مقدمة ابن الصلاح = معرفة أنواع علوم الحديث - ت فحل
ابن الصلاح
قسم: الدراسة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ((ونشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجةً على الخلائق أجمعين)) (¬1). {يا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوْتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ}. آل عمران: 102. {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُوْنَ بهِ وَالأَرْحَامِ إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً}. النساء: 1. {يا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُوْلُوا قَوْلاً سَدِيْداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيْماً}. الأحزاب: 70 - 71. أما بعد: فقد اصطفى الله تعالى هذه الأمة، وشرّفها إذ اختار لها هذا الدين القويم، وجعل أساسها المشيد وركنها الركين ((كتابه العزيز))، وهيَّأ هذه الأمة لتضطلع بتلك المهمة، ألا وهي حفظ هذا الكتاب الذي تعهد الله تبارك وتعالى سلفاً بحفظه، فقال: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}. الحجر: 9، فرزقها جودة الفهم وقوة الحافظة، ووفور الذهن، فلم يتمكن أحد - بحمد الله - من أن يجرأ فيزيد أو ينقص حرفاً أو حركةً منه. ¬
ولما تعهَّد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم، كان مما احتواه هذا العهد ضمناً حفظ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك حفظ أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأسانيدها فكان الإسناد أحد الخصائص التي اختص الله تعالى بها أمة صفيِّه - صلى الله عليه وسلم -. ولقد أدرك الصدر الأول أهمية ذلك، فروى الإمام مسلم (¬1) وغيره عن محمد ابن سيرين أنه قَالَ: ((إنَّ هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)) وروى (¬2) عنه أنه قال: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)). ومن ثَمَّ افتقر الأمر إلى معرفة ضبط الراوي وصدقه، فكانت الحاجة ماسة إلى استكمال هذا الأمر، فكان نشوء ((علم الجرح والتعديل)) أو ((علم الرجال)). وعلى الرغم من أن هذا العلم لم يكن فجائي الظهور، إلا أنه لا مناص من القول بأنه كان مبكر الظهور جداً، وينجلي ذلك مما نقلناه سالفاً عن ابن سيرين، وقد كان المسلمون مطمئنين إلى أن الله تعالى يهيئ لهذا الأمر من يقوم به ويتحمل أعباء هذه المهمة الجسيمة، فقد أسند ابن عدي في مقدمة " الكامل " (¬3)، وابن الجوزي في مقدمة " الموضوعات " (¬4) أنه قيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فَقَالَ: تعيش لها الجهابذة، {إنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}. وعلم الحديث دراية ورواية من أشرف العلوم وأجلِّها، بل هو أجلها عَلَى الإطلاق بعد العلم بالقرآن الكريم الذي هو أصل الدين ومنبع الطريق المستقيم، فالحديث هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعضه يستقل بالتشريع، وكثير منه شارح لكتاب الله تَعَالَى مبين له قال تَعَالَى: {وأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬5) وعلم الحديث تتفرع تحته علوم كثيرة ومن تلك العلوم: علم مصطلح الحديث وهو العلم الذي ¬
يكشف عن مصطلحات المحدِّثين التي يتداولونها في مصنفاتهم ودروسهم، وكتاب ابن الصلاح هذا كان واحداً من أحسن الكُتُب التي أُلِّفَتْ في علم مصطلح الحديث. قال الحافظ العراقي: ((أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة الاصطلاح كتاب علوم الحديث لابن الصلاح)) (¬1)، وربما كان ذَلِكَ لما حبا الله به ابن الصلاح من فطنة عالية، وجودة ذهن، وحسن قريحة، وسلاسة أسلوب، واستفادته من لَمِّ شتات كتب من سبقه بهذا الباب، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ((من أول من صنف في ذَلِكَ (¬2) القاضي أبو مُحَمَّد الرامهرمزي كتابه " الْمُحَدِّث الفاصل " لكنه لَمْ يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، لكنه لَمْ يهذب ولم يرتب، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني، فعمل عَلَى كتابه مستخرجاً وأبقى أشياء للمتعقب. ثُمَّ جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي، فصنف في قوانين الرواية كتاباً سماه " الجامع لآداب الشَّيْخ والسامع ... ، ثُمَّ جاء بعدهم بعض من تأخر عن الخطيب فأخذ من هذا العلم بنصيب: فجمع القاضي عياضٌ كتاباً لطيفاً سماه " الإلماع " وأبو حفص الميانجي جزءاً سماه " مالايسع الْمُحَدِّث جهله " وأمثال ذَلِكَ من التصانيف التي اشتهرت وبسطت ليتوفر علمها واختصرت ليتيسر فهمها إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح عبد الرحمان الشهرزوري نزيل دمشق - فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية - كتابه المشهور، فهذَّب فنونه وأملاه شيئاً بعد شيء؛ فلهذا لَمْ يحصل ترتيبه عَلَى الوضع المتناسب، واعتنى بتصانيف الخطيب المتفرقة فجمع شتات مقاصدها وضمَّ إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرَّقَ في غيره، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر ومستدرك عليه ومقتصر ومعارض له ومنتصر)) (¬3). ونحن نكتفي بقول الحافظ ابن حجر عن سوق أقوال أئمة آخرين في بيان أهمية وجودة هذا الكتاب، وعَلَى الرغم من نفاسة هذا الكتاب وأهميته البالغة فإنه لم يطبع ¬
طبعة علمية محققة تتجلى من خلالها نصوص الكتاب، وتضبط بالشكل، ويتكلم في إيضاح مسائله وغوامضه والتنكيت والتعقيب على بعض ما انتقد عَلَى المصنف. من هنا شمّرنا عن ساعد الجدِّ في تحقيق نص الكتاب وضبطه وضبط نص الكتاب عَلَى ثلاث نسخ خطية مع الإفادة من الطبعات المتداولة، وكان من أفضل الطبعات السابقة لهذا الكتاب: أولاً: طبعة الدكتور الفاضل نور الدين عتر: سنة 1966، نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، وهي طبعة جيدة قياساً عَلَى سوابقها، لكن مع الجهد الذي قام به الدكتور الفاضل إلاَّ أنَّهُ حصل في نشرته بعض سقط وزيادات وتصحيفات وراجع عَلَى سبيل المثال تعليقنا على الصفحات الآتية: 71، 73، 74، 76، 95، 232، 244، 250، 263، 264، 271، 286، 290، 297، 298، 306، 309، 313، 319، 320، 321، 323، 325، 326، 329، 331، 333، 334، 335، 337، 339، 340، 347، 351، 353، 354، 355، 367، 384، 392، 395، 401. ثانياً: طبعة الدكتورة الفاضلة عائشة عبد الرحمان (بنت الشاطئ): فقد حققت الدكتورة الفاضلة عائشة كتاب "محاسن الاصطلاح" للبلقيني سنة 1974 م، وطبعت معه كتاب "معرفة أنواع علم الحديث" لابن الصلاح، وجعلته متناً في الأعلى وجعلت المحاسن في الحاشية، وهذه الطبعة دون الطبعة السابقة، وقد حصل فيها كسابقتها بعض سقط وتصحيف وزيادات، راجع على سبيل المثال الصفحات الآتية: 71، 73، 74، 75، 76، 77، 78، 82، 85، 87، 97، 242، 246، 253، 256، 258، 262، 265، 266، 267، 268، 271، 274، 275، 278، 279، 281، 282، 283، 284، 287، 288، 293، 294، 297، 303، 304، 305، 307، 309، 311، 312، 314، 316، 317، 318، 322، 324، 326، 329، 332، 334، 336، 345، 348، 352، 362، 365، 367، 369، 372، 373، 375، 377، 382، 385، 389، 391، 392، 395، 398، 401، 409.
كان هذا وأمثاله هو الدافع الوحيد الذي جعلنا نعيد تحقيق الكتاب عَلَى أحسن الطرق العصرية في تحقيق النص وضبطه مزداناً بالشكل التام للكلمات مع التخريج الوافر والتعليق النافع مع تتبع من عقَّب ونكَّت على ابن الصلاح، بالإضافة إلى تحلية الكتاب بالفهارس المتنوعة المتقنة. وقد رأينا أن نقدَّم لهذا الكتاب بدراسة متوسطة دالة على سيرة ابن الصلاح ومنهجه في هذا الكتاب، وقد جعلناها في أربعة فصول: تكلمنا في الفصل الأول عن سيرته، وتناولنا في الفصل الثاني ثقافته، وذكرنا في الفصل الثالث دراسة وافية عن الكتاب، وختمناه بالفصل الرابع الذي تكلمنا فيه عن تحقيق الكتاب والمنهج الذي سرنا عليه. وبعد: فهذا كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " لابن الصلاح، نقدمه لمحبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - السائرين على هديه الراجين شفاعته يوم القيامة، قد خدمناه الخدمة التي توازي تعلقنا بسيدنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، بذلنا فيه ما وسعنا من جهد ومال ووقت، ولم نبخل عليه بشيء، وكان الوقت الذي قضّيناه فيه كله مباركاً. وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين المحققان 1/ 9 / 2001
الفصل الأول: سيرته
الفصل الأول: سيرته المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته هو تقي الدين أبو عمرو عثمان بن صلاح الدين أبي القاسم عبد الرحمان بن عثمان ابن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الشرخاني الشهرزوري الأصل، الموصلي النشأة، الدمشقي الموطن والوفاة، الشافعي المذهب (¬1). والنَّصْري: بفتح النون وسكون الصاد المهملة وبعدها راء مهملة أيضاً؛ نسبة إلى جدِّه ((أبي نصر)) (¬2). والشَّرَخاني: بفتح الشين المعجمة والراء المهملة والخاء المعجمة؛ نسبة إلى ((شرخان)) قرية من قرى شهرزور (¬3). والشَّهْرَزُوري: بفتح الشين المعجمة وسكون الهاء وفتح الراء وضم الزاي وسكون الواو وفي آخرها راء مهملة. وهي كورة واسعة بين إربل وهمدان، تنسب إلى بانيها (زور بن الضحاك) (¬4). ¬
المبحث الثاني: مولده
المبحث الثاني: مولده اتفق كل مَنْ ترجم لابن الصلاح على أن مولده كان سنة (577 هـ) (¬1)، لا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف كان في مكان ولادته، فالجمهور على أن ولادته كانت في مدينة ((شهرزور)) (¬2). وانفرد تلميذه ابن خلّكان (¬3) بالقول أن مولده كان في ((شرخان))، وعلى الرغم من أن هذا الاختلاف ليس بذي بالٍ في إظهار خلافٍ ما، إلاَّ أن هذا الاختلاف - على تقدير وجوده - لا يلبث أن يزول إذا ما علمنا أن ((شرخان)) قرية تابعة إلى ((شهرزور))، فمَنْ نَسَبَ إلى الأول فقد دقق، ومَنْ نَسَبَ إلى الثاني فقد اكتفى بذكر القطر الأعم، والله أعلم. المبحث الثالث: أسرته ونشأته وطلبه للعلم لَمْ توفّر المصادر التي بين أيادينا مادة علمية عن أفراد أسرة مترجمنا، بل قصارى ما عرفناه عنهم: ما كان يتبؤه والده من المكانة الاجتماعية والمركز العلمي المرموق. ولا ضير في أن نتعرض لترجمة مقتضبة لوالده فنقول: لَمْ يكن والده صلاح الدين أبو القاسم عبد الرحمان يعرف تاريخ مولده على وجه الدقة، بل كان يخمن أنه ولد سنة (539 هـ) (¬4)، وطلب العلم لاسيما الفقه، وبرع فيه حتَّى ((كان من جلة مشايخ ¬
الأكراد المشار إليهم)) (¬1)، ومن ثَمَّ تقلبت به صروف الدهر ما بين موطنه والموصل، حتَّى استقر به الأمر في حلب (¬2)، فتولَّى هناك التدريس في المدرسة الأسدية (¬3)، حَتَّى تُوفِّي بحلب في ذي القعدة سنة (618هـ) (¬4). ولقد رعى الوالد ولده وأحسن تربيته، فلقَّن ابنه - الذي ظهرت عليه مخايل النباهة وعلوُّ الهمة وعظيم النشاط - الفقه، ومما يدل على ذلك ما روي عنه أنه أعاد قراءة كتاب " المهذب " على والده أكثر من مرة ولم يختط شاربه بعد (¬5). والذي يبدو لنا: أن الوالد لما أحسَّ بنهم ولده للعلم، اكتفى بأن أعطاه مبادئ العلوم الأولية، ومن ثم ترك لولده مهمة اختيار طبيعة دروسه، فلم يهمل الولد تنويع مصادر معرفته، فطلب على مشايخ بلده الذين كان غالبهم من الأكراد (¬6). وبعد أن أدرك أبو القاسم أن تطلّعات ولده تسمو به عن أن يفي بها معلمو قريته الصغيرة، فسافر به إلى مدينة الموصل (¬7) - إحدى أكبر حواضر الإسلام - ولم يطل المقام به كثيراً فيها (¬8)، فما هو إلاَّ أن اشتدَّ عوده وقوي على تحمّل أعباء الحياة، حَتَّى يمَّم وجهه صوب قبلة العلم وجوهرة الشرق دار السلام "بغداد" (¬9)، التي كانت آنذاك تعجّ بمظاهر العِلْم، وصنوف أرباب المعرفة وطلابهم، فوردها تقي الدين وسمع بها من جملة من ¬
المشايخ (¬1)، ثُمَّ بعد أن أحسَّ أن الرحلة سنة من يطلب هذا الشأن (الحديث)، شدَّ رحاله إلى بلاد العجم، ولزم فيها الإمام الرافعي (¬2) وبه تفقه وبرع في مذهب الشافعي (¬3). ثُمَّ أجاب أبو عمرو داعي العلم في خراسان حيث الأسانيد العالية التي يرغب فيها أهل الحديث، فدخل نيسابور، ومرو، وهمذان، إلاَّ أن أبرز مَنْ لَقِيَ من المشايخ هناك: الإمام أبا الْمُظَفَّر السمعاني (¬4)، وبعد أن سمع وحصّل ((الكثير بالموصل وبغداد ودنيسر (¬5) ونيسابور ومرو وهمذان ودمشق وحران)) (¬6)، وتأهّل لأن يكون إماماً يشار إليه بالبنان. عاد أدراجه بعد رحلة طويلة جال فيها أهم مراكز العلم في بلاد المشرق الإسلامي، فدخل دمشق وقد ناهز السادسة والثلاثين من عمره الذي كانت عدد سنواته (ستة وستين عاماً)، وكان ذلك في حوالي سنة (613 هـ) (¬7). ثُمَّ قصد القدس فأقام بها (¬8)، ودرَّس في المدرسة الصلاحية وتسمى الناصرية أيضاً (¬9)، ثُمَّ لما أمر الملك المعظم بهدم سور القدس (¬10)، نزح إلى دمشق مستقرّاً بها (¬11)، وذلك في حدود سنة (630 هـ) (¬12). ولا نُغْفِل أن أبا عمرٍو سافر إلى الحرمين حاجّاً، - قَبْلَ استقراره في دمشق وبعدها - وهو لَمْ يعدم في سفرته هذه علماً يضيفه إلى مخزون علمه (¬13). ¬
المبحث الرابع: وفاته
المبحث الرابع: وفاته بعد ستة وستين من الأعوام، جاءت سكرة الموت بالحق، فاختار الله تعالى ابن الصلاح إلى جواره الكريم، ففاضت روحه في صباح (¬1) يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر (¬2). وقيل: ستة وعشرون (¬3)، في حين اكتفى بعض المؤرخين بذكر الشهر من غير تعيين يوم منه (¬4). وعلى كل التقديرات فإنهم متّفقون على أن وفاته كانت سنة (643 هـ) (¬5)، وكثر التأسف عليه وحمل نعشه على رؤوس الناس، وازدحم على سريره الخلق، وكان على جنازته هيبة وخشوع، فَصُلِّي عليه بجامع دمشق بعد الظهر، وشُيِّع إلى داخل باب الفرج وصُلِّي عليه هناك ثانية، ولم يقدر الناس على الخروج لدفنه؛ لأن دمشق كانت محاصرة من الخوارزمية (¬6)، وَلَمْ يخرج مَعَهُ إلاَّ نحو عشرة أَنْفُس مخاطرين حَتَّى دفنوه في مقابر الصوفية خارج باب النصر (¬7)، فرحمه الله (¬8). ¬
الفصل الثاني: ثقافته
الفصل الثاني: ثقافته المبحث الأول: شيوخه حرص المترجَم على أن يتلقى العلم من أفواه الرجال على ما جرت به عادة أهل الإسلام، فرحل في سبيل ذلك - كما قدّمنا - إلى كثير من الأقطار، فبعد إقامته بالموصل ((دخل بغداد، وطاف البلاد، وسمع من خلق كثير وجمٍّ غفير ببغداد، وهمذان، ونيسابور، ومرو، وحران، وغير ذلك، ودخل الشام مرتين)) (¬1). لذا رأينا أن نذكرهم على حسب بلدانهم التي سمع فيها منهم المترْجَم: الموصل: 1. عماد الدين أبو حامد مُحَمَّد بن يونس بن منعة الإربلي ثُمَّ الموصلي الفقيه الشافعي، ت (608 هـ) (¬2). 2. أبو جعفر عبيد الله بن أحمد المشهور بـ: ابن السَّمين (¬3)، ت (588 هـ) (¬4)، وهو أقدم شيخ له (¬5). 3. نصر بن سلامة الهيتي (¬6). ¬
4. محمود بن علي الموصلي (¬1). 5. عبد المحسن بن الطوسي (¬2). 6. أبو الْمُظَفَّر بن البرني (¬3). بغداد: 7. أبو أحمد ضياء الدين عبد الوهاب بن أبي منصور علي بن عبيد الله بن سكينة البغدادي الصوفي الشافعي (¬4)، شيخ الشيوخ الإمام العالم الفقيه المحدِّث الثقة المعمر القدوة الكبير شيخ الإسلام مفخرة العراق، ت (607 هـ) (¬5). 8. أبو حفص عمر بن مُحَمَّد بن مُعَمَّر بن أحمد البغدادي الدارقزي المؤدب المشهور بـ: ابن طَبَرْزَذ (¬6) الشَّيْخ المسند الكبير الرحلة، ت (607 هـ) (¬7). بلاد العجم: 9. أبو القاسم عبد الكريم بن أبي الفضل محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين الرافعي القزويني (¬8) شيخ الشافعية عالم العجم والعرب إمام الدين، ت (623 هـ) (¬9). ¬
مرو: 10. أبو الْمُظَفَّر فخر الدين عبد الرحيم بن الحافظ الكبير أبي سعد عبد الكريم بن محمد ابن منصور السمعاني المروزي الشافعي (¬1) الشَّيْخ الإمام العلاَّمة المفتي المحدِّث، ت (617 هـ) أو (618 هـ) (¬2). 11. محمد بن عمر المسعودي (¬3). 12. مُحَمَّد بن إسماعيل الموسوي (¬4). 13. أبو جعفر مُحَمَّد بن مُحَمَّد السنجي (¬5). نيسابور: 14. أبو بكر، وأبو الفتح، وأبو القاسم: منصور بن مسند وقته أبي المعالي عبد المنعم ابن المحدِّث أبي البركات عبد الله بن فقيه الحرم أبي عبد الله مُحَمَّد بن الفضل بن أحمد الصاعدي الفراوي ثُمَّ النيسابوري (¬6). الشَّيْخ الجليل العدل المسند، ت (608 هـ) (¬7). 15. رضي الدين أبو الحسن المؤيد بن مُحَمَّد بن علي بن حسن الطُّوسي ثُمَّ النيسابوري (¬8) الشَّيْخ الإمام المقرئ الْمُعَمَّر مسند خراسان، ت (617 هـ) (¬9). ¬
16. حُرَّة ناز أم المؤيد زينب بنت أبي القاسم عبد الرحمان بن الحسن بن أَحْمَد الجرجانية الأصل النيسابورية الشعرية (¬1) الشيخة الجليلة مسندة خراسان، ت (615 هـ) (¬2). 17. شهاب الدين أبو بكر القاسم بن الشَّيْخ أبي سعد عبد الله بن الفقيه عمر بن أَحْمَد النيسابوري ابن الصفَّار (¬3) الإمام الفقيه الشافعي المسند الجليل مفتي خراسان، ت (618 هـ) (¬4). 18. مُحَمَّد بن الحسن الصرَّام (¬5). 19. أبو المعالي بن ناصر الأنصاري (¬6). 20. إسماعيل بن عثمان بن إسماعيل بن أبي القاسم بن أبي بكر (¬7)، أبو النجيب القارئ النيسابوري، ت (617 هـ) أو (618 هـ) (¬8). همذان: 21. أبو الفضل عبد الرحمان بن عبد الوهاب بن أبي زيد الْمُعَزِّم الهمذاني الفقيه (¬9)، ت (609 هـ) (¬10). ¬
حران: 22. أبو مُحَمَّد عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمان الرُّهاوي الحنبلي السفار (¬1) الإمام الحافظ المحدِّث الرَّحَّال الجوَّال محدِّث الجزيرة، ت (612هـ) (¬2). دمشق: 23. فخر الدين أبو منصور عبد الرحمان بن مُحَمَّد بن الحسين بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي الشافعي (¬3) بن عساكر، الشَّيْخ الإمام العالم القدوة المفتي شيخ الشافعية، ت (620 هـ) (¬4). 24. موفق الدين أبو مُحَمَّد عبد الله بن أحمد بن مُحَمَّد بن قدامة المقدسي الجَمَّاعيلي ثُمَّ الدمشقي الصالحي الحنبلي (¬5)، الشَّيْخ الإمام القدوة العلاَّمة المجتهد شيخ الإسلام، ت (620 هـ) (¬6). 25. جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن مُحَمَّد بن أبي الفضل بن علي الأنصاري الدمشقي الشافعي ابن الحرستاني (¬7)، الشَّيْخ الإمام العالم المفتي المعمَّر الصالح مسند الشام شيخ الإسلام قاضي القضاة، ت (624 هـ) (¬8). ¬
المبحث الثاني: تلامذته
حلب: 26. زين الدين أبو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرحمان بن عبد الله بن علوان الأسدي الشافعي (¬1) الشهير بـ: ابن الأستاذ، قاضي حلب. ت (635 هـ) (¬2). وغيرهم أعرضنا عن ذكرهم اختصاراً للمقام. المبحث الثاني: تلامذته ما كاد ابن الصلاح يلقي عصا ترحاله مستقراً بالقدس أوَّلاً، ثُمَّ دمشق ثانياً، حَتَّى تقاطر عليه طلبة العلم من كل صوب، يحدوهم أمل أن يفوزوا بالتَّتلمذ على يديه، والاغتراف من معين علمه. وما كان ابن الصلاح ليتمتَّع بهذا الفضل الذي يشهد به العدو قبل الصديق، والفضل ما شهدت به الأعداء - كما يقولون - لولا صفات أهَّلته لأن يكون مَوْئِل الباحثين عن الحقيقة الناشدين عن المعرفة؛ فبات من العسير علينا أن نحصيَ تلامذة إمام بهذا المستوى؛ لذا ارتأينا الاقتصار عَلَى أشهرهم، وهم: 1. شمس الدين أبو العباس أَحْمَد بن مُحَمَّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي الإربلي الشَّافِعِيّ (¬3) قاضي القضاة، ت (681 هـ) صاحب الكِتَاب المَشْهُوْر " وفيات الأعيان " (¬4). 2. عبد الرحمان بن نوح بن مُحَمَّد شمس الدين التركماني المقدسي ثُمَّ الدمشقي، أخذ عن ابن الصلاح (¬5)، وكان أعرف تلاميذه بمذهب الشافعي، مولده سنة (597 هـ)، سمع الكثير من الحديث، ودرَّس بالرواحية، وكان ذا هيبة ووقار وسمت حسن وخشوع، توفي سنة (654 هـ)، وكان قد بلغ الخمسة والثمانين عاماً (¬6). ¬
3. كمال الدين أبو الفضائل سلار بن الحسن بن عمر الإربلي، أخذ عن ابن الصلاح (¬1)، قال النووي: ((هو شيخنا المجمع على إمامته وجلالته وتقدمه في علم المذهب عَلَى أهل عصره، والمرجع إليه في حلِّ مشكلاته)) (¬2). كان مفتي الشام، وتوفي سنة (670 هـ) عن بضع وستين سنة (¬3). 4. كمال الدين أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ثُمَّ المقدسي، أخذ العلم عن الفخر بن عساكر ثُمَّ عن ابن الصلاح (¬4)، وأعاد بعد ابن الصلاح بالرواحية عشرين سنة، توفي سنة (650 هـ)، ودفن إلى جانب ابن الصلاح (¬5). 5. أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر التفليسي الشافعي القاضي، أخذ عن ابن الصلاح (¬6)، وسمع الحديث وتفقه في مذهب الشافعي وبرع فيه، ولي قضاء دمشق نيابة، ثُمَّ ترك الشام وتوجه إلى مصر فأدركته المنية هناك سنة (672 هـ) (¬7). 6. شمس الدين أحمد بن علي بن الزبير بن سليمان القاضي الجيلي الدمشقي الشافعي الشاهد الصوفي، سمع عَلَى ابن الصلاح (¬8)، توفي سنة (724 هـ) (¬9). 7. رشيد الدين إسماعيل بن عثمان بن مُحَمَّد بن عبد الكريم الحنفي، المعروف بـ: ابن المعلّم، كَانَ فاضلاً في مذهب الحنفية، سَمِعَ ابن الصَّلاَح (¬10) قَالَ الذهبي: كَانَ ديِّناً ¬
المبحث الثالث: نشره للعلم
مقتصداً في لباسه متزهِّداً، غادر دمشق ودخل القاهرة وظل فِيْهَا حَتَّى توفي سنة (714 هـ) (¬1). 8. زين الدين أبو مُحَمَّد عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيروز الفارقي خطيب دمشق وشيخ دار الحديث، سمع ابن الصلاح (¬2)، قال الذهبي: ((كان فصيحاً متقناً متحرّياً لديه فضيلة جيدة مع دين وصيانة وقوة في الحق))، توفي سنة (703 هـ) (¬3). 9. ناصر الدين مُحَمَّد بن يوسف بن مُحَمَّد بن عبد الله المصري الأصل الدمشقي، المشهور بـ: ابن المهتار، سَمِعَ ابن الصَّلاَح (¬4)، توفي سنة (715 هـ) (¬5). 10. عماد الدين يَحْيَى بن أَحْمَد بن يوسف بن كامل الحسيني البصروي، سَمِعَ ابن الصَّلاَح (¬6)، وكان خيّراً متواضعاً سنيّاً شافعيّاً، توفي سنة (705هـ) (¬7). وغيرهم كثير. المبحث الثالث: نشره للعلم مرَّ بنا أن ابن الصلاح استوطن أولاً القدس، ومن ثم نزح إلى دمشق متخذاً مِنْهَا مستقرّاً وموطناً، وكان المترْجَم منذ نعومة أظفاره قد تعوّد الدرس والتدريس، فعندما كان في مقتبل عمره ولا يزال غضّ العود طري البنية، وفي أول سفر له إلى الموصل، ¬
ولاَّه شيخه عماد الدين بن يونس الإعادة في درسه (¬1)، ثُمَّ لما اشتدّ عوده وصلب وبعد أن جمع شتات العلوم وأصبح علماً يشار إليه، أسندت إليه مهمة التدريس في المدارس التي كانت بمثابة جامعات تُخَرِّج علماء في مختلف التخصصات، ومن تلك المدارس التي درَّس فيها أبو عمرو هي: 1. المدرسة الصلاحية (¬2): وتسمَّى الناصرية أيضاً (¬3)، تقع في القدس وتنسب إلى بانيها السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبو الْمُظَفَّر يوسف بن أيوب ابن شاذي الدويني الكردي الأصل التكريتي المولد (¬4)، وكان إنشاؤها سنة (583 هـ) للشافعية، وكانت كنيسة فهدمها وبناها مدرسة (¬5)، وهي الآن كنيسة للنصارى (¬6). 2. المدرسة الرواحية (¬7): وتنسب إلى بانيها زكي الدين أبي القاسم هبة الله ابن مُحَمَّد بن رواحة الحموي التاجر المعدَّل، ت (622 هـ) (¬8)، وابن الصلاح أوَّل مَنْ درَّس فيها (¬9)، وتقع شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه، شمالي جيرون، وغربي الدولعية، وقبلي السيفية الحنبلية (¬10)، وهي الآن دار (¬11). ¬
المبحث الرابع: آثاره العلمية
3. دار الحديث الأشرفية (¬1): تقع بجوار باب القلعة الشرقي غربي المدرسة العصرونية وشمالي المدرسة القايمازية (¬2)، تنسب إلى بانيها الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل بن أيوب، ت (635 هـ)، وافتتحت سنة (630هـ)، بعد أن استغرق بناؤها سنتين، ووقف عليها أوقافاً، وأول من ولي مشيختها أبو عمرو بن الصلاح، وبقي فيها ثلاث عشرة سنة (¬3)، وهي لا تزال مدرسة حَتَّى اليوم (¬4). 4. مدرسة ست الشام زمرد خاتون (¬5): وتسمَّى الشامية الجوَّانية (¬6) والشامية الصغرى (¬7)، وتقع قبلي المارستان النوري، تنسب إلى منشئتها ست الشام زمرد خاتون بنت نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان، ت (616هـ) (¬8)، قال مُحَمَّد كرد علي: ((وقد خربت هذه المدرسة ولم يبقَ فيها سوى بابها وواجهتها الحجرية واتخذت داراً)) (¬9). المبحث الرابع: آثاره العلمية على الرغم من كل الظروف العصيبة والمهمات العديدة التي كانت تقع على عاتق ابن الصلاح؛ فإنه قد ترك لنا ثروة علمية لا يستهان بها، يمكن من خلالها أن نتصور ما كان يتمتع به هذا الإمام من عقلية صلبة وفكر فسيح، خصب الزرع وارق النتاج. ولم يكن لمشاغله المتعددة بَيْنَ تدريس في المدارس الثلاث والإفتاء ومراعاة أحوال الناس عائق ¬
في وجه شلال فكره الهادر، فكانت ثماره عظيمة أغنت المكتبة الإسلامية ببحوث إن لَمْ تكن مستوفية، فإنها كانت ذات جدة وأصالة في أكثر موضوعاتها، ففتحت الباب لمن جاء بعده لتكون تلك الآثار محور تدور في فلكه كثير من المؤلفات. واستطعنا أن نقف له على ما يربو على العشرين مؤلفاً، هي: 1. أحاديث في فضل الإسكندرية وعسقلان (¬1). 2. الأحاديث الكلية (¬2). 3. أدب المفتي والمستفتي (¬3). 4. الأمالي (¬4). 5. حديث الرحمة (¬5). 6. حكم صلاة الرغائب (¬6). 7. حلية الإمام الشافعي (¬7). 8. شرح معرفة علوم الحديث، للحاكم النيسابوري (¬8). 9. شرح الورقات لإمام الحرمين في أصول الفقه (¬9). 10. صلة الناسك في صفة المناسك (¬10). 11. صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط (¬11). ¬
12. طبقات فقهاء الشافعية (¬1). 13. معرفة أنواع علم الحديث (¬2). 14. الفتاوى (¬3). 15. فوائد الرحلة (¬4). 16. مختصر في أحاديث الأحكام (¬5). 17. مشكل الوسيط (¬6). 18. مشكلات البخاري (¬7). 18. المؤتلف والمختلف في أسماء الرجال (¬8). 19. النكت على المهذب (¬9). 20. وصل بلاغات الموطأ (¬10). 21. وقف دار الحديث الأشرفية (¬11). ¬
المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه أطنب العلماء في الثناء عَلَى ابن الصلاح ثناءً منقطع النظير، يدل على ما تمتع به هذا الرجل من مكانة في قلوب الناس، وما تبوَّأه من المكانة المرموقة عندهم. ويتضح هذا جليّاً من أقوالهم التي نوردها، ومنها: 1. قول أبي عمرو بن الحاجب: ((إمام ورع، وافر العقل، حسن السمت متبحر في الأصول والفروع، بالغ في الطلب حَتَّى صار يضرب به المثل، وأجهد نفسه في الطاعة والعبادة)) (¬1). 2. وقول شمس الدين بن خلكان: ((كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسددة)) (¬2). 3. وثناء صفي الدين المراغي بقوله: ((أحد الأئمة المشهورين، والعلماء العاملين، والحفاظ المذكورين، جمع بَيْنَ علوم متعددة: علم الفقه وعلم أصوله وعلم الحديث وعلم العربية، مع ما أوتي من التحري والإتقان، مضافاً إلى سلوك طريقة السلف، معظماً عند الخاص والعام)) (¬3). 4. وأطنب الذهبي في مدحه فقال: ((الإمام الحافظ العلاّمة شيخ الإسلام ... كان ذا جلالة عجيبة ووقار وهيبة، وفصاحة، وعلم نافع، وكان متين الديانة، سلفي الجُمْلة، صحيح النحلة، كافاً عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمناً بالله وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البزة، وافر الحرمة، معظَّماً عند السلطان ... وكان مع تبحّره في ¬
الفقه مجوِّداً لما ينقله، قوي المادة من اللغة والعربية، متفنّناً في الحديث، متصوناً مُكِباً على العلم، عديم النظير في زمانه)) (¬1). 5. ونقل اليافعي عن بعضهم أنه قال فيه: ((كان إماماً بارعاً حجة متبحراً في العلوم الدينية بصيراً بالمذهب وأصوله وفروعه، له يد طولى في العربية والحديث والتفسير، مع عبادة وتهجد وورع ونسك وتعبد، وملازمة للخير على طريقة السلف في الاعتقاد)) (¬2). 6. وقال السبكي: ((الشَّيْخ العلاّمة تقي الدين أحد أئمة المسلمين علماً وديناً ... وتفقه عليه خلائق، وكان إماماً كبيراً فقيهاً محدِّثاً زاهداً ورعا، مفيداً معلماً استوطن دمشق يعيد زمان السالفين ورعا، ويزيد بهجتها بروضة علم جنى كل طالب جناها ورعا، ويفيد أهلها فما مِنْهُم إلاَّ من اغترف من بحره واعترف بدُرِّهِ وحفظ جانب مثله ورعا)) (¬3). 7. واختصر الإسنوي وصفه فقال: ((كان إماماً في الفقه والحديث، عارفاً بالتفسير والأصول والنحو، ورعاً زاهداً، ملازماً لطريقة السلف الصالح)) (¬4). 8. وقال ابن كثير: ((الإمام العلاّمة مفتي الشام ومحدّثها ... وكان ديّناً زاهداً ورعاً ناسكاً، على طريقة السلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدِّثين مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة، ولم يزل على طريقة جيدة حَتَّى كانت وفاته)) (¬5). 9. وقال ابن قاضي شهبة: ((الإمام العلاّمة مفتي الإسلام ... الإمام البارع)) (¬6). 10. وقال السيوطي: ((الإمام الحافظ شيخ الإسلام ... يضرب به المثل، سلفياً زاهداً حسن الاعتقاد وافر الجلالة)) (¬7). ¬
الفصل الثالث: دراسة الكتاب
الفصل الثالث: دراسة الكتاب المبحث الأول: أهمية الكتاب لَمْ تعد أهمية كتاب ابن الصلاح أمراً خافياً أو شيئاً غامضاً يحتاج إلى إيضاح وتفصيل، ولنا أن نجزم بأن كتابه هو المحور الذي دارت في فلكه تصانيف كل مَنْ أتى بعده، وأنه واسطةُ عقدِها، ومصدر ما تفرع عنها. ولم يكن لمن بعده سوى إعادة الترتيب في بعض الأحيان، أو التسهيل عن طريق الاختصار أو النظم، أو إيضاح بعض مقاصده التي قد تخفى عَلَى بعض المطالعين عن طريق التنكيت. وقد رزق الله تَعَالَى كتاب ابن الصلاح القبول بَيْنَ الناس، حَتَّى صار مدرس مَنْ يروم الدخول في هذا الشأن، ولا يتوصّل إليه إلاَّ عن طريقه، فهو الفاتح لما أغلق من معانيه والشارح بما أجمل من مبانيه. ولم تقتصر قيمة الكتاب العلمية عَلَى جانب تفرده في مصطلح الحديث وبيان مبادئه، وإنما عُدّت من بدايات الكتابات في علمٍ نعتقد أنه ظهر عند الغرب في وقت متأخر، ألاَ وهو علم تحقيق النصوص وتوثيق المرويات، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إنه لا يزال متفرداً بخصائصه التي تتصل بهذا الموضوع. وما دام تخصصه قد امتدَّ إلى هذا الباب فليس غريباً أن تكون له مباحثات فيما يتصل بعلم التاريخ. ولعل المؤلف ابن الصلاح عنى ذلك بقوله: ((فحينَ كادَ الباحثُ عنْ مُشْكلِهِ لا يُلْفِي لهُ كاشفاً، والسائلُ عنْ علمِهِ لا يَلْقى بهِ عارفاً، مَنَّ اللهُ الكريمُ - تباركَ وتعالى - عليَّ - ولَهُ الحمدُ - أجمعُ بكتابٍ " معرفةَ أنواعِ علمِ الحديثِ "، هذا الذي باحَ بأسرارهِ الخفيَّةِ، وكشفَ عَنْ مشكلاتِهِ الأبيَّةِ، وأحكمَ معاقدَهُ، وقعَّدَ قواعدَهُ، وأنارَ معالِمَهُ، وبيَّنَ أحكامَهُ، وفصَّلَ أقسامَهُ، وأوضحَ أصولَهُ، وشرحَ فروعَهُ وفصولَهُ، وجمعَ شتاتَ علومِهِ وفوائدَهُ، وقنصَ شواردَ نُكتِهِ وفرائدَهُ)) (¬1). ¬
ومما يجلِّي الأمر أكثر ويجعلنا أمام صورة واضحة عن أهمية هذا التصنيف أن ننقل جملة من أقوال العلماء فيه: 1. فقد قال الإمام النووي (ت676هـ): ((هو كتاب كثير الفوائد، عظيم العوائد، قد نبَّه المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ- في مواضع من الكتاب وغيره، عَلَى عظم شأنه، وزيادة حسنه وبيانه، وكفى بالمشاهدة دليلاً قاطعاً، وبرهاناً صادعاً)) (¬1). 2. وقال الخويي (¬2) (ت 693 هـ) في منظومته (¬3): وخير ما صنف فيها واشتهر ... كتاب شيخنا الإمام المعتبر وهو الذي بابن الصلاح يعرف ... فليس من مثله مصنف (¬4) 3. وقال ابن رشيد (ت 721 هـ): ((الذي وقفت عليه وتحصل عندي من تصانيف هذا الإمام الأوحد أبي عمرو ابن الصلاح - رحمه الله - كتابه البارع في معرفة أنواع علم الحديث وإنّه كلّما كتبت عليه متمثلاً: لكل أناس جوهر متنافس ... وأنت طراز الآنسات الملائح)) (¬5) 4. وقال ابن جماعة (ت733 هـ): ((واقتفى آثارهم الشَّيْخ الإمام الحافظ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح بكتابه الذي أوعى فيه الفوائد وجمع، وأتقن في حسن تأليفه ما صنع)) (¬6). ¬
5. قال ابن كثير (ت 774 هـ): ((ولما كان الكتاب الذي اعتنى بتهذيبه الشَّيْخ الإمام العلاَّمة أبو عمرو بن الصلاح - تغمَّده الله برحمته - من مشاهير المصنفات في ذلك بَيْنَ الطلبة لهذا الشأن وربَّما عني بحفظه بعض المهرة من الشبَّان، سلكت وراءه واحتذيت حذاءه)) (¬1). 6. وقال الزركشي (ت 794 هـ): ((وجاء بعدهم الإمام أبو عَمْرو بن الصَّلاَح فجمع مفرّقهم، وحقّق طرقهم، وأجلب بكتابه بدائع العجب، وأتى بالنكت والنخب، حَتَّى استوجب أن يكتب بذوب الذهب)) (¬2). 7. وقال الأبناسي (ت 802 هـ): ((وأحسن تصنيف فِيْهِ وأبدع، وأكثر فائدة وأنفع: " علوم الْحَدِيْث " للشيخ العلاّمة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح فإنّه فتح مغلق كنوزه، وحلّ مشكل رموزه)) (¬3). 8. وقال ابن الملقن (ت 804 هـ): ((ومن أجمعها: كتاب العلامة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح -سقى الله ثراه، وجعل الجنة مأواه - فإنه جامع لعيونها ومستوعب لفنونها)) (¬4). 9. وقال العراقي (ت 806 هـ): ((أحسن ما صنف أهل الْحَدِيْث في مَعْرِفَة الاصطلاح كتاب " علوم الْحَدِيْث " لابن الصَّلاَح، جمع فِيْهِ غرر الفوائد فأوعى، ودعا لَهُ زمر الشوارد فأجابت طوعاً)) (¬5). ¬
المبحث الثاني: سمات منهج ابن الصلاح
10. وقال ابن حجر (ت 852 هـ): ((فجمع شتات مقاصدها، وضمَّ إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر)) (¬1). 11. وقال السيوطي (ت 911 هـ): ((عكف الناس عليه، واتخذوه أصلاً يرجع إليه)) (¬2). وبهذا نكاد أن ننقل إجماع الأئمة، منذ أن رأى كتاب "معرفة أنواع علم الحديث" النور إلى يوم الناس هذا، دليلاً على مكانته، وغزارة علمه وفوائده شاهداً على علوِّ كعبه ونصرة حزبه، فرحم الله مؤلفه وجامعه، وأسبل عليه نعمه وفضائله، إنّه سميع مجيب. المبحث الثاني: سمات منهج ابن الصلاح عَلَى الرغم من أن المؤلفين القدامى لا سيَّما المتأخرون الذين يصنفون لا عَلَى الأسانيد منهم لا يفصحون بمناهجهم التأليفية إلاَّ قليلاً، لكن المتتبع لتصرفاتهم في تصانيفهم لا يعدم وصفاً تقريبياً لسمات مناهجهم التأليفية، وابن الصلاح ليس استثناءً من هذه القاعدة التي أوشكت أن تكون عامة. وقد استطعنا - بحمد الله - أن نحدد بعض الملامح لمنهج ابن الصلاح في تصنيفه هذا وسنعرضها مدعمة بالأمثلة: 1. إتيانه بالتعريفات للأنواع التي هو بصدد توضيحها، واهتمامه بهذا الجانب جداً، ولعل ذلك راجع إلى تأثره بالنَّزعة الأصولية التي تهتم بضبط التعاريف، وأيّاً ما يكون الدافع فقد بدا هذا الأمر واضحاً جلياً في كتابته، إلاَّ أن منهجه في هذا الجانب قد تنوع عَلَى النحو الآتي: ¬
أ. ابتكاره تعاريف لَمْ يسبق إليها، كما في تعريف الحسن (¬1)، والمعلَّل (¬2)، والمضطرب (¬3)، والمخضرم (¬4)، وغيرها. ب. كان حريصاً عَلَى بيان ماهية المعرَّف، وكان يلجأ في بعض الأحيان إلى التمثيل من غير ذكر للحدِّ، كما في المقلوب إذ عرَّف به بقوله: ((هو نحو حَدِيْث مشهور عن سالم جعل عن نافع ليصير بذلك غريباً مرغوباً به)) (¬5). فتعقّبه الزركشي فقال: ((وهذا التعريف غير وافٍ بحقيقة المقلوب، وإنما هو تفسير لنوع منه)) (¬6)، وبنحوه قال ابن حجر (¬7). وكما في النوع الخامس عشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد (¬8). ج. إذا كان للنوع أقسام فإنه يذكرها معرفاً بها، كما في النوع الرابع والعشرين: معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه (¬9). فإنه مشتمل عَلَى فروع ثمانية هي أنواع التحمل والأداء، فعرَّف بكل منها (¬10). وإذا كان الفرع يضم أقساماً فإنه يعرف بها أيضاً كما في الإجازة (¬11). ¬
د. وربما كان للمعرَّف أكثر من تعريف، فكان المؤلِّف يوردها جميعاً ولكنه في أكثر أحيانه لا يبقي الأمر هملاً، ولكنه يرجح شيئاً يستعين به الباحث، كما في تعريف الحسن (¬1)، والمسند (¬2)، والمنقطع (¬3)، والشاذ (¬4)، وغيرها. هـ. في بعض الأحيان - وإمعاناً منه في إيضاح ماهية المعرَّف - يبين محترزات التعريف، حَتَّى يسلم من الاعتراضات، كما في تعريف الصحيح (¬5)، والمرفوع (¬6)، وغيرهما. 2. استحداثه - في بعض الأنواع - لأقسام غير مسبوق بها، تسهيلاً لتلك المباحث وإعانة للقارئ عَلَى فهمها جيداً، كما في تقسيمات الصحيح (¬7)، وتقسيم الحسن (¬8)، والشاذ (¬9)، والمنكر (¬10)، والأسماء والكنى (¬11)، وغيرها. 3. كان أبو عمرو ذا عقلية متفتحة ونظر سليم، قادراً عَلَى التمحيص وتمييز ما في أقوال من سبقه من خطأ، والتعرف على مواطن الخلل لذا كان موقفه متبايناً منها، فتارة يتولاها بالنقد، وتارة يستدرك أموراً، وتارة يوضح المقصد من الكلام، وعلى كلٍّ فقد برزت الصور الآتية في منهجه التأليفي في إطار هذه النقطة: ¬
أ. كان يتعقب عَلَى بعض اختيارت العلماء، مثل تعقبه عَلَى اختيار بعض المغاربة تفضيل صحيح مُسْلِم عَلَى البُخَارِيّ، بسبب أنَّهُ ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح سرداً. فقال: ((وليس يلزم منه أن كتاب مُسْلِم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح عَلَى كتاب البُخَارِيّ، وإن كان المراد به أن كتاب مُسْلِم أصح صحيحاً، فهذا مردود عَلَى من يقوله)) (¬1). وكتعقبه عَلَى تعاريف الحسن بقوله: ((كل هذا مستبهم لايشفي الغليل)) (¬2) وتعقب أيضاً من اختار من أهل المغرب والقاضي الرامهرمزي من أهل الشرق في اللحق أن يكتب في نهايته الكلمة المتصلة به في موضع التخريج لتدل عَلَى اتصال الكلام، فقال: ((وليس ذَلِكَ بمرضي، إذ رب كلمة تجيء في الكلام مكررة حقيقة، ... الخ كلامه)) (¬3). ب. لقد مثّل ابن الصلاح الذروة في فهم مضامين كلام العلماء الذين سبقوه، ونجد ذَلِكَ واضحاً في توجيهه لقول الحافظ أبي علي النيسابوري: ((ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مُسْلِم بن الحجاج)). قائلاً: ((فهذا وقول من فضَّلَ من شيوخ المغرب كتاب مُسْلِم عَلَى كتاب البُخَارِيّ إن كان المراد به أن كتاب مُسْلِم يترجح بأنه لَمْ يمازجه غير الصحيح، فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسروداً غير ممزوج بمثل ما في كتاب البُخَارِيّ في تراجم أبوابه من الأشياء التي لَمْ يسندها على الوصف المشروط في الصحيح، فهذا لا بأس به)) (¬4). ¬
وتوجيهه لقول مُسْلِم: ((ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه. قائلاً: أراد - والله أعلم - أنه لَمْ يضع في كتابه إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه، وإن لَمْ يظهر اجتماعها في بعضها عِنْدَ بعضهم)) (¬1). وَوَجَّه قول البخاري: ((أحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح)). بأن ((هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين، وربما عُدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين)) (¬2). ج. ومن أجل تكامل البحث العلمي والاستفادة من جهود السابقين، لَمْ يهمل أبو عمرو أقوال من سبقه إهمالاً كلياً، وإنما كان يوردها ثُمَّ يزيد عليها ما يراه مكملاً لما يرمي إلى إيضاحه فكراً أو تطبيقاً، كما توضحه الأمثلة الآتية: بعد أن بيَّن حكم الأحاديث التي يوردها الحاكم في المستدرك بأنها إن لَمْ تكن صحيحة فهي حسنة، إلاَّ أن تظهر فيها علة توجب ضعفها!!! قال: ((ويقاربه في حكمه " صحيح أبي حاتم بن حبان البستي ")) (¬3). وبعد أن نقل عن الخطيب جواز كتابة طباق التسميع في بداية الكتاب أو في حاشية الصفحة الأولى قال: ((ولا بأس بكتبته آخر الكتاب وفي ظهره وحيث لا يخفى موضعه)) (¬4). 4. هناك صفة تميز كتابات ابن الصلاح، وهي بحد ذاتها دالة عَلَى سعة أفقه ووفور درايته، وهي تعكس من وجه آخر حجم الثروة العلمية التي وفّرها لنفسه كمخزون ثقافي، ألاَّ ¬
وهي إكثاره من نقل مذاهب العلماء في كافة المسائل التي يتعرض لبحثها، وهذا أمر نراه واضحاً ملموساً مبثوثاً في أثناء هذا الكتاب. 5. لَمْ يكن ابن الصلاح قاصراً عن الإدلاء بدلوه في القضايا التي ينقدها، سواء أكانت تلك المسائل خلافية أم وفاقية، فقد كان يطالعنا باختيارات وآراء جديدة بين الفينة والأخرى، وهي كثيرة جداً نكتفي منها بالأمثلة الآتية: في معرض تحدّثه عن المعلق ووقوعه في الصحيحين، قال مبيناً حكمه: ((وينبغي أن نقول: ما كان من ذلك ونحوه بلفظ فيه جزم وحكم به على من علَّقه عنه، فقد حكم بصحته عنه)) (¬1). وتقريراً لكلام أبي داود في رسالته بشأن السنن، والأحاديث التي سكت عنها فيها، قال: ((فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من الصحيحين، ولا نصَّ عَلَى صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن، عرفناه بأنه من الحسن عِنْدَ أبي داود)) (¬2). 6. جمع ابن الصلاح شتات علوم متفرقة، وقد وظَّف تقي الدين هذا الجانب من معرفته في أبحاثه هذه، وذلك من خلال ربطه بَيْنَ القضايا الفقهية ومباحث علوم الحديث، مثل ربطه بين حجية الحديث المرسل عِنْدَ المحدّثين وحجيته عِنْدَ الفقهاء وبيان الفرق بين رواية المستور، وبين شهادة المستور (¬3). وفي تعريف الموقوف قال: ((وموجود في اصطلاح الفقهاء الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر ... )) (¬4). ¬
7. لما كان ابن الصلاح في إطار تقعيد القواعد في طريقه لتقنينها كقوانين تحكم هذا العلم، كان من كمال علمه وتكميله لتلك الأساسيات يورد ما يتوقع أن يعترض به عليه، ثُمَّ يتولى جوابه بما يسلم معه من النقد. مثل قوله في بحثه لتقوي الضعيف بكثرة الطرق: ((لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة، مثل حديث: ((الأذنان من الرأس))، ونحوه، فهلاَّ جعلتم ذَلِكَ وأمثاله من نوع الحسن؛ لأن بعض ذَلِكَ عضَّد بعضاً، كما قلتم في نوع الحسن عَلَى ما سَبَقَ آنفاً؟؟ وجواب ذَلِكَ أنَّهُ ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، ... الخ كلامه)) (¬1). وكما في جوابه عن الإشكال المتوقع من جمع الترمذي بَيْنَ الحسن والصحة في وصف حديث واحد؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح، فكيف يستقيم الجمع بَيْنَ نفي القصور وإثباته؟؟ فقال: ((وجوابه: أن ذَلِكَ راجع إلى الإسناد ... الخ)) (¬2). 8. بيانه مراتب بعض الكُتُب المصنفة، إرشاداً للطالب في كيفية الاعتماد عليها ونمثل لذلك بما يأتي: فبعد أن بيَّن حكم مستدرك الحاكم والأحاديث الواردة فيه، بيَّن حكم صحيح ابن حبان قائلاً: ((ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم بن حبان البستي)) (¬3). ونراه قد سرد عدداً لا بأس به من المسانيد، مُصدِّراً ذلك بقوله: ((كتب المساند غير ملتحقة بالكتب الخمسة)) (¬4)، وعلَّل هذا الحكم بأنهم: ((يخرِّجُوا في مسند كل ¬
صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثاً محتجّاً به، فلهذا تأخَّرت مرتبتها - وإن جلَّت لجلالة مؤلفيها - عن مرتبة الكتب الخمسة وما التحق بها من الكتب المصنَّفة على الأبواب)) (¬1). 9. عدم إهماله لبعض الإشارات التي تتصل بمسائل لغوية وهي ذات دلالة أوَّلاً وآخِراً على عمق ثروته اللغوية، مثل تعقبه عَلَى المحدِّثين في استخدامهم مصطلح ((معضل))، فَقَالَ: ((وأصحاب الحديث يقولون: أعضَله فهو معضل - بفتح الضاد - وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة، وبحثت فوجدت له قولهم: ((أمر عضيل))، أي: مستغلق شديد، ولا التفات في ذلك إلى مُعْضِل - بكسر الضاد - وإن كان مثل عضيل في المعنى)) (¬2). ومثل بيانه لمعنى الإجازة في اللغة نقلاً عن ابن فارس قائلاً: ((معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، يقال منه: استجزت فلاناً فأجازني إذا أسقاك ماءً ... الخ كلامه)) (¬3). وبيانه لمعنى الوجادة في اللغة بقوله: ((هي مصدر لـ: ((وَجَدَ يَجِدُ)) مولد غير مسموع من العرب ... )) (¬4). 10. كان دأب ابن الصلاح الإرشاد والتنبيه على أهمية الأنواع التي يبحثها استكمالاً لجوانب البحث العلمي الذي كان حريصاً على إظهاره بالشكل الأتم، ومما يدلل على هذا أن نسوق أمثلة لها. فابن الصلاح وهو بصدد بحثه لمعرفة زيادات الثقات يقول عنه منبهاً عَلَى أهميته: ((وذلك فن لطيف تستحسن العناية به)) (¬5). ¬
وقال في نوع المعلل مرشداً إلى عظيم خطره: ((اعلم أن معرفة علل الحديث من أجلِّ علوم الحديث وأدقِّها وأشرفها، وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب)) (¬1). وقال في معرفة غريب الحديث: ((هذا فنٌّ مهمٌّ يقبح جهله بأهل الحديث خاصة)) (¬2). 11. تنبيهه على استعمالات المحدِّثين أو الحكمة في صنيعهم أو إيضاح اصطلاحاتهم مثل: توضيحه لما اصطلح عليه البغوي في كتابه " مصابيح السنة " (¬3)، وكما في توضيحه لسبب جعل علامة التضبيب كأنها صاد (¬4) وعلة استعمال المحدِّثين لعلامة التحويل في الإسناد (ح) مهملة (¬5). 12. عَلَى الرغم من أن ابن الصلاح كان من منهجه الاختصار كلما وجد إلى ذلك سبيلاً؛ إلاَّ أنَّهُ لَمْ يغفل أن يسوق بَيْنَ تارة وأخرى إسناداً له، ينقل به حديثاً أو طُرفةً أو قولاً أو شعراً، يؤنس به المطالعين، ويذكّر به سنة السالفين (¬6). 13. قد كان أبو عمرو طيلة صفحات الكتاب ذا شخصية بارزة واضحة متميزة وذلك من خلال إبداء آرائه الجديدة، وقدرته على المناقشة والتصويب وترجيح ما يراه راجحاً من الآراء (¬7). ¬
14. كان من منهج ابن الصلاح أن يعزز ما يختاره من المذاهب التي يذكرها في المسائل الخلافية بأقوال العلماء، ونجد ذلك واضحاً في طيات كتابه، ولا ضير في التمثيل لبعضها. ففي معرض تقريره لجواز أن يثبت الراوي سماعه للكتاب بخطه من غير حاجة إلى أن يكتبه الشَّيْخ الْمُسْمِع، في حالة كون الراوي موثوقاً به، أورد أن عبد الرحمان بن منده سأل أبا أحمد الفرضي أن يكتب له سماعه في جزء سمعه منه، فقال أبو أَحْمَد: ((يا بني! عليك بالصدق، فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد ... الخ)) (¬1). وقرر أن الإبطاء بإعادة الكتب التي فيها سماعات لأصحابها أمر قبيح، وأورد قول الزهري: ((إيَّاك وغلول الكتب. قيل: وما غلول الكتب؟ قَالَ: حبسها عَلَى أصحابها)) (¬2). 15. تنبيهه عَلَى من صنَّف في الأنواع التي يبحثها (¬3). 16. بروز الجانب التطبيقي عنده، وذلك من خلال ما يعرضه من الأمثلة التي ملأت صفحات كتابه. 17. كل مَنْ يقرأ كتاب ابن الصلاح لا يملك إلا أن يعترف بأدبه الجمِّ الذي زخرت به كتاباته، تعبيراً عمَّا يكنه في نفسه من تقوى وورع، واعتراف بفضل السابقين، فلا تجده يذكر سم الله تعالى من غير ثناء، ولا يكاد يذكر اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مقروناً بالصلاة عليه، وكذلك الصحابة والتابعون والعلماء ممن بعدهم لا يذكرهم إلا مترضِّياً عليهم أو مترحِّماً. ¬
المبحث الثالث: مصادره وموارده
ومما يعدُّ من خصائصه الأسلوبية، أنه لا يكاد ينهي فقرة إلاَّ ويقول في ختامها: ((والله أعلم))، تواضعاً منه واعترافاً بضمون قوله جلَّ ذكره: {وَمَا أُوتِيْتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيْلاً}. الإسراء: 85. المبحث الثالث: مصادره وموارده تعددت مصادر ابن الصلاح تبعاً لتعدد جوانب ثقافته المتنوعة التي تتطلبها طبيعة الكتابة في ميدان يشابه الميدان الذي خاض غماره وسبر أغواره ابن الصلاح، فجاءت ثمرته ناضجة آتت أكلها والحمد لله. ومن خلال نظرة فاحصة نلقيها عَلَى هذا التصنيف، يمكننا أن نميّز نوعين من تِلْكَ المصادر: الأول: المصادر الشفوية. الثاني: المصادر الكتابية. وسنعرض لكل منهما في مطلب مستقل: المطلب الأول: المصادر الشفوية مرَّ بنا فيما مضى أن ابن الصلاح جال بلاداً كثيرة، وطلب عَلَى أيادي علماء عصره، فجمع علوماً وظَّفها لخدمة منهجه التأليفي، وهي تلك المعلومات التي استمدها شفاهاً من شيوخه، ويمكننا جعلها عَلَى قسمين: الأول: ما أبهم فيه مصدره فلم يصرح بطريق نقله، مثل: قوله: وأنبأني من سأل الحازمي أبا بكر عن الإجازة العامة ... )) (¬1). وقوله: ((وأخبرني من أُخبر عن القاضي عياض بن موسى من فضلاء وقته ... )) (¬2). ونحو ذلك قوله: ((وأخبرني بعض أشياخنا عمن أخبره عن القاضي ... )) (¬3). ¬
المطلب الثاني: المصادر الكتابية
الثاني: ما صرح فيه بذكر شيخه وسلسلة إسناده، مثل: قوله: ((كمثل ما حدثنيه الشَّيْخ أبو الْمُظَفَّر، عن أبيه الحافظ أبي سعد السمعاني ... )) (¬1). وكمثل قوله: ((حدثني بمرو الشَّيْخ أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد المروزي، عن أبيه ... )) (¬2). وكقوله: ((أخبرنا أبو بكر بن أبي المعالي الفراوي قراءة عليه، قال: أخبرنا الإمام جدي ... )) (¬3). وغيرها كثير. المطلب الثاني: المصادر الكتابية اعتمد أبو عمرو على مصادر كتابية كثيرة في مختلف المواضيع كالحديث دراية ورواية والتفسير وعلوم القرآن والتاريخ وكتب الرجال والأدب والنحو واللغة وغريب الحديث وغيرها مما هو موضح في الفهرس الذي خصصناه بها فلا حاجة إلى التطويل بذكرها هنا. ولكن نود هنا أن ننبه على أن أكثر تعويل ابن الصلاح كان على عالمين اثنين هما: الأول: الحاكم أبو عبد الله النيسابوري الحافظ، وذلك من خلال كتابه " معرفة علوم الحديث "، حيث ضمَّن كثيراً من أفكاره في كتابه، فضلاً عن كثير من النصوص التي نقلها منه. الثاني: الخطيب البغدادي الحافظ، إذ كان تعويله في أكثر مباحث كتابه على كتاب الخطيب " الكفاية "، ويجد القارئ مصداق ذلك في عشرات النقول التي خرجناها ¬
من الكفاية، بله لا تخلو صفحة - لا سيما مباحث ما قبل نصف الكتاب - عن ذَكَرَ الكفاية. وكذلك عوَّل على بقية كتبه كالجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (¬1)، وتلخيص المتشابه (¬2)، وتالي تلخيص المتشابه (¬3)، ورافع الارتياب، وغيرها. المبحث الرابع: جهود العلماء في خدمة كتاب ابن الصلاح لعلّ كتاباً في مصطلح الحديث لم يخدم كما خدم كتاب ابن الصلاح إذ كان هو المحرك الفعلي الذي تولدت عنه عشرات بل مئات المؤلفات التي أغنت المكتبة الإسلامية، وساهمت بمجموعها في إكمال حلقات هذا العلم المبارك. وقد اختلفت اتجاهات المؤلفين في طبيعة بحوثهم لتطوير وتعزيز القيمة العلمية لهذا الكتاب فمنهم الناظم، ومنهم الشارح، ومنهم المختصر، ومنهم المنكِّت توضيحاً أو استدراكاً فلهذا ارتأينا - خدمة لتقسيمات البحث العلمي المنظم - أن نوزعها على النحو الآتي، وبالله التوفيق. أ. المختصرات: لعلّ هذا الطابع من التصنيف الذي كان كتاب ابن الصلاح المحفِّز لها هو الأكثر، نظراً إلى أن من ألّف في هذا اللون يبغي تقليص حجم الكتاب الأصلي؛ وذلك باختزال الألفاظ وتكثيف الفكر والمعاني، وحذف الأمثلة التي لا حاجة لها والابتعاد عن المناقشات غير الضرورية، وزيادة الفوائد والآراء، مع مخالفة ترتيب الأصل أحياناً، تسهيلاً لطلبة العلم وغيرهم. ومن أبرز تلك المختصرات: ¬
1. إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق، للإمام النووي ... (ت 676 هـ) (¬1). 2. التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير، للإمام النووي أيضاً (¬2) وهو اختصار لكتابه السابق. 3. المنهج المبهج عند الاستماع، لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع، لقطب الدين القسطلاني (ت 686 هـ) (¬3). 4. أصول علم الحديث، لعلي بن أبي الحزم القرشي الطبيب المشهور بابن النفيس (ت 689 هـ) (¬4). 5. الاقتراح، للإمام ابن دقيق العيد (ت 702 هـ) (¬5). 6. الملخص، لرضي الدين الطبري (ت 722 هـ) (¬6). 7. رسوم التحديث، للجعبري (ت 732هـ) (¬7). 8. المنهل الروي، لبدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ) (¬8). 9. مشكاة الأنوار، للبارزي (ت 738 هـ) (¬9). 10. الخلاصة في علوم الحديث، للطيبي (ت 743 هـ) (¬10). ¬
11. الكافي، لتاج الدين التبريزي (ت 746 هـ) (¬1). 12. الموقظة، للإمام الذهبي (ت 748 هـ) (¬2). 13. المختصر، لعلاء الدين المارديني المشهور بابن التركماني (ت750 هـ) (¬3). 14. مختصر، لشهاب الدين الأندرشي الأندلسي (ت 750 هـ) (¬4). 15. مختصر، للحافظ العلائي (ت 761 هـ) (¬5). 16. الإقناع، لعز الدين بن جماعة (ت 767 هـ) (¬6). 17. اختصار علوم الحديث، للحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) (¬7). 18. التذكرة في علوم الحديث، لسراج الدين ابن الملقن (ت 804 هـ) (¬8). 19. المقنع في علوم الحديث، لسراج الدين ابن الملقن أيضاً (¬9). 20. نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) (¬10). 21. المختصر، للكافيجي (ت 879 هـ) (¬11). 22. مختصر بهاء الدين الأندلسي ( ... ؟) (¬12). ¬
ب. المنظومات: ظهر منذ عهد مبكر نسبياً، تيّار في الشعر العربي، انتقل إلى علماء الفنون المختلفة يسمى: الشعر التعليمي، خصّص نطاق عمله في نظم الكتب المهمة في مجالات العلم تسهيلاً لطالبي العلوم في حفظها، ومن ثَمَّ الغوص في معانيها. وعلى أي حال فقد كان نصيب كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح عدداً من المنظومات التي لا يستهان بها، وسواء أكانت تلك المنظومات ذات جدة وحداثة أم لا؟ فإنّها مثّلت جانباً من جوانب اهتمام العلماء واعتنائهم بهذا السفر العظيم. والذي يهمنا هنا أن نسلِّط الضوء عليها كوصلاتٍ في تاريخ هذا العلم المبارك، وليس من شرطنا أن تكون هذه المنظومة قد احتوت كل المادة العلمية لكتاب ابن الصلاح، بل يكفي أن يكون هذا الكتاب هو المرجع الأول بالنسبة لها، وعلى هذا نجد أن بعض هذه المنظومات مطوّلة، وبعضها مختصرة، وبعضها متوسطة، ولعلّ من أبرز من نظمه: 1. شمس الدين الخُوَيي (ت 693 هـ)، وسمّى منظومته باسم " أقصى الأمل والسول في علوم حديث الرسول "، توجد منه عدة نسخ خطية (¬1). 2. أبو عثمان سعد بن أحمد بن ليون التجيبي (ت 750 هـ) (¬2). 3. زين الدين العراقي (ت 806 هـ) المسمّى: التبصرة والتذكرة (¬3). 4. مُحَمَّد بن عبد الرحمان بن عبد الخالق المصري البرشنسي (ت 808 هـ) وسمّى منظومته: " المورد الأصفى في علم حديث المصطفى " (¬4). ¬
5. شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الدمشقي المعروف بابن الجزري (ت 833 هـ) وسمّى منظومته " الهداية في علم الرواية " (¬1). 6. جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ) ومنظومته مشهورة باسم " الألفية " (¬2). 7. رضي الدين محمد بن محمد الغزي (ت 935 هـ)، وسمّى نظمه " سلك الدرر في مصطلح أهل الأثر " (¬3). 8. منصور سبط الناصر الطبلاوي (ت 1014 هـ) (¬4). ج. الشروح: قد كان للجانب الشمولي في كتاب ابن الصلاح أثره الواضح في أن أحداً لم يتصدَّ لشرح الكتاب نفسه، وإنما انعكس هذا الجانب على شرح مختصراته ومنظوماته، لذا سنتناول أبرزها على اعتبار أن أصلها الأصيل هو كتاب ابن الصلاح، ومن ذلك: 1. شروح ألفية العراقي. 2. نزهة النظر، للحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) وما يتعلق بها (¬5). 3. تدريب الراوي للسيوطي (ت 911 هـ) (¬6). 4. البحر الذي زخر، للسيوطي (ت 911 هـ) شرح فيه ألفيته (¬7). ¬
د. التنكيت: النُّكَت: جمع نُكْتَةٍ، وهي مشتقة من الفعل الثلاثي الصحيح (نَكَتَ)، وهو ذو اشتقاقات مختلفة، أجملها ابن فارس فَقَالَ: ((النون والكاف والتاء أصل واحد يدلّ على تأثير يسير في الشيء كالنكتة ونحوها، ونكت في الأرض بقضيبه ينكت: إذا أثّر فيها)) (¬1). أما في الاصطلاح فالنكتة: مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، من نكت رمحه بأرض إذا أثر فيها، وسميت المسألة الدقيقة نكتةً؛ لتأثير الخواطر في استنباطها (¬2). وقد كان نصيب كتاب ابن الصلاح من كتب النكت شيئاً دلّ على مدى تعمّق الدارسين في فهم معانيه ومدلولاته، حسب اللون العلمي الذي يغلب على ذلك المنكِّت، فنرى الأصولي يُغَلِّب المباحث الأصولية في طريق تقرير مسائل الكتاب المهمة، وهذا ما نلمسه جلياً في نكت الزركشي، والْمُحَدِّث يجعل همّه المباحثات الحديثية، وهو منهج واضح نراه في نكت العراقي وشيخه مغلطاي، وهكذا بالنسبة إلى الفقيه كما وقع للبلقيني وابن جماعة وغيرهم. وعلّ الفطن من القرّاء عرف من العرض السابق أسماء بعض من كتب نكتاً على كتاب ابن الصلاح، ولكننا نودّ أن نجعل الأمر استقصائياً استقرائياً، فجمعنا مَن وقع في علمنا أنه ساهم في هذا الجانب، سواء عن طريق الكتابة والبحث المباشر على كتاب ابن الصلاح أو العمل غير المباشر عن طريق التعليق على فروع كتاب ابن الصلاح، وأهم هذه الكتب: 1. إصلاح كتاب ابن الصلاح، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الأسعردي الدمشقي ثُمَّ المصري المشهور بابن اللبان (ت 749 هـ) (¬3). ¬
2. إصلاح كتاب ابن الصلاح، للإمام العلاّمة علاء الدين أبي عبد الله مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري الحنفي (ت 762 هـ) (¬1). 3. النكت عَلَى مقدمة ابن الصَّلاَح، للإمام بدر الدين أبي عَبْد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت 794 هـ) (¬2). 4. الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح، للشيخ برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي (ت 802 هـ) (¬3). 5. محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح، لسراج الدين أبي حفص عمر ابن رسلان البلقيني (ت 805 هـ) (¬4). 6. التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح، للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت 806 هـ) (¬5). 7. شرح علوم الحديث، لعز الدين مُحَمَّد ابن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي (ت 819 هـ) (¬6). 8. النكت عَلَى كتاب ابن الصلاح، للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن مُحَمَّد ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) (¬7). ¬
الفصل الرابع: تحقيق الكتاب ومنهجنا فيه
الفصل الرابع: تحقيق الكتاب ومنهجنا فيه المبحث الأول: اسم الكتاب قد بات شيئاً مهمّاً في قواعد علم تحقيق المخطوطات ونشرها، أن يثبت المحقق الاسم الصحيح للكتاب الذي أسماه به مؤلفه، إذ قد تتقاذف الكتاب أيادي الدهر وتتقادم عليه الأيام والسنون، فيبلى بمرورها اسمه ويندثر رسمه، ومن تلك المصنفات التي جرت عليها هذه الجواري كتابنا هذا، فقد اشتهر بين الناس أن اسمه " مقدمة ابن الصلاح " أو " علوم الحديث "، والحق أن واحداً من هذين الاسمين لَمْ يسمه به مؤلفه، وقد حقق هذا تحقيقاً علمياً الدكتور موفق بن عبد الله بن عبد القادر في فصل نفيس ضمَّنه كتابه القيم " توثيق النصوص وضبطها عن المحدِّثين " (¬1)، رأينا أن ننقله بنصّه إذ لا مزيد عَلَى ما أتى به فقال - أيده الله -: ((ومثاله أيضاً كتاب " معرفة أنواع علوم الحديث " للإمام الحافظ أبي عمرو عثمان ابن عبد الرحمان الشهرزوري المتوفَّى سنة (643 هـ). فإن هذا الكتاب عُرِف واشتُهِر بين طلاَّب العلم باسم "مقدِّمة ابن الصلاح" فَمِنْ أينَ جاءته هذه التسمية؟ 1. إن المصنِّف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لَمْ يسمِّ كتابه بـ " المقدمة " كما أن أحداً من أهل العلم ممَّن جاء بعد الصلاح لَمْ يسمِّ كتاب [ابن] (¬2) الصلاح بـ " المقدِّمة ". 2. إن ابن الصلاح قد سمَّى كتابه ونص عَلَى هذه التسمية في فاتحة كتابه فقال: (( ... فحين كاد الباحث عن مشكلة لا يلقى له كاشفاً، والسائل عن علمه لا يلقى به عارفاً، مَنَّ الله الكريم - تبارك وتعالى -، وله الحمد أجمع بكتاب: " معرفة أنواع علم الحديث "، هذا الذي باح بأسراره الخفية ... )) (¬3). ¬
3. إن نسخة إستانبول المحفوظة في المكتبة السليمانية برقم (351)، والتي كان الفراغ من قراءتها عَلَى المصنِّف سنة (641 هـ) أي: قبل وفاة ابن الصلاح بعام واحد ونيِّف، والتي أثبت ابن الصلاح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - خطّه عليها في عدّة مواضع جاء في صورة السماع: ((سَمِعَ جميع هذا الكتاب وهو كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " على مصنِّفه ... )). وكتب ابن الصلاح - رَحِمَهُ اللهُ - في آخر طبق السماع: ((صحَّ ذَلِكَ نفعه الله وبلَّغه ... )). 4. وجاء اسم الكتاب في سماع النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم: (155) مصطلح الحديث، وهي نسخة قيمة وموثقة: ((سمعت جميع هذا الكتاب المترجم بكتاب " معرفة أنواع علم الحديث " ... )). 5. أطلق كثير من العلماء عَلَى الكتاب اسم " علوم الحديث " عَلَى اعتبار مضمونه ومادته العلمية. 6. ومن هؤلاء الإمام محيي الدين يحيى بن زكريا النووي المتوفَّى سنة (667 هـ) في كتابه " التقريب " (¬1)، وفي " إرشاد طلاب الحقائق " سمّاه "معرفة علوم الْحَدِيْث " (¬2). 7. وقال تلميذ ابن الصلاح شمس الدين أحمد بن مُحَمَّد بن خلكان المتوفَّى سنة (681هـ) في ترجمة ابن الصلاح: ((وصنّف في علوم الحديث كتاباً نافعاً ... )) (¬3). 8. واختصره الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي المعروف بـ: ابن كَثِيْر المتوفَّى سنة (774 هـ) وسمّى هذا المختصر "اختصار علوم الحديث". 9. وكذا سمّاه " علوم الحديث " الإمام الحافظ أحمد بن محمد بن عثمان الذهبي المتوفَّى سنة (748 هـ) في كتابه " سير أعلام النبلاء " (¬4). ¬
10. وكذا قال قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن مُحَمَّد بن إبراهيم بن جماعة المتوفَّى سنة (767هـ) فألَّف كتاب "الجواهر الصحاح في شرح علوم الحديث لابن الصلاح"، وله نسخة خطية في دار الكُتُب المصرية تحت رقم (873 هـ) مصطلح الحديث. 11. وكذا سمَّاه الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفَّى سنة (806 هـ) في كتابه " التقييد والإيضاح لما أُطلِق وأُغلِقَ من كتاب ابن الصلاح" (¬1). 12. وكذا سمَّاه " علوم الحديث " مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الشهير بالملاَّ كاتب الجلبي والمعروف بحاجي خليفة المتوفَّى سنة (1067 هـ) في كتابه: " كشف الظنون عن أسامي الكُتُب والفنون " (¬2). 13. وكذا سمّاه " علوم الحديث " مُحَمَّد بن سليمان الروداني في " صلة الخلف بموصول السلف " (¬3). 14. وكذا سمّاه "علوم الحديث"السيد مُحَمَّد بن جعفر الكتَّاني في كتابه " الرسالة المستطرفة " (¬4). 15. وكذا عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المتوفَّى سنة (1382 هـ) في كتابه " فهرس الفهارس والأثبات " (¬5). 16. وجاء اسم الكتاب على لوحة العنوان في النسخة الموصلية المحفوظة بخزانة دار الكتب المصرية تحت رقم (1) مصطلح الحديث " علوم الحديث ". وجاءت في اللوحة الأخيرة: ((تمت أنواع علوم الحديث بمشيئة الله تعالى عَلَى يدي عليِّ بن يوسف الموصليِّ - عفا الله عنه - في مستهل جُمادَى الآخرة سنة إحدى وستين وست مئة ... ))، وهي نسخة قديمة وقَيِّمة ومنقولة من أصل عليه سماعات ¬
((وعرضاً في مجالس آخرها يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وست مئة)). وفي آخرها توقيع ابن الصلاح بخطه وجاء فيه: ((هذا صحيح نفعه الله وبلّغه وإياي، وكتب مؤلفه - عفا الله عنه وعنهم -)). 17. إن " المقدمة " في " علوم الحديث " هو اسم لـ" المقدمة " التي كتبها الإمام الحافظ مجد الدين أبو السعادات المبارك بن مُحَمَّد المعروف بـ: ابن الأثير الجزري المتوفَّى سنة (606 هـ) في " مقدمة " كتابه الجليل " جامع الأصول في أحاديث الرسول " 1/ 35 - 178. فإنه قال في فاتحة كتابه " جامع الأصول " الباب الأول: في الباعث عَلَى عمل الكتاب، وفيه مقدمة (¬1) وأربعة فصول " المقدمة " (¬2). وقال في آخر " المقدمة " وهي مقَدمة في " علوم الحديث ": ((هذا آخر القول في الباب الثالث من هذه المقدمة)) 18. لذا لا يمكن التسليم من الناحية العلمية أن كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " للإمام الحافظ ابن الصلاح أنّه ((شهير، أو معروف بالمقدمة)). 19. ويبقى السؤال قائماً: مَن الذي سمّى كتاب ابن الصلاح "معرفة أنواع علم الحديث" بـ " المقدمة "؟ والجواب عَلَى ذَلِكَ: أ. إنّ أول من طبع الكتاب عَلَى الحجر هم الهنود سنة (1304هـ) بعناية الشَّيْخ عبد الحي اللكنوي باسم " مقدمة ابن الصلاح ". ب. ثُمَّ طبع للمرة الثانية في مطبعة السعادة بالقاهرة سنة (1326هـ) بتصحيح الشَّيْخ محمود السكري الحلبي، بعنوان: " كتاب علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح" كما كتب اسم الكتاب بأعلى كل صفحة منها "مقدمة ابن الصلاح". ¬
ج. ثُمَّ نشر الكتاب في المطبعة العلمية بحلب سنة (1350 هـ) بعناية السيد مُحَمَّد راغب الطباخ ومذيلاً بذيلين أحدهما كتاب " التقييد والإيضاح لما أُطلِق وأُغلِق من كتاب ابن الصلاح " للحافظ العراقي، والثاني " المصباح عَلَى مقدمة ابن الصلاح " للشيخ مُحَمَّد راغب الطبَّاخ، غير أن الشيخ مُحَمَّد راغب الطبَّاخ سمَّى كتاب " التقييد " بـ: " التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصَّلاَح "، وأطلق عَلَى كتاب " مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث" لابن الصَّلاَح اسم " المقدمة " (¬1). د. ثُمَّ جاءت المحقِّقة الفاضلة الدكتورة عائشة عبد الرحمان (بنت الشاطئ) فطبعت كتاب ابن الصلاح مذيلاً بكتاب " محاسن الاصطلاح " للحافظ سراج الدين البلقيني سنة (1393 هـ- 1974 م) تحت عنوان " مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح " في حين أن اسم الكتاب عَلَى لوحة المخطوط هو " محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح ". وهكذا اشتُهِر الكتاب باسم "المقدمة" تبعاً لطبعتي الهند (1304، 1357هـ)، وطبعة القاهرة (1326 هـ)، والطبعة الحلبية الأولى (1350 هـ)، والحلبية الثانية (1386 هـ). هـ. أمَّا ما جاء عن أرجوزة قاضي القضاة شهاب الدين أبي عبد الله مُحَمَّد بن أحمد بن أحمد بن خليل الخويِّي المتوفَّى سنة (693هـ)، والمسمَّاة بـ" أقصى الأمل والسول في أحاديث الرَّسُوْل "، والموجود منها نسخة في دار الكُتُب المصرية تحت رقم (256) مصطلح حديث من القول: ((هي أرجوزة نظم فيها مقدمة ابن الصلاح)) (¬2)، فهذا القول قاله مؤلفو كتاب " فهرست المخطوطات " لدار الكُتُب المصرية. و. وكذا ما جاء في تسمية كتاب قاضي القضاة مُحَمَّد بن إبراهيم ابن جماعة المتوفَّى سنة (733هـ) "مختصر تلخيص مقدمة ابن الصلاح في معرفة أنواع علوم الحديث" الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم (352) مصطلح حديث فإن هذه التسمية هي تسمية النسَّاخ وصانعو فهرست دار الكتب المصرية (¬3). وأن اسم الكتاب هو "المنهل ¬
المبحث الثاني: توثيق نسبته إلى مؤلفه
الروي في الحديث النبوي" كما جاء في النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (217 طلعت) (¬1) وتحت هذا الاسم نشر الكتاب. لذا فإن الصواب في اسم كتاب ابن الصلاح هو " معرفة أنواع علم الحديث " وأن تسميته بـ: " المقدمة " هُوَ اجتهاد من ناشري الكِتَاب في الطبعة الهندية الأولى والثانية، وكذا الطبعة المصرية ... ثُمَّ سار الناس عَلَى هذه التسمية، وهي تسمية حديثة لَمْ يقلها أحد من أهل العلم)) (¬2). المبحث الثاني: توثيق نسبته إلى مؤلفه هذا الكتاب مقطوع بصحة نسبته الى ابن الصلاح، ويدل عَلَى ذَلِكَ دلالة صحيحة الأمور الآتية: 1. أن النسخ الثلاث اتفقت طررها عَلَى إثبات اسم ابن الصلاح عليها، بالإضافة إلى أن نسخة (ج) احتوت عَلَى سند الرواية إلى ابن الصلاح، وفي ختام النسخ الثلاث أيضاً تكرر ذكر اسمه ثانية. 2. أن الأسانيد التي في داخل الكتاب هي أسانيد أبي عمرو والشيوخ فيها هم شيوخ ابن الصلاح أنفسهم. 3. تشابه الأسلوب في كتابه هذا المصنف مع بقية مصنفات ابن الصلاح. 4. كل من ترجم له ذكر له هذا التأليف (¬3)، بل صار يعرف به فيقال: صاحب كتاب " علوم الحديث " (¬4). 5. ما تولّد عنه من دراسات - عرضنا لها فيما سبق -. كل هذا يجعلنا أمام علم ضروري بأن صاحب هذا الكتاب أبو عمرو بن الصلاح. ¬
المبحث الثالث: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
المبحث الثالث: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق بعيداً عن مصادر ابن الصلاح التي اعتبرناها مصادر ثانوية وروافد في عملنا والتي كنا حريصين على مراجعتها سواء أكانت كتب متون أم أسانيد أم رجال أم تواريخ أو غيرها، فقد اعتمدنا ما يأتي: أولاً: النسخ الخطية: اعتمدنا عَلَى ثلاث نسخ خطية - وهي وإن لَمْ تكن عتيقة - لكنها كافية في تصورنا لإخراج نص سليم قويم - إن شاء الله تَعَالَى - وفيما يأتي وصف موجز لكل منها (¬1): 1. نسخة خطية محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة الكائنة في مدينة السلام بغداد - حرسها الله - برقم (1/ 2899 مجاميع) تقع في (104 ورقة) تحوي كل ورقة صفحتين، في كل صفحة واحد وعشرون سطراً، بمعدل تسع كلمات في السطر الواحد، كتبت بدايات الأنواع بالمداد الأحمر، خطّها نسخي جميل واضح ومقروء، وقع الفراغ من نسخها سنة (1210 هـ). تظهر عليها آثار المقابلة، وهي غير مشكولة، ناسخها غير معروف، ورمزنا لها بالرمز (أ). 2. نسخة ثانية محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد - حرسها الله - تحت الرقم (2949) وعدد أوراقها (119 ورقة)، تحوي كل ورقة صفحتين في كل صفحة واحد وعشرون سطراً، بمعدل عشر كلمات في كل سطر، عليها حواشٍ وآثار مقابلة، خطها نسخي عادي واضح ومقروء، يعود تاريخ نسخها إلى سنة (807 هـ) إذ نسخت في رباط النورية في محلة الشونيزية في بغداد على يد مُحَمَّد ابن عبد الرحمان ابن مُحَمَّد بن عبد الرحمان الإسفراييني، وهي قليلة الخطأ نادرة السقط، وقد رمزنا لها بالرمز (ب). ¬
ثانيا: النسخ المطبوعة
3. نسخة ثالثة محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة أيضاً بغداد، برقم (3/ 2773 مجاميع) في (111 ورقة)، تحوي كل ورقة صفحتين في كل صفحة ثلاثة وعشرون سطراً، بمعدل تسع كلمات في السطر الواحد، في بعض الأحيان عليها حواشٍ، خطها واضح ومقروء، وهي حديثة العهد إذ نسخت سنة (1125 هـ)، في مدينة انطاكية عَلَى يد أبي بكر بن حاج أحمد بن شيخ مُحَمَّد المؤذن بجامع الصوفية، ورمزنا لها بالرمز (ج). ثانياً: النسخ المطبوعة بغية التوصل إلى نص صحيح اعتمدنا عَلَى نسخ مطبوعة، ولا سيّما أن كلاً مِنْهُم اعتمد نسخاً خطيةً أُخْرَى لضبط النص، وهذه النسخ هي: 1. النسخة المطبوعة بتحقيق الدكتور نور الدين عتر، والتي نشرتها المكتبة العلمية في المدينة المنورة سنة (1386هـم) ورمزنا لها بالرمز (ع). 2. النص المطبوع مع كتاب محاسن الاصطلاح للبلقيني بتحقيق الدكتورة عائشة عَبْد الرحمان (بنت الشاطئ) نشر وطباعة دار الكتب في بيروت سنة (1974 م)، ورمزنا لها بالرمز (م). 3. النص المطبوع مع كتاب التقييد والإيضاح للحافظ العراقي، بتحقيق عبد الرحمن مُحَمَّد عثمان، المطبوع في مطبعة العاصمة في القاهرة ونشرته المكتبة السلفية في المدينة المنورة سنة (1389هـ- 1970 م)، ورمزنا لها بـ: (التقييد). 4. النص الَّذِي ضمّنه الأبناسي في كتابه " الشذا الفياح "، والذي حققه صلاح فتحي هلل، نشر مكتبة الرشد بالاشتراك مَعَ شركة الرياض في المملكة العربية السعودية، سنة (1418 هـ1998 م)، ورمزنا لها بـ: (الشذا). المبحث الرابع: منهج التحقيق يمكننا أن نلخص منهج التحقيق الذي سرنا عليه والتزمناه في تحقيقنا لكتاب " معرفة أنواع علم الحديث " في ما يأتي:
1. حاولنا ضبط النص قدر المستطاع معتمدين على النسخ الخطية، ومستعينين بما نثق به من الكتب والطبعات السابقة للكتاب، مع مراجعة المصادر المباشرة للمؤلف، ككتب المتون والأسانيد، وكتب الرجال على اختلاف ألوانها. 2. خرّجنا الآيات الكريمات من مواطنها في المصحف، مع الإشارة إلى اسم السورة ورقم الآية. 3. خرّجنا الأحاديث النبوية الكريمة تخريجاً مستوعباً حسب الطاقة، وبينا ما فيها من نكت حديثية، ونبّهنا على مواطن الضعف، وكوامن العلل مستعينين بما ألّفه الأئمة الأعلام جهابذة الحديث ونقّاد الأثر في هذا المجال. 4. خرّجنا أكثر نقولاته عن العلماء وذلك بعزوها إلى كتبهم. 5. تتبّعنا المصنف فيما يورده من المذاهب سواء أكانت لغوية أم فقهية أم غيرها؟ ووثّقناها من المصادر التي تعنى بتلك العلوم. 6. لم يكن من وكدنا أن نترجم للأعلام الذين يذكرهم المصنف رغم فائدتها التي لا تخفى، مقدمين دفع مفسدة تضخم الكتاب، على مصلحة التعريف بهؤلاء الأعلام، على أن الكتاب لا يخلو من التعريف ببعضهم. 7. قدّمنا للكتاب بدراسة نراها - حسب اعتقادنا - كافية كمدخل إليه. 8. لم نألوا جهداً في تقديم أي عمل يخدم الكتاب، وهذا يتجلى في الفهارس المتنوعة التي ألحقناها بالكتاب، بغية توفير الوقت والجهد على الباحث. 9. قمنا بشكل النص شكلاً كاملاً. 10. علّقنا على المواطن التي نعتقد أنها بحاجة إلى مزيد إيضاح وبيان. 11. ذيّلنا الشرح بالمهم من نكت وتعليقات، ممّا أغنى الكتاب وتمّم مقاصده. 12. حاولنا جاهدين إيراد النكت والتعقبات وأجوبتها في أكثر الأحيان من مصادرها الأصيلة كـ" نكت الزركشي " و " نكت العراقي " و "نكت ابن حجر" و " البحر الذي زخر " وغيرها.
