4)، وهو إعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه (¬5)، وأنواعه ثلاثة: ¬

(¬1) انظر: تفسير السعدي، 4/ 233، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، 4/ 2189 - 2191، وتفسير المراغي، 14/ 130. (¬2) انظر: تفسير المراغي، 14/ 130. (¬3) أخرجه الإمام الطبري بسنده في تفسيره، 4/ 109. (¬4) انظر: القاموس المحيط، 1331. (¬5) انظر: المعجم الوسيط، 2/ 588.

النوع الأول: العدل بين العبد وربه

النوع الأول: العدل بين العبد وربه، وهو: إيثار حق الله على حظّ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والامتثال للأوامر، والاجتناب للزواجر. النوع الثاني: العدل بين العبد وبين نفسه: منعها عما فيه من هلاكها ودمارها، وإلزامها بتقوى الله في السر والعلن. النوع الثالث: العدل بين العبد وبين الخلق: ببذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قلّ وكثر، والإنصاف من النفس بكل وجه، ولا يكون من الداعية إلى أحد مساءة بقول أو فعل، والصبر على ما يحصل منهم من البلوى، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل ما عليه (¬1). والإحسان: مصدر أحسن يحسن إحساناً، وهو على معنيين (¬2): المعنى الأول: متعدٍّ بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي: حسَّنته وكمَّلته، وهو منقول بالهمزة، من: حسن الشيء، وهذا المعنى يدلّ عليه حديث جبريل: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬3). وهذا المعنى راجع إلى إحسان العبادة وتكميلها وتحسينها، والقيام بها كما يحبّ الله - تعالى - على الوجه الأكمل، ومراقبة الله فيها واستحضار عظمته وجلاله: حالة الشروع فيها، وحالة الاستمرار. والمعنى الثاني: متعدٍّ بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي: ¬

(¬1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي، 3/ 1172، وأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 166، وفي ظلال القرآن، 4/ 2190. (¬2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 167، وتفسير السعدي، 4/ 232. (¬3) مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، برقم 9.

أوصلت إليه ما ينتفع به، وهذا إيصال المنافع بأنواعها إلى الخلق، ويدخل في ذلك حتى الإحسان إلى الحيوانات (¬1). ومن قواعد السلوك الحكيم التي تشتمل على عدة من أمّهات الحكم العالية (¬2) قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً * وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ... الآيات، إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (¬3). فبيّن الله - عز وجل - في هذه الوصايا الحكيمة قواعد السلوك الحكيم، وبدأه بقاعدة التوحيد؛ ليقيم على هذه القاعدة البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط؛ فإن جميع ما في الحياة لا يقوم بناؤه إلا بالتوحيد، وكل سلوك لا يقوم ولا يستند إلى توحيد الله لا تقوم له قائمة، ولا يطلق عليه سلوكاً حكيماً، بل سلوكاً جاهليًّا (¬4). وهذه الوصايا في سورة الإسراء من أعظم ما تكتسب به الحكمة، قال الإمام الشوكاني: ((وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً)) (¬5). فاشتملت هذه الوصايا على خمس وعشرين حكمة، الأخذ بها خير ¬

(¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 167. (¬2) انظر: تفسير السعدي،4/ 279،وتفسير النسفي،4/ 130،والرياض الناضرة للسعدي، ص87. (¬3) سورة الإسراء، الآيات: 22 - 39. (¬4) انظر: في ظلال القرآن، 4/ 2209، 2220. (¬5) انظر: فتح القدير للشوكاني، 3/ 229.

المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة:

من الدنيا وما فيها، والتفريط بها هو سبب خسران الدنيا والآخرة (¬1). ويختم الله - عز وجل - الأوامر والنواهي في الوصايا كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك، وبيان أن هذه المذكورات بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} (¬2)، وهو ختام يشبه الابتداء، فتجيء محبوكة الطرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليه الإسلام الحياة، قاعدة: توحيد الله وعبادته وحده دون ما سواه (¬3). وبهذا يُعلم أن من عمل بهذه القواعد، والتزم هذا السلوك الحكيم قد سلك أعظم طرق اكتساب الحكمة؛ لأن الحكمة معرفة الحق والصواب والعمل به؛ ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4). المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة: الحكماء الذين آتاهم الله الحكمة يوصون باكتساب أصول الحِكَم التي من التزمها وعمل بها بإخلاصٍ وصدقٍ وفَّقه الله لاكتساب الحكمة، ومن ذلك ما أخبر الله به عن لقمان الحكيم ووصاياه الحكيمة التي آتاه ¬

(¬1) انظر: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، 2/ 599. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 39. (¬3) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب، 4/ 228. (¬4) الوصايا العشر في سورة الأنعام، الآيات: 151 - 153.

الله إياها، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ... الآيات إلى قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬1). هذه وصية حكيم لابنه، فهي نصيحة مبرأة من العيب، وصاحبها قد أوتي الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وهي تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية من وصايا هذا الحكيم لابنه يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى تركها إن كانت نهياً، وهذا يدل على أن الحكمة هي: العلم بالأحكام، وحكمها، ومناسبتها، ووضع الأشياء مواضعها. ومن فضل الله على عباده ومنّته أن قصَّ عليهم هذه الحِكَم حتى يعملوا بها ويكتسبوها بفضله تعالى، وهذا الحكيم أمر ابنه بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك بالله، وبين له الموجب لتركه، وأمره ببرّ الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرّهما، وأمره بشكر الله وشكرهما، ثم احترز بأن محلّ برّهما وامتثال أوامرهما ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقّهما بل يُحسن إليهما، وأن لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك، وأمره بمراقبة الله - عز وجل - وخوفه القدوم عليه، وأنه تعالى لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً من الخير والشر إلا أتى بها، فصوّر له عظمة علم الله، ودقّة ¬

(¬1) سورة لقمان، الآيات: 12 - 19.

شموله، وإحاطته تصويراً يرتعش له الوجدان البشري، وأوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ما أمره بتكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، حتى يحصل الكمال لغيره بعد كمال نفسه، ولما علم هذا الحكيم أنه لابد أن يُبتلى إذا أمر ونهى، وأنّ في الأمر والنهي مشقَّة على النفوس أمره بالصبر على ما يحصل له من المشقة والأذى؛ فإنه لابد وأن يواجه المتاعب التي يواجهها صاحب العقيدة الصحيحة، وبيّن له أن ذلك من الأمور التي يعزم عليها، ويهتمّ بها، ولا يقف لها إلا أهل العزائم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصبر يسهل الله بذلك كل أمرٍ عسير، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬1). ومع ذلك كله من الأمر بجميع الحكم السابقة لم يغفل هذا الحكيم عن وصية ابنه بالآداب السامية، فنهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك حتى لا يتطاول على الناس فيفسد بالقدوة ما يصلح الكلام. فحقيقٌ بمن أوصى بهذه الوصايا، وهذا السلوك الحكيم أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهوراً بها، وحقيقٌ بمن التزم هذه الوصايا - بصدقٍ وإخلاصٍ ورغبةً فيما عند الله - أن يُؤتيه الحكمة، ويوفقه للصواب في القول والعمل (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 45، وانظر أيضاً: سورة البقرة، الآية: 153. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 444، وفي ظلال القرآن، 5/ 2781، 2790، 2782، وتفسير السعدي، 6/ 159، 161.

ومما يبيّن أن الإنسان يكتسب الحكمة بتوفيق الله ثم بالتزامه للسلوك الحكيم - رغبة فيما عند الله وطلباً لرضاه - ما ذُكِرَ من الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة بعد توفيق الله له وتسديده، ومن ذلك: أنه وقف رجل على لقمان، فقال له: أنت لقمان، أنت عبد بني النحاس؟ قال: نعم، قال: فأنت راعي الغنم الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن أنت صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما هو؟ قال لقمان: ((غَضِّي بصري، وكَفّي لساني، وعفّة طعمتي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيّرني كما ترى)) (¬1). وسأله آخر عن السبب الذي بلغ به الحكمة، فقال: ((قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني)) (¬2). وسأله آخر، فقال: ((صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني)) (¬3). وهذه الأخلاق الكريمة، والسلوك الحكيم يزخر بها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليست من قول لقمان وحده، فاتضح بذلك أن الداعية إلى الله وغيره من المسلمين إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون الله تعالى. ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير، 2/ 224، وعزاه بسنده إلى ابن وهب. (¬2) البداية والنهاية، 2/ 224، وعزاه لابن أبي حاتم بسنده. (¬3) أخرجه ابن جرير بإسناده في تفسيره، 21/ 44، وانظر: البداية والنهاية، 2/ 124.

المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص

المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص العمل بالعلم بإخلاصٍ، وصدقٍ، ورغبة في رضى الله - عز وجل - من أعظم المطالب التي تكتسب بها الحكمة بتوفيق الله وتسديده وفضله وإحسانه. والعلم هو ما قام عليه الدليل، وهو النقل المصدق والبحث المحقق، والنافع منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -: علم الكتاب والسنة، والمطلوب من الإنسان هو فهم معانيهما، والعمل بما فيهما، فإن لم تكن هذه همة حافظ القرآن وطالب السنة لم يكن من أهل العلم والدين (¬1). ولهذا كانت الحكمة عند العرب هي العلم النافع والعمل الصالح (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((قال غير واحد من السلف: الحكمة معرفة الدين والعمل به)) (¬3). والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون، فقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬4). ومثل من يتعلم العلم ويزداد منه ولا يعمل به مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها، فضمّ إليها أخرى (¬5). ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 136، 6/ 338، 23/ 54. (¬2) المرجع السابق، 19/ 170، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 154. (¬3) درء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23، وانظر: تفسير السعدي، 1/ 87. (¬4) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬5) انظر: الزهد للإمام أحمد، ص85.

والداعية لا يكون حكيماً في دعوته ما لم يعمل بعلمه، ولهذا ينفر الناس عنه، وتزل موعظته من القلوب كما يزل القطر من الصفا؛ لأن الكلام - في الغالب - إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان (¬1)، قال الشاعر: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلاّ لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم أراك تلقح بالرشاد عقولنا ... نصحاً وأنت من الرشاد عديم لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (¬2) والعمل بالعلم لابد فيه من الإخلاص، والإخلاص لابد أن يقصد به وجه الله، ومحبته، ورضاه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((حُكيَ أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يوماً، فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخْلِص لله)) (¬3). وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل ¬

(¬1) انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/ 8. (¬2) انظر: المرجع السابق، 1/ 196، ودرء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23. (¬3) درء تعارض العقل والنقل، 6/ 66.

المطلب الثالث: الاستقامة

المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب. وقد عرف أن ذلك لم يحصل بالإخلاص لله، وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضاً؛ لأن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص؛ ليصير عالماً، أو عارفاً، أو ذا حكمة، أو متشرفاً بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات، ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد الله، بل جعل الله وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره (¬1). وقال ابن تيمية - رحمه الله -: ((وقد روي: إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله - سبحانه - بقلبه ملكاً يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار (¬2) أحدكم الفسيل في بستانه)) (¬3). أما من لم يعمل بالعلم، أو عمل به ولكنه لم يخلص في ذلك فهذا بعيد عن إيتاء الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً؛ ولهذا قال الشاعر: وكيف يصح أن تُدعى حكيماً ... وأنت لكل ما تهوى ركوب (¬4) المطلب الثالث: الاستقامة الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل، 6/ 66، 67 بتصرف. (¬2) الأكار: الزارع. انظر: لسان العرب، حرف الراء، فصل الهمزة، مادة: أكر. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل، 8/ 518. (¬4) انظر: درء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23.

رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2)، وقال تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬3). وعن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) (¬4). والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى الله: الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((سدِّدوا وقارِبوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمدنيَ الله برحمةٍ منه وفضلٍ)) (¬5). فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: السداد والإصابة في النيات، والأقوال، والأعمال، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 30. (¬2) سورة الأحقاف، الآيتان: 13 - 14. (¬3) سورة هود، الآية: 113. (¬4) مسلم، في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، برقم 38. (¬5) مسلم، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله، برقم 2816.

ومع هذا أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أن الاستقامة والمقاربة لا تُنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحدٌ على عمله، ولا يُعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات. والداعية إلى الله يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا - بإذن الله تعالى - لا يُخيِّب الله سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان (¬1). وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يُقبل قول الداعية، ويُقتدَى بأفعاله، فيُعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند الله - عز وجل -، ويحصل على أحسن قولٍ وعملٍ على الإطلاق، كما قال - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). إنّ كلمة الدعوة حينئذٍ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل لله وحده، والاعتزاز بالإسلام. وبهذا يُعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية لا أحد أحكم ولا أحسن قولاً منه في الدنيا أبداً: ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 105، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 15/ 357. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33.

الشرط الأول: دعوته إلى الله - تعالى - بأن يعبد الله وحده

الشرط الأول: دعوته إلى الله - تعالى - بأن يُعبد الله وحده، فَيُطاع فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. الشرط الثاني: عمل الداعية الصالحات بأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والقيام بالمستحبات، والابتعاد عن المكروهات، فهو مع دعوته الخلق إلى الله يبادر هو بنفسه إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي. الشرط الثالث: اعتزاز الداعية بالإسلام وانقياده لأمره شكراً لربه؛ ولأنه على الحق الواضح المبين، فإذا قام الداعية بهذه الشروط الثلاثة، فلا أحد أحسن قولاً منه (¬1). ولكن قد يحصل للداعية ما يصدُّه عن دعوته من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فبيّن الله - عز وجل - أن المخرج من شياطين الإنس بالإحسان إليهم، ومعاملتهم باللِّين، والعفو عنهم، والإعراض عن جهلهم وإساءتهم. أما شياطين الجن فلا منجي منهم إلا بالاستعاذة منهم بالله وحده (¬2)، قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3). ¬

(¬1) انظر: تفسير العلامة السعدي، 6/ 575، وتفسير الجزائري، 4/ 120. (¬2) انظر: أضواء البيان للشنقيطي، 2/ 341، 342، وتفسير السعدي، 6/ 527، وزاد المعاد، 2/ 462. (¬3) سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200، وانظر: سورة المؤمنون، الآيات: 96 - 98، وسورة فصلت، الآيات: 34 - 36.

المطلب الرابع: الخبرات والتجارب

ولاشك أن الداعية إذا سلك هذه المسالك الحكيمة اكتسب الحكمة بتوفيق الله تعالى. المطلب الرابع: الخبرات والتجارب التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تخرج الحكمة عن كونها فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهّاب {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} (¬1)؛ ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً يوصل إليه. والتجربة في العلم: اختبار مُنظِّم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجةٍ ما، أو تحقيق غرضٍ معين، وما يعمل أولاً لتلافي النقص في شيءٍ وإصلاحه (¬2)، ويُقال: جَرَّبَهُ تَجرِبَةً: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُلِيَ ما كان عنده، ومجرِّب: عرف الأمور (¬3)، تقول، جربت الشيء تجريباً: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب (¬4). وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: ((لا حكيم إلا ذو تجربة)) (¬5). ومن المعلوم أن الحكيم لابد له من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 53. (¬2) المعجم الوسيط، مادة: جرب، 1/ 114. (¬3) القاموس المحيط، باب الباء، فصل الجيم، ص85. (¬4) المصباح المنير، مادة جرب، ص95. (¬5) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، موقوفاً على معاوية مجزوماً به، بعد الرقم 6132.

((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة)) (¬1). والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره. وقيل: لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه الخطأ والتخجل فعفي عنه فعرف به رتبة العفو فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل (¬2). والحكيم هو المتيقظ المتنبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها (¬3). والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنيَّة على المران والتجارب؛ ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخاً في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم (¬4). وبهذا يعلم أن الداعية إلى الله إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جرّبهم، فالتجارب تنمّي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم ¬

(¬1) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب، برقم 2033، وأحمد في المسند، 3/ 8. (¬2) انظر: فتح الباري، 10/ 530، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 182. (¬3) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، 6/ 424. (¬4) انظر: الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية، للدكتور/ صبحي محمصاني، ص140.

حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجِّع الجبان، وتسخِّي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمىً إلى عماه فهو من الحمقى الذين لا يفقهون (¬1). وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم الله وربّاهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بعث الله نبيّاً إلاّ رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (¬2). وفي رواية: قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبيٍّ إلاّ وقد رعاها؟)) (¬3). والحكمة من ذلك - والله أعلم - أن الله - عز وجل - يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)) (¬4)؛ ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد ¬

(¬1) انظر: هكذا علمتني الحياة، القسم الأول: للدكتور مصطفى السباعي، ص47. (¬2) البخاري، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، برقم 2262. (¬3) البخاري، كتاب الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم، برقم 3225، وكتاب الأطعمة، باب الكباث، برقم 3225، ومسلم في كتاب الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث، برقم 2050، وهو النضيج من ثمر الأراك، انظر: شرح النووي، 14/ 6. (¬4) البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، برقم 4127، ومسلم في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، برقم 52.

تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سبعٍ وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدّة تفرّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولهم، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرّقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقياداً من غيرها (¬1). ثم بعد رعيهم الغنم جرّبوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم؛ ولهذا قال موسى - صلى الله عليه وسلم - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - عندما فرضت عليه الصلاة خمسين صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: ((إنّ أمّتك لا تستطيع خمسين صلاة كلّ يومٍ، وإني والله قد جرّبت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ... )) فما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجع ربه ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمسٍ صلواتٍ كل يوم (¬2). فموسى قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أضعف من بني ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 4/ 441، وشرح النووي على مسلم، 14/ 6. (¬2) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، برقم 3674.

إسرائيل أجساداً، وأقلّ منهم قوةً، والعادة أن ما عجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى (¬1). فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى الله، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدع مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين)) (¬2)، وقال: ((كلّكم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)) (¬3). وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلابد له - لإصلاح المتديِّنين وتوجيههم - أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسِّياسيين، ويتعرَّف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم ¬

(¬1) انظر: حاشية السندي على سنن النسائي، 1/ 220، وفتح الباري، 1/ 463. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم 5782، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم 2998. (¬3) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا هناد، برقم 2499،وابن ماجه في الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4251، والدارمي في الرقائق، باب التوبة، 2/ 213، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي،2/ 305.

المطلب الخامس: السياسة الحكيمة

برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كُرْهِ نفسٍ واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى الله، ويحرم الناس من علمه (¬1)، وهذا يؤهِّله إلى أن يُحدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدِّثهم حديثاً لا تبلغه عقولهم، قال علي - رضي الله عنه -: ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ الله ورسوله)) (¬2). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما أنت بِمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنةً)) (¬3). وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يُمكِّنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬4). المطلب الخامس: السياسة الحكيمة إذا سلك الداعية إلى الله مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى الله تعالى، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته واكتسابه الحكمة، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص41، والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، لعبد الرحمن السعدي، ص88. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم 127. (¬3) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، برقم 14. (¬4) سورة النحل، الآية: 125.

الطريق الأول: تحري أوقات الفراغ والنشاط

والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أُسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى الله، وقد سلك هذا المسلك، فنفع الله به العباد، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد، وكان لسياسته الحكيمة عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يُعرَف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلاً من الساسة المصلحين في أيِّ أمةٍ من الأمم كان له مثل هذا الأثر العظيم، ومَن مِن المصلحين المبرِّزين - سواء كان قائداً مُحنَّكاً، أو مربِّياً حكيماً - اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة، ما اجتمع في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه: صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه، - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص، وصدق، وعزيمة، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى الله مكتسباً عظيماً. وطرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى الله - عز وجل - كثيرة، منها الطرق الآتية: الطريق الأول: تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين حتى لا يملُّوا عن الاستماع ويفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)) (¬2). ¬

(¬1) انظر: هداية المرشدين، للشيخ على محفوظ، ص24، و31. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم 95، وباب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، برقم 118.

الطريق الثاني: ترك الأمر الذي لا ضرر فيه ولا إثم

ولهذا طبَّق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد الله بن مسعود يُذكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لودِدْتُ أنك ذكرتنا في كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخوَّلُكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّلنا بها مخافة السآمة علينا (¬1). وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يسّروا ولا تُعسّروا، وبشّروا ولا تُنفِّروا)) (¬2). الطريق الثاني: ترك الأمر الذي لا ضرر فيه ولا إثم، اتقاءً للفتنة، فقد يجد الداعية قوماً استقر مجتمعهم وعاداتهم على أشياء لا تخالف الشريعة؛ ولكن فعل غيرها أفضل، فإذا علم الداعية أنه سيحصل فتنة إذا دعا إلى ترك هذا الأمر أو فعله فلا حرج ألاَّ يدعو، فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - اجتناباً لفتنة قومٍ كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فَهُدِمَ، فأدخلت فيه ما أُخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم)) (¬3). وفي رواية: ((إن قومك قصرت بهم النفقة))، قلت: فما شأن بابه ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، برقم 70. (¬2) البخاري، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة، برقم 69، ومسلم، كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1734. (¬3) البخاري، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، برقم 1509، ومسلم، في الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، برقم 1333.

الطريق الثالث: تأليف القلوب بالمال

مرتفعاً؟ قال: ((فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجَدْرَ في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض)) (¬1). وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها - صلى الله عليه وسلم - لدفع هذه المفسدة (¬2). الطريق الثالث: تأليف القلوب بالمال أحياناً، فالداعية كالطبيب الذي يشخِّص المرض أولاً، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو لم يرسخ الإيمان في قلبه رسوخاً لا تزلزله الفتن، فله أن يعطيه من المال ما يستطيعه، للاحتفاظ بالبقاء على الهداية بالإسلام، وقد شرع الله للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلك هذا المسلك، فيؤثر حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال، إذا ظهر له أن الإيمان لم يرسخ؛ ولذلك أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحبُّ إليَّ منه خشية أن يُكبّ في النار على وجهه)) (¬3). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، برقم 1509، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة، برقم 1332. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم، 9/ 89. (¬3) البخاري بنحوه، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، برقم 1408، ومسلم في الإيمان، باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه، برقم 2480.

الطريق الرابع: التأليف بالجاه من السياسة الحكيمة

وقد كان يعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البيِّنات، والبراهين الواضحة (¬1). وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((تهادوا تحابّوا)) (¬2). وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه - صلى الله عليه وسلم - (¬3). الطريق الرابع: التأليف بالجاه من السياسة الحكيمة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: ((أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله لما تنقلبون به خير ما ينقلبون به))، فقالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا (¬4). وفي رواية: ((لو سلك الناس وادياً أو شِعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شِعباً لسَلكتُ وادي الأنصار أو شِعب الأنصار)) (¬5). ¬

(¬1) انظر: هداية المرشدين، ص35. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 6/ 169،والبخاري في الأدب المُفْرَد، ص208، برقم 594، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير،3/ 70: ((إسناده حسن))،وانظر: إرواء الغليل، برقم 1601. (¬3) انظر: صحيح مسلم، 4/ 1803 - 1806، وانظر أيضاً: البخاري مع الفتح، 3/ 135، 6/ 250، 11/ 258. (¬4) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم، برقم 2483، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه، برقم 2483. (¬5) مسلم، في كتاب الزكاة، الباب السابق، برقم، 2486.

الطريق الخامس: التأليف بالعفو في موضع الانتقام

فإذا سلك الداعية هذه السياسة وُفِّق للصواب والحكمة - بإذن الله تعالى -. الطريق الخامس: التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت. وهذا أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته. وقد مدح الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬2). الطريق السادس: عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يُؤدِّبه أو يزجره مادام يجد في الموعظة العامة كفاية، وهذا من السياسة ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬2) سورة التوبة، الآية: 128.

البالغة في منتهى الحكمة؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخَّع أمامه، أيحب أحدكم أن يُستقبل فيتنخّع في وجهه، فإذا تنخّع أحدكم فليتنخّع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا))، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض (¬1). وفقد النبي - صلى الله عليه وسلم - ناساً في بعض الصلوات، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيُحطبَ، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمر رجلاً يؤمُّ الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ [يتخلّفون عنها] فأحرق عليهم بيوتهم)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة))،فاشتدّ قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفنَّ أبصارُهم)) (¬3). وصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فرخّص فيه، فتنزَّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب، فحمد الله، ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزَّهون عن شيءٍ أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدُّهم له خشية)) (¬4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 550. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم 618، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 651، وما بين المعقوفين من رواية مسلم. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم 717. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، برقم 5750، ومسلم، كتاب الفضائل، باب علمه - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وشدة خشيته، برقم 2356. (¬5) مسلم، في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، برقم 1401.

الطريق السابع: إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه

وبلغه شرط أهل بريرة رضي الله عنها أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: ((ما بال أناسٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة مرة، شرط الله أحقُّ وأوثقُ)) (¬1). وهذا يدلّ الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس بالعتاب ستراً عليهم، ورفقاً بهم، وتلطُّفاً. والداعية يستطيع أن يُوجِّه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعوّ المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب (¬2). الطريق السابع: إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله)) (¬3). فقد صوَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جهَّز غازياً فقد غزا)) (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الكبائر أن يلعن الرجل والديه))، قيل: يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ¬

(¬1) البخاري، كتاب المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، برقم 2584، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، برقم 1504. (¬2) انظر: فتح الباري، 10/ 513. (¬3) مسلم، في كتاب الأمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، برقم 1893. (¬4) مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، برقم 1895.

الطريق الثامن: أن يجيب الداعية على السؤال الخاص

ويسبُّ أمه فيسب أمَّه)) (¬1). وهذا أصل في سدّ الذرائع، ويُؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرَّمٍ يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم (¬2)، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬3). فقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يسبُّ أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه؛ لأنه تسبَّب في سبِّهما. الطريق الثامن: أن يجيب الداعية على السؤال الخاص بما يتناوله وغيره حتى يكون ما أجاب به قاعدة عامة للسائل وغيره، قال عمرو بن العاص: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا؟))، قلت: أن يُغفَر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ... )) (¬4). فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجًّا مبروراً، وقد كان يكفيه في ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، برقم 5973. (¬2) انظر: فتح الباري، 10/ 404. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 108. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، برقم 121.

الطريق التاسع: ضرب الأمثال

الجواب أن يقول: غُفر لك، أو نحوها (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن ماء البحر: ((هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته)) (¬2). فأجاب - صلى الله عليه وسلم - السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حلّ ميتة البحر، فعندما عرف - صلى الله عليه وسلم - اشتباه الأمرِ على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يُبْتَلَى بها راكب البحر، فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه تتميماً للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى حكمٍ كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته، مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً (¬3). الطريق التاسع: ضرب الأمثال، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)) (¬4). وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف بالجسد في روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء، فقال: ((مثل ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 2/ 138، وانظر: هداية المرشدين، ص32. (¬2) أبو داود، في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، برقم، والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، برقم 83، والنسائي في الطهارة، باب ماء البحر، برقم 331، وابن ماجه في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، برقم 386، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 14. (¬3) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام، للشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، 1/ 18. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، برقم 2446، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، برقم 2585.

المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى

المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬1). ومثّلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي قبل هذا في التعاون على البر والتقوى والتكاتف بالبنيان يشدّ بعضهم بعضاً كشدّ البنيان (¬2). ومن المعلوم يقيناً أن الداعية إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون الله - تعالى - ووُفِّق لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، وسُدِّد في قوله وفعله بتوفيق الله - سبحانه وتعالى -. المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى لا يكون الداعية حكيماً في دعوته إلى الله - تعالى - إلا بفقه وإتقان ركائز الدعوة وأسسها التي تقوم عليها، حتى يسير في دعوته على بصيرة، ولاشك أن فهم هذه الأركان يدخل في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3). فلابدّ من معرفة الداعية لما يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوافر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 5665، ومسلم في البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، برقم 1999. (¬2) انظر: فتح الباري، 10/ 450، وشرح النووي، 16/ 139. (¬3) سورة يوسف، الآية: 108.

الركن الأول: موضوع الدعوة ((ما يدعو إليه الداعية)):

هذه هي أركان الدعوة: الموضوع، والداعي، والأساليب، والوسائل. الركن الأول: موضوع الدعوة ((ما يدعو إليه الداعية)): موضوع الدعوة: هو دين الإسلام ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ} (¬1). {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2). وهذا ما فَصَّله حديث جبريل في ذكر أركان الإسلام: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). وأركان الإيمان: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). والإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬3). ولاشك أن الإسلام اختص بخصائص عظيمة منها: 1 - الإسلام من عند الله تعالى. 2 - الإسلام شامل لجميع نظم الحياة وسلوك الإنسان، ومن هذه النظم: نظام الأخلاق، ونظام المجتمع، والإفتاء، والحسبة، والحكم، والاقتصاد، والجهاد، ونظام الجريمة والعقاب، وذلك كله قائم على الرحمة، والعدل، والإحسان. 3 - الإسلام عام لجميع البشرية في كل زمان ومكان، قال الله تعالى: ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، برقم 9.

4 - الإسلام هو من حيث الجزاء

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1). 4 - الإسلام هو من حيث الجزاء: - الثواب والعقاب الذي يصيب مُتَّبِعَهُ أو مخالفه - ذو جزاء أُخرويّ بالإضافة إلى جزائه الدنيوي إلا ما خصّه الدليل. 5 - والإسلام يحرص على إبلاغ الناس أعلى مستوى ممكن من الكمال الإنساني: وهذه مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعيّة الإسلام. 6 - الإسلام وسط: في عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأنظمته، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬2). كما يلزم الداعية فهم مقاصد الإسلام التي دلّت عليها الشريعة الإسلامية: وهي تحقيق مصالح العباد، ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها)) (¬3). وبالجملة فإن الشريعة الإسلامية مدارها على ثلاث مصالح: المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143. (¬3) انظر: منهاج السنة النبوية، 1/ 147.

المصلحة الثانية: جلب المصالح

المصلحة الثانية: جلب المصالح: فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين وسدّ كل ذريعة تؤدّي إلى الضرر. المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن حلّ جميع المشكلات العالمية التي عجز عنها البشر ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطّرق وأعدلها (¬1). فالداعية الحكيم هو الذي يدعو إلى ما تقدم من أركان الإسلام، وأصول الإيمان، والإحسان، ويبيّن للناس جميع ما جاء في القرآن والسنة: من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، بالتفصيل والشرح والتوضيح (¬2). الركن الثاني: الداعي: لابُدَّ للداعية من معرفة هذا الأصل بشروطه، وما هي عدّة الداعية وسلاحه، وما هي وظيفته، وأخلاقه، وفهم ذلك من أهمّ المهمات للداعية، وإليك التفصيل بإيجاز: 1 - وظيفة الداعية: وظيفة الداعية إلى الله - تعالى - هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل هم قدوة الدعاة إلى الله، وأعظمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان للشنقيطي 3/ 409 - 457. (¬2) انظر: فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، 1/ 342، وأصول الدعوة، لعبد الكريم زيدان، ص7 - 293، والدعوة إلى الله، للدكتور توفيق الواعي، ص81.

تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (¬1). وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} (¬2). وقال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} (¬4). والأمة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى الله، فالآيات التي تأمره بالدعوة إلى الله يدخل فيها المسلمون جميعاً؛ لأن الأصل في خطاب الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - دخول أمته فيه إلا ما استُثْني، وليس من هذا المستثنى أمر الله تعالى بالدعوة إليه، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} (¬5). وقد جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخصِّ أوصاف المؤمنين، كما قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (¬6)، وبهذا يتضح أن المكلَّف بالدعوة إلى الله هو كل مسلم ومسلمة على قدر الطاقة، وعلى قدر العلم، ولا يختصّ العلماء بأصل هذا الواجب؛ لأنه واجب على الجميع كلٌّ بحسبه، وإنما يختص أهل العلم بتبليغ تفاصيل الإسلام، ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 45 - 46. (¬2) سورة الحج، الآية: 67. (¬3) سورة القصص، الآية: 87. (¬4) سورة الرعد، الآية: 36. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬6) سورة التوبة: الآية: 71.

الصورة الأولى: فردية

وأحكامه، ومعانيه الدقيقة، ومسائل الاجتهاد، نظراً لسعة علمهم، ومعرفتهم بالمسائل، والجزئيات، والأصول، والفروع. ومما يزيد الأمر وضوحاً قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1)، فبين سبحانه أن أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم الدعاة إلى الله، وهم أهل البصائر كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله على بصيرةٍ، وعلمٍ، ويقين (¬2). والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة كلٌ بحسبه، وهي تؤدَّى على صورتين: الصورة الأولى: فردية، يقوم بها المسلم على صفة فردية بحسب طاقته، وقدرته، وعلمه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيِّرْه بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬3). الصورة الثانية: بصفة جماعية، فتكون فرقة متصدية لهذا الشأن، كما قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4). 2 - عدّة الداعية وسلاحه: يحتاج الداعية إلى الله - تعالى - في أداء مهمته ووظيفته إلى عُدَّةٍ ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 108. (¬2) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص295 - 356. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم 49. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 104.

السلاح الأول: الفهم الدقيق

وسلاحٍ قوي، منها: السلاح الأول: الفهم الدقيق المبني على العلم قبل العمل، والقائم على تدبّر معاني وأحكام القرآن الكريم، وفهم السنة النبوية الشريفة، ويرتكز هذا الفهم على عدة أمور، من أهمها: الأمر الأول: فهم الداعية العقيدة الإسلامية فهماً صحيحاً متقناً بالأدلة من الكتاب، والسنة، وإجماع علماء أهل السنة والجماعة. الأمر الثاني: فهم الداعية غايته في الحياة ومركزه بين البشر. الأمر الثالث: تعلقه بالآخرة، وتجافيه عن دار الغرور. السلاح الثاني: الإيمان العميق المثمر: لمحبة الله، وخوفه، ورجائه، واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل أموره. السلاح الثالث: اتصال الداعية بالله - تعالى - في جميع أموره، وتعلقه به، وتوكله عليه، واستغاثته به، وإخلاصه له، والصدق معه في الأقوال والأفعال. 3 - أخلاق الداعية وصفاته: يحتاج الداعية إلى الأخلاق الحسنة والصفات الكريمة: وهي أخلاق الإسلام التي بيّنها الله في كتابه، وبيّنها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته. ومن أهمّ هذه الأخلاق والصفات التي ينبغي للداعية أن يلتزمها: الصدق، والإخلاص، والدعوة، إلى الله على بصيرة، والحلم، والرفق، واللين، والصبر، والرحمة، والعفو، والصفح، والتواضع، والوفاء، والإيثار، والشجاعة، والذكاء، والأمانة، والحياء المحمود، والكرم،

والتقوى، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والتفاؤل، والنظام والدقة والمحافظة على الوقت، والاعتزاز بالإسلام، والعمل بما يدعو إليه؛ ليكون قدوةً صالحةً، والزهد، والورع، والاستقامة، وإدراك الداعية لما حوله، والقصد والاعتدال، والشعور بمعيّة الله، والثقة بالله تعالى، والتدرج في الدعوة، والبدء بالأهمّ فالمهمّ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بذلك معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن. كما ينبغي للداعية أن يبتعد عن كل ما يضادّ هذه الأخلاق من الأخلاق القبيحة. ومن هذه الأمور المهمّة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، معرفة القواعد، والضوابط التي يجب مراعاتها والسير على ضوئها، حتى يكون الداعية مُسدَّداً في دعوته. ومن ذلك: قول سفيان الثوري (¬1): ((لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به، عالم بما ينهى عنه)) (¬2). وقال الإمام محمد المقدسي: ((قال بعض السلف: ((لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه)) (¬3). ¬

(¬1) هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ المجتهد: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ولد سنة 97هـ، ومات سنة 161هـ، انظر: سير أعلام النبلاء، 7/ 229 - 279. (¬2) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي الخلال، ص50. (¬3) مختصر منهاج القاصدين، ص129، ونسب هذا القول إلى بعض السلف ابن تيمية أيضاً في: الحسبة في الإسلام، ص84.

الركن الثالث: المدعو:

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((فلابد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لابد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال)) (¬1). وقال ابن القيم - رحمه الله -: ((فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضدّه. الثانية: أن يقلّ وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شرّ منه. فالدرجتان الأُولَيان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمة)) (¬2). فإذا طبّق الداعية ما تقدم من الصفات والأخلاق والقواعد والضوابط كان من أعظم الناس حكمة - بإذن الله تعالى-. الركن الثالث: المدعو: ينبغي للداعية أن يعلم أن الدعوة إلى الإسلام عامة لجميع البشر، بل للجن والإنس جميعاً، في كل زمانٍ ومكانٍ إلى قيام الساعة، وليست خاصة بجنسٍ دون جنسٍ، أو طبقةٍ دون طبقةٍ، أو فئةٍ دون فئةٍ، أو زمانٍ دون زمانٍ، أو مكانٍ دون مكان. ومن حقّ المدعو أن يُؤتى ويُدعى، ولا يجلس الداعي في بيته وينتظر مجيء الناس إليه، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي ¬

(¬1) الحسبة في الإسلام، ص84. (¬2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم رحمه الله تعالى، 3/ 16.

الناس ويدعوهم، ويخرج إلى القبائل في المواسم، ويذهب إلى مقابلة وملاقاة الوفود ومن يقدم. ولا يجوز للداعية أن يستصغر شأن أي إنسان أو أن يستهين به؛ لأن من حق كل إنسان أن يُدعى. وإذا كان من حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى ولا يستهان به، ولا يستصغر من شأنه فعليه أن يستجيب. وينبغي للداعية أن يعلم أن المدعوين أصناف وأقسام: فمنهم الملحد، ومنهم المشرك الوثني، ومنهم اليهودي، ومنهم النصراني، ومنهم المنافق، ومنهم المسلم الذي يحتاج إلى التربية والتعليم، ومنهم المسلم العاصي، ثم هم أيضاً يختلفون في قدراتهم العقلية، والعلمية، والصحية، ومراكزهم الاجتماعية، فهذا مثقَّفٌ، وهذا أمّيٌ، وهذا رئيسٌ، وهذا مرؤوسٌ، وهذا غنيٌّ، وهذا فقيرٌ، وهذا صحيح، وهذا مريض، وهذا عربي، وهذا أعجمي ... فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الحاذق الحكيم الذي يشخِّص المرض، ويعرف الداء ويحدّده، ثم يُعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك قوة المريض وضعفه، وتحمّله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشقّ بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض (¬1). ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص365 - 394.

الركن الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:

والداعية ينبغي له أن يبدأ مع المدعوِّين بخطوات مناسبة محسوسة (¬1)، منها ما يأتي: 1 - يبدأ بنفسه فيصلحها حتى يكون القدوة الصالحة. 2 - ثم يمضي إلى تكوين بيته وإصلاح أسرته، ليُكوِّن البيت المسلم، واللبنة المؤمنة. 3 - ثم يتوجّه إلى المجتمع، وينشر دعوة الخير فيه، ويحارب الرذائل والمنكرات بالحكمة، ويشجع الفضائل ومكارم الأخلاق. 4 - ثم دعوة غير المسلمين إلى منهج الحق وإلى شريعة الإسلام ((حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) (¬2). الركن الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها: الداعية يحتاج إلى فهم أساليب الدعوة ووسائل تبليغها، حتى يكون على قدر من الكفاءة لتبليغ الدعوة إلى الله تعالى بإحكامٍ وإتقانٍ وبصيرةٍ، وذلك على النحو الآتي: أولاً: أساليب الدعوة: الأسلوب: الطريق والفن، يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم، ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوعة (¬3). ¬

(¬1) وقد أوضحت كيفية دعوة المدعوين على اختلاف أصنافهم في الفصل الثالث والفصل الرابع من كتاب الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، ص333، و315. (¬2) انظر: الدعوة إلى الله، للدكتور توفيق الواعي، ص84. (¬3) انظر: القاموس المحيط، فصل السين، باب الباء، ص125، والمصباح المنير، مادة (سلب)، 1/ 248، والمعجم الوسيط، مادة (سلب)، 1/ 441.