وبعد هذا كلّه، فلسنا من الذين يدّعون الكمال لأنفسهم أو أعمالهم، وليتذكر من يقف على هفوة أو شطحة قلم أن يقدّم النظر بعين الرضا على الانتقاد بعين السخط، وليضع قول الإمام الشافعي - رحمه الله - نصب عينيه إذ يقول: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ ... ولَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاويَا (¬1) سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬
صور للمخطوطات
قسم: التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (¬2) الحمدُ للهِ الْهَادِي مَنِ اسْتَهْدَاهُ، الواقِي (¬3) مَنِ اتَّقاهُ، الكافي مَنْ تحرّى رضاهُ، حمداً بالغاً أمدَ التمامِ ومنتهاهُ (¬4). والصلاةُ والسلامُ الأتمَّانِ (¬5) الأكملانِ على نبيِّنا والنبيِّينَ (¬6)، ¬
وآلِ كُلٍّ (¬1) ما رجى راجٍ مغفرتَهُ ورحماهُ، آمينَ. هذا (¬2)، وإنَّ عِلْمَ الحديثِ (¬3) مِنْ أفضلِ العلومِ الفاضلةِ، وأنفعِ الفنونِ النافعةِ، يُحبُّهُ ذكورُ الرجالِ وفحولَتُهُم (¬4)، ويُعْنَى (¬5) بهِ محقِّقُو العلماءِ وكَمَلَتُهُم، ولا يكرهُهُ مِنَ الناسِ إلاَّ رُذالتُهم (¬6) وسَفِلتُهُم (¬7). وهو مِنْ أكثرِ العلومِ تولُّجاً (¬8) في فنونها، لا سيَّما الفقهُ (¬9) الذي هو إنسانُ ¬
عُيونِها؛ ولذلكَ كَثُرَ غَلطُ العاطلينَ (¬1) منهُ مِنْ مُصَنِّفِي الفقهاءِ، وظهرَ الخللُ في كلامِ الْمُخلِّينَ بهِ مِنَ العلماءِ. ولقدْ كانَ شأنُ الحديثِ فِيْمَا مَضَى عظيماً، عظيمةً جموعُ طَلبَتِهِ (¬2)، رفيعةً مقاديرُ حُفَّاظِهِ وحملَتِهِ. وكانتْ علومُهُ بحياتِهِم حيَّةً، وأفنانُ فنونِهِ (¬3) ببقائِهِم غَضَّةً (¬4)، ومغانيهِ (¬5) بأهلِهِ آهِلَةً (¬6). فلمْ يزالُوا في انقراضٍ، ولَمْ يزلْ في اندراسٍ حتَّى آضتْ (¬7) بهِ الحالُ إلى أنْ صارَ أهلُهُ إنَّما هُمْ شِرْذِمةٌ (¬8) قليلةُ العَدَدِ (¬9) ¬
ضعيفةُ العُدَدِ، لا تُعْنى على الأغلبِ في تحمُّلِهِ بأكثرَ مِنْ سماعهِ غُفْلاً (¬1)، ولا تتعنَّى في تقييدِهِ بأكثَرَ مِنْ كتابتِهِ عُطْلاً (¬2)، مُطَّرِحِيْنَ علومَهُ التي بها جُلَّ قدرُهُ، مباعدينَ معارفَهُ التي بها فُخِّمَ أمرُهُ. فحينَ كادَ الباحثُ عنْ مُشْكلِهِ لا يُلْفِي لهُ كاشفاً، والسائلُ عنْ علمِهِ لا يَلْقى بهِ عارفاً، مَنَّ اللهُ الكريمُ - تباركَ وتعالى - عليَّ (¬3) - ولَهُ الحمدُ أجمعُ (¬4) - بكتابِ ... " معرفةَ أنواعِ علمِ الحديثِ "، هذا الذي باحَ (¬5) بأسرارهِ الخفيَّةِ، وكشفَ عَنْ مشكلاتِهِ الأبيَّةِ، وأحكمَ (¬6) معاقدَهُ، وقعَّدَ قواعدَهُ، وأنارَ معالِمَهُ، وبيَّنَ أحكامَهُ (¬7)، وفصَّلَ أقسامَهُ، وأوضحَ أصولَهُ، وشرحَ فروعَهُ وفصولَهُ، وجمعَ شتاتَ علومِهِ (¬8) وفوائدَهُ، وقنصَ شواردَ نُكتِهِ وفرائدَهُ (¬9). فاللهَ العظيمَ الذي بيدِهِ الضّرُّ والنَّفْعُ والإعطاءُ والمنعُ أسألُ، وإليهِ أضَّرَّعُ وأبتهلُ، متوسلاً إليهِ بكلِّ وسيلةٍ، متشفِّعاً (¬10)) إليهِ بكلِّ شفيعٍ، أنْ ¬
فهرس أنواع الحديث
يجعلَهُ مَلِيّاً بذلكَ وأملى (¬1)، وافياً بكلِّ ذلكَ وأوفى، وأنْ يُعَظِّمَ الأجرَ والنَّفْعَ بهِ في الدارَينِ، إنَّهُ قريبٌ مجيبٌ، وما توفيقي إلاَّ باللهِ عليهِ توكَّلْتُ وإليهِ أُنيبُ. وهذهِ فِهْرِسْتُ (¬2) أنواعِهِ: فالأوَّلُ منها: معرفةُ الصحيحِ مِنَ الحديثِ. الثاني: معرفةُ الحسَنِ منهُ. الثالثُ: معرفةُ الضعيفِ منهُ. الرابعُ: معرفةُ الْمُسْنَدِ. الخامسُ: معرفةُ الْمُتَّصِلِ. السادسُ: معرفةُ المرفوعِ. السابعُ: معرفةُ الموقوفِ. الثامنُ: معرفةُ المقطوعِ، وهو غيرُ المنقطعِ (¬3). التاسعُ: معرفةُ المرسلِ. العاشرُ: معرفةُ المنقطعِ. الحادي عشرَ: معرفةُ الْمُعْضَلِ، ويليهِ تفريعاتٌ، منها: في الإسنادِ الْمُعَنْعَنِ، ومنها: في التعليقِ. الثاني عشرَ: معرفةُ التدليسِ وحكمُ الْمُدَلَّسِ. الثالثَ عشرَ: معرفةُ الشَّاذِّ. ¬
الرابعَ عشرَ: معرفةُ الْمُنْكَرِ. الخامسَ عشرَ: معرفةُ الاعتبارِ والمتابعاتِ والشواهدِ. السادسَ عشرَ: معرفةُ زياداتِ الثقاتِ وحكمِها. السابعَ عشرَ: معرفةُ الأَفرادِ. الثامنَ عشرَ: معرفةُ الحديثِ المعلَّلِ. التاسعَ عشرَ: معرفةُ الْمُضْطَرِبِ مِنَ الحديثِ. العشرونَ: معرفةُ الْمُدْرَجِ منَ الحديثِ. الحادي والعشرونَ: معرفةُ الحديثِ الموضوعِ. الثاني والعشرونَ: معرفةُ المقلوبِ. الثالثُ والعشرونَ: معرفةُ صِفَةِ مَنْ تُقبَلُ روايتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ روايتُهُ. الرابعُ والعشرونَ: معرفةُ كيفيةِ سماعِ الحديثِ وتحمّلِهِ، وفيهِ: بيانُ أنواعِ الإجازةِ وأحكامِها، وسائرِ وجوهِ الأخذِ والتحمُّلِ، وعِلْمٌ جَمٌّ (¬1). الخامسُ والعشرونَ: معرفةُ كتابةِ الحديثِ وكيفيّةِ ضَبْطِ الكتابِ وتقييدِهِ، وفيهِ معارفُ مهمّةٌ رائقةٌ. السادسُ والعشرونَ: معرفةُ كيفيّةِ روايةِ الحديثِ وشرطِ أدائهِ وما يتعلَّقُ بذلكَ، وفيهِ كثيرٌ من نفائسِ هذا العلمِ. السابعُ والعشرونَ: معرفةُ آدابِ المحدِّثِ. الثامنُ والعشرونَ: معرفةُ آدابِ طالبِ الحديثِ. التاسعُ والعشرونَ: معرفةُ الإسنادِ العالي والنازلِ. النوعُ (¬2) الْمُوَفِّي ثلاثينَ: معرفةُ المشهورِ مِنَ الحديثِ. الحادي والثلاثونَ: معرفةُ الغريبِ والعزيزِ منَ الحديثِ. الثاني والثلاثونَ: معرفةُ غريبِ الحديثِ. الثالثُ والثلاثونَ: معرفةُ الْمُسَلْسَلِ. الرابعُ والثلاثونَ: معرفةُ ناسخِ الحديثِ ومنسوخِهِ. ¬
الخامسُ والثلاثونَ: معرفةُ الْمُصَحَّفِ منَ أسانيدِ الأحاديثِ ومتونِها. السادسُ والثلاثونَ: معرفةُ مُخْتَلِفِ الحديثِ. السابعُ والثلاثونَ: معرفةُ المزيدِ في متَّصِلِ الأسانيدِ. الثامنُ والثلاثونَ: معرفةُ المراسيلِ الخفيِّ إرسالُهَا. التاسِعُ والثلاثونَ: معرفةُ الصحابةِ - رضي الله عنهم -. الموفِّي أربعينَ: معرفةُ التابعينَ - رضي الله عنهم -. الحادي والأربعونَ: معرفةُ الأكابرِ مِنَ الرّواةِ (¬1) عنِ الأصاغرِ. الثاني والأربعونَ: معرفةُ الْمُدَبَّجِ وما سواهُ منْ روايةِ الأقرانِ بعضُهُم عَنْ بعضٍ. الثالثُ والأربعونَ: معرفةُ الإخوةِ والأخواتِ مِنَ العلماءِ والرواةِ. الرابعُ والأربعونَ: معرفةُ روايةِ الآباءِ عَنِ الأبناءِ. الخامسُ والأربعونَ: عكسُ ذلكَ (¬2): معرفةُ روايةِ الأبناءِ عنِ الآباءِ. السادسُ والأربعونَ: معرفةُ (¬3) مَنِ اشتركَ في الروايةِ عنهُ راويانِ متقدِّمٌ ومتأخِّرٌ تباعدَ ما بينَ وفاتَيْهِما. السابعُ والأربعونَ: معرفةُ مَنْ لَمْ يروِ عنهُ إلاَّ راوٍ واحدٌ. الثامنُ والأربعونَ: معرفةُ مَنْ ذُكِرَ بأسماءٍ مختلفةٍ أو نعوتٍ متعدِّدَةٍ. التاسعُ والأربعونَ: معرفةُ (¬4) المفرداتِ مِنْ أسماءِ الصحابةِ والرواةِ والعلماءِ. الْمُوَفِّي خمسينَ: معرفةُ الأسماءِ والكُنَى. الحادي والخمسونَ: معرفةُ كنى المعروفينَ بالأسماءِ دونَ الكنى. الثاني والخمسونَ: معرفةُ ألقابِ المحدِّثينَ. الثالثُ والخمسونَ: معرفةُ المؤتَلِفِ والمختَلِفِ. الرابعُ والخمسونَ: معرفةُ المتَّفِقِ والمفترِقِ. الخامسُ والخمسونَ: نوعٌ يتركَّبُ مِنْ هذينِ النوعينِ. ¬
السادسُ والخمسونَ: معرفةُ الرواةِ المتشابهينَ في الاسمِ والنَّسبِ المتمايزِينَ بالتقديمِ والتأخيرِ في الابن والأبِ. السابعُ والخمسونَ: معرفةُ المنسوبينَ إلى غيرِ آبائهِم. الثامنُ والخمسونَ: معرفةُ الأنسابِ التي باطنُها على خلافِ ظاهرِها. التاسعُ والخمسونَ: معرفةُ المبهماتِ. الْمُوَفِّي ستينَ: معرفةُ تواريخِ الرواةِ في الوَفَياتِ وغيرِها. الحادي والستونَ: معرفةُ الثِّقَاتِ والضُّعفاءِ مِنَ الرواةِ. الثاني والستونَ: معرفةُ مَنْ خَلَطَ في آخرِ عمرِهِ مِنَ الثقاتِ. الثالثُ والستونَ: معرفةُ طبقاتِ الرواةِ والعلماءِ. الرابعُ والستونَ: معرفةُ الموالي مِنَ الرواةِ والعلماءِ. الخامسُ والستونَ: معرفةُ أوطانِ الرُّواةِ وبلدانِهِم. وذلكَ آخِرُها، وليسَ بآخرِ الممكنِ في ذلكَ فإنَّهُ قابلٌ للتنويعِ (¬1) إلى ما لا يحصى، إذ لا تُحصى أحوالُ رواةِ الحديثِ وصفاتُهُم، ولا أحوالُ متونِ الحديثِ وصفاتُهُا، وما مِنْ حالةٍ منها ولا صفةٍ إلاَّ وهيَ بصدَدِ أنْ تُفْرَدَ بالذِّكْرِ وأهلُها، فإذا هيَ نوعٌ على حِيالِهِ (¬2) ولكنَّهُ نَصَبٌ من غيرِ أَرَبٍ، وحسبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ. ¬
النوع الأول من أنواع علوم الحديث معرفة الصحيح من الحديث
النوعُ الأوَّلُ مِنْ أنواعِ علومِ الحديثِ معرفةُ الصَّحِيْحِ مِنَ الحديثِ (¬1) اعلمْ - عَلَّمَكَ اللهُ وإيَّايَ (¬2) - أنَّ الحديثَ عندَ أهلِهِ ينقسِمُ إلى صَحيحٍ، وحَسَنٍ، وضَعيْفٍ (¬3). أمَّا (¬4) الحديثُ الصحيحُ: فهو الحديثُ المسنَدُ الذي يتَّصِلُ إسنادُهُ بنقلِ العَدْلِ الضابطِ عنِ العَدْلِ الضابطِ إلى منتهاهُ، ولا يكونُ شاذّاً، ولا مُعلَّلاً (¬5). وفي هذهِ الأوصافِ احترازٌ عَنِ المرسَلِ، والمنقطعِ، والمعضلِ، والشَّاذِّ، وما فيهِ عِلَّةٌ قادحةٌ، وما في راويهِ (¬6) نوعُ جرحٍ. وهذهِ أنواعٌ يأتي ذكرُهَا إنْ شاءَ اللهُ تباركَ وتعالى. ¬
فهذَا (¬1) هو الحديثُ الذي يُحكمُ لهُ بالصِّحَّةِ بلا خلافٍ بينَ أهلِ الحديثِ (¬2). وقدْ يختلفونَ في صِحَّةِ بعضِ الأحاديثِ؛ لاختلافِهِم في وجودِ هذهِ الأوصافِ فيهِ (¬3) أو لاختلافِهِم في اشتراطِ بعضِ هذهِ الأوصافِ كما في المرسَلِ. ومتى قالُوا: ((هذا حديثٌ (¬4) صحيحٌ)) فمعناهُ: أنَّهُ اتَّصَلَ سَندُهُ معَ سائرِ الأوصافِ المذكورةِ، وليسَ مِنْ شرطِهِ أنْ يكونَ مقطوعاً بهِ في نفس الأمرِ، إذْ منهُ ما ينفردُ بروايتهِ عدْلٌ واحدٌ، وليسَ مِنَ الأخبارِ التي أجمعَتِ (¬5) الأمّةُ عَلَى تَلَقِّيها بالقبولِ. وكذلكَ إذا قالوا في حديثٍ: ((إنَّهُ غيرُ صحيحٍ)) فليسَ ذلكَ قطعاً بأنَّهُ كذبٌ في نفس الأمرِ، إذْ قدْ يكونُ صِدقاً في نفسِ الأمرِ، وإنَّما المرادُ بهِ: أنَّهُ لَمْ يصحَّ إسنادُهُ على الشرطِ المذكورِ (¬6)، واللهُ أعلمُ. فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ: إحداها: الصحيحُ يتنوَّعُ إلى متَّفَقٍ عليهِ، ومُخْتَلَفٍ فيهِ (¬7)، كما سبقَ ذِكرُهُ، ويتنوَّعُ إلى مشهُورٍ، وغريبٍ، وبَيْنَ ذلكَ. ثُمَّ إنَّ درجاتِ الصحيحِ تتفاوتُ في القوَّةِ ¬
بحَسَبِ تمكُّنِ الحديثِ مِنَ الصفاتِ المذكورةِ التي تَنْبَنِي (¬1) الصِّحَّةُ عليها، وتنقسمُ باعتبارِ ذلكَ إلى أقسامٍ يُسْتَعْصَى إحْصاؤُها على العادِّ الحاصرِ. ولهذا نرى الإمساكَ عَنِ الحكمِ لإسنادٍ أو حديثٍ بأنَّهُ الأصحُّ على الإطلاقِ (¬2) على أنَّ جماعةً مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ خاضُوا غَمْرَةَ (¬3) ذلكَ، فاضطربَتْ أقوالُهُم. فَرُوِّيْنا (¬4) عنْ إسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ (¬5) أنَّهُ قالَ: ((أصحُّ الأسانيدِ كلِّها: الزُّهريُّ عنْ ¬
سالمٍ عنْ أبيهِ)) (¬1)، وَرُوِّيْنا نحوَهُ عنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ (¬2). وَرُوِّيْنا عنْ عمرِو بنِ عليٍّ الفلاَّسِ أنَّهُ قالَ: ((أصحُّ الأسانيدِ: محمدُ بنُ سيرينَ عنْ عَبيدةَ (¬3) عنْ عليٍّ)) (¬4)، وَرُوِّيْنا نحوَهُ عنْ عليِّ بنِ المدِينيِّ (¬5)، ورُويَ ذلكَ عنْ غيرِهِما. ثمَّ منهم (¬6) مَنْ عَيَّنَ (¬7) الراويَ عنْ محمدٍ وجعلَهُ أيُّوبَ السَّخْتِيانيَّ (¬8)، ومنهم (¬9) مَنْ جعلَهُ ابنَ عَوْنٍ. وفيما نرويهِ عَنْ يحيى بنِ مَعِينٍ أنَّهُ قالَ: ((أجودُها: الأعمشُ عنْ إبراهيمَ عَنْ عَلْقَمةَ عنْ عبدِ اللهِ (¬10) 0))) (¬11) 1)، وَرُوِّيْنا عنْ أبي بكرِ بنِ أبي شَيبةَ أنَّهُ (¬12) 2) قالَ: ((أصحُّ الأسانيدِ كُلِّها: الزهريُّ عنْ عليِّ بنِ الحسينِ، عنْ أبيهِ، عنْ عليٍّ (¬13) 3))) (¬14) 4). وَرُوِّيْنا عن أبي عبدِ اللهِ البخاريِّ - صاحبِ " الصحيحِ " - أنَّهُ قالَ: أصحُّ الأسانيدِ كُلِّها: مالكٌ عنْ نافِعٍ عنْ ابنِ عمرَ)) (¬15) 5). وبنى الإمامُ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ بنِ طاهرٍ ¬
التَّمِيْمِيُّ (¬1) 1) على ذلكَ أنَّ أجلَّ الأسانيدِ ((الشافعيُّ، عنْ مالكٍ، عنْ نافعٍ، عنْ ابنِ عمرَ))، واحْتَجَّ بإجماعِ أصحابِ الحديثِ على أنَّهُ لَمْ يكنْ في الرّواةِ عَنْ مالكٍ أجلُّ مِنَ الشافعيِّ - رضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ -، واللهُ أعلمُ (¬2). الثانيةُ (¬3): إذا وجدنا فيما يُروى مِنْ أجزاءِ الحديثِ وغيرِهَا حديثاً صحيحَ الإسنادِ، ولَمْ نجدْهُ في أحدِ ((الصحيحينِ))، ولا منصوصاً على صِحَّتِهِ في شيءٍ مِنْ مُصَنَّفَاتِ أئمَّةِ الحديثِ المعتمدةِ المشهورةِ، فإنَّا لا نتجاسرُ على جَزْمِ الْحُكْمِ بصِحَّتِهِ (¬4)، فقدْ تَعَذَّرَ في هذهِ الأعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيحِ بمجَرَّدِ اعتبارِ الأسانيدِ؛ لأنَّهُ مَا مِنْ إسنادٍ مِنْ ذلكَ إلاَّ وتجدُ في رجالِهِ مَنِ اعْتَمَدَ في روايتِهِ عَلَى مَا في كتابِهِ عَرِيّاً عمَّا يُشترطُ في الصحيحِ مِنَ الحِفْظِ والضَّبْطِ والإتْقَانِ. فآلَ الأمرُ - إذنْ - في معرفةِ الصحيحِ والحسنِ، إلى الاعتمادِ عَلَى مَا نصَّ عليهِ أئمَّةُ الحديثِ في تصانيفِهِم المعتمدةِ المشهورةِ، الَّتِي يُؤمَنُ فِيْهَا؛ لِشُهْرَتِها مِنَ التَّغييرِ والتَّحريفِ، وصارَ مُعظمُ المقصودِ بما يُتَدَاولُ مِنَ الأسانيدِ خارجاً عنْ ذلكَ، إبقاءَ سلسلةِ الإسنادِ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأُمّةُ (¬5)، زادها اللهُ تعالى شرفاً، آمينَ. ¬
الثالثةُ: أوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الصحيحَ البخاريُّ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ الْجُعْفِيُّ مولاهُم (¬1)، وتلاهُ أبو الحسينِ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ النَّيْسابوريُّ القُشَيْريُّ مِنْ أَنْفُسِهِم (¬2). ومسلمٌ معَ أنَّهُ أخذَ عنِ البخاريِّ واستفادَ منهُ يشاركُهُ في أكثرِ (¬3) شيوخِهِ. وكتاباهُما أصحُّ الكُتُبِ بعدَ كتابِ اللهِ العزيزِ (¬4). وأمَّا ما رُوِّيْناهُ عنِ الشافعيِّ - رضي الله عنه - مِنْ أنَّهُ قالَ: ((ما أعلمُ في الأرضِ كتاباً في العلمِ أكثرَ صواباً مِنْ كتابِ مالكٍ)) (¬5) ومنهم مَنْ رواهُ بغيرِ هذا اللفظِ (¬6)، فإنَّما قالَ ذلكَ قبلَ وجودِ كتابَي البخاريِّ ومسلمٍ. ¬
ثُمَّ إنَّ كتابَ البخاريِّ أصحُّ الكتابَيْنِ صحيحاً وأكثرُهُما فوائدَ (¬1). وأمَّا ما رُوِّيْناهُ عنْ أبي عليٍّ الحافظِ النَّيْسابوريِّ أستاذِ الحاكمِ أبي عبدِ اللهِ (¬2) الحافِظِ مِنْ أنَّهُ قالَ: ((ما تحتَ أديمِ السماءِ كتابٌ أصحُّ مِنْ كتابِ مُسلمِ بنِ الحجَّاجِ)) (¬3) فهذا وقولُ مَنْ فضَّلَ مِن شيوخِ المغربِ كتابَ مسلمٍ على كتابِ البخاريِّ إن كانَ المرادُ بهِ أنَّ كتابَ مسلمٍ يترجَّحُ بأنَّهُ لَمْ يُمَازجْهُ غيرُ الصحيحِ، فإنَّهُ ليسَ فيهِ بعدَ خُطبتِهِ إلاَّ الحديثُ الصحيحُ مسروداً غيرَ ممزوجٍ بمثلِ ما في كتابِ البخاريِّ في تراجمِ أبوابِهِ مِنَ الأشياءِ التي لَمْ يُسندْها على الوصفِ المشروطِ في الصحيحِ فهذا لا بأسَ بهِ (¬4). وليسَ يلزمُ منهُ أنَّ كتابَ مسلمٍ أرجحُ فيما يرجعُ إلى نفسِ الصحيحِ على كتاب البخاريِّ، وإنْ كانَ المرادُ بهِ أنَّ كتابَ مسلمٍ أصحُّ صحيحاً، فهذا مردودٌ على مَنْ يقولُهُ، واللهُ أعلمُ. الرابعةُ: لَمْ يَستوعبا الصحيحَ في صحيحَيْهِما ولا التزما ذلكَ (¬5)، فقدْ رُوِّيْنا عنِ البخاريِّ أنَّهُ (¬6) قالَ: ((ما أدخلْتُ في كتابي " الجامعِ " إلاَّ ما صحَّ، وتركْتُ مِنَ الصِّحَاحِ لحالِ الطُّولِ)) (¬7). ورُوِّيْنا عنْ مسلمٍ أنَّهُ قالَ: ((ليسَ كُلُّ شيءٍ عندي، ¬
صحيحٍ وَضَعْتُهُ هاهُنا - يعني: في كتابِهِ (¬1) الصحيحِ - إنَّما وضعْتُ هَاهُنا مَا أجْمعُوا عليهِ)) (¬2). قلتُ: أرادَ - واللهُ أعلمُ - أنَّهُ لَمْ يَضعْ في كتابِهِ إلاَّ الأحاديثَ التي وجدَ عندهُ فيها شرائطَ الصحيحِ الْمُجْمَعِ عليهِ، وإنْ لَمْ يظهرْ اجتماعُها في بعضِها عندَ بعضِهِم (¬3). ثُمَّ إنَّ أبا عبدِ اللهِ بنَ الأخرمِ الحافظَ قالَ: ((قَلَّمَا يَفُوتُ البخاريَّ ومسلماً ممَّا يَثْبُتُ مِنْ الحدِيْثِ)) (¬4) يعني: في كتابَيْهِما. ولِقائلٍ أنْ يقولَ: ليسَ ذلكَ بالقليلِ، فإنَّ "المستدركَ على الصحيحينِ" للحاكمِ أبي عبدِ اللهِ كتابٌ كبيرٌ يشتملُ ممَّا فاتهما علىشيءٍ كثير وإنْ يكنْ عليهِ في بعضِهِ مقالٌ، فإنَّهُ يصفو لهُ منهُ صحيحٌ كثيرٌ. وقدْ قالَ البخاريُّ: ((أحفظُ مئةَ ألفِ حديثٍ صحيحٍ، ومئتي ألفِ حديثٍ غيرِ صحيحٍ)) (¬5). ¬
وجملةُ ما في كتابِهِ الصحيحِ سبعةُ آلافٍ ومئتانِ وخمسةٌ وسبعونَ حديثاً بالأحاديثِ المكرَّرَةِ. وقدْ قيلَ: إنَّها بإسقاطِ المكرَّرَةِ أربعةُ آلافِ حديثٍ (¬1)، إلاَّ أنَّ هذهِ العبارةَ قدْ يندرجُ تحتَها عندهم آثارُ الصحابَةِ والتابعينَ، وربَّما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادينِ حديثينِ. ثُمَّ إنَّ الزيادةَ في الصحيحِ (¬2) على ما في الكتابينِ (¬3) يَتلقَّاهَا طالبُهَا ممَّا اشْتَمَلَ عليهِ أحدُ الْمُصَنَّفَاتِ المعتمدةِ المشتهرةِ (¬4) لأئمّةِ الحديثِ كأبي داودَ السِّجْسِتانيِّ، وأبي عيسى التِّرمِذيِّ، وأبي عبدِ الرحمانِ النَّسائيِّ (¬5) وأبي بكرِ بنِ خُزيمةَ، وأبي الحسنِ الدَّارَقُطنيِّ وغيرِهِم، منصوصاً على صحَّتِهِ فيها. ولا يكفي في ذلكَ مجرَّدُ كونِهِ موجوداً في كتابِ أبي داودَ، وكتابِ الترمذيِّ، وكتابِ النَّسائيِّ، وسائرِ مَنْ جمعَ في كتابِهِ بينَ الصحيحِ وغيرِهِ، ويكفي مجرَّدُ كونِهِ موجوداً في كتبِ مَنِ اشْتَرَطَ منهم الصحيحَ فيما جمَعَهُ ككتابِ ابنِ خُزَيمةَ، وكذلكَ ما يوجدُ في الكُتبِ المخرَّجَةِ على كتابِ البخاريِّ وكتابِ مسلمٍ، ك: كتابِ أبي عَوَانةَ الإسفرايينيِّ، وكتابِ أبي بكرٍ (¬6) الإسماعيليِّ (¬7)، وكتابِ أبي ¬
بكرٍ البَرْقانيِّ، وغيرِها مِنْ تَتِمَّةٍ لمحذوفٍ أو زيادةِ شَرْحٍ في كثيرٍ مِنْ أحاديثِ "الصحيحينِ". وكثيرٌ من هذا موجودٌ في " الجمعِ بينَ الصحيحينِ " لأبي عبدِ اللهِ الْحُمَيديِّ (¬1). واعتنى الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ الحافظُ بالزيادةِ في عددِ الحديثِ الصحيحِ على ما في الصحيحينِ، وجَمَعَ ذلكَ في كتابٍ سمَّاهُ " المستدركَ " أودَعَهُ ما ليسَ في واحدٍ مِنَ " الصحيحينِ " ممَّا رآهُ على شرطِ الشيخينِ قدْ أخرجا عنْ رواتِهِ في كتابَيْهِما، أو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ، أو على شرطِ مسلمٍ وحدَهُ، وما أدَّى اجتهادُهُ إلى تصحيحهِ وإنْ لَمْ يكُنْ على شرطِ واحدٍ منهما (¬2). ¬
وهوَ واسعُ الخَطْوِ في شرطِ الصحيحِ، متساهِلٌ في
القضاءِ بهِ (¬1). فالأَوْلَى أنْ نتوسَّطَ (¬2) في أمرِهِ فنقولَ: مَا حَكَمَ بصِحَّتِهِ وَلَمْ نَجِدْ (¬3) ذلكَ فيهِ لغيرِهِ مِنَ الأئمَّةِ، إنْ لَمْ يكُنْ مِنْ قَبِيْلِ الصحيحِ فَهوَ مِنْ قَبيلِ الحسنِ يُحتجُّ بهِ ويُعْملُ بهِ، إلاَّ أنْ تظهرَ فيهِ عِلَّةٌ تُوجِبُ ضَعْفَهُ (¬4) ويُقَاربُهُ في حُكْمِهِ " صحيحُ أبي حاتِمِ بنِ حِبَّانَ البُسْتِيِّ " (¬5) -رَحِمَهُمُ اللهُ أجمعينَ- واللهُ أعلمُ. ¬
الخامِسَةُ: الكتبُ الْمُخَرَّجَةُ (¬1) على كتابِ البخاريِّ أو كتابِ مسلمٍ -رضيَ اللهُ عنهما- لَمْ يلتزمْ مصنِّفُوها فيها موافقَتَهما في ألفاظِ الأحاديثِ بعينِها مِنْ غيرِ زيادةٍ ونقصانٍ؛ لكونِهِم رَوَوْا تلكَ الأحاديثَ مِنْ غيرِ جهةِ البخاريِّ ومسلمٍ طَلَباً لِعُلُوِّ الإسنادِ، فحصلَ فيها بعضُ التفاوُتِ في الألفاظِ. وهكذا ما أخرجَهُ المؤلِّفُونَ في تصانيفِهِم المستَقِلَّة ك" السُّنَنِ الكَبِير " للبَيْهقيِّ، و " شرحِ السُّنَّةِ " لأبي محمدٍ البَغَوِيِّ، وغيرِهِما ممَّا (¬2) قالوا فيهِ: ((أخرجهُ البخاريُّ أو مسلمٌ))، فلا يُسْتَفَادُ (¬3) بذلكَ أكثرَ من أنَّ البخاريَّ أو مسلماً أخرجَ أصلَ ذلكَ الحديثِ، مَعَ احتِمالِ أنْ يكونَ بينهما تفاوُتٌ في اللَّفظِ، وربَّما كان تفاوتاً في بعضِ المعنى، فقدْ وجدْتُ في ذلكَ ما فيهِ بعضُ التَّفاوتِ مِنْ حيثُ المعنى. وإذا كانَ الأمرُ في ذلكَ على هذا فليسَ لكَ أنْ تنقُلَ حديثاً منها وتقولَ: هو على هذا الوجهِ في كتابِ البخاريِّ، أو كتابِ مسلمٍ، إلاَّ أنْ تُقَابِلَ لفظَهُ، أو يكونَ الذي خرَّجهُ قد قالَ: أخرجهُ البخاريُّ بهذا اللَّفظِ (¬4). بخلافِ الكُتبِ المختصَرَةِ منَ الصحيحينِ، فإنَّ مصنِّفِيها نقلُوا فيها ألفاظَ الصحيحينِ أو أحدهما (¬5)، غيرَ أنَّ " الجمعَ بينَ الصحيحينِ " ¬
لِلحُمَيديِّ الأندلسيِّ منها يشتملُ على زيادةِ تتمَّاتٍ لبعضِ الأحاديثِ كما قدَّمنا ذكرَهُ (¬1)، فربَّما نَقَلَ مَنْ لا يُمَيِّزُ بعضَ ما يجدهُ فيهِ عنِ الصحيحينِ أو أحدِهما، وهو مخطِئٌ؛ لكونِهِ مِنْ تلكَ الزياداتِ (¬2) التي لا وجودَ لها في واحدٍ (¬3) مِنَ الصحيحينِ. ثُمَّ إنَّ التخاريجَ المذكورةَ على الكتابينِ يُستفادُ منها فائدتانِ (¬4): إحداهُما: عُلُوُّ الإسنادِ. والثانيةُ: الزيادةُ في قدْرِ الصحيحِ لما يقعُ فيها مِنْ ألفاظٍ زائدةٍ وتَتِمَّاتٍ في بعضِ الأحاديثِ تُثْبِتُ (¬5) صِحَّتَها بهذهِ التخاريجِ؛ لأنَّها واردةٌ بالأسانيدِ الثابتةِ في الصحيحينِ أو أحدِهِما وخارجةٌ مِنْ ذلكَ المَخْرَجِ الثابتِ، واللهُ أعلمُ. السادسةُ: ما أسنَدَهُ البخاريُّ ومسلمٌ – رحمهما اللهُ – في كتابَيْهِمَا بالإسنادِ المتَّصِلِ فذلكَ الذي حَكما بصحَّتِهِ بلا إشكالٍ. وأمَّا [المعلَّقُ وهو] (¬6) الذي حُذِفَ مِنْ مبتدإِ إسنادِهِ واحدٌ أو أكثرُ، وأغلبُ ما وقَعَ ذلكَ في كتابِ البخاريِّ (¬7) وهو في كتابِ ¬
مسلمٍ قليلٌ جدّاً (¬1) ففي بعضِهِ نَظَرٌ. وينبغي أنْ نقولَ: ما كانَ مِنْ ذلكَ ونحوِهِ بلفظٍ فيهِ جَزْمٌ وحُكْمٌ بهِ على مَنْ عَلَّقَهُ عَنْهُ، فقدْ حَكَمَ بصِحَّتِهِ عَنْهُ (¬2)، مثالُهُ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذا وكذا، قالَ ابنُ عبَّاسٍ: كذا، قالَ مجاهدٌ: كذا، قالَ عَفَّانُ: كذا، قالَ القَعْنَبِيُّ: كذا (¬3)، روى أبو هريرةَ: كذا وكذا، وما أشبهَ ذلكَ مِنَ العباراتِ. فكلُّ ذلكَ حُكْمٌ ¬
مِنْهُ على مَنْ ذَكرَهُ عنهُ بأنَّهُ (¬1) قدْ قالَ ذلكَ ورَوَاهُ؛ فلنْ يَسْتَجِيْزَ إطلاقَ ذلكَ إلاَّ إذا صحَّ عِندَهُ ذلكَ عنهُ، ثمَّ إذا كانَ الذي علَّقَ الحديثَ عنهُ دُوْنَ الصحابةِ فالحُكْمُ بصِحَّتِهِ يتوقَّفُ على اتِّصَالِ الإسنادِ بينَهُ وبينَ الصحابيِّ. وأمَّا ما لَمْ يَكُنْ في لفظِهِ جَزْمٌ وحُكْمٌ، مثلُ: رُويَ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كذا وكذا، أو رُويَ (¬2) عنْ فلانٍ: كذا وكذا (¬3) أو في البابِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كذا وكذا، فهذا وما أشْبَهَهُ مِنَ الألفاظِ ليسَ في شيءٍ منهُ (¬4) حُكْمٌ منهُ (¬5) بصحَّةِ ذلكَ عمَّنْ ذكَرَهُ عنهُ؛ لأنَّ مثلَ هذهِ العباراتِ تُستَعملُ في الحديثِ الضعيفِ أيضاً، ومعَ ذلكَ فإيرادُهُ لهُ في أثناءِ الصحيحِ مُشْعِرٌ بصِحَّةِ أصْلِهِ إشعاراً يُؤْنَسُ بهِ ويُرْكَنُ إليهِ، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ إنَّ ما يتقاعدُ مِنْ ذلكَ عنْ شَرطِ الصحيحِ قليلٌ (¬6)، يوجَدُ في كتابِ البخاريِّ في مواضعَ مِنْ تراجمِ الأبوابِ دونَ مقاصِدِ الكتابِ وموضوعِهِ الذي يُشْعِرُ بهِ اسمُهُ الذي سمَّاهُ بهِ، وهوَ " الجامعُ المُسْنَدُ الصحيحُ المختصرُ مِنْ أُمورِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُنَنِهِ وأيَّامِهِ ". وإلى الخصوصِ الذي بيَّناهُ يرجعُ مطلقُ قولِهِ: ((ما أدخلْتُ في كتابِ الجامعِ إلاَّ ما صحَّ)). وكذلكَ مُطْلَقُ قولِ الحافظِ أبي نَصْرٍ الوايليِّ السِّجْزِيِّ (¬7): ((أجمعَ أهلُ العِلْمِ - الفقهاءُ (¬8) ¬
وغيرُهُم (¬1) – أنَّ رَجُلاً لَو حَلَفَ بالطَّلاَقِ أنَّ جميعَ ما في كتابِ البخاريِّ ممَّا رُويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ صحَّ عنهُ، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَهُ (¬2) لا شَكَّ فيهِ أنَّهُ لا يَحْنَثُ (¬3)، والمرأةُ بحالِها في حِبَالتِهِ (¬4)) (¬5). وكذلكَ ما ذكرَهُ أبو عبدِ اللهِ الْحُمَيديُّ في كتابِهِ " الجمعِ بينَ الصحيحينِ " من قولِهِ: ((لَمْ نجدْ مِنَ الأئمَّةِ الماضينَ – رضيَ اللهُ عنهُم أجمعينَ – مَنْ أفصَحَ لنا في جميعِ ما جمَعَهُ بالصِّحَّةِ إلاَّ هذينِ الإمامَيْنِ)) (¬6). فإنَّما المرادُ بكلِّ ذلكَ مقاصدُ الكتابِ وموضوعُهُ ومتونُ الأبوابِ، دونَ التراجمِ ونحوُهَا؛ لأنَّ في بعضِها مَا ليسَ مِنْ ذلكَ قطعاً، مثلُ: قولِ البخاريِّ: ((بابُ مَا يُذكَرُ في الفَخِذِ، ويُروى عنِ ابنِ عبَّاسٍ، وجَرْهَدٍ (¬7)، ومحمدِ بنِ جَحْشٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: الفَخِذُ عوْرَةٌ)) (¬8)، وقولُهُ في أوَّلِ بابٍ من أبوابِ الغُسْلِ: ((وقالَ ¬
بَهْزُ [بنُ حَكِيْمٍ] (¬1)، عنْ أبيهِ، عنْ جَدِّهِ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحيى منهُ)) (¬2). فهذا قطعاً ليسَ مِنْ شرطِهِ؛ ولذلكَ (¬3) لَمْ يورِدْهُ الحُمَيديُّ في " جمعهِ بينَ الصحيحينِ "، فاعلمْ ذلكَ فإنَّهُ مهمٌّ خافٍ، واللهُ أعلمُ (¬4). السابعةُ: وإذا انتهى الأمرُ في مَعْرِفَةِ الصحيحِ إلى ما خرَّجَهُ الأئمَّةُ في تصانيفِهِم الكافلةِ ببيانِ ذلكَ كما سبقَ ذِكرُهُ، فالحاجَةُ ماسَّةٌ إلى التنبيه على أقسامِهِ باعتبارِ ذلكَ (¬5): فأوَّلُها: صحيحٌ أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ جميعاً. الثاني: صحيحٌ انفَرَدَ بهِ البخاريُّ، أيْ: عنْ مسلمٍ. الثالثُ: صحيحٌ انفَرَدَ بهِ مسلمٌ، أيْ: عنِ البخاريِّ. الرابعُ: صحيحٌ على شرطِهِما لَمْ يُخَرِّجاهُ. الخامسُ: صحيحٌ على شرطِ البخاريِّ لَمْ يخرِّجْهُ. ¬
السادسُ: صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ لَمْ يُخَرِّجْهُ. السابعُ: صحيحٌ عندَ غيرِهما، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهما. هذهِ أمَّهاتُ أقسامِهِ وأعلاهَا: الأوَّلُ وهو الذي يقولُ فيهِ أهلُ الحديثِ كثيراً: ((صحيحٌ متَّفَقٌ عليهِ)) يُطْلِقُونَ ذلكَ ويَعْنونَ بهِ اتِّفاقَ البخاريِّ ومسلمٍ، لا اتِّفاقَ الأمَّةِ (¬1) عليهِ، لكنَّ اتِّفَاقَ الأمَّةِ عليهِ لازمٌ منْ ذلكَ، وحاصِلٌ معهُ؛ لاتِّفاقِ (¬2) الأمَّةِ على تلقِّي ما اتَّفَقا عليهِ بالقبولِ. وهذا القسمُ جميعُهُ مقطوعٌ بصِحَّتِهِ، والعِلْمُ اليقينيُّ النَّظريُّ واقعٌ بهِ، خلافاً لقولِ مَنْ نَفَى ذلكَ، مُحْتَجّاً بأنَّهُ لا يُفيدُ في أصلِهِ إلاَّ الظَّنَّ (¬3)، وإنَّما تلقَّتْهُ الأمَّةُ (¬4) بالقبولِ؛ لأنَّهُ يجبُ عليهمُ العملُ بالظَّنِّ، والظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ. وقدْ كنتُ أميلُ إلى هذا، وأحسبُهُ قويّاً ثُمَّ بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخْتَرْناهُ أوَّلاً هوَ الصحيحُ؛ لأنَّ ظَنَّ مَنْ هوَ معصومٌ مِنَ الخطأِ لا يُخْطِئُ، والأمَّةُ في إجماعِها مَعْصومةٌ مِنَ الخطأِ، ولهذا كانَ الإجماعُ الْمُبْتَنَى (¬5) على الاجتهادِ حُجَّةً مقطوعاً بها، وأكثرُ إجماعاتِ العلماءِ كذلكَ. وهذهِ نكتَةٌ نفيسةٌ نافعةٌ، ومِنْ فوائدِها: القولُ بأنَّ ما انفردَ بهِ البخاريُّ أو مسلمٌ مندرجٌ في قبيلِ ما يُقْطَعُ بصِحَّتِهِ؛ لتَلَقِّي الأمَّةِ كلَّ واحدٍ من كتابَيْهما بالقبولِ على الوجهِ الذي فصَّلناهُ مِنْ حالِهِما فيما سبقَ، سوى أحرفٍ يسيرةٍ (¬6) تكلَّمَ عليها بعضُ أهلِ النَّقْدِ مِنَ الحفَّاظِ كالدَّارقطنيِّ وغيرِهِ، وهي معروفةٌ عِندَ أهلِ هذا الشأْنِ، واللهُ أعلمُ. ¬
الثامنةُ: إذا ظهرَ بما قدَّمناهُ انحصارُ طريقِ معرفةِ الصحيحِ والحسنِ الآنَ في مراجعةِ الصحيحينِ وغيرِهما مِنَ الكتبِ الْمُعتمَدةِ، فسبيلُ مَنْ أرادَ العملَ أو الاحتجاجَ بذلكَ إذا كانَ (¬1) ممَّنْ يسوغُ لهُ العملُ بالحديثِ أو الاحتجاجُ بهِ لذي مَذْهَبٍ أنْ يرجعَ إلى أصلٍ قدْ قابَلَهُ هو أو ثقةٌ غيرُهُ بأصولٍ صحيحةٍ متعدِّدةٍ (¬2) مرويةٍ برواياتٍ متنوعةٍ (¬3)؛ ليحصلَ لهُ بذلكَ – مَعَ اشتهارِ هذهِ الكتبِ وبُعْدِها عنْ أنْ تُقصَدَ بالتبديلِ والتحريفِ – الثقةُ بصِحَّةِ ما اتَّفَقَتْ عليهِ تلكَ الأصولُ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثاني معرفة الحسن من الحديث
النَّوْعُ الثَّانِي مَعْرِفَةُ الْحَسَنِ (¬1) مِنَ الحَدِيْثِ رُوِّينا عَنْ أبي سُليمانَ الخطَّابيِّ - رحمَهُ اللهُ - أنَّهُ قالَ - بعدَ حكايتِهِ -: إنَّ الحديثَ عِندَ أهلِهِ ينقسِمُ إلى الأقسامِ الثلاثةِ التي قدَّمنا ذِكْرَها: ((الحسَنُ: ما عُرِفَ مَخْرَجُهُ (¬2) واشتَهَرَ رِجَالُهُ)) (¬3) - قالَ -: ((وعليهِ مَدَارُ أكثَرِ الحديْثِ وهوَ الذي يَقْبَلُهُ (¬4) أكثَرُ (¬5) العلماءِ، ويستعمِلُهُ عامَّةُ الفقهاءِ)) (¬6). ورُوِّينا عَنْ أبي عيسى التِّرمِذِيِّ - رضي الله عنه - أنَّهُ يريدُ بالحسَنِ: ((أنْ لاَ يكونَ في إسنادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بالكَذبِ، ولاَ يكونَ حديثاً شاذّاً، ويُروَى مِنْ غيرِ وجهٍ نحوَ ذلكَ (¬7)) (¬8). ¬
وقالَ بعضُ المتأخِّرينَ (¬1): ((الحديثُ الذي فيهِ ضَعْفٌ قريبٌ مُحتَملٌ هو الحديثُ الحسنُ، ويَصْلُحُ للعملِ بهِ)). قلتُ: كُلُّ هذا مُسْتَبْهَمٌ لا يَشْفِي الغليلَ، وليسَ فيما ذَكَرَهُ التِّرمذيُّ والخطَّابيُّ ما يَفْصِلُ الحسَنَ مِنَ الصحيحِ. وقدْ أمعَنْتُ (¬2) النَّظَرَ في ذلكَ والبحثَ جامعاً بينَ أطرافِ كلامِهِم، ملاحظاً مواقعَ استعمالِهم؛ فتنَقَّحَ لي (¬3) واتَّضَحَ أنَّ الحديثَ الحسَنَ قِسْمانِ (¬4): أحدُهُما: الحديثُ الذي لا يخلو رجالُ إسنادِهِ مِنْ مستورٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ أهليَّتُهُ، غيرَ أنَّهُ ليسَ مُغَفَّلاً كثيرَ الخطأِ فيما يَرْويهِ، ولا هوَ متَّهَمٌ بالكذبِ في الحديثِ، أي: لَمْ يَظهرْ منهُ تَعمُّدُ (¬5) الكذبِ في الحديثِ ولا سببٌ آخرُ مفسِّقٌ، ويكونُ متنُ الحديثِ معَ ذلكَ قد عُرِفَ بأنْ رُوِيَ مِثْلُهُ أو نحوُهُ مِنْ وجهٍ آخرَ أو أكثرَ، حتَّى اعتضَدَ بمتابعةِ مَنْ تابعَ راويَهُ على مثلِهِ، أو بما لَهُ مِنْ شاهِدٍ، وهوَ ورُودُ حديثٍ آخرَ بنحوِهِ، فيَخْرُجُ بذلكَ عَنْ أنْ يكونَ شاذّاً ومُنْكَراً. وكلامُ الترمِذِيِّ على هذا القسمِ يتَنَزَّلُ. القسمُ الثاني: أنْ يكونَ راوِيْهِ مِنَ المشهورينَ بالصدقِ والأمانةِ، غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ درجَةَ رجالِ الصحيحِ؛ لكونِهِ يقصُرُ عنهم في الحفظِ والإتقانِ، وهو معَ ذلكَ يرتفِعُ عَنْ ¬
حالِ مَنْ يُعَدُّ ما ينفرِدُ بهِ مِنْ حديثِهِ مُنكراً، ويُعْتَبَرُ في كلِّ هذا معَ سلامةِ الحديثِ مِنْ أنْ يكونَ شاذّاً ومُنكَراً (¬1): سلاَمَتُهُ مِنْ أنْ يكونَ معلَّلاً. وعلى القسمِ الثاني يتَنَزَّلُ كلامُ الخطَّابيِّ. فهذا الذي ذكرناهُ جامعٌ لِمَا تفرَّقَ في كلامِ مَنْ بَلَغنا كلامُهُ في ذلكَ (¬2)، وكأنَّ الترمذيَّ ذَكَرَ أحدَ نَوْعَيِ الحسَنِ، وذَكَرَ الخطَّابيُّ النوعَ الآخرَ، مُقْتصِراً كلُّ واحدٍ منهما على ما رأى أنَّهُ يُشْكِلُ، مُعْرِضاً عمَّا رأى أنَّهُ لا يُشْكِلُ أو أنَّهُ غَفَلَ عَنْ البعضِ وذهلَ (¬3)، واللهً أعلمُ، هذا تأصيلُ ذلكَ، ونُوضِحُهُ بتنبيهاتٍ وتفريعاتٍ: ¬
أحدُها: الْحَسَنُ يتقاصَرُ عَنِ الصحيحِ (¬1) في أنَّ الصحيحَ مِنْ شرطِهِ: أنْ يكونَ جميعُ رواتِهِ قَدْ ثَبَتَتْ عدالَتُهُم وضَبْطُهُم وإتقانُهُم؛ إمَّا بالنقلِ الصريحِ أو بطريقِ الاستفاضةِ عَلَى مَا سنبيِّنُهُ - إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى -، وذلكَ غيرُ مُشتَرَطٍ في الحسَنِ؛ فإنَّهُ يُكْتَفَى فيهِ بما سبقَ ذِكْرُهُ مِنْ مجيءِ الحديثِ مِنْ وجوهٍ، وغيرِ ذلكَ ممَّا تقدَّمَ شرحُهُ (¬2). وإذا اسْتَبْعَدَ ذلكَ من الفقهاءِ الشافعيةِ مستبعدٌ ذَكَرْنا لهُ نصَّ الشافعيِّ - رضي الله عنه - في مراسيلِ التابعينَ أنَّهُ يُقبَلُ منها المرسلُ الذي جاءَ نحوُهُ مسنَداً، وكذلكَ لو وافقَهُ مُرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عَنْ (¬3) غيرِ رجالِ التابعيِّ (¬4) الأوَّلِ في كلامٍ لهُ ذكرَ فيهِ وجوهاً ¬
مِنَ الاستدلالِ على صِحَّةِ مَخرجِ المرسلِ بمجيئِهِ (¬1) مِنْ وجهٍ آخرَ (¬2)، وذكرنا لهُ أيضاً ما حكاهُ الإمامُ أبو الْمُظَفَّرِ السَّمْعانيُّ وغيرُهُ عَنْ بعضِ (¬3) أصحابِ الشافعيِّ مِنْ أنَّهُ تقبلُ روايةُ المستورِ وإنْ لَمْ تُقبلْ شهادةُ المستورِ (¬4)؛ ولذلكَ وجهٌ متَّجِهٌ، كيفَ وإنَّا لَمْ نكْتَفِ في الحديثِ الحسَنِ بمجرَّدِ روايةِ المستورِ على ما سبقَ آنِفاً؟ واللهُ أعلمُ. الثاني: لعلَّ الباحثَ الفَهِمَ يقولُ: إنَّا نجدُ أحاديثَ محكوماً بضَعْفِها معَ كونِها قدْ رُويَتْ بأسانيدَ كثيرةٍ مِنْ وجوهٍ عديدةٍ، مثلُ حديثِ (¬5): ((الأُذُنانِ مِنَ الرَّأسِ)) (¬6) ¬
ونحوِهِ، فهلاَّ جَعَلْتُم ذلكَ وأمثالَهُ مِنْ نوعِ الحسَنِ؛ لأنَّ بعضَ ذلكَ عَضَدَ بَعْضاً، كما قلتُم في نوعِ الحسَنِ على ما سبقَ آنفاً. وجوابُ ذلكَ أنَّهُ ليسَ كلُّ ضَعْفٍ في الحديثِ يزولُ بمجيئِهِ مِنْ وجوهٍ، بلْ ذلكَ يتفاوتُ: فمنهُ (¬1) ضَعْفٌ يُزيلُهُ ذلكَ، بأنْ يكونَ ضَعْفُهُ ناشئاً مِنْ ضَعْفِ حفظِ راويهِ مَعَ كونِهِ مِنْ أهلِ الصِّدقِ والديانةِ. فإذا رأينا ما رواهُ قدْ جاءَ مِنْ وجهٍ آخرَ، عَرَفنا أنَّهُ ممَّا قدْ حفظَهُ، ولَمْ يختلَّ فيهِ ضبطُهُ لهُ. وكذلكَ إذا كانَ ضَعْفُهُ مِنْ حيثُ الإرسالُ، زالَ بنحوِ ذلكَ، كما في المرسلِ الذي يُرسِلُهُ إمامٌ حافظٌ، إذ فيهِ ضَعْفٌ قليلٌ يزولُ بروايتِهِ منْ وجهٍ آخرَ، ومِنْ ذلكَ ضَعفٌ لا يزولُ بنحوِ ذلكَ لقوّةِ الضَّعْفِ وتقاعدِ هذا الجابرِ عَنْ جَبْرِهِ ومقاومَتِهِ، وذلكَ كالضَّعْفِ الذي ينشأُ مِنْ كونِ الراوي متَّهَماً بالكذِبِ أو كونِ الحديثِ شاذّاً. وهذهِ جملةٌ تفاصيلُها تُدْرَكُ بالمباشرةِ والبحثِ، فاعلمْ ذلكَ فإنَّهُ مِنَ النَّفائِسِ العزيزةِ، واللهُ أعلمُ (¬2). الثالثُ: إذا كانَ راوي الحديثِ متأخِّراً عَنْ درجةِ أهلِ الحفظِ والإتقانِ غيرَ أنَّهُ مِنَ المشهورينَ بالصِّدْقِ والسِّتْرِ ورُوِيَ معَ ذلكَ حديثُهُ مِنْ غيرِ وجهٍ فقدِ اجتمعتْ لهُ القوَّةُ مِنَ الجهتينِ، وذلكَ يُرقِّي حديثَهُ مِنْ درجةِ الحسَنِ إلى درجةِ الصحيحِ. مثالُهُ: ((حديثُ محمّدِ بنِ عَمْرٍو، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُريرةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لولا أنْ أشُقَّ على أُمَّتِي لأَمَرْتُهُم بالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صلاةٍ)) (¬3). فمحمّدُ بنُ عمرِو بنِ علقَمةَ مِنَ المشهورينَ بالصِّدْقِ والصِّيانةِ (¬4)، لكنَّهُ لَمْ يكنْ مِنْ أهلِ الإتقانِ، ¬
حتَّى ضَعَّفَهُ بعضُهُم مِنْ جِهةِ سُوءِ حفظِهِ، ووثَّقَهُ بعضُهُم؛ لِصِدْقِهِ وجلالَتِهِ، فحديثُهُ مِنْ هذهِ الجهةِ حَسَنٌ، فلمَّا انضمَّ إلى ذلكَ كونُهُ رُويَ مِنْ أوجهٍ أُخَرَ (¬1)، زالَ بذلكَ ما كنَّا نخشاهُ عليهِ مِنْ جهةِ سوءِ حفظِهِ، وانجبرَ بهِ ذلكَ النقصُ اليسيرُ، فصحَّ هذا الإسنادُ والتحقَ بدرجةِ الصحيحِ (¬2)، واللهُ أعلمُ. الرابعُ: كتابُ أبي عيسى التِّرمِذيِّ -رَحِمَهُ اللهُ - أصلٌ في معرفةِ الحديثِ الحسَنِ، وهو الذي نَوَّهَ باسمِهِ وأكثرَ مِنْ ذِكْرِهِ في " جامِعِهِ ". ويوجدُ في متفرقاتٍ منْ كلامِ بعضِ مشايخِهِ، والطبقةِ التي قبلَهُ كأحمدَ بنِ حنبلٍ، والبخاريِّ، وغيرِهِما (¬3) وتختلفُ النُّسَخُ مِنْ كتابِ الترمذيِّ في قولِهِ: ((هذا حديثٌ حسَنٌ))، أو ((هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ))، ونحوِ ذلكَ (¬4). فيَنْبَغِي أنْ تُصَحِّحَ أصلَكَ بهِ (¬5) بجماعةِ أصولٍ وتعتمدَ على ما اتَّفَقَتْ عليهِ. ونصَّ الدَّارَقطنيُّ في " سُنَنِهِ " على كثيرٍ مِنْ ذلكَ (¬6). ومِنْ مظَانِّهِ (¬7) " سننُ أبي ¬
داودَ " السِّجستانيِّ (¬1) - رَحِمَهُ اللهُ - رُوِّيْنا عنهُ أنَّهُ (¬2) قالَ: ((ذكرْتُ فيهِ الصحيحَ، وما يُشْبِهُهُ ويُقَارِبُهُ)) (¬3). ورُوِّيْنا عنهُ أيضاً ما معناهُ أنَّهُ يذكرُ في كلِّ بابٍ أصحَّ ما عَرَفَهُ في ذلكَ البابِ. وقالَ: ((ما كانَ في كتابي مِنْ حديثٍ فيهِ وَهْنٌ شديدٌ فقدْ بيَّنْتُهُ (¬4) وما لَمْ أذكرْ فيهِ شيئاً فهوَ صالِحٌ، وبعضها أصحُّ مِنْ بعضٍ)) (¬5). قلتُ: فعلى هذا ما وجدناهُ في كتابِهِ مذكوراً (¬6) مطلقاً وليسَ في واحدٍ مِنَ الصحيحينِ، ولا نصَّ على صِحَّتِهِ أحدٌ ممَّنْ يُمَيِّزُ بينَ الصحيحِ والحسَنِ، عرَّفناهُ بأنَّهُ مِنَ الحسَنِ عندَ أبي داودَ (¬7)، وقدْ يكونُ في ذلكَ ما ليسَ بحسنِ عندَ ¬
غيرِهِ (¬1)، ولا مندرجٍ فيما حقَّقنا ضَبْطَ الحسَنِ بهِ على ما سبقَ، إذْ حكى أبو عبدِ اللهِ بنِ مَنْده (¬2) الحافظُ: أنَّهُ سَمِعَ محمّدَ بنَ سَعْدٍ الباوَرْدِيَّ بمصرَ يقولُ: ((كانَ مِنْ مذهبِ أبي عبدِ الرحمانِ النَّسائيِّ أنْ يُخرِجَ عَنْ كلِّ مَنْ لَمْ يُجمَعْ على تركِهِ)) (¬3)، قالَ ابنُ مَنْده: ((وكذلكَ أبو داودَ السِّجِسْتانيُّ يأخذُ مأخَذهُ ويُخَرِّجُ الإسنادَ الضعيفَ إذا لَمْ يجدْ في البابِ غيرَهُ؛ لأنَّهُ أقوى عِنْدَهُ مِنْ رأي الرِّجالِ)) (¬4)، واللهُ أعلمُ. الخامسُ: ما صارَ إليهِ صاحبُ " المصابيحِ " -رحمهُ اللهُ- مِنْ تقسِيْمِ أحاديثِهِ إلى نوعينِ: الصِّحَاحِ، والحِسَانِ، مُريداً بالصِّحَاحِ: ما وردَ في أحدِ الصحيحينِ أو فيهما، وبالحِسَانِ: ما أوردَهُ أبو داودَ والتِّرمذيُّ وأشباهُهما في تصانيفِهِم (¬5)، فهذا اصطلاحٌ لا يُعْرَفُ، وليسَ الحسَنُ عِندَ أهلِ الحديثِ عبارةً عَنْ ذلكَ. وهذهِ (¬6) الكُتُبُ تشتملُ على حَسَنٍ وغيرِ حَسَنٍ كما سَبَقَ بيانُهُ، واللهُ أعلمُ (¬7). ¬
السادسُ: كُتُبُ المسانِدِ (¬1) غيرُ مُلْتَحِقةٍ بالكتبِ الخمسةِ التي هيَ: " الصحيحانِ " و " سننُ أبي داودَ " و " سننُ النَّسائيِّ " و " جامعُ التِّرمذيِّ "، وما جَرَى مَجْرَاها في الاحتجاجِ بها والرُّكُونِ إلى ما يورَدُ فيها مُطلقاً، كـ " مُسْنَدِ أبي داودَ الطيالسيِّ " (¬2) و " مُسْنَدِ عُبيدِ اللهِ بنِ موسى " (¬3) و " مُسندِ أحمدَ بنِ حنبلٍ " (¬4) و " مسندِ إسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ " (¬5) و " مسندِ عَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ " و " مسندِ الدَّارميِّ " (¬6) و " مسندِ أبي يعلى ¬
الموصلِيِّ " و " مسندِ الحسنِ بن سُفيانَ " و " مسندِ البزَّارِ أبي بكرٍ " (¬1)، وأشباهِها، فهذهِ عادتُهُم فيها أنْ يُخَرِّجُوا في مُسندِ كُلِّ صحابيٍّ ما رَوَوهُ مِنْ حديثِهِ غَيْرَ مُتَقيِّدينَ بأنْ يكونَ حديثاً محتَجّاً بهِ؛ فلهذا تأخَّرَتْ مرتبَتُها - وإنْ جَلَّتْ لِجلالةِ مؤلِّفيها - عنْ مرتبةِ الكُتُبِ الخمسةِ وما التحقَ بها مِنَ الكُتُبِ المصنَّفَةِ على الأبوابِ، واللهُ أعلمُ. السابعُ: قولُهُم: ((هذا (¬2) حديثٌ صحيحُ الإسنادِ أو حسنُ الإسنادِ)) دونَ قولِهِم: ((هذا حديثٌ صحيحٌ أو حديثٌ حسَنٌ))؛ لأنَّهُ قَدْ يُقالُ: ((هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ)) ولا يصحُّ؛ لكونِهِ شاذّاً أو معلَّلاً غيرَ أنَّ المصنِّفَ المعتمدَ منهم إذا اقتصَرَ على قولهِ: إنَّهُ صحيحُ الإسنادِ ولَمْ يَذكرْ لهُ عِلَّةً، ولَمْ يَقدحْ فيهِ فالظاهِرُ منهُ الحكمُ لهُ بأنَّهُ صحيحٌ في نفسِهِ؛ لأنَّ عَدَمَ العلَّةِ والقادِحِ هوَ الأصلُ والظاهرُ (¬3)، واللهُ أعلمُ. ¬
الثامِنُ: في قولِ الترمذيِّ وغيرِهِ: ((هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)) (¬1) إشكالٌ؛ لأنَّ الْحَسَنَ قاصِرٌ عَنِ الصحيحِ كما سبقَ إيضاحُهُ، ففي الْجَمْعِ بينهما في حديثٍ واحدٍ جَمْعٌ بينَ نَفْيِ ذلكَ القصورِ وإثباتِهِ؟! وجوابُهُ: أنَّ ذلكَ راجعٌ إلى الإسنادِ، فإذا رُويَ الحديثُ الواحدُ بإسنادينِ، أحدُهما إسنادٌ حَسَنٌ والآخرُ إسنادٌ صحيحٌ، استقامَ أنْ يقالَ فيهِ: إنَّهُ حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، أي (¬2) إنَّهُ حسَنٌ بالنسبةِ إلى إسنادٍ صحيحٌ بالنسبةِ إلى إسنادٍ آخرَ. على أنَّهُ غيرُ مُسْتَنكَرٍ أنْ يكونَ بعضُ مَنْ قالَ ذلكَ، أرادَ بالحسنِ معناهُ اللغويَّ، وهو ما تَمِيلُ إليهِ النَّفْسُ ولا يأباهُ القلبُ، دونَ المعنى الاصطلاحيِّ الذي نحنُ بصَدَدِهِ، فاعلمْ ذلكَ، واللهُ أعلمُ. التاسعُ: مِنْ أهلِ الحديثِ مَنْ لا يُفردُ نوعَ الحسَنِ ويجْعَلُهُ مُندرِجاً في أنواعِ الصحيحِ؛ لاندراجِهِ في أنواعِ مَا يُحتجُّ بهِ (¬3)، وَهُوَ الظاهرُ مِنْ كلامِ الحاكمِ أبي عبدِ اللهِ ¬
النوع الثالث معرفة الضعيف من الحديث
الحافظِ في تصرفاتِهِ، وإليهِ يومئُ في تسميتِهِ كتابَ الترمذيِّ بـ" الجامعِ الصحيحِ " (¬1). وأطلقَ الخطيبُ أبو بكرٍ أيضاً عليهِ اسمَ الصحيحِ، وعلى كتابِ النَّسائيِّ. وذكرَ الحافظُ أبو طاهرٍ السِّلَفيُّ (¬2) الكتبَ الخمسةَ (¬3) وقالَ: ((اتَّفَقَ على صِحَّتِها علماءُ الشرقِ والغربِ)) (¬4). وهذا تساهلٌ؛ لأنَّ فيها ما صرَّحُوا بكونِهِ ضعيفاً أو منكراً أو نحوَ ذلكَ مِنْ أوصافِ الضعيفِ. وصرَّحَ أبو داودَ فيما قدَّمْنا روايتَهُ عنهُ بانقسامِ ما في كتابِهِ إلى صحيحٍ وغيرِهِ، والترمذيُّ مُصَرِّحٌ فيما (¬5) في كتابِهِ بالتمييزِ بينَ الصحيحِ والحسَنِ. ثُمَّ إنَّ مَنْ سَمَّى الحسَنَ صحيحاً لا يُنكِرُ أنَّهُ دونَ الصحيحِ الْمُقَدَّمِ الْمُبَيَّنِ أوَّلاً، فهذا إذنْ اختلافٌ في العبارةِ دونَ المعنى، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ مَعْرِفَةُ الضَّعِيْفِ مِنَ الحَدِيْثِ (¬6) ¬
كُلُّ حديثٍ لَمْ يَجتمعْ (¬1) فيهِ صفاتُ الحديثِ الصحيحِ، ولا صفاتُ الحديثِ الحسَنِ - المذكوراتُ فيما تقدَّمَ - فهو حديثٌ ضعيفٌ (¬2). وأطنبَ أبو حاتِمِ بنِ حِبَّانَ البُسْتِيُّ في تقسيمِهِ، فبلغَ بهِ خمسينَ قسماً إلاَّ واحداً (¬3)، وما ذكرتُهُ ضابطٌ جامعٌ لجميعِ ذلكَ. وسبيلُ مَنْ أرادَ البَسْطَ (¬4) أنْ يَعْمَدَ إلى صفةٍ مُعَيَّنةٍ منها؛ فيجعلَ ما عُدِمَتْ فيهِ مِنْ غيرِ أنْ يَخلُفَها جابرٌ -على حسبِ ما تقرَّرَ في نوعِ الحسَنِ-: قسماً واحداً، ثُمَّ ما عُدِمَتْ فيهِ تلكَ الصفةُ معَ صفةٍ أخرى معيَّنةٍ: قسماً ثانياً، ثمَّ ما عُدِمَتْ فيهِ معَ صفتينِ معيَّنَتَيْنِ: قسماً ثالثاً، ... ، وهكذا إلى أن يستوفيَ (¬5) الصفاتِ المذكوراتِ جُمَعَ (¬6)، ثُمَّ يَعودَ ويُعيِّنَ مِنَ الابتداءِ صفةً غيرَ التي عيَّنها أوَّلاً، ويجعلَ ما عُدِمَتْ فيهِ وَحْدَها قِسْماً، ثُمَّ القسمَ الآخرَ ما عُدِمَتْ فيهِ مَعَ عدمِ صفةٍ أخرى، ولتكنِ الصفةُ الأخرى غيرَ الصفةِ الأولى المبدوءِ بها؛ لكونِ ذلكَ سبَقَ في أقسامِ عدمِ الصفةِ الأولى، وهكذا هَلُمَّ جَرّاً (¬7) إلى آخرِ الصفاتِ. ¬
النوع الرابع معرفة المسند
ثُمَّ ما عُدِمَ فيهِ جميعُ الصفاتِ هوَ القسمُ الأَخِرُ (¬1) الأرذَلُ. وما كانَ مِنَ الصِّفاتِ لهُ شروطٌ، فاعملْ في شروطِهِ نحوَ ذلكَ، فتتضاعفَ بذلكَ الأقسامُ. والذي لهُ لقَبٌ خاصٌّ معروفٌ منْ أقسامِ ذلكَ: الموضوعُ، والمقلوبُ، والشاذُّ، والمعلَّلُ، والمضطربُ والمُرسلُ، والمنقطِعُ، والمُعضلُ - في أنواعٍ - سيأتي عليها الشرحُ إنْ شاءَ (¬2) اللهُ تعالى. والملحوظُ فيما نورِدُهُ مِنَ الأنواعِ: عمومُ أنواعِ علومِ (¬3) الحديثِ لا خصوصُ أنواعِ التقسيمِ الذي فرَغْنا الآنَ مِنْ أقسامِهِ (¬4)، ونسألُ اللهَ تباركَ وتعالى تعميمَ النَّفْعِ بهِ في الدارينِ، آمينَ. النَّوْعُ الرَّابِعُ مَعْرِفَةُ الْمُسْنَدِ (¬5) ¬
ذكرَ أبو بكرٍ الخطيبُ الحافظُ - رحمهُ اللهُ - أنَّ المسندَ عِندَ أهلِ الحديثِ: هوَ الذي اتَّصلَ إسنادُهُ مِنْ راويهِ إلى مُنتهَاهُ، وأكثرُ مَا يستعملُ ذلكَ فِيْمَا جاءَ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دونَ مَا جاءَ عنِ الصحابةِ وغيرِهِم (¬1). وذكرَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ الحافظُ (¬2) أنَّ المسندَ: ((مَا رُفِعَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَدْ يكونُ متَّصِلاً، مثلُ: ((مالكٍ، عنْ نافعٍ، عنِ ابنِ عمرَ، عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، وقدْ يكونُ منقطعاً، ¬
النوع الخامس معرفة المتصل
مثلُ: ((مالكٍ، عنْ الزهريِّ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ، عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)). فهذا مسندٌ؛ لأنَّهُ قدْ أُسْنِدَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهوَ منقطعٌ؛ لأنَّ الزُّهريَّ لَمْ يسمعْ مِنِ ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهم - (¬1). وحكى أبو عُمَرَ عنْ قومٍ أنَّ المسندَ لا يقعُ إلاَّ عَلَى مَا اتَّصلَ مرفوعاً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قلتُ: وبهذا قَطَعَ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ الحافظُ ولَمْ يَذْكُرْ (¬3) في كتابِهِ غيرَهُ (¬4). فهذهِ أقوالٌ ثلاثةٌ مختلفةٌ (¬5)، واللهُ أعلمُ (¬6). النَّوْعُ الخَامِسُ مَعْرِفَةُ الْمُتَّصِلِ (¬7) ¬
النوع السادس معرفة المرفوع
ويقالُ فيهِ أيضاً: الموصولُ (¬1)، ومُطلقُهُ يقعُ على المرفوعِ والموقوفِ وهو الذي اتَّصَلَ إسنادُهُ، فكانَ (¬2) كُلُّ واحِدٍ مِنْ رواتِهِ قَدْ سَمِعَهُ ممَّنْ فَوقَهُ حَتَّى ينتهِيَ إلى منتهاهُ. مثالُ المتَّصِلِ المرفوعِ مِنَ " الموطَّأِ ": ((مالكٌ، عنْ ابنِ شهابٍ، عنْ سالِمِ ابنِ عبدِ اللهِ، عنْ أبيهِ، عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3)، ومثالُ المتَّصِلِ الموقوفِ: ((مالكٌ، عنْ نافعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ، عنْ عمرَ قولَهُ)) (¬4)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّادِسُ مَعْرِفَةُ الْمَرْفُوعِ (¬5) وهوَ ما أُضِيفَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، ولا يَقَعُ مُطلقُهُ على غيرِ ذلكَ نحوُ الموقوفِ على الصحابةِ وغيرِهِم (¬6). ويدخُلُ في المرفوعِ: المتصلُ، والمنقطِعُ، والمرسَلُ، ونحوُها، فهو والمسندُ عندَ قومٍ (¬7) سواءٌ، والانقطاعُ والاتصالُ يَدخلانِ عليهِما جميعاً. ¬
النوع السابع معرفة الموقوف
وعندَ قومٍ يفترقانِ في أنَّ (¬1) الانقطاعَ والاتصالَ يدخلانِ على المرفوعِ ولا يقعُ المسندُ إلاَّ على المتَّصِلِ المضافِ (¬2) إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ الحافظُ أبو بكرِ بنِ ثابتٍ: ((المرفوعُ: ما أخبرَ فيهِ الصحابيُّ عنْ قولِ الرسولِ (¬3) - صلى الله عليه وسلم - أو فِعلِهِ)) (¬4). فخصَّصَهُ بالصحابةِ، فَيَخْرُجُ (¬5) عنهُ مُرسَلُ التابعيِّ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬6). قلتُ: ومَنْ جَعلَ مِنْ أهلِ الحديثِ: المرفوعَ في مقابلةِ المرسَلِ، فقدْ عَنَى بالمرفوعِ: المتصلَ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّابِعُ مَعْرِفَةُ الْمَوْقُوْفِ (¬7) وهوَ ما يُروَى عنِ الصحابَةِ - رضي الله عنهم - مِنْ أقوالِهِم، أو أفعالِهِم (¬8) ونَحْوِها، فيُوقَفُ عَلَيْهِم ولا يُتَجَاوَزُ بهِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬9). ثُمَّ إنَّ منهُ ما يتَّصِلُ الإسنادُ فيهِ إلى الصحابيِّ ¬
فيكونُ مِنَ (¬1) الموقوفِ الموصولِ. ومنهُ ما لا يتَّصلُ إسنادُهُ فيكُونُ مِنَ الموقوفِ غيرِ الموصولِ، على حَسَبِ ما عُرِفَ مِثْلُهُ في المرفوعِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ أعلمُ. وما ذكرناهُ مِنْ تخصيصِهِ بالصحابيِّ، فذلكَ إذا ذُكِرَ الموقوفُ مطلقاً، وقدْ يُستعملُ مقَيَّداً في غيرِ الصحابيِّ (¬2)، فيقالُ: ((حديثُ كذا وكذا، وقفَهُ فلانٌ على عطاءٍ أو علَى طاوسٍ أو نحوِ هذا))، واللهُ أعلمُ (¬3). وموجودٌ في اصطلاحِ الفقهاءِ الْخُراسانيينَ تعريفُ الموقوفِ باسمِ (¬4) الأثرِ (¬5) قالَ (¬6) أبو القاسمِ الفُوْرَانيُّ (¬7) - منهم - فيما بَلَغَنا عنهُ: الفقهاءُ يقولونَ: ((الخبرُ: ما يُروى (¬8) عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والأثَرُ: ما يُرْوى (¬9) عنِ الصحابةِ - رضي الله عنهم -)) (¬10)). ¬
النوع الثامن معرفة المقطوع
النَّوْعُ الثَّامِنُ مَعْرِفَةُ الْمَقْطُوْعِ (¬1) وهوَ غيرُ المنقطعِ الذي يأتي ذكرُهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى، ويقالُ في جمعِهِ: المقاطِيعُ والمقاطِعُ (¬2)، وهوَ ما جاءَ عنِ التابعينَ موقوفاً عليْهِم مِنْ أقواِلهِم أو أفعالِهِمْ (¬3). قال الخطيبُ أبو بكرٍ الحافظُ في " جامِعِهِ ": ((مِنَ الحديثِ: المقطوعُ)) (¬4)، وقالَ: ((المقاطِعُ: هيَ الموقوفاتُ على التابعينَ)) (¬5). قلتُ: وقدْ وجدْتُ التعبيرَ بالمقطوعِ عنِ المنقطعِ غيرِ الموصولِ في كلامِ الإمامِ (¬6) الشافعيِّ، وأبي القاسمِ الطبرانيِّ وغيرِهِما (¬7)، واللهُ أعلمُ. ¬
تفريعات
تَفْرِيْعَاتٌ أحدُها: قولُ الصَّحابيِّ: ((كُنَّا نَفْعَلُ كذا أو كنَّا نقولُ كذا)) (¬1) إنْ لَمْ يُضِفْهُ إلى زمانِ رسولِ اللهِ (¬2) - صلى الله عليه وسلم - فهوَ مِنْ قبيلِ الموقوفِ، وإنْ أضافَهُ إلى زمانِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فالذي قَطَعَ بهِ أبو عبدِ اللهِ بنُ البَيِّعِ (¬3) الحافظُ وغيرُهُ مِنْ أهلِ الحديثِ وغيرِهِم أنَّ ذلكَ مِنْ قبيلِ المرفوعِ (¬4). وبَلَغَني عَنْ أبي بكرٍ البَرْقانيِّ أنَّهُ سألَ أبا بكرٍ الإسماعيليَّ الإمامَ عنْ ذلكَ فأنكرَ كونَهُ مِنَ المرفوعِ. والأوَّلُ هوَ الذي عَليْهِ (¬5) الاعتمادُ؛ لأنَّ ظاهرَ ذلكَ مُشْعِرٌ بأنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اطَّلَعَ على ذلكَ وقرَّرَهُم عليهِ، وتقريرُهُ أحدُ وجوهِ السُّنَنِ المرفوعةِ؛ فإنَّها أنواعٌ منها: أقوالُهُ - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: أفعالُهُ (¬6)، ومنها: تقريرُهُ وسكوتُهُ عنِ الإنكارِ بعدَ اطِّلاعِهِ. ومِنْ ¬
هذا القبيلِ قولُ الصحابيِّ: ((كُنَّا لا نرى بأساً بكذا ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيْنا، أو كانَ يقالُ: كذا وكذا على عهدِهِ، أو كانُوا يفعلونَ: كذا وكذا في حياتِهِ - صلى الله عليه وسلم -)). فكلُّ ذلكَ وشبهُهُ مرفوعٌ مُسْنَدٌ مُخَرَّجٌ في كتبِ المساندِ (¬1). وذكرَ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ فيما رُوِّيْناهُ عَنِ المغيرةِ بنِ شُعْبَةَ قالَ: ((كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَعُونَ بابَهُ بالأظافيرِ)) (¬2): أنَّ هذا يتوهَّمُهُ مَنْ ليسَ مِنْ أهلِ الصَّنْعَةِ ¬
مُسْنَداً - يعني: مرفوعاً - لِذِكْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيهِ وليسَ بِمُسْنَدٍ بلْ هوَ موقوفٌ (¬1). وذكرَ الخطيبُ أيضاً نحوَ ذلكَ في جامعِهِ (¬2). قلتُ: بلْ هوَ مرفوعٌ كما سبقَ ذِكْرُهُ، وهوَ بأنْ يكونَ مرفوعاً أحرَى؛ لكونِهِ أحرَى باطِّلاعِهِ - صلى الله عليه وسلم - عليهِ (¬3)، والحاكمُ مُعْتَرِفٌ بكونِ ذلكَ مِنْ قبيل المرفوعِ، وقدْ كنَّا عَدَدْنا هذا فيما أخذناهُ عليهِ. ثُمَّ تأوَّلناهُ لهُ على أنَّهُ أرادَ أنَّهُ ليسَ بِمُسْندٍ لفظاً، بلْ هوَ موقوفٌ لفظاً، وكذلكَ سائرُ ما سبقَ موقوفٌ لفظاً، وإنَّما جعلناهُ مرفوعاً مِنْ حيثُ المعنى، واللهُ أعلمُ. الثاني: قولُ الصحابيِّ: ((أُمِرْنا بكذا (¬4) أو نُهِيْنا عَنْ كذا)) مِنْ نوعِ المرفوعِ والمسنَدِ عندَ أصحابِ الحديثِ وهوَ قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ (¬5)، وخالفَ في ذلكَ فريقٌ منهم ¬
أبو بكرٍ الإسماعيليُّ (¬1)، والأوَّلُ هوَ (¬2) الصحيحُ؛ لأنَّ مطلقَ ذلكَ ينصرفُ بظاهرِهِ إلى مَنْ إليهِ الأمرُ والنَّهْيُ، وَهُوَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا قَوْل الصحابيِّ ((مِنَ السُّنَّةِ كَذَا)) (¬3)، فالأصحُّ أنَّهُ مُسنَدٌ مرفوعٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّهُ لا يريدُ بهِ إلاَّ سُنَّةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وما يجبُ اتِّباعُهُ (¬4). وكذلكَ قول أنسٍ - رضي الله عنه -: ((أُمِرَ بلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأَذانَ ويُوتِرَ الإِقامةَ)) (¬5)، وسائرُ ما جانسَ ذلكَ، ولا فرْقَ بينَ أنْ يقولَ ذلكَ في زمانِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وبعدَهُ (¬6) - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، ¬
واللهُ أعلمُ (¬1). الثالثُ: ما قِيلَ مِنْ أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ (¬2) حديثٌ مسندٌ فإنَّما ذلكَ في تفسيرٍ يتعلَّقُ بسببِ نزولِ آيةٍ يُخبرُ بهِ الصحابيُّ أو نحوِ ذلكَ (¬3) كقولِ جابرٍ - رضي الله عنه -: ((كانتْ اليهودُ تقولُ: مَنْ أتى امرأتَهُ مِنْ دُبُرِها في قُبُلِها جاءَ الولدُ أحولَ؛ فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (¬4) ... الآيةَ} (¬5) فأمَّا سائرُ تفاسيرِ الصحابةِ الَّتِي لا تشتملُ ¬
عَلَى إضافةِ شيءٍ (¬1) إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فمعدودةٌ في (¬2) الموقوفاتِ (¬3)، واللهُ أعلمُ. الرابعُ: مِنْ قبيلِ المرفوعِ، الأحاديثُ التي قِيْلَ في أسانيدِها عِندَ ذِكْرِ الصحابيِّ: ((يَرْفُعُ الحديثَ، أو يبْلُغُ بهِ، أو يَنْمِيْهِ (¬4)، أو رِوَايَةً))، مثالُ ذلكَ: ((سُفيانُ بنُ عُيينةَ، عَنْ أبي الزِّنادِ، عنِ الأعرجِ، عنْ أبي هريرةَ، رِوَايةً: ((تُقَاتِلُونَ قَوْماً صِغَارَ الأعيُنِ ... الحديثَ)) (¬5). وبهِ ((عنْ أبي هريرةَ يَبْلُغُ بهِ، قالَ: ((النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ ... الحديثَ)) (¬6)، فكلُّ ذلكَ وأمثالُهُ كِنايةٌ عنْ رفعِ الصحابيِّ الحديثَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وحكمُ ذلكَ عندَ أهلِ العلمِ (¬7) حُكْمُ المرفوعِ صريحاً. قلتُ: وإذا قالَ الراوي عَنِ التابِعيِّ: ((يَرْفُعُ الحديثَ أو يَبْلُغُ بهِ))، فذلكَ أيضاً مرفوعٌ، ولكنَّهُ مرفوعٌ مرسَلٌ (¬8)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع التاسع معرفة المرسل
النَّوعُ التَّاسِعُ مَعْرِفَةُ الْمُرْسَلِ (¬1) وصورَتُهُ (¬2) التي لا خلافَ فيها حديثُ التابعيِّ الكبيرِ (¬3) الذي لَقِيَ جماعةً مِنَ الصحابةِ وجالسَهُمْ، كـ: عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ (¬4)، ثُمَّ سعيدِ بنِ ¬
المسَيِّبِ (¬1) وأمثالِهما إذا قالَ: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)). والمشهورُ التَّسويةُ بينَ التابعينَ أجمعينَ في ذلكَ (¬2) - رضي الله عنهم -، ولهُ صورٌ اختُلِفَ فِيْهَا أهِيَ مِنَ المرسَلِ أمْ لا؟ إحداها (¬3): إذا انقطعَ الإسنادُ قبلَ الوصولِ إلى التَّابِعيِّ (¬4) فكانَ فيهِ روايةُ راوٍ لَمْ يسمَعْ مِنَ المذكورِ فوقَهُ، فالذي قَطَعَ بهِ الحاكمُ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ (¬5) وغيرُهُ مِنْ أهلِ الحديثِ أنَّ ذلكَ لا يُسمَّى مُرسَلاً، وأنَّ الإرسالَ مخصوصٌ بالتابعينَ، بلْ إنْ كانَ (¬6) مَنْ سَقَطَ ذِكْرُهُ قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ (¬7) شخصاً واحداً سُمِّيَ مُنقَطِعاً فحسْبُ، وإنْ كانَ أكثرَ مِنْ واحدٍ سُمِّيَ مُعضَلاً، ويُسمَّى أيضاً منقطعاً، وسيأتي مثالُ ذلكَ إنْ شاءَ اللهُ تعالى. ¬
والمعروفُ في الفقهِ وأصولِهِ أنَّ كُلَّ ذلكَ (¬1) يُسمَّى مُرْسلاً (¬2) وإليهِ ذهبَ مِنْ أهلِ الحديثِ أبو بكرٍ الخطيبُ وقَطَعَ بهِ، وقالَ: ((إلاَّ أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ مِنْ حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عَنْ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، و (¬3) أمَّا ما رواهُ تابعُ التابعيِّ (¬4) عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُسَمُّونَهُ المعْضَلَ (¬5)، واللهُ أعلمُ. الثانيةُ: قولُ الزُّهريِّ، وأبي حازمٍ، ويحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، وأشباهِهِم مِنْ أصاغِرِ التابعينَ: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، حكى ابنُ عبدِ البرِّ (¬6): أنَّ قوماً لا يُسَمُّونَهُ مُرْسَلاً بلْ منقطِعاً؛ لكونِهِم لَمْ يَلْقُوا مِنْ الصحابةِ إلاَّ الواحِدَ والاثنينِ (¬7)، وأكثرُ روايتِهِم عَنِ التابعينَ. قلتُ: وهذا المذهبُ (¬8) فَرْعٌ لِمَذْهَبِ مَنْ لا يُسَمِّي المنقطعَ قَبْلَ الوصولِ إلى التابعيِّ مُرسلاً (¬9)، والمشهورُ التسويةُ بينَ التابعينَ في اسمِ الإرسالِ كما ¬
تقدَّمَ (¬1) واللهُ أعلمُ. الثالثةُ: إذا قيلَ في الإسنادِ: ((فلانٌ عَنْ رجلٍ أو عَنْ شيخٍ عَنْ فلانٍ)) أو نحوُ ذلكَ؛ فالذي ذكرَهُ الحاكمُ في " معرفةِ علومِ الحديثِ " (¬2) أنَّهُ لا يُسَمَّى مُرسلاً بلْ منقطِعاً، وهوَ في بَعْضِ المصنَّفاتِ المعتبرَةِ في أصولِ الفقهِ (¬3) معدودٌ مِنْ أنواعِ ¬
المرسَلِ (¬1)، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ اعْلَمْ (¬2) أنَّ حُكمَ المرسَلِ حُكْمُ الحديثِ الضعيفِ، إلاَّ أنْ يصحَّ مَخْرَجُهُ بمجيئِهِ مِنْ وجهٍ آخَرَ - كما سَبقَ بيانُهُ في نوعِ الحسَنِ (¬3)، ولهذا احتجَّ الشافعيُّ - رضي الله عنه - بمرسلاتِ سعيدِ بنِ المسيِّبِ - رضيَ اللهُ عنهما - فإنَّها وُجِدَتْ مسانيدَ مِنْ وجوهٍ أُخرَ ولا يختصُّ ذلكَ عِندَهُ بإرسالِ ابن المسيِّبِ كما سَبَقَ، ومَنْ أنكرَ هذا زاعماً أنَّ الاعتمادَ حينئذٍ يقعُ على المسندِ دونَ المرسلِ، فيقعُ لغواً لا حاجةَ إليهِ، فجوابُهُ: أنَّهُ بالمسندِ يتبيَّنُ (¬4) صِحَّةُ الإسنادِ الذي فيهِ الإرسالُ حَتَّى يُحكَمَ لهُ مَعَ إرسالِهِ بأنَّهُ إسنادٌ صحيحٌ تقومُ بهِ الحجَّةُ على ما مهَّدنا سبيلَهُ في النوعِ الثاني (¬5). وإنَّما يُنْكِرُ هذا مَنْ لا مذَاقَ لهُ في هذا الشأنِ. وما ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُقُوطِ الاحتجاجِ بالمرسلِ والحكْمِ بضَعْفِهِ هوَ المذهبُ الذي استقرَّ عليهِ آراءُ جماهيرِ حُفَّاظِ الحديثِ ونُقَّادِ الأثَرِ (¬6)، وقدْ تداولوهُ في تصانِيفِهِمْ. وفي صدرِ ¬
"صحيحِ مسلمٍ": ((المرسلُ في أصلِ قولِنا وقولِ أهلِ العلمِ بالأخبارِ ليسَ بحُجَّةٍ)) (¬1). وابنُ عبدِ البرِّ: حافِظُ المغربِ ممَّنْ حَكَى ذلكَ عَنْ جماعةِ أصحابِ الحديثِ (¬2). والاحتجاجُ بهِ مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأصحابِهِما-رَحِمَهُمُ اللهُ-في طائفةٍ (¬3)، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ إنَّا لَمْ نَعُدَّ في أنواعِ المرسَلِ (¬4) ونحوِهِ، ما يُسَمَّى في أُصولِ الفِقْهِ مرسَلَ الصحابيِّ (¬5)، مثلُ ما يرويهِ ابنُ عبَّاسٍ وغيرُهُ مِنْ أحداثِ الصحابةِ عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولَمْ ¬
النوع العاشر معرفة المنقطع
يَسمعوهُ منهُ؛ لأنَّ ذلكَ في حُكْمِ الموصولِ المسنَدِ؛ لأنَّ رِوايَتَهُم عنِ الصحابةِ، والجهالةُ بالصحابيِّ غيرُ قادحةٍ؛ لأنَّ الصحابةَ كُلَّهُمْ عدولٌ (¬1)، واللهُ أعلمُ. النَّوعُ العَاشِرُ مَعْرِفَةُ الْمُنْقَطِعِ (¬2) وفِيهِ وفي الفَرْقِ بينَهُ وبينَ المرسَلِ مذاهبُ لأهلِ الحديثِ وغيرِهم: فمنها ما سبقَ في نوعِ المرسلِ عَنِ الحاكمِ - صاحبِ كتابِ "معرفةِ أنواعِ علومِ الحديثِ" (¬3) مِنْ أنَّ المرسلَ مخصوصٌ بالتابعيِّ. وأنَّ المنقطعَ، منهُ: الإسنادُ الذي فيهِ قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ (¬4) راوٍ لَمْ يَسمَعْ مِنَ الذي فوقَهُ، والساقِطُ بينَهُما غيرُ مذكورٍ لا مُعيَّناً ولا مُبْهماً، ومنهُ: الإسنادُ الذي ذُكِرَ فيهِ بعضُ رُواتِهِ بلفظٍ مُبْهَمٍ، نحوُ: رَجُلٍ أو شَيْخٍ أو غيرِهِما (¬5). مثالُ الأوَّلِ: ما رُوِّيناهُ عَنْ عبدِ الرزَّاقِ، عَنْ سُفْيانَ الثَّوريِّ، عَنْ أبي إسحاقَ، عَنْ زَيْدِ بنِ يُثَيْعٍ (¬6)، عَنْ حذيفةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنْ وَلَّيْتُمُوْهَا أبا بكرٍ، ¬
فقويٌّ أمينٌ ... الحديثَ)) (¬1). فهذا إسنادٌ إذا تأمَّلَهُ الحديثِيُّ (¬2) وَجَدَ صورَتَهُ صورَةَ المتَّصِلِ، وهوَ منقطعٌ في موضعينِ؛ لأنَّ عبدَ الرزَّاقِ لَمْ يسمعْهُ مِنَ الثوريِّ، وإنَّما سَمِعَهُ مِنَ النعمانِ بنِ أبي شيبةَ الْجَنَدِيِّ (¬3)، عَنِ الثوريِّ، ولَمْ يَسْمَعْهُ الثوريُّ أيضاً مِنْ أبي إسحاقَ، إنَّما سَمِعَهُ مِنْ شَرِيكٍ، عَنْ أبي إسحاقَ (¬4). ¬
ومثالُ الثاني: الحديثُ الذي رُوِّيناهُ عَنْ أبي العلاءِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيْرِ (¬1)، عَنْ رَجلينِ (¬2)، عَنْ شَدَّادِ بنِ أوسٍ، عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الدعاءِ في الصلاةِ: ((اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ الثباتَ في الأمرِ ... الحديثَ)) (¬3)، واللهُ أعلمُ. ومنها: ما ذكرَهُ ابنُ عبدِ البرِّ - رَحِمَهُ اللهُ - وهوَ أنَّ المرسلَ مخصوصٌ بالتابعينَ، والمنقطعَ شاملٌ لهُ ولغيرِهِ، وهوَ عندَهُ: كُلُّ ما لا يتَّصِلُ إسنادُهُ سواءٌ كانَ يُعْزَى إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو إلى غيرِهِ (¬4). ومنها: أنَّ المنقطعَ مثلُ المرسلِ (¬5) وكلاهُما شامِلانِ لكلِّ ما لا يتَّصِلُ إسنادُهُ. وهذا المذهبُ أقربُ، وصار إليهِ طوائفُ مِنَ الفقهاءِ وغيرِهِم، وهو الذي ذكرَهُ الحافِظُ ¬
النوع الحادي عشر معرفة المعضل
أبو بكرٍ الخطيبُ في " كفايتِهِ " (¬1). إلاَّ أنَّ أكثرَ ما يوصَفُ بالإرسالِ مِنْ حيثُ الاستعمالُ: ما رواهُ التابعيُّ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأكثرُ ما يُوصَفُ بالانقطاعِ: ما رواهُ مَنْ دونَ التابعينَ عَنِ الصحابةِ، مثلُ (¬2): مالكٍ، عَنِ ابنِ عمرَ، ونحوِ ذلكَ، واللهُ أعلمُ. ومنها: ما حكاهُ الخطيبُ أبو بكرٍ (¬3) عَنْ بَعضِ أهلِ العلمِ بالحديثِ، أنَّ المنقطعَ: ما رُوِيَ عَنِ التابعيِّ أوْ مَنْ دونَهُ موقوفاً عليهِ مِنْ قولِهِ أو فِعْلِهِ، وهذا غريبٌ بعيدٌ (¬4)، والله أعلمُ. النَّوْعُ (¬5) الْحَادِي عَشَرَ مَعْرِفَةُ الْمُعْضَلِ (¬6) وهوَ لَقَبٌ لنوعٍ خاصٍّ مِنَ المنقطِعِ، فكُلُّ مُعْضَلٍ مُنْقَطِعٌ، وليسَ كُلُّ مُنقطِعٍ مُعْضلاً. وقومٌ يُسَمُّونَهُ مُرسلاً كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ عبارةٌ عَمَّا سَقَطَ مِنْ إسنادِهِ اثنانِ ¬
فصاعِداً (¬1). وأصحابُ الحديثِ يقولونَ: أعْضَلَهُ فهو مُعضَلٌ - بفتحِ الضادِ - وهو اصطلاحٌ مُشكلُ المأخذِ مِنْ حيثُ اللغةُ، وبحثْتُ فوجدْتُ لهُ قولَهم: ((أمرٌ عَضِيْلٌ))، أي: مُستَغْلَقٌ شديدٌ. ولا التفاتَ في ذلكَ إلى مُعْضِلٍ - بكسرِ الضادِ - وإنْ كانَ مِثْلَ عَضِيْلٍ في المعنى (¬2). ومثالُهُ: ما يرويهِ تابعيُّ التابعيِّ قائلاً فيهِ: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)). وكذلكَ (¬3) ما يرويهِ مَنْ دونَ تابعيِّ (¬4) التابعيِّ ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أو عَنْ أبي بكرٍ وعُمَرَ وغيرِهِما)) غيرَ ذاكرٍ للوسائطِ بينَهُ وبينهُم. وذكرَ أبو نصرٍ السِّجْزيُّ الحافظُ قولَ الراوي: ((بلغني)) ¬
- نحوُ قولِ مالكٍ: ((بَلَغَني عَنْ أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: لِلْمَملوكِ طَعامُهُ وكِسْوتُهُ ... الحديثَ)) (¬1)، وقالَ (¬2): أصحابُ الحديثِ يُسَمُّونَهُ المعْضلَ. ¬
قلتُ: وقولُ المصَنِّفينَ مِنَ الفقهاءِ وغيرِهِم: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كذا وكذا)) ونحو ذلكَ، كُلُّهُ مِنْ قَبيلِ المعضلِ؛ لِما تقدَّمَ. وسمَّاهُ الخطيبُ أبو بكرٍ الحافظُ في بعضِ كلامِهِ مُرْسلاً، وذلكَ عَلَى مَذهَبِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مَا لا يتَّصِلُ مُرسلاً كَمَا سبقَ. وإذا روى تابعُ التابعِ (¬1) عَنْ التابعِ (¬2) حديثاً موقوفاً عليه، وهو حديثٌ متَّصِلٌ مسندٌ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، فقدْ جَعَلَهُ الحاكِمُ (¬4) أبو عبدِ اللهِ نوعاً مِنَ المعضلِ (¬5)، مثالُهُ: ((ما رُوِّيناهُ عَنِ الأعمشِ، عَنِ الشَّعبيِّ، قالَ: يُقالُ للرَّجُلِ يومَ القيامةِ: ((عَمِلْتَ كذا وكذا، فيقولُ: ما عَمِلْتُهُ فَيُخْتَمُ على فيهِ ... الحديثَ)) (¬6)، فقدْ أعضَلَهُ الأعمشُ، وهوَ عِندَ الشَّعبيِّ: عَنْ أنسٍ، عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - متَّصِلاً مُسْنَداً (¬7). قلتُ: هذا جَيِّدٌ حَسَنٌ؛ لأنَّ هَذَا الانقطاعَ بواحدٍ مضموماً إلى الوقفِ يشتملُ عَلَى الانقطاعِ باثنينِ: الصحابيِّ ورسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذلكَ باستحقاقِ اسمِ الإعضالِ أَوْلَى، واللهُ أعلمُ. ¬
تفريعات
تَفْرِيْعَاتٌ أحدُها: الإسنادُ المعنعنُ، وهو الذي يُقالُ فيه: ((فلانٌ عَنْ فلانٍ)) عَدَّهُ بعضُ الناسِ مِنْ قَبيلِ المرسَلِ والمنقطعِ حَتَّى يَبِيْنَ (¬1) اتِّصالُهُ بغيرِهِ. والصحيحُ والذي عليهِ العملُ: أنَّهُ مِنْ قَبيلِ الإسنادِ المتَّصِلِ (¬2). وإلى هذا ذهبَ الجماهيرُ مِنَ أئمَّةِ الحديثِ وغيرِهِمْ، وأودَعَهُ المشترطونَ للصحيحِ في تصانيفِهِم فيهِ (¬3) وقَبِلُوهُ، وكادَ (¬4) أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ الحافظُ يَدَّعِي إجماعَ أئمَّةِ الحديثِ على ذلكَ. وادَّعَى أبو عمرٍو الدانيُّ المقرِئُ الحافِظُ إجماعَ أهلِ النَّقلِ على ذلكَ (¬5)، وهذا بشرطِ أنْ يكونَ الذينَ أُضيفَتِ العَنعنةُ ¬
إليهِم قدْ ثبَتَتْ مُلاقاةُ بعضِهِم بَعضاً مَعَ براءَتِهِم مِنْ وصْمَةِ (¬1) التَّدليسِ، فحينَئذٍ يُحْمَلُ على ظاهرِ الاتِّصالِ إلاَّ أنْ يَظْهَرَ فيهِ خلافُ ذلكَ. وكَثُرَ في عصرِنا وما قارَبَهُ بينَ المنتسبينَ إلى الحديثِ استعمالُ ((عَنْ)) في الإجازةِ، فإذا قالَ أحدُهُمْ: ((قرأتُ على فلانٍ عَنْ فلانٍ)) أو (¬2) نحوَ ذلكَ فَظُنَّ بهِ (¬3) أنَّهُ رواهُ عنهُ بالإجازةِ، ولا يُخْرِجُهُ ذلكَ مِنْ قبيلِ الاتِّصالِ على ما لا يخفَى، واللهُ أعلمُ. الثاني: اختَلَفُوا في قولِ الراوي: ((أنَّ فلاناً قالَ: كذا وكذا)) هَلْ هوَ بمنزلةِ ((عَنْ)) في الحَمْلِ عَلَى الاتِّصالِ إذا ثبتَ التلاقي بينهُما حَتَّى يتبيَّنَ فيهِ الانقطاعُ؟ مثالُهُ: ((مالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أنَّ سعيدَ بنَ المسيِّبِ قالَ: كذا)). فَرُوِّيْنا عَنْ مالِكٍ - رضي الله عنه -: أنَّهُ كانَ يَرى ((عَنْ فلانٍ)) و ((أنَّ فلاناً)) سواءً. وعَنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ - رضي الله عنه -: أنَّهُما ليسا سواءً (¬4). ¬
وحَكَى ابنُ عبدِ البرِّ (¬1) عَنْ جُمْهُورِ أهلِ العلْمِ: أنَّ ((عَنْ)) و ((أنَّ)) سواءٌ، وأنَّهُ لا اعتبارَ بالحروفِ والألفاظِ، وإنَّما هوَ باللِّقاءِ والمجالَسَةِ والسَّماعِ والمشاهدةِ - يعني: معَ السلامةِ مِنَ التدليسِ - فإذا كانَ سماعُ بعضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ صحيحاً، كانَ حديثُ بعضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ بأيِّ لفظٍ وَرَدَ: محمولاً على الاتِّصالِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فيهِ الانقطاعُ. وحَكَى ابنُ عبدِ البرِّ (¬2) عَنْ أبي بكرٍ البِرْدِيْجِيِّ (¬3): أنَّ حرفَ ((أنَّ)) محمولٌ على الانقطاعِ حَتَّى يتبيَّنَ السَّماعُ في ذلكَ الخبرِ بعينِهِ مِنْ جِهَةٍ أخرى (¬4). وقالَ: عِندي لا معنًى لهذا؛ لإجماعِهِم عَلَى أنَّ الإسنادَ المتَّصِلَ بالصحابيِّ سواءٌ فيهِ، قالَ: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، أو ((أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:))، أو: ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ))، أو: ((سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:))، واللهُ أعلمُ. قُلتُ (¬5): ووَجدْتُ مِثلَ ما حكاهُ عَنِ البِرْدِيجيِّ أبي بكرٍ الحافظِ، للحافظِ ¬
الفَحْلِ (¬1) يعقوبَ بنِ شيبَةَ (¬2) في " مسندِهِ " الفحلِ، فإنَّهُ ذكرَ ما رواهُ أبو الزبيرِ عَنِ ابنِ الحنفيَّةِ عَنْ عَمَّارٍ، قالَ: ((أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يُصَلِّي فسَلَّمْتُ عليهِ، فردَّ عليَّ السلامَ)) (¬3) وجعلَهُ مسنداً موصولاً. وذكرَ: روايةَ قيسِ بنِ سَعْدٍ لذلكَ، عنْ عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، عنِ ابنِ الحنفيَّةِ: ((أنَّ عَمَّاراً مرَّ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ (¬4) يُصَلِّي))، فجعلَهُ مُرسلاً مِنْ حيثُ كونُهُ قالَ: ((أنَّ عمَّاراً فَعَلَ))، ولَمْ يقلْ: ((عَنْ عمَّارٍ)) (¬5)، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ إنَّ الخطيبَ (¬6) مَثَّلَ هذهِ المسألَةَ بحديثِ نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: ((أنَّهُ سألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أيَنَامُ أحدُنا وهوَ جُنُبٌ؟ ... الحديثَ)) (¬7). وفي روايةٍ أخرى عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابنِ عمرَ: أنَّ عمرَ قالَ: ((يا رسولَ اللهِ ... الحديثَ)) (¬8). ثُمَّ قالَ: ((ظاهرُ الروايةِ الأولى يوجِبُ (¬9) أنْ يكونَ مِنْ مسندِ عُمرَ، عَنْ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والثانيةُ ظاهرُها يُوجِبُ أنْ يكونَ مِنْ مُسندِ ابنِ عُمَرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -)). ¬
قلتُ: ليسَ هذا المثالُ مماثلاً لِمَا نحنُ بصدَدِهِ؛ لأنَّ الاعتمادَ فيهِ في الحكمِ بالاتِّصالِ على مذهبِ الجمهورِ، إنَّما هوَ على اللُّقِيِّ (¬1) والإدراكِ، وذلكَ في هذا الحديثِ مُشْتركٌ متردِّدٌ لتَعَلُّقِهِ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبعُمَرَ - رضي الله عنه -، وصُحْبة الراوي ابنِ عمرَ لهما؛ فاقتضى ذلكَ مِنْ جِهَةٍ: كونَهُ رواهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومِنْ جهةٍ أخرى، كونَهُ رواهُ عَنْ عمرَ، عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ أعلمُ (¬2). الثالثُ: قَدْ ذكرْنا ما حكاهُ ابنُ عبدِ البرِّ مِنْ تعميمِ الحُكْمِ بالاتِّصالِ فيما يذكرُهُ الراوي عَمَّنْ لَقِيَهُ بأيِّ لفظٍ كانَ. وهكذا أطلقَ أبو بكرٍ الشافعيُّ الصَّيْرَفِيُّ (¬3) ذلكَ فقالَ: ((كُلُّ مَنْ عُلِمَ لَهُ سماعٌ مِنْ إنسانٍ فَحدَّثَ عنهُ فهوَ على السماعِ حَتَّى يُعْلَمَ أنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ منهُ ما حكاهُ؛ وكلُّ مَنْ عُلِمَ لَهُ لقاءُ إنسانٍ فحدَّثَ عنهُ فحُكمُهُ هذا الحكمُ)) (¬4). وإنَّما قالَ هذا فيمَنْ لَمْ يَظهَرْ تدليسُهُ (¬5). ¬
ومِنَ الحجَّةُ في ذلكَ وفي سائرِ البابِ أنَّهُ لوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهُ منهُ لكانَ بإطلاقِهِ الروايةَ عنهُ مِنْ غيرِ ذِكْرِ الواسطةِ بينَهُ وبينَهُ: مُدلِّساً، والظاهرُ السلامةُ مِنْ وَصْمَةِ التدليسِ، والكلامُ فيمَنْ لَمْ يُعرَفْ بالتدليسِ. ومِنْ أمثلةِ ذلكَ قولُهُ: ((قالَ فلانٌ كذا وكذا))؛ مثلُ أنْ يقولَ نافِعٌ: ((قالَ ابنُ عُمَرَ)). وكذلكَ لو قالَ عنهُ: ((ذَكَرَ، أو فَعَلَ، أو حَدَّثَ، أو كانَ يقولُ: كذا وكذا))، وما جانسَ ذلكَ فَكُلُّ ذلكَ محمولٌ ظاهراً على الاتِّصالِ، وأنَّهُ تَلقَّى ذلكَ مِنهُ مِنْ غيرِ واسطةٍ بينهُما مَهْمَا ثَبَتَ لقاؤُهُ لهُ على الجمْلَةِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنِ اقتَصَرَ في هذا الشرطِ المشروطِ في ذلكَ ونحوِهِ على مطلقِ اللِّقاءِ أو السَّماعِ كما حكيناهُ آنِفاً. وقالَ فيهِ أبو عمرٍو المقرئُ (¬1): ((إذا كانَ معروفاً بالروايةِ عنهُ)). وقالَ فيهِ أبو الحسنِ القابسيُّ (¬2): ((إذا أدرَكَ المنقولَ عنهُ إدراكاً بيِّناً)). وذكرَ أبو المظفَّرِ السَّمْعانيُّ في العنعَنةِ: أنَّهُ يُشْتَرطُ طولُ الصُّحبةِ بينَهُمْ (¬3). وأنكَرَ مسلمُ بنُ الحجَّاجِ في خُطْبَةِ " صحيحِهِ " (¬4) على بعضِ أهلِ عصرِهِ (¬5) حيثُ اشترطَ في العنعنةِ ثبوتَ اللِّقاءِ والاجتماعِ، وادَّعَى أنَّهُ قولٌ مُخْتَرَعٌ لَمْ يُسْبَقْ قائلُهُ إليهِ، وأنَّ القولَ ¬
الشائعَ المتَّفَقَ عليهِ بينَ أهلِ العلمِ بالأخبارِ قديماً وحديثاً أنَّهُ يَكْفي في ذلكَ أنْ يَثْبُتَ كونُهما في عصرٍ واحدٍ، وإنْ لَمْ يأتِ في خبرٍ قَطُّ أنَّهُما اجتَمَعا أو تَشَافَها. وفيمَا قالَهُ مسلمٌ نظرٌ، وقدْ قيلَ: إنَّ القولَ الذي ردَّهُ مسلمٌ هو الذي عليهِ أئمَّةُ هذا العِلْمِ: عليُّ بنُ المدينيِّ، والبخاريُّ، وغيرُهُما، واللهُ أعلمُ (¬1). قلتُ: وهذا الحكمُ لا أراهُ يستَمرُّ بعدَ المتقدِّمينَ فيما وُجِدَ (¬2) مِنَ المصنِّفينَ في تصانيفِهِم، ممَّا ذكروهُ عَنْ مشايخِهِم قائلينَ فيهِ: ((ذَكَرَ فلانٌ، قالَ فلانٌ)) ونحوُ ذلكَ، فافهمْ كلَّ ذلكَ فإنَّهُ مُهِمٌّ عزيزٌ، واللهُ أعلمُ (¬3). الرابعُ: التعليقُ الذي يَذكرُهُ أبو عبدِ اللهِ الحُميديُّ صاحبُ "الجمعِ بينَ الصحيحينِ" وغيرُهُ مِنَ المغاربةِ في أحاديثَ مِنْ " صحيحِ البخاريِّ " قَطَعَ إسنادَها، وقدِ استعملَهُ الدارَقطنيُّ (¬4) مِنْ قبلُ: صُورتُهُ صورةُ الانقطاعِ وليسَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، ولا خارجاً ما وُجِدَ ذلكَ فيهِ منهُ، منْ قبيلِ الصحيحِ إلى قبيلِ الضعيفِ، وذلكَ لما عُرِفَ مِنْ شرطِهِ وحُكْمِهِ (¬5) على ما نبَّهنا عليهِ في الفائدةِ السادسةِ مِنَ النوعِ الأوَّلِ (¬6). ¬
ولا التفاتَ إلى أبي مُحَمَّدِ بنِ حزمٍ الظاهرِيِّ الحافظِ في ردِّهِ (¬1) ما أخرجَهُ البخاريُّ (¬2) مِنْ حديثِ أبي عامرٍ أو أبي مالكٍ الأشعريِّ، عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لَيَكُونَنَّ في أُمَّتِي أقوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحريرَ (¬3) والْخَمْرَ والْمَعَازِفَ ... الحديثَ)) مِنْ جِهةِ أنَّ البخاريَّ أوردَهُ قائلاً فيهِ: قالَ هِشامُ بنُ عمَّارٍ، وساقَهُ بإسنادِهِ، فزَعَمَ ابنُ حَزْمٍ أنَّهُ منقطِعٌ فيما بينَ البخاريِّ وهِشامٍ (¬4)، وجَعلَهُ جواباً عَنِ الاحتجاجِ بهِ على تحريمِ المعازفِ. وأخطأَ في ذلكَ مِنْ وجوهٍ (¬5)، والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتِّصالِ بشرطِ الصحيحِ (¬6). ¬
والبخاريُّ - رَحِمَهُ اللهُ - قدْ يفعلُ مِثْلَ ذلكَ؛ لكونِ ذلكَ الحديثِ معروفاً مِنْ جِهةِ الثِّقَاتِ عَنْ ذلكَ الشخصِ الذي عَلَّقَهُ عنهُ، وقدْ يَفعلُ ذلكَ؛ لكونِهِ قدْ ذكرَ ذلكَ الحديثَ في موضعٍ آخرَ مِنْ كِتابِهِ مُسْنداً مُتَّصِلاً، وقدْ يفعلُ ذلكَ لغيرِ ذلكَ منَ الأسبابِ التي لاَ يصحبُها خللُ الانقطاعِ، واللهُ أعلمُ (¬1). ¬
وما ذكرناهُ مِنَ الحكمِ في التعليقِ المذكورِ، فذلكَ فيما أورَدَهُ منهُ أصلاً ومقصوداً، لا فيما أورَدَهُ في مَعْرِضِ الاستشهادِ، فإنَّ الشواهدَ يُحتَملُ فيها ما ليسَ مِنْ شرطِ الصحيحِ مُعَلَّقاً كانَ أو موصولاً. ثُمَّ إنَّ لَفْظَ التعليقِ وجدْتُهُ مستعملاً فيما حُذِفَ مِنْ مبتدإِ إسنادِهِ واحدٌ فأكثرُ (¬1)، حتَّى إنَّ بَعضَهُمُ استعملَهُ في حذفِ كُلِّ الإسنادِ، مثالُ ذلكَ: قولُهُ: ((قالَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كذا وكذا، قالَ ابنُ عبَّاسٍ: كذا وكذا، روى أبو هريرةَ: كذا وكذا، قالَ سعيدُ بنُ المسيِّبِ عَنْ أبي هريرةَ: كذا وكذا، قالَ الزهريُّ، عَنْ أبي سلمةَ، عَنْ أبي هريرةَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كذا وكذا)) (¬2)، وهكذا إلى شيوخِ شيوخِهِ. وأمَّا ما أورَدَهُ كذلكَ عَنْ شيوخِهِ فَهُوَ مِنْ قَبِيْلِ ما ذكرناهُ قريباً في الثالثِ مِنْ هذهِ التفريعاتِ (¬3). وبَلَغَني عَنْ بعضِ المتأخِّرينَ مِنْ أهلِ المغربِ أنَّهُ جعلَهُ قسماً مِنَ التعليقِ ثانياً، وأضافَ (¬4) إليهِ قولَ البخاريِّ - في غيرِ موضعٍ مِنْ كتابِهِ -: ((وقالَ لي فلانٌ، وزادَنا (¬5) فلانٌ)) فوسمَ كلَّ ذلكَ بالتعليقِ المتَّصِلِ مِنْ حيثُ الظاهِرُ، المنفصِلِ مِنْ حيثُ المعنى، وقالَ: مَتَى رأيتَ البخاريَّ يقولُ: ((وقالَ لي، وقالَ لنا))؛ فاعلَمْ أنَّهُ إسنادٌ لَمْ يَذكرْهُ للاحتجاجِ بهِ، وإنَّما ذكرَهُ للاستشهادِ بهِ. وكثيراً ما يُعبِّرُ (¬6) المحدِّثونَ بهذا اللفظِ عَمَّا جَرَى (¬7) في المذاكراتِ والمناظراتِ، وأحاديثُ المذاكرةِ قَلَّمَا يَحتَجُّونَ بها (¬8). ¬
قلتُ: وما ادَّعاهُ على البخاريِّ مخالِفٌ لِمَا قالَهُ مَنْ هُوَ أقدمُ منهُ وأعرفُ بالبخاريِّ وهوَ العبدُ الصالِحُ أبو جَعفرِ بنِ حَمْدانَ النَّيْسابوريُّ (¬1)، فقدْ رُوِّيْنا عنهُ أنَّهُ قالَ: كُلُّ ما قالَ البخاريُّ: ((قالَ لي فلانٌ)) فهوَ عَرْضٌ ومُناولَةٌ (¬2). قلتُ: وَلَمْ أجدْ لَفظَ التعليقِ مُستعملاً فيما سَقَطَ فيهِ بعضُ رِجالِ الإسنادِ مِنْ وَسَطِهِ أو مِنْ آخرِهِ، ولا في مثلِ قولِهِ: ((يُروى عَنْ فلانٍ، ويُذكَرُ عَنْ فلانٍ))، وما أشبَهَهُ ممَّا ليسَ فيهِ جزمٌ على مَنْ ذكرَ ذلكَ عنهُ بأنَّهُ قالَهُ و (¬3) ذكرَهُ (¬4). وكأنَّ هذا التعليقَ مأخوذٌ مِنْ تعليقِ الجدارِ وتعليقِ الطلاقِ ونحوِهِ، لِما يشتركُ الجميعُ فيهِ مِنْ قطعِ الاتِّصالِ (¬5)، واللهُ أعلمُ. ¬
الخامسُ: الحديثُ الذي رواهُ بعضُ الثقاتِ مُرسلاً وبعضُهُم متَّصِلاً (¬1)، اختلفَ أهلُ الحديثِ في أنَّهُ ملحقٌ بقبيلِ الموصولِ أو بقبيلِ المرسلِ. مثالُهُ: حديثُ: ((لا نِكَاحَ إلاَّ بوليٍّ)) (¬2)، رواهُ إسرائيلُ بنُ يونسَ في آخرينَ عَنْ جَدِّهِ أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ (¬3)، عَنْ أبي بُرْدَةَ، عَنْ أبيهِ (¬4) أبي موسى الأشعريِّ، عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْنَداً هكذا متَّصِلاً، ورواهُ سفيانُ الثوريُّ وشعبةُ، عَنْ أبي إسحاقَ، عَنْ أبي بُرْدَةَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرسلاً هكذا (¬5). ¬
فحَكَى الخطيبُ الحافِظُ (¬1): أنَّ أكثرَ أصحابِ الحديثِ يَرَوْنَ الْحُكْمَ في هذا وأشباهِهِ للمرسَلِ (¬2). وعَنْ بَعضِهِمْ: أنَّ الحكمَ للأكثرِ (¬3). وعَنْ بَعضِهِمْ: أنَّ الحكمَ للأحفظِ (¬4)، فإذا كانَ مَنْ أرسَلَهُ أحفظُ ممَّنْ وصلَهُ فالحكمُ لِمَنْ أرسَلَهُ، ثُمَّ لا يَقْدَحُ ذلكَ في عدالةِ مَنْ وصَلَهُ وأهليَّتِهِ (¬5). ¬
ومنهمْ مَنْ قالَ: ((مَنْ أسندَ حديثاً قدْ أرسَلَهُ الحفَّاظُ فإرسالُهُم لهُ يَقْدحُ في مُسْنِدِهِ، وفي عدالتِهِ وأهليَّتِهِ)) (¬1). ومنهم مَنْ قالَ: ((الحكمُ لِمَنْ أسندَهُ، إذا كانَ عدلاً ضابطاً فيُقْبَلُ خبرُهُ، وإنْ خالَفَهُ غيرُهُ سواءٌ كانَ المخالِفُ لهُ واحداً أو جماعةً)) (¬2)، قالَ الخطيبُ: ((هذا القولُ هوَ الصحيحُ)) (¬3). قلتُ: وما صحَّحَهُ هوَ الصحيحُ في الفقهِ وأصولِهِ (¬4). وسُئِلَ البخاريُّ عنْ حديثِ: ((لا نِكَاحَ إلاَّ بوليٍّ)) المذكورَ، فحَكَمَ لِمَنْ وصَلَهُ، وقالَ: ((الزيادةُ مِنَ الثِّقَةِ مقبولةٌ)) (¬5). فقالَ البخاريُّ هذا، مَعَ أنَّ مَنْ أرسلَهُ شُعبةُ وسفيانُ، وهما جَبَلانِ لهما مِنَ الحفظِ والإتقانِ الدرجةُ العاليةُ. ويلتحقُ بهذا، ما إذا كانَ الذي وصَلَهُ هو الذي أرسلَهُ، وصَلَهُ في وقتٍ وأرسلَهُ في وقتٍ (¬6). وهكذا إذا رفعَ بعضُهُمُ الحديثَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ووقَفَهُ بعضُهُم على الصحابيِّ أو رفَعَهُ واحدٌ في وقتٍ، ووقَفَهُ هوَ أيضاً في وقتٍ آخرَ، فالحكمُ على الأصحِّ (¬7) في كلِّ ذلكَ لِمَا زادَهُ الثقةُ مِنَ الوصْلِ والرفعِ؛ لأنَّهُ مثبتٌ وغيرُهُ ساكتٌ، ولو كانَ نافياً، ¬
النوع الثاني عشر معرفة التدليس، وحكم المدلس
فالْمُثْبِتُ مقدَّمٌ عليهِ؛ لأنَّهُ عَلِمَ ما خَفِيَ عليهِ (¬1)؛ ولهذا الفصلِ تَعَلُّقٌ بفَصْلِ زيادةِ الثقةِ في الحديثِ وسيأتي إنْ شاءَ اللهُ تعالى، وهو أعلمُ. النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ مَعْرِفَةُ التَّدْلِيْسِ، وحُكْمِ الْمُدَلَّسِ (¬2) التدليسُ (¬3) قِسمانِ (¬4): ¬
أحدُهُما: تدليسُ الإسنادِ: وهوَ أنْ يرويَ عَمَّنْ لَقِيَهُ ما لَمْ يَسْمَعْهُ منهُ، مُوهِماً أنَّهُ سَمِعَهُ منهُ (¬1)، أو عَمَّنْ عاصَرَهُ ولَمْ يَلْقَهُ، مُوهِماً أنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَهُ منهُ. ثُمَّ قدْ يكونُ بينَهُما واحِدٌ وقدْ يكونُ أكثرُ. ومِنْ شَأنِهِ أنْ لا يقولَ في ذلكَ: ((أخبرنا فلانٌ))، ولا ((حدَّثنا))، وما أشبَهَهُما. وإنَّما يقولُ: ((قالَ فلانٌ أو عَنْ فلانٍ))، ونحوَ ذلكَ (¬2). مثالُ ذلكَ: ((ما رُوِّيْنا عَنْ عليِّ بنِ خَشْرَمٍ (¬3) قالَ: كُنَّا عندَ ابنِ عُيينةَ، فقالَ: ((الزهريُّ))، فقيلَ لهُ: ((حَدَّثَكُمُ الزهريُّ؟))، فسَكَتَ، ثُمَّ قالَ: ((الزهريُّ))، فقيلَ لهُ: ((سَمِعْتَهُ مِنَ الزهريِّ؟))، فقالَ: ((لا، لَمْ أسمعْهُ مِنَ الزهريِّ، ولا ممَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزهريِّ، حدَّثَني عبدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزهريِّ)) (¬4). ¬
القسمُ الثاني: تدليسُ الشيوخِ، وهوَ أنْ يرويَ عَنْ شيخٍ حديثاً سَمِعَهُ مِنْهُ، فيُسَمِّيَهُ، أو يَكْنِيَهُ أو يَنْسُبَهُ، أو يَصِفَهُ بما لا يُعْرَفُ بهِ كيْ لا (¬1) يُعرَفُ (¬2)، مِثالُهُ: ما رُويَ لنا عَنْ أبي بكرِ بنِ مجاهِدٍ الإمامِ المقرئِ أنَّهُ رَوَى عَنْ أبي بكرٍ عبدِ اللهِ بنِ أبي داودَ السِّجِسْتانيِّ، فقالَ: حدَّثَنا عبدُ اللهِ بنُ أبي عبدِ اللهِ، وروى عَنْ أبي بكرٍ محمدِ بنِ الحسنِ النَّقَّاشِ (¬3) الْمُفَسِّرِ المُقرئِ فقالَ: ((حدَّثَنا محمدُ بنُ سَنَدٍ، نسبَهُ إلى جدٍّ لهُ)) (¬4)، واللهُ أعلمُ. أمَّا القسمُ الأوَّلُ فمكروهٌ جدّاً، ذمَّهُ أكثَرُ العلماءِ (¬5)، وكانَ شُعبةُ مِنْ أشدِّهِم ذَمّاً لهُ، فرُوِّيْنا عَنِ الشافعيِّ الإمامِ، عنهُ (¬6) أنَّهُ قالَ: ((التدليسُ أخو الكَذِبِ)) (¬7). ورُوِّيْنا ¬
عنهُ أنَّهُ قالَ: ((لأنْ أزنيَ أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أُدَلِّسَ)) (¬1)، وهذا مِنْ شُعبَةَ إفراطٌ محمولٌ على المبالغةِ في الزَّجْرِ عنهُ والتَّنْفِيرِ (¬2). ثُمَّ اختلفُوا في قَبولِ روايةِ مَنْ عُرِفَ بهذا التدليسِ فجعلَهُ فريقٌ مِنْ أهلِ الحديثِ والفقهاءِ مجروحاً بذلكَ، وقالوا: لا تُقبَلُ روايتُهُ بحالٍ، بَيَّنَ السَّمَاعَ أوْ لَمْ يُبَيِّنْ (¬3). والصحيحُ التفصيلُ: وأنَّ ما رواهُ المدلِّسُ بلفظٍ مُحتَملٍ لَمْ يُبَيِّنْ فيهِ السماعَ والاتِّصالَ، حُكْمُهُ حُكْمُ المرسَلِ وأنواعِهِ (¬4)، وما رواهُ بلفظٍ مُبيِّنٍ للاتِّصالِ (¬5)، نحوُ ((سَمِعْتُ، وحدَّثَنا، وأخبَرَنا)) وأشباهِها، فهو مقبولٌ محتجٌّ بهِ. وفي " الصحيحينِ " وغيرِهِما مِنَ الكُتُبِ المعتمدةِ مِنْ حديثِ هذا الضَّرْبِ كثيرٌ جدّاً، كقتادةَ، والأعمشِ، والسُّفيَانَيْنِ، وهُشَيْمِ (¬6) بنِ بَشِيْرٍ، وغيرِهِمْ (¬7). ¬
وهذا؛ لأنَّ التدليسَ ليسَ كَذِباً، وإنَّما هوَ ضَرْبٌ مِنَ الإيْهامِ بلفظٍ مُحْتَملٍ، والْحُكْمُ بأنَّهُ لا يُقْبَلُ مِنَ المدلِّسِ حَتَّى يُبَيِّنَ، قدْ أجراهُ الشافِعِيُّ - رضي الله عنه - فيمَنْ عَرَفناهُ دلَّسَ مرَّةً (¬1)، واللهُ أعلمُ. وأمَّا القسمُ الثاني فأمرُهُ أخفُّ، وفيهِ تضْييعٌ للمَرْوِيِّ عنهُ، وتَوعِيرٌ لطريقِ معرفِتِهِ على مَنْ يطلُبُ الوقوفَ على حالِهِ وأهليَّتِهِ (¬2). ويختلِفُ الحالُ في كراهَةِ ذلكَ بحسَبِ الغرضِ الحاملِ عليهِ، فقدْ يحمِلُهُ على ذلكَ كونُ شيخِهِ الذي غَيَّرَ سِمَتَهُ غيرَ ثقةٍ (¬3)، أو ¬
كونُهُ متأخِّرَ الوفاةِ قدْ شاركَهُ في السماعِ منهُ جماعةٌ دُونَهُ، أو كونُهُ أصغرَ سِنّاً مِنَ الراوي عَنْهُ، أو كونُهُ كثيرَ الروايةِ عنهُ، فلا يُحِبُّ الإكثارَ مِنْ ذِكْرِ شَخْصٍ واحدٍ على صورةٍ واحدةٍ (¬1). وتَسَمَّحَ بذلكَ جماعةٌ مِنَ الرواةِ المصنِّفينَ، منهم: الخطيبُ أبو بكرٍ، فقدْ كانَ لَهِجاً (¬2) بهِ في تصانِيْفِهِ (¬3)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثالث عشر معرفة الشاذ
النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ مَعْرِفَةُ الشَّاذِّ (¬1) رُوِّيْنا عَنْ يونُسَ بنِ عبدِ الأعلى قالَ: قالَ ليَ الشافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: ((ليسَ (¬2) الشاذُّ (¬3) مِنَ الحديثِ أنْ يروِيَ الثِّقَةُ ما لا يرويَ غيرُهُ، إنَّما الشاذُّ: أنْ يرويَ الثِّقَةُ حديثاً يخالِفُ ما روَى الناسُ)) (¬4). وحَكَى الحافِظُ أبو يَعْلَى الخليليُّ القَزْوِينيُّ نحوَ هذا عَنِ الشافعيِّ وجماعةٍ مِنْ أهلِ الحِجازِ (¬5). ثُمَّ قالَ: ((الذي عليهِ حُفَّاظُ الحديثِ أنَّ الشاذَّ ما ليسَ لهُ إلاَّ إسنادٌ واحدٌ يَشذُّ بذلكَ شيخٌ، ثقةً كانَ أو غيرَ ثقةٍ، فما كانَ عَنْ غيرِ ثقةٍ فمتروكٌ لا يُقبَلُ، وما كانَ عَنْ ثقةٍ يُتَوَقَّفُ فيهِ ولا يُحْتَجُّ بهِ)) (¬6). ¬
وذَكَرَ الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ أنَّ الشاذَّ هوَ الحديثُ الذي ينفَرِدُ (¬1) بهِ ثقةٌ مِنَ الثِّقاتِ وليسَ لهُ أصلٌ بمُتابِعٍ لذلكَ الثقةِ (¬2). وذَكَرَ أنَّهُ يُغَايرُ المعلَّلَ مِنْ حيثُ إنَّ المعلَّلَ وُقِفَ على عِلَّتِهِ الدالَّةِ على جِهَةِ الوَهَمِ فيهِ، والشاذُّ لَمْ يُوقَفْ فيهِ عَلَى عِلَّتِهِ كذلكَ. قُلْتُ: أمَّا ما حَكَمَ الشافِعيُّ عليهِ بالشذوذِ فلا إشكالَ (¬3) في أنَّهُ شاذٌّ غيرُ مقبولٍ، وأمَّا ما حكيناهُ عَنْ غَيْرِهِ فَيُشْكِلُ بما ينفَرِدُ (¬4) بهِ العدْلُ الحافظُ الضابطُ، كحديثِ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) (¬5)، فإنَّهُ حديثٌ فَرْدٌ، تفرَّدَ بهِ: عُمَرُ - رضي الله عنه - عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ تَفرَّدَ بهِ عَنْ عُمَرَ: عَلْقمةُ بنُ وقَّاصٍ، ثُمَّ عَنْ عَلْقمةَ: محمدُ بنُ إبراهيمَ، ثُمَّ عنهُ: يحيى بنُ سعيدٍ على ما هوَ الصحيحُ عِندَ أهلِ الحديثِ (¬6). ¬
وأوضَحُ مِنْ ذلكَ في ذلكَ: حديثُ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الوَلاءِ وهِبَتِهِ (¬1)) (¬2)، تَفَرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ (¬3). وحديثُ مالكٍ، عَنِ الزهريِّ، عَنْ أنسٍ: ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ وعلى رأسِهِ المِغْفَرُ (¬4)) (¬5)، تَفَرَّدَ بهِ ¬
مالكٌ عنِ الزهريِّ (¬1). فكلُّ هذهِ مُخَرَّجَةٌ في الصحيحينِ معَ أنَّهُ ليسَ لها إلاَّ إسنادٌ واحدٌ تَفَرَّدَ بهِ ثقةٌ. وفي غرائبِ الصحيحِ أشباهٌ لذلكَ غيرُ قليلةٍ. وقد قالَ مسلمُ بنُ الحجَّاجِ: ((للزهريِّ نحوُ (¬2) تسعينَ حرفاً يرويهِ (¬3) عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ، بأسانيدَ جِيَادٍ)) (¬4)، واللهُ أعلمُ. فهذا الذي ذكرناهُ وغيرُهُ مِنْ مذاهِبِ أئمَّةِ الحديثِ يُبَيِّنُ لكَ أنَّهُ ليسَ الأمرُ في ذلكَ على الإطلاقِ الذي أتى بهِ الخليليُّ والحاكمُ (¬5)، بلِ الأمرُ في ذلكَ على تفصيلِ نُبَيِّنَهُ فنقولُ: ¬
إذا انفرَدَ الراوي بشيءٍ نُظِرَ فِيْهِ، فإنْ كانَ ما انفَرَدَ بهِ مخالفاً لِمَا رواهُ مَنْ هو أولى منهُ بالحفظِ لذلكَ وأضبطُ كانَ ما انفردَ بهِ شاذّاً مردوداً، وإنْ لَمْ تكُنْ (¬1) فيهِ مخالفةٌ لِمَا رواهُ غيرُهُ، وإنَّما هوَ أمرٌ رواهُ هوَ وَلَمْ يَرْوِهِ غيرُهُ، فَيُنْظَرُ في هذا الراوي المنفردِ، فإنْ كانَ عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانِهِ وضبطِهِ؛ قُبِلَ ما انفردَ بهِ ولَمْ يَقْدَحِ الانفرادُ فيهِ، كما فيما سبقَ مِنَ الأمثلةِ، وإنْ لَمْ يكنْ ممَّنْ يُوثَقُ بحفظِهِ وإتقانِهِ لذلكَ الذي انفردَ بهِ؛ كانَ انفرادُهُ (¬2) خارماً لهُ مُزَحْزِحاً لهُ عَنْ حَيِّزِ الصحيحِ. ثُمَّ هوَ بعدَ ذلكَ دائرٌ بينَ مراتبَ متفاوتَةٍ (¬3) بحسبِ الحالِ فيهِ: فإنْ كانَ المنفردُ بهِ غيرَ بعيدٍ مِنْ درجَةِ الحافظِ الضابطِ المقبولِ تفرُّدُهُ اسْتَحْسَنا حديثَهُ ذلكَ ولَمْ نَحطَّهُ (¬4) إلى قبيلِ الحديثِ الضعيفِ، وإنْ كانَ بعيداً مِنْ ذلكَ رَدَدْنا ما انفرَدَ بهِ، وكانَ مِنْ قبيلِ الشَّاذِّ المنكرِ (¬5). ¬
فخَرَجَ مِنْ ذلكَ أنَّ الشاذَّ المردودَ قسمانِ: أحدُهُما: الحديثُ (¬1) الفردُ المخالفُ. والثاني: الفردُ الذي ليسَ في راويهِ (¬2) مِنَ الثقةِ والضبطِ ما يقعُ جابراً لِمَا يوجبُهُ التفرُّدُ والشذوذُ مِنَ النَّكارةِ والضعفِ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الرابع عشر معرفة المنكر من الحديث
النَّوعُ الرَّابِعَ عَشَرَ مَعْرِفَةُ الْمُنْكَرِ مِنَ الْحَدِيْثِ (¬1) بَلَغَنا عَنْ أبي بكرٍ أحمدَ بنِ هارونَ البِرْديجيِّ الحافِظِ أنَّهُ: الحديثُ الذي ينفردُ بهِ الرجلُ ولا يُعْرَفُ مَتْنُهُ مِنْ غيرِ روايتِهِ، لا مِنَ الوجهِ الذي رواهُ منهُ، ولا مِنْ وجهٍ آخرَ (¬2). فأطلقَ البِرْديجيُّ ذلكَ ولَمْ يُفَصِّلْ. ¬
وإطلاقُ الحكمِ على التفرُّدِ بالرَّدِّ أو النكارةِ أو الشذوذِ، موجودٌ في كلامِ كثيرٍ مِنْ أهلِ الحديثِ (¬1). والصوابُ فيهِ التَّفْصيلُ الذي بيَّنَّاهُ آنِفاً في شرحِ الشاذِّ. وعندَ هذا نقولُ: المنكرُ ينقَسِمُ قسمينِ (¬2) على ما ذكرناهُ في الشاذِّ فإنَّهُ بمعناهُ (¬3). مِثَالُ الأوَّلِ - وهوَ المنفردُ المخالِفُ لِمَا رواهُ الثِّقَاتُ -: روايةُ مالكٍ عنِ الزهريِّ، عنْ عليِّ بنِ حسينٍ، عَنْ عُمَرَ بنِ عُثمانَ، عَنْ أُسَامةَ بنِ زيدٍ، عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لا يَرِثُ المسلمُ الكافِرَ، ولا الكافِرُ المسلِمَ)) (¬4)، فخالفَ مالكٌ غيرَهُ مِنَ الثِّقاتِ في ¬
قولِهِ: عُمَرَ بنِ عُثمانَ - بضمِّ العينِ -. وذكرَ مسلمٌ صاحبُ " الصحيحِ " في كتابِ " التمييزِ ": أنَّ كُلَّ مَنْ رواهُ مِنْ أصحابِ الزهريِّ، قالَ فيهِ: عَمْرُو بنُ عثمانَ - يعني: بفتحِ العينِ -. وذكرَ أنَّ مالِكاً كانَ يشيرُ بيدِهِ إلى دارِ عُمَرَ بنِ عُثمانَ، كأنَّهُ عَلِمَ أنَّهُمْ يخالِفونَهُ. وعَمْرٌو وعُمَرُ جميعاً: وَلَدُ (¬1) عُثمانَ (¬2)، غيرَ أنَّ هذا الحديثَ إنَّما هو عَنْ (¬3) عَمْرٍو - بفتحِ العينِ -، وحَكَمَ مسلمٌ وغيرُهُ على مالكٍ بالوهمِ فيهِ (¬4)، واللهُ أعلمُ. ¬
ومثالُ الثاني - وهوَ الفردُ الذي ليسَ في راوِيْهِ (¬1) مِنَ الثقةِ والإتقانِ ما يُحْتَمَلُ مَعَهُ تَفَرُّدُهُ -: ما رُوِّيْناهُ مِنْ حديثِ أبي زُكَيْرٍ (¬2) يحيى بنِ محمدِ بنِ قيسٍ، عنْ هِشامِ بنِ عُروةَ، عَنْ أبيهِ، عنْ عائشةَ - رضيَ اللهُ عنها - أنَّ رسولَ (¬3) اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((كُلُوا البَلَحَ (¬4) بالتَّمْرِ؛ فإنَّ الشيطانَ إذا رأى ذلكَ غاظَهُ، ويقولُ: عاشَ ابنُ آدمَ حتَّى أكلَ الجديدَ بالخَلَقِ!)) (¬5). ¬
النوع الخامس عشر معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد
تَفرَّدَ بهِ أبو زُكيرٍ، وهو شيخٌ صالِحٌ (¬1) أخرجَ عنهُ مسلمٌ في كتابهِ (¬2) غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ مبلغَ مَنْ يُحتَمَلُ تَفَرُّدُهُ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الخَامِسَ عَشَرَ مَعْرِفَةُ الاعْتِبَارِ وَالْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ (¬3) هذهِ أمورٌ يَتَداولونها في نَظَرِهم في حالِ الحديثِ: هَلْ تَفَرَّدَ بهِ راويهِ أو لا؟، وهَلْ هُوَ معروفٌ أو لا؟، ذكرَ أبو حاتِمٍ محمدُ بنُ حِبَّانَ التميميُّ الحافظُ - رَحِمَهُ اللهُ - أنَّ طريقَ الاعتبارِ في الأخبارِ مثالُهُ: أنْ يَرويَ حمادُ بنُ سَلَمَةَ حديثاً لَمْ يُتابَعْ عليهِ، عَنْ أيُّوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ، عَنْ أبي هريرةَ، عَنِ النبيِّ (¬4) - صلى الله عليه وسلم -، فَيُنْظَرَ هلْ روى ذلكَ ثِقَةٌ غيرُ (¬5) أيّوبَ، عَنِ ابنِ سيرينَ؟ فإنْ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ للخبرِ أصلاً يُرْجَعُ إليهِ، وإنْ لَمْ يوجدْ ذلكَ، فثقةٌ غيرُ ابنِ سيرينَ رواهُ عنْ أبي هريرةَ، وإلاَّ فصحابيٌّ غيرُ أبي هريرةَ رواهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأيُّ ذلكَ وُجِدَ، يُعْلمُ بهِ أنَّ للحديثِ أصلاً يَرجِعُ إليهِ وإلاَّ فلاَ (¬6).