1 - تشخيص وتحديد الداء في المدعوين، ومعرفة الدواء:

وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ، وإزالة العوائق عنه. والمصادر الأساسية التي يستمد الداعية ويتعلم أساليب دعوته الحكيمة منها هي: كتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة السلف الصالح: من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان من أهل العلم والإيمان. وتقوم أساليب الدعوة الحكيمة الناجحة المؤثرة على الأساليب الآتية: 1 - تشخيص وتحديد الداء في المدعوين، ومعرفة الدواء: فإن طبيب الأبدان الحاذق الحكيم يشخّص ويعرف الداء أولاً، ثم يصف العلاج حسب الداء. والداعية إلى الله - تعالى - هو طبيب الأرواح والقلوب، فعليه أن يسلك هذا الأسلوب في معالجة الأرواح، والداء عند الناس قد يكون كفراً، وقد يكون معصية، فعلى الداعية أن يعطي الدواء على حسب الداء؛ فإنّ دواء الكفر الإيمان بالله، وبما جاء عنه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودواء المعاصي كبائرها وصغائرها التوبة إلى الله - تعالى -، والإقبال إليه، والإكثار من الطاعات المكفِّرة للسيئات، وهكذا لكل داءٍ دواء. 2 - إزالة الشبهات التي تمنع المدعوين من رؤية الداء والإحساس به: ولاشك أن الشبهات: هي ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعية وحقيقة ما يدعو إليه، فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابة له، أو

3 - ترغيب المدعوين وتشويقهم:

تأخير هذه الاستجابة. 3 - ترغيب المدعوين وتشويقهم: إلى استعمال الدواء، والاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه، وترهيبهم من ترك الدواء بكل ما يخوف ويحذر من عدم الاستجابة، أو عدم الثبات على الحق بعد قبوله. 4 - تعهد المستجيبين من المدعوين: بالتربية والتعليم، والتوجيه؛ لتحصل لهم المناعة ضد دائهم القديم، ومن أعظم وسائل التربية المؤثرة: الاتصال بكتاب الله - تعالى - تلاوةً، وتدبراً، وفهماً، والاتصال الدائم بالسنة النبوية، وسيرة السلف من الصحابة - رضي الله عنهم -، فعلى الداعية أن يعين المستجيبين على هذه الأمور العظيمة. 5 - تقوم جميع الأساليب: على أسلوب الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ثم استخدام القوة للمعاندين الظالمين. ثانياً: وسائل تبليغ الدعوة إلى الله تعالى: الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء (¬1)، ووسائل الدعوة هي: ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة من أشياء وأمور. ولاشك أن وسائل الدعوة على نوعين: النوع الأول: وسائل خارجية تتعلق باتخاذ الأسباب لتهيئة المجال المناسب، ومنها على سبيل المثال ما يأتي: الوسيلة الأولى: الحذر المبني على التوكل على الله - تعالى - مع الأخذ ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع السين، 5/ 185.

الوسيلة الأولى: التبليغ بالقول:

بالأسباب، ومعلوم أن الحذر أنواع من جهة ما يحذره الداعي المسلم، فهناك: حذره من الوقوع في المعاصي، والحذر من الأهل والولد، والحذر من اتباع الهوى، والحذر من المنافقين والكفار. الوسيلة الثانية: الاستعانة بعد الله - تعالى - بالغير في تبليغ الدعوة، فالداعية يحرص على إيصال الدعوة إلى الناس، فيستعين بكل وسيلة مشروعة لتحقيق ما يحرص عليه. الوسيلة الثالثة: المحافظة على النظام المشروع: كحفظ الداعية تنظيم وقته وعدم إضاعته، وإذا كان الدعاة جماعة فعليهم أن يراعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام، حتى تثمر جهودهم ولا تضيع؛ فإن القليل من العمل بنظامٍ والدوام عليه خير من الكثير مع الفوضى والانقطاع. النوع الثاني: وسائل تبليغ الدعوة بصورة مباشرة. وهذه الوسائل تكون: بالقول، وبالعمل، وبسيرة الداعية التي تجعله قدوة حسنة لغيره فتجذبهم إلى الإسلام، ومن هذه الوسائل ما يأتي: الوسيلة الأولى: التبليغ بالقول: وسيلة القول في مجال التبليغ أنواع متعددة، منها: الخطبة، والدرس، والمحاضرة، والندوة، والمناقشة، والجدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الوعظية، والدعوة الفردية، والنصيحة الأخوية، والفتوى الشرعية، والكتابة: كالرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة.

1 - اللقاءات العامة

والداعية يستعين في تبليغ دعوته بجميع الوسائل المختلفة، المشروعة، المفيدة، وقد تكون بعض الوسائل نافعة في زمن دون زمن، وفي مجتمع دون آخر، والداعية الحكيم هو الذي يختار الوسائل المناسبة لكل عصر ومصر. ووسيلة التبليغ بالقول تُبلَّغ عن طريق الوسائل الآتية: 1 - اللقاءات العامة: كإقامة المحاضرات، والندوات، والمناقشات، والدروس في المساجد، والجامعات، والمعاهد، والمدارس، والمؤتمرات، وفي المناسبات التي يحضرها الناس بصورة جماعية كبيرة. 2 - اللقاءات الخاصة: كالدروس الخاصة بطلاب العلم، ولا يمنع حضور غيرهم. 3 - الدعوة الفردية: بالنصيحة الأخوية، والهدية الرمزية. 4 - الكتابة: الرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة. 5 - وسائل الإعلام الحديثة: المسموعة، والمرئية، والمقروءة، والشخصية. 6 - الوسائل الشخصية كالمسجلات، وشرائط التسجيل، والهاتف .. فينبغي للداعية الحكيم أن يغتنم استخدام هذه الوسائل ويشغلها بالحق؛ لأنه بذلك يخاطب ملايين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وعن طريقها تصل الدعوة إلى أقطار بعيدة، وتعمّ أماكن كثيرة. وينبغي أن يكون قول الداعية واضحاً بيِّناً، خالياً من الألفاظ التي تحمل حقاً وباطلاً، وخطأً وصواباً، وأن يستعمل الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسنة وعند علماء المسلمين. كما ينبغي للداعية أن يتأنّى في كلامه حتى يستوعب السامع كلامه

الوسيلة الثانية: التبليغ بالعمل:

ويفهَمَه، وأن يبتعد عن التفاصح والتعاظل، والتكلف في النطق، ويبتعد عن روح الاستعلاء على المدعو واحتقاره وإظهار فضله عليه، وأن يتلطّف بالقول للمدعوين، ويكون موضع الثقة بين الناس (¬1). الوسيلة الثانية: التبليغ بالعمل: والتبليغ بالعمل هو كل فعل يؤدي إلى إزالة المنكر ونصرة الحق وإظهاره، والأصل في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬2)، والتبليغ بالعمل كما يكون بإزالة المنكر يكون بإقامة المعروف: كبناء المساجد، وبناء الجامعات، والمعاهد، والمدارس الإسلامية، وإقامة المكتبات فيها وتزويدها بالكتب النافعة، وبناء المستشفيات الإسلامية، ودور الرعاية الاجتماعية، وطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها، واختيار الرجل الصالح للعمل في هذه المجالات وفي المجالات المهمة، وهذا - كله - في الحقيقة دعوة صامتة إلى الله تعالى. الوسيلة الثالثة: التبليغ بالسيرة الحسنة: من وسائل التبليغ المهمّة في تبليغ الدعوة إلى الله، وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيّبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة، والتزامه بالإسلام ظاهراً وباطناً، مما يجعله ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص453، و454، والدعوة إلى الله تعالى للدكتور توفيق الواعي، ص262، و264. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم 49.

* حسن الخلق كلمة يندرج تحتها كثير من الصفات

قدوةً طيبةً، وأُسوةً حسنةً لغيره؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ من التأثير بالكلام وحده. وأصول السيرة الحسنة التي يكون بها الداعية قدوةً طيبةً لغيره ترجع إلى أصلين عظيمين: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول. - فحسن الخلق كلمة يندرج تحتها كثير من الصفات: كالتواضع، والوفاء بالعهد، والأمانة، وقوة العزيمة، والشجاعة، والصبر، والشكر، والحلم، والرفق، والتقوى، والحياء، والعفو والصفح، والجود، والكرم، والصدق والعدل، وحفظ اللسان، والرحمة. - وموافقة القول للعمل هي أن يكون فعل الداعية موافقاً للطريق المستقيم، وسيرته تطبيقاً عملياً لقوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، فإن أمر بشيء التزمه، وإن نهى عن شيء كان أول تاركٍ له؛ ليفيد وعظه، وينفع إرشاده ويُثمر، ويُقتدى به، فإن كان يأمر بالخير ولا يفعله، وينهى عن الشر وهو واقع فيه، فهو بحاله هذه عقبة في سبيل الدعوة إلى الله تعالى (¬1). ¬

(¬1) انظر: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها بالتفصيل في: أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان، ص395 - 469، والدعوة إلى الله لتوفيق الواعي، ص241 - 372، والحكمة في الدعوة إلى الله للمؤلف، ص124 - 130.

المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم

المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم المطلب الأول: إنزال الناس منازلهم الداعية الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، ويُنزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم، وأفهامهم، وطبائعهم، وأخلاقهم، ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((حَدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكذَّب الله ورسوله)) (¬1). وذُكِرَ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُنْزِلَ الناس منازلهم)) (¬2). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (¬3). وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للدعاة إلى الله - عز وجل -، فقال لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حينما بعثه إلى اليمن - داعياً ومعلماً وقاضياً -: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب ... )) الحديث (¬4). فبين - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب من خص قوماً بالعلم دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم 157. (¬2) مسلم، في المقدمة، مع شرح النووي، 1/ 55، وسنن أبي داود مع العون، 13/ 191. (¬3) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، 14. (¬4) البخاري، كتاب الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، برقم 1395، واللفظ له، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله وشرائع الإسلام، برقم 19.

حالهم، ويستعدّ لهم، ويقدّم لهم ما يناسبهم، وما يُصلح أحوالهم. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: ((يا عائشة، لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون)) (¬1). فترك - صلى الله عليه وسلم - هذه المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفاسد (¬2). فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهمٌّ جداً؛ فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشُّبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم (¬3). والدّاعية الحكيم يكون مدركاً لما حوله، مقدّراً للظروف التي يدعو فيها، مراعياً لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم. والداعية إلى الله - تعالى - لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقاً في ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، برقم 126. (¬2) قال ابن حجر - رحمه الله - تعالى: ((يستفاد منه ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه)). انظر: فتح الباري، 1/ 225. (¬3) انظر: شرح الإمام النووي على مسلم، 1/ 76، 197، وفتح الباري، 1/ 225، وكيف يدعو الداعية لعبد الله ناصح علوان، ص7، 37، 47، 155، وزاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص7.

تبلغيه ولا مسدّداً في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العُصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والمادّيين والدهريّين؟ أم من الوثنيين المشركين؟. فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدّم معهم؟ وماذا يؤخّر؟ وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟ وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يُشخِّصُ المرض، ويعرف الداء ويُحدّده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه، من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا فالداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويُحدّد الدّاء، ويعرف الدّواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة (¬1). ¬

(¬1) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله للمؤلف، ص335 - 336.

المطلب الثاني: مراتب الدعوة والمدعوين

المطلب الثاني: مراتب الدعوة والمدعوين قد دلّ كتاب الله على أنّ مراتب الدعوة - بحسب مراتب البشر - قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1)، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬2)، فاتضح بذلك أن مراتب الدعوة إلى الله أربع مراتب على النحو الآتي: المرتبة الأولى: الحكمة. المرتبة الثانية: الموعظة الحسنة. المرتبة الثالثة: الجدال بالتي هي أحسن. المرتبة الرابعة: استخدام القوة. ولابد أن تكون مرتبة الحكمة ملازمة لجميع المراتب التي بعدها، فالموعظة لابد أن توضع في موضعها، والجدال في موضعه، واستخدام القوة في موضعه مع بيان الحق بدليله والإصابة في الأقوال والأفعال، وكل ذلك بإحكامٍ وإتقان. وبهذا تكون مراتب المدعوين بحسب هذه المراتب على النحو الآتي: 1 - المستجيب الذّكي، القابل للحقّ، الذي لا يعاند ولا يأباه، وهذا يُبين له الحق علماً وعملاً واعتقاداًَ، فيقبله ويعمل به. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 125. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 46.

2 - القابل للحق المعترف به

2 - القابل للحقّ المعترف به؛ لكن عنده نوع غفلة وتأخر، وله أهواء وشهوات تصدّه عن اتّباع الحقّ، فهذا يُدعى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحقّ والتّرهيب من الباطل. 3 - المعاند الجاحد، فهذا يُجادل بالتي هي أحسن (¬1). 4 - فإن ظلم المعاند ولم يرجع إلى الحقّ انتُقِل معه إلى مرتبة استخدام القوة إن أمكن. واستخدام القوة يكون بالكلام، وبالتأديب لمن له سلطة وقوّة، وبالجهاد في سبيل الله - تعالى - تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشّروط التي دلّ عليها الكتاب والسنة (¬2)، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشيء في موضعه اللائق به بإحكام وإتقان وإصابة (¬3). ويزيد ذلك وضوحاً وبياناً ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي أعطاه ربه من الحكمة ما لم يعطِ أحداً من العالمين، فقد كان يضع العلم والتّعليم والتّربية في مواضعها، والموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي ¬

(¬1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 44، 45، 15/ 243، 19/ 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 194، 195، والتفسير القيم لابن القيم، ص344، ومعالم الدعوة في القصص القرآني للديلمي، 1/ 53. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 416، 4/ 315، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، ص89، وفتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، 1/ 90، وزاد الداعية إلى الله لفضيلة العلامة محمد بن عثيمين، ص15، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، 2/ 174 - 175. (¬3) قد بينت كيفية دعوة هذه الأصناف الأربعة في رسالة الحكمة في الدعوة إلى الله بالتفصيل، انظر: ص333 - 564.

هي أحسن في موضعها، والقوة والغلظة والسيف في مواضعها، وهذا من أحكم الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1)، وهذا عين الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى (¬2). ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية: 9. (¬2) انظر: تعليق الشيخ محمد حامد الفقي على التفسير القيم لابن القيم، ص344.

الفصل الثالث: الحلم

الفصل الثالث: الحِلْمُ المبحث الأول: مفهوم الحلم. المبحث الثاني: أهمية الحلم. المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة. المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم.

المبحث الأول: مفهوم الحلم

المبحث الأول: مفهوم الحِلْم الحِلْم: بالكسر: العقل (¬1)، وحلم حلماً: تأنَّى وسكن عند الغضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وعقل (¬2)، ومن أسماء الله - تعالى -: (الحليم)، وهو الذي لا يستخفّه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منتهٍ إليه (¬3). والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (¬4). والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقّل ولا تبصّر كان على رذيلة، وإن تبلّد، وضيّع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلّى بالحلم مع القدرة وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة. وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، والله أعلم (¬5). ¬

(¬1) القاموس المحيط، باب الميم، فصل الحاء، ص1416. (¬2) المعجم الوسيط، مادة: حلم، 1/ 194. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، حرف الحاء مع اللام، 1/ 434. (¬4) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة حلم، ص129. (¬5) انظر: مفردات غريب القرآن ص129، وأخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 182، والأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن الميداني، 2/ 326.

وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬1). ونلاحظ أن الآيات التي وصفت الله بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم - في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (¬2). ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت الله بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (¬3)، وهذا يفيد - والله أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم مقومات الداعية الناجح، ومن أعظم أركان الحكمة (¬4). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 155. (¬2) سورة فاطر، الآية: 45. (¬3) سورة الحج، الآية: 59. (¬4) انظر: أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185.

المبحث الثاني: أهمية الحلم

المبحث الثاني: أهمية الحِلْم الحلم من أعظم مقومات الداعية الناجح، وهو أيضاً من دعائم الحكمة، فلا يكون الداعية ناجحاً حتى يكون: حكيماً، فالحكمة تقوم على ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة، وكل خلل في الداعية إلى الله فسببه الإخلال بالحكمة وأركانها، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلّهم منها ميراثاً، ومعاول هدم الحكمة: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل، وطائش، ولا عجول (¬1). ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم مقومات الداعية ومن أركان الحكمة التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى الله - تعالى - مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها الله - عز وجل -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأشجِّ (¬2): ((إن فيك خصلتين يحبِّهما الله: الحلم والأناة)) (¬3). وفي رواية قال الأشجّ: يا رسول الله، أنا تخلَّقت بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: ((بل الله جبلك عليهما))، قال: الحمد لله الذي جبلني على خُلُقيْن يحبهما الله ورسوله (¬4). ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 2/ 480. (¬2) المنذر بن عائذ بن المنذر العصري، أشج عبد القيس، كان سيد قومه، رجع بعد إسلامه إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك ومات بها - رضي الله عنه -. انظر: تهذيب التهذيب، 10/ 267. (¬3) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله، برقم 25. (¬4) أبو داود، في الأدب، باب في قبلة الجسد، برقم 5227، وأحمد، 4/ 206، 3/ 23.

الأناة

وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للأشجّ ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الأشجّ عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرّبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم؟)) فقال القوم: نعم، فقال الأشجّ: يا رسول الله، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبَّعَنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين ... )) الحديث. فالأناة: تربُّصُه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحّة عقله، وجودة نظره للعواقب (¬1). ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام أنه خُلُق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى الله والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة. وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر الله المؤزَّر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن غريباً أن يوجهه الله تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم، 1/ 189، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 152.

الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬2). وقال - عز وجل -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200. (¬2) سورة فصلت، الآية: 34. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 159.

المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة إلى الله

المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة إلى الله بَلَغَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر الصور الآتية: الصورة الأولى: مع من قال هذه قسمة ما عُدِلَ فيها: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنينٍ آثر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه الله، فقلت: والله لأُخبرنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته فأخبرته، فقال: ((فمن يعدلْ إذا لم يعدلِ الله ورسولُه؟! رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) (¬1). وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكِّل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (¬2). الصورة الثانية: مع من قال: كنا أحقَّ بهذا: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول ¬

(¬1) البخاري بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس، برقم 2981، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، برقم 1062. (¬2) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 8/ 49.

الله من اليمن بذهيبة (¬1) في أديم مقروظ (¬2) لم تُحصِّل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر (¬3)، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (¬4)، والرابع إما علقمة (¬5) وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟)) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كثّ اللحية، محلوق الرأس، مشمِّر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتّقِ الله، قال: ((ويلك، أولست أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله؟))، قال: ثم ولَّى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لم أومر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم))، قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍّ فقال: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (¬6). ¬

(¬1) أي: ذهب. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬2) مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬3) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح، 8/ 68. (¬4) زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬5) ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬6) البخاري، كتاب المغازي، باب بعث على بن أبي طالب، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما إلى اليمن، برقم 3166، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1064.

الصورة الثالثة: مع الطفيل

وهذا من ظواهر حلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخذ بالظاهر، ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله، لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه، ولاسيما من صلّى (¬1). الصورة الثالثة: مع الطفيل من مواقف الحلم ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه -، فقد أسلم الطفيل - رضي الله عنه - قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه إلى الله - عز وجل - فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر له أن دوساً هلكت وكفرت وعصت وأبت. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن دوساً قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: ((اللهم اهد دوساً، وائت بهم، اللهم اهد دوساً، وائت بهم)) (¬2). وهذا يدلّ على حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصبره، وتأنِّيه في الدعوة إلى الله - عز وجل -؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من ردّ الدعوة؛ ولكنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم ¬

(¬1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/ 69. (¬2) البخاري، في كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، برقم 2779، وفي كتاب المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي، برقم 4131، وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، برقم 6034، ومسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل غفار وأسلم وجهينة وأشجع وتميم ودوس وطيئ، برقم 2524، وأخرجه أحمد واللفظ له، 2/ 243، 448، وانظر: البداية والنهاية، 6/ 337، 3/ 99، وسيرة ابن هشام، 1/ 407.

الصورة الرابعة: مع من أراد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -

بالهداية، فاستجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأني وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم، فأسلم على يديه خلق كثير، ثم قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتاً من دوس، ثم لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين (¬1). الله أكبر! ما أعظمها من حكمة أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة. وهذا مما يوجب على الدعاة إلى الله - عز وجل - العناية بالحلم في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل الله ثم معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته. الصورة الرابعة: مع من أراد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نجد (¬2)، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة، فعلّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلّون بالشجر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتاً (¬3) في يده، فقال لي: من يمنعنك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام (¬4) السيف، فها هو ذا جالس))، ثم لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 1/ 346،وزاد المعاد، 3/ 626،والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 225. (¬2) وقع في رواية البخاري التصريح باسمها ((ذات الرقاع))، انظر: البخاري مع الفتح، 7/ 426. (¬3) والسيف صلتاً: أي مسلولاً. انظر: شرح النووي، 15/ 45. (¬4) شام السيف: أي رده في غمده. انظر: المرجع السابق، 15/ 45. (¬5) البخاري، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، برقم 2910، وكتاب المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، برقم 4136، ومسلم، واللفظ له، كتاب الفضائل، باب: توكله على الله - تعالى -، وعصمة الله - تعالى - له من الناس، برقم 843، وأحمد، 3/ 311، 364. وانظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، فقد ذكر رواية مطولة عزاها لأبي بكر الإسماعيلي في صحيحه، 2/ 335.

الصورة الخامسة: مع زيد الحبر

الله أكبر! ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس! أعرابي يريد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يعصمه الله منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخُلُقٌ عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬1)، وهذا الخلق الحكيم قد أثَّر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير (¬2). الصورة الخامسة: مع زيد الحبر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار (¬3). جاء زيد بن سعنة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبه ديناً له، فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول، ونظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجهٍ غليظٍ وقال: يا محمد، ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ، ¬

(¬1) سورة القلم، الآية: 4. (¬2) انظر: فتح الباري، 7/ 428، وشرح النووي على مسلم، 15/ 44، وذكر ابن حجر والنووي في هذا الموضع أن اسم الأعرابي: غورث بن الحارث. (¬3) انظر: هذا الحبيب يا محب، ص528، وهداية المرشدين، ص384.

وشدّد له في القول، فنظر إليه عمر وعنياه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: ((أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرٍ))، فكان هذا سبباً لإسلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وكان زيد قبل هذه القصة يقول: ((لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً)) (¬1). فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر (¬2). فقد أقام محمد - صلى الله عليه وسلم - براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق. ¬

(¬1) ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة هذه القصة وعزاها إلى الطبراني، والحاكم، وأبي الشيخ في كتابه أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن سعد، وغيرهم، ثم قال ابن حجر: ورجال إسناده موثقون ... ومحمد بن أبي السري وثقة ابن معين ... والوليد قد صرح بالتحديث، 1/ 566. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 2/ 310، وعزاه إلى أبي نعيم في الدلائل، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 240: ((رواه الطبراني، ورجاله ثقات)). (¬2) الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 566.

الصورة السادسة: مع زعيم المنافقين

الصورة السادسة: مع زعيم المنافقين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وقد أجمع الأوس والخزرج على تمليك عبد الله بن أُبيّ، ولم يختلف عليه في شرفه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فجاءهم الله - تعالى - برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام امتلأ قلبه حقداً وعداوة وبغضاً، ورأى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه أبوا إلا الإسلام، دخل فيه كارهاً مُصرّاً على النفاق والحقد والعداوة (¬1)، ولم يألُ جهداً في الصدّ عن الإسلام، وتفريق جماعة المسلمين، والذبّ عن اليهود ومساعدتهم. وقد ظهرت مواقفه الخبيثة في معاداته لدعوة الإسلام، ولكن عن طريق التستر والنفاق، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقابل عداوته بالعفو والصفح والحلم؛ لأنه يُظهر الإسلام؛ ولأن له أعواناً من المنافقين، هو رئيسهم وهم تبع له، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحسن إليه بالمقال والفعل، ويقابل إساءته بالعفو والإحسان في عدة مواقف، منها على سبيل المثال ما يأتي: 1 - شفاعته لليهود - بنو قينقاع - عندما نقضوا العهد: نقض بنو قينقاع العهد بعد بدر بكشف عورة امرأة من المسلمين في السوق، وبقتل رجل نصرها من المسلمين (¬2)، فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 216، والبداية والنهاية، 4/ 157. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 427، والبداية والنهاية، 4/ 4، والرحيق المختوم، ص228، وهذا الحبيب، ص246.

2 - ما فعله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد:

يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وحاصرهم خمسة عشر يوماً، وتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشدّ الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بهم فَكُتِّفُوا، وكانوا سبعمائة مقاتل، فقام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أُبيّ حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع (¬1)، قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - له (¬2)، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، وقبض منهم أموالهم، وخمس غنائمهم صلوات الله وسلامه عليه (¬3). 2 - ما فعله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى معركة أحد، فلما صار بين أُحُد والمدينة انخزل عبد الله بن أُبيّ بنحو ثلث العسكر، ورجع بهم إلى المدينة فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله عنهما فوبّخهم، وحضّهم على الرجوع، وقال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم ¬

(¬1) الحاسر: هو الذي لا درع له، والدارع: هو لابس الدرع. انظر: المعجم الوسيط، مادة ((حسر))، 1/ 172، ومادة ((درع))، 1/ 280. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 428، والبداية والنهاية لابن كثير، 4/ 4. (¬3) انظر: زاد المعاد، 3/ 126، 190.

3 - صده الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الدعوة إلى الله تعالى:

تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبّهم (¬1). فلم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الجرم العظيم، وتخذيل المسلمين. 3 - صدّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الدعوة إلى الله تعالى: ركب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن عبادة، فمرّ بعدوّ الله عبد الله بن أٌبيّ وحوله رجال من قومه، فنزل - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم جلس قليلاً، فتلا القرآن، ودعا إلى الله - عز وجل -، وذكَّر بالله، وحذّر وبشّر وأنذر، وعندما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من مقالته، قال له عبد الله بن أٌبيّ: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدِّثه إيَّاه، ومن لم يأتك فلا تغته (¬2)، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه (¬3)، فلم يؤاخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعفا عنه وصفح. 4 - تثبيته بني النضير: عندما نقض يهود بني النضير العهد بِهَمِّهِم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعث إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق - وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيّ - أن اثبتوا وتمنّعوا فإنا لن نُسلمكم، إن قُوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فقويت ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، 3/ 194، وسيرة ابن هشام، 3/ 8، 3/ 57، والبداية والنهاية، 4/ 51. (¬2) أي: لا تكثر عليه به وتتردد به عليه، أو لا تعذبه به. انظر: القاموس المحيط، باب التاء، فصل الغين، ص200، والمعجم الوسيط، مادة ((غتَّ))، 2/ 644. (¬3) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 218، 219.

5 - كيده وغدره للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع:

عزيمة اليهود، ونابذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنقض العهد، فخرج إليهم حتى نزل بهم وحاصرهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام (¬1). وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أُبيّ فلم يُعاقبه على ذلك. 5 - كيده وغدره للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع: في هذه الغزوة قام عبد الله بن أُبيّ بعدة مواقف مخزية توجب قتله وعقابه، ومنها: الموقف المخزي الأول: دبّر المنافقون في هذه الغزوة قصة الإفك، وتولّى كِبْرَه عبد الله بن أُبيّ بن سلول (¬2). الموقف المخزي الثاني: وفي هذه الغزوة قال عبد الله بن أُبيّ: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ} (¬3). الموقف المخزي الثالث: وفي هذه الغزوة قال عدو الله: {لا تُنفِقُوا ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام، 3/ 192، والبداية والنهاية، 4/ 75، وزاد المعاد، 3/ 127. (¬2) انظر قصة الإفك في البخاري، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، قبل الرقم 4142، وكتاب التفسير، سورة النور، باب {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}، 8/ 452، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث الإفك، برقم 2770، وزاد المعاد، 3/ 256 - 268. (¬3) سورة المنافقون، الآية: 8. وانظر: البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، برقم 4905، وفي كتاب المناقب، باب ما ينهى عنه من دعوى الجاهلية، برقم 3518، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، برقم 2584، وانظر: سيرة ابن هشام، 3/ 334.

عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنفَضُّوا} (¬1). وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد النبي - صلى الله عليه وسلم - نار الفتنة، وقطع دابر الشرّ - بفضل الله ثم بصبره - على عبد الله بن أُبيّ، وتحمّله له، والإحسان إليه، ومقابلة هذه المواقف المخزية من هذا الزعيم المنافق بالعفو؛ لأن هذا الرجل له أعوان، ويخشى من شرهم على الدعوة الإسلامية؛ ولأنه يُظهر إسلامه؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب - حينما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق -: ((دعه حتى لا يتحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)) (¬2). فلو قتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان ذلك منفِّراً للناس عن الدخول في الإسلام؛ لأنهم يرون أن عبد الله بن أُبيّ مسلم، ومن ثم سيقول الناس: إن محمداً يقتل المسلمين، فعند ذلك تظهر المفاسد، وتتعطَّل المصالح. فظهرت حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصبره على بعض المفاسد خوفاً من أن تترتّب على ذلك مفسدة أعظم؛ ولتقوى شوكة الإسلام، وقد أُمر بالحكم الظاهر، والله يتولّى السرائر. وقد ظهرت الحكمة لعمر بعد ذلك في عدم قتل عبد الله بن أُبيّ فقال: ¬

(¬1) سورة المنافقون، الآية: 7. والحديث في البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله}، برقم 4904، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم 2772. (¬2) البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، برقم 4905، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، برقم 2584.

الصورة السابعة: مع ثمامة

((قد والله علمت، لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري)) (¬1). وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله أن يسلكوا طريق الحكمة في دعوتهم اقتداء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم -. الصورة السابعة: مع ثمامة روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم (¬2)، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؛ فتركه رسول الله حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعطَ منه ما شئت؟ فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان من الغد، فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟))، فقال: عندي ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أطلقوا ثمامة)) , فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 4/ 185، وانظر: شرح النووي على مسلم، 16/ 139، وهذا الحبيب يا محبّ، ص336. (¬2) معناه: أن تقتل تقتل صاحب دم يدرك قاتله به ثأره لرئاسته وفضيلته، وقيل: معناه تقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله. انظر: فتح الباري، 8/ 88.

الأرض وجه أبغضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: [لا والله]، ولكني أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). ((ثم خرج - رضي الله عنه - إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل)) (¬2). وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه قريش عن الميرة، ونزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (¬3). وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتدّ أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، برقم 4372، ومسلم - واللفظ له إلا ما بين المعقوفين فمن البخاري - في كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه، برقم 1764. (¬2) سيرة ابن هشام، 4/ 317 بتصرف يسير، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 88. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 76. وقال ابن حجر عن هذا الأثر: ((إسناده حسن)). انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 203.

الصورة الثامنة: مع من جبذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه

قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين (¬1). الله أكبر، ما أحلم النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وما أعظمه من موقف، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتألف القلوب، ويلاطف من يُرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير. وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله - عز وجل - أن يعظّموا أمر الحلم والعفو عن المسيء، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه من الحلم والعفو والمنّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه (¬2)؛ ولهذا قال: أهمّ بترك القول ثم يردّني ... إلى القول إنعامُ النّبيّ محمّدِ شكرتُ له فكّي من الغلِّ بعدما ... رأيت خيالاً من حسامٍ مهنّدِ (¬3) الصورة الثامنة: مع من جبذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك، ثم أمر له بعطاء (¬4). ¬

(¬1) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 203. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم، 12/ 89، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 88. (¬3) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 203. (¬4) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، برقم 3149، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة، برقم 1057.

الصورة التاسعة: اللهم اغفر لقومي

وهذا من روائع حلمه - صلى الله عليه وسلم - وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسّى به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه، وخُلُقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن (¬1). الصورة التاسعة: اللهم اغفر لقومي ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ويدمرهم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيّاً من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬2). الصورة العاشرة: مع أبي إبراهيم ومما يدلّ على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوتهم إلى الله تعالى. فهذا إبراهيم أبو الأنبياء، عليه وعليهم الصلاة والسلام، قد بلغ من الحلم مبلغاً عظيماً حتى وصفه الله بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 10/ 506، وشرح النووي على مسلم، 7/ 146، 147. (¬2) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، برقم 3477، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، برقم 1792.

الصورة الحادية عشر: مع من سب

لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬1). فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليماً عمّن ظلمه، وأناله مكروهاً، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} (¬2). فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له، واستغفر (¬3)، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬4). وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلماً مع أقوامهم في دعوتهم إلى الله تعالى (¬5). الصورة الحادية عشر: مع من سبّ ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى الله والصالحون من أتباعهم، وإذا كان الله - عز وجل - قد جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - مثلاً عالياً في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول الله ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 114. (¬2) سورة مريم، الآيات: 46 - 48. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 396، والبغوي، 2/ 332، والأخلاق الإسلامية للميداني، 2/ 332. (¬4) سورة التوبة: الآية: 114. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 114، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185.

- تعالى - عن الأخيار من هؤلاء: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (¬1). فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً (¬2). فعن النعمان بن مقرن المزني - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسبّ رجل رجلاً عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنَّ ملكاً بينكما يذبّ عنك كلما يشتمك هذا، قال له: بل أنت وأنت أحقّ به، وإذا قال له: عليك السلام، قال: بل لك، أنت أحق به)) (¬3). فهؤلاء الدعاة إلى الله والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صواباً وسداداً، ويردّون المعروف من القول على من جهل عليهم (¬4)؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلّقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم يُنفِّذُوه، {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 2/ 310، والإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 556، ومجمع الزوائد، 8/ 240. (¬3) رواه الإمام أحمد في المسند، 5/ 445، وقال ابن كثير في تفسيره، 3/ 326: ((إسناده حسن)). (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 326.

الصورة الثانية عشرة: مع عيينة

يَغْفِرُونَ} (¬1)، فترتّب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (¬2)، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬3). الصورة الثانية عشرة: مع عيينة ومما يُبيّن حلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬4)، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله (¬5). ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 37. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 621. (¬3) سورة فصلت، الآية: 34. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 199. (¬5) البخاري، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، برقم 4642.

وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب. أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين. والثاني: قوله: والله ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير. والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل. ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح بعدما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية: ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، - رضي الله عنه - وأرضاه (¬1)، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخُلُقه. وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬2). ولاشك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليماً، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال أوصني: ((لا تغضب)) (¬3). والداعية إلى الله يستطيع أن يتّصف بالحلم؛ ليكون حكيماً، وذلك ¬

(¬1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13/ 259، 8/ 305، 13/ 250. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم 6141، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، برقم 2609. (¬3) البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم 6116، والحديث فيه: فردد مراراً، قال: ((لا تغضب)).

الصورة الثالثة عشرة: حلم زين العابدين

بعلاج الغضب (¬1)، إذا حلّ به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه الله، وبينه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية وفعلية وعملية حتى يكونوا حلماء، حكماء. الصورة الثالثة عشرة: حلم زين العابدين ولم يقتصر الحلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، بل حلم أتباعه أهل العلم والإيمان ومن ذلك: سبَّ رجلٌ عليَّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب المشهور بزين العابدين يوماً فجل يتغافل عنه - يريه أنه لم يسمعه - فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له علي: وعنك أغضي (¬2). وخرج يوماً من المسجد فسبه رجل فانتدب الناس إليه فقال: دعوه. ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذ رآه يقول: إنك من أولاد الأنبياء (¬3). ¬

(¬1) انظر: المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم، المطلب الأول: علاج الغضب من هذا الكتاب. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير، 9/ 105. (¬3) المرجع السابق، 9/ 105.

المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم

المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم هناك أسباب تجلب الحلم وتدعو إليه، من حافظ عليها واجتهد في تحصيلها كان حليماً بإذن الله تعالى، ومنها على سبيل المثال ما يأتي في المطالب الآتية: المطلب الأول: علاج الغضب علاج الغضب بالأدوية المشروعة يكون بطريقين: الطريق الأول: الوقاية: ومعلوم أن الوقاية خير من العلاج، وتحصل الوقاية من الغضب قبل وقوعه باجتناب أسبابه، واستئصالها قبل وقوعها، ومن هذا الأسباب التي ينبغي لكل مسلم أن يُطهِّر نفسه منها: الكبر، والإعجاب بالنفس، والافتخار، والتِّيه، والحرص المذموم، والمزاح في غير مناسبة، أو الهزل وما شابه ذلك (¬1). الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب: وينحصر في أربعة أنواع على النحو الآتي: النوع الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2)،وعن سليمان بن صُردٍ - رضي الله عنه - قال: استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس وأحدهما ¬

(¬1) انظر: الدعائم الخلقية والقوانين الشرعية، للدكتور صبحي محمصاني، ص227. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 200، وانظر: سورة المؤمنون، الآية: 97، وسورة فصلت، الآية: 36.

النوع الثاني: الوضوء

يسبّ صاحبه مغضباً قد احمرّ وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) (¬1). ولما كان الشيطان على نوعين: نوع يُرى عياناً، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يُرى، وهو شيطان الجن. جعل الله سبحانه المخرج من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، ومن شر شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه (¬2)، وما أحسن ما قاله القائل: فما هو إلا الاستعاذة ضارعاً ... أو الدفع بالحُسْنَى هما خيرُ مطلوب فهذا دواء الداء من شر ما يُرى ... وذاك دواء الداء من شر محجوب (¬3) النوع الثاني: الوضوء؛ لحديث عطية السعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) (¬4). النوع الثالث: تغيير الحالة التي عليها الغضبان، بالجلوس، أو ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم 6115، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، برقم 2610. (¬2) انظر: سورة الأعراف، الآية: 200، وسورة المؤمنون الآية: 97، وسورة فصلت، الآية: 36. (¬3) انظر: زاد المعاد، 2/ 462 - 463 بتصرف يسير، وأضواء البيان، 2/ 341 - 342. (¬4) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقال عند الغضب، برقم 4784، قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: ((وإسناده جيد))، وانظر: تهذيب السنن، 7/ 165 - 168، وعون المعبود، 13/ 141.

النوع الرابع: استحضار ما ورد في فضل كظم الغيظ

الخروج، أو غير ذلك، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلاّ فليضطجع)) (¬1). النوع الرابع: استحضار ما ورد في فضل كظم الغيظ من الثواب، وما ورد في عاقبة الغضب من الخذلان العاجل والآجل، عن معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله - عز وجل - على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيّره من الحور ما شاء)) (¬2). المطلب الثاني: أسباب تحصيل الحلم وإذا أراد الداعية أن يزداد حلمه، وتعظم حكمته، فليحرص على الأسباب التي تدعو إلى الحلم، فليعمل بها، وهي عشرة: 1 - الرحمة بالجهال؛ فإنها من أوكد أسباب الحلم. 2 - القدرة على الانتصار؛ وذلك من سعة الصدر، وحسن الثقة. 3 - الترفع عن السباب، وذلك من شرف النفس وعلو الهمة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده، 5/ 152، وأبو داود في الأدب، باب ما يقال عند الغضب، برقم 4782، وابن حبان، ص 484 (موارد)، وشرح السنة للبغوي، 13/ 162، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 70، وقال: ((رجال أحمد رجال الصحيح))، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 908. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب من كتم غيظاً، برقم 4777، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا عبد بن حميد، برقم 4777، وابن ماجه، في كتاب الزهد، باب الحلم، برقم 4186، وحسنه الألباني صحيح الترمذي، 2/ 305، وصحيح ابن ماجه، 2/ 407، وصحيح الجامع، 5/ 353، وصحيح أبي داود، 3/ 907.