قُلْتُ: فمثالُ المتابعةِ أنْ يرويَ ذلكَ الحديثَ بعينِهِ عَنْ أيُّوبَ غيرُ حمّادٍ، فهذهِ المتابعةُ التامَّةُ (¬1). فإنْ لَمْ يَرْوِهِ أحدٌ غيرُهُ، عَنْ أيوبَ، لكنْ رواهُ بعضُهُم عَنِ ابنِ سيرينَ أوْ عَنْ أبي هريرةَ، أو رواهُ غيرُ أبي هريرةَ، عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذلكَ قدْ يُطلَقُ عليهِ اسمُ المتابعةِ أيضاً، لكنْ تَقْصُرُ (¬2) عَنِ المتابَعَةِ الأُولى بحَسَبِ بُعْدِها مِنْها، ويجوزُ أنْ يُسَمَّى ذلكَ بالشاهدِ أيضاً (¬3). فإنْ لَمْ يُرْوَ ذلكَ (¬4) الحديثُ أصلاً مِنْ وجهٍ مِنَ الوجوهِ المذكورةِ، لكنْ رُوِيَ حديثٌ آخرُ بمعناهُ، فذلكَ الشاهِدُ من غيرِ متابعةٍ، فإنْ لَمْ يُرْوَ أيضاً بمعناهُ حديثٌ آخرُ، فقد تحقّقَ فيهِ التفرّدُ المطلقُ حينَئِذٍ. وينقسمُ عندَ ذلكَ إلى: مردودٍ منكرٍ، وغيرِ مردودٍ كما سَبَقَ. وإذا قالوا في مثلِ هذا: ((تفَرَّدَ بهِ أبو هريرةَ، وتَفَرَّدَ بهِ عَنْ أبي هريرةَ ابنُ سيرينَ، وتَفَرَّدَ بهِ عَنِ ابنِ سيرينَ أيّوبُ، وتَفَرَّدَ بهِ عنْ أيوبَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ)) كانَ في ذلكَ إشعارٌ بانتفاءِ وجوهِ المتابعاتِ فيهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ قَدْ يدخلُ في بابِ المتابعةِ والاستشهادِ روايةُ مَنْ لا يحتجُّ بحديثِهِ وَحْدَهُ بلْ يكونُ معدوداً في الضعفاءِ (¬5)، وفي كتابَيِ البخاريِّ ومسلمٍ جماعةٌ مِنَ الضعفاءِ ¬
ذَكَرَاهُم في المتابعاتِ والشواهِدِ، وليسَ كلُّ ضعيفٍ يَصْلُحُ لذلكَ، ولهذا يقولُ الدارقطنيُّ وغيرُهُ في الضعفاءِ: ((فلانٌ يُعْتَبَرُ بهِ، وفلانٌ لا يُعْتَبَرُ بهِ))، وقدْ تَقَدَّمَ التنبيهُ على نحوِ ذلكَ، واللهُ أعلمُ. مثالٌ للمتابعِ (¬1) والشاهدِ: رُوِّيْنا مِنْ حديثِ سفيانَ بنِ عُيينةَ، عَنْ عمرِو بنِ دينارٍ، عَنْ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لَوْ أخَذُوا إِهَابَها فَدَبَغُوهُ فانتَفَعُوا بهِ)) (¬2)، ورواهُ ابنُ جريجٍ، عَنْ عمرٍو، عَنْ عطاءٍ ولَمْ يذكرْ فيهِ الدِّبَاغَ (¬3)، فذكرَ الحافظُ أحمدُ البيهقيُّ لحديثِ ابنِ عيينةَ متابِعاً وشاهِداً. أمَّا المتابعُ فإنَّ أسامةَ بنَ زيدٍ تابَعَهُ عَنْ عطاءٍ. وروى بإسنادِهِ عَنْ أسامةَ، عَنْ عطاءٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((أَلاَ نَزَعْتُمْ جِلْدَها فَدَبَغْتُمُوهُ فاسْتَمْتَعْتُمْ بهِ)) (¬4)، وأمَّا الشاهِدُ فحديثُ عبدِ الرَّحْمَانِ بنِ وَعْلَةَ (¬5)، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أيُّما إهَابٍ (¬6) دُبِغَ فقَدْ طَهُرَ)) (¬7)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع السادس عشر معرفة زيادات الثقات وحكمها
النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ مَعْرِفَةُ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ وَحُكْمِهَا (¬1) وذلكَ فنٌّ لطيفٌ تُسْتَحْسَنُ العِنايةُ بهِ. وقدْ كانَ أبو بكرِ بنُ زيادٍ النَّيْسابوريُّ (¬2)، وأبو نُعَيْمٍ الْجُرْجَانيُّ (¬3)، وأبو الوليدِ القرشيُّ (¬4) الأئمّةُ مذكورينَ بمعرفة زياداتِ الألفاظِ الفقهيّةِ في الأحاديثِ (¬5). ¬
ومَذهبُ الجمهورِ مِنَ الفقهاءِ وأصحابِ الحديثِ فيما حكاهُ الخطيبُ أبو بكرٍ: أنَّ الزيادةَ مِنَ الثقةِ مقبولةٌ إذا تفرَّدَ بها (¬1)، سواءٌ كانَ ذلكَ مِنْ شخصٍ واحدٍ بأنْ رواهُ ناقصاً مرَّةً، ورواهُ مرَّةً أخرى وفيهِ تلكَ الزيادةُ، أو كانتِ الزيادةُ (¬2) مِنْ غيرِ مَنْ رواهُ ناقصاً، خلافاً لِمَنْ ردَّ مِنْ أهلِ الحديثِ ذلكَ مُطْلَقاً (¬3)، وخلافاً لِمَنْ ردَّ الزيادةَ منهُ وَقَبِلَها مِنْ غيرِهِ (¬4). وقدْ قَدَّمنا (¬5) عنهُ حكايتَهُ عَنْ أكثرِ أهلِ الحديثِ فيما إذا وصلَ الحديثَ قومٌ وأرسَلَهُ قومٌ أنَّ الحكمَ لِمَنْ أرسلَهُ مَعَ أنَّ وصلَهُ زيادةٌ مِنَ الثقةِ (¬6). وقدْ رأيتُ تقسيمَ ما ينفردُ بهِ الثقةُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ (¬7): ¬
أحدُها: أنْ يَقَعَ مخالِفاً منافياً لِمَا رواهُ سائرُ الثقاتِ، فهذا حكمُهُ الرَّدُّ كما سبَقَ في نوعِ الشاذِّ. الثاني: أنْ لا يكونَ (¬1) فيهِ منافاةٌ ومخالفةٌ أصلاً لِمَا رواهُ غيرُهُ كالحديثِ الذي تفرَّدَ بروايةِ جملتِهِ ثقةٌ، ولا تَعَرُّضَ فيهِ لِمَا رواهُ الغيرُ بمخالفةٍ أصلاً، فهذا مقبولٌ، وقدِ ادَّعَى الخطيبُ (¬2) فيهِ اتِّفاقَ العلماءِ عليهِ وسَبَقَ مثالُهُ في نوعِ الشاذِّ. الثالثُ: ما يقعُ بينَ هاتينِ المرتبتينِ، مثلُ زيادةِ لفظةٍ في حديثٍ لَمْ يَذكرْها سائرُ مَنْ رَوَى ذلكَ الحديثَ. مثالُهُ: ما رواهُ مالكٌ (¬3)، عَنْ نافعٍ، عَنِ ابنِ عُمرَ: ((أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَضَ زَكاةَ الفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ على كُلِّ حُرٍّ أو عَبْدٍ، ذَكَرٍ أو أنثَى مِنَ المسلمينَ)). فذَكَرَ أبو عيسى الترمذيُّ (¬4) أنَّ مالكاً تفَرَّدَ مِنْ بينِ الثِّقاتِ بزيادةِ قولِهِ: ((مِنَ المسلمينَ)). وَرَوَى عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وأيوبُ، وغيرُهُما هذا الحديثَ، عَنْ نافعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ دونَ هذهِ الزيادةِ (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فأخذَ بها غيرُ واحِدٍ مِنَ الأئمَّةِ واحتجُّوا بها، منهم: الشافعيُّ وأحمدُ - رضي الله عنهم -، واللهُ أعلمُ. ومِنْ أمْثِلَةِ ذلكَ: حديثُ: ((جُعِلَتْ لَنا (¬1) الأرضُ مَسجِداً وجُعِلَتْ تُربَتُها لنا طَهُوراً)). فهذهِ الزيادةُ تفَرَّدَ بها أبو مالكٍ سعدُ بنُ طارقٍ الأشجعيُّ (¬2). وسائرُ الرواياتِ لَفظُهَا: ((وجُعِلَتْ لنا الأرضُ مَسْجِداً وطَهُوراً)) (¬3). فهذا وما أشبَهَهُ يُشْبِهُ القسمَ الأوَّلَ ¬
النوع السابع عشر معرفة الأفراد
مِنْ حيثُ إنَّ ما رواهُ الجماعةُ عامٌّ، وما رواهُ المنفردُ بالزيادةِ مخصوصٌ، وفي ذلكَ مغايرةٌ في الصفةِ ونوعٌ مِنَ المخالفةِ يختَلِفُ بها الحكمُ. ويُشْبِهُ أيضاً القسمَ الثاني مِنْ حيثُ إنَّهُ لا منافاةَ بينَهُما. وأمَّا زيادةُ الوصلِ معَ الإرسالِ، فإنَّ بينَ الوصلِ والإرسالِ مِنَ المخالفةِ نحوَ ما ذكرناهُ، ويزدادُ ذلكَ بأنَّ الإرسالَ نوعُ قَدْحٍ في الحديثِ، فترجيحُهُ وتقديمُهُ مِنْ قَبيلِ تقديمِ الجرحِ على التعديلِ، ويجابُ عنهُ: بأنَّ الجرحَ قُدِّمَ لِمَا فيهِ مِنَ زيادةِ العِلْمِ، والزيادةُ هاهنا معَ مَنْ وَصَلَ، واللهُ أعلمُ (¬1). النَّوْعُ السَّابِعَ عَشَر مَعْرِفَةُ الأَفْرَادِ (¬2) ¬
وقدْ سَبَقَ بيانُ المهمِّ مِنْ هذا النوعِ في الأنواعِ التي تليهِ قبلَهُ، لكنْ أفردتُهُ بترجمةٍ كما أفردَهُ الحاكمُ أبو عبد الله (¬1)، ولما بَقِيَ منهُ. فنقولُ: الأفرادُ منقسمةٌ إلى ما هوَ فَرْدٌ مطلقاً، وإلى ما هوَ فَرْدٌ بالنِّسْبَةِ (¬2) إلى جهةِ خاصَّةٍ (¬3). أمَّا الأوَّلُ: فهوَ ما ينفرِدُ بهِ واحدٌ عَنْ كلِّ أحدٍ، وقدْ سبقتْ (¬4) أقسامُهُ وأحكامُهُ قريباً. ¬
وأمَّا الثاني: وهوَ ما هوَ فَرْدٌ بالنسبةِ، فمثلُ ما ينفردُ بهِ ثقةٌ عَنْ كلِّ ثقةٍ (¬1)، وحكمُهُ قريبٌ مِنْ حكمِ القسمِ الأوَّلِ، ومثلُ ما يقالُ فيهِ: ((هذا حديثٌ تفرَّدَ بهِ أهلُ مكَّةَ (¬2)، أو تفرَّدَ بهِ أهلُ الشامِ (¬3)، أو أهلُ الكوفةِ (¬4)، أو أهلُ خُراسانَ (¬5) عَنْ غيرِهِم، أو لَمْ يروِهِ عَنْ فلانٍ غيرُ فلانٍ (¬6)، وإنْ كانَ مرويّاً مِنْ وجوهٍ عنْ غيرِ فلانٍ، أو تفرَّدَ بهِ ¬
النوع الثامن عشر معرفة الحديث المعلل
البصريونَ عَنِ المدنيِّينَ (¬1)، الخُرَاسانيُّونَ عَنِ المكِّيِّينَ)) (¬2)، وما أشبَهَ ذلكَ. ولسْنا نُطَوِّلُ بأمثلةِ ذلكَ فإنَّهُ مفهومٌ دونَها. وليسَ في شيءٍ مِنْ هذا ما يقتضي الحكمَ بضَعْفِ الحديثِ إلاَّ أنْ يُطلِقَ قائلٌ قولَهُ: ((تفرَّدَ بهِ أهلُ مكَّةَ، أو تفرَّدَ بهِ البصريونَ عَنِ المدنيِّينَ))، أو نحوَ ذلكَ، على ما لَمْ يروِهِ إلاَّ واحدٌ مِنْ أهلِ مكَّةَ أو واحدٌ مِنَ البصريِّينَ ونحوُهُ، ويُضيفُهُ إليهم كما يُضافُ فعلُ الواحدِ مِنَ القبيلةِ إليها مَجَازاً، وقد فَعَلَ الحاكمُ (¬3) أبو عبدِ اللهِ هذا فيما نحنُ فيهِ، فيكونُ الحكمُ فيهِ على ما سَبَقَ في القسمِ الأوَّلِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ مَعْرِفَةُ الْحَدِيْثِ الْمُعَلَّلِ (¬4) ويُسَمِّيهِ أهلُ الحديثِ (¬5): ((المعلولَ))، وذلكَ منهم ومِنَ الفقهاءِ في قولِهِم في بابِ القياسِ: ((العلَّةُ والمعلولُ))، مرذولٌ عندَ أهلِ العربيةِ واللُّغَةِ (¬6). ¬
اعْلَمْ أنَّ معرفةَ علَلِ الحديثِ مِنْ أجلِّ علومِ الحديثِ وأدقِّها وأشرفِها، وإنَّما يَضْطَلِعُ (¬1) بذلكَ أهلُ الحِفْظِ والخِبْرَةِ والفَهْمِ الثَّاقِبِ (¬2)، وهي عبارةٌ عَنْ أسبابٍ خفيَّةٍ غامِضَةٍ (¬3) قادِحَةٍ فيهِ. فالحديثُ المعلَّلُ: هو الحديثُ الذي اطُّلِعَ فيهِ على عِلَّةٍ تَقدَحُ في صحَّتِهِ مَعَ أنَّ ظاهِرَهُ السلامةُ منها (¬4). ويتطرَّقُ ذلكَ إلى الإسنادِ الذي رجالُهُ ثقاتٌ، الجامعِ شروطَ الصِّحَّةِ مِنْ حيثُ الظاهِرُ. ويُسْتَعانُ على إدراكِها بتَفَرُّدِ الراوي، وبمخالفةِ غيرِهِ لهُ، معَ قرائِنَ (¬5) تنضَمُّ إلى ¬
ذلكَ تُنَبِّهُ العارفَ بهذا الشأنِ على إرسالٍ في الموصولِ، أو وَقْفٍ في المرفوعِ، أو دُخُولِ حديثٍ في حديثٍ، أو وَهَمِ واهِمٍ بغيرِ ذلكَ بحيثُ يَغْلِبُ على ظنِّهِ ذلكَ، فيَحْكُمُ بهِ أو يتردَّدُ فيَتَوَقَّفُ فيهِ، وكلُّ ذلكَ مانعٌ مِنَ الحكمِ بصحَّةِ ما وُجِدَ ذلكَ فيهِ. وكثيراً ما يُعَلِّلُونَ الموصولَ بالمرسلِ، مثلُ أنْ يجيءَ الحديثُ بإسنادٍ موصولٍ، ويجيءَ أيضاً بإسنادٍ منقطِعٍ أقوى مِنْ إسنادِ الموصولِ (¬1)، ولهذا اشتَمَلَتْ كُتُبُ عِلَلِ الحديثِ على جَمْعِ (¬2) طُرُقِهِ. قالَ الخطيبُ أبو بكرٍ: ((السبيلُ إلى معرفةِ عِلَّةِ الحديثِ: أنْ يُجْمَعَ بينَ طُرُقِهِ، ويُنْظَرَ في اختلافِ رُوَاتِهِ، ويُعْتَبَرَ بمكانِهِمْ (¬3) مِنَ الحِفْظِ، ومنزلتِهِم في الإتقانِ والضبطِ)) (¬4)، ورُوِيَ عَنْ عليِّ بنِ المدينيِّ قالَ: ((البابُ إذا لَمْ تُجْمَعْ (¬5) طرقُهُ لَمْ يُتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ)) (¬6). ثُمَّ قدْ تقعُ العِلَّةُ في إسنادِ الحديثِ - وهو الأكثرُ -، وقدْ تقعُ في متنِهِ (¬7)، ثُمَّ ما يقعُ في الإسنادِ قدْ يقدحُ في صحَّةِ الإسنادِ والمتنِ جميعاً، كما في التعليلِ بالإرسالِ والوقْفِ، وقدْ يَقدحُ في صِحَّةِ الإسنادِ خاصَّةً من غيرِ قَدْحٍ في صِحَّةِ المتنِ. ¬
فَمِنْ أمثلةِ ما وقَعَتِ العِلَّةُ في إسنادِهِ مِنْ غيرِ قَدْحٍ في المتنِ: ما رواهُ الثِّقَةُ يَعْلَى ابنُ عُبَيْدٍ (¬1)، عَنْ سُفيانَ الثوريِّ، عَنْ عمرِو بنِ دينارٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((البَيِّعَانِ بالخِيارِ ... الحديثَ)). فهذا إسنادٌ متَّصِلٌ بنقلِ العدلِ عَنِ العدْلِ، وهوَ مُعلَّلٌ غيرُ صحيحٍ، والمتنُ على كلِّ حالٍ صحيحٌ، والعلَّةُ في قولِهِ: ((عَنْ عمرِو بنِ دينارٍ)) إنَّما هوَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عنِ ابنِ عُمرَ، هكذا رواهُ الأئمَّةُ مِنْ أصحابِ سفيانَ عنهُ (¬2)، فوَهِمَ يَعلى بنُ عُبيدٍ (¬3)، وعَدَلَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ إلى عَمْرِو بنِ دينارٍ، وكلاهُما ثِقَةٌ (¬4). ¬
ومثالُ العلَّةِ في المتنِ: ما انْفَرَدَ مسلمٌ (¬1) بإخراجِهِ في حديثِ أنسٍ مِنَ اللَّفظِ المصرَّحِ بنفي قراءَةِ: ((بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ)) فعلَّلَ قومٌ (¬2) روايةَ اللفظِ المذكورِ لَمَّا رأوا الأكثرينَ إنَّما قالوا فيهِ: ((فكانوا يَسْتَفْتِحونَ القراءةَ بـ: ((الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ)) مِنْ غيرِ تعرُّضٍ لذكرِ البسمَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي اتَّفَقَ البخاريُّ (¬3) ومسلمٌ (¬4) عَلَى إخراجِهِ في الصحيحِ، ورأوا أنَّ مَنْ رواهُ باللَّفظِ المذكورِ، رواهُ بالمعنى الَّذِي وقَعَ لهُ، فَفَهِمَ مِنْ قولِهِ: ((كانوا يَستفتحونَ بـ: ((الحمدُ للهِ)) (¬5)، أنَّهُم كانوا لا يُبَسْمِلُونَ، فرَوَاهُ على ما فَهِمَ، وأخطأَ؛ لأنَّ معناهُ أنَّ السورةَ التي كانوا يفتتحونَ بها مِنَ السُّورِ هيَ الفاتحةُ، وليسَ فيهِ تعرُّضٌ لذكرِ التسميةِ. وانضمَّ إلى ذلكَ أمورٌ (¬6)، منها: أنَّهُ ثَبَتَ عَنْ أنسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الافتتاحِ بالتسميةِ، فذَكَرَ أنَّهُ لا يَحفظُ فيهِ شيئاً عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ اعلمْ أنَّهُ قدْ يُطلقُ اسمُ العِلَّةِ على غيرِ ما ذكرناهُ من باقي الأسبابِ القادحةِ في الحديثِ الْمُخرِجةِ لهُ مِنْ حالِ الصِّحَّةِ إلى حالِ الضَّعْفِ، المانعةِ مِنَ العملِ بهِ، على ما ¬
هو مُقتضى لفظِ العِلَّةِ في الأصلِ (¬1)، ولذلكَ (¬2) تجدُ (¬3) في كتبِ عللِ الحديثِ الكثيرَ مِنَ الجرحِ بالكذبِ، والغفلَةِ، وسوءِ الحفظِ، ونحو ذلكَ مِنْ أنواعِ الجرحِ. وسمَّى الترمذيُّ النَّسْخَ عِلَّةً مِنْ عِللِ الحديثِ (¬4). ثُمَّ إنَّ بعضَهُمْ (¬5) أطلقَ اسمَ العِلَّةِ على ما ليسَ بقادِحٍ مِنْ وجوهِ الخلافِ، نحوُ إرسالِ مَنْ أرسلَ الحديثَ الذي أسندهُ الثقةُ الضابطُ، حتَّى قالَ: ((مِنْ أقسامِ الصحيحِ ما هوَ صحيحٌ معلولٌ)) (¬6)، كما قالَ بعضُهُم: ((مِنَ الصحيحِ ما هوَ صحيحٌ شاذٌّ)) (¬7)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع التاسع عشر معرفة المضطرب من الحديث
النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ مَعْرِفَةُ الْمُضْطَرِبِ مِنَ الْحَدِيْثِ (¬1) الْمُضْطَرِبُ (¬2) مِنَ الحديثِ: هوَ الذي تَخْتَلِفُ الروايَةُ فيهِ، فَيَرْوِيْهِ بَعْضُهُم عَلَى وَجْهٍ، وبَعْضُهُم على وَجْهٍ آخرَ مخَالِفٍ لَهُ (¬3). وإنَّمَا نُسَمِّيْهِ مُضْطَرِباً إذا تَسَاوَتِ الروايتَانِ (¬4)، أمَّا إذا تَرَجَّحَتْ إحْدَاهُما بحيثُ لاَ تُقَاوِمُها الأخرَى، بأنْ يكونَ رَاوِيْها أحْفَظَ، أوْ أكْثَرَ صُحْبَةً للمَروِيِّ عنهُ، أو غيرَ ذلكَ مِنْ وجوهِ التَّرْجِيحاتِ المعتَمَدَةِ، فالحكمُ للراجِحَةِ، ولاَ يُطْلَقُ عليهِ حينَئِذٍ وَصْفُ المضْطَرِبِ، ولاَ لَهُ حُكْمُهُ. ¬
ثُمَّ قَدْ يَقَعُ الاضطرابُ في مَتْنِ الحديثِ، وقَدْ يقعُ في الإسنادِ، وقدْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ رَاوٍ واحِدٍ، وقدْ يَقَعُ بَيْنَ رُوَاةٍ لَهُ جَمَاعَةٌ (¬1). والاضطرابُ مُوجِبٌ ضَعْفَ الحديثِ؛ لإشعارِهِ بأنَّهُ لَمْ يُضْبَطْ، واللهُ أعلمُ. وَمِنْ أمْثِلَتِهِ: ما رُوِّيْنَاهُ عَنْ إسْمَاعيلَ بنِ أُمَيَّةَ، عنْ أبي عَمْرِو بنِ محَمَّدِ بنِ حُرَيْثٍ، عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثٍ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الْمُصَلِّي: ((إذَا لَمْ يَجِدْ عَصًا يَنْصِبُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَخُطَّ خَطّاً)). فَرَواهُ بِشْرُ بنُ الْمُفَضَّلِ (¬2)، ورَوْحُ بنُ القَاسِمِ (¬3)، عَنْ إسْماعيلَ هَكَذا. ورَوَاهُ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ (¬4) عنهُ، عَنْ أبي عَمْرِو بنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ. ورَوَاهُ حُمَيْدُ بنُ الأسْوَدِ (¬5)، عَنْ إسْمَاعيلَ، عَنْ أبي عَمْرِو بنِ محمدِ بنِ حُرَيْثِ بنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ. ورَوَاهُ وُهَيْبٌ (¬6) وعَبْدُ الوارِثِ (¬7)، عَنْ إسْمَاعيلَ، عَنْ أبي عَمرِو بنِ حُرَيْثٍ، عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثٍ. وقَالَ عبدُ الرَّزَّاقِ (¬8)، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ: سَمِعَ إسْمَاعِيلَ، عَنْ حُرَيْثِ بنِ عَمَّارٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ. وفيهِ مِنَ الاضطرابِ أكْثَرُ مَا ذَكَرْناهُ (¬9)، واللهُ أعلم. ¬
النوع العشرون معرفة المدرج في الحديث
النَّوْعُ العِشْرُوْنَ (¬1) مَعْرِفَةُ الْمُدْرَجِ (¬2) في الْحَدِيْثِ ¬
وَهوَ أقْسَامٌ: مِنْها ما أُدْرِجَ في حديثِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَلاَمِ بَعْضِ رواتِهِ بأنْ يَذْكُرَ الصَّحَابيُّ أو مَنْ بَعْدَهُ عَقِيْبَ ما يَرْوِيهِ مِنَ الحديثِ كلاَماً مِنْ عِندِ نفسِهِ، فيَرْوِيهِ مَنْ بَعدَهُ موصولاً بالحديثِ غيرَ فاصِلٍ بينهُما بذِكْرِ قائِلِهِ، فيلتَبِسُ الأمرُ فيهِ على مَنْ لاَ يَعْلَمُ حقيقةَ الحالِ، ويَتَوَهَّمُ أنَّ الجميعَ عن رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومِنْ (¬2) أمثلَتِهِ المشهورَةِ: مَا رُوِّيْنَاهُ في التَّشَهُّدِ عَنْ أبي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بنِ معاويةَ عَنِ الحسَنِ بنِ الْحُرِّ، عَنِ القاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ (¬3) عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ؛ أنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ في الصلاةِ فقالَ: ((قُل: التَّحِيَّاتُ للهِ ... فَذَكَرَ التَّشَهُّدَ، وفي آخِرِهِ: أشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ فإذا قُلْتَ هذا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ، إنْ شِئْتَ أنْ تقُومَ فَقُمْ، وإنْ شِئْتَ أنْ تَقْعُدَ فاقْعُدْ)) (¬4). هَكَذَا رَواهُ أبو خَيْثَمَةَ، عَنِ الحسَنِ بنِ الْحُرِّ، فأدْرَجَ في الحديثِ قَوْلَهُ: ((فَإِذَا قلتَ هَذَا ... إلى آخرِهِ))، وإنَّما هَذَا مِنْ كَلاَمِ ابنِ مَسْعودٍ لاَ مِنْ كلاَمِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ومِنَ الدليلِ عليهِ أنَّ الثِّقةَ الزَّاهِدَ (¬6) عبدَ الرَّحْمَانِ بنَ ثابِتِ ثوبَانَ، رواهُ عَنْ ¬
راوِيْهِ (¬1) الحسَنِ بنِ الْحُرِّ كَذَلِكَ (¬2)، واتَّفَقَ حُسَيْنٌ الْجُعْفيُّ (¬3) وابنُ عَجْلاَنَ (¬4) وغَيْرُهُما (¬5) في روايَتِهِم عَنِ الحسَنِ بنِ الحرِّ على تَرْكِ ذِكْرِ هذا الكَلامِ في آخِرِ الحديثِ ¬
مَعَ اتِّفَاقِ كُلِّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّدَ عَنْ عَلْقَمَةَ، وعَنْ غَيْرِهِ، عَنِ ابنِ مسعودٍ على ذلكَ، وروَاهُ شَبَابَةُ، عَنْ أبي خَيْثَمَةَ ففَصَلَهُ أيضاً (¬1). ومِنْ أقْسَامِ المدرَجِ: أنْ يكونَ مَتْنُ الحديثِ عِنْدَ الراوي لَهُ (¬2) بإسْنادٍ إلاَّ طَرَفاً منهُ، فإنَّهُ عِنْدَهُ بإسنادٍ ثانٍ، فَيُدْرِجُهُ مَنْ رَواهُ عنهُ على الإسنادِ الأوَّلِ ويَحْذفُ الإسْنَادَ الثَّانيَ، ويروِي جميعَهُ بالإسْنَادِ الأوَّلِ. مِثَالُهُ: ((حديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ (¬3) وزائِدَةَ بنِ قُدَامَةَ (¬4) عَنْ عَاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ وائِلِ بنِ حُجْرٍ في صِفَةِ صَلاَةِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفي آخِرِهِ: ((أنَّهُ جَاءَ في الشِّتَاءِ، فَرَآهُمْ يَرْفَعُونَ أيْدِيَهُمْ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ))، والصَّوابُ: روايةُ مَنْ رَوَى عَنْ عاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ بِهَذَا الإسْنَادِ صِفَةَ الصَّلاَةِ خاصَّةً، وفَصَلَ ذِكْرَ رَفْعَ الأيدي عنهُ، فرواهُ عَنْ عاصِمٍ، عَنْ عبدِ الجبَّارِ بنِ وائلٍ، عَنْ بعضِ أهلِهِ، عَنْ وائلِ بنِ حُجْرٍ (¬5). ومِنْهَا: أنْ يُدْرِجَ في مَتْنِ حديثٍ بَعْضَ مَتْنِ حديثٍ آخَرَ مُخَالِفٍ للأوَّلِ في الإسْنَادِ. ¬
مِثَالُهُ: روايَةُ سَعِيْدِ بنِ أبي مَرْيمَ (¬1)، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أنَسٍ: أنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لاَ تَبَاغَضُوا، ولاَ تَحَاسَدُوا، ولاَ تَدَابَرُوا، ولاَ تَنَافَسُوا ... الحديثَ)). فَقَولُهُ: ((لا (¬2) تَنَافَسُوا)) أدْرَجَهُ ابنُ أبي مَريمَ (¬3) مِنْ مَتْنِ حديثٍ آخَرَ رَواهُ مَالِكٌ (¬4)، عَنْ أبي الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ فيهِ: ((لاَ تَجَسَّسُوا، ولاَ تَحَسَّسُوا، ولاَ تَنَافَسُوا، ولاَ تَحَاسَدُوا)) (¬5)، واللهُ أعلمُ. ¬
ومِنْهَا: أنْ يَرْوِيَ الراوي حَدِيثاً عَنْ جَمَاعَةٍ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفٌ في إسْنَادِهِ، فَلاَ (¬1) يَذْكُرُ الاخْتِلاَفَ بَلْ يُدْرِجُ روَايَتَهُمْ عَلَى الاتِّفَاقِ. مِثَالُهُ: روَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بنِ مَهْديٍّ (¬2) ومُحَمَّدِ بنِ كَثيرٍ العَبْدِيِّ (¬3)، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ والأعْمَشِ ووَاصِلٍ الأحْدَبِ، عَنْ أبي وائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيْلَ، عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ، قلتُ: ((يَا رَسُوْلَ اللهِ أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ ... الحديثَ)). ووَاصِلٌ إنَّمَا رَوَاهُ، عَنْ أبي وائِلٍ، عَنْ عبدِ اللهِ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيْلَ بينَهُما (¬4)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الحادي والعشرون معرفة الموضوع
واعْلَمْ أنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَعَمُّدُ شيءٍ مِنَ الإدْرَاجِ المذكورِ. وهَذَا النَّوْعُ قَدْ صَنَّفَ فيهِ الخطيبُ أبو بَكرٍ كِتَابَهُ الموسُومَ بـ" الفَصْلِ للوَصْلِ الْمُدرَجِ في النَّقْلِ " فَشَفَى وَكَفَى (¬1)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الْحَادِي والعِشْرُوْنَ مَعْرِفَةُ الْمَوْضُوْعِ (¬2) ¬
وَهوَ الْمُخْتَلَقُ الْمَصْنُوعُ. اعْلَمْ أنَّ الحديثَ الْمَوْضُوْعَ شَرُّ الأحاديثِ الضَّعِيْفَةِ (¬1)، ولاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ لأحَدٍ عَلِمَ حَالَهُ في أيِّ معنًى كَانَ إلاَّ مَقْرُوناً ببيَانِ وَضْعِهِ (¬2)، بخِلاَفِ ¬
غَيْرِه مِنَ الأحاديثِ الضَّعِيْفَةِ التي يُحتَمل صِدقُها في الباطِنِ (¬1)، حيثُ جَازَ روَايَتُها في الترغيبِ والترهيبِ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ قريباً إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وإنَّما يُعْرَفُ كَوْنُ الحدِيْثِ مَوضُوعاً بإقْرَارِ وَاضِعِهِ (¬2)، أو مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إقْرَارِهِ (¬3)، ¬
وقدْ يَفْهَمُونَ الوَضْعَ مِنْ قَريْنَةِ حَالِ الراوي (¬1) أو الْمَرويِّ (¬2)، فقدْ (¬3) وُضِعَتْ أحَاديثُ طويلَةٌ يَشْهَدُ بوضْعِهَا رَكَاكَةُ ألفَاظِهَا ومَعَانِيها (¬4). ¬
ولَقَدْ أكثرَ الذي جَمَعَ في هذا العصْرِ ((الموْضُوعاتِ)) في نحوِ مُجَلَّدَيْنِ، فأَوْدَعَ فِيْهَا كَثِيراً مِمَّا لاَ دلِيْلَ عَلَى وَضْعِهِ (¬1)، وإنَّمَا حَقُّهُ أنْ يُذْكَرَ في مُطلَقِ الأحَاديثِ الضَّعِيْفَةِ. والواضِعُونَ للحدِيْثِ أصْنَافٌ (¬2)، وأعْظَمُهُم ضَرَراً: قومٌ مِنَ المنْسُوبِيْنَ إلى الزُّهْدِ وَضَعُوا الحديثَ احْتِسَاباً فيما زَعَمُوا فتَقَبَّلَ (¬3) النَّاسُ موضُوعَاتِهِم ثِقَةً منْهُم بِهِمْ ورُكُوناً إليهِم (¬4). ثُمَّ نَهَضَتْ جَهَابِذَةُ (¬5) الحديثِ بِكَشْفِ عُوَارِهَا (¬6)، ومَحْوِ عَارِهَا، والحمْدُ للهِ. وفِيْما رُوِّيْنَا عَنِ الإمَامِ أبي بَكْرٍ السَّمْعَانِيِّ (¬7) أنَّ بَعْضَ ¬
الكَرَّامِيَّةِ (¬1) ذَهَبَ إلى جوَازِ وَضْعِ الحديثِ في بابِ التَّرغِيْبِ والتَّرهِيْبِ (¬2).
ثُمَّ إنَّ الوَاضِعَ رُبَّمَا صَنَعَ (¬1) كَلاَماً مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فَرَوَاهُ، ورُبَّمَا أخَذَ كَلاَماً لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ أو غيرِهِمْ فَوَضَعَهُ على رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ورُبَّمَا غَلِطَ غَالِطٌ فَوَقَعَ في شِبْهِ الوَضْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ كما وقَعَ لثَابِتِ بنِ موسَى الزَّاهِدِ في حديثِ: ((مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ باللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهَارِ)) (¬3). ¬
مِثَالٌ: ((رُوِّيْنَا عَنْ أبي عِصْمَةَ وهوَ: نُوْحُ بنُ أبي مَرْيمَ (¬1) أنَّهُ قِيْلَ لَهُ: ((مِنْ أيْنَ لَكَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، في فَضَائِلِ القُرْآنِ سُورَةً سُوْرَةً؟))، فقالَ: ((إنِّي رَأيْتُ النَّاسَ قَدْ أعْرَضُوا عَنِ القُرْآنِ واشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أبي حَنِيْفَةَ، ومَغَازِي مُحَمَّدِ بنِ إسْحَاقَ، فَوَضَعْتُ هذهِ الأحَادِيْثَ حِسْبَةً)) (¬2). وهكذا حَالُ الحديثِ الطَّويلِ الذي يُرْوَى عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في فَضْلِ القُرْآنِ سُوْرَةً فَسُوْرَةً، بحثَ باحِثٌ (¬3) عَنْ مَخْرَجِهِ حَتَّى انتَهَى إلى مَنِ اعترَفَ بأنَّهُ وجماعةً وضَعُوْهُ، وإنَّ أثَرَ الوَضْعِ لَبَيِّنٌ عليهِ. ولَقَدْ أخطأَ الواحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ ومَنْ ذكَرَهُ مِنَ المفسِّرِيْنَ في إيدَاعِهِ تَفَاسِيْرَهُمْ (¬4)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثاني والعشرون معرفة المقلوب
النَّوْعُ الثَّانِي والعِشْرُوْنَ مَعْرِفَةُ الْمَقْلُوْبِ (¬1) هُوَ نَحْوُ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ عَنْ سَالِمٍ، جُعِلَ عَنْ نَافِعٍ (¬2) ليَصِيْرَ بذلكَ غَرِيباً مَرْغُوباً فيهِ (¬3). وكذلكَ ما رُوِّيْنَا (¬4) أنَّ البخاريَّ - رضي الله عنه - قَدِمَ بَغْدَادَ، فاجْتَمَعَ قَبْلَ مَجْلِسِهِ قومٌ مِنْ أصْحَابِ الحديثِ، وعمدُوا إلى مئةِ حديثٍ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا وأسَانِيْدَهَا، وجَعَلُوا مَتْنَ هَذا الإسنادِ لإسنادٍ آخَرَ، وإسنادَ هذا المتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، ثُمَّ حَضَرُوا مَجْلِسَهُ وألْقَوْهَا عليهِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ إلْقَاءِ تِلْكَ الأحادِيْثِ المقلوبَةِ التفَتَ إليْهِمْ فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إلى إسْنَادِهِ، وكُلَّ إسْنَادٍ إلى مَتْنِهِ، فأَذْعنُوا لَهُ بالفَضْلِ (¬5). ¬
ومِنْ أمْثِلَتِهِ -ويصلحُ مثالاً للمُعَلَّلِ (¬1) - ما رُوِّيْنَاهُ عَنْ إسْحَاقَ بنِ عِيْسَى الطَّبَّاعِ، قالَ: حَدَّثَنَا جَرِيْرُ بنُ حازِمٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ فلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرونِي)) (¬2)، قالَ إسْحَاقُ بنُ عِيْسَى: فَأَتَيْتُ حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الحديثِ، فقالَ: وَهِمَ أبو النَّضْرِ إنَّمَا كُنَّا جَمِيْعاً في مَجْلِسِ ثابتٍ البُنَانِيِّ (¬3)، وحَجَّاجُ بنُ أبي عُثْمَانَ مَعَنَا، فَحَدَّثَنا حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، عَنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أبي قَتَادَةَ، عَنْ أبيهِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: ((إذا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ فلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرونِي)) (¬4). فَظَنَّ أبو النَّضْرِ أنَّهُ فيما حَدَّثَنا ثابِتٌ، عَنْ أنسٍ (¬5). أبو (¬6) النَّضْرِ: هُوَ جَرِيْرُ بنُ حازِمٍ (¬7)، واللهُ أعلمُ. ¬
فصل
فَصْلٌ قَدْ وَفَّيْنَا بِمَا سَبَقَ الوَعْدُ بشَرْحِهِ مِنَ الأنْوَاعِ الضَّعِيْفَةِ (¬1)، والحمدُ للهِ، فَلْنُنَبِّهَ الآنَ عَلَى أُمُورٍ مُهِمَّةٍ: أحَدُهَا: إذا رأيْتَ حَدِيْثاً بإسْنَادٍ ضَعِيْفٍ، فَلَكَ أنْ تَقُولَ: هَذَا ضَعِيْفٌ، وتَعْنِي أنَّهُ بذَلِكَ الإسْنَادِ ضعِيْفٌ، ولَيْسَ لَكَ أنْ تَقُولَ: هَذَا ضَعيفٌ، وتَعْني بهِ ضَعْفَ مَتْنِ الحديثِ، بناءً عَلَى مُجَرَّدِ ضَعْفِ ذلكَ الإسنَادِ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَرْوِيّاً بإسْنَادٍ آخَرَ صَحِيْحٍ يَثْبُتُ بمثْلِهِ الحديثُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ إمَامٍ مِنَ أئِمَّةِ الحديثِ بأنَّهُ لَمْ يُرْوَ بإسْنَادٍ يثبْتُ بهِ (¬2)، أو بأنَّهُ حديثٌ ضَعِيْفٌ، أو نَحْوِ هَذَا، مُفَسِّراً وَجْهَ القَدْحِ فيهِ (¬3). فإنْ أطْلَقَ وَلَمْ يُفَسِّرْ، فَفِيْهِ كَلاَمٌ يأتِي - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى (¬4) -، فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإنَّهُ مِمَّا يُغْلَطُ فيهِ، واللهُ أعلمُ. الثَّاني: يَجوزُ عِندَ أهلِ الحديثِ وغَيرِهِمُ التَّسَاهُلُ في الأسَانِيْدِ ورِوَايَةُ مَا سِوَى الموضوعِ مِنْ أنواعِ الأحاديثِ الضَّعِيْفَةِ مِنْ غَيْرِ اهْتِمَامٍ بِبَيَانِ ضَعْفِهَا فِيْمَا سِوَى صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وأحْكَامِ الشَّرِيْعَةِ مِنَ الحلاَلِ والحرَامِ وغَيْرِهُما. وَذَلِكَ كَالْمَوَاعِظِ، والقَصَصِ، وفَضَائِلِ الأعْمَالِ، وسَائِرِ فُنُونِ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيْبِ، وسَائِرِ مَا لاَ تَعَلُّقَ لهُ بالأحْكَامِ ¬
والعَقَائِدِ (¬1). ومِمَّنْ رُوِّيْنَا عَنْهُ التَّنْصِيْصُ عَلَى التَّسَاهُلِ في نَحْوِ ذَلِكَ: عَبْدُ الرَّحْمَانِ بنُ مَهْدِيٍّ (¬2)، وأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ (¬3) - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (¬4) -. الثَّالِثُ: إذا أردْتَ رِوَايةَ الحديثِ الضعيفِ بغَيْرِ إسْنادٍ فَلاَ تَقُلْ فيهِ: ((قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذا وكَذا))، وما أشْبَهَ هَذا مِنَ الألفَاظِ الجازِمةِ بأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ (¬5)، وإنَّمَا تَقُولُ (¬6) فيهِ: ((رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَا وكَذَا، أوْ بَلَغَنا عَنْهُ كَذا وكَذا، أوْ وَرَدَ عَنهُ، أوْ جَاءَ عَنهُ، أوْ رَوَى بَعْضُهُمْ))، ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ (¬7). وهَكَذا الْحُكْمُ فيما تَشُكُّ في صِحَّتِهِ وضَعْفِهِ (¬8)، وإنَّمَا تَقُولُ: ((قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، فيما ظَهَرَ لَكَ صِحَّتُهُ بطريقِهِ الذي أوْضَحْنَاهُ أوَّلاً (¬9)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثالث والعشرون معرفة صفة من تقبل روايته، ومن ترد
النَّوْعُ الثَّالِثُ والعِشْرُونَ مَعْرِفَةُ صِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، ومَنْ تُرَدُّ رِوَايَتُهُ ومَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ قَدْحٍ وَجَرْحٍ وَتَوْثِيْقٍ وتَعْدِيْلٍ (¬1) أجْمَعَ جمَاهِيرُ أئِمَّةِ الحديثِ والفِقْهِ علَى أنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيْمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايتِهِ أنْ يَكُونَ عَدْلاً ضَابِطاً لِمَا يَرْوِيهِ. وتَفْصِيْلُهُ: - أنْ يَكُونَ مُسْلِماً. - بَالِغاً. - عَاقِلاً. - سَالِماً مِنْ أسْبَابِ الفِسْقِ وَخَوَارِمِ المرُوْءةِ (¬2). - مُتَيَقِّظاً غَيْرَ مُغَفَّلٍ. - حَافِظاً إنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ. - ضَابِطاً لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ. - وإنْ كَانْ يُحَدِّثُ بالمعنَى اشْتُرِطَ فيهِ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُوْنَ عَالِماً بِمَا يُحِيْلُ المعَاني واللهُ أعلَمُ. ونُوضِحُ (¬3) هذِهِ الجمْلَةَ بمسَائِلَ: ¬
إحْدَاهَا (¬1): عَدَالَةُ الرَّاوي تَارةً تَثْبُتُ بتَنصِيْصِ مُعدِّلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ، وتَارَةً تَثْبُتُ بالاسْتِفَاضَةِ (¬2)، فَمَنِ اشْتَهَرتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أهلِ النَّقْلِ أو نَحْوِهِم مِنْ أهلِ العِلْمِ وشَاعَ الثَّنَاء عليهِ بالثِّقَةِ والأمانةِ اسْتُغْنِيَ فيهِ بذلكَ (¬3) عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بعَدَالَتِهِ تَنْصِيْصاً. وهَذَا هُوَ الصحيحُ في مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وعليهِ الاعتمادُ في فَنِّ أصُوْلِ الفِقْهِ. ومِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أهلِ الحديثِ أبو بَكْرٍ الخطيبُ الحافظُ (¬4)، ومَثَّلَ ذَلِكَ بمالِكٍ، وشُعبةَ، والسُّفْيانَيْنِ، والأوْزَاعِيِّ، واللَّيْثِ، وابنِ المبارَكِ، ووكِيعٍ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعِينٍ، وعَلِيِّ بنِ المدِيْنِيِّ، ومَنْ جَرَى مَجْرَاهُم في نَبَاهَةِ الذِّكْرِ واستِقَامَةِ الأمرِ، فَلاَ يُسْألُ عَنْ عَدَالَةِ هَؤُلاَءِ وأمْثَالِهِمْ، وإنَّمَا يُسْألُ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ خَفِيَ أمرُهُ عَلَى الطَّالِبِيْنَ. وتَوَسَّعَ ابنُ عَبْدِ البرِّ الحافِظُ في هذا فقالَ (¬5): ((كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفِ العِنايةِ بهِ، فَهوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ في أمْرِهِ أبَداً عَلَى العَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، لِقَولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُوْلُهُ)) (¬6)، وفيما قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ ¬
مَرْضِيٍّ (¬1)، واللهُ أعلمُ. ¬
الثَّانِيَةُ: يُعْرَفُ كَوْنُ الرَّاوِي ضَابِطاً، بأنْ نَعْتَبرَ (¬1) رِوَاياتِهِ بروَاياتِ الثِّقَاتِ المعْرُوفِيْنَ بالضبْطِ والإتْقانِ، فَإنْ وَجَدْنا رِوَاياتِهِ موافقةً وَلَوْ مِنْ حَيْثُ المعْنَى لِرِوَاياتِهِم أو موافِقَةً لَهَا في الأغْلَبِ والمخالَفَةُ نَادِرَةٌ عَرَفْنا حِيْنَئِذٍ كَوْنَهُ ضَابِطاً ثَبْتاً، وإنْ وَجدْناهُ كثيرَ المخالَفةِ لهم عَرَفْنا اختِلاَلَ ضَبْطِهِ ولَمْ نَحْتَجَّ (¬2) بحديثِهِ (¬3)، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثَةُ: التعديلُ مقبولٌ مِنْ غيرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ على المذهبِ الصحيحِ المشهورِ (¬4)؛ لأنَّ أسْبَابَهُ كَثيرةٌ يَصْعُبُ ذِكْرُها، فَإنَّ ذَلِكَ يُحْوِجُ المعدِّلَ إلى أنْ يقولَ: لَمْ يَفْعَلْ كذا، ولَمْ يَرتكِبْ كَذا، فَعَلَ كَذا وكَذا فيُعَدِّدُ جميعَ ما يفسقُ بفِعلِهِ أو بتَرْكِهِ وذَلِكَ شَاقٌّ جِدّاً (¬5). وأمَّا (¬6) الْجَرْحُ فَإنَّهُ لاَ يُقْبَلُ إلاَّ مُفَسَّراً مبَيَّنَ السَّبَبِ (¬7)؛ لأنَّ الناسَ يَختَلِفُونَ فيما يَجْرَحُ وما لاَ يَجْرَحُ، فيَطلقُ أحدُهُمُ الْجَرْحَ بناءً على أمرٍ اعتَقَدَهُ جَرْحاً ولَيْسَ بجرْحٍ في نفسِ الأمرِ؛ فلاَ بُدَّ مِنْ بِيَانِ سَبِبِهِ لِيُنْظَرَ فيهِ: أهُوَ جَرْحٌ أمْ لاَ؟ وهذا ظاهرٌ مقرّرٌ في الفِقْهِ وأصُولِهِ (¬8). ¬
وذَكَرَ الخطيبُ الحافِظُ (¬1): أنَّهُ مَذْهَبُ الأئِمَّةِ مِنْ حُفَّاظِ الحديْثِ ونُقَّادِهِ، مِثْلَ البخارِيِّ، ومُسْلِمٍ، وغَيْرِهِما؛ ولذلكَ احْتَجَّ البخاريُّ بجماعَةٍ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِ الجرحُ لَهُمْ (¬2)، كَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وكَإسْمَاعِيْلَ بنِ أبي أُوَيْسٍ، وعَاصِمِ بنِ علِيٍّ، وعَمْرِو بنِ مَرْزُوقٍ، وغَيْرِهِمْ. واحْتَجَّ مُسْلِمٌ بسُوَيْدِ بنِ سعيدٍ وجماعةٍ اشْتَهَرَ الطَّعْنُ فيهمْ، وهَكَذا فَعَلَ أبو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ؛ وذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أنَّهُمْ ذَهَبُوا إلى أنَّ الجرحَ لاَ يَثْبُتُ إلاَّ إذَا فُسِّرَ سَبَبُهُ. ومَذَاهِبُ النُّقَّادِ للرِّجَالِ غَامِضَةٌ مُخْتَلِفَةٌ (¬3). وَعَقَدَ الخطيبُ (¬4) باباً في بَعْضِ أخْبَارِ مَنِ اسْتُفْسِرَ في جَرْحِهِ فَذَكَرَ ما لاَ يصلحُ جارِحاً، منها: عَنْ شُعْبَةَ أنَّهُ قِيْلَ لهُ: ((لِمَ تَركْتَ حَدِيْثَ فُلاَنٍ؟))، فقَالَ: ((رأيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذَونٍ (¬5)، فَتَرَكْتُ حَدِيْثَهُ)) (¬6). ومِنْها عَنْ مُسْلِمِ بنِ إبراهيمَ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيْثٍ لِصَالِحِ الْمُرِّيِّ (¬7)، فَقَالَ: مَا يُصْنَعُ (¬8) بصَالِحٍ؟ ذَكروهُ يوماً عِنْدَ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ فامتَخَطَ حَمَّادٌ (¬9)، واللهُ أعلمُ. ¬
قُلْتُ: ولِقَائلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّمَا يَعتمِدُ النَّاسُ في جَرْحِ الرواةِ ورَدِّ حَدِيْثِهِمْ، عَلَى الكُتُبِ التي صَنَّفَها أئِمَّةُ الحديثِ في الجرْحِ، أو في الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ، وقَلَّمَا يَتَعَرَّضُونَ فيها لِبَيَانِ السَّبَبِ، بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ: فُلاَنٌ ضَعِيْفٌ، وفُلاَنٌ لَيْسَ بِشَيءٍ، ونَحْوُ ذلكَ، أو هذا حديثٌ ضَعيفٌ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابتٍ، ونَحْوُ ذلكَ؛ فاشتِرَاطُ بَيَانِ السبَبِ يُفْضِي إلى تَعْطِيْلِ ذَلِكَ، وسَدِّ بابِ الجَرْحِ في الأغْلَبِ الأكْثَرِ. وَجَوابُهُ: أنَّ ذلكَ وإنْ لَمْ نَعْتَمِدْهُ (¬1) في إثباتِ الجرحِ والحكمِ بهِ، فَقَدْ اعْتَمَدْنَاهُ في أنْ توقَّفْنا عَنْ قَبُولِ حديثِ مَنْ قَالُوا فيهِ مِثْلَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أنَّ ذَلِكَ أوقَعَ عِندنا فيهِم رِيْبَةً قويَّةً يُوْجِبُ مِثْلُها التَّوقُّفَ. ثُمَّ مَنِ انْزَاحَتْ عنهُ الرِّيْبَةُ منهُمْ، بِبَحْثٍ عَنْ حَالِهِ أوْجَبَ الثِّقَةَ بِعَدَالَتِهِ، قَبِلْنا حَدِيْثَهُ ولَمْ نَتَوَقَّفْ (¬2)، كالذينَ احْتَجَّ بِهِمْ صَاحِبَا " الصَّحِيْحَيْنِ " وغَيْرِهِما مِمَّنْ مَسَّهُمْ مثلُ هذا الجرحِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فافْهَمْ ذَلِكَ فإنَّهُ مَخْلَصٌ حَسَنٌ (¬3)، واللهُ أعلمُ. ¬
الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّهُ: هَلْ يَثْبُتُ الجرحُ والتَّعْدِيْلُ بقَوْلِ واحِدٍ، أو لاَ بُدَّ مِنِ اثنينِ؟. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يَثبتُ ذَلِكَ إلاَّ باثْنَيْنِ كَما في الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ في الشَّهَاداتِ، ومِنْهُمْ مَنْ قَالَ - وهوَ الصحيحُ الذي اخْتَارَهُ الحافِظُ أبو بَكْرٍ الخطيبُ (¬1) وغيرُهُ - أنَّهُ يَثْبُتُ بواحِدٍ؛ لأنَّ العدَدَ لَمْ يُشْتَرَطْ في قَبُولِ الخبَرِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ في جَرْحِ راويهِ وتعديْلِهِ بخِلاَفِ الشَّهاداتِ (¬2)، واللهُ أعلمُ. ¬
الخامِسَةُ: إذا اجْتَمعَ في شَخْصٍ جَرْحٌ وتَعْديلٌ، فالجرْحُ مُقَدَّمٌ؛ لأنَّ المعَدِّلَ يُخْبِرُ عَمَّا ظَهَرَ مِنْ حالِهِ، والجارِحُ يُخْبِرُ عَنْ باطِنٍ خَفِيَ عَلَى المعَدِّلِ (¬1)، فإنْ كَانَ عَدَدُ المعدِّلِيْنَ أكْثَرَ فقَدْ قِيْلَ: التَّعْدِيْلُ أوْلَى (¬2). والصحيحُ والذي عليهِ الجمْهُورُ: أنَّ الجرْحَ أوْلَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ (¬3)، واللهُ أعلمُ. السادِسَةُ: لاَ يُجْزِئُ التَّعْديلُ عَلَى الإبْهَامِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ المعَدَّلِ، فإذا قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أوْ نَحْوُ ذلكَ مُقْتَصِراً عليهِ لَمْ يُكْتَفَ بهِ فيما ذَكَرَهُ الخطيبُ الحافِظُ (¬4)، والصَّيْرَفِيُّ الفَقِيْهُ وغيرُهُما (¬5)، خِلافاً لِمَنِ اكْتَفَى بذلِكَ؛ وذَلِكَ لأنَّهُ قدْ يكونُ ثقةً عِنْدَهُ، وغيرُهُ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى جَرْحِهِ بما هُوَ جارِحٌ عِنْدَهُ، أو بالإجْمَاعِ، فيُحْتَاجُ إلى أنْ يُسَمِّيَهُ ¬
حَتَّى يُعْرَفَ، بَلْ إضْرَابُهُ عَنْ تَسْمِيَتِهِ مُرِيْبٌ يُوقِعُ في القلوبِ فيهِ تَرَدُّداً؛ فإنْ كَانَ القائِلُ لذَلِكَ عَالِماً أجْزَأَ ذَلِكَ في حَقِّ مَنْ يُوَافقُهُ في مَذْهبِهِ، عَلَى ما اخْتارَهُ بَعضُ المحقِّقِينَ (¬1). وذَكَرَ الخطيبُ الحافِظُ (¬2) أنَّ العَالِمَ إذا قالَ: ((كُلُّ مَنْ رَوَيْتُ عنهُ فهوَ ثِقَةٌ وإنْ لَمْ أُسَمِّهِ))، ثُمَّ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ (¬3)، فَإنَّهُ يَكُونُ مُزَكِّياً لهُ، غيرَ أنَّا لاَ نَعْملُ بتَزْكِيَتِهِ هذهِ، وهذا عَلَى مَا قَدَّمناهُ، واللهُ أعلمُ. السابِعَةُ: إذا رَوَى العَدْلُ عَنْ رَجُلٍ وسَمَّاهُ، لَمْ تُجْعَلْ (¬4) رِوايتُهُ عَنهُ تَعْدِيلاً منهُ لهُ عِندَ أكثَرِ العلمَاءِ مِنْ أهلِ الحديثِ وغيرِهِمْ (¬5). وقالَ بَعضُ أهلِ الحديثِ، وبعضُ أصحابِ الشَّافِعِيِّ: يُجْعَلُ (¬6) ذَلِكَ تَعْدِيْلاً منهُ لهُ؛ لأنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّعديلَ (¬7). والصحيحُ هوُ الأوَّلُ؛ لأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَرْوِيَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ روايتُهُ عنهُ تعديلَهُ. وهَكَذَا نقولُ: إنَّ عَمَلَ العَالِمِ أوْ فُتْيَاهُ عَلَى وَفْقِ حديثٍ، ليسَ حُكْماً منهُ بصِحَّةِ ذلكَ الحديثِ (¬8). ¬
وكذَلِكَ مُخالَفَتُهُ للحديثِ ليسَتْ قَدْحاً منهُ في صِحَّتِهِ ولاَ في راويهِ، واللهُ أعلمُ. الثَّامِنَةُ: في روايةِ المجهُولِ، وهوَ في غَرَضِنا هَاهنا أقسَامٌ: أحدُها: المجهُولُ العدالةِ مِنْ حيثُ الظَّاهِرُ والباطِنُ جميعاً، وروايتُهُ غيرُ مَقْبُولةٍ عِندَ الجماهِيْرِ عَلَى مَا نَبَّهْنا عليهِ أوَّلاً (¬1). الثَّاني: المجْهُولُ الذي جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ البَاطِنَةُ، وهوَ عَدْلٌ في الظَّاهِرِ وهوَ المسْتُورُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أئِمَّتِنا (¬2): المستُورُ مَنْ يَكونُ عَدْلاً في الظاهِرِ، ولاَ تُعْرَفُ عدَالَةُ باطِنِهِ. فهذا المجهُولُ يَحْتَجُّ بروايتِهِ بعضُ مَنْ رَدَّ روايةَ الأوَّلِ، وهوَ قَولُ بعضِ الشَّافِعِيَّيْنَ، وبهِ قَطَعَ منهُمُ الإمامُ سُلَيْمُ بنُ أيُّوبَ الرَّازيُّ، قالَ: ((لأنَّ أمرَ الأخبارِ مَبْنِيٌّ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بالرَّاوي؛ ولأنَّ روايةَ الأخبارِ تَكُونُ عندَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عليهِ معرفَةُ العَدَالَةِ في الباطِنِ، فاقتُصِرَ ¬
فيها (¬1) علَى مَعرِفَةِ ذلكَ في الظَّاهِرِ، وتُفَارِقُ الشَّهَادَةَ، فإنَّها تكُونُ عِنْدَ الحكَّامِ، ولاَ يَتَعَذَّرُ عليْهِمْ ذَلِكَ، فاعْتُبِرَ (¬2) فيها العدَالَةُ في الظَّاهِرِ والباطِنِ)). قُلْتُ: ويُشْبِهُ أنْ يكونَ العمَلُ على هذا الرأيِ في كثيرٍ مِنْ كُتُبِ الحديثِ المشهُورَةِ، في غيرِ واحِدٍ مِنَ الروَاةِ الذينَ تَقَادَمَ العهْدُ بهِمْ وتَعَذَّرَتْ الخِبْرَةُ الباطِنَةُ بهِمْ (¬3)، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: المجهُولُ العَيْنِ، وقَدْ يَقْبَلُ روايةَ المجهُولِ العدالةِ مَنْ لاَ يَقْبَلُ روايَةَ المجهُولِ العيْنِ (¬4). وَمَنْ رَوَى عنهُ عَدْلاَنِ وعَيَّناهُ، فقدِ ارتَفَعَتْ عنهُ هذهِ الجهَالَةُ (¬5). ¬
ذَكَرَ (¬1) أبو بكرٍ الخطيبُ البغداديُّ في أجوِبَةِ مسائِلَ سُئِلَ عَنها (¬2) أنَّ (¬3) المجهُولَ عندَ أصحابِ الحديثِ هوَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ (¬4) العلماءُ، ومَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُهُ إلاَّ مِنْ جِهَةِ رَاوٍ واحدٍ، مِثْلُ: عَمْرِو ذِي مُرٍّ (¬5)، وجَبَّارٍ الطَّائيِّ، وسعيدِ بنِ ذِي حُدَّانَ (¬6)، لَمْ يَروِ عنهُمْ غَيرُ أبي إسْحَاقَ السَّبِيْعِيِّ (¬7)، ومِثْلُ: الْهَزْهَازِ بنِ مَيْزَنٍ (¬8) لاَ رَاوِيَ عنهُ غيرُ الشَّعْبيِّ، ومِثْلُ: جُرَيِّ (¬9) بنِ كُلَيْبٍ، لَمْ يَرْوِ عنهُ إلاَّ قَتَادَةُ. ¬
قُلْتُ: قدْ رَوَى عَنِ الْهَزْهَازِ: الثَّوْرِيُّ أيضاً (¬1). قالَ الخطيبُ: ((وأقَلُّ ما ترتَفِعُ (¬2) بهِ الجهالةُ، أنْ يَروِيَ عَنِ الرجلِ اثْنانِ مِنَ المشهورِينَ بالعِلْمِ إلاَّ أنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لَهُ حُكمُ العدالَةِ بروايَتِهِما عَنْهُ)) (¬3)، وهذا مِمَّا قَدَّمْنا بَيَانَهُ، واللهُ أعلمُ. قُلْتُ (¬4): قَدْ خَرَّجَ البخاريُّ في " صَحِيْحِهِ " حديثَ جماعةٍ ليسَ لَهُمْ غيرُ راوٍ واحِدٍ، منهُمْ: مِرْدَاسٌ (¬5) الأسْلَمِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ قَيْسِ بنِ أبي ¬
حازِمٍ (¬1). وكَذَلِكَ خَرَّجَ مُسْلِمٌ حَدِيْثَ قَوْمٍ لاَ راوِيَ لَهُمْ غَيْرُ واحِدٍ، منهُم: رَبِيْعَةُ (¬2) ... ابنُ كَعْبٍ الأسْلمِيُّ، لَمْ يَرْوِ عنهُ غَيْرُ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ (¬3)؛ وذَلِكَ منهُما مصيرٌ إلى أنَّ الراويَ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْهُولاً مَرْدُوداً، بروَايةِ واحِدٍ عنهُ (¬4). والخِلاَفُ في ¬
ذلكَ مُتَّجِهٌ نحوَ اتِّجَاهِ الخِلاَفِ المعرُوفِ في الاكتفاءِ بواحِدٍ في التَّعْدِيْلِ عَلَى مَا قَدَّمْناهُ (¬1)، واللهُ أعلمُ. التاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا في قَبُولِ روايةِ الْمُبْتدِعِ الذي لاَ يُكَفَّرُ في بدعَتِهِ (¬2)، فمنْهُمْ مَنْ رَدَّ روَايَتَهُ مُطْلَقاً؛ لأنَّهُ فاسِقٌ ببدْعَتِهِ وكما اسْتَوَى في الكُفْرِ الْمُتَأَوِّلُ ¬
وغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ، يسْتَوي في الفِسْقِ الْمُتَأَوِّلُ وغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ (¬1). ومِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ روايَةَ المبتَدِعِ إذا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الكَذِبَ في نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، أوْ لأهْلِ مَذْهَبِهِ، سَواءٌ كانَ داعِيَةً إلى بدْعَتِهِ (¬2) أوْ لَمْ يَكُنْ (¬3). ¬
وعَزَا بعضُهُمْ (¬1) هذا إلى الشَّافِعِيِّ لقولِهِ: ((أقْبَلُ شَهَادَةَ أهلِ الأهْوَاءِ، إلاَّ الخطَّابِيَّةَ (¬2) مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لأنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بالزُّوْرِ لِمُوافِقِيْهِم)) (¬3). وقَالَ قومٌ: تُقْبَلُ روايَتُهُ إذا لَمْ يكُنْ داعِيَةً، ولاَ تُقْبَلُ إذا كَانَ داعيةً إلى بدعتِهِ. وهذا مَذهبُ الكثيرِ أوْ الأكثرِ مِنَ العُلَماءِ (¬4). ¬
وحَكَى بعضُ أصحابِ الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - خِلاَفاً بينَ أصحابِهِ في قَبُولِ روايةِ المبتدِعِ إذا لَمْ يَدْعُ إلى بدعَتِهِ، وقالَ: أمَّا إذا كانَ داعِيَةً فَلا خِلافَ بينَهُمْ في عَدَمِ قَبُولِ روايتِهِ. وقالَ أبو حاتِمِ بنِ حِبَّانَ البُسْتِيُّ -أحَدِ المصَنِّفِيْنَ مِنْ أئمَّةِ الحديْثِ-: ((الدَّاعِيَةُ إلى البِدَعِ لاَ يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بهِ عِنْدَ أئِمَّتِنا قاطِبَةً لاَ أعْلَمُ بينَهُم فيهِ خِلاَفاً)) (¬1). وهذَا المذْهَبُ الثالِثُ أعْدَلُهَا وأوْلاَهَا، والأوَّلُ بَعِيْدٌ مُبَاعِدٌ للشَّائعِ عَنْ أئمَّةِ الحديثِ، فإنَّ كُتُبَهُمْ طافِحَةٌ بالروايَةِ عَنِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ (¬2). وفي ¬
" الصحيحينِ " كثيرٌ مِنْ أحَادِيْثِهِمْ في الشَّوَاهِدِ والأُصُولِ (¬1)، واللهُ أعلمُ. العَاشِرَةُ: التَّائِبُ مِنَ الكَذِبِ في حديثِ النَّاسِ وغيرِهِ مِنْ أسْبَابِ الفِسْقِ، تُقْبَلُ روايتُهُ، إلاَّ التَّائبَ مِنَ الكَذِبِ مُتَعَمِّداً في حديْثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهُ لاَ تُقْبَلُ روايَتُهُ أبَداً، وإنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ غَيرِ واحِدٍ مِنْ أهلِ العِلْمِ، منْهُمْ: أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ (¬2)، وأبو بكرٍ الْحُمَيْدِيُّ - شَيْخُ البخارِيِّ (¬3) -. وأطلَقَ الإمامُ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ الشَّافِعِيُّ فيما وجدْتُ لهُ في " شرحِهِ لرسَالَةِ الشافِعِيِّ "، فقالَ: ((كلُّ مَنْ أسْقَطْنا خَبَرَهُ مِنْ أهلِ النَّقْلِ بكَذِبٍ (¬4) وَجَدْنا عليهِ، لَمْ نَعُدْ لقَبُولِهِ بتوبَةٍ تَظهَرُ، ومَنْ ضَعَّفْنا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيّاً بَعدَ ذَلِكَ، وذَكَرَ أنَّ ذَلِكَ مِمَّا افترَقَتْ فيهِ الروايةُ والشَّهادَةُ (¬5). وذَكَرَ الإمَامُ أبو المظَفَّرِ السَّمْعَانيُّ المروزيُّ: ((أنَّ (¬6) مَنْ كَذَبَ في خَبَرٍ واحِدٍ، وجَبَ إسْقَاطُ ما تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ)) (¬7)، وهذا يُضَاهِي مِنْ حَيْثُ المعْنَى ما ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ (¬8)، واللهُ أعلمُ. ¬
الحادِيَةَ عَشْرَةَ: إذا رَوَى ثقةٌ عَنْ ثِقَةٍ حدِيثاً ورُوْجِعَ (¬1) المروِيُّ عنهُ فَنَفَاهُ، فالمختارُ: أنَّهُ إنْ كَانَ جازِماً بنفْيهِ بأنْ قالَ: ما رَويتُهُ، أو كَذَبَ عَلَيَّ، أو نَحْو ذَلِكَ فَقَدْ تَعَارَضَ الجزْمَانِ، والجاحِدُ هُوَ الأصْلُ، فَوَجَبَ رَدُّ حدِيْثِ فَرْعِهِ ذَلِكَ (¬2)، ثُمَّ لاَ يَكُونُ ¬
ذَلِكَ جَرْحاً لهُ (¬1) يُوجِبُ ردَّ باقِي حديثِهِ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ لشَيْخِهِ أيضاً في ذلكَ، وليسَ قَبُولُ جَرْحِ شَيْخِهِ لهُ بأوْلَى مِنْ قَبُولِ جَرْحِهِ لشَيْخِهِ، فتَسَاقَطا. أمَّا إذا قالَ المروِيُّ عنهُ: لاَ أعرِفُهُ، أو لاَ أذْكُرُهُ، أوْ نحوَ ذلكَ، فذلكَ لاَ يُوجِبُ رَدَّ روايَةِ الراوي عنهُ (¬2). ومَنْ رَوَى حَدِيثاً ثُمَّ نَسِيَهُ لَمْ يَكُنْ ذلكَ مُسْقِطاً للعَمَلِ بهِ عندَ جُمْهُورِ أهلِ الحديثِ وجمهورِ الفقهاءِ والمتكلِّمينَ، خلافاً لقَومٍ مِنْ أصحَابِ أبي حَنيْفَةَ صَارُوا إلى إسْقَاطِهِ بذلِكَ (¬3)، وبَنَوَا عليهِ رَدَّهُمْ حديثَ سُليمانَ بنِ موسَى، عَنِ الزُّهريِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نُكِحَتِ المرْأَةُ بغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّها فَنِكَاحُها باطِلٌ ¬
الحديثَ)) (¬1)، مِنْ أجْلِ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ، قالَ: ((لقِيْتُ الزهريَّ فسَألْتُهُ عَنْ هذا الحديثِ فَلَمْ يَعرِفْهُ)) (¬2). وكذا حديثُ ربيعَةَ الرأي، عَنْ سُهَيْلِ بنِ ¬
أبي صالِحٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ: ((أنَّ النبيَّ (¬1) - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بشَاهِدٍ ويَمِيْنٍ)) (¬2)، فإنَّ عَبْدَ العزيزِ بنَ محمدٍ الدَّرَاوَرْدِيَّ قالَ: ((لقِيْتُ سُهَيْلاً فسَألْتُهُ عَنْهُ فَلَمْ يَعرِفْهُ)) (¬3). ¬
والصحيحُ ما عليهِ الجمهُورُ؛ لأنَّ المروِيَّ عنهُ بصَدَدِ السَّهْوِ والنِّسْيَانِ (¬1) والرَّاوي عنهُ ثقةٌ جازِمٌ فلاَ يُرَدُّ (¬2) بالاحتمالِ روايتُهُ، ولهذا كانَ سُهَيْلٌ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبيْعَةُ عَنِّي عَنْ أبي، ويسُوقُ الحديثَ. وَقَدْ رَوَى كَثيرٌ مِنَ الأكَابِرِ أحادِيْثَ نَسَوْها بعدَ ما حُدِّثُوا بها عَمَّنْ سَمِعَها منهُمْ، فكَانَ أحَدُهُمْ يقُولُ: حدَّثَنِي فلاَنٌ عَنِّي عَنْ فلانٍ بكذا وكذا. وجَمَعَ الحافِظُ الخطيبُ ذلكَ في كِتَابِ "أخْبَارِ مَنْ حَدَّثَ ونَسِيَ" (¬3). ولأجْلِ أنَّ الإنْسانَ مُعَرَّضٌ للنِسْيانِ؛ كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنَ العُلَماءِ الروَايةَ عَنِ الأحْيَاءِ، منْهُمُ الشَّافِعِيُّ - رضي الله عنه - قالَ لابنِ عَبدِ الحكمِ (¬4): ((إيَّاكَ والروايةَ عَنِ الأحياءِ)) (¬5)، واللهُ أعلمُ. الثَّانيةَ عَشْرَةَ: مَنْ أخَذَ عَلَى التَّحدِيثِ (¬6) أجْراً، منعَ ذلِكَ مِنْ قَبُولِ رِوايتِهِ عِنْدَ قومٍ مِنْ أئمَّةِ الحديثِ، رُوِّيْنا عَنْ إسْحاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ - هُوَ ابنُ رَاهَوَيْهِ (¬7) - أنَّهُ سُئِلَ عَنِ المحدِّثِ يُحَدِّثُ بالأجْرِ؟ فقالَ: ((لاَ يُكْتَبُ عنهُ)) (¬8). ¬
وعَنْ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ (¬1)، وأبي حاتِمٍ الرازِيِّ (¬2)، نحوُ ذلكَ. وتَرَخَّصَ أبو نُعَيْمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ (¬3) وعليُّ بنُ عبدِ العزيزِ المكِّيُّ (¬4) وآخرونَ (¬5) في أخْذِ العِوَضِ عَلَى التَّحْديثِ، وذَلِكَ شَبِيهٌ بأخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيْمِ القرآنِ ونَحْوِهِ، غَيْرَ أنَّ في هَذَا مِنْ حَيْثُ العُرْفُ خَرْماً للمرُوءةِ، والظَّنُّ يُسَاءُ بفاعِلهِ إلاَّ أنْ يَقْتَرِنَ ذَلِكَ بعُذْرٍ يَنْفِي ذَلِكَ عنهُ، كمثلِ ما حَدَّثَنِيهُ الشيخُ أبو المظَفَّرِ عَنْ أبيهِ الحافِظِ أبي سَعْدٍ السَّمْعانيِّ أنَّ أبا الفَضْلِ محمدَ ابنَ ناصِرٍ السَّلاَمِيَّ ذَكَرَ أنَّ أبا الحسَيْنِ بنِ النَّقُّورِ (¬6) فَعَلَ ذَلِكَ؛ لأنَّ الشيْخَ أبا إسْحاقَ الشِّيرازيَّ أفتاهُ بجوَازِ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى التَّحْدِيْثِ؛ لأنَّ أصحابَ الحديثِ كَانُوا يَمْنَعُونَهُ عَنِ الكَسْبِ لِعِيَالِهِ (¬7)، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لاَ تُقْبَلُ روَايَةُ مَنْ عُرِفَ بالتَّسَاهُلِ في سَمَاعِ الحديثِ أوْ إسْماعِهِ كَمَنْ لاَ يُبَالِي بالنَّوْمِ في مجْلِسِ السَّماعِ (¬8)، وكَمَنْ يُحَدِّثُ لاَ مِنْ أصلٍ مُقَابَلٍ صحيحٍ. ¬
ومِنْ هَذَا القَبيلِ مَنْ عُرِفَ بقَبُولِ التَّلْقِيْنِ (¬1) في الحديثِ (¬2)، ولاَ تُقْبَلُ روايةُ مَنْ كَثُرَتِ الشَّواذُّ والمناكِيْرُ في حديثِهِ. جَاءَ عَنْ شُعْبَةَ: أنَّهُ قالَ: ((لاَ يَجِيْئُكَ الحديثُ الشَّاذُّ إلاَّ مِنَ الرَّجُلِ الشَّاذِّ)) (¬3). ولاَ تُقْبَلُ روايةُ مَنْ عُرِفَ بكَثْرَةِ السَّهْوِ في رواياتِهِ إذا لَمْ يُحَدِّثْ مِنْ أصْلٍ صحيحٍ (¬4)، وكُلُّ هذا يَخْرِمُ الثقةَ بالراوي وبضبْطِهِ. ¬
ووَرَدَ عَنِ ابنِ المبَارَكِ (¬1)، وأحمدَ بنِ حَنبَلٍ (¬2)، والْحُمَيْديِّ (¬3)، وغَيْرِهِمْ أنَّ مَنْ غَلِطَ في حديثٍ وبُيِّنَ لَهُ غَلَطُهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عنهُ وأصَرَّ على روايةِ ذلكَ الحديثِ سَقَطَتْ رواياتُهُ، ولَمْ يُكْتَبْ عنهُ (¬4). وفي هذا نَظَرٌ (¬5)، وهو غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذا ظَهَرَ أنَّ ذلكَ منهُ عَلَى جِهَةِ (¬6) العِنادِ أو نحوِ ذلكَ (¬7)، واللهُ أعلمُ. ¬
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أعْرَضَ النَّاسُ في هذهِ الأعْصَارِ المتأَخِّرَةِ عَنْ اعتِبارِ مجمُوعِ (¬1) مَا بَيَّنَّا مِنَ الشروطِ في رواةِ الحديثِ ومشايخِهِ، فَلَمْ يَتَقَيَّدُوا بها في رواياتِهِمْ؛ لِتَعَذُّرِ الوفاءِ بذلكَ عَلَى نحوِ ما تَقَدَّمَ، وكَانَ عليهِ مَنْ تَقَدَّمَ (¬2). ووجْهُ ذلكَ ما قَدَّمْناهُ في أوَّلِ كِتَابِنا هذا مِنْ كَونِ المقْصودِ آلَ آخِراً إلى المحافَظَةِ على خَصِيْصَةِ هذهِ الأمةِ في الأسانيدِ والمحاذرةِ مِنِ انْقِطاعِ سِلْسِلَتِها، فَلْيُعْتَبَرْ مِنَ الشروطِ المذكورَةِ ما يَلِيْقُ بهذا الغرضِ علَى تَجَرُّدِهِ، ولْيُكْتَفَ في أهْلِيَّةِ الشَّيْخِ بكَونِهِ مُسْلِماً، بَالِغاً، عَاقِلاً، غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بالفِسْقِ والسُّخْفِ (¬3)، وفي ضَبْطِهِ: بوجودِ سمَاعِهِ مُثْبَتاً بِخَطِّ غَيْرِ مُتَّهَمٍ وبروايَتِهِ مِن أصْلٍ موافِقٍ لأصْلِ شيْخِهِ. وقدْ سَبَقَ إلى نحوِ ما ذَكَرْناهُ الحافِظُ الفقِيْهُ أبو بَكْرٍ البيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فإنَّهُ ذَكَرَ فيْمَا رُوِّيْنا (¬4) عنهُ تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ في السَّماعِ مِنْ بعضِ مُحَدِّثي زَمَانِهِ الذينَ لاَ يَحْفَظُونَ حديْثَهُم، ولاَ يُحْسِنُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، ولاَ يَعْرِفُونَ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أنْ تَكُونَ القِرَاءَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أصْلِ سَمَاعِهِمْ. وَوَجْهُ ذلكَ: بأنَّ الأحاديْثَ التي قَدْ صَحَّتْ أو وقفَتْ بينَ الصِّحَّةِ والسَقَمِ قَدْ دُوِّنَتْ وكُتِبَتْ في الجوامِعِ التي جَمَعَها أئِمَّةُ الحديثِ، ولاَ يَجُوزُ أنْ يَذْهَبَ شيءٌ منها عَلَى جميْعِهِمْ، وإنْ جَازَ أنْ يَذْهَبَ عَلَى بعضِهِمْ لضَمانِ صَاحِبِ الشَّرِيْعَةِ حِفْظَها. قَالَ (¬5): ((فَمَنْ جَاءَ اليَوْمَ بحَدِيْثٍ لاَ يُوجَدُ عندَ جميعِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ منهُ، ومَنْ جَاءَ بحدِيْثٍ معرُوفٍ عندَهُمْ، فالذي يَرْوِيهِ لاَ يَنْفَرِدُ بروايَتِهِ، والحجَّةُ قائِمَةٌ بحديثِهِ بروايةِ غيرِهِ، والقَصْدُ مِنْ روَايَتِهِ والسَّمَاعِ منهُ، أنْ يَصِيْرَ الحديثُ مُسَلْسَلاً بـ ((حَدَّثَنا وأخْبَرَنا))، ¬
وتَبْقَى هذهِ الكَرامَةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأمَّةُ، شَرَفاً لنبيِّنا المصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ، واللهُ أعْلَمُ (¬1). الخامِسَةَ عَشْرَةَ: في بَيَانِ الألفَاظِ المسْتَعْمَلَةِ بَيْنَ (¬2) أهْلِ هَذَا الشَّأْنِ في الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ. وقدْ رَتَّبَها أبو محمَّدٍ عَبدُ الرَّحْمانِ بنُ أبي حاتِمٍ الرَّازيُّ في كِتَابهِ في " الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ " (¬3)، فأجَادَ وأحْسَنَ. ونَحْنُ نُرَتِّبُها كذلِكَ، ونُوْرِدُ ما ذَكَرَهُ ونضيفُ إليهِ ما بَلَغَنا في ذلكَ عَنْ غيرِهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى (¬4). أمَّا ألْفَاظُ التَّعْدِيلِ (¬5) فَعَلَى مَرَاتِبَ: الأُوْلَى: قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قِيْلَ للوَاحِدِ: إنَّهُ ثِقَةٌ (¬6) أو مُتْقِنٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بحدِيْثِهِ)) (¬7). ¬
قُلْتُ: وكَذَا إذا قِيْلَ ثَبْتٌ أوْ حُجَّةٌ (¬1)، وكَذَا إذا قِيْلَ في العَدْلِ: إنَّهُ حَافِظٌ أوْ ضَابِطٌ، واللهُ أعْلَمُ. الثَّانيةُ: قَالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قِيْلَ: إنَّهُ صَدُوْقٌ، أوْ مَحَلُّهُ الصِّدْقُ (¬2)، أوْ لاَ بأسَ بهِ، فَهوَ مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيْثُهُ ويُنْظَرُ فيهِ، وهِيَ المنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ)) (¬3). قُلْتُ: هذا كَما قالَ؛ لأنَّ هذهِ العِبَاراتِ لاَ تُشْعِرُ بشَرِيْطَةِ الضَّبْطِ، فَيُنْظَرُ في حَدِيْثِهِ ويُخْتَبَرُ حَتَّى يُعْرَفَ ضَبْطُهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ طرِيْقِهِ في أوَّلِ هذا النَّوْعِ. وإنْ لَمْ يَسْتَوْفِ النَّظَرَ المعرِّفَ لكوْنِ ذَلِكَ المحدِّثِ في نفسِهِ ضابطاً مُطْلَقاً، واحْتَجْنا إلى حديثٍ مِنْ حديثِهِ، اعتبَرْنا ذلكَ الحديثَ ونَظَرْنا: هَلْ لَهُ أصْلٌ مِنْ رِوَايةِ غَيْرِهِ؟ كما تَقَدَّمَ بيانُ طَرِيْقِ الاعتِبَارِ في النَّوْعِ الخامِسَ عَشَرَ. ومشْهُورٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بنِ مَهْدِيٍّ (¬4) - القُدْوَةِ في هذا الشَّأْنِ - أنَّهُ حدَّثَ، فقالَ: ((حَدَّثَنا أبو خَلْدَةَ)) (¬5)، فقِيْلَ لهُ: ((أكَانَ ثِقَةً؟))، فقالَ: ((كَانَ صَدُوْقاً، وكَانَ مَأْمُوْناً، وكَانَ خَيِّراً - وفي روايةٍ: وكَانَ خِيَاراً - الثِّقَةُ شُعْبَةُ وسُفْيَانُ)) (¬6). ثُمَّ إنَّ ذلكَ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابنِ أبي خَيْثَمَةَ، قالَ: ((قُلْتُ ليَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ (¬7): إنَّكَ ¬
تَقُولُ: فُلانٌ ليسَ بهِ بأسٌ، وفلانٌ ضَعِيْفٌ؟ قَالَ: إذا قُلْتُ لكَ: ليسَ بهِ بأسٌ، فهوَ ثِقَةٌ، وإذا قُلْتُ لَكَ: هُوَ ضَعِيْفٌ، فَلَيْسَ هُوَ بثِقَةٍ، لاَ يُكْتَبُ (¬1) حَدِيْثُهُ)) (¬2). قُلْتُ: لَيْسَ في هذا (¬3) حكَايَةُ ذلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أهْلِ الحديثِ، فإنَّهُ نَسَبَهُ إلى نَفْسِهِ خاصَّةً بخِلاَفِ ما ذَكَرَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثَةُ: قَالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قيلَ: شَيْخٌ (¬4)، فهوَ بالمنْزِلَةِ الثَّالِثَةِ، يُكْتَبُ حدِيْثُهُ، ويُنْظَرُ فيهِ، إلاَّ أنَّهُ دُوْنَ الثَّانِيَةِ)) (¬5). الرَّابِعَةُ: قالَ: ((إذا قِيْلَ: صَالِحُ الحديثِ، فإنَّهُ يُكْتَبُ حدِيْثُهُ للاعْتِبَارِ)) (¬6). قٌلْتُ: وقدْ جَاءَ عَنْ أبي جَعْفَرِ بنِ سِنَانٍ، قالَ: ((كَانَ عَبْدُ (¬7) الرحمانِ بنُ مَهْدِيٍّ رُبَّما جَرَى ذِكْرُ حديثِ الرجلِ فيهِ ضَعْفٌ، وهو رجلٌ صَدوقٌ، فيقولُ: رجلٌ صالِحُ الحديثِ)) (¬8). واللهُ أعلمُ. وأمَّا ألفاظُهُمْ في الجرْحِ فهيَ أيضاً علَى مَرَاتِبَ: ¬
أُوْلاَها: قَوْلُهُمْ: لَيِّنُ الحديثِ. قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: إذا أجابُوا في الرجلِ بـ: لَيِّنِ الحدِيثِ، فهوَ مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ ويُنْظَرُ فيهِ اعتباراً)) (¬1). قُلْتُ: وسَأَلَ حَمْزَةُ بنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ (¬2) أبا الحسَنِ الدَّارقطنيَّ الإمامَ، فقالَ لهُ: ((إذا قُلْتَ: فلانٌ لَيِّنُ أيْشٍ (¬3) تُرِيْدُ بهِ؟ قالَ: لاَ يَكونُ سَاقِطاً مترُوكَ الحديثِ ولكنْ مجرُوحاً (¬4) بشيءٍ لاَ يُسْقِطُ عَنِ العدالَةِ)) (¬5). الثَّانيةُ: قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قَالُوا: ليسَ بقَوِيٍّ (¬6)، فَهوَ بمَنْزِلَةِ الأوَّلِ في كَتْبِ حَدِيْثِهِ، إلاَّ أنَّهُ دُوْنَهُ)) (¬7). الثَّالِثَةُ: قالَ: ((إذا قَالُوا: ضَعِيْفٌ، فهوَ دُوْنَ الثَّاني، لاَ يُطْرَحُ حديثُهُ بَلْ يُعْتَبَرُ بهِ)) (¬8). الرَّابِعَةُ: قَالَ: ((إذا قَالُوا: مَتْرُوكُ الحديثِ، أوْ ذَاهِبُ الحديثِ، أو كَذَّابٌ فهوَ سَاقِطُ الحديثِ لاَ يُكْتَبُ حديثُهُ وهيَ المنْزِلَةُ الرَّابِعَةُ)) (¬9). قالَ الخطيبُ أبو بكرٍ: ((أرفعُ العباراتِ في أحوالِ الرواةِ أنْ يُقَالَ: حُجَّةٌ أو ثِقَةٌ، وأدْوَنُها أنْ يُقَالَ: كَذَّابٌ، سَاقِطٌ)) (¬10). ¬
أخْبَرَنَا أبو بَكرِ بنُ عَبْدِ المنعِمِ الصَّاعِدِيُّ الفُرَاوِيُّ قِرَاءَةً عليهِ بنَيْسَابورَ، قَالَ: أخْبَرَنَا محمدُ بنُ إسْمَاعيلَ الفارِسِيُّ، قَالَ: أخْبَرَنَا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ الحسينِ البيهقيُّ الحافِظُ، قالَ: أخْبَرَنَا أبو (¬1) الحسين بنُ الفَضْلِ، قَالَ: أخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنا (¬2) يَعقوبُ بنُ سُفيانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أحمدَ بنَ صَالِحٍ، قَالَ: ((لاَ يُتْرَكُ حديثُ رَجُلٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ الجميعُ عَلَى تَركِ حديثِهِ. قدْ يُقَالُ: فُلانٌ ضَعِيْفٌ، فأمَّا أنْ يُقَالَ: فُلاَنٌ مَتْرُوكٌ فلاَ، إلاَّ أنْ يُجْمِعَ الجميعُ عَلَى تَرْكِ حَدِيْثِهِ (¬3). ومِمَّا لَمْ يَشْرَحْهُ ابنُ أبي حاتِمٍ وغَيْرُهُ مِنَ الألفاظِ (¬4) المستعملةِ في هذا البابِ قَوْلُهُمْ: فُلانٌ قَدْ رَوَى الناسُ عنهُ، فُلاَنٌ وَسَطٌ، فُلاَنٌ مُقَارَبُ الحديثِ (¬5)، فلاَنٌ مُضْطَرِبُ الحديثِ، فُلاَنٌ لاَ يُحْتَجُّ بهِ (¬6)، فُلاَنٌ مَجْهُولٌ، فُلاَنٌ لاَ شيءَ، فلاَنٌ ليسَ بذَاكَ - ورُبَّمَا قِيْلَ: لَيْسَ بذَاكَ (¬7) القَوِيِّ - فُلاَنٌ فيهِ أو في حديثِهِ ضَعْفٌ - وهوَ في الجرْحِ أقَلُّ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلاَنٌ ضَعِيْفُ الحديثِ - فلاَنٌ مَا أعْلَمُ بهِ بَأْساً - وهوَ في التَّعْديلِ دُونَ قَوْلِهِمْ: لاَ بأسَ بهِ، وما مِنْ لَفْظَةٍ منها ومِنْ أشْبَاهِها إلاَّ وَلَها نَظِيْرٌ شَرَحْناهُ أو أصْلٍ أصَّلْنَاهُ، يُتَنَبَّهُ (¬8) إنْ شَاءَ اللهُ بهِ عليها، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الرابع والعشرون معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه
النَّوْعُ الرَّابِعُ والعِشْرُوْنَ مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ سَمَاعِ الْحَدِيْثِ وتَحَمُّلِهِ وَصِفَةِ ضَبْطِهِ اعْلَمْ أنَّ طُرُقَ نَقْلِ الحديثِ وتَحَمُّلِهِ عَلَى أنواعٍ مُتَعدِّدَةٍ، ولنُقَدِّمْ عَلَى بَيَانِها بَيَانَ أُمُورٍ: أَحَدُها: يَصحُّ التَّحَمُّلُ قَبلَ وُجُودِ الأَهْلِيَّةِ فَتُقْبَلُ روايَةُ (¬1) مَنْ تَحَمَّلَ قَبْلَ الإسْلامِ وَرَوَى بَعْدَهُ، وكذَلِكَ روايَةُ مَنْ سَمِعَ قَبْلَ البُلُوغِ (¬2) وَرَوَى بَعْدَهُ ومَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَومٌ فأخْطَؤُوا؛ لأنَّ الناسَ قَبِلُوا روايَةَ أحداثِ الصَّحابَةِ، كالحَسَنِ بنِ عليٍّ وابنِ عَبَّاسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، والنُّعْمانِ بنِ بَشِيْرٍ، وأشْبَاهِهِمْ (¬3)، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ قَبْلَ البُلُوْغِ ومَا بَعْدَهُ (¬4)، ولَمْ يَزَالُوا قَدِيْماً وَحَدِيْثاً يُحْضِرُونَ الصِّبْيَانَ مجَالِسَ التَّحْدِيْثِ والسَّمَاعِ ويَعْتَدُّوْنَ برِوَايَتِهِمْ (¬5) لِذَلِكَ، واللهُ أعلمُ. الثَّاني: قَالَ أبو عبدِ اللهِ الزُّبَيْرِيُّ: ((يُسْتَحَبُّ كَتْبُ الحديثِ في العشرينَ؛ لأنَّها مُجْتَمَعُ العقْلِ - قَالَ - وأُحِبُّ أنْ يَشْتَغِلَ دُوْنَها بحِفْظِ القُرْآنِ والفَرَائِضِ)). وَوَرَدَ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ إذا أرَادَ أنْ يَطْلُبَ الحديثَ تَعَبَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ عِشْرينَ سَنَةً)) (¬6). ¬
وَقِيْلَ لِمُوسَى بنِ إسْحَاقَ: ((كَيْفَ لَمْ تَكْتُبْ (¬1) عَنْ أبي نُعَيْمٍ؟)) (¬2)، فقالَ: ((كَانَ أهلُ الكُوْفَةِ لاَ يُخْرِجُونَ أوْلاَدَهُمْ في طَلَبِ الحديثِ صِغَاراً حَتَّى يَسْتَكْمِلُوا عِشْرِينَ سَنَةً)) (¬3). وقَالَ مُوْسَى بنُ هَارُوْنَ: ((أهْلُ البَصْرَةِ يَكْتبُونَ لِعَشْرِ سِنِيْنَ، وأهْلُ الكُوْفَةِ لِعِشْرِينَ، وأهلُ الشَّامِ لِثَلاَثِينَ)) (¬4)، واللهُ أعلمُ. قُلْتُ: ويَنْبَغِي بَعْدَ أنْ صَارَ الملْحُوظُ إبْقَاءَ سِلْسِلَةِ الإسْنَادِ أنْ يُبَكَّرَ بإسْماعِ الصَّغِيْرِ في أوَّلِ زَمَانٍ يَصِحُّ فيهِ سَمَاعُهُ. وأمَّا الاشْتِغَالُ بِكِتْبَةِ الحديثِ (¬5)، وتَحْصِلِه، وضَبْطِهِ، وتَقْييدِهِ، فَمنْ حِيْنَ يَتَأَهَّلُ لِذَلِكَ وَيَسْتَعِدُّ لَهُ. وذَلِكَ يَخْتَلِفُ باخْتِلاَفِ الأشْخَاصِ، ولَيْسَ يَنْحَصِرُ في سِنٍّ (¬6) مَخْصُوصٍ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ آنِفاً عَنْ قَوْمٍ، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا في أوَّلِ زَمَانٍ يَصِحُّ فيهِ سَمَاعُ الصَّغِيْرِ (¬7). فَرُوِّيْنَا عَنْ مُوْسَى بنِ هَارُونَ الحمَّالِ (¬8) - أحَدِ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ - أنَّهُ سُئِلَ: ((مَتَى يَسْمَعُ الصَّبِيُّ الحديثَ؟))، فقالَ: إذَا فَرَّقَ بينَ البَقَرَةِ والدَّابَّةِ))، وَفِي روايةٍ: ((بينَ البَقَرَةِ والحِمَارِ)) (¬9). وَعَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ سُئِلَ: ((مَتَى يَجُوزُ سَمَاعُ الصَّبِيِّ ¬
للحديثِ؟)) (¬1)، فقالَ: ((إذا عَقَلَ وَضَبَطَ))، فَذُكِرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ أنَّهُ قَالَ: ((لاَ يَجُوزُ سَمَاعُهُ حَتَّى يَكُونَ (¬2) لَهُ خَمسَ عَشْرَةَ سَنَةً))، فأنْكَرَ قَوْلَهُ، وقَالَ: ((بِئْسَ القَوْلُ!)) (¬3). وأخْبَرَنِي الشيخُ أبو محمدٍ عَبدُ الرحمانِ بنُ عَبدِ اللهِ الأسديُّ عَنْ أبي محمدٍ عبدِ اللهِ ابن محمدٍ الأشِيريِّ، عَنِ القاضي الحافِظِ عِيَاضِ بنِ مُوْسَى السَّبْتِيِّ (¬4) اليَحْصُبِيِّ (¬5)، قالَ: ((قَدْ حَدَّدَ أهْلُ الصَّنْعَةِ في ذَلِكَ أنَّ أَقَلَّهُ سِنُّ محمودِ بنِ الرَّبِيْعِ)) (¬6). وذَكَرَ روايةَ البخاريِّ في " صحِيْحِهِ " (¬7) بَعْدَ أنْ تَرْجَمَ: ((مَتى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيْرِ؟)) بإسْنادِهِ عَنْ محمودِ بنِ الرَّبيعِ، قَالَ: ((عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَجَّةً (¬8) مَجَّهَا في وَجْهِي وأنَا ابنُ خَمسِ سِنِيْنَ مِنْ دَلْوٍ))، وفي روايةٍ أُخْرى: أنَّهُ كَانَ ابنُ أربعِ سِنِيْنَ (¬9). قُلْتُ: التَّحْديدُ بخَمْسٍ هُوَ الذي اسْتَقَرَّ عليهِ عَمَلُ أهلِ الحديثِ المتأخِّرينَ، فيكْتبُونَ لابنِ خَمْسٍ فَصَاعِداً سَمِعَ، ولِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ خَمْساً، حَضَرَ، أو أُحْضِرَ. والذي ينبغي في ¬
ذلكَ أنْ يُعْتَبَرَ (¬1) في كُلِّ صَغِيْرٍ حَالُهُ عَلَى الخصُوصِ، فإنْ وجَدْنَاهُ مُرْتَفِعاً عَنْ حَالِ مَنْ لاَ يَعْقِلُ فَهْماً للخطابِ وَردّاً للجوابِ ونحوَ ذلكَ صَحَّحْنا سَماعَهُ، وإنْ كَانَ دُونَ خَمسٍ. وإنْ لَمْ يَكُنْ كذَلِكَ لَمْ نُصَحِّحْ سَمَاعَهُ، وإنْ كَانَ ابنُ خَمْسٍ، بَلِ ابنُ خَمْسِيْنَ. وقَدْ بَلَغَنا عَنْ إبراهِيْمَ بنِ سَعِيْدٍ الجوْهَرِيِّ، قالَ: ((رأيتُ صَبِيّاً ابنَ أربَعِ سِنِيْنَ، قَدْ (¬2) حُمِلَ إلى المأْمُونِ قَدْ قَرَأَ القُرآنَ، ونَظَرَ في الرَّأْيِ، غيرَ أنَّهُ إذا جاعَ يَبْكِي!)) (¬3). وعَنِ القاضي أبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ محمدٍ الأصْبهانيِّ، قَالَ: ((حَفِظْتُ القُرْآنَ ولِي خَمسُ سِنِيْنَ، وحُمِلْتُ إلى أبي بكرِ بنِ الْمُقْرِئِ لأسْمَعَ منهُ، ولِي أربَعُ سِنِيْنَ، فَقَالَ بَعْضُ الحاضرينَ: لاَ تُسَمِّعُوا (¬4) لَهُ فيما قُرِئَ فإنَّهُ صَغيرٌ، فقالَ لي ابنُ المقْرِئِ: اقْرَأْ سُوْرَةَ الكَافرِيْنَ، فَقَرَأْتُها، فقالَ: اقْرَأْ سُوْرَةَ التَّكْويرِ، فقرأتُها، فقالَ لي غَيْرُهُ: اقْرَأْ سُوْرَةَ والمرْسَلاتِ، فقرَأْتُها، ولَمْ أغْلَطْ فيها، فقالَ ابنُ المقرِئِ: سَمِّعُوا لَهُ والعُهْدَةُ عَلَيَّ)) (¬5). وأمَّا حديثُ محمودِ بنِ الرَّبِيْعِ ¬
بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله
فيَدُلُّ على صِحَّةِ ذَلِكَ مِنِ ابنِ خَمْسٍ مِثْلِ محمودٍ، ولاَ يَدلُّ علَى انتفاءِ الصِّحَّةِ فيمَنْ لَمْ يَكُنْ ابنَ خمسٍ ولاَ عَلَى الصِّحَّةِ فيمَنْ كَانَ ابنَ خمسٍ ولَمْ يُميِّزْ تَمْييزَ محمودٍ - رضي الله عنه -، واللهُ أعلمُ. بَيَانُ أَقْسَامِ طُرُقِ نَقْلِ الْحَدِيْثِ وتَحَمُّلِهِ ومَجَامِعُهَا (¬1) ثَمَانِيَةُ أقْسَامٍ: القِسْمُ (¬2) الأوَّلُ: السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وهوَ يَنقسمُ إلى إمْلاَءٍ، وتحديثٍ مِنْ غَيْرِ إمْلاَءٍ، وسَواءٌ كَانَ مِنْ حِفْظِهِ أوْ مِنْ كِتَابِهِ. وهَذَا القِسْمُ أرفَعُ الأَقْسَامِ (¬3) عِنْدَ الجماهِيْرِ. وفِيْما نَرْوِيهِ عَنِ القاضِي عِياضِ بنِ موسَى السَّبْتِيِّ - أحَدِ المتَأَخِّرينَ المطَّلِعِينَ - قولُهُ: ((لاَ خِلاَفَ أنَّهُ يَجُوزُ في هذا أنْ يَقُولَ السَّامِعُ منهُ: حَدَّثَنَا (¬4)، وأخْبَرَنا، وأنْبَأَنَا، وسَمِعْتُ فُلاَناً يَقُولُ، وقَالَ لَنا فُلاَنٌ، وذَكَرَ لَنا فُلاَنٌ)) (¬5). قُلْتُ: في هذا نَظَرٌ (¬6)، ويَنْبَغِي فِيْما شَاعَ اسْتِعْمالُهُ مِنْ هذهِ الألْفَاظِ مَخْصُوصاً بِما سُمِعَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الشَّيْخِ - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - أنْ لاَ يُطْلَقَ فِيْما سُمِعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ لِمَا فيهِ مِنَ الإيْهَامِ والإلْبَاسِ، واللهُ أعْلَمُ. وذَكَرَ الحافِظُ أبو بَكْرٍ الخطِيْبُ: أنَّ أرْفَعَ العِباراتِ (¬7) في ذَلِكَ: سَمِعْتُ، ثُمَّ: حدَّثَنا وحَدَّثَنِي، فإنَّهُ لاَ يَكَادُ أحَدٌ يَقُولُ: سَمِعْتُ في أحَادِيْثِ الإجَازَةِ والمكَاتَبَةِ ولاَ في تَدْلِيسِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ (¬8). وكَانَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ يَقُولُ فيما أُجِيْزَ لَهُ: حَدَّثَنا. وَرُوِيَ عَنِ الحسَنِ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنا أبو هُرَيرَةَ (¬9)، ويَتَأَوَّلُ أنَّهُ حَدَّثَ أهْلَ المدِينَةِ، وكَانَ الحسَنُ إذْ ذَاكَ بهَا إلاَّ أنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئاً. ¬
قُلْتُ: ومِنْهُمْ مَنْ أثْبَتَ لَهُ سَمَاعاً مِنْ أبي هُرَيْرَةَ (¬1)، واللهُ أعلَمُ. ثُمَّ يَتْلُو ذَلِكَ قَوْلُ: أخْبَرَنا وَهوَ كَثِيْرٌ في الاسْتِعْمالِ، حَتَّى إنَّ جَمَاعةً مِنْ أهْلِ العِلْمِ كَانُوا لاَ يَكَادُونَ يُخْبِرُونَ عَمَّا سَمِعُوهُ مِنْ لَفْظِ مَنْ حَدَّثَهُمْ إلاَّ بقَوْلِهِمْ: أخْبَرَنا، مِنْهُم: حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، وعَبْدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وهُشَيْمُ بنُ بَشِيْرٍ وعُبَيْدُ اللهِ بنُ مُوسَى، وعَبْدُ الرَّزَّاقِ بنُ هَمَّامٍ، ويَزِيْدُ بنُ هَارُونَ، وعَمْرُو بنُ عَوْنٍ ويَحْيَى بنُ يَحْيَى التَّمِيْمِيُّ، وإسْحاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ، وأبو مَسْعُودٍ أحمدُ بنُ الفُرَاتِ، ومحمَّدُ بنُ أيُّوبَ الرَّازِيَّانِ، وغَيْرُهُمْ (¬2). وذَكَرَ الخطيبُ عَنْ محمَّدِ بنِ رَافِعٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَقُولُ: أخْبَرَنا حَتَّى قَدِمَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ وإسْحَاقُ بنُ رَاهَويهِ فقَالاَ لَهُ: قُلْ: ((حَدَّثَنا))، فَكُلُّ مَا سَمِعْتَ مَعَ هَؤلاَءِ قالَ: ((حَدَّثَنا))، وما كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ: ((أخْبَرَنا)) (¬3). وعَنْ محمَّدِ بنِ أبي الفَوَارِسِ الحَافِظِ، قَالَ: هُشَيْمٌ، ويَزِيْدُ بنُ هَارُونَ، وعَبْدُ الرَّزَّاقِ لاَ يَقُولُونَ إلاَّ: ((أخْبَرَنا))، فإذا رَأَيْتَ: ((حَدَّثَنَا))، فَهُوَ مِنْ خَطَأِ الكَاتِبِ (¬4)، واللهُ أعلمُ. قُلْتُ: وَكَانَ هذا كُلُّهُ قَبْلَ أنْ يَشِيْعَ تَخْصِيْصُ أخْبَرَنا بما قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ يَتْلُو قَوْلَ أخْبَرَنا قَوْلُ أنْبَأَنَا ونَبَّأَنَا، وهوَ قَلِيْلٌ في الاسْتِعْمَالِ. قُلْتُ: حَدَّثَنا وأخْبَرَنا أرفعُ مِنْ سَمِعْتُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وهيَ أنَّهُ لَيْسَ في سَمِعْتُ دلاَلَةٌ عَلَى أنَّ الشَّيْخَ رَوَّاهُ الحديثَ وخَاطَبَهُ بهِ، وفي حدَّثَنا، وأخْبَرَنا دلاَلَةٌ عَلَى أنَّهُ خَاطَبَهُ بهِ ورَوَّاهُ لَهُ أوْ هُوَ مِمَّنْ فُعِلَ بهِ ذَلِكَ. سَأَلَ الخطِيْبُ أبو بَكْرٍ الحافِظُ (¬5) شَيْخَهُ أبا بَكْرٍ البَرْقَانيَّ (¬6) الفَقِيْهَ الحافِظَ - رَحِمَهُما اللهُ تَعَالَى - عَنِ السِّرِّ في كَوْنِهِ يَقُولُ فيما رَوَاهُ لَهُمْ ¬
عَنْ أبي القَاسِمِ عَبْدِ اللهِ بنِ إبرَاهِيْمَ الْجُرْجَانيِّ الآبَنْدُونِيِّ (¬1)، سَمِعْتُ ولاَ يَقُولُ حَدَّثَنا، ولاَ أخْبَرَنا فَذَكَرَ لهُ أنَّ أبا القاسِمِ كَانَ مَعَ ثِقَتِهِ وصَلاَحِهِ عَسِراً (¬2) في الرِّوَايَةِ ن فَكَانَ البَرْقَانيُّ يَجْلِسُ بحَيْثُ لاَ يَرَاهُ أبو القَاسِمِ ولاَ يَعْلَمُ بحضُورِهِ، فيَسْمَعُ منهُ (¬3) ما يُحَدِّثُ بهِ الشَّخْصَ الدَّاخِلَ إليهِ فَلِذَلِكَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ولاَ يَقُولُ: حَدَّثَنا، ولاَ أخْبَرَنا؛ لأنَّ قَصْدَهُ كَانَ الروايةُ للدَّاخِلِ إليهِ وَحْدَهُ. وأمَّا قَوْلَهُ، قَالَ لنا فُلاَنٌ (¬4)، أو ذَكَرَ لنا فلانٌ فَهوَ مِنْ قَبِيْلِ قَوْلِهِ: حَدَّثَنا فُلاَنٌ؛ غَيْرَ أنَّهُ لاَئِقٌ بما سَمِعَهُ منهُ في المذَاكَرَةِ وهوَ بهِ أشْبَهُ مِنْ حَدَّثَنا. وقَدْ حَكَيْنا في فَصْلِ التَّعْلِيْقِ عَقِيْبَ النَّوْعِ الحادِي عَشَرَ عَنْ كَثِيْرٍ مِنَ المحدِّثِيْنَ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ مُعَبِّرِيْنَ بهِ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُمْ في المذَاكَرَاتِ والمنَاظَرَاتِ. وأوْضَعُ العِبَاراتِ في ذَلِكَ أنْ يَقُولَ: قَالَ فُلاَنٌ، أوْ ذَكَرَ فُلاَنٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَوْلِهِ: لِي، ولَنا ونَحْوِ ذَلِكَ. وقَدْ قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ الإسْنادِ المعَنْعَنِ أنَّ ذَلِكَ ومَا أشْبَهَهُ مِنَ الألْفَاظِ، مَحْمُولٌ عِنْدَهُم عَلَى السَّمَاعِ إذَا عُرِفَ لِقَاؤُهُ لَهُ وَسَمَاعُهُ مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، لاَ سِيَّمَا إذَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أنَّهُ لاَ يَقُولُ: قَالَ فُلاَنٌ، إلاَّ فيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ. وقَدْ كَانَ حَجَّاجُ بنُ محمَّدٍ الأَعْوَرُ يَرْوِي عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ كُتُبَهُ، ويَقُولُ فيها: قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ فَحَمَلَها النَّاسُ عَنْهُ واحْتَجُّوا برِوايَاتِهِ، وكَانَ قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أنَّهُ لاَ يَرْوِي إلاَّ مَا سَمِعَهُ (¬5). وقَدْ خَصَّصَ الخطيبُ أبو بَكْرٍ الحافِظُ القَوْلَ بحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ بِمَنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ مِثْلُ ذَلِكَ (¬6)، والمحفُوظُ المعْرُوفُ مَا قَدَّمْنا ذِكْرَهُ، واللهُ أعْلَمُ. ¬
القِسْمُ الثَّاني مِنْ أقْسَامِ الأَخْذِ والتَّحَمُّلِ القِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ، وأكْثَرُ المحدِّثِيْنَ يُسَمُّونَهَا: عَرْضاً، مِنْ حَيْثُ إنَّ القَارئَ يَعْرِضُ عَلَى الشَّيْخِ مَا يَقْرَؤُهُ كَمَا يَعْرِضُ القُرْآنَ عَلَى الْمُقْرِئِ. وسَوَاءٌ كُنْتَ أنْتَ القَارِئَ، أَوْ قَرَأَ غَيْرُكَ وأَنْتَ تَسْمَعُ، أَوْ قَرَأْتُ مِنْ كِتابٍ أَوْ مِنْ حِفْظِكَ، أوْ كَانَ الشَّيْخُ يَحْفَظُ مَا يُقْرَأُ عليهِ، أوْ لاَ يَحْفَظُهُ لَكِنْ يُمْسِكُ أَصْلَهُ هُوَ أوْ ثِقَةٌ غَيْرُهُ. ولاَ خِلاَفَ أنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيْحَةٌ (¬1) إلاَّ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ لاَ يُعْتَدُّ بخِلاَفِهِ (¬2)، واللهُ أعْلَمُ. واخْتَلَفُوا في أنَّها مِثْلُ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخَ في المرْتَبَةِ أوْ دُوْنَهُ أوْ فَوْقَهُ، فَنُقِلَ عَنْ أبي حَنِيْفَةَ (¬3)، وابنِ أبي ذِئْبٍ (¬4) وغَيْرِهِما تَرْجِيْحُ القِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِهِ (¬5)، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ (¬6) أيْضاً، ورُوِيَ عَنْ مَالِكٍ (¬7) وغيرِهِ أنَّهُما سَوَاءٌ (¬8). وقَدْ قِيْلَ: إنَّ التَّسْوِيَةَ بيْنَهُما مَذْهَبُ مُعْظَمِ عُلَمَاءِ الحجَازِ والكُوفَةِ، ومَذْهَبُ مَالِكٍ وأصْحَابِهِ وأشْيَاخِهِ مِنْ عُلَمَاءِ المدينةِ، ومَذْهَبُ البخَاريِّ وغَيْرِهِمْ (¬9). والصحيحُ تَرجيحُ السَّمَاعِ (¬10) مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، والحكْمُ بأنَّ القِرَاءَةَ عليهِ مَرْتَبَةٌ ثَانيةٌ، وقَدْ قِيْلَ: إنَّ هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ أهْلِ المشْرِقِ (¬11)، واللهُ أعلمُ. ¬
وأمَّا العِبَارَةُ عَنْهَا عندَ الروايةِ بها فهِيَ عَلَى مَرَاتِبَ، أجْوَدُها وأسْلَمُهَا أنْ يَقُولَ: قَرَأْتُ عَلَى فُلانٍ، أوْ قُرِئَ عَلَى فُلاَنٍ وأنَا أسْمَعُ فَأَقَرَّ بهِ، فَهَذا سَائِغٌ (¬1) مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ. ويَتْلُوَ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ مِنَ العِبَاراتِ في السَّماعِ (¬2) مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ مُطْلَقَةً، إذا أتَى بها هَاهُنا مُقَيَّدَةً بأنْ يَقُولَ: حَدَّثَنا فُلانٌ قِرَاءَةً عليْهِ، أوْ أخْبَرَنا قِرَاءَةً عليهِ ونَحْوَ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ: أنْشَدَنا قِرَاءَةً عليهِ في الشِّعْرِ. وأمَّا إطْلاَقُ حَدَّثَنا، وأخْبَرَنا في القِرَاءَ ةِ عَلَى الشَّيْخِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا (¬3) فيهِ عَلَى مَذَاهِبَ: فَمِنْ أهْلِ الحديْثِ مَنْ مَنَعَ مِنْهُما جَمِيْعاً، وقِيْلَ: إنَّهُ قَوْلُ ابنِ المبَارَكِ (¬4)، ويَحْيَى بنِ يَحْيَى التَّمِيْمِيِّ (¬5)، وأحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ (¬6)، والنَّسَائيِّ (¬7)، وغَيْرِهِمْ. ومِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلى تَجْوِيْزِ (¬8) ذَلِكَ، وأنَّهُ كالسَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ في جَوَازِ إطْلاَقِ: حَدَّثَنا، وأخْبَرَنا، وأنْبَأَنا. وقَدْ قِيْلَ: إنَّ هذا مَذْهَبُ مُعْظَمِ الحجَازِيِّيْنَ، والكُوفِيِّيْنَ، وقَوْلُ الزُّهْرِيِّ (¬9) ومَالِكٍ (¬10)، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ (¬11)، ويَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ القَطَّانِ (¬12) في ¬
آخَرِينَ مِنَ الأَئِمَّةِ المتَقَدِّمِيْنَ، وهوَ مَذْهَبُ البخَارِيِّ - صَاحِبِ "الصحيحِ" - في جَمَاعَةٍ مِنَ المحدِّثِينَ، ومِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ أجَازَ فيها أيْضاً أنْ يَقُولَ: سَمِعْتُ فُلاَناً (¬1). والمذهَبُ الثالِثُ: الفَرْقُ بينَهُما في ذَلِكَ، والمنْعُ مِنْ إطْلاَقِ: حَدَّثَنا، وتَجْوِيْزُ إطْلاَقِ: أخْبَرَنا، وهوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ (¬2) وأصْحَابِهِ، وهوَ مَنْقُولٌ عَنْ مُسْلِمٍ - صَاحِبِ " الصحيحِ " (¬3) -، وجمهورِ أهْلِ المشْرِقِ. وذَكَرَ صَاحِبُ كِتَابِ "الإنْصَافِ" محمَّدُ بنُ الحسَنِ التَّمِيْمِيُّ الجوْهَرِيُّ (¬4) المِصْرِيُّ: أنَّ هذا مَذْهَبُ الأكْثَرِ مِنْ أصْحَابِ الحدِيْثِ الذِيْنَ لاَ يُحْصِيهِمْ أحَدٌ، وأنَّهُمْ جَعَلُوا: أخْبَرَنا عَلَماً يَقُومُ مَقَامَ قَولِ (¬5) قَائِلِهِ: ((أنَا قَرَأْتُهُ عَلَيْهِ لاَ أنَّهُ لَفَظَ بهِ لِي)). قَالَ: ((ومِمَّنْ كَانَ يَقُولُ بهِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنا أبو عَبْدِ الرَّحْمَانِ النَّسَائِيُّ في جَمَاعَةٍ مِثْلِهِ مِنْ مُحَدِّثِيْنا)). قُلْتُ: وَقَدْ قِيْلَ: إنَّ أوَّلَ مَنْ أحْدَثَ الفَرْقَ بينَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ ابنُ وَهْبٍ بمِصْرَ، وهَذَا يَدْفَعُهُ أنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، والأوْزَاعِيِّ حَكَاهُ عَنْهُمَا الخطِيْبُ أبو بَكْرٍ (¬6) إلاَّ أنْ يَعْنِي أنَّهُ أوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِمِصْرَ، واللهُ أعْلَمُ. قُلْتُ: الفَرْقُ بَيْنَهُما صَارَ هُوَ الشَّائِعَ الغَالِبَ عَلَى أهْلِ الحدِيْثِ (¬7)، والاحْتِجَاجُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ عَنَاءٌ وتَكَلُّفٌ؛ وخَيْرُ مَا يُقَالُ فيهِ: إنَّهُ اصْطِلاَحٌ مِنْهُمْ، أرَادُوا بهِ التَّمييزَ بينَ النَّوْعَيْنِ، ثُمَّ خُصِّصَ النَّوْعُ الأوَّلُ بِقَوْلِ: ((حَدَّثَنا)) لِقُوَّةِ إشْعَارِهِ بالنطْقِ والمشَافَهَةِ، واللهُ أعْلَمُ (¬8). ¬
تفريعات
ومِنْ أحْسَنِ مَا يُحْكَى عَمَّنْ يَذْهَبُ هذا المذْهَبَ (¬1)، مَا حَكاهُ الحافِظُ أبو بَكْرٍ البَرْقَانيُّ عَنْ أبي حاتِمٍ محمدِ بنِ يَعْقُوبَ الهَرَوِيِّ - أحَدِ رُؤَسَاءِ أهلِ الحديثِ بخُرَاسَانَ - أنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الشُّيوخِ عَنِ الفِرَبْرِيِّ (¬2) " صحيحَ البخاريِّ "، وكانَ يَقُولُ لهُ في كُلِّ حديثٍ: ((حَدَّثَكُمُ الفِرَبْرِيُّ)) فلَمَّا فَرَغَ مِنْ الكِتَابِ، سَمِعَ الشَّيخَ يذكُرُ أنَّهُ إنَّما سَمِعَ الكِتَابَ مِنَ الفِرَبْرِيِّ قِرَاءَةً عليهِ، فأعَادَ أبو حاتِمٍ قِرَاءةَ الكِتَابِ كُلِّهِ، وقَالَ لهُ في جميعِهِ: ((أخْبَرَكُمْ الفِرَبْرِيُّ)) (¬3)، واللهُ أعلمُ. تَفْرِيْعَاتٌ الأوَّلُ: إذا كانَ أصْلُ الشَّيخِ عِندَ القِرَاءَةِ (¬4) عليهِ بِيَدِ غَيْرِهِ وهوَ موثُوقٌ بهِ، مُرَاعٍ لِمَا يَقْرَأُ، أهْلٌ لذلِكَ، فإنْ كانَ الشَّيْخُ يَحْفَظُ ما يُقْرَأُ عليهِ فهوَ كَمَا لَوْ كَانَ أصْلُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، بَلْ أوْلَى لِتَعَاضُدِ ذِهْنَي شَخْصَيْنِ عليهِ، وإنْ كَانَ الشَّيْخُ لاَ يَحْفَظُ ما يُقْرَأُ عليهِ، فهذَا مِمَّا اختَلَفُوا فيهِ: فَرَأَى بعضُ أئِمَّةِ الأُصُولِ (¬5) أنَّ هَذَا سَمَاعٌ غَيرُ صَحيحٍ، والمخْتَارُ أنَّ ذَلِكَ صَحيحٌ وبهِ عَمِلَ مُعْظَمُ الشُّيوخِ وأهْلِ الحديثِ. وإذا كانَ الأصْلُ بِيَدِ القَارِئِ وهوَ موثُوقٌ بهِ دِيْناً ومَعْرِفَةً، فكذَلِكَ الحكْمُ فيهِ، وأوْلَى بالتَّصْحِيْحِ، وأمَّا إذا كَانَ أصْلُهُ بِيَدِ مَنْ لاَ يُوثَقُ بإمْسَاكِهِ لهُ، ولاَ يُؤْمَنُ إهْمَالُهُ لِمَا يَقْرَأُ، فَسَوَاءٌ كَانَ بِيَدِ القَارِئِ أوْ بِيَدِ غَيْرِهِ في أنَّهُ سَمَاعٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ به إذَا كانَ الشَّيخُ غَيرَ حافِظٍ للمَقْرُوءِ عليهِ، واللهُ أعلمُ. ¬
الثَّاني: إذا قَرَأَ القارِئُ على الشَّيْخِ قَائِلاً: أخْبَرَكَ فُلاَنٌ، أوْ قُلْتَ أخْبَرَنا فُلاَنٌ، أوْ نَحْوَ ذلكَ؛ والشَّيْخُ سَاكِتٌ مُصْغٍ إليهِ، فاهِمٌ لذَلِكَ، غَيرُ مُنْكِرٍ لهُ، فَهَذا كَافٍ في ذلكَ. واشْتَرطَ بعضُ الظَّاهِرِيَّةِ وغيرُهُمْ إقْرَارَ الشَّيْخِ نُطْقاً (¬1)، وبهِ قَطَعَ الشَّيخُ (¬2) أبو إسْحاقَ الشِّيرازيُّ (¬3)، وأبو الفتْحِ سُلَيْمٌ الرَّازيُّ، وأبو نَصْرَ بنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّيْنَ. قالَ أبو نَصْرٍ: لَيْسَ لَهُ أنْ يَقُولَ: ((حدَّثَنِي)) أو ((أخْبَرَنِي)) (¬4)، ولهُ أنْ يَعْمَلَ بما قُرِئَ عليهِ، وإذا أرادَ روايَتَهُ عنهُ قَالَ: ((قَرَأْتُ عليهِ، أوْ قُرِئَ عليهِ وهوَ يَسْمَعُ)). وفي حِكَايةِ بَعضِ المصَنِّفِيْنَ للخِلاَفِ في ذَلِكَ أنَّ بعضَ الظَّاهِرِيَّةِ شَرَطَ إقْرَارَ الشَّيْخِ عِنْدَ تَمامِ السَّماعِ، بأنْ يَقُولَ القَارِئُ للشَّيْخِ: ((هوَ (¬5) كَما قَرَأْتُهُ عليكَ؟))، فيقولُ: ((نَعَمْ)). والصحيحُ أنَّ ذلِكَ غَيْرُ لاَزِمٍ، وأنَّ سُكُوتَ الشَّيْخِ عَلَى الوجْهِ المذكُورِ نازِلٌ مَنْزِلَةَ تَصْرِيْحِهِ بتَصْدِيْقِ القَارِئِ اكْتِفَاءً بالقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ، وهذا مَذْهَبُ الجماهِيْرِ مِنَ المحَدِّثِيْنَ والفُقَهَاءِ وغَيْرِهِمْ، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: فيمَا نَرْوِيهِ عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ الحافِظِ (¬6) -رَحِمَهُ اللهُ- قالَ: ((الذي أخْتَارُهُ في الروايةِ وعَهِدْتُ عليهِ أكثرَ مَشَايِخِي وأئِمَّةَ عَصْرِي أنْ يَقُولَ في الذي يأخُذُهُ مِنَ المحدِّثِ لَفْظاً وليْسَ مَعَهُ أحَدٌ ((حَدَّثَنِي فُلانٌ))، وما يأخُذُهُ مِنَ المحَدِّثِ لَفْظاً ومعهُ غيرُهُ ((حَدَّثَنا فُلاَنٌ)). ومَا قَرَأَ عَلَى المحدِّثِ بنفسِهِ: ((أخْبَرَنِي فُلاَنٌ))، وما قُرِئَ عَلَى المحدِّثِ وهوَ حَاضِرٌ ((أخْبَرَنا فُلاَنٌ)) (¬7). وقَدْ رُوِّيْنا نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ وَهْبٍ -صَاحِبِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما- وهوَ حَسَنٌ رَائقٌ. ¬
فإنْ شَكَّ في شيءٍ عندَهُ أنَّهُ مِنْ قَبيلِ: ((حَدَّثَنا أو أخْبَرَنا)) (¬1)، أو مِنْ قَبيلِ: ((حدَّثني أو أخْبَرني)) لتَرَدُّدِهِ في أنَّهُ كَانَ عِندَ التَّحَمُّلِ والسَّماعِ وحْدَهُ أو مَعَ غيرِهِ فَيَحْتَمِلُ أنْ نَقُولَ: ليقُلْ: ((حَدَّثَني أو أخْبَرني))؛ لأنَّ عَدَمَ غَيْرِهِ هوَ الأَصْلُ. ولكِنْ ذَكَرَ عليُّ بنُ عبدِ اللهِ المدينيُّ الإمَامُ عَنْ شَيْخِهِ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ القَطَّانِ الإمامِ، فِيْمَا إذا شَكَّ أنَّ الشَّيْخَ قالَ: ((حَدَّثَني فُلاَنٌ))، أو قَالَ: ((حَدَّثَنا فلانٌ)) أنَّهُ يَقُولُ: ((حَدَّثَنا))، وهذا يقتَضِي فيما إذا شَكَّ في سَماعِ نفْسِهِ في مِثلِ ذلكَ أنْ يَقُولَ: ((حَدَّثَنا)). وهو عِندي يَتَوَجَّهُ بأنَّ ((حَدَّثَني)) أكْمَلُ مَرْتَبَةً، و ((حَدَّثَنا)) أنقَصُ مَرْتَبةً، فَلْيَقْتًصِرْ - إذا شَكَّ - على الناقِصِ؛ لأنَّ عدمَ الزَّائِدِ هوَ الأصْلُ وهذا لَطِيْفٌ. ثُمَّ وَجَدْتُ (¬2) الحَافِظَ أحمدَ البَيْهَقيَّ - رَحِمَهُ اللهُ - قدِ اخْتَارَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ قَوْلَ القَطَّانِ مَا قَدَّمْتُهُ. ثُمَّ إنَّ هذا التفصيلَ مِنْ أصْلِهِ مُسْتَحَبٌّ، وليسَ بواجِبٍ، حكاهُ الخطيبُ الحافِظُ عَنْ أهلِ العِلْمِ كَافَةً (¬3)، فَجَائِزٌ إذا سَمِعَ وَحْدَهُ أنْ يَقُولَ: ((حدَّثَنا)) أو نحوَهُ لِجَوَازِ ذَلِكَ للواحِدِ في كَلاَمِ العرَبِ، وجَائِزٌ إذا سَمِعَ في جَمَاعَةٍ أنْ يَقُولَ: ((حَدَّثَني))؛ لأنَّ المحدِّثَ حَدَّثَهُ وحدَّثَ غَيْرَهُ، واللهُ أعلمُ. الرَّابِعُ: رُوِّيْنا عَنْ أبي عبدِ اللهِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ (¬4): اتَّبِعْ لَفْظَ الشَّيْخِ في قَوْلِهِ: ((حَدَّثَنا، وحَدَّثَني، وسَمِعْتُ، وأخْبَرَنا))، ولاَ تَعْدُهُ (¬5). قُلْتُ: لَيسَ لكَ فيما تَجدُهُ في الكُتُبِ المؤَلَّفَةِ مِنْ رِوَاياتِ (¬6) مَنْ تَقَدَّمَكَ أنْ تُبَدِّلَ في نَفْسِ الكِتَابِ مَا قِيْلَ فيهِ: ((أخْبَرَنا)) بـ ((حَدَّثَنا)) ونحوِ ذلكَ، وإنْ كَانَ في إقَامَةِ ¬
أحدِهِما مَقَامَ الآخَرِ خِلاَفٌ وتَفْصِيلٌ سَبَقَ؛ لاحْتِمَالِ أنْ يَكُونَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِمَّنْ لاَ يَرى التَّسْوِيةَ بَيْنَهُما، ولَوْ وَجَدْتَ مِنْ ذَلِكَ إسْناداً عَرَفَتْ مِنْ مَذْهَبِ رجالِهِ التَّسْوِيةَ بَيْنَهُما فإِقَامَتُكَ أحدَهُما مَقَامَ الآخَرِ مِنْ بَابِ تجويزِ الرواية بالمعنَى. وذلكَ وإنْ كانَ فيهِ خِلاَفٌ مَعْرُوفٌ، فالذي نَرَاهُ: الامتناعُ مِنْ إجراءِ مِثلِهِ في إبْدَالِ مَا وُضِعَ في الكُتُبِ المصَنَّفَةِ والمجامِعِ المجموعةِ عَلى ما سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. ومَا ذَكَرَهُ الخطيبُ أبو بكرٍ في " كِفايتِهِ " (¬1) مِنْ إجْرَاءِ ذَلِكَ الخِلاَفِ (¬2) في هذا، فَمَحْمُولٌ عندَنا علَى مَا يَسْمَعُهُ الطَّالِبُ مِنْ لَفْظِ المحدِّثِ غيرَ موضوعٍ في كِتابٍ مُؤَلَّفٍ، واللهُ أعلمُ. الخامِسُ: اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في صِحَّةِ سَمَاعِ مَنْ يَنْسَخُ وَقْتَ القِرَاءَةِ (¬3)، فَورَدَ عَنِ الإمامِ إبْرَاهِيمَ الحرْبِيِّ (¬4)، وأبي أحمدَ بنِ عَدِيٍّ الحافِظِ (¬5)، والأسْتَاذِ أبي إسْحَاقَ الإسْفِرَايِيْنِيِّ الفقيهِ الأُصُوليِّ وغيرِهِمْ نَفْيُ ذَلِكَ. وَرُوِّيْنا عَنْ أبي بَكْرٍ أحمدَ ابنِ إسْحَاقَ الصِّبْغِيِّ (¬6) - أحَدِ أئِمَّةِ الشَّافِعِيِّيْنَ بِخُرَاسَانَ - أنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يكتُبُ في السَّمَاعِ؟ فقَالَ: يَقُولُ: ((حَضَرْتُ))، ولاَ يَقُلْ: ((حَدَّثَنا، ولاَ أخْبَرَنا)) (¬7). ووَرَدَ عَنْ مُوسَى بنِ هَارُونَ الحمَّالِ تَجْويْزُ ذَلِكَ (¬8). وَعَنْ أبي حاتِمٍ الرَّازِيِّ قَالَ: ((كَتَبْتُ عِندَ عَارِمٍ (¬9) وهوَ يَقْرَأُ، وكَتَبْتُ عِنْدَ عَمْرِو بنِ مَرْزُوقٍ وهوَ يَقْرَأُ)). وعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ المبَارَكِ أنَّهُ ¬
قُرِئَ عليهِ وهوَ يَنْسَخُ شَيْئاً آخَرَ غَيْرَ مَا يُقْرَأُ (¬1). ولاَ فَرْقَ بَيْنَ النَّسْخِ مِنَ السَّامِعِ والنَّسْخِ مِنَ المسْمِعِ. قُلْتُ: وخَيْرٌ مِنْ هذا الإطْلاَقِ: التفصِيْلُ، فَنَقُولُ: لاَ يَصِحُّ السَّمَاعُ إذا كَانَ النَّسْخُ بحَيْثُ يَمْتَنِعُ مَعَهُ فَهْمُ النَّاسِخِ لِمَا يُقْرَأُ، حَتَّى يَكُونَ الواصِلُ إلى سمْعِهِ كأنَّهُ صَوْتٌ غُفْلٌ، ويَصِحُّ إذا كَانَ بحيثُ لاَ يَمْتَنِعُ معَهُ الفَهْمُ، كَمِثْلِ ما رُوِّيْنا (¬2) عَنِ الحَافِظِ العَالِمِ أبي الحسَنِ الدَّارقطنيِّ أنَّهُ حَضَرَ في حَدَاثَتِهِ مَجْلِسَ إسْمَاعِيْلَ الصَّفَّارِ فَجَلَسَ يَنْسَخُ جُزْءاً كَانَ مَعَهُ وإسْمَاعِيْلُ يُمْلِي، فَقَالَ لهُ بعضُ الحاضِرِيْنَ: ((لاَ يَصِحُّ سَمَاعُكَ وأنْتَ تَنْسَخُ!))، فقالَ: ((فَهْمِي للإمْلاَءِ خِلاَفُ فَهْمِكَ، ثُمَّ قَالَ: تَحْفَظُ كَمْ أمْلَى الشَّيْخُ مِنْ حديثٍ إلى الآنَ؟))، فقالَ: لاَ، فقالَ الدَّارقطنيُّ: ((أمْلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حديثاً))، فَعُدَّتِ الأحاديثُ فَوُجِدَتْ كَمَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ أبو الحسَنِ: ((الحديثُ الأوَّلُ مِنْها عَنْ فُلاَنٍ، عَنْ فُلاَنٍ، ومَتْنُهُ كذا، والحديثُ الثاني عَنْ فُلاَنٍ، عَنْ فُلاَنٍ، ومَتْنُهُ كذا))، ولَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ أسَانِيْدَ الأحاديثِ ومُتُونَها عَلَى ترْتِيبِها في الإمْلاَءِ حَتَّى أتَى عَلَى آخِرِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ منهُ واللهُ أعلمُ. السَّادِسُ: ما ذَكَرْناهُ في النَّسْخِ مِنَ التَّفْصِيلِ يَجْرِي مِثْلُهُ فيما إذا كَان الشَّيْخُ أو السَّامِعُ يَتَحَدَّثُ، أوْ كَانَ القَارِئُ خَفِيْفَ القِرَاءَةِ يُفْرِطُ (¬3) في الإسْرَاعِ، أوْ كَانَ يُهَيْنِمُ (¬4) بحيثُ يَخْفَى بعضُ الكَلِمِ (¬5)، أوْ كَانَ السَّامِعُ بَعِيْداً عَنِ القَارِئِ، ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أنَّهُ يُعْفَى في كُلِّ ذَلِكَ عَنِ القَدْرِ اليَسِيْرِ، نحوِ الكَلِمَةِ والكَلِمَتَيْنِ. ويُسْتَحَبُّ للشَّيْخِ أنْ يُجِيْزَ لِجَمِيْعِ السَّامِعينَ (¬6) روايَةَ جَمِيْعِ الجزْءِ أو الكِتابِ الذي سَمِعُوهُ وإنْ ¬
جَرَى عَلَى كُلِّهِ اسمُ السَّماعِ. وإذَا بَذَلَ لأحَدٍ مِنْهُمْ خَطَّهُ بذلِكَ كَتَبَ لهُ (¬1) ((سَمِعَ مِنِّي هذا الكِتَابَ وأجَزْتُ لهُ روايَتَهُ عَنِّي)) أو نحوَ هذا كَما كَانَ بعضُ الشُّيوخِ يَفعَلُ. وفيما نَرْويهِ عَنِ الفقيهِ أبي محمَّدِ بنِ أبي عبدِ اللهِ بنِ عَتَّابٍ الفقِيْهِ الأنْدلسيِّ، عَنْ أبيهِ -رَحِمَهُما اللهُ- أنَّهُ قَالَ: ((لاَ غِنى في السَّماعِ عَنِ الإجَازةِ؛ لأنَّهُ قَدْ يَغْلَطُ القَارئُ ويَغْفُلُ الشَّيْخُ، أو يَغْلَطُ الشَّيْخُ إنْ كَانَ القارئَ، ويَغْفُلُ السَّامِعُ، فَيَنْجَبِرُ لهُ ما فاتَهُ بالإجَازةِ)) (¬2). هَذَا الذي ذَكَرْناهُ تحقيقٌ حَسَنٌ، وقَدْ رُوِّيْنا عَنْ صَالِحِ بنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ قالَ: قُلْتُ لأبي: ((الشَّيْخُ يُدْغِمُ الحرفَ يُعْرَفُ أنَّهُ كذا وكذا، ولاَ يُفْهَمُ عنهُ، تَرَى أنْ يُرْوَى ذَلِكَ عنهُ؟ قالَ: أَرْجُو ألاَّ يُضَيَّقَ هَذَا)) (¬3). وبَلَغَنا عَنْ خَلَفِ بنِ سَالمٍ الْمُخَرَّمِيِّ (¬4)، قالَ: سَمِعْتُ ابنَ عُيَينةَ يَقُولُ: نا عَمْرُو بنُ دِيْنارٍ، يُرِيْدُ: حدَّثَنا عَمْرُو بنُ دِيْنارٍ، لكِنِ اقْتَصَرَ مِنْ ((حَدَّثَنا)) على النونِ والألفِ، فإذا قِيْلَ لهُ قُلْ: حدَّثَنا عَمْرٌو، قالَ: لاَ أقُولُ؛ لأنِّي لَمْ أسْمَعْ مِنْ قَولِهِ: حَدَّثَنا ثَلاَثَةَ أحرفٍ، وهيَ حَدَثَ؛ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ (¬5). قُلْتُ: قَدْ كَانَ كَثيرٌ مِنْ أكَابِرِ المحدِّثِينَ يَعْظُمُ الجمْعُ في مجالَسِهِمْ جِدّاً حَتَّى رُبَّمَا بَلَغَ أُلُوفاً مُؤَلَّفَةً، ويُبَلِّغَهُمْ عَنْهُمُ المسْتَمْلُونَ، فيَكْتُبُونَ عَنْهُمْ بوَاسِطَةِ تَبْلِيْغِ المسْتَمْلِينَ، فأجازَ غيرُ واحِدٍ لَهُمْ روايةَ ذلكَ عَنِ الممْلِي. رُوِّيْنَا عَنِ الأعْمشِ - رضي الله عنه - قالَ: ((كُنَّا نَجْلِسُ إلى إبرَاهِيمَ فتَتَّسِعُ الحلقَةُ فَرُبَّما يُحَدِّثُ بالحدِيْثِ فَلاَ يَسْمَعُهُ مَنْ تَنَحَّى عنهُ، فيَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَمَّا قالَ، ثُمَّ يَرْوونَهُ، ومَا سَمِعُوهُ مِنْهُ)) (¬6). وعَنْ حَمَّادِ بنِ زَيدٍ أنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ في مِثْلِ ذَلِكَ فقَالَ: ((يا أبا ¬
إسْمَاعِيْلَ كَيْفَ قُلْتَ؟ فقالَ: اسْتَفْهِمْ مَنْ يَلِيْكَ)) (¬1). وعَنِ ابنِ عُيَينةَ أنَّ أبا مُسْلِمٍ المسْتَمْلِي قالَ لهُ: ((إنَّ النَّاسَ كَثِيْرٌ لاَ يَسْمَعُونَ))، قالَ: ((تَسْمَعُ (¬2) أنتَ؟))، قالَ: ((نَعَمْ))، قالَ: ((فَأَسْمِعْهُمْ)) (¬3). وأبَى آخَرُونَ ذَلِكَ. رُوِّيْنا عَنْ خَلَفِ بنِ تَميمٍ، قالَ: سَمِعْتُ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَشْرَةَ آلاَفِ حديثٍ أوْ نَحْوَها، فكنْتُ أسْتَفْهِمُ جَلِيْسِي، فَقُلْتُ لِزَائِدَةَ؟ فقَالَ لي: ((لاَ تُحَدِّثْ مِنْهَا إلاَّ بما تَحْفَظُ بقَلْبِكَ وسَمْعِ أُذُنِكَ))، قالَ: ((فألْقَيْتُها)) (¬4). وعَنْ أبي نُعَيْمٍ أنَّهُ كَانَ يَرَى - فيما سَقَطَ عنهُ مِنَ الحرفِ الواحدِ والاسمِ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ سُفْيانَ والأعْمَشِ، واسْتَفْهَمَهُ مِنْ أصْحَابِهِ - أنْ يَرْوِيَهُ عَنْ أصْحَابِهِ لاَ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ واسِعاً لهُ (¬5). قُلْتُ: الأوَّلُ تَساهُلٌ بَعِيْدٌ، وقَدْ رُوِّيْنا عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ بنِ مَنْده الحافِظِ الأصبهانيِّ أنَّهُ قالَ لواحِدٍ مِنْ أصحابِهِ: ((يا فُلانُ، يَكْفِيكَ مِنَ السَّماعِ شَمُّهُ))، وهذا إمَّا مُتَأَوَّلٌ أو مَتْرُوكٌ عَلَى قَائِلِهِ. ثُمَّ وَجَدْتُ عَنْ عَبدِ الغَنِيِّ بنِ سَعيدٍ (¬6) الحافِظِ، عَنْ حَمزَةَ بنِ محمَّدٍ الحافِظِ بإسْنادِهِ، عَنْ عبدِ الرَّحمانِ بنِ مَهدِيٍّ، أنَّهُ قالَ: ((يَكْفِيْكَ منَ الحديثِ شَمُّهُ)) (¬7). قالَ عبدُ الغنيِّ: قالَ لنا حَمْزَةُ: ((يعني: إذا سُئِلَ عَنْ أوَّلِ شَيءٍ عَرَفَهُ، وليسَ يَعْنِي التَّسَهُّلَ في السَّماعِ)) (¬8)، واللهُ أعلمُ. ¬
السَّابِعُ: يَصِحُّ السَّماعُ مِمَّنْ هُوَ وراءَ حِجَابٍ (¬1)، إذا عُرِفَ صَوْتُهُ فيما إذا حَدَّثَ بلفْظِهِ، أو إذا عُرِفَ حُضُورُهُ بِمَسْمَعٍ مِنْهُ فيما إذا قُرِئَ عليهِ. ويَنْبَغِي أنْ يَجوزَ الاعْتِمادُ في مَعْرِفَةِ صَوْتِهِ وحضُورِهِ علَى خَبَرِ مَنْ يُوثَقُ بهِ. وقَد (¬2) كانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ عائِشَةَ وغَيرِها مِنْ أزْوَاجِ رسُولِ اللهِ (¬3) - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ويَرْوونَهُ عَنْهُنَّ اعتِمَاداً عَلَى الصَّوْتِ. واحْتَجَّ عبدُ الغَنيِّ بنُ سَعِيدٍ الحافِظُ في ذلكَ بقولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ بلاَلاً يُنَادي بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُناديَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ)) (¬4)، ورَوَى بإسْنَادِهِ عَنْ شُعْبَةَ أنَّهُ قَالَ: إذا حَدَّثَكَ المحدِّثُ فَلَمْ تَرَ وَجْهَهُ فَلاَ تَرْوِ عنهُ، فَلَعَلَّهُ شَيْطَانٌ قَدْ تَصَوَّرَ في صُورَتِهِ، يَقُولُ: ((حَدَّثَنا وأخْبَرَنا)) (¬5). واللهُ أعلمُ. الثَّامِنُ: مَنْ سَمِعَ مِنْ شَيْخٍ حديثاً ثُمَّ قالَ لهُ: لاَ تَرْوِهِ (¬6) عَنِّي، أو: لاَ آذَنُ لَكَ في روايتِهِ عَنِّي، أو قالَ: لسْتُ أُخْبِرُكَ (¬7) بهِ، أو رَجَعْتُ عَنْ إخْبَارِي إيَّاكَ بهِ، فلاَ تَرْوِهِ ¬
عَنِّي غَيرَ مُسْنِدٍ ذَلِكَ إلى أنَّهُ أخطأَ فيهِ، أوْ شَكَّ فيهِ ونحوِ ذَلِكَ، بلْ منَعَهُ مِنْ رِوَايتِهِ عنهُ مَعَ جَزْمِهِ بأنَّهُ حديثُهُ وروايتُهُ (¬1)، فذلِكَ غيرُ مُبْطلٍ لِسَماعِهِ، ولاَ مانِعٌ لهُ مِنْ روايتِهِ عنهُ (¬2). وسَأَلَ الحافِظُ أبو سَعْدِ بنُ عَلِيَّكٍ (¬3) النَّيْسَابُوريُّ الأسْتَاذَ أبا إسْحَاقَ الإسْفِرايِينِيَّ - رَحِمَهُما اللهُ - عَنْ مُحَدِّثٍ خَصَّ بالسَّمَاعِ قوماً، فَجَاءَ غيرُهُمْ وَسَمِعَ منهُ مِنْ غَيرِ عِلْمِ المحدّثِ بهِ، هلْ يَجُوزُ لهُ روايةُ ذلكَ عنهُ؟ فأجابَ بأنَّهُ يَجُوزُ، ولوْ قالَ المحدِّثُ: إنِّي أُخْبِرُكُمْ ولاَ أُخْبِرُ فُلاَناً، لَمْ يَضُرَّهُ، واللهُ أعلمُ. القِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أقْسَامِ طُرُقِ نَقْلِ الحدِيْثِ وَتَحَمُّلِهِ: الإجَازَةُ (¬4) وهِيَ مُتَنوِّعَةٌ أنواعاً: أوَّلُها: أنْ يُجِيزَ لِمُعَيَّنٍ في مُعَيَّنٍ، مِثْلُ أنْ يَقُولَ: أجَزْتُ لَكَ الكِتَابَ الفُلاَنِيَّ، أو ما اشْتَمَلَتْ عليهِ فِهْرِستِي هذهِ، فهَذا أعلَى أنواعِ الإجَازةِ المجَرَّدَةِ عَنِ المنَاوَلَةِ. وزَعَمَ بَعْضُهُمْ (¬5) أنَّهُ لاَ خِلاَفَ في جَوَازِهَا وَلاَ خَالَفَ فيها أهلُ الظَّاهِرِ، وإنَّمَا خِلاَفُهُمْ في غيرِ هذا النوعِ. وزادَ القاضِي أبو الوليدِ الباجِيُّ المالِكِيُّ فأطْلَقَ (¬6) نَفْيَ الخِلاَفِ وقالَ: ((لاَ ¬
خِلاَفَ في جَوازِ الروايةِ بالإجازَةِ مِنْ سَلَفِ هذهِ الأُمَّةِ وخَلَفِها))، وادَّعَى الإجماعَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيْلٍ، وحَكَى الخِلاَفَ في العَمَلِ بها (¬1). قُلْتُ: هذا باطِلٌ، فقَدْ خالَفَ في جَوَازِ الروايَةِ بالإجَازَةِ جَماعاتٌ مِنْ أهْلِ الحديثِ والفُقَهاءِ والأُصُوليينَ، وذلكَ إحْدَى الروايتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - (¬2)، رُويَ عَنْ صاحِبِهِ الرَّبيعِ بنِ سُلَيمانَ، قالَ: ((كانَ الشَّافِعِيُّ لاَ يَرَى الإجَازَةَ في الحديثِ. قالَ الربيعُ: أنَا أُخَالِفُ الشَّافِعِيَّ (¬3) في هذا)). وقدْ قَالَ بإبْطَالِها جَمَاعةٌ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ، منهُم: القَاضِيانِ حُسَيْنُ (¬4) بنُ محمَّدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ (¬5)، وأبو الحسَنِ الماوَرْدِيُّ (¬6) - وبهِ قَطَعَ الماوَرْدِيُّ في كتابِهِ "الحَاوِي" (¬7) وعَزَاهُ إلى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - وقَالاَ جَمِيْعاً: ((لَوْ جَازَتِ الإجَازَةُ لَبَطَلَتِ الرِّحْلَةُ)). ورُوِيَ أيضاً هذا الكَلامُ عَنْ شُعْبَةَ (¬8) وغيرِهِ. ومِمَّنْ أبْطَلَها مِنْ أهْلِ الحديثِ الإمامُ إبْرَاهيمُ بنُ إسْحَاقَ الحربِيُّ (¬9)، وأبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمَّدٍ الأصْبَهانيُّ الملقَّبُ بـ: (أبي الشَّيْخِ) (¬10)، والحافِظُ أبو نَصْرٍ الوائِلِيُّ السِّجْزِيُّ. وحَكَى أبو نَصْرٍ فَسَادَها عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيَهُ. قَالَ أبو نَصْرٍ: وسَمِعْتُ جَماعَةً ¬
مِنْ أهلِ العِلْمِ يَقُولُونَ: قَولُ المحدِّثِ: ((قَدْ أجَزْتُ لَكَ أنْ تَرْوِيَ عَنِّي))، تَقْدِيْرُهُ: قَدْ أجَزْتُ لَكَ مَا لاَ يَجُوزُ في الشَّرْعِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لاَ يُبِيحُ روايةَ مَا لَمْ يَسْمَعْ (¬1). قُلْتُ: ويُشْبِهُ هذا ما حَكَاهُ أبو بَكْرٍ محمَّدُ بنُ ثَابِتٍ الخُجَنْدِيُّ (¬2) - أحَدُ مَنْ أبْطَلَ الإجازَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - عَنْ أبي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ (¬3) - أحَدِ أئِمَّةِ الحنَفِيَّةِ - قالَ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: ((أجَزْتُ لَكَ أنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا لَمْ تَسْمَعْ؛ فكأنَّهُ يَقُولُ: ((أجَزْتُ لَكَ أنْ تَكْذبَ عَليَّ)) (¬4). ثُمَّ إنَّ الذي اسْتَقَرَّ عليهِ العَمَلُ، وقَالَ بهِ جَماهِيْرُ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أهْلِ الحديثِ وغَيْرِهِمْ: القَوْلُ بتَجْويزِ الإجَازَةِ وإباحَةِ الروايَةِ بها (¬5)، وفي الاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ غُمُوضٌ. ويَتَّجهُ أنْ نَقُولَ: إذا أجازَ لهُ أنْ يَرْوِيَ عنهُ مَرْوِيَّاتِهِ فَقَدْ (¬6) أخْبَرَهُ بها جُمْلَةً، فَهوَ كَمَا لوْ أخْبَرَهُ تَفْصِيْلاً، وإخْبَارُهُ بِهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى التَّصْرِيْحِ نُطْقاً كَمَا في القِرَاءَةِ علَى الشَّيْخِ ¬
-كَما سَبَقَ -، وإنَّما الغَرَضُ حُصُولُ الإفْهَامِ والفَهْمِ وذَلِكَ يَحْصلُ بالإجازَةِ الْمُفْهِمَةِ، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ إنَّهُ كَمَا تَجُوزُ الروايَةُ بالإجَازَةِ، يَجِبُ العَمَلُ بالْمَرْوِيِّ بها، خِلاَفاً لِمَنْ قَالَ مِنْ أهْلِ الظَّاهِرِ ومَنْ تابَعَهُمْ: إنَّهُ لاَ يَجِبُ العَمَلُ بهِ، وإنَّهُ جَارٍ مَجْرَى المرْسَلِ. وهذا باطِلٌ؛ لأنَّهُ لَيْسَ في الإجازَةِ مَا يَقْدَحُ في اتِّصَالِ المنْقُولِ بِهَا وَفِي الثِّقَةِ بهِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّاني مِنْ أنواعِ الإجازَةِ: أنْ يُجِيْزَ لِمُعَيَّنٍ في غَيرِ مُعَيَّنٍ، مِثلُ أنْ يَقُولَ: ((أجَزْتُ لَكَ، أو لَكُمْ جَمِيْعَ مَسْمُوعَاتي، أو جَمِيْعَ مَرْوِيَّاتِي))، وما أشْبَهَ ذَلِكَ، فالخِلاَفُ في هذا النوعِ أقْوَى وأكثَرُ. والجمهُورُ مِنَ العُلَماءِ مِنَ المحدَّثِينَ والفُقَهَاءِ وغَيْرِهِمْ عَلَى تَجْوِيْزِ الروايَةِ بها أيضاً، وعَلَى إيجابِ العَمَلِ بما رُوِيَ بها بِشَرْطِهِ (¬1)، واللهُ أعلمُ. النَّوعُ الثَّالِثُ مِنْ أنواعِ الإجَازَةِ: أنْ يُجِيْزَ لغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِوَصْفِ العُمُومِ، مِثْلُ أنْ يَقُولَ: ((أجَزْتُ لِلْمُسْلِمِينَ، أوْ أجَزْتُ لِكُلِّ أحَدٍ (¬2)، أوْ أجَزْتُ لِمَنْ أدْرَكَ زَمَانِي))، ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ، فَهذا نَوعٌ تَكَلَّمَ فيهِ المتأخِّرُونَ مِمَّنْ جَوَّزَ أصْلَ الإجَازَةِ واخْتَلَفُوا في جَوَازِهِ: فإنْ كَانَ ذَلكَ مُقَيَّداً بوَصْفٍ حاصِرٍ (¬3) أوْ (¬4) نحوِهِ فَهوَ إلى الجوَازِ أقرَبُ. ومِمَّنْ جَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ أبو بَكْرٍ الخطِيْبُ الحافِظُ (¬5). ورُوِّيْنا عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ بنِ مَنْدَه الحَافِظِ أنَّهُ قالَ: ((أجَزَتُ لِمَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ)). وجَوَّزَ القَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ - أحَدُ الفُقَهَاءِ المحَقِّقِيْنَ - فيما حَكَاهُ عنهُ الخطيبُ - الإجازَةَ لِجَميعِ المسلمينَ مَنْ كَانَ منهُمْ مَوْجُوداً عِندَ الإجَازَةِ (¬6). وأجَازَ أبو محمَّدِ بنُ سَعِيْدٍ - أحَدُ الجِلَّةِ (¬7) مِنْ شُيُوخِ ¬
الأندلسِ - لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ قُرْطُبَةَ مِنْ طَلَبَةِ العِلْمِ (¬1). ووافَقَهُ عَلَى جَوَازِ ذلكَ جَماعَةٌ، منهُمْ: أبو عبدِ اللهِ بنِ عَتَّابٍ (¬2) - رضي الله عنهم -. وأنْبَأَنِي مَنْ سَأَلَ الحازِمِيَّ (¬3) أبا بَكْرٍ عَنِ الإجَازَةِ العَامَّةِ هذهِ فَكَانَ مِنْ جَوَابِهِ أنَّ مَنْ أدْرَكَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ نحوُ أبي العَلاءِ الحافِظِ وغيرِهِ كَانُوا يَمِيلُونَ إلى الجوازِ، واللهُ أعلمُ. قُلْتُ: وَلَمْ نَرَ ولَمْ نَسْمَعْ عَنْ أحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بهِ أنَّهُ اسْتَعْملَ (¬4) هذهِ الإجَازَةَ فَرَوَى بها، ولاَ عَنِ الشِّرْذِمَةِ (¬5) المسْتَأْخِرَةِ الذينَ سَوَّغُوها، والإجازَةُ في أصْلِهَا ضَعْفٌ، وتَزْدادُ بهذا التَّوسُّعِ والاسْتِرْسَالِ ضَعْفاً كَثِيْراً لاَ يَنْبَغِي احْتِمَالُهُ (¬6)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أنواعِ الإجَازَةِ: الإجازَةُ لِلْمَجْهُولِ أو بالمجْهُولِ ويَتَشَبَّثُ (¬7) بذَيْلِها الإجَازَةُ المعَلَّقَةُ بالشَّرْطِ، وذَلِكَ مثلُ أنْ يَقُولَ: أجَزْتُ لمحمَّدِ بنِ خالِدٍ الدِّمَشْقِيِّ (¬8)، وفي وَقْتِهِ ذلكَ جماعَةٌ مُشْتَرِكُونَ في هذا الاسمِ والنَّسَبِ، ثُمَّ لاَ يُعَيِّنُ المجازُلهُ منْهُمْ، أويَقُولَ: أجَزْتُ لِفُلاَنٍ أنْ يَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ، وهوَ يَرْوِي جماعَةً مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ المعرُوفَةِ بذَلِكَ ثُمَّ (¬9) لاَ يُعَيِّنُ. فَهَذِهِ إجَازَةٌ فاسِدَةٌ لاَ فَائِدَةَ لَهَا (¬10). وَلَيْسَ مِنْ هَذَا القَبِيْلِ مَا إذا ¬
أجَازَ لجماعَةٍ مُسَمَّيْنَ مُعَيَّنِينَ بأنْسَابِهِمْ، والمجيزُ جاهِلٌ بأعْيَانِهِمْ غيرُ عارِفٍ بهِمْ فهذا غيرُ قادِحٍ، كما لاَ يَقْدَحُ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بهِ إذا حَضَرَ شَخْصُهُ في السَّمَاعِ منهُ، واللهُ أعلمُ. وإنْ أجازَ لِلْمُسَمَّينَ (¬1) المنتَسِبينَ في الاسْتِجَازَةِ (¬2)، ولَمْ يَعْرِفْهُمْ بأعْيَانِهِمْ ولاَ بأنْسَابِهِمْ، ولَمْ يَعْرِفْ عدَدَهُمْ ولَمْ يَتَصَفَّحْ أسْمَاءهُمْ واحِداً فَوَاحِداً، فينبَغِي أنْ يَصِحَّ ذَلِكَ أيْضاً، كما يَصِحُّ سَمَاعُ مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ للسَّماعِ منهُ، وإنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ أصْلاً ولَمْ يَعْرِفْ عَدَدَهُمْ ولاَ تَصَفَّحَ أشْخَاصَهُمْ واحِداً واحِداً. وإذا قَالَ: أجَزْتُ لِمَنْ يَشَاءُ فُلاَنٌ، أو نحوَ ذَلِكَ، فهَذا فيهِ جهالةٌ وتَعْلِيقٌ بشَرْطٍ، فالظَّاهِرُ أنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وبذَلِكَ أفْتَى القَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ إذْ سَأَلَهُ الخطِيْبُ الحافِظُ عَنْ ذَلِكَ، وعَلَّلَ بأنَّهُ إجَازَةٌ لمجْهُولٍ، فَهوَ كَقَوْلِهِ: أجَزْتُ لِبَعْضِ النَّاسِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيينٍ، وقَدْ يُعَلَّلُ ذَلِكَ أيضاً بما فيها مِنَ التَّعليقِ بالشَّرْطِ، فإنَّ مَا يَفْسُدُ (¬3) بالجهالَةِ يَفْسُدُ (¬4) بالتَّعليقِ، عَلَى مَا عُرِفَ عِنْدَ قَومٍ. وحَكَى الخطيبُ عَنْ أبي يَعْلَى بنِ الفرَّاءِ الحنبَلِيِّ، وأبي الفَضْلِ بنِ عُمْرُوسٍ (¬5) المالِكِيِّ: أنَّهُما أجَازَا ذَلِكَ، وهَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ كَانُوا مَشَايِخَ مَذَاهِبِهِمْ ببَغَدَادَ إذْ ذَاكَ (¬6). وهذهِ الجهالَةُ [الواقِعَةُ] (¬7) تَرتَفِعُ في ثاني الحالِ عندَ وُجُودِ المشِيْئَةِ، بخلاَفِ الجهالَةِ الواقِعَةِ فيما إذا أجازَ لِبَعْضِ النَّاسِ. وإذا قالَ: أجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ فَهوَ كَما لَوْ قَالَ: أجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ فُلاَنٌ، بلْ هذهِ أكْثَرُ جَهَالَةً وانتِشَاراً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بمَشيئةِ مَنْ لاَ يُحْصَرُ عَدَدُهُمْ بخِلاَفِ تِلْكَ. ثُمَّ هذا فيما إذا أجازَ لِمَنْ شَاءَ الإجَازَةَ منهُ لهُ. ¬
فإنْ أجازَ لِمَنْ شَاءَ الروايَةَ عنهُ فهذا أوْلَى بالجوَازِ (¬1) مِنْ حيثُ إنَّ مُقْتَضَى كُلِّ إجَازَةٍ تَفْوِيْضُ الروايةِ بها إلى مَشيئةِ الْمُجَازِ لهُ، فَكَانَ هذا مَعَ كَوْنِهِ بصِيْغَةِ التَّعْلِيقِ، تَصْرِيْحاً بما يَقْتَضِيْهِ الإطْلاَقُ، وحِكَايَةً للحالِ لاَ تَعْلِيقاً في الحقيقَةِ. ولِهَذَا أجازَ بَعْضُ أئِمَّةِ الشَّافِعيِّيْنَ في البيعِ أنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هذا بكَذا إنْ شِئْتَ، فيقولُ: قَبِلْتُ (¬2). وَوُجِدَ بخَطِّ الشَّيْخِ أبي الفَتْحِ محمَّدِ بنِ الحسَيْنِ الأَزْدِيِّ الموْصِلِيِّ الحافِظِ: أجزْتُ رِوايةَ ذَلِكَ لِجَميعِ مَنْ أحَبَّ أنْ يَرْوِيَ ذَلِكَ (¬3) عَنِّي. أمَّا إذا قالَ: أجزْتُ لفُلاَنٍ كَذا وكَذا إنْ شَاءَ روايتَهُ عَنِّي، أو لَكَ إنْ شِئْتَ، أوْ أحْبَبْتَ، أوْ أرَدْتَ، فالأظْهَرُ الأَقْوَى أنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ (¬4)، إذْ قَدِ انْتَفَتْ فيهِ الجهَالَةُ وحقيقةُ التَّعليقِ، ولمْ يَبْقَ سِوَى صِيغَتِهِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنْ أنْوَاعِ الإجَازَةِ: الإجازَةُ للمَعْدُومِ، ولنذْكُرْ مَعَهُ (¬5) الإجازةَ للطفْلِ الصغيرِ. هذا نوعٌ خاضَ فيهِ قومٌ مِنَ المتأخِّرِيْنَ واخْتلَفُوا في جَوازِهِ. ومِثَالُهُ أنْ يَقُولَ (¬6): أجزْتُ لِمَنْ يُولَدُ لِفُلاَنٍ، فَإنْ عَطَفَ المعْدُومَ في ذلكَ علَى الموجودِ بأنْ قَالَ: أجَزْتُ لِفُلاَنٍ ومَنْ (¬7) يُولَدُ لهُ أوْ أجَزْتُ لَكَ ولِوَلَدِكَ وعَقِبِكَ (¬8) مَا تَنَاسَلُوا، كَان ذَلِكَ أقربَ إلى الجوَازِ مِنَ الأوَّلِ. ¬
ولِمِثْلِ ذَلِكَ أجَازَ أصحَابُ الشَّافِعِيِّ في الوقْفِ (¬1) القسمَ الثانيَ دُونَ الأوَّلِ. وقدْ أجَازَ أصْحابُ مالِكٍ، وأبي حنيفةَ أوْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ منْهُمْ -في الوقْفِ القسمينِ كِليهِما (¬2) -. وَفَعَلَ هذا الثانيَ في الإجَازَةِ مِنَ المحدِّثينَ المتقدِّمينَ: أبو بكرٍ بنُ أبي دَاوُدَ السِّجْستانيُّ، فإنَّا رُوِّيْنا عنهُ أنَّهُ سُئِلَ الإجَازَةَ فقالَ: ((قَدْ أجَزْتُ لَكَ ولأوْلاَدِكَ ولِحَبَلِ الْحَبَلَةِ))، يَعني: الذينَ لَمْ يُوْلَدُوا بَعْدُ (¬3). ¬
وأمَّا الإجازَةُ للمَعْدُومِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ عَلَى موجُودٍ، فقدْ أجَازَها الخطيبُ أبو بَكْرٍ الحافِظُ (¬1)، وذَكَرَ أنَّهُ سَمِعَ أبا يَعْلَى بنَ الفرَّاءِ الحنْبَليَّ، وأبا الفَضْلِ بنَ عُمْرُوْسٍ المالِكِيَّ يُجِيزانِ ذَلِكَ (¬2). وحَكَى جَوازَ ذَلِكَ أيضاً أبو نَصْرِ بنُ الصَّبَّاغِ الفقيهُ (¬3)، فقالَ: ((ذَهَبَ قومٌ إلى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُجِيزَ لِمَنْ لَمْ يُخْلَقْ))، قالَ: ((وهَذَا إنَّما ذهَبَ إليهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أنَّ الإجَازَةَ إذْنٌ في الروايَةِ، لاَ مُحَادَثَةٌ)). ثُمَّ بَيَّنَ بُطْلاَنَ هذهِ الإجازَةِ، وهوَ الذي اسْتَقَرَّ عليهِ رَأْيُ شيخِهِ القاضِي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ الإمَامِ (¬4)، وذلكَ هُوَ الصحيحُ الذي لاَ يَنْبَغِي غَيْرُهُ؛ لأنَّ الإجازَةَ في حُكْمِ الإخْبَارِ جُمْلَةً بالْمُجَازِ عَلَى مَا قَدَّمناهُ في بيانِ صِحَّةِ أصْلِ الإجَازَةِ، فكما لاَ يَصِحُّ الإخْبَارُ للْمَعْدُومِ لاَ تَصِحُّ الإجازةُ للمعدومِ. ولَوْ قَدَّرنا أنَّ الإجازةَ إذْنٌ فَلاَ يَصِحُّ أيضاً ذلكَ للمعدومِ، كما لاَ يَصِحُّ الإذْنُ في بابِ الوكَالَةِ للمعْدُومِ؛ لوقُوعِهِ في حالَةٍ لاَ يَصِحُّ فِيْهَا المأذُونُ فيهِ مِنَ المأْذُونِ لهُ. وهَذَا أيضاً يُوجِبُ بُطْلاَنَ الإجَازَةِ للطِّفْلِ الصَّغِيْرِ الذي لاَ يَصِحُّ سَمَاعُهُ. قالَ الخطيبُ: ((سألْتُ القاضِي أبا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ عَنِ الإجَازَةِ للطِّفْلِ الصَّغِيْرِ هَلْ يُعْتَبَرُ في صِحَّتِها سِنُّهُ أوْ تَمْييزُهُ (¬5)، كَمَا يُعْتَبَرُ ذلكَ في صِحَّةِ سَمَاعِهِ؟ فقالَ: لاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ لهُ: إنَّ بعضَ أصْحَابِنا قالَ: لاَ تَصِحُّ الإجَازَةُ لِمَنْ لاَ يَصِحُّ سَمَاعُهُ. فقَالَ: قَدْ يَصِحُّ أنْ ¬
يُجِيْزَ للغائِبِ عنهُ، ولاَ يَصِحُّ السَّماعُ لهُ)) (¬1). واحْتَجَّ الخطِيبُ لِصَحَّتِها للطِّفْلِ بأنَّ الإجَازَةَ إنَّما هيَ إباحَةُ الْمُجِيْزِ للْمُجَازِ لهُ أنْ يَرْوِيَ عنهُ، والإباحَةُ تَصِحُّ للعاقِلِ وغيرِ العاقِلِ (¬2). قَالَ: وعَلَى هذا رأيْنا كَافَّةَ شُيُوخِنا يُجِيزُونَ للأطْفَالِ الغُيَّبِ عَنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَسْألُوا عَنْ مَبْلَغِ أسْنَانِهِمْ وحالِ تَمْييزِهِمْ، ولَمْ نَرَهُمْ أجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلوداً في الحالِ (¬3). قُلْتُ (¬4): كأنَّهُمْ رَأَوا الطِّفْلَ أهْلاً لِتَحَمُّلِ هذا النَّوْعِ مِنْ أنواعِ تَحَمُّلِ الحديثِ؛ لِيُؤَدِّيَ بهِ بَعْدَ حُصُولِ أهْلِيَّتِهِ، حِرْصاً عَلَى توسِيْعِ السبيلِ إلى بقاءِ الإسْنادِ الذي اخْتَصَّتْ بهِ هذهِ الأُمَّةُ، وتَقْريبِهِ (¬5) مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ أعْلَمُ (¬6). النَّوْعُ السَّادِسُ مِنْ أنواعِ الإجَازَةِ: إجازةُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجِيْزُ ولَمْ يَتَحَمَّلْهُ أصْلاً بَعْدُ لِيَرْوِيَهُ المجازُ لهُ إذا تَحَمَّلَهُ المجيزُ بعدَ ذلكَ. أخْبَرَنِي مَنْ أُخْبِرَ عَنِ القَاضِي عِياضِ بنِ مُوْسَى - مِنْ فُضَلاَءِ وَقْتِهِ بالمَغْرِبِ -، قَالَ: ((هذا لَمْ أرَ مَنْ تَكَلَّمَ عليهِ مِنَ المشَايخِ، ورأَيتُ بعضَ المتأخِّرِينَ والعَصْرِيِّينِ يَصْنَعُونَهُ)) (¬7)، ثُمَّ حَكَى عَنْ أبي الوليدِ يونُسَ بنِ مُغِيثٍ (¬8) قَاضِي قُرْطُبَةَ أنَّهُ سُئِلَ الإجازَةَ لِجَمِيْعِ (¬9) مَا رواهُ إلى تاريخِها وما يَرويهِ بعدُ، فامْتَنَعَ مِنْ ذلكَ. فَغَضِبَ السَّائلُ، فَقَالَ لهُ بعضُ أصْحابِهِ: يَا هذا يُعْطِيكَ مَا لَمْ يأْخُذْهُ، هذا مُحَالٌ؟ قَالَ عِيَاضٌ: ((وهذَا هُوَ الصَّحِيحُ)) (¬10). ¬
قُلْتُ: يَنْبَغِي أنْ يُبْنَى هَذَا عَلَى أنَّ الإجازةَ في حُكْمِ (¬1) الإخْبَارِ بالمجازِ جُمْلَةً أوْ هِيَ إذْنٌ، فَإنْ جُعِلَتْ في حُكْمِ الإخْبَارِ لَمْ تَصِحَّ هذهِ الإجَازَةُ، إذْ كَيفَ يُخْبِرُ بما لاَ خَبَرَ عِندَهُ منهُ. وإنْ جُعِلَتْ إذْناً انْبَنَى هذا على الخِلاَفِ في تَصْحيحِ الإذْنِ في بابِ الوكالَةِ فيما لَمْ يَمْلِكْهُ الآذِنُ الموكِّلُ بَعْدُ، مِثْلُ أنْ يُوكِّلَ في بيعِ العبدِ الذي يريدُ أنْ يَشْتَرِيَهُ. وقَدْ أجَازَ ذلكَ بعضُ أصحابِ الشَّافعيِّ، والصحيحُ بُطْلانُ هذهِ الإجَازَةِ (¬2). وعَلى هذا يَتَعَيَّنُ على مَنْ يُرِيْدُ أنْ يَرْوِيَ بالإجَازَةِ عَنْ شَيْخٍ أجَازَ لهُ جَمِيْعَ مَسْمُوعَاتِهِ مثلاً، أنْ يَبْحَثَ حَتَّى يَعْلَمَ أنَّ ذَاكَ (¬3) الذي يُريدُ روايتَهُ عنهُ مِمَّا سَمِعَهُ قَبْلَ تارِيْخِ (¬4) الإجازةِ. وأمَّا إذا قَالَ: أجَزْتُ لَكَ مَا صَحَّ ويَصِحُّ عِندَكَ مِنْ مَسْمُوعاتِي (¬5)؛ فهذا ليسَ مِنْ هذا القبيلِ، وقَدْ فَعَلَهُ الدَّارقطنيُّ وغيرُهُ، وجائِزٌ أنْ يَرْوِيَ بذلكَ عنهُ مَا صَحَّ عندَهُ بَعْدَ الإجَازَةِ أنَّهُ سَمِعَهُ قَبْلَ الإجَازَةِ، ويَجُوزُ ذَلِكَ وإنِ اقْتَصَرَ على قولِهِ: مَا صَحَّ عِنْدَكَ، ولَمْ يَقُلْ: ومَا يَصِحُّ؛ لأنَّ المرادَ: أجَزْتُ لكَ أنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا صَحَّ عِنْدَكَ. فالمعتبرُ إذنْ فيهِ صِحَّةُ ذلكَ عِنْدَهُ حَالَةَ الروَايَةِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّابِعُ مِنْ أنواعِ الإجازَةِ: إجَازَةُ الْمُجَازِ، مِثْلُ أنْ يَقولَ الشيخُ: أجزْتُ لَكَ مُجَازَاتِي، أوْ أجزتُ لكَ روايةَ مَا أُجِيزَ لِي روايتُهُ، فَمَنَعَ مِنْ ذلكَ بعضُ مَنْ لاَ يُعْتَدُّ بهِ مِنَ المتَأَخِّرينَ (¬6). والصحيحُ والذي عليهِ العَمَلُ أنَّ ذلكَ جائِزٌ (¬7)، ولاَ يُشْبِهُ ذَلكَ ما امْتَنَعَ مِنْ تَوْكِيْلِ الوكيلِ بغيرِ إذْنِ الموَكِّلِ. ووجَدْتُ عَنْ أبي عَمْرٍو السَّفَاقُسِيِّ الحافِظِ المغْرِبيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أبا نُعَيْمٍ الحافِظَ -يَعْنِي: الأصْبَهانيَّ (¬8) - يَقُولُ: ((الإجَازَةُ عَلَى الإجَازَةِ قَوِيَّةٌ جَائِزَةٌ)). ¬
وحَكَى الخطيبُ الحافِظُ (¬1) تَجْويزَ ذلكَ عَنِ الحافِظِ الإمامِ أبي الحسَنِ الدَّارقطنيِّ، والحافِظِ أبي العبَّاسِ المعروفِ بابنِ عُقْدَةَ (¬2) الكُوفِيِّ وغيرِهِما، وقدْ كَانَ الفقيهُ الزَّاهِدُ نَصْرُ بنُ إبراهيمَ المقْدِسِيُّ يروي بالإجازةِ عَنْ الإجَازَةِ حَتَّى رُبَّمَا وَالَى في روايتِهِ بينَ إجَازَاتٍ ثَلاَثٍ (¬3). ويَنْبَغِي لِمَنْ يَرْوِي بالإجَازَةِ عَنِ الإجَازَةِ أنْ يَتَأَمَّلَ كَيْفِيَّةَ إجازَةِ شَيْخِ شَيْخِهِ ومُقْتَضَاها؛ حَتَّى لا يَروِيَ بها ما لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَهَا، فإذا كَانَ - مَثَلاً - صورةُ إجَازَةِ شَيْخِ شَيْخِهِ: أجَزْتُ لهُ ما صَحَّ عِندَهُ مِنْ سَمَاعاتِي، فَرَأَى شيئاً مِنْ مَسْمُوعاتِ شَيْخِ شيخِهِ فليسَ لهُ أنْ يَرْوِيَ ذلكَ عَنْ شَيخِهِ عنهُ، حَتَّى يَسْتَبِينَ أنَّهُ مِمَّا كَانَ قَدْ صَحَّ عِنْدَ شَيخِهِ كَوْنُهُ مِنْ سَمَاعاتِ (¬4) شَيْخِهِ الذي تِلْكَ إجَازَتُهُ، ولاَ يَكْتَفِي بمجرَّدِ صِحَّةِ ذَلكَ عندَهُ الآنَ، عَمَلاً بلَفْظِهِ وتَقْييدِهِ، ومَنْ لاَ يَتَفَطَّنُ لِهذا وأمثالِهِ يَكثُرُ عِثَارُهُ، واللهُ أعلمُ. هذهِ أنواعُ الإجازَةِ التي تَمَسُّ الحاجةُ إلى بَيانِها، ويتَركُّبُ مِنْها أنواعٌ أُخَرُ، سيتعَرَّفُ المتأمِّلُ حُكْمَها مِمَّا أمْلَيْنَاهُ إنْ شَاءَ اللهُ تعَالَى. ثُمَّ إنَّا نُنَبِّهُ عَلَى أُمُورٍ: أحدُها: رُوِّيْنا عَنْ أبي الحسينِ (¬5) أحمدَ بنِ فارسٍ الأديبِ المصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللهُ - قالَ: ((معنى الإجازةِ في كَلاَمِ العربِ مَأْخُوذٌ مِنْ جَوَازِ الماءِ الذي يُسْقَاهُ المالُ مِنَ الماشيةِ ¬
والْحَرْثِ، يُقَالُ منهُ: اسْتَجَزْتُ فُلاَناً فَأَجَازَنِي (¬1) إذا أسْقَاكَ ماءً لأرْضِكَ أوْ مَاشِيَتِكَ، كذلكَ طَالِبُ العِلْمِ يَسأَلُ العالِمَ أنْ يُجِيزَهُ عِلْمَهُ فيُجِيزَهُ إيَّاهُ)) (¬2). قُلْتُ: فَلِلْمُجِيزِ - عَلَى هذا - أنْ يَقولَ: أجَزْتُ فُلاَناً مَسْمُوعَاتِي أو مَرْوِيَّاتِي، فَيُعَدِّيهِ بغيرِ حَرْفِ جَرٍّ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى ذِكْرِ لَفْظِ الروايةِ أو نَحْوِ ذلكَ. ويَحْتاجُ إلى ذلكَ مَنْ يَجْعَلُ الإجازَةَ بمعْنَى التَّسْويغِ، والإذْنِ، والإبَاحَةِ، وذلكَ هُوَ المعروفُ، فيقولُ: أجزْتُ لفُلاَنٍ روايَةَ مَسْمُوعَاتِي مَثَلاً، ومَنْ يَقُولُ منهُمْ: أجزْتُ لهُ مَسْمُوعَاتِي، فَعَلَى سَبيلِ الحذْفِ (¬3) الذي لاَ يَخْفَى نَظِيرُهُ، واللهُ أعلمُ. الثَّاني: إنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الإجَازةُ إذا كَانَ المجيزُ عالِماً بما يُجِيْزُ (¬4)، والمجازُ لهُ مِنْ أهلِ العِلْمِ؛ لأنَّها تَوَسُّعٌ (¬5) وتَرْخِيصٌ يَتَأَهَّلُ لَهُ أهْلُ العِلْمِ لِمَسِيْسِ حاجَتِهِمْ إليها، وبَالَغَ بعضُهُمْ في ذَلكَ فجعَلَهُ شَرطاً فِيْهَا. وحَكَاهُ أبو العبَّاسِ الوليدِ بنُ بَكْرٍ المالِكِيُّ عَنْ مالِكٍ - رضي الله عنه - (¬6). وقالَ الحافِظُ أبو عُمَرَ: ((الصحيحُ أنَّهَا لاَ تَجُوزُ إلاَّ لِمَاهِرٍ بالصِّناعَةِ، وفي شيءٍ مُعَيَّنٍ لاَ يُشْكِلُ إسْنَادُهُ)) (¬7)، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: يَنْبَغِي للْمُجِيْزِ إذا كَتَبَ إجَازَتَهُ أنْ يَتَلَفَّظَ بها (¬8)، فَإنِ اقْتَصَرَ عَلَى الكِتَابةِ كَانَ ذلكَ إجَازَةً جَائِزَةً إذا اقتَرَنَ بقَصْدِ الإجَازَةِ، غيرَ أنَّها أنْقَصُ مَرْتَبَةً مِنَ الإجَازَةِ ¬
الملْفُوظِ بها. وغيرُ مُسْتَبْعَدٍ تصحيحُ ذلكَ بمجَرَّدِ هذهِ الكِتَابَةِ في بابِ الروايةِ التي جُعِلَتْ فيهِ القراءةُ على الشيخِ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَلْفِظْ بما قُرِئَ عليهِ، إخْبَاراً منهُ بما قُرِئَ عليهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بيانُهُ، واللهُ أعلمُ. القِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أقْسَامِ طُرُقِ تَحَمُّلِ الحدِيْثِ وتَلقِّيْهِ: الْمُنَاوَلَةُ: وهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أحدُهُما: المنَاوَلَةُ المقْرُونَةُ بالإجَازَةِ (¬1) وهيَ أعْلَى أنواعِ الإجَازَةِ (¬2) على الإطلاقِ، ولَها صُورٌ، منها: أنْ يَدْفَعَ الشَّيْخُ إلى الطالِبِ أصْلَ سَماعِهِ أوْ فَرْعاً مُقَابَلاً بهِ (¬3)، ويقولَ: ((هذا سَماعِي، أوْ رِوايَتِي عَنْ فُلانٍ فارْوِهِ عَنِّي، أو أجزْتُ لَكَ روايَتَهُ عَنِّي))، ثُمَّ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ، أوْ يَقُولَ: ((خُذْهُ وانْسَخْهُ وقَابِلْ بهِ ثُمَّ رُدَّهُ إليَّ))، أوْ نحوَ هذا. ومنها: أنْ يَجِيءَ الطالِبُ إلى الشيخِ بكِتابٍ أوْ جُزْءٍ مِنْ حديثِهِ فيَعْرِضَهُ عليهِ، فيتَأَمَّلَهُ الشيخُ وهوَ عارفٌ مُتَيَقِّظٌ، ثُمَّ يُعِيْدَهُ إليهِ، ويقُولَ لهُ: ((وَقَفْتُ على ما فيهِ وهوَ حَدِيثي عَنْ فُلانٍ أو رِوَايَتِي عَنْ شُيُوخِي فيهِ، فَارْوِهِ عَنِّي، أوْ أجَزْتُ لَكَ روايَتَهُ عَنِّي)). وهذا قدْ سَمَّاهُ غيرُ واحِدٍ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ: عَرْضاً، وقدْ سَبَقَتْ حِكَايَتُنا في القِرَاءَ ةِ على الشيخِ أنَّها تُسَمَّى عَرْضاً أيَضاً (¬4)، فَلنُسَمِّ ذلكَ عَرْضَ القِرَاءَ ةِ، وهذا عَرْضَ المناولةِ، واللهُ أعلمُ (¬5). وهذهِ المناولَةُ المقْتَرِنَةُ (¬6) بالإجازَةِ حالَّةٌ (¬7) مَحَلَّ السَّمَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ (¬8)، وجماعَةٍ مِنْ أئِمَّةِ أصْحَابِ الحديثِ (¬9). وحَكَى الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ (¬10) في ¬
عَرْضِ المناولَةِ المذْكورِ (¬1) عَنْ كَثيرٍ مِنَ المتَقَدِّمينَ أنَّهُ سَماعٌ. وهذا مُطَّرِدٌ في سَائِرِ مَا يُمَاثِلُهُ مِنْ صُوَرِ المناولَةِ المقرُونَةِ بالإجَازَةِ. فَمِمَّنْ حَكَى الحاكِمُ ذلكَ عنهُمْ: ابنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، ورَبِيْعَةُ الرأيِ، ويَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ الأنْصَارِيُّ، ومَالِكُ بنُ أنسٍ الإمامُ في آخرينَ مِنَ المدنِيِّينَ. ومُجَاهِدٌ، وأبو الزُّبَيْرِ، وابنُ عُيَيْنَةَ في جَماعَةٍ مِنَ المكِّيِّينَ. وعَلْقَمةُ وإبراهِيمُ النَّخَعِيَّانِ، والشَّعْبِيُّ في جَمَاعَةٍ مِنَ الكُوفِيِّينَ. وقَتَادَةُ وأبو العَالِيَةِ، وأبو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ في طَائِفَةٍ مِنَ البَصْرِيِّيْنَ. وابنُ وَهْبٍ، وابنُ القَاسِمِ، وأشْهَبُ في طَائِفَةٍ مِنَ المِصْرِيِّيْنَ. وآخَرُونَ مِنَ الشَّامِيِّيْنَ والْخُرَسَانِيِّيْنَ. ورَأَى الحاكِمُ طَائِفَةً مِنْ مَشَايِخِهِ عَلَى ذلكَ (¬2)، وفي كَلاَمِهِ بعضُ التَّخليطِ مِنْ حيثُ كَوْنُهُ خَلَطَ بعضَ ما وَرَدَ في عَرْضِ القِرَاءَةِ بما ورَدَ في عَرْضِ المناولَةِ، وسَاقَ الجميعَ مَسَاقاً واحِداً. والصحيحُ أنَّ ذَلِكَ غيرُ حالٍّ مَحَلَّ السَّماعِ، وأنَّهُ مُنْحَطٌّ عَنْ دَرَجَةِ التَّحْدِيثِ لَفْظاً والإخْبَارِ قِرَاءَةً (¬3). وقدْ قَالَ الحاكِمُ في هذا العَرْضِ: ((أمَّا فُقَهَاءُ الإسْلاَمِ (¬4) الذينَ أفْتَوا في الحلاَلِ والحرَامِ فإنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ سَمَاعاً، وبهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، والبُوَيْطِيُّ والْمُزَنِيُّ، وأبو حَنِيْفَةَ، وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، وابنُ المبَارَكِ، ويَحْيَى بنُ يَحْيَى، وإسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ. قَالَ: وعليهِ عَهِدْنا أئِمَّتَنا وإليْهِ ذَهَبُوا وإليْهِ نَذْهَبُ)) (¬5)، واللهُ أعْلَمُ. ومِنْها: أنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ الطالِبَ كِتَابَهُ ويُجُيزُ لهُ رِوايَتَهُ عنهُ، ثُمَّ يُمْسِكَهُ الشَّيْخُ عِندَهُ ولاَ يُمَكِّنَهُ منهُ، فَهَذا يَتَقَاعَدُ عَمَّا سَبَقَ؛ لِعَدَمِ احْتِواءِ الطَّالِبِ عَلَى مَا تَحَمَّلَهُ، وغَيْبتِهِ عنهُ، وجَائِزٌ لَهُ روايةُ ذَلِكَ عنهُ إذا ظَفِرَ بالكِتابِ، أوْ بِمَا هُوَ مُقَابَلٌ بهِ عَلَى وَجْهٍ يَثِقُ مَعَهُ بموافَقَتِهِ لِمَا تَنَاولَتْهُ الإجازَةُ، عَلَى (¬6) مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ في الإجَازاتِ المجرَّدَةِ عَنِ المناوَلَةِ. ¬
ثُمَّ إنَّ المناوَلَةَ في مِثْلِ هذا لاَ يَكَادُ يَظْهَرُ حُصُولُ مَزِيَّةٍ بها عَلَى الإجَازَةِ الواقِعَةِ في مُعَيَّنٍ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مناولةٍ، وقدْ صَارَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الفُقَهَاءِ والأصُولِيِّيْنَ (¬1) إلى أنَّهُ لاَ تأثيرَ لَهَا ولاَ فَائِدَةَ، غيرَ أنَّ شُيوخَ أهلِ الحديثِ في القديمِ والحديثِ، أوْ مَنْ حُكِيَ ذَلِكَ عنهُ مِنْهُمْ يَرَوْنَ لِذَلِكَ مَزِيَّةً مُعْتَبَرَةً (¬2)، والعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ (¬3) وتَعَالَى. ومِنْهَا أنْ يَأْتِيَ الطالِبُ الشَّيْخَ بكِتَابٍ أو جُزْءٍ، فيقُولَ: ((هذا روايتُكَ فَنَاوِلْنِيْهِ وأجِزْ لي رِوَايَتَهُ))، فَيُجِيْبَهُ إلى ذلكَ مِنْ غيرِ أنْ يَنْظُرَ فيهِ ويَتَحَقَّقَ روَايَتَهُ لِجَمِيْعِهِ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ ولاَ يَصِحُّ. فإنْ كَانَ الطالِبُ مَوْثُوقاً بخَبَرِهِ ومَعْرِفَتِهِ جَازَ الاعْتِمَادُ عليهِ في ذَلكَ، وكانَ ذلكَ إجازَةً جَائِزَةً، كما جازَ في القِرَاءَةِ على الشيخِ الاعتمادُ عَلَى الطالِبِ حَتَّى (¬4) يكونَ هُوَ القَارِئَ مِنَ الأصْلِ إذا كَانَ مَوْثُوقاً بهِ مَعْرِفَةً ودِيْناً (¬5). قالَ الخطيبُ أبو بكرٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ((ولوْ قَالَ: حَدِّثْ بِمَا في هذا الكِتابِ عَنِّي إنْ كَانَ مِنْ حَدِيْثِي مَعَ بَرَاءتِي مِنَ الغَلَطِ والوَهَمِ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزاً حَسَناً)) (¬6)، واللهُ أعلَمُ. الثَّانِي: المناوَلَةُ المجَرَّدَةُ عَنِ الإجَازَةِ بأنْ يُنَاوِلَهُ الكِتَابَ - كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أوَّلاً -، ويَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: ((هذا مِنْ حَدِيْثِي أوْ مِنْ سَمَاعَاتِي))، ولاَ يَقُولَ: ((ارْوِهِ عَنِّي أوْ أجَزْتُ لَكَ روايَتَهُ عَنِّي))، ونحوَ ذلكَ، فَهَذِهِ مُنَاوَلَةٌ مُخْتَلَّةٌ لاَ تَجُوزُ الروايَةُ بها (¬7)، وعَابَها غيرُ واحِدٍ مِنَ الفُقَهَاءِ والأصُولِيِّيْنَ عَلَى المحدِّثِينَ (¬8) الذينَ أجَازوها وسَوَّغُوا الروايةَ بها. وحَكَى الخطيبُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ أنَّهُمْ صَحَّحُوها وأجازُوا الروايةَ بها (¬9)، ¬
القول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة
وسَنَذكُرُ - إنْ شَاءَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى - قَوْلَ مَنْ أجَازَ الروايةَ بِمُجَرَّدِ إعْلاَمِ الشَّيْخِ الطالِبَ أنَّ هذا الكِتَابَ سَمَاعُهُ مِنْ فُلاَنٍ. وهَذا يَزِيْدُ عَلَى ذَلِكَ ويَتَرَجَّحُ بِمَا فيهِ مِنَ المناوَلَةِ، فإنَّها لاَ تَخْلُو مِنْ إشْعَارٍ بالإذْنِ في الروايَةِ، واللهُ أعلمُ. القَوْلُ في عِبَارَةِ الرَّاوِي بِطَرِيْقِ الْمُنَاوَلَةِ والإجَازَةِ حُكِيَ عَنْ قَومٍ مِنَ المتَقَدِّمينَ ومَنْ بَعْدَهُمْ أنَّهُمْ جَوَّزُوا إطْلاَقَ (¬1): ((حَدَّثَنَا وأخْبَرَنَا)) في الروايةِ بالمناولةِ، وحُكِيَ ذَلكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ ومالكٍ وغَيرِهِما (¬2)، وهوَ لاَئِقٌ بِمَذْهَبِ جَميعِ مَنْ سَبَقَتِ الحِكَايةُ عَنْهُمْ أنَّهُمْ جَعَلُوا عَرْضَ المناولةِ المقرونَةِ بالإجازَةِ سَمَاعاً. وحُكِيَ (¬3) أيضاً عَنْ قَومٍ مِثْلُ ذلكَ في الروايةِ بالإجازَةِ، وكانَ الحافِظُ أبو نُعَيْمٍ الأصْبهانِيُّ (¬4) - صَاحِبُ التَّصانيفِ الكَثِيرةِ (¬5) في عِلْمِ الحدِيْثِ - يُطْلِقُ ((أخْبَرَنَا)) فيمَا يَرْوِيْهِ بالإجازَةِ (¬6). رُوِّيْنا عنهُ أنَّهُ قَالَ: أنَا إذا قُلْتُ: ((حَدَّثَنَا)) فَهُوَ سَمَاعِي، وإذا ¬
قُلْتُ: ((أخْبَرَنَا)) على الإطلاَقِ، فَهُوَ إجَازَةٌ مِنْ غيرِ أنْ أَذْكُرَ فيهِ (¬1) ((إجازَةً، أوْ كِتَابَةً، أوْ كَتَبَ إليَّ، أوْ أَذِنَ لِي في الروايَةِ عنهُ)). وكَانَ أبو عُبَيْدِ (¬2) اللهِ الْمَرْزُبَانِيُّ (¬3) الأخْبَارِيُّ - صَاحِبُ التَّصَانيفِ في عِلْمِ الخبرِ - يَرْوِي أكْثَرَ مَا في كُتُبِهِ إجَازَةً مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ، ويَقُولُ في الإجَازَةِ: ((أخْبَرَنا)) ولاَ يُبَيِّنُهَا، وكَانَ ذلكَ فِيْمَا حَكَاهُ الخطيبُ مِمَّا عِيبَ بهِ (¬4). والصحيحُ والمختارُ الذي عليهِ عَمَلُ الجمهُورِ (¬5) وإيَّاهُ اخْتَارَ أهْلُ التَّحَرِّي (¬6) والورَعِ: المنعُ في ذلكَ مِنْ إطلاقِ: ((حَدَّثَنا وأخْبَرَنا))، ونحوِهِما مِنَ العِبَاراتِ، وتَخْصِيصُ ذلكَ بِعِبَارَةٍ تُشْعِرُ بهِ بأنْ يُقَيِّدَ هذهِ العِبَاراتِ فيقُولَ: ((أخْبَرنا أو حَدَّثَنا فُلاَنٌ مناوَلَةً وإجازَةً، أوْ أخْبَرنا إجازَةً (¬7)، أوْ أخْبَرنا مناوَلَةً، أو أخْبَرنا إذْناً، أوْ في إذْنِهِ، أوْ فيما أَذِنَ لي فيهِ، أوْ فيما أَطْلَقَ لي روايتَهُ عنهُ)). أوْ يَقُولَ: ((أجَازَ لي فُلاَنٌ، أوْ أجَازَنِي فُلاَنٌ كَذا وكَذا، أوْ ناوَلَني فُلاَنٌ))، وما (¬8) أشْبَهَ ذلكَ مِنَ العِبَاراتِ. وخَصَّصَ قَومٌ الإجَازَةَ بعباراتٍ لَمْ يَسْلَمُوا فيها مِنَ التَّدليسِ أوْ طَرَفٍ منهُ، كعِبَارةِ مَنْ يَقُولُ في الإجَازَةِ: ((أخْبَرَنا مُشَافَهَةً)) إذا كَانَ قَدْ شَافَهَهُ بالإجَازَةِ لَفْظاً، وكَعِبَارَةِ مَنْ يَقُولُ: ((أخْبَرَنا فُلاَنٌ كِتَابَةً، أوْ فيما كَتَبَ إليَّ (¬9)، أوْ في كِتَابِهِ)) إذا كانَ قَدْ أجَازَهُ بِخَطِّهِ. فَهَذا وإنْ تَعَارَفَهُ في ذلكَ طائِفَةٌ مِنَ المحدِّثِينَ المتأخِّرِينَ فلاَ يَخْلُو عَنْ طَرَفٍ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ لِمَا فيهِ مِنَ الاشْتِرَاكِ والاشْتِبَاهِ بِما إذا كَتَبَ إليهِ ذلكَ الحديثَ بِعَيْنِهِ. ¬
ووَرَدَ عَنِ الأوْزَاعِيِّ أنَّهُ خَصَّصَ الإجَازَةَ بِقَوْلِهِ: ((خَبَّرَنا)) بالتَّشْديدِ، والقِرَاءةَ عليهِ بقولِهِ: ((أخْبَرَنا)) (¬1)، واصْطَلَحَ قومٌ مِنَ المتأخِّرِينَ عَلَى إطْلاَقِ: ((أنْبَأَنا)) في الإجَازَةِ، وهوَ اختِيارُ الوليدِ بنِ بَكرٍ - صَاحبِ " الوجازَةِ في الإجَازَةِ " (¬2) -. وقدْ كَانَ ((أنْبَأَنا)) عِنْدَ القَومِ فِيْمَا تَقَدَّمَ بِمَنْزِلَةِ ((أخْبَرَنَا)) وإلى هَذَا نَحَا الحافِظُ المتْقِنُ أبو بَكْرٍ البَيْهَقِيُّ إذْ كَانَ يَقُولُ: ((أنْبَأَنِي فُلاَنٌ إجَازَةً)) وفيهِ أيضاً رِعَايَةٌ لاصْطِلاَحِ المتأخِّرينَ، واللهُ أعلمُ. ورُوِّيْنا عَنِ الحاكِمِ (¬3) أبي عبدِ اللهِ الحافِظِ - رَحِمَهُ اللهُ - أنَّهُ قَالَ (¬4): ((الذي أَخْتَارُهُ وعَهِدْتُ عليهِ أكثَرَ مَشايخي وأئِمَّةِ عَصْرِي أنْ يَقُولَ فيما عَرَضَ عَلَى المحدِّثِ فأجَازَ لهُ روايتَهُ شِفَاهاً: ((أنْبَأَنِي فُلاَنٌ))، وفيمَا كَتَبَ إليهِ المحدِّثُ مِنْ مدينةٍ وَلَمْ يُشَافِهْهُ بالإجَازَةِ: ((كَتَبَ إليَّ فُلاَنٌ)) (¬5). ورُوِّيْنا عَنْ أبي عَمْرِو بنِ أبي جَعْفَرِ بنِ حَمْدانَ النَّيْسَابوريِّ، قَالَ سَمِعْتُ أبي يَقُولُ: كُلُّ مَا قَالَ البُخَارِيُّ: ((قَالَ لي فُلاَنٌ))، فهوَ عَرْضٌ ومُنَاوَلَةٌ)) (¬6). ¬
قُلْتُ: ووَرَدَ عَنْ قَومٍ مِنَ الرواةِ التعبيرُ عَنْ الإجَازةِ بقولِ: ((أخْبَرَنا فُلاَنٌ أنَّ فُلاَناً حَدَّثَهُ أوْ أَخْبَرَهُ)). وبَلَغَنا ذَلكَ عَنِ الإمامِ أبي سُلَيْمانَ الخطَّابيِّ أنَّهُ اخْتَارَهُ أوْ حَكَاهُ (¬1)، وهذا اصطلاحٌ بعيدٌ، بَعيدٌ (¬2) عَنِ الإشْعَارِ بالإجَازَةِ، وهوَ فيمَا إذا سَمِعَ منهُ الإسْنَادَ فَحسبُ وأجازَ لهُ ما رواهُ قريبٌ، فإنَّ كَلِمَةَ ((أنَّ)) في قولِهِ: ((أخْبَرَنِي فُلاَنٌ أنَّ فُلاَناً أخْبَرَهُ)) فيها إشعَارٌ بوجُودِ أصْلِ الإخْبَارِ، وإنْ أجْمَلَ المخْبِرُ بهِ ولَمْ يَذْكُرْهُ تَفْصِيلاً. قُلْتُ: وكَثيراً ما يُعَبِّرُ الرواةُ المتأخِّرونَ عَنِ الإجَازَةِ الواقِعَةِ في روايةِ مَنْ فَوقَ الشَّيْخِ الْمُسْمِعِ بكَلمةِ ((عَنْ))، فيقُولُ أحَدُهُمْ إذا سَمِعَ عَلَى شَيْخٍ بإجَازَتِهِ عَنْ شَيْخِهِ: ((قَرَأْتُ عَلَى فُلاَنٍ عَنْ فُلاَنٍ))، وذَلِكَ قَريبٌ فيما إذا كانَ قَدْ سَمِعَ منهُ بإجَازَتِهِ عَنْ شَيخِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعاً فإنَّهُ شَاكٌّ، وحَرْفُ ((عَنْ)) مشترَكٌ بينَ السَّماعِ والإجَازَةِ صَادِقٌ عليهِما، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ المنعَ مِنْ إطلاَقِ: ((حَدَّثَنا وأخْبَرَنا)) في الإجازَةِ لاَ يَزُولُ بإباحَةِ المجيزِ لذلكَ كما اعْتَادَهُ قومٌ مِنَ المشايخِ مِنْ قَولِهِمْ في إجَازَتِهِمْ لِمَنْ يُجِيْزُونَ لهُ، إنْ شَاءَ قالَ: ((حَدَّثَنا))، وإنْ شَاءَ قالَ: ((أخْبَرَنا))، فَليُعْلَمْ ذلكَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى. القِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ أقْسَامِ طُرُقِ نَقْلِ الحديثِ وتَلَقِّيْهِ: المكاتَبَةُ، وهيَ أنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إلى الطالِبِ وهوَ غائِبٌ شَيئاً مِنْ حَدِيْثِهِ بِخَطِّهِ أوْ يَكتُبَ لهُ ذلكَ وهوَ حاضِرٌ. ويَلْتَحِقُ (¬3) بذلكَ مَا إذا أمَرَ غيرَهُ بأنْ يَكْتُبَ لهُ ذلكَ عنهُ إليهِ، وهذا القِسْمُ يَنْقَسِمُ أيضاً إلى نوعَيْنِ: أحدُهُما: أنْ تَتَجَرَّدَ (¬4) المكَاتَبةُ عَنِ الإجَازَةِ. والثَّاني: أنْ تَقْتَرِنَ بالإجَازَةِ بأنْ يَكْتُبَ إليهِ ويَقُولَ: ((أجَزْتُ لَكَ مَا كَتَبْتُهُ لكَ، أوْ ما كَتَبْتُ (¬5) بهِ إليكَ))، أوْ نَحْوَ ذلكَ مِنْ عِبَارَاتِ الإجَازَةِ. ¬
أمَّا الأوَّلُ: وهوَ ما إذِ اقْتَصَرَ عَلَى المكاتَبَةِ فقَدْ أجَازَ الروايةَ بها كثيرٌ مِنَ المتَقَدِّمِينَ والمتَأَخِّرينَ، مِنْهُمْ: أيُّوبُ السِّخْتيانِيُّ (¬1)، ومَنْصُورٌ (¬2)، واللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ (¬3)، وقَالَهُ غيرُ واحِدٍ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ (¬4)، وجَعَلَها أبو الْمُظَفَّرِ السَّمْعانِيُّ -مِنْهُمْ- أَقْوَى مِنَ الإجَازةِ (¬5)، وإليهِ صارَ غيرُ واحدٍ مِنَ الأًصُوليِّيْنَ (¬6). وأبَى ذلكَ قومٌ آخَرُونَ (¬7)، وإليهِ صَارَ مِنَ الشَّافِعِيِّيْنَ القَاضِي الماوَرْدِيُّ، وقَطَعَ بهِ في كِتَابِهِ "الحاوي" (¬8). والْمَذْهَبُ الأوَّلُ هُوَ الصحيحُ (¬9) المشهُورُ بينَ أهلِ الحديثِ، وكَثِيْراً مَا يُوجَدُ في مَسَانِيْدِهِمْ ومُصَنَّفَاتِهِمْ قَوْلُهُمْ: ((كَتَبَ إليَّ فُلاَنٌ: قَالَ حَدَّثَنا فُلاَنٌ))، والمرادُ بهِ هذا. وذَلكَ مَعْمُولٌ بهِ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ في المسنَدِ الموصولِ. وفيها إشعَارٌ قويٌّ بمعْنَى الإجَازَةِ، فَهِيَ وإنْ لَمْ تَقْتَرِنْ (¬10) بالإجَازَةِ لَفظاً فَقَدْ تَضَمَّنَتِ الإجَازَةَ مَعْنًى ثُمَّ يَكْفِي في ذلكَ أنْ يَعْرِفَ المكتُوبُ إليهِ خَطَّ الكَاتِبِ وإنْ لَمْ تَقُمِ البَيِّنَةُ عليهِ (¬11). ومِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ((الخَطُّ يُشْبِهُ الخَطَّ فَلاَ يَجُوزُ الاعْتِمادُ عَلَى ذلكَ)) (¬12). وهذا غيرُ مَرْضِيٍّ؛ لأنَّ ذلكَ نادِرٌ، والظَّاهِرُ أنَّ خَطَّ الإنْسَانِ لاَ يَشْتَبِهُ بغَيْرِهِ ولاَ يَقَعُ فيهِ إلْبَاسٌ. ¬
ثُمَّ ذَهَبَ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ عُلَماءِ المحدِّثِيْنَ وأَكَابِرِهِمْ، منْهُمْ: اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ، ومَنْصُورٌ إلى جَوَازِ إطْلاَقِ ((حَدَّثَنا وأخْبَرَنا)) في الروايةِ بالمكاتَبَةِ (¬1)، والمختارُ قولُ مَنْ يَقُولُ فيها: ((كَتَبَ إليَّ فُلاَنٌ: قالَ حَدَّثَنا فُلاَنٌ بِكَذَا وكَذَا))، وهذا هوَ الصحيحُ اللاَّئِقُ بِمَذْهَبِ أهْلِ التَّحَرِّي والنَّزَاهَةِ. وهَكَذَا لوْ قَالَ: ((أخْبَرَنِي بهِ مُكَاتَبَةً، أوْ كِتَابَةً))، ونحوَ ذلكَ مِنَ العِبَاراتِ (¬2)، واللهُ أعلمُ (¬3). أمَّا المكَاتَبةُ المقْرُونَةُ بِلَفْظِ الإجَازَةِ فَهِيَ في الصِّحَّةِ والقُوَّةِ شَبِيْهَةٌ بالمناولَةِ المقرُونَةِ بالإجَازَةِ، واللهُ أعلمُ. القِسْمُ السَّادِسُ مِنْ أقْسَامِ الأخْذِ ووُجُوهِ النَّقْلِ: إعْلاَمُ الراوي للطَّالِبِ بأنَّ هذا الحديثَ أوْ هذا الكِتابَ سَمَاعُهُ مِنْ فُلاَنٍ، أوْ روايَتُهُ مُقْتَصِراً عَلَى ذلكَ مِنْ غيرِ أنْ يَقولَ: ((ارْوِهِ عنِّي، أوْ أَذِنْتُ لَكَ في روايتِهِ))، أوْ نَحْوَ ذلكَ، فهَذا عِنْدَ كَثِيرينَ طَرِيقٌ مُجَوِّزٌ لِرِوايَةِ ذلكَ عنهُ ونَقْلِهِ. حُكِيَ ذلكَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ وطَوَائِفَ مِنَ المحدِّثينَ والفُقَهَاءِ والأُصُولِيِّينَ والظَّاهِرِيِّيْنَ (¬4)، وبهِ قَطَعَ أبو نَصْرِ بنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ (¬5)، واخْتَارَهُ ونَصَرَهُ أبو العَبَّاسِ الوليدُ بنُ بَكْرٍ الغَمْرِيُّ (¬6) المَالِكِيُّ (¬7) في كِتَابِ "الوِجَازَةِ في تَجْوِيْزِ الإجَازَةِ ". وَحَكَى القَاضِي أبو محمَّدِ بنُ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ (¬8) - صَاحبِ كِتابِ " الفَاصِلِ بينَ الرَّاوِي والوَاعِي " (¬9) - عَنْ بعضِ أهلِ الظَّاهِرِ، أنَّهُ ذَهَبَ إلى ذلكَ واحْتَجَّ لهُ، وزادَ ¬
فقالَ: ((لَوْ قَالَ لهُ (¬1): هذهِ رِوَايَتِي لَكِنْ لاَ تَرْوِها عَنِّي، كَانَ لهُ أنْ يَرْوِيَها عنهُ كما لَوْ سَمِعَ منهُ حَدِيثاً ثُمَّ قَالَ لهُ (¬2): ((لاَ تَرْوِهِ عَنِّي، ولاَ أُجِيْزُهُ لَكَ))، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ)). وَوَجْهُ مَذْهَبِ هَؤُلاَءِ اعْتِبَارُ ذلكَ بالقِرَاءَ ةِ عَلَى الشَّيخِ، فإنَّهُ إذا قَرَأَ عليهِ شَيْئاً مِنْ حَدِيثِهِ وأقَرَّ بأنَّهُ رِوَايَتُهُ عَنْ فُلاَنِ بنِ فُلاَنٍ (¬3) جَازَ لهُ أنْ يَرْوِيَهُ عنهُ، وإنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ لَفْظِهِ ولَمْ يَقُلْ لهُ: ((ارْوِهِ عَنِّي، أوْ أَذِنْتُ لَكَ في رِوَايَتِهِ عَنِّي)) (¬4)، واللهُ أعلمُ. والمختارُ ما ذُكِرَ عَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِنَ المحدِّثِينَ وغَيْرِهِمْ، مِنْ أنَّهُ لاَ تَجُوزُ الروايةُ بذلكَ، وبهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الطُّوْسِيُّ (¬5) مِنَ الشَّافِعِيِّينَ، ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذلكَ؛ وهذا لأنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذلكَ مَسْمُوعَهُ وروايَتَهُ، ثُمَّ لاَ يَأْذَنُ (¬6) في روايتِهِ عنهُ؛ لِكَونِهِ لاَ يُجَوِّزُ روايَتَهُ لِخَلَلٍ يَعْرِفُهُ فيهِ وَلَمْ يُوجَدْ منهُ التَّلَفُّظُ بهِ، ولاَ مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ تَلَفُّظِهِ بهِ (¬7)، وهوَ تَلَفُّظُ القارِئِ عليهِ وهوَ يَسْمَعُ، ويُقِرُّ بهِ حَتَّى يَكُونَ قَولُ الراوي عنهُ السَّامِعِ ذلكَ: ((حَدَّثَنا وأخْبَرَنا)) صِدْقاً، وإنْ لَمْ يَأْذَنْ لهُ فيهِ. وإنَّما هذا (¬8) كالشَّاهِدِ، إذا ذَكَرَ في غَيرِ مَجْلِسِ الحكمِ شَهَادتَهُ بشيءٍ فليسَ لِمَنْ يَسْمَعُهُ أنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ، إذا لَمْ يَأْذَنْ لهُ ولَمْ يُشْهِدْهُ عَلَى شَهَادَتِهِ، وذلكَ مِمَّا تَسَاوَتْ فيهِ الشَّهَادَةُ والروايَةُ؛ لأنَّ المعنى يَجْمَعُ بَيْنَهُما في ذلكَ وإنِ افْتَرَقا (¬9) في غيرِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يَجبُ عليهِ العَمَلُ بما ذكَرَهُ لهُ إذا صَحَّ إسْنادُهُ وإنْ لَمْ تَجُزْ لهُ روايتُهُ عنهُ؛ لأنَّ ذلكَ يَكْفِي فيهِ صِحَّتُهُ في نفسِهِ، واللهُ أعْلَمُ. ¬
القِسْمُ السَّابِعُ مِنْ أقسَامِ الأَخْذِ والتَّحَمُّلِ: الوَصِيَّةُ بالكُتُبِ، بَأنْ (¬1) يُوصِيَ الراوي بِكِتابٍ يَرْوِيهِ عندَ موتِهِ أوْ سَفَرِهِ لِشَخْصٍ، فرُويَ عَنْ بعضِ السَّلَفِ (¬2) - رضي الله عنهم - أنَّهُ جَوَّزَ بذلكَ روايةَ الْمُوصَى لهُ لذلكَ عَنِ الموصِي الراوي. وهذا بَعِيدٌ جِدّاً (¬3)، وهوَ إمَّا زَلَّةُ عالِمٍ أو مُتَأَوَّلٌ على أنَّهُ أرادَ الروايةَ عَلَى سَبيلِ الوِجَادةِ التي يَأتِي شَرْحُها - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى -. وقَدِ احْتَجَّ بعضُهُمْ لذلكَ فَشَبَّهَهُ بِقِسْمِ الإعْلاَمِ وقِسْمِ المناوَلَةِ، ولاَ يَصِحُّ ذلكَ فَإِنَّ لِقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الروايةَ بِمُجَرَّدِ الإعْلاَمِ والمنَاولَةِ مُسْتَنَداً ذَكَرْنَاهُ لاَ يَتَقَرَّرُ مِثْلُهُ ولاَ قريبٌ (¬4) منهُ هَاهُنا، واللهُ أعلمُ. القِسْمُ الثَّامِنُ: الوِجَادَةُ (¬5): وهي مَصْدَرٌ لـ ((وَجَدَ يَجِدُ)) مُوَلَّدٌ غيرُ مَسْمُوعٍ مِنَ العَرَبِ (¬6). رُوِّيْنا عَنِ الْمُعَافَى بنِ زَكَرِيَّا النَّهْرَوَانِيِّ (¬7) العَلاَّمَةِ في العُلُومِ أنَّ الموَلَّدِينَ فَرَّعُوا قَوْلَهُمْ: ((وِجَادَةً)) فِيْمَا أُخِذَ مِنَ العِلْمِ مِنْ صَحِيْفَةٍ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ ولاَ إجَازَةٍ وَلاَ مُنَاولةٍ، مِنْ تفريقِ العرَبِ بينَ مَصَادِرِ ((وجَدَ))، للتَّمْيِيزِ بينَ المعانيَ المختَلِفةِ، يَعْنِي قَولَهُمْ: ¬
وَجَدَ ضَالَّتَهُ وِجْدَاناً، ومَطْلُوبَهُ وُجُوداً، وفِي الغَضَبِ: مَوْجِدَةً، وَفِي الغِنَى: وُجْداً (¬1)، وفِي الْحُبِّ: وَجْداً (¬2). مِثَالُ الوِجَادَةِ: أنْ يَقِفَ على كِتَابِ شَخْصٍ فيهِ أحاديثُ يَروِيها بِخَطِّهِ وَلَمْ يَلْقَهُ، أوْ لَقِيَهُ ولكِنْ لَمْ يَسْمَعْ منهُ ذلكَ الذي وَجَدَهُ بِخَطِّهِ، ولاَ لهُ منهُ إجَازَةٌ ولاَ نَحْوُها، فلَهُ أنْ يَقُولَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلاَنٍ (¬3)، ويَذْكُرَ شَيْخَهُ، ويَسُوقَ سَائِرَ الإسْنَادِ والمتْنِ (¬4)، أوْ يَقُولَ: وَجَدْتُ، أوْ قَرَأْتُ بِخَطِّ فُلاَنٍ عَنْ فُلاَنٍ، ويَذْكُرَ الذي حَدَّثَهُ ومَنْ فَوْقَهُ. هذا الذي اسْتَمَرَّ عليهِ العَمَلُ قَدِيماً وحَدِيثاً، وهوَ مِنْ بابِ المنقَطِعِ والمرسَلِ (¬5) غيرَ أنَّهُ أَخَذَ شَوْباً مِنَ الاتِّصَالِ بقَوْلِهِ: وَجَدْتُ بخَطِّ فُلاَنٍ. ورُبَّما دَلَّسَ بعضُهُمْ فَذَكَرَ الذي وَجَدَ خَطَّهُ، وقَالَ (¬6) فيهِ: عَنْ فُلاَنٍ، أوْ قَالَ فُلانٌ؛ وذَلكَ تَدليسٌ قَبيحٌ إذا كَانَ بحيثُ يُوهِمُ سَمَاعَهُ منهُ عَلَى مَا سَبَقَ في نوعِ التَّدليسِ. وجَازَفَ بعضُهُمْ فأطْلَقَ فيهِ: حَدَّثَنا وأَخْبَرَنا (¬7)، وانْتُقِدَ ذلكَ عَلَى فاعِلِهِ. وإذا وَجَدَ حَدِيْثاً في تأليفِ شَخْصٍ وليسَ بخَطِّهِ، فَلَهُ أنْ يَقُولَ: ذَكَرَ فُلاَنٌ، أوْ قَالَ فلاَنٌ: أخْبَرَنا فُلاَنٌ، أوْ ذَكَرَ فُلاَنٌ عَنْ فُلاَنٍ. وهذا مُنْقَطِعٌ لَمْ يَأْخُذْ شَوْباً مِنَ الاتِّصَالِ. وهَذا كُلُّهُ ¬
إذا وَثِقَ بأنَّهُ خَطُّ المذكورِ أوْ كِتابُهُ، فإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلْيَقُلْ: بَلَغَنِي عَنْ فُلاَنٍ، أوْ وَجَدْتُ عَنْ فُلاَنٍ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ العِبَاراتِ، أوْ لِيُفْصِحْ بالمسْتَنَدِ (¬1) فيهِ بأنْ يقولَ مَا قَالَهُ بعضُ مَنْ تَقَدَّمَ: قَرَأْتُ في كِتَابِ فُلاَنٍ بخَطِّهِ، وأخْبَرَنِي فُلاَنٌ أنَّهُ بخَطِّهِ، أوْ يَقُولَ: وَجَدْتُ في كِتابٍ ظَنَنْتُ أنَّهُ بخَطِّ فُلاَنٍ، أو في كِتابٍ ذَكَرَ كَاتِبُهُ أنَّهُ فُلاَنُ بنُ فُلانٍ، أوْ في كِتابٍ قيلَ: إنَّهُ بخَطِّ فُلاَنٍ. وإذا أرادَ أنْ يَنْقُلَ مِنْ كِتابٍ مَنْسُوبٍ إلى مُصَنِّفٍ فَلا يَقُلْ: قَالَ فُلاَنٌ كَذا وكَذا، إلاَّ إذا وَثِقَ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ، بأنْ قَابَلَها هُوَ أوْ ثِقَةٌ غيرُهُ بأُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَما نَبَّهَنا عليهِ في آخِرِ النَّوْعِ الأوَّلِ. وإذا لَمْ يُوجَدْ ذلكَ ونَحْوُهُ (¬2) فَلْيَقُلْ: بَلَغَنِي عَنْ فُلاَنٍ أنَّهُ ذَكَرَ كذا وكذا، أوْ وَجَدْتُ في نُسْخَةٍ مِنَ الكِتابِ الفُلاَنِيِّ، وما أشْبَهَ هذا مِنَ العِبَاراتِ. وقَدْ تسَامَحَ أكْثَرُ النَّاسِ في هذهِ الأزْمَانِ بإطْلاَقِ اللفْظِ الجازِمِ في ذلكَ، مِنْ غيرِ تَحَرٍّ وتَثَبُّتٍ، فَيُطَالِعُ أحَدُهُمْ كِتاباً مَنْسُوباً إلى مُصَنِّفٍ مُعَيَّنٍ، وينقُلُ منهُ عَنْهُ مِنْ غيرِ أنْ يَثِقَ بصِحَّةِ النُّسْخَةِ قَائِلاً: قَالَ فُلاَنٌ كذا وكذا، أوْ ذَكَرَ فُلاَنٌ كذا وكذا، والصوابُ مَا قَدَّمْناهُ. فإنْ كَانَ المطَالِعُ عَالِماً فَطِناً بحيثُ لاَ يَخْفَى عليهِ في الغالبِ مَوَاضِعُ الإسْقَاطِ والسَّقَطِ (¬3) ومَا أُحِيْلَ عَنْ جِهَتهِ (¬4) مِنْ (¬5) غيرِها رَجَوْنا أنْ يَجُوزَ لهُ إطْلاَقُ (¬6) اللَّفْظِ ¬
الجازِمِ فيما يَحْكِيْهِ مِنْ ذلكَ. وإلى هذا فيما أحسَبُ اسْتَرْوَحَ كَثِيرٌ مِنَ المصَنِّفِينَ فيما نَقَلُوهُ مِنْ كُتُبِ النَّاسِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تعَالَى. هذا كُلُّهُ كَلاَمٌ في كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ بطَرِيقِ الوِجَادَةِ. وأمَّا جَوازُ العَمَلِ اعْتِمَاداً على مَا يُوثَقُ بهِ مِنْهَا، فقَدْ رُوِّيْنا عَنْ بعضِ (¬1) المالِكِيَّةِ أنَّ مُعْظَمَ المحدِّثينَ والفُقَهَاءِ مِنَ المالِكيِّينَ وغَيْرِهِمْ لاَ يَرَوْنَ العَمَلَ بذلِكَ. وحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وطَائِفَةٍ مِنْ نُظَّارِ أصْحابِهِ جَوَازُ العَمَلِ بهِ (¬2). قُلْتُ: قَطَعَ بعضُ المحقِّقِينَ (¬3) مِنْ أصْحَابِهِ في أُصُولِ الفِقْهِ بِوُجُوبِ العَمَلِ بهِ عِنْدَ حُصُولِ الثِّقَةِ بهِ، وقالَ: ((لَوْ عُرِضَ ما ذَكَرْناهُ على جُمْلَةِ المحدِّثينَ لأبَوهُ)) (¬4)، ومَا قَطَعَ بهِ هوَ الذي لاَ يَتَّجِهُ غيرُهُ في الأعْصارِ المتأخِّرةِ، فإنَّهُ لوْ تَوَقَّفَ العَمَلُ فيها على الروايةِ لانْسَدَّ بابُ العَمَلِ بالمنْقُولِ؛ لِتَعَذُّرِ شَرْطِ الروايةِ فيها على ما تَقَدَّمَ في النَّوعِ الأوَّلِ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الخامس والعشرون في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده
النَّوْعُ الْخَامِسُ والعِشْرُونَ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيْثِ وَكَيْفِيَّةِ ضَبْطِ الكِتَابِ وَتَقْيِيْدِهِ اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الأوَّلُ - رضي الله عنهم - في كِتابَةِ الحديثِ، فَمِنهُمْ مَنْ كَرِهَ كِتَابَةَ الحديثِ والعِلْمِ وأمَرُوا بحفْظِهِ، وَمِنهُمْ مَنْ أجَازَ ذلكَ (¬1). ومِمَّنْ رُوِّيْنا عنهُ كَرَاهَةَ ذلكَ: عُمَرُ (¬2)، وابنُ مَسْعُودٍ، وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وأبو مُوْسَى، وأبو سَعِيْدٍ الْخُدْرِيُّ (¬3) في جَمَاعَةٍ آخَرِيْنَ مِنَ الصحابَةِ والتَّابِعِينَ. ورُوِّيْنا عَنْ أبي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ أنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئاً إلاَّ القُرْآنَ، ومَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئاً غيرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ)). أخرجَهُ مُسْلِمٌ (¬4) في " صحيحِهِ ". ومِمَّنْ رُوِّيْنا عنهُ إبَاحَةَ ذلكَ - أوْ فَعَلَهُ -: عَلِيٌّ (¬5)، وابْنُهُ الحسَنُ (¬6)، وأنَسٌ (¬7)، وعبدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ ¬
العَاصِ (¬1) في جَمْعٍ (¬2) آخَرِيْنَ مِنَ الصَّحابَةِ والتَّابعيْنَ - رضي الله عنهم - أجْمَعِينَ. ومِنْ صَحِيْحِ حَديثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ ذلكَ: حَدِيثُ أبي شَاهٍ (¬3) اليَمَنِيِّ في التِمَاسِهِ مِنْ رِسُولِ اللهِ أنْ يَكْتُبَ لَهُ شَيْئاً سَمِعَهُ مِنْ خُطْبَتِهِ (¬4) عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، وقَولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((اكْتُبُوا لأبي شَاهٍ)) (¬5). ولَعَلَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ في الكِتَابَةِ عنهُ لِمَنْ خَشِيَ عليهِ النِّسْيانَ (¬6)، ونَهَى عَنِ الكِتَابَةِ عنهُ مَنْ وَثِقَ بحِفْظِهِ، مَخَافَةَ الاتِّكَالِ عَلَى الكِتابِ، أوْ نَهَى عَنْ كِتابَةِ ذلكَ عنهُ حينَ خَافَ عليهِم اخْتِلاَطَ ذلكَ بصُحُفِ القُرآنِ العَظيمِ (¬7)، ¬
وأَذِنَ في كِتَابَتِهِ حِيْنَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ. وأخْبَرَنا أبو الفَتْحِ ابنُ عبدِ الْمُنْعِمِ الفُرَاوِيُّ (¬1) قِرَاءةً عليهِ بنيْسَابُورَ - جَبَرَها اللهُ -، قَالَ: أخْبَرَنا أبو الْمَعَالِي الفَارِسِيُّ، قَالَ: أخْبَرَنا الحافِظُ أبو بَكْرٍ البَيْهَقِيُّ، قَالَ: أخْبَرَنا أبو الْحُسَيْنِ بنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أخْبَرَنا أبو عَمْرِو بنُ السَّمَّاكِ، قَالَ: حَدَّثَنا حَنْبَلُ بنُ إسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بنُ أحمدَ، قَالَ: حَدَّثَنا الوليدُ - هوَ ابنُ مُسْلِمٍ -، قَالَ: كَانَ الأوزاعِيُّ يَقُولُ: ((كَانَ هذا العِلْمُ كَرِيْماً يَتَلاَقَاهُ الرِّجَالُ بَينَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ في الكُتُبِ دَخَلَ فيهِ غيرُ أهْلِهِ)) (¬2). ثُمَّ إنَّهُ زَالَ ذلكَ الخِلاَفُ وأجْمَعَ المسْلِمُونَ عَلَى تَسْوِيْغِ (¬3) ذلكَ وإباحَتِهِ، ولَوْلاَ تَدْوِيْنُهُ في الكُتُبِ لَدَرَسَ في الأعْصُرِ الآخِرَةِ، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ إنَّ عَلَى كَتَبَةِ الحديثِ وطَلَبَتِهِ صَرْفَ الهِمَّةِ إلى ضَبْطِ مَا يَكْتُبُونَهُ أوْ يُحَصِّلُونَهُ بخَطِّ الغَيْرِ (¬4) مِنْ مَرْوِيَّاتِهِمْ عَلَى الوجْهِ الذي رَوَوْهُ شَكْلاً ونَقْطاً يُؤْمَنُ مَعَهُما الالتباسُ، وكَثِيراً ما يَتَهَاوَنُ بذلكَ الواثِقُ بذِهْنِهِ وتَيَقُّظِهِ وذلكَ وَخِيْمُ العاقِبَةِ، فإنَّ الإنْسَانَ مُعَرَّضٌ للنِّسْيانِ، وأوَّلُ ناسٍ أوَّلُ الناسِ (¬5)، وإعْجَامُ المكتوبِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْجَامِهِ، وشَكْلُهُ يَمْنَعُ مِنْ إشْكَالِهِ، ثُمَّ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَتَعَنَّى بتَقْييدِ الواضِحِ الذي لاَ يَكَادُ يَلْتَبِسُ (¬6). وقَدْ ¬
أحْسَنَ مَنْ قَالَ: إنَّما يُشْكَلُ مَا يُشْكِلُ (¬1). وقَرَأْتُ بِخَطِّ صَاحِبِ كِتابِ " سِماتِ الخطِّ ورُقُومِهِ " عَلِيِّ بنِ إبْرَاهِيمَ البغْدَادِيِّ فيهِ أنَّ أهلَ العِلْمِ يَكْرَهُونَ الإعْجَامَ والإعْرَابَ إلاَّ في (¬2) الْمُلْتَبِسِ. وحَكَى غيرُهُ عَنْ قَومٍ أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُشْكَلَ مَا يُشْكِلُ ومَا لاَ يُشْكِلُ؛ وذلكَ لأنَّ المبتَدِئَ وغيرَ المتَبَحِّرِ في العِلْمِ لاَ يُمَيِّزُ ما يُشْكِلُ مِمَّا لاَ يُشْكِلُ، ولاَ صَوابَ الإعْرَابِ مِنْ خَطَئِهِ (¬3)، واللهُ أعلمُ. وهذا بيانُ أُمُورٍ مُفِيدَةٍ (¬4) في ذلِكَ: أحَدُها: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُ - مِنْ بَيْنِ مَا يَلْتَبِسُ - بِضَبْطِ الْمُلْتَبِسِ مِنْ أسْمَاءِ النَّاسِ (¬5) أكْثَرَ، فإنَّهَا لاَ تُسْتَدْرَكُ بالمعْنَى، ولاَ يُسْتَدَلُّ علَيْهَا بِمَا قَبْلُ ومَا بَعْدُ. الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ في الألفَاظِ المشْكِلَةِ أنْ يُكَرَّرَ ضَبْطُهَا بأنْ يَضْبِطَها (¬6) في مَتْنِ الكِتابِ ثُمَّ يَكْتُبَهَا قُبَالَةَ ذَلِكَ في الحاشِيَةِ مُفْرَدَةً مَضْبُوطَةً، فإنَّ ذلكَ أبْلَغُ في إبانَتِهَا وأبْعَدُ مِنْ التِبَاسِها، ومَا ضَبَطَهُ في أثْناءِ الأسْطُرِ رُبَّمَا دَاخَلَهُ نَقْطُ غيرِهِ وشَكْلِهِ مِمَّا (¬7) فَوْقَهُ وتَحْتَهُ لاَ سِيَّمَا عِنْدَ دِقَّةِ الخطِّ، وضِيْقِ الأسْطُرِ، وبِهَذا جَرَى رَسْمُ جَمَاعَةٍ مِنْ أهْلِ الضَّبْطِ، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: يُكْرَهُ الخطُّ الدَّقِيقُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَقْتَضِيْهِ (¬8). رُوِّيْنَا عَنْ حَنْبَلِ بنِ إسْحَاقَ قالَ: رآني أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ وأنا أَكْتُبُ خَطّاً دَقِيقاً، فقالَ: ((لاَ تَفْعَلْ، أحْوَجَ مَا تَكُونُ إليهِ يَخُونُكَ)) (¬9)، وبَلَغَنا عَنْ بَعضِ المشَايِخِ أنَّهُ كَانَ إذا رأَى خَطّاً دَقِيْقاً قَالَ: هذا خَطُّ
مَنْ لاَ يُوقِنُ بالخَلَفِ (¬1)، مِنَ اللهِ)) (¬2). والعُذْرُ في ذلكَ هوَ مثلُ أنْ لاَ يَجِدَ في الوَرَقِ سَعَةً، أوْ يَكُونَ رَحَّالاً يَحْتَاجُ إلى تَدْقِيقِ الخطِّ ليَخِفَّ عليهِ مَحْمَلُ كِتَابِهِ (¬3)، ونحوِ هذا (¬4). الرَّابِعُ: يُخْتَارُ لهُ في خطِّهِ التَّحْقِيقُ دونَ الْمَشْقِ (¬5) والتَّعليقِ (¬6). بَلَغَنا عَنِ ابنِ قُتَيبةَ قالَ: قالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: ((شَرُّ الكِتَابَةِ الْمَشْقُ، وشَرُّ القِرَاءةِ الْهَذْرَمَةُ (¬7)، وأجْوَدُ الخطِّ أبْيَنُهُ)) (¬8)، واللهُ أعلمُ. الخَامِسُ: كَمَا تُضْبَطُ الحروفُ المعْجَمَةُ بالنَّقْطِ، كذلكَ يَنْبَغِي أنْ تُضْبَطَ المهْمَلاَتُ غيرُ المعجمَةِ بعَلاَمَةِ الإهْمَالِ؛ لِتَدُلَّ على عَدَمِ إعْجَامِها. وسَبيلُ النَّاسِ في ضَبْطِهَا مُخْتَلِفٌ، فمِنْهُمْ مَنْ يَقْلِبُ النُّقَطَ، فيَجْعَلُ النُّقَطَ الذي (¬9) فَوْقَ المعجَمَاتِ (¬10) تحتَ مَا يُشَاكِلُها مِنَ المهْمَلاَتِ، فَيَنْقُطُ تحتَ الرَّاءِ، والصَّادِ، والطَّاءِ، والعينِ، ونحوِهَا مِنَ المهمَلاَتِ. وذَكَرَ بعضُ هَؤُلاَءِ أنَّ النُّقَطَ التي تحتَ السِّيْنِ المهْمَلَةِ ¬
تَكُونُ مَبْسُوطَةً صَفّاً، والتي فَوقَ الشِّيْنِ المعْجَمَةِ تَكُونُ كَالأَثَافِيِّ (¬1). ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ عَلاَمةَ الإهْمالِ فَوقَ الحروفِ المهمَلَةِ كَقُلاَمَةِ الظُّفْرِ مُضْجَعةٌ (¬2) عَلى قَفَاها. ومِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ تحتَ الحاءِ المهمَلَةِ حَاءً مُفْرَدَةً صَغِيرةً، وكذا تحتَ الدَّالِ، والطَّاءِ، والصَّادِ، والسِّيْنِ، والعَيْنِ، وسَائِرِ الحروفِ المهْمَلَةِ الملتَبِسَةِ مثلُ ذلكَ. فهذهِ وجُوهٌ مِنْ عَلاَماتِ الإهْمَالِ شائعَةٌ معرُوفَةٌ. وهُناكَ مِنَ العلاماتِ ما هوَ موجودٌ في كثيرٍ مِنَ الكُتُبِ القَدِيْمَةِ (¬3) ولاَ يَفْطُنُ لهُ كَثِيرُونَ، كَعَلاَمَةِ مَنْ يَجْعَلُ فوقَ الحرفِ المهمَلِ خَطّاً صَغِيْراً، وكَعَلاَمَةِ مَنْ يَجْعَلُ تحتَ الحرفِ المهملِ مِثْلَ الهمْزَةِ، واللهُ أعلمُ. السَّادِسُ: لاَ يَنْبَغِي أنْ يَصْطَلِحَ مَعَ نَفْسِهِ في كِتَابِهِ بِمَا لاَ يَفْهَمُهُ غيرُهُ فَيُوقِعَ غيرَهُ في حَيْرَةٍ، كَفعلِ مَنْ يَجْمَعُ في كِتَابِهِ بينَ رواياتٍ مختَلِفَةٍ ويَرْمِزُ إلى روايةِ كُلِّ راوٍ بحرفٍ واحِدٍ مِنِ اسْمِهِ أوْ حَرْفَيْنِ وما أشْبَهَ ذَلِكَ، فإنْ بَيَّنَ في أوَّلِ كِتَابِهِ أوْ آخِرِهِ مُرادَهُ بتلْكَ العلاَماتِ والرمُوزِ فَلاَ بأسَ. ومَعَ ذلكَ فالأَوْلَى أنْ يَجْتَنِبَ (¬4) الرَّمْزَ ويَكْتُبَ عِنْدَ كُلِّ روايةٍ اسمَ راوِيْها بِكَمالِهِ مُخْتَصَراً ولاَ يَقْتَصِرُ على العلاَمَةِ ببعضِهِ، واللهُ أعلمُ. السَّابِعُ: يَنْبَغِي أنْ يَجْعَلَ بينَ كُلِّ حديثينِ دارَةً تَفْصِلُ بينَهُما وتُمَيِّزُ (¬5). ومِمَّنْ بَلَغَنا عنهُ ذلكَ مِنَ الأئِمَّةِ أبو الزِّنَادِ (¬6)، وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، وإبْرَاهيمُ بنُ إسْحَاقَ الحربيُّ، ¬
ومحمَّدُ بنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ (¬1) - رضي الله عنهم -، واسْتَحَبَّ الخطيبُ الحافِظُ أنْ تَكُونَ الدَّاراتُ غُفْلاً، فإذا عارَضَ فَكُلُّ حديثٍ يَفْرُغُ مِنْ عَرْضِهِ يَنْقُطُ في الدَّارَةِ التي تليهِ نُقْطَةً أوْ يَخُطُّ في وَسَطِهَا خَطّاً. قالَ: ((وقدْ كانَ بعضُ أهْلِ العِلْمِ لاَ يَعْتَدُّ مِنْ سَمَاعِهِ إلاَّ بِمَا كانَ كذلكَ أوْ في مَعْناهُ)) (¬2)، واللهُ أعلمُ. الثَّامِنُ: يُكْرَهُ لهُ في مِثْلِ عبدِ اللهِ بنِ فُلاَنِ بنِ فُلانٍ، أنْ يَكْتُبَ ((عَبْد)) في آخِرِ سَطْرٍ، والباقِي في أوَّلِ السَّطْرِ الآخَرِ (¬3). وكذلكَ يُكْرَهُ في ((عبدِ الرَّحمانِ بنِ فُلاَنٍ)) وفي سائِرِ الأسْماءِ المشتَمِلَةِ على التَّعْبيدِ للهِ تَعَالَى، أنْ يَكْتُبَ ((عَبد)) في آخِرِ سَطْرٍ، واسمَ ((اللهِ)) مَعَ سائِرِ النَّسَبِ في أوَّلِ السَّطْرِ الآخَرِ (¬4). وهَكَذا يُكْرَهُ أنْ يَكْتُبَ ((قالَ رَسُولُ)) في آخِرِ سَطْرٍ ويَكْتُبَ في أوَّلِ السَّطْرِ (¬5) الذي يليهِ ((اللهِ صَلَّى اللهُ تعَالَى عليهِ وسَلَّمَ))، وما أشبَهَ ذلكَ (¬6)، واللهُ أعلمُ. التَّاسِعُ: يَنْبَغِي لهُ أنْ يُحَافِظَ عَلَى كَتْبِهِ (¬7) الصَّلاَةَ والتَّسْلِيمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عندَ ذِكْرِهِ (¬8)، ولاَ يَسْأمُ مِنْ تَكْرِيرِ ذلكَ عندَ تَكَرُّرِهِ، فإنَّ ذلكَ مِنْ أكبرِ الفَوَائِدِ التي يَتَعَجَّلُها طَلَبَةُ الحديثِ وكَتَبتُهُ، ومَنْ أغْفَلَ ذلكَ حُرِمَ حَظّاً عَظِيماً، وقَدْ رُوِّيْنا لأهْلِ ذَلِكَ مَنَاماتٍ صالِحَةً (¬9). وما يَكْتُبُهُ مِنْ ذلكَ فَهوَ دُعَاءٌ يُثْبِتُهُ لاَ كَلاَمٌ يَرويهِ، فلذَلِكَ لاَ يَتَقَيَّدُ فيهِ بالروايَةِ ولاَ يَقْتَصِرُ فيهِ على ما في الأصْلِ. ¬
وهَكَذا الأمْرُ في الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ (¬1) عندَ ذِكْرِ اسْمِهِ، نَحْوُ: ((عَزَّ وَجلَّ)) و ((تَبَارَكَ وتَعَالَى))، وما ضَاهَى ذلكَ. وإذا وُجِدَ شيءٌ مِنْ ذلكَ قَدْ جَاءَتْ بهِ الروايةُ كانتْ العِنَايَةُ بإثْبَاتِهِ وضَبْطِهِ أكْثَرَ، وما وُجِدَ في خَطِّ أبي عبدِ اللهِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ (¬2) - رضي الله عنه - مِنْ إغْفَالِ ذلكَ عندَ ذِكْرِ اسمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَعَلَّ سَبَبَهُ أنَّهُ كَانَ يَرَى التَّقَيُّدَ في ذلكَ بالروايةِ، وعَزَّ عليهِ اتِّصَالُها في ذلكَ في جميعِ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الرواةِ. قَالَ الخطيبُ أبو بكْرٍ: ((وبَلَغَنِي أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نُطْقاً لا خَطّاً)) (¬3). قالَ: ((وقَدْ خَالَفَهُ غيرُهُ مِنَ الأئِمَّةِ المتَقَدِّمِينَ في ذلكَ)) (¬4). ورُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بنِ المدينيِّ، وعَبَّاسِ بنِ عبدِ العظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ قَالاَ: ((ما تَرَكْنا الصَّلاةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (¬5) - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حديثٍ سَمِعْنَاهُ، ورُبَّما عَجِلْنا فَنُبَيِّضُ الكِتَابَ في كُلِّ حديثٍ حَتَّى نَرْجِعَ إليهِ)) (¬6)، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ لِيتَجَنَّبْ (¬7) في إثْبَاتِها نَقْصَيْنِ: أحَدُهما: أنْ يَكْتُبَها مَنْقُوصَةً صُورةً رامِزاً إليها بحرْفَينِ أوْ نحوِ ذلكَ. والثَّانِي: أنْ يَكْتُبَها مَنْقُوصَةً مَعْنًى بأنْ لاَ يَكْتُبَ ((وَسَلَّمَ))، وإنْ وُجِدَ ذلكَ في خَطِّ بعضِ المتَقَدِّمينَ (¬8). سَمِعْتُ أبا القَاسِمِ مَنْصُورَ بنَ عَبدِ الْمُنْعِمِ (¬9)، وأُمَّ المؤيّدِ بنتَ ¬
أبي القاسِمِ بقراءَتِي عليهِما قالاَ: سَمِعْنا أبا البَرَكَاتِ عبدَ اللهِ بنَ محمَّدٍ الفُرَاوِيَّ (¬1) لَفْظاً، قالَ: سَمِعْتُ المقْرِئَ ظَرِيفَ بنَ محمَّدٍ (¬2)، يقولُ: سَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ محمَّدِ بنِ إسحَاقَ الحافِظِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ حَمْزةَ الكِنَانِيَّ (¬3)، يقُولُ: كُنْتُ أكْتُبُ الحديثَ وكُنْتُ أكْتُبُ عندَ ذِكْرِ النبيِّ ((صَلَّى اللهُ عليهِ))، ولاَ أكتبُ ((وسَلَّمَ))، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في المنامِ فقالَ لي: ما لَكَ لاَ تُتِمُّ الصَّلاةَ عليَّ؟ قَالَ: فما كتبتُ بعدَ ذلكَ ((صَلَّى اللهُ عليهِ)) إلاَّ كتبْتُ ((وسَلَّمَ)) (¬4). قُلْتُ (¬5): ويُكْرَهُ أيْضاً الاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: ((عليهِ السَّلامُ))، واللهُ أعلمُ بالصوابِ. العَاشِرُ: على الطَّالِبِ مُقَابَلَةُ (¬6) كِتَابِهِ بأصْلِ سَمَاعِهِ (¬7) وكِتَابُ شَيْخِهِ الذي يرويهِ عنهُ - وإنْ كانَ إجَازَةً -. رُوِّيْنا عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ لابْنِهِ ¬
هِشَامٍ: ((كَتَبْتَ؟))، قالَ: ((نَعَمْ))، قالَ: ((عَرَضْتَ كِتَابَكَ؟)) قالَ: ((لا))، قالَ: ((لَمْ تَكْتُبْ)) (¬1). وَرُوِّيْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ (¬2) الإمامِ، وعَنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيْرٍ قالاَ: ((مَنْ كَتَبَ ولَمْ يُعَارِضْ كَمَنْ دَخَلَ الخلاَءَ ولَمْ يَسْتَنْجِ)). وعَنْ الأخَفَشِ قالَ: ((إذا نُسِخَ الكِتَابُ ولَمْ يُعَارَضْ ثُمَّ نُسِخَ وَلَمْ يُعَارَضْ خَرَجَ أعْجَمِيّاً)) (¬3). ثُمَّ إنَّ أفْضَلَ المعَارَضَةِ أنْ يُعَارِضَ الطَّالِبُ بنفْسِهِ كِتَابَهُ بِكِتَابِ (¬4) الشَّيْخِ مَعَ الشَّيْخِ في حالِ تَحْدِيْثِهِ إيَّاهُ مِنْ كِتَابِهِ، لما يجمعُ ذلكَ مِنْ وجوهِ الاحْتِياطِ والإتْقَانِ مِنَ الجانِبَيْنِ. وما لَمْ تَجْتَمِعْ فيهِ هذهِ الأوْصَافُ نَقَصَ مِنْ مَرْتَبَتِهِ بقدَرِ ما فاتَهُ مِنْهَا. وما ذَكَرْناهُ أَوْلَى مِنْ إطْلاَقِ أبي الفَضْلِ الْجَارُودِيِّ الحافِظِ الْهَرَوِيِّ (¬5) قَولَهُ: ((أصْدَقُ المعارَضَةِ مَعَ نَفْسِكَ)) (¬6). ويُسْتَحَبُّ أنْ يَنْظُرَ معهُ في نُسْخَتِهِ مَنْ حَضَرَ مِنَ السَّامِعِيْنَ مِمَّنْ لَيْسَ معهُ نُسْخَةٌ لاَ سِيَّما إذا أرادَ النَّقْلَ مِنْها. وقَدْ رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ أنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَمْ ينظرْ (¬7) في الكِتَابِ ¬
والمحدِّثُ يَقْرَأُ، هَلْ يَجُوزُ أنْ يُحَدِّثَ بذلكَ عنهُ؟، فقالَ: أمَّا عِنْدِي فَلاَ يَجُوزُ، ولَكِنْ عَامَّةُ الشُّيُوخِ هَكَذا سَمَاعُهُمْ)) (¬1). قُلْتُ: وهذا مِنْ مَذاهِبِ أهْلِ التَّشْدِيْدِ في الروايَةِ، وسَيَأْتِي ذِكْرُ مَذْهَبِهِمْ (¬2) إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. والصَّحِيْحُ أنَّ ذلكَ لاَ يُشْتَرَطُ وأنَّهُ يَصِحُّ السَّمَاعُ وإنْ لَمْ يَنْظُرْ أصلاً في الكِتابِ حالَةَ القِرَاءَ ةِ، وأنَّهُ لا (¬3) يُشْتَرَطُ أنْ يُقَابِلَهُ بنفْسِهِ، بلْ يَكْفِيْهِ مُقَابلَةُ نُسْخَتِهِ بأصْلِ الرَّاوي وإنْ لَمْ يَكُنْ ذلكَ حالَةَ القِرَاءةِ، وإنْ كَانَتِ المقابَلَةُ على (¬4) يَدَي غيرِهِ، إذا كَانَ ثِقَةً مَوْثُوقاً بضَبْطِهِ (¬5). قُلْتُ: وجَائِزٌ أنْ تَكُونَ مُقَابَلَتُهُ بفَرْعٍ قَدْ قُوبِلَ المقابلَةَ المشروطَةَ بأصْلِ شَيْخِهِ أصْلِ السَّمَاعِ، وكذلكَ إذا قَابَلَ بأصْلِ أصْلِ الشَّيْخِ (¬6) المقَابَلْ بهِ أصْلُ الشَّيْخِ؛ لأنَّ الغَرَضَ المطْلُوبَ أنْ يَكُونَ كِتَابُ الطَّالِبِ مُطَابِقاً لأصْلِ سَمَاعِهِ وكِتَابِ شَيْخِهِ، فَسَوَاءٌ حَصَلَ ذلكَ بوَاسِطَةٍ أوْ بغَيْرِ واسِطَةٍ. ولاَ يُجْزِئُ ذلكَ عِنْدَ مَنْ قَالَ: ((لاَ تَصِحُّ مُقَابَلَتُهُ مَعَ أحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ، ولاَ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ، ولاَ يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَ كِتَابِ الشَّيْخِ واسِطَةٌ (¬7)، وليقَابِلْ نُسْخَتَهُ بالأصْلِ بنَفْسِهِ حَرْفاً حَرْفاً حَتَّى يَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ ويَقِيْنٍ مِنْ مطابَقَتِها لهُ)). وهذا مَذْهَبٌ مَتْرُوكٌ وهوَ مِنْ مَذَاهِبِ أهْلِ التَّشْدِيْدِ المرفُوضَةِ في أعْصَارِنا، واللهُ أعلمُ. ¬