4 - الاستهانة بالمسيء

4 - الاستهانة بالمسيء: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوتُ 5 - الاستحياء من جزاء الجواب، وهذا من صيانة النفس وكمال المروءة. 6 - التفضّل على السّابّ، وهذا من الكرم وحبّ التألّف. 7 - قطع السّباب، وهذا من الحزم كما قال الشاعر: وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى ... وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا 8 - الخوف من العقوبة على الجواب، وهذا مما يقتضيه الحزم، فقد قيل: الحلم حجاب الآفات. 9 - الرعاية ليد سالفة، وحرمة لازمة، وهذا من الوفاء وحسن العهد، قال الشاعر: إن الوفاء على الكريم فريضة ... واللؤم مقرون بذي الإخلاف 10 - المكر وتوقع الفرص الخفية، وهذا من الدهاء، وقد قيل: من ظهر غضبه قلّ كيده. وقال بعض الشعراء: ولَلْكفُّ عن شتم اللئيم تكرّماً ... أضرّ له من شتمه حين يشتم (¬1) فإذا راعى الداعية الوقاية من الغضب، والعلاج، وهذه الأسباب العشرة كان حليماً بإذن الله - تعالى - وبهذا يحقّق ركناً من أركان الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً. ¬

(¬1) انظر: أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي، المتوفى سنة 450هـ، ص214.

وينبغي أن يعلم أن الغضب لله يكون محموداً، ولا يدخل في الغضب المذموم، فالغضب المحمود يكون من أجل الله عندما ترتكب حرمات الله، أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات قوة الإيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحلم والحكمة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغضب لله إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتُهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادماً، ولا امرأة، إلاّ أن يجاهد في سبيل الله، وقد خدمه أنس بن مالك - رضي الله عنه - عشر سنوات، فما قال له: أُفٍّ قطّ، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله: ألا فعلت كذا؟ (¬1). وهذا لا ينافي الحلم والحكمة، بل الغضب لله في حدود الحكمة من صميم الحلم والحكمة. ¬

(¬1) انظر: عدة حالات غضب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - لله تعالى، في البخاري مع الفتح، في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله - تعالى - 10/ 517، بأرقام الحديث: 6114، ورقم 6115، ورقم 6116 وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص127، وفتح الباري، 10/ 518، الطبعة السلفية.

الفصل الرابع: الأناة والتثبت

الفصل الرابع: الأناة والتثبُّت المبحث الأول: مفهوم الأناة. المبحث الثاني: أهمية الأناة. المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الأناة في الدعوة. المبحث الرابع: العجلة والاستعجال.

المبحث الأول: مفهوم الأناة والتثبت

المبحث الأول: مفهوم الأناة والتثبت الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنَّى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة (¬1). ويقال: تأنَّى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتَمهّلَ، واستأنى به: انتظر به وأمهله (¬2). وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبّت في الأمور، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: تثبّت، وتأنّى فيه ولم يعجل (¬3). ويأتي التبين بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصّر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ (¬4). وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ (¬5). والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة ¬

(¬1) المصباح المنير، مادة: أنى، 28. (¬2) انظر: مختار الصحاح، مادة: أنى، ص13، والمعجم الوسيط، 1/ 31. (¬3) انظر: المعجم الوسيط، مادة: أبان، 1/ 80، ومادة: ثبت، 1/ 93. (¬4) انظر: القاموس المحيط، باب الراء، فصل الباء، ص448، ومختار الصحاح، مادة: بصر، ص22، والمعجم الوسيط، 1/ 59. (¬5) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 352.

على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلاّن على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همّته للقيام بالأعمال التي تحقّق له ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثاراً للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب.

المبحث الثاني: أهمية الأناة والتثبت

المبحث الثاني: أهمية الأناة والتثبت والأناة عند الداعية إلى الله - تعالى - تسمح له بأن يُحكِّم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة فإنها تعرّضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها (¬1). والداعية مطلوب منه أن يتخلّق بخُلُق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خُلُقٌ مذموم يدل على ضعف الهمة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن الله تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة. ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 353، وأخلاق القرآن الكريم للشرباصي، 3/ 15.

وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم بالأعمال وتصريف الأمور (¬1). قال الله - تعالى - للنبي - صلى الله عليه وسلم - تربية له وتعليماً: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬2). فأمر الله سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبيِّنه له ويفسِّره (¬3). وقال تعالى: {فَتَعَالَى الله المَلِكُ الحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬4). وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬5)، قرأ الجمهور (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي: (فتَثبَّتوا)، ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 2/ 353 - 354، بتصرف. (¬2) سورة القيامة، الآيات: 16 - 19. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 450. (¬4) سورة طه، الآية: 114. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 6.

والمراد من التبيّن التعرّف والتفحّص، ومن التثبّت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر (¬1). والدعاة إلى الله أولى بامتثال أمر الله - تعالى - وبالتأنِّي والتثبُّت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس (¬2). والداعية إلى الله - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبّر الأمور التي تعرض له، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح له الحق. والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤدِّيان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو مُحرّفاً، أو مزوَّراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته. وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف ¬

(¬1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني، 4/ 60. (¬2) انظر: في ظلال القرآن، 6/ 3334، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 3/ 15.

مصدره، فيستعجل ويسارع فيتّهم هذا، أو يسبّ ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنَّى، وتبيَّن، وتثبَّت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء له، ولا يضيف إلى أعداءه عدواً جديداً منهم. ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف (¬1)، {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (¬2). ولعظم أمر الأناة والتبين التي أمر الله بها حتى في جهاد الكفار في سبيل الله الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬3). ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة. فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبيت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين ¬

(¬1) انظر: موسوعة أخلاق القرآن الكريم، 3/ 26، وفي ظلال القرآن، 6/ 3342. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 11. (¬3) سورة النساء، الآية: 94.

عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين؛ فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكفّ عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعرفُ دين العبد وعقله ورزانته (¬1). ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قال: كان رجل في غُنَيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله: {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام (¬2). ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 2/ 132. (¬2) البخاري، كتاب التفسير، سورة النساء، باب: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، برقم4591.

المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الأ ناة في الدعوة

المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الأ ناة في الدعوة لا يكون الداعية ناجحاً في دعوته إلا إذا التزم الأناة في جميع أموره وتصرفاته، ومما يوضح ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: الصورة الأولى: مع أسامة: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذاً، قال: فقال: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟))، قال، فمازال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (¬1). وفي رواية: قال: قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ (¬2). وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟))، قال: يا رسول الله: استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟)). قال فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة إلى الحرقات، برقم 4269، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم 96. (¬2) مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم 96.

الصورة الثانية: قبل القتال:

إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) (¬1). ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس أناةً وتثبُّتاً، فكان لا يُقاتل أحداً من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم ... )) (¬2). الصورة الثانية: قبل القتال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّم ويربِّي أصحابه على الأناة والتثبُّت في دعوتهم إلى الله - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعوَ عدوَّه قبل القتال إلى ثلاث خصال: الخصلة الأولى: الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. الخصلة الثانية: فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. الخصلة الثالثة: فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم (¬3). الصورة الثالثة: في الصلاة: ومن تربيته لأصحابه - صلى الله عليه وسلم - على الأناة وعدم العجلة قوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركْتُمْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم 96. (¬2) البخاري بلفظه مطولاً، في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، برقم 610، ومسلم، في الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سُمِعَ فيهم الأذان، برقم 1365. (¬3) أخرج الحديث مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، برقم 1731، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/ 100.

الصورة الرابعة: من تثبت سليمان - صلى الله عليه وسلم -:

فصلّوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت)) (¬2). ولِسُمُوِّ الأناة أحبها الله - عز وجل -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة)) (¬3). والرسل عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناة وحلماً، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظاً محمد - صلى الله عليه وسلم -. الصورة الرابعة: من تثبت سليمان - صلى الله عليه وسلم -: ومن أمثلة ذلك قصة سليمان مع الهدهد وتثبّته وعدم عجلته، قال سبحانه عن ذلك: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} (¬4). فهذا الهدهد من جنود سليمان - صلى الله عليه وسلم - كان غائباً بغير إذن سليمان، وحينئذ يتعيّن أن يُؤخذ الأمر بالحزم والجدّ في تنظيم الجنود حتى لا تكون فوضى؛ فإن سليمان إذا لم يأخذ بذلك في تنظيم الجنود ومراقبتهم كان المتأخر منهم قدوة سيئة لبقية الجنود؛ ولهذا نجد سليمان النبي الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف، ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً في الأرض، ولا متسرّعاً عجولاً، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، وقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله}، برقم 908، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعيا، برقم 602. (¬2) مسلم، في كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، برقم 604. (¬3) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه، برقم 17. (¬4) سورة النمل، الآيتان: 20 - 21.

يترك الأناة والتثبت ويقضي في شأنه قضاءً نهائياً قبل أن يسمع منه ويتبين عذره، ومن ثم تبرز سمة النبي العادل المتثبت {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: حجة قوية واضحة توضح عذره وتنفي المؤاخذة عنه (¬1). فالأناة صفة جميلة، وتكون أجمل إذا جاءت من القادر على العقاب، ولهذا قال الشاعر ابن هانئ المغربي: وكل أناة في المواطن سؤدد ... ولا كأناة من قديرٍ محكم ومن يتبين أن للصفح موضعاً ... من السيف يصفح عن كثير ويحلم وما الرأي إلا بعد طول تَثَبُّتٍ ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوم وقال الشاعر يمدح عاقلاً حكيماً: بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه في كل أمر عواقبه (¬2) والداعية إلى الله - عز وجل - إذا تثبت، وتأمل في جميع أموره اكتسب ركناً من أركان الحكمة، وينبغي ألا يقتصر في منهجه المتكامل على التأني والتثبت في الأفعال والأقوال فحسب، بل عليه أن يجري ذلك على القلب في خواطره، وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬3). فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الداعية أمراً إلا وقد تثبّت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ¬

(¬1) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب، 5/ 2638، وفقه الدعوة في إنكار المنكر، لعبد الحميد البلالي، ص17. (¬2) انظر: موسوعة أخلاق القرآن، للدكتور الشرباصي، 3/ 27. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 36.

الصورة الخامسة: في الغزو:

ومن كل نتيجة، حتى لا يبقى هنالك شك ولا شبهة في صحتها، وحينئذ يصل الداعية المسلم المتمسك بهذه الضوابط إلى أعلى درجات الأناة والحكمة والسداد - بإذن الله تعالى - (¬1). الصورة الخامسة: في الغزو: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر، الله أكبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((على الفطرة))، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خرجت من النار)) (¬2). وعنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قوماً لم يغزُ بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم ... (¬3). وهذا يدل على تثبته - صلى الله عليه وسلم - وعدم عجلته، وهو أسوة الدعاة إلى الله تعالى وقدوتهم. وعن عبد الله بن سرجس المزني - رضي الله عنه -،أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السَّمْتُ الحسن (¬4)، والتُّؤَدَةُ، والاقتصاد (¬5)، جزء من أربعةٍ وعشرين جزءاً من ¬

(¬1) انظر: في ظلال القرآن، 4/ 2227. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، برقم 382. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، برقم 2943. (¬4) السمت الحسن: هو حسن الهيئة والمنظر. انظر: فيض القدير للمناوي، 3/ 277. (¬5) الاقتصاد: هو التوسط في الأمور والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط. انظر: المرجع السابق 3/ 277.

النبوة)) (¬1). وبهذا يُعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخيرٌ إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها الله حتى تكون المسارعة مما يحبه الله تعالى (¬2). ¬

(¬1) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، برقم 2010، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 195. (¬2) انظر: شرح السنة للبغوي، 13/ 177، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 153.

المبحث الرابع: العجلة والاستعجال

المبحث الرابع: العجلة والاستعجال المطلب الأول: مفهوم العجلة وصورها الاستعجال: هو طلب وقوع الأمر قبل وقته، وهو صفة مذمومة. والذي يحرك هذه الصفة: هو أن طبيعة الإنسان العجلة {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (¬1)، ولكن المؤمن يعمل بالأسباب، ويبتعد عن أسباب العجلة. وللعجلة صور في حياة الناس، منها: 1 - استعجال نزول العذاب بالمخالفين، وهذا أمارة وعلامة اليأس الذي لا يليق بالدعاة إلى الله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (¬2). 2 - استعجال البروز قبل النضوج والرسوخ في العلم، فلا يجوز الاستعجال في ذلك بدون بصيرة؛ ولهذا قال بعضهم: من تَحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان (¬3) وقد قيل: العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبّر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ما يعلم (¬4)، {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 37. (¬2) سورة مريم، الآية: 84. (¬3) انظر: الدعوة والدعاة بين تحقيق التوكل واستعجال النتائج لسليم الهلالي، ص74. (¬4) انظر: المرجع السابق، ص75. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 188.

3 - ترك الدعاء

3 - ترك الدعاء، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل)) قيل: يا رسول الله، فما الاستعجال؟ قال: ((يقول قد دعوت فلم أر يُستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)) (¬1). 4 - استعجال النصر دون التمكن من أسبابه. وهناك صور كثيرة لا يمكن حصرها فعلى الدعاة أن يبتعدوا عن العجلة وأسبابها. المطلب الثاني: ذمّ العجلة العجلة مذمومة، قال سبحانه عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (¬2)، استخفهم وحملهم على الضلالة والجهل، واستخف عقولهم، يقال: استخف عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب (¬3). وقال سبحانه: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (¬4). ولاشك أن الإنسان قد خلق من عجل {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (¬5)؛ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، والتوبة والاستغفار، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، برقم 2735. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 54. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 130، وشرح السنة للبغوي، 13/ 175. (¬4) سورة الروم، الآية: 60. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 37.

ولكنه - بحمد الله - إذا امتثل أمر الله وترك نهيه حسنت أخلاقه وطبائعه. والعجلة لها أسباب ينبغي اجتنابها، منها: عدم النظر في العواقب، وسنن الله في الكون، ومنها الشيطان عدو الإنسان؛ فإن أساس العجلة من الشيطان؛ لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - يرفعه: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) (¬2)؛ ولذلك قيل: يا صاحبيّ تلوّما لا تعجلا ... إن النجاح رهين أن لا تعجلا وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: ((لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة)) (¬3). وينبغي أن يُعْلَم أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة، ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت، ولهذا قيل لبعض السلف: لا تعجل، فإن العجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (¬4). وقد قال بعض السلف: لا تعجل عجلة الأخرق وتحجم إحجام الواني. والخلاصة: أنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، قال تعالى: ¬

(¬1) انظر: شرح السنة للبغوي، 13/ 176، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، 3/ 184. (¬2) أخرجه أبو يعلى في مسنده، 3/ 1054، والبيهقي في السنن الكبرى، 10/ 1040، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 404: ((هذا إسناد حسن ورجاله ثقات)). (¬3) انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 153. (¬4) سورة طه، الآية: 84.

المطلب الثالث: علاج الاستعجال

{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (¬1). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال الأعمش: ولا أعلمه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((التُّؤَدَة (¬2) في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) (¬3). المطلب الثالث: علاج الاستعجال يمكن التخلّص من الاستعجال بأمور، منها: 1 - العلم بأن وعد الله آتٍ لا ريب فيه، فإن كان الاستعجال بنزول العذاب على المخالفين، فليعلم المستعجل أنما هي آجال محدودة، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (¬4)، وإن كان استعجال النصر قبل التمكن من أسبابه فليعلم المستعجل أن الله مُتمُّ نوره ولو كره الكافرون. 2 - النظر إلى سنن الله في الغابرين الذين استعجلوا العذاب، فأصبح لا يُرى إلا مساكنهم عبرة لكل معتبر؛ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ ... } (¬5). 3 - عدم وقوع الأمر على وفق استعجال المستعجل قد يكون رحمة من ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬2) التُّؤَدَة: التأني. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي،3/ 277،وعون المعبود، 3/ 165. (¬3) أبو داود، كتاب الأدب، باب الرفق، برقم 4810، والحاكم بلفظه وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 1/ 64، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 3/ 913. وذلك لأن الحزم بذل الجهد في عمل الآخرة؛ لتكثير القربات ورفع الدرجات لأن في تأخير الخيرات آفات. انظر: فيض القدير، 3/ 277، وعون المعبود، 3/ 165. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 42. (¬5) سورة الرعد، الآية: 6.

4 - يتخلص من العجلة بالتدرب

الله تعالى كقوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (¬1). 4 - يتخلص من العجلة بالتدرب، والتصبّر، والمجاهدة على عدم العجلة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). 5 - تقوى الله تعالى ودعاؤه، قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (¬3). وقال - عز وجل -: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (¬4). وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬5). ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 11. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 69. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 2. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬5) سورة غافر، الآية: 60.

الفصل الخامس: الرفق واللين

الفصل الخامس: الرفق واللين المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين. المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين. المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الرفق في الدعوة.

المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين

المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين الرفق لغة: اللطف ولين الجانب (¬1)، وهو ضد العنف (¬2)، واللين: ضد الخشونة (¬3)، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (¬4). ومعنى {لِنتَ لَهُمْ}: سهَّلت لهم أخلاقك، وكثرة احتمالك، ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم (¬5). فظهر من هذه التعريفات اللغوية أن الرفق واللين يتضمن: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف (¬6). ويُطلق الرفق واللين على المداراة إذا كان في ذلك دفع برفق، يُقال: ((دَارَأهُ)) أي لاينه واتقاه (¬7)، ودفعه (¬8)، ولاطفه ولاينه اتقاءً لشرِّه (¬9)، وفي الحديث: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فجاءت بهمة تمرّ بين يديه فمازال ¬

(¬1) القاموس المحيط، ص145، والمعجم الوسيط، 1/ 362، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 2/ 246. (¬2) مختار الصحاح، ص105. (¬3) المرجع السابق، ص255. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬5) انظر: تفسير البغوي، 1/ 449. (¬6) انظر: فتح الباري، 10/ 449. (¬7) مختار الصحاح، ص85، مادة ((دَرَأَ)). (¬8) القاموس المحيط، ص50. (¬9) المعجم الوسيط، 1/ 276.

المداراة

يُدارئُها)) أي يدافعها (¬1)، وقد بوّب البخاري - رحمه الله - باباً في صحيحه فقال: (باب المداراة مع الناس) ثم أورد حديث عائشة أنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: ((ائذنوا له فبئس ابن العشيرة)) - أو بئس أخو العشيرة))، فلما دخل ((ألان له الكلام)). قالت عائشة: فقلت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول. فقال: ((أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه - أو ودعه - الناس اتِّقاء فُحشه)) (¬2)، ويذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: ((إنا لنكشِرُ (¬3) في وجوه أقوام وإن قلوبنا تلعنهم)) (¬4). فظهر أن المداراة هي: الدفع برفق ولين. والمداراة ليست من المداهنة: قال ابن بطال - رحمه الله -: المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه. ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث، 2/ 110. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب، برقم 6054. (¬3) هو في الغالب الضحك مع ظهور الأسنان، الفتح، 10/ 528. (¬4) البخاري، بصيغة التمريض، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس، قبل الحديث رقم 6131، وقال ابن حجر10/ 528: ((منقطع)).

ظهر مما تقدم

والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل لاسيما إذا احتيج إلى تألفّه ونحو ذلك (¬1). وقد قال الله تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬2)، ومعنى: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا}: يقول: دارياه وارفقا به (¬3)، وقد استدل بهذه الآية المأمون عندما عنّفه واعظ وشدّد عليه القول، فقال: يا رجل ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬4)، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (¬5). ولهذا قال القائل: وإذا عجزت عن العدوِّ فداره ... وامزح له إن المزاحَ وفاقُ فالنارُ بالماء الذي هو ضدُّها ... تُعطي النِّضاح وطبعُها الإحراقُ فظهر مما تقدم: 1 - أن الرفق واللين: لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل ¬

(¬1) فتح الباري، 10/ 528. (¬2) سورة طه، الآيتان: 43 - 44. (¬3) تفسير البغوي، 3/ 219. (¬4) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي، 2/ 334. وانظر: الرفق واللين للدكتور فضل إلهي، ص12. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 159.

2 - أن المداراة تطلق على الرفق واللين

والأيسر، وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف والشدة والخشونة. 2 - أن المداراة تطلق على الرفق واللين إذا كان فيها مدافعة، كتعليم الجاهل، ونهي الفاسق عن فسقه. والمداراة من أخلاق المؤمنين. 3 - أن المداهنة مذمومة محرمة، وهي: معاشرة الفاسق ومخاللته مع الرضى بما هو عليه من المعاصي وعدم الإنكار عليه، والله الموفق.

المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين

المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((إنه من أُعطي حظّه من الرفق فقد أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخُلُق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)) (¬1). فقد عظّم النبي - صلى الله عليه وسلم - شأن الرفق في الأمور كلها، وبين ذلك بفعله وقوله بياناً شافياً كافياً؛ لكي تعمل أمّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل -؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرّفاتهم، وأحوالهم. وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي تُبيّن فضل الرفق، والحث على التخلّق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذمّ العنف وذمّ من تخلَّق به. فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده (¬2). وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من العنف، وعن التشديد على أمته - صلى الله عليه وسلم -، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) (¬3)، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسل أحداً من أصحابه ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 6/ 159، وإسناده صحيح كما في الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 519. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم، 16/ 145، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 449، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 6/ 154. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم 1828.

في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير. فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أموره قال: ((بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله - عز وجل - بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرفق)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما حينما بعثهما إلى اليمن: ((يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا)) (¬3). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا)) (¬4). في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقتٍ والتعسير في وقت، ويبشر في وقت وينفر في وقت آخر، فلو اقتصر على يسّروا لصدق ذلك على من يسِّر مرّة أو مرّات، وعسّر في معظم الحالات، فإذا قال: ولا تعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في يسّرا ولا تعسرا، وبشرا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1732. (¬2) أخرجه أحمد في المسند، 6/ 71، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 219، برقم 1219: ((حديث صحيح من رواية عائشة رضي الله عنها)). (¬3) البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم 4341، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1733، واللفظ له. (¬4) البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم 69، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1734.

ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد حثّ في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قرب إسلامه وترك التشديد عليه، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها (¬1)، وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم (¬2). فصلوات الله وسلامه عليه فقد دلّ أمته على كل خير، وحذّرهم من كل شرّ، ودعا على من شقّ على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة، وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم (¬3). ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 12/ 41، وفتح الباري، 1/ 163. (¬2) انظر: فتح الباري، 1/ 162، 163. (¬3) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 213.

المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الرفق في الدعوة

المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الرفق في الدعوة الصورة الأولى: مع شاب استأذن في الزنا عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: إن فتىً شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا له: مه مه! فقال له: ((ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: ((أتحبّه لأمك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبّونه لأمهاتهم)). قال: ((أفتحبّه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)). قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)). قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)). قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصّن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (¬1). وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى الله - عز وجل - أن يعتنوا بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم. وكما يبين لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرّفق بفعله بينه لنا بقوله وأمرنا بالرفق في الأمر كله. ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، 5/ 256، 257، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني، 1/ 129، وقال: ((رجاله رجال الصحيح))، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 370.

الصورة الثانية: مع اليهود:

الصورة الثانية: مع اليهود: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السامُ عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السامُ واللعنة. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مهلاً يا عائشة إن الله يُحبّ الرفق في الأمر كله))، فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد قلت وعليكم)) (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه)) (¬3). وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من حُرِمَ الرفق فقد حرم الخير، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) (¬4). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أٌعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير)) (¬5)، وعنه - رضي الله عنه - يبلغ به قال: ((من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، برقم 6024. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، عن عائشة رضي الله عنها، برقم 2593. (¬3) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً، برقم 2594،عن عائشة رضي الله عنها أيضاً. (¬4) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -، برقم 2592. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرفق، برقم 2013، وقال: ((حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 195.

الصورة الثالثة: مع من بال في المسجد:

من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن)) (¬1). الصورة الثالثة: مع من بال في المسجد: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ (¬2)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزرموه (¬3)، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه (¬4) عليه (¬5). وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي قال: ((اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً))، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، 6/ 451، وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 876، وذكر له شواهد كثيرة. (¬2) مه: كلمة زجر، وهو اسم مبني على السكون، معناه: اسكت. وقيل: أصلها: ما هذا؟ انظر: شرح النووي، 3/ 193. (¬3) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. والإزرام: القطع. انظر: المرجع السابق، 3/ 190. (¬4) شنه: أي صبه عليه. انظر: المرجع السابق، 3/ 193. (¬5) أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، برقم 286، والبخاري، بمعناه مختصراً في كتاب الوضوء، باب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، برقم 219، وروايات بول الأعرابي في البخاري في عدة مواضع منها: برقم 219، 220، 221، وقبل الحديث رقم 222.

ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: ((لقد حجّرت واسعاً)) يريد رحمة الله (¬1). وتُفسّر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لقد تحجّرت واسعاً))، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين، أهريقوا عليه دلواً من ماء، أو سجلاً من ماء)) (¬2). قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: ((فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - إليّ بأبي وأمي فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب)) (¬3). النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكم خلق الله، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك. وهذا الأعرابي قد عمل أعمالاً تثير الغضب، وتسبّب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطعوا عليه بوله. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 6010. (¬2) أخرجه الترمذي بنحوه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، برقم 147، وأخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر واللفظ لأحمد، 12/ 244، برقم 7254، وأخرجه أحمد أيضاً مطولاً، 20/ 134، برقم 10540، وأبو داود، برقم 380. (¬3) أخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر وهو تكملة للحديث السابق من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -، 20/ 134، برقم 10540، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الأرض يصيبها لبول كيف تغسل، برقم 529.

1 - إما أن يقطع عليه بوله فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه

وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة على هذا الأعرابي عمله، فقال له حينما قال: ((اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً)): ((لقد حجّرت واسعاً))، يريد - صلى الله عليه وسلم - رحمة الله، فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، قال - عز وجل -: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1)، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة الله على خلقه. وقد أثنى الله - عز وجل - من فعل خلاف ذلك حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (¬2). وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة (¬3). وحينما بال في المسجد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لدار بين أمرين: 1 - إما أن يقطع عليه بوله فيتضرّر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه. 2 - وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفّ عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (¬4). وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المصالح، وما ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬2) سورة الحشر، الآية: 10. (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 439. (¬4) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 1/ 325، وشرح النووي على مسلم، 3/ 191.

الصورة الرابعة: مع معاوية بن الحكم:

يقابلها من المفاسد، ورسم - صلى الله عليه وسلم - لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه - كما تقدّم - وفي رواية الإمام أحمد: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - إليّ بأبي وأمي، فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب (¬1). فقد أثّر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل (¬2). الصورة الرابعة: مع معاوية بن الحكم: عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني (¬3) ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، برقم 529، وأحمد، تقدم تخريجه. (¬2) انظر: فتح الباري، 1/ 325، وشرح النووي، 3/ 191، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 2/ 39، وتحفة الأحوذي، شرح سنن الترمذي، 1/ 457. (¬3) ما كهرني: أي ما قهرني ولا نهرني. انظر: شرح النووي، 5/ 20.

بالإسلام، وإنا منا رجالاً يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم)). قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم)) (¬1)، (قال ابن الصلاح: فلا يصدّنكم)، قال: قلت: ومنا رجال يخطّون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يخطّ، فمن وافق خطّه فذاك)) (¬2). قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أُحُد والجوَّانية (¬3)، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها، قال: ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (¬4). وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ظهر أثر ذلك في حياة ونفس معاوية - رضي الله عنه -؛ لأن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها، ولهذا قال معاوية - رضي الله عنه -: ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه. ¬

(¬1) قال العلماء: معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم. انظر: المرجع السابق، 5/ 22. (¬2) اختلف العلماء في معناه، والصحيح أن معناه: من وافق خطه فهو مباح له؛ ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يُباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يُباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وقيل: إنه نُسخ في شرعنا. فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن فهو محرم. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 23. (¬3) الجوانية: موضع في شمال المدينة بقرب جبل أحد. انظر: المرجع السابق، 5/ 23. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، برقم 537، وانظر شرحه في شرح مسلم للنووي، 5/ 20.

الصورة الخامسة: مع من كانت يده تطيش:

الصورة الخامسة: مع من كانت يده تطيش: عن عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك))، فمازالت تلك طعمتي بعد (¬1). الصورة السادسة: مع من أصاب من امرأته قبل الكفارة: عن سلمة بن صخر الأنصاري - رضي الله عنه - قال في حديثه: (( ... خرجت فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته خبري فقال لي: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: نعم ها أنذا فامضِ فيَّ حكمك فإني صابر له، قال: ((أعتق رقبة))، قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: ((فصم شهرين)) قال: قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: ((فتصدق)) قال: فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال: ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك))، قال فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة والبركة وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي، قال: فدفعوها لي)) (¬2). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام، برقم 2022، والبخاري، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، برقم 5376. (¬2) أحمد، برقم 16468، وأبو داود، كتاب الطلاق، باب في الظهار، برقم 2215، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة المجادلة، برقم وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار، برقم 2026، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 352، وإرواء الغليل، 7/ 179.

الصورة السابعة: مع من بكت عند القبر:

الصورة السابعة: مع من بكت عند القبر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقِ الله واصبري)) قالت: إليك عنّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬1)، وهذا فيه الدلالة على رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجاهل، وترك المؤاخذة. الصورة الثامنة: من رفق صلة بن أشيم: ومن المواقف التطبيقية ما فعله صلة بن أشيم - رحمه الله - حين مر رجل قد أسبل ثيابه يسحبها ويجرّها على الأرض، فأخذ الناس يسبّونه ويُغلظون له في القول، فساءه ذلك، وأراد أن يريهم درساً عملياً للرفق واللين في الإنكار فقال لهم: دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا ابن أخي إنّ لي إليك حاجة. قال: ما هي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم ونعمى عيني - أي أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك - فرفع إزاره. فقال: صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم (¬2). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري، برقم 1283. (¬2) مختصر منهاج القاصدين، ص137.

الفصل السادس: الصبر

الفصل السادس: الصبر المبحث الأول: مفهوم الصبر. المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة. المبحث الثالث: مجالات الصبر. المبحث الرابع: حكم الصبر. المبحث الخامس: أنواع الصبر. المبحث السادس: صور من مواقف تطبيق الصبر والشجاعة في الدعوة. المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر.

المبحث الأول: مفهوم الصبر

المبحث الأول: مفهوم الصبر الصبر لغة: الحبس والمنع، وهو ضدّ الجزع، ويقال: صبر صبراً: تجلَّد ولم يجزع، وصبر: انتظر، وصبّر نفسه: حبسها وضبطها، وصبر فلاناً: حبسه، وصبرت صبراً: حبست النفس عن الجزع، وسُمّي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، والشراب، والنكاح (¬1). فتبين بذلك أن الصبر هو: منع وحبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكِّي، والجوارح عن التشْويش: كلطم الخدود، وشقّ الجيوب ونحوهما (¬2). وحقيقة الصبر: هو خُلُقٌ فاضل من أخلاق النفس يمنع صاحبه من فعل ما لا يَحْسُنُ، ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها (¬3). وهذه القوة تمكِّن الإنسان من ضبط نفسه لتحمّل المتاعب، والمشاق، والآلام (¬4). ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 3/ 7،والمصباح المنير،1/ 331،والقاموس المحيط، ص540،ومختار الصحاح، ص145،والقاموس الفقهي لغة واصطلاحاً، ص206. (¬2) انظر: عدة الصابرين لابن القيم، ص27، ومدارج السالكين، 2/ 156، وطريق الهجرتين لابن القيم، ص437. (¬3) انظر: عدة الصابرين، ص29. (¬4) انظر: الأخلاق الإسلامية للميداني، 2/ 305.

المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة إلى الله تعالى

المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة إلى الله تعالى الصبر في الدعوة إلى الله تعالى من أهم المهمات، ومن أعظم الواجبات على الدعاة إلى الله - سبحانه وتعالى -، والصبر وإن كان واجباً بأنواعه على كل مسلم، فإنه على الدعاة إلى الله من باب أولى وأولى؛ ولهذا أمر الله به إمام الدعاة وقدوتهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬1)، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (¬2)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (¬3)، فهذا سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - قد أمره الله بالصبر، وأتباعه من باب أولى. والله - عز وجل - قد أوضح للناس أنه لابد من الابتلاء، والاختبار، والامتحان لعباده، وخاصة الدعاة إلى الله تعالى؛ ليظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والصابر من غيره، وهذه سنة الله في خلقه، قال سبحانه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ¬

(¬1) سورة النحل، الآيتان: 127، 128. (¬2) سورة الأحقاف، الآية: 35. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 34. (¬4) سورة العنكبوت، الآيات: 1 - 3.

أولا: إن الابتلاء للدعاة إلى الله لا بد منه

وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه ... )) (¬2). وقد ذم الله - عز وجل - من لم يصبر على الأذى من أجل الدعوة إلى الله فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله} (¬3)؛ ولهذا قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} (¬4)، وقال تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬5). وتبرز أهمية الصبر في الدعوة إلى الله - عز وجل - في عدة أمور، منها: أولاً: إن الابتلاء للدعاة إلى الله لابد منه، فلو سلم أحد من الأذى لسلم رسل الله عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم محمد بن عبد الله عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام فقد أُوذوا فصبروا، وجاهدوا حتى ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 31. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2398، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4023، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 565، وأحمد في المسند، والحاكم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بإسناد صحيح، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، 1/ 65، برقم 143. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 10. (¬4) سورة البقرة، الآية: 214. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 179.

ثانيا: الصبر يحتاجه الداعية في دعوته إلى الله في ثلاثة أحوال:

نصرهم الله على أعداء الدعوة إلى الله تعالى، ولاشك أن كل داعية مخلص يصيبه الأذى، وإن سلم أحد فذلك من أندر النوادر. ثانياً: الصبر يحتاجه الداعية في دعوته إلى الله في ثلاثة أحوال: 1 - قبل الدعوة بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على الوفاء بالواجب. 2 - أثناء الدعوة، فيلازم الصبر عن دواعي التقصير والتفريط، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية، وعلى حضور القلب بين يدي الله تعالى، ولا ينساه في أمره. 3 - بعد الدعوة، وذلك من وجوه: الوجه الأول: أن يُصبِّر نفسه عن الإتيان بما يُبطل عمله، فليس الشأن الإتيان بالطاعة، وإنما الشأن في حفظها مما يبطلها. الوجه الثاني: أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها، والتكبر، والتعظم بها. الوجه الثالث: أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سرّاً بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نُقل إلى ديوان العلانية (¬1). ثالثاً: الصبر في الدعوة إلى الله - عز وجل - بمثابة الرأس من الجسد، فلا دعوة لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا ¬

(¬1) عدة الصابرين، ص90.

رابعا: الصبر في الدعوة إلى الله تعالى من أعظم أركان السعادة الأربعة

صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له)) (¬1)، فإذا كان ذلك في الإيمان فالصبر في الدعوة إلى الله تعالى من باب أولى. رابعاً: الصبر في الدعوة إلى الله تعالى من أعظم أركان السعادة الأربعة قال - سبحانه وتعالى -: {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬2)، كما قال ذلك سماحة العلامة ابن باز رحمه الله تعالى. خامساً: الصبر من أعظم أركان الخُلق الحسن الذي يحتاجه كل مسلم عامة وكل داعية إلى الله تعالى خاصة، وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (¬3). سادساً: الصبر في الدعوة إلى الله من أهم المهمات؛ ولهذا ذكره الله - عز وجل - في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعاً كما قال الإمام أحمد (¬4). سابعاً: الصبر في الدعوة إلى الله - عز وجل - من أعظم القربات ومن أجل الهبات ولم أعلم -على قلة علمي - أن هناك شيئاً غير الصبر يُجازى ويثاب عليه العبد بغير حساب قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬5)، اللهم إلا الصيام فإن الصيام من الصبر. ¬

(¬1) هذا مقتبس من كلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -،حيث قال: ((ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)) ثم رفع صوته فقال: ((ألا لا إيمان لمن لا صبر له)) انظر فتاوى ابن تيمية،10/ 4. (¬2) سورة العصر. (¬3) انظر: مدارج السالكين، 2/ 308. (¬4) المرجع السابق، 2/ 152. (¬5) سورة الزمر، الآية: 10.

ثامنا: الدعوة إلى الله سبيلها طويل تحف به المتاعب والآلام

ثامناً: الدعوة إلى الله سبيلها طويل تحف به المتاعب والآلام؛ لأن الدعاة إلى الله يطلبون من الناس أن يتركوا أهواءهم وشهواتهم التي لا يرضاها الله - عز وجل -، وينقادوا لأوامر الله، ويقفوا عند حدوده، ويعملوا بشرائعه التي شرع، فيتخذ أعداء الدعوة من هذه الدعوة عدواً يحاربونه بكل سلاح، وأمام هذه القوة لا يجد الدعاة مفرّاً من الاعتصام باليقين والصبر؛ لأن الصبر سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، ونور لا يخبو. تاسعاً: الصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى هو وصف الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعليه مدار نجاح دعوتهم إلى الله تعالى، ولاشك أن الداعية إذا فقد الصبر كان كمن يريد السفر في بحر لُجِّي بغير مركب {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (¬1)؛ ولهذا أوصى به الحكماء من أتباع الأنبياء، فهذا لقمان الحكيم عندما أوصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرن ذلك بالصبر {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬2)، فهو عندما أمره بتكميل نفسه بطاعة الله أمره أن يكمّل غيره وأن يصبر على ما ينزل به من الشدائد والابتلاء. عاشراً: الداعية إلى الله - عز وجل - لا يكون قدوة في الخير مطلقاً إلا بالصبر والثبات عليه، كما قال سبحانه في صفات عباد الرحمن: { ... وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (¬3)، وهذه الإمامة في الدين لا تحصل قطعاً إلا بالصبر، ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 60. (¬2) سورة لقمان، الآية: 17. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 74.

الحادي عشر: الصبر ينتصر به الداعية على عدوه

فقد جعل الله الإمامة في الدين موروثة بالصبر واليقين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬1)، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لابد فيه من صبر، والداعية لابد له من أن يعلم الحق ويعمل به حتى يقوم بالدعوة، ولا يقوم بالدعوة إلا بالصبر على ما أصابه. الحادي عشر: الصبر ينتصر به الداعية على عدوه - مع الأخذ بالأسباب - من الكفار والمنافقين، والمعاندين، وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة الحميدة، قال - عز وجل -: { ... وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬2)، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬3)، وحكى الله عن يوسف عليه الصلاة والسلام قوله وبأي شيء نال النصر والتمكين، فقال لإخوته حينما سألوه: {أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬4) , ولابد بعون الله وتوفيقه من النصر للداعية المتقي الصابر العامل بما أمره ربه، ومن ذلك الأخذ بجميع الأسباب المشروعة {وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 24. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 120. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 186. (¬4) سورة يوسف، الآية: 90. (¬5) سورة هود، الآية: 115.