أمَّا إذا لَمْ يُعَارِضْ كِتَابَهُ بالأصْلِ أصْلاً فَقَدْ سُئِلَ الأُسْتَاذُ أبو إسْحَاقَ الإسْفِرَايينيُّ عَنْ جَوَازِ رِوَايَتِهِ منهُ (¬1) فأجَازَ ذلكَ. وأجَازَهُ الحافِظُ أبو بَكْرٍ الخطِيبُ (¬2) أيضاً وبَيَّنَ شَرْطَهُ، فَذَكَرَ أنَّهُ يُشْتَرَطُ أنْ تَكُونَ نُسْخَتُهُ نُقِلَتْ مِنَ الأصْلِ وأنْ يُبَيِّنَ عندَ الروايةِ أنَّهُ لَمْ يُعَارِضْ. وحَكَى عَنْ شَيخِهِ أبي بَكرٍ البَرْقَانِيِّ أنَّهُ سَأَلَ أبا بكرٍ الإسْمَاعِيلِيَّ: ((هَلْ للرَّجُلِ أنْ يُحَدِّثَ بِمَا كَتَبَ عَنِ الشَّيْخِ ولَمْ يُعَارِضْ بأصْلِهِ؟))، فقالَ: ((نَعَمْ، ولَكِنْ لاَ بُدَّ أنْ يُبَيِّنَ أنَّهُ لَمْ يُعَارِضَ)) (¬3). قالَ: وهذا هوَ مَذْهَبُ أبي بَكْرٍ البَرْقَانِيِّ، فإنَّهُ رَوَى لَنا أحَادِيْثَ كَثِيْرَةً قَالَ فيها: ((أخْبَرَنا فُلاَنٌ، ولَمْ أُعَارِضْ بالأصْلِ)) (¬4). قُلْتُ: ولاَ بُدَّ مِنْ شَرْطٍ ثَالِثٍ (¬5)، وهوَ أنْ يَكُونَ ناقِلُ النُّسْخَةِ مِنَ الأصْلِ غَيْرَ سَقِيْمِ النَّقْلِ، بلْ صَحِيْحَ النَّقْلِ قَلِيْلَ السَّقْطِ، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ إنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُرَاعِيَ في كِتَابِ شَيْخِهِ بالنِّسْبَةِ إلى مَنْ فَوْقَهُ مثلَ ما ذَكَرْنا أنَّهُ يُرَاعِيهِ مِنْ كِتَابِهِ، ولاَ يَكُونَنَّ (¬6) كَطَائِفَةٍ مِنَ الطَّلَبَةِ إذا رَأَوْا سَماعَ شَيْخٍ لِكِتابٍ قَرَؤُوْهُ عليهِ مِنْ أيِّ نُسْخَةٍ اتَّفَقَتْ، واللهُ أعلمُ. الحادِي عَشَرَ: المخْتَارُ في كَيْفِيَّةِ تَخْرِيجِ السَّاقِطِ في الحواشِي ويُسَمَّى اللَّحَقَ (¬7) - بفتحِ الحاءِ - وهوَ أنْ يُخَطَّ مِنْ مَوْضِعِ سُقُوطِهِ مِنَ السَّطْرِ: خَطّاً صَاعِداً إلى فَوْقُ، ثُمَّ ¬
يَعْطِفَهُ بينَ السَّطْرَيْنِ عَطْفَةً يَسِيْرَةً إلى جِهَةِ الحاشِيَةِ التي يَكْتُبُ فيها اللَّحَقَ، ويَبْدَأَ في الحاشِيَةِ بِكَتْبِهِ (¬1) اللَّحَقَ مُقَابِلاً للخَطِّ المنعَطِفِ، وليَكُنْ ذلكَ في حاشِيَةِ ذَاتِ اليمينِ. وإنْ كَانتْ تَلِي وسَطَ الورقةِ إنِ اتَّسَعَتْ لهُ ولْيَكْتُبْهُ (¬2) صَاعِداً إلى أعْلَى الوَرَقَةِ، لاَ نازِلاً بهِ إلى أسْفَلَ. قُلْتُ: وإذا كانَ اللَّحَقُ سطْرَيْنِ أوْ سُطوراً، فلاَ يَبْتَدِئْ بسطورِهِ مِنْ أسْفَلَ إلى أعلى بلْ يَبْتَدِئُ بِها مِنْ أعْلَى إلى أسْفَلَ، بحيثُ يكونُ مُنْتَهاها إلى جِهَةِ باطِنِ الورَقَةِ إذا كانَ التخريجُ في جِهَةِ اليمينِ، وإذا كانَ في جِهَةِ الشِّمالِ وَقَعَ مُنْتَهاها إلى جِهَةِ طَرَفِ الورقَةِ، ثُمَّ يكتُبُ عندَ انتِهَاءِ اللَّحَقِ ((صَحَّ)). ومِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ مَعَ ((صَحَّ)) ((رَجَعَ))، ومِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ في آخِرِ اللَّحَقِ الكلمَةَ المتَّصِلَةَ بهِ دَاخِلَ الكِتابِ في موضِعِ التَّخْرِيجِ لِيُؤْذِنَ (¬3) باتِّصَالِ الكَلاَمِ، وهذا اخْتِيارُ بعضِ أهْلِ الصَّنْعَةِ مِنْ أهْلِ المغربِ، واخْتِيارُ القاضِي أبي محمَّدِ بنِ خَلاَّدٍ - صاحِبِ كِتابِ " الفَاصِلِ بينَ الراوي والواعي " - مِنْ أهلِ المشْرِقِ مَعَ طَائِفَةٍ، وليسَ ذلِكَ بمَرْضِيٍّ إذْ رُبَّ كَلِمَةٍ تَجِيءُ في الكَلامِ مُكَرَّرَةً حَقيقَةً، فهذا التَّكْرِيْرُ يُوقِعُ بَعْضَ الناسِ في تَوَهُّمِ مِثْلِ ذَلِكَ في بعضِهِ، واخْتَارَ القاضِي ابنُ خَلاَّدٍ أيضاً في كِتابِهِ (¬4) أنْ يَمُدَّ عَطْفَةَ خَطِّ التَّخْرِيجِ مِنْ موضِعِهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ بأوَّلِ اللَّحَقِ في الحاشِيَةِ (¬5). وهذا أيضاً غيرُ مَرْضِيٍّ، فإنَّهُ وإنْ كَانَ فيهِ زيادَةُ بيانٍ، فَهُوَ تَسْخِيمٌ للكِتابِ وتَسْوِيدٌ لهُ لاَ سِيَّما عندَ كَثْرَةِ الإلْحَاقاتِ، واللهُ أعلمُ (¬6). ¬
وإنَّما اخْتَرْنا كِتْبَةَ اللَّحَقِ صاعِداً إلى أعْلَى الورَقَةِ لِئَلاَّ (¬1) يَخْرُجَ بَعْدَهُ نَقْصٌ آخَرُ فَلا يَجِدُ ما يُقَابِلُهُ مِنَ الحاشِيَةِ فارِغاً لهُ لَوْ كَانَ كَتَبَ الأوَّلَ نازِلاً إلى أسْفَلَ، وإذا كتَبَ الأوَّلَ صَاعِداً فما يَجِدُ بعدَ ذلكَ مِنْ نَقْصٍ يَجِدُ ما يُقَابِلُهُ مِنَ الحاشِيةِ فارِغاً لهُ. وقُلْنا أيْضاً: يُخَرِّجُهُ في جهَةِ اليمينِ؛ لأنَّهُ لوْ خَرَّجَهُ إلى جِهَةِ الشِّمالِ، فَرُبَّمَا ظَهَرَ بَعْدَهُ في السَّطْرِ نَفْسِهِ نَقْصٌ آخَرُ، فإنْ خَرَّجَهُ قُدَّامَهُ إلى جِهَةِ الشِّمالِ أيْضاً وَقَعَ بينَ التَّخْرِيجَيْنِ إشْكَالٌ، وإنْ خَرَّجَ الثانيَ إلى جِهَةِ اليمينِ التَقَتْ عَطْفَةُ تَخْرِيجِ جِهَةِ الشِّمَالِ وعَطْفَةُ تَخْرِيجِ جِهَةِ اليمينِ أوْ تَقَابَلَتا، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ الضَّرْبَ عَلَى مَا بَيْنَهُما، بِخِلاَفِ مَا إذا خرَّجَ الأوَّلَ إلى جِهَةِ اليمينِ فإنَّهُ حِيْنَئذٍ يُخَرِّجُ الثَّانيَ إلى جِهَةِ الشِّمَالِ فَلاَ يَلْتَقِيانِ، ولاَ يَلْزَمُ إشْكَالٌ، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يَتَأَخَّرَ النَّقْصُ إلى آخِرِ السَّطْرِ، فَلاَ وَجْهَ حِيْنَئذٍ إلاَّ تَخْرِيجُهُ إلى جِهَةِ الشِّمَالِ؛ لِقُرْبِهِ مِنْها ولانْتِفَاءِ العِلَّةِ المذْكُورَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّا (¬2) لاَ نَخْشَى ظُهُورَ نَقْصٍ بَعْدَهُ. وإذا كَانَ النَّقْصُ في أوَّلِ السَّطْرِ تَأَكَّدَ تَخْرِيجُهُ إلى جِهَةِ اليمينِ لِمَا ذَكَرْناهُ مِنَ القُرْبِ مَعَ مَا سَبَقَ. وأمَّا مَا يُخَرَّجُ في الحواشِي مِنْ شَرْحٍ أوْ تَنْبِيهٍ عَلَى غَلَطٍ أو اخْتِلاَفِ رِوَايةٍ أوْ نُسْخَةٍ أوْ نَحْوِ ذلكَ مِمَّا لَيْسَ في (¬3) الأصْلِ، فَقَدْ ذَهَبَ القاضِي الحافِظُ عِياضٌ (¬4) -رَحِمَهُ اللهُ - إلى أنَّهُ لاَ يُخَرَّجُ لِذَلِكَ خَطُّ تَخْريجٍ لِئَلاَّ (¬5) يَدْخُلَ اللَّبْسُ ويُحْسَبَ مِنَ الأصْلِ، وأنَّهُ لاَ يُخَرَّجُ إلاَّ لِمَا هُوَ مِنْ نَفْسِ الأصْلِ، لَكِنْ رُبَّمَا جُعِلَ عَلَى الحرفِ المقْصُودِ بذلِكَ التَّخْريجِ عَلاَمةٌ كالضَّبَّةِ أوْ التَّصْحِيْحِ إيْذَاناً بهِ. قُلْتُ: التَّخْريجُ أوْلَى وأدَلُّ، وفي نفسِ هذا الْمُخَرَّجِ مَا يَمْنَعُ الإلْبَاسَ. ثُمَّ هذا التَّخْريجُ يُخَالِفُ التَّخْريجَ لِمَا هُوَ مِنْ نفسِ الأصْلِ في أنَّ خَطَّ ذلكَ التَّخْريجِ يَقَعُ بينَ الكلمتينِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهُما سقَطَ السَّاقِطُ، وخطَّ هذا التَّخريجِ يَقَعُ على نَفسِ الكلمةِ التي مِنْ أجْلِها خُرِّجَ الْمُخَرَّجُ في الحاشِيَةِ، واللهُ أعلمُ. ¬
الثَّاني عَشَرَ: مِنْ شَأْنِ الْحُذَّاقِ الْمُتْقِنينَ: العِنَايَةُ بالتَّصحيحِ والتَّضْبِيبِ والتَّمْرِيضِ. أمَّا التَّصحيحُ: فَهوَ كِتابَةُ ((صَحَّ)) على الكَلاَمِ أوْ عِندَهُ، ولاَ يُفْعَلُ ذلكَ إلاَّ فيما صَحَّ روايةً ومعنًى، غيرَ أنَّهُ عُرْضَةٌ للشَكِّ أوْ الخِلاَفِ، فَيُكْتَبُ عليهِ ((صَحَّ))؛ لِيُعْرَفَ أنَّهُ لَمْ يُغْفَلْ عنهُ، وأنَّهُ قَدْ ضُبِطَ وصَحَّ على ذلكَ الوجْهِ. وأمَّا التَّضْبِيبُ ويُسْمَّى أيضاً التَّمْرِيضَ (¬1): فَيُجْعَلُ على ما صَحَّ وُرُودُهُ كذلكَ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، غيرَ أنَّهُ فَاسِدٌ لَفْظاً، أوْ مَعْنًى، أوْ ضَعِيفٌ، أوْ ناقِصٌ، مثلُ أنْ يَكُونَ غيرَ جائِزٍ مِنْ حيثُ العربيَّةُ، أوْ يَكُونَ شَاذّاً عِنْدَ أهلِهَا يَأْبَاهُ أكْثَرُهُمْ، أوْ مُصَحَّفاً، أوْ يَنْقُصَ مِنْ جُمْلَةِ الكَلاَمِ كَلِمَةً أوْ أكْثَرَ، وما أشْبَهَ ذَلكَ، فَيُمَدُّ على ما هذا سَبِيْلُهُ خَطٌّ: أوَّلُهُ مِثْلُ الصَّادِ ولاَ يُلْزَقُ بالكَلمَةِ الْمُعَلَّمِ عليها كَيْلاَ يُظَنَّ ضَرْباً، وكأنَّهُ صَادُ التَّصْحِيحِ بِمَدَّتِها دونَ حائِها كُتِبَتْ كَذلكَ لِيُفَرَّقَ بينَ ما صحَّ مُطلقاً مِنْ جِهَةِ الروايَةِ وغيرِها، وبينَ ما صحَّ مِنْ جِهَةِ الروايَةِ دونَ غيرِها، فَلَمْ يُكَمَّلْ عليهِ التَّصْحيحُ، وكُتِبَ حَرْفٌ ناقِصٌ على حرفٍ ناقِصٍ؛ إشْعَاراً بِنَقْصِهِ ومَرَضِهِ مَعَ صِحَّةِ نَقْلِهِ ورِوايَتِهِ، وتَنْبيهاً بذلكَ لِمَنْ ينظرُ في كِتَابِهِ، على أنَّهُ قدْ وقَفَ عليهِ ونَقَلَهُ على ما هوَ عليهِ، ولَعَلَّ غيرَهُ قَدْ (¬2) يُخَرِّجُ لهُ وَجْهاً صحيحاً، أوْ يَظْهَرُ لهُ بعدَ ذلكَ في صِحَّتِهِ ما لَمْ يَظْهَرْ له الآنَ. ولوْ غَيَّرَ ذلكَ وأصْلَحَهُ على ما عندَهُ، لَكَانَ مُتَعَرِّضاً لِمَا وَقَعَ فيهِ غيرُ واحِدٍ مِنَ المتَجَاسِرينَ الذينَ غَيَّرُوا، وظَهَرَ الصَّوابُ فيما أنْكَرُوهُ والفَسَادُ فيما أصْلَحُوهُ!. وأمَّا تَسْمِيَةُ ذلكَ ضَبَّةً (¬3)، فَقَدْ بَلَغَنا عَنْ أبي القاسِمِ إبراهيمَ بنِ مُحَمَّدٍ اللُّغَوِيِّ المعْرُوفِ بابنِ الإفْلِيْلِيِّ (¬4): أنَّ ذلكَ لِكَونِ الحرفِ مُقْفَلاً بها لاَ يَتَّجِهُ لِقِرَاءةٍ، كَما أنَّ ¬
الضَّبَّةَ مُقْفَلٌ بها (¬1)، واللهُ أعلمُ. قُلْتُ: ولأنَّها لَمَّا كانتْ على كَلامٍ فيهِ خَلَلٌ أشْبَهَتِ الضَّبَّةَ التي تُجْعَلُ على كَسْرٍ أوْ خَلَلٍ، فَاسْتُعِيرَ (¬2) لَهَا اسْمُها، ومِثْلُ ذلكَ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ في بابِ الاسْتِعَاراتِ (¬3). ومِنْ مَوَاضِعِ التَّضْبِيبِ أنْ يَقَعَ في الإسْنادِ إرْسَالٌ أو انْقِطَاعٌ، فَمِنْ عادَتِهِمْ تَضْبِيبُ مَوْضِعِ الإرْسَالِ والانْقِطَاعِ وذلكَ مِنْ قَبِيلِ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّضْبِيبِ عَلَى الكَلاَمِ النَّاقِصِ. ويُوجَدُ في بعضِ أصُولِ الحديثِ القَدِيْمَةِ في الإسْنَادِ الذي يَجْتَمِعُ فيهِ جَمَاعَةٌ مَعْطُوفَةٌ أسْمَاؤُهُمْ بَعْضُهَا على بعضٍ عَلامةٌ تُشْبِهُ الضَّبَّةَ فيما بينَ أسْمَائِهِمْ، فَيَتَوَهَّمُ مَنْ لاَ خِبْرَةَ لهُ أنَّها ضَبَّةٌ وليسَتْ بضَبَّةٍ، وكأنَّها عَلامةُ وَصْلٍ فيما بينَها (¬4)، أُثْبِتَتْ تَأْكِيداً للعطْفِ، خَوفاً مِنْ أنْ تُجْعَلَ ((عَنْ)) مَكانَ الواوِ، والعِلْمُ عِندَ اللهِ تَعَالَى. ثُمَّ إنَّ بَعضَهُمْ رُبَّمَا اخْتَصَرَ عَلامةَ التَّصْحِيحِ فَجَاءتْ صُورَتُها تُشْبِهُ صُورَةَ التَّضْبِيبِ، والفِطْنَةُ مِنْ خَيْرِ ما أُوتِيهُ الإنسَانُ، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إذا وقَعَ في الكِتابِ ما ليسَ مِنهُ فإنَّهُ يُنْفَى عنهُ بالضَّرْبِ أو الحكِّ أو الْمَحْوِ، أوْ غيرِ ذلكَ. والضَّرْبُ خَيرٌ مِنَ الْحَكِّ والْمَحْوِ. رُوِّيْنا عَنِ القَاضِي أبي محمَّدِ بنِ خَلاَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ - قالَ: قالَ أصْحَابُنا: ((الْحَكُّ تُهْمَةٌ)) (¬5). وأخْبَرَنِي مَنْ أُخْبِرَ عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ قالَ: سَمِعْتُ شَيْخَنا أبا بَحْرٍ سُفيانَ بنَ العَاصِ (¬6) الأسدِيَّ يَحْكِي عَنْ ¬
بَعْضِ شُيُوخِهِ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ((كَانَ الشُّيُوخُ يَكْرَهُونَ حُضُورَ السِّكِّيْنِ مَجْلِسَ السَّمَاعِ، حَتَّى لاَ يُبْشَرَ (¬1) شَيءٌ؛ لأنَّ مَا يُبْشَرُ مِنهُ رُبَّمَا يَصِحُّ في روايةٍ أُخْرَى. وقَدْ يُسْمَعُ الكِتابُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى شَيْخٍ آخَرَ يَكُونُ مَا بُشرَ وَحُكَّ مِنْ رِوايةِ هَذَا صَحيحاً في روايةِ الآخَرِ فَيَحْتاجُ إلى إلْحَاقِهِ بَعدَ أنْ بُشِرَ (¬2)، وهوَ إذا خُطَّ عليهِ مِنْ روايةِ الأوَّلِ، وصَحَّ عِنْدَ الآخرِ، اكْتُفِيَ بِعَلامَةِ الآخَرِ عليهِ بِصِحَّتِهِ)) (¬3). ثُمَّ إنَّهُم اخْتَلَفُوا في كَيْفيَّةِ الضَّرْبِ، فَرُوِّيْنا عَنْ أبي مُحَمَّدِ بنِ خَلاَّدٍ قَالَ: ((أَجْودُ الضَّرْبِ أنْ لاَ يُطْمِسَ المضْرُوبَ عليهِ، بَلْ يَخُطَّ مِنْ فَوقِهِ خَطّاً جَيّداً بَيِّناً، يَدُلُّ على إبْطَالِهِ، ويُقْرَأُ مِنْ تَحْتِهِ ما خُطَّ عليهِ)) (¬4). ورُوِّيْنا عَنِ القاضِي عِيَاضٍ ما مَعْناهُ: أنَّ اخْتِياراتِ الضَّابِطِينَ اخْتَلَفَتْ في الضَّرْبِ، فأكْثَرُهُمْ على مَدِّ الخطِّ على المضروبِ عليهِ مُخْتَلِطاً بالكلماتِ المضروبِ عليها. ويُسَمَّى ذلكَ: ((الشَّقَّ)) (¬5) أيضاً (¬6). ¬
ومِنْهُمْ مَنْ لاَ يَخْلِطُهُ ويثْبِتُهُ فَوقَهُ لَكِنَّهُ يَعْطِفُ طَرَفَي الخَطِّ على أوَّلِ المضروبِ عليهِ وآخِرِهِ. ومنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْبِحُ هذا ويَرَاهُ تَسْويداً وتَطْلِيساً، بَلْ يُحَوِّقُ (¬1) على أوَّلِ الكَلاَمِ المضروبِ عليهِ بنِصْفِ دائِرَةٍ، وكذلكَ في آخِرِهِ، وإذا كَثُرَ الكَلاَمُ المضروبُ عليهِ فَقَدْ يَفْعَلُ ذلكَ في أوَّلِ كُلِّ سَطْرٍ مِنْهُ وآخِرِهِ، وقَدْ يَكْتَفِي بالتَّحْوِيقِ على أوَّلِ الكَلاَمِ وآخِرِهِ أجْمَعَ. ومِنَ الأشْيَاخِ مَنْ يَسْتَقْبِحُ الضَّرْبَ والتَّحْوِيقَ ويَكْتَفِي بدائِرَةٍ صَغِيرةٍ أوَّلَ الزِّيادةِ وآخِرَهَا ويُسَمِّيْها صِفْراً كَما يُسَمِّيْها أهْلُ الحِسَابِ. ورُبَّما كَتَبَ بعضُهُمْ عليهِ ((لا)) في أوَّلِهِ و ((إلى)) في آخِرِهِ (¬2)، ومِثلُ هذا يَحْسُنُ فيما صَحَّ في رِوَايةٍ (¬3)، وسَقَطَ في روايةٍ أُخْرَى، واللهُ أعلمُ. وأمَّا الضَّرْبُ على الحرفِ المكَرَّرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بالكَلاَمِ فيهِ القاضِي أبو مُحَمَّدِ بنِ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى تَقدُّمِهِ، فَرُوِّيْنا عَنْهُ قالَ: قالَ بَعضُ أصْحَابِنا: ((أُولاهُما بأنْ يُبْطِلَ الثَّانِي؛ لأنَّ الأوَّلَ كُتِبَ عَلَى صَوابٍ والثَّانِي كُتِبَ عَلَى الخطَأِ، والخطَأُ أوْلَى بالإبطَالِ. وقَالَ آخَرُونَ: إنَّما الكِتابُ عَلاَمةٌ لِمَا يُقْرَأُ فَأَوْلَى الحرفَيْنَ بالإبْقَاءِ أدَلُّهُما عليهِ وأجْوَدُهُما صُورَةً)) (¬4). وجَاءَ القَاضِي عِياضٌ (¬5) آخِراً فَفَصَّلَ تَفْصِلاً حَسَناً، فرَأَى أنَّ تَكَرُّرَ الحرفِ إنْ كانَ في أوَّلِ سَطْرٍ فلْيُضْرَبْ عَلَى الثَّاني صِيانَةً لأوَّلِ السَّطْرِ عَنِ التَّسْوِيْدِ والتَّشْويهِ وإنْ كانَ في آخِرِ سَطْرٍ فلْيُضْرَبْ عَلَى أوَّلِهِما صِيانَةً لآخِرِ السَّطْرِ، فإنَّ سَلامةَ أوَائِلِ السُّطُورِ وأوَاخِرِها (¬6) عَنْ ذلكَ أوْلَى. فإنِ اتَّفَقَ أحَدُهُما في آخِرِ سَطْرٍ والآخَرُ في أوَّلِ سَطْرٍ ¬
آخَرَ فلْيُضْرَبْ عَلَى الذي في آخِرِ السَّطْرِ، فإنَّ أوَّلَ السَّطْرِ أوْلَى بالمرَاعاةِ. فإنْ كَانَ التَّكَرُّرُ في المضافِ أو المضافِ إليهِ، أو في الصِّفَةِ، أو في الموصوفِ، أو نحوِ ذلكَ لَمْ نُرَاعِ (¬1) حِيْنَئذٍ أوَّلَ السَّطْرِ وآخِرَهُ، بَلْ نُراعِي (¬2) الاتِّصَالَ بَيْنَ المضَافِ والمضَافِ إليهِ ونَحْوِهِما في الخطِّ فَلاَ نَفْصِلُ بالضَّرْبِ بَيْنَهُما، ونضرِبُ عَلَى الحرفِ المتَطَرِّفِ مِنَ المتَكَرِّرِ دونَ المتوسِّطِ. وأمَّا الْمَحْوُ فيقاربُ الكشْطَ في حُكْمِهِ الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وتَتَنَوَّعُ طُرُقُهُ. ومِنْ أغْرَبِها - مَعَ أنَّهُ أسْلَمُها - ما رُوِيَ عَنْ سحْنُونَ (¬3) بنِ سَعِيدٍ التَّنُوخِيِّ الإمامِ المالِكِيِّ أنَّهُ كَانَ رُبَّما كَتَبَ الشَّيءَ ثُمَّ لَعِقَهُ (¬4). وإلى هذا يُومِئُ ما رُوِّيْنا عَنْ إبراهِيمَ النَّخَعِيِّ (¬5) - رضي الله عنه - أنَّهُ كانَ يَقُولُ: ((مِنَ الْمُرُوءةِ أنْ يُرَى في ثوبِ الرجلِ وشَفَتَيْهِ (¬6) مِدادٌ))، واللهُ أعلمُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: لِيَكُنْ فيما تَختَلِفُ فيهِ الرواياتُ قَائِماً بِضَبْطِ ما تَخْتَلِفُ فيهِ في كِتابِهِ جَيِّدَ التَّمْييزِ بَيْنها كَيْلاَ تَخْتَلِطَ وتَشْتَبِهَ فَيُفْسِدَ عليهِ أمرُها. وسَبيلُهُ أنْ يجعَلَ أوَّلاً مَتْنَ كِتَابِهِ عَلَى روايةٍ خاصَّةٍ، ثُمَّ ما كانتْ مِنْ زِيادةٍ لروايةٍ أُخْرَى ألْحَقَها، أوْ مِنْ نَقْصٍ أعْلَمَ عليهِ، أوْ مِنْ خِلافٍ كَتَبَهُ إمَّا في الحاشِيةِ وإمَّا (¬7) في غَيْرِها، مُعَيِّناً في كُلِّ ذلِكَ مَنْ رَواهُ، ذاكِراً اسْمَهُ بِتَمامِهِ، فإنْ رَمَزَ إليهِ بحرْفٍ أوْ أكْثَرَ، فَعَلَيْهِ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ مِنْ أنَّهُ يُبَيِّنُ المرادَ بذلكَ في أوَّلِ كِتَابِهِ أوْ آخِرِهِ كَيْلاَ يَطُولَ عَهْدُهُ بهِ فَيَنْسَى أوْ يَقَعَ كِتابُهُ إلى غَيْرِهِ فَيَقَعَ مِنْ رُمُوزِهِ في حَيْرَةٍ وَعَمى. وقَدْ يُدْفَعُ إلى الاقْتِصَارِ عَلَى الرُّمُوزِ عندَ كَثْرَةِ الرِّوَاياتِ المخْتَلِفَةِ، ¬
واكْتَفَى بعضُهُمْ في التَّمْيِيزِ بأنْ خَصَّ الرِّوَايةَ الملحَقَةَ (¬1) بالْحُمْرَةِ، فَعَلَ ذلكَ أبو ذَرٍّ (¬2) الْهَرَوِيُّ مِنَ المشَارِقَةِ، وأبو الحسَنِ القَابِسِيُّ (¬3) مِنَ المغَارِبَةِ، مَعَ كثيرٍ (¬4) مِن المشايخِ وأهلِ التقييدِ، فإذا كانَ في الروايةِ الملحقةِ زيادةٌ عَلَى التي في متنِ الكتابِ كَتَبها بالْحُمْرَةِ، وإنْ كانَ فيها نَقْصٌ والزِّيادَةُ في الروايةِ التي في متنِ الكِتابِ حوَّقَ عليها بالْحُمْرَةِ، ثُمَّ عَلَى فاعِلِ ذلكَ تَبْيينُ مَنْ لهُ الروايةُ الْمُعَلَّمَةُ بالْحُمْرَةِ في أوَّلِ الكِتابِ أوْ آخِرِهِ عَلَى ما سَبَقَ، واللهُ أعلمُ. الخامِسَ عَشَرَ: غَلَبَ عَلَى كَتَبَةِ الحديثِ الاقْتِصَارُ عَلَى الرَّمْزِ في قَوْلِهِمْ: ((حَدَّثَنا)) و ((أخْبَرَنا)) غيرَ أنَّهُ شَاعَ ذَلِكَ وظَهَرَ حَتَّى لاَ يَكادُ يَلْتَبِسُ. أمَّا ((حَدَّثَنا)) فَيُكْتَبُ منها شَطْرُها الأخيرُ، وهوَ الثَّاءُ والنونُ والأَلِفُ. ورُبَّما اقْتُصِرَ عَلَى الضَّميرِ مِنها وهوَ النُّونُ والألفُ (¬5). وأمَّا ((أخْبَرَنا)) فَيُكْتَبُ منها الضَّميرُ المذكُورُ مَعَ الألِفِ أوَّلاً. وليسَ بحسَنٍ ما يَفْعَلُهُ (¬6) طائِفَةٌ مِنْ كِتابَةِ ((أخْبَرَنا)) بألِفٍ مَعَ عَلامةِ ((حَدَّثَنا)) المذكورةِ أوَّلاً، وإنْ كانَ الحافِظُ البَيْهَقِيُّ مِمَّنْ فَعَلَهُ. وَقَدْ يُكْتَبُ في عَلامةِ ((أخْبَرَنا)): رَاءٌ بعدَ الألِفِ، وفي علامةِ ((حَدَّثَنا)): دَالٌ في أوَّلِها، ومِمَّنْ رأيْتُ في خَطِّهِ الدالَ في عَلامةِ ((حَدَّثَنا)) ¬
الحافِظُ أبو عبدِ اللهِ الحاكِمُ، وأبو عبدِ الرحمانِ السُّلَمِيُّ (¬1)، والحافِظُ أحمدُ البَيْهَقِيُّ - رضي الله عنهم -، واللهُ أعلمُ. وإذا كانَ لِلْحَديثِ إسْنَادانِ أوْ أكْثَرُ، فإنَّهُمْ يَكْتُبونَ عندَ الانْتِقَالِ مِنْ إسْنَادٍ إلى إسْنادٍ، ما صُورَتُهُ (¬2) ((ح)) وهي حاءٌ مفردةٌ مهملةٌ، ولَمْ يأتْنا عَنْ أحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ بيانٌ لأمْرِها، غيرَ أنِّي (¬3) وَجَدْتُ بِخَطِّ الأسْتَاذِ الحافِظِ أبي عُثْمانَ الصَّابُونِيِّ، والحافِظِ أبي مُسْلِمٍ عُمَرَ بنِ عَلِيٍّ اللَّيْثِيِّ البُخَارِيِّ، والفَقِيْهِ المحدِّثِ أبي سعَدٍ (¬4) الخلِيليِّ - رَحِمَهُمُ اللهُ - في مكانِهَا بدلاً عنها ((صَحَّ)) صَرِيحةً، وهذا يُشْعِرُ بكوْنِها رَمْزاً إلى ((صَحَّ)). وحَسُنَ إثْبَاتُ ((صَحَّ)) هاهنا؛ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّ حديثَ هذا الإسْنادِ سَقَطَ، ولِئَلاَّ يُرَكَّبَ الإسْنادُ الثاني عَلَى الإسْنادِ الأوَّلِ فَيُجْعَلا إسْناداً واحِداً. وحَكَى لي بعضُ مَنْ جَمَعَتْنِي وإيَّاهُ الرِّحْلَةُ بِخُراسَانِ عَمَّنْ وَصَفَهُ بالفَضْلِ مِنَ الأصْبَهَانِيِّيْنَ أنَّها حَاءٌ مُهملَةٌ مِنَ التَّحويلِ، أي: مِنْ إسْنادٍ إلى إسْنادٍ آخَرَ. وذَاكَرْتُ فيها بعضَ أهلِ العِلْمِ مِنْ أهلِ المغربِ (¬5)، وحَكَيْتُ لهُ عَنْ بعضِ مَنْ لَقِيْتُ مِنْ أهلِ الحديثِ أنَّها حاءٌ مهملةٌ، إشَارةً إلى قَوْلِنا ((الحديثَ))، فقالَ لي: أهلُ المغربِ (¬6) وما عرَفْتُ بَيْنَهُم اخْتِلاَفاً يَجْعلونَها حاءً مهملةً، ويقولُ أحدُهُمْ إذا وصَلَ إليها ((الحديثَ)). وذَكَرَ لي أنَّهُ سَمِعَ بعضَ البَغْدَادِيِّيْنَ يَذْكُرُ أيضاً أنَّها حاءٌ مهملةٌ، وأنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إذا انتَهَى إليها في القراءةِ: ((حا)) ويَمُرُّ. ¬
وسَالْتُ أنَا الحافِظَ الرَّحَّالَ أبا مُحَمَّدٍ عَبدَ القادِرِ بنَ عبدِ اللهِ الرُّهَاوِيَّ (¬1) - رَحِمَهُ اللهُ - عنها، فَذَكَرَ أنَّهَا حاءٌ مِنْ حَائِلٍ، أي: تَحُولُ بَيْنَ الإسْنادَيْنِ. قالَ: ولا يَلفِظُ بِشَيءٍ عندَ الانتِهَاءِ إليْها في القِرَاءةِ، وأنْكَرَ كَوْنَها مِنَ ((الحديثِ)) وغيرِ ذلكَ، ولَمْ يَعْرِفْ غَيرَ هذا عَنْ أحَدٍ مِنْ مَشَايِخِهِ، وفِيْهِم عَدَدٌ كانُوا حُفَّاظَ الحدِيثِ في وَقْتِهِ. قالَ المؤَلِّفُ: وأخْتَارُ أنَّا (¬2) - واللهُ الموفِّقُ - أنْ يَقُولَ القارِئُ عندَ الانْتِهَاءَ إليها: ((حا)) ويَمُرُّ، فإنَّهُ أحْوَطُ الوُجُوهِ وأعْدُلُهَا، والعِلْمُ عندَ اللهِ تَعَالَى. السَّادِسَ عَشَرَ: ذَكَرَ الخطيبُ الحافِظُ أنَّهُ يَنْبَغِي للطَّالِبِ أنْ يَكْتُبَ بَعْدَ (¬3) البَسْمَلةِ اسْمَ الشَّيْخِ الذي سَمِعَ الكِتَابَ منهُ وكُنْيَتَهُ ونَسَبَهُ، ثُمَّ يَسُوقَ مَا سَمِعَهُ منهُ عَلَى لفظِهِ. قالَ: وإذا كَتَبَ الكِتابَ المسْمُوعَ فيَنْبَغِي أنْ يَكتُبَ فوقَ سَطْرِ التَّسْمِيةِ أسماءَ مَنْ سَمِعَ معهُ وتاريخَ وَقْتِ السَّمَاعِ وإنْ أحَبَّ كَتْبَ ذَلِكَ في حاشِيةِ أوَّلِ وَرَقَةٍ مِنَ الكِتابِ، فَكُلاًّ قَدْ فَعَلَهُ شُيُوخُنا (¬4)، واللهُ أعلمُ (¬5). قُلْتُ: كِتْبَةُ التَّسْمِيعِ حيثُ (¬6) ذَكَرَهُ أحْوطُ لهُ وأحْرَى بأنْ لاَ يَخْفَى عَلَى مَنْ يَحتاجُ إليهِ، ولاَ بأسَ بكتبتِهِ آخِرَ الكِتابِ وفي ظَهْرِهِ، وحيثُ لاَ يَخْفى موضِعُهُ. ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ التَّسْمِيعُ بخَطِّ شَخْصٍ موثُوقٍ بهِ غيرِ مَجْهولِ الخطِّ، ولاَ ضَيْرَ حِيْنَئذٍ في أنْ لاَ يَكْتُبَ الشَّيْخُ الْمُسْمِعُ خَطَّهُ بالتصحيحِ. وهَكَذا لاَ بأسَ عَلَى صاحِبِ الكِتابِ إذا كانَ مَوثُوقاً بهِ، أنْ يَقْتَصِرَ عَلَى إثْباتِ سَماعِهِ بخَطِّ نفسِهِ، فَطَالَمَا فَعَلَ الثِّقَاتُ ذلكَ. ¬
وَقَدْ حَدَّثَنِي بِمَرْوَ الشَّيْخُ أبو الْمُظَفَّرِ بنُ الحافِظِ أبي سَعْدٍ (¬1) الْمَرْوَزِيُّ (¬2) عَنْ أبيهِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنَ الأصبَهانِيَّةِ أنَّ عبدَ الرَّحْمَانِ بنَ أبي عبدِ اللهِ بنِ مَنْدَه قرَأَ ببغْدَادَ جُزْءاً عَلَى أبي أحمدَ الفَرَضِيِّ (¬3) وسَأَلَهُ خَطَّهُ لِيَكُونَ حُجَّةً لهُ. فقالَ لهُ أبو أحمدَ: ((يا بُنَيَّ! عليكَ بالصِّدْقِ، فإنَّكَ إذا عُرِفْتَ بهِ لاَ يُكَذِّبُكَ أحَدٌ، وتُصَدَّقُ فيما تَقُولُ وتَنْقُلُ، وإذا كَانَ غيرَ ذلكَ فلوْ قِيْلَ لَكَ: ما هذا خَطُّ أبي أحمدَ الفَرَضِيِّ، ماذَا تَقُولُ لَهُمْ؟)). ثُمَّ إنَّ عَلَى كاتِبِ التَّسْمِعِ التَّحَرِّيَ والاحْتِياطَ، وبيانَ السَّامِعِ والمسْمُوعِ منهُ بلفْظٍ غيرِ مُحْتَملٍ (¬4) ومُجَانَبَةَ التَّسَاهُلِ فيمَنْ يُثْبِتُ اسْمَهُ، والحذَرَ مِنْ إسْقاطِ اسْمِ واحِدٍ (¬5) منهُم لغَرَضٍ فاسِدٍ. فإنْ كَانَ مُثْبِتُ السَّماعِ غيرَ حاضِرٍ في جميعِهِ، لكنْ أثْبَتَهُ مُعْتَمِداً عَلَى إخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بخبَرِهِ مِنْ حاضِرِيهِ، فلاَ بأسَ بذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. ثُمَّ إنَّ مَنْ ثَبَتَ سَماعُهُ في كِتابِهِ فَقَبيحٌ بهِ كِتْمانُهُ إيَّاهُ ومَنْعُهُ مِنْ نَقْلِ سَماعِهِ ومِنْ نَسْخِ الكِتابِ. وإذا أعارَهُ إيَّاهُ فلاَ يُبْطِئُ بهِ. رُوِّينا عَنِ الزُّهْرِيِّ أنَّهُ قالَ: ((إيَّاكَ وغُلُولَ الكُتُبِ)). قيلَ لهُ: ((وما غُلُولُ الكُتُبِ؟))، قالَ: ((حَسْبُهَا عَلَى (¬6) أصْحَابِهَا)) (¬7). ¬
وَرُوِّيْنا عَنِ الفُضَيْلِ بنِ عِيَاضٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((ليسَ مِنْ فَعَالِ (¬1) أهْلِ الورَعِ ولاَ مِنْ فَعَالِ الْحُكَماءِ، أنْ يأخُذَ سَمَاعَ رَجُلٍ فَيَحْبِسَهُ عنهُ، ومَنْ فَعَلَ ذلكَ فقدْ ظَلمَ نفسَهُ)) (¬2). وفي روايةٍ: ((ولاَ مِنْ فَعَالِ (¬3) العُلماءِ أنْ يأخُذَ سَماعَ رَجُلٍ وكتابَهُ فيَحْبِسَهُ عليهِ)) (¬4). فإنْ مَنعَهُ إيَّاهُ فَقَدْ (¬5) رُوِّيْنا أنَّ رَجُلاً ادَّعَى عَلَى رجُلٍ بالكُوفَةِ سَمَاعاً منعَهُ إيَّاهُ فَتَحَاكَما إلى قاضِيها حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ، فقالَ لصَاحِبِ الكِتابِ: ((أخرِجْ إلينا كُتُبَكَ، فما كَانَ مِنْ سَماعِ هذا الرَّجُلِ بِخَطِّ يَدِكَ ألزَمناكَ، وما كانَ بِخَطِّهِ أعْفيناكَ منهُ)) (¬6). قالَ ابنُ خَلاَّدٍ: ((سَأَلْتُ أبا عبدِ اللهِ الزُّبَيْرِيَّ عَنْ هذا، فقالَ لاَ يجيءُ في هذا البابِ حُكْمٌ أحْسنُ مِنْ هذا؛ لأنَّ خَطَّ صاحِبِ الكِتابِ دالٌّ عَلَى رِضَاهُ باسْتِماعِ صاحِبِهِ معهُ)) (¬7)، قالَ ابنُ خَلاَّدٍ: وقالَ غيرُهُ: ((ليسَ بشَيءٍ)) (¬8). ورَوَى الخطيبُ الحافِظِ أبو بَكْرٍ عَنْ إسْماعيلَ بنِ إسْحاقَ القَاضِي (¬9) أنَّهُ تُحُوكم إليهِ في ذلكَ فأطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ قالَ للْمُدَّعَى عليهِ: ((إنْ كانَ سَمَاعُهُ في كِتابِكَ بخَطِّكَ فَيَلْزَمُكَ أنْ تُعيرَهُ، وإنْ كانَ سَماعُهُ في كِتابِكَ بِخَطِّ غيرِكَ فأنتَ أعلمُ)). قُلْتُ: حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ مَعْدُودٌ في الطَّبَقَةِ الأُوْلَى مِنْ أصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ، وأبو عبدِ اللهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أئِمَّةِ أصْحابِ الشَّافِعِيِّ، وإسْماعِيلُ بنُ إسْحاقَ لِسَانُ أصْحَابِ مَالِكٍ ¬
وإمَامُهُمْ، وقَدْ تَعَاضَدَتْ (¬1) أقَوَالُهُمْ في ذَلِكَ، ويَرْجِعُ حاصِلُها إلى أنَّ سَماعَ غيرِهِ إذا ثَبَتَ في كِتَابِهِ برِضَاهُ فيلزَمُهُ إعَارَتُهُ إيَّاهُ. وقَدْ كانَ لاَ يَبِيْنُ (¬2) لي وَجْهُهُ (¬3)، ثُمَّ وَجَّهْتُهُ بأنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ شَهادةٍ لهُ عِندَهُ، فعليهِ أدَاؤُها بما حَوَتْهُ (¬4) وإنْ كانَ فيهِ بَذْلُ مالِهِ، كَما يَلْزمُ مُتَحَمِّلَ الشَّهَادةِ أدَاؤُها، وإنْ كانَ فيهِ بَذْلُ نَفْسِهِ بالسَّعْيِ إلى مَجلِسِ الْحُكْمِ لأدائِهَا، والعِلْمُ عِندَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى (¬5). ثُمَّ إذا نَسَخَ الكِتابَ فلاَ يَنْقُلْ سَمَاعَهُ إلى نُسْخَتِهِ إلاَّ بعدَ المقابَلةِ (¬6) المرضيَّةِ. وهكذا لاَ يَنْبَغِي لأحَدٍ أنْ يَنْقُلَ سَماعاً إلى شيءٍ مِنَ النُّسَخِ أو يُثْبِتَهُ فيها عِندَ السَّمَاعِ ابْتَداءً إلاَّ بعدَ المقابَلَةِ المرْضِيَّةِ بالمسْمُوعِ كَيْلاَ يَغتَرَّ أحَدٌ بتِلْكَ النُّسْخَةِ غيرِ المقَابَلَةِ إلاَّ أنْ يُبَيِّنَ مَعَ النَّقْلِ وعِنْدَهُ كَونَ النُّسْخَةِ غيرَ مقابَلَةٍ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع السادس والعشرون في صفة رواية الحديث وشرط أدائه، وما يتعلق بذلك
النَّوعُ السَّادِسُ والعِشْرُونَ في صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيْثِ وشَرْطِ أدَائِهِ، ومَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ (¬1) وَقدْ سَبَقَ بَيَانُ كثيرٍ مِنْهُ في ضِمْنِ النَّوْعَيْنِ قَبْلَهُ. شَدَّدَ قَومٌ في الرِّوايةِ فأفْرَطُوا، وتَسَاهَلَ فيها آخَرُونَ فَفَرَّطُوا، ومِنْ مَذَاهِبِ التَّشْدِيدِ مَذهبُ مَنْ قَالَ: ((لاَ حُجَّةَ إلاَّ فيما رَواهُ الراوي مِنْ حِفْظِهِ وتَذَكُّرِهِ))، وذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ مالِكٍ (¬2)، وأبي حنيفَةَ (¬3) - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -. وذَهَبَ إليهِ مِنْ أصحابِ الشَّافِعِيِّ أبو بَكْرٍ الصَّيْدَلاَنِيُّ (¬4) الْمَرْوَزِيُّ. ومِنها: مَذْهَبُ مَنْ أجازَ الاعتِمَادَ في الروايةِ عَلَى كِتابِهِ، غيرَ أنَّهُ لو أعارَ كِتابَهُ وأخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَرَ الروايَةَ منهُ لغَيْبَتِهِ عنهُ. وقَدْ سَبَقَتْ حِكَايَتُنا لِمَذَاهِبَ عَنْ أهْلِ التَّسَاهُلِ، وإبْطَالُها في ضِمْنِ ما تَقَدَّمَ مِنْ شَرْحِ وُجُوهِ الأخْذِ والتَّحَمُّلِ. ومِنْ أهْلِ التَّسَاهُلِ قَوْمٌ سَمِعُوا كُتُباً مُصَنَّفَةً وتَهَاوَنُوا، حَتَّى إذا طَعَنُوا في السِّنِّ واحْتِيْجَ إليهِمْ، حَمَلَهُمُ الجهْلُ والشَّرَهُ عَلَى أنْ رَوَوْهَا مِنْ نُسَخٍ مُشْتَراةٍ أوْ مُسْتَعارةٍ غيرِ (¬5) مُقَابَلَةٍ، فَعَدَّهُمُ الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ في طَبَقَاتِ الْمَجْرُوحينَ. قَالَ: ((وهُمْ ¬
يَتَوَهَّمُونَ أنَّهُمْ في روَايَتِها صَادِقُونَ)). قالَ (¬1): ((وهذا مِمَّا كَثُرَ في الناسِ وتَعَاطَاهُ قَومٌ مِنْ أكابِرِ العُلَماءِ والمعْرُوفينَ بالصَّلاَحِ)) (¬2). قُلْتُ: ومِنَ المتَسَاهِلينَ عبدُ اللهِ بنُ لَهِيْعَةَ (¬3) المصريُّ، تُرِكَ الاحْتِجَاجُ بروايَتِهِ مَعَ جَلاَلَتِهِ؛ لِتَسَاهُلِهِ (¬4). ذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بنِ حَسَّانَ (¬5) أنَّهُ رَأَى قَوْماً مَعَهُمْ جُزْءٌ سَمِعُوهُ مِنِ ابنِ لَهِيْعَةَ، فَنَظَرَ فيهِ فإذا ليسَ فيهِ حديثٌ واحِدٌ مِنْ حديثِ ابنِ لَهِيْعَةَ، فجاءَ إلى ابنِ لَهِيْعَةَ فأخْبَرَهُ بذلكَ، فَقَالَ: ((ما أصْنَعُ، يَجِيئونِي بِكتابٍ فَيَقُولونَ هذا مِنْ حدِيْثِكَ؛ فَأُحَدِّثُهُمْ بهِ)) (¬6). ومِثْلُ هذا واقِعٌ مِنْ شُيُوخِ زَمَانِنا (¬7)، يَجِيءُ إلى أحَدِهِمْ الطَّالِبُ بِجُزْءٍ أوْ كِتابٍ فَيَقُولُ: هذا رُوايَتُكَ (¬8)، فَيُمَكِّنُهُ مِنْ قِرَاءتِهِ عليهِ مُقَلِّداً لهُ مِنْ غيرِ أنْ يَبْحَثَ بحيثُ يَحْصُلُ (¬9) لهُ الثِّقَةُ بِصِحَّةِ ذلكَ. ¬
تفريعات
والصَّوابُ ما عليهِ الجمهُورُ، وهوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الإفْرَاطِ والتَّفْرِيطِ، فإذا قامَ (¬1) الراوي في الأخْذِ والتَّحَمُّلِ بالشرطِ الذي تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وقابَلَ كِتابَهُ وضَبَطَ سَماعَهُ عَلَى الوجهِ الذي سَبَقَ ذِكْرُهُ جازَتْ لهُ الروايةُ منهُ. وإنْ أعارَهُ وغابَ عنهُ إذا كان الغالبُ مِنْ أمرِهِ سَلامَتَهُ مِنَ التَّغْييرِ والتَّبْدِيْلِ (¬2)، لاَ سِيَّما إذا كانَ مِمَّنْ لاَ يَخْفَى عليهِ في الغالبِ - لَوْ غُيِّرَ شيءٌ مِنْهُ وبُدِّلَ - تَغييرُهُ وتَبْديلُهُ؛ وذَلِكَ لأنَّ الاعتِمَادَ في بابِ الروايةِ عَلَى غالبِ الظَّنِّ، فإذا حَصَلَ أجْزَأَ، ولَمْ يُشْتَرَطْ مَزِيْدٌ عليهِ، واللهُ أعلمُ. تَفْرِيْعَاتٌ أحدُهَا: إذا كانَ الراوي ضَرِيراً ولَمْ يَحْفَظْ حَدِيْثَهُ مِنْ فَمِ مَنْ حَدَّثَهُ، واسْتَعَانَ بالمأْمُونينَ في ضَبْطِ سَمَاعِهِ وحِفْظِ كِتَابِهِ، ثُمَّ عِندَ روايتِهِ في القراءةِ منهُ عليهِ، واحْتَاطَ في ذلكَ عَلَى حَسَبِ حالِهِ بحيثُ يحصُلُ معهُ الظَّنُّ بالسلامةِ مِنَ التَّغييرِ صَحَّتْ روايتُهُ، غيرَ أنَّهُ أَوْلَى بالخِلاَفِ والمنْعِ مِنْ مِثْلِ ذلكَ مِنَ البَصِيْرِ (¬3). قال الخطيبُ الحافِظُ: ((والسَّماعُ مِنَ البَصِيرِ الأُمِّيِّ والضَّريرِ اللذينِ لَمْ يَحْفَظا مِنَ المحدِّثِ ما سَمِعَاهُ منهُ لَكِنَّهُ كُتِبَ لَهُما بِمَثَابَةٍ واحدَةٍ، قَدْ (¬4) مَنَعَ منهُ غيرُ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ ورَخَّصَ فيهِ بعضُهُمْ)) (¬5)، واللهُ أعلمُ. ¬
الثانِي: إذا سَمِعَ كِتاباً ثُمَّ أرادَ روايَتَهُ مِنْ نُسْخَةٍ ليسَ فيها سَمَاعُهُ (¬1)، ولاَ هيَ مُقابلةٌ بِنُسْخةِ سَماعِهِ، غيرَ أنَّهُ سُمِعَ منها عَلَى شَيْخِهِ، لَمْ يَجُزْ لهُ ذلكَ. قَطَعَ بهِ الإمامُ أبو نَصْرِ (¬2) بنُ الصَّبَّاغِ الفقيهُ (¬3) فيما بَلَغَنا عنهُ. وكذلكَ لوْ كانَ فيها سَماعُ شَيْخِهِ أوْ رَوَى منها ثِقَةٌ عَنْ شَيْخِهِ، فَلاَ تَجُوزُ (¬4) لهُ الروايةُ منها اعْتِماداً عَلَى مجرَّدِ ذلكَ، إذا لاَ يُؤْمَنُ أنْ تَكُونَ (¬5) فيها زَوَائِدُ ليسَتْ في نسخَةِ سَماعهِ. ثُمَّ وَجَدْتُ الخطيبَ (¬6) قَدْ حَكَى مِصْدَاقَ (¬7) ذلكَ عَنْ أكْثَرِ أهْلِ الحديثِ، فَذَكَرَ فيما إذا وجَدَ أصْلَ المحدِّثِ ولَمْ يُكْتَبْ فيهِ سَماعُهُ، أوْ وجَدَ نُسْخَةً كُتِبَتْ عَنِ الشَّيْخِ تَسْكُنُ نَفسُهُ إلى صِحَّتِها أنَّ عَامَّةَ أصحابِ الحديثِ مَنَعُوا مِنْ روايتِهِ مِنْ ذَلِكَ. وجاءَ عَنْ أيُّوبَ (¬8) السِّخْتيانِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ بكرٍ البُرْسَانِيِّ (¬9) التَّرَخُّصُ فيهِ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ تَكُونَ (¬10) لهُ إجازةٌ مِنْ شَيْخِهِ عامَّةٌ لِمَرْوِيَّاتِهِ أوْ نحوُ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ لهُ حِيْنَئذٍ الروايةُ منها؛ إذْ ليسَ فيهِ أكْثَرُ مِنْ روايةِ تِلْكَ الزِّيَاداتِ بالإجازةِ بلَفْظِ: أَخْبَرَنَا أو حَدَّثَنا مِنْ غيرِ بَيانٍ للإجازةِ فِيْهَا، والأمْرُ في ذلكَ قريبٌ يَقَعُ مِثْلُهُ في مَحَلِّ التَّسَامُحِ. وقدْ حَكَيْنا فِيْمَا تَقَدَّمَ أنَّهُ لاَ غِنَى (¬11) في كُلِّ سَمَاعٍ عَنِ الإجازَةِ؛ لِيَقَعَ ما ¬
يَسْقُطُ في السَّماعِ عَلَى وجهِ السَّهْوِ وغيرِهِ مِنْ كَلِماتٍ أوْ أكْثَرَ، مَرْوِيّاً بالإجازةِ وإنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُها. فإنْ كانَ الذي في النُّسْخَةِ سَمَاعُ شَيْخِ شَيْخِهِ، أو هِيَ مَسْمُوعَةٌ عَلَى شَيْخِ شَيْخِهِ، أوْ مَرْوِيَّةٌ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ فَيَنْبَغِي لهُ حِيْنَئذٍ في روايتِهِ منها أنْ تَكُونَ (¬1) لهُ إجازةٌ شامِلَةٌ مِنْ شَيْخِهِ، ولِشَيْخِهِ إجازَةٌ شَامِلةٌ مِنْ شَيْخِهِ، وهذا تَيْسِيْرٌ (¬2) حَسَنٌ هَدَانا اللهُ لهُ -ولهُ الحمدُ- والحاجَةُ إليهِ مَاسَّةٌ في زَمَانِنا جِدّاً، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: إذا وجَدَ الحافظُ في كتابهِ خلافَ ما يَحْفَظُهُ (¬3) نَظَرَ: فإنْ كانَ إنَّما حَفِظَ ذَلِكَ مِنْ كِتابِهِ فلْيَرْجِعْ إلى ما في كِتابِهِ، وإنْ كانَ حَفِظَهُ مِنْ فَمِ المحدِّثِ فَلْيَعْتَمِدْ حِفْظَهُ دُونَ ما في كِتابهِ إذا لَمْ يَتَشَكَّكْ، وحَسَنٌ أنْ يَذْكُرَ الأمرينِ في روايتِهِ، فَيَقُولَ: حِفْظِي كذا، وفي كِتابِي كذا، هَكَذا فَعَلَ شُعْبَةُ (¬4) وغيرُهُ، وهَكَذا إذا خالَفَهُ فيما يَحفظُهُ بعضُ الحفَّاظِ، فَلْيَقُلْ: حِفْظِي كذا وكذا، وقالَ فيهِ فُلاَنٌ أو قالَ فيهِ غيري كذا وكذا، أوْ شِبْهَ هذا مِنَ الكَلامِ. كذَلِكَ فَعَلَ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ وغيرُهُ (¬5)، واللهُ أعلمُ. الرَّابِعُ: إذا وَجَدَ سَماعَهُ في كِتابِهِ وهوَ غيرُ ذاكرٍ (¬6) لسماعِهِ ذلكَ، فَعَنْ أبي حَنِيْفَةَ وبَعضِ أصحابِ الشَّافِعِيِّ (¬7): أنَّهُ لاَ يَجُوزُ (¬8) لهُ روايتُهُ. ومَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأكْثَرِ أصْحابِهِ، وأبي يُوسُفَ، ومُحَمَّدٍ أنَّهُ يَجُوزُ لهُ روايتُهُ (¬9). ¬
قُلْتُ: هذا الخِلاَفُ يَنْبَغِي أنْ يُبْنَى عَلَى الخِلاَفِ السَّابِقِ قَرِيباً في جَوازِ اعْتِمادِ الراوي عَلَى كتابِهِ في ضَبْطِ ما سَمِعَهُ، فإنَّ ضَبْطَ أصْلِ السَّماعِ كَضَبْطِ المسمُوعِ، فَكَما كانَ الصحيحُ وما عليهِ أكثَرُ أهلِ الحديثِ: تَجْوِيْزَ الاعْتِمادِ عَلَى الكتابِ الْمَصُونِ في ضَبْطِ المسمُوعِ حَتَّى يَجوزَ لهُ أنْ يَرويَ ما فيهِ، وإنْ كانَ لا يَذْكُرُ أحاديثَهُ حَدِيثاً حَدِيثاً. كَذَلِكَ لِيَكُنْ هذا إذا وُجِدَ شَرْطُهُ، وهوَ: أنْ يَكونَ السَّماعُ بخَطِّهِ أوْ بِخَطِّ مِنْ يَثِقُ بهِ (¬1) والكِتابُ مَصُونٌ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلامةُ ذَلِكَ مِنْ تَطَرُّقِ التَّزْوِيرِ والتَّغْييرِ إليهِ عَلَى نحوِ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ في ذَلِكَ. وهذا إذا لَمْ يَتَشَكَّكَ فيهِ وسَكَنَتْ نفسُهُ إلى صِحَّتِهِ، فإنْ تَشَكَّكَ فيهِ لَمْ يَجُزِ الاعْتِمادُ عليهِ (¬2)، واللهُ أعلمُ. الخامِسُ: إذا أرادَ رِوايَةَ ما سَمِعَهُ عَلَى معناهُ دونَ لَفْظِهِ (¬3)، فإنْ لَمْ يَكُنْ عالِماً عارفاً بالألْفَاظِ ومَقَاصِدِها، خَبيراً بِما يُحِيْلُ مَعَانِيها، بَصِيْراً بِمَقَاديرِ التَّفَاوِتِ بَيْنَهَا، فلاَ خِلاَفَ (¬4) أنَّهُ لاَ يَجُوزُ لهُ ذَلِكَ، وعليهِ أنْ لاَ يَرْوِيَ ما سَمِعَهُ إلاَّ عَلَى اللفظِ الذي سَمِعَهُ مِنْ غيرِ تَغْييرٍ. فأمَّا إذا كَانَ عَالِماً عَارِفاً بذَلِكَ فَهَذا مِمَّا اخْتَلَفَ فيهِ السَّلَفُ وأصْحابُ الحديثِ وأرْبَابُ الفِقْهِ والأصُولِ، فَجَوَّزَهُ أكْثَرُهُمْ، ولَمْ يُجَوِّزْهُ (¬5) بعضُ المحدِّثِينَ، وطَائِفَةٌ مِنَ الفُقَهَاءِ والأصُولِيِّيْنَ مِنَ الشَّافِعِيَّينَ وغَيْرِهِمْ. ومَنَعَهُ بَعضُهُمْ في حديثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأجَازَهُ في غيرِهِ. ¬
والأصَحُّ جَوَازُ ذلكَ في الجميعِ إذا كانَ عالِماً بِمَا وَصَفْناهُ، قَاطِعاً بأنَّهُ أدَّى مَعْنَى اللَّفْظِ الذي بَلَغَهُ؛ لأنَّ ذلكَ هُوَ الذي تَشْهَدُ (¬1) بهِ أحْوَالُ الصَّحَابَةِ والسَّلَفِ الأوَّلِينَ وكَثيراً مَا كَانُوا يَنْقُلُونَ مَعْنًى واحِداً في أمْرٍ واحِدٍ بألْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ (¬2)، وما ذلكَ إلاَّ لأَنَّ مُعَوَّلَهُمْ كَانَ عَلَى المعنى دُونَ اللَّفْظِ. ثُمَّ إنَّ هذا الاخْتِلاَفَ لاَ نَرَاهُ جارِياً (¬3)، ولاَ أجْرَاهُ النَّاسُ - فيما نَعْلَمُ - فِيْما تَضَمَّنَتُهُ بُطُونُ الكُتُبِ، فليسَ لأحدٍ أنْ يُغَيِّرَ لفظَ شيءٍ مِنْ كِتَابِ مُصَنِّفٍ ويُثْبِتَ بَدَلَهُ فيهِ لَفْظاً آخَرَ بِمَعْناهُ، فإنَّ الروايةَ بالْمَعْنَى رَخَّصَ فيها مَنْ رَخَّصَ لِمَا كانَ عليْهِمْ في ضَبْطِ الألْفَاظِ والجمُودِ عليها مِنَ الْحَرَجِ والنَّصَبِ، وذَلِكَ غيرُ مَوْجُودٍ فيما اشْتَمَلَتْ عليهِ بُطُونُ الأوْرَاقِ والكُتُبِ؛ ولأنَّهُ إنْ مَلَكَ تَغْييرَ اللَّفْظِ فليسَ يَمْلكَ تغْييرِ تَصْنِيفِ غيرِهِ، واللهُ أعلمُ. السَّادِسُ: يَنْبَغِي لِمَنْ رَوَى (¬4) حَدِيْثاً بالمعْنَى أنْ يُتْبِعَهُ بأنْ يَقُولَ: أوْ كَما قالَ، أوْ نَحْوِ هذا، وما أشْبَهَ ذلكَ مِنَ الألْفَاظِ. رُوِيَ ذَلِكَ مِنَ (¬5) الصَّحابةِ عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ، وأبي الدَّرْداءِ وأنَسٍ - رضي الله عنهم - (¬6). قالَ الخطيبُ: ((والصحابَةُ أربابُ اللِّسَانِ وأَعْلَمُ الخلْقِ بِمَعَانِي الكَلامِ، ولَمْ يَكُونُوا يَقُولونَ ذَلِكَ إلاَّ تَخَوُّفاً مِنَ الزَّلَلِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بما في الروايةِ عَلَى المعنى مِنَ الخطَرِ)) (¬7). قُلْتُ: وإذا اشْتَبَهَ عَلَى القارئِ فيما يَقْرَؤهُ لَفْظَةٌ فَقَرَأَها عَلَى وجهٍ يَشُكُّ فيهِ، ثُمَّ قالَ: أوْ كما قالَ؛ فهذا حَسَنٌ، وهوَ الصَّوابُ في مِثْلِهِ؛ لأنَّ قولَهُ: ((أوْ كما قالَ))، يَتَضَمَّنُ إجازَةً مِنَ الراوي وإذْناً في روايةِ صَوابِهَا عنهُ إذا بانَ. ثُمَّ لاَ يُشْتَرَطُ إفْرَادُ ذَلِكَ بلَفظِ الإجازةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ قريباً، واللهُ أعلمُ. ¬
السَّابِعُ: هَلْ يَجُوزُ اخْتِصَارُ الحديثِ الواحدِ (¬1) وروايةُ بعضِهِ دُونَ بعضٍ؟ اخْتَلَفَ أهلُ العِلْمِ فيهِ: - فَمِنْهُمْ: مَنْ مَنَعَ مِنْ (¬2) ذَلِكَ مُطْلَقاً بِنَاءً عَلَى القَوْلِ بالمنْعِ مِنَ النَّقْلِ بالمعنى مُطْلَقاً، ومِنْهُم مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِهِ النَّقْلَ بالمعنى إذا لَمْ يكُنْ قدْ رواهُ عَلَى التَّمامِ مَرَّةً أُخْرَى ولَمْ يَعْلَمْ أنَّ غيرَهُ قدْ رواهُ عَلَى التَّمامِ. - وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ وأطْلَقَ ولَمْ يُفَصِّلْ. وقَدْ رُوِّيْنا عَنْ مُجَاهِدٍ أنَّهُ قالَ: انْقُصْ مِنَ الحديثِ ما شِئْتَ ولاَ تَزِدْ فيهِ (¬3). والصحيحُ التَّفْصِيلُ، وأنَّهُ يجوزُ ذَلِكَ مِنَ العَالِمِ العَارِفِ، إذا كانَ ما تركَهُ مُتَميِّزاً عَمَّا نَقَلَهُ، غيرَ مُتَعَلِّقٍ بهِ بحيثُ لاَ يَخْتَلُّ البَيَانُ ولاَ تَخْتَلِفُ الدلاَلَةُ فيما نَقَلَهُ بتَرْكِ ما تَرَكَهُ (¬4)، فهذا يَنْبَغِي أنْ يُجَوَّزَ وإنْ لَمْ يَجُزِ النَّقْلُ بالمعنى؛ لأنَّ الَّذِي نَقَلَهُ والذي تَرَكَهُ - والحالَةُ هذهِ - بِمَنْزِلَةِ خَبَرَيْنِ مُنْفَصِلَينِ في أمْرَيْنِ لاَ تَعَلُّقَ لأحَدِهِما بالآخَرِ (¬5). ثُمَّ هذا إذا كانَ رفيعَ المنْزِلَةِ بحيثُ لاَ يَتطرَّقُ إليهِ في ذلكَ تُهْمَةُ نَقْلِهِ أوَّلاً تَماماً (¬6) ثُمَّ نَقْلِهِ ناقِصاً، أوْ نَقْلِهِ أوَّلاً نَاقِصاً ثُمَّ نَقْلِهِ تامّاً. فأمَّا إذا لَمْ يَكُنْ كذلكَ، فَقَدْ ذَكَرَ الخطيبُ الحافِظُ أنَّ مَنْ رَوى حديثاً عَلَى التمامِ، وخافَ إنْ رواهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى النُّقْصانِ أنْ يُتَّهَمَ بأنَّهُ زادَ في أوَّلِ مرَّةٍ مَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ، أو أنَّهُ نَسِيَ في الثاني باقِيَ الحديثِ لِقِلَّةِ ضَبْطِهِ وكَثْرَةِ غَلَطِهِ، فَوَاجِبٌ عليهِ أنْ يَنْفِيَ هذهِ الظِّنَّةَ عَنْ نَفْسِهِ (¬7). ¬
وذَكَرَ الإمامُ أبو الفتْحِ سُلَيْمُ (¬1) بنُ أيُّوبَ الرَّازِيُّ الفقيهُ: ((أنَّ مَنْ رَوَى بعضَ الخبرِ، ثُمَّ أرادَ أنْ يَنْقُلَ تَمَامَهُ وكَانَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بأنَّهُ زادَ في حديثِهِ، كانَ ذلكَ عُذْراً لهُ في تَرْكِ الزيادةِ وكِتْمانِها)) (¬2). قُلْتُ: مَنْ كَانَ هذا حالَهُ فليسَ لهُ مِنَ الابْتِدَاءِ أنْ يَرْوِيَ الحديثَ غيرَ تامٍّ، إذا كانَ قَدْ تَعَيَّنَ عليهِ أداءُ تَمَامِهِ؛ لأنَّهُ إذا رواهُ أوَّلاً نَاقِصاً أخْرَجَ باقِيَهُ عَنْ (¬3) حَيِّزِ الاحْتِجاجِ بهِ، ودارَ بَيْنَ ألاَّ يَرْوِيَهُ (¬4) أصْلاً فَيُضَيِّعَهُ رَأْساً، وبَيْنَ أنْ يَرْويَهُ مُتَّهَماً فيهِ، فَيُضَيِّعَ ثَمَرَتَهُ؛ لِسُقُوطِ الْحُجَّةِ فيهِ، والعِلْمُ عندَ اللهِ تَعَالَى. وأمَّا تَقْطِيعُ الْمُصَنِّفِ مَتْنَ الحديثِ الواحِدِ (¬5) وتَفْرِيْقُهُ في الأبْوابِ، فَهُوَ إلى الجوازِ أقْرَبُ، ومِنَ المنْعِ أبْعَدُ. وقَدْ فَعَلَهُ مالِكٌ، والبخَارِيُّ وغيرُ واحِدٍ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ ولاَ يَخْلُو مِنْ كَرَاهِيَةٍ (¬6)، واللهُ أعلمُ. الثَّامِنْ: يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ ألاَّ يَرْوِيَ حَدِيْثَهُ بِقِرَاءةِ لَحَّانٍ (¬7) أوْ مُصَحِّفٍ. رُوِّيْنا عَنِ النَّضْرِ بنِ شُمَيْلٍ أنَّهُ قالَ: ((جَاءتْ هذهِ الأحاديثُ عَنِ الأصْلِ مُعربةً)). وأخْبَرَنا أبو بكرِ ¬
ابنُ أبي المعالِي الفَرَاويُّ قِراءةً عليهِ، قالَ: أخْبَرَنا الإمامُ أًبُو (¬1) جَدِّي أبو عبدِ اللهِ مُحَمَّدُ ابنُ الفَضْلِ الفَرَاوِيُّ، قالَ أخْبَرَنا أبو الحسَيْنِ (¬2) عبدُ الغَافِرِ بنُ مُحَمَّدٍ الفارسِيُّ، قالَ: أخْبَرَنا الإمامُ أبو سُلَيمانَ حَمْدُ (¬3) بنُ مُحَمَّدٍ الخَطَّابِيُّ (¬4)، قالَ حَدَّثَني مُحَمَّدُ بنُ مُعاذٍ، قالَ: أخْبَرَنا بعضُ أصحابِنَا، عَنْ أبي دَاوُدَ السِّنْجِيِّ (¬5). قالَ: سَمِعْتُ الأصْمَعِيَّ يَقُولُ: ((إنَّ أَخْوَفَ ما أَخَافُ (¬6) عَلَى طالبِ العِلْمِ إذا لَمْ يَعْرِفِ النَّحْوَ أنْ يَدْخُلَ في جُمْلَةِ (¬7) قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) (¬8)؛ لأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عنهُ وَلَحَنْتَ فيهِ، كَذَبْتَ عليهِ (¬9). قلتُ: فحقٌّ عَلَى طالبِ الحديثِ أنْ يَتعلَّمَ منَ النحوِ واللُّغةِ ما يتخلَّصُ بهِ منْ شَيْنِ اللَّحْنِ والتحريفِ ومَعَرَّتِهما. ¬
رُوِّيْنا (¬1) عنْ شُعبةَ قالَ: ((مَنْ طلبَ الحديثَ وَلَمْ يُبْصِرِ العربيَّةَ فَمَثَلُهُ مَثَلُ (¬2) رَجلٍ عليهِ بُرْنُسٌ (¬3) ليسَ لهُ رأسٌ))، أو كما قالَ. وعنْ حمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، قالَ: ((مَثَلُ (¬4) الذي يطلُبُ الحديثَ ولاَ يَعْرِفُ النَّحْوَ، مَثَلُ الحمارِ عليهِ مِخْلاَةٌ (¬5) لاَ شعيرَ فيها)) (¬6). وأمَّا التصحيفُ فسبيلُ السلامةِ منهُ، الأخْذُ مِنْ أفواهِ أهلِ العِلْمِ والضَّبْطِ (¬7)، فإنَّ مَنْ حُرِمَ ذَلِكَ وكانَ أخْذُهُ وتعلُّمُهُ مِنْ بُطُونِ الكُتُبِ كانَ مِنْ شَأْنِهِ التَّحريفُ، ولَمْ يُفْلِتْ مِنَ التَّبديلِ والتَّصحيفِ، واللهُ أعلمُ. التاسِعُ: إذا وقعَ في روايتِهِ لَحْنٌ أو تحريفٌ، فقدِ اخْتلفُوا؛ فمنهم مَنْ كانَ يَرَى أنَّهُ يرويهِ عَلَى الخطأ كما سَمِعَهُ، وذهبَ إلى ذَلِكَ مِنَ التَّابعينَ مُحَمَّدُ بنُ سيرينَ، وأبو مَعْمَرٍ عبدُ اللهِ بنُ سَخْبَرَةَ (¬8). وهذا غُلُوٌّ في مذهبِ اتِّباعِ اللَّفْظِ والمنعِ مِنَ الروايةِ بالمعنى. ومنهمْ مَنْ رَأَى تَغييرَهُ وإصلاحَهُ وروايتَهُ عَلَى الصوابِ، رُوِّيْنا ذَلِكَ عَنِ الأوزاعيِّ (¬9)، وابنِ المباركِ (¬10) وغيرِهِما (¬11)، وهوَ مذهبُ الْمُحَصِّلِينَ (¬12) والعلماءِ منَ المحدِّثينَ، ¬
والقولُ بهِ في اللَّحْنِ الذي لا يختلِفُ بهِ المعنى وأمثالِهِ، لاَزمٌ عَلَى مذهبِ تجويزِ روايةِ الحديثِ بالمعنى (¬1). وقدْ سَبَقَ أنَّهُ قولُ الأكثرينَ (¬2). وأمَّا إصْلاحُ ذَلِكَ وتغييرُهُ (¬3) في كتابِهِ وأصْلِهِ، فالصوابُ تَرْكُهُ، وتقريرُ ما وقَعَ في الأصْلِ عَلَى ما هوَ عليهِ معَ التَّضْبيبِ عليهِ، وبيانِ الصوابِ خارجاً في الحاشيةِ، فإنَّ ذَلِكَ أجمعُ للمصلحةِ وأنْفَى للمَفْسَدةِ. وقدْ رُوِّيْنا أنَّ بعضَ أصحابِ الحديثِ رُئِيَ في المنامِ، وكأنَّهُ قدْ مَرَّ منْ شَفَتِهِ أو لسانِهِ شيءٌ، فقيلَ لهُ في ذَلِكَ، فقالَ: ((لفظةٌ مِنْ حديثِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ تَعَالَى عليهِ وعلى آلهِ وسَلَّمَ - غَيَّرْتُها برأْيِي فَفُعِلَ بي هذا)) (¬4). وكثيراً ما نَرَى ما يتوهَّمُهُ كثيرٌ منْ أهلِ العِلْمِ خطأ - ورُبَّما غيَّرُوهُ - صَوَاباً ذا وجهٍ صحيحٍ، وإنْ خَفِيَ واسْتُغْرِبَ لاَ سِيَّما فيما يَعُدُّونَهُ خطأً مِنْ جِهَةِ العربيَّةِ؛ وذلكَ لِكَثْرَةِ لُغَاتِ العربِ وتَشَعُّبِها. ورُوِّيْنا عنْ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ: ((كانَ إذا مَرَّ بأبي لَحْنٌ فاحشٌ غَيَّرَهُ، وإذا كانَ لَحْناً سَهْلاً تَرَكَهُ، وقالَ: كذا قالَ الشَّيْخُ!)) (¬5). وأخْبَرَنِي بعضُ أشْياخِنا عَمَّنْ أخْبَرَهُ عَنِ القاضِي الحافِظِ عياضٍ بِمَا مَعْناهُ واخْتِصَارُهُ (¬6): أنَّ الذي اسْتَمَرَّ عليهِ (¬7) عَمَلُ أكْثَرِ الأشْيَاخِ، أنْ يَنْقُلُوا الروايَةَ كما وَصَلَتْ إليهِمْ، ولاَ يُغَيِّرُوها في كُتُبِهِمْ، حَتَّى في أحرفٍ مِنَ القُرْآنِ استَمَرَّتِ (¬8) الرواية فيها في الكُتُبِ عَلَى خِلافِ التلاوةِ الْمُجْمِعِ عليها ومنْ غيرِ أنْ يجيءَ ذَلِكَ في الشَّواذِّ. ¬
ومنْ ذَلِكَ ما وَقَعَ في " الصحيحينِ " و " الموطّأِ " وغيرِهَا، لكِنَّ أهلَ المعرفةِ مِنهُمْ يُنَبِّهُونَ عَلَى خَطَئِها عِندَ السَّماعِ (¬1) والقِرَاءةِ، وفي حواشي الكُتُبِ، مَعَ تَقْرِيرِهِمْ ما في الأُصُولِ عَلَى ما بَلَغَهُمْ. ومِنْهُمْ مَنْ جَسَرَ عَلَى تغييرِ الكُتُبِ وإصْلاَحِها، مِنْهُمْ: أبو الوليدِ هِشامُ بنُ أحمدَ الكِنانِيُّ الوَقَّشِيُّ (¬2)؛ فإنَّهُ لِكَثرةِ مُطالَعَتِهِ وافْتِنانِهِ وثُقُوبِ فَهْمِهِ وحِدَّةِ ذِهْنِهِ جَسَرَ عَلَى الإصلاحِ كثيراً، وغَلِطَ في أشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ. وكذلكَ غيرُهُ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ. والأَوْلَى سَدُّ بابِ التَّغْييرِ والإصْلاحِ؛ لِئَلاَّ يَجْسُرَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ، وهوَ أسْلمُ (¬3) مَعَ التَّبيينِ فيذكُرُ ذَلِكَ عندَ السماعِ كما وقعَ، ثُمَّ يذكُرُ وجهَ صوابِهِ: إمَّا مِنْ جِهَةِ العربيَّةِ، وإمَّا مِنْ جِهَةِ الروايةِ، وإنْ شَاءَ قَرَأَهُ أوَّلاً عَلَى الصَّوابِ ثُمَّ قالَ: ((وَقَعَ عندَ شَيْخِنا، أو في روايتِنا، أو مِنْ طريقِ فُلانٍ كذا وكذا)). وهذا أَوْلَى مِنَ الأوَّلِ كَيْلاَ يُتَقَوَّلَ عَلَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما لَمْ يَقُلْ. وأصْلَحُ ما يُعْتَمَدُ عليهِ في (¬4) الإصْلاحِ أنْ يَكُونَ ما يُصْلَحُ بهِ الفَاسِدُ قَدْ وَرَدَ في (¬5) أحاديثَ أُخَرَ، فإنَّ ذاكِرَهُ آمِنٌ مِنْ أنْ يَكُونَ مُتَقَوِّلاً عَلَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما لَمْ يَقُلْ (¬6)، واللهُ أعلمُ. العاشِرُ: إذا كانَ الإصْلاحُ بزِيادَةِ شيءٍ قَدْ سَقَطَ فإنْ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ مُغَايرةٌ في المعنى فالأمْرُ فيهِ عَلَى ما سَبَقَ، وذلكَ كَنحوِ ما رُوِيَ عَنْ مالكٍ - رضي الله عنه - أنهُ قيلَ لهُ: ((أرأيْتَ حديثَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُزَادُ فيهِ الواوُ والألِفُ، والمعنى واحدٌ؟))، فقالَ: ((أرجو أنْ يَكُونَ خَفِيْفاً)) (¬7). ¬
وإنْ كانَ الإصْلاحُ بالزِّيادَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى معنًى مُغايرٍ لِمَا (¬1) وقَعَ في الأصْلِ تأكَّدَ فيهِ الحكْمُ بأنَّهُ يَذكُرُ ما في الأصْلِ مَقْروناً بالتنبيهِ عَلَى ما سَقَطَ ليسْلَمَ مِنْ مَعَرَّةِ (¬2) الخطأِ، ومِنْ أنْ يَقولَ عَلَى شيخِهِ ما لَمْ يَقُلْ. حَدَّثَ أبو نُعَيمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ عَنْ شَيْخٍ لهُ بحديثٍ قالَ فيهِ: ((عَنْ بُحَيْنَةَ))، فقالَ أبو نُعَيمٍ: إنَّما هُوَ ((ابنُ بُحَيْنَةَ))، ولكنَّهُ قالَ: ((بُحَيْنَةَ)) (¬3). وإذا كانَ مَنْ دُونَ موضِعِ الكلامِ الساقِطِ معلوماً أنَّهُ قدْ أُتِيَ بهِ وإنَّما أسْقطَهُ مَنْ بعدَهُ ففيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وهوَ أنْ يُلحَقَ الساقِطُ في موضِعِهِ مِنَ الكِتابِ مَعَ كَلِمَةِ ((يعني)) كما فَعَلَ الخطيبُ الحَافِظُ (¬4)؛ إذْ رَوَى عَنْ أبي عُمَرَ (¬5) بنِ مَهدِيٍّ، عَنِ القاضِي الْمَحَامِلِيِّ بإسْنادِهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرةَ بنتِ عبدِ الرَّحمانِ - يَعْنِي (¬6) - عنْ عائشةَ أنَّها قالتْ: ((كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُدْنِي إليَّ رأْسَهُ فأُرَجِّلُهُ)) (¬7). قالَ الخطيبُ (¬8): ((كانَ في أصْلِ ابنِ مَهديٍّ: ((عَنْ عَمْرَةَ أنَّها قالتْ: كانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُدْنِي إليَّ رأسَهُ))، فأَلْحَقْنا فيهِ ذِكْرَ عائِشةَ إذْ لَمْ يَكُنْ منهُ بُدٌّ، وعَلِمْنا أنَّ الْمَحَامِلِيَّ كذلكَ رواهُ، وإنَّمَا سَقَطَ مِنْ كتابِ شيخِنا أبي عُمَرَ (¬9)، وقُلْنا فيهِ: ((يعني (¬10): ¬
عَنْ عائشةَ - رضِيَ اللهُ عَنْهَا -))؛ لأجْلِ أنَّ ابنَ مَهْدِيٍّ لَمْ يَقُلْ لنا ذَلِكَ، وهكذا رأيْتُ غيرَ واحدٍ مِنْ شُيُوخِنا يَفْعَلُ في مِثْلِ هذا. ثُمَّ ذَكَرَ بإسْنادِهِ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - قالَ: ((سَمِعْتُ وَكِيعاً يقُولُ: أنا أسْتَعِينُ في الحديثِ بـ ((يَعْني)) (¬1). قلتُ: وهذا إذا كانَ شَيخُهُ قَدْ رواهُ لهُ عَلَى الخطأِ. فأمَّا إذا وجَدَ ذَلِكَ في كتابِهِ وغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أنَّ ذَلِكَ مِنَ الكِتابِ لاَ مِنْ شَيخِهِ فَيَتَّجِهُ هاهنا إصلاحُ ذَلِكَ في كِتابِهِ وفي روايتِهِ عندَ تَحْديثِهِ بهِ معهُ ذَكَرَ أبو دَاوُدَ (¬2) أنَّهُ قالَ لأحمدَ بنِ حنبلٍ: ((وجدْتُ في كِتابي: حَجَّاجٌ، عَنْ جُرَيْجٍ، عَنْ أبي الزُّبيرِ، يَجوزُ لي أنْ أُصْلِحَهُ: ابنُ جُرَيْجٍ؟ فقالَ: أرجو أنْ يَكونَ هذا لاَ بأْسَ بهِ، واللهُ أعلمُ)) (¬3). وهذا مِنْ قبيلِ ما إذا دَرَسَ (¬4) مِنْ كِتابِهِ بعضُ الإسْنادِ أو المتنِ فإنَّهُ يجوزُ لهُ اسْتِدْراكُهُ مِنْ كِتابِ غيرِهِ إذا عَرَفَ صِحَّتَهُ وسكَنَتْ نفسُهُ إلى أنَّ ذَلِكَ هوَ الساقِطُ مِنْ كِتابِهِ، وإنْ كانَ في المحدِّثينَ مِنْ لاَ يستجيزُ ذَلِكَ. ومِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بنُ حمَّادٍ فيما رُوِيَ عَنْ يحيى بنِ مَعينٍ عنهُ (¬5). قالَ الخطيبُ الحافِظُ: ((ولوْ بَيَّنَ ذَلِكَ في حالِ الروايةِ كانَ أَوْلَى)) (¬6). وهكذا الحكمُ في اسْتِثْباتِ (¬7) الحافِظِ ما شَكَّ مِنْ كِتابِ غيرِهِ أو مِنْ حِفْظِهِ، وذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ غيرِ واحدٍ من أهلِ الحديثِ، منهُمْ: عاصِمٌ (¬8)، وأبو عَوانَةَ (¬9)، ¬
وأحمدُ بنُ حنبلٍ (¬1). وكانَ بعضُهُمْ (¬2) يُبَيِّنُ ما ثَبَّتَهُ فيهِ غيرُهُ، فيقولُ: ((حدَّثنا فُلاَنٌ وثَبَّتَنِي فُلانٌ)) كما رُوِيَ عَنْ يَزيدَ بنِ هارونَ (¬3) أنَّهُ قالَ: ((أخبرنا عاصِمٌ وثَبَّتَنِي شُعْبَةُ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ سَرْجِسَ)) (¬4). وهكذا الأمرُ فيما إذا وَجَدَ في أصْلِ كِتابِهِ كَلِمَةً مِنْ غريبِ العربيَّةِ (¬5) أوْ غيرِها غيرَ مُقَيَّدَةٍ وأشْكَلَتْ عليهِ، فجائِزٌ أنْ يَسْأَلَ عنها أهلَ العِلْمِ بها ويَرْويها عَلَى ما يُخْبِرُونَهُ بهِ. رُوِيَ مثلُ ذَلِكَ عنْ إسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ (¬6)، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ (¬7) وغيرِهِما (¬8) - رضي الله عنهم -، واللهُ أعلمُ. الحادي عَشَرَ: إذا كانَ الحديثُ عندَ (¬9) الراوي عنِ اثْنَينِ (¬10) أو أكثَرَ، وبَيْنَ روايَتِهما تَفاوتٌ في اللفظِ، والمعنى واحدٌ، كانَ لهُ أنْ يَجْمَعَ بينَهُما في الإسْنادِ، ثُمَّ يَسُوقَ الحديثَ عَلَى لَفْظِ أحدِهِما خاصَّةً، ويقُولَ: أخبرنا فُلانٌ وفلاَنٌ، واللَّفْظُ لفُلاَنٍ، أو وهذا لَفْظُ فُلاَنٍ قالَ أو قالا: أخبرنا فُلانٌ، أو ما أشبهَ ذَلِكَ مِنَ العِباراتِ. ¬
ولِمُسْلِمٍ (¬1) صاحبِ "الصحيحِ" معَ هذا في ذَلِكَ عبارةٌ أُخْرَى حَسَنةٌ، مثلُ قولِهِ: ((حَدَّثَنا أبو بَكْرِ بنُ أبي شَيْبَةَ، وأبو سَعيدٍ الأشَجِّ؛ كِلاهُما عَنْ أبي خالدٍ، قالَ أبو بكرٍ: حَدَّثَنا أبو خالِدٍ الأحْمَرُ، عَنِ الأعمشِ وساقَ الحديثَ)). فإعادتُهُ ثانياً ذِكْرَ أحدِهِما خاصَّةً إشْعارٌ (¬2) بأنَّ اللَّفْظَ المذكورَ لهُ. وأمَّا إذا لَمْ يَخُصَّ لَفْظَ أحدِهِما بالذِّكْرِ، بلْ أخَذَ مِنْ لَفْظِ هذا ومِنْ لَفْظِ ذاكَ (¬3)، وقالَ: ((أخبرنا فُلاَنٌ وفُلاَنٌ -وتَقَارَبا في اللفْظِ- قالا: أخبرنا فُلانٌ))، فهذا غيرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى مذهبِ تَجويزِ الروايةِ بالمعنى. وقولُ أبي داودَ صاحِبِ " السُّنَنِ ": ((حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، وأبو تَوْبَةَ - المعنى - قالا (¬4): حَدَّثَنا أبو الأحْوصِ)) (¬5) معَ أشْباهٍ (¬6) لهذا في كِتابِهِ، يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنْ قَبيلِ الأوَّلِ، فيكونَ اللفْظُ لِمُسَدَّدٍ ويُوافِقُهُ أبو تَوبَةَ في المعنى، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنْ قَبيلِ الثاني، فلا يكونُ قدْ أورَدَ لَفْظَ أحَدِهِما خاصَّةً، بلْ رواهُ بالمعنى عَنْ كِلَيْهِما، وهذا الاحْتِمالُ يَقْرُبُ (¬7) في قولِهِ: ((حَدَّثَنا مسلمُ بنُ إبراهِيمَ، ومُوسَى بنُ إسْماعِيلَ - المعنى واحدٌ - قالا: حَدَّثَنا أبانُ)). ¬
وأمَّا إذا جَمَعَ بَيْنَ جماعةِ رواةٍ قدِ اتَّفَقُوا (¬1) في المعْنَى، وليسَ ما أوْرَدَهُ لَفْظَ كُلِّ واحدٍ منهم، وسَكَتَ عَنِ البيانِ لذلكَ، فهذا مِمَّا عِيْبَ بهِ البخاريُّ أوْ غيرُهُ (¬2)، ولاَ بأسَ بهِ عَلَى مُقْتَضَى مذهبِ تَجْويزِ الروايةِ بالمعنى. وإذا سَمِعَ كِتاباً مُصَنَّفاً (¬3) مِنْ جماعَةٍ، ثُمَّ قابَلَ نُسْخَتَهُ بأصْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ بعضٍ، وأرادَ أنْ يَذْكُرَ جَمِيعَهُمْ في الإسنادِ ويقولَ: ((واللفظُ لِفُلانٍ)) كما سَبَقَ، فهذا يَحْتَمِلُ أنْ يجوزَ كالأوَّلِ؛ لأنَّ ما أوْرَدَهُ قدْ سَمِعَهُ بنَصِّهِ مِمَّنْ ذَكَرَ أنَّهُ بلَفْظِهِ، ويَحْتَمِلُ أنْ لا يجوزَ؛ لأنَّهُ لاَ عِلْمَ عندَهُ بكَيْفِيَّةِ روايةِ الآخرينَ حَتَّى يُخْبِرَ عنها، بخلافِ ما سَبَقَ فإنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى روايةِ غيرِ مَنْ نَسَبَ اللَّفْظِ إليهِ، وعَلَى مُوافَقَتِها (¬4) مِنْ حيثُ المعنى فأَخْبَرَ بذلكَ (¬5)، واللهُ أعلمُ. الثاني عَشَرَ: ليسَ لهُ أنْ يَزيدَ في نَسَبَ مَنْ فوقَ شيخِهِ مِنْ رِجَالِ الإسْنادِ عَلَى ما ذكَرَهُ شيخُهُ مُدْرَجاً (¬6) عليهِ مِنْ (¬7) غيرِ فَصْلٍ مُمَيَّزٍ، فإنْ أتَى بِفَصْلٍ (¬8) جَازَ، مثلُ أنْ يَقُولَ: ((هُوَ ابنُ فُلانٍ الفُلانِيُّ)) أو ((يَعْنِي: ابنَ فُلاَنٍ))، ونحوَ ذلكَ. وذَكَرَ الحافِظُ الإمامُ أبو بكرٍ البَرْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - في كِتابِ " اللُّقَطِ " (¬9) لهُ بإسنادِهِ عنْ عليِّ بنِ المدينِيِّ، قالَ: إذا حَدَّثَكَ الرجلُ فقالَ: حَدَّثَنا فُلانٌ، ولَمْ يَنْسُبْهُ فأحبَبْتَ أنْ تَنْسُبَهُ فقُلْ: ((حَدَّثَنا فُلانٌ أنَّ فُلانَ بنَ فُلانٍ حدَّثَهُ)) (¬10)، واللهُ أعلمُ. ¬
وأمَّا إذا كانَ شيخُهُ قدْ ذَكَرَ نَسَبَ شيخِهِ أوْ صِفَتَهُ في أوَّلِ كِتابٍ أوْ جُزْءٍ عندَ أوَّلِ حديثٍ منهُ، واقْتَصَرَ فيما بَعْدَهُ مِنَ الأحاديثِ عَلَى ذِكْرِ اسمِ الشَّيْخِ أوْ بَعضِ نَسَبِهِ. مِثالُهُ: أنْ أروِيَ جُزْءاً عَنِ الفَراوِيِّ وأقُولَ (¬1) في أوَّلِهِ: ((أخبرنا أبو بكرِ منصُورُ بنُ عبدِ المنعِمِ بنِ عبدِ اللهِ الفَرَاوِيُّ، قالَ: أخْبَرَنا (¬2) فُلانٌ)). وأقُولَ في باقِي أحاديثِهِ: ((أخبرنا (¬3) منصورٌ، أخبرنا منصورٌ)) فهلْ يجوزُ لِمَنْ سَمِعَ ذلكَ الجزءَ مِنِّي أنْ يَرْوِيَ عَنِّي الأحاديثَ التي بعدَ الحديثِ الأوَّلِ مُتَفَرِّقَةً، ويقُولَ في كُلِّ واحِدٍ منها: ((أخبرنا فُلانٌ قالَ: أخبرنا أبو بكرٍ منصورُ بنُ عبدِ المنعِمِ بنِ عبدِ اللهِ الفَراوِيُّ، قالَ: أخبرنا فُلانٌ))، وإنْ لَمْ أذْكُرْ (¬4) لهُ ذَلِكَ في كُلِّ واحدٍ منها اعْتِماداً عَلَى ذِكْري لهُ أوَّلاً. فهذا قدْ حَكَى الخطيبُ الحافِظُ عَنْ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ أنَّهُمْ أجازُوهُ. وعَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ الأَوْلَى أنْ يَقولَ: ((يعني: ابنَ فُلانٍ)) (¬5). ورَوَى بإسْنادِهِ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ كانَ إذا جاءَ اسمُ الرجُلِ (¬6) غيرَ مَنْسُوبٍ قالَ: ((يَعْنِي: ابنَ فُلانٍ)) (¬7). ورَوَى عَنِ البَرْقَانِيِّ بإسْنادِهِ عَنْ عليِّ بنِ المدينيِّ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ عنهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ هكذا رأى أبا بكرٍ أحمدَ بنَ عليٍّ الأصبهانِيَّ نَزِيْلَ نَيْسابورَ يَفْعَلُ - وكانَ أحَدَ الْحُفَّاظَ الْمُجَوِّدِيْنَ ومِنْ أهلِ الوَرَعِ والدِّيْنِ - وأنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ أحاديثَ كَثِيْرَةٍ رَوَاها لهُ قالَ فيها: ((أخبرنا أبو عَمْرِو بنُ حَمْدانَ أنَّ أبا يَعْلَى أحمدَ بنَ عليِّ بنِ الْمُثَنَّى الموصِلِيَّ أخْبَرَهُمْ، وأخْبَرنا أبو بكرِ بنُ الْمُقْرِئِ أنَّ إسْحاقَ بنَ أحمدَ بنِ نافِعٍ؛ حَدَّثَهُمْ، وأخبرنا أبو أحمدَ ¬
الحافِظُ أنَّ أبا يوسُفَ مُحَمَّدَ بنَ سُفْيانَ الصَّفَّارَ أخبرهُمْ))، فذَكَرَ لهُ أنَّهَا أحاديثُ سَمِعَهَا قراءةً عَلَى شُيُوخِهِ في جُمْلَةِ نُسَخٍ نَسَبُوا الذينَ حَدَّثُوهُمْ بها في أوَّلِها، واقْتَصَرُوا في بقيَّتِها عَلَى ذِكْرِ أسْمائِهِمْ (¬1). قالَ: وكانَ غيرُهُ يقُولُ في مِثْلِ هذا: ((أخبرنا فُلانٌ، قالَ: أخبرنا فُلانٌ، هوَ ابنُ فُلانٍ)) (¬2)، ثُمَّ يَسُوقُ نَسَبَهُ إلى مُنْتَهَاهُ. قالَ (¬3): ((وهذا الذي أسْتَحِبُّهُ؛ لأنَّ قَوْماً مِنَ الرواةِ كانُوا يَقُولُونَ فيما أُجِيْزَ لهمْ: ((أخبرنا فُلانٌ أنَّ فُلاناً حَدَّثَهُمْ)) (¬4). قُلتُ: جميعُ هذهِ الوجوهِ جائِزٌ، وأوْلاَها أنْ يَقُولَ: ((هوَ ابنُ فُلانٍ أو يعني: ابنَ فُلانٍ))، ثُمَّ أنْ يَقُولَ: ((إنَّ فُلاَنَ بنَ فُلانٍ))، ثُمَّ أنْ يَذْكُرَ المذكُورَ في أوَّلِ الجزْءِ بعَيْنِهِ مِنْ غيرِ فَصْلٍ، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: جَرَتِ العادةُ بحذْفِ ((قالَ)) (¬5) ونَحْوِهِ فيما بَيْنَ رجالِ الإسْنادِ خَطّاً (¬6)، ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ حالَةَ القراءةِ لَفظاً. ومِمَّا قَدْ يُغْفَلُ عنهُ مِنْ ذَلِكَ ما إذا كان في أثناءِ الإسْنادِ: ((قُرِئَ عَلَى فُلانٍ: أأخْبَرَكَ فُلانٌ؟)) فَيَنبَغِي للقَارِئِ أنْ يَقُولَ فيهِ: ((قيلَ لهُ: أخبركَ فُلانٌ)). وَوَقَعَ في بعضِ ذَلِكَ: ((قُرِئَ عَلَى فُلانٍ: حَدَّثَنا فلانٌ))، فهذا يُذْكَرُ فيهِ: ((قالَ))، فَيُقَالُ: ((قُرِئَ عَلَى فُلانٍ، قالَ: حَدَّثنا (¬7) فلانٌ))، وقدْ جاءَ هذا مُصَرَّحاً بهِ خَطّاً هكذا في بعضِ ما رُوِّيْناهُ (¬8). ¬
وإذا تَكَرَّرَتْ كَلِمَةُ: ((قالَ)) كما في قولِهِ في كِتابِ البخاريِّ: ((حَدَّثَنا صالِحُ بنُ حَيَّانَ، قالَ: قالَ عامِرٌ الشَّعْبِيُّ)) (¬1)، حذفُوا إحْداهُما (¬2) في الخطِّ وعلى القارِئِ أنْ يَلْفِظَ بهِمَا جميعاً، واللهُ أعلمُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: النُّسَخُ المشْهُورَةُ المشْتَمِلَةُ عَلَى أحاديثَ بإسْنادٍ واحِدٍ، كَنُسْخَةِ: هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ))، رِوايةِ عبدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عنهُ، ونحْوِها مِنَ النُّسَخِ والأجْزَاءِ. مِنْهُمْ مَنْ يُجَدِّدُ ذِكْرَ الإسْنادِ في أوَّلِ كُلِّ حديثٍ منها، ويُوجَدُ هذا في كثيرٍ مِنَ الأُصُولِ القدِيْمةِ، وذلكَ أحْوَطُ. ومِنْهُمْ مَنْ يَكْتَفِي بذِكْرِ الإسْنادِ في أوَّلِها عندَ أوَّلِ حديثٍ منها، أو في أوَّلِ كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْ مَجالِسِ سَماعِها، ويُدْرِجُ الباقِيَ عليهِ، ويقولُ في كُلِّ حديثٍ بَعْدَهُ ((وبالإسْنادِ)) أو ((وبهِ))، وذلكَ هوَ الأغْلَبُ الأكْثَرُ، وإذا أرادَ مَنْ كَانَ سَمَاعُهُ عَلَى هذا الوجْهِ تَفريقَ تِلْكَ الأحاديثِ ورِوايةَ كُلِّ حديثٍ منها بالإسنادِ المذكورِ في أوَّلِها، جازَ لهُ ذلكَ عندَ الأكْثَرِينَ، مِنْهُمْ: وكِيعُ بنُ الجرَّاحِ (¬3)، ويحيى بنُ مَعِيْنٍ (¬4)، وأبو بَكْرٍ الإسْماعِيْلِيُّ (¬5). وهذا؛ لأنَّ الجميعَ مَعطوفٌ عَلَى الأوَّلِ، فالإسْنادُ المذكورُ أوَّلاً في حُكْمِ المذكورِ في كُلِّ حديثٍ، وهوَ بِمَثَابةِ تقطِيعِ المتنِ الواحِدِ في أبوابٍ بإسْنادِهِ المذكورِ في أوَّلِهِ، واللهُ أعلمُ. ومِنَ المحدِّثِينَ مَنْ أبى إفْرَادَ شَيءٍ مِنْ تِلْكَ الأحادِيثِ الْمُدْرَجَةِ بالإسْنادِ المذكورِ أوَّلاً ورَآهُ تَدلِيْساً. وسَأَلَ بعضُ أهلِ الحديثِ الأسْتاذَ أبا إسْحاقَ الإسْفرايينِيَّ الفقيهَ الأصُولِيَّ عَنْ ذَلِكَ؟ فقالَ: ((لا يَجُوزُ)) (¬6). ¬
وعلى هَذَا مَنْ كانَ سماعُهُ عَلَى هَذَا الوجْهِ فَطَرِيْقُهُ أنْ يُبَيِّنَ ويَحْكِيَ ذَلِكَ كَمَا جَرَى، كَمَا فَعَلَهُ مُسْلِمٌ في "صحيحِهِ" (¬1) في ((صحيفةِ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ))، نحوُ قَولِهِ: ((حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ رافِعٍ، قالَ: حَدَّثَنا عبدُ الرَّزَّاقِ، قالَ: أخبرنا مَعْمَرٌ، عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: هذا ما حَدَّثَنا أبو هُرَيرةَ وذَكَرَ أحادِيْثَ، مِنْها: ((وقالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أدْنَى مَقْعَدِ أحدِكُمْ في الجنَّةِ أنْ يَقُولَ لهُ: تَمَنَّ ... الحديثَ)). وهكذا فَعَلَ كَثيرٌ مِنَ المؤَلِّفِينَ (¬2)، واللهُ أعلمُ. الخامِسَ عَشَرَ: إذا قَدَّمَ ذِكْرَ المتنِ عَلَى الإسنادِ أو ذِكْرَ المتنِ وبعضِ الإسنادِ ثُمَّ ذَكَرَ الإسْنادَ عَقِيْبَهُ (¬3) عَلَى الاتِّصَالِ، مِثلُ أنْ يَقولَ: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا))، أو يقولَ: ((رَوَى عُمَرُ بنُ دِينارٍ، عَنْ جابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا))، ثُمَّ يقولَ: ((أخبرنا بهِ فُلانٌ، قالَ: أخبرنا فلانٌ))، ويَسُوقَ الإسنادَ حَتَّى يَتَّصِلَ بِما قَدَّمَهُ، فهذا يَلْتَحِقُ بما إذا قَدَّمَ (¬4) الإسْنادَ في كونِهِ يَصِيْرُ بهِ مُسْنِداً للحديثِ لا مُرْسِلاً لهُ، فلَوْ أرادَ مَنْ سَمِعَهُ منهُ هكذا أنْ يُقَدِّمَ الإسْنادَ ويُؤَخِّرَ المتنَ ويُلَفِّقَهُ كذلكَ فقدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ المحدِّثِينَ أنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ. قُلتُ: يَنْبَغِي أنْ يَكونَ فيهِ خِلافٌ نحوُ الخِلافِ في تَقْدِيْمِ (¬5) بعضِ مَتْنِ الحديثِ عَلَى بعضٍ. وقدْ حَكَى الخطيبُ المنعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى القولِ بأنَّ الرِّوَايةَ عَلَى المعنَى لا تَجوزُ، والجوازَ عَلَى القولِ بأنَّ الروايةَ عَلَى المعنى تجوزُ، ولا فَرْقَ بينَهُما في ذَلِكَ، واللهُ أعلمُ. وأمَّا ما يَفْعلُهُ بعضُهُمْ مِنْ إعادَةِ ذِكْرِ الإسْنادِ في آخِرِ الكِتابِ أو الجزْءِ بعدَ ذِكْرِهِ أوَّلاً، فهذا لا يَرْفَعُ الخِلاَفَ الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في إفْرَادِ كُلِّ حديثٍ بذلكَ الإسْنادِ عندَ ¬
روايَتِها؛ لِكَونِهِ لاَ يَقَعُ مُتَّصِلاً بِكُلِّ واحدٍ منها، ولَكِنَّهُ يُفِيْدُ (¬1) تأكِيْداً واحْتِياطاً ويَتَضَمَّنُ إجازَةً بالِغَةً مِنْ أعلى أنواعِ الإجازاتِ، واللهُ أعلمُ. السَّادِسَ عَشَرَ: إذا رَوَى الْمُحَدِّثُ الحديثَ بإسْنادٍ ثُمَّ أتْبَعَهُ بإسْنادٍ آخَرَ، وقالَ عندَ انتِهَائِهِ: ((مِثْلَهُ)) فأرادَ الراوي عنهُ أنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الإسْنادِ الثاني ويَسُوقَ لَفْظَ الحديثِ المذكورِ عَقِيبَ الإسْنادِ الأوَّلِ، فالأظْهَرُ المنْعُ مِنْ ذَلِكَ (¬2). ورُوِّينا عَنْ أبي بكرٍ الخطيبِ الحافِظِ - رَحِمَهُ اللهُ - قالَ: ((كانَ شُعْبَةُ لاَ يُجِيزُ ذَلِكَ. وقالَ بعضُ أهلِ العِلْمِ: يجوزُ ذَلِكَ إذا عُرِفَ (¬3) أنَّ المحدِّثَ ضَابِطٌ مُتَحَفِّظٌ يذهبُ إلى تَمييزِ الألفاظِ وعدِّ الحروفِ. فإنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ منهُ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وكانَ غيرُ واحدٍ مِنْ أهلِ العِلْمِ إذا (¬4) رَوَى مِثلَ هذا يُورِدُ الإسْنادَ ويَقُولُ: ((مِثْلُ حديثٍ قَبْلَهُ، مَتْنُهُ كذا وكذا))، ثُمَّ يَسُوقُهُ. وكذلكَ إذا كانَ المحدِّثُ قدْ قالَ نحوَهُ، قالَ: ((وهذا هوَ الذي أختارُهُ)) (¬5). أخبرنا أبو أحمدَ عبدُ الوهابِ (¬6) بنُ أبي منصورٍ عليِّ بنِ عليٍّ البغدادِيُّ شيخُ الشُّيوخِ بها بقراءَتي عليهِ بها، قالَ: أخبرنا والدِي - رَحِمَهُ اللهُ -، قالَ: أخبرنا أبو مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّرِيْفِينِيُّ (¬7)، قالَ: أخبرنا أبو القاسِمِ بنُ حَبَابَةَ (¬8)، قالَ: حَدَّثَنا أبو القاسِمِ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ البغويُّ، قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ¬
قالَ: حَدَّثَنا وكيعٌ قالَ: قالَ شُعْبَةُ: ((فُلانٌ عنْ فُلانٍ، مِثْلَهُ لا يُجْزِئُ، قالَ وكيعٌ: وقالَ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ: يُجْزِئُ)) (¬1). وأمَّا إذا قالَ: نحوَهُ، فهوَ في ذَلِكَ عِنْدَ بعضِهِمْ كما إذا قالَ: مِثْلَهُ. نُبِّئْنا بإسْنادٍ عَنْ وكيعٍ، قالَ: قالَ سُفْيانُ: ((إذا قالَ: نحْوَهُ، فهوَ حديثٌ. وقالَ شُعْبَةُ: ((نَحْوَهُ)) شَكٌّ (¬2). وعَنْ يحيى بنِ مَعينٍ أنَّهُ أجازَ ما قَدَّمنا ذِكْرَهُ في قَوْلِهِ: ((مِثْلَهُ))، ولَمْ يُجِزْهُ في قَوْلِهِ: ((نحوَهُ)) (¬3). قالَ الخطيبُ: ((وهذا القولُ عَلَى مذهبِ مَنْ لَمْ يُجِزْ الروايةَ عَلَى المعنى فأمَّا عَلَى مذهبِ مَنْ أجازَها فلا فَرْقَ بَيْنَ: مِثْلَهُ ونحْوَهُ)) (¬4). واللهُ أعلمُ. قلتُ: هذا لهُ تَعَلُّقٌ بما رُوِّيْناهُ (¬5) عَنْ مسعودِ بنِ عليٍّ السِّجْزِيِّ (¬6) أنَّهُ سَمِعَ الحاكِمَ أبا عبدِ اللهِ الحافِظَ يَقُولُ: ((إنَّ مِمَّا يَلْزمُ الحَدِيْثِيَّ مِنَ الضَّبْطِ والإتْقَانِ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أنْ يَقُولَ: مِثْلَهُ، أو يَقُولَ: نَحْوَهُ، فلا يَحِلُّ لهُ أنْ يَقُولَ: مِثْلَهُ إلاَّ بَعْدَ أنْ يَعْلَمَ أنَّهُما عَلَى لَفْظٍ (¬7) واحدٍ، ويَحِلُّ لهُ أنْ يَقُولَ: نَحْوَهُ إذا كانَ عَلَى مِثْلِ مَعَانيهِ))، واللهُ أعلمُ. السَّابِعَ عَشَرَ: إذا ذَكَرَ الشَّيْخُ إسنادَ الحديثِ، ولَمْ يَذْكُرْ مِنْ مَتْنِهِ إلاَّ طَرَفاً ثُمَّ قالَ: ((وذكرَ الحديْثَ)) أو قالَ: ((وذكرَ الحَديثَ بِطولِهِ)) فأرادَ الراوي عنهُ أن يرويَ عنهُ الحديثَ بكمالِهِ وبطُولهِ فهذا أولى بالمنعِ مما سبقَ ذِكْرُهُ في قولِهِ: ((مِثْلَهُ)) أو ((نَحْوَهُ)). فطريقُهُ أنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بأنْ يَقْتَصَّ ما ذكرَهُ الشَّيْخُ عَلَى وجهِهِ، ويَقولَ (¬8): ((قال: وذكرَ الحديثَ بطُولِهِ)). ثُمَّ يَقُولَ: ((والحديثُ بطُولِهِ هوَ كذا وكذا))، ويسوقَهُ إلى آخرِهِ. ¬
وسألَ بعضُ أهلِ الحديثِ أبا إسْحاقَ إبراهِيمَ بنَ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيَّ المقَدَّمَ في الفقهِ والأُصُولِ عَنْ ذَلِكَ، فقالَ: ((لاَ يَجوزُ لِمَنْ سَمِعَ عَلَى هذا الوصفِ أنْ يرويَ الحديثَ بما فيهِ مِنَ الألفاظِ عَلَى التفصيلِ)). وسألَ أبو بكرٍ البَرْقانِيُّ الحافِظُ الفقيهُ أبا بكرٍ الإسْماعِيْلِيَّ الحافِظَ الفَقيهَ عَمَّنْ قَرَأَ إسْنادَ حديثٍ عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ قالَ: ((وذكرَ الحديثَ))، هلْ يَجوزُ أنْ يُحَدِّثَ بجميعِ الحديثِ؟ فقالَ: إذا عَرَفَ المحدِّثُ والقارئُ ذَلِكَ الحديثَ فأرْجُو أنْ يَجُوزَ ذَلِكَ والبيانُ أَوْلَى أنْ يَقُولَ كما كَانَ (¬1). قلتُ: إذا جَوَّزْنا ذَلِكَ، فالتحقيقُ فيهِ أنَّهُ بطريقِ الإجازَةِ فيما لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ، لكنَّها إجازَةٌ أكِيدةٌ قَويَّةٌ مِنْ جِهاتٍ عديدةٍ، فجازَ لهذا مَعَ كونِ أوَّلِهِ سماعاً إدراجُ الباقي عليهِ من غيرِ إفرادٍ لهُ بلفظِ الإجازَةِ (¬2)، واللهُ أعلمُ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الظَّاهِرُ أنَّهُ لا يَجُوزُ تَغييرُ ((عَنِ النبيِّ)) إلى ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، وكذا بالعكسِ، وإنْ جازَتِ الروايةُ بالمعنى، فإنَّ شَرْطَ ذَلِكَ ألاَّ يَخْتَلِفَ المعنى، والمعنى في هذا مختلِفٌ (¬3). وثبتَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ أنَّهُ رأَى أباهُ إذا كانَ في الكِتابِ ((النبيُّ)) فقالَ المحدِّثُ: ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، ضَرَبَ وكَتَبَ: ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4) وقالَ الخطيبُ أبو بكرٍ: ((هذا غيرُ لازمٍ، وإنَّما اسْتَحَبَّ أحمدُ اتِّباعَ المحدِّثِ في لفظِهِ، وإلاَّ فمذهبُهُ الترخيصُ في ذَلِكَ)) (¬5)، ثُمَّ ذكرَ بإسْنادِهِ عَنْ صالِحِ بنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، قالَ: ((قلتُ لأبي: يكونُ في الحديثِ: قالَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيجعلُ الإنسانُ: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: أرجو ألاَّ يكونَ بهِ بأسٌ)) (¬6). وذكرَ الخطيبُ بسَنَدِهِ (¬7) عَنْ حمَّادِ بنِ سَلَمَةَ ¬
أنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ وبينَ يديهِ عَفَّانُ وبَهْزٌ، فجَعَلا يُغَيِّرانِ: ((النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -)) مَنْ ((رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، فقالَ لهما حمَّادٌ: أمَّا أنتُما فلا تَفْقَهانِ أبداً)) (¬1)، واللهُ أعلمُ. التاسعَ عَشَرَ: إذا كانَ سَمَاعُهُ عَلَى صفةٍ فيها بعضُ الوَهْنِ (¬2) فَعَليهِ أنْ يَذْكُرَها في حالَةِ الروايةِ، فإنَّ في إغفالِها نوعاً من التَّدْلِيسِ، وفيما مَضَى لنا أمثِلَةٌ لذلكَ. ومِنْ أمْثِلَتِهِ ما إذا حَدَّثَهُ المحدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ في حالةِ المذاكَرَةِ فَلْيَقُلْ: حَدَّثَنا فُلانٌ مُذَاكَرَةً، أو حَدَّثَناهُ في الْمُذاكَرةِ، فقدْ كانَ غيرُ واحدٍ مِنْ مُتَقدِّمي العلماءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وكانَ جماعَةٌ مِنْ حُفَّاظِهِمْ يمنعونَ مِنْ أنْ يُحمَلَ عَنْهُمْ في الْمُذاكَرةِ شيءٌ، مِنْهُم: عبدُ الرحمانِ بنُ مَهديٍّ (¬3) وأبو زُرْعَةَ الرازِيُّ (¬4). رُوِّيْناهُ عَنِ ابنِ المبارَكِ (¬5) وغيرِهِ. وذلكَ لِمَا يَقَعُ فيها مِنَ المساهَلَةِ مَعَ أنَّ الحِفْظَ خَوَّانٌ، ولذلكَ امْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أعلامِ الحفَّاظِ مِنْ روايةِ ما يَحْفَظونَهُ إلاَّ مِنْ كُتُبِهِمْ، مِنْهُم: أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ - رضي الله عنهم - أجمعينَ (¬6)، واللهُ أعلمُ. العِشرونَ: إذا كانَ الحديثُ عَنْ رَجلينِ أحدُهُما مَجروحٌ، مثلُ أنْ يكونَ عَنْ ثابِتٍ البُنَانِيِّ (¬7)، وأبانَ بنِ أبي عَيَّاشٍ (¬8)، عَنْ أنسٍ فلا يُسْتَحْسَنُ إسْقاطُ المجروحِ مِنَ الإسْنادِ والاقْتِصارُ عَلَى ذِكْرِ الثِّقَةِ، خوفاً مِنْ أنْ يَكُونَ فيهِ عَنِ المجروحِ شيءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ¬
الثِّقَةُ، قالَ نحواً مِنْ ذَلِكَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ (¬1)، ثُمَّ الخطيبُ أبو بكرٍ (¬2). قالَ الخطيبُ: ((وكانَ مسلمُ بنُ الحجَّاجِ (¬3) في مثلِ هذا رُبَّما أسْقَطَ المجروحَ مِنَ الإسْنادِ ويَذْكُرُ الثِّقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: ((وآخرُ)) كِنايَةً عَنِ المجروحِ)). قالَ: ((وهذا القولُ لا فائدةَ فيهِ)) (¬4). قلتُ: وهكذا يَنْبَغِي إذا كانَ الحديثُ عَنْ رَجلَينِ ثِقَتَيْنِ ألاَّ يُسْقِطَ أحدَهُما منهُ؛ لِتَطَرُّقِ مثلِ الاحْتِمالِ المذكورِ إليهِ، وإنْ كانَ محذورُ الإسْقاطِ فيهِ أقَلَّ، ثُمَّ لاَ يَمتنعُ ذَلِكَ في الصورتينِ امْتِناعَ تحريمٍ؛ لأنَّ الظاهِرَ اتِّفَاقُ الروايتينِ (¬5)، وما ذُكِرَ مِنَ الاحْتِمالِ نادِرٌ بعيدٌ فإنَّهُ مِنَ الإدْراجِ الذي لا يجوزُ تَعَمُّدُهُ كما سَبَقَ في نوعِ المدرجِ، واللهُ أعلمُ. الحادي والعِشْرونَ: إذا سَمِعَ بَعْضَ حديثٍ مِنْ شيخٍ، وَبَعْضَهُ مِنْ شيخٍ آخرَ فَخَلَطَهُ ولَمْ يُمَيِّزْهُ وعَزَى الحديثَ جُملةً إليهِما مُبَيِّناً أنَّ عَنْ أحدِهِما بعضَهُ، وعَنِ الآخَرِ بَعْضَهُ فذلكَ جائِزٌ كما فعلَ الزُّهْرِيُّ (¬6) في حديِ الإفْكِ حيثُ رواهُ عَنْ عُرْوَةَ، وابنِ الْمُسَيِّبِ، وعلقمةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وعُبَيْدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ، عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْها - وقالَ: ((وكُلُّهُمْ حَدَّثَني طائفةً مِنْ حديثِها قالوا: قالتْ: ... الحديثَ (¬7). ثُمَّ إنَّهُ ما مِنْ شيءٍ مِنْ ذَلِكَ الحديثِ إلاَّ وهوَ في الحكْمِ كأنَّهُ رواهُ عَنْ أحَدِ الرجلَينِ عَلَى الإبهامِ، حتَّى إذا كانَ أحدُهُما مجروحاً لَمْ يَجُزْ الاحْتِجاجُ بشيءٍ من ذَلِكَ الحديثِ، وغيرُ جائِزٍ لأحَدٍ بعدَ اخْتِلاطِ ذَلِكَ، أنْ يُسْقِطَ ذِكْرَ أحَدِ الراويَينِ (¬8) ويَرْويَ ¬
النوع السابع والعشرون معرفة آداب المحدث
الحديثَ عَنِ الآخَرِ وَحْدَهُ، بلْ يَجِبُ ذِكْرُهُما جميعاً مَقْرُوناً بالإفصاحِ بأنَّ بعضَهُ عَنْ أحدِهِما، وبعضَهُ عَنِ الآخَرِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّابِعُ والعِشْرُونَ مَعْرِفَةُ آدَابِ الْمُحَدِّثِ وقَدْ مَضَى طَرَفٌ مِنها اقْتَضَتْهُ الأنْواعُ التي قَبْلَهُ. عِلْمُ الحديثِ عِلْمٌ شَريفٌ، يُناسِبُ مَكارِمَ الأخْلاَقِ ومَحَاسِنَ الشِّيَمِ (¬1)، ويُنافِرُ مَسَاوِئَ (¬2) الأخلاقِ ومَشَايِنَ الشِّيَمِ، وهوَ مِنْ عُلُومِ الآخِرَةِ لا مِنْ عُلُومِ الدنيا (¬3). فَمَنْ أرادَ التَّصَدِّي لإسْماعِ الحديثِ أو لإفادَةِ شيءٍ مِنْ عُلُومِهِ، فَلْيُقَدِّمْ تَصْحِيْحَ النِّيَّةِ وإخْلاَصَها وليُطَهِّرْ قَلْبَهُ مِنَ الأغراضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وأدناسِها، وليَحْذَرْ بَلِيَّةَ حُبِّ الرِّيَاسَةِ ورُعُوناتِها. وَقَدِ اخْتُلِفَ في السِّنِّ الذي إذا بلغَهُ اسْتُحِبَّ لهُ التَّصَدِّي لإسْماعِ الحديثِ والانْتِصَابِ لرِوايتِهِ. والذي نَقُولُهُ إنَّهُ متى احْتِيجَ إلى ما عِنْدَهُ (¬4)، اسْتُحِبَّ لهُ التَّصَدِّي لرِوايتِهِ ونَشْرِهِ في أيِّ سِنٍّ كانَ. ورُوِّيْنا عَنِ القاضِي الفاضِلِ أبي مُحَمَّدِ بنِ خَلاَّدٍ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّهُ قالَ (¬5): ((الذي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ طريقِ الأثَرِ والنَّظَرِ في الحدِّ الذي إذا بلَغَهُ الناقِلُ حَسُنَ بهِ أنْ يُحَدِّثَ، هُوَ أنْ يَسْتَوفِيَ الخمسينَ؛ لأنَّها انْتِهاءُ الكُهُولَةِ وفيها مُجْتَمَعُ الأشُدِّ. ¬
قالَ سُحَيْمُ بنُ وُثَيْلٍ (¬1): أخُو خَمْسِيْنَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... ونَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ (¬2) قالَ: ((وليسَ بِمُنْكَرٍ أنْ يُحَدِّثَ عِندَ اسْتِيْفاءِ الأرْبَعينَ؛ لأنَّها حَدُّ الاسْتواءِ ومُنْتَهى الكَمالِ؛ نُبِّئَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ ابنُ أربعينَ، وفي الأربعينَ تَتَناهَى عَزِيْمَةُ الإنْسَانِ وقُوَّتُهُ ويَتَوَفَّرُ عَقْلُهُ ويَجُودُ رَأْيُهُ)) (¬3). وأنْكَرَ القاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ عَلَى ابنِ خَلاَّدٍ، وقالَ: ((كَمْ مِنَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ ومَنْ بَعْدَهُمْ (¬4) مِنَ المحدِّثِينَ مِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلى هذا السِّنِّ (¬5) وماتَ قَبلَهُ، وقدْ نَشَرَ مِنَ الحديثِ والعِلْمِ ما لاَ يُحْصَى. هذا عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ تُوفِّيَ وَلَمْ يُكْمِلِ الأرْبَعينَ، وسَعيدُ بنُ جُبيرٍ لَمْ يَبلُغِ الخمْسِينَ. وكذلكَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، وهذا مالِكُ بنُ أنسٍ جلَسَ للنَّاسِ ابنَ نَيِّفٍ وعِشْرينَ، وقيلَ: ابنُ سَبْعَ عَشْرَةَ، والنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ وشُيُوخُهُ أحياءٌ. وكذلكَ مُحَمَّدُ بنُ إدْريسَ الشَّافِعِيُّ قَدْ أُخِذَ عنهُ العِلْمَ في سِنِّ الحدَاثَةِ وانتَصَبَ لِذَلِكَ)) (¬6)، واللهُ أعلم. ¬
قلتُ: ما ذكرَهُ ابنُ خَلاَّدٍ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ، وهوَ مَحمولٌ عَلَى أنَّهُ قالَهُ فِيْمَنْ يَتَصَدَّى للتَّحْدِيثِ ابْتِداءً مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ بَراعَةٍ (¬1) في العِلْمِ تَعَجَّلَتْ لهُ قَبْلَ السِّنِّ الذي ذَكَرَهُ. فهذا إنَّما يَنْبَغِي لهُ ذَلِكَ بعدَ اسْتِيْفاءِ السِّنِّ المذكُورِ فإنَّهُ مِظَنَّةُ الاحتياجِ إلى ما عِنْدَهُ. وأمَّا الذينَ ذَكَرَهُمْ عياضٌ مِمَّنْ حَدَّثَ قَبْلَ ذَلِكَ، فالظَّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ لبراعَةٍ مِنْهُم في العِلْمِ تَقَدَّمَتْ، ظَهَرَ لهُمْ مَعَها الاحْتِياجُ إليهِمْ فَحَدَّثُوا قبلَ ذَلِكَ، أو لأنَّهُم سُئِلُوا ذَلِكَ إمَّا بصريحِ السُّؤَالِ، وإمَّا بقَرِيْنَةِ الحالِ. وأمَّا السِّنُّ الذي إذا بلَغَهُ المحدِّثُ انْبَغَى (¬2) لهُ الإمْسَاكُ عَنِ التَّحْدِيْثِ فَهُوَ السِّنُّ الذي يُخْشَى عليهِ فيهِ مِنَ الْهَرَمِ والْخَرَفِ، ويُخافُ عليهِ فيهِ أنْ يُخَلِّطَ (¬3)، ويروى ما ليسَ مِنْ حديثِهِ والنَّاسُ في بُلُوغِ هذا السِّنُّ يَتَفاوتُونَ بحسبِ اخْتِلافِ أحْوَالِهِمْ، وهكذا إذا عَمِيَ وخَافَ أنْ يُدْخَلَ عليهِ ما ليسَ مِنْ حَدِيْثِهِ فليُمْسِكْ عَنِ الروايةِ. وقالَ ابنُ خَلاَّدٍ: ((أعْجَبُ إليَّ أنْ يُمْسِكَ في الثمانينَ؛ لأنَّهُ حَدُّ الْهَرَمِ؛ فإنْ كانَ عَقْلُهُ ثَابِتاً ورَأْيُهُ مُجْتَمِعاً يَعْرِفُ حديثَهُ ويَقُومُ بهِ وتَحرَّى أنْ يُحَدِّثَ احْتِسَاباً رَجَوْتُ لهُ خَيْراً)) (¬4). ووَجْهُ ما قالَهُ أنَّ مَنْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ ضَعُفَ حَالُهُ في الغالِبِ، وخِيفَ عليهِ الاخْتِلالُ والإخْلالُ أوْ أنْ لاَ يُفْطَنَ لهُ إلاَّ بعدَ أنْ يَخْلِطَ كما اتُّفِقَ لِغَيْرِ واحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُم: عبدُ الرَّزَّاقِ، وسَعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ. وقدْ حدَّثَ خَلْقٌ بَعْدَ مُجاوزَةِ هذا السِّنِّ فَسَاعَدَهُمُ التَّوْفِيقُ وصَحِبَتْهُمْ السَّلامَةُ، مِنْهُم: أنَسُ بنُ مالِكٍ وسَهْلُ بنُ سَعْدٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفَى مِنَ الصحابةِ، ومالِكٌ، واللَّيثُ، وابنُ عُيينةَ، وعليُّ ابنُ الجعْدِ (¬5)، في عددٍ جَمٍّ مِنَ المتَقَدِّمينَ والمتَأَخِّرينَ. وفيهم (¬6) غيرُ واحدٍ حَدَّثُوا بعدَ اسْتِيْفاءِ مئةِ سَنَةٍ، مِنْهُم: ¬
الحسَنُ بنُ عَرَفةَ، وأبو القاسمِ البَغَويُّ، وأبو إسحاقَ الْهُجَيْمِيُّ (¬1)، والقاضي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَريُّ (¬2) - رضي الله عنهم - أجمعينَ، واللهُ أعلمُ. ثُمَّ إنَّهُ لا يَنْبَغِي للمُحَدِّثِ أنْ يُحَدِّثَ بِحَضْرَةِ مَنْ هوَ أوْلَى منهُ (¬3) بذلكَ. وكانَ (¬4) إبراهيمُ والشَّعْبيُّ إذا اجْتَمعا لَمْ يَتَكَلَّمْ إبراهيمُ بشيءٍ (¬5). وزادَ بعضُهُمْ فَكَرِهَ الروايةَ ببلَدٍ فيهِ مِنَ المحدِّثينَ مَنْ هوَ أوْلَى منهُ لِسِنِّهِ أو لغيرِ ذَلِكَ. رُوِّيْنا عَنْ يحيى بنِ مَعينٍ، قالَ: ((إذا حدَّثْتُ في بلدٍ فيهِ مثلُ أبي مُسْهِرٍ (¬6) فيجبُ لِلِحْيَتِي أنْ تُحْلَقَ)) (¬7). وعنهُ أيضاً: ((إنَّ الذي يُحَدِّثُ بالبَلْدَةِ وفيها مَنْ هوَ أوْلَى بالتحديثِ منهُ (¬8) أحْمَقُ)) (¬9). ويَنْبَغِي للمحدِّثِ إذا التُمِسَ منهُ ما يَعْلَمُهُ عندَ غيرِهِ في بَلَدِهِ أوْ غيرِهِ بإسنادٍ أعلى مِنْ إسنادِهِ، أوْ أرْجَحَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أنْ يُعْلِمَ الطَّالِبَ بهِ ويُرْشِدَهُ إليهِ، فإنَّ الدينَ النصيحةُ. ولاَ يَمْتَنِعُ (¬10) مِنْ تَحْدِيثِ أحَدٍ لِكَوْنِهِ غيرَ صحيحِ النِّيَّةِ فيهِ؛ فإنَّهُ يُرجَى لهُ حُصُولُ النِّيَّةِ مِنْ بَعْدُ. رُوِّيْنا عَنْ مَعْمَرٍ (¬11) قالَ كانَ يُقَالُ: ((إنَّ الرجلَ لَيَطْلُبُ العِلْمَ لغيرِ اللهِ فَيَأْبَى ¬
عليهِ العِلمُ حَتَّى يكونَ للهِ عَزَّ وجَلَّ)) (¬1). وليكُنْ حريصاً عَلَى نَشْرِهِ مُبْتَغِياً جَزِيْلَ أجْرِهِ. وقدْ كانَ في السَّلَفِ - رضي الله عنهم - مَنْ يَتألَّفُ (¬2) الناسَ عَلَى حديثِهِ، مِنْهُم: عُرْوةُ بنُ الزبيرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- واللهُ أعلمُ (¬3). وليقتَدِ بِمَالِكٍ - رضي الله عنه - فيما أخْبَرَناهُ أبو القاسِمِ الفَرَاويُّ بِنَيْسَابورَ، قالَ: أخْبَرَنا (¬4) أبو المعالِي الفارِسِيُّ، قالَ: أخبرنا أبو بكرٍ البَيْهَقِيُّ الحافِظُ، قالَ: أخبرنا أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ، قالَ: أخبرني إسماعيلُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الفَضْلِ بنِ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا جَدِّي، قالَ: حَدَّثَنا إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ، قالَ: ((كانَ مالكُ بنُ أنسٍ إذا أرادَ أنْ يُحَدِّثَ تَوَضَّأَ (¬5)، وجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِراشِهِ وسَرَّحَ لِحْيَتَهُ، وتَمَكَّنَ في جُلُوسِهِ بِوَقارٍ وهَيْبَةٍ، وحدَّثَ))، فقِيلَ لهُ في ذَلِكَ؟ فقالَ: أُحِبُّ أنْ أُعَظِّمَ حديثَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬6) ولاَ أُحَدِّثُ إلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ مُتَمَكِّناً. وكانَ يَكْرَهُ أنْ يُحَدِّثَ في الطريقِ، أو هوَ قائِمٌ، أو يَسْتَعْجِلَ. وقالَ: أُحِبُّ أنْ أتَفَهَّمَ ما أُحَدِّثُ بهِ عَنْ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)). ورُوِيَ أيضاً عنهُ أنَّهُ كانَ يَغْتَسِلُ لِذَلِكَ ويَتَبَخَّرُ، ويَتَطَيَّبُ، فإنْ رَفَعَ أحدٌ صَوْتَهُ في مَجْلِسِهِ زَبْرَهُ (¬7)، وقالَ: قالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (¬8)، فَمَنْ رَفَعَ صَوتَهُ عِنْدَ حديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فكأنَّما رَفَعَ صَوْتَهُ فوقَ صَوتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬9). ¬
ورُوِّيْنا أو بَلَغَنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ الفقيهِ (¬1) أنَّهُ قالَ: ((القارئُ لِحَدِيثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ لأحَدٍ فإنَّهُ تُكْتَبُ عليهِ خَطِيئةٌ)). ويُسْتَحَبُّ لهُ مَعَ أهلِ مَجْلِسِهِ ما وَرَدَ عَنْ حَبِيْبِ بنِ أبي ثابِتٍ أنَّهُ قالَ: ((إنَّ مِنَ السُّنَّةِ إذا حَدَّثَ الرجلُ القومَ أنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً)) (¬2)، واللهُ أعلمُ. ولاَ يَسْرُدُ الحديثَ سَرْداً يَمْنَعُ السامِعَ مِنْ إدْراكِ بَعْضِهِ. وليَفْتَتِحْ مَجْلِسَهُ ولْيخَتَتِمْهُ بذِكْرٍ ودُعاءٍ يَليقَ بالحالِ. ومِنْ أبْلَغِ (¬3) ما يَفْتَتِحُهُ بهِ أنْ يقُولَ: الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ أكملُ الحمدِ عَلَى كُلِّ حالٍ، والصلاةُ والسلامُ الأتَمَّانِ عَلَى سَيِّدِ المرسلينَ، كُلَّما ذَكرَهُ (¬4) الذاكِرُونَ، وكُلَّما غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ (¬5) الغافِلُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عليهِ وعلى آلِهِ وسائِرِ النَّبيِّينَ وآلِ كُلٍّ، وسائِرِ الصَّالِحينَ، نِهايَةَ ما يَنْبَغِي أنْ يَسْأَلَهُ السَّائِلُونَ. ويُسْتَحَبُّ لِلْمُحَدِّثِ العارِفِ عَقْدُ مَجْلِسٍ لأملاءِ (¬6) الحديثِ، فإنَّهُ مِنْ أعلى مَراتِبِ الرَّاوِينَ (¬7)، والسماعُ فيهِ مِنْ أحْسَنِ وُجُوهِ التَّحَمُّلِ وأقْواهَا، ولْيَتَّخِذْ مُسْتَمْلِياً يُبَلِّغُ عنهُ إذا كَثُرَ الجمعُ، فذلكَ دَأْبُ أكابِرِ المحدِّثِيْنَ المتَصَدِّيْنَ لِمِثْلِ ذَلِكَ. ومِمَّنْ رُوِيَ عنهُ ذَلِكَ: مالِكٌ، وشُعْبَةُ، ووكِيْعٌ، وأبو عاصِمٍ، ويَزِيدُ بنُ هارونَ في عددٍ كثيرٍ مِنَ ¬
الأعلامِ السَّالِفينَ (¬1). وليَكُنْ مُسْتَمْلِيهِ مُحَصِّلاً مُتَيَقِّظاً، كَيْلا يَقَعَ في مِثْلِ ما رُوِّينا أنَّ يَزِيدَ بنَ هارونَ (¬2) سُئِلَ عَنْ حديثٍ، فقالَ: ((حَدَّثَنا بهِ عِدَّةٌ، فصاحَ بهِ مُسْتَمْلِيهِ: يا أبا خالدٍ! عِدَّةُ ابنُ مَنْ؟ فقالَ لهُ: عِدَّةُ ابنُ فَقَدْتُكَ!)) (¬3). وليَسْتَمْلِ عَلَى موضِعٍ مُرْتَفَعٍ (¬4) مِنْ كُرْسِيٍّ أو نَحْوِهِ، فإنْ لَمْ يجدْ اسْتَمْلَى قائِماً. وعليهِ أنْ يَتْبَعَ لَفْظَ المحدِّثِ فَيُؤَدِّيَهُ عَلَى وجْهِهِ (¬5) مِنْ غيرِ خِلاَفٍ. والفائِدَةُ في اسْتِمْلاءِ الْمُسْتَمْلِي، توصُّلُ مَنْ يَسْمَعُ لَفْظَ الْمُمْلِي عَلَى بُعْدٍ منهُ إلى تَفَهُّمِهِ وتَحَقُّقِهِ بإبْلاَغِ الْمُسْتَمْلِي. وأمَّا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ إلاَّ لَفْظَ الْمُسْتَمْلِي، فليسَ يستفيدُ بذلكَ جَوازُ روايتِهِ لذلكَ عَنِ الممْلِي مُطْلَقاً مِنْ غيرِ بيانٍ للحالِ فيهِ، وفي هذا كلامٌ قدْ تَقَدَّمَ في النوعِ الرابِعِ والعِشْرينَ. ويُسْتَحبُّ افْتِتاحُ المجلسِ بقراءةِ قارئٍ لشيءٍ مِنَ القُرآنِ العظيمِ (¬6)، فإذا فَرَغَ اسْتَنْصَتَ الْمُسْتَملِي أهلَ المجلِسِ (¬7) إنْ كانَ فيهِ لَغْطٌ (¬8) ثُمَّ يُبَسْمِلُ، ويَحْمدُ اللهَ تَبَارَكَ ¬
وتَعَالَى، ويُصَلِّي (¬1) عَلَى رسولِهِ (¬2) ويَتَحَرَّى الأبْلَغَ في ذَلِكَ ثُمَّ يقبلُ عَلَى المحدِّثِ ويَقُولُ: مَنْ ذَكَرْتَ أو ما ذَكَرْتَ رَحِمَكَ (¬3) اللهُ أو غَفَرَ اللهُ لك أو نحوَ ذَلِكَ. وكُلَّما انتَهَى إلى ذِكْرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عليهِ. وذَكَرَ الخطيبُ أنَّهُ يَرْفَعُ صَوتَهُ بذلكَ (¬4)، وإذا انتَهَى إلى ذِكْرِ الصحابيِّ قالَ: - رضي الله عنه -. ويحسُنُ بالمحدِّثِ الثَّناءُ عَلَى شيخِهِ في حالةِ الروايةِ عنهُ بما هو أهلٌ لهُ فقدْ فَعَلَ ذَلِكَ غيرُ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ والعلماءِ كما رُوِيَ عَنْ عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ أنَّهُ كانَ إذا حدَّثَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قالَ: ((حَدَّثَني البَحْرُ)) (¬5). وعنْ وكيعٍ أنَّهُ قالَ: ((حَدَّثَنا سُفيانُ أميرُ المؤمنينَ في الحديثِ)) (¬6). وأهمُّ مِنْ ذَلِكَ الدعاءُ لهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، فلا يَغْفَلَنَّ عنهُ. ولا بأسَ بذِكْرِ مَنْ يَرْوِي عنهُ بما يُعْرَفُ بهِ: - مِنْ لَقَبٍ: كَغُنْدَرٍ لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ - صاحِبِ شُعْبَةَ -، ولُوَيْنٌ (¬7) لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ سُليمانَ المِصِّيْصِيِّ (¬8). - أو نِسْبةٍ إلى أُمٍّ عُرِفَ بها: كَيَعْلَى بنِ مُنْيَةَ (¬9) الصحابيِّ، وهوَ ابنُ أُمَيَّةَ، ومُنْيَةُ: أُمُّهُ، وقيلَ: جَدَّتُهُ أُمُّ أبيهِ. ¬
- أو وَصْفٍ بِصَفَةِ نَقْصٍ في جَسَدِهِ عُرِفَ بها: كَسُليمانَ الأعْمَشِ، وعاصِمٍ الأحْوَلِ، إلاَّ ما يكرهُهُ مِنْ ذَلِكَ، كما في إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ المعروفِ بابنِ عُلَيَّةَ وهيَ أُمُّهُ، وقيلَ: أمُّ أُمِّهِ. رُوِّيْنا عَنْ يحيى بنِ مَعِيْنٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: ((حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ، فَنَهاهُ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، وقالَ: قُلْ: إسْماعيلُ بنُ إبراهيمَ، فإنَّهُ بَلَغَنِي أنَّهُ كانَ يَكرهُ أنْ يُنْسِبَ إلى أُمِّهِ، فقالَ: قدْ قَبِلْنا مِنْكَ يا مُعَلِّمَ الخيْرِ)) (¬1). وقَدِ اسْتُحِبَّ للمُمْلِي أنْ يَجْمَعَ في إمْلائِهِ بينَ الروايةِ عَنْ جماعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ مُقَدِّماً للأعْلَى إسْناداً أو الأولى مِن وَجْهٍ آخَرَ. ويُمْلي عَنْ كُلِّ شَيْخٍ مِنْهُم حديثاً واحداً ويَختارُ ما علا سَنَدُهُ وقَصُرَ مَتْنُهُ فإنَّهُ أحسَنُ وألْيَقُ، ويَنْتَقِي ما يمليهِ ويَتَحَرَّى المستفادَ منهُ، ويُنَبِّهُ عَلَى ما فيهِ مِنْ فائِدَةٍ وعُلُوٍّ وفَضيلةٍ، ويَتَجَنَّبُ ما لاَ تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الحاضِرِينَ، وما يُخْشَى فيهِ مِنْ دُخُولِ الوَهَمِ عليْهِمْ في فَهْمِهِ. وكانَ مِنْ عادةِ غيرِ واحدٍ مِنَ المذكُورينَ خَتْمُ الإمْلاَءِ بشيءٍ مِنَ الحِكَاياتِ والنَّوادِرِ والإنشاداتِ بأسَانِيدِها وذَلِكَ حسَنٌ. (¬2) وإذا قَصَّرَ المحدِّثُ عَنْ تَخْريجِ ما يُمْليهِ فاستعانَ ببعضِ حُفَّاظِ وَقْتِهِ فَخَرَّجَ لهُ فلا بأسَ بذلكَ. قالَ الخطيبُ: ((كانَ جماعةٌ مِنْ شُيوخِنا يفعلونَ ذَلِكَ)) (¬3). وإذا نَجِزَ (¬4) الإملاءُ فلا غِنًى (¬5) عَنْ مُقَابلتِهِ وإتْقانِهِ وإصْلاحِ (¬6) ما فَسَدَ منهُ بِزَيْغِ القَلَمِ وطُغْيانِهِ. ¬
النوع الثامن والعشرون معرفة آداب طالب الحديث
هذهِ عُيُونٌ مِنْ آدابِ المحدِّثِ اجْتَزَأنا بها مُعرضينَ عَنِ التَّطويلِ بما ليسَ مِنْ مهمَّاتِها أو هوَ ظاهِرٌ ليسَ مِنْ مشْتَبهاتِها، واللهُ الموفِّقُ (¬1)، وهوَ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّامِنُ والعِشْرُونَ مَعْرِفَةُ آدَابِ طَالِبِ الحدِيْثِ (¬2) وقَدِ انْدَرَجَ طَرَفٌ منهُ في ضِمْنِ ما تَقَدَّمَ. فأوَّلُ ما عليهِ: تحقيقُ الإخْلاَصِ، والحَذَرُ مِنْ أنْ يَتَّخِذَهُ وُصْلَةً إلى شيءٍ مِنَ الأغراضِ الدُّنيويَّةِ. رُوِّيْنا عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((مَنْ طَلَبَ الحديثَ لغيرِ اللهِ مُكِرَ بهِ)) (¬3)، وروِّيْنا عَنْ سُفْيانَ الثَّورِيِّ - رضي الله عنه - قالَ (¬4): ((ما أعلمُ عَمَلاً هُوَ أفضلُ مِنْ طَلَبِ الحديثِ لِمَنْ أرادَ اللهَ بهِ)) (¬5). ورُوِّيْنا نحْوَهُ عِنِ ابنِ المبارَكِ - رضي الله عنه - ومِنْ أقربِ الوجوهِ في إصلاحِ النِّيَّةِ فيهِ ما رُوِّيْنا عَنْ أبي عَمْرٍو إسْماعِيلَ بنِ نُجَيْدٍ أنَّهُ سَأَلَ أبا جَعفَرٍ أحمدَ بنِ حَمْدانَ، وكانا عَبْدَيْنِ صالِحَيْنِ، فقالَ لهُ: ((بأيِّ نِيَّةٍ أكْتُبُ الحديثَ؟ فقالَ: ألَسْتُمْ تَرْوونَ (¬6) أنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الصالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فرسُول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسُ الصَّالِحينَ)). ¬
وليسْأَلِ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى التَّيْسِيْرَ والتَّأييدَ والتَّوْفيقَ والتَّسْديدَ، وليَأْخَذْ نَفْسَهُ بالأخلاقِ الزَّكِيَّةِ والآدابِ الرْضِيَّةِ (¬1). فَقَدْ رُوِّيْنا عَنْ أبي عاصِمٍ النَّبيلِ قالَ: ((مَنْ طَلَبَ هذا الحديثَ فقدْ طلبَ أعلى أمورِ الدِّينِ، فيجبُ أنْ يكونَ خَيْرُ النَّاسِ)) (¬2). وفي السِّنِّ الذي يُسْتَحَبُّ فيهِ الابتداءُ بسماعِ الحديثِ وبِكِتْبتِهِ (¬3) اخْتِلافٌ سَبَقَ بيانُهُ في أوَّلِ النَّوعِ الرَّابِعِ والعِشْرِينَ. وإذا أخذَ فيهِ فَلْيُشَمِّرْ عَنْ ساقِ جُهْدِهِ واجْتِهادِهِ، ويَبْدأْ بالسَّماعِ مِنْ أسْنَدِ شُيوخِ (¬4) مِصْرِهِ ومِنَ الأوْلَى فَالأَوْلَى مِنْ حيثُ العِلْمُ أو الشُّهْرَةُ أو الشَّرَفُ أوْ غيرُ ذَلِكَ. وإذا فَرَغَ مِنْ سَماعِ العَوالِي والمهمَّاتِ التي ببلَدِهِ فَلْيَرْحَلْ إلى غيرِهِ. رُوِّيْنا عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ أنَّهُ قالَ: ((أربَعَةٌ لاَ تُؤْنِسْ مِنْهُم رُشْداً: حارسُ الدَّرْبِ، ومُنادِي القاضي، وابنُ المحدِّثِ، ورجلٌ يَكْتُبُ في بلدِهِ ولا يَرْحَلُ في طَلَبِ الحديثِ)) (¬5). ورُوِّيْنا عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قيلَ لهُ: ((أيَرْحَلُ الرجلُ في طَلَبِ العِلُوِّ؟ فقالَ: بَلَى واللهُ شديداً، لقَدْ كانَ علقَمةُ والأسْودُ يَبْلُغُهُما الحديثُ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - فلا يُقْنِعُهُما حَتَّى يَخْرُجا إلى عُمَرَ فيَسْمعانَهُ (¬6) منهُ))، واللهُ أعلمُ. وعنْ إبراهيمَ بنِ أدْهَمَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالَى يَدْفَعُ البلاءَ عَنْ هذهِ الأُمَّةِ برحلةِ أصْحابِ الحديثِ)) (¬7). ولا يَحْمِلَنَّهُ الحرصُ والشَّرَهُ عَلَى التَّسَاهُلِ في السماعِ والتَّحَمُّلِ والإخلاَلِ بما يُشْتَرَطُ عليهِ (¬8) في ذَلِكَ عَلَى ما تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. ¬
ولْيَسْتَعْمِلْ ما يَسْمَعُهُ مِنَ الأحَادِيثِ الوارِدَةِ بالصَّلاةِ والتَّسْبيحِ وغيرِهِما مِنَ الأعمالِ الصَّالِحَةِ فذَلِكَ زَكاةُ الحديثِ عَلَى ما رُوِّيْناهُ (¬1) عَنْ العَبْدِ الصالِحِ بِشْرِ بنِ الحارِثِ الحافِي (¬2) - رضي الله عنه -، ورُوِّيْنا عنهُ أيضاً أنَّهُ قالَ: ((يا أصحابَ الحديثِ! أدُّوا زكاةَ هذا الحديثِ، اعْمَلُوا مِنْ كُلِّ مِئَتَي حديثٍ بِخَمْسةِ أحاديثَ)) (¬3). ورُوِّيْنا عَنْ عَمْرِو بنِ قَيْسٍ الْمُلائِيِّ (¬4) - رضي الله عنه - قالَ: إذا بَلَغَكَ شيءٌ مِنَ الخيرِ فاعْمَلْ بهِ - ولوْ مَرَّةً - تَكُنْ مِنْ أهلِهِ)) (¬5). ورُوِّيْنا عَنْ وكِيعٍ، قالَ: ((إذا أردْتَ أنْ تَحفظَ الحديثَ فاعْمَلْ بهِ)) (¬6). وَلْيُعَظِّمْ شَيخَهُ ومَنْ يَسْمَعُ (¬7) منهُ، فذَلِكَ مِنْ إجْلالِ الحديثِ والعِلْمِ، ولاَ يُثْقِلُ عليهِ ولاَ يُطَوِّلُ بحيثُ يُضْجِرُهُ، فإنَّهُ يُخْشَى عَلَى فاعِلِ ذَلِكَ أنْ يُحْرَمَ الانْتِفاعَ. وقَدْ رُوِّيْنا عَنِ الزُّهْرِيِّ أنَّهُ قالَ: ((إذا طالَ المجْلِسُ، كانَ لِلشَّيْطانِ فيهِ نَصِيبٌ)) (¬8). ومَنْ ظَفِرَ مِنَ الطَّلَبةِ بِسَماعِ شَيْخٍ فَكَتَمَهُ غيرَهُ لِيَنْفردَ بهِ عَنْهُم، كانَ جَدِيْراً بأنْ لا يَنْتَفِعَ بهِ، وذَلِكَ مِنَ اللُّؤْمِ الذي يَقَعُ فيهِ جَهَلَةُ الطَّلَبَةِ الوُضَعاءِ. ومِنْ أوَّلِ فائِدَةِ طَلَبِ الحديثِ الإفادةُ. رُوِّيْنا عَنْ مالِكٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ (¬9): ((مِنْ بَرَكَةِ الحديثِ إفادَةُ بَعضِهِمْ بَعْضاً)) (¬10). ورُوِّيْنا عَنْ إسْحاقَ بنِ إبراهِيمَ بنِ راهَوَيْهِ أنَّهُ قالَ لبعضِ مَنْ سَمِعَ منهُ في ¬
جماعَةٍ: ((انْسَخْ مِنْ كِتابِهِم ما قدْ قَرَأْتُ، فقالَ: إنَّهُمْ لا يُمَكِّنُونَني، قالَ إذَنْ واللهِ لاَ يُفْلِحُونَ (¬1)، قدْ رأيْنا أقْواماً مَنَعُوا هذا السَّماعَ فواللهِ ما أفْلَحُوا ولا أنْجَحُوا)). قُلْتُ: وقَدْ رأيْنا نحنُ أقواماً مَنَعُوا السَّماعَ فما أفْلَحُوا ولا أنْجَحُوا، ونَسْأَلُ اللهَ العافيةَ، واللهُ أعلمُ. ولاَ يَكُنْ مِمَّنْ يَمْنَعُهُ الحياءُ أو الكِبَرُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الطَلَبِ. وقدْ رُوِّيْنا (¬2) عَنْ مُجَاهِدٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((لا يَتَعَلَّمْ مُسْتَحِيٍ (¬3) ولا مُسْتَكْبِرٌ)). ورُوِّيْنا عَنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ وابنِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أنَّهُما قالا: ((مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ)) (¬4). ولا يأْنَفُ مِنْ أنْ يَكْتُبَ عَمَّنْ (¬5) دُونَهُ (¬6) ما يَسْتَفِيدُهُ منهُ. رُوِّيْنا عَنْ وكيعِ بنِ الجرَّاحِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((لا يَنْبُلُ الرجُلُ مِنْ أصحابِ الحديثِ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هوَ فَوْقَهُ وعَمَّنْ هوَ مِثْلُهُ، وعَمَّنْ هوَ دُونَهُ)) (¬7)، وليسَ بِمُوَفَّقٍ مِنْ ضَيَّعَ شيئاً مِنْ وَقْتِهِ في الاسْتِكْثارِ مِنَ الشُّيُوخِ لِمُجَرَّدِ اسمِ الكَثْرَةِ وصِيْتِها. وليسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أبي حاتِمٍ الرَّازِيِّ: ((إذا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ (¬8)، وإذا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ)) (¬9). ¬
وَلْيَكْتُبْ وَلْيَسْمَعْ ما يَقَعُ إليهِ مِنْ كِتابٍ أوْ جُزْءٍ عَلَى التمامِ، ولاَ يَنْتَخِبْ، فقدْ قالَ ابنُ المبارَكِ - رضي الله عنه -: ((ما انْتَخَبْتُ عَلَى عالِمٍ قَطُّ إلاَّ نَدِمْتُ)) (¬1). ورُوِّيْنا عنهُ أنَّهُ قالَ: ((لا يُنْتَخَبُ عَلَى عالِمٍ إلاَّ بِذَنْبٍ)). ورُوِّيْنا أو بَلَغَنا عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ أنَّهُ قالَ: ((سَيَنْدَمُ المنْتَخِبُ في الحديثِ حينَ لا تَنْفَعُهُ النَّدامةُ)) (¬2). فإنْ ضاقَتْ بهِ الحالُ عَنِ الاستِيعابِ، وأُحْوِجَ إلى الانتِقَاءِ والانْتِخابِ تَوَلَّى ذَلِكَ بنفسِهِ إنْ كانَ أهْلاً مُمَيِّزاً عارِفاً بما يَصْلُحُ للانْتِقاءِ والاخْتِيارِ. وإنْ كانَ قاصِراً عَنْ ذَلِكَ اسْتَعانَ ببعْضِ الْحُفَّاظِ لِيَنْتَخِبَ لهُ. وقدْ كانَ جماعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ مُتَصَدِّيْنَ للانْتِقاءِ عَلَى الشُّيُوخِ والطَّلَبَةِ تَسْمَعُ وتَكْتُبُ بانْتِخابِهِمْ، مِنْهُم: إبراهيمُ بنُ أرُومَةَ (¬3) الأصْبَهانِيُّ، وأبو عبدِ اللهِ الْحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ المعروفُ بِعُبَيْدٍ العِجْلِ (¬4)، وأبو الحسَنِ الدَّارقطْنيُّ، وأبو بكرٍ الجِعَابِيُّ (¬5) في آخَرِينَ. وكانتْ العَادَةُ جارِيَةً برَسْمِ الحَافِظِ علامةً في أصْلِ الشَّيْخِ ¬
عَلَى ما يَنْتَخِبُهُ، فكانَ النُّعَيْمِيُّ (¬1) أبو الحسَنِ يُعَلَّمُ بِصَادٍ مَمْدُودَةٍ، وأبو مُحَمَّدٍ الخلاَّلُ (¬2) بِطاءٍ ممدودةٍ، وأبو الفَضْل الفَلَكيُّ (¬3) بصورةِ همزتينِ، وكُلُّهُم يُعلِّمُ بِحِبْرٍ في الحاشيةِ اليُمنى من الورقةِ، وَعَلَّمَ الدارقطنيُّ في الحاشيةِ اليُسرى بِخَطٍ عريضٍ بالحمرةِ. وكانَ أبو القاسمِ اللالكائيُّ (¬4) الحافظُ يُعلِّمُ بخطٍّ صغيرٍ بالحُمرةِ عَلَى أوَّلِ إسنادِ الحديثِ (¬5) ولا حَجْرَ في ذلكَ ولِكُلٍ الخيارُ. ثُمَّ لاينْبَغِي لطالبِ الحديثِ أن يقتصرَ عَلَى سَماعِ الحديثِ وكَتْبِهِ دونَ مَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ، فيكونَ قد أتعبَ نَفْسَهُ مِنْ غيرِ أن يظفرَ بطائلٍ، وبغيرِ أنْ يحصلَ في عدادِ أهلِ الحديثِ، بل لَمْ يَردْ عَلَى أنْ صارَ مِنَ المتشبِهينَ المنقوصينَ المُتَحَلّينَ بما هُمْ منهُ عاطِلونَ. قُلْتُ: أنْشَدَنِي أبو المُظَفَّرِ بنُ الحافظِ أبي سعْدٍ السمعانيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - لَفْظاً بمدينةِ مَرْوَ، قالَ: أنْشَدَنا والدِي لَفْظاً أو قِراءةً عليهِ، قالَ: أنْشَدَنا مُحَمَّدُ بنُ ناصرٍ السَّلاميُّ (¬6) منْ لفظِهِ، قالَ: أنْشَدَنا الأديبُ الفاضلُ فارسُ بنُ الحُسينِ لِنَفْسِهِ: يا طَالبَ العِلْمِ الذي ... ذهبَتْ بِمُدَّتِهِ الرِّوايهْ كُنْ في الرِّوايةِ ذَا العِنا ... يَةِ بالروايةِ والدِّرايهْ وَاروِ القليلَ وراعِهِ ... فالعِلمُ لَيسَ لَهُ نِهَايهْ ¬
وليُقَدِّمِ (¬1) العنايَةَ بـ" الصَحِيحَينِ "، ثُمَّ بـ" سُنَنِ أبي داودَ "، و" سُنَنِ النَّسائِيِّ " و " كتابِ التِّرمذِيِّ "، ضَبْطَاً لِمُشْكِلِها وَفَهْماً لِخَفيِّ مَعانيها، ولا يُخْدَعَنَّ عنْ كتابِ " السُنَنِ الكَبيرِ " للبيهقيِّ فإنا لا نعلمُ مِثْلَهُ في بابِه. ثُمَّ بِسائرِ ما تَمَسُّ حاجةُ صاحِبِ الحديثِ إليهِ منْ كُتُبِ المساندِ (¬2)، كـ" مُسْنَدِ أحمدَ "، ومنْ كُتبِ الجوامِعِ المُصَنَّفةِ في الأحكامِ المشتمِلةِ عَلَى المسانيدِ وغيرها. و" مُوَطَّأُ مالكٍ " هوَ المُقَدَّمُ (¬3) منها. ومِنْ كتبِ عِللِ الحديثِ ومنْ أجودِها: كتابُ " العللِ " عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبلٍ، وكتابُ " العللِ " عنِ الدارَقُطْنيِّ. ومنْ كُتُبِ معرفةِ الرجالِ وتواريخِ المُحَدِّثينَ، ومِنْ أفْضَلِها: " تاريخُ البخاريِّ الكبيرِ "، و " كتابِ الجرحِ والتعديلِ " لابن أبي حاتِمٍ. ومِنْ كُتُبِ الضَبْطِ لِمُشْكِلِ الأسماءِ، ومنْ أكملِها " كتابُ الإكمالِ " لأبي نَصْرِ بنِ مَاكُوْلا. وليكُنْ كلّما مَرَّ بهِ اسمٌ مُشْكِلٌ، أو كلمةٌ منْ حديثٍ مشْكِلَةٌ بَحَثَ عنهاوأودعَها قَلْبَهُ، فإنهُ يجتمِعُ لهُ بذلكَ عِلْمٌ كثيرٌ فيُ يُسْرٍ. وليَكُنْ تحفُّظُهُ (¬4) للحديثِ عَلَى التدريجِ، قَليلاً قليلاً معَ الأيامِ والليالي فذلكَ أحرى بأنْ يُمَتَّعَ بِمحفوظهِ. وممنْ وَرَدَ ذلكَ عنهُ منْ حُفَّاظِ الحديثِ المُتقدِّمينَ: شُعبةُ، وابنُ عُلَيَّةَ، ومَعْمَرٌ. ورُوِّينا عنْ مَعْمَرٍ، قالَ: سَمِعْتُ الزُّهريِّ يقولُ: ((منْ طلَبَ العِلْمَ جُمْلَةً، فاتهُ جُملةً، وإنَّما يُدْرَكُ العِلمُ حديثاً وحديثينِ)) (¬5). ¬
وليكنِ الإتقانُ منْ شأنهِ، فقدْ قالَ عبدُ الرحمانِ بنِ مَهْدِيٍّ: ((الحِفْظُ: الإتقانُ)) (¬1). ثُمَّ إنَ المُذاكرةَ بما يتحفَّظُهُ منْ أقوى أسبابِ الإمتاعِ بهِ. رُوِّينا عنْ عَلْقمةَ النَّخَعيِّ قالَ: ((تَذَاكَروا الحديثَ، فإنَّ حياتَهُ ذِكرُهُ)) (¬2)، وعن إبراهيمَ النَّخَعيِّ قالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أن يَحْفَظَ الحديثَ فليُحدِّثْ بهِ، وَلَوْ أنْ يُحَدِّثَ بهِ مَنْ لايَشْتهيهِ)) (¬3). وليَشْتَغِلْ بالتخريجِ والتأليفِ والتَّصنيفِ إذا استعدَّ لِذَلِكَ وتأهَّلَ لهُ، فإنهُ كما قالَ الخطيبُ الحافظُ: يُثَبِّتُ الحِفْظَ، ويُذَكِّي القلبَ، ويشْحَذُ الطَّبعَ، ويجيدُ البيانَ، ويكشِفُ المُلْتَبِسَ، ويُكسِبُ (¬4) جميلَ الذكرِ، ويخلِّدُهُ إلى آخرِ الدهرِ (¬5)، وقَلَّما يَمْهَرُ في عِلْمِ الحديثِ وَيَقِفُ عَلَى غوامِضِهِ ويَسْتَبينُ الخَفِيَّ مِنْ فوائِدهِ إلاَّ مَنْ فَعَلَ ذلكَ. وَحَدَّثَ الصُّوريُّ (¬6) الحافِظُ مُحَمَّدُ بنُ عليٍّ قالَ: رأيتُ أبا مُحَمَّدٍ عبدَ الغنيِّ بنَ سعيدٍ الحافظَ في المنامِ، فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ! خَرِّجْ وصَنِّفْ قَبْلَ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ. هذا أنا تَرانِي قَدْ حِيْلَ بَيْنِي وبينَ ذَلِكَ (¬7). ولِلْعلماءِ بالحديثِ في تَصْنيفِهِ طَرِيقتانِ: إحْداهُما: التَّصْنيفُ عَلَى الأبوابِ، وهو تَخريجُهُ عَلَى أحكامِ الفقهِ وغيرِها، وتَنْوِيْعُهُ أنواعاً، وجمعُ ما وَرَدَ في كُلِّ حُكْمٍ وكُلِّ نوعٍ في بابٍ فبابٍ. ¬
والثَّانِيَةُ: تَصنيفُهُ عَلَى المسانِيدِ، وجمعُ حديثِ كُلِّ صَحابيٍّ وَحْدَهُ وإنِ اخْتَلَفتْ أنواعُهُ، ولِمَنِ اخْتارَ ذَلِكَ أنْ يُرَتِّبَهُمْ (¬1) عَلَى حروفِ المعجمِ في أسْمائِهِمْ، ولهُ أنْ يُرَتِّبَهُم عَلَى القبائِلِ، فَيَبْدأَ ببني هاشِمٍ ثُمَّ بالأقْرَبِ نَسَباً مِنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولهُ أنْ يُرَتِّبَ عَلَى سَوَابِقِ الصَّحابَةِ، فَيَبْدأَ بالعَشَرَةِ، ثُمَّ بأهْلِ بَدْرٍ، ثُمَّ بأهلِ الْحُديْبِيَةِ، ثُمَّ بِمَنْ أسْلَمَ وهَاجَرَ بينَ الْحُديْبِيَةِ وفَتْحِ مَكَّةَ، ويَخْتِمُ بأصَاغِرِ الصَّحَابَةِ كأبي الطُّفَيْلِ ونِظرائِهِ، ثُمَّ بالنِّسَاءِ، وهذا أحْسَنُ، والأوَّلُ أسْهلُ. وفي ذَلِكَ مِنْ وُجوهِ التَّرْتيبِ غيرُ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ مِنْ أعلى المراتِبِ في تَصنيفِهِ تَصنيفَهُ مُعَلَّلاً (¬2)، بأنْ يَجْمَعَ في كُلِّ حديثٍ طُرُقَهُ واخْتِلافَ الرواةِ فيهِ، كما فَعَلَ يَعْقُوبُ بنُ شَيْبَةَ في " مُسندِهِ ". ومِمَّا يَعْتَنُونَ بهِ في التَّأليفِ جَمْعُ الشُّيُوخِ، أي: جَمْعُ حديثِ شُيوخٍ مَخْصُوصِينَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُم عَلَى انفرَادِهِ. قالَ عُثمانُ بنُ سَعِيدٍ الدارميُّ: ((يُقَالُ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ حديثَ هَؤُلاءِ الخمسَةِ فهوَ مُفْلِسٌ في الحديثِ: سُفْيَانُ، وشُعْبَةُ، ومالِكٌ، وحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وابنُ عُيينةَ، وهمْ أصُولُ الدينِ)) (¬3). وأصْحابُ الحديثِ يَجْمَعُونَ حديثَ خَلقٍ كثيرٍ غيرَ الذينَ ذَكَرَهُمُ الدارميُّ، مِنْهُم: أيُّوبُ السّختيانيُّ، والزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، ويَجْمَعُونَ أيضاً التَّراجِمَ، وهيَ أسانِيدُ يَخصُّونَ (¬4) ما جاءَ بها بالجمْعِ والتأليفِ، مثلُ: تَرْجَمةِ مالِكٍ عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، وتَرْجَمةِ سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، وتَرجَمةِ هِشَامِ بنِ عُرْوةَ، عَنْ أبيهِ، عَنْ عائشَةَ، في أشباهٍ لِذَلِكَ كثيرةٍ، ويَجْمَعُونَ أيْضاً أبواباً مِنْ أبوابِ الكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الجامِعَةِ للأحْكامِ فَيُفْرِدونَها بالتَّأْلِيفِ، فَتَصِيْرُ كُتُباً مُفْرَدَةً، نحوُ: بابِ رُؤْيةِ اللهِ - عَزَّوَجَلَّ -، وبابِ رَفْعِ اليدينِ، وبابِ القراءةِ خَلْفَ الإمامِ، وغيرِ ذَلِكَ. ويُفْرِدونَ ¬
أحاديثَ فَيَجْمَعُونَ طُرُقَها في كُتُبٍ مُفْرَدةٍ، نحوُ: طُرُقِ حديثِ قَبْضِ العِلْمِ، وحديثِ الغُسْلِ (¬1) يَومَ الْجُمُعَةِ، وغيرِ ذَلِكَ. وكثيرٌ مِنْ أنواعِ كِتابنا هذا قَدْ أفرَدُوا أحاديْثَهُ بالْجَمْعِ والتَّصْنِيفِ. وعليهِ في كُلِّ ذَلِكَ، تَصْحِيحُ القَصْدِ والْحَذَرُ مِنْ قَصْدِ المكاثَرَةِ ونَحْوِهِ. بَلَغَنا عَنْ حَمْزَةَ بنِ مُحَمَّدٍ الكِنانِيِّ (¬2) أنَّهُ خَرَّجَ حديثاً واحِداً مِنْ نَحوِ مِئتَي طريقٍ، فأعْجبَهُ ذَلِكَ، فرأى يَحْيى بنَ مَعينٍ في مَنامِهِ، فَذَكَرَ لهُ ذَلِكَ، فقالَ لهُ: ((أخْشَى أنْ يَدْخُلَ هذا تَحْتَ: {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (¬3))) (¬4). ثُمَّ لِيحذَرْ أنْ يُخرِجَ إلى الناسِ ما يُصَنِّفُهُ إلاَّ بَعْدَ تَهْذِيْبِهِ وتَحْريرِهِ وإعادةِ النَّظَرِ فيهِ وتَكْرِيْرِهِ (¬5). وليتَّقِ أنْ يَجْمَعَ ما لَمْ يَتَأَهَّلْ بَعْدُ لاجْتِناءِ ثَمَرَتِهِ واقْتِنَاصِ فائِدةِ جَمْعِهِ؛ كَيْلا يَكونَ حُكْمُهُ مَا رُوِّيْناهُ (¬6) عَنْ عليِّ بنِ المدينِيِّ، قالَ: إذا رأيْتَ الْحَدَثَ أوَّلَ مَا يَكْتُبُ الحدِيثُ يجمعُ حديثَ ((الغُسْلِ)) وحديثَ: ((مَنْ كَذَبَ))؛ فاكْتُبْ عَلَى قَفَاهُ لا يُفْلِحُ)) (¬7). ثُمَّ إنَّ هذا الكتابَ مَدْخَلٌ إلى هذا الشَّأنِ، مُفْصِحٌ عَنْ أُصُولِهِ وفُروعِهِ، شارِحٌ (¬8) لمصطلحاتِ أهلهِ ومقاصِدِهم ومُهمَّاتهِم التي ينْقُصُ المُحَدِّثُ بالجهلِ بها نقْصاً فاحِشَاً، فهو إن شاءَ اللهُ جديرٌ بأنْ تُقَدَّمَ العنايةُ بهِ، ونسألُ اللهَ سبحانَهُ فَضْلَهُ العظيمَ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع التاسع والعشرون معرفة الإسناد العالي والنازل
النَّوْعُ التَّاسِعُ والعِشْرُونَ مَعْرِفَةُ الإسْنَادِ العَالِي والنَّازِلِ (¬1) أصْلُ الإسْنادِ أوَّلاً خَصِيصَةٌ (¬2) فاضِلةٌ مِنْ خَصَائِصِ هذهِ الأُمَّةِ (¬3)، وسُنَّةٌ بالِغَةٌ مِنَ السُّنَنِ المؤَكَّدةِ. رُوِّيْنا مِنْ غيرِ وَجْهٍ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ - رضي الله عنه -، أنَّهُ قالَ: ((الإسْنادِ مِنَ الدِّيْنِ، لَوْلاَ الإسْنادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ ما شَاءَ)) (¬4). وطَلَبُ العُلُوِّ فيهِ سُنَّةٌ أيضاً، ولِذَلِكَ اسْتُحِبَّتِ الرِّحْلَةُ فيهِ - عَلَى ما سَبَقَ ذِكْرُهُ (¬5) -. قالَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه -: ((طَلَبُ الإسْنادِ العالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ سَلَفَ)) (¬6). وقَدْ رُوِّيْنا أنَّ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ - رضي الله عنه - قيلَ لهُ في مَرَضِهِ الذي ماتَ فيهِ: ((ما تَشْتَهِي؟ قالَ بيتٌ خالي وإسْنادٌ عالِي)) (¬7). ¬
قلتُ: العُلُوُّ يُبْعِدُ الإسْنادَ مِنَ الخللِ؛ لأنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ رِجالِهِ يحتملُ أنْ يَقَعَ الخللُ مِنْ جِهَتِهِ سَهْواً أوْ عَمْداً، ففي قِلَّتِهِمْ قِلَّةُ جِهاتِ الخللِ، وفي كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةُ جِهاتُ الخللِ، وهذا جَلِيٌّ واضِحٌ. ثُمَّ إنَّ عُلُوَّ المطلوبِ في رِوايةِ الحديثِ عَلَى أقْسامٍ خَمْسَةٍ (¬1): أوَّلُها: القُرْبُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِسْنادٍ نظيفٍ غيرِ ضعيفٍ، وذَلِكَ مِنْ أجَلِّ أنواعِ العُلُوِّ. وقَدْ رُوَّيْنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أسْلَمَ الطُّوسِيِّ الزَّاهِدِ (¬2) العَالِمِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((قُرْبُ الإسْنادِ قُرْبٌ أو قُرْبَةٌ إلى اللهِ عَزَّوَجَلَّ)) (¬3). وهذا كما قالَ؛ لأنَّ قُرْبَ الإسْنادِ قُرْبٌ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والقُرْبُ إليهِ قُرْبٌ إلى (¬4) اللهِ عَزَّوَجَلَّ. الثَّاني: - وهوَ الذي ذَكَرَهُ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ (¬5) -: القُرْبُ مِنْ إمامٍ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ وإنْ كَثُرَ العددُ مِنْ ذَلِكَ الإمامِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فإذا وُجِدَ ذَلِكَ في إسْنادٍ، وُصِفَ بالعُلُوِّ نَظَراً إلى قُرْبِهِ مِنْ ذَلِكَ الإمامِ وإنْ لَمْ يَكُنْ عالياً بالنسْبَةِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وكلامُ الحاكِمِ يُوهِمُ أنَّ القُرْبَ مِنْ رَسُولِ اللهِ لا يُعَدُّ مِنَ العُلُوِّ المطلوبِ أصْلاً؛ وهذا غَلَطٌ مِنْ قائِلِهِ؛ لأنَّ القُرْبَ منهُ - صلى الله عليه وسلم - بإسْنادٍ نَظِيْفٍ غيرِ ضَعِيْفٍ أوْلَى بذلكَ. ولا يُنازِع في هذا مَنْ لهُ مُسْكَةٌ (¬6) مِنْ مَعرفةٍ، وكأنَّ الحاكِمَ أرادَ بكلامِهِ ذَلِكَ إثباتَ ¬
العُلُوِّ للإسْنادِ بِقُرْبِهِ (¬1) مِنْ إمامٍ، وإنْ لَمْ يكُنْ قَريباً إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والإنكارَ عَلَى مَنْ يُراعي في ذَلِكَ مُجَرَّدَ قُرْبِ الإسنادِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وإنْ كانَ إسناداً ضَعِيْفاً، ولهذا مَثَّلَ ذَلِكَ بحديثِ أبي هُدْبةَ، ودِينارٍ، والأشَجِّ، وأشْبَاهِهِمْ (¬2)، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: العُلُوُّ (¬3) بالنِّسبةِ إلى روايةِ " الصحيحينِ "، أو أحدِهِما، أو غيرِهِما مِنَ الكُتُبِ المعروفةِ المعتمَدةِ، وذَلِكَ ما اشتهرَ آخِراً مِنَ الموافَقاتِ، الأبدالِ، والمسَاواةِ، والمصافحةِ. وقَدْ كَثُرَ اعْتِناءُ المحدِّثينَ المتأخِّرينَ بهذا النوعِ، ومِمَّنْ وجدْتُ هذا النوعَ في كَلامِهِ أبو بكرٍ الخطيبُ الحافِظُ وبعضُ شُيُوخِهِ، وأبو نَصْرِ ابنُ ماكُولا (¬4)، وأبو عبدِ اللهِ الْحُمَيْدِيُّ، وغيرُهُمْ مِنْ طَبَقَتِهِمْ ومِمَّنْ جاءَ بَعْدَهُمْ. أمَّا الموافَقَةُ: فهيَ أنْ يَقَعَ لكَ الحديثُ عَنْ شَيْخِ مُسْلِمٍ فيهِ مَثَلاً عالياً بعددٍ أقَلَّ مِنَ العدَدِ الذي يَقَعُ لكَ بهِ ذَلِكَ الحديثُ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ إذا رَوَيْتَهُ عَنْ مُسْلِمٍ عنهُ. وأمَّا البَدَلُ: فَمِثْلُ أنْ يَقَعَ لكَ هذا العُلُوُّ عَنْ شيخٍ غَيْرِ شَيْخِ مُسْلِمٍ، هوَ مِثلُ شيخِ مُسْلِمٍ في ذَلِكَ الحديثِ. وقدْ يُرَدُّ البَدَلُ إلى الموافَقَةِ، فيُقَالُ فيما ذكَرْناهُ: إنَّهُ موافقةٌ عالِيةٌ في شَيْخِ شَيْخِ مُسْلِمٍ وَلَوْ لَمْ يكُنْ ذَلِكَ عالياً فهوَ أيضاً مُوافقةٌ وبَدَلٌ، لَكِنْ لاَ يُطْلَقُ عليهِ اسمُ الموافقةِ والبدَلِ لِعَدَمِ الالتِفاتِ إليهِ. وأمَّا المسَاواةُ: فهيَ في أعْصارِنا أنْ يقلَّ العدَدُ في إسْنادِكَ لا إلى شَيْخِ مُسْلِمٍ وأمثالِهِ، ولا إلى شَيْخِ شَيْخِهِ، بلْ إلى مَنْ هوَ أبعدُ مِنْ ذَلِكَ كالصَّحَابِيِّ أوْ مَنْ قارَبَهُ، ورُبَّما كانَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بحيثُ يَقَعُ بَيْنَكَ وبَيْنَ الصَّحابيِّ مَثَلاً مِنَ العَدَدِ مِثْلُ ما وقَعَ مِنَ العدَدِ بَيْنَ مُسْلِمٍ وبَيْنَ ذَلِكَ الصَّحابيِّ فَتَكُونُ (¬5) بذلكَ مُسَاوِياً لِمُسْلِمٍ مَثَلاً في قُرْبِ الإسْنادِ وعدَدِ رِجَالِهِ. ¬
وأمَّا المصَافَحَةُ (¬1): فهيَ أنْ تَقَعَ هذهِ المساواةُ - التي وصَفْناها - لشَيخِكَ لا لكَ فيقعَ ذَلِكَ لكَ مُصَافحَةً، إذْ تَكُونُ كَأَنَّكَ لَقِيْتَ مُسْلِماً في ذَلِكَ الحديثِ وصَافحتَهُ بهِ، لِكَوْنِكَ قدْ لَقِيْتَ شَيْخَكَ المساوي لِمُسْلِمٍ. فإنْ كانتْ المساواةُ لِشَيْخِ شَيْخِكَ كانتِ المصَافَحةُ لِشَيْخِكَ، فَتَقُولُ: كأنَّ شَيْخِي سَمِعَ مُسْلِماً وصَافَحَهُ. وإنْ كانَتِ المسَاواةُ لِشَيْخِ شَيْخِ (¬2) شَيْخِكَ، فالمصَافَحةُ لِشَيْخِ شَيْخِكَ، فتقولُ فيها: كأنَّ شَيْخَ شَيْخِي سَمِعَ مُسْلِماً وصَافَحَهُ، ولكَ (¬3) ألاَّ تَذكرَ لكَ في ذَلِكَ نِسْبَةً، بلْ تَقُولُ: كأنَّ فُلاناً سَمِعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، مِنْ غيرِ أنْ تَقُولَ فيهِ: شَيْخِي أو شَيْخُ شَيْخِي. ثُمَّ لا يخفَى عَلَى المتأَمِّلِ أنَّ في المساواةِ والمصَافَحةِ الواقِعَتَينِ لكَ لا يَلْتَقِي إسْنادُكَ وإسْنادُ مُسْلِمٍ أو نحوِهِ إلاَّ بَعيداً عَنْ شَيْخِ مُسْلِمٍ، فيلْتَقِيانِ في الصحابيِّ أو قَرِيْباً منهُ، فإنْ كَانتِ المصَافَحَةُ التي تَذْكُرُها ليستْ لكَ بلْ لِمَنْ فَوقَكَ مِنْ رِجالِ إسْنادِكَ أمْكَنَ الْتِقَاءُ الإسْنادَيْنِ فيها في شَيْخِ مُسْلِمٍ أو أشْباهِهِ وداخَلَتِ المصَافَحةُ حِيْنَئذٍ الموافقةُ، فإنَّ مَعْنَى الموافقةِ راجِعٌ إلى مُسَاواةٍ ومصَافَحةٍ مَخْصُوصَةٍ؛ إذْ حاصِلُها أنَّ بعضَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ رواةِ إسْنادِكَ العالِي سَاوَى أو صَافَحَ مُسْلِماً أو البخَارِيَّ؛ لِكَونِهِ سَمِعَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِما مَعَ تَأَخُّرِ طَبَقَتِهِ عَنْ طَبَقَتِهِما. ويوجدُ في كثيرٍ منَ العوالي المخرَّجةِ لِمَنْ تَكَلَّمَ أوَّلاً في هذا النوعِ وطَبَقَتِهِمْ: المصافَحَاتُ مَعَ الموفَقَاتِ والأبدالِ لِمَا ذَكَرْناهُ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ هذا النوعَ مِنَ العُلُوِّ عُلُوٌّ تابِعٌ لِنُزولٍ؛ إذْ لولا نُزُولُ ذَلِكَ الإمامِ في إسنادِهِ لَمْ تَعْلُ أنتَ في إسْنادِكَ (¬4). وكُنْتُ قَدْ قَرَأْتُ بِمَرْوَ عَلَى شَيخِنا المكْثِرِ أبي المظَفَّرِ عبدِ الرحيمِ بنِ الحافِظِ المصَنِّفِ أبي سَعْدٍ السَّمعانيِّ - رَحِمَهُما اللهُ - في أرْبِعِي (¬5) أبي البركاتِ الفَرَاوِيِّ حديثاً ¬
ادَّعَى فيهِ أنَّهُ كأنَّهُ سَمِعَهُ هوَ أو شَيْخُهُ مِنَ البُخَارِيِّ، فقالَ الشَّيْخُ أبو الْمُظَفَّرِ: ((ليسَ لكَ بعالٍ، ولكِنَّهُ للبُخارِيِّ نازِلٌ)). وهذا حَسَنٌ لَطِيْفٌ يَخْدِشُ وَجْهَ هذا النَّوعِ مِنَ العُلُوِّ، واللهُ أعلمُ. الرَّابِعُ: مِنْ أنواعِ العُلُوِّ العُلُوُّ المسْتَفادُ مِنْ تَقَدُّمِ وَفَاةِ الراوي، مِثالُهُ ما أروِيهِ عنْ شيخٍ أخبرَنِي بهِ عَنْ واحدٍ عَنِ البَيْهَقِيِّ الحافِظِ عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ الحافِظِ أعلى مِنْ روايتي لِذَلِكَ عَنْ شيخٍ أخبرَنِي بهِ عَنْ (¬1) واحدٍ عَنْ أبي بكرِ (¬2) بنِ خَلَفٍ عَنِ الحاكِمِ وإنْ تَسَاوَى الإسْنادانِ في العددِ لِتَقَدُّمِ وَفَاةِ البَيْهَقِيِّ عَلَى وفاةِ ابنِ خَلَفٍ؛ لأنَّ البَيْهَقِيَّ ماتَ سنةَ ثَمانٍ وخَمْسِينَ وأربَعِ مئةٍ، وماتَ ابنُ خَلَفٍ سنةَ سَبْعٍ وثَمانِينَ وأربعِ مِئةٍ. ورُوِّيْنا عَنْ أبي يَعْلَى الخليلِ بنِ عبدِ اللهِ الخليليِّ الحافِظِ - رَحِمَهُ اللهُ - قالَ: ((قَدْ يَكونُ الإسْنادُ يَعْلُو عَلَى غيرِهِ بِتَقَدُّمِ موتِ راويهِ وإنْ كانا مُتَسَاوِيَينِ في العدَدِ)) (¬3)، ومَثَّلَ ذَلِكَ مِنْ حديثِ نفسِهِ بمِثْلِ مَا ذَكَرْناهُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا كَلامٌ (¬4) في العُلُوِّ المنبني (¬5) عَلَى تَقَدُّمِ الوفاةِ المستفادِ مِنْ نِسْبَةِ شيخٍ إلى شيخٍ، وقياسِ راوٍ براوٍ. وأمَّا العُلُوُّ المستفادُ مِنْ مُجَرَّدِ تَقَدُّمِ وفاةِ شيخِكَ مِنْ غيرِ نَظَرٍ إلى قياسِهِ براوٍ آخَرَ، فقدْ حَدَّهُ بعضُ أهلِ هَذَا الشأْنِ بِخَمْسِينَ سنةً، وذلكَ مَا رُوِّيْناهُ عَنْ أبي عليٍّ الحافِظِ النَّيْسابوريِّ، قالَ: سَمِعْتُ أحمدَ بنَ عُميرٍ الدِّمَشْقِيَّ (¬6) - وكانَ مِنْ أركانِ ¬
الحديثِ - يَقُولُ: ((إسْنادُ خَمْسِينَ سنةً مِنْ موتِ الشَّيْخِ إسْنادُ عُلُوٍّ)) (¬1). وفيما نروي عَنْ أبي عبدِ اللهِ بنِ مَنْدَه الحافِظِ قالَ: ((إذا مَرَّ عَلَى الإسنادِ ثَلاثُونَ سَنَةً فهوَ عالٍ)). وهذا أوسَعُ مِنَ الأوَّلِ، واللهُ أعلمُ. الخامِسُ: العُلُوُّ المستفادُ مِنْ تَقَدُّمِ السَّماعِ. أَنْبَؤُنا (¬2) عَنْ مُحَمَّدِ بنِ ناصِرٍ الحافِظِ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ طَاهِرٍ الحافظِ قالَ: ((مِنَ العُلُوِّ تَقَدُّمُ السَّماعِ)) (¬3). قُلْتُ (¬4): وكثَيْرٌ مِنْ هذا يَدْخُلُ في النوعِ المذكورِ قَبْلَهُ، وفيهِ ما لا يدخُلُ في ذَلِكَ بلْ يَمْتازُ عنهُ. مِثْلُ أنْ يَسْمَعَ شَخْصانِ مِنْ شَيْخٍ واحدٍ، وسماعُ أحَدِهِما مِنْ سِتِّينَ سنةً مَثَلاً، وسَماعُ الآخَرِ مِنْ أربَعِينَ سنةً. فإذا تساوى السندُ إليهما في العَدَدِ، فالإسنادُ إلى الأوَّلِ الذي تقدمَ سماعُهُ أعلى. فهذِهِ أنواعُ العلوِّ عَلَى الأستقصاءِ والأيضاحِ الشافي، وللهِ سبحانَهُ وتعالى الحمدُ كُلُّهُ. وأما مارُوِّيناهُ عنِ الحافظِ أبي الطّاهرِ (¬5) السِّلفيِّ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ قولِهِ في أبياتٍ لهُ: بل عُلُوُّ الحديثِ بَيْنَ أُولي الحِفْ ... ظِ والإتقانِ صِحَّةُ الإسنادِ (¬6) وما رُوِّيناهُ عنِ الوزيرِ نِظامِ المُلكِ (¬7) مِن قولِهِ: ((عندي أنَّ الحديثَ العالي: ماصحَّ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وإن بلغَتْ رواتُهُ مِئةً)). فهذا ونحوُهُ ليسَ مِنْ قبيلِ المتعارَفِ إطلاقُهُ بينَ أهلِ الحديثِ، وإنما هُوَ عُلُّوٌّ منْ حيثُ المعنى فَحَسْبُ، واللهُ أعلمُ. ¬
فصل
فَصْلٌ وأما النُّزولُ فهوَ ضِدُّ العُلُوِّ. وما منْ قسمٍ مِنْ أقسامِ العُلُوِّ الخمسةِ إلا وضِدُّهُ قسمٌ منْ أقسامِ النزولِ. فهوَ إذن خمسةُ أقسامٍ، وتَفْصيلُها يُدْرَكُ مِنْ تفصيلِ أقسامِ العُلوِّ عَلَى نحوِ ما تَقَدَّمَ شرحُهُ. وأما قولُ الحاكمِ أبي عبدِ اللهِ: ((لعَلَّ قائلاً يقولُ: النزولُ ضِدُّ العُلُوِّ. فَمَنْ عَرَفَ العُلوَّ فَقَدْ عرفَ ضِدَّهُ، وليسَ كذلكَ؛ فإنَ للنزولِ مراتبَ لا يَعْرِفُها إلا أهلُ الصَّنْعَةِ (¬1) ... إلى آخرِ كلامهِ. فهذا ليسَ نَفْياً لكونِ النُّزولِ ضِدَّاً (¬2) للعُلُوِّ عَلَى الوجهِ الذي ذكرتُهُ، بل نَفْياً لكَوْنِهِ يُعْرَفُ بِمَعْرِفةِ العُلُوِّ. وذلكَ يَليقُ بما ذَكَرَهُ هوَ في مَعرِفَةِ العُلُوِّ، فإنَّهُ قَصَّرَ في بيانِهِ وتَفْصِيلِهِ، وليسَ كذلكَ ما ذكرنَاهُ نحنُ في العُلُوِّ؛ فإنَّهُ مُفَصَّلٌ تَفْصيلاً مُفْهِماً لِمَرَاتِبِ النُّزُولِ، والعِلْمُ عندَ اللهِ تباركَ وتَعالَى. ثُمَّ إنَّ النُّزُولَ مَفْضُولٌ مَرْغُوبٌ عنهُ، والفضيلةُ لِلْعُلُوِّ عَلَى ما تَقَدَّمَ بيانُهُ ودَليلُهُ. وحَكَى ابنُ خَلاَّدٍ عَنْ بعضِ أهلِ النَّظَرِ أنَّهُ قالَ: ((التَّنَزُّلُ (¬3) في الإسنادِ أفضَلُ)) (¬4)، واحْتجَّ لهُ بما مَعْناهُ أنَّهُ يجبُ الاجْتِهادُ والنَّظَرُ في تَعْدِيلِ كُلِّ راوٍ وتَخْريجِهِ (¬5)، فَكُلَّما زادُوا كانَ الاجْتِهادُ أكثَرَ وكانَ الأجْرُ أكثرَ. وهذا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ، ضَعِيفُ الْحُجَّةِ. وَقَدْ رُوِّيْنا عَنْ عَلِيِّ بنِ المدينِيِّ، وأبي عمرٍو المستَمْلِي النَّيْسابوري، أنَّهَما قالا: ((النُّزُولُ شُؤْمٌ)) (¬6)، وهذا ونحوُهُ مِمَّا جاءَ في ذمِّ النُّزُولِ مَخْصُوصٌ ببعضِ النُّزُولِ، فإنَّ النُّزُولَ إذا تَعَيَّنَ دُونَ العُلُوِّ طريقاً إلى فائدةٍ راجِحَةٍ عَلَى فائدَةِ العُلُوِّ فَهوَ مُختارٌ غيرُ مَرذولٍ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الموفي ثلاثين معرفة المشهور من الحديث
النَّوْعُ الْمُوَفِّي ثَلاَثِيْنَ مَعْرِفَةُ الْمَشْهُورِ مِنَ الْحَدِيْثِ (¬1) ومَعْنى الشُّهْرةِ مَفْهُومٌ (¬2)، وهوَ مُنْقَسِمٌ إلى صَحِيحٍ، كَقَولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ)) (¬3)، وأمثالِهِ، وإلى غيرِ صَحيحٍ (¬4)، كَحَديثِ: ((طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) (¬5). وكما بَلَغَنا عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ (¬6) - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((أربعَةُ أحاديثَ تَدُورُ عَنْ ¬
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الأسْواقِ ليسَ لها أصْلٌ: ((مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذَارَ بَشَّرْتُهُ بالْجَنَّةِ)) (¬1)، و ((مَنْ آذَى ذِمِّيّاً فأنا خَصْمُهُ يَومَ القِيَامةِ)) (¬2)، و ((يَومُ نَحْرِكُمْ يَومُ صَومِكُمْ)) (¬3)، و ((لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وإنْ جاءَ عَلَى فَرَسٍ)) (¬4). ويَنقسِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إلى ما هوَ مَشْهورٌ بَيْنَ أهلِ الحديثِ وغيرِهِمْ (¬5)، وكَقَولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المسْلِمونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ)) (¬6)، وأشْباهِهِ، وإلى ما هوَ مَشْهورٌ بَيْنَ أهلِ الحديثِ خاصَّةً دُونَ غيرِهِمْ، كالذي رُوِّيْناهُ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ الأنْصَارِيِّ، ¬
عَنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أبي مِجْلَزٍ (¬1)، عَنْ أنَسٍ: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ شَهْراً بَعدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ (¬2)، وذَكْوانَ)) (¬3). فهذا مَشْهورٌ بَيْنَ أهلِ الحديثِ مُخَرَّجٌ في الصحيحِ، ولهُ رواةٌ عَنْ أَنَسٍ غيرُ أبي مِجْلَزٍ، ورواةٌ (¬4) عَنْ أبي مِجْلَزٍ غيرُ التَّيْمِيِّ، ورواةٌ عَنِ التَّيْمِيِّ غيرُ الأنصاريِّ (¬5)، ولا يَعلمُ ذَلِكَ إلاَّ أهلُ الصَّنْعَةِ. وأمَّا غيرُهُمْ فَقَدْ يَستغربونَهُ (¬6) مِنْ حيثُ إنَّ التَّيْمِيَّ يَرْوي عَنْ أنَسٍ وهوَ هاهنا يَرْوي عَنْ واحدٍ عَنْ أنَسٍ (¬7). ومِنَ المشْهُورِ المتواتِرُ الذي يَذْكُرُهُ أهلُ الفقهِ وأُصُولِهِ (¬8)، وأهلُ الحديثِ لا يَذْكرُونَهُ باسْمِهِ الخاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْناهُ الخاصِّ، وإنْ (¬9) كانَ الحافِظُ الخطيبُ قدْ ذَكَرَهُ (¬10) ففي كَلامِهِ ما يُشْعِرُ بأنَّهُ اتَّبَعَ فيهِ غيرَ أهلِ الحديثِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لا تَشْمَلُهُ صِناعَتُهُمْ ولا يكادُ يوجَدُ في رواياتِهِمْ، فإنَّهُ عبارةٌ عَنِ الخبرِ الذي يَنْقُلُهُ مَنْ يَحْصُلُ العِلْمُ بِصِدْقِهِ ضَرُورةً، ولاَ بُدَّ في إسنادِهِ مِنِ اسْتِمرارِ هذا الشَّرْطِ في رُواتِهِ مِنْ أوَّلِهِ إلى مُنْتَهاهُ (¬11). ¬
ومَنْ سُئِلَ عَنْ إبْرَازِ (¬1) مِثالٍ لِذَلِكَ فيما يُرْوَى مِنَ الحديثِ أعياهُ تَطَلُّبُهُ، وحديثُ: ((إنَّمَا الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ)) (¬2) ليسَ مِنْ ذَلِكَ بِسَبيلٍ، وإنْ نَقَلَهُ عَدَدُ التَّواتُرِ وزِيادَةٌ؛ لأنَّ ذَلِكَ طَرَأَ عليهِ في وَسَطِ إسْنادِهِ ولَمْ يُوجَدْ في أوائِلِهِ عَلَى ما سَبَقَ ذِكْرُهُ. نَعَمْ ... حديثُ: ((مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) (¬3) نراهُ مِثالاً لِذَلِكَ، فإنَّهُ نَقَلَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - العَدَدُ الْجَمُّ، وهوَ في " الصحيحينِ " مَرْوِيٌّ عَنْ جَماعَةٍ مِنْهُم. وذَكَرَ أبو بَكْرٍ البَزَّارُ (¬4) الحافِظُ الجليلُ في " مُسْنَدِهِ " أنَّهُ رواهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوٌ مِنْ أربَعِينَ رَجلاً مِنَ الصَّحابةِ. وذَكَرَ بعضُ الْحُفَّاظِ أنَّهُ رواهُ عنهُ - صلى الله عليه وسلم - اثنانِ وستُّونَ نَفْساً (¬5) مِنَ الصحابَةِ، وفيهم العَشَرَةُ المشْهُودُ لهم بالجنَّةِ. قالَ: وليسَ في (¬6) الدُّنيا حديثٌ اجْتَمَعَ عَلَى روايتهِ العَشَرَةُ غيرَهُ، ولا يُعْرَفُ حديثٌ يُرْوَى عَنْ أكْثَر مِنْ سِتِّينَ نَفْساً مِنَ الصَّحابَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ هذا الحديثُ الواحِدُ (¬7). قُلْتُ (¬8): وبَلَغَ بِهِمْ بعضُ أهلِ الحديثِ أكثرَ مِنْ هذا العَدَدِ، وفي بعضِ ذَلِكَ عَدَدُ التَّواتُرِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عدَدُ رواتِهِ في ازْدِيادٍ وهَلُمَّ جَرّاً عَلَى التَّوالِي والاسْتِمرارِ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الحادي والثلاثون معرفة الغريب والعزيز من الحديث
النَّوْعُ الْحَادِي وَالثَّلاَثُوْنَ مَعْرِفَةُ الغَرِيْبِ والعَزِيْزِ مِنَ الْحَدِيْثِ (¬1) رُوِّيْنا عَنْ أبي عبدِ اللهِ بنِ مَنْدَه الحافِظِ الأصْبانِيِّ أنَّهُ قالَ: ((الغريبُ مِنَ الحديثِ، كَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادةَ وأشْبَاهِهِما مِنَ الأئِمَّةِ مِمَّنْ يُجْمَعُ حديثُهُمْ، إذا انفردَ الرجلُ عَنْهُم بالحديثِ يُسَمَّى غَرِيْباً. فإذا رَوَى عَنْهُم رجلانِ وثَلاثةٌ واشْتركُوا في حديثٍ يُسَمَّى عَزِيزاً. فإذا رَوَى الجماعَةُ عَنْهُم حديثاً سُمِّي (¬2) مَشْهوراً)) (¬3). قُلتُ (¬4): الحديثُ الذي يَتَفَرَّدُ (¬5) بهِ بعضُ الرواةِ يُوصَفُ بالغريبِ، وكذلكَ الحديثُ الذي يَتَفَرَّدُ فيهِ بعضُهُمْ بأمْرٍ لا يذكُرُهُ فيهِ غيرُهُ إمَّا في مَتْنِهِ، وإمَّا في إسْنادِهِ. وليسَ كُلُّ ما يُعَدُّ مِنْ أنواعِ الأفْرادِ مَعْدُوداً مِنْ أنواعِ الغريبِ، كما في الأفرادِ المضافةِ إلى البلادِ عَلَى ما سَبَقَ شَرْحُهُ. ثُمَّ إنَّ الغريبَ ينقسمُ إلى صحيحٍ، كالأفرادِ الْمُخَرَّجَةِ في الصحيحِ، وإلى غيرِ صحيحٍ وذَلِكَ هوَ الغالِبُ عَلَى الغرائِبِ. رُوِّيْنا عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ غيرَ مَرَّةٍ: ((لا تَكْتُبُوا هذهِ الأحاديثَ الغرائبَ فإنَّها مَنَاكِيرُ وعَامَّتُها عَنِ الضُّعَفاءِ)) (¬6). ¬
النوع الثاني والثلاثون معرفة غريب الحديث
ويَنْقَسِمُ الغريبُ أيضاً مِنْ وجهٍ آخَرَ، فمنهُ ما هُوَ غريبٌ (¬1) مَتْناً وإسْناداً وهوَ الحديثُ الذي تَفَرَّدَ بروايةِ مَتْنِهِ راوٍ واحدٌ. ومنهُ ما هوَ غريبٌ إسْناداً لا مَتْناً كالحديثِ الذي مَتْنُهُ مَعروفٌ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعةٍ مِنَ الصَّحابةِ إذا تَفَرَّدَ (¬2) بعضُهُمْ بروايتِهِ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ كانَ غَريباً مِنْ ذلكَ الوجهِ معَ أنَّ مَتْنَهُ غيرُ غريبٍ. ومِنْ ذَلِكَ غرائبُ الشُّيُوخِ في أسانيدِ المتونِ الصحيحةِ (¬3). وهذا الذي يَقُولُ فيهِ التِّرْمِذِيُّ: ((غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ)). ولا أرى هذا النوعَ يَنْعَكِسُ، فلا يُوجدُ إذَنْ ما هوَ غريبٌ مَتْناً وليسَ غريباً إسْناداً إلاَّ إذا اشْتَهَرَ الحديثُ الفَرْدُ عَمَّنْ تَفَرَّدَ بهِ فرَواهُ عنهُ عددٌ كثيرونَ فإنَّهُ يَصِيرُ غريباً مَشْهُوراً، وغريباً مَتْناً وغيرَ غريبٍ إسْناداً لكنْ بالنَّظَرِ إلى أحدِ طَرَفَي الإسنادِ، فإنَّ إسنادَهُ مُتَّصِفٌ بالغرابةِ في طَرَفِهِ الأوَّلِ مُتَّصِفٌ بالشُّهْرَةِ في طَرَفِهِ الآخَرِ، كحَديثِ: ((إنَّمَا الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ)) (¬4)، وكسَائِرِ الغرائِبِ التي اشْتَمَلَتْ عليها التَّصَانيفُ المشْتَهرَةُ (¬5)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّانِي والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ غَرِيْبِ الْحَدِيْثِ وهوَ عِبارةٌ عَمَّا وَقَعَ في مُتُونِ الأحاديثِ مِنَ الألفاظِ الغامِضَةِ البَعيدةِ مِنَ الفَهْمِ لِقِلَّةِ اسْتِعْمالِها. هذا فَنٌّ مُهِمٌّ يَقْبُحُ جَهْلُهُ بأهلِ الحديثِ خاصَّةً ثُمَّ بأهلِ العِلْمِ عامَّةً، والخوضُ فيهِ ليسَ بالْهَيِّنِ، والخائِضُ فيهِ حَقِيْقٌ بالتَّحَرِّي جديرٌ بالتَّوَقِّي. رُوِّيْنا عَنِ الميْمُونِيِّ، قالَ: ¬
سُئِلَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ عَنْ حَرْفٍ مِنْ غريبِ الحديثِ، فقالَ: ((سَلُوا أصْحابَ الغريبِ، فإنِّي أكرَهُ أنْ أتَكَلَّمَ في قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالظَّنِّ فأُخْطِئَ (¬1))) (¬2). وبَلَغَنا عَنِ التَّارِيخِيِّ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الملكِ، قالَ: حَدَّثَني أبو قِلابةَ عبدُ الملكِ بنُ مُحَمَّدٍ، قالَ: قُلْتُ للأصْمَعِيِّ: ((يا أبا سَعِيْدٍ مَا مَعْنَى قَولِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الجارُ أحَقُّ بِسَقَبِهِ)) (¬3)، فقالَ: أنا لا أُفَسِّرُ حديثَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولَكِنَّ العَرَبَ تَزعُمُ أنَّ السَّقَبَ: اللَّزِيقُ)) (¬4). ثُمَّ إنَّ غيرَ واحدٍ مِنَ العلماءِ صَنَّفُوا في ذَلِكَ فأحْسَنوا. ورُوِّيْنا (¬5) عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ الحافِظِ قالَ: ((أوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الغريبَ في الإسلامِ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ)) (¬6). ومِنْهُم مَنْ خالَفَهُ فقالَ: ((أوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فيهِ أبو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بنُ المثَنَّى))، وكتابَاهُما صَغِيرانِ (¬7). وصَنَّفَ بعدَ ذَلِكَ أبو عُبَيْدٍ القاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ كِتابَهُ المشهورَ فَجَمَعَ وأجادَ واسْتَقْصَى فَوَقَعَ مِنْ أهلِ العِلْمِ بِمَوْقِعٍ جَلِيلٍ، وصَارَ قُدْوَةً في هذا الشَّأْنِ. ثُمَّ تَتَبَّعَ القُتَبِيُّ (¬8) ما فاتَ أبا عُبَيدٍ فوضَعَ فيهِ كِتابَهُ المشهورَ ثُمَّ تَتَبَّعَ أبو سُلَيْمانَ الخطَّابِيُّ ما فاتَهُما فوضَعَ في ذَلِكَ كِتابَهُ المشهورَ. ¬
فهذهِ الكُتُبُ الثلاثَةُ أُمَّهاتُ الكُتُبِ المؤَلَّفَةِ في ذَلِكَ (¬1). وورَاءها مَجامِعُ تَشتملُ من ذَلِكَ عَلَى زوائدَ وفوائدَ كثيرةٍ ولا يَنبغي أنْ يُقَلِّدَ منها إلاَّ ما كانَ مُصَنِّفُوها أئِمَّةً جِلَّةً. وأَقْوَى ما يُعْتَمدُ عليهِ في تفسيرِ غريبِ الحديثِ: أنْ يُظْفَرَ بهِ مُفَسَّراً في بعضِ رِواياتِ الحديثِ، نحوُ ما رُوِيَ في حديثِ ابنِ صَيَّادٍ (¬2) أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: ((قَدْ خَبَأْتُ لكَ (¬3) خَبِيئاً، فما هوَ؟ قالَ: الدُّخُّ)) (¬4). فهذا خَفِيَ مَعْناهُ وأعضَلَ. وفَسَّرَهُ قومٌ بِمَا لا يَصِحُّ. وفي "معرفةِ علومِ الحديثِ" للحاكِمِ أنَّهُ الدُّخُّ بمعنى الزَّخِّ (¬5) الَّذِي هوَ الجِماعُ (¬6)، وهذا تَخْلِيطٌ فاحِشٌ يُغِيْظُ العَالِمَ والمؤمِنَ (¬7) وإنَّما مَعْنى الحديثِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: قدْ أضْمَرْتُ لكَ ضَمِيراً، فما هوَ؟ فقالَ الدُّخُّ -بضمِّ الدالِ (¬8) - يَعْنِي: الدُّخَانَ، والدُّخُّ: هوَ الدُّخَانُ في لُغَةٍ (¬9)، إذْ في بعضِ رواياتِ الحديثِ ما نَصُّهُ: ثُمَّ قالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي قَدْ خَبَأْتُ لكَ خَبِيئاً، وخَبَأَ لهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِيْنٍ} (¬10). فقالَ ابن صَيَّادٍ: هوَ الدُّخُّ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ)). وهذا ثابتٌ ¬
النوع الثالث والثلاثون معرفة المسلسل من الحديث
صحيحٌ خَرَّجَهُ التِّرمِذِيُّ (¬1) وغيرُهُ (¬2)، فَأَدْرَكَ ابنُ صَيَّادٍ مِنْ ذَلِكَ هذهِ الكَلِمَةَ فَحَسْبُ، عَلَى عادةِ الكُهَّانِ في اخْتِطافِ بعضِ الشيءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ مِنْ غيرِ وُقُوفٍ عَلَى تمامِ البيانِ. ولهذا قالَ لهُ: ((اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ))، أي: فلا مَزِيدَ لكَ عَلَى قَدْرِ إدْراكِ الكُهَّانِ (¬3)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ الْمُسَلْسَلِ (¬4) مِنَ الْحَدِيْثِ التَّسَلْسُلُ مِنْ نُعوتِ الأسانيدِ: وهو عبارةٌ عَنْ تتَابُعِ رجالِ الإسنادِ وتوارُدِهِمْ فيهِ، واحداً بعدَ واحدٍ، عَلَى صِفَةٍ أو حالَةٍ واحدةٍ. ¬
ويَنْقَسِمُ ذَلِكَ إلى ما يكونُ صِفَةً للروايةِ والتَّحَمُّلِ، وإلى ما يكونُ صِفَةً للرواةِ أو حالةً لهم. ثُمَّ إنَّ صِفَاتِهِمْ في ذَلِكَ وأحْوالَهُمْ أقْوالاً وأفْعَالاً ونَحْوَ ذَلِكَ تَنْقِسِمُ إلى ما لا نُحْصِيهِ. ونَوَّعَهُ الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ إلى ثَمَانِيَةِ أنواعٍ (¬1) والذي ذَكَرَهُ فيها إنَّما هوَ صُورٌ وأمْثِلَةٌ ثَمانِيَةٌ. ولا انْحِصارَ لِذَلِكَ في ثَمانيةٍ كما ذَكَرْناهُ (¬2). ومِثَالُ ما يَكونُ صِفَةً للرِّوايةِ والتَّحَمُّلِ ما يَتَسَلْسَلُ بـ: سَمِعْتُ فلاناً قالَ: سَمِعْتُ فلاناً إلى آخِرِ الإسنادِ. أو يَتَسَلْسَلُ (¬3) بـ: حَدَّثَنا أو أخْبَرَنا إلى آخِرِهِ، ومِنْ ذَلِكَ أخْبَرَنا واللهِ فُلانٌ، قالَ: أخْبَرَنا واللهِ فُلانٌ إلى آخِرِهِ. ومِثَالُ ما يَرْجِعُ إلى صِفاتِ الرواةِ وأقْوالِهِمْ ونحْوِها إسْنادُ حديثِ: ((اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَى شُكْرِكَ وذِكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) (¬4)، الْمُتَسَلْسِلُ بِقَوْلِهِمْ: إنِّي أُحِبُّكَ فَقُلْ، وحديثُ التَّشْبِيْكِ باليَدِ (¬5)، وحديثُ العَدِّ في اليَدِ (¬6)، في أشْباهٍ لِذَلِكَ نَرْوِيْها وتُرْوَى كَثِيرةً، وخيرُها ما كانَ فيهِ دلالةٌ عَلَى اتِّصَالِ السَّماعِ وعدمِ التَّدْلِيسِ. ومِنْ فَضيلةِ التسَلْسُلِ اشْتِمالُهُ عَلَى مَزيدِ الضَّبْطِ مِنَ الرواةِ، وقَلَّما تَسْلَمُ المسَلْسَلاتُ مِنْ ضَعْفٍ، أعْنِي: في وَصْفِ التَّسَلْسُلِ لا في أصلِ المتنِ. ومِنْ المسَلْسَلِ ما ¬
النوع الرابع والثلاثون معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه
يَنْقَطِعُ تَسَلْسُلُهُ في وسَطِ إسْنادِهِ وذَلِكَ نَقْصٌ فيهِ وهوَ كالمسَلْسَلِ بأوَّلِ حديثٍ سَمِعْتُهُ (¬1) عَلَى ما هوَ الصَّحيحُ في ذَلِكَ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْحَدِيْثِ وَمَنْسُوْخِهِ (¬2) هذا فَنٌّ مُهِمٌّ مُسْتَصْعَبٌ. رُوِّيْنا عَنِ الزُّهْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((أعْيا الفُقَهاءَ وأعْجَزَهُمْ أنْ يَعْرِفُوا ناسِخَ حديثِ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَنْسُوخِهِ)) (¬3). ¬
وكَانَ للشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - فيهِ يَدٌ طُولَى وسَابِقَةٌ أُوْلَى. رُوِّيْنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُسْلِمِ بنِ وارَةَ (¬1) - أحَدِ أئِمَّةِ الحديثِ - أنَّ أحمدَ بنَ حَنْبَلٍ قالَ لهُ وقدْ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ (¬2): ((كَتَبْتَ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ؟ فقالَ: لا. قالَ فَرَّطْتَ، ما عَلِمْنا المجْمَلَ مِنَ المفَسَّرِ ولا ناسِخَ حديثِ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَنْسُوخِهِ حَتَّى جَالَسْنا الشَّافِعِيَّ)). وفيمَنْ عَانَاهُ مِنْ أهلِ الحديثِ مَنْ أدخَلَ فيهِ ما ليسَ منهُ لِخَفاءِ مَعْنَى النَّسْخِ وشَرْطِهِ. وهوَ عبارةٌ عَنْ رَفْعِ الشَّارِعِ حُكْماً منهُ مُتَقَدِّماً بِحُكْمٍ منهُ مُتَأَخِّرٍ (¬3). وهذا حَدٌّ وَقَعَ لنا سالِمٌ مِنِ اعْتِراضاتٍ وَرَدَتْ عَلَى غيرِهِ (¬4). ثُمَّ إنَّ ناسِخَ الحديثِ ومَنْسُوخِهِ يَنْقَسِمُ أقْسَاماً: فمِنْها ما يُعْرَفُ بِتَصْرِيحِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بهِ. كَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ (¬5) الذي أخرجَهُ مُسْلِمٌ في " صَحِيْحِهِ "؛ أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوها)) (¬6) في أشْباهٍ لِذَلِكَ. ¬
ومنها ما يُعْرَفُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، كما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1) وغيرُهُ عنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أنَّهُ قالَ: ((كانَ الماءُ مِنَ الماءِ رُخْصَةً في أوَّلِ الإسلامِ ثُمَّ نُهِيَ عنها))، وكما خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ (¬2) عَنْ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: ((كانَ آخِرَ الأمْرينِ مِنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ الوضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)) في أشْباهٍ لِذَلِكَ. ومنها ما عُرِفَ بالتَّاريخِ، كحديثِ شَدَّادِ بنِ أوْسٍ وغيرِهِ، أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((أفْطَرَ الحاجِمُ والمحْجُومُ)) (¬3)، وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهوَ صَائِمٌ)) (¬4)، بَيَّنَ (¬5) الشَّافِعِيُّ أنَّ الثَّانيَ ناسِخٌ للأوَّلِ مِنْ حيثُ إنَّهُ رُوِيَ في حديثِ شَدَّادٍ أنَّهُ كانَ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - زَمانَ الفَتْحِ فَرَأَى رَجُلاً يَحْتَجِمُ في شَهْرِ رَمَضَانَ فقالَ: ((أفْطَرَ الحاجِمُ والمحْجُومُ)). ورُوِيَ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ؛ فبانَ بذلكَ أنَّ الأوَّلَ كانَ زَمَنَ الفَتْحِ في سنةِ ثَمانٍ، والثَّاني في حِجَّةِ الوداعِ في سَنَةِ عَشْرٍ. ¬
النوع الخامس والثلاثون معرفة المصحف من أسانيد الأحاديث ومتونها
ومنها ما يُعْرَفُ بالإجماعِ كَحديثِ: قَتْلِ شَارِبِ الخمْرِ في المرَّةِ الرَّابِعةِ (¬1) فإنَّهُ منسوخٌ عُرِفَ نَسْخُهُ بانْعِقادِ الإجماعِ عَلَى ترْكِ العَمَلِ (¬2) بهِ. والإجماعُ لا يَنْسَخُ ولا يُنْسَخُ (¬3) ولكنْ يَدلُّ عَلَى وجودِ ناسِخٍ غيرِهِ (¬4)، واللهُ أعلمُ بالصَّوابِ (¬5). النَّوْعُ الْخَامِسُ والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ الْمُصَحَّفِ (¬6) مِنْ أسَانِيْدِ الأَحَادِيْثِ ومُتُونِهَا هذا فَنٌّ جليلٌ إنَّما يَنْهَضُ بأعْبائِهِ الْحُذَّاقُ مِنَ الحفَّاظِ، والدارقطنيُّ مِنْهُم، ولهُ فيهِ تَصْنِيْفٌ مُفِيْدٌ. ورُوِّيْنا عَنْ أبي عبدِ اللهِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((ومَنْ يَعْرَى مِنَ الخطأِ والتَّصْحيفِ!؟)). ¬
فَمِثالُ التَّصْحيفِ في الإسنادِ: حديثُ شُعْبَةَ عَنِ العَوَّامِ بنِ مُرَاجِمٍ (¬1)، عَنْ أبي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ (¬2)، عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلِهَا ... الحديثَ)) (¬3). صَحَّفَ فيهِ يَحْيَى بنُ مَعينٍ، فقالَ: ((ابنُ مُزَاحِمٍ)) - بالزاي والحاءِ (¬4) - فَرُدَّ عليهِ، وإنَّما هُوَ: ((ابنُ مُرَاجِمٍ)) - بالراءِ المهملةِ والجيمِ -. ومنهُ ما رُوِّيْناهُ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ، قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ مالكٍ بنِ عُرْفُطَةَ، عَنْ عبدِ خَيْرٍ، عَنْ عائِشَةَ: ((أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ (¬5) والْمُزَفَّتِ)) (¬6). قالَ أحمدُ: ((صَحَّفَ شُعبةُ فيهِ، وإنَّما هُوَ خالدُ بنُ عَلْقمةَ)) (¬7). وقَدْ رواهُ زَائِدَةُ بنُ قُدَامةَ وغيرُهُ عَلَى ما قالَهُ أحمدُ. وبَلَغَنا عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أنَّ ابنَ جريرٍ الطَّبَريَّ قالَ فيمنْ رَوَى عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بني سُلَيْمٍ: ((ومِنْهُم عُتْبَةُ بنُ البُذَّرِ)) (¬8)، قالَهُ بالباءِ والذَّالِ المعجمةِ ورَوَى حديثاً (¬9)، وإنَّما هُوَ ((ابنُ النُّدَّرِ)) بالنُّونِ والدَّالِ غيرِ المعجمةِ (¬10). ¬
ومِثَالُ التَّصْحِيفِ في المتنِ: ما رواهُ ابنُ لَهِيْعةَ عَنْ كِتابِ موسَى بنِ عُقْبةَ إليهِ بإسْنادِهِ عَنْ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ: ((أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ في المسْجِدِ)) (¬1)، وإنَّما هوَ بالرَّاءِ: ((احْتَجَرَ في المسجدِ بِخُصٍّ أوْ حَصِيْرٍ، حُجْرَةً يُصَلِّي فيها)). فَصَحَّفَهُ ابنُ لَهِيْعةَ؛ لِكونِهِ أخَذَهُ مِنْ كِتابٍ بِغَيْرِ سَماعٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ في كِتابِ " التمييز " (¬2) لهُ. وبَلَغَنا عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ في حديثِ أبي سُفيانَ، عَنْ جابِرٍ قالَ: ((رُمِيَ أُبَيٌّ (¬3) يومَ الأحْزابِ عَلَى أكْحَلِهِ (¬4) فَكَواهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5): أنَّ غُنْدراً قالَ فيهِ: ((أبي))، وإنَّما هوَ ((أُبَيٌّ))، وهوَ (¬6) ابنُ كَعْبٍ. وفي حديثِ أنَسٍ: ((ثُمَّ يخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وكانَ في قَلْبِهِ مِنَ الخيرِ ما يَزِنُ ذَرَّةً))، قالَ فيهِ شُعبةُ: ((ذُرَةً)) - بالضمِّ والتخفيفِ (¬7) -، ونُسِبَ فيهِ إلى التَّصحيفِ. وفي حديثِ أبي ذَرٍّ: ((تُعِينُ الصَّانِعَ))، ¬
قالَ فيهِ هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ - بالضَّادِ المعجمةِ - وَهُوَ تصحيفٌ، والصوابُ ما رواهُ الزُّهْرِيُّ ((الصَّانِعَ)) - بالصادِ المهملة (¬1) -: ضدُّ الأَخْرَقِ (¬2). وبَلَغَنا عَنْ أبي زُرْعةَ الرَّازِيِّ أنَّ يَحْيَى ابنَ سَلاَّمٍ (¬3) - هوَ المفَسِّرُ - حدَّثَ عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ عَنْ قَتادَةَ في قَولِهِ تَعَالَى: {سَأُرِيْكُمْ دَارَ الفَاسِقِيْنَ} (¬4)، قالَ: ((مِصْرُ)) واسْتَعْظَمَ أبو زُرْعةَ هذا واسْتَقْبَحهُ وذَكَرَ أنَّهُ في تفسيرِ سَعيدٍ عَنْ قَتَادةَ ((مَصِيْرُهُمْ)) (¬5). وبَلَغَنا عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ المثَنَّى أبا مُوسَى العَنَزِيَّ (¬6) حَدَّثَ بحديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يأتِي أحدُكُمْ يَومَ القِيامةِ بِبَقَرَةٍ لها خُوارٌ)) (¬7)، فقالَ فيهِ: ((أو شَاةٍ ¬
تَنْعَرُ)) (¬1) - بالنُّونِ - وإنَّما هوَ: ((تَيْعَرُ)) (¬2) - بالياءِ المثناةِ مِنْ تحتُ -. وأنَّهُ قالَ لهمْ يوماً: ((نَحْنُ قَوْمٌ لنا شرَفٌ، نحنُ مِنْ عَنَزَةَ (¬3)، قَدْ صَلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلينا))، يُرِيدُ ما رُوِيَ ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إلى عَنَزَةَ)) (¬4)، تَوَهَّمَ أنَّهُ صَلَّى إلى قَبِيلَتِهِمْ، وإنَّما العَنَزَةُ هاهنا حَرْبَةٌ نُصِبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَلَّى إليها (¬5). وأظْرَفُ (¬6) مِنْ هذا ما رُوِّيْناهُ عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ عَنْ أعرابيٍّ زَعَمَ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا صَلَّى نُصِبَتْ بَيْنَ يَديهِ شاةٌ، أي: صَحَّفَها عَنْزَةً - بإسْكانِ النُّونِ (¬7) -. وعَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أيضاً: أنَّ أبا بكرٍ الصُّولِيَّ (¬8) أمْلَى في الجامِعِ حديثَ أبي أيُّوبَ: ((مَنْ صَامَ ¬
رَمَضانَ وأتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ)) (¬1)، فقالَ فيهِ: ((شَيْئاً)) بالشِّيْنِ والياءِ (¬2). وأنَّ أبا بكرٍ الإسْماعِيليَّ (¬3) الإمامَ كانَ فيما بَلَغَهُمْ عنهُ يَقُولُ في حديثِ عائِشَةَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الكُهَّانِ: ((قَرَّ الزُّجاجَةِ)) بالزاي، وإنَّما هُوَ (¬4) ((قَرَّ الدَّجاجةِ)) (¬5) بالدالِ. وفي حديثٍ يُروَى عنْ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ قالَ: ((لَعَنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذينَ يُشَقِّقُونَ الخُطَبَ تَشْقِيْقَ الشِّعْرِ)) (¬6). ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ وَكيعٍ أنَّهُ قالهُ مَرَّةً بالحاءِ المهملَةِ (¬7)، وأبو نُعَيمٍ شاهِدٌ، فَرَدَّهُ عليهِ بالخاءِ المعجمةِ المضمومةِ. وقرأْتُ بِخَطِّ مُصَنِّفٍ أنَّ ابنَ شاهِينَ قالَ في جامعِ المنصورِ في الحديثِ: ((إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ تَشْقِيقِ الْحَطَبِ)) فقالَ بعضُ الملاَّحينَ: يا قومُ، فكيفَ نعملُ والحاجَةُ ماسَّةٌ؟ ¬
النوع السادس والثلاثون معرفة مختلف الحديث
قُلْتُ: فَقَدِ انْقَسَمَ التَّصْحِيفُ إلى قِسْمَيْنِ: أحَدُهُما في المتْنِ، والثاني في الإسنادِ. ويَنْقَسِمُ قِسْمَةً أُخْرَى إلى قِسْمَينِ: أحدُهُما: تَصْحِيفُ البَصَرِ، كما سَبَقَ عَنِ ابنِ لَهِيْعَةَ وذلكَ هوَ الأكثرُ. والثاني: تَصْحِيفُ السَّمْعِ، نحوُ حديثٍ لـ ((عاصِمٍ الأحْوَلِ)) رواهُ بعضُهُمْ فقالَ: ((عَنْ واصِلٍ الأحْدَبِ)) فَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أنَّهُ مِنْ تَصْحِيفِ السَّمْعِ لا مِنْ تَصْحِيفِ البَصَرِ، كأَنَّهُ ذَهَبَ - واللهُ أعلمُ - إلى أنَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يشتبهُ مِنْ حيثُ الكِتابَةُ وإنَّما أخْطَأَ فيهِ سَمْعُ مَنْ رواهُ. ويَنْقَسِمُ قِسْمةً ثالِثَةً: - إلى تصحيفِ اللَّفظِ وهو الأكثرُ. - وإلى تصحيفِ يتعلَّقُ بالمعنى دُونَ اللفْظِ، كمثلِ ما سَبَقَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المثنَّى في الصلاةِ إلى عَنَزَةَ. وتسميةُ بعضِ ما ذَكَرْناهُ تَصْحِيفاً مَجازٌ، واللهُ أعلم. وكثيرٌ مِنَ التَّصْحيفِ المنقولِ عَنِ الأكَابِرِ الجِلَّةِ لهم فيهِ أعْذارٌ لَمْ يَنْقُلها ناقِلُوهُ (¬1)، ونسألُ اللهَ التَّوفيقَ والعِصْمةَ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّادِسُ والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ مُخْتَلِفِ الْحَدِيْثِ (¬2) ¬
وإنَّمَا يَكْمُلُ لِلْقِيامِ بهِ الأئِمَّةُ الجامِعونَ بَيْنَ صِناعَتَي: الحديثِ والفِقْهِ، الغَوَّاصُونَ عَلَى المعاني الدقيقةِ (¬1). اعْلَمْ أنَّ ما يُذْكَرُ في هذا البابِ يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَينِ: أحدُهُما أنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بَيْنَ الحديثينِ ولا يتعذَّرُ إبداءُ وَجْهٍ يَنْفِي تَنافِيَهُما، فيتَعَيَّنُ حِيْنَئذٍ المصيرُ إلى ذَلِكَ والقولُ بهما معاً. ومِثَالُهُ حديثُ: ((لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ)) (¬2) معَ حديثِ: ((لا يُورِدُ مُمْرِضٌ (¬3) عَلَى مُصِحٍّ)) (¬4)، وحديثُ: ((فِرَّ مِنَ المجذومِ (¬5) فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ)) (¬6). وَجْهُ الجمْعِ (¬7) بينَهُما أنَّ هذهِ الأمراضَ لا تُعْدِي بِطَبْعِها ولكِنَّ اللهَ تباركَ وتَعَالَى جَعَلَ مُخَالَطَةَ المريضِ بها للصَّحيحِ سَبَباً لإعدائِهِ مَرَضَهُ (¬8). ثُمَّ قَدْ يتَخَلَّفُ ذَلِكَ عَنْ سَبَبِهِ كما في سائِرِ الأسْبابِ. ¬
فَفِي الحديثِ الأوَّلِ نَفَى - صلى الله عليه وسلم - ما كانَ يَعْتَقِدُهُ الجاهِلِيُّ (¬1) مِنْ أنَّ ذَلِكَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ ولهذا قالَ: ((فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ؟)). وفي الثاني أعلَمَ بأنَّ اللهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَباً لِذَلِكَ، وحَذَّرَ مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي يَغْلِبُ وجُودُهُ عِنْدَ وجُودِهِ بِفِعْلِ اللهِ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، ولهذا في الحديثِ أمثالٌ كثيرةٌ (¬2). وكتابُ " مُختلِفِ الحديثِ " لابنِ قُتَيْبَةَ في هَذَا المعنى، إنْ لَمْ يكنْ قدْ أحسَنَ فيهِ مِنْ وجْهٍ، فَقَدْ أسَاءَ في أشْياءَ منهُ قَصُرَ باعُهُ فِيْهَا، وأتَى بِمَا غيرُهُ أَوْلَى وأقْوَى. وقَدْ رُوِّيْنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إسْحاقَ بنِ خُزَيمةَ الإمامِ أنَّهُ قالَ: ((لا أعرِفُ أنَّهُ رُوِيَ عَنِ النبيِّ (¬3) - صلى الله عليه وسلم - حديثانِ -بإسْنادَينِ صحيحينِ- مُتَضَادَّيْنِ، فَمَنْ كانَ عِنْدَهُ فليَأْتِنِي بهِ لأُؤَلِّفَ بَيْنَهُما)) (¬4). القِسْمُ الثَّانِي: أنْ يَتَضَادَّا بحيثُ لا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُما، وذَلِكَ عَلَى ضَرْبَينِ: أحَدُهُما: أنْ يَظْهَرَ كَونُ أحَدِهِما ناسِخاً والآخَرُ مَنْسُوخاً، فَيُعْمَلُ بالنَّاسِخِ ويُتْرَكُ المنسُوخُ. والثَّاني: أنْ لا تَقُومَ دلالةٌ عَلَى أنَّ الناسِخَ أيُّهُما والمنسُوخَ أيُّهُما، فَيُفزَعَ حِيْنَئذٍ إلى التَّرْجِيحِ ويُعْمَلَ بالأرْجَحِ منْهُما والأثْبَتِ، كالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّواةِ، أوْ بِصِفاتِهِمْ في خمسينَ وَجْهاً مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحاتِ وأكثرَ (¬5)، ولِتَفصِيلها موضِعٌ غيرُ (¬6) ذا، واللهُ سُبْحانَهُ أعلمُ. ¬
النوع السابع والثلاثون معرفة المزيد في متصل الأسانيد
النَّوْعُ السَّابِعُ والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ الْمَزِيْدِ في مُتَّصِلِ الأَسَانِيْدِ (¬1) مِثَالُهُ: ما رُوِيَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ المباركِ، قالَ: حَدَّثَنا (¬2) سُفْيانُ، عَنْ عبدِ الرَّحمانِ بنِ يَزيدَ بنِ جابِرٍ، قالَ: حَدَّثَني بُسْرُ (¬3) بنُ عُبَيْدِ اللهِ، قالَ سَمِعْتُ أبا إدْرِيْسَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ واثِلَةَ بنَ الأسْقَعِ، يقولُ: سَمِعْتُ أبا مَرْثِدٍ (¬4) الغَنَوِيَّ (¬5)، يقولُ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: ((لاَ تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ ولا تُصَلُّوا إليها)) فَذِكْرُ سُفيانَ في هذا الإسنادِ زيادةٌ وَوَهَمٌ (¬6)، وهكذا ذِكْرُ أبي إدْرِيسَ: أمَّا الوَهَمُ في ذِكْرِ سُفْيانَ فَمِمَّنْ دُونَ ابنِ المبارَكِ (¬7)؛ لأنَّ جماعةً ثِقَاتٍ (¬8) رَوَوْهُ عَنِ ابنِ المباركِ عَنِ ابنِ جابرٍ نفسِهِ، ¬
ومِنْهُم مَنْ صَرَّحَ فيهِ بلفظِ الإخْبارِ بَيْنَهُما. وأمَّا ذِكْرُ أبي إدْريسَ فيهِ فابنُ المباركَ مَنْسُوبٌ فيهِ إلى الوَهَمِ؛ وذلكَ لأنَّ جماعةً مِنَ الثقاتِ رَوَوْهُ عَنِ ابنِ جابرٍ فلمْ يَذكروا أبا إدْرِيسَ بَيْنَ بُسْرٍ وواثِلَةَ. وفيهم مَنْ صَرَّحَ فيهِ بسماعِ بُسْرٍ مِنْ واثلةَ. قالَ أبو حاتِمٍ الرازيُّ: ((يُرَوْنَ أنَّ ابنَ المباركِ وَهِمَ في هذا (¬1)، قالَ: وكثيراً ما يُحَدِّثُ بُسْرٌ عَنْ أبي إديسَ فَغَلِطَ ابنُ المباركِ وظَنَّ أنَّ هذا مِمَّا رُوِيَ عَنْ أبي إدرِيسَ عَنْ واثِلَةَ، وقَدْ سَمِعَ هذا بُسْرٌ مِنْ واثِلَةَ نفسِهِ)) (¬2). قلتُ: قدْ ألَّفَ الخطيبُ الحافظُ في هذا النوعِ كِتاباً سَمَّاهُ كتابَ " تَمْييزِ المزيدِ في مُتَّصِلِ الأسَانِيدِ ". وفي كثيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ نَظَرٌ؛ لأنَّ الإسْنادَ الخالِيَ عَنِ الرَّاوِي الزائِدِ، إنْ كانَ بلفظَةِ ((عَنْ)) في ذَلِكَ فينْبَغِي أنْ يُحْكَمَ بإرْسالِهِ، ويُجْعَلَ مُعَلَّلاً بالإسْنادِ الَّذِي ذُكِرَ فيهِ الزائِدُ؛ لما (¬3) عُرِفَ في نوعِ المعلَّلِ، وكما يأتِي ذِكْرُهُ إنْ شاءَ اللهَ تَعَالَى في النوعِ الذي يليهِ. وإنْ كانَ فيهِ تَصريحٌ بالسماعِ أو بالإخْبارِ كما في المثالِ الذي أوْردناهُ، فجائِزٌ أنْ يَكونَ قد سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رجلٍ عنهُ، ثُمَّ سَمِعَهُ منهُ نَفسُهُ، فيكونُ بُسْرٌ في هذا الحديثِ قدْ سَمِعَهُ مِنْ أبي إدْريسَ عَنْ واثِلةَ، ثُمَّ لَقِيَ واثلةَ فسَمِعَهُ منهُ كما جاءَ مِثْلُهُ مُصَرَّحاً بهِ في غيرِ هذا، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ تُوجدَ قرينةٌ تدلُّ عَلَى كونِهِ وَهَماً، كَنَحْوِ ما ذكرَهُ أبو حاتِمٍ في المثالِ المذكورِ. وأيضاً فالظَّاهِرُ مِمَّنْ وقَعَ لهُ مِثْلُ ذَلِكَ أنْ يَذْكُرَ السَّماعَيْنِ، فإذا لَمْ يَجِئْ عنهُ ذِكْرُ ذَلِكَ حَمَلْناهُ عَلَى الزيادةِ المذكورةِ (¬4)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثامن والثلاثون معرفة المراسيل الخفي إرسالها
النَّوْعُ الثَّامِنُ والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ الْمَرَاسِيْلِ الْخَفِيِّ إرْسَالُهَا (¬1) هذا نوعٌ مُهِمٌّ عظيمُ الفائدةِ يُدْرَكُ بالاتِّسَاعِ في الروايةِ والجمْعِ لِطُرُقِ الأحاديثِ مَعَ المعرفَةِ التامَّةِ، ولِلْخَطيبِ الحافِظِ فيهِ كِتابُ " التَّفْصِيلِ لِمُبْهَمِ المراسِيلِ " (¬2). والمذكورُ في هذا البابِ منهُ ما عُرِفَ فيهِ الإرْسالُ بمعرفَةِ عَدَمِ السَّماعِ مِنَ الراوي فيهِ أوْ عَدَمُ اللقَاءِ، كما جاءَ في الحديثِ المرْوِيِّ عَنِ العَوَّامِ بنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ أبي أوْفَى، قالَ: ((كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قالَ بِلالٌ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ نَهَضَ وكَبَّرَ)) (¬3). رُوِيَ فيهِ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ أنَّهُ قالَ: ((العَوَّامِ لَمْ يَلْقَ ابنَ أبي أوْفَى)) (¬4). ومنهُ ما كانَ الْحُكْمُ بإرْسَالِهِ مُحالاً عَلَى مَجِيئهِ مِنْ وجْهٍ آخَرَ بزِيادَةِ شَخْصٍ واحِدٍ أوْ أكثَرَ في الموضِعِ المدَّعَى فيهِ الإرْسالُ، كالحديثِ الذي سَبَقَ ذِكْرُهُ في النوعِ العاشِرِ عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّورِيِّ، عنْ أبي إسْحاقَ، فإنَّهُ حُكِمَ فيهِ بالانْقِطاعِ والإرْسَالِ بَيْنَ عبدِ الرَّزَّاقِ والثَّورِيِّ؛ لأنَّهُ رُوِيَ عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ، قالَ: حَدَّثَني النُّعْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ الْجَنَدِيُّ (¬5) عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أبي إسْحاقَ. وحُكِمَ أيضاً فيهِ بالإرْسالِ بَيْنَ الثَّوْرِيِّ وأبي إسْحاقَ؛ لأنَّهُ رُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ شَرِيكٍ، ¬
النوع التاسع والثلاثون معرفة الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين
عَنْ أبي إسْحاقَ (¬1)، وهذا وما سَبَقَ في النوعِ الذي قبلَهُ يَتَعَرَّضانِ؛ لأنْ يُعْتَرضَ بِكُلِّ واحِدٍ منهُما عَلَى الآخَرِ، عَلَى ما تَقَدَّمَتْ الإشَارةُ إليهِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ التَّاسِعُ والثَّلاَثُونَ مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - أجْمَعِيْنَ (¬2) هذا عِلْمٌ كبيرٌ قَدْ ألَّفَ الناسُ فيهِ كُتُباً كَثيرةً (¬3)، ومِنْ أجَلِّها (¬4) وأكْثَرِها فوائِدَ كتابُ " الاستِيعَابِ " لابنِ عبدِ البرِّ لولا ما شَانَهُ بهِ مِنْ إيرادِهِ كَثيراً مِمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصحابةِ وحكاياتِهِ عَنِ الأخبارِيِّيْنَ لا المحدِّثينَ. وغالبٌ عَلَى الأخبارِيِّينَ الإكْثَارُ والتخليطُ فيما يَرْوُونَهُ. ¬
وأنا أُوْرِدُ نُكَتاً نافِعَةً - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - قدْ كانَ يَنْبَغِي لِمُصَنِّفي كُتُبِ الصَّحابةِ أنْ يُتَوِّجُوها بها مُقَدِّمينَ لها في فواتِحِها: إحْداها: اختلَفَ أهلُ العِلْمِ في أنَّ الصَّحابيَّ مَنْ (¬1)؟ فالمعروفُ مِنْ طريقةِ أهلِ الحديثِ أنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ رأى رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ مِنَ الصحابةِ. قالَ البُخَارِيُّ في " صحيحهِ ": ((مَنْ صَحِبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوْ رآهُ مِنَ المسْلِمِيْنَ فَهُوَ مِنَ أصْحَابِهِ)) (¬2). وبَلَغَنا عَنْ أبي الْمُظَفَّرِ السَّمْعانيِّ الْمَرُوزِيِّ أنَّهُ قالَ: ((أصْحابُ الحديثِ يُطْلِقُونَ اسمَ الصَّحابةِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَوَى عنهُ حديثاً أو كَلِمةً، ويَتَوَسَّعُونَ حَتَّى يَعدُّونَ مَنْ رآهُ رُؤْيةً، مِنَ الصحابةِ؛ وهذا لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أعطَوا كُلَّ مَنْ رآهُ حُكْمَ الصُّحْبَةِ)). وذَكَرَ أنَّ اسمَ الصحابِيِّ مِنْ حيثُ اللغَةُ والظَّاهِرُ: يقعُ عَلَى مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكَثُرَتْ مُجالَسَتُهُ لهُ عَلَى طريقِ التَّبَعِ لهُ والأخْذِ عنهُ. قالَ: ((وهذا طريقُ الأُصُولِيِّيْنَ)) (¬3). قلتُ: وقَدْ رُوِّيْنا عَنْ سَعِيْدِ بنِ المسَيِّبِ أنَّهُ كانَ: ((لاَ يَعُدَّ الصَّحابِيَّ إلاَّ مَنْ أقامَ مَعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَنَةً وسَنَتَيْنِ وغَزَا معهُ غَزْوَةً أوْ غَزْوَتَيْنِ)) (¬4)، وكأنَّ المرادَ بهذا - إنْ صَحَّ عنهُ - راجعٌ إلى المحْكِيِّ عَنِ الأُصُولِيِّيْنَ، ولَكِنْ في عبارتِهِ ضيقٌ يُوجِبُ أنْ لا يُعَدَّ مِنَ ¬
الصحابةِ جريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَلِيُّ، ومَنْ شَاركَهُ في فَقْدِ ظَاهِرِ ما اشْتَرَطَهُ فيهم مِمَّنْ لا نَعْرِفُ خلافاً في عَدِّهِ مِنَ الصَّحابَةِ (¬1). ورُوِّيْنا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُوْسَى السَّبَلاَنِيِّ (¬2) - وأثْنَى عليهِ خَيْراً - قالَ: أتَيْتُ أنَسَ بنَ مالكٍ فقلْتُ: هَلْ بَقِيَ مِنْ أصْحابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحَدٌ غيرُكَ؟ قالَ: بَقِيَ ناسٌ مِنَ الأعْرابِ قَدْ رَأَوْهُ، فأمَّا مَنْ صَحِبَهُ فلا (¬3). إسْنادُهُ جيِّدٌ، حدَّثَ بهِ مُسْلِمٌ بِحَضْرَةِ أبي زُرْعَةَ. ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الواحِدِ مِنْهُم صَحابيّاً تارَةً يُعْرَفُ بالتَّواتُرِ (¬4)، وتارَةً بالاسْتِفاضَةِ القاصِرَةِ عَنِ التواتُرِ، وتارَةً بأنْ يُرْوَى عَنْ آحادِ الصَّحابَةِ أنَّهُ صَحابِيٌّ، وتارَةً بقَوْلِهِ وإخْبَارِهِ عَنْ نَفسِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ بأنَّهُ صَحَابِيٌّ (¬5)، واللهُ أعلمُ. الثَّانِيَةُ: لِلصَّحَابَةِ بأسْرِهِمْ خَصِيْصَةٌ، وهيَ أنَّهُ لا يُسْألُ عَنْ عَدَالَةِ أحَدٍ مِنْهُم، بلْ ذَلِكَ أمرٌ مفروغٌ منهُ لِكَوْنِهِمْ عَلَى الإطْلاقِ مُعَدَّلِيْنَ بِنُصُوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجْماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بهِ في الإجماعِ مِنَ الأمَّةِ. قالَ اللهُ تباركَ وتَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬6) الآيةَ. قيلَ اتَّفَقَ المفسرونَ عَلَى أنَّهُ وارِدٌ في أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، وقال تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُوْنُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬8)، وهذا خِطابٌ مَعَ الموجُودِينَ ¬
حِيْنَئذٍ (¬1). وقالَ سُبْحانَهُ وتَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ والَّذِيْنَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ} (¬2) الآيةَ. وفي نُصُوصِ السُّنَّةِ الشاهِدةِ بذلكَ كثرةٌ، منها حديثُ أبي سَعِيْدٍ المتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ؛ أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فوَالَّذي نَفْسِي بيدِهِ، لوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً ما أدْرَكَ مُدَّ (¬3) أحَدِهِمْ ولا نَصِيْفَهُ)) (¬4). ثُمَّ إنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَعْدِيلِ جَمِيْعِ الصَّحَابَةِ (¬5)، ومَنْ لاَبَسَ الفِتَنَ مِنْهُم فكذلكَ بإجْماعِ العلماءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بهم في الإجماعِ، إحْساناً للظَّنِّ بهم ونَظَراً إلى ما تمهَّدَ لهم مِنَ المآثِرِ، وكأَنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وتعالى أتاحَ (¬6) الإجماعَ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ نَقَلَةَ الشَّرِيْعَةِ (¬7)، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثَةُ: أكْثَرُ الصَّحَابَةِ حَدِيثاً عَنْ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أبو هُرَيْرَةَ (¬8). رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي (¬9) الحسَنِ، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، وذَلِكَ مِنَ الظاهِرِ الذي لا يَخْفَى عَلَى ¬
حَدِيْثِيٍّ، وهوَ أوَّلُ صَاحِبِ حديثٍ (¬1). بَلَغَنا عَنْ أبي بكرِ بنِ أبي داودَ السِّجسْتانِيِّ قالَ: ((رأيْتُ أبا هُرَيْرَةَ في النومِ وأنا بِسَجستانَ أُصَنِّفُ حديثَ أبي هُرَيْرَةَ، فقُلْتُ (¬2): إنِّي لأُحِبُّكَ، فقالَ: أنا أوَّلُ صَاحِبِ حديثٍ كانَ في الدُّنْيا)). وَعَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ أيضاً - رضي الله عنه - قالَ: ((سِتَّةٌ مِنْ أصْحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أكثروا الروايةَ عنهُ وَعُمِّروا: أبو هُريرةَ، وابنُ عُمَرَ، وعائشةُ، وجابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، وابنُ عبَّاسٍ، وأنَسٌ، وأبو هُرَيْرَةَ أكْثَرُهُمْ حديثاً وحَمَلَ عنهُ الثِّقاتُ)). ثُمَّ إنَّ أكثَرَ الصحابةِ فُتْيا تُرْوَى ابنُ عباسٍ. بَلَغَنا عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ قالَ: ((ليسَ أحَدٌ مِنْ أصْحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُرْوَى عنهُ في الفتْوى أكثرَ مِنِ ابنِ عَبَّاسٍ)). ورُوِّيْنا عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ أيضاً أنَّهُ قِيلَ لهُ: ((مَنِ العَبادِلَةُ؟))، فقالَ: ((عبدُ اللهِ ابنُ عَبَّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وعبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ، وعبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو)). قيلَ لهُ: ((فابنُ مَسعودٍ؟))، قالَ: ((لا، ليسَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ مِنَ العبادلةِ)) (¬3). قالَ الحافِظُ أحمدُ البَيْهَقِيُّ فيما رُوِّيْناهُ عنهُ وقرأْتُهُ بِخَطِّهِ: ((وهذا لأنَّ ابنَ مسعودٍ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ، وهؤلاءِ عاشُوا حَتَّى احتِيْجَ إلى عِلْمِهِمْ، فإذا اجْتَمَعُوا عَلَى شيءٍ قيلَ: هذا قَوْلُ العبادِلَةِ، أوْ: هذا فِعْلُهُمْ)) (¬4). قُلْتُ: ويَلْتَحِقُ بابنِ مَسعودٍ في ذَلِكَ سائِرُ العبادِلَةِ الْمُسَمَّيْنَ بعبدِ اللهِ مِنَ الصحابةِ، وهُمْ نَحْوُ مِئَتَيْنِ وعِشْرِينَ نَفْساً (¬5)، واللهُ أعلمُ. ورُوِّيْنا عَنْ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ المدينيِّ قالَ: ((لَمْ يَكُنْ مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحَدٌ لهُ أصْحابٌ يَقُومونَ بقَوْلِهِ في الفِقْهِ إلاَّ ثَلاثَةٌ: عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وزيدُ بنُ ثابِتٍ، ¬
وابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهم -، كانَ لِكُلِّ رجلٍ مِنْهُم أصحابٌ يَقُومونَ بقَولِهِ ويُفْتونَ النَّاسَ)) (¬1)، وَرُوِّيْنا عَنْ مَسْروقٍ قالَ: ((وَجَدْتُ عِلْمَ أصْحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى سِتَّةٍ: عُمَرَ، وعَلِيٍّ، وأُبَيٍّ، وزيدٍ، وأبي الدَّرْداءِ، وعبدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ. ثُمَّ انتهى عِلْمُ هَؤلاءِ السِّتَّةِ إلى اثْنَيْنِ: عليٍّ، وعبدِ اللهِ)) (¬2). رُوِّيْنا نَحْوَهُ عَنْ مُطَرِّفٍ (¬3) عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ، لكنْ ذَكَرَ أبا موسَى بدَلَ أبي الدَّرْدَاءِ (¬4). ورُوِّيْنا عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: ((كانَ العِلْمُ يُؤْخَذُ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ عُمَرُ، وعبدُ اللهِ، وزيدٌ، يُشْبِهُ عِلْمُ بعضِهِمْ بَعضاً، وكانَ يَقْتَبِسُ بَعضُهُمْ مِنْ بَعضٍ، وكانَ عليٌّ، والأشْعَريُّ، وأُبَيٌّ، يُشْبِهُ عِلْمُ بعضِهِمْ بَعضاً، وكانَ يَقْتَبِسُ بَعضُهُمْ مِنْ بَعضٍ)) (¬5). ورُوِّيْنا عَنِ الحافِظِ أحمدَ البَيْهَقِيِّ أنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ الصَّحابَةَ في " رسالتِهِ " القديمةِ وأثْنَى عليهِمْ بما هُمْ أهلُهُ، ثُمَّ قالَ: ((وهُمْ فَوْقَنا في كُلِّ عِلْمٍ، واجْتِهادٍ، وَوَرَعٍ، وعَقْلٍ، وأمْرٍ اسْتُدْرِكَ بهِ عِلْمٌ واسْتُنْبِطَ بهِ، وآراؤُهُمْ لنا أحمدُ وأوْلَى بنا مِنْ آرَائِنا عِنْدَنا لأنْفُسِنا))، واللهُ أعلمُ. الرَّابِعَةُ: رُوِّيْنا عَنْ أبي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ (¬6) مَنْ رَوَى عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: ((ومَنْ يَضْبِطُ هذا؟ شَهِدَ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الوداعِ أربعونَ ألِفاً، وشَهِدَ معهُ تَبُوكَ سَبعونَ ألفاً (¬7). ورُوِّيْنا عَنْ أبي زُرْعَةَ أيضاً أنَّهُ قيلَ لهُ: ((ألَيْسَ يُقَالَ: حديثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أربَعةُ آلاَفِ حديثٍ؟))، قالَ: ((ومَنْ قالَ ذا؟ قَلْقَلَ اللهَ أنْيَابَهُ! هذا قولُ الزَّنَادِقَةِ، ومَنْ يُحْصِي حدِيثَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قُبِضَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مِئَةِ ألْفٍ وأربَعَةَ عَشَرَ ألِفاً ¬
مِنَ الصحابةِ مِمَّنْ رَوى عنهُ، وسَمِعَ منهُ، وفي روايةٍ مِمَّنْ رآهُ وسَمِعَ منهُ)). فقِيْلَ لهُ: يا أبا زُرْعَةَ! هؤلاءِ أينَ كانُوا وأينَ سَمِعُوا منهُ؟ قالَ: ((أهلُ المدينةِ، وأهلُ مَكَّةَ، ومَنْ بينَهُما، والأعرابُ، ومَنْ شَهِدَ معهُ حَجَّةَ الوداعِ كُلٌّ رآهُ وسَمِعَ منهُ بِعَرَفَةَ)) (¬1). قُلْتُ (¬2): ثُمَّ إنَّهُ اخْتُلِفَ في عدَدِ طَبَقَاتِهِمْ وأصْنافِهِمْ، والنَّظَرُ في ذَلِكَ إلى السَّبْقِ بالإسْلامِ والهِجْرَةِ وشُهُودِ المشاهَدِ الفاضِلَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بآبَائِنا وأُمَّهَاتِنا وأنْفُسِنا هوَ - صلى الله عليه وسلم - وجَعَلَهُمُ الحاكِمُ (¬3) أبو عبدُ اللهِ اثْنَتَي عَشْرَةَ (¬4) طَبَقَةً، ومنهُمْ مَنْ زادَ عَلَى ذَلِكَ، ولَسْنا نُطَوِّلُ بتفصِيلِ ذَلِكَ، واللهُ أعلمُ. الخامِسَةُ: أفْضَلُهُمْ عَلَى الإطْلاَقِ أبو بكرٍ، ثُمَّ عُمَرَ (¬5)، ثُمَّ إنَّ جُمْهُورَ السَّلَفِ عَلَى تقدِيمِ عُثْمانَ عَلَى عليٍّ، وقَدَّمَ أهلُ الكُوفةِ مِنْ أهلِ السُّنَّةِ عَلِيّاً عَلَى عُثْمانَ، وبهِ قالَ مِنْهُم: سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ (¬6) أوَّلاً ثُمَّ رَجَعَ إلى تقديمِ عُثْمانَ (¬7)، رَوَى ذَلِكَ عنهُ وعَنْهُم الخطَّابِيُّ (¬8). ومِمَّنْ نُقِلَ عنهُ مِنْ أهلِ الحديثِ تقديمُ عليٍّ عَلَى عُثْمانَ مُحَمَّدُ بنُ إسْحاقَ ابنِ خُزَيْمةَ (¬9). وتقديمُ عُثْمانَ هوَ الذي اسْتَقَرَّتْ عليهِ مَذاهِبُ أصْحابِ الحديثِ وأهلِ السُّنَّةِ (¬10)، وأمَّا أفضلُ أصْنافِهِمْ صِنْفاً فقَدْ قالَ أبو مَنْصورٍ ¬
البغداديُّ التَّمِيميُّ: أصْحابُنا مُجْمِعونَ عَلَى أنَّ أفضَلَهم الخلفاءُ الأربَعَةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ الباقُونَ إلى تَمامِ العَشَرَةِ، ثُمَّ البَدْرِيونَ، ثُمَّ أصحابُ أُحُدٍ، ثُمَّ أهلُ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ بالْحُدَيْبِيَةِ (¬1). قلتُ: وفي نصِّ القُرْآنِ تَفضيلُ (¬2) السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ مِنَ المهاجِرِيْنَ والأنْصَارِ، وهُمُ الذِيْنَ صَلُّوا إلى القِبْلَتَيْنِ في قَوْلِ سَعِيْدِ بنِ المسيِّبِ (¬3) وطائِفَةٍ (¬4). وفي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ: هُمُ الذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوانِ (¬5). وعَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ (¬6) وعَطَاءِ بنِ يَسارٍ أنَّهُما قالاَ: هُمْ أهلُ بَدْرٍ (¬7)، رَوَى ذَلِكَ عَنْهُما ابنُ عبدِ البرِّ فيما وَجَدْناهُ عنهُ، واللهُ أعلمُ. السَّادِسَةُ: اختَلَفَ السَّلَفُ في أوَّلِهِمْ إسْلاماً، فقيلَ: أبو بكرٍ (¬8) الصِّدِّيقُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابنِ عباسٍ (¬9)، وحَسَّانَ بنِ ثابتٍ (¬10)، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ (¬11)، ¬
وغيرِهِمْ (¬1). وقيلَ: عليٌّ أوَّلُ مَنْ أسلَمَ، رُوِيَ ذَلِكَ عنْ زيدِ بنِ أرْقَمَ (¬2)، وأبي ذَرٍّ (¬3)، والمقْدَادِ (¬4) وغيرِهِمْ (¬5). قالَ الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ: ((لا أعلمُ خِلافاً بَيْنَ أصحابِ التَّوارِيخِ (¬6) أنَّ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ أوَّلُهُمْ إسْلاماً))، واسْتُنْكِرَ هذا مِنَ الحاكِمِ. وقيلَ: أوَّلُ مَنْ أسلمَ زيدُ بنُ حارِثَةَ. وذَكَرَ مَعْمَرٌ نحوَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ (¬7). وقيلَ: أوَّلُ مَنْ أسلمَ خديجةُ أُمُّ المؤمِنينَ، رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ (¬8)، وهوَ قَوْلُ قَتَادَةَ (¬9)، ومُحَمَّدِ بنِ إسْحاقَ بنِ يَسارٍ (¬10)، وجماعةٍ. ورُوِيَ أيضاً عَنِ ابنِ عبَّاسٍ (¬11). وادَّعَى الثَّعْلَبِيُّ المفَسِّرُ فيما رُوِّيْناهُ أو بَلَغَنا عنهُ اتِّفَاقَ العلماءِ عَلَى أنَّ أوَّلَ مَنْ أسلمَ خديجةُ، وأنَّ اختِلاَفَهُمْ إنَّما هوَ في أوَّلِ مَنْ أسْلمَ بعدَها. والأوْرَعُ (¬12) أنْ يُقَالَ: أوَّلُ مَنْ أسْلمَ مِنَ الرِّجالِ الأحرارِ: أبو بكرٍ، ومِنَ الصِّبْيانِ أو الأحداثِ: عليٌّ، ومِنَ النِّساءِ: خديجةُ، ومِنَ الموالِي: زيدُ بنُ حارِثةَ، ومِنَ العبيدِ: بلالٌ، واللهُ أعلمُ. السَّابعةُ: آخِرُهُمْ عَلَى الإطلاقِ موتاً: أبو الطُّفَيْلِ عامرُ بنُ واثِلَةَ (¬13)، ماتَ سنةَ مئةٍ مِنَ الهِجرةِ. وأمَّا بالإضافَةِ إلى النَّواحي، فآخِرُ مَنْ ماتَ مِنْهُم بالمدينةِ: جابرُ بنُ عبدِ اللهِ، رواهُ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ عَنْ قَتادةَ، وقيلَ: سَهْلُ بنُ سَعْدٍ (¬14)، وقيلَ: السَّائبُ ابنُ يَزيدَ (¬15)، وآخِرُ مَنْ ماتَ مِنْهُم بِمَكَّةَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وقيلَ: جابرُ بنُ عبدِ اللهِ. ¬
وذَكَرَ عليُّ بنُ المدينيِّ أنَّ أبا الطُّفَيلِ بِمَكَّةَ ماتَ فهوَ إذَنْ الآخِرُ بها (¬1). وآخِرُ مَنْ ماتَ مِنْهُم بالبَصْرَةِ أنَسُ بنُ مالِكٍ. قالَ أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البرِّ: ((ما أعلمُ أحداً ماتَ بعدَهُ مِمَّنْ رَأَى رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ أبا الطُّفَيلِ)) (¬2). وآخِرُ مَنْ ماتَ مِنْهُم بالكُوفَةِ: عبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفَى، وبالشَّامِ: عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ، وقِيْلَ: بلْ أبو أُمامَةَ. وتَبَسَّطَ (¬3) بعضُهُمْ فقالَ: ((آخِرُ مَنْ ماتَ مِنْ أصحابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِصْرَ: عبدُ اللهِ بنُ الحارِثِ بنِ جَزْءٍ (¬4) الزُّبَيْدِيُّ، وبِفِلَسْطِيْنَ (¬5): أبو أُبَيِّ بنُ أُمِّ حَرَامٍ، وبِدِمَشْقَ: واثِلَةُ بنُ الأسْقَعِ، وبِحِمْصَ: عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ (¬6)، وباليَمامَةِ: الهِرْماسُ (¬7) بنُ زَيادٍ، وبالْجَزِيْرَةِ (¬8): العُرْسُ (¬9) بنُ عَمِيْرَةَ (¬10)، وبإفْرِيقِيَّةَ (¬11): رُوَيْفِعُ (¬12) بنُ ثابتٍ، وبالبادِيَةِ في الأعْرابِ: سَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ، - رضي الله عنهم - أجمعينَ)). وفي بعضِ ما ذَكَرْناهُ خِلافٌ لَمْ نَذْكُرْهُ، وقولُهُ في رُوَيْفِعٍ بإفْرِيقِيَّةَ لا يَصِحُّ إنَّما ماتَ في حاضِرَةِ بَرْقَةَ (¬13) وقَبْرُهُ بها، ونَزَلَ سَلَمةُ إلى المدينةِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِلَيالٍ فَمَاتَ بها، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الموفي أربعين معرفة التابعين
النَّوْعُ الْمُوَفِّي أرْبَعِينَ مَعْرِفَةُ التَّابِعِيْنَ (¬1) هذا وَمَعرفةُ الصحابةِ أصْلٌ أصِيْلٌ يُرْجَعُ إليهِ في معرفةِ المرسَلِ والمسْنَدِ. قالَ الخطيبُ الحافِظُ: ((التَّابِعِيُّ مَنْ صَحِبَ الصَّحَابِيَّ)) (¬2). قُلتُ: ومطلقُهُ مَخْصُوصٌ بالتَّابِعِ بإحْسَانٍ، ويُقَالُ لِلْواحِدِ مِنْهُم: تابِعٌ وتابِعِيٌّ. وكَلامُ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ (¬3) وغيرُهُ مُشْعِرٌ بأنَّهُ يَكْفِي فيهِ أنْ يسمَعَ مِنَ الصَّحابِيِّ أوْ يَلْقاهُ وإنْ لَمْ تُوجدْ الصُّحْبَةُ العُرْفِيَّةُ. والاكْتِفاءُ في هذا بِمُجَرَّدِ اللِّقَاءِ والرؤْيَةِ (¬4) أقربُ منهُ في الصحابِيِّ نَظَراً إلى مُقْتَضى اللَّفْظَيْنِ فيهما (¬5). وهذهِ مُهِمَّاتٌ في هذا النوعِ: إحْدَاها: ذَكَرَ الحافِظُ أبو عبدِ اللهِ أنَّ التَّابِعينَ عَلَى خَمْسَ عَشْرَةَ طَبَقَةً: الأُوْلَى: الَّذِينَ لَحِقُوا العَشَرَةَ: سَعيدُ بنُ المسَيِّبِ، وقيسُ بنُ أبي حازِمٍ، وأبو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ (¬6)، وقيسُ بنُ عُبادٍ (¬7)، وأبو سَاسَانَ حُضَيْنُ (¬8) بنُ المنذِرِ، ¬
وأبو وائِلٍ، وأبو رَجَاءِ العُطَارِدِيُّ (¬1) وغيرُهُمْ (¬2). وعليهِ في بعضِ هؤلاءِ إنْكارٌ، فإنَّ سَعيدَ بنَ المسَيِّبِ ليسَ بهذهِ المثابةِ؛ لأنَّهُ وُلِدَ في خِلافةِ عُمَرَ، ولَمْ يَسْمَعْ مِنَ أكثَرِ العَشَرَةِ. وقدْ قالَ بعضُهُمْ: لا تَصِحُّ (¬3) لهُ رِوايةٌ عَنْ أحَدٍ مِنَ العَشَرَةِ إلاَّ سَعْدَ ابنَ أبي وَقَّاصٍ (¬4). قُلْتُ: وكانَ سَعْدٌ آخِرَهُمْ مَوْتاً. وذَكَرَ الحاكِمُ قبلَ كَلامِهِ المذكورِ: أنَّ سَعِيْداً أدْرَكَ عُمَرَ فَمَنْ بَعْدَهُ إلى آخِرِ العَشَرَةِ (¬5)، وقالَ: ليسَ في جماعَةِ التَّابِعينَ مَنْ أدْرَكَهُمْ وسَمِعَ مِنْهُم غيرُ سَعِيدٍ، وقيسِ بنِ أبي حازِمٍ (¬6)، وليسَ ذَلِكَ عَلَى ما قالَ كما ذَكَرْناهُ. نَعَمْ، قَيسُ بنُ أبي حازِمٍ سَمِعَ العَشَرَةَ ورَوَى عَنْهُم. وليسَ في التَّابِعينَ أحَدٌ رَوَى عَنِ العَشَرَةِ سِواهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ عبدُ الرَّحمانِ بنُ يُوسُفَ بنِ خِرَاشٍ (¬7) الحافِظُ فيما رُوِّيْنا أوْ بَلَغَنا عنهُ. وعنْ أبي داودَ السِّجستانِيِّ أنَّهُ قالَ: رَوَى عَنِ التِّسْعَةِ ولَمْ يَرْوِ عَنْ عبدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ (¬8). ¬
ويَلِي هؤلاءِ: التَّابِعُونَ الَّذِينَ وُلِدُوا في حياةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أبْناءِ الصَّحابَةِ (¬1)، كَعَبْدِ اللهِ بنِ أبي طَلْحَةَ، وأبي أُمامةَ أسْعَدَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ (¬2)، وأبي إدْرِيْسَ الْخَوْلاَنِيِّ (¬3) وغيرِهِمْ. الثَّانِيةُ: الْمُخَضْرَمُونَ (¬4) مِنَ التَّابِعينَ هُمُ الَّذِيْنَ أدركوا الجاهِلِيَّةَ وحياةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأسْلَمُوا ولا صُحْبَةَ لهم، واحدُهُمْ مُخَضْرَمٌ -بِفَتْحِ الرَّاءِ- كأنَّهُ خُضْرِمَ، أي: قُطِعَ عَنْ نُظَرائِهِ الَّذِينَ أدْركُوا الصُّحْبَةَ وغيرَها. وذَكَرَهُمْ مُسْلِمٌ فَبَلَغَ بِهِمْ عِشْرينَ نَفْساً (¬5)، ¬
مِنْهُم: أبو عَمْرٍو الشَّيْبانِيُّ، وسُوَيْدُ بنُ غَفَلةَ (¬1) الكِنْدِيُّ، وعَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ الأَوْدِيُّ، وعَبْدُ خَيْرِ بنُ يَزِيْدَ الْخَيْوَانِيُّ (¬2)، وأبو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ، وعبدُ الرحمانِ بنُ مَلٍّ (¬3)، وأبو الحلالِ العَتَكِيُّ (¬4): رَبيعةُ بنُ زُرارةَ. ومِمَّنْ لَمْ يَذْكُرْهُ مُسْلِمٌ مِنْهُم: أبو مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنيُّ: عبدُ اللهِ بنُ ثُوَبٍ (¬5)، والأحْنَفُ بنُ قَيسٍ، واللهُ أعلمُ (¬6). الثَّالِثَةُ: مِنْ أكَابِرِ التَّابِعِينَ، الفُقَهاءُ السَّبْعَةُ (¬7) مِنْ أهلِ المَديْنَةِ، وهم: سعيدُ ابنُ المُسيِّبِ، والقاسمُ بنُ مُحَمَّدٍ، وعُرْوَةُ بنُ الزبيرِ، وخارجةُ بنُ زَيدٍ، وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمانِ، وعبيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، وسُليمانُ بنُ يَسارٍ. رُوِّيْنا عَنِ الحافِظِ أبي عبدِ اللهِ أنَّهُ قالَ: ((هَؤلاءِ الفُقَهاءُ السَّبْعةُ عِنْدَ الأكْثرِ مِنْ عُلماءِ الحِجازِ)) (¬8). ورُوِّيْنا عَنِ ابنِ المباركِ قالَ: ((كانَ فقهاءُ أهلِ المدينةِ الذِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ رأْيهِمْ سَبْعةً)) (¬9)، فَذَكَرَ هَؤلاءِ إلاَّ أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أبا سَلَمةَ بنَ عبدِ الرَّحمانِ، وذَكَرَ بَدَلَهُ سالِمَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ. ورُوِّيْنا عَنْ أبي الزِّنادِ تَسْمِيَتَهُمْ في كِتابِهِ عَنْهُم فَذَكَرَ هؤلاءِ إلاَّ أنَّهُ ذَكَرَ أبا بَكرِ بنَ عبدِ الرحمانِ بَدَلَ أبي سَلَمةَ وسَالِمٍ (¬10). الرَّابِعَةُ: وَرَدَ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ أنَّهُ قالَ: ((أفْضَلُ التَّابعينَ: سَعِيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ. فقيلَ لهُ: فَعَلْقَمَةُ والأسْودُ؟، فقالَ: سَعِيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةُ، والأسْودُ)) (¬11). ¬
وعنهُ أنَّهُ قالَ: ((لا أعلمُ في التَّابِعينَ مِثْلَ أبي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ، وقيسِ بنِ أبي حازِمٍ)). وعنهُ أنَّهُ قالَ: ((أفْضَلُ التَّابِعينَ: قيسٌ، وأبو عُثْمانَ وعلقَمةُ، ومَسْرُوقٌ. هؤلاءِ كانوا فاضِلينَ ومِنْ عِلْيَةِ (¬1) التَّابِعينَ)). وأعْجَبَنِي ما وَجَدْتُهُ عَنِ الشَّيْخِ أبي عبدِ اللهِ بنِ خَفِيْفٍ الزَّاهِدِ الشِّيْرازِيِّ (¬2) في كِتابٍ لهُ، قالَ: ((اخْتَلَفَ النَّاسُ في أفْضلِ التَّابِعينَ، فأهلُ المدينةِ يَقُولُونَ: سَعِيدُ ابنُ الْمُسَيِّبِ، وأهلُ الكُوفَةِ يَقُولُونَ: أُوَيْسٌ القَرَنِيُّ (¬3)، وأهلُ البصرَةِ يَقُولُونَ: الحَسَنُ البَصْرِيُّ)) (¬4). وبَلَغَنا عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ قالَ: ((ليسَ أحَدٌ أكثَرَ فَتْوى مِنَ الحسَنِ، وعَطَاءٍ، يَعْنِي: مِنَ التَّابِعينَ)). وقالَ أيضاً: ((كانَ عَطَاءٌ مُفْتِي مَكَّةَ والحَسَنُ مُفْتِي البَصْرَةَ، فهَذانِ أكْثَرَ النَّاسُ (¬5) عَنْهُم رأْيَهُمْ)). وبَلَغَنا عَنْ أبي بكرِ ابنِ أبي داودَ قالَ: ((سَيِّدَتا التَّابِعِينَ مِنَ النِّسَاءِ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيْرِيْنَ، وعَمْرَةُ بنتُ عبدِ الرَّحْمانِ، وثالُثُتُهما - وليْسَتْ كَهُما - أُمُّ الدَّرْدَاءِ)) (¬6)، واللهُ أعلمُ. الخامِسةُ: رُوِّيْنا عَنِ الحَاكِمِ (¬7) أبي عبدِ اللهِ قالَ: ((طَبَقَةٌ تُعَدُّ في التَّابِعِينَ ولَمْ يَصِحَّ سَماعُ أحَدٍ (¬8) مِنْهُم مِنَ الصحابةِ، مِنْهُم: إبراهيمُ بنُ سُوَيْدٍ النَّخَعِيُّ الفقيهُ - وليسَ بإبراهيمَ بنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ الفقيهِ (¬9) -، وبُكَيرُ بنُ أبي السَّمِيطِ (¬10)، وبُكَيرُ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ ¬
النوع الحادي والأربعون معرفة الأكابر الرواة عن الأصاغر
الأشَجِّ، وذَكَرَ غيرَهُمْ))، قالَ: ((وطَبقةٌ عِدادُهُمْ عِنْدَ الناسِ في أتْباعِ التَّابِعِينَ وقدْ لَقوا الصَّحابةَ، مِنْهُم: أبو الزِّنادِ عبدُ اللهِ بنُ ذَكْوانَ لَقِيَ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ وأنَساً، وهِشامُ بنُ عُرْوَةَ وقدْ أُدْخِلَ عَلَى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وجابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، وموسَى بنُ عُقْبَةَ، وقدْ أدْرَكَ أنسَ بنَ مالكٍ، وأمَّ خالِدِ بنتَ خالدِ بنِ سَعيدِ بنِ العاصِ)) (¬1)، وفي بعضِ ما قالَهُ مَقَالٌ. قُلْتُ: وقومٌ عُدُّوا مِنَ التَّابعينَ وهم مِنَ الصَّحابةِ، ومِنْ أعجبِ ذَلِكَ عَدُّ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ النُّعْمانَ وسُوَيْداً ابني (¬2) مُقَرَّنٍ المزَنِيَّ في التَّابعينَ عِنْدَ ما ذكَرَ الإخوةَ مِنَ التَّابعينَ (¬3) وهما صَحابِيَّانِ مَعْروفانِ مَذْكُورانِ في الصحابةِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الْحَادِي والأرْبَعُونَ مَعْرِفَةُ الأكَابِرِ الرُّوَاةِ (¬4) عَنِ الأصَاغِرِ (¬5) ومِنَ الفَائدةِ فيهِ ألاَّ يُتَوَهَّمَ كَونُ المرْوِيِّ عنهُ أكبرَ أوْ أفضلَ مِنَ الراوي نَظَراً إلى أنَّ الأغلبَ كَوْنُ المرْوِيِّ عنهُ كذلكَ فيُجْهَلُ بذلكَ مَنْزِلَتُهما. وقدْ صَحَّ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْها - قالتْ: ((أمرَنا رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلهمُ)) (¬6). ¬
ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى أضْرُبٍ: منها: أنْ يَكونَ الرَّاوي أكبَرَ سِنّاً وأقْدَمَ طَبَقةً مِنَ الْمَرْوِيِّ عنهُ، كالزُّهْرِيِّ، ويحيى ابنِ سعيدٍ الأنصارِيِّ، في روايَتِهما عَنْ مالِكٍ، وكأبي القاسِمِ عُبَيْدِ اللهِ (¬1) بنِ أحمدَ الأزْهَرِيِّ - مِنَ المتَأَخِّرينَ، أحَدِ شُيُوخِ الخطيبِ - رَوَى عَنِ الخطيبِ في بعضِ تَصَانِيفِهِ، والخطيبُ إذْ ذاكَ في عُنْفُوانِ شَبَابِهِ وطَلَبِهِ. ومنها أنْ يَكُونَ الرَّاوي أكبَرَ قَدْراً مِنَ المَرْوِيِّ عنهُ بأنْ يَكونَ حافِظاً عالِماً والمَرْوِيُّ عنهُ شَيخاً راوِياً فَحَسْبُ، كمالِكٍ في روايتِهِ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، وإسْحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ في روايَتِها عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (¬2) بنِ مُوْسَى (¬3)، في أشباهٍ لِذَلِكَ كَثيرَةٍ. ومنها: أنْ يَكونَ الرَّاوِي أكبرَ مِنَ الوَجْهَينِ جَمِيعاً، وذلكَ كَرِوايةِ كثيرٍ مِنَ العُلَماءِ والحُفَّاظِ عَنِ أصْحابِهِمْ وتَلاَمِذَتِهِمْ، كَعَبْدِ الغَنِيِّ الحافِظِ في روايتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عليٍّ الصُّوْرِيِّ (¬4) وكَرِوايةِ أبي بكرٍ البَرْقانيِّ عنْ أبي بكرٍ الخطيبِ، وكروايةِ الخطيبِ عنْ أبي نَصْرِ بنِ ماكولا، ونظائِرُ ذلكَ كثيرةٌ. وينْدَرِجُ تحتَ هذا النوعِ ما يُذكَرُ مِنْ رِوايةِ ¬
الصَّحابِيِّ عَنِ التَّابِعِيِّ، كرِوايةِ العَبادِلَةِ وغَيرِهِمْ (¬1) مِنَ الصَّحابَةِ عَنْ كَعْبِ الأحبَارِ. وكذلكَ روايةُ التَّابِعيِّ عَنْ تابِعِ التَّابِعِ، كما قَدَّمناهُ مِنْ روايةِ الزُّهْرِيِّ والأنصَارِيِّ عَنْ مالِكٍ، وكَعَمْرِو بنِ شُعَيْبِ (¬2) بنِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عنهُ أكْثَرُ مِنْ عِشْرينَ نَفْساً مِنَ التَّابِعينَ جَمَعَهمْ عبدُ الغَنِيِّ بنُ سَعيدٍ الحافِظُ في كُتَيِّبٍ لهُ. وقرأْتُ بخَطِّ الحافِظِ أبي مُحَمَّدٍ (¬3) الطَّبَسِيِّ (¬4) في تخريجٍ لهُ قالَ: ... ((عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ ليسَ بتَابِعِيٍّ وقدْ رَوَى عنهُ نَيِّفٌ وسَبْعُونَ رَجُلاً مِنَ التَّابِعينَ)) (¬5)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثاني والأربعون معرفة المدبج وما عداه من رواية الأقران بعضهم عن بعض
النَّوْعُ الثَّانِي والأَرْبَعُونَ مَعْرِفَةُ الْمُدَبَّجِ (¬1) ومَا عَدَاهُ (¬2) مِنْ رِوَايَةِ الأقْرَانِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ¬
وَهُمُ المتَقَارِبُونَ في السِّنِّ والإسْنادِ. ورُبَّما اكْتَفَى الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ فيهِ بالتَّقارُبِ في الإسنادِ، وإنْ لَمْ يوجَدْ التقارُبُ في السِّنِّ (¬1). اعْلَمْ أنَّ رِوايَةَ القَرِينِ عَنِ القَرِيْنِ تَنْقَسِمُ: فَمِنْها الْمُدَبَّجُ، وهوَ أنْ يَرْوِيَ القَرِينانِ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما عَنِ الآخَرِ. مِثَالُهُ في الصَّحَابةِ: عائشَةُ وأبو هُرَيرةَ رَوَى كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما عَنِ الآخَرِ. وفي التَّابعينَ: رِوايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ وروايةُ عمرَ عنِ الزهريِّ. وفي أتباعِ التابعينَ: روايةُ مالكٍ عنِ الأوزاعيِّ، وروايةُ الأوزاعيِّ عنْ مالكٍ. وفي أتباعِ الأتباعِ: روايةُ (¬2) أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ عنْ عليِّ بنِ المدينيِّ وروايةُ عليٍّ عنْ أحمدَ. وذكرَ الحاكمُ في هذا روايةَ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ عنْ عبدِ الرزاقِ، وروايةَ عبدِ الرزاقِ عنْ أحمدَ (¬3) وليسَ هذا بمرضيٍّ. ومنها غيرُ المدبَّجِ (¬4)، وهوَ أن يرويَ أحدُ القرينَينِ عَنِ الآخَرِ ولايرويَ الآخرُ عنهُ فيما نعلمُ. مثالُهُ: روايةُ سليمانَ التَّيْمِيِّ عن مِسْعَرٍ (¬5)، وهما قرينانِ، ولانعلمُ لِمسْعَرٍ روايةً عنِ التَّيْمِيِّ. ولذلكَ أمثالٌ كثيرةٌ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثالث والأربعون معرفة الإخوة والأخوات من العلماء والرواة
النَّوْعُ الثَّالِثُ والأَرْبَعُوْنَ مَعْرِفَةُ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ مِنَ العُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ (¬1) وذَلِكَ إحدى مَعَارِفِ أهْلِ الحدِيْثِ الْمُفْرَدَةِ بالتَّصْنِيفِ. صَنَّفَ فيها عَلِيُّ بنُ المدينيِّ، وأبو عبدِ الرَّحْمَانِ النَّسَوِيُّ (¬2) وأبو العبَّاسِ السَّرَّاجُ (¬3) وغَيْرُهُمْ. فَمِنْ أَمْثِلَةِ الأخَوَيْنِ مِنَ الصَّحَابةِ: عبدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ، وعُتبةُ بنُ مَسْعُودٍ هما أَخَوانِ. زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ ويَزِيْدُ بنُ ثابِتٍ أخَوَانِ. عَمْرُو بنُ العاصي (¬4) وهِشَامُ بنُ العاصِي أخَوانِ (¬5). ومِنَ التَّابِعينَ (¬6): عَمْرُو بنُ شُرَحْبِيْلَ أبو مَيْسَرةَ، وأخُوهُ أرقَمُ بنُ شُرَحْبِيْلَ، كِلاهُما مِنْ أفَاضِلِ أصْحابِ ابنِ مَسعودٍ. هُزَيْلُ بنُ شُرَحْبِيلَ وأرْقَمُ بنُ شُرَحْبِيلَ أخَوَانِ آخَرَانِ مِنْ أصْحابِ ابنِ مَسْعُودٍ (¬7) أيضاً. ومِنْ أمْثِلَةِ ثَلاَثَةِ الإِخوَةِ: سَهْلٌ، وعَبَّادٌ، وعُثْمانُ، بَنُو حُنَيْفٍ (¬8) إخْوَةٌ ثَلاَثَةٌ. عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، وعُمَرُ، وشُعَيْبٌ، بَنُو شُعَيْبِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصي إخْوَةٌ ثَلاثةٌ. ¬
ومِنْ أمْثِلَةِ الأرْبَعَةِ: سُهَيْلُ بنُ أبي صالحٍ السَّمَّانِ (¬1) الزَّيَّاتِ (¬2)، وإخْوَتُهُ: عبدُ اللهِ - الذي يُقالُ لهُ: عَبَّادٌ -، ومُحَمَّدٌ، وصَالِحٌ. ومِنْ أمْثِلَةِ الْخَمْسَةِ (¬3): ما نَرْوِيْهِ عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ، قالَ سَمِعْتُ أبا عليٍّ الحسَيْنَ بنَ عليٍّ الحافِظَ غيرَ مَرَّةٍ يَقُولُ: ((آدَمُ بنُ عُيَيْنَةَ، وعِمْرانُ بنُ عُيَيْنَةَ، ومُحَمَّدُ بنُ عُيَيْنَةَ، وسُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، وإبْرَاهِيمُ بنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثُوا عَنْ آخِرِهِمْ)) (¬4). ومِثَالُ السِّتَّةِ (¬5): أوْلادُ سِيْرِيْنَ سِتَّةٌ تَابِعِيُّونَ وَهُمْ: مُحَمَّدٌ، وأَنَسٌ، ويَحْيَى، ومَعْبَدٌ، وحَفْصَةُ، وكَرِيمةُ، ذَكَرَهُمْ هَكَذا أبو عبدِ الرَّحْمانِ النَّسَوِيُّ ونَقَلْتُهُ مِنْ كِتابِهِ بخطِّ الدَّارَقُطنيِّ - فيما أحسِبُ -. ورُوِيَ ذَلِكَ أيضاً عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ، وهَكَذا ذَكَرَهُمْ الحاكِمُ في كِتابِ " المعرفةِ " (¬6) لكِنْ ذَكَرَ فيما نَرْوِيْهِ مِنْ " تارِيخِهِ " بإسْنادِنا عنهُ أنَّهُ سَمِعَ أبا عليٍّ الحافِظَ يَذْكُرُ بَنِي سِيْرِيْنَ خَمْسَةَ إخْوَةٍ، مُحَمَّدُ بنُ سِيْرِيْنَ (¬7)، وأَكْبَرُهُمْ مَعْبَدُ بنُ سِيْرِيْنَ، ويَحْيَى بنُ سِيْرِيْنَ، وخالِدُ بنُ سِيْرِيْنَ (¬8)، وأنَسُ بنُ سِيْرِيْنَ، وأصْغَرُهُمْ حَفْصَةُ بنتُ سِيْرِيْنَ. قُلْتُ: وقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ (¬9)، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أنَسٍ، عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ: أنَّ رَسُولَ اللهِ قالَ: ((لَبَّيْكَ حَقّاً حَقّاً تَعَبُّداً ورِقّاً)) (¬10). ¬
النوع الرابع والأربعون معرفة رواية الآباء عن الأبناء
وهذهِ غَريبةٌ عَايَا بها بعضُهُمْ فقالَ: أيُّ ثَلاَثَةِ إخْوَةٍ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ؟. ومِثَالُ السَّبْعَةِ (¬1): النُّعْمانُ بنُ مُقَرِّنٍ، وإخْوَتُهُ مَعْقِلٌ، عَقِيْلٌ، وسُوَيْدٌ، وسِنانٌ، وعَبْدُ الرَّحمانِ، وسَابِعٌ لَمْ يُسَمَّ لنا (¬2)، بَنُو مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّونَ سَبْعَةُ إخْوَةٍ هاجَرُوا وصَحِبُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولَمْ يُشَارِكْهُمْ (¬3) - فِيْمَا ذَكَرَهُ ابنُ عبدِ البرِّ (¬4) وجماعَةٌ - في هذهِ المكرُمَةِ غيرُهُمْ. وقَدْ قيلَ: إنَّهُمْ شَهِدُوا الخنْدَقَ كُلُّهُمْ (¬5). وقَدْ يَقَعُ في الإخْوَةِ ما فيهِ خِلافٌ في مِقْدارِ عَدَدِهِمْ. ولَمْ نُطَوِّلْ بِمَا زادَ عَلَى (¬6) السَّبْعَةِ لِنَدْرَتِهِ ولِعَدَمِ الحاجَةِ إليهِ في غَرَضِنا هاهنا (¬7)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ والأرْبَعُونَ مَعْرِفَةُ رِوَايَةِ الآبَاءِ عَنِ الأبْناءِ (¬8) ¬
ولِلْخَطيبِ الحافِظِ في ذَلِكَ كِتابٌ (¬1) رُوِّينا فيهِ عنِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ عَنِ ابنهِ الفضلِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ((جَمَعَ بَيْنَ الصَّلاتَينِ بِالْمُزْدَلِفةِ)) (¬2). ورُوِّيْنا فيهِ عَنْ وائِلِ بنِ داودَ، عَنِ ابنِهِ بكرِ بنِ وائلٍ - وهُما ثِقَتانِ (¬3) - أحاديثَ منها عَنِ ابنِ عُيَينةَ، عَنْ وائِلِ بنِ داودَ، عَنِ ابنِهِ بكرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعيدِ بنِ المسَيِّبِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أخِّرُوا الأحْمالَ فإنَّ اليَدَ مُعَلَّقَةٌ (¬4) والرِّجْلَ مُوْثَقَةٌ)) (¬5). قالَ الخطيبُ: ((لا يُرْوَى عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما نعلمُهُ إلاَّ مِنْ جِهَةِ بكرٍ وأبيهِ)). ¬
ورُوِّيْنا فيهِ عَنْ مُعْتَمِرِ بنِ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ قالَ: حَدَّثَنِي أبي، قالَ: حَدَّثَتْنِي أنتَ عَنِّي عَنْ أيُّوبَ، عَنِ الحسَنِ، قالَ: وَيْحٌ (¬1): كَلِمَةُ رَحْمَةٍ. وهذا ظَرِيفٌ (¬2) يَجْمَعُ أنواعاً. ورُوِّيْنا فيهِ عَنْ أبي عُمَرَ حَفْصِ بنِ عُمَرَ الدُّوْرِيِّ الْمُقْرِئِ عَنِ ابنِهِ أبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ حَفْصٍ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثاً أوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وذَلِكَ أكثَرُ ما رُوِّيْناهُ (¬3) لأبٍ، عنِ ابنِهِ. وآخِرُ (¬4) ما رُوِّيْناهُ مِنْ هذا النَّوْعِ وأقْرَبُهُ عَهْداً ما حَدَّثَنِيهِ أبو الْمُظَفَّرِ عبدُ الرَّحِيمِ بنُ الحافِظِ أبي سَعْدٍ الْمَروزِيِّ بها - رَحِمَهُما اللهُ - مِنْ لَفْظِهِ قالَ: أنْبَأنِي والِدِي عَنِّي فيما قرأْتُ بِخَطِّهِ قالَ: حَدَّثَني وَلَدِي أبو الْمُظَفَّرِ عبدُ الرَّحيمِ مِنْ لَفْظِهِ وأصْلِهِ، فَذَكَرَ بإسْنادِهِ عَنْ أبي أُمامةَ: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((أحْضِرُوا مَوائِدَكُمُ البَقْلَ، فإنَّهُ مَطْرَدَةٌ للشَّيْطانِ مَعَ التَّسْمِيَةِ)) (¬5)!. وأمَّا الحديثُ الذي رُوِّيْناهُ عَنْ (¬6) أبي بكرٍ الصِّدِّيْقِ، عَنْ عائِشَةَ، عَنْ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: ((في الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ))، فَهُوَ غَلَطٌ مِمَّنْ رَوَاهُ (¬7)، إنَّما هُوَ عَنْ أبي بكرِ بنِ أبي عَتِيقٍ، عَنْ عائِشَةَ (¬8) وهوَ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحمانِ بنِ أبي الصِّدِّيْقِ. وهَؤلاءِ (¬9) هُمُ الذينَ قالَ فيهم موسى بنُ عُقْبَةَ: ¬
النوع الخامس والأربعون معرفة رواية الأبناء عن الآباء
((لا نَعرِفُ أربعةً أدْرَكُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هُمْ وأبْناؤُهُمْ إلاَّ هؤلاءِ الأربعةَ))، فَذَكَرَ أبا بكرٍ الصِّدِّيْقَ، وأباهُ، وابنَهُ عبدَ الرَّحْمانِ، وابنَهُ مُحَمَّداً أبا عَتِيقٍ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ والأرْبَعُونَ مَعْرِفَةُ رِوَايَةِ الأبْناءِ عَنِ الآبَاءِ (¬1) ولأبي نَصْرٍ الوَايلِيِّ (¬2) الحافِظِ في ذَلِكَ كِتابٌ (¬3) وأهَمَّهُ ما لَمْ يُسَمَّ فيهِ الأبُ أو الْجَدُّ، وهوَ نَوْعَانِ: أحَدُهُما: رِوايةُ الابنِ عَنِ الأبِ عَنِ الْجَدِّ، نحوُ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبيهِ، عَنْ جَدِّهِ. ولهُ بهذا الإسْنادِ نُسْخَةٌ كَبيرَةٌ أكثَرُها فِقْهِيَّاتٌ جِيَادٌ (¬4). وشُعَيبٌ هوَ ابنُ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ (¬5). وقَدْ احْتَجَّ أكْثَرُ أهْلِ الحديْثِ (¬6) بحديثِهِ حَمْلاً لِمُطْلَقِ الْجَدِّ فيهِ عَلَى الصَّحابِيِّ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ دُونَ ابنِهِ مُحَمَّدٍ والِدِ شُعَيبٍ ظَهَرَ لهم مِنْ إطْلاقِهِ (¬7) ذَلِكَ. ¬
ونَحْوُ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ جَدِّهِ، رَوَى بهذا الإسْنَادِ نُسْخَةً كَبيرةً (¬1) حَسَنَةً، وجَدُّهُ هوَ مُعاوِيَةُ بنُ حَيْدَةَ القُشَيْرِيُّ (¬2). وطَلْحَةُ بنُ مُصَرِّفٍ (¬3)، عَنْ أبيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وجَدُّهُ عَمْرُو بنُ كَعْبٍ اليَامِيُّ (¬4)، ويُقالُ: كَعْبُ بنُ (¬5) عَمْرٍو. ومِنْ أطْرَفِ (¬6) ذَلِكَ (¬7)، رِوايةُ أبي الفَرَجِ عبدِ الوهابِ التَّمِيْمِيِّ الفقيهِ الحنْبَلِيِّ. وكانَتْ لهُ ببغْدادَ في جامِعِ المنصُورِ حَلْقَةً للوَعْظِ والفتوَى - عَنْ أبيهِ في تِسْعَةٍ مِنْ آبائِهِ نسَقاً، أخْبَرَنِي بذلكَ الشَّيْخُ أبو الحسَنِ مُؤَيّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عليٍّ النَّيْسَابُورِيُّ بِقِرَاءَتِي عليهِ بها، قالَ: أخبَرَنا أبو مَنْصُورٍ عبدُ الرَّحمانِ بنُ مُحَمَّدٍ الشَّيْبانِيُّ في كِتابِهِ إلينا، قالَ: أخبَرَنا الحافِظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عليٍّ، قالَ: حَدَّثَنا عبدُ الوهابِ بنُ عبدِ العزِيزِ بنِ الحارِثِ بنِ أسَدِ بنِ اللَّيْثِ بنِ سُلَيْمانَ بنِ الأسْوَدِ بنِ سُفْيانَ بنِ يَزِيْدَ بنِ أُكَيْنَةَ بنِ عبدِ اللهِ التَّمِيْمِيُّ مِنْ لَفْظِهِ قالَ: سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ أبي يَقُولُ، سَمِعْتُ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ، وقَدْ سُئِلَ عَنِ الحنَّانِ المنَّانِ، فقالَ: ((الحنَّانُ الذي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أعْرضَ عنهُ، والمنَّانُ الذي يَبْدَأُ بالنَّوالِ قبلَ السُّؤَالِ)) (¬8). آخِرُهُمْ أُكَيْنةُ - بالنُّونِ - وهوَ السَّامِعُ عليّاً - رضي الله عنه -. حَدَّثَني أبو الْمُظَفَّرِ عبدُ الرَّحِيمِ ابنُ الحافِظِ أبي سَعْدٍ السَّمعانِيِّ بمرْوِ الشَّاهجانِ عَنْ أبي النَّضَرِ (¬9) عَبْدِ الرَّحمانِ بنِ عبدِ الجبَّارِ ¬
الفَامِيِّ (¬1)، قالَ: سَمِعْتُ السَّيِّدَ أبا القَاسِمِ مَنْصُورَ بنَ مُحَمَّدٍ العَلَوِيَّ، يقُولُ: الإسْنادُ بعضُهُ عَوَالٍ وبعضُهُ مَعالٍ. وقَوْلُ الرَّجُلِ: ((حَدَّثَني أبي عنْ جَدِّي)) مِنَ المعَالِي (¬2). الثَّاني: روايةُ الابنِ عَنْ أبيهِ دونَ الْجَدِّ وذلكَ بابٌ واسِعٌ، وهوَ نحوُ روايةِ أبي العُشَرَاءِ (¬3) الدَّارميِّ عَنْ أبيهِ، عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحديثُهُ معروفٌ (¬4). وقَدِ اختَلَفُوا فيهِ، فالأشْهَرُ أنَّ أبا العُشَرَاءِ هوَ أسَامةُ بنُ مالِكٍ بنِ قِهْطَمٍ، وهوَ فيما نقلْتُهُ منْ خَطِّ البَيْهَقِيِّ وغيرِهِ بكسرِ القافِ، وقيلَ: قِحْطَمٌ - بالحاءِ (¬5) - وقيلَ: هوَ عُطَارِدُ بنُ بَرْزٍ - بتسكينِ الرَّاءِ -، وقيلَ: بتحريكِهَا أيضاً، وقيلَ: ابنُ بَلْزٍ (¬6) - باللامِ -، وفي اسْمِهِ واسْمِ أبيهِ مِنَ الخِلافِ غيرُ ذَلِكَ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع السادس والأربعون معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر تباين وقت وفاتيهما
النَّوْعُ السَّادِسُ والأَرْبَعُونَ مَعْرِفَةُ مَنِ اشْتَرَكَ في الرِّوَايَةِ عَنْهُ رَاوِيَانِ (¬1) مُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ تَبَايَنَ (¬2) وَقْتُ وَفَاتَيْهِما تَبَايُناً شَدِيْداً فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا أَمَدٌ بَعِيْدٌ وإنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَعْدُودٍ مِنْ مُعَاصِرِي الأَوَّلِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ (¬3) ومِنْ فَوائدِ ذَلِكَ تَقْرِيرُ حَلاوَةِ عُلُوِّ الإسْنادِ في القُلُوبِ. وقَدْ أفْرَدَهُ الخطيبُ الحافِظُ في كِتابٍ حَسَنٍ سَمَّاهُ كِتابَ: " السَّابِقِ واللاَّحِقِ ". ومِنْ أمثَلتِهِ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ إسْحَاقَ الثَّقَفِيَّ السَّرَّاجَ النَّيْسَابُوريَّ رَوَى عنهُ البُخَارِيُّ الإمامُ في " تاريخِهِ " ورَوَى عنهُ أبو الحسِيْنِ (¬4) أحمدُ بنُ مُحَمَّدٍ الخفَّافُ (¬5) النَّيْسَابُوريُّ وبَيْنَ وفَاتَيْهِما مئةٌ وسبعٌ وثلاثُونَ سَنَةً أو أكْثَرُ، وذَلِكَ أنَّ البُخَارِيَّ ماتَ سَنَةَ سِتٍّ وخَمْسِينَ ومِئَتَينِ، وماتَ الخفَّافُ سَنَةَ ثَلاثٍ وتِسْعِيْنَ وثلاثِ مئةٍ، وقيلَ: ماتَ في سنةِ أربعٍ أوْ خمسٍ وتِسعينَ وثلاثِ مئةٍ (¬6). وكذلكَ مالِكُ بنُ أنَسٍ الإمامُ: حَدَّثَ عنهُ الزُّهْرِيُّ وزَكَرِيّا بنُ دُوَيدٍ (¬7) الكِنْدِيُّ وبَيْنَ وفَاتَيْهِما مِئةٌ وسَبْعٌ وثلاثُونَ سَنَةً أوْ أكْثَرُ إذْ ¬
النوع السابع والأربعون معرفة من لم يرو عنه إلا راو واحد من الصحابة والتابعين فمن بعدهم
ماتَ مالِكُ بنُ أنَسٍ سنةَ تِسْعٍ وتسعينَ ومئةٍ، وماتَ الزُّهْرِيُّ سنةَ أربعٍ وعِشرينَ ومئةٍ. ولَقَدْ حَظِيَ مالِكٌ بكَثيرٍ مِنْ هذا النوعِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّابِعُ والأَرْبَعُونَ مَعْرِفَةُ مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلاَّ رَاوٍ وَاحِدٌ (¬1) مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ (¬2) ولِمُسْلِمٍ فيهِ كِتابٌ لَمْ أرَهُ (¬3)، ومِثَالُهُ مِنَ الصَّحابةِ: وَهْبُ بنُ خَنْبَشٍ (¬4) وهوَ في كِتَابَي الحاكِمِ وأبي نُعَيْمٍ الأصْبهانِيِّ في " معرفَةِ عُلُومِ الحديثِ ": هَرِمُ بنُ خَنْبَشٍ، وهوَ روايةُ دَاودَ الأوْدِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وذلكَ خَطَأٌ صحابيٌّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ الشَّعْبِيِّ. وكذلكَ عامِرُ بنُ شَهْرٍ، وعُرْوةُ بنُ مُضَرِّسٍ (¬5)، ومُحَمَّدُ بنُ صَفْوانَ الأنْصَارِيُّ، ومُحَمَّدُ بنُ صيْفِيِّ الأنصارِيُّ (¬6) - وليْسا بواحِدٍ وإنْ قالَهُ بعضُهُمْ - صَحابِيُّونَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُم غيرُ الشَّعْبِيِّ (¬7). وانفرَدَ (¬8) قيسُ بنُ أبي حازِمٍ بالروايةِ عَنْ أبيهِ. وعَنْ دُكَيْنِ بنِ سعيدٍ الْمُزَنِيِّ، ¬
والصُّنَابِحِ (¬1) بنِ الأعْسَرِ، ومِرْدَاسِ (¬2) بنِ مالِكِ الأسَلمِيِّ، وكُلُّهُمْ صَحابةٌ. وقُدَامةُ بنُ عبدِ اللهِ الكِلابيُّ مِنْهُم، لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ أيْمَنَ بنِ نابِلٍ. وفي الصَّحابةِ جَماعَةٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُم غيرُ أبنائِهِمْ، مِنْهُم: شَكَلُ (¬3) بنُ حُمَيْدٍ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ شُتَيْرٍ (¬4)، ومِنْهُم الْمُسَيِّبِ بنُ حَزْنٍ (¬5) القُرَشِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ سَعيدِ بنِ المسَيِّبِ، ومُعَاوِيةُ بنُ حَيْدَةَ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ حَكيمٍ والِدُ بَهْزٍ، وقُرَّةُ بنُ إياسٍ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ مُعاوِيةَ، وأبو ليْلَى الأنصَارِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ عبدِ الرَّحمانِ بنِ أبي لَيْلَى. ثُمَّ إنَّ الحاكِمَ (¬6) أبا عبدِ اللهِ حَكَمَ في " المدخلِ إلى كِتابِ الإكلِيلِ " (¬7) بأنَّ أحَداً مِنْ هذا القَبِيلِ لَمْ يُخَرِّجْ عنهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ في " صَحِيحهما "، وأُنْكِرَ ذَلِكَ عليهِ ونُقِضَ عليهِ بإخْراجِ (¬8) البُخَارِيِّ في " صحيحهِ " حديثَ قيسِ بنِ أبي حازِمٍ عَنْ مِرْداسٍ الأسْلَمِيِّ: ((يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأوَّلُ فالأوَّلُ)) (¬9)، ولا رَاوِيَ لهُ غيرُ قَيْسٍ. وبإخْرَاجِهِ بلْ بإخْرَاجِهِما حديثَ المسَيِّبِ بنِ حَزْنٍ في وَفَاةِ أبي طَالِبٍ (¬10) مَعَ أنَّهُ لا رَاوِيَ لهُ غيرُ ابنِهِ، وبإخْرَاجِهِ حديثَ الحسَنِ البَصْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بنِ تَغْلِبَ: ((إنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ والذي أدَعُ أحبُّ إليَّ)) (¬11)، ولَمْ يَرْوِ عَنْ عَمْرٍو غيرُ الحسَنِ. وكَذَلِكَ أخْرَجَ مُسْلِمٌ في ¬
"صَحيحِهِ" حديثَ رافِعِ بنِ عَمْرٍو الغِفَارِيِّ، ولَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ عبدِ اللهِ بنِ الصَّامِتِ (¬1)، وحديثَ أبي رِفَاعةَ العَدَوِيِّ ولَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ العَدَوِيِّ (¬2)، وحديثَ الأغَرِّ الْمُزَنِيِّ: ((إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي)) (¬3)، ولَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ أبي بُرْدَةَ في أشْياءَ كَثِيْرَةٍ عِنْدَهُما في كِتابَيْهِما عَلَى هذا النَّحْوِ، وذَلِكَ دَالٌّ عَلَى مَصِيرِهِما إلى أنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْهُولاً مَرْدُوداً بِرِوايةِ واحِدٍ عنهُ، وقَدْ قَدَّمْتُ هذا في النَّوعِ الثَّالِثِ والعِشْرِينَ. ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْ أبي عُمَرَ بنِ عبدِ البرِّ الأندلسِيِّ وِجَادَةً، قالَ: ((كُلُّ مَنْ لَمْ يرْوِ عنهُ إلاَّ رَجُلٌ واحِدٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَجْهُولٌ إلاَّ أنْ يَكُونَ رَجُلاً مَشْهُوراً في غيرِ حَمْلِ العِلْمِ كاشْتِهارِ مالِكِ بنِ دِينارٍ بالزُّهْدِ، وعَمْرِو بنِ مَعْدِيْ كَرِبٍ بالنَّجْدَةِ)) (¬4). واعْلَمْ أنَّهُ قَدْ يُوجدُ في بعضِ مَنْ ذَكَرْنا تَفَرُّدُ راوٍ واحِدٍ عنهُ خِلافٌ في تَفَرُّدِهِ، ومِنْ ذَلِكَ قُدَامَةُ بنُ عبدِ اللهِ، ذَكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ أنَّهُ رَوَى عنهُ أيضاً حُمَيْدُ بنُ كِلاَبٍ (¬5)، واللهُ أعلمُ. ومِثَالُ هذا النَّوعِ في التَّابعينَ: أبو العُشَراءِ الدَّارِمِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ - فيما نَعْلَمُ (¬6) - غيرُ حَمَّادِ بنِ سَلَمةَ. ومَثَّلَ الحاكِمُ لهذا النَّوعِ في التَّابعينَ بـ: مُحَمَّدِ بنِ أبي سُفْيانَ الثَّقَفِيِّ وذَكَرَ أنَّهُ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ الزُّهْرِيِّ فِيْمَا يُعْلَمُ (¬7)، قالَ: وكَذَلِكَ تَفَرَّدَ الزُّهْرِيُّ عَنْ نَيِّفٍ وعِشْرِينَ رَجُلاً مِنَ التَّابعينَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُم غيرُهُ، وكَذَلِكَ عَمْرُو بنُ دِيْنارٍ تَفَرَّدَ عَنْ جَماعةٍ مِنَ التَّابعينَ، وكَذَلِكَ يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ الأنْصَارِيِّ، وأبو إسْحاقَ السَّبِيْعِيُّ، وهِشَامُ بنُ عُرْوَةَ وغيرُهُمْ (¬8)، وسَمَّى الحاكِمُ مِنْهُم في بعضِ المواضِعِ فيمَنْ تَفَرَّدَ عَنْهُم عَمْرُو بنُ ¬
النوع الثامن والأربعون معرفة من ذكر بأسماء مختلفة أو نعوت متعددة
دينارٍ: عبدَ الرَّحمانِ بنَ مَعْبَدٍ، وعبدَ الرَّحمانِ بنَ فَرُّوخٍ (¬1)، وفِيْمَنْ تَفَرَّدَ عَنْهُم الزُّهْرِيُّ عَمْرَو بنَ أبانَ بنِ عُثْمانَ، وسِنانَ بنَ أبي سِنانٍ الدُّؤَلِيَّ. وفيْمَنْ تَفرَّدَ عنهُمْ يَحْيَى (¬2): عبدَ اللهِ بنَ أنيسٍ الأنصاريَّ. ومثَّلَ في أتْباعِ التَّابِعينَ بالمِسْوَرِ بنِ رِفَاعةَ القُرَظِيِّ وذَكَرَ أنَّهُ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ مالِكٍ. وكذلكَ تَفَرَّدَ مالِكٌ عَنْ زُهَاءِ عَشَرةٍ مِنَ شُّيُوخِ المدينةِ (¬3). قُلْتُ: وأخْشَى أنْ يَكُونَ الحاكِمُ في تَنْزِيلِهِ بَعضِ مَنْ ذَكَرَهُ بالْمَنْزِلَةِ التي جَعَلَهُ فيها، مُعْتَمِداً عَلَى الحِسْبانِ والتَّوَهُّمِ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّامِنُ والأَرْبَعُوْنَ مَعْرِفَةُ مَنْ ذُكِرَ بأَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ نُعُوْتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَظَنَّ مَنْ لاَ خِبْرَةَ لَهُ بِهَا أَنَّ تِلْكَ الأَسْمَاءَ أَو النُّعُوْتَ لِجَمَاعَةٍ مُتَفَرِّقِيْنَ (¬4) هذا فنٌ عويصٌ والحاجةُ إليه حاقَّةٌ، وفيهِ إظهارُ (¬5) تدليس المدلِّسينَ؛ فإنَّ أكثرَ ذلكَ إنما نَشَأَ منْ (¬6) تَدليسهم. وَقَدْ صَنَّفَ عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ الحافظُ المِصريُّ (¬7) وغيُرُه في ذلكَ (¬8). مثالُهُ: مُحَمَّدُ بنُ السَّائبِ الكلبيُّ صاحبُ التَّفسيرِ هوَ أبو النّضْرِ الذي رَوَى عنهُ ¬
مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ يَسارٍ حديثَ تَميمٍ الدَّاريِّ (¬1)، وَعديِّ بنِ بَدَّاءٍ (¬2)، وهو حمَّادُ بنُ السائبِ الذي روى عنهُ أبو أسامةَ حديثَ: ((ذكاةُ كلِّ مَسْكٍ دِباغُهُ)) وهو أبو سعيدٍ الذي يروي عنهُ عَطيَّةُ العوْفيُّ التَّفسيرَ يُدَلِّسُ بهِ موهماً أنَّهُ أبو سعيدٍ الخُدْريُّ. ومثالُهُ أيضاً: سالِمٌ الرَّاوي عن أبي هُريرةَ وأبي سعيدٍ الخُدْريِّ وعائشةَ - رضي الله عنهم - هوَ سالِمٌ أبو عبد اللهِ المَدينيُّ، وهوَ سالِمٌ مَوْلَى مالكِ بنِ أوسِ بنِ الحدَثَانِ (¬3) النَّصْريِّ (¬4)، وهوَ سالِمٌ مولَى شَدَّادِ بنِ الهادِ النَّصْرِيِّ، وهوَ في بعضِ الرِّواياتِ مُسَمًّى بـ: سالِمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّيْنَ، وفي بعضِها بـ: سالِمٍ مولَى الْمَهْرِيِّ، وهوَ في بَعْضِها سالِمٌ سَبَلاَنُ، وفي بعضِها أبو عبدِ اللهِ مولَى شَدَّادِ بنِ الهادِ، وفي بعضِها سالِمٌ أبو عبدِ اللهِ الدَّوْسِيُّ، وفي بعضِها سالِمٌ مولَى دَوْسٍ، ذكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ عبدُ الغنيِّ بنُ سَعيدٍ (¬5). قُلْتُ: والخطيبُ الحافِظُ يَرْوِي في كُتُبهِ عَنْ أبي القاسِمِ الأزْهَرِيِّ، وعَنْ عُبيدِ اللهِ (¬6) ابنِ أبي الفَتْحِ الفارِسِيِّ، وعَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ عُثمانَ الصَّيْرَفِيِّ، والجميعُ شَخْصٌ واحِدٌ مِنْ مَشَايخِهِ. وكذلكَ يَرْوِي عَنِ الحسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الخَلاَّلِ، وعنِ الحسَنِ بنِ أبي ¬
النوع التاسع والأربعون معرفة المفردات الآحاد من أسماء الصحابة ورواة الحديث والعلماء
طالبٍ، وعَنْ أبي مُحَمَّدٍ الخَلاَّلِ، والجميعُ عبارةٌ عَنْ واحِدٍ (¬1). ويَرْوِي أيضاً عَنْ أبي القاسِمِ التَّنُوخِيِّ (¬2)، وعَنْ عليِّ (¬3) بنِ الْمُحَسِّنِ (¬4)، وعَنِ القَاضِي أبي القاسِمِ عليِّ بنِ الْمُحَسِّنِ التَّنُوخِيِّ، وعَنْ عليِّ بنِ أبي عليٍّ (¬5) الْمُعَدَّلِ، والجميعُ شخصٌ واحِدٌ. ولهُ مِنْ ذَلِكَ الكثيرُ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ التَّاسِعُ والأرْبَعُونَ مَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ الآحَادِ مِنْ أسْمَاءِ الصَّحَابَةِ ورُوَاةِ الْحَدِيْثِ وَالعُلَمَاءِ وَأَلْقَابِهِمْ وكُنَاهُمْ (¬6) هذا نوعٌ مَليحٌ عَزيزٌ (¬7) يُوجَدُ في كُتُبِ الحفَّاظِ المصَنَّفَةِ في الرِّجالِ، مَجمُوعاً مُفَرَّقاً (¬8) في أوَاخِرِ أبْوَابِها، وأُفْرِدَ أيضاً بالتَّصْنِيفِ، وكِتابُ أحمدَ بنِ هَارُونَ البِرْدِيجِيِّ البَرْذَعِيِّ الْمُتَرَجَمُ بـ" بالأسْماءِ المفردةِ " مِنْ أشْهَرِ كِتَابٍ في ذَلِكَ. ولَحِقَهُ في كَثِيرٍ منهُ اعْتِرَاضٌ واسْتِدْرَاكٌ مِنْ غيرِ واحِدٍ مِنَ الحفَّاظِ، مِنْهُم: أبو عبدِ اللهِ بنُ بُكَيْرٍ. ¬
فَمِنْ ذَلِكَ ما وَقَعَ في كونِهِ ذَكَرَ أسماءً كثيرةً عَلَى أنَّها آحَادٌ وهيَ مَثَانٍ ومَثَالِثٌ. وأكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وعلى ما فَهِمْنا مِنْ شَرْطِهِ لا يلْزِمُهُ ما يُوجدُ مِنْ ذَلِكَ في غيرِ أسماءِ الصَّحابةِ والعُلَماءِ ورُوَاةِ الحديثِ، ومِنْ ذَلِكَ أفْرَادٌ ذَكَرَها اعْتُرِضَ عليهِ فيها بأنَّها ألْقَابٌ لا أسَامِي، منها: - الأجْلَحُ الكِنْدِيُّ، إنَّمَا هُوَ لَقَبٌ لِجَلَحَةٍ (¬1) كَانتْ بهِ، واسْمُهُ يَحْيَى، ويَحْيَى كَثيرٌ. - ومنها: صُغْدِيُّ (¬2) بنُ سِنانٍ، اسْمُهُ عُمَرُ، وصُغْدِيٌّ لَقَبٌ، ومَعَ ذَلِكَ فَلَهُمْ صُغَدِيٌّ غيرُهُ. وليسَ يَرِدُ هذا عَلَى ما ترجمْتُ بهِ هذا النَّوعَ، والحَقُّ أنَّ هذا فَنٌّ يَصْعُبُ الحُكْمُ فيهِ، والحاكِمُ فيهِ عَلَى خَطَرٍ مِنَ الخَطَأ والانْتِقَاضِ؛ فإنَّهُ حَصْرٌ في بابٍ واسِعٍ شَديدِ الانْتِشَارِ. فَمِنْ أمْثِلَةِ ذَلِكَ المسْتَفَادِةِ: - أجْمَدُ (¬3) بنُ عُجَيَّانَ الْهَمْدَانِيُّ - بالجيمِ - صَحابيٌّ ذَكَرَهُ ابنُ يُونُسَ، وعُجَيَّانُ كُنَّا نَعْرِفُهُ بالتَّشْديدِ عَلَى وَزِنِ عُلَيَّانَ. ثُمَّ وَجدْتُهُ بخطِّ ابنِ الفُرَاتِ - وهوَ حُجَّةٌ - عُجْيَانَ - بالتَّخفيفِ - عَلَى وَزنِ سُفْيانَ. - أَوْسَطُ بنُ عَمْرٍو البَجَلِيُّ، تابِعِيٌّ. - تَدُومُ بنُ صُبْحٍ (¬4) الكَلاَعيُّ عَنْ تُبَيْعِ بنِ عامِرٍ الكَلاَعيِّ، ويُقَالُ فيهِ: يَدُومُ - بالياءِ - وصَوابُهُ - بالتَّاءِ المثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ -. - جُبَيْبُ بنُ الحارِثِ صَحَابِيٌّ - بالجيمِ وبالباءِ الموحَّدَةِ المكرَّرَةِ. - جِيْلاَنُ بنُ فَرْوَةَ - بالجيمِ المكْسُورةِ - أبو الجَلْدِ (¬5) الأخْبَارِيُّ تابعيٌّ. - الدُّجيْنُ بنُ ثابتٍ: - بالجيمِ مُصَغَّراً -. ¬
- أبو الغُصْنِ، قيلَ: إنَّه جُحَا المعروفُ، والأصحُّ أنهُ غيرُهُ (¬1). - زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ (¬2) التابعيُّ الكبيرُ (¬3). - سُعَيْرُ بنُ الخِمْسِ (¬4)، انْفَردَ في اسْمِهِ واسْمِ أبيهِ. - سَنْدَرٌ الْخَصِيُّ مَوْلَى زِنْبَاعِ الْجُذَامِيُّ لهُ صُحْبَةٌ (¬5). - شَكَلُ بنُ حُمَيْدٍ الصَّحابِيُّ - بفَتْحَتَيْنِ -. - شَمْعُونُ بنُ زَيْدٍ أبو رَيْحانَةَ-بالشِّيْنِ المنقوطةِ والعَينِ المهملةِ، ويُقَالُ: بالغينِ المعجمةِ -. قالَ أبو سَعيدِ بنِ يُونُسَ: وهوَ عِنْدِي أصَحُّ، أحَدُ الصَّحَابةِ الفُضَلاءِ. - صُدَيُّ بنُ عَجْلانَ أبو أُمامَةَ الصَّحابِيُّ. - صُنَابِحُ بنُ الأعْسَرِ الصَّحَابِيُّ، ومَنْ قالَ فيهِ: صُنابِحِيٌّ فَقَدْ أخْطأَ (¬6). - ضُرَيْبُ بنُ نُقَيْرِ بنِ سُمَيْرٍ - بالتَّصْغِيْرِ - فيها كُلُّها، أبو السَّلِيْلِ (¬7) القَيْسِيُّ البَصْريُّ، رَوَى عَنْ مُعَاذَةَ العَدَوِيَّةِ وغيرِها، ونُقَيْرٌ أبوهُ - بالنُّونِ والقافِ - وقيلَ: بالفاءِ واللامِ: نُفَيْلٌ. - عَزْوانُ بنُ زَيْدٍ الرَّقَاشِيُّ - بعينٍ غيرِ مُعجمةٍ، عَبْدٌ صَالِحٌ تَابِعِيٌّ (¬8). - قَرثَعٌ الضَّبِّيُّ - بالثَّاءِ المثَلَّثةِ -. - كَلَدَةُ بنُ حَنْبَلٍ - بفتحِ اللاَّمِ - صَحابِيٌّ. ¬
- لُبَيُّ بنُ لَبَا الأسدِيُّ الصَّحابِيُّ - باللاَّمِ فيهما، والأوَّلُ مُشَدَّدٌ مُصَغَّرٌ عَلَى وِزَانِ أُبَيٍّ، والثَّاني مُخَفَّفٌ مُكَبَّرٌ عَلَى وَزْنِ عَصًا - فاعْلِمْهُ فإنَّهُ يُغْلَطُ فيهِ. - مُسْتَمِرُّ بنُ الرَّيَّانِ، رَأَى أنَساً (¬1). - نُبَيْشَةُ الخَيْرِ (¬2)، صَحَابِيٌّ. - نَوْفٌ البِكَالِيُّ (¬3)، تَابِعِيٌّ، مِنْ بِكَالٍ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرٍ - بكسرِ الباءِ وتخفيفِ الكَافِ، وغَلَبَ عَلَى ألسِنَةِ أهلِ الحديثِ فيهِ فَتْحُ الباءِ وتَشْدِيْدُ الكافِ. - وَابِصَةُ بنُ مَعْبَدٍ الصَّحَابِيُّ. - هُبَيْبُ بنُ مُغْفِلٍ، مصغَّرٌ - بالباءِ الموحَّدةِ المكرَّرةِ - صَحابِيٌّ، ومُغْفِلٌ - بالغينِ المنقُوطَةِ السَّاكِنةِ -. - هَمَذَانُ - بَرِيْدُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ -: ضَبَطَهُ ابنُ بُكَيْرٍ وغيرُهُ -بالذَّالِ المعجمةِ-، وضَبَطَهُ بعضُ مَنْ ألَّفَ عَلَى كِتابِ البِرْدِيْجِيِّ - بالدَّالِ المهملَةِ وإسكانِ الميمِ -. وأمَّا الكُنى الْمُفْرَدَةُ، فمِنها: - أبو العُبَيْدَيْنِ - مُصَغَّرٌ مُثَنًّى - واسمُهُ: معاويةُ بنُ سَبْرَةَ (¬4) منْ أصحابِ ابنِ مسعودٍ، لهُ حديثانِ أو ثلاثةٌ. - أبو العُشَراءِ الدَّارِميُّ، وقدْ سَبَقَ. - أبو الْمُدِّلَّةِ - بكسرِ الدَّالِ المهملةِ وتشديدِ اللامِ (¬5)، ولَمْ يُوقَفُ عَلَى اسْمِهِ، رَوَى عنهُ الأعمشُ وابنُ عُيَيْنَةَ وجماعَةٌ، ولا نَعْلَمُ أحَداً تابَعَ أبا نُعَيْمٍ الحافظَ في قَولِهِ (¬6): ¬
إنَّ اسْمَهُ: عُبَيْدُ اللهِ (¬1) بنُ عبدِ اللهِ المدَنِيُّ (¬2). - أبو مُرَايَةَ العِجْلِيُّ، عَرَفْناهُ بضمِّ الميمِ وبعدَ الألِفِ ياءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تحتُ واسْمُهُ: عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، تابِعِيٌّ، رَوَى عنهُ قَتَادَةُ. -أبو مُعَيْدٍ- مُصَغَّرٌ، مخَفَّفُ الياءِ -حَفْصُ بنُ غَيْلانَ الْهَمْدانِيُّ، عَنْ مَكْحُولٍ وغيرِهِ. وأمَّا الأفْرَادُ مِنَ الألْقَابِ فَمِثَالُها: - سَفِيْنَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الصَّحَابةِ، لَقَبٌ (¬3) فَرْدٌ، واسْمُهُ: مِهْرانُ عَلَى خِلافٍ فيهِ. - مِنْدَلُ (¬4) بنُ عليٍّ، وهوَ بكسرِ الميمِ (¬5) عَنِ الخطيبِ وغيرِهِ، ويقُولُونَهُ كثيراً بفتْحِها، وهوَ لَقَبٌ، واسْمُهُ: عَمْرٌو. - سُحْنُونُ (¬6) بنُ سعيدٍ التَّنوخِيُّ القَيْرَوانِيُّ - صاحِبُ " المدوَّنَةِ " - عَلَى مَذْهَبِ مالِكٍ، لَقَبٌ فَرْدٌ، واسْمُهُ: عبدُ السَّلامِ. - ومِنْ ذَلِكَ مُطَيَّنٌ (¬7) الحضْرَمِيُّ. ¬
النوع الموفي خمسين معرفة الأسماء والكنى
- ومُشْكُدَانَةُ (¬1) الْجُعْفِيُّ في جَماعَةٍ آخَرِينَ سَنَذْكُرُهُمْ في نوعِ الألْقَابِ - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى -، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الْمُوَفِّي خَمْسِيْنَ مَعْرِفَةُ الأَسْمَاءِ وَالكُنَى (¬2) كُتُبُ الأسْماءِ والكُنَى كَثِيرةٌ، منها: كِتابُ عليِّ بنِ المدينيِّ، وكِتابُ مُسْلِمٍ، وكِتابُ النَّسائيِّ، وكِتابُ الحاكِمِ الكبيرِ أبي أحمدَ الحافِظِ، ولابنِ عبدِ البرِّ في أنواعٍ منهُ كُتُبٌ لَطِيفةٌ رائِقَةٌ (¬3). والمرادُ بهذهِ التَّرْجمةِ بيانُ أسْماءِ ذَوِي الكُنَى. والمصنِّفُ في ذَلِكَ يُبَوِّبُ كِتابَهُ عَلَى الكُنَى مُبَيِّناً أسْماءَ أصْحابِها. وهذا فَنٌّ مَطْلُوبٌ لَمْ يَزَلْ أهلُ العِلْمِ بالحديثِ يُعْنَونُ بهِ ويَتَحَفَّظُونَهُ ويَتَطَارَحُونَهُ فيما بَيْنَهُمْ ويَتَنَقَّصُونَ (¬4) مَنْ جَهِلَهُ وقدْ ابْتَكَرْتُ فيهِ تَقْسِيماً حَسَناً، فأقُولُ: أصْحَابُ الكُنَى فيها عَلَى ضُرُوبٍ: أحَدُها: الذِينَ سُمُّوا بالكُنَى فأسْماؤُهُمْ كُناهُمْ لا أسْماءَ لهُمْ غيرُها، ويَنْقَسِمُ هَؤُلاءِ (¬5) إلى قِسْمَينِ: أحَدُهُما: مَنْ لهُ كُنيةٌ أخْرَى سِوَى الكُنْيَةِ التي هيَ اسْمُهُ، فَصَارَ كأنُّ للكُنِيةِ كُنيةً، ¬
وذَلِكَ طريفٌ عَجيبٌ (¬1). هذا كأبي بكرِ بنِ عبدِ الرَّحمانِ (¬2) بنِ الحارِثِ بنِ هِشَامٍ المخْزُومِيِّ أحَدِ فُقَهَاءِ المدينةِ السَّبْعةِ وكانَ يُقَالُ لهُ: ((راهِبُ قُرَيْشٍ))، اسْمُهُ: أبو بَكْرٍ، وكُنْيَتُهُ: أبو عبدِ الرَّحمانِ. وكذلكَ أبو بكرِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ (¬3) عَمْرِو بنِ حَزْمٍ الأنْصَاريُّ، يُقَالُ: إنَّ اسْمَهُ: أبو بكرٍ، وكُنْيَتُهُ: أبو مُحَمَّدٍ، ولا نَظِيْرَ لِهَذَينِ في ذَلِكَ، قالَهُ الخطيبُ. وقَدْ قيلَ: إنَّهُ لا كُنيةَ لابنِ حَزْمٍ (¬4) غيرُ الكُنيةِ التي هيَ (¬5) اسْمُهُ. الثَّاني مِنْ هَؤُلاءِ: مَنْ لا كُنْيَةَ لهُ غيرُ الكُنيةِ التي هيَ اسْمُهُ. مِثَالُهُ: أبو بِلالٍ الأشْعَرِيُّ الرَّاوي عَنْ شَرِيْكٍ وغيرِهِ، رُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: ليسَ لي اسْمٌ؛ اسْمِي وكُنْيَتِي واحِدٌ (¬6). وهَكَذا أبو حَصِيْنِ بنُ يَحْيَى بنِ سُلَيْمانَ الرَّازِيُّ -بفتحِ الحاءِ-. روَى عنهُ جَماعَةٌ مِنْهُم: أبو حاتِمٍ الرَّازيُّ، وسَأَلَهُ: هَلْ لكَ اسمٌ؟ فقَالَ: لا، اسْمِي وكُنْيَتِي واحِدٌ (¬7). الضَّرْبُ الثَّانِي: الذِينَ عُرِفُوا بِكُناهُمْ ولَمْ يُوقَفْ عَلَى أسْمائِهِمْ ولا عَلَى حالِهِمْ فيها، هلْ هي (¬8) كُناهُمْ أوْ غيرُها؟ مِثَالُهُ مِنَ الصَّحَابةِ: - أبو أُنَاسٍ -بالنُّونِ- الكِنانِيُّ، ويُقَالُ: الدِّيْلِيُّ (¬9) مِنْ رَهْطِ أبي الأسْودِ الدِّيْلِيِّ، ويُقَالُ فيهِ: الدُّؤَلِيُّ - بالضَّمِّ والهمزةُ مفتوحَةٌ - في النَّسَبِ عِنْدَ بعضِ أهلِ العربِيَّةِ، ومَكْسُورَةٌ عِنْدَ بعضِهِمْ عَلَى الشُّذُوذِ فيهِ (¬10). ¬
- وأبو مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. - وأبو شَيْبَةَ الْخُدْرِيُّ الذي ماتَ في حِصَارِ القُسْطَنْطِيْنِيَّةِ ودُفِنَ هُنَاكَ مَكانَهُ. ومِنْ غيرِ الصَّحَابةِ: - أبو الأَبْيَضِ الرَّاوِي عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ (¬1). - أبو بكرِ بنُ نافِعٍ مَوْلَى ابنِ عُمَرَ، رَوَى عنهُ مالِكٌ وغيرُهُ. - أبو النَّجِيبِ مَوْلَى عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ (¬2) - بالنُّونِ المفتوحةِ في أوَّلِهِ، وقيلَ: بالتَّاءِ المضمومةِ باثنتينِ مِنْ فوقُ (¬3) -. - أبو حَرْبِ بنِ أبي الأسْودِ الدِّيلِيُّ (¬4). - أبو حَرِيْزٍ الْمَوْقِفِيُّ (¬5)، والْمَوْقِفُ مَحَلَّةٌ بِمِصْرَ. روَى عنهُ ابنُ وَهْبٍ وغيرُهُ، واللهُ أعلمُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الذِيْنَ لُقِّبُوا بالكُنَى ولَهُمْ غيرُ ذَلِكَ كُنًى وأسْماءٌ، مِثَالُهُ: - عليُّ بنُ أبي طالِبٍ - رضي الله عنه -، يُلَقَّبُ بأبي تُرَابٍ، ويُكْنَى أبا الحسَنِ. - أبو الزِّنادِ عبدِ اللهِ بنِ ذَكْوَانَ، كُنْيَتُهُ: أبو عبدِ الرَّحمانِ، وأبو الزِّنَادِ لَقَبٌ. وذَكَرَ الحافِظُ أبو الفَضْلِ (¬6) الفَلَكِيُّ - فيما بَلَغَنا عنهُ - أنَّهُ كانَ يَغْضَبُ مِنْ أبي الزِّنادِ وكانَ عالِماً مُفْتَناً (¬7). - أبو الرِّجَالِ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحمانِ الأنصَارِيُّ، كُنْيَتُهُ: أبو عبدِ الرَّحْمانِ، وأبو الرِّجالِ لَقَبٌ لُقِّبَ بهِ؛ لأنَّهُ كانَ لهُ عَشَرَةُ أوْلادٍ كُلُّهُمْ رِجالٌ. ¬
- أبو تُمَيْلَةَ -بِتَاءٍ مَضْمُومةٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ- يَحْيَى بنُ واضِحٍ الأنْصَارِيُّ المرُوزِيُّ، يُكْنَى: أبا مُحَمَّدٍ، وأبو تُمَيْلَةَ لَقَبٌ، وثَّقَهُ يَحْيَى بنُ مَعينٍ وغيرُهُ، وأنْكَرَ أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ (¬1) عَلَى البُخَارِيِّ إدْخالَهُ إيَّاهُ في كِتابِ " الضُّعَفَاءِ ". - أبو الآذانِ الحافِظُ عُمَرُ بنُ إبرَاهِيمَ، يُكْنَى أبا بَكْرٍ، وأبو الآذَانِ لَقَبٌ لُقِّبَ بهِ؛ لأنَّهُ كانَ كبيرَ الأُذُنَيْنِ. - أبو الشَّيْخِ الأصْبهانِيُّ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الحافِظُ كُنْيَتُهُ أبو مُحَمَّدٍ، وأبو الشَّيْخِ لَقَبٌ. - أبو حَازِمٍ العَبْدَوِيُّ (¬2) الحافِظُ عُمَرُ بنُ أحمدَ، كُنْيَتُهُ: أبو حَفْصٍ، وأبو حازِمٍ لَقَبٌ، وإنَّما اسْتَفَدْناهُ مِنْ كِتابِ الفَلَكِيِّ في " الألقابِ " (¬3)، واللهُ أعلمُ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَنْ لهُ كُنْيتانِ أو أكْثَرُ. مِثَالُ ذَلِكَ: - عبدُ الملكِ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ جُرَيْجٍ (¬4) كانتْ لهُ كُنْيَتانِ: أبو خالدٍ، وأبو الوليدِ. - عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ حَفْصٍ العُمَرِيُّ أخو عُبيدِ اللهِ رُوِيَ أنَّهُ كانَ يُكْنَى أبا القاسِمِ فَتَرَكَهَا واكْتَنَى أبا عبدِ الرَّحْمانِ. وكانَ لِشَيْخِنا منصُورِ بنِ أبي المعَالِي النَّيْسابوريِّ - حفيدِ الفرَاوِيِّ - ثَلاثُ كُنًى: أبو بكرٍ، وأبو الفَتْحِ، وأبو القَاسِمِ، واللهُ أعلمُ. ¬
الضَّرْبُ الخامِسُ: مَنِ اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ فَذُكِرَ لهُ عَلَى الاخْتِلافِ كُنْيتانِ أوْ أكْثَرُ، واسمُهُ مَعْرُوفٌ، ولِعَبْدِ اللهِ بنِ عَطاءٍ الإبْرَاهِيْمِيِّ الْهَرَوِيِّ - مِنَ المتأخِّرِينَ - فيهِ مُخْتَصَرٌ. مِثَالُهُ: - أُسَامةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قيلَ: كُنْيَتُهُ أبو زيدٍ، وقيلَ: أبو مُحَمَّدٍ، وقيلَ: أبو عبدِ اللهِ، وقيلَ: أبو خارِجةَ. - أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، أبو المنْذِرِ، وقيلَ: أبو الطُّفَيْلِ (¬1). - قَبِيْصَةُ بنُ ذُؤَيْبٍ، أبو إسْحاقَ، وقيلَ: أبو سَعِيْدٍ. - القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ: أبو عبدِ الرَّحْمانِ، وقيلَ: أبو مُحَمَّدٍ. - سُلَيْمانُ بنُ بِلالٍ المدنِيُّ: أبو بِلالٍ، وقيلَ: أبو مُحَمَّدٍ (¬2). وفي بعضِ مَنْ ذُكِرَ في هذا القسمِ مَنْ هُوَ في نفسِ الأمْرِ مُلتحقٌ بالضَّرْبِ الذي قَبْلَهُ، واللهُ أعلمُ. الضَّرْبُ السَّادِسُ: مَنْ عُرِفَتْ كُنْيَتُهُ واخْتُلِفَ في اسْمِهِ. مِثَالُهُ مِنَ الصَّحابةِ: - أبو بَصْرَةَ الغِفَارِيُّ عَلَى لَفْظِ البَصْرَةِ البلْدَةِ، قيلَ: اسمهُ جَمِيلُ بنُ بَصْرَةَ - بالجيمِ -، وقيلَ: حُمَيْلٌ - بالحاءِ المهملةِ المضمومةِ - وهوَ الأصَحُّ (¬3). - أبو جُحَيْفَةَ السُّوائِيُّ (¬4)، قيلَ: اسمُهُ وَهْبُ بنُ عبدِ اللهِ، وقيلَ: وَهْبُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ (¬5). ¬
- أبو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ، اخْتُلِفَ في اسْمِهِ واسْمِ أبيهِ (¬1) اختلافٌ كثيرٌ جِدّاً لَمْ يُخْتَلَفْ مِثْلُهُ في اسْمِ أحَدٍ في الجَاهِلِيَّةِ والإسْلامِ، وذَكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ أنَّ فيهِ نحوَ عِشْرينَ قَوْلَةً في اسْمِهِ واسْمِ أبيهِ، وأنَّهُ لِكَثْرَةِ الاضْطِرابِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ في اسْمِهِ شيءٌ يُعْتَمَدُ عليهِ إلاَّ أنَّ عبدَ اللهِ أو عبدَ الرَّحْمَانِ هوَ الذي يَسْكُنُ إليهِ القَلْبُ في اسْمِهِ في الإسلامِ (¬2)، وذَكَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إسْحاقَ: ((أنَّ اسْمَهُ عبدُ الرَّحْمانِ بنُ صَخْرٍ)) (¬3)، قالَ (¬4): وعلى هذا اعْتَمَدَتْ طَائِفةٌ ألَّفَتْ في الأسْماءِ والكُنَى (¬5)، قالَ: وقالَ أبو أحمدَ الحاكِمُ: أصَحُّ شيءٍ عِنْدَنا في اسْمِ أبي هُرَيْرَةَ: عبدُ الرَّحمانِ بنُ صَخْرٍ (¬6). ومِنْ غَيْرِ الصَّحابةِ: - أبو بُرْدَةَ بنُ أبي مُوْسَى الأشْعَرِيُّ أكْثَرُهُمْ عَلَى أنَّ اسْمَهُ عامِرٌ، وعَنْ ابنِ مَعِيْنٍ أنَّ اسْمَهُ: الحارِثُ (¬7). - أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ، راوِي قِراءةِ عاصِمٍ، اخْتُلِفَ في اسْمِهِ عَلَى أحَدَ عَشَرَ قَوْلاً، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: ((إنْ صَحَّ لهُ اسْمٌ فهوَ شُعْبَةُ لا غيرُ، وهوَ الذي صَحَّحَهُ أبو زُرْعَةَ)) (¬8). قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: ((وقيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ وهذا أصَحُّ إنْ شَاءَ اللهُ؛ لأنَّهُ رُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: ما لِيَ اسْمٌ غيرُ أبي بكرٍ)) (¬9)، واللهُ أعلمُ. ¬
السَّابِعُ (¬1): مَنِ اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ واسْمِهِ معاً، وذلكَ قَليلٌ. مِثَالُهُ: - سَفِيْنَةُ مَوْلَى رَسُولِ (¬2) اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قيلَ: اسمُهُ عُمَيْرٌ، وقيلَ: صالِحٌ، وقيلَ: مِهْرَانُ، وكُنْيَتُهُ: أبو عبدِ الرَّحمانِ، وقيلَ: أبو البَخْتَرِيِّ، واللهُ أعلمُ. الثَّامِنُ (¬3): مَنْ لَمْ يُخْتَلَفْ في كُنيتِهِ واسْمِهِ وعُرِفا جَمِيْعاً واشْتُهِرا. ومِنْ أمثِلَتِهِ: أئِمَّةُ المذَاهِبِ ذَوُو أبي عبدِ اللهِ: مالِكٌ، ومُحَمَّدُ بنُ إدريسَ الشَّافِعِيُّ، وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، وسُفيانُ الثَّوريُّ، وأبو حنيفةَ النُّعمانُ بنُ ثابِتٍ في خَلْقٍ كَثِيْرٍ. التَّاسِعُ (¬4): مَنِ اشْتَهَرَ بكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ، واسْمُهُ مَعَ ذَلِكَ غيرُ مَجْهولٍ عِنْدَ أهلِ العِلْمِ بالحديثِ. ولابنِ عبدِ البرِّ تَصْنيفٌ مَليحٌ فيمَنْ بعدَ الصَّحابةِ مِنْهُم: مِثَالُهُ: - أبو إدْريسَ الخَوْلانِيُّ (¬5) اسمُهُ: عائِذُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ. - أبو إسحاقَ السَّبِيعِيُّ، اسْمُهُ: عَمْرُو بنُ عبدِ اللهِ. أبو الأشْعَثِ الصَّنْعانِيُّ -صَنْعاءُ دِمَشْقَ (¬6) -، اسْمُهُ: شَرَاحِيلُ بنُ آدَةَ - بهمزةٍ ممدُودَةٍ بعدَها دالٌ مُهملةٌ مَفْتوحةٌ مُخَفَّفةٌ، ومِنْهُم مَنْ شَدَّدَ الدَّالَ ولَمْ يَمُدَّ (¬7) -. - أبو الضُّحَى مُسْلِمُ بنُ صُبَيحٍ - بضمِّ الصَّادِ المهملةِ -. - أبو حازمٍ الأعْرَجُ الزَّاهِدُ الرَّاوي عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ وغيرِهِ، اسْمُهُ: سَلَمَةُ بنُ دِينارٍ ومَنْ لاَ يُحْصَى، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الحادي والخمسون معرفة كنى المعروفين بالأسماء دون الكنى
النَّوْعُ الْحَادِي وَالْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ كُنَى الْمَعْرُوْفِيْنَ بالأَسْمَاءِ دُوْنَ الكُنَى وهذا مِنْ وَجْهٍ ضِدُّ النَّوْعِ (¬1) الذي قَبْلَهُ، ومِنْ شَأْنِهِ أنْ يُبَوَّبَ عَلَى الأسْماءِ ثُمَّ تُبَيَّنَ كُناهَا بِخِلاَفِ ذاكَ، ومِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَصْلُحُ لأنْ يُجْعَلَ قِسْماً مِنْ أقْسَامِ مِنْ حيثُ كَونُهُ قِسْماً مِنْ أقْسَامِ أصْحابِ الكُنَى، وقَلَّ مَنْ أفْرَدَهُ بالتَّصْنِيفِ، وبَلَغَنا أنَّ لأبي حاتِمِ بنِ حِبَّانَ البُسْتِيِّ فيهِ كِتاباً. ولنَجْمَعْ في التَّمْثِيْلِ جَماعاتٍ في كُنيةٍ واحدَةٍ تَقْريباً عَلَى الضَّابِطِ. فَمِمَّنْ يُكْنَى بأبي مُحَمَّدٍ مِنْ هذا القَبِيْلِ مِنَ الصَّحَابةِ - رضي الله عنهم - أجمعِيْنَ: - طَلْحَةُ بنُ عُبيدِ (¬2) اللهِ التَّيْمِيُّ (¬3). - عبدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ. - الحسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ أبي طَالِبٍ الهاشِمِيُّ. - ثَابِتُ بنُ قَيْسِ بنِ الشَّمَّاسِ (¬4). - عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ - صاحِبُ الأذَانِ (¬5) - الأنْصَارِيَّانِ. - كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ. - الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ. - مَعْقِلُ بنُ سِنانٍ الأشْجَعِيُّ. - عبدُ اللهِ بنُ جَعْفَرِ بنِ أبي طَالِبٍ (¬6). ¬
- عبدُ اللهِ بنُ بُحَيْنَةَ. - عبدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ (¬1). - عبدُ الرَّحمانِ بنُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيْقِ. - جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ. - الفَضْلُ بنُ العَبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ. - حُوَيْطِبُ بنُ عبدِ العُزَّى. - مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ. - عبدُ اللهِ بنُ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرٍ. ومِمَّنْ يُكْنَى مِنْهُم بأبي عبدِ اللهِ: - الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ. - الْحُسَيْنُ (¬2) بنُ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ. - سلْمانُ الفَارِسِيُّ. - عَامِرُ بنُ رَبِيْعةَ العَدَوِيُّ. - حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ. - كَعْبُ بنُ مَالِكٍ. - رافِعُ بنُ خَدِيْجٍ. - عُمَارَةُ بنُ حَزْمٍ (¬3). - النُّعْمانُ بنُ بَشِيْرٍ. - جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ. - عُثْمانُ بنُ حُنَيْفٍ (¬4). ¬
- حَارِثَةُ بنُ النُّعْمانِ. وهَؤُلاَءِ السَّبْعَةُ أنْصَارِيُّونَ. - ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. - المغيرَةُ بنُ شُعْبَةَ. - شُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنَةَ. - عَمْرُو بنُ العَاصِ (¬1). - مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ. - مَعْقِلُ بنُ يَسَارٍ، وعَمْرُو بنُ عامِرٍ المُزَنِيَّانِ. ومِمَّنْ يُكْنَى مِنْهُم بأبي عبدِ الرَّحمانِ: - عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ. - مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ. - زَيْدُ بنُ الخَطَّابِ - أخو عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -. - عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ. - مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ الأنْصَارِيُّ. - عُوَيْمُ بنُ سَاعِدَةَ - عَلَى وزنِ نُعَيْمٍ -. - زيدُ بنُ خالِدٍ الْجُهَنِيُّ. - بِلاَلُ بنُ الحارِثِ الْمُزَنِيُّ. - مُعَاوِيةُ بنُ أبي سُفْيانَ. - الحارِثُ بنُ هِشَامٍ المخزُومِيُّ. - المِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ. وفي بعضِ مَنْ ذَكَرْناهُ مِنْ قَبْلُ (¬2)، في كُنيتِهِ غيرُ ما ذَكرناهُ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثاني والخمسون معرفة ألقاب المحدثين ومن يذكر معهم
النَّوعُ الثَّانِي والْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ أَلْقَابِ (¬1) الْمُحَدِّثِيْنَ وَمَنْ يُذْكَرُ مَعَهُمْ (¬2) وَفيها كَثْرَةٌ. ومَنْ لا يَعْرِفُها يُوشِكُ أَنْ يَظُنَّها أسامِيَ وأنْ يَجْعَلَ مَنْ ذُكِرَ باسمِهِ فِي مَوْضِعٍ وبِلقبِهِ فِي موضعٍ شَخْصَينِ، كَمَا اتَّفَقَ لكثيرٍ مِمَّن ألَّفَ. وَمِمَّنْ صنَّفَها: أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحمانِ الشِّيرازيُّ الحافظُ ثُمَّ أَبُو الفَضْلِ ابنُ الفَلَكيِّ الحافظُ. وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلى مَا يَجوزُ التَّعريفُ بِهِ وَهُوَ مَا لا يَكْرَهُهُ المُلَقَّبُ، وإلى مَا لاَ يَجُوزُ وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ المُلَقَّبُ (¬3). وهذا أُنْمُوذَجٌ مِنْها مُخْتَارٌ. رُوِّينا عَنْ عَبْدِ الغَنِّي بنِ سَعيدٍ الحَافِظِ أَنَّهُ قَالَ: رَجُلانِ جَلِيلانِ لَزِمَهُما لَقَبانِ قَبيحَانِ: معاويةُ بنُ عَبْدِ الكريمِ الضَّالُ (¬4)؛ وإنَّما ضَلَّ فِي طَرِيقِ مكَّةَ، وعبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الضَّعِيفُ (¬5)؛ وإنَما كَانَ ضَعِيْفاً فِي جِسْمِهِ لا فِي حَدِيثِهِ (¬6). قُلْتُ: وثالثٌ، وَهُوَ عَارِمٌ (¬7) أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ السَّدوسيُّ (¬8) وَكَانَ عَبْداً صَالِحاً بَعِيداً ¬
عَنِ (¬1) العَرَامِةِ (¬2)، والضَّعِيفُ هُوَ الطَّرَسُوسِيُّ (¬3) أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعَ أبا مُعاويةَ الضَّرِيرِ وغيرَهُ، كَتَبَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ الرازيُّ وزَعَمَ أَبُو حَاتِمِ بنُ حِبَّانَ أنَّهُ قِيلَ لهُ: الضَّعِيفُ لإتقانِهِ وضَبْطِهِ (¬4). - غُنْدَرٌ (¬5): لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ البَصْريِّ أبي بَكْرٍ. وَسبَبُهُ مَا (¬6) رُوِّينا أنَّ ابنَ جُرَيجٍ قَدِمَ البَصْرةَ فحدَّثَهُم بحديثٍ عنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ فأنكروهُ عَلَيْهِ وشَغَّبوا وأكثَرَ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ مِنَ الشَّغَبِ عَلَيْهِ، فقالَ لَهُ: اسكُتْ يا غُنْدَرُ! - وأهلُ الحجازِ يُسَمَّونَ المُشَغِّبَ غُنْدَراً - (¬7) ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ غَنَادِرةٌ كُلٌّ مِنْهُمْ يُلَقَّبُ بِغُنْدَرٍ، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ (¬8) أَبُو الحُسَين (¬9) غُنْدَرٌ رَوَى عَنْ أبي حاتمٍ الرَّازِيِّ وغيرِه، ومنهم: مُحَمَّدُ ابنُ جَعْفَرٍ أَبُو بَكْرٍ البغداديُّ غُنْدَرٌ الحافظُ الجَوَّالُ حدَّثَ عَنْهُ أَبُو نُعَيْمٍ الحافظُ وغيرُهُ. ومنهم: مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنُ دُرَّانَ البغداديُّ أَبُو الطَّيِّبِ رَوَى عَنْ أبي خَلِيفةَ الجُمَحيِّ وغيرِهِ، وآخرونَ لُقِّبوا بذلكَ مِمَّنْ لَيْسَ بمحمّدِ بنِ جَعْفَرٍ (¬10). ¬
- غُنْجَارٌ (¬1): لَقَبُ عِيسَى بنِ مُوسى التَّيْميِّ (¬2) أبي أَحْمَدَ البخاريِّ مُتَقدِّمٌ حَدَّثَ عَنْ مَالِكٍ والثَّوريِّ وغَيرِهما لُقِّبَ بغُنْجَارٍ لِحُمْرةِ وَجْنَتَيهِ (¬3). وغُنْجارٌ آخرُ متأخِّرٌ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ البخاريُّ الحافِظُ صاحبُ " تاريخ بُخارى " ماتَ سنةَ ثنتَيْ (¬4) عَشْرَةَ وأَرْبعِ مئةٍ، واللهُ أعلمُ. - صَاعِقَةُ: هُوَ أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحيمِ الحَافظُ رَوَى عَنْهُ البُخَارِيُّ وغيرُهُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الحافظُ: ((إنَّما لُقِّبَ صاعِقَةُ لِحفْظِهِ وشِدَّةِ مُذاكَراتِهِ ومُطالَبَتِهِ)) (¬5). - شَبَابٌ (¬6): لَقَبُ خَلِيفَةَ بنِ خَيَّاطٍ العُصْفُرِيُّ (¬7) صاحبِ " التاريخِ " سَمِعَ غُنْدَراً وغيرَهُ. - زُنَيْجٌ (¬8) بالنُّونِ والجيمِ: لَقَبُ أبي غَسَّانَ محمدِ بنِ عَمْرٍو [الأصْبَهانيِّ] (¬9) الرَّازِيِّ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وغيرُهُ. - رُسْتَهْ (¬10): لَقَبُ عَبْدِ الرَّحمانِ بنِ عُمَرَ الأصْبَهانيِّ. ¬
- سُنَيدٌ (¬1): لَقَبُ الحُسَينِ بنِ داودَ المِصِّيصيِّ صاحبِ التفسيرِ رَوَى عَنْهُ (¬2) أَبُو زُرْعَةَ وأبو حاتِمٍ الحافِظانِ وغيرُهما. - بُنْدَارٌ (¬3): لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ (¬4) بَشَّارٍ البَصْريِّ رَوَى عَنْهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والناسُ. قَالَ ابنُ الفَلَكِي: إنَّما لُقِّبَ بهذا؛ لأنَّهُ كَانَ بُندَارَ الحَدِيْثِ (¬5). - قَيْصَرُ: لَقَبُ أبي النَّضْرِ هَاشِمِ بنِ القاسمِ المعْروفِ، رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ وغيرُهُ. - الأَخْفَشُ: لَقَبُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: أَحْمَدُ بنُ عِمْرَانَ البَصْريُّ النَّحْوِيُّ مُتقدِّمٌ رَوَى عَنْ زيدِ بنِ الحُبَابِ وغيرِهِ وله "غريبُ المُوَطَّأِ ". وَفِي النَّحْويْينَ أَخافِشُ ثلاثةٌ مَشْهورُونَ: أَكْبرُهُم: أَبُو الخَطَّابِ عَبْدُ الحَميدِ بنِ عَبْدِ المجيدِ وَهُوَ الذي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي " كِتابهِ ". والثَّانِي: سَعِيْدُ بنُ مَسْعَدةَ أبو الحسَنِ الذي يُروَى عنهُ كِتابِ سِيْبَوَيْهِ، وَهُوَ صاحبُهُ. والثَّالِثُ: أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ سُلَيمانَ صَاحِبُ أَبَوَي العَبَّاسِ النَّحْوِيَّيْنِ: أَحْمَدَ بنِ يَحْيَى المُلقَّبِ بِثَعْلَبٍ، ومُحَمَّدِ بنِ يَزيدَ الملقَّبِ بالمُبَرَِّدِ (¬6). - مُرَبَّعٌ (¬7): بفتحِ الباءِ المشدَّدةِ، هُوَ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الحافظُ البغداديُّ. ¬
- جَزَرَةُ (¬1): لَقَبُ صالحِ بنِ مُحَمَّدٍ البغداديِّ الحافظِ لُقِّبَ بذلكَ مِن أجلِ أنَّهُ سَمِعَ مِنْ بعضِ الشِّيوخِ مَا رُوِيَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ أنَّهُ كَانَ يَرْقِيَ بِخَرَزةٍ فَصَحَّفَهَا وَقَالَ: جَزَرَةً بالجيمِ فَذَهبتْ عَلَيْهِ (¬2) وَكَانَ ظريفاً (¬3) لَهُ نوادرُ تُحكَى. - عُبَيْدٌ العِجْلُ (¬4): لقبُ أبي عَبْدِ اللهِ الحُسَينِ بنِ محمدِ بنِ حاتِمٍ (¬5) البَغْداديِّ الحَافِظِ. - كِيْلَجَةُ (¬6): هُوَ مُحَمَّدُ بنُ صالحٍ البغداديُّ الحافظُ. - مَا غَمَّهُ: بلفظِ النَّفيِّ لِفعلِ الغَمِّ هُوَ لَقَبُ عَلاَّنِ بنِ عَبْدِ الصَّمدِ، وَهُوَ عَلِيُّ بنُ الحَسَنِ بنِ عبدِ الصَّمدِ البغداديُّ الحافظُ، ويُجمعُ فِيهِ بَيْن اللَّقَبَينِ فَيُقالُ: عَلاَّنٌ مَا غَمَّهُ. وهؤلاءِ البَغداديونَ الخمسةُ (¬7) رُوِّينا أنَّ (¬8) يَحْيَى بنَ مَعِينٍ هُوَ لَقَّبَهُم وهُم مِنْ كبارِ أصْحابِهِ وحُفَّاظِ الحديثِ (¬9). - سَجَّادةُ: المشْهورُ (¬10): هُوَ الحَسَنُ بنُ حَمَّادٍ سَمِعَ وَكِيعاً وغيرَهُ. - مُشْكُدَانَةُ (¬11): ومَعْناهُ بالفارسيةِ: حَبَّةُ المِسْكِ أَوْ وِعاءُ المِسْكِ لَقَبُ عبدِ اللهِ ابنِ عُمَرَ بنِ محمدِ بنِ أبانَ. ¬
النوع الثالث والخمسون معرفة المؤتلف والمختلف
- مُطَيَّنٌ (¬1): بِفَتْحِ الياءِ، لَقَبُ أبي جَعْفَرٍ الحَضْرَميِّ خَاطَبَهُما بِذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَينٍ فَلُقِّبا بِهِما (¬2). - عَبْدَانُ: لَقَبٌ لجماعةٍ: أَكْبَرُهُم: عَبْدُ اللهِ بنُ عُثْمَانَ المَرْوَزيُّ -صاحبُ ابنِ المباركِ- وراوَيتُهُ. رُوِّينا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ طاهرٍ المَقْدسيِّ أنَّهُ إنما قِيلَ لَهُ: عَبْدَانُ؛ لأنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحمانِ، واسْمَهُ عَبْدُ اللهِ، فاجتمَعَ فِي كُنْيَتِهِ واسْمِهِ العَبْدانِ (¬3)، وهذا لا يَصِحُّ بَلْ ذَلِكَ من تغْيّيرِ العامّةِ للأسامي وكَسْرِهم لها فِي زمانِ صِغَرِ المُسَمَّى أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا قالوا فِي عليٍّ: ((عَلاَّنٌ)) وَفِي أَحْمَدَ ابنِ يوسُفَ السُّلميِّ وغيرِهِ ((حَمْدَانُ))، وَفِي وَهْبِ بنِ بَقِيَّةَ الواسطيِّ: ((وَهْبَانُ))، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ الْمُؤْتَلِفِ والْمُخْتَلِفِ مِنَ الأَسْمَاءِ والأَنْسَابِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِهَا (¬4) وَهُوَ مَا يأْتَلِفُ أي يتَّفِقُ (¬5) فِي الخَطِّ صُورَتُهُ، وتَخْتَلِفُ فِي اللَّفْظِ صِيغتُهُ. هَذَا فَنٌّ جليلٌ، مَن لَمْ يَعْرِفْهُ مِنَ المُحدِّثينَ كَثُرَ عثَارُهُ، وَلَمْ يَعْدَمْ مُخَجِّلاً، وَهُوَ مُنْتَشَرٌ لا ضَابِطَ فِي أكْثَرِهِ يُفْزَعُ إِليهِ؛ وإنّمَا يُضْبَطُ بالحِفْظِ تَفْصيلاً. وَقَدْ صُنِّفَتْ فِيهِ كُتُبٌ (¬6) مُفيدةٌ، ومِنْ أَكْمَلِها ¬
" الإكْمالُ " لأبي نَصْرِ بنِ ماكُوْلا عَلَى إعْوازٍ فِيهِ (¬1). وهذه أشياءُ مِمّا دَخَلَ مِنْهُ تَحْتَ الضَّبطِ مِمّا يَكْثُرُ ذِكْرُهُ. والضَّبْطُ فِيْهَا عَلَى قِسْمَيْنِ عَلَى العُمُومِ وعَلى الخُصُوصِ. فمنْ القِسْمِ الأَوَّلِ: - سَلاَّمٌ وسَلاَمٌ: جَمِيْعُ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بتَشْديدِ اللاّم إلاّ خَمْسَةً وهُم: سَلاَمٌ والدُ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ الإسرائيليِّ الصَّحَابيِّ، وسَلاَمٌ والدُ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ البِيكَنْديِّ (¬2) البُخَارِيِّ شَيْخُ البُخَارِيِّ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الخَطِيبُ (¬3) وابنُ مَاكُوْلا (¬4) غَيْرَ التَّخْفِيفِ. وَقَالَ: صَاحِبُ المَطالِعِ (¬5): مِنْهُمْ مَنْ خَفَّفَ ومِنْهُمْ مَنْ ثَقَّلَ، وَهُوَ الأكْثَرُ. قُلْتُ: التَّخْفيفُ أثْبَتُ، وَهُوَ الّذي ذَكَرَهُ غُنْجارٌ فِي " تاريخِ بُخارى " وَهُوَ أَعْلمُ بأهلِ بِلادِهِ (¬6). وسَلاَمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ ناهِضٍ المَقْدسيُّ، رَوَى عَنْهُ أَبُو طَالبٍ الحافِظُ والطَّبَرانيُّ. وسَمّاهُ الطَّبَرانيُّ (¬7)؛ سَلامةَ. وسَلاَمٌ جَدُّ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الوَهَابِ بنِ سَلاَمٍ المُتَكَلِّمِ الجُبَّائيِّ (¬8) أَبي عَلِيٍّ المُعْتَزِليِّ (¬9). وَقَالَ المُبرِّدُ فِي " كاملِهِ ": ((لَيْسَ فِي العَرَبِ سَلاَمٌ مُخفَّفُ اللامِ إلاَّ والدَ عَبْدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ، وسَلاَمَ بنُ أبي الحُقَيقِ. قَالَ: وزادَ ¬
آخرونَ سَلاَمَ بنَ مِشْكَمٍ خَمَّاراً كَانَ فِي الجاهِليةِ، والمعروفُ فِيهِ التَّشْديدُ)) (¬1)، واللهُ أعلمُ. - عُمَارَةُ وعِمَارَةُ: لَيْسَ لَنَا عِمَارةُ بكَسرِ العَيْنِ إلاَّ أُبَيَّ بنَ عِمَارَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ (¬2)، ومِنْهُمْ مَن ضَمَّهُ ومَنْ عَدَاهُ عُمَارَةُ بالضمِّ، واللهُ أعلمُ. - كَرِيزٌ وكُرَيْزٌ: حَكَى أَبُو عَلِيٍّ الغَسَّانيُّ فِي كِتَابِهِ " تَقْييدِ المُهملِ " عَنْ محمدِ بنِ وَضَّاحٍ أنَّ كَرِيزاً بفتحِ الكافِ فِي خُزَاعَةَ، وكُرَيْزاً بِضمِّها فِي عَبْدِ شَمْسٍ بنِ عبدِ مَنَافٍ. قُلْتُ: وكُرَيْزٌ بضمِّها موجودٌ أَيْضَاً فِي غَيْرِهِما. ولا نَسْتَدْرِكُ فِي المَفْتُوحِ بأيوبَ بنِ كُرَيْزٍ الرَّاوِي عَنْ عَبْدِ الرحمانِ بنِ غَنْمٍ (¬3)، لكونِ عَبْدِ الغنيِّ ذَكَرَهُ بالفَتْحِ؛ لأنَّهُ بالضمِّ، كَذلِكَ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬4) وغيرُهُ (¬5). - حِزَامٌ -بالزَّاي- فِي قُرَيشٍ، وَحَرَامٌ -بالرَّاءِ المُهْمَلَةِ- فِي الأنْصَارِ (¬6)، واللهُ أعلمُ. ذَكَرَ أَبُو عَلِيِّ بنُ البَرَدانيِّ (¬7): أنَّهُ سَمِعَ الخَطيبَ الحافِظَ يَقُولُ: العَيْشِيُّونَ: بَصْرِيُّونَ، والعَبْسِيُّونَ: كُوفِيُّونَ، والعَنْسيُّونَ: شَامِيُّونَ. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَهُ قَبْلَهُ الحاكِمُ أَبُو عَبْدَ اللهِ وهذا عَلَى الغَالبِ: الأَوَّلُ بالشِّينِ المُعْجَمَةِ، والثَّانِي بالباءِ المُوَحَّدةِ، والثَّالثُ بالنّونِ والسِّينِ فيهما غيرِ مُعْجَمَةٍ (¬8). - أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّهُ بالضَّمِّ. بَلَغَنَا عنِ الدَّارَقُطْنِيِّ (¬9) أنَّهُ قَالَ: لا نَعْلَمُ أَحَداً يُكْنَى أبا عَبَيْدَةَ بِالفَتْحِ (¬10). ¬
وهذهِ أَشْياءُ اجتَهَدتُ فِي ضَبْطِها مُتَتبِّعاً مَن ذَكَرَهُم الدَّارَقُطْنِيُّ، وَعَبْدُ الغَنيِّ، وابنُ مَاكُوْلاَ. مِنْها: السَّفْرُ - بإسكانِ الفاءِ - والسَّفَرُ بِفَتْحِهَا وَجَدْتُ الكُنى مِنْ ذَلِكَ بالفَتْحِ والبَاقي بالإسكانِ. ومِنَ المَغاربةِ مَن سَكَّنَ الفاءَ مِن أبي السَّفْرِ سعيدِ بنِ يُحْمِدَ (¬1)، وذَلِكَ خلافُ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الحَدِيْثِ، حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬2) عَنْهُمْ. - عِسْلٌ بكسرِ العَين المُهْمَلَة وإسكانِ السينِ المُهْمَلَةِ، وَعَسَلٌ بفتحِهما: وجدْتُ الجميعَ مِنَ القَبِيلِ الأَوَّلِ ومِنْهُمْ: عِسْلُ بنُ سُفْيانَ، إلاّ عَسَلَ بنَ ذَكْوانَ الأخباريَّ البَصْريَّ فإنَّهُ بِالفَتْحِ، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُهُ وَوَجدْتُهُ بِخَطِّ الإمامِ أبي مَنْصورٍ الأزْهَريِّ فِي كِتابِهِ " تَهْذيبِ اللُّغَةِ " بالكَسْرِ والإسْكانِ أَيْضَاً، ولا أُراهُ ضَبَطَهُ (¬3)، واللهُ أعلمُ. - غَنَّامٌ: - بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ والنُّونِ المُشَدَّدَةِ -، وعَثَّامٌ: - بِالعَيْنِ المُهْمَلَةِ والثّاءِ المُثَلَّثةِ المشدَّدةِ -: لا نَعْرِفُ (¬4) مِنَ القَبيلِ الثَّانِي غَيْرَ عَثَّامِ بنِ عَلِيٍّ العامريِّ الكوفيِّ والدِ عليِّ بنِ عَثَّامٍ الزاهدِ والباقونَ مِنَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ: غَنَّامُ بنُ أوسٍ صَحَابِيٌّ بَدْريٌّ، واللهُ أعلمُ. - قُمَيرٌ وقَمِيرٌ: الجميعُ بضمِّ القَافِ ومنهُم: مكّيُّ بنُ قُمَيْرٍ عَنْ جَعْفَرِ بنِ سُليمانَ إلاّ امْرأةَ مَسْروقِ بنِ الأَجْدَعِ: قَمِيرَ بنتَ عَمْرٍو فإنَّها بِفَتْحِ القافِ وَكسْرِ المِيمِ، واللهُ أعلمُ. - مِسْوَرٌ ومُسَوَّرٌ: أما مُسَوَّرٌ بضمِّ الميمِ وتَشْديدِ الواو وفَتْحِهَا (¬5)، فَهُوَ مُسوَّرُ بنُ يزيدَ المالكيُّ الكاهليُّ لَهُ صُحبةٌ. وَمُسَوَّرُ بنُ عَبْدِ الملكِ اليَرْبوعيُّ رَوَى عَنْهُ مَعْنُ بنُ عِيسى ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ. ومَنْ سِواهُما فِيْمَا نَعْلَمُ بِكَسْرِ الميمِ وإسْكانِ السينِ، واللهُ أعلمُ. ¬
- الحَمَّالُ والجَمَّالُ: لا نَعْرِفُ فِي رُواةِ الحديثِ أَوْ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ فِي كُتُبِ الحَدِيْثِ المُتَدَاوَلةِ؛ الحمَّالَ بالحاءِ المُهْمَلةِ صفةً لا اسماً إلاّ هارونَ بنَ عبدِ اللهِ الحمَّالَ والدَ موسى بنِ هارونَ الحمَّالِ الحافظِ. حَكَى عَبْدُ الغنيِّ الحافظُ أنَّهُ كَانَ: بزَّازاً فلمَّا تَزَهَّدَ حَمَلَ (¬1). وَزَعَمَ الخليليُّ وابنُ الفَلَكيِّ أنّهُ لُقِّبَ بالحمَّالِ لِكَثْرَةِ مَا حَمَلَ مِنَ العِلْمِ (¬2)، ولا أَرى مَا قالاهُ يَصِحُّ (¬3). وَمَن عَداهُ فالجمَّالُ بالجيمِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بنُ مِهْرَانَ الجَمَّالُ حَدَّثَ عَنْهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغيرُهما، واللهُ أعلمُ. وَقَدْ يُوجَدُ فِي هَذَا البَابِ مَا يُؤْمَنُ فِيهِ مِنَ الغَلَطِ ويكُونُ الّلافِظُ فِيهِ مُصيباً كَيْفَما قَالَ، مثلُ: عيسى بنِ أبي عِيسى الحَنَّاطِ، وهوَ أيضاً: الخبَّاطُ والخيَّاطُ إلاَّ أنَّهُ اشْتَهَرَ بـ: عيسى الحنَّاطِ - بالحاءِ والنونِ -، كَانَ خَيَّاطاً للثِّيابِ. ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وصارَ حَنَّاطاً يبيعُ الحِنطَةَ. ثُمَّ ترَكَ ذَلِكَ وصَارَ خَبَّاطاً يَبيعُ الخَبَطَ (¬4) الذِي تَأْكُلُهُ الإبلُ (¬5) وكذلكَ مُسْلِمٌ الخَبَّاطُ - بالباءِ المَنْقُوطَةِ بِواحِدَةٍ - اجْتَمَعَ فِيهِ الأَوْصَافُ الثَّلاثةُ؛ حَكَى اجتماعَها فِي هذَيْنِ الشَّخْصَينِ الإمامُ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬6)، واللهُ أعلمُ. القِسْمُ الثَّانِي: ضَبْطُ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَوْ مَا فِيهِمَا مَعَ " المُوطَّأ " مِنْ ذَلِكَ الخُصُوصِ. فمِنْ ذَلِكَ بَشَّارٌ: بالشِّينِ المَنْقُوطَةِ والدُ بُنْدَارٍ مُحَمَّدِ بنِ بَشَّارٍ. وَسَائِرُ مَنْ في الكِتَابَينِ يَسَارٌ بالياءِ المثنّاةِ فِي أوَّلِهِ والسِّينِ المُهْمَلَةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الغَسَّانيُّ فِي كِتابِهِ، وفِيهِمَا جَميعاً سَيَّارُ بنُ سَلامَةَ، وسَيَّارُ بنُ أبِي سَيَّارٍ (¬7) وَرْدَانُ، ولكن لَيْسَا عَلَى هذِهِ الصُّورَةِ وإن قَارَبا، واللهُ أعلمُ. ¬