الثاني عشر: الصبر من أهم المهمات للداعية

الثاني عشر: الصبر من أهم المهمات للداعية؛ لأنه لا يكون داعية مُوَفَّقاً إلا إذا كان صابراً على دعوته وما يدعو إليه، صابراً على ما يعترض دعوته من معارضات، صابراً على ما يعترضه هو من أذى. الثالث عشر: الصبر يشتمل على أكثر مكارم الأخلاق، فيدخل فيه الحلم؛ فإنه صبر عن دواعي الانتقام عند الغضب، والأناة: صبر عن إجابة دواعي العجلة، والعفو والصفح صبر عن إجابة دواعي الانتقام، والجود والكرم صبر عن إجابة دواعي الإمساك، والكيس: صبر عن إجابة دواعي الكسل والخمول، والعدل صبر إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين، وسعة الصدر صبر عن الضجر، والكتمان وحفظ السر صبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره، والشجاعة صبر عن إجابة دواعي الفرار، وهذا يدل على أهمية الصبر في الدعوة إلى الله تعالى، وأن الداعية لا يسعه أن يستغني عنه في جميع أحواله. الرابع عشر: الصبر نصف الإيمان: فالإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ... )) (¬2). الخامس عشر: الصبر سبب حصول كل كمال، فأكمل الخلق أصبرهم؛ لأن كمال الصبر بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 5. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم 2999.

السادس عشر: الصبر يجعل الداعية إلى الله - عز وجل - يضبط نفسه عن أمور لابد له من الابتعاد عنها

ومن كان له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص، فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحالٍ كامل، ولهذا يُرْوَى: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)) (¬1)، وشجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر (¬2). السادس عشر: الصبر يجعل الداعية إلى الله - عز وجل - يضبط نفسه عن أمور لابد له من الابتعاد عنها، ومنها: ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الضجر، والجزع، والسأم، والملل، والعجلة، والرعونة، والغضب، والطيش، والخوف، والطمع، والأهواء، والشهوات، وبالصبر يتمكن الداعية أن يضع الأشياء مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتِّزان، وينفِّذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب بالطريقة المناسبة الحكيمة، وعلى الوجه المناسب، بخلاف عدم الصبر الذي يوقع في التسرع والعجلة، فيضع الداعية الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف فيخطئ في تحديد الزمان، ويسيء في طريقة التنفيذ، وربما يكون صاحب حق فيكون مفسداً، ولو أنه اعتصم بالصبر لسلم من ذلك كله بإذن الله تعالى (¬3)، وبهذا يتضح أن الصبر ضروري للداعية يتسلح به ويتصف به في محاور ثلاثة: المحور الأول: الصبر على طاعة الله والدعوة إليه. المحور الثاني: الصبر عن محارم الله. ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، برقم 3407، 5/ 476، والنسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء، برقم 1304، 3/ 54، وأحمد في المسند، 4/ 125. (¬2) انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، ص440. (¬3) انظر: عدة الصابرين لابن القيم، ص140، والأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 2/ 305، و329.

المحور الثالث: الصبر على اقدار الله المؤلمة

المحور الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة. وكل هذه المحاور الثلاثة لها ارتباط وثيق بوظيفة الدعوة إلى الله - عز وجل -؛ لأنها تجعل الداعية قدوة حسنة لغيره من الناس (¬1). السابع عشر: الصبر ذو مقام كريم وخلق عظيم؛ ولهذا قرنه الله بالقيم العليا في الإسلام، ومن هذه القيم التي قرنه بها ما يأتي: 1 - قرنه باليقين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬2). 2 - ربطه الله تعالى بالشكر في أربع سور {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (¬3). 3 - جمعه مع التوكل {الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬4). 4 - قرنه بالصلاة {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬5). 5 - قرنه بالتسبيح والاستغفار {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (¬6). 6 - جمعه مع الجهاد {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ ¬

(¬1) انظر: المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، للدكتور: أحمد أبا بطين، ص210. (¬2) سورة السجدة، الآية: 24. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 5، وسورة لقمان، الآية: 31، وسورة سبأ، الآية: 19، وسورة الشورى، الآية: 33. (¬4) سورة النحل، الآية: 42. (¬5) سورة، البقرة، الآية: 153. (¬6) سورة الطور، الآية: 48.

الثامن عشر: رتب الله تعالى خيرات الدنيا والآخرة على الصبر

جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). 7 - ربطه بالتقوى {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬2). 8 - ربطه بالحق {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬3). 9 - قرنه بالرحمة: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (¬4). الثامن عشر: رتَّب الله تعالى خيرات الدنيا والآخرة على الصبر ومن ذلك: 1 - معيَّة الله مع الصابرين {إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬5). 2 - محبَّة الله للصابرين {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬6). 3 - صلوات الله ورحمته على الصابرين { ... وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬7). 4 - ضمان النصر والمدد للصابرين {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬8). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 110. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 186. (¬3) سورة العصر، الآية: 3. (¬4) سورة البلد، الآية: 17. (¬5) سورة البقرة، الآية: 153. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 146. (¬7) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157. (¬8) سورة آل عمران، الآيتان: 125 - 126.

5 - الحفظ من كيد الأعداء {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (¬1). 6 - استحقاق دخول الجنة {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} (¬2). وهذه الفضائل قليل من كثير، ولله دَرُّ القائل: الصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 120. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 75.

المبحث الثالث: مجالات الصبر

المبحث الثالث: مجالات الصبر للصبر مجالات كثيرة في حياة الإنسان منها المجالات الآتية: المجال الأول: ضبط النفس عن السأم والملل عند القيام بالأعمال التي تتطلب الصبر والمثابرة خلال مدة مناسبة قد يراها المستعجل مدة طويلة. المجال الثاني: ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب والمكاره. المجال الثالث: ضبط النفس عن العجلة والرعونة عند تحقيق مطلب من المطالب المادية أو المعنوية. المجال الرابع: ضبط النفس عن الغضب، والطيش عند مثيرات عوامل الغضب في النفس، ومحرضات الإرادة للاندفاع بطيش لا حكمة فيه ولا اتّزان في القول أو في العمل. المجال الخامس: ضبط النفس عن الخوف عند مثيرات الخوف في النفس، حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة، وتكون خيراً، ويقبح فيها الجبن ويكون شراً. المجال السادس: ضبط النفس عن الطمع عند مثيرات الطمع حتى لا يندفع الإنسان وراء الطمع في أمرٍ يقبح الطمع فيه. المجال السابع: ضبط النفس عن الاندفاع وراء أهوائها، وشهواتها وغرائزها كلما كان هذا الاندفاع أمراً لا خير فيه. المجال الثامن: ضبط النفس لتحمل المتاعب، والمشاقّ، والآلام الجسدية والنفسية كلما كان في هذا التحمل خير عاجل أو آجل. وحين يتأمل المسلم في المجالات التي تحتاج إلى صبر في حياة الإنسان يتبيّن له أن الصبر ضرورة لكل عمل نافع: فكسب الرزق يحتاج إلى

صبر، ومعاملة الناس تحتاج إلى صبر، والقيام بالواجبات والمستحبات يحتاج إلى صبر، والكفّ عن المحرمات والمكروهات يحتاج إلى صبر، والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها وتحمل تكاليفها يحتاج إلى صبر، والدراسة والبحث العلمي والاجتهاد في استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية أمور تحتاج إلى صبر جميل، فلا يقوم بها إلا كل صابر، وكظم الغيظ والدفع بالتي هي أحسن أمور تحتاج إلى حظ عظيم من خلق الصبر (¬1). والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتربية الأسرة المسلمة تربية إسلامية أمور تحتاج إلى صبر عظيم. فتبين بذلك أن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من أحواله؛ لأنه بين أمر يجب عليه تنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه (¬2). فالصبر ضرورة لازمة للإنسان ليبلغ آماله، وتنجح مقاصده، فمن صبر ظفر، فكل الناجحين في الدنيا والآخرة إنما حققوا آمالهم بالله ثم بالصبر، ولله درُّ أبي يعلى الموصلي القائل: إني رأيتُ وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وقلَّ من جدَّ في أمرٍ يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (¬3) ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 2/ 306، و319. (¬2) انظر: عدة الصابرين لابن القيم، ص87. (¬3) انظر: الصبر الجميل لسليم الهلالي، ص 15 - 16.

المبحث الرابع: حكم الصبر

المبحث الرابع: حكم الصبر ذكر الإمام ابن القيم أن الصبر واجب بإجماع الأئمة (¬1)، ويقصد بذلك -رحمه الله - الصبر الواجب؛ فإن الصبر ينقسم إلى خمسة أقسام: القسم الأول: صبر واجب: كالصبر على الطاعات، والصبر عن المحرّمات، والصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها: كالأمراض، والفقر، وفقد الأنفس والأموال وغيرها. القسم الثاني: صبر مندوب: كالصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات. القسم الثالث: صبر محرم: كالصبر على المحرّمات: كمن يصبر عن الطعام والشراب حتى يموت أو يصبر على ما يهلكه من سبع أو حية، أو حريق أو ماء، وهو يستطيع مدافعة ذلك بالأسباب النافعة. القسم الرابع: صبر مكروه: كمن يصبر عن الطعام والشراب حتى يتضرر بذلك بدنه. القسم الخامس: صبر مباح: وهو الصبر عن كل فعلٍ مستوي الطرفين خُيِّر بين فعله وتركه. وبالجملة: فالصبر على الواجب واجب، وعن الواجب حرام. ¬

(¬1) انظر: عدة الصابرين لابن القيم مع الأمثلة لكل نوع، ص50 - 52، والصبر في ضوء الكتاب والسنة، مجلة دعوة الحق، العدد 54، ص75 - 90، مع الأمثلة بتوسع لكل نوع، ومدارج السالكين، 2/ 152.

والصبر عن الحرام واجب، وعليه حرام. والصبر عن المكروه مستحب، وعليه مكروه. والصبر على المستحبّ مستحبٌّ، وعنه مكروه. والصبر عن المباح مباح، وعليه مباح. والله أعلم. والصبر المحمود والمأجور عليه صاحبه هو ما اشتمل على شروط ثلاثة: 1 - الإخلاص لله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (¬1). 2 - عدم الشكوى إلى العباد. 3 - أن يكون الصبر في أوانه عند الصدمة الأولى (¬2). ¬

(¬1) سورة المدثر، الآية: 7. (¬2) انظر: الصبر الجميل، ص27 - 29.

المبحث الخامس: أنواع الصبر

المبحث الخامس: أنواع الصبر سبق في أقسام الصبر باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به أن الصبر الواجب ثلاثة أنواع هي: صبر على طاعة الله وأداء الواجبات، وصبر عن المعاصي والمحرمات، وصبر على المصائب والبليات وأقدار الله المؤلمة. وسأبين ذلك بشيء من التفصيل في المطالب الآتية: المطلب الأول: الصبر على طاعة الله الطريق إلى الله تعالى مليئة بالعوائق؛ لأن النفس بطبعها تنفر من القيود، والعبودية لله قيد لشهوات النفس؛ ولذلك فالنفس لا تستقيم على أمر الله بيسر وسهولة، فلابد من ترويضها، وكبح جماحها، وهذا يحتاج إلى اصطبار. قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬1). وقال جل ثناؤه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬2). والصبر على الطاعة يتكون من ثلاث شعب: الأولى: صبر قبل الطاعة بتصحيح النية، والإخلاص، والتبرؤ من شوائب الرياء. ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 65. (¬2) سورة طه، الآية: 132.

الثانية: الصبر حال الطاعة حيث لا يغفل عنها أثناء تأديتها

قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (¬1). فقدم الله - سبحانه وتعالى - الصبر على العمل. الثانية: الصبر حال الطاعة حيث لا يغفل عنها أثناء تأديتها، ولا يتكاسل، فيأتي بها على أكمل وجه مشروع متّبعاً ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذو القُذَّة بالقُذَّة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬2). الثالثة: الصبر بعد العمل، فلا ينظر لنفسه بعين العجب، فيتظاهر بما قدَّم سمعةً ورياءً؛ لئلا يحبط عمله ويبطل أجره، ويمحو أثره. والصبر على الدعوة إلى الله من أعظم الطاعات؛ فإن الدعوة إلى الله سبيلها طويل، تحف به المتاعب والآلام، وذلك أن الدعاة يطلبون من الناس أن يطلِّقوا أهواءهم، وينحروا أوهامهم، ويثوروا على شهواتهم، ويقفوا عند حدود الله أمراً ونهياً. وأكثر الناس لا يؤمنون بهذا النمط الجديد، فيتخذون من هذه الدعوة عدواً يحاربونه بكل سلاح. ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 11. (¬2) سورة العنكبوت، الآيتان: 58 - 59.

العائق الأول: إعراض الناس عن دعوتك:

وأمام هذه الدعوة العاتية، والسلطة الطاغية لا يجد الدعاة مفراً من الاعتصام باليقين والصبر؛ لأن الصبر سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، ونور لا يخبو. وحينئذٍ لابد أن يتنادى أهل الإيمان ليتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر لينجوا من الخسران المبين الذي يواجه الفارِّين من وجه الهدى. وفي ذلك أنزل الحق سورة كاملة هي سورة العصر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬1). ومن هذه العصابة المباركة العبد الصالح لقمان وابنه، وهاهو لقمان يوصي ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬2). ودونك أيها الداعي إلى الله على بصيرة بعض المعوقات التي تعترض طريقك لئلا تأخذك على حين غرة: العائق الأول: إعراض الناس عن دعوتك: لا شيء أثقل على صاحب الدعوة وهو يصيح بأعلى صوته، وينادي بملء فيه لينقذ الناس من الظلمات إلى النور، فلا يجد إلا آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأناساً قد استغشوا ثيابهم، وأصرّوا واستكبروا استكباراً. ¬

(¬1) سورة العصر، الآيات: 1 - 3. (¬2) سورة لقمان، الآية: 17.

فهاهو نبي الله نوح - صلى الله عليه وسلم - يناجي ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (¬1). ولكن التحديات تزيد عود الداعية صلابة، وهمته شموخاً، فلا يفتأ قائماً على أمر الله، ظاهراً على الحق، لا يضره من خالفه، ولا من خذله حتى يجعل الله له سبيلاً: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (¬2). هذا هو شأن قوم أول المرسلين نوح - صلى الله عليه وسلم -، وهو موقف قوم خاتم المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يتغير ولم يتبدل، وهذه هي سبيل المجرمين في كل القرون ... {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}. ويصف الله تبارك وتعالى موقف قريش من النبي - صلى الله عليه وسلم -: {حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (¬3). ولهذا قال الله تعالى آمراً نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم ¬

(¬1) سورة نوح، الآيات: 5 - 7. (¬2) سورة نوح، الآيتان: 8 - 9. (¬3) سورة فصلت، الآيات: 1 - 5.

العائق الثاني: الأذى من الناس قولا وفعلا:

مُّحْسِنُونَ} (¬1). العائق الثاني: الأذى من الناس قولاً وفعلاً: أعداء الحق يقابلون الإحسان بالإساءة، فالداعي إلى الله يمحض لهم النصح فيتهمونه بما ليس فيه، ويدعوهم إلى الله بالموعظة الحسنة فيردونه بالسوء، ويجادلهم بالتي هي أحسن فيقاومونه بالتي هي أخشن وأسوأ، ويصدع بينهم بالحق فلا يسمع منهم إلا الباطل. وفوق هذا كله تمتدّ يد الباطل إلى الأموال فتنهبها، وإلى الأبدان فتعذّبها، والحرمات فتنتهكها، والأنفس فتقتلها. وهذا ما أشار إليه رب العزة مخاطباً المؤمنين ليوطّنوا أنفسهم على الصبر والثبات: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬2). وفي الآية: نكت لطيفة ينبغي لفت نظر الدعاة إليها: الأولى: وصف الله - سبحانه وتعالى - الأذى المسموع من أهل الكتاب والمشركين بالكثرة، وهذا يدل على أن حرباً كلامية وإعلامية ستشن على أهل الإيمان. أسلحتها: التشويه، والتشويش، والدسّ، والافتراء، والتحريف. شعارها: الغاية تبرر الوسيلة، واكذب حتى يصدِّقك الناس. ¬

(¬1) سورة النحل، الآيتان: 127، 128. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 186.

فلابُدَّ من احتمال مكارهها، والصبر على تجرّع غصصها حتى يأتي نصر الله فيحقّ الحق، ويبطل الباطل إن الباطل كان زهوقاً. الثانية: قرن الله الصبر بالتقوى، فلابدَّ أن يجمع المؤمنون التقوى والصّبر لمواجهة هذه الحرب الضروس. الصبر للثبات في وجه الباطل. والتقوى للتعفّف عن مقابلة الخصوم بأسلحتهم الخبيثة، فالمؤمن لا يواجه الدسّ بالدسّ، ولا الافتراء بمثله؛ لأن المؤمنين يحكمهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬1). الثالثة: قرن الله بين أهل الكتاب والمشركين هذا مع اختلاف مشربهم ووجهتهم، وفي هذا لفتة رائعة إلى أن عدواتهم للإسلام وأهله وحَّدت بينهم على اختلاف. هذا ما قرره القرآن الكريم قبل مئات السنين، وأيده التاريخ والواقع. لقد وجدنا اليهودية العالمية، والصليبية، والشيوعية الدولية تختلف بينها أشد الاختلاف، ثم تتناسى هذا كلّه عندما يحاربون الإسلام. قال الله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬2). وقال جل ثناؤه: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬3). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 8. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 73. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 19.

فصبر جميل، والله المستعان على ما يفعلون. وأنبياء الله جميعاً يمثلون هذا النوع من الصبر حيث قالوا ردّاً على أذى أقوامهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬1). وكان عزاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرسل جميعاً من قبله حدث لهم الأذى والتشويه والافتراء: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} (¬2). ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} (¬3). ولقد ضرب سحرة فرعون - حين وقع الحق فآمنوا - مثلاً رائعاً في الصبر، فلم يفتّ من عضُدِهم، ولم يزعزع يقينَهم تهديدُ فرعون: { ... آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬4). ما هذا الوعيد الهادر (¬5) من طاغية جبار يقول للناس: أنا ربكم الأعلى، ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 12. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 34. (¬3) سورة المزمل، الآية: 10. (¬4) سورة الأعراف، الآيتان: 123 - 124. (¬5) الهادر: هدر البعير هدراً، أي ردد صوته في حنجرته، ويضرب لمن يصيح ويجلب. القاموس المحيط، (هدر).

العائق الثالث: استبطاء النصر والفرج:

وما علمت لكم من إلهٍ غيري. إن أمواجه تتحطّم على يقين المؤمنين الذين وقفوا كالجبال الشمّ، ولكنهم توجهوا إلى الله ليثبّتهم، ويلقي في قلوبهم السكينة، ويفرغ عليهم الصبر: {قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (¬1). العائق الثالث: استبطاء النصر والفرج: لقد جعل الله - سبحانه وتعالى - العاقبة للمتقين، وكتب لهم التمكين في الأرض؛ ليكون الدين كله لله، ولكن هذه المنزلة لن يبلغها المؤمنون بين عشيةٍ وضحاها. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} (¬2). متى نصر الله؟ استبطاءً له، واستعجالاً لمجيئه؛ هنالك يجيء الغوث للملهوف، والفرج للمكروب، فتفرح القلوب - ألا إن نصر الله قريب. وليعلم المسلم أن في تأخير الفرج لطائف وأسراراً، منها: 1 - أن الكرب كلما اشتدّ كان الفرج قريباً كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 125 - 126. (¬2) سورة البقرة، الآية: 214. (¬3) سورة يوسف، الآية: 110.

2 - أن الكرب كلما اشتد وجد اليأس من كشفه

2 - أن الكرب كلما اشتدّ وجد اليأس من كشفه من جهة المخلوق، وازداد التعلق بالخالق حتى يصل العبد إلى محض التوكل الذي هو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، كما قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). 3 - أن الكرب كلما اشتدّ فإن العبد حينئذ يحتاج إلى زيادة مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنِّطه، ويسخِّطه، فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه، فيحوز ثواب مجاهدة عدوّه ودفعه. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي فَيَدع الدعاء)) (¬2). واعلم أخا الإيمان أن المؤمن كلما استبطأ الفرج واستيأس منه ولاسيما بعد كثرة الدعاء وإلحاح التضرع ولم تظهر له إجابة رجع إلى نفسه يلومها، قائلاً: إنما أُتيتُ من قِبَلِكِ. وهذا اللّوم أحبّ إلى الله من أكثر الطاعات لأنه يورث انكسار العبد الصالح لربِّه، فلذلك يسرع إليه الفرج ويتواثب إليه اليسر؛ لأن الله يجبر المنكسرة قلوبهم لأجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، برقم 6340، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي، برقم 2735.

المطلب الثاني: الصبر عن المعاصي والمحرمات

خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} (¬1). المطلب الثاني: الصبر عن المعاصي والمحرمات إذا أخذت الدنيا زينتها وأقبلت على الإنسان تتراقص كالحسناء اللعوب، ونشرت شهواتها ذات اليمين وذات الشمال، فهذا لون جديد من الابتلاء، إنه فتنة السرَّاء؛ لأن الله يبلو عباده بالشر والخير. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬2). انظر رحمك الله لقد جعل ذو الجلال والإكرام التنعيم والإكرام ابتلاءً كالتضييق في الرزق سواء. ولذلك فالعبد محتاج إلى الصبر عن ملاذ الدنيا وشهوات النفس، فلا يطلق لها العنان لتسترسل وراء شهواتها من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. وثمة أمر آخر للصبر في هذا المجال إنه الصبر عن التطلُّع إلى دنيا الآخرين، والاغترار بما ينعمون به من مال وبنين. قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرُ وَأَبْقَى} (¬3). ولا تظن أيها العبد القانع بما آتاه الله أن ما في أيدي الطغاة العتاة المغرورين نعم .. إنها نقم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ألم تقرأ قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 62. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 35. (¬3) سورة طه، الآية: 131.

المطلب الثالث: الصبر على المصائب وأقدار الله المؤلمة

نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} (¬1). وهذا هو المثال لا يزال شاخصاً للذين يعتبرون في كل القرون، لقد خرج قارون الذي ملك الكنوز ذات المفاتيح التي تنوء بالعصبة أولي القوة ... خرج على قومه في كامل زينته، وأبهى حلته، وفخامة موكبه ومركبه. فقال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها في حسرة وتلهف: { ... يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (¬2). ولكن الدنيا لن تخلو من ناصح أمين ورِث العلم والإيمان والصبر من المرسلين: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} (¬3). وكان ما قدَّره الله فصل الخطاب: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (¬4). المطلب الثالث: الصبر على المصائب وأقدار الله المؤلمة لا أحد يسلم من آلام النفس، وأمراض البدن، وفقدان الأحباء، وخسران المال. وهذا ما لا يخلو منه بَرٌّ ولا فاجر، ولا مؤمن ولا كافر، ولكن المؤمن ¬

(¬1) سورة المؤمنين، الآيتان: 55 - 56. (¬2) سور القصص، الآية: 79. (¬3) سورة القصص، الآية: 80. (¬4) سورة القصص، الآيتان: 81 - 82.

يتلقَّى هذه المصائب برضىً وطمأنينة تفعم قلبه الذي أسلس قياده لمقلِّب القلوب والأبصار؛ لأنه يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (¬1). فالبلاء هنا عام يصيب القلوب بالخوف، والبطون بالجوع، والأموال بالنقص، والأنفس بالموت، والثمرات بالآفات. ومن لطف الله ورحمته بعباده أنه جعل البلاء: {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ ... } الآية؛ ليدل على التقليل مراعاة لضعف العباد، وتخفيفاً عليهم، ورحمةً بهم. وفي هذا المجال كان صبر أنبياء الله مثلاً يُقتدى به، فأيوب صبر على مرضه وفقد أهله، ويعقوب عليه الصلاة والسلام صبر على فراق ولده، وكيد أبنائه، ويوسف عليه الصلاة والسلام صبر على السجن والافتراء والدسّ والتشويه الذي مارسته امرأة العزيز قبل أن يحصحص الحق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - صبر على كسر رباعيَّته، وشجّ وجهه، ووضع السلا على ظهره - صلى الله عليه وسلم - ... !! ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 155.

المبحث السادس: صور من تطبيق الصبر في الدعوة

المبحث السادس: صور من تطبيق الصبر في الدعوة المطلب الأول: صور من صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مواقف في الدعوة إلى الله تدل على صبره، ورغبته فيما عند الله تعالى، ومن المعلوم أنه صبر في جميع أحواله ابتداءً بدعوته السرية حتى لَقِيَ ربه صابراً محتسباً، وصور صبره في دعوته كثيرة جداً لا تحصر، ولكني أقتصر على إيراد الصور التطبيقية الآتية: الصورة الأولى: صعوده على الصفا ونداؤه العام: أمر الله نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، فقال - عز وجل -: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1). فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنفيذ أمر ربه بالجهر بالدعوة والصدع بها، وإنذار عشيرته، فوقف مواقف حكيمة أظهر الله بها الدعوة الإسلامية، وبيّن بها حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشجاعته، وصبره وإخلاصه لله رب العالمين، وقمع بها الشرك وأهله، وأذلهم إلى يوم الدين. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: أرأيتكم لو ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيات: 214 - 216.

أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟ قالو: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقاً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (¬1). وفي رواية لأبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - ناداهم بطناً بطناً، ويقول لكل بطن: ((أنقذوا أنفسكم من النار ... ))، ثم قال: ((يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلُّها ببلالها)) (¬2). وهذه الصيحة العالمية غاية البلاغ، وغاية الإنذار، فقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأوضح أن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار، الذي جاء من عند الله تعالى، فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - قومه - في هذا الموقف العظيم - إلى الإسلام، ونهاهم عن عبادة الأوثان، ورغّبهم في الجنة، وحذّرهم من النار، وقد ماجت مكة بالغرابة والاستنكار، واستعدّت لحسم هذه الصرخة العظيمة التي ستزلزل عاداتها وتقاليدها وموروثاتها الجاهلية؛ ولكن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب لصرخاتهم حساباً؛ لأنه مرسل من الله - عز وجل -، ولابدَّ أن يُبلِّغ البلاغ المبين عن رب العالمين، حتى ولو ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب وأنذر عشيرتك الأقربين، 8/ 501، برقم 4770، ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان، باب قوله: وأنذر عشيرتك الأقربين، 1/ 194، برقم 208، والآيتان من سورة المسد: 1 - 2. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب وأنذر عشيرتك الأقربين، 8/ 501، برقم 4771، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: وأنذر عشيرتك الأقربين، 1/ 192، برقم 204، واللفظ له.

خالفه أو ردّ دعوته جميع العالمين، وقد فعل - صلى الله عليه وسلم - (¬1). استمرّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله - تعالى - ليلاً ونهاراً، وسرّاً وجهراًًً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يردّه عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، استمر يتتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من: حرٍّ وعبدٍ، وقويٍّ وضعيفٍ، وغنيٍّ وفقيرٍ، جميع الخلق عنده في ذلك سواء. وقد تسلط عليه وعلى من اتبعه الأشدَّاء الأقوياء من مشركي قريش بالأذيَّة القوليَّة والفعليَّة، وانفجرت مكة بمشاعر الغضب لأنها لا تريد أن تفارق عبادة الأصنام والأوثان (¬2)، ومع ذلك لم يفتر محمد - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، ولم يترك العناية والتربية الخاصة لأولئك الذين دخلوا في الإسلام، فقد كان يجتمع بالمسلمين في بيوتهم على شكل أُسرٍ بعيدة عن أعين قريش، وتتكوّن هذه الأسر من الأبطال الذين عقد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمل بعد الله - تعالى - في حمل العبء والمهامّ الجسيمة لنشر الإسلام، وبذلك تكوّنت طبقة خاصة من المؤمنين الأوائل قوية في إيمانها، متينة في عقيدتها، مدركة لمسئوليتها، منقادة لأمر ربها، طائعة لقائدها، مطبقة لكل أمر يصدر عنه برغبة وشوق واندفاع لا يعادله اندفاع، وحب لا يساويه حب. ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم، ص78، وفقه السيرة، لمحمد الغزالي، ص101، 102، والسيرة النبوية، دروس وعبر لمصطفى السباعي، ص47. (¬2) البداية والنهاية، 3/ 40.

وبهذه المواقف الحكيمة، والتربية الصالحة المتينة استطاع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يؤدِّي الأمانة، ويبلّغ الرسالة، وينصح الأمة، ويجاهد في الله حقّ جهاده، ويرسم لنا طريقاً نسير عليه في دعوتنا وعملنا وسلوكنا، فهو قدوتنا وإمامنا الذي نسير على هديه، ونستنير بحِكَمِهِ - صلى الله عليه وسلم -. فقد بدأ الدعوة بعناصر اختارها وربّاها، فلبّت الدعوة، وآمنت به، وكانت دعوته عامة للناس، وأثناء هذه الدعوة يركّز على من يجد عندهم الإمكانات أو يتوقع منهم ذلك، وقد تكوَّن من هذه العناصر نواة القاعدة الصلبة التي ثبتت عليها أركان الدعوة (¬1). ومع هذا الجهد المبارك العظيم لم يلجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الاغتيال السياسي، ولم يتخلَّص بالاغتيال من أفراد بأعيانهم، وكان بإمكانه ذلك وبكل يسر وسهولة، إذ كان يستطيع أن يكلف أحد الصحابة بقتل بعض قادة الكفر: كالوليد بن المغيرة المخزومي، أو العاص بن وائل السهمي، أو أبي جهل عمرو بن هشام، أو أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب، أو النضر بن الحارث، أو عقبة بن أبي معيط، أو أُبّي بن خلف، أو أُمية بن خلف ... ، وهؤلاء هم من أشدّ الناس أذيّة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فلم يأمر أحداً من أصحابه باغتيال أحد منهم أو غيرهم من أعداء الإسلام؛ فإن مثل هذا الفعل قد يُوْدي بالجماعة الإسلامية كاملة، أو يعرقل مسيرتها مدة ليست باليسيرة، كردّ فعل من أعداء الإسلام الذين يتكالبون على حربه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر في هذه المرحلة باغتيالهم؛ لأن الذي أرسله هو أحكم الحاكمين. ¬

(¬1) التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، 2/ 65.

الصورة الثانية: اضطهاد سادات قريش:

وعلى هذا يجب أن يسير الدعاة إلى الله فوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي كل وقت، يجب أن تكون الدعوة على حسب المنهج الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، فطريق الدعوة الصحيح هو هديه والتزام أخلاقه وحكمه وتصرفاته على حسب ما أرادها - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الصورة الثانية: اضطهاد سادات قريش: رأت قريش أن تجرّب أسلوباً آخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذِّره مغبّة هذا التأييد والنصر لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتطلب منه أن يكف عنها محمداً ودينه (¬2). جاءت سادات قريش إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا، مِنْ: شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى نكفَّه عنا، أو ننازله وإيَّاك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. فعظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، وعظم عليه فراق قومه وعداوته لهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم، ولا خذلانه، فبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا ابن أخي، إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن ¬

(¬1) انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، 2/ 65. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 3/ 41، وفقه السيرة لمحمد الغزالي، ص112.

الصورة الثالثة: مع عتبة:

قومك ما يكرهون من قولك. فثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - على دعوته إلى الله، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه على الحق، ويعلم بأن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، وعندما رأى أبو طالب هذا الثبات ويئس من موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقريش على ترك دعوته إلى التوحيد قال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أُوسَّد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقرّ بذاك منك عيونا (¬1) الصورة الثالثة: مع عتبة: بعد أن أسلم حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب أخذت السحائب تنقشع، وأقلق هذا الموقف الجديد مضاجع المشركين، وأفزعهم وزادهم هولاً وفزعاً تزايد عدد المسلمين، وإعلانهم إسلامهم، وعدم مبالاتهم بعداء المشركين لهم، الأمر الذي جعل رجال قريش يساومون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث المشركون عتبة بن ربيعة ليعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموراً لعله يقبل بعضها فيُعطَى من أمور الدنيا ما يريد. فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا ابن أخي إنك منَّا حيث قد علمت من السطة (¬2) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام، 1/ 278، وانظر: البداية والنهاية، 3/ 42، وفقه السيرة للغزالي، ص114، والرحيق المختوم، ص94. (¬2) يعني: المنزلة الرفيعة. انظر: المصباح المنير، مادة ((سطا))، ص276، والقاموس المحيط، باب الواو، فصل السين، ص1670.

أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قل أبا الوليد أسمع))، قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ... حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه، قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟)) قال: نعم، قال: ((فاستمع مني))، قال: أفعل، فقال: {بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم* حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (¬1). ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك)) (¬2). ¬

(¬1) سورة فصلت، الآيات: 1 - 5. (¬2) أخرج هذه القصة ابن إسحاق، 1/ 313 من سيرة ابن هشام، قال الألباني: وإسناده حسن إن شاء الله. انظر: فقه السيرة للغزالي، ص113، وتفسير ابن كثير، 4/ 61، والبداية والنهاية، 3/ 62، والرحيق المختوم، ص103.

وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬1)،فقام مذعوراً فوضع يده على فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنشدك الله والرحم، وطلب منه أن يكفّ عنه، فرجع إلى قومه مسرعاً كأن الصواعق ستلاحقه، واقترح على قريش أن تترك محمداً وشأنه، وأخذ يرغبهم في ذلك (¬2). لقد تخّير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفضل الله - تعالى -، ثم بحكمته العظيمة هذه الآيات من الوحي، ليعرف عتبة حقيقة الرسالة والرسول، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يحمل كتاباً من الخالق إلى خلقه، يهديهم من الضلال، وينقذهم من الخبال، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل غيره مكلف بتصديقه والعمل به، والوقوف عند أحكامه، فإذا كان الله - عز وجل - يأمر الناس بالاستقامة على أمره، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بذلك، وهو لا يطلب ملكاً ولا مالاً ولا جاهاً، لقد مكّنه الله من هذا كله، فعفّ عنه وترفّع أن يمدّ يديه إلى هذا الحطام الفاني؛ لأنه صادق في دعوته، مخلص لربه، - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وهذا موقف من أعظم مواقف الصبر والحكمة التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو قد ثبت وصدق في دعوته، ولم يرد مالاً، ولا جاهاً، ولا مُلكاً، ولا نكاحاً، من أجل أن يتخلّى عن دعوته، وقد اختار الكلام المناسب في ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 13. (¬2) انظر: البداية والنهاية، 3/ 62، وتاريخ الإسلام للذهبي، قسم السيرة، ص158، وفقه السيرة لمحمد الغزالي، ص114، وهذا الحبيب يا محبّ، ص102، وتفسير ابن كثير، 4/ 62. (¬3) انظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص113.

الصورة الرابعة: مع أبي جهل:

الموضع المناسب، وهذا هو عين الحكمة. الصورة الرابعة: مع أبي جهل: قرَّر المشركون ألا يألوا جهداً في محاربة الإسلام وإيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن دخل معه في الإسلام، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام. ومنذ جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوته إلى الله، وبيّن أباطيل الجاهلية، انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلت عشرة أعوام تعدّ المسلمين عصاة ثائرين فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وصاحبت هذه النار المشتعلة حرب من السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب، وتشويه تعاليم الإسلام، وإثارة الشبهات، وبثّ الدعايات الكاذبة، ومعارضة القرآن، والقول بأنه أساطير الأولين، ومحاولة المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعبد آلهتهم عاماً، ويعبدون الله عاماً! إلى غير ذلك من مفاوضاتهم المضحكة! واتَّهموا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنون، والسحر، والكذب والكهانة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت صابر محتسب يرجو من الله النصر لدينه، وإظهاره (¬1). لقد نال المشركون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم ينالوه من كثير من المؤمنين، فهذا أبو جهل يعتدي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعفِّر وجهه في التراب، ولكن الله حماه منه، وردَّ كيد أبي جهل في نحره، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: قيل: نعم. فقال: واللات ¬

(¬1) انظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص106، والرحيق المختوم، ص80، 82، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 85، 88، 91، 93، 94، وهذا الحبيب يا محبّ، ص110.

الصورة الخامسة: وضع السلا على ظهره - صلى الله عليه وسلم -:

والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأعفرنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، زعم ليطأنَّ على رقبته، قال: فما فجئهم (¬1) منه إلا وهو ينكص على عقبيه (¬2)، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً، وأجنحة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)). قال: فأنزل الله - عز وجل -: {كَلاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} إلى آخر السورة (¬3). وقد عصم الله النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الطاغية ومن غيره، وصبر على هذا الأذى العظيم ابتغاء وجه الله - تعالى -، فضحّى بنفسه وماله ووقته في سبيل الله تعالى. الصورة الخامسة: وضع السَّلا على ظهره - صلى الله عليه وسلم -: ومما أُصيب به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سَلا (¬4) جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم (¬5) ¬

(¬1) ويقال أيضاً: فجأهم، أي بغتهم. انظر: شرح النووي، 17/ 140. (¬2) يرجع يمشي إلى ورائه. انظر: المرجع السابق، 7/ 140. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب المنافقين، باب قوله تعالى: {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} 4/ 2154، برقم 2797. وانظر: شرح النووي، 17/ 140. (¬4) السّلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان، وهي من الآدمية: المشيمة. انظر: شرح النووي، 12/ 151. (¬5) هو عقبة بن أبي مُعيط، كما صرح في رواية لمسلم في صحيحه، 3/ 1419.

الصورة السادسة: مع عقبة

فأخذه، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثم قال: ((اللهم عليك بقريش)) ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط))، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحق لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر (¬1). الصورة السادسة: مع عقبة ومن أشد ما صنع به المشركون - صلى الله عليه وسلم - ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه -، قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشدّ ما صنع المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، في كتاب الوضوء، باب إذا أُلقيَ على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته، 1/ 349، برقم 240، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، 2/ 1418، برقم 1794.

جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} (¬1). وقد اشتدّ أذى المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، حتى جاء بعض الصحابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستنصره، ويسأل منه الدعاء والعون، ولكن النبي الحكيم واثق بنصر الله وتأييده، فإن العاقبة للمتقين. عن خباب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، [ولقد لقينا من المشركين شِدّة]، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشَّط بأمشاط الحديد [ما دون عظامه من لحم أو عصب]، فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليُتَمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) (¬2). وهكذا اشتدّ أذى قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه، وما ذلك ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 28. والحديث في البخاري مع الفتح، في كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، 7/ 165، برقم 385، وكتاب التفسير، سورة المؤمن، 8/ 553،، باب، برقم 4815، وكتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً))، 7/ 22، برقم 3678. واللفظ ملفقّ من كتاب المناقب وكتاب التفسير. (¬2) البخاري مع الفتح في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 619، برقم 3612، وفي كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، 7/ 164، برقم3852، وفي كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، 12/ 315، برقم 6943، واللفظ من كتاب الإكراه، وما بين المعقوفين من مناقب الأنصار.

الصورة السابعة: مع زوجة أبي لهب:

كله إلا من أجل إعلاء كلمة الله، والصدع بالحق، والثبات عليه، والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ عادات الجاهلية وخرافاتها ووثنيتها. الصورة السابعة: مع زوجة أبي لهب: لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدّ الأذى، ووصل الأمر إلى تغيير اسمه - صلى الله عليه وسلم - احتقاراً له ولدينه، وحسداً وبُغضاً له، فقد كان المشركون من قريش من شدة كراهتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُسمّونه باسمه الدال على المدح فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفاً إلى غيره بحمد الله تعالى (¬1). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟! يشتمون مذمماً، ويلعنون مُذمماً، وأنا محمد)) (¬2). والنبي - صلى الله عليه وسلم - له خمسة أسماء ليس منها مُذَمَم (¬3). جاءت أم جميل زوجة أبي لهب - حين سمعت ما أنزل الله فيها وفي زوجها من القرآن - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها ملء الكف من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر! أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 6/ 558. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 6/ 554، برقم 3533. (¬3) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 6/ 554،برقم 3532.

لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت: مُذَمماً عصينا ... ... وأمره أبينا ... ... ... ودينه قلينا (¬1) استمر المشركون في إلحاق الأذى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه الذين أسلموا وبعد أن زاد عدد المسلمين وكثر ازداد حنق المشركين على المسلمين، وبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء، ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ورأى أنه في حماية الله ثم عمه أبي طالب، وهو لا يستطيع أن يمنع المسلمين مما هم فيه من العذاب - فقد مات منهم من مات، وعُذّب من عُذّب حتى عمي وهو تحت العذاب - فأذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً، وأربع نسوة، ورئيسهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ذهبوا فوفَّق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين، فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة، وكان ذلك في رجب، في السنة الخامسة من البعثة، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحداً، ثم بلغ هؤلاء المهاجرين أن قريشاً قد كفّوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجعوا إلى مكة من الحبشة، وقبل وصولهم مكة بساعة من نهار بلغهم أن الخبر كذب، وأن قريشاً أشد ما كانوا عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل من دخل مكة بجوار، وكان من الداخلين ابن مسعود - رضي الله عنه -، ووجد أن ما بلغهم من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار - كابن مسعود -أو مستخفياً، ثم اشتد البلاء من قريش على من دخل مكة من المهاجرين وغيرهم، ولقوا منهم أذىً شديداً، فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام،1/ 378،ومعنى قولها: قلينا: أي أبغضنا. انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 523.

الصورة الثامنة: حبسه - صلى الله عليه وسلم - في الشعب:

الخروج إلى الحبشة مرة ثانية، وكان عدد من خرج في هذه المرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلاً، إن كان فيهم عمار بن ياسر، ومن النساء تسع عشرة امرأة، فكان المهاجرون في مملكة أصحمة النجاشي آمنين، فلما علمت قريش بذلك أرسلت للنجاشي بهدايا وتحف ليردّهم عليهم، فمنع ذلك عليهم، ورد عليهم هداياهم، وبقي المهاجرون في الحبشة آمنين حتى قدموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر (¬1). الصورة الثامنة: حبسه - صلى الله عليه وسلم - في الشعب: ولما رأت قريش انتشار الإسلام، وكثرة من يدخل فيه، وبلغها ما لقي المهاجرون في بلاد الحبشة، من: إكرام وتأمين، مع عودة وفدها خائباً، اشتد حنقها على الإسلام، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف، وأن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في سقف الكعبة، فانحاز بنو هاشم، وبنو عبد المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب، فإنه بقي مظاهراً لقريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى بني هاشم، وبني عبد المطلب. وحُبِسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعب أبي طالب ليلة هلال محرم، سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين محبوسين، مضيقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/ 23، 36، 38، والرحيق المختوم، ص89، وهذا الحبيب يامحب، ص120، وسيرة ابن هشام، 1/ 343، والبداية والنهاية، 3/ 66، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 98، 109، وتاريخ الإسلام للذهبي، قسم السيرة، ص183.

الصورة التاسعة: مع أهل الطائف:

الطعام والماء نحو ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد، وسُمِعَ أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، ثم أطلع الله رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله - عز وجل -، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن محمداً قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلوا الصحيفة، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ازدادوا كفراً إلى كفرهم، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الشعب بعد عشرة أعوام من البعثة، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل غير ذلك (¬1). ولما نُقِضَت الصحيفة وافق موت أبي طالب موت خديجة وبينهما زمن يسير، فاشتد البلاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه فكاشفوه بالأذى، فازدادوا غمّاً على غمٍّ حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه أو ينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي، ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه (¬2). الصورة التاسعة: مع أهل الطائف: في شوال، من السنة العاشرة بعد النبوة، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف لعله ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، 3/ 30، وسيرة ابن هشام، 1/ 371، البداية والنهاية، 3/ 64، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 109، 127، 128، وتاريخ الإسلام للذهبي، قسم السيرة، ص126، 137، والرحيق المختوم، ص112. (¬2) انظر: زاد المعاد، 3/ 31، والرحيق المختوم، ص113.

يجد في ثقيف حسن الإصغاء لدعوته والانتصار لها، وكان معه زيد بن حارثة مولاه، وكان في طريقه كلما مرَّ على قبيلة دعاهم إلى الإسلام، فلم تُجِبْه واحدة منها. عندما وصل إلى الطائف عمد إلى رؤسائها فجلس إليهم، ودعاهم إلى الإسلام، فردوا عليه رداً قبيحاً، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما أراد الخروج تبعه هؤلاء السفهاء واجتمعوا عليه صَفَّين يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السَّفه، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة - رضي الله عنه - يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف إلى مكة محزوناً، كسير القلب، وفي طريقه إلى مكة أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبَيْن على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان هي بينهما (¬1). عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك [ما لقيت]، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال (¬2)، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، 3/ 31، والرحيق المختوم، ص122، وهذا الحبيب يا محبّ، ص132، والبداية والنهاية، 3/ 135. (¬2) ابن عبد ياليل بن كلال من أكابر أهل الطائف من ثقيف. الفتح، 6/ 315.

وجهي، فلم أسْتَفِق إلا بقرن الثعالب (¬1)، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني: فقال: إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فما شئت (¬2)؟ إن شئت أن أُطْبِق عليهم الأخشبين)). فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) (¬3). وفي هذا الجواب الذي أدلى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي أمدّه الله به. وفي ذلك بيان شفقته على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهذا موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (¬5). فصلوات الله وسلامه عليه (¬6). ¬

(¬1) وهو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل، ويعرف الآن بالسيل الكبير. انظر: الفتح، 6/ 315. (¬2) استفهام، أي: فأمرني بما شئت. انظر: فتح الباري، 6/ 316. (¬3) البخاري مع الفتح في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، 6/ 312، برقم 3231، ومسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، 3/ 1420، برقم 1795، وما بين المعقوفين من البخاري دون مسلم. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬6) انظر: البخاري مع الفتح، 6/ 316، والرحيق المختوم، ص124.

وأقام - صلى الله عليه وسلم - بنخلة أياماً، وصمّم على الرجوع إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام، وإبلاغ رسالة الله الخالدة، بنشاط جديد، وجدٍّ وحماسٍ، وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ فَرُوي عنه (¬1) أنه قال: ((يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه)). ثم سار حتى وصل إلى مكة فأرسل رجل من خزاعة إلى مطعم بن عدي ليدخل في جواره، فقال مطعم: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المُطْعمُ بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمداً فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (¬2). وفي هذه المواقف العظيمة التي وقفها النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلته إلى الطائف دليل واضح على تصميمه الجازم في الاستمرار في دعوته، وعدم اليأس من استجابة الناس لها، وبَحَثَ عن ميدان جديد للدعوة، بعد أن قامت الحواجز دونها في الميدان الأول. ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3/ 33. (¬2) انظر: زاد المعاد، 3/ 33، وسيرة ابن هشام، 2/ 28، والبداية والنهاية، 3/ 137، والرحيق المختوم، ص125.

الصورة العاشرة: مع أهل الأسواق والمواسم:

وفي ذلك دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أستاذاً في الحكمة، وذلك؛ لأنه حينما قدم الطائف اختار الرؤساء وسادة ثقيف في الطائف وقد علم أنهم إذا أجابوه أجابت كل قبائل أهل الطائف. وفي سيل الدماء من قدمي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو النبي الكريم - أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد. وفي عدم دعائه على قومه، وعلى أهل الطائف، وعدم موافقة ملك الجبال في إطباق الأخْشَبيْن على أهل مكة أكبر مثل لما يتحمله الداعية في صبره على من ردّ دعوته، وعدم اليأس من هدايتهم، فربما يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً. ومن حكمته - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يدخل مكة إلا بعد أن دخل في جوار المُطْعم بن عدي، وهكذا ينبغي للداعية أن يبحث عمن يحميه من كيد أعدائه؛ ليقوم بدعوته على الوجه المطلوب (¬1). الصورة العاشرة: مع أهل الأسواق والمواسم: باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته في مكة بعد عودته من الطائف في شهر ذي القعدة سنة عشر من النبوة، فبدأ يذهب إلى المواسم التي تقام في الأسواق مثل: عكاظ، ومجنة، وذي مجاز، وغيرها، التي تحضرها القبائل العربية للتجارة والاستماع لما يُلقى فيها من الشعر، ويعرض نفسه على هذه القبائل يدعوها إلى الله - تعالى -، وجاء موسم الحج لهذه السنة ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي، ص58، وهذا الحبيب يا محبّ، ص134.

فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة. ولم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرض الإسلام على القبائل فحسب، بل كان يعرضه على الأفراد أيضاً. وكان - صلى الله عليه وسلم - يرغب جميع الناس بالفلاح، فعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال له: ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليّاً، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: هذا عمه أبو لهب (¬1). وقد كانت الأوس والخزرج يحجّون كما تحجّ العرب دون اليهود، فلما رأى الأنصار أحواله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، عرفوا أنه الذي تتوعدهم به اليهود، فأرادوا أن يسبقوهم؛ ولكنهم لم يبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه السنة، ورجعوا إلى المدينة (¬2). وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة، عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 4/ 341، 3/ 492، وسنده حسن، وله شاهد عند ابن حبان، برقم 1683 (موارد) من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، والحاكم في المستدرك بإسنادين، وقال عن الإسناد الأول: صحيح على شرط الشيخين، رواته كلهم ثقات أثبات، 1/ 15. (¬2) انظر: زاد المعاد، 3/ 43، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 136، والرحيق المختوم، ص129، والبداية والنهاية، 3/ 149، وابن هشام، 2/ 31.

نفسه على القبائل، وبينما الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه، مر بعقبة مِنَى فوجد بها ستة نفر من شباب يثرب، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوا دعوته، ورجعوا إلى قومهم وقد حملوا معهم رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ثم استدار العام وأقبل الناس إلى الحج في السنة الثانية عشرة من النبوة، وكان من بين حجاج يثرب اثنا عشر رجلاً، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام السابق، والتقوا حسب الموعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة بمنى، وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة النساء (¬2). عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍِ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه)) فبايعناه على ذلك (¬3). ¬

(¬1) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 137، وهذا الحبيب يا محبّ، 2/ 145، والرحيق المختوم، ص132، وزاد المعاد، 3/ 45، وسيرة ابن هشام، 2/ 38، والبداية والنهاية، 3/ 149. (¬2) انظر: زاد المعاد، 3/ 46، والرحيق المختوم، ص139، والتاريخ الإسلامي، 2/ 139، وهذا الحبيب يا محبّ، ص145، وسيرة ابن هشام، 2/ 38. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، 7/ 219، برقم 3892، وكتاب الإيمان، باب حدثنا أبو اليمان، 1/ 64، برقم 18.

وبعد أن انتهت المبايعة، وانتهى الموسم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء مصعب بن عمير - رضي الله عنه - ليعلّم المسلمين شرائع الإسلام؛ وليقوم بنشر الإسلام، وقد قام بذلك - رضي الله عنه - أتم قيام، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وكلهم قد أسلموا. فلما قدموا مكة واعدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة، وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قالوا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟ فقال: ((تبايعوني على: السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) (¬1)، فقاموا إليه فبايعوه. وبعد عقد هذه البيعة جعل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثني عشر زعيماً، يكونون نقباء على قومهم، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم رجعوا إلى يثرب، وعندما وصلوا أظهروا الإسلام فيها، ونفع الله بهم في الدعوة إلى الله تعالى (¬2). وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأسيس وطن ¬

(¬1) أحمد في المسند، 3/ 322، والبيهقي، 9/ 9، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 624، وحسن إسناده للحافظ في الفتح، 7/ 117. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 49، والبداية والنهاية، 3/ 158، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 142، والرحيق المختوم، ص143.

للإسلام، انتشر الخبر في مكة كثيراً، وثبت لقريش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بايع أهل يثرب، فاشتد أذاهم على من أسلم في مكة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة، فهاجر المسلمون، فاجتمع قريش في السادس والعشرين من شهر صفر في السنة الرابعة عشرة من النبوة، وأجمعوا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأوحى الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ولحسن سياسته وحكمته أمر علياً أن يبيت في فراشه تلك الليلة، فبقي المشركون ينظرون إلى علي من صِير الباب (¬1)، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومرّ بأبي بكر، وهاجر إلى المدينة (¬2). وهذه المواقف العظيمة التي وقفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل واضح على حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم -،وعلى صبره، وشجاعته، وأنه - صلى الله عليه وسلم - حينما علم بأن قريشاً قد طغت، ورفضت الدعوة بحث عن مكان يتخذ فيه قاعدة للدعوة الإسلامية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ منهم البيعة والمعاهدة على نصرة الإسلام، وتم ذلك في مؤتمرين: بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، وعندما وجد مكان الدعوة الذي يتخذ قاعدة لها، ووجد أنصار الدعوة أذن بالهجرة لأصحابه، وأخذ هو بالأسباب عندما تآمرت عليه قريش، وهذا لا يعتبر جبناً، ولا فراراً من الموت؛ ولكن يعتبر أخذاً بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، وهذه السياسة الحكيمة من أسباب نجاح الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو قدوتهم وإمامهم (¬3). ¬

(¬1) صير الباب: هو شق الباب. انظر: المعجم الوسيط، مادة ((صار)) 1/ 531. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 95، والبداية والنهاية، 3/ 175، وزاد المعاد، 3/ 54، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي، ص61، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 148، وهذا الحبيب يا محبّ، ص156. (¬3) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، ص68.

الصورة الحادية عشرة: جرح وجهه وكسرت رباعيته - صلى الله عليه وسلم -:

الصورة الحادية عشرة: جرح وجهه وكسرت رباعيته - صلى الله عليه وسلم -: وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أنه سُئلَ عن جرح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقال: جُرِحَ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكُسِرَت رباعيته، وهُشِمَت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدم، وعليٌّ - رضي الله عنه - يمسك، فلما رأت الدم لا يرتد إلا كثرة أخذت حصيراً فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألزقته فاستمسك الدم (¬1). وقد حصل له هذا الأذى العظيم الذي ترتج لعظمته الجبال، هو نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يدع على قومه، بل دعا لهم بالمغفرة، لأنهم لا يعلمون. فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬2). فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وعلى رأسهم محمد - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا (¬3) على جانب عظيم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب لبس البيضة، 6/ 96، برقم 2911، ومسلم، كتاب الجهاد، باب غزوة أحد، 3/ 1416، برقم 1790. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، 6/ 514، برقم 3477، وكتاب استتابة المرتدين، باب حدثنا عمر بن حفص، 12/ 282، برقم 6929، وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب عزوة أحد، 3/ 1417، برقم 1792، وانظر: شرحه في الفتح، 6/ 521، وشرح النووي لصحيح مسلم، 12/ 148. (¬3) انظر: شرح النووي لمسلم، 12/ 148.

المطلب الثاني: صور من شجاعته وإقدامه - صلى الله عليه وسلم -

لا يعلمون (¬1)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -))، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، ((اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله - عز وجل -)) (¬2). وفي إصابة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد عزاء للدعاة فيما ينالهم في سبيل الله من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم، أو قضاء على حياتهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة قد أوذي وصبر (¬3). المطلب الثاني: صور من شجاعته وإقدامه - صلى الله عليه وسلم - لاشك أن الشجاعة صبر في ساحات القتال والوغى، وفيها ضبط النفس عن مثيرات الخوف حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة ويقبح فيها الجبن ويكون شراً، ومن هذه الصور يجد الإنسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير قدوة وخير مثال في ذلك؛ ولهذا جاهد في سبيل الله: بالقلب، واللسان، والسيف، والسنان، والدعوة والبيان، فقد أرسل ستاً وخمسين سرية وقاد بنفسه سبعاً وعشرين غزوة، وقاتل في تسع من غزواته، ومن ذلك الصور الآتية (¬4): ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم 12/ 150 بتصرف. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من جراح يوم أحد، 7/ 372، برقم 4073، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله، 3/ 1417، برقم 1793. (¬3) السيرة النبوية دروس وعبر، ص116. (¬4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم،12/ 436،والحكمة في الدعوة إلى الله تعالى للمؤلف، ص172.

الصورة الأولى: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في معركة بدر الكبرى:

الصورة الأولى: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في معركة بدر الكبرى: من مواقفه التي تزخر بالحكمة في هذه الغزوة أنه - صلى الله عليه وسلم - استشار الناس قبل بدء المعركة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعرف مدى رغبة الأنصار في القتال؛ لأنه شُرِطَ له في البيعة أن يمنعوه في المدينة مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأبناءهم وأزواجهم، أما خارج المدينة فلم يحصل أي شرط، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يستشيرهم، فجمعهم - صلى الله عليه وسلم - واستشارهم، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فقال وأحسن، ثم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال وأحسن، ثم استشارهم ثانياً، فقام المِقْدَاد فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، [نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، ثم استشار الناس ثالثاً، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله كأنك تريدنا]، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم؛ ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصِلْ حَبْل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرتنا فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنَّ معك،

والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فَخُضْتَهُ لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فأشرق وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسُرَّ بما سمع، ونشَّطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، ولكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)) (¬1). ومن مواقفه العظيمة في بدر: اعتماده على ربه - تبارك وتعالى - لأنه قد علم أن النصر لا يكون بكثرة العدد ولا العدة، وإنما يكون بنصر الله - عز وجل - مع الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله - سبحانه وتعالى -. عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مدَّ يديه، فجعل يهتف بربه (¬2): ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فمازال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه ¬

(¬1) سيقت هذه القصة بالمعنى، وانظر: سيرة ابن هشام،2/ 253، وفتح الباري، 7/ 287، وزاد المعاد، 3/ 173،والرحيق المختوم، ص200،وقد أخرج البخاري مواضع منها. انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، 7/ 287، برقم 3952، وكتاب التفسير، 8/ 273،وأخرج مسلم بعض المواضع من القصة. انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، 3/ 1403، برقم 1779، وانظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 194. (¬2) يهتف بربه، أي: يصيح ويستغيث بالله بالدعاء. انظر: شرح النووي، 12/ 84.

من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدة ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله - عز وجل -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬1) فأمدّه الله بالملائكة (¬2). وقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العريش وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (¬3). وقاتل - صلى الله عليه وسلم - في المعركة، وكان من أشدِّ الخلق وأقواهم وأشجعهم، ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - كما كانا في العريش يُجاهِدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا، وحثا على القتال، وقاتلا بالأبدان جمعاً بين المقامين الشريفين (¬4). وكان أشجع الناس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ((لقد رأَيْتُنَا يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)) (¬5). وعنه - رضي الله عنه - قال: ((كنا إذا حمي البأس، ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون أحدنا أدنى إلى القوم منه)) (¬6). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 9. (¬2) أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير والمغازي، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3/ 1383،برقم 1763،والبخاري مع الفتح بمعناه مختصراً، في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}،7/ 287،برقم 3953،وانظر: الرحيق المختوم، ص208. (¬3) سورة القمر، الآية: 45، والحديث في البخاري مع الفتح، 7/ 287. (¬4) انظر: البداية والنهاية، 3/ 278. (¬5) أخرجه أحمد في المسند، 1/ 86، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/ 143. (¬6) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي،2/ 143،وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية،3/ 279،إلى النسائي.

الصورة الثانية: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد:

الصورة الثانية: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد: من مواقفه في الشجاعة أيضاً، وصبره على أذى قومه ما فعله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد، فقد كان يقاتل قتالاً عظيماً؛ فإن الدولة كانت أول النهار للمسلمين على المشركين، فانهزم أعداء الله وولَّوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، وذلك أنهم ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وتركوا الجبل فكرّ فرسان المشركين فوجدوا الثغر خالياً قد خلا من الرُّماة فجازوا منه، وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولَّى الصحابة، وخلص المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيَّته اليمنى، وكانت السفلى، وهشموا البيضة على رأسه، وقاتل الصحابة دفاعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكان حول النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان من قريش، وسبعة من الأنصار، فقال - صلى الله عليه وسلم - لما رهقوه، وقربوا منه: ((من يردّهم عنَّا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة))، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِلَ، ثم رهقوه أيضاً فقال: ((من يردّهم عنَّا وله الجنة))،فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِلَ، فلم يزل كذلك حتى قُتِلَ السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه: ((ما أنصفنا أصحابنا)) (¬2). وعندما اجتمع المسلمون، ونهضوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الشعب الذي نزل ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، 3/ 196، 199، والرحيق المختوم، ص255، 256. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، 3/ 1415، برقم 1789.

الصورة الثالثة: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في معركة حنين

فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والحارث بن الصّمة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُبَيُّ بن خلف، وهو على جواد له، ويقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا؟ فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتركه، فلما دنا منه تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر ترقوته من فرجةٍ بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً، فلما رجع عدو الله إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير ... قال: قتلني والله محمد، فقالوا له: ذهب والله فؤادك والله إن بك من بأس، قال: إنه قد قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون إلى مكة (¬1). الصورة الثالثة: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في معركة حنين بعد أن دارت معركة حنين والتقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين (¬2)، فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قِبَلَ الكفار ... ثم قال: ((أي عباس، ناد أصحاب السمرة)) فقال عباس- وكان رجلاً صيِّتاً-: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3/ 199، والرحيق المختوم، ص263، وروى قصة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن خلف: أبو الأسود عن عروة بن الزبير, والزهري عن سعيد بن المسيب. انظر: البداية والنهاية لابن كثير،4/ 32،وكلاهما مرسل، والطبري،2/ 67،وانظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص226. (¬2) كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة ففتح بهم. انظر: زاد المعاد، 3/ 468.

فاقتتلوا والكفار ... فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الآن حمي الوطيس)) (¬1). وظهرت شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لا نظير لها في هذا الموقف الذي عجز عنه عظماء الرجال (¬2). وسئل البراء، فقال له رجل: يا أبا عمارة، أكنتم وليتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه خرج شبان أصحابه (¬3) وأخفاؤهم (¬4) حسراً (¬5) ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن، وبني نصر، فرشقوهم رشقاً (¬6)،ما يكادون يخطئون، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبيُّ لا كَذِبْ ... أنا ابنُ عبدِ المطّلبْ اللهم نزِّل نصرك (¬7) ¬

(¬1) مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب: غزوة حنين، وقد اختصرت ألفاظه،3/ 1398،برقم 1775. (¬2) انظر: الرحيق المختوم، ص401، وهذا الحبيب يا محب، ص408. (¬3) جمع شباب. شرح النووي لمسلم، 12/ 117. (¬4) جمع خفيف، وهم المسارعون المستعجلون. شرح النووي لمسلم، 12/ 117. (¬5) حسراً: جمع حاسر، أي بغير دروع، وقد فسره بقوله: ليس عليهم سلاح. شرح النووي لمسلم،12/ 117. (¬6) رشقا: هو بفتح الراء، وهو مصدر، وأما الرشق بالكسر فهو اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة. انظر: شرح النووي، 12/ 118. (¬7) مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، مع التصرف في بعض الكلمات، 3/ 1400، برقم 1776، والبخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته فاستنصر،6/ 150، برقم 2929، 8/ 27، 28، برقم 4317.

قال البراء: كُنَّا والله إذا احمرّ البأس (¬1) نتَّقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وفي رواية لمسلم عن سلمة قال: مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهزماً (¬3)، وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد رأى ابن الأكوع فزعاً)). فلما غشوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: ((شاهت الوجوه)) (¬4)، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولَّوْا مدبرين، فهزمهم الله، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمهم بين المسلمين (¬5). وقد قال العلماء: إن ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - البغلة في موضع الحرب، وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات؛ ولأنه أيضاً يكون معتمداً يرجع الناس إليه، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه، وإنما فعل هذا عمداً، وإلا فقد كانت له - صلى الله عليه وسلم - أفراس معروفة. ومما يدلّ على شجاعته تقدمه - صلى الله عليه وسلم - وهو يركض بغلته إلى جمع المشركين، وقد فرَّ الناس عنه، ونزوله إلى الأرض حين غشوه مبالغة في الشجاعة ¬

(¬1) إذا احمر البأس: كناية عن شدة الحرب، واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة. انظر: شرح النووي، 12/ 121. (¬2) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، 3/ 1401، برقم 1776. (¬3) قال العلماء: قوله: ((منهزماً)) حال من ابن الأكوع، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: شرح النووي، 12/ 122. (¬4) شاهت الوجوه، أي: قبحت. انظر: شرح النووي، 12/ 122. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين،3/ 1402، برقم 1777.

الصورة الرابعة: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في الحماية لأصحابه:

والصبر، وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبر الصحابة - رضي الله عنهم - بشجاعته - صلى الله عليه وسلم - في جميع المواطن (¬1). الصورة الرابعة: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في الحماية لأصحابه: روى البخاري ومسلم، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فَزِعَ أهل المدينة ذات ليلةٍ، فانطلق الناس قَبِلَ الصوت، فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: ((لم تراعوا، لم تراعوا))،وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: ((لقد وجدته بحراً، أو إنه لبحر)) (¬2). وهذا المثال وغيره من الأمثلة السابقة تدل دلالة واضحة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشجع إنسان على الإطلاق، فلم يكتحل الوجود بمثله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شهد له بذلك الشجعان الأبطال (¬3). قال البراء - رضي الله عنه -: ((كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). وقال أنس في الحديث السابق: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 12/ 114. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل، 10/ 455، برقم 2908، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدمه للحرب، 4/ 1802، برقم 2307. (¬3) انظر: رواية علي بن أبي طالب في شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسند أحمد 1/ 86، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/ 143. (¬4) أخرجه مسلم، 3/ 1401، برقم 1776، وتقدم تخريجه.

الصورة الخامسة: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - العقلية:

الناس، وأشجع الناس ... )) (¬1). الصورة الخامسة: شجاعته - صلى الله عليه وسلم - العقلية: كانت هذه الشواهد السابقة لشجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فسأكتفي بشاهدٍ واحدٍ؛ فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد، وهو موقفه من تعنّت سهيل بن عمرو، وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذْ تنازل - صلى الله عليه وسلم - عن كلمة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) إلى باسمك اللهم، وعن كلمة ((محمد رسول الله)) إلى كلمة: محمد بن عبد الله، وقبوله شرط سهيل على أن لا يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من قريش حتى ولو كان مسلماً إلاّ ردّه إلى أهل مكة، وقد استشاط الصحابة غيظاً، وبلغ الغضب حدًّا لا مزيد عليه، وهو - صلى الله عليه وسلم - صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان بعد أيام فتحاً مبيناً. فضرب - صلى الله عليه وسلم - بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية، والعقلية، مع بُعد النظر، وأصالة الرأي، وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضرّه بأصل قضيته لتحقيق أشياء أعظم منها (¬2). وجميع ما تقدم من نماذج من شجاعته - صلى الله عليه وسلم - وثباته، وهذا نقطة من بحر، وإلا فإنه لو كُتِبَ في شجاعته - صلى الله عليه وسلم - بالاستقصاء لكُتِبَ مجلدات، فيجب على كل مسلم، وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل - أن يتخذوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوةًَ في ¬

(¬1) انظر: البخاري، برقم 2908، ومسلم، برقم 2307، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: وثيقة صلح الحديبية كاملة في البخاري مع الفتح، 5/ 329، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، برقم 4180، 4181، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم 1873، وشرح الوثيقة في الفتح، 5/ 333 - 352، ومسند أحمد، 4/ 328 - 331، وانظر: هذا الحبيب يا محبّ، ص532.

المطلب الثالث: صور من صبر الصحابة - رضي الله عنهم -

كل أحوالهم وتصرفاتهم، وبذلك يحصل الفوز والنجاح، والسعادة في الدنيا والآخرة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬1). المطلب الثالث: صور من صبر الصحابة - رضي الله عنهم - الصحابة - رضي الله عنهم - لهم مواقف كثيرة جدًّا لا يستطيع أحد أن يحصرها؛ لأنهم - رضي الله عنهم - باعوا أنفسهم، وأموالهم وحياتهم لله، ابتغاء مرضاته، وخوفاً من عقابه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة. ومن درس حياتهم، ونظر إلى تطبيقاتهم للإسلام قولاً، وعملاً، واعتقاداً ازداد إيماناً، وأحبهم؛ فيحصل له بذلك محبة الله تعالى. الصورة الأولى: صبر بلال: بلال بن رباح - رضي الله عنه - كان يعذبه أمية بن خلف على توحيده وإيمانه بالله - تعالى - وقد عذّبه أشد العذاب، ومن ذلك أن أمية كان يُخرجُ بلالاً إذا حميت الشمس في الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أَحدٌ أحدٌ، فمر به أبو بكر فاشتراه. وهذه الكلمة التي زعزعت كيان أمية بن خلف (¬2). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة،1/ 165،وسيرة ابن هشام،1/ 340،وسير أعلام النبلاء، 1/ 37.

الصورة الثانية: صبر آل ياسر:

الصورة الثانية: صبر آل ياسر: وهذا عمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأمه سُميّة - رضي الله عنهم - يُعذبون أشد العذاب من أجل إيمانهم بالله - تعالى -، فلم يردَّهم ذلك العذاب عن دينهم؛ لأنهم صدقوا مع الله فصدقهم الله - تعالى - ولهذا قيل لهم: ((صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)) (¬1) فرضي الله عنهم وأرضاهم (¬2). الصورة الثالثة: صبر صُهيب: وهذا صُهيب الرومي - رضي الله عنه - أراد الهجرة فمنعه كفار قريش أن يُهاجر بماله، وإن أحب يتجرّد من ماله كلِّه ويدفعه إليهم تركوه وما أراد، فأعطاهم ماله ونجا بدينه مهاجراً إلى الله ورسوله، وأنزل الله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (¬3)، فتلقاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية (¬4). الصورة الرابعة: صبر أبي سلمة وزوجته: وهذا عبد الله بن عبد الأسد أبو سلمة وزوجته أم سلمة رضي الله عنهما ¬

(¬1) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 3/ 388، وانظر: مجمع الزوائد، 9/ 293، وقال: ((رجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم))، وانظر: الإصابة، 2/ 512. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 406، والإصابة، 2/ 512، وسيرة ابن هشام، 1/ 342. (¬3) سورة البقرة، الآية: 207. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 248، وسير أعلام النبلاء، 2/ 17 - 26، والإصابة، 2/ 195.

يصبران على البلاء العظيم ويقفان الموقف الحكيم الذي يدل على صدقهما مع الله (¬1). كان أبو سلمة أول من هاجر من مكة إلى المدينة، قبل العقبة الثانية بسنة تقريباً. بعد أن رجع أبو سلمة وزوجته أم سلمة من الهجرة إلى الحبشة آذته قريش، وعلم بإسلام من أسلم من الأنصار، فقرر الهجرة إلى المدينة - فراراً بدينه - فحمل زوجته أم سلمة، وابنهما سلمة وقاد بهما راحلته وخرج متجهاً إلى المدينة وقبل أن يخرج من مكة لحقه رجال من بني مخزوم فقالوا له: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيتك صاحبتك هذه عَلامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا الراحلة وعليها أم سلمة وابنه سلمة، وغضب لذلك رجال من بني عبد الأسد وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من بني صاحبنا فتجاذب بنو مخزوم وبنو عبد الأسد الطفل حتى خُلِعَت يده، وأخذه بنو عبد الأسد وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم، وانطلق أبو سلمة إلى المدينة هارباً بدينه. قالت أم سلمة: ففرَّقوا بيني وبين زوجي وبيني وبين ابني، فكنت أخرج كل غداة إلى الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، وذلك سنة أو قريباً منها حتى مرّ بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 150، والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 335، والبداية والنهاية لابن كثير، 4/ 90.

الصورة الخامسة: صبر عبد الله بن حذافة:

المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وردّ بنو عبد الأسد عند ذلك ابني فارتحلت ببعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله (¬1). الله أكبر ما أعظم هذا الموقف وما أحكمه: فقد ترك أبو سلمة زوجته وابنه، وماله، وهاجر بنفسه تاركاً نصفه وراءه من أجل دينه ويتجاذب بنو عبد الأسد وبنو المغيرة بن أم سلمة، ويخلعون يده وهي تنظر، وتحبس من أجل دينها، وتبكي كل يوم في الأبطح سنة أو قريباً منها، إنه موقف عظيم وبلاء كبير أسفر عن قوة الإيمان والصدق مع الله، فنسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، ورضي الله عن أبي سلمة وزوجته وأرضاهما، فقد جاهدا في الله، وأُوذيا في الله، وصبرا في الله، والله المستعان. الصورة الخامسة: صبر عبد الله بن حذافة: وعندما ينظر الإنسان في موقف عبد الله بن حذافة بن قيس - رضي الله عنه - عندما حاول ملك الروم أن يصدّه عن دينه يرى الموقف الحكيم، والرجل العظيم! وجَّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى مَلِكِهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال: هل لك أن تتنصَّر وأُعطيك نصف ملكي؟ قال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين، قال: إذاً أقتلك. قال: أنت وذاك، فأُمِرَ به فصُلِبَ وقال للرماة: ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 77، والبداية والنهاية، 3/ 169، والرحيق المختوم، ص150، وهذا الحبيب يا محبّ، ص151.

ارموه قريباً من بدنه، وهو يعرض عليه ويأبى ولم يجزع، فأنزله، وأمر بقدر فصُبَّ فيه ماء وأُغليَ عليه حتى احترقت، ودعا بأسيريْنِ من المسلمين، فأمر بأحدهما، فأُلقي فيها فإذا عظامه تلوح، وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، فأمر بإلقائه في القدر إن لم يتنصّر، فلما ذهبوا به بكى، فقيل للمَلِك: إنه بكى، فظن أنه قد جزع، فقال: رُدُّوه، فقال: ما أبكاك؟ قال: قلت هي نفس واحدة تُلقى الساعة فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تُلقى في النار في الله، فتعجب الطاغية فقال له: هل لك أن تُقبّل رأسي وأُخلِّي عنك؟ فقال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبّل رأسه، فخلّى عنهم، وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره. فقال عمر: حقٌّ على كلِّ مسلم أن يُقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأُ. فقبَّل رأسه (¬1). هذا موقف عظيم حكيم؛ فإن عبد الله - رضي الله عنه - ثبت على دينه، ولم يقبل سواه، ولو أُعطي ملك كسرى ومثله معه، وملك العرب جميعاً، ثم لصدقه مع الله لم يجزع من الرّماة عندما رموه وهو مصلوب، ولم يجزع من القِدْرِ والماء المغليّ وقد رأى من يُلقى في النار من الأسرى وعظامه تلوح، ومع ذلك تمنَّى أن يكون له عدد شعره من الأنفس تعذب في الله ومن أجل الله، وعندما رأى أن المصلحة عامة لجميع الأسرى قبَّل رأس الطاغية؛ لكي يخرج المسلمين من الأسر، وهذا من أعظم الحكم العظيمة. فرضي الله عن عبد الله بن حُذافة وأرضاه. ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 2/ 14، والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 269.

الصورة السادسة: صبر خبيب:

الصورة السادسة: صبر خبيب: ومن هذه المواقف العظيمة التي تدل على قوة الإيمان والرغبة فيما عند الله والدار الآخرة، ما فعله الصحابي الجليل: خبيب بن عدي بن عامر - رضي الله عنه - عندما أسرته كفار قريش وعذبته فثبت حتى قُتِلَ شهيداً - رضي الله عنه -. قالت بعض بنات الحارث بن عامر: والله ما رأيت أسيراً قطُّ خيراً من خبيب والله لقد وجدته يوماً يأكل قِطفاً من عنبٍ في يده وإنه لمُوثَقٌ بالحديد وما بمكة من ثمرة. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيبٌ: دعوني أصلي ركعتين فتركوه فركع ركعتين فقال والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدت. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً, واقتلهم بَدَداً، ولا تبق منهم أحداً، ثم أنشأ يقول: فلستُ أُبالي حين أقتلُ مسلماً ... على أيِّ جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يُبارك على أوصالِ شِلوٍّ ممزّعِ ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو الذي سن لكلِّ مسلم قُتِلَ صبراً الصلاة (¬1). الصورة السابعة: صبر سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: وهذا سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - تَعْرض أمه عليه أن يكفر بدين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحلفت أن لا تكلمه، ولا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيعيّر بها، فيقال: يا قاتل أمه! وقالت له: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل، 6/ 166، برقم 3045، وكتاب المغازي، باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي، 7/ 308، برقم 3989، 7/ 378، 13/ 381، وانظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 246.

الصورة الثامنة: صبر أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها:

آمرك بهذا. قال سعد: لا تفعلي يا أُمّه إني لا أدع ديني هذا لشيء. فبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب، فلما رأى سعد بن أبي وقاص ذلك منها قال لها: يا أُمّه، تعلمين والله لو كان لك مائة نفسٍ، فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني، إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت (¬1). قال سعد - رضي الله عنه -: نزلت هذه الآية فيّ: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬2)، وقد جعل الله سعداً مستجاب الدعوة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم استجب لسعد إذا دعاك)) (¬3). الصورة الثامنة: صبر أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها: ومن ذلك ما فعلته أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان؛ أم المؤمنين رضي الله عنها، وذلك أن أباها قدم من مكة إلى المدينة يريد أن يزيد في الهدنة بينه وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما دخل على بنته أم حبيبة رضي الله عنها وذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته دونه، فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر (¬4)، قلت: والله لم يصبها إلا قوة ¬

(¬1) انظر: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن أبي وقاص، 4/ 1877، برقم 1748، مختصراً بمعناه، وأحمد، 1/ 181 - 182، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة العنكبوت، 5/ 341، برقم 3189، وانظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 109. (¬2) سورة لقمان، الآية: 15. (¬3) الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، 5/ 649، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 3/ 498، وسنده صحيح. انظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 111. (¬4) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 306، وعزاه بإسناده إلى ابن سعد. وانظر أيضاً: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 135.

الصورة التاسعة: صبر أنس بن النضر - رضي الله عنه -:

الإيمان ومحبة الله ورسوله، فقدَّمت محبة الله ورسوله على محبة والدها المشرك ولم ترضَ أن يجلس المشرك على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرضي الله عن أم المؤمنين؛ فإنها لم تأخذها في الله لومة لائم، وهذا من أعظم الحكم. والصحابة رضي الله عنهم جميعاً رجالاً ونساءً، كانت أعمالهم وحياتهم، ومماتهم لله لا يريدون، ولا يرغبون إلا ما يرضيه - تعالى - حتى ولو كان ذلك ببذل أحبّ الأشياء إليهم. الصورة التاسعة: صبر أنس بن النضر - رضي الله عنه -: عن أنس - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يارسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلتَ فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليريَنّ الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين -، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين-، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فقاتلهم حتى قتل. قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة: من بين ضربة بسيف وطعنة برمح، ورمية بسهم وقد مَثَّلوا به، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه. ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (¬1). قال فكنا نقول: نزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه (¬2). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 23. (¬2) البخاري مع الفتح في كتاب الجهاد، باب قول الله - عز وجل -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}، 6/ 21، برقم 2805، 7/ 354، برقم 4048،. وانظر: البخاري مع الفتح، 8/ 518، برقم 4783، والبداية والنهاية، 4/ 31 - 34، والإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 74، وهذا الحبيب يا محب، ص269.