جَمِيْعُ مَا فِي "الصَّحِيحَينِ" و "الموَطَّأ" مِمَّا هُوَ عَلَى صُورَةِ بِشْرٍ فَهُوَ بِالشِّينِ المَنْقُوطَةِ وكَسْرِ البَاءِ (¬1)، إلا أَرْبَعةً فإنَّهُم بالسِّينِ المُهْمَلَةِ وضَمِّ الباءِ. وهُمْ: عَبْدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ المازِنيُّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وبُسْرُ بنُ سعيدٍ، وبُسْرُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ الحَضْرميُّ، وبُسْرُ ابنُ مِحْجَنٍ الدَّيْلِيُّ. وَقَدْ قِيلَ فِي ابنِ مِحْجَنٍ بِشْرٌ بالشِّينِ المَنْقُوطَةِ حَكَاهُ أَحْمَدُ بنُ صالحٍ المِصْريُّ عَنْ جماعةٍ من وَلَدِهِ وَرَهْطِهِ (¬2). وبالأوّلِ قَالَ مَالكٌ والأكثرُ، واللهُ أعلمُ. وَجَميعُ مَا فِيْهَا عَلَى صُورةِ بَشيرِ - بالياءِ المثنّاةِ مِنْ تحتُ قَبْلَ الرَّاءِ، فَهُوَ بالشِّينِ المَنْقوطةِ والبَاءِ الموَحَّدةِ المفْتُوحةِ - إلاَّ أربعةً. فاثْنانِ مِنْهُمْ بِضمِّ الباءِ وفَتْحِ الشَّينِ المعجمةِ وهما: بُشَيْرُ بنُ كَعْبٍ العَدَوِيُّ، وبُشَيْرُ بنُ يَسارٍ. والثالثُ يُسَيْرُ بنُ عَمْرٍو وَهُوَ بالسِّينِ المُهْمَلَةِ، وأوّلُهُ ياءٌ مُثْناةٌ من تَحْتُ مضمومةٌ، ويُقَالُ فِيهِ أَيْضَاً: أُسَيرٌ. والرابعُ قَطَنُ بنُ نُسَيْرٍ وَهُوَ بالنُّونِ المَضْمُومةِ والسِّينِ المُهْمَلَةِ، واللهُ أعلمُ. كُلُّ مَا فِيْهَا (¬3) عَلَى صُورةِ يَزِيدَ فَهُوَ بالزَّاي واليَاءِ المُثنّاة مِن تحتُ؛ إلاّ ثلاثةً: أَحَدُها بُرَيِدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أبي بُرْدَةَ فإنّهُ بِضمِّ الباءِ الموحَّدةِ وبالرّاءِ المُهْمَلَةِ، وَالثّاني مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ بنُ البِرِنْدِ فإنَّهُ بالباءِ الموَحَدةِ والراءِ المُهْمَلَةِ المكْسوْرَتَينِ وَبَعْدَها نونٌ ساكِنَةٌ. وَفِي كِتَابِ " عُمْدةِ المُحدِّثينَ " (¬4) وغيرِهِ أنَّهُ بِفَتحِ الباءِ والراءِ والأوّلُ أَشْهَرُ، وَلَمْ يَذْكُرِ ¬
ابنُ مَاكُوْلاَ غيرَهُ. والثَّالثُ عَلِيُّ بنُ هَاشِمِ بنِ البَرِيدِ فإنَّهُ بِفَتْحِ الباءِ الموَحَّدةِ والرَّاءِ المُهْمَلَةِ المكْسورةِ والياءِ المثنّاةِ من تحتُ، واللهُ أعلمُ. كُلُّ مَا يأتي فِيْهَا مِنَ البَرَاءِ فَهُوَ بتَخْفيفِ الرّاءِ إلاَّ أبا مَعْشَرٍ البَرَّاءَ، وأبا العاليةِ البَرَّاءَ فإنَّهُما بِتَشْديد الرّاءِ. والبَرَّاءُ الَّذي يَبْرِي العُودَ (¬1)، واللهُ أعلمُ. لَيْسَ فِي " الصَّحِيْحَينِ " و " المُوَطِّأ " جَارِيةُ - بالجِيمِ - إلاّ جَارِيةَ (¬2) بنَ قُدامَةَ، ويَزِيدَ بنَ جَاريةَ. ومَنْ عَداهُما فَهُوَ حَارِثَةُ بالحاء والثاءِ، واللهُ أعلمُ. لَيْسَ فِيْهَا حَرِيزٌ بالحاءِ فِي أوَّلِهِ والزّاي فِي آخرِهِ، إلاّ حَرِيزَ بنَ عُثْمَانَ الرَّحَبيَّ (¬3) الحِمْصيَّ، وأبو حَرِيزٍ عَبْدُ اللهِ بنُ الحُسَينِ القَاضِي الرَّاوِي عَنْ عِكْرِمةَ وغَيرِهِ ومَنْ عَدَاهُما جَرِيرٌ بالجيمِ. وَرُبَّما اشتَبهَا بِحُدَيْرٍ بالدَّالِ وَهُوَ فِيْهَا والدُ عِمْرَانَ بنِ حُدَيْرٍ وَوَالِدُ زَيْدٍ وزِيَادٍ ابني حُدَيْرٍ، واللهُ أعلمُ. لَيْسَ فِيْهَا حِرَاشٌ بالحاءِ المُهْمَلَةِ إلاّ والدَ رِبْعيِّ بنِ حِرَاشٍ (¬4) وَمَنْ بَقِيَ مِمَّن اسمُهُ عَلَى هذِهِ الصُّورةِ فَهُوَ خِرَاشٌ بالخاءِ المُعْجَمَةِ، واللهُ أعلمُ. لَيْسَ فِيْهَا حَصِينٌ بِفَتْحِ الحَاءِ إلاّ فِي أَبِي حَصِينٍ عُثْمَانَ بنِ عَاصِمٍ الأَسديِّ وَمَنْ عَدَاهُ حُصَيْنٌ بِضَمِّ الحاء وَجَميعُهُ بالصَّادِ المُهْمَلَةِ إلاّ حُضَيْنَ بنَ المُنْذِرِ أبا سَاسَانَ فإنَّهُ بالضَّادِ المُعْجَمَةِ (¬5)، واللهُ أعلمُ. كُلُّ مَا فِيْهَا مِنْ حَازِمٍ، وأبي حَازِمٍ فَهُوَ بالحاءِ المُهْمَلَةِ إلاّ مُحَمَّدَ بنَ خَازِمٍ أبا مُعاوِيةَ الضَّرِيرَ (¬6) فإنَّهُ بخاءٍ مُعْجَمَةٍ، واللهُ أعلمُ. ¬
الذي فِيْهَا مِن حَبَّانَ بالحَاءِ (¬1) المفْتُوحَةِ والباءِ الموحَّدةِ المشدَّدةِ: حَبَّانُ بنُ مُنْقَذٍ والدُ واسِعِ بنِ حَبَّانَ، وَجَدُّ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ حَبَّانَ، وَجَدُّ حَبَّانَ بنِ وَاسِعِ بنِ حَبَّانَ. وحَبَّانُ بنُ هِلاَلٍ مَنْسُوباً وغَيْرَ مَنْسُوبٍ عَنْ شُعْبَةَ، وعَنْ وُهَيْبٍ، وعنْ هَمَّامِ بنِ يَحْيَى، وعنْ أبانَ بنِ يزيدَ، وَعَنْ سُليمانَ بنِ المُغيرةِ، وعَنْ أبي عَوَانَةَ. والذي فِيْهَا مِنْ حِبَّانَ بِكَسْرِ الحاءِ حِبَّانُ بنُ عَطِيَّةَ، وحِبَّانُ بنُ مُوسى وَهُوَ حِبَّانُ غَيْرُ منسوبٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ؛ هُوَ ابنُ المبَارَكٍ، وابنُ العَرِقَةِ اسمُهُ أَيْضَاً: حِبَّانُ، ومن عَدَا هؤلاءِ فَهُوَ حَيَّانُ باليَاءِ المثنّاةِ مِنْ تحتُ، واللهُ أعلمُ. الَّذي فِي هَذِهِ الكُتُبِ مِنْ خُبَيْبٍ (¬2) بالخَاءِ المُعْجَمَةِ المضْمُومَةِ خبَيْبُ بنُ عَدِيٍّ، وخُبَيْبٍ بنُ عَبْدِ الرَّحمانِ بنِ خُبَيْبِ بنِ يَسَافَ وَهُوَ خُبَيْبٌ غَيْرُ مَنْسوبٍ عَنْ حَفْصِ بنِ عاصمٍ وعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مَعْنٍ (¬3)، وأبو خُبَيْبٍ عَبْدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ، وَمَن عدَاهُم فبالحاءِ المُهْمَلَةِ، واللهُ أعلمُ. لَيْسَ فِيْهَا حُكَيْمٌ بالضَّمِّ إلاّ حُكَيْمُ بنُ عَبْدِ اللهِ، ورُزَيْقٌ (¬4) بنُ حُكَيْمٍ، واللهُ أعلمُ. كُلُّ مَا فِيْهَا مِنْ رَبَاحٍ فَهُوَ بالباءِ الموَحَّدةِ إلاّ زيادَ بنَ رياحٍ (¬5) وَهُوَ أَبُو قَيْسٍ، الرَّاوِي عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ فِي أشْراطِ السّاعةِ (¬6) ومُفَارَقَةِ (¬7) الجَماعةِ فإنَّهُ بالياءِ المثنّاةِ من تحتُ (¬8) عِنْدَ الأَكْثَرِيْنَ (¬9). وَقَدْ حَكَى البُخَارِيُّ فِيهِ الوَجْهَيْنِ بالباءِ والياءِ (¬10)، واللهُ أعلمُ. ¬
زُبَيْدٌ وزُيَيْدٌ (¬1): لَيْسَ فِي " الصَّحِيحَينِ " إلاّ زُبيدٌ بالبَاءِ الموحَّدَةِ وَهُوَ زُبَيدُ بنُ الحارثِ الياميُّ. وليسَ فِي " المُوطَّأ " مِن ذَلِكَ إلا زُيَيْدٌ بياءيْنِ مثَنَّاتَيْنِ مِن تحتُ وَهُوَ زُيَيْدُ بنُ الصَّلْتِ (¬2) يُكْسَرُ (¬3) أَوَّلُهُ ويُضمُّ، واللهُ أعلمُ. فِيْهَا: سَلِيمٌ بفَتْحِ السِّينِ واحدٌ وَهُوَ سَليمُ بنُ حَيّانَ ومَنْ عَداهُ فِيْهَا فَهُوَ سُلَيمٌ بالضَّمِّ، واللهُ أعلمُ. وَفِيْهَا سَلْمُ بنُ زَرِيرٍ (¬4)، وسَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ، وَسَلْمُ بنُ أَبِي الذَّيَّالِ (¬5)، وسَلْمُ بنُ عَبْدِ الرَّحمانِ، هَؤُلاَءِ الأَرْبَعةُ بإسكانِ الّلامِ. ومَنْ عَداهُم سالمٌ بالأَلِفِ، واللهُ أعلمُ. وَفِيْهَا سُرَيْجُ بنُ يونُسَ، وسُرَيْجُ بنُ النُّعمانِ، وأحمدُ بنُ أَبِي سُرَيجٍ، هَؤُلاَء الثلاثةُ بالجيمِ والسِّينِ المُهْمَلَةِ، ومَنْ عَداهُم فِيْهَا فَهُوَ بالشِّينِ المنْقُوطَةِ والحاءِ المُهْمَلَةِ واللهُ أعلمُ. وَفِيْهَا سَلْمانُ (¬6) الفارِسيُّ، وسَلْمانُ بنُ عامرٍ، وسَلْمانُ الأغرُّ، وعبدُ (¬7) الرحمانِ ابنُ سَلْمانَ، ومَنْ عَدا هَؤُلاَءِ الأربعةِ سُلَيْمانُ بالياءِ (¬8). وأبو حَازِمٍ (¬9) الأشجعيُّ - الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -، وأبو رَجَاءٍ مَوْلَى (¬10) أَبِي قِلاَبةَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا اسمُهُ سَلمانُ بغيرِ ياءٍ لكنْ ذُكِرَا بالكُنْيةِ، واللهُ أعلمُ. ¬
فِيْهَا سَلِمةُ بكسرِ الّلام عَمْرُو بنُ سَلِمَةَ الجَرْمِيُّ إمامُ قَوْمِهِ، وَبَنُو سَلِمةَ القبيلةُ مِنَ الأَنْصَارِ والباقي سَلَمةُ بفتحِ الّلامِ غَيْرَ أنَّ عَبْدَ الخَالِقِ بنَ سَلِمَةَ فِي " كِتابِ مُسْلِمٍ " ذُكِرَ فِيهِ الفَتْحُ (¬1) والكسرُ (¬2)، واللهُ أعلمُ. وَفِيْهَا سِنَانُ بنُ أَبِي سِنَانٍ الدُؤَليُّ (¬3)، وسِنَانُ بنُ سَلَمةَ، وسِنَانُ بنُ رَبَيعَةَ أَبُو رَبِيعةَ، وأحمدُ بنُ سِنَانٍ، وأُمُّ سِنَانٍ، وأبو سِنَانٍ ضِرَارُ بنُ مُرَّةَ الشَّيبَانيُّ وَمَنْ عَدَا هَؤُلاَءِ السِّتَّةِ شَيْبَانُ بالشِّينِ المنْقوطَةِ واليَاءِ، واللهُ أعلمُ. عَبِيدةُ بِفَتْحِ العَيْنِ لَيْسَ فِي الكُتُبِ الثَّلاثَةِ إلاّ عَبِيدةَ السَّلْمانيَّ (¬4)، وعَبِيدةَ بنَ حُمَيْدٍ، وعَبِيدةَ بنَ سُفْيَانَ، وعامرَ بنَ عبِيدةَ الباهليَّ. وَمَن عَدَا هَؤُلاَءِ الأربعةِ فعُبَيْدةُ بالضَّمِّ، واللهُ أعلمُ. عُبَيْدٌ بغيرِ هاءِ التَّأنيثِ هُوَ بالضمِّ حَيْثُ (¬5) وَقَعَ فِيْهَا. وكَذلِكَ عُبَادةُ بالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ إلاّ مُحَمَّدَ بنَ عَبَادَةَ الواسطيَّ (¬6) منْ شُيوخِ البُخَارِيِّ فإنَّهُ بِفَتْحِ العَينِ وتَخْفِيفِ البَاءِ، واللهُ أعلمُ. عَبْدَةُ هُوَ بإسكانِ الباءِ حيثُ وَقَعَ فِي هذِهِ الكُتُبِ إلاّ عامِرَ بنَ عَبَدَةَ فِي خُطْبةِ " كِتَابِ مُسْلِمٍ " (¬7)، وإلاّ بَجَالةَ بنَ عَبَدَةَ (¬8)، عَلَى أنَّ فِيْهِمَا خَلافاً، مِنْهُمْ مَنْ سَكَّنَ الباءَ مِنْهُمَا أَيْضَاً. وَعِندَ بَعْضِ رُواةِ مُسْلِمٍ عامرُ بنُ عَبْدٍ، بَلا هَاءٍ، ولا يَصِحُّ (¬9)، واللهُ أعلمُ. ¬
عَبَّادٌ هُوَ فِيْهَا بفَتْحِ العَينِ وتَشْدِيدِ الباءِ إلاَّ قَيْسَ بنَ عُبَادٍ فإنَّهُ بِضَمِّ العَينِ وتخْفيفِ الباءِ، واللهُ أعلمُ. لَيْسَ فِيْهَا عُقَيْلٌ بضَمِّ العَيْنِ إلاّ عُقَيْلَ بنَ خالدٍ، وَيَحْيَى بنَ عُقَيلٍ، وَبنُو عُقَيلٍ للقَبِيلةِ (¬1). ومَنْ عَدا هَؤُلاَءِ عَقِيلٌ بِفَتحِ العَينِ، واللهُ أعلمُ. وليسَ فِيْهَا وَافِدٌ بالفاءِ أَصْلاً وجميعُ مَا فِيْهَا وَاقِدٌ بالقَافِ، واللهُ أعلمُ. ومِنَ الأَنْسَابِ ذَكَرَ (¬2) القاضِي الحافظُ عِياضٌ أنّهُ لَيْسَ فِي هذِهِ الكتبِ الأُبُلِيُّ بالباءِ الموَحّدةِ أي المضمومةِ، وَجميعُ مَا فِيْهَا عَلَى هذِهِ الصُّورةِ فإنّما هُوَ الأيْلِيُّ (¬3) بالياءِ المَنْقُوْطَةِ باثْنتَينِ من تَحْتُ. قُلْتُ: رَوَى مُسْلِمٌ الكَثيرَ عَنْ شَيْبَانَ بنِ فَرُّوخٍ وَهُوَ أُبُليٌّ (¬4) بالباءِ الموحّدةِ، لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي شيءٍ منْ ذَلِكَ منسوباً لَمْ يلحقْ عياضاً مِنْهُ تخطِئةٌ، واللهُ أعلمُ (¬5). لا نَعْلَمُ فِي " الصَّحِيْحَيْنِ " البَزَّارَ بالرّاءِ المُهْمَلَةِ فِي آخرِهِ إلاّ خَلَفَ بنَ هِشَامٍ البَزَّارَ، والحسَنَ بنَ الصَّبَّاحِ البَزَّارَ (¬6)، وأمّا مُحَمَّدُ بنُ الصَّبَّاحِ البَزَّازُ وغيرُهُ فِيهما فَهُوَ بِزَايَيْنِ، واللهُ أعلمُ. وَلَيْسَ فِي " الصَّحِيْحَيْنِ " و " المُوَطَّأِ " النَّصْرِيُّ بالنُّونِ والصَّادِ المُهْمَلَةِ إلاّ ثلاثةً: مالكُ بنُ أَوْسِ بنُ الحَدَثَانِ النَّصْريُّ، وَعَبدُ الواحِدِ بنُ عَبْدِ اللهِ النَّصْرِيُّ، وسَالمٌ مَوْلَى النَّصْرِيِّيْنَ، وسَائِرُ مَا فِيْهَا عَلَى هذِهِ الصُّورَةِ فَهُوَ بَصْرِيٌّ بالباءِ الموحَّدَةِ، واللهُ أعلمُ. ¬
لَيْسَ فِيْهَا التَّوَّزيُّ بفَتْحِ التَّاءِ والمُثَنّاةِ مِنْ فَوْقُ والواوِ المُشَدَّدَةِ المفتوحةِ والزّاي إلاَّ أَبُو يَعْلَى التَّوَّزيُّ مُحَمَّدُ بنُ الصَّلْتِ فِي كِتَابِ البُخَارِيِّ فِي بَابِ الرِّدَّةِ (¬1). وَمنْ عَداهُ فَهُوَ الثَّوْرِيُّ بالثَّاءِ المثلَّثَةِ، ومِنْهُم: أبو يَعْلَى مُنْذِرُ بنُ يَعْلَى الثَّوْرِيُّ خَرَّجَا عَنْهُ، واللهُ أعلمُ. سَعِيدُ الجُرَيْريُّ (¬2)، وعَبَّاسُ الجُرَيرِيُّ، والجُرَيرِيُّ غَيْرُ مُسَمًّى عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، هَذَا مَا فِيْهَا بالجيمِ المَضْمُوْمَةِ. وَفِيْهَا الحَرِيريُّ بالحاءِ المُهْمَلَةِ يَحْيَى بنُ بِشْرٍ شَيْخُ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، واللهُ أعلمُ. [وَفِيْهَا الجَرِيرِيُّ بِفَتحِ الجِيمِ يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ الجَرَيرِيُّ فِي كِتَابِ البُخَارِيِّ مِنْ وُلِدَ جَرِيرِ بنِ عبدِ اللهِ، واللهُ أعلمُ] (¬3). الجَارِيُّ (¬4) فِيْهَا بالجِيمِ شَخْصٌ واحدٌ وَهُوَ سَعْدٌ مَنْسوبٌ إلى الجارِ؛ مَرْفأُ (¬5) السُّفُنِ بِسَاحِلِ المدينةِ (¬6) وَمَنْ عَداهُ الحارِثيُّ بالحاءِ والثاءِ، واللهُ أعلمُ. الحِزَامِيُّ حَيْثُ وَقَعَ فِيْهَا فَهُوَ بالزَّايِ غَيْرِ المُهْمَلَةِ (¬7)، واللهُ أعلمُ. السَّلَميُّ: إذَا جَاءَ فِي الأَنْصارِ فَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ نِسْبةً إلى بَنِي سَلِمةَ مِنْهُمْ. وَمنهُم جَابرُ بنُ عَبْدِ اللهِ وأبو قَتادةَ. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ العَرَبيَّةِ يَفْتَحونَ اللامَ مِنْهُ فِي النَّسَبِ كَمَا فِي ¬
النوع الرابع والخمسون معرفة المتفق والمفترق
النَّمَريِّ والصَّدَفيِّ وبابِهما. وأكثرُ أَهْل الحَدِيْثِ (¬1) يقُولُونهُ بكسْرِ اللامِ عَلَى الأَصْلِ وَهُوَ لَحْنٌ (¬2)، واللهُ أعلمُ. لَيْسَ فِي " الصَّحِيْحَيْنِ " و " المُوَطَّأِ " الهَمَدَانيُّ بالذالِ المَنْقُوْطَةِ (¬3). وجميعُ مَا فِيْهَا عَلَى هذِهِ الصُّورةِ فَهُوَ الهَمْدَانيُّ بالدالِ المُهْمَلَةِ وسُكونِ الميمِ وَقَدْ قَالَ أَبُو نَصْرِ ابنُ مَاكُوْلاَ: ((الهَمدانيُّ فِي المُتَقدِّمينَ بسِكُونِ المِيمِ أكثرُ وبِفَتْحِ الميمِ فِي المتأخّرِينَ أكثرُ)) (¬4) وَهُوَ كَمَا قَالَ، واللهُ أعلمُ. هذِهِ جملةٌ لَوْ رَحَلَ الطَّالِبُ فِيْهَا لَكَانَتْ رِحْلةً رابحةً إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. ويحقُّ عَلَى الحَدِيثيِّ إيداعُها فِي سُويْدَاءِ قلْبِهِ. وَفِي بَعْضها مِنْ خَوْفِ الانتقاضِ مَا تَقَدَّمَ فِي الأَسْماءِ المُفْرَدةِ وأَنا فِي بَعْضِها مُقلِّدٌ كِتَابَ القاضِي عياضٍ (¬5) ومُعْتَصِمٌ باللهِ فِيهِ وَفِي جَمِيْعِ أمرِي، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أعلمُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ والْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ المُتَّفِقِ والمُفْتَرِقِ (¬6) مِنَ الأسْمَاءِ والأَنْسابِ وَنَحوِها ¬
هَذَا النَّوعُ مُتَّفِقٌ لَفْظاً وَخَطّاً بِخِلافِ النَّوعِ الذي قَبْلَهُ، فإنَّ فِيهِ الاتِّفاقَ فِي صُورَةِ الخطِّ مَعَ الافْتِراقِ فِي اللَّفْظِ. وهذا مِن قَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي أُصُولِ الفِقْهِ: المُشْتَركُ. وزَلَقَ بِسَبَبِهِ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأكابرِ وَلَمْ يَزَلِ الاشْتراكُ مِنْ مَظانِّ الغَلَطِ فِي كُلِّ علمٍ. ولِلخَطِيبِ فِيهِ كتابُ " المتَّفِقِ والمُفْتَرِقِ " وَهُوَ مَعَ أنّهُ (¬1) كتابٌ حَفِيلٌ غَيْرُ مُستوفٍ لِلأقْسامِ التي أذكرُها إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى. فأحدُها: المُفْتَرِقُ مِمَّنْ اتَّفَقَتْ أَسْماؤُهم وأَسْماءُ آبائِهِم. مثالُهُ: الخَليلُ بنُ أَحْمَدَ (¬2): سِتَّةٌ، وفاتَ الخطيبَ مِنْهُمْ الأربعةُ الأخيرةُ. فأوّلُهم: النَّحْوِيُّ البَصْرِيُّ - صاحبُ العَرُوضِ - حَدَّثَ عَنْ عاصمٍ الأَحْولِ وغيرِهِ. قَالَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ: ((فَتِّشَ المُفتِشُونَ فَما وَجَدُوا (¬3) بعدَ نَبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - مَنْ اسمُهُ أَحْمَدُ، قَبْلَ أبي الخَليلِ بنِ أَحْمَدَ)). وَذكرَ التَارِيخيُّ (¬4) أَبُو بكرٍ أنّهُ لَمْ يَزلْ يَسْمعُ النَّسَّابِينَ والأخْبَارِيِّيْنَ يقولونَ: إنَّهُم لَمْ يَعْرِفوا غَيرَهُ. واعتُرِضَ عَلَيْهِ بأبي السَّفَرِ سعيدِ بنِ أَحْمَدَ احتجاجاً بقولِ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ فِي اسمِ أبيهِ فإنّهُ أَقْدمُ. وأجابَ بأنَّ أكثرَ أَهْلِ العلمِ إنَّما قَالوا فِيهِ سَعيدُ بنُ يُحْمِدَ (¬5)، واللهُ أعلمُ. والثاني: أَبُو بِشْرٍ المُزَنيُّ بَصْرِيٌّ أَيْضَاً حَدَّثَ عَنِ المُسْتَنِيرِ بنِ أخْضَرَ عَنْ مُعَاويةَ بنِ قُرَّةَ. رَوَى عَنْهُ العَبَّاسُ العَنْبَرِيُّ وجَمَاعةٌ. والثالثُ (¬6): أصبهانيٌّ رَوَى عَنْ رَوْحِ بنِ عُبَادةَ وغيرِهِ. ¬
والرابعُ: أَبُو سَعيدٍ السِّجْزِيُّ الْقَاضِي الفقيهُ الحَنَفيُّ المشهورُ بِخُراسانَ حَدَّثَ عَنِ ابنِ خُزَيمةَ، وابنِ صاعِدٍ (¬1)، والبَغَويِّ، وَغَيرهِم مِنَ الحُفَّاظِ المُسْنِدينَ. والخامسُ: أَبُو سَعيدٍ البُسْتِيُّ القَاضِي المُهَلَّبيُّ فاضِلٌ رَوَى عَنِ الخليلِ السِّجْزيِّ المذكورِ وحَدَّثَ عنْ أَحْمَدَ بنِ المُظَفَّرِ البَكْرِيِّ عَنِ ابنِ أبي خَيثمةَ بـ " تاريخهِ " وعَنْ غَيرِهما، حَدَّثَ عَنْهُ البَيْهَقِيُّ الحافظُ. والسادسُ: أَبُو سعيدٍ البُسْتيُّ أَيْضَاً الشَّافِعيُّ فاضلٌ مُتَصِّرفٌ فِي عُلومٍ. دَخَلَ الأندلسَ، وَحَدَّثَ، وُلِدَ سنةَ ستِّينَ وثلاثِ مئةٍ. رَوَى عَنْ أبِي حامدٍ الإسفرايينيِّ وغيرِهِ. وَحَدَّثَ عَنْهُ أَبُو العَبَّاسِ العُذريُّ وغيرُهُ، واللهُ أعلمُ. القِسمُ الثَّانِي: المُفْتَرِقُ مِمَّنْ اتَّفَقتْ أسماؤهم وأَسماءُ آبائِهم وأجدادِهم أَو أكثرُ مِنْ ذَلِكَ. ومِنْ أمثلتِهِ: أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ حَمْدَانَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهم فِي عَصْرٍ واحدٍ. أحَدُهُمُ: القَطِيعيُّ (¬2) البغداديُّ أَبُو بَكْرٍ الرَّاوِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ. الثَّانِي: السَّقَطيُّ (¬3) البَصْريُّ أَبُو بَكْرٍ يَرْوِي أَيْضَاً عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ ولكنّهُ (¬4) عَبْدُ اللهِ ابنُ أَحْمَدَ بنِ إِبْرَاهِيمُ الدَّوْرَقيُّ. الثَّالِثُ: دِيْنَوَرِيٌّ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سِنَانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَثِيْرٍ صاحبِ سُفيانَ الثوريِّ. والرابعُ: طَرَسُوسيٌّ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جابرٍ الطَّرَسُوسيِّ " تأريخَ مُحَمَّدِ بنِ عِيسى الطَّبَّاعِ ". مُحَمَّدُ بنُ يعقوبَ بنِ يوسفَ النَّيْسَابُوْرِيُّ اثْنَانِ كِلاهما فِي عَصْرٍ واحدٍ وكلاهما يَرْوِي عَنْهُ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ وغيرُهُ. فأحدُهما: هُوَ المعروفُ بأبي العَبَّاسِ الأصَمِّ. والثاني: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ الأَخْرَمِ الشَّيْبانيُّ ويُعْرَفُ بالحافظِ دُوْنَ الأَوَّلِ، واللهُ أعلمُ. ¬
القِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اتَّفَقَ مِنْ ذَلِكَ فِي الكُنيةِ والنِّسْبَةِ معاً. مثالُهُ: أَبُو عِمْرَانَ الجَوْنِيُّ اثنانِ؛ أحدُهما: التَّابِعيُّ عَبْدُ الملكِ بنُ حَبِيبٍ. والثاني: اسمُهُ موسى بنُ سَهْلٍ بَصْريٌّ سَكَنَ بغدادَ رَوَى عَنْ هِشَامِ بنِ عَمَّارٍ وغيرِهِ رَوَى عَنْهُ دَعْلَجُ بنُ أَحْمَدَ وغيرُهُ. وَمِمّا يُقارِبهُ (¬1) أَبُو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ ثلاثةٌ: أَوَّلُهم: القارِئُ المحدِّثُ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الخِلافِ فِي اسمِهِ. والثاني: أَبُو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ الحِمْصيُّ الَّذِي حَدَّثَ عَنْهُ جَعْفَرُ بنُ عَبْدِ الواحدِ الهاشميُّ وَهُوَ مجهولٌ، وجعفرٌ غَيْرُ ثِقَةٍ (¬2). والثالثُ: أَبُو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ السُّلَمِيُّ البَاجُدَّائيُّ (¬3) صاحبُ كِتَابِ " غَرِيبِ الحَدِيْثِ " (¬4) واسمُهُ حُسَيْنُ بنُ عيّاشٍ ماتَ سنة أربعٍ ومئتينِ بِباجُدَّا رَوَى عَنْهُ عَلِيُّ ابنُ جَميلٍ الرَّقِّيُّ وغيرُهُ (¬5)، واللهُ أعلمُ. القِسْمُ الرابعُ: عَكْسُ هَذَا (¬6). ¬
ومثالُهُ: صَالحُ بنُ أبِي صالحٍ أربعةٌ (¬1). أحدُهم: مَوْلَى التَّوأَمَةِ (¬2) بنتِ أميّةَ بنِ خَلَفٍ. والثاني: أبوهُ (¬3) أبو صالحٍ السَّمَّانُ ذَكْوَانُ الرَّاوِي عَنْ أبي هُرَيْرَةَ. والثالثُ: صالحُ بنُ أبي صالحٍ السَّدُوسيُّ (¬4) رَوَى عَنْ عَلِيٍّ وعَائشةَ، رَوَى عَنْهُ خَلاّدُ بنُ عَمْرٍو. والرابعُ: صالحُ بنُ أبي صالحٍ (¬5) مَوْلَى عَمْرِو بنِ حُرَيْثٍ، رَوَى عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ (¬6)، واللهُ أعلمُ. القسمُ الخامسُ: المُفْتَرِقُ مِمّنْ اتفقتْ أسماؤُهم وأسماءُ آبائِهم ونسبتُهم. مثالُهُ: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الأنصاريُّ (¬7) اثنانِ مُتَقارِبانِ فِي الطّبقةِ. أحدُهما: هُوَ الأنْصاريُّ المشهورُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللهِ الذي (¬8) رَوَى عَنْهُ البُخَارِيُّ والناسُ. والثاني: كنيتُهُ أَبُو سَلَمةَ (¬9) ضعيفُ الحديثِ، واللهُ أعلمُ. ¬
القِسْمُ السَّادِسُ: مَا وَقَعَ فِيهِ الاشتراكُ فِي الاسمِ خاصّةً أَوْ الكُنيةِ خاصّةً وأشكَلَ مَعَ ذَلِكَ لكونِهِ لَمْ يُذْكَرُ بغيرِ ذَلِكَ. مِثالُهُ: مَا رُوِّيناهُ عنِ ابنِ خَلاَّدٍ القاضِي الحافظِ قَالَ: ((إذَا قَالَ عارِمٌ ((حَدَّثَنَا حَمَّادٌ)) فَهُوَ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وكذلكَ سُليمانُ بنُ حَرْبٍ. وإذا قَالَ التَّبُوذَكيُّ (¬1) ((حَدَّثَنَا حمادٌ)) فَهُوَ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ (¬2)، وكذلكِ الحَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ. وإذا قَالَ عَفّانُ ((حَدَّثَنَا حَمَّادٌ)) أمكَنَ أنْ يكونَ أحَدَهُما)) (¬3). ثُمَّ وَجَدْتُ عَنْ محمدِ بنِ يَحْيَى الذُّهْليِّ عَنْ عَفَّانَ قَالَ: إذَا قُلْتُ لكم ((حَدَّثَنَا حَمَّادٌ)) وَلَمْ أَنْسُبْهُ فَهُوَ ابنُ سَلَمَةَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى فيمَنْ سِوى التَّبُوذَكيِّ مَا ذَكَرَهُ ابنُ خَلاَّدٍ. ومِنْ ذَلِكَ مَا رُوِّيناهُ عَنْ سَلَمَةَ بنِ سُليمانَ (¬4) أنّه حَدَّثَ يوماً فَقَالَ: ((أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ)) فقِيلَ لَهُ: ابنُ مَنْ؟ فَقَالَ: يا سُبْحانَ اللهِ! أمَا تَرْضَوْنَ فِي كلِّ حَدِيثٍ حَتَّى أقولَ: ((حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ المباركِ أَبُو عَبْدِ الرحمانِ الحَنْظَليُّ الَّذِي مَنْزِلُهُ فِي سِكّةِ صُغْدٍ)). ثُمَّ قَالَ سَلَمَةُ: إذَا قِيلَ بمكَّةَ: ((عَبْدُ اللهِ)) فَهُوَ ابنُ الزُّبَيْرِ. وإذا قِيلَ بالمدينةِ: ((عَبْدُ اللهِ)) فَهُوَ ابنُ عُمَرَ. وإذا قِيلَ بالكُوفةِ: ((عَبْدُ اللهِ)) فَهُوَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ. وإذا قِيلَ بالبَصْرَةِ: ((عَبْدُ اللهِ)) فَهُوَ ابنُ عَبَّاسٍ. وإذا قِيلَ بخُراسانَ ((عبدُ اللهِ)) فَهُوَ ابنُ المُباركِ. وَقَالَ الحافظُ أَبُو يَعْلَى الخليليُّ القَزْوِينيُّ: ((إذَا قَالَ المِصْريُّ: ((عَنْ عَبْدِ اللهِ)) ولا يَنسُبُهُ فَهُوَ ابنُ عَمْرٍو يَعْنِي ابنَ العاصِ (¬5)، وإذا قَالَ المَكِّيُّ: ((عَنْ عَبْدِ اللهِ)) ولا يَنْسبُهُ فَهُوَ ابنُ عَبَّاسٍ)) (¬6). ¬
وَمِنْ ذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ بالحاءِ والزّاي عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ إذَا أطلقَ. وَذَكَرَ (¬1) بَعْضُ الحُفَّاظِ أنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْ سبعةٍ كُلُّهُم أَبُو حمزةَ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ، وكُلُّهُمْ أبو حمزةَ بالحاءِ والزايِ إلاَّ واحداً فإنَّهُ بالجيمِ وَهُوَ أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بنُ عِمْرانَ الضُّبَعِيُّ (¬2). ويُدركُ فِيهِ الفرقُ بَيْنَهم بأنَّ شُعْبَةَ إذَا قَالَ: ((عَنْ أبي جَمْرَةَ (¬3) عنِ ابنِ عَبَّاسٍ)) وأطلَقَ فَهُوَ عَنْ نَصْرِ بنِ عِمْرانَ، وإذا رَوَى عَنْ غَيْرهِ فَهُوَ يذكُرُ اسمَهُ أَوْ نسبَهُ، واللهُ أعلمُ. القِسْمُ السابعُ: المُشْتَرَكُ المتَّفِقُ فِي النِّسْبةِ خاصّةً. ومنْ أمثلتِهِ: الآمُلِيُّ والآمُليُّ. فالأوَّلُ إلى آمُلِ (¬4) طَبَرِسْتَانَ (¬5). قَالَ أَبُو سَعْدٍ (¬6) السَّمْعانِيُّ: ((أكثرُ أَهْلِ العلمِ منْ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ منْ آمُلَ)) (¬7). والثاني: إلى آمُلِ جَيْحُونَ (¬8). شُهِرَ بالنَّسْبةِ إليها عَبْدُ اللهِ بنُ حَمَّادٍ الآمُلِيُّ (¬9)، رَوَى عَنْهُ البُخَارِيُّ فِي " صَحِيْحِهِ " (¬10). وذَكرَهُ الحافظُ أَبُو عَلِيٍّ الغَسَّانيُّ ثُمَّ الْقَاضِي عِياضٌ (¬11) المغْرِبيانِ منْ أنّه مَنْسوبٌ إلى آمُلِ طَبَرِسْتَانَ فَهُوَ خَطَأٌ، واللهُ أعلمُ. ¬
ومِنْ ذَلِكَ الحَنَفِيُّ والحَنَفِيُّ. فالأول: نِسْبةً إلى بني حَنِيفَةَ، والثاني: نِسْبةً إلى مَذْهَبِ أبي حَنَيْفَةَ. وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَثْرةٌ وشُهْرةٌ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ وكثيرٌ مِنْ أَهْلِ العلمِ (¬1) والحديث (¬2) وغيرِهم يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُونَ فِي المَذْهَبِ: ((حَنِيفيٌّ)) بالياءِ وَلَمْ أجدْ ذَلِكَ عَنْ أحدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إلاّ عَنْ أبي بَكْرِ بنِ الأنبارِيِّ الإمامِ، قَالَهُ فِي كتابِهِ " الكافي " (¬3)، ولمُحَمَّدِ بنِ طاهرٍ فِي هَذَا القسمِ كِتَابُ " الأنْسابِ المُتَّفِقَةِ ". ووراءَ هذِهِ الأقسامِ أقسامٌ أُخَرُ لا حاجةَ بنا إلى ذِكْرِها. ثُمَّ إنّ مَا يُوجَدُ مِنَ المتَّفِقِ المُفْتَرِقِ غَيْرَ مَقْرُونٍ ببيانٍ، فالمُرادُ بِهِ قَدْ يُدْرِكُ بالنَّظرِ فِي رِواياتِهِ، فكثيراً مَا يأتي مُميَّزاً فِي بَعْضِها وَقَدْ يُدْركُ بالنَّظَرِ فِي حالِ الرَّاوِي والمَرْوِيِّ عَنْهُ ورُبَّما قالوا فِي ذَلِكَ بظنٍّ لا يَقْوى حَدَّثَ القاسمُ المُطَرِّزُ يوماً بحديثٍ ((عَنْ أبي هَمَّامٍ أَوْ غيرِهِ عنِ الوليدِ (¬4) بنِ مسلمٍ عَنْ سُفيانَ)). فقالَ لَهُ أَبُو طالبِ بنِ نَصْرٍ الحافظُ: مَنْ سفيانُ هَذَا؟ فقالَ: هَذَا الثوريُّ. فقالَ لَهُ أَبُو طالبٍ: بَلْ هُوَ ابنُ عُيَيْنَةَ. فقالَ لَهُ المُطَرِّزُ: مِن أينَ قلتَ؟ فقالَ: لأنَّ الوليدَ قَدْ رَوَى عنِ الثوريِّ أحاديثَ معدودةً محفوظةً وَهُوَ مَلِيءٌ بابنِ عُيَيْنَةَ (¬5)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الخامس والخمسون نوع يتركب من النوعين اللذين قبله
النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُوْنَ نَوْعٌ يَتَركَّبُ مِنَ النَّوعَينِ اللَّذَينِ قَبْلَهُ (¬1) وَهُوَ أنْ يُوجَدَ الاتِّفاقُ الْمذكُورُ فِيْ النَّوع الذي فَرَغْنا منهُ آنفاً، فِيْ اسْمَي شَخْصَيْنِ أَوْ كُنْيَتِهِما التي عُرِفا بها، وَيوجَدُ (¬2) فِيْ نَسَبِهِما أَوْ نِسْبَتِهما الاختلافُ والائتلافُ المذْكُورانِ فِي النَّوعِ الذي قَبْلَهُ، أَوْ عَلَى العكسِ منْ هَذَا بأنْ يخْتَلِفَ ويأتلِفَ أسماؤها ويتفقَ (¬3) نسبتُهما أَوْ نَسَبُهما اسماً أَوْ كُنيةً. ويلتحِقُ بالمؤْتلِفِ والمُختلفِ فِيهِ: مَا يتقاربُ ويَشْتبهُ وإنْ كَانَ مختلفاً فِي بعضِ حُروفِهِ فِي صورةِ الخطِّ. وصَنَّفَ الخطيبُ الحافِظُ (¬4) فِي ذَلِكَ كتابَهُ الذي سمّاهُ (¬5) كتابَ " تَلْخِيصِ المُتَشَابِهِ فِي الرَّسْم " (¬6) وَهُوَ منْ أحسنِ كُتبِهِ لَكِنْ لَمْ يُعْرِبْ (¬7) باسمِهِ الذي سَمّاهُ بِهِ عَنْ مَوْضُوْعِهِ كَمَا أَعْرَبنا عَنْهُ (¬8). فمِنْ أَمثلةِ الأَوَّلِ: مُوسى بنُ عَلِيٍّ (¬9) بفَتْحِ العَينِ ومُوسى بن عُلِيٍّ (¬10) بضمِّ العَينِ. فمِنَ الأَوَّلِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عيسى الخُتَّليُّ (¬11) الذي رَوَى عَنْهُ أَبُو بكرِ بنِ مِقْسَمٍ المُقْرِئُ ¬
وأبو عَلِيٍّ الصَّوَّافُ وغيرُهما (¬1). وأما الثَّانِي (¬2): فَهُوَ موسى بنُ عُلَيٍّ ابنِ رَباحٍ اللَّخْمِيُّ المِصْرِيُّ، عُرِفَ بالضَّمِّ فِي اسمِ أبيهِ. وَقَدْ رُوِّينا عَنْهُ تحريجَهُ (¬3) مَنْ يقولُهُ بالضمِّ. ويُقالُ: إنَّ أهلَ مِصْرَ كانوا يَقُولونَهُ بالفَتْحِ لِذلِكَ، وأهلَ العراقِ كانوا يقولونَهُ بالضَّمِّ (¬4). وَكَانَ بعضُ الحُفَّاظِ يجعلُهُ بالفَتحِ اسماً لَهُ وبالضمِّ لَقَباً (¬5) واللهُ أعلمُ. ومِنَ المتَّفِقِ مِنْ ذَلِكَ: المختلفُ المؤتلفُ فِي النِّسبةِ، محمدُ بنُ عَبْدِ اللهِ المُخَرِّميُّ بضمّ الميمِ الأولى وكَسْرِ الرَّاءِ المُشدَّدةِ. مَشْهُورٌ صاحبُ حَدِيثٍ نُسِبَ إلى المُخَرِّمِ منْ بغدادَ (¬6). ومحمدُ بنُ عبدِ اللهِ المَخْرَمِيُّ (¬7) بفتحِ الميمِ الأولى وإسكانِ الخاءِ المعجمةِ غَيْرُ مشهورٍ. رَوَى عنِ الشَّافِعيِّ الإمام (¬8)، واللهُ أعلمُ. ومِمَّا يتقاربُ ويَشْتَبِهُ (¬9) مَعَ الاختلافِ فِي الصُّورةِ: ثورُ بنُ يَزِيدَ الكَلاَعيُّ الشَّاميُّ. وثَوْرُ بنُ زَيْدٍ - بلا ياءٍ فِي أوّلِهِ - الدِّيليُّ المَدَنيُّ وهذا الذي رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وحديثُهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " معاً. والأوّلُ حديثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ (¬10) خاصّةً، واللهُ أعلمُ. ¬
ومِنَ المتَّفِقِ فِي الكُنيةِ المُختلِفِ المؤتلِفِ (¬1) فِي النِّسْبةِ (¬2): أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبانيُّ وأبو عَمْرٍو السَّيْبانيُّ تابِعِيَّانِ يَفْتَرِقانِ فِي أنَّ الأَوَّلَ بالشِّينِ المعجمةِ والثاني بالسِّينِ المهملةِ، واسمُ الأَوَّلِ سَعْدُ بنُ إياسٍ ويُشاركُهُ فِي ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبانيُّ اللُّغويُّ إسحاقُ بنُ مِرَارٍ (¬3). وأما الثَّانِي: فاسمَهُ زُرْعَةُ وَهُوَ والدُ يَحْيَى بنِ أبي عَمْرٍو السَّيْبَانيِّ الشَّاميِّ، واللهُ أعلمُ. وأمَّا القسمُ الثَّانِي: الذي هُوَ عَلَى العكْسِ فمن أَمْثِلَتِهِ بأنواعهِ: عَمْرُو ابنُ زُرَارَةَ بفتحِ العينِ، وعُمَر بنُ زُرَارَةَ بضمِّ العَينِ. فالأولُ: جماعةٌ مِنْهُمْ: أَبُو مُحَمَّدٍ النَّيْسَابوريُّ (¬4) الذي رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ (¬5). والثاني يُعرَفُ بالحَدَثيِّ (¬6) وَهُوَ الذي يَرْوِي عَنْهُ البَغَوِيُّ (¬7) المَنِيْعِيُّ (¬8). وبَلَغنا عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أنّهُ ((منْ مدينةٍ فِي الثَّغْرِ يُقالُ لها: الحَدَثُ)) (¬9). ورُوِّينا عَنْ أبِي أَحْمَدَ الحافِظِ الحَاكِم أنّهُ منْ أَهْلِ الحَدِيثةِ (¬10) منسوباً إليها (¬11)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع السادس والخمسون معرفة الرواة المتشابهين في الاسم والنسب المتمايزين بالتقديم والتأخير في الابن والأب
عُبيدُ اللهِ بنُ أبي عَبْدِ اللهِ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي عبدِ اللهِ. الأَوَّلُ: هُوَ ابنُ الأغرِّ سَلمانُ أبي عَبْدِ اللهِ صاحبِ أبي هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ. والثاني: جماعةٌ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللهِ بنُ أبي عَبْدِ اللهِ المُقْرِئُ الأصبهانيُّ رَوَى عَنْهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهانيُّ، واللهُ أعلمُ. حَيَّانُ الأسديُّ بالياءِ المُشَدَّدةِ المُثَنَّاةِ منْ تحتُ. وَحنَانٌ بالنونِ الخفيفةِ، الأَسَديُّ. فَمنِ الأَوَّلِ: حَيَّانُ بنُ حُصَيْنٍ التَّابِعيُّ الرَّاوِي عَنْ عَمَّارِ بنِ ياسرٍ. والثاني: هُوَ حنَانٌ الأسديُّ منْ بني أسدِ بنِ شُرَيْكٍ بضمِّ الشِّينِ وَهُوَ عمُّ مُسَرْهَدٍ والِدُ مُسَدَّدٍ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ يَرْوِي عَنْ أبي عثمانَ النهديِّ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ الرُّوَاةِ المُتَشَابِهِيْنَ فِي الاسْمِ والنَّسَبِ الْمُتَمَايِزِيْنَ بِالتَّقْدِيْمِ وَالتَّأْخِيْرِ فِي الابْنِ وَالأَبِ (¬1) مثالُهُ: يَزِيدُ بنُ الأسْوَدِ والأسودُ بنُ يَزِيدَ. فالأولُ: يزيدُ بنُ الأسودِ الصَّحَابيُّ الخُزَاعيُّ، ويزيدُ بنُ الأسودِ الجُرَشيُّ (¬2) أَدْركَ الجاهليةَ وأسلمَ وسَكَنَ الشامَ وذُكِرَ بالصَّلاحِ حَتَّى اسْتسْقى بِهِ معاويةُ فِي أَهْلِ دِمشقَ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إنَّا (¬3) نَستشفِعُ إليكَ اليومَ بخيرِنا وأفضلِنا)). فَسُقوا للوقتِ، حَتَّى كادوا لا يبلغونَ مَنازلَهم (¬4)، والثاني: الأسودُ بنُ يزيدَ النَّخَعيُّ التابعيُّ الفاضلُ. ¬
النوع السابع والخمسون معرفة المنسوبين إلى غير آبائهم
ومِنْ ذَلِكَ الوليدُ بنُ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمُ بنُ الوليدِ. فَمِنَ الأَوَّلِ الوليدُ بنُ مُسْلِمٍ البَصْريُّ التابعيُّ الرَّاوِي عَنْ جُنْدَبِ بنِ عَبْدِ اللهِ البَجَليِّ. والوليدُ بنُ مسلمٍ الدِّمشقيُّ المشْهُورُ صاحبُ الأوزاعيِّ رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بنُ حنبلٍ والناسُ. والثاني: مُسْلِمُ بنُ الوليدِ بنِ رَباحٍ المَدَنيُّ حَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ وغَيْرِه، رَوَى عَنْهُ عبدُ العزيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ وغيرُهُ وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ فِي " تأريخِهِ " (¬1) فَقَلبَ اسمَهُ ونسبَهُ فَقَالَ: ((الوليدُ بنُ مُسْلِمٍ)) وأُخِذَ عَلَيْهِ ذَلِكَ (¬2). وَصنَّفَ الخطيبُ الحافظُ فِي هَذَا النوعِ كِتاباً سمّاهُ " كتابَ رافعِ الارتيابِ فِي المَقْلُوبِ مِنَ الأسماءِ والأنسابِ ". وهذا الاسمُ رُبَّما أوهمَ اختصاصَهُ بما وَقَعَ فِيهِ مِثْلُ الغَلَطِ المذكورِ فِي هَذَا المثالِ الثَّانِي وليسَ ذَلِكَ شَرْطاً فِيهِ وأكثرُهُ لَيْسَ كَذلِكَ، فما ترجمناهُ بِهِ إذن أَوْلَى، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ المَنْسُوبِينَ إلى غَيْرِ آبائِهِمْ (¬3) وذَلِكَ عَلَى ضُروبٍ: ¬
أحدُها: مَنْ نُسِبَ إلى أمِّهِ، مِنْهُمْ: مُعَاذٌ، ومُعَوِّذٌ، وعَوْذٌ، بَنُو عَفْراءَ هِيَ أمُّهُم، وأبُوهُمْ: الحارثُ بنُ رِفَاعةَ الأنصاريُّ. وذكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ أَنّهُ يُقالُ فِي عَوْذٍ: عَوْفٌ (¬1) وَأنّه الأكثرُ (¬2) بِلاَلُ بنُ حَمَامَةَ المُؤذِّنُ، حَمَامَةُ أمُّهُ، وأبُوهُ (¬3): رَبَاحٌ. سُهَيْلٌ وأخواهُ سَهْلٌ وصَفْوَانُ بَنُو بَيْضَاءَ هِيَ أُمُّهم واسمُها: دَعْدٌ، واسمُ أبيهم: وَهْبٌ. شُرَحْبِيْلُ بنُ حَسَنةَ هِيَ أمُّهُ، وأبوهُ: عبدُ اللهِ بنُ المُطَاعِ الكِنْديُّ. عبدُ اللهِ بنُ بُحيْنةَ هِيَ أمُّهُ، وأبُوهُ: مَالِكُ بنُ القِشْبِ (¬4) الأزْدِيُّ الأَسديُّ. سَعْدُ بنُ حَبْتَةَ (¬5) الأنصاريُّ هِيَ أمُّهُ، وأبوهُ: بَحِيرُ بنُ مُعاويةَ جدُّ أبي يُوسُفَ القاضِي. هؤلاءِ صحابةٌ - رضي الله عنهم -. ومِنْ غيرِهم: مُحَمَّدُ بنُ الحَنَفِيَّةِ هِيَ أمُّهُ واسمُها خَوْلَةُ، وأبُوهُ: عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -. إسماعيلُ بنُ عُليَّةَ هِيَ أمُّهُ (¬6)، وأبُوهُ: إِبْرَاهِيمُ أَبُو إسحاقَ. إِبْرَاهِيمُ بنُ هَرَاسَةَ (¬7)، قَالَ عَبْدُ الغنِيِّ بنُ سعيدٍ: هِيَ أمُّهُ، وأبوهُ سَلَمَةُ، واللهُ أعلمُ. الثَّانِي: مَنْ نُسِبَ إلى جَدَّتِهِ، مِنْهُمْ: يَعْلَى بنُ مُنْيَةَ (¬8) الصَّحَابيُّ، هِيَ فِي قَوْلِ الزُّبَيْرِ بنِ بَكَّارٍ جدَّتُهُ أمُّ أبيهِ، وأبوهُ، أُمَيَّةُ (¬9). ومِنْهُمْ: بَشِيرُ بنُ ¬
الخَصَاصِيَةِ (¬1) الصَّحَابيُّ هُوَ بَشِيرُ بنُ مَعْبَدٍ، والخَصَاصِيةُ هِيَ أمُّ الثالثِ منْ أَجدادِهِ. ومِنْ أحدثِ ذَلِكَ عَهْداً: شَيْخُنا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الوهَّابِ بنُ عَلِيٍّ البغداديُّ يُعْرَفُ بابنِ سُكَيْنَةَ، وهيَ أمُّ أبيهِ، واللهُ أعلمُ. الثالثُ: مَنْ نُسِبَ إلى جَدِّهِ، مِنْهُمْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ أحدُ العَشَرَةِ هُوَ عامرُ ابنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الجَرَّاحِ. حَمَلُ (¬2) بنُ النَّابِغةِ الهُذَليُّ الصَّحَابيُّ هُوَ حَمَلُ بنُ مَالِكِ بنِ النابغةِ. مُجَمَّعُ (¬3) بنُ جاريةَ الصَّحَابيُّ هُوَ مُجمَّعُ بنُ يزيدَ بنِ جاريةَ. ابنُ جُرَيْجٍ، هُوَ عبدُ الملكِ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ جُرَيْجٍ. بَنُو الماجِشُونَ - بكسرِ الجيمِ- (¬4) مِنْهُمْ: يُوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ أبي سَلَمَةَ المَاجِشُونَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الغَسَّانيُّ: هُوَ لَقَبُ يعقوبَ بنِ أبي سلمةَ وجَرَى عَلَى بَنِيْهِ وَبَنِي أخيهِ عبدِ اللهِ بنِ أبي سَلَمَةَ. قلتُ: والمختارُ فِي مَعناهُ أنّهُ الأبْيضُ الأحمرُ (¬5)، واللهُ أعلمُ. ابنُ أبي ذِئْبٍ هُوَ: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرحمانِ بنِ المغيرةِ بنِ أبي ذئْبٍ. ابنُ أبي ليلى الفقيهُ هُوَ: مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الرحمانِ بنِ أبي ليلى. ابنُ أبي مُلَيْكَةَ (¬6) هُوَ: عبدُ اللهِ بنُ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيكةَ. أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ الإمامُ هُوَ: أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ، أَبُو عَبْدِ اللهِ. بَنُو أبي شَيْبَةَ: أَبُو بَكْرٍ وعُثمانُ الحافظانِ وأخوهما القاسمُ، أَبُو شَيْبَةَ هُوَ جَدُّهم واسمُهُ: إِبْرَاهِيمُ بنُ عثمانَ واسطيٌّ، وأبوهُم: مُحَمَّدُ بنُ أبي شيبةَ. ومن المتأخرينَ: أَبُو سعيدِ بنُ يونسَ - صاحبُ " تاريخِ مِصْرَ " هُوَ: عَبْدُ الرحمانِ بنُ أَحْمَدَ بنِ يُونُسَ بنِ عَبْدِ الأعلَى الصَّدَفيُّ (¬7)، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثامن والخمسون معرفة النسب التي باطنها على خلاف ظاهرها
الرابعُ: مَن نُسِبَ إلى رَجُلٍ غيرِ أبيهِ هُوَ مِنْهُ بسَبَبٍ، مِنْهُمْ: المِقْدادُ بنُ الأسودِ وَهُوَ: المقدادُ بنُ عَمْرِو بنِ ثَعْلَبةَ الكِنْدِيُّ، وَقِيلَ: البَهْرَانِيُّ (¬1) كَانَ فِي حِجْرِ الأَسودِ بنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْريِّ وَتَبَنَّاهُ فنُسِبَ إِليهِ. الحَسَنُ بنُ دِينارٍ هُوَ: ابنُ وَاصِلٍ، ودِينارٌ: زَوْجُ أُمِّهِ، وَكأنَّ هَذَا خَفِيَ عَلَى ابنِ أبي حاتِمٍ حيثُ قَالَ فِيهِ: الحَسَنُ بنُ دِينارِ بنِ وَاصِلٍ، فَجَعَلَ وَاصِلاً جَدَّهُ (¬2)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ النِّسَبِ الَّتِي بَاطِنُهَا عَلَى خِلاَفِ ظَاهِرِهَا الَّذِي هُوَ السَّابِقُ إلى الفَهْمِ مِنْهَا (¬3) مِنْ ذَلِكَ: أَبُو مَسْعُودٍ البَدْرِيُّ، عُقْبَةُ بنُ عَمْرٍو، لَمْ يَشْهدْ بَدْراً فِي قولِ الأكثرِ (¬4)، ولكنْ نَزَلَ بَدْراً فنُسِبَ إليها (¬5). - سُلَيمانُ بنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ: نَزَلَ فِي تَيْمٍ وليسَ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَوْلَى بنِي مُرَّةَ. - أَبُو خالدٍ الدَّالانيُّ (¬6) يزيدُ بنُ عَبْدِ الرحمانِ هُوَ أسديٌّ مَوْلَى لبنِي أَسدٍ، نَزَلَ فِي بنِي دَالانَ بَطْنٌ منْ هَمْدَانَ (¬7) فنُسِبَ إليهم. ¬
- إبراهيمُ بنُ يزيدَ الخُوزيُّ (¬1) لَيْسَ مِنَ الخُوزِ إنّما نَزَلَ شِعْبَ الخُوزِ بمكَّةَ. - عَبْدُ الملكِ بنُ أبي سُلَيمانَ العَرْزَميُّ نَزَلَ جَبَّانَةَ (¬2) عَرْزَمٍ بالكُوفةِ وَهِيَ قَبِيْلَةٌ معدودةٌ فِي فَزَارةَ فقِيلَ عَرْزَميٌّ (¬3)، بتقديم الراءِ المهملةِ عَلَى الزّاي. - مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ العَوَقيُّ (¬4) أَبُو بَكْرٍ البَصْريُّ باهليٌّ، نَزَلَ فِي العَوَقَةِ - بالقافِ والفتحِ - وهُمْ بَطْنٌ منْ عَبْدِ القَيْسِ، فنُسِبَ إليهم. - أَحْمَدُ بنُ يوسُفَ السُّلَميُّ جليلٌ، رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ: هُوَ أَزْدِيٌّ عُرِفَ بالسُّلَمِيِّ؛ لأنَّ أُمَّهُ كَانَتْ سُلَميَّةً ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ (¬5). - وأبو عَمْرِو بنُ نُجَيْدٍ (¬6) السُّلَمِيُّ كَذلِكَ، فإنّهُ حَافِدُهُ (¬7). وأبو عبدِ الرحمانِ السُّلَميُّ مُصَنِّفُ الكُتبِ للصُّوفيَةِ: كَانَتْ أمُّهُ ابنةَ أبي عَمْرٍو المذكورِ فنُسِبَ سُلَمِيّاً وَهُوَ أَزْديٌّ أَيْضَاً جدُّهُ ابنُ عَمِّ أَحْمَدَ بنِ يوسفَ. وَيقْرُبُ منْ ذَلِكَ ويلتحقُ بِهِ مِقْسَمٌ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ هُوَ مَوْلَى عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ بنِ نَوْفَلٍ (¬8) لَزِمَ ابنَ عَبَّاسٍ، فقِيْلَ لَهُ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ، لِلُزومِهِ إيَّاهُ. - يَزِيدُ الفَقِيرُ (¬9) أَحَدُ التابعينَ وُصِفَ بِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ أُصِيبَ فِي فَقَارِ ظَهْرِهِ (¬10)، فكانَ يألمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْحَنِي لَهُ. ¬
النوع التاسع والخمسون معرفة المبهمات
- خالدُ الحَذَّاءُ (¬1) لَمْ يَكُنْ حَذَّاءً ووُصِفَ بِذَلِكَ لجلوسِهِ فِي الحذَّائينَ (¬2)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُوْنَ مَعْرِفَةُ الْمُبْهَمَاتِ (¬3) أيْ مَعْرِفَةُ أسماءِ مَنْ أُبهِمَ ذِكْرُهُ فِي الحَدِيْثِ مِنَ الرِّجَالِ والنِّساءِ. وصنَّفَ فِي ذَلِكَ عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ سَعيدٍ الحافظُ (¬4) والخطيبُ (¬5) وغيرُهما (¬6). ويُعرَفُ ذَلِكَ بورودِهِ مُسَمًّى فِي بعضِ الرواياتِ، وكثيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يُوقَفْ عَلَى أسمائِهم. وَهُوَ عَلَى أقسامٍ: مِنْها: -وَهُوَ منْ أَبْهمِهَا- مَا قِيلَ فِيهِ: ((رَجُلٌ)) أَوْ ((امرَأَةٌ)). ومنْ أمثِلَتِهِ: حَدِيثُ ابنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رجُلاً قَالَ: يا رَسُوْلَ اللهِ! الحَجُّ كُلَّ عامٍ (¬7)؟ وهذا الرجُلُ هُوَ الأقرعُ ¬
ابنُ حابِسٍ بَيَّنَهُ ابنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخرَى (¬1). حَدِيثُ أبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ فِي ناسٍ (¬2) مِنْ أصْحابِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرُّوا بِحيٍّ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمْ فلُدِغَ سيِّدُهُمْ فَرَقَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بفاتِحةِ الكتابِ عَلَى ثلاثينَ شاةً، الحَدِيْثَ (¬3). الرَّاقِي هُو الراوِي أبو سَعيدٍ الخُدْرِيُّ (¬4). حَدِيثُ أنسٍ أَنَّ رَسوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأى حَبْلاً مَمْدُوداً بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ فِي المَسْجِدِ، فسألَ عَنْهُ فقالوا: ((فلانةُ تُصَلِّي فإذا غُلِبَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ)) (¬5). قِيلَ: إنّها زَيْنَبُ بنتُ جَحْشٍ (¬6) زوجُ (¬7) رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقِيلَ: أختُها حَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ (¬8)، وَقِيلَ: مَيْمُونةُ بنتُ الحارثِ أمُّ المؤمنينَ (¬9). المرأةُ الَّتِي سألتْ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الغُسْلِ مِنَ ¬
الحَيْضِ فَقَالَ: ((خُذِي فِرْصَةً (¬1) مِنْ مَِسْكٍ ... )) (¬2) هِيَ أسماءُ بنتُ يزيدَ بنِ السَّكَنِ الأَنْصاريّةُ وَكَانَ (¬3) قَالَ لها: خَطِيبةُ النِّساءِ. وَفِيْ رِوَايَةٍ لمسلمٍ (¬4) تَسْميتُها: أسماءُ بنتُ شَكَلٍ، واللهُ أعلمُ. ومنها: مَا أُبهمَ بأنْ قِيلَ فِيهِ: ((ابنُ فلانٍ))، أَوْ: ((ابنُ الفلانِيِّ))، أَوْ: ((ابنةُ فلانٍ))، أَوْ نحوُ ذَلِكَ. منْ ذَلِكَ حَدِيثُ أمِّ عَطِيَّةَ: ماتَتْ إحدَى (¬5) بناتِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ((اغْسِلْنَها بماءٍ وسِدْرٍ ... الحَدِيْثَ)) (¬6)، هِيَ زَيْنَبُ زوجةُ أبي العاصِ (¬7) بنِ الرَّبيعِ أكبرُ بَنَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كَانَ قَدْ قِيلَ: أكبرُهُنَّ رُقَيَّةُ، واللهُ أعلمُ. ¬
- ابنُ اللُّتْبِيَّةِ: ذَكَرَ صاحبُ "الطبقاتِ" مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ أَن اسْمَهُ عَبْدُ اللهِ (¬1) وهذهِ نِسْبةٌ إلى بنِي لُتْبٍ - بضمِّ اللامِ وإسكانِ التاءِ المُثنَّاةِ مِنْ فَوْقُ - بَطْنٌ مِنَ الأسْدِ -بإسكانِ السينِ- وهُمْ الأزدُ (¬2)، وَقِيلَ فِيهِ: ابنُ الأُتْبِيَّةِ بالهمزةِ ولاَ صِحَةَ لَهُ. - ابنُ مِرْبَعٍ الأَنْصَاريُّ الذي أرْسَلَهُ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى أَهْلِ عَرَفَةَ (¬3) وَقَالَ: ((كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ)) (¬4)، اسمُهُ زَيْدٌ. وَقَالَ الواقديُّ، وكاتِبُهُ ابنُ سَعْدٍ: اسمُهُ عبدُ اللهِ. - ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى (¬5) المُؤَذِّنُ: اسمُهُ عَبْدُ اللهِ بنُ زائدةَ، وَقِيلَ: عَمْرو بنُ قَيْسٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وأمُّ مَكْتُومٍ اسمُها: عاتِكَةُ بنتُ عَبْدِ اللهِ. الابنةُ التي أرادَ بنُو هِشَامِ بنِ المُغيرةِ أنْ يُزَوِّجُوهَا منْ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - هِيَ العَوْراءُ بنتُ أبي جَهْلِ بنِ هِشَامٍ (¬6)، واللهُ أعلمُ. ومنها: العَمُّ والعَمَّةُ ونحوُهما: منْ ذَلِكَ رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ (¬7) عَنْ عَمِّهِ فِي حَدِيثِ المُخَابَرَةِ (¬8)، عمُّهُ هُوَ ظُهَيرُ بنُ رَافِع الحارثيُّ الأنْصَارِيُّ. زيادُ بنُ عِلاَقةَ (¬9)، عَنْ ¬
عَمِّهِ: هُوَ قُطْبةُ بنُ مَالِكٍ الثَّعْلبيُّ بالثاءِ المثلثةِ. عَمَّةُ جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ التي جَعَلَتْ تَبْكِي أباهُ يومَ أُحدٍ (¬1) اسمُها: فاطمةُ بنتُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ (¬2) وَسمَّاها الواقديُّ هِنْداً (¬3)، واللهُ أعلمُ. ومنها: الزَّوجُ والزَّوْجَةُ: منْ ذَلِكَ: حَدِيثُ (¬4) سُبَيْعَةَ الأسلميِّةَ أَنَّها وَلَدَتْ بَعْدَ وفاةِ زوجِها بليالٍ، زَوجُها (¬5): هُوَ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ (¬6) الذي رَثَى لَهُ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ ماتَ بمكَّةَ وَكَانَ بَدْرياً (¬7). بَرْوَعُ (¬8) بنتُ وَاشِقٍ وَهِيَ بفتحِ الباءِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغةِ (¬9) وشاعَ فِي ألسنةِ أَهْلِ الحَدِيْثِ كَسْرُها، زَوْجُها اسمُهُ هِلاَلُ بنُ مُرَّةَ الأشجعيُّ عَلَى مَا رُوَّيناهُ منْ غَيْرِ وَجْهٍ. زوجةُ عَبْدِ الرحمان بنِ الزَّبَيْرِ - بفتح الزّاي - التي كانتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ بنِ سَمْوَالٍ (¬10) القُرَظيِّ فَطَلَّقها. اسمُها تَمِيْمَةُ بنتُ وَهْبٍ، وَقِيلَ: تُمَيْمَةُ - بضمِّ التاءِ - وَقِيلَ: سُهَيْمَةُ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الموفي ستين معرفة تواريخ الرواة
النَّوْعُ الْمُوَفِّي سِتِّينَ مَعْرِفَةُ تَوَارِيْخِ الرُّوَاةِ (¬1) وفيها مَعْرِفَةُ وَفَياتِ الصَّحَابَةِ والمُحَدِّثِيْنَ والعلماءِ ومواليدِهم، ومقادِيرُ أعمارِهم ونحوِ ذَلِكَ. رُوِّيْنَا عَنْ سُفْيَانَ الثوريِّ أَنّهُ قَالَ: ((لَمَّا استعملَ الرُّواةُ الكذبَ، استَعْمَلْنا لَهُمُ التاريخَ)) (¬2) أَوْ كَمَا قَالَ (¬3). ورُوِّينا عَنْ حَفْصِ بنِ غِياثٍ أنَّهُ قَالَ: ((إذَا اتَّهمتُمُ الشَّيْخَ فحاسِبُوهُ بالسِّنَّيْنِ)) (¬4) يعني: احْسِبُوا سِنَّهُ وسِنَّ مَنْ كَتَبَ عَنْهُ. وهذا كنحوِ مَا رُوِّيناهُ عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عَيَّاشٍ قَالَ: ((كنتُ بالعراقِ فأتاني أَهْلُ الحَدِيْثِ، فقالوا: هاهنا رَجُلٌ يحدِّثُ عَنْ خالدِ بنِ مَعْدَانَ فأتيتُهُ فقلْتُ: أيَّ سنةٍ كتبتَ عَنْ خالدٍ بنِ مَعْدانَ؟ فَقَالَ: سنةَ ثلاثَ عَشْرَةَ يَعْنِي ومئةٍ، فقلْتُ: أنتَ تَزعُمُ أنَّكَ سَمِعْتَ مِنْ خالدِ بنِ مَعْدَانَ ¬
بَعْدَ مَوْتِهِ بسَبْعِ سِنينَ: قَالَ إِسْمَاعِيْلُ: ((ماتَ خالدٌ سَنةَ سِتٍّ ومئةٍ)) (¬1). قلتُ: وَقَدْ رُوِّينا عَنْ عُفَيْرِ بنِ مَعْدَانَ قِصَّةً نحوَ هذِهِ جَرَتْ لَهُ مَعَ بَعْضِ مَنْ حَدَّثَ عَنْ خالدِ مَعْدَانَ ذَكَرَ عُفَيْرٌ فِيْهَا (¬2) أَنَّ خالداً ماتَ سَنَةَ أَرْبعٍ ومئةٍ (¬3). ورُوِّينا عنِ الحاكمِ أبي عَبْدِ اللهِ قَالَ: ((لما قَدِمَ عَلَينا أَبُو جَعْفرٍ مُحَمَّدُ بنُ حاتِمٍ الكَشِّيُّ (¬4) وحَدَّثَ عَنْ عَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ سألتُهُ عَنْ مَوْلدِهِ فَذَكَرَ أنَّهُ وُلِدَ سنةَ ستِّين ومئتَينِ، فَقُلتُ لأصحابِنا: سَمِعَ هَذَا الشَّيْخُ منْ عَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بثلاثَ عَشْرَةَ سَنةً)) (¬5). وَبَلَغَنا عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ الحُمَيْديِّ الأندلسيِّ أَنَّهُ قَالَ مَا تَحْرِيرُهُ: ((ثلاثةُ أشياءَ مِنْ عُلومِ الحَدِيْثِ يجبُ تقديمُ التَّهَمُّمِ (¬6) بها: العِلَلُ، وأحسَنُ كتابٍ وُضِعَ فِيهِ " كتابُ الدَّارَقُطْنِيِّ "؛ والمؤتَلِفُ والمُخْتلِفُ (¬7)، وأحسَنُ كتابٍ وُضِعَ فِيهِ " كتابُ ابنِ مَاكُوْلاَ "؛ وَوَفَيَاتُ الشُّيوخِ، وليسَ فِيهِ كتابٌ. قلتُ: فِيْهَا غَيْرُ كِتَابٍ ولكنْ منْ غَيْرِ استقصاءٍ وتَعْمِيمٍ، وتواريخُ المُحَدِّثِيْنَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الوَفَياتِ؛ ولذلكَ ونَحْوِهِ سُمِّيَتْ: تَوَارِيخَ. وأمَّا مَا فِيْهَا مِنَ الجَرْحِ والتَّعْديلِ ونحوِهما فَلا يُناسِبُ هَذَا الاسمَ، واللهُ أعلمُ. ¬
ولنذكُرْ مِنْ ذَلِكَ عُيُوناً: أحدُها: الصَّحِيحُ فِي سِنِّ سَيِّدِنا سَيِّدِ البَشَرِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيْهِ: أبي بكرٍ وعُمَرَ، ثلاثٌ وسِتُّونَ سَنَةً (¬1). وقُبِضَ (¬2) - صلى الله عليه وسلم - يومَ الاثنَينِ (¬3) ضُحَىً لاثنتي عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ منْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إحدَى عَشْرَةَ مِنَ الهَجْرةِ. وتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ (¬4) فِي جُمَادَى الأولَى سَنَةَ ثلاثَ عَشْرَةَ. وعُمَرُ فِي ذي الحِجَّةِ سنةَ ثلاثٍ وعشرينَ. وعُثمانُ فِي ذي الحِجَّةِ سنةَ خَمْسٍ وثلاثينَ وَهُوَ ابنُ اثنتين وثمانينَ سنةً، وَقِيلَ: ابنُ تِسعينَ، وَقِيلَ غيرُ ذَلِكَ (¬5). وعَلِيٌّ: فِي شهرِ رمضانَ سنةَ أربعينَ وَهُوَ ابنُ ثلاثٍ وستينَ، وَقِيلَ: ابنُ أربعٍ وستينَ، وَقِيلَ: ابنُ خمسٍ وستينَ (¬6). وطَلْحةُ والزُّبَيْرُ جميعاً فِي جُمَادَى الأُولى سنةَ ستٍّ وثلاثينَ , ورُوِّينا عنِ الحَاكِمِ أبي عَبْدِ اللهِ أَنَّ سِنَّهما كَانَ واحداً، كانا ابْنَي أربعٍ وستينَ (¬7)، وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ الحاكمُ. وسَعْدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ (¬8) سنةَ خمسٍ وخمسينَ عَلَى الأصحِّ وَهُوَ ابنُ ثلاثٍ وسبعينَ سنةً. وسعيدُ بنُ زَيْدٍ (¬9) سنةَ إحْدَى وخمسينَ وَهُوَ ابنُ ثلاثٍ أَوْ أربعٍ وسبعينَ. وعبدُ الرحمانِ بنُ عَوْفٍ سنةَ اثنتين وثلاثينَ وَهُوَ ابنُ خمسٍ وسبعينَ سنةً. وأبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ سنةَ ثماني عَشْرَةَ وَهُوَ ابنُ ثمانٍ وخمسينَ سنةً وَفِي بعضِ مَا ذكرْتُهُ خلافٌ لَمْ أذكُرْهُ، واللهُ أعلمُ. ¬
الثَّانِي: شَخْصانِ (¬1) مِنَ الصَّحَابَةِ عَاشَا فِي الجاهليَّةِ سِتِّينَ سنةً، وَفِي الإسلام ستّينَ سنةً، ومَاتَا بالمدينةِ سنةَ أربعٍ وخمسينَ: أحدُهما: حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ (¬2) وَكَانَ مَوْلِدَهُ فِي جَوْفِ الكَعبةِ قَبْلَ عام الفيلِ بثلاثَ عَشْرَةَ سنةً. والثاني: حَسَّانُ بنُ ثابتِ بن المُنْذِرِ ابنِ حَرَامٍ (¬3) الأنصاريُّ، وَرَوى ابنُ إسحاقَ أنّهُ وأَباهُ ثابتاً والمُنْذِرَ وحَرَاماً عاشَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمْ عشرينَ ومئةَ سنةٍ (¬4). وذكر أَبُو نُعَيْمٍ الحافظُ أَنَّهُ لا يُعرَفُ في العَرَبِ مثلُ ذلكَ لغيرِهم. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَسَّانَ ماتَ سنةَ خمسينَ (¬5)، واللهُ أعلمُ. الثَّالِثُ: أَصْحَابُ المَذَاهِبِ الخمسةِ المَتْبُوعةِ - رضي الله عنهم -: فسُفْيَانُ (¬6) بنُ سعيدٍ الثوريُّ أَبُو عَبْدِ اللهِ ماتَ بلا خلافٍ بالبَصْرةِ سنةَ إحدَى وسِتِّينَ ومئةٍ وَكَانَ مولِدُهُ سنةَ سبعٍ وتسعينَ (¬7). ومالكُ بنُ أنسٍ - رضي الله عنه - تُوُفِّيَ بالمدينةِ سنةَ تسعٍ وسبعينَ ومئةٍ قبلَ الثمانينَ بسنةٍ. واختُلِفَ فِي ميلادِهِ، فقِيلَ: فِي سنةِ ثلاثٍ وتسعينَ، وَقِيلَ: سنةَ إِحدَى، وَقِيلَ: سنةَ أربعٍ، وَقِيلَ: سنةَ سبعٍ (¬8). وأبو حَنَيْفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- ماتَ سنةَ خمسينَ ومئة ببغدادَ وَهُوَ ابنُ سبعينَ سنةً (¬9). والشافعيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - ماتَ فِي آخرِ رَجَبٍ سنةَ أربعٍ ومئتينِ بِمِصْرَ وَوُلِدَ سنةَ خمسينَ ومئةٍ (¬10). ¬
وأحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ ماتَ ببغدادَ فِي شَهْرِ ربيعٍ الآخرِ سنةَ إحدَى وأربعينَ ومئتينِ وَوُلِدَ سنةَ أربعٍ وستينَ ومئةٍ (¬1)، واللهُ أعلمُ. الرابعُ: أصحابُ كُتُبِ الحَدِيْثِ الخمسةِ المُعتَمَدَةِ - رضي الله عنهم -. فالبخاريُّ أَبُو عَبْدِ اللهِ وُلِدَ يومَ الجُمُعةِ بَعْدَ صلاةِ الجُمعة لثلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ منْ شَوَّالٍ سنةَ أربعٍ وتسعينَ ومئةٍ وماتَ بِخَرْتَنْكَ (¬2) قريباً منْ سَمَرْقَنْدَ (¬3) ليلةَ عيدِ الفِطْرِ سنةَ ستٍ وخمسينَ ومئتينِ فكانَ (¬4) عُمُرُهُ اثنتينِ وستينَ سنةً إلاَّ ثلاثةَ عَشَرَ يوماً (¬5). وَمُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ النَّيْسابوريُّ (¬6) ماتَ بها لخَمْسٍ بَقِينَ منْ رَجَبٍ سنةَ إحْدَى وستينَ ومئتينِ وَهُوَ ابنُ خَمْسٍ وخمسينَ سنةً (¬7). وأبو داودَ السِّجِسْتانيُّ سُليمانُ بنُ الأشْعَثِ ماتَ بالبَصْرةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وسبعينَ ومئتينِ (¬8). وأبو عيسى مُحَمَّدُ بنُ عيسى السُّلَميُّ التِّرْمِذِيُّ ماتَ بها لثلاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ منْ رَجَبٍ سنةَ تسعٍ وسبعينَ ومئتينِ (¬9). ¬
وأبو عَبْدِ الرحمانِ أَحْمَدُ بنُ شُعَيْبٍ النَّسَويُّ (¬1) ماتَ سنةَ ثلاثٍ وثلاثِ مئةٍ (¬2)، واللهُ أعلمُ. الخامِسُ: سَبعةٌ مِنَ الحُفَّاظِ فِي سَاقَتِهِمْ (¬3) أحسَنُوا التَّصنيفَ وعَظُمَ الانتفاعُ بِتَصَانِيفِهِم فِي أعصارِنا. أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ البَغْداديُّ ماتَ بها فِي ذي القَعْدةِ سنةَ خمسٍ وثمانينَ وثلاثِ مئةٍ وُلِدَ (¬4) فِي ذي القعْدةِ سنةَ ستٍّ وثلاثِ مئةٍ (¬5). ثُمَّ الحَاكِمُ أَبُو عبدِ اللهِ بنُ البَيِّعِ (¬6) النَّيْسابوريُّ ماتَ بها فِي صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وأربعِ مئةٍ، ووُلِدَ بها فِي شَهْرِ ربيعٍ الأَوَّلِ سنةَ إحدَى وعشرينَ وثلاثِ مئة (¬7). ثُمَّ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ الأزديُّ حافظُ مِصْرَ وُلِدَ فِي ذي القِعْدَةِ سنةَ اثنتينِ وثلاثينَ وثلاثِ مئةٍ، وماتَ بِمِصْرَ فِي صَفَرٍ سنةَ تسعٍ وأربعِ مئةٍ (¬8). ثُمَّ أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الأصبهانيُّ الحافظُ وُلِدَ سنةَ أربعٍ وثلاثينَ وثلاثِ مئةٍ، وماتَ فِي صَفَرٍ سنةَ ثلاثينَ وأربعِ مئةٍ بأصبهانَ (¬9). ومِنَ الطبقةِ الأُخرى: أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ البَرِّ النَّمَريُّ حافظُ أَهْلِ المغربِ وُلِدَ فِي شَهْرِ ربيعٍ الآخرِ سنةَ ثمانٍ وستينَ وثلاثِ مئةٍ، وماتَ بِشَاطِبَةَ منْ بلادِ الأندلسِ فِي شهرِ ربيعٍ الآخِرِ سنةَ ثلاثٍ وستينَ وأربعِ مئةٍ (¬10). ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ الحُسَينِ البَيْهَقِيُّ وُلِدَ سنةَ أربعٍ وثمانينَ وثلاثِ مئةٍ، وماتَ بِنَيْسابورَ فِي جُمَادَى الأُولَى سنةَ ثمانٍ وخمسينَ ¬
النوع الحادي والستون معرفة الثقات والضعفاء من رواة الحديث
وأربعِ مئةٍ ونُقِلَ إلى بَيْهَقَ فَدُفِنَ بها (¬1). ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الخطيبُ البغداديُّ وُلِدَ فِي جُمَادَى الآخرةِ سنةَ اثنتينِ وتِسْعِينَ وثلاثِ مئةٍ وماتَ ببغدادَ فِي ذي الحِجَّةِ سنةَ ثلاثٍ وستينَ وأربعِ مئةٍ (¬2)، رَحِمَهم اللهُ وإيانا والمسلمينَ أجمعينَ (¬3)، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الْحَادِي وَالسِّتُّوْنَ مَعْرِفَةُ الثِّقَاتِ والضُّعَفَاءِ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيْثِ (¬4) ¬
هَذَا مِنْ أجَلِّ نوعٍ وأفْخَمِهِ فإنّهُ المَِرْقَاةُ (¬1) إلى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الحَدِيْثِ وسَقَمِهِ ولأهلِ المَعْرِفَةِ بالحديثِ فِيهِ تصانيفُ كثيرةٌ. مِنْها: مَا أُفرِدَ فِي الضُّعفاءِ: ككتابِ " الضُّعَفاءِ " للبخاريِّ، و " الضُّعفاءِ " للنَّسائيِّ، و " الضُّعفاء " للعُقَيْليِّ وغيرِها. ومنها: فِي الثِّقاتِ فَحَسْبُ: ككتابِ " الثِّقاتِ " لأبي حاتِمِ بنِ حِبَّانَ. ومنها: مَا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الثِّقاتِ والضُّعفاءِ: ك" تأريخِ البُخَارِيّ "، و" تاريخُ بنُ أبي خَيْثَمَةَ " - وما أغْزَرَ فَوَائِدَهُ -، وكتابِ " الجَرْحِ والتَّعديلِ " لابنِ أبي حاتِمٍ الرَّازِيِّ (¬2). رُوِّينا عنْ صالحِ بنِ محمدٍ الحافظِ جَزَرَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ تكَلَّمَ فِي الرِّجَال: شُِعبةُ ابنُ الحَجَّاجِ، ثُمَّ تَبِعَهُ يَحْيَى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، ويَحْيَى بنُ مَعِينٍ (¬3). وهؤلاءِ قلتُ: يعني أنّهُ أَوَّلُ مَنْ تَصدَّى لِذلِكَ وعُنِيَ بِهِ وإلاّ فالكلامُ فيهِم (¬4) جَرْحاً وتَعديلاً مُتقدِّمٌ ثابتٌ عنْ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عَنْ كثيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعينَ فمَنْ بَعْدَهم وجُوِّزَ ذَلِكَ صَوناً للشَّريعةِ ونَفْياً للخطأِ والكَذِبِ عَنْهَا (¬5). وكما جازَ الجَرْحُ فِي الشُّهودِ جازَ فِي الرُّواةِ. وَرُوِّيتُ (¬6) عَنْ أبي بَكْرِ بنِ خَلاَّدٍ قَالَ: قلتُ ليَحْيَى بنِ سعيدٍ: أما تخشَى أنْ يكونَ هؤلاءِ الذينَ تركتَ حديثَهم خُصَماءَكَ عِنْدَ اللهِ يومَ القيامةِ؟ فَقَالَ: لأَنْ يكونوا خُصَمَائي أحَبَّ إليَّ مِنْ أنْ يكونَ خَصْمي رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لي: ((لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكَذِبَ عَنْ حديثي)) (¬7). ورُوِّينا أَوْ بَلَغَنا أنَّ أبا ¬
ترابٍ النَّخْشَبِيَّ (¬1) الزاهدَ سَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ شيئاً منْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: ((يا شيخُ! لا تغتاب (¬2) العُلَمَاءَ. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! هَذَا نَصِيحَةٌ لَيْسَ هَذَا غِيبَةً)) (¬3). ثُمَّ إنَّ عَلَى الآخِذِ فِي ذَلِكَ أنْ يتَّقيَ اللهَ تباركَ وتعالى وَيَتَثبَّتَ ويَتوقَّى التَّساهلَ كَيْلا يَجْرَحَ سَلِيماً ويَسِمَ بريئاً (¬4) بسِمَةِ (¬5) سَوْءٍ يَبْقَى عَلَيْهِ الدهرَ عَارُها (¬6). وأحسبُ أبا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الرحمانِ بنَ أبي حاتِمٍ وَقَدْ قِيلَ: إِنّهُ كَانَ يُعَدُّ مِنَ الأبدالِ منْ مِثلِ مَا ذَكَرناهُ خافَ، فِيْمَا رُوِّيناهُ أَوْ بَلَغَنا (¬7) أنَّ يوسُفَ بنَ الحُسَينِ الرازيَّ وَهُوَ الصُّوفيُّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقرأُ كتابَهُ فِي " الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ ". فَقَالَ لَهُ: كم مِنْ هؤلاءِ القَوْمِ قَدْ حَطُّوا رواحِلَهم فِي الجنَّةِ منذُ مئةِ سنةٍ ومئتي سنةٍ وأنتَ تَذْكُرُهُمْ وتغتابهم؟ فَبَكَى عَبْدُ الرَّحمانِ (¬8). وبَلَغَنا أَيْضَاً أنَّهُ حُدِّثَ، وَهُوَ يَقْرأُ كتابَهُ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ أنّهُ قَالَ: ((إنا لَنَطْعُنُ عَلَى أقوامٍ لعلَّهم قَدْ حَطُّوا رِحَالَهم فِي الجنَّةِ منذُ أكثرَ مِنْ مئتي سنةٍ)). فَبَكى عَبْدُ الرحمانِ وارتَعَدَتْ يَدَاهُ حَتَّى سَقَطَ الكتابُ منْ يَدِهِ (¬9). ¬
النوع الثاني والستون معرفة من خلط في آخر عمره من الثقات
قلتُ (¬1): وَقَدْ أخطأَ فِيهِ غَيْرُ واحدٍ عَلَى غَيْرِ واحدٍ فجَرَحُوهُم بما لا صِحَّةَ لَهُ. ومِنْ ذَلِكَ: جَرْحُ أبي عَبْدِ الرحمانِ النَّسائيِّ لأحمدَ بنِ صالحٍ وَهُوَ حافظٌ إمامٌ ثِقَةٌ (¬2) لا يَعْلَقُ بِهِ جَرْحٌ أخرجَ عَنْهُ البُخَارِيُّ فِي " صحيحِهِ ". وقدْ كَانَ منْ أَحْمَدَ إلى النَّسائيِّ جَفاءٌ أفسَدَ قلبَهُ عَلَيْهِ. وَرُوِّينا عَنْ أبي يَعْلَى الخليليِّ الحافظِ قَالَ: ((اتَّفقَ الحُفَّاظُ عَلَى أنَّ كلامَهُ فِيهِ تحامُلٌ ولا يَقْدَحُ كلامُ أمثالِهِ فِيهِ)) (¬3). قلتُ: النَّسائيُّ إمامٌ حُجَّةٌ فِي الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ، وإذا نُسِبَ مِثْلُهُ إلى مثلِ هَذَا كَانَ وَجْهُهُ أنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبدِي مَسَاوِيَ (¬4) لها فِي الباطنِ مَخارِجُ صَحِيْحَةٌ تُعْمَى عَنْهَا بحِجابِ السُّخْطِ، لا أنَّ ذَلِكَ يقعُ منْ مثلِهِ تَعَمُّداً لِقَدْحٍ يَعْلَمَ بطلانَهُ (¬5)، فاعلمْ هَذَا فإنَّهُ منِ النُّكَتِ النَّفيسةِ المهمّةِ. وَقَدْ مَضَى الكلامُ فِي أحكامِ الجَرْحِ والتَّعدِيلِ فِي النَّوعِ الثَّالِثِ والعشرينَ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الثَّانِي والسِّتُوْنَ مَعْرِفَةُ مَنْ خَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ مِنَ الثِّقَاتِ (¬6) ¬
هَذَا فَنٌّ عَزيزٌ مُهِمٌّ عَزِيزٌ لَمْ أعلمْ أحداً أفردَهُ بالتَّصْنِيفِ (¬1) واعتَنى بِهِ مَعَ كونِهِ حَقِيقاً بِذَلِكَ جدّاً. وهُمْ مُنقَسِمونَ: فمنهم مَنْ خَلَطَ لاختلاطِهِ وخَرَفِهِ. ومنهم مَنْ خَلَطَ لذهابِ بَصَرِهِ أَوْ لغير ذَلِكَ. والحكمُ فيهم: أنَّهُ يُقبَلُ حَدِيثُ مَنْ أُخِذَ عَنْهُمْ قَبْلَ الاختلاطِ ولا يُقبَلُ حَدِيثُ مَنْ أُخِذَ عَنْهُمْ بَعْدَ الاختلاطِ أَوْ أُشكِلَ أمرُهُ فلم يُدْرَ هل أُخِذَ عَنْهُ قبلَ الاختلاطِ أَوْ بَعْدَهُ؟ فمنهم: عَطَاءُ بنُ السَّائِبِ: اختَلَطَ فِي آخرِ عُمُرِهِ، فاحتجُّ أَهْلُ العلمِ بروايةِ الأكابرِ عَنْهُ، مِثْلُ: سفيانَ الثوريِّ وشُعبةَ (¬2)؛؛ لأنَّ سماعَهم منهُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ، وتركُوا الاحتجاجَ بروايةِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ آخراً. وَقَالَ يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ القَطَّانُ فِي شُعْبةَ: ((إلاَّ حَدِيثَينِ كَانَ شعبةُ يقولُ: سَمِعتُهما بِأَخَرَةٍ (¬3) عَنْ زاذانَ)) (¬4). ¬
أَبُو إسحاقَ السَّبِيعيُّ: اختلَطَ أَيْضَاً (¬1)، ويُقالُ إِن سَمَاعَ سفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ مِنْهُ بَعْدَ مَا اختلطَ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو يَعْلَى (¬2) الخليليُّ (¬3). سعيدُ (¬4) بنُ إياسٍ الجُرَيْرِيُّ: اختلَطَ وتَغَيَّرَ حِفْظُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ. قَالَ أَبُو الوليدِ الباجيُّ المالكيُّ: قَالَ النَّسائيُّ: ((أُنكِرَ أيامَ الطَّاعونِ، وَهُوَ أثْبَتُ عندنا منْ خالدٍ الحَذَّاءِ مَا سُمِعَ مِنْهُ قَبْلَ أيامِ الطاعونِ)) (¬5). سعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ: قَالَ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: ((خَلَطَ سَعِيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ بَعْدَ هزيمةِ إِبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ حَسَنِ بنِ حَسَنٍ سنةَ اثنتينِ (¬6) وأربعينَ يعني ومئةٍ (¬7). ومَنْ سَمِعَ ¬
مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فليسَ بشيءٍ. ويزيدُ بنُ هارونَ صَحِيْحُ السَّمَاعِ مِنْهُ سمِعَ مِنْهُ بواسطٍ وَهُوَ يريدُ الكُوفةَ. وأثْبَتُ الناسِ سَمَاعاً مِنْهُ عَبْدَةُ بنُ سُلَيمانَ)) (¬1). قلتُ: وممّنْ عُرِفَ أنهُ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ اختلاطِه وكِيعٌ، والمُعَافَى بنُ عِمْرانَ المَوْصِليُّ. بَلَغَنا عنِ ابنِ عَمَّارٍ المَوْصِليِّ أَحَدِ الحُفَّاظِ أنَّهُ قَالَ: ((ليستْ روايتُهما عَنْهُ بشيءٍ إنّما سماعُهما بَعْدَ مَا اختلَطَ)). وَقَدْ رُوِّينا عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ أنَّهُ قَالَ لوكيعٍ: ((تُحَدِّثُ عَنْ سعيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ وإنّما سَمِعتَ مِنْهُ فِي الاختلاطِ؟)) فَقَالَ: ((رأيتَني حَدَّثْتُ عَنْهُ إلاَّ بحديثٍ مُسْتَوٍ؟)) (¬2). المَسْعُودِيُّ ممَّنْ اختَلَطَ (¬3) وَهُوَ عَبْدُ الرحمانِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتبةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ الهُذَلِيُّ وَهُوَ أخو أبي العُمَيْسِ عُتبةَ المَسْعُودِيِّ. ذَكَرَ الحاكمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي كتابِ " المُزَكِّينَ للرُّواةِ " عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ أَنّه قَالَ: ((مَنْ سَمِعَ مِنَ المَسْعُودِيِّ فِي زمانِ أبي جَعْفَرٍ فَهُوَ صَحِيْحُ السَّمَاعِ، ومن سَمِعَ مِنْهُ فِي أيام المَهْدِيِّ فليسَ سماعُهُ بشيءٍ)) (¬4). وذَكَرَ حَنْبَلُ بنُ إسحاقَ عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ أنّه قَالَ: ((سَمَاعُ عاصمٍ - هُوَ ابنُ عَلِيٍّ - وأبي النَّضْرِ وهؤلاءِ مِنَ المَسْعُودِيِّ بَعْدَ مَا اختلَطَ)) (¬5). رَبِيعةُ الرَّأْيِ بنُ أبي عَبْدِ الرحمانِ أستاذُ مالكٍ: قِيلَ إنَّهُ تغيَّرَ فِي آخرِ عُمرِهِ وتُرِكَ الاعتمادُ عَلَيْهِ لِذلِكَ (¬6). صالحُ بنُ نَبْهانَ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ (¬7) بنتِ أميَّةَ بنِ خَلَفٍ: رَوَى عَنْهُ ابنُ أبي ذِئبٍ والناسُ. قَالَ أَبُو حاتِمِ بنُ حِبَّانَ: ((تغيَّرَ فِي سنةِ خَمْسٍ وعشرينَ ومئةٍ، واختَلَطَ حديثُهُ الأخيرُ بحديثِهِ القديم وَلَمْ يتميَّزْ. فاستَحَقَّ التَّركَ)) (¬8). ¬
حُصَيْنُ بنُ عَبْدِ الرحمانِ الكُوفيُّ مِمَّنْ اختَلَطَ وَتغيَّرَ، ذَكَرَهُ النَّسائيُّ (¬1) وغيرُهُ، واللهُ أعلمُ. عبدُ الوهَّابِ الثَّقَفِيُّ: ذَكَرَ ابنُ أبي حاتِمٍ الرَّازِيُّ عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ أَنّهُ قَالَ: ((اختَلَطَ بِأَخَرَةٍ)) (¬2). سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: وَجَدْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمَّارٍ المَوْصِليِّ أنّهُ سَمِعَ يَحْيَى بنَ سعيدٍ القطانِ يَقُولُ: ((أشهدُ أنَّ سفيانَ بنَ عُيَيْنَةَ اختلَطَ سنةَ سبعٍ وتسعينَ فمَنْ سَمِعَ مِنْهُ فِي هذِهِ السنةِ وبعدَ هَذَا فسماعُهُ لا شيءَ)). قلتُ تُوُفِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ بنحوِ سنتينِ سنةَ تسعٍ وتسعينَ ومئةٍ (¬3). ¬
عَبْدُ الرزاقِ بنُ هَمَّامٍ: ذَكَرَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أنَّهُ عَمِيَ فِي آخرِ عُمُرِهِ فكانَ يُلَقَّنُ فَيَتَلَقَّنُ، فسَماعُ منْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ مَا عَمِيَ لا شيءَ (¬1). وَقَالَ النسائيُّ: ((فِيهِ نَظَرٌ لمنْ كَتَبَ عَنْهُ بِأَخَرَةٍ)) (¬2). قلتُ: وعلى هَذَا يُحْمَلُ (¬3) قَوْلُ عَبَّاسِ بنِ (¬4) عَبْدِ العَظِيمِ، لمّا رَجَعَ مِنْ صَنْعَاءَ: ((واللهِ لَقَدْ تَجشَّمْتُ إلى عَبْدِ الرزاقِ، وإنّهُ لَكَذَّابٌ، والواقديُّ أصدَقُ مِنْهُ)) (¬5). قلتُ: قَدْ وَجَدْتُ - فِيْمَا رُوِيَ عنِ الطَّبَرانيِّ عَنْ إسحاقَ بنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيِّ (¬6) عَنْ عَبْدِ الرزاقِ - أحاديثَ اسْتَنْكَرتُها (¬7) جِدّاً، فَأَحَلْتُ أمرَها عَلَى ذَلِكَ، فإنَّ سَمَاعَ الدَّبَريِّ مِنْهُ متأخّرٌ جِدّاً. قَالَ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبيُّ: ((ماتَ عَبْدُ الرزاقِ وللدَّبَريِّ سِتُّ سِنينَ أَوْ سبعُ سِنينَ)) (¬8) ويَحْصُلُ أَيْضَاً نظرٌ فِي كثيرٍ مِنَ العَوَالِي (¬9) الواقعةِ عمَّنْ تأخَّرَ سَماعُهُ مِنْ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ وأشباهِهِ. ¬
عارمٌ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ أَبُو النُّعْمانِ (¬1): اختَلَطَ بأَخَرَةٍ، فما رَواهُ عَنْهُ البُخَارِيُّ، ومُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْليُّ وغيرُهما مِنَ الحُفَّاظِ يَنْبغِي أنْ يكونَ مأخوذاً عَنْهُ قَبْلَ اختلاطِهِ. أَبُو قِلاَبةَ عَبْدُ الملكِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيُّ (¬2): رُوِّينا عنِ الإمامِ ابنِ خُزَيمةَ أَنَّهُ قَالَ: ((حَدَّثَنَا أَبُو قِلاَبةَ بالبَصْرةِ قَبْلَ أنْ يَختلِطَ ويخرجَ إلى بغدادَ)) (¬3). وممَّنْ بَلَغَنا عَنْهُ ذَلِكَ مِنَ المتأخِّرينَ أَبُو أَحْمَدَ (¬4) الغِطْرِيفيِّ (¬5) الجُرجانيِّ، وأبو طاهرٍ حفيدُ الإمامِ ابنِ خُزَيمةَ: ذَكَرَ الحافظُ أَبُو عَلِيٍّ البَرْدَعِيُّ (¬6) ثُمَّ السَّمرقنديُّ فِي " معجمِهِ " أنّهُ بَلَغَهُ أنَّهما اختَلَطا فِي آخرِ عُمُرِهِما. وأبو بكرِ بنِ مَالِكٍ القَطِيعيُّ راوي مسندَ أَحْمَد وغيرَهُ اختلَّ فِي آخرِ عُمُرِهِ وخَرِفَ حَتَّى كَانَ لا يَعرِفُ شيئاً مما يُقرأ عَلَيْهِ (¬7). واعلمْ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذَا القَبِيلِ مُحْتَجّاً بروايتهِ فِي " الصحيحينِ " أَوْ أحدِهما فإنّا نَعْرِفُ عَلَى الجملةِ أنَّ ذَلِكَ ممّا تَميَّزَ وَكَانَ مأخوذاً عَنْهُ قَبْلَ الاختلاطِ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الثالث والستون معرفة طبقات الرواة والعلماء
النَّوْعُ الثَّالِثُ والسِّتُّوْنَ مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ والعُلَمَاءِ (¬1) وذلكَ مِنَ المهمّاتِ التي افْتَضَحَ بِسَبَبِ الجَهْلِ بِها غَيْرُ واحدٍ مِنَ المُصنِّفينَ وغيرِهم. و" كتابُ الطَّبَقاتِ الكبيرِ " لمحمدِ بنِ سَعْدٍ كاتبِ الواقديِّ كِتَابٌ حَفِيلٌ كثيرٌ الفوائدِ، وَهُوَ ثقةٌ غَيْرَ أنّه كثيرُ الروايةِ فِيهِ عنِ الضُّعَفاءِ. ومنهم: الواقديُّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ ابنُ عُمَرَ الذي لا يَنْسُبُهُ (¬2). والطبقةُ فِي اللُّغَةِ: عبارةٌ عنِ القَوْمِ المُتشابِهينَ (¬3)، وعِندَ هَذَا فرُبَّ شَخْصينِ يكونانِ منْ طَبَقةٍ واحدةٍ لتشابهِهما بالنِّسْبةِ إلى جِهَةٍ، ومنْ طَبَقَتيْنِ بالنِّسْبةِ إلى أُخرى لا يتشابهانِ فِيْهَا. فأنسُ بنُ مالكٍ الأنصاريُّ وغيرُهُ منْ أصاغرِ الصَّحابةِ مَعَ العَشَرةِ وغيرِهم منْ أكابرِ الصَّحَابَةِ مِنْ طبقةٍ واحدةٍ إذَا نَظَرنا إلى تَشَابهِهم فِي أصلِ صفةِ الصُّحبةِ. وعلى هَذَا فالصَّحابةُ بأسرِهِم طبقةٌ أُولَى، والتابعونَ طبقةٌ ثانيةٌ، وأتباعُ التابعينِ طَبَقةٌ ثالثةٌ، وَهَلُمَّ جَرّاً. وإذا نَظرنا إلى تَفاوتِ الصحابةِ فِي سَوابقِهم ومَراتِبهم كانوا عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ بَضْعَ عَشْرَةَ طَبَقةً، ولا يكونُ عِنْدَ هَذَا أنسٌ وغيرُهُ منْ أصاغرِ الصَّحَابَةِ منْ طبقةِ العَشَرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ بَلْ دُونَهم بِطَبَقَاتٍ. والباحثُ الناظرُ فِي هَذَا الفَنِّ يَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةِ المواليدِ والوَفَياتِ ومَنْ أَخذُوا عَنْهُ ومَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ ونحوِ ذَلِكَ، واللهُ أعلمُ. ¬
النوع الرابع والستون معرفة الموالي من الرواة والعلماء
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّوْنَ مَعْرِفَةُ الْمَوَالِي (¬1) مِنَ الرُّوَاةِ وَالعُلَمَاءِ (¬2) وأهمُّ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ المَوَالِي المَنْسُوبينَ إلى القبائلِ بوَصْفِ الإطلاقِ، فإنَّ الظاهرَ فِي المَنسُوبِ إلى قَبِيلةٍ كَمَا إذَا قِيلَ: ((فُلاَنٌ القُرَشِيُّ)) أنَّهُ مِنْهُمْ صَلِيْبَةً (¬3)، فإذن بَيانُ مَنْ قِيلَ فِيهِ: قُرَشيٌّ من أجلِ كونِهِ مَوْلَى لهم مُهِمٌّ. ¬
واعْلمْ أَنَّ فيهم مَنْ يُقالُ فِيهِ: ((مَوْلَى فَلانٍ)) أَوْ: ((لبني فلانٍ)). والمرادُ بِهِ مَوْلَى العَتَاقَةِ وهذا هُوَ الأغلبُ فِي ذَلِكَ. ومنهم منْ أُطلِقَ عَلَيْهِ لفظُ ((المَوْلَى)) والمرادُ بِهِ وَلاءُ الإسلامِ. ومنهم أَبُو عبدِ اللهِ البُخَارِيُّ فَهُوَ مُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ الجُعْفِيُّ (¬1) مَوْلاَهُمْ نُسِبَ إلى وِلاءِ الجُعْفيِّينَ؛ لأنَّ جَدَّهُ - وأظنُّهُ الذي يُقالُ لَهُ: الأحنفُ (¬2) - أسلمَ وَكَانَ مجوسِيّاً عَلَى يَدِ اليَمَانِ بنِ أخنسَ الجُعْفيِّ (¬3) جدِّ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ المُسْنَدِيِّ (¬4) الجُعْفِيِّ أحدِ شُيوخِ البُخَارِيِّ. وكذلك الحَسَنُ بنُ عيسى المَاسَرْجِسيُّ (¬5) مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بنِ المُبَارَكِ إنَّما ولاؤهُ لَهُ منْ حَيْثُ كونُهُ أسلمَ -وَكَانَ نَصْرانياً- عَلَى يَدَيهِ. ومنهمْ مَنْ هُوَ مَوْلَىً بوَلاءِ الحِلْفِ والموالاةِ كمالكِ بنِ أنسٍ الإمامِ، وَنَفَرُهُ هُمْ أَصْبَحِيُّونَ حِمْيَريُونَ صَلِيْبَةً (¬6) وهُمْ مَوَالٍ لِتَيْمِ قُرَيْشٍ بالحِلْفِ، وَقِيلَ، لأنَّ جَدَّهُ مَالِكَ بنَ أبي عامرٍ كَانَ عَسِيفاً عَلَى طَلْحةِ بنِ عُبَيدِ اللهِ التَّيْميِّ (¬7) أيْ أَجِيراً، وطَلْحَةُ يَخْتَلِفُ (¬8) بالتِّجارَةِ فقِيلَ: ((مَوْلَى التَّيْمِيّينَ)) لِكَوْنِهِ مَعَ طلحةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ التَّيْمِيِّ. وهذا قِسْمٌ رابعٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ نَحْوُ مَا أسلفناهُ فِي مِقْسَمٍ أَنّهُ قِيلَ فِيهِ: ((مَوْلَى ابنُ عَبَّاسٍ)) لِلزومِهِ إيّاهُ (¬9). ¬
وهذه أمثلةٌ للمنسوبينَ إلى القَبائِلِ منْ مَوَالِيهم (¬1): أَبُو البَخْتَريُّ (¬2) الطائيُّ سعيدُ بنُ فَيْرُوزَ التابعيُّ هُوَ مَوْلَى طَيّءٍ. أَبُو العاليةِ رُفَيْعٌ (¬3) الرِّياحِيُّ التَّميميُّ التَّابِعيُّ كَانَ مَوْلَى امرأةٍ منْ بني رِياحٍ. عَبْدُ الرحمانِ بنُ هُرْمُزَ الأعرجُ الهاشميُّ أَبُو داودَ الرَّاوِي عَنْ أبي هُرَيْرَةَ وابنِ بُحَيْنَةَ وغيرِهما هُوَ مَوْلَى بني هاشِمٍ. الليثُ بنُ سَعْدٍ المِصْريُّ الفَهْمِيُّ (¬4) مَوْلاهُمْ. عَبْدُ اللهِ بنُ المباركِ المَرْوزيُّ الحَنْظَلِيُّ (¬5) مَوْلاهُمْ. عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المِصْريُّ القُرَشيُّ مَوْلاَهُمْ. عَبْدُ اللهِ بنُ صالحٍ المِصْريُّ كاتبُ اللَّيثِ الجُهنيُّ مَوْلاَهُمْ. ورُبَّما نُسِبَ إلى القَبِيلةِ مَوْلَى مَوْلاَهَا كأبي الحُبابِ (¬6) سَعيدِ بنِ يَسارٍ الهاشميِّ الرَّاوِي عَنْ أبي هُرَيْرَةَ وابنِ عُمَرَ كَانَ مَوْلَى لِمَوْلَى بني هَاشِمٍ؛ لأنَّهُ مَوْلَى شُقْرَانَ (¬7) مَوْلَى رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوِّينا عنِ الزُّهْرِيّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى عَبْدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ، فَقَالَ: مِنْ أينَ قَدِمْتَ يا زُهْرِيُّ؟ قُلْتُ: مِنْ مَكَّةَ. قَالَ: فَمَنْ خَلَّفتَ بِهَا يَسودُ أهلَها؟ قُلْتُ: عَطَاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ ¬
قُلْتُ: مَنَ المَوَالِي (¬1). قَالَ: وَبِمَ سَادَهُمْ؟ قُلْتُ: بالدِّيانةِ والرِّوايةِ. قَالَ: إنَّ أَهْلَ الدِّيانةِ والرِّوايةِ لَيَنْبغِي أَنْ يُسَوَّدُوا. قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أهلَ اليَمَنِ؟ قَالَ قُلْتُ: طاوُسُ بنُ كَيْسانَ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ قُلْتُ: مَنَ المَوَالِي قَالَ: وَبِمَ سَادَهُمْ؟ قُلْتُ: بِمَا سَادَهُم بِهِ عَطَاءٌ. قَالَ: إِنَّهُ لَيَنْبَغِي قَالَ: فمَنْ يَسُودُ أَهْل مِصْرَ؟ قَالَ قُلْتُ: يَزِيدُ ابنُ أبي حَبِيبٍ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ قُلْتُ (¬2): مَنَ المَوَالِي. قَالَ: فَمَنْ يسُودُ أَهْلَ الشَّامِ؟ قَالَ قُلْتُ: مَكْحُولٌ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ قُلْتُ: مَنَ المَوَالِي عبدٌ نُوبِيٌّ (¬3) أعتَقَتْهُ امرأةٌ منْ هُذيْلٍ. قَالَ: فَمَنْ يَسُودُ أهْلَ الجَزِيْرَةِ؟ قُلتُ (¬4): مَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ قُلْتُ: مَنَ المَوَالِي. قَالَ: فمَنْ يَسُودُ أهلَ خُرَاسَانَ؟ قَالَ: قُلْتُ: الضَّحَّاكُ بنُ مُزَاحِمٍ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ قُلْتُ: مَنَ المَوَالِي. قَالَ: فَمَنْ يَسُودُ أهلَ البَصْرَةِ؟ قَالَ قُلْتُ: الحَسَنُ بنُ أبي الحَسَنِ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ قُلْتُ: مَنَ المَوَالِي. قَالَ: وَيْلَكَ! فَمَنْ يَسُودُ أهلَ الكُوفَةِ؟ قال قلتُ: إبراهيمُ النَّخَعيُّ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قَالَ قُلْتُ: مَنَ العَرَبِ. قالَ: وَيْلَكَ يا زُهْرِيُّ! فَرَّجْتَ عَنِّي، واللهِ لَتَسُودَنَّ المَوَالِي (¬5) على العَرَبِ حتى يُخْطَبَ لها على المَنَابِرِ والعَرَبُ تَحْتَها. قال قلت: يا أميرَ المؤمنينِ! إنَّما هو أمرُ الله وَدِينُهُ، مَنْ حَفِظَهُ سَادَ ومَنْ ضَيَّعهُ سَقَطَ (¬6). وفيما نَرْوِيهِ عَنْ (¬7) عَبْدِ الرحمانِ بنِ زَيْدِ بنِ أسلَمَ قَالَ: ((لمّا ماتَ العَبَادلةُ صارَ الفِقْهُ فِي جميعِ البُلدانِ إلى المَوَالي، إلاَّ المدينةَ، فإنَّ اللهَ خصَّهَا بِقُرَشيٍّ فكانَ فقيهُ أهلِ المدينةِ سعيدَ بنَ المُسَيِّبِ غيرَ مُدَافَعٍ)). ¬
النوع الخامس والستون معرفة أوطان الرواة وبلدانهم
قُلْتُ: وَفِي هَذَا (¬1) بعضُ المَيْلِ، فَقَدْ كَانَ حينئذٍ مِنَ العَرَبِ غَيْر ابنِ المُسِّيبِ فُقَهَاءُ أئمَّةٌ مشاهيرُ، مِنْهُمْ: الشَّعْبيُّ، والنَّخَعيُّ (¬2)، وجميعُ الفُقَهاءِ السَّبْعةِ الذينَ مِنْهُمْ ابنُ المسيِّبِ عَرَبٌ إلاَّ سُلَيْمانَ بنَ يَسَارٍ، واللهُ أعلمُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّوْنَ مَعْرِفَةُ أوْطَانِ الرُّواةِ وبُلْدَانِهِمْ (¬3) وذلكَ ممَّا يَفْتَقِرُ حُفَّاظُ الحديثِ إلى مَعْرِفَتِهِ فِي كثيرٍ مِنْ تصرُّفاتِهم، وَمِنْ مَظَانِّ ذِكرِهِ " الطَّبَقَاتُ " لابنِ سَعْدٍ. وَقَدْ كانتِ العَرَبُ إنَّما تَنْتَسِبُ (¬4) إلى قَبائِلها، فلمّا جاءَ إلى الإسلامِ وغَلَبَ عليهم سُكْنى القُرَى والمدائنِ حَدَثَ فِيْمَا بَيْنَهم الانتسابُ إلى الأوطانِ، كَمَا كانتِ العَجَمُ تَنتَسِبُ (¬5)، وأضاعَ كثيرٌ مِنْهُمْ أنسابَهم (¬6)؛ فَلَمْ يبقَ لَهُمْ غيرُ الانتسابِ إلى أوطانِهم. ومَنْ كَانَ مِنَ النَّاقِلَةِ (¬7) منْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، وأرادَ الجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الانتسابِ فَليَبْدَأْ بالأوَّلِ (¬8) ثُمَّ بالثاني المُنتقِلِ إِليهِ، وحَسَنٌ أنْ يُدْخِلَ عَلَى الثَّانِي كلمةَ ¬
((ثُمَّ)) فيُقالُ فِي النَّاقِلَةِ مِنْ مِصْرَ إلى دَمَشْقَ مثلاً: ((فُلاَنٌ المَصْرِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ)) (¬1). ومَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَلْدَةٍ فجائزٌ أنْ يَنتَسِبَ إلى القَرْيَةِ وإلى البَلْدَةِ أَيْضَاً وإلى الناحيةِ التي مِنْها تِلْكَ البلدةُ أَيْضَاً (¬2). ولنقتدِ بالحاكمِ أبي عبدِ اللهِ الحافظِ فَنَروِي أحاديثَ بأسانيدِها مُنبِّهينَ عَلَى بلادِ رواتِها، ومُستحسَنٌ مِنَ الحافظِ أنْ يورِدَ الحَدِيْثَ بإسنادِهِ ثُمَّ يَذْكُرَ أوطانَ رجالِهِ واحِداً فَوَاحِداً وهكذا غيرَ ذَلِكَ مِنْ أحوالهِم. أخبرني الشَّيْخُ المُسْنَدُ المُعَمَّرُ (¬3) أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ المُعَمَّرِ - رَحِمَهُ اللهُ - بقراءتي عَلَيْهِ ببغدادَ، قَالَ أخْبَرَنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الباقي بنِ مُحَمَّدٍ الأنصاريُّ، قَالَ أخْبَرنا أَبُو إسحاقَ إِبْرَاهِيمُ بنُ عُمَرَ بنِ أَحْمَدَ البَرْمَكِيُّ، قَالَ أخبَرنا أَبُو مُحَمَّدٍ ¬
عَبْدُ اللهِ بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ أيُوبَ بنِ مَاسِي (¬1)، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بنُ عَبْدِ اللهِ الكَجِّيُّ (¬2)، قَالَ: حَدَّثَنَا (¬3) مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصارِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا (¬4) سُليمانُ التَّيْمِيُّ عنْ أنسٍ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا هِجْرةَ بَيْنَ المُسلِمينَ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ أَوْ قَالَ: ثَلاَثِ لَيالٍ)) (¬5). أخبرني الشَّيْخُ المُسْنِدُ أَبُو الحَسَنِ المُؤيَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ المُقْرِئُ - رَحِمَهُ اللهُ - بقراءتي عَلَيْهِ بنَيْسابورَ عَوْداً عَلَى بَدْءٍ منْ ذَلِكَ مَرَّةً عَلَى رَأْسِ قَبْرِ مُسْلِمِ بنِ الحَجَّاجِ، قَالَ أَخْبَرَنَا فقيهُ الحَرَمِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْل الفُراويُّ عِنْدَ قَبْرِ مُسْلِمٍ أَيْضَاً (ح) (¬6) وأخبرتْني أُمُّ المُؤيَّدِ زينبُ بنتُ أبي القاسمِ عَبْدِ الرحمانِ ابنِ الحَسَنِ الشَّعْريِّ بقراءتي عَلَيْهَا بنَيسابورَ مَرَّةً وبقراءةِ غَيْري مَرَّةً رَحِمَها اللهُ، قُلْتُ أَخبركِ إِسْمَاعِيْلُ بنُ أبي القاسم بنِ أبي بكرٍ القارئُ قراءةً عَلَيْهِ، قَالَ أخبرنا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مَسْرُورٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيْلُ بنُ نُجَيْدٍ السُّلميُّ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بنُ عَبْدِ اللهِ الكَجِّيُّ، ¬
قَالَ حَدَّثَنَا (¬1) مُحَمَّدُ ابنُ عَبْدِ