الصورة العاشرة: صبر عمير بن الحمام:

الصورة العاشرة: صبر عمير بن الحُمَام - رضي الله عنه -: ويدل على رغبة الصحابة - رضي الله عنهم - فيما عند الله ما فعل عُمير بن الحُمام في بدر حينما سمع رسول الله يقول لأصحابه: ((قومُوا إلى جَنّةٍ عرضُهَا السّموات والأرضُ)) فقال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم)). قال: بخ بخ (¬1)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يحملك على قولك بخ بخ؟))، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات من قرنه (¬2) فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل من تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل (¬3). وهذه النماذج تدل على صبر الصحابة وحكمتهم العظيمة، وصدقهم مع الله ورغبتهم فيما عنده - سبحانه - من الثواب وزهدهم في الدنيا. والصحابة - رضي الله عنهم - لهم مواقف حكيمة كثيرة لا تُحْصَى، ولكن ما ذكرته هنا من مواقفهم ما هو إلا بعض الأمثلة اليسيرة من المواقف الحكيمة التي تدل على حكمتهم ويستفيد منها الدعاة إلى الله -تعالى -. وأسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا. والله المستعان. ¬

(¬1) كلمة تقال لتعظيم الأمر وتفخيمه في الخير. انظر: شرح النووي، 13/ 45. (¬2) أي جعبة النشاب. انظر: شرح النووي، 13/ 46. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1510، برقم 1901.

المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر

المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر المطلب الأول: الطرق العامة لتحصيل الصبر لا يشك ذو مسكة عقل أن الصبر مرُّ المذاق، صعب على النفس البشرية لأنه يُعطِّلها عن مألوفاتها، ورغباتها، لذلك فلابدَّ من تعويدها عليه شيئاً فشيئاً حتى تستسيغه وتعضّ عليه بالنواجذ عند المصائب والفتن. وسأبيّن جملة من الأمور التي تعين على الصبر، وتهوّنه على النفس، وهي على النحو الآتي: أولاً: معرفة طبيعة الحياة الدنيا: لعل أقرب أمر يعين الإنسان على الصبر ويحمل النفس عليه هو تصوّر الحياة التي يعيش فيها، ومعرفتها على حقيقتها وواقعها، فهي ليست جنة نعيم، ولا دار مُقامة، إنما ممرّ ابتلاء وتكليف؛ لذلك فالكَيِّس الفطن لا يفاجأ بكوارثها، فالشيء من معدنه لا يستغرب. ولله دَرُّ القائل: إن لله عباداً فُطَنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفِتَنا نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحيٍّ وَطَنا جعلوها لُجَّةً واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سُفُنا ورب العالمين يشير إلى أن حياة الإنسان محفوفة بالمخاطر مملوءة بالمتاعب في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة البلد، الآية: 4.

ثانيا: اليقين بحسن الجزاء عند الله:

فها هي الدنيا كما وصفت لا تستقيم على حال، ولا يقر لها قرار، فيوم لك وآخر عليك، قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬1). وقد أحسن أبو البقاء الرندي القائل: لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغرّ بطيب العيش إنسان هي الأيام كما شاهدتها دول ... من سره زمان ساءته أزمان وليعلم العبد الصالح أنه لو فتش العالم لم يجد إلا مبتلى: إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نائم، وظل زائل، وسحابة صيف، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرّت يوماً أساءت دهراً، وإن متّعت قليلاً، منعت طويلاً. ثانياً: اليقين بحسن الجزاء عند الله: إذا علم العبد أن الصابرين ينتظرهم أحسن الجزاء عند الله حين يرجعون إليه، ويقفون بيديه، فيعوضهم عن صبرهم خيراً، ويمنحهم أجراً، ويجزل لهم المثوبة، فإنه لاشك يتصبّر ويرضى بما قدّره الله. ولا يجد المتتبع لآيات القرآن الكريم شيئاً ضُخِّمَ جزاؤه، وعُظِّم أجره مثل الصبر. فهاهو يتحدث عن هذا الأجر بأسلوب المدح والتفخيم: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 140. (¬2) سورة العنكبوت، الآيتان: 58 - 59.

ثالثا: معرفة الإنسان نفسه:

ويُبيِّن أن جزاءهم يكون بأحسن ما كانوا يعملون: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1). ويصرّح أن أجر الصابرين غير معدود، ورزقهم غير محدود: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2). ثالثاً: معرفة الإنسان نفسه: الله - سبحانه وتعالى - هو الذي منح الإنسان الحياة؛ فخلقه من عدم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخراً، لذلك فإذا نزل بالعبد نازل سلبه شيئاً مما عنده، فإنما استردّ صاحب الملك بعض ما وهب، ولا ينبغي للمودَع أن يسخط على صاحب العارية إذا استردَّها. وصدق لبيد بن ربيعة - رضي الله عنه - القائل: وما المالُ والأَهلون إلا ودائعٌ ... ولابدّ يوماً أن تُردَّ الودائع وفي قصة أم سُلَيم مع زوجها أبي طلحة دليل واضح على فهم السلف الصالح - رضوان الله عليهم - لهذه الحقيقة حيث عرفوا أنفسهم فعرفوا مقام ربهم وقدَّروه حقَّ قدره. عن أنس - رضي الله عنه - قال: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سُلَيم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 96. (¬2) سورة الزمر، الآية: 10.

قال: فجاء فَقَرَّبَتْ إليه عشاءً فأكل وشرب، قال: ثم تَصَنَّعتْ له أحسن ما كان تصنَّعُ قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها. قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. قال: فغضب، وقال: تركتِني حتى تلطَّختُ ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بارك الله لكما في غابر ليلتكما)). قال: فحملت، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طُرُوقاً فدنوا من المدينة فضربها المخاض فاحتبس عليها أبو طلحة وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج وأدخل معه إذا دخل وقد احتبست بما ترى. قال: تقول أم سُلَيم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد انطلق، فانطلقنا. قال: فضربها المخاض حين قدما فولدت غلاماً. فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فصادفته

ومعه ميسم فلما رآني قال: ((لعل أم سُلَيم ولدت)). قلت: نعم، فوضع الميسم. وقال: وجئت به فوضعته في حجره ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعجوة من عجوة المدينة فَلاكَها في فيه حتى ذابت ثم قَذَفَها في الصبي يتلمظها. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انظروا إلى حُبِّ الأنصار التَّمْر)). قال: فمسح وجهه وسمّاه ((عبد الله)). [قال سفيان: قال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن] (¬1). وهذه المعاني قبس من قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (¬2). هذه الكلمة الطيبة تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلّى عن مصيبته: 1 - أن العبد وأهله وماله ملك لله - عز وجل - حقيقة. 2 - أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ليوفيه حسابه. فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده أعظم معين على التحلِّي بالصبر عند الشدائد والمصائب والمحن والفتن، فاللهم ثبتنا بالقول ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة، برقم 1301، 3/ 169، و9/ 587، ومسلم مع النووي، 16/ 11، برقم 2144، وما بين المعقوفين للبخاري الموضع الأول. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 155 - 156.

رابعا: اليقين بالفرج:

الثابت في الحياة الدنيا والآخرة. رابعاً: اليقين بالفرج: لا يشك العاقل أن نصر الله قريب، وفرجه آتٍ لا ريب فيه، وأن بعد الضيق سعة، ومع العسر يسراً؛ لأن الله وعد بهذا، والله لا يخلف الميعاد. هذا اليقين جدير أن يبدد ظلمة القلق، ويقهر شبح اليأس، ويضيء نفس المؤمن بنور الصبر الذي لا يخبو. ولذلك ورد الصبر في كتاب الله مقروناً بأن وعد الله حق كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (¬1). وقوله جل شأنه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (¬2). وقد وعد الله عباده الصابرين بقرب الفرج في صور، منها: الأولى: الوعد بالسعة بعد الضيق، والرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر، وفي هذا يقول جل وعلا: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (¬3). ولم يكتف الخالق - سبحانه وتعالى - أن جعل اليسر بعد العسر، بل جعله في موطن آخر معه وبصيغة التأكيد حيث قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬4). ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 60. (¬2) سورة غافر، الآية: 55. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 7. (¬4) سورة الشرح، الآيتان: 5، 6.

وفي هذه الآيات يتجلى أمران: 1 - تحقق اليسر بعد العسر تحققاً قريباً حتى كأنه معه ومتصل به، حتى لو دخل العسر جحر ضب لتبعه اليسر، ولن يغلب عُسرٌ يُسرَين. 2 - إن مع العسر يسراً بالفعل، ولكن قد يكون ملموساً أو مكنوناً، ففي كل قدر لطف، وفي كل بلاء نعمة. ولا يشكّ مؤمن عرف ربه وآمن به أن الله يُقدِّر ويلطف: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬1)؛ لأنه أعلم بمن خلق وأرحم بهم من أنفسهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬2). الثانية: الوعد بحسن العاقبة، والعبرة بالعواقب، والمدار على الخواتيم. قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). ولقد أحسن القائل: اشتدّي أزمة تنفرجي ... قد آذن ليلك بالبلج ولله درّ القائل: ولرُبَّ نازلةٍ يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرجُ ضاقت فلمّا استحكمتْ حلقاتُها ... فُرِجت وكنت أظنها لا تُفرَجُ الثالثة: الوعد بحسن العوض عما فات، فإن الله لا يضيع أجر من ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 100. (¬2) سورة الملك، الآية: 14. (¬3) سورة هود، الآية: 49.

خامسا: الاستعانة بالله:

أحسن عملاً. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬1). خامساً: الاستعانة بالله: إذا استعان العبد بربه ولجأ إلى حماه شعر بالطمأنينة في قلبه، والسكينة تملأ جوارحه، فمن كان في حمى الله فلن يضام. قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ} (¬2). ومن كانت معيّة الله معه، وعين الله ترعاه، فهو حقيق أن يتحمل المتاعب، ويصبر على الأذى. سادساً: التأسّي بأهل الصبر والعزائم: إن التأمّل في سِير الصابرين، وما لاقوه من ألوان الشدائد، وما ذاقوه من صنوف البلاء يعين على الصبر، ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي. ومن هنا حرص القرآن الكريم والسنة النبوية على ذكر قصص الأنبياء والصالحين تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وتثبيتاً لقلوبهم في مواجهة البلاء والفتن. قال تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة النحل، الآيتان: 41 - 42. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 128. (¬3) سورة هود، الآية: 120.

سابعا: الإيمان بقدر الله وقضائه:

ويجيء الخطاب الرباني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (¬1). فإذا ضاق صدره بما يفعلون، وأدركه الحزن عليهم مما يمكرون، وجد في صبر إخوانه من المرسلين ما يشد أزره، ويمضي عزمه، ويذهب همه، فهو ليس بدعاً مما أصاب الرسل من قبله، يقول الله - عز وجل -: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (¬2). سابعاً: الإيمان بقدر الله وقضائه: على المسلم أن يعلم علم اليقين أن قدر الله نافذ لا محالة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬3)، {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). إن الركون للصبر في مثل هذا المقام أمر محمود بل واجب لأن مقادير الله نافذة سواء رضي العبد أم سخط، صبر أم جزع، ولكن العاقل ينبغي ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 35. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 34. (¬3) سورة الحديد، الآيتان: 22 - 23. (¬4) سورة التغابن، الآية: 11.

أن يتحلى بالصبر حتى لا يحرم المثوبة، وإلا ستؤول به السنن الكونية إلى صبر الاضطرار الذي لا قيمة له في دين الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬1). وذلك لأن العبد إن صبر إيماناً واحتساباً نفذت فيه المقادير وله الأجر، وإن جزع وهلع وتبرّم سلا سَلْوَ البهائم ونفذت فيه المقادير، وعليه الوزر. إن التسليم بالقدر هو مقتضى العقل والدين معاً، وإلا فليفعل ما يشاء من إظهار الكآبة والمبالغة في التوجع والتشكي، ولن يغيِّر من الواقع شيئاً، ولن يبدِّل سنن الله في الكون، وإنما يزيد نفسه كمداً وغماً، وحسرة. وانظر أيها العبد الصالح كيف يقرّر الله هذه الحقيقة مخاطباً رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين آذاه موقف قريش وتكذيبها له: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬2). وقال الله - عز وجل - للقانطين من رحمة الله اليائسين من نصره: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ ¬

(¬1) البخاري مع الفتح،3/ 148،برقم 1283،ومسلم مع النووي،6/ 227،برقم 926،وتقدم تخريجه. (¬2) سورة الأنعام، الآيات: 33 - 35.

ثامنا: استصغار المصيبة:

فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (¬1). ثامناً: استصغار المصيبة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس أيما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أُصيب فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)) (¬2). وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزيه عن ابن له يقال له: محمد، فنظم الحديث الآنف شعراً فقال: اصبر لكل مصيبةٍ وتجلّدِ ... واعلم بأن المرء غير مُخلّدِ وإذا ذكرت محمداً ومصابَهُ ... فاذكر مصابك بالنبي محمّدِ تاسعاً: الحذر من الآفات العائقة في الطريق: لابدَّ للناس عامة، وللمؤمنين خاصة، ولحملة الدعوة على وجه أخص أن يحذروا من الآفات النفسية التي تعتري النفس البشرية فتعيق الصبر وتعترض طريقه وهي: 1 - الاستعجال: الإنسان مولع بالعاجل لأنه خلق من عجل؛ لقوله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 15. (¬2) أخرجه ابن ماجه واللفظ له، في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم 1599، والدارمي، 1/ 40، وابن سعد، 2/ 275 وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 267، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 97، برقم 1106. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 37.

2 - الغضب:

فإذا أبطأ الخير عن الإنسان نفد صبره، وضاق صدره ناسياً أن لكل أجل كتاباً مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة الخلق. وليعلم العبد أن لكل ثمرة أواناً لنضوجها، فيحسن عندئذٍ قطافها، والاستعجال لا ينضجها بل يهلكها، وقديماً قيل: ((من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه)). ولهذا خاطب الله رسوله قائلاً: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (¬1). والاستعجال من سنن المشركين لجهلهم وسفههم فقد كانوا يستعجلون عذاب الله غروراً وعناداً، فردّ عليهم ربهم بما يقطع دابرهم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (¬2). 2 - الغضب: قد يرى المسلم ما يكره، ويسمع ما يؤذيه فيستفزّه الغضب إلى الإعراض عن الناس والنفور منهم، ومن ثم إلى اليأس والقنوط وهما آفة الصبر. فيجب على المسلم أن يصبر على أذى الناس وإعراضهم عن دعوته، ويعاودهم المرة بعد المرة عسى أن يهدي الله به رجلاً واحداً، فيكون خيراً له مما طلعت عليه الشمس. ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 35. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 53.

3 - الضيق:

3 - الضيق: قال تعالى لرسوله الكريم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (¬1). وقال جل شأنه: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬2). إن الإيمان والكفر والهدى والضلال لا يستطيع الإنسان أن يجلبها لمن أحب ويدفعها عنه، وإنما عليه التذكير والنصيحة والبيان والبلاغ. 4 - اليأس: اليأس آفة الصبر الكبرى، لأنها تطفئ سراج الأمل، فيترك العبد العمل، ويخلد إلى الكسل. ولهذا حرص القرآن الكريم والسنة المطهرة على غرس بذور الأمل في نفوس المؤمنين. قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬3). وقال - جل جلاله - مخبراً عن موسى وقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 127. (¬2) سورة هود، الآية: 12. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 139.

المطلب الثاني: طرق تحصيل الصبر عن المعاصي

قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (¬1). وعلى منهج القرآن في إضاءة شعلة الأمل أمام المؤمنين درج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه خبّاب بن الأرتّ - رضي الله عنه - يشكو ما يلاقيه المؤمنون من أذى المشركين شكوى تحمل معنى الضيق والتبرّم والاستعجال، فضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً فقال: ((لقد كان من قبلكم ليُمشّط بمشاط من حديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمَّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حَضر مَوت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)) وفي رواية: ((ولكنكم تستعجلون)) (¬2). وما ذلك إلا لأن الأمل أعظم معين على الصبر على طول الطريق وقلة الرفيق، وخاصة في زمن الغربة، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وعافنا واعفُ عنا (¬3). المطلب الثاني: طرق تحصيل الصبر عن المعاصي الصبر عن المعاصي والسيئات ينشأ من أسباب عديدة، منها على سبيل المثال ما يأتي: أولاً: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 128 - 129. (¬2) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، برقم 3852. (¬3) انظر: الصبر الجميل للشيخ سليم بن عيد الهلالي، ص55 - 70، ودعوة الحق، العدد 54 ص151 - 160، والصبر في القرآن للدكتور يوسف القرضاوي، 91 - 112.

ثانيا: الحياء من الله سبحانه

صيانة وحماية عن الدَّنايا والرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد العذاب. ثانياً: الحياء من الله سبحانه؛ فإن العبد متى علم بنظر الله إليه، ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وكان حييّاً استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه. ثالثاً: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك؛ فإن الذنوب تزيل النعم ولابدَّ، فما أذنب عبدٌ ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب ورجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصرّ لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة نعمة حتى تسلب النعم كلها، كما قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1)، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبه يزيل النعم ويسلبها. قال بعض السلف: أذنبتُ ذنباً فحُرِمتُ من قيام الليل سنة. وقال آخر: أذنبتُ ذنباً فحُرِمتُ فهم القرآن. وفي مثل هذا قيل: إذا كنتَ في نعمة فارْعَهَا ... فإنّ المعاصي تُزيل النعم وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب، عياذاً ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 11. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 53.

رابعا: خوف الله وخشية عقابه

بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفُجاءة نقمته، وجميع سخطه. رابعاً: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله، وهذا السبب يَقْوَى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1). خامساً: محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع. سادساً: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطّها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوّي بينها وبين السفلة. سابعاً: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشئ منها: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمّه، وحزنه وألمه، وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه، وتمزّق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوّه؛ فإن الذنوب تميت القلوب، والعبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت نكتة أخرى، ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران قال الله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 38. (¬2) سورة المطففين، الآية: 14.

ثامنا: قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله

في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته. ثامناً: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو عازم على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضرّه ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضرّ من التسويف وطول الأمل. تاسعاً: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعدّاه إلى الحرام، وأعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعه شغلته بما يضره ولابد. عاشراً: ثبات شجرة الإيمان في القلب، وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر. والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم. المطلب الثالث: طرق تحصيل الصبر على الطاعات والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة أسباب الصبر عن المعاصي السابقة، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبة، فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة لله تعالى، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.

المطلب الرابع: طرق تحصيل الصبر على المصيبة والبلاء وأقدار الله المؤلمة

المطلب الرابع: طرق تحصيل الصبر على المصيبة والبلاء وأقدار الله المؤلمة كثيرة، منها الطرق الآتية: أولاً: معرفة جزائها وثوابها (¬1). ثانياً: العلم بتكفيرها للسيئات ومحوها لها (¬2). ثالثاً: الإيمان بالقدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يُخلق فلابد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء. رابعاً: معرفة حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلابد له منه وإلا تضاعف عليه. خامساً: العلم بترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير} (¬3). فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم أسباب دفع تلك المصيبة. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة)) (¬4). سادساً: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها وأن ¬

(¬1) انظر: الدعاء والعلاج بالرقى للمؤلف، ص127 - 131؛ فإن فيه أدلة من الكتاب والسنة على علاج المصيبة ينبغي أن يستحضرها من أصيب بمصيبة، وانظر أيضاً: تبريد حرارة المصيبة للمؤلف. (¬2) انظر: تبريد حرارة المصيبة للمؤلف، وزاد المعاد، 4/ 188 - 196. (¬3) سورة الشورى، الآية: 30. (¬4) ذكره الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين، ص457 وبحثت عنه كثيراً فلم أجد من خرجه.

سابعا: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع

العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوفِّ قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق. سابعاً: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً. ثامناً: أن يعلم أن في عُقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1)، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬2). تاسعاً: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه؛ فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. عاشراً: أن يعلم أن الله يربِّي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال؛ فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال وقال: ((اللهم أعني على ذكرك ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 216. (¬2) سورة النساء، الآية: 19.

وشكرك وحسن عبادتك)) (¬1). فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر. نسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنّه وكرمه (¬2). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الاستغفار، برقم 1522، والنسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء، برقم 1302، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 690، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 284، وفي صحيح الأدب المفرد، برقم 533. (¬2) انظر: كتاب طريق الهجرتين، وباب السعادتين لابن القيم، ص448 - 459، وانظر: زاد المعاد، له، 4/ 188 - 196، وعدة الصابرين، له أيضاً، ص76 - 86.

الفصل السابع: الإخلاص والصدق

الفصل السابع: الإخلاص والصدق المبحث الأول: مفهوم الإخلاص. المبحث الثاني: أهمية الإخلاص. المبحث الثالث: النية أساس العمل. المبحث الرابع: خطر الرياء وأنواعه وأقسامه. المبحث الخامس: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء. المبحث السادس: الصدق.

المبحث الأول: مفهوم الإخلاص

المبحث الأول: مفهوم الإخلاص الإخلاص في اللغة: خَلَصَ يخلص خلوصاً: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصاً: أي نجَّاه، والإخلاص في الطاعة ترك الرياء (¬1). وحقيقة الإخلاص: هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى الله تعالى وحده. وقد ذكر أهل العلم تعريفات بعضها قريب من بعض: فقيل: الإخلاص: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة. وقيل: الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره. وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه (¬2). وعلى ما تقدم: يتضح أن الإخلاص: صرف العمل والتقرب به إلى الله وحده، لا رياءً ولا سمعة، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً، وإنما يرجو ثواب الله ويخشى عقابه ويطمع في رضاه. ولهذا قال القاضي عياض: ((ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما)) (¬3). ¬

(¬1) المعجم الوسيط، 1/ 249، ومختار الصحاح، ص77. (¬2) مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 91. (¬3) انظر: المرجع السابق، 2/ 91.

والإخلاص في حياة الداعية: أن يقصد بإراداته، وأعماله، وأقواله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه الله تعالى وحده لا شريك له ولا ربَّ سواه.

المبحث الثاني: أهمية الإخلاص

المبحث الثاني: أهمية الإخلاص لقد خلق الله الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1). وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬2). وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬3). وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} (¬4). قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا يعلى: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: ((إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاًَ لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (¬5). ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ ¬

(¬1) سورة البينة، الآية: 5. (¬2) سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3. (¬3) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163. (¬4) سورة الملك، الآية: 2. (¬5) مدارج السالكين، 2/ 89.

بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1). وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬2)، فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه: متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته)) (¬3). وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم)) (¬4). والإخلاص هو روح عمل الداعية، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهد الداعية وعمله هباءً منثوراً. والإخلاص من أهم أعمال القلوب باتفاق أئمة الإسلام، ولاشك أن أعمال القلوب هي الأصل: لمحبة الله ورسوله، والتوكل عليه، والإخلاص له، والخوف منه، والرجاء له، وأعمال الجوارح تبع؛ فإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهمّ من معرفة أحكام الجوارح. فيجب على الداعية أن يكون مخلصاً لله - عز وجل - لا يريد رياءً ولا سمعة، ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 110. (¬2) سورة النساء، الآية: 125. (¬3) مدارج السالكين، 2/ 90. (¬4) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب الحث على تبليغ السماع، برقم 2658، وابن ماجه، المقدمة، باب من بلغ علماً، برقم 230، وأحمد، 5/ 183، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، 1/ 78.

ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجه الله - تعالى - كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله} (¬1)، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله} (¬2). والإخلاص أعظم الصفات التي تجب على الدعاة فيريدوا بدعوتهم وجه الله والدار الآخرة، ويريدوا إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور (¬3). ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 108. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33. (¬3) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 349، و4/ 229.

المبحث الثالث: النية أساس العمل

المبحث الثالث: النية أساس العمل المطلب الأول: أهمية النية ومكانتها النية: أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة (¬1)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... )) (¬2). وقال الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). وهذا يدلّ على أهمية ومكانة النية، وأن الدعاة إلى الله وغيرهم من المسلمين بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أُعطي العبد الأجر الكبير والثواب العظيم، ولو لم يعمل وإنما نوى نية صادقة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها ¬

(¬1) انظر: النية وأثرها في الأحكام الشرعية للدكتور صالح بن غانم السدلان، 1/ 151. (¬2) البخاري، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنية، برقم 1907. (¬3) سورة النساء، الآية: 114. (¬4) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم 2834.

نوم إلا كُتبَ له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة)) (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئاً)) (¬2). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)) (¬3). وهذا يدل على فضل الله - سبحانه وتعالى - وإحسانه إلى عباده؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك: ((لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه))، قالوا: يا رسول الله كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: ((حَبَسهُمُ العُذر)) (¬4). وبالنية الصالحة يضاعف الله الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله: أقاتل أو أسلم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلم ثم قاتل))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل ¬

(¬1) أبو داود، كتاب التطوع، باب النعاس في الصلاة، برقم 1314، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم، برقم 1784، وانظر: إرواء الغليل للألباني، 2/ 204، وصحيح الجامع، 5/ 160، برقم 5567. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسبق بها، برقم 564، والنسائي، كتاب الإمامة، حد إدراك الجماعة، برقم 855، والحاكم، 1/ 327، قال ابن حجر في فتح الباري، 6/ 137: ((إسناده قويّ)). (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب الشهادة في سبيل الله تعالى،، برقم 1909. (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب الرخصة في القعود من العذر، برقم 2510، واللفظ له، والبخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو، برقم 2684.

قليلاً وأجر كثيراً)) (¬1). وجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل في الإسلام، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّمه الإسلام وهو في مسيره، فدخل خف بعيره في جحر يربوع فوقصه بعيره فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل قليلاً وأجر كثيراً)) قالها حماد ثلاثاً (¬2). وبالنية الصالحة يبارك الله في الأعمال المباحة فيثاب عليها العبد؛ ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة)) (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ((إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعلُ في فِي امرأتك)) (¬4). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي به ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً فهو بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء)) (¬5). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((إن الله - عز وجل - كتب ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب عمل صالح قبل القتال، برقم 2808، واللفظ له، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم 1900. (¬2) مسند الإمام أحمد، 4/ 357. (¬3) البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، برقم 55. (¬4) البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، برقم 56. (¬5) الترمذي، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا مثل أربعة نفر، برقم 2325، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية، برقم 4228، وأحمد، 4/ 130، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 270.

المطلب الثاني: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة

الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ... )) (¬1). المطلب الثاني: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة من الخطر العظيم أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به عرضاً من الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ويحبط العمل، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا. والفرق بين الرياء، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا: هو أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً يجتمعان في أن الإنسان إذا أراد بعمله التزين عند الناس، ليروه ويعظِّموه ويمدحوه، فهذا رياء، وهو أيضاً إرادة الدنيا؛ لأنه تصنّع عند الناس وطلب الإكرام والمدح والثناء. أما العمل للدنيا فهو أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً لا يقصد به الرياء للناس، وإنما يقصد به عرضاً من الدنيا: كمن يحج عن غيره ليأخذ مالاً، أو يجاهد للمغنم، أو غير ذلك، فالمرائي عمل لأجل المدح والثناء من الناس، والعامل للدنيا يعمل العمل الصالح يريد به عرض الدنيا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، برقم 6491، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة تكتب وإذا هم بسيئة لم تكتب، برقم 131.

وكلاهما خاسر، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬1). وقد جاءت النصوص تدل على خسران صاحب هذا العمل في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). وقال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} (¬3). وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (¬4). وقال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (¬5). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلّم علماً مما يُبتغى به وجه الله - عز وجل - لا يتعلّمهُ إلا ليُصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها (¬6). وعن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا ¬

(¬1) انظر: فتح المجيد، ص442، وتيسير العزيز الحميد، ص534. (¬2) سورة هود، الآيات: 15 - 16. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 17. (¬4) سورة الشورى، الآية: 20. (¬5) سورة البقرة، الآية: 200. (¬6) أبو داود، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى، برقم 3664، وابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم 252، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 48.

المطلب الثالث: أنواع العمل للدنيا

به السفهاء، ولا لتخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)) (¬1). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لا تعلّموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، وتجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يدوم ويبقى وينفد ما سواه)) (¬2). ولهذا تكفّل الله بالسعادة لمن عمل لله، فعن أنس يرفعه: ((من كانت الآخرة همّهُ جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له)) (¬3). المطلب الثالث: أنواع العمل للدنيا العمل للدنيا أنواع متعددة، وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه جاء عن السلف في ذلك أربعة أنواع: النوع الأول: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله تعالى: من صدقة، وصلاة، وإحسان إلى الناس، ورد ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله تعالى؛ لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله، وتنميته، أو حفظه أهله ¬

(¬1) ابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم 254، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 48، وصحيح الترغيب، 1/ 46، وفي الموضعين أحاديث أخرى. (¬2) الدارمي، 1/ 70 موقوفاً، وابن ماجه عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 48، وصحيح الترغيب والترهيب، 1/ 48. (¬3) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب حدثنا قتيبة، برقم 2465، وابن ماجه، بنحوه، برقم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 5/ 351، والأحاديث الصحيحة، 950.

النوع الثاني

وعياله، أو إدامة النعم عليه وعليهم، ولا همّة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يُعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة. وهو ما ذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى. النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج عن غيره لمال يأخذه، ولا يقصد بذلك وجه الله ولا الدار الآخرة، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، أو يتعلّم العلم ليحصل على الشهادة وعلى الجاه، ولا يقصد بذلك وجه الله مطلقاً، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة؛ لأجل وظيفة المسجد أو غيره من الوظائف الدينية، ولا يريد بذلك ثواباً مطلقاً. النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفّره كفراً يخرجه عن الإسلام، كمن يأتي بناقض من نواقض الإسلام. ذُكِرَ ذلك عن أنس - رضي الله عنه - وغيره (¬1). فليحذر الداعية إلى الله تعالى مما يُحبط عمله ويعرّضه لسخط الله وغضبه، وليحذر جميع المسلمين من هذه الأنواع الفاسدة نعوذ بالله منها. ¬

(¬1) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص444، وتيسير العزيز الحميد، ص536، والقول السديد للسعدي، ص126.

المبحث الرابع: خطر الرياء، وأنواعه، وأسبابه

المبحث الرابع: خطر الرياء، وأنواعه، وأسبابه المطلب الأول: خطر الرياء الرياء خطره عظيم جداً على الفرد والمجتمع والأمة؛ لأنه يحبط العمل والعياذ بالله، ويظهر خطره في الأمور الآتية: 1 - الرياء أخطر على المسلمين من المسيح الدجال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال، الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لِمَا يرى من نظر رجل)) (¬1). 2 - الرياء أشد فتكاً من الذئب في الغنم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسَدَ من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) (¬2). وهذا مثل ضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيّن فيه أن الدين يفسد بالحرص على المال، وذلك بأن يشغله عن طاعة الله، وبالحرص على الشرف في الدنيا بالدين، وذلك إذا قصد الرياء والسمعة. 3 - خطورة الرياء على الأعمال الصالحة خطر عظيم؛ لأنه يُذهب بركتها، ويُبطلها والعياذ بالله، قال الله تعالى: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة، برقم 4204، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 410. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا سويد، برقم 2376، وأحمد، 3/ 456، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 280.

فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين} (¬1). هذه هي آثار الرياء تمحق العمل الصالح محقاً في وقت لا يملك صاحبه قوة ولا عوناً، ولا يستطيع لذلك ردَّاً. قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون} (¬2). فهذا العمل الصالح أصله كالبستان العظيم كثير الثمار، فهل هناك أحد يحب أن تكون له هذه الثمار والبستان العظيم ثم يرسل عليها الرياء فيمحقها محقاً، وهو في أشد الحاجة إليها!! ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) (¬3)، وفي الحديث: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عملٍ عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)) (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 264. (¬2) سورة البقرة، الآية: 266. (¬3) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم 2985. (¬4) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب سورة الكهف، برقم 3154، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة، برقم، 4203، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 18، وفي صحيح الترمذي، 3/ 74.

4 - أول من تسعر بهم النار يوم القيامة:

4 - أول من تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان كريم متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصة لله تعالى (¬1). 5 - الرياء يورث الذلّ والصغار والهوان والفضيحة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)) (¬2). 6 - الرياء يحرم ثواب الآخرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بشّر هذه الأمة بالسناء (¬3)، والدين، والرفعة، والتمكين، في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) (¬4). 7 - الرياء سبب في هزيمة الأمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم)) (¬5). وهذا يبين أن الإخلاص لله سبب في نصر الأمة على أعدائها، وأن الرياء سبب في هزيمة الأمة! ¬

(¬1) انظر الحديث في صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم 1905. (¬2) البخاري، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة، برقم 6499، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم 2968. (¬3) معناه ارتفاع المنزلة لأن السناء هو الرفعة. انظر: المصباح المنير، 1/ 293. (¬4) مسند أحمد، 5/ 134، والحاكم، 4/ 318، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 15. (¬5) رواه النسائي، كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف، برقم 3178، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 6.

المطلب الثاني: أنواع الرياء

8 - الرياء يزيد الضلال، قال الله تعالى عن المنافقين: {يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬1). المطلب الثاني: أنواع الرياء أبواب الرياء كثيرة نعوذ بالله من ذلك وهذه الأنواع على النحو الآتي: 1 - أن يكون مراد العبد غير الله، ويريد ويحب أن يعرف الناس أنه يفعل ذلك، ولا يقصد الإخلاص مطلقاً، نعوذ بالله من ذلك، فهذا نوع من النفاق. 2 - أن يكون قصد العبد ومراده لله تعالى فإذا اطّلع عليه الناس نشط في العبادة وزينها وهذا شرك السرائر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر))، قالوا: يا رسول الله: وما شرك السرائر؟ قال: ((يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لِمَا يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر)) (¬2). 3 - أن يدخل العبد في العبادة لله ويخرج منها لله فَعُرِفَ بذلك ومُدِح فسكن قلبه إلى ذلك المدح، ومنّى النفس بأن يحمدوه ويمجِّدوه، وينال ما يريده من الدنيا، وهذا السرور والرغبة في الازدياد منه والحصول على مطلوبه يدل على رياء خفي. 4 - وهناك رياء بدني: كمن يظهر الصفار والنحول، ليُريَ الناس ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 9 - 10. (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، 2/ 67، برقم 937، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 7.

5 - رياء من جهة اللباس أو الزي:

بذلك أنه صاحب عبادة قد غلب عليه خوف الآخرة، وقد يكون الرياء بخفض الصوت وذبول الشفتين ليدل الناس على أنه صائم. 5 - رياء من جهة اللباس أو الزي: كمن يلبس ثياباً مرقّعة؛ ليقول الناس إنه زاهد في الدنيا، أو من يلبس لباساً معيناً يرتديه ويلبسه طائفة من الناس يعدّهم الناس علماء، فيلبس هذا اللباس ليُقال عالم. 6 - الرياء بالقول: وهو على الغالب رياء أهل الدين بالوعظ والتذكير، وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، والمجادلة، والمناظرة، وإظهار غزارة العلم. 7 - الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول الصلاة والركوع والسجود، وإظهار الخشوع، والمراءاة في الصوم والحج والصدقة. 8 - الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً؛ ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الدين يترددون عليه. 9 - الرياء بذمّ النفس بين الناس، ويريد بذلك أن يُرِيَ الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء. 10 - ومن دقائق الرياء وخفاياه: أن يخفي العامل طاعته بحيث لا يريد أن يطّلع عليها أحدٌ، ولا يُسرَّ بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحبّ أن يبدءوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، فإن لم يجد ذلك وجد ألماً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام على

11 - ومن دقائق الرياء أن يجعل الإخلاص وسيلة

الطاعة التي أخفاها. 11 - ومن دقائق الرياء أن يجعل الإخلاص وسيلة لِمَا يريد من المطالب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((حُكِيَ أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجّرت الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يوماً، فلم يتفجّر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تخلص لله)) (¬1)، وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل الحلم والحكمة، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم له، أو غير ذلك من المطالب. وهذا لم يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه؛ إنما حصل هذا العمل لنيل ذلك المطلوب. المطلب الثالث: أقسام الرياء الرياء أعاذنا الله منه أقسام ودركات ينبغي لكل مسلم أن يعرف هذه الأقسام؛ ليهرب منها وهي على النحو الآتي: 1 - أن يكون العمل رياء محضاً، ولا يراد به إلا مراءاة المخلوقين كحال المنافقين، قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، وهذا العمل لا شك في بطلانه وأن ¬

(¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 6/ 66، ومنهاج القاصدين، ص214 - 221، والإخلاص للعوائشة، ص24، والإخلاص والشرك الأصغر للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف، ص9، والرياء لسليم الهلالي، ص17. (¬2) سورة النساء، الآية: 142.

2 - أن يكون العمل لله،

صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، والعياذ بالله. 2 - أن يكون العمل لله، ويشاركه الرياء من أصله - أي من أوله إلى آخره -، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضاً. 3 - أن يكون أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء أثناء العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالين: الحال الأولى: أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها، فأولها صحيح بكل حال وآخرها باطل، مثال ذلك: إنسان عنده عشرون ريالاً يريد أن يتصدق بها، فتصدق بعشرة خالصة لله، ثم طرأ عليه الرياء في العشرة الباقية، فالصدقة الأولى صحيحة مقبولة، والثانية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص. الحال الثانية: أن يرتبط أول العبادة بآخرها فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الرياء خاطراً ثم دفعه الإنسان ولم يسكن إليه، وأعرض عنه وكرهه، فإنه لا يضره بغير خلاف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به)) (¬1). الأمر الثاني: أن يسترسل معه الرياء ويطمئن إليه ولا يدافعه ويحبه، فتبطل جميع العبادة على الصحيح؛ لأن أولها مرتبط بآخرها، مثال ذلك: من ابتدأ الصلاة مخلصاً بها لله تعالى ثم طرأ عليه الرياء في الركعة الثانية واسترسل معه إلى نهاية صلاته، ولم يدافعه، فتبطل الصلاة كلها لارتباط ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، برقم 127.

4 - أن يكون الرياء بعد الانتهاء من العبادة

أولها بآخرها (¬1). 4 - أن يكون الرياء بعد الانتهاء من العبادة (¬2). وأما إذا عمل المسلم العمل لله خالصاً، ثم ألقى الله الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك لم يضرّه ذلك، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ثم يحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بُشْرَى المؤمن)) (¬3). المطلب الرابع: أسباب الرياء ودوافعه أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، ومن غلب على قلبه حُبّ هذا صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتردد إليهم، والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله وتصرفاته ملتفتاً إلى كل ما يعظِّم منزلته عند الناس، وهذا أصل الداء والبلاء، فإن من رغب في ذلك احتاج إلى الرياء في العبادات، واقتحام المحظورات، وهذا باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله، العارفون به، المحبون له. وإذا فُصِّل هذا السبب والمرض الفتاك رجع إلى ثلاثة أصول: 1 - حب لذّة الحمد والثناء والمدح. 2 - الفرار من الذم. ¬

(¬1) انظر: هذه الأقسام بالتفصيل في جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1/ 79 - 84، وفتح المجيد، ص438 وفتاوى ابن عثيمين، 2/ 29. (¬2) انظر: فتاوى ابن عثيمين، 2/ 30. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره، برقم 2642.

3 - الطمع فيما في أيدي الناس

3 - الطمع فيما في أيدي الناس (¬1). ويشهد لهذا ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَميّة، ويقاتل رياءً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) (¬2). فقوله: ((يقاتل شجاعة)) أي ليُذكر ويُشكر ويُمدح ويُثنى عليه. وقوله: ((يقاتل حمية)) أي يأنف أن يُغلب ويُقهر أو يُذمّ. وقوله: ((يقاتل رياءً)) أي ليُرَى مكانه، وهذا هو لذة الجاه والمنزلة في القلوب. وقد يرغب الإنسان في المدح، ولكنه يحذر من الذم كالجبان بين الشجعان، فإنه يثبت ولا يفر، لئلا يذم، وقد يفتي الإنسان بغير علم حذراً من الذم بالجهل، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك إلى الرياء وتدعو إليه فاحذرها! ¬

(¬1) انظر: مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص221 - 222. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، برقم 123، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم 1904.

المبحث الخامس: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء

المبحث الخامس: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء قد عُرِفَ أن الرياء محبط للعمل، وسبب لغضب الله ومقته، وأنه من المهلكات، وأشد خطراً على المسلم من المسيح الدجال. ومَن هذه حاله فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته وعلاجه، وقطع عروقه وأصوله. ومن هذا العلاج الذي يزيل الرياء، ويحصِّل الإخلاص بإذن الله تعالى ما يأتي: 1 - معرفة أنواع الرياء، ودوافعه، وأسبابه ثم قطعها وقلع عروقها، وتقدمت هذه الدوافع والأسباب. 2 - معرفة عظمة الله تعالى، بمعرفة: أسمائه، وصفاته، وأفعاله معرفةً صحيحةً مبنية على فهم الكتاب والسنة على مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإن العبد إذا عرف أن الله وحده هو الذي ينفع ويضرّ، ويعزّ ويذلّ، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا عرف ذلك، وعلم بأن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له فسيُثمرُ ذلك إخلاصاً وصدقاً مع الله، فلابُدَّ من معرفة أنواع التوحيد كلها معرفة صحيحة سليمة. 3 - معرفة ما أعدَّه الله في الدار الآخرة من نعيم وعذاب، وأهوال الموت، وعذاب القبر؛ فإن العبد إذا عرف ذلك، وكان عاقلاً هرب من الرياء إلى الإخلاص. 4 - الخوف من الرياء المحبط للعمل؛ فإن من خاف أمراً بقي حَذِراً

منه فينجو؛ فإن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة. فينبغي للمرء بل يجب عليه إذا هاجت رغبته إلى آفة حُبّ الحمد والمدح أن يُذَكِّرَ نفسه بآفات الرياء، والتعرّض لمقت الله، ومن عرف فقر الناس وضعفهم استراح كما قال بعض السلف: ((جاهد نفسك في دفع أسباب الرياء عنك، واحرص أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان فلا تفرق في عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها أو غفلتهم عنها، واقنع بعلم الله وحده)) (¬1). وبالله وحده ثم بالخوف من حبوط العمل نجا أهل العلم والإيمان من الرياء وحبوط العمل، فعن محمد بن لبيد - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؛ قال: ((الرياء، يقول الله - عز وجل - لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) (¬2). ولهذا الخطر العظيم خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير، ومن ذلك الأمثلة الآتية: المثال الأول: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬3)، قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله: أهو ¬

(¬1) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، ص15. (¬2) أحمد في المسند، 5/ 428، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 2/ 45. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 60.

الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر ((أو يا بنت الصديق)) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويصلّي وهو يخاف ألا يُتقبَّل منه)) (¬1). المثال الثاني: قال ابن أبي مُلَيْكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل)) (¬2). المثال الثالث: وقال إبراهيم التيميّ: ((ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذِّباً)) (¬3). المثال الرابع: ويُذكر عن الحسن أنه قال: ((ما خافه إلا مؤمن ولا أمِنه إلا منافق)) (¬4). المثال الخامس: وقال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: ((نشدتك ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوقي على العمل، برقم 4198، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 2/ 409 ورواه أحمد، 6/ 159، 25، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة المؤمنون، برقم 3174، والحاكم، 2/ 393، وحسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 162. (¬2) البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قبل الحديث رقم 48.قال ابن حجر في فتح الباري،1/ 110: ((وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه)). (¬3) البخاري معلقاً ومجزوماً به، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قبل الحديث رقم 48.قال ابن حجر: ((وصله المصنف في تاريخه)).انظر: فتح الباري، 1/ 110. (¬4) البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قبل الحديث رقم 48.، وقال ابن حجر: ((وصله جعفر الفريابي في كتب صفة المنافقين))، وصححه. انظر: الفتح، 1/ 111.

5 - الفرار من ذم الله؛

بالله هل سمّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم - يعني من المنافقين - قال: لا، ولا أُزكِّي بعدك أحداً)) (¬1). المثال السادس: ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق)) قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: ((أن ترى البدن خاشعاً والقلب ليس بخاشع)) (¬2). المثال السابع: ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((لئن أستيقن أن الله تقبَّل لي صلاة واحدة أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ})) (¬3). المثال الثامن: وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ((أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم رجل إلا ودَّ أن أخاه كفاه)) (¬4). 5 - الفرار من ذمّ الله؛ فإن من أسباب الرياء الفرار من ذمّ الناس، ولكن العاقل يعلم أن الفرار من ذمّ الله أولى؛ لأن ذمّه شين، كما قال رجلٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إنَّ مدحي زين وذمّي شين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك الله)) (¬5)، ولا شك أن العبد إذا خاف الناس وأرضاهم بسخط الله ¬

(¬1) ابن كثير بنحوه، في البداية والنهاية، 5/ 19، وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص36. (¬2) ذكره ابن القيم في صفات المنافقين، ص36. (¬3) ذكره ابن كثير في تفسيره، 2/ 41، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والآية من سورة المائدة، الآية: 27. (¬4) الدارمي في سننه، 1/ 53، وانظر: تخريجه في كتاب الرياء لسليم الهلالي، ص32. (¬5) أحمد في المسند، 3/ 488، 6/ 394، من حديث الأقرع بن حابس - رضي الله عنه -، وإسناده حسن، ورواه الترمذي وحسنه، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة الحجرات، برقم 3267.

6 - معرفة ما يفر منه الشيطان؛

سخط الله عليه، وغضب وأسخط الناس عليه، فهل أنت تخشى غضب الناس؟ فالله أحق أن تخشاه إن كنت صادقاً. 6 - معرفة ما يفرُّ منه الشيطان؛ لأن الشيطان منبع الرياء وأصل البلاء، والشيطان يفر من أمور كثيرة، منها الأذانُ، وقراءة القرآن، وسجود التلاوة، والاستعاذة بالله منه، والتسمية عند الخروج من البيت والدخول في المسجد مع الذكر المشروع في ذلك، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وجميع الأذكار المشروعة (¬1). 7 - الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها: كقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء خالياً من خشية الله، وصلاة النوافل، والدعاء للإخوة في الله بظهر الغيب، والله - عز وجل - يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ، قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ)) (¬2). 8 - عدم الاكتراث بذمّ الناس ومدحهم؛ لأن ذلك لا يضر ولا ينفع، بل يجب أن يكون الخوف من ذمّ الله، والفرح بفضل الله، قال الله - عز وجل -: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬3)، فيا عبد الله أقبل على حب المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك سَهُل عليك الإخلاص (¬4). ¬

(¬1) انظر التفصيل في ذلك: كتاب مقامع الشيطان في ضوء الكتاب والسنة لسليم الهلالي، وهو مهم جداً، والإخلاص لحسين العوائشة، ص57 - 63. (¬2) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2965. (¬3) سورة يونس، الآية: 58. (¬4) الفوائد لابن القيم، ص67.

9 - تذكر الموت وقصر الأمل،

ويسهِّلُ الزهد في حب المدح والثناء العلم يقيناً أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمّه ويشين إلا الله وحده، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذمِّ من لا يشينك ذمّهُ، وارغب في مدح مَن كلّ الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمن فقد الصبر واليقين كان كمن أراد السفر في البحر بغير مركب (¬1). وانظر إلى من ذمّك فإن يك صادقاً قاصداً النصح لك فاقبل هديته ونصحه فإنه قد أهدى إليك عيوبك، وإن كان كاذباً فقد جنى على نفسه وانتفعتَ بقوله؛ لأنه عرَّفك ما لم تكن تعرف، وذكّرك من خطاياك ما نسيت، وإن كان ذلك افتراءً عليك، فإنك إن خلوت من هذا العيب لم تخلُ من غيره، فاذكر نعمة الله عليك إذ لم يطلع هذا المفتري على عيوبك، وهذا الافتراء كفارات لذنوبك إن صبرت واحتسبت، وعليك أن تعلم أن هذا الجاهل جنى على نفسه وتعرض لمقت الله تعالى، فكن خيراً منه: فاعف واصفح، واستغفر له، قال الله - عز وجل -: {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2). 9 - تذكّر الموت وقصر الأمل، قال الله - عز وجل -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬3). قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ ¬

(¬1) انظر: الفوائد لابن القيم، ص268. (¬2) سورة النور، الآية: 22. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 185.

10 - الخوف من سوء الخاتمة،

بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬1). 10 - الخوف من سوء الخاتمة، فعلى العبد أن يخاف أن تكون أعمال الرياء هي خاتمة عمله ونهاية أجله، فيخسر خسارة فادحة عظيمة؛ لأن الإنسان يبعث يوم القيامة على ما مات عليه، والناس يبعثون على نياتهم، وخير الأعمال خواتمها. 11 - مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى؛ فإن الجليس المخلص لا يعدمك الخير، وتجد منه قدوة لك صالحة، وأما المرائي والمشرك فيحرقك في نار جهنم إن أخذت بعمله. 12 - الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، وقد علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال بعض الصحابة: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لِمَا لا نعلمه)) (¬2). 13 - حبّ العبد ذكر الله له، وتقديم حبّ ذكره له على حب مدح الخلق، قال الله - عز وجل -: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (¬3)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 34. (¬2) أخرجه أحمد، 4/ 403، وإسناده جيد، وغيره، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، 3/ 233، وصحيح الترغيب، 1/ 19. (¬3) سورة البقرة، الآية: 152.

14 - عدم الطمع فيما في أيدي الناس

تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إلي ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (¬1)، والله المستعان (¬2). 14 - عدم الطمع فيما في أيدي الناس؛ فإن الإخلاص لا يجتمع في القلب ومحبّة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضبّ والحوت، فإذا حدّثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس مما في أيدي الناس، ويسهِّل ذبح الطمع العلم يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه (¬3). 15 - معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أن الإخلاص سبب لنصر الأمة، والنجاة من عذاب الله، ورفع المنزلة والدرجة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال في الدنيا، والفوز بحبّ الله للعبد وحبّ أهل السماء والأرض، والصيت الطيّب، وتفريج كروب الدنيا والآخرة، والطمأنينة والشعور بالسعادة والتوفيق، وتحمّل المتاعب والمصاعب، وتزيين الإيمان في القلوب، واستجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور، والله ¬

(¬1) البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم 2675، واللفظ للبخاري. (¬2) انظر: ما تقدم في منهاج القاصدين، ص221 - 223، وكتاب الإخلاص لحسين العوائشة، ص41 - 64، والرياء ذمه وأثره السيئ في الأمة لسليم الهلالي، ص61 - 72، والإخلاص والشرك الأصغر، ص13. (¬3) انظر: الفوائد لابن القيم، ص267 - 268.

الموفق سبحانه (¬1). فالداعية الذي يريد نجاح دعوته، والفوز بنجاته ومحبة الله له، عليه أن يعمل جاهداً في تحصيل الإخلاص والفرار من الرياء، أسأل الله أن يعصمني وإياك وجميع دعاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم من هذا البلاء الخطير. ¬

(¬1) انظر: كتاب الإخلاص للعوائشة، ص64 - 66.

المبحث السادس: الصدق

المبحث السادس: الصدق المطلب الأول: مفهوم الصدق وأهميته وفضله الصدق: مطابقة الكلام للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، وهو ضد الكذب (¬1)، وقيل: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معاً، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقاً تاماً (¬2)، وقيل: الصدق حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه (¬3). ولا يخفى ما للصدق من فضل عظيم، وثواب جزيل، ومقام كريم، ومما يدلّ على فضل الصدق، وسموّ منزلته، وعلوّ مكانه أنه من خصائص أهل الإيمان والتقوى، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬4)، فمن اتصف بهذه الصفات العظام وكانت لباسه وحليته فقد فاز. نسأل الله أن يجعلنا منهم. ولقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ويلازموا ¬

(¬1) المعجم الوسيط، 1/ 511، والقاموس الفقهي لغة واصطلاحاً، ص209. (¬2) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، ص478. (¬3) مدارج السالكين، 2/ 268. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 35.

الصدق في كل الأحوال فهو سبيل النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1). ومما يدل على فضل الصدق والصادقين سوء مصير الكذابين وبوارهم، وأن الكذب من علامات النفاق والعياذ بالله - تعالى - وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (¬2)، وفي رواية: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ... )) فذكر الكذب (¬3). والصدق طريق البر والجنة على عكس الكذب الذي هو طريق الفجور والنار والعياذ بالله، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون عند الله صدّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً)) (¬4). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 119. (¬2) البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 33، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 59. (¬3) البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 34، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 58،. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا}، برقم 6094، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب، وحسن الصدق وفضله، برقم 2607.

المطلب الثاني: مجالات الصدق

المطلب الثاني: مجالات الصدق أهم مجالات الصدق ثلاثة: الصدق في القصد بمعنى خلوص النية وصدق العزيمة وثبات الإرادة. والصدق في القول بالأخذ بالحق ونبذ الباطل واللغو واللهو المحرم. والصدق في العمل بموافقة القول العمل، وموافقتهما هدي الكتاب والسنة. ومتى بلغ العبد تحقيق الصدق في هذه المجالات كلها على الوجه الأتم الأكمل كان من الصِّدِّيقين، وكانت الحياة حينئذ لا تساوي عنده إلا بقدر ما يتبلغ به المسافر، وكان ما عند الله - سبحانه وتعالى - أحبّ إليه مما في أيدي الناس. وسأتناول فيما يلي كل واحد من هذه المجالات ببعض البسط. 1 - الصدق في النية والقصد: الصدق في القصد يستلزم إخلاص النية لله - عز وجل - في الدعوة وفي كل طاعة وقربة، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ولا وجاهة، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، يتعلَّم ويعلِّم، ويتوخّى الحق والصدق أينما كان. 2 - الصدق في القول: يستلزم أن لا ينطق الداعي بالباطل أياً كانت صورة هذا الباطل: كذباً، أو شتماً، أو سباباً، أو لعناً، أو فحشاً، أو غيبة، أو نميمة، أو قول الزور .. وبالجملة فهو أبعد الناس عن آفات اللسان.

3 - وأما صدق العمل

هذا ما يمس حياة الدعاة وسيرتهم الذاتية. أما في مجال الدعوة فالحال كذلك، فلا يدعو إلا على بصيرة، ومعرفة بالحق ودليله، وبعد تبصّر وتفقّه، فالدعوة لا تصحّ إلا على بصيرة ... ولا يعظ الناس إلا بالصادق من القصص والأمثال، ويبتعد عن الكذب، والدجل، والأحلام، والرؤى التي لا يُعرف مصدرها ولا صدقها ولا عدالة صاحبها ولا ثبوتها عنه .. فدين الله - عز وجل - مصدره الكتاب والسنة وفهم السلف لهما لا غير، ومتى استبدل الداعي هذين المصدرين بغيرهما - أعني الكتاب والسنة - فقد ضلّ سواء السبيل. وبالجملة فرائد الدعاة الصادقين توخّي الحق والحق هو ما في الكتاب والسنة منهما يستمدون، ومنهما ينهلون، وعلى هداهما يسيرون، وإليهما يدعون، وفي ساحتهما يتحاكمون. نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يجعلنا من أهل الصدق والرشد إنه سميع مجيب. 3 - وأما صدق العمل: فهو مطابقة الأقوال والأعمال للحق الذي يدعو إليه، وقد تقدم في مبحث العمل بالعلم. المطلب الثالث: أثر الصدق في نجاح الدعوة الصدق له الآثار الحميدة في حياة الدعاة، ونجاح الدعوة، ومن هذه الآثار الآتية: 1 - لا يخفى أن للصدق أثره البالغ في مسيرة الدعاة، إذ يظهر

2 - للصدق أثره الحميد في التآلف والتآزر والتوادد

الصدق في كلام الداعي، وسمته، ولهجته، وحرارة عاطفته، فيؤثر ذلك في المدعوين، ويترك فيهم انطباعاً عميقاً بمصداقية الفكرة التي يدعو إليها ويؤمن بها. ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث الذين يلقونه أول مرة فيقولون: والله ما هذا بوجه كذّاب ولا بكلام كذاب! وإذا كان المسلم مطالباً بالصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد؛ فإن الدعاة إلى الله تعالى من باب أولى وأوجب. 2 - للصدق أثره الحميد في التآلف والتآزر والتوادد وتقارب القلوب، على عكس الكذب الذي يغرس الضغينة ويرفع الثقة، ويورث الريبة بفعل التلوّن والتغيّر وعدم الثبات الذي يتصف به الكاذب، ومن هذا المنطلق كان من لوازم الصدق ترك كل آفات اللسان: كالهمز، واللمز، والقيل، والقال، وكثرة السؤال .. ومتى تآلفت القلوب وتصافت واجتمعت على محبة الله سرت الدعوة في المجتمع سريان الماء في الزرع، فأمدته بالحياة والنماء والبقاء، ونما في المجتمع - كذلك - الإيمان، واستوثقت عراه وارتفعت أعلامه. 3 - الصدق يزرع في النفوس الثقة والطمأنينة والراحة والأنس، فيركن الناس إلى الدعاة الصادقين، ويثقون فيهم وبهم ويأمنونهم، وتقوية هذه الوشائج بين الدعاة والمدعوين من أهم أسباب نجاح الدعوة، ولا يتحقق ذلك إلا بالصدق .. على عكس الكذب الذي يزرع في النفوس بذور الريبة والشك والحذر، فليس أمر أهل الكذب من

الوضوح والثبات بالمكان الذي يألفه الناس ويحبذونه. ومتى وثق الناس في الداعي لصدقه فتحوا له القلوب فاستمعوا إليه إذا تحدّث وقبلوا إرشاده وتوجيهه إذا وجّه وأرشد وبيّن وحدّث، وتوجهوا إليه يسألون ويستفتون .. وحصل التواصل بينه وبينهم وهي نعمة لا تُقدَّر بثمن ولم تحصل إلا بفضل الله، ثم بفضل الصدق، ونقاء الصفحة، وخلو السيرة من مساوئ الأعمال والأخلاق (¬1). ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة وطرقها للدكتور عبد الرب بن نوّاب، 2/ 128.

الفصل الثامن: القدوة الحسنة

الفصل الثامن: القُدوة الحسنة المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة. المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة. المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة.

المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة

المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة الأُسوةُ: والإِسوةُ كالقِدوة، والقدوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬1)، فوصفها بالحسنة (¬2)، ويقال: فلان قُدوةٌ إذا كان يُقتدى به (¬3). والأسوة أو القدوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة: فالأُسوة الحسنة الأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهي أسوة سيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (¬4). والمقصود من الأُسوة أو القدوة أن يكون الداعية المسلم قدوةً صالحة فيما يدعو إليه فلا يناقض قولُهُ فِعلَهُ، ولا فعله قوله. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص576، مادة (أسا). (¬3) المعجم الوسيط، 2/ 721، ومختار الصحاح، ص220. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 22، وانظر: تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن السعدي، 6/ 208.

المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة

المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة لا شك أن الداعية إلى الله تعالى بحاجة شديدة جداً إلى تطبيق ما يقول ويدعو إليه حتى يقتدي به الناس؛ ولهذا بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المسألة، وشدّد في عدم التزامها حيث قال: ((علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما يدعون إليه حقاً، كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاّء، وفي الحقيقة قطّاع طرق)) (¬1). ويمكن إجمال أهمية القدوة العملية في الأمور الآتية: 1 - إن المثال الحي والقدوة الصالحة يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة، فيميل إلى الخير، ويتطلّع إلى مراتب الكمال ويأخذ يحاول، ويعمل مثله حتى يحتل درجة الكمال والاستقامة. 2 - إن القدوة الحسنة المتحلِّية بالفضائل تُعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل والأعمال الصالحة من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال (¬2). 3 - إن الأتباع والمدعوّين الذين يربّيهم ويدعوهم الداعية ينظرون إليه نظرة دقيقة دون أن يعلم هو أنه تحت رقابة مجهرية، فرُبّ عمل يقوم ¬

(¬1) الفوائد، ص112. (¬2) انظر: الأخلاق الإسلامية للميداني، 1/ 214، و215.

4 - إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت،

به من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر؛ لأنهم يعدُّونه قدوة لهم (¬1)، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع أو محرم فيظن أنه على حق، ولا شك أن الأمر خطير، والنجاة من ذلك أن يعمل الدعاة بالعلم، وليتقوا الله تعالى. 4 - إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، وذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به، ومما يدل على ذلك أن البخاري بوّب باباً قال فيه: ((باب الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -))، ثم ساق الحديث: ((اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب)) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني اتخذت خاتماً من ذهب)) فنبذه وقال: ((إني لن ألبسه أبداً))، فنبذ الناس خواتيمهم (¬2). قال ابن بطّال: ((فدلّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول)) (¬3). ولهذا أمثلة كثيرة؛ فإنه خلع خاتمه فخلعوا خواتيمهم في هذه القصة، ونزع نعله في الصلاة حينما أخبره جبريل أن فيهما أذىً فنزعوا، ولَمّا أمرهم عام الحديبية بالتحلّل وتأخّروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فتابعوه مسرعين (¬4)، فدلّ ذلك كله على أهمية القدوة وعظيم مكانتها. 5 - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذّر الدعاة من المخالفة لِمَا يقولون، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) انظر: المصفّى من صفات الدعاة لعبد الحميد البلالي، 1/ 21. (¬2) البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي، برقم 7298. (¬3) فتح الباري، 13/ 275. (¬4) انظر فتح الباري، 13/ 275.

6 - إن جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم كانوا قدوة حسنة لأقوامهم

الحديث الشريف حال الدعاة الذين يأمرون الناس وينهونهم وينسون أنفسهم، قال: ((أتيت ليلة أُسري بي على قومٍ تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلَّما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباءُ أمتكَ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به)) (¬1). ولا يقتصر الخطر على الداعية وعلى دينه، بل يتعدّى إلى كل من يدعوهم. وإن مما يذكر في هذا الشأن، أن انحراف الداعية وخروجه عن النهج الصحيح هو في الوقت نفسه سببٌ في انحراف كل من تأثر به أو سمع منه، وما ذلك إلا بسبب أن سلوك الداعية وتصرفاته كلها مرصودة من قبل الناس، وجميع أفعاله وأقواله موضوعة تحت المجهر. فليحتطِ الداعية لهذا الأمر المهم، ويراقب أفعاله وأقواله .. وليرِ الله تعالى من نفسه خيراً. 6 - إن جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم كانوا قُِدوةً حسنةً لأقوامهم، وهذا يدل على عِظَم وأهمية القدوة الحسنة؛ ولهذا قال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬2). 7 - إن الناس كما ينظرون إلى الداعية في أعماله وتصرفاته ينظرون إلى أسرته وأهل بيته، وإلى مدى تطبيقهم لِمَا يقول، وهذا يفيد ويبيّن أن الداعية ¬

(¬1) البيهقي في شعب الإيمان عن أنس - رضي الله عنه -، 2/ 283، وأحمد، 32/ 120، 231، 239، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2/ 96، برقم 128. (¬2) سورة هود، الآية: 88.

كما يجب عليه أن يكون قدوة في نفسه يجب عليه أن يقوِّم أهل بيته وأسرته، ويلزمهم بما يأمر به الناس، ويدعوهم إليه؛ ولهذه الأهمية كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء، جمع أهله فقال: ((إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة)) (¬1). ولقد تنبه لخطورة هذا الأمر الفقيه أبو المنصور الدمياطي فأخذ يحذر القدوات قائلاً: أيها العالِم إياك الزلل ... واحذرِ الهفوةَ، فالخطبُ جلَلْ هفوة العالِم مستعظمة ... إن هفا أصبح في الخلق مَثَلْ وعلى زلَته عمدتهم ... فبها يحتجّ من أخطأ وزَلّْ لا تقلْ يستر علمي زلَّتي ... بلْ بها يحصل في العلم الخلَلْ إن تكن عندك مستحقرةً ... فهي عند الله والناس جَبَلْ فإذا الشمس بدت كاسفةً ... وجلُ الخلقُ لها كل الوَجَلْ وترامت نحوها أبصارُهم ... في انزعاجٍ واضطرابٍ وزجَلْ وسرى النقص لهم من نقصها ... فغدت مُظلمةً منها السُّبُلْ وكذا العالِم في زلَّته ... يفتن العالم طُرّاً ويضِلّْ يُقتدى منه بما فيه هفا ... لا بما استعصم فيه واستَقَلّْ فهو ملحُ الأرض ما يصلحه ... إن بدا فيه فسادٌ وخَلَلْ (¬2) ¬

(¬1) تاريخ الأمم والملوك للطبري، 2/ 68، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 31. (¬2) المدخل، لابن الحاج، 1/ 107، 108، وانظر: المصفّى من صفات الدعاة لعبد الحميد البلالي، 1/ 21.

المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة

المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة من الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاةالحق يعملون به وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬1)، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). هذه الآية العظيمة تُبيِّن لنا أن الداعي إلى الله - عز وجل - ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً؛ ولهذا قال بعده: {وَعَمِلَ صَالِحًا}، فالداعي إلى الله - عز وجل - يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجِّهون الناس بالأقوال والأعمال فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم (¬3). وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال، والسيرة وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون ¬

(¬1) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33. (¬3) فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 350.

بالأقوال، ولا سيما العامّة وأرباب العلوم القاصرة؛ فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله - عز وجل - من أهمّ المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق فاضل حتى يُقتدى بفعاله وأقواله (¬1). ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا}، الآية. وهذه الآية الكريمة تفيد أن الدعاة إلى الله - عز وجل - هم أحسن الناس قولاً إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثّر الناس بدعوتهم، وينتفعون بها ويحبونهم عليها، بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون، فإنهم لا حظّ لهم من هذا الثناء العاطر، ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، إنما نصيبهم في هذه الدعوة المقت من الله - سبحانه - والسب من الناس، والإعراض عنهم والتنفير من دعوتهم. قال الله - عز وجل - موبِّخاً اليهود: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬2)، فأرشد - سبحانه - في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لِمَا يقول أمر يخالف العقل، كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل (¬3). وصحّ عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 3/ 110. (¬2) سورة البقرة، الآية: 44. (¬3) انظر: فتاوى ابن باز، 2/ 343.

فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) (¬1). هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ بالله من ذلك، فمن أهمّ الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته (¬2). فأنت يا عبد الله في أشدّ الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى من الامتحان، ولو أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله، أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ، واذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة (¬3). والمؤمن الداعي إلى الله قويّ الإيمان، البصير بأمر الله يصرِّح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله، ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرّح بأنه مسلم، وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط ¬

(¬1) متفق عليه من حديث أسامة بن زيد: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم 3267، ومسلم كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، برقم 2989. (¬2) انظر: فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 351. (¬3) انظر: المرجع السابق، 2/ 290.

بذلك ويفرح به كما قال - عز وجل -: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1)، فالفرح برحمة الله فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع (¬2). وينبغي للدعاة إلى الله تعالى: أن يُعنوا عناية تامة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبراً وتعقلاً، وعملاً بالسنة المطهرة؛ لأنها الأصل الثاني، ولأنها المفسِّرة لكتاب الله، كما قال الله - عز وجل -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬4). والعلم هو ما قاله الله في كتابه الكريم، أو قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني الداعية بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر الله به وما نهى الله عنه، ويعرف طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته إلى الله وإنكاره المنكر وطريقة أصحابه - رضي الله عنهم - (¬5). فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب الله - عز وجل - حتى يستقيموا عليه، وحتى يكون لهم خلقاً ومنهجاً يسيرون عليه أينما كانوا، يقول - عز وجل -: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬6)، فهو ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 58. (¬2) انظر: فتاوى ابن باز، 1/ 338. (¬3) سورة النحل، الآية: 44. (¬4) سورة النحل، الآية: 64. (¬5) انظر: فتاوى ابن باز، 4/ 171، 232. (¬6) سورة الإسراء، الآية: 9.

الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها. فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يُعنوا بهذا الخُلُق، وأن يُقبلوا على كتاب الله قراءةً، وتدبُّراً، وتعقّلاً، وعملاً، يقول - سبحانه وتعالى -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬1). أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب الله - عز وجل - والعناية به: تلاوةً، وتدبراً، وتعقلاً، ومذاكرة بينه وبين زملائه، وسؤالاً لأهل العلم عمَّا أشكل عليه من الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية؛ لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسير على هذا النهج القويم، وحتى يكون من أهل كتاب الله قراءة وتدبراً وعملاً (¬2). ¬

(¬1) سورة ص، الآية: 29. (¬2) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 4/ 79، 80.

الفصل التاسع: الخلق الحسن

الفصل التاسع: الخُلُق الحَسَن المبحث الأول: مفهوم الخلق الحسن. المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن في الدعوة. المبحث الثالث: طرق تحصيل الخلق الحسن. المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن وتطبيقها في الدعوة.

المبحث الأول: مفهوم الخلق الحسن

المبحث الأول: مفهوم الخُلُق الحسن الخُلْقُ لغةً: السجيّة، والطبع، والمروءة، والدين (¬1). وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي: نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها، بمنزلة: الخَلْق لصورته الظاهرة، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة (¬2). فالخلق: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجةٍ إلى فكر ورويّة، وجمعه: أخلاق. والأخلاق: علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح (¬3)،وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه. القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر ثم يستمر عليه حتى يكون ملكةً وخلقاً (¬4). أما السلوك: فهو سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن ¬

(¬1) انظر: القاموس المحيط، ص137، والمصباح المنير، 1/ 180. (¬2) انظر: غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 2/ 70. (¬3) انظر: المعجم الوسيط، 1/ 445. (¬4) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، د/ محمود حمدي زقزوق، ص39.

السلوك أو سيّئ السلوك (¬1). والسلوك: عمل إراديٌّ، كقول: الكذب، والصدق، والبخل، والكرم ونحو ذلك. فاتّضح أن الخلق حالة راسخة في النفس، وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولا بد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو: السلوك، فالسلوك: هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخصٍ ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دلّ على خلق حسن، وإن كان السلوك سيئاً دلّ على سلوك قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الحسن يعرف بالأعمال الطيبة (¬2). ¬

(¬1) المعجم الوسيط، 1/ 252. (¬2) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، ص43.

المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن

المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن الخلق الحسن في الدعوة إلى الله تعالى من أهم المهمات، ومن أعظم القربات، ومن أولى الواجبات التي ينبغي أن يتصف بها الدعاة، ولابد منها لكل داعية يرغب فيما عند الله تعالى، ويرغب في نجاح دعوته وظهور ثمراتها؛ فإن الدعاة إلى الله تعالى أشدّ حاجة من غيرهم لمعرفة الخلق الحسن وتطبيقه على أنفسهم في جميع مجالات الحياة طلباً لحصول الآثار العظيمة النبيلة في مجتمعاتهم كما حصل في صدر الإسلام؛ فإنه لا يُحصَى من دخل في الإسلام بسبب خلق النبي الكريم عليه الصلاة والسلام سواء كان ذلك الخلق الحسن من: جوده أو كرمه، أو عفوه أو صفحه، أو حلمه أو أناته، أو رفقه أو صبره، أو تواضعه أو عدله، أو رحمته أو منّه، أو شجاعته وقوته .. وهكذا أصحابه الكرام - رضي الله عنهم -، ومن أشهر الأمثلة قصة مصعب بن عمير - رضي الله عنه - مع سَيِّدَي: الأوس والخزرج حينما استخدم معهما الخلق الحسن - الرفق والحلم والأناة - فأسلما على يديه، ثم دعا كلٌّ منهما قومه إلى الإسلام، فلم يبقَ بيت إلا دخله الإسلام بفضل الله تعالى ثم بفضل هذا الخلق الحسن العظيم. وتبرز أهمية الخلق الحسن في الدعوة إلى الله تعالى في أمور منها: الأمر الأول: الخلق الحسن في حياة المسلم عامة وفي حياة الدعاة إلى الله تعالى خاصة من أعظم روابط الإيمان وأعلى درجاته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الرضاع، باب حق المرأة على زوجها، برقم 1162، وأبو داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 4682، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 340.

الأمر الثاني: الخلق الحسن ضرورة اجتماعية لجميع المجتمعات

الأمر الثاني: الخلق الحسن ضرورة اجتماعية لجميع المجتمعات، وهو من أعظم المهمات التي تتعين على جميع الدعاة إلى الله تعالى؛ لأن من تخلّق به كان من أحبّ الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة: ((إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) (¬1). الأمر الثالث: الخلق الحسن يجعل الداعية إلى الله تعالى من أحسن الناس، ومن خيارهم مطلقاً، ولا يكون كذلك إلا بالتخلّق بهذا الخلق العظيم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)) (¬2). وقد أحسن الشاعر إذ يقول: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا الأمر الرابع: الخلق الحسن من أعظم القربات وأجلّ العطايا والهبات، والداعية إلى الله تعالى هو من أحق الناس بهذا الخير العظيم؛ ليطبِّقه على نفسه، ويدعو الناس إليه؛ ليحصل على الثواب الجزيل؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن)) (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معالي الأخلاق، برقم 2019، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 196. (¬2) البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3559، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2321. (¬3) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم 4799، والترمذي، كتاب الشهادات، باب بيان مكارم الأخلاق، برقم 2587، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 911.

الأمر الخامس: الخلق الحسن هو وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) (¬1)، وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو: ((أربع إذا كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة)) (¬2). وبهذا يحصل الداعية على جوامع الخيرات والبركات ((البر حسن الخلق)) (¬3). الأمر الخامس: الخلق الحسن هو وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الدعاة، فقد أوصى به - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن والياً، وقاضياً، وداعياً إلى الله فقال له: (( .. وخالق الناس بخلق حسن)) (¬4). الأمر السادس: الخلق الحسن ذو أهمية بالغة؛ لأن الله - عز وجل - أمر به نبيه الكريم، وأثنى عليه به، وعظّم شأنه الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -. قال الله - عز وجل -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬5)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬6)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (¬7). وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (( .. فإن خلق نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم 4798، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 911. (¬2) أحمد في المسند بإسناد جيد، 2/ 177، وانظر: صحيح الجامع الصغير للألباني، 1/ 301، برقم 886. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، برقم 2553. (¬4) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معاشرة الناس، برقم 1987، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 191. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 199. (¬6) سورة القلم، الآية: 4. (¬7) البيهقي في السنن الكبرى بلفظه، 10/ 192، وأحمد، 2/ 381، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 613، وانظر: الأحاديث الصحيحة للألباني، 1/ 75، برقم 45.

الأمر السابع: الخلق الحسن من أعظم الأساليب

كان القرآن)) (¬1). الأمر السابع: الخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام، والهداية، والاستقامة؛ ولهذا من تتبَّع سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى ثم بفضل حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -، فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم. فهذا يُسلم ويقول: ((والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ)) (¬2). وذاك يقول: ((اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً)) (¬3)، تأثر بعفو النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتركه على تحجيره رحمة الله التي وسعت كل شيء، بل قال له: ((لقد تحجَّرت واسعاً)). والآخر يقول: ((فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه)) (¬4). والرابع يقول: ((يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة)) (¬5). والخامس يقول: ((والله لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه ¬

(¬1) مسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، برقم 746. (¬2) البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، برقم 4372، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه،، برقم 1764. (¬3) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 6010. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم 537. (¬5) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم 2312.

الأمر الثامن: الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم

لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليَّ)) (¬1). والسادس يقول: بعد عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه: ((جئتكم من عند خير الناس))، ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير (¬2)، وهناك أمثلة كثيرة جداً. الأمر الثامن: الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم وكل داعية مخلص خاصة؛ لأنه بذلك ينجو ويفوز وينجح في جميع أموره الخاصة والعامة؛ ولهذه الأهمية كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه أن يهديه للخلق الحسن، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في استفتاحه لصلاة الليل: ((واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت .. )) (¬3)، وكان يقول: ((اللهم كما أحسنت خلْقي فحسّن خُلُقي)) (¬4). الأمر التاسع: الخلق الحسن يحبّب الداعية إلى الناس جميعاً حتى أعدائه، ويتمكن بذلك من إرضاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وكل من جالسه أو خالطه أحبه، وبهذا يسهل على الداعية إدراك مطالبه السامية بإذن الله تعالى؛ لأن الدعاة إلى الله - عز وجل - لا يَسعَون الناس بأموالهم ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق. الأمر العاشر: من لم يتخلّق بالخلق الحسن من الدعاة ينفِّر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم، واستصغارهم، ولو ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم 2313. (¬2) انظر: فتح الباري، 7/ 428. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771. (¬4) البيهقي في الشعب، 6/ 364، وأحمد، 6/ 68، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 113، برقم 74.

كان ما يقوله حقاً. قال - عز وجل - للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وقال - عز وجل - ممتناً على عباده: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬3). وقال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .. } (¬4) الآية. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (¬5)، وقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬6). {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيرًا} (¬7). ولا شك أنه يتعين على كل داعية أن يتخذه - صلى الله عليه وسلم - قدوة وإماماً لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 215. (¬3) سورة التوبة، الآية: 128. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬6) سورة الفتح، الآية: 29. (¬7) سورة الأحزاب، الآيات: 45 - 47.

الأمر الحادي عشر: إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها

وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬1). الأمر الحادي عشر: إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها لا يكون سليماً نقياً إلا بالأخذ من المنبع الصافي، والبعد عن الأفكار الهدامة المنحرفة، والتزام الدعاة إلى الله تعالى بالخلق الحسن ودعوة الناس إليه هو من هذا المنبع، وتطبيق ذلك على أنفسهم قبل الدعوة إليه {يَا أيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬2)؛ ولهذا أمر الله بالعلم قبل العمل، وبالعمل قبل الدعوة إليه، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬3)، وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬4)، فقدَّم العمل قبل الدعوة إلى الحق. الأمر الثاني عشر: الخلق الحسن في الدعوة يجعل الداعية مستنير القلب، ويفتح مداركه، فيتبصَّر به مواطن الحق، ويهتدي به إلى الوسائل والأساليب الصحيحة في دعوة الناس الملائمة للظروف والأحوال، والأشخاص {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (¬5) الآية. الأمر الثالث عشر: الخلق الحسن في الدعوة من أعظم الأسباب التي ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬3) سورة محمد، الآية: 19. (¬4) سورة العصر. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 29.

الأمر الرابع عشر: الخلق الحسن موضوع واسع جدا

تُنجي من النار وتُورث الفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم، وهذا هو غاية كل مسلم بعد رضى الله - عز وجل -؛ ولهذا عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقال له: ((ما تقول في الصلاة؟)) قال: أتشهّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار. أما والله! ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حَوْلها نُدَنْدِنُ)) (¬1)، وهذا يدلّ أن جميع الأقوال والدعوات والأعمال؛ إنما هو من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار بعد رضى الله - عز وجل -. وقد تكفل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيت في أعْلى الجنة لمن حسَّن خلقه فقال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقّاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه)) (¬2)، وسُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) (¬3). ويبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الترمذي بإسناد حسن ((أن النار تحرم على كل قريب هيّن سهل)) (¬4). الأمر الرابع عشر: الخلق الحسن موضوع واسع جداً يشمل: الحلم، ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، برقم 792، وأحمد، 3/ 474, وانظر: صحيح ابن ماجه، 2/ 328. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم 4802، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 911، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 273. (¬3) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب حسن الخلق، برقم 2005، وانظر: جامع الأصول، 11/ 694، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 194. (¬4) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا هناد، برقم 2490، وانظر: جامع الأصول، 11/ 698.

والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق، والبرّ، والوفاء بالعهد، والإيثار، والرحمة، والعفّة، والتواضع، والزهد، والكيِّس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، والإخلاص ... وهذا هو الخلق الحسن في الدعوة إلى الله تعالى وما يتفرّع منه. أما الخلق العظيم الذي مدح الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الدين كله، والخلق الحسن جزء منه كما ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (¬1)، وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في مدارج السالكين: ((حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصوّر قيام ساقِه إلا عليها: الصبر، والعفّة، والشجاعة، والعدل، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة)) (¬2). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية، 10/ 658. (¬2) مدارج السالكين، 2/ 308.

المبحث الثالث: طرق تحصل الخلق الحسن

المبحث الثالث: طرق تحصل الخلق الحسن الأسباب والوسائل التي يكتسب بها الخلق الحسن كثيرة، ولكن من أبرزها على سبيل المثال ما يأتي: 1 - التدريب العملي، والممارسة التطبيقية للأخلاق الحسنة ولو مع التكلّف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى؛ فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر، والاستعفاف بالتعفّف، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن يستعفف يعفّه الله ومن يستغن يُغنه الله، ومن يتصبّر يصبِّره الله)) (¬1). 2 - الغمس في البيئة الصالحة؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويعيش مع أهلها، فيكتسب ما لديهم من أخلاق، وعادات، وتقاليد، وأنواع سلوك عن طريق المحاكاة والتقليد، وبذلك تتم العدوى النافعة، ولهذا قيل: إن الطبع للطبع يسرق، وأعظم من ذلك توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيانه أن الجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة (¬2). ولاشك أن الرجل على دين خليله، فلينظر كل داعية من يخالل (¬3) ¬

(¬1) البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم 1427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والتصبر، برقم 1053. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، برقم 2628. (¬3) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 1/ 209 - 213.

المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن

المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن تمهيد: فروع الخلق الحسن: فروع حسن الخلق كثيرة جداً فهو يشمل: الحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو، والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل، والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر، والوفاء، والإيثار والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل ... وهذا مفهوم واسع لا يتسع له هذا المبحث، وقد تقدم في الفصول والمباحث السابقة جملة من هذه الأخلاق الحسنة. أما في هذا المبحث فسأقتصر على المطالب الآتية: المطلب الأول: الجود والكرم الجود والكرم خُلقٌ عظيم وهو على عشر مراتب على النحو الآتي: 1 - الجود بالنفس وهو أَعْلى مراتب الجود. الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على الجود برياسته والإيثار في قضاء حاجات الناس. 3 - الجود براحته، فيجود بها تعباً في مصلحة غيره. 4 - الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود، وهو أفضل من المال. 5 - الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة وغيرها. 6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، فكل يوم تعدل فيه بين اثنين

7 - الجود بالعرض

صدقة، وتعين الرجل في دابته فترفع متاعه عليها أو تحمله عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة. 7 - الجود بالعرض، كمن يعفو عمن اغتابه، أو سبّه، ونال من عرضه، كما فعل أبو ضمضم. 8 - الجود بالصبر، والاحتمال، وكظم الغيظ، وهذا أنفع من الجود بالمال. 9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة، والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر. 10 - الجود بترك ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه. ولكل مرتبة من الجود مزيد وتأثير خاص في القلب، والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك، والله المستعان (¬1). وكل أنواع الجود والكرم ينبغي للدعاة أن يتحلوا بها في دعوتهم، ومن الصور العظيمة لتطبيق الجود والكرم ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك: عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئاً إلا أعطاهُ، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (¬2). وهذا الموقف الحكيم العظيم يدلّ على عظم سخاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغزارة جوده (¬3). ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 293 - 296 بتصرف. (¬2) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: لا، برقم 2312. (¬3) انظر: أمثلة كثيرة من كرمه وجوده في البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا عبدان 1/ 30، وكتاب الأدب باب حسن الخلق وما يكره من البخل، 10/ 455، وكتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أن عندي مثل أحُد ذهباً، 11/ 264، 11/ 303، وكتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع، 4/ 474، وكتاب التمني، باب تمني الخير، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان لي مثل أحُد ذهباً، 13/ 217، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، 4/ 1805، 1806، وكتاب الزكاة، باب من سأل بفحش وغلظة، 2/ 730، وباب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، 2/ 687.

وكان - صلى الله عليه وسلم - يعطي العطاء ابتغاء مرضاة الله - عز وجل - وترغيباً للناس في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولاً للدنيا ثم - بفضل الله تعالى، ثم بفضل النبي - صلى الله عليه وسلم - ونور الإسلام - لا يلبث إلا قليلاً حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكّن من قلبه، فيكون أحب إليه من الدنيا وما فيها (¬1). ولهذا شواهد كثيرة، منها: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: ((إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)) (¬3). ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 15/ 72. (¬2) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم 2313. (¬3) مسلم، في الكتاب والباب المشار إليهما آنفاً، 4/ 1806.

وإذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجزل له في العطاء، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه)) (¬1)؛ ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - ((يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل)) (¬2). ومن مواقفه الحكيمة العظيمة في ذلك ما فعله - صلى الله عليه وسلم - مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين، فإنه بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءةً منها حين ابتدأ فيها قال لأصحابه: ((اجمعوا لها))، فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين والله ما رزأناك (¬3) من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا)). وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذلك الصرم (¬4) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا (¬5). وفي رواية: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من ¬

(¬1) البخاري، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، برقم 1478، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من يخاف على إيمانه، برقم 150. (¬2) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم، برقم 2978. (¬3) ما رزأناك: أي: لم ننقص من مائك شيئاً. انظر: فتح الباري، 1/ 453. (¬4) الصرم: أبيات مجتمعة من الناس. انظر: فتح الباري، 1/ 453. (¬5) البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، برقم 3571، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم 682.

المطلب الثاني: العدل

المشركين ولا يصيبون ذلك الصرم الذي هي فيه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام (¬1). وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران: الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئاً، وهذا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تدل على صدق رسالته. الأمر الثاني: كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعاماً كثيراً. أما قومها، فقد أسلموا على يديها؛ لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سبباً لإسلامهم (¬2). وهذه الأمثلة التي سُقْتُها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما أحوجنا، وما أولى جميع الدعاة إلى الله - عز وجل - إلى الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، والله المستعان. المطلب الثاني: العدل العدل له مجالات كثيرة لا تحصر منها: العدل في الولاية، والعدل في ¬

(¬1) البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم بكفيه من الماء، برقم 344. (¬2) انظر: فتح الباري، 1/ 453.

القضاء، والعدل في تطبيق الحدود، والعدل في المعاملات بين الناس، والعدل في الإصلاح بين الناس، والعدل مع الأعداء، والعدل مع الأولاد، والعدل بين الزوجات ... وغير ذلك. ومن الأمثلة العظيمة في تطبيق العدل المثال العظيم الآتي: قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ومما يُضرب به المثل في عدله إلى يوم القيامة قصة المخزومية التي سرقت فقطع يدها بعد أن شفع فيها أسامة، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحابِ في ذلك، ولم يقبل الشفاعة في حدٍّ من حدود الله تعالى. فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأُتِيَ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟)) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله! فلما كان العشي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، فقال: ((أما بعد، أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني فأرفع

المطلب الثالث: التواضع

حاجتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). إن العدل خلاف الجور، وقد أمر الله - عز وجل - به في القول والحكم، فقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬2)، وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (¬3). ولاشك أن هذا الموقف الحكيم وغيره من مواقفه - صلى الله عليه وسلم - مما يوجب على الدعاة تطبيقها أسوة به - صلى الله عليه وسلم - (¬4). المطلب الثالث: التواضع يقال: تواضع: تذلّل وتخاشع (¬5)، والمراد بالتواضع: إظهار التنزل لمن يراد تعظيمه، وقيل: تعظيم من فوقه لفضله (¬6). والتواضع صفة عظيمة وخلق كريم يجب على الدعاة إلى الله تعالى، وغيرهم، ولهذا مدح الله المتواضعين فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ ¬

(¬1) البخاري بنحوه مختصراً في كتاب الحدود، باب إقامة الحد على الشريف والوضيع، برقم 6787، وباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، برقم 6788، ورواه مسلم بلفظه في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، برقم 1688، وانظر: شرح النووي، 11/ 186، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 12/ 95، 96. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬3) سورة النساء، الآية: 58. (¬4) انظر مواقف حكيمة في هذا الشأن في: سنن أبي داود، 2/ 242، والترمذي، 3/ 137، والنسائي، 7/ 64، وانظر أيضاً: البخاري مع الفتح، 3/ 292، 2/ 143، 11/ 312، 12/ 112، ومسلم، 3/ 458، وهذا الحبيب يا محبّ، ص534، 535. (¬5) القاموس المحيط، ص997. (¬6) فتح الباري، 11/ 341.

يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (¬1)، أي يمشون في سكينة ووقار متواضعين غير أشرين ولا متكبّرين، ولا مرحين، فهم علماء، حلماء، وأصحاب وقار وعفّة (¬2). والدعاة إلى الله تعالى إذا تواضعوا رفعهم الله في الدنيا والآخرة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه)) (¬3). وهذا ما يفتح الله به للداعية قلوب الناس؛ فإن الله يرفعه في الدنيا والآخرة، ويثبت له بتواضعه في قلوب الناس منزلة ويرفعه عندهم ويجلُّ مكانه (¬4)، أمَّا من تكبر على الناس فقد توعده الله بالذلّ والهوان في الدنيا والآخرة؛ لأن الله - عز وجل - ((العزُّ إزاره، والكبرياءُ رداؤه فمن ينازعه ذلك عذّبه)) (¬5). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت ناقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُسمّى العضباء وكانت لا تُسْبَقُ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتدّ ذلك على المسلمين وقالوا: سُبِقَتِ العضباء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)) (¬6). ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأسوة الحسنة للدعاة فقد كان متواضعاً في دعوته للناس، فعن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فكلّمه ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬2) انظر: مدارج السالكين، 2/ 327. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، برقم 2588. (¬4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 142. (¬5) مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكبر، برقم 2620،ولفظه: ((فمن ينازعني عذبته)). (¬6) البخاري، كتاب الرقائق، باب التواضع، برقم 6501.

فجعل ترعُد فرائصه فقال له: ((هوِّن عَليكَ نفسك فإني لستُ بِمَلِكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)) وزاد الحاكم في روايته عن جرير بن عبد الله: (( ... في هذه البطحاء))، ثم تلا جرير: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (¬1). فعلى الدعاة أن يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان متواضعاً في دعوته مع الناس، فكان يمرّ بالصبيان فيسلّم عليهم، وتأخذه بيده الأمة فتنطلق به حيث شاءت، وكان في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، فكان متواضعاً من غير ذلّة، جواداً من غير سَرَف، رقيق القلب رحيماً بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم (¬2)، فيجب على الدعاة إلى الله - عز وجل - الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) الحاكم، 2/ 446، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، 4/ 497، سورة ق، الآية: 45. (¬2) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 328 - 329.

الخاتمة: ملخص البحث وأهم النتائج

الخاتمة: ملخص البحث وأهم النتائج الحمد لله الذي منّ على عبده الضعيف إليه وحده بمعالجة هذا الموضوع على قدر الفهم والاستطاعة. لاشك أني قد حاولت في العمل في هذا البحث التسديد والمقاربة، وبذلت ما استطعت من جهد في إعداده، ولا أدّعي الكمال؛ فإن الكمال المطلق من جميع الوجوه لله وحده، وما منا إلا يُؤخذ من قوله ويُردّ إلا محمد عبد الله عليه الصلاة والسلام. وأسأل الله أن يجعله مباركاً نافعاً لكاتبه، ومن انتهى إليه إلى يوم الدين. أما أهم النتائج التي أعانني الله عليها، ويسّر سبحانه التوصّل إليها في هذا البحث فهي على النحو الآتي: 1 - إن مقومات الداعية الناجح هي المعدِّلات التي تعدِّل الداعية وتقوِّم اعوجاجه فتجعله مستقيماً معتدلاً، حكيماً منضبطاً في كل أموره، ناجحاً في دعوته موفّقاً مُسدَّداً بإذن الله تعالى. 2 - إن مقومات الداعية الناجح كثيرة متعددة، ولكني اقتصرت على أصولها وأسسها التي تتفرّع منها جميع المقومات، التي لابد لكل داعية من معرفتها والعمل بها وتطبيقها في حياته. وهي في نظري عشرة أصول: العلم النافع، والحكمة، والحلم، والأناة، والرفق، والصبر، والصدق، والإخلاص، والقدوة الحسنة، والخلق الحسن. ولا ريب أن معرفة الداعية للمقومات التي تجعله ناجحاً في دعوته من أهم المهمات، ومن أولى الواجبات؛ لأن نجاح دعوته، وفوزه برضى

ربه، وتوفيقه موقوف على العمل بهذه المقومات. 3 - إن العلم النافع من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ ولهذا أمر الله به قبل القول والعمل فقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬1)؛ ولهذا بوّب البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باباً قال فيه: بابٌ: العلم قبل القول والعمل. والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) (¬2). والعلم النافع أقسام ثلاثة: علم بالله وأوصافه وما يتبع ذلك، وعلم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون في المستقبل، وعلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح. والعلم لابد فيه من إقرار القلب ومعرفته بما طُلِبَ منه عمله وتمامه العمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل فهو حجة على صاحبه يوم القيامة. وقد أحسن القائل حيث قال: إذا العلم لم تعمل به كان حجةً حجة ... عليك ولم تُعْذَرْ بما أنت جاهله فإن كنت قد أوتيت علماً ... فإنما يصدق قول المرء ما هو فاعله والعلم له طرق يكتسب بها، ومن أعظمها: أن يسأل العبد ربه العلم النافع، وأن يجتهد في طلبه، وأن يبتعد عن جميع المعاصي؛ لأنها سبب في حرمان العلم، وأن لا يستحيي من طلب العلم، ولا يتكبر عن طلبه، ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 98 (1037).

وأن يخلص في الطلب. 4 - إن الحكمة هي الركن الأعظم من مقومات الداعية الناجح، وهي بلا شك الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان. والحكمة تكون تارة باستخدام الرفق واللين، وتارة باستخدام الموعظة الحسنة، وتارة تكون باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، وتارة تكون باستخدام القوة لمن كان له سلطة مشروعة بالضوابط التي دلّ عليها الكتاب والسنة. والحكمة حكمتان: حكمة علمية وحكمة عملية وهي درجات بيّنها أهل العلم، والحكمة لها طرق تكتسب بها وتُحصّل بها، فإذا سلك الداعية هذه الطرق وُفِّق لاكتساب الحكمة بإذن الله تعالى، ومن أبرز وأهم هذه الطرق الطرق الآتية: الطريق الأول: السلوك الحكيم الذي يسلكه الداعية في حياته وتصرفاته، وسيرته. الطريق الثاني: العلم بالعمل المقرون بالصدق والإخلاص. وما أحسن وأجمل ما قاله الشاعر الحكيم: وكيف يصح أن تُدْعى حكيماً ... وأنت لكل ما تهوى ركوب الطريق الثالث: الخبرات والتجارب؛ لأن التجارب لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات. الطريق الرابع: السياسة الحكيمة ومن أعظمها: تحرّي أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين، حتى لا يملّوا عن الاستماع، وترك

الأمر الذي لا إثم في تركه ولا ضرر اتقاءً للفتنة، وهذا يبيّن للداعية أن المصالح إذا تعارضت أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم، فإنّ دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ودفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. الطريق الخامس: فقه ركائز الدعوة وأركانها؛ فإن الداعية لا يكون حكيماً حتى يعرف موضوع الدعوة الذي يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوافر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟ والداعية الحكيم هو الذي ينزل الناس منازلهم، ومراتبهم، فيدرس الواقع لأحوال الناس ومعتقداتهم، ونفسياتهم، ويعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ثم يدعوهم على حسب أحوالهم وما يحتاجون إليه، فالداعية الحكيم كالطبيب الذي يُشخِّص المرض، ويعرف الداء ويحدّده، ثم يعطي العلاج والدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك قوة المريض، وضعفه وتحمّله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشقّ بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه؛ من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا الداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويحدّد المرض تحديداً دقيقاً، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم العلاج المناسب بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة مع تشويق المدعوّ إلى القبول والإجابة. 5 - إن الحلم هو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وهو من

أعظم مقومات الداعية الناجح، وما أكثر الصور التطبيقية التي فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام - رضي الله عنهم - في مجال الحلم في الدعوة إلى الله تعالى فدخل الناس في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى ثم بتطبيق هذا المقوم العظيم. والحلم له طرق يكتسب بها إذا سلكها الداعية كان حليماً وموفقاً. 6 - إن الأناة من أعظم مقومات الداعية الناجح، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدلّ على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية التي تضبط نفسه؛ فإن الأناة عند الداعية تجعله يحكِّم أموره ويضع الأشياء مواضعها، والتثبت في الأمور الواقعة وفي الأخبار الواردة حتى تتضح وتظهر، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أوْ لها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1) وكم من الصور التطبيقية للأناة في الدعوة إلى الله تعالى التي طبقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطبقها مِنْ بعدِهِ أهل العلم والإيمان فنفع الله بها؟ 7 - إن الرفق هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأيسر والأسهل، وحسن الخلق وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف والشدة، وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا)) (¬3). ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 6. (¬2) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 78 (2594). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم 69، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 8 - (1734).

8 - إن الصبر هو منع النفس وحبسها عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن التشويش، وهو يمنع صاحبه من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها، وهذه القوة تمكِّن الداعية من ضبط نفسه لتحمّل المشاق والمتاعب والآلام ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح، ويحتاجه الداعية قبل الدعوة، وأثناء الدعوة، وبعد الدعوة كما بيّن ذلك أهل العلم والإيمان. والصبر في الدعوة بمثابة الرأس من الجسد، فلا دعوة لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له. والصبر ينتصر به الداعية على عدوه مع الأخذ بالأسباب المشروعة {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬1). فلابد للداعية أن يصبر على دعوته وما يدعو إليه، وعلى ما يتعرّض دعوته من معارضات، وعلى ما يصيبه هو من أذى، فإذا فعل ذلك كان إماماً يُقتدى به: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬2). 9 - إن الصدق والإخلاص في الدعوة إلى الله: هو التقرّب بهذا العلم إلى الله وحده: لا رياءً ولا سمعةً، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً وإنما يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه، ويقصد بدعوته وسائر ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 120. (¬2) سورة السجدة، الآية: 24.

تصرفاته وتوجيهاته وجه الله وحده لا شريك له، ولا رب سواه. ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ ... } (¬1). والصدق يكون في القصد والنية وهو الإخلاص، وفي القول بالأخذ بالحق ونبذ الباطل، وفي العمل بموافقة القول، وهذه المجالات تحت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). 10 - إن القدوة الحسنة هي أن يكون الداعية قدوة صالحة فيما يدعو إليه فلا يناقض قوله فعله ولا فعله قوله، وهي من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة دون أن يعلم أنه تحت رقابة مجهرية، فرب عمل يقوم به الداعية من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر والموبقات؛ لأنهم يعدّونه قُدوة، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع فيظن أنه على حق، ومعلوم أن الداعية إذا كان عاملاً بما يدعو إليه كان ذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به؛ لأن كثيراً من الناس ينتفعون بالسيرة الحسنة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولاسيما عامة الناس؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا ... } (¬3) وقد ذم سبحانه من خالف قوله فعله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 125. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119. (¬3) سورة فصلت، الآية: 33.

تَفْعَلُونَ} (¬1)،، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬2)، وما أحسن ما قاله القائل: يا أيها الرجل المعلِّم غيره ... هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقولُ ويُقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليمُ لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم 11 - إن الخلق الحسن حالة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الحسنة الجميلة وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح، وإذا تخلَّق به الداعية أحبه الناس جميعاً حتى أعدائه في الغالب، فيتمكن بذلك من إدراك مطالبه السامية بإذن الله تعالى؛ لأن الداعية لا يسع الناس بماله ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق. ومن التجارب الملموسة والمشاهدة أن من لم يتخلق بالخلق الحسن من الدعاة ينفر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يسيء إليهم، ويبدو منه احتقارهم ولو كان ما يقوله حقاً؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ... } (¬3). والخلق الحسن موضوع واسع جداً يشمل: الحلم، والأناة، والجود، ¬

(¬1) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬2) سورة البقرة، الآية: 44. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 159.

والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر والإحسان، والوفاء، والإيثار، والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل، وهذا مفهوم واسع إذا عمل به الداعية كان ناجحاً في دعوته بعون الله. والله أسأل أن يوفق جميع علماء المسلمين ودعاتهم إلى العمل بهذه المقومات، وأن يزيدني وإياهم علماً، وهدىً، وتوفيقاً، وأن يحسن لي ولهم ولجميع المسلمين العاقبة في الأمور كلها، وأن يجيرنا جميعاً من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1 - القرآن الكريم. 2 - أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي، ت 543 هـ، تحقيق علي بن محمد البجاوي، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 3 - إحياء علوم الدين، للإمام الغزالي، دار الندوة الجديدة، بيروت. 1 - الإخلاص والشرك الأصغر، لعبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 2 - الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الثالثة، 1413هـ، دار القلم دمشق. 3 - أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن الماوردي، ت 450 هـ، طبعة 1374هـ، ميدان الأزهر، مكتبة ومطبعة محمد بن علي صبيح وأولاده. 4 - الأدب المفرد، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري تخريج محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثالثة دار البشائر، بيروت، لبنان. 5 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود، بدون تاريخ، دار الفكر. 6 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 7 - أسس الدعوة وأدب الدعاة، للدكتور محمد الوكيل، الطبعة الثانية، 1406هـ، دار الوفاء ودار المجتمع، جدة. 8 - الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني دار صادر، بيروت، لبنان. 9 - أصول الدعوة، للدكتور عبد الكريم زيدان، الطبعة الثالثة، 1396هـ، مكتبة المنار الإسلامية. 10 - أصول الدعوة وطرقها، للدكتور عبد الرب بن نوّاب، الطبعة الأولى، 1413هـ، دار العاصمة، الرياض. 11 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 12 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم

الجوزية، ت 751هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبعة 1407هـ، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت. 13 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، مكتبة حميدو، الإسكندرية. 14 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر الخلال، بتحقيق عبد القادر أحمد عطا، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة. 15 - أيسر التفاسير، لأبي بكر جابر الجزائري، بدون ناشر، الطبعة الأولى،1407هـ. 16 - البداية والنهاية، للحافظ عماد الدين أبى الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، ت 774 هـ، الطبعة الثالثة، 1979 م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان. 17 - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي، بدون تاريخ، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان. 18 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، 748هـ، (قسم السيرة النبوية وعهد الخلفاء الراشدين)، تحقيق الدكتور عمر بن عبد السلام، الطبعة الأولى، 1407هـ، دار الكتاب العربي. 19 - التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، الطبعة الرابعة، 1405هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 20 - تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 310هـ، الطبعة الثانية، 1408هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 21 - تاريخ نجد، روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، لحسين بن غنام، بتحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد، الطبعة الثالثة، 1403هـ، مطابع شركة الصفحات الذهبية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 22 - تبريد حرارة المصيبة، لأبي عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني، توزيع مؤسسة الجريسي. 23 - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، لأبي العُلا محمد عبد الرحمن عبد الرحيم المباركفوري، ت 1353 هـ، الطبعة الثانية، 1457 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 24 - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت 656هـ، الطبعة الثالثة، 1388هـ، دار إحياء التراث العربي. 25 - تفسير البحر المحيط، لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي، ت 754هـ، الطبعة الثانية، 1403هـ، دار الفكر. 26 - تفسير البغوي (معالم التنزيل)،للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ت516 هـ، تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، الطبعة الأولى،1406 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 27 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 315 هـ، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف بمصر. 28 - التفسير الكبير، لمحمد الرازي فخر الدين بن ضياء الدين عمر، ت 604هـ، الطبعة الأولى،

بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 29 - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن الخطيب عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، طبعة 1407 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 30 - تفسير القرآن الحكيم، الشهير بتفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، بيروت، لبنان. 31 - التفسير القيم للإمام ابن القيم، جمعه محمد أويس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 32 - تفسير المراغي، لأحمد مصطفى المراغي، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، دار الكتاب العربي، بيروت. 33 - تفسير النسفي، لعبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، ت 701 هـ، بدون تاريخ، دار الكتاب العربي، بيروت. 34 - تقريب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852هـ، تحقيق محمد عوامة، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار الرشيد، سوريا، حلب. 35 - تهذيب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، الطبعة الأولى، 1404هـ، دار الفكر. 36 - تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، للعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب، ت 1233 هـ، طبعة 1406 هـ، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 37 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت1376هـ، تحقيق محمد زهري النجار، طبعة 1404 هـ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 38 - جامع الأصول من أحاديث الرسول، لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت656 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1453 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 39 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى 1414 هـ، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية. 40 - الجامع لأحكام القرآن الكريم، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبى، ت 671 هـ، تحقيق محمد إبراهيم الحفناوي، ومحمود حامد عثمان، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار الحديث، القاهرة. 41 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت 795 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1411 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 42 - جمهرة اللغة، لابن دريد أبي بكر بن محمد بن الحسن البصري، الطبعة الأولى، 1345هـ، دار صادر.

43 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت751هـ، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، الطبعة الأولى،1407هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 44 - حاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، بقلم عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ت1392هـ، الطبعة الخامسة، 1407هـ، بدون ناشر. 45 - الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ت 728 هـ، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 46 - الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الثالثة، 1417 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 47 - الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، للدكتور محمد ربيع المدخلي، الطبعة الأولى، 1409هـ، مكتبة لينة. 48 - حلية الأولياء وطبقات ألأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، ت 430هـ، بدون تاريخ، دار الكتاب العربي، بيروت. 49 - درء تعارض العقل والنقل، لأبي العباس تقي الدين أحمدبن عبد الحليم ابن تيمية، ت 728 هـ، تحقيق د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1450 هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 50 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ت 1392هـ، الطبعة الثانية، 1385هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 51 - الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية، للمحامي صبحي محمصاني، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار الملايين، بيروت. 52 - دعوة الحق: الصبر في ضوء الكتاب والسنة، لأسماء عمر حسن، العدد 54، 1406هـ، رابطة العالم الإسلامي، مكة. 53 - الدعوة إلى الله، لتوفيق الواعي، الطبعة الأولى، 1406هـ، مكتبة الفلاح، الكويت. 54 - دقائق التفسير، الجامع لتفسير ابن تيمية، جمع الدكتور محمد السيد الجليند، الطبعة الثالثة، 1406هـ، مؤسسة علوم القرآن الكريم، بيروت، ودار القبلة، جدة، المملكة العربية السعودية. 55 - الدعوة والدعاة بين تحقيق التوكل واستعجال النتائج، لسليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1413هـ، دار الصديق، الجبيل. 56 - دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية، لعدنان علي رضا النحوي، الطبعة الرابعة، 1405هـ، مطابع الفرزدق التجارية بالرياض، المملكة العربية السعودية. 57 - ديوان أبي تمام، بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف بمصر. 58 - ديوان الإمام الشافعي، لأبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ت 254 هـ، جمعه

وعلق عليه محمد عفيف الزعبي، الطبعة الثالثة، 1392 هـ، مؤسسة الزعبي، بيروت، لبنان. 59 - الذكر والدعاء والعلاج بالرقى من الكتاب والسنة، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان، الطبعة الثالثة، شعبان 1422هـ. 60 - الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار القلم، بيروت، لبنان. 61 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي البغدادي، ت 1270هـ، الطبعة 1408هـ، بدون تاريخ، دار الفكر. 62 - الرياء: ذمه وأثره السيئ في الأمة، سليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1408هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 63 - الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت1376 هـ، بدون تاريخ، نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، المملكة العربية السعودية. 64 - زاد الداعية إلى الله، لمحمد بن صالح العثيمين، بدون تاريخ، مطابع المدينة بالرياض، المملكة العربية السعودية. 65 - زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ت 596هـ، الطبعة الأولى، 1384هـ، المكتب الإسلامي. 66 - زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1399 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 67 - سبل السلام الموصل إلى بلوغ المرام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق محمد صبحي حسن حلاق، الطبعة الأولى عام 1418هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 68 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة 1498هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 69 - سلسلة الأحاديث الضعيفة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1399 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 70 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت 279 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ ة مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، مصر. 71 - سنن الدارقطني، للإمام علي بن عمر الدارقطني، ت 385هـ، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني، لمحمد شمس الحق العظيم أبادي، تحقيق عبد الله هاشم يماني، بدون تاريخ، دار المحاسن للطباعة والنشر، القاهرة والمدينة المنورة.

72 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255 هـ، طبعة 1404 هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 73 - سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، ت 275 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 74 - السنن الكبرى، للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي، ت 458 هـ، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 75 - السنن الكبرى، لأحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ. 76 - سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت 275 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 77 - سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت 303 هـ، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، ت 911هـ، وحاشية السندي، ت 1138 هـ، الطبعة الأولى، 1406 هـ، اعتنى به ورقمه عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 78 - سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الرابعة، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 79 - السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، الطبعة الثامنة، 1405هـ، المكتب الإسلامي. 80 - سيرة ابن هشام، لأبي محمد بن عبد الملك بن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء. 81 - شرح السنة، للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت 519 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1396 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 82 - شرح صحيح مسلم لإمام النووي، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، دار القلم، بيروت، لبنان. 83 - شعب الإيمان، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت 458 هـ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 84 - الشوقيات، شعر أحمد شوقي، بدون تاريخ، دار العودة، بيروت. 85 - الصبر الجميل، لسليم بن عيد الهلالي، الطبعة الثانية، 1411هـ، دار ابن القيم، الدمام.

86 - الصبر في القرآن الكريم، للدكتور يوسف القرضاوي، الطبعة الثانية، 1404هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 87 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمدبن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. وطبعة 1315 هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، والنسخة المطبوعة مع فتح الباري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 88 - صحيح الترغيب والترهيب، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1452 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 89 - صحيح الجامع الصغير، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1388 هـ؟ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 90 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، للإمام أبي حاتم محمدبن أحمدبن حبان البستي، ت354 هـ، رتبه الأمير علاء الدين علي بن سليمان بن بلبان الفارسي، ت 739 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 91 - صحيح ابن خزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي النيسابوري، ت 311 هـ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، طبعة 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 92 - صحيح سنن الترمذي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1408 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 93 - صحيح سنن أبي داود باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 94 - صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1407 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 95 - صحيح سنن النسائي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 96 - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري االنيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 97 - صفات المنافقين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبى بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ. 98 - صفوة الآثار والمفاهيم في تفسير القرآن العظيم، لعبد الرحمن بن محمد الدوسري، الطبعة الأولى، 1402هـ، مكتبة دار الأرقم، الكويت. 99 - الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد، ت 230 هـ، بدون تاريخ، تصوير بيروت، دار صادر. 100 - طريق الهجرتين وباب السعادتين، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ت 751، تخريج عمر بن محمود وأبو عمر، الطبعة الأولى 1409 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. .

101 - ظلال الجنة في تخريج السنة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 102 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق محمد عثمان الخشت، الطبعة الرابعة، 1410 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 103 - عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين، لصالح بن إبراهيم البليهي، الطبعة الثانية، 1404هـ، مكتبة ابن تيمية. 104 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، الطبعة الثالثة 1399هـ، دار الفكر. 105 - فتاوى محمد بن صالح العثيمين، جمع فهد بن ناصر السليمان، الطبعة الأولى، دار الوطن، المملكة العربية السعودية. 106 - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، جمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، 1399، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة (وقف لله تعالى). 107 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 108 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ت 1250 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 109 - فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، د. عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت 1285هـ، تحقيق د. الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية. وطبعة دار المنار، بعناية صادق بن سليم بن صادق، الرياض، المملكة العربية السعودية. 110 - فقه الدعوة في إنكار المنكر، لعبد الحميد البلالي، الطبعة الثانية، 1407هـ، دار الدعوة، الكويت. 111 - فقه السيرة، لمحمد الغزالي، الطبعة السابعة، 1976م، خرج أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني، دار الكتب الحديثة. 112 - الفوائد، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751هـ، بتحقيق بشير عيون، الطبعة الأولى، 1407هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. 113 - في ظلال القرآن، سيد قطب، الطبعة التاسعة، 1400هـ، دار الشروق، بيروت، القاهرة. 114 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة عبد الرؤوف المناوي، ت 1031 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 115 - القاموس المحيط، للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت 817 هـ

الطبعة الأولى، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 116 - القاموس الفقهي: لغة واصطلاحاً، لسعدي أبو جيب، الطبعة الأولى، 1402هـ، دار الفكر، دمشق، سورية. 117 - القول السديد في مقاصد التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376 هـ، بعناية وتخريج د. المرتضى الزين أحمد، الطبعة الأولى، 1416 هـ، مجموعة التحف النفائس الدولية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 118 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير:، علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم، ت 630هـ، الطبعة السادسة 1406هـ، دار الكتاب العربي. 119 - كتاب الإخلاص، حسين العوايشة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن. 120 - كتاب الزهد، للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت 241 هـ، تحقيق محمد السعيد بسيوني، الطبعة الأولى، 1456 هـ، دار الكتاب العربي، الرملة، بيروت، لبنان. 121 - كيف ندعو الناس، لعبد البديع صقر، الطبعة التاسعة، 1404هـ، دار التوفيق النموذجية، القاهرة. 122 - كيف يدعو الداعية، لعبد الله ناصح علوان، الطبعة الثانية، 1406هـ، دار السلام، القاهرة، وحلب. 123 - لسان العرب، للإمام أبي الفضل جمال الدين بن مكرم بن علي بن منظور، ت 711 هـ، الطبعة الثالثة، 1414 هـ، دار صادر، بيروت، لبنان. 124 - لقمان الحكيم وحكمه، لمحمد خير رمضان، الطبعة الأولى، 1404هـ، دار المصحف. 125 - المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح، لعبد المؤمن بن خلف الدمياطي، ت 705هـ، تحقيق عبد الملك بن دهيش، الطبعة الثالثة، 1406هـ، الناشر: المحقق. 126 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، الطبعة الثالثة، 1402 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 127 - مجموع فتاوى ابن باز، جمع عبد الله الطيار، وأحمد الباز، الطبعة الأولى 1416هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 128 - مجموع فتاوى ابن تيمية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ت 728 هـ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، بدون تاريخ، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب. 129 - مجموعة الرسائل الكبرى، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ت 728هـ، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 130 - محيط المحيط، المعلم بطرس البستاني، طبعة جديدة، 1987م، مكتبة لبنان، بيروت. 131 - مختار الصحاح، للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، طبعة 1985م، مكتبة

لبنان، بيروت، لبنان. 132 - مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي وتهذيبه لابن قيم الجوزية، تحقيق أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي، ط دار المعرفة، بيروت. 133 - مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ت 1206هـ، بدون تاريخ، توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 134 - مختصر منهاج القاصدين، للإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسى، ت 689 هـ، تعليق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، طبعة 1398 هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. 135 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة بدون تاريخ، مكتبة السنة المحمدية، ومكتبة تيمية، القاهرة. 136 - المدخل لابن الحاج. 137 - المرأة المسلمة المعاصرة إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، لأحمد أبا بطين، الطبعة الأولى، 1411هـ، دار عالم الكتب، الرياض. 138 - المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 139 - مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت 241 هـ، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت، لبنان. 140 - مسند الإمام أحمد بشرح أحمد شاكر، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، شرحه وضع فهارسه أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر. 141 - مسند أبي داود الطيالسي، لأبي داود سليمان بن داود الطيالسي (204 هـ)، تحقيق: د. محمد بن عبد المحسن التركي، طبع دار هجر بالقاهرة، الطبعة الأولى 1419 هـ. 142 - مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 143 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 144 - المصفى من صفات الدعاة، لعبد الحميد البلالي، الطبعة الرابعة، 1405هـ، دار الدعوة، الكويت. 145 - معالم الدعوة، لعبد الوهاب بن لطف الديلمي، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار المجتمع، جدة، المملكة العربية السعودية. 146 - معجم المقاييس في اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395 هـ، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان.

147 - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، الطبعة الثانية، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا. 148 - مفتاح دار السعادة، للعلامة الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تخريج علي بن حسن بن علي بن عبد المجيد، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية. 149 - المفردات في غريب القرآن، للعلامة أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، ت 502 هـ، تحقيق محمد سيد كيلاني، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 150 - مقامع الشيطان، لسليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1408 هـ، مكتبة ابن الجوزي، الأحساء، المملكة العربية السعودية. 151 - مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395هـ، بتحقيق عبد السلام محمد هارون، طبعة 1399هـ، دار الفكر. 152 - مقدمة في علم الأخلاق، للدكتور محمود حمدي زقزوق، الطبعة الثانية، 1401هـ، دار القلم، الكويت. 153 - من صفات الداعية اللين والرفق، للدكتور فضل إلهي، الطبعة الأولى، 1411هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض. 154 - المنجد الأبجدي، الطبعة التاسعة، دار المشرق، بيروت، لبنان. 155 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ت 708هـ، تحقيق محمد بن عبد الرزاق حمزة، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 156 - موسوعة أخلاق القرآن الكريم، للدكتور أحمد الشرباصي، الطبعة الثانية، 1405هـ، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان. 157 - الموطأ، للإمام مالك بن أنس، ت 179هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وأولاده. 158 - النهاية في غريب الحديث، للإمام أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت 606 هـ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 159 - النية وأثرها في الأحكام الشرعية، الدكتور صالح بن غانم السدلان، الطبعة الثانية، 1414 هـ، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية. 160 - الهادي إلى لغة العرب، لحسن بن سعيد الكرمي، الطبعة الأولى، 1411هـ، دار لبنان، بيروت. 161 - هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة، للشيخ علي محفوظ، الطبعة التاسعة، 1399هـ، دار الاعتصام. 162 - هذا الحبيب يا محب، لأبي بكر جابر الجزائري، الطبعة الأولى، 1408هـ، مكتبة لينة، دمنهور.

163 - هكذا علمتني الحياة، للدكتور مصطفى السباعي، الطبعة الثالثة، 1406هـ، المكتب الإسلامي.

§1/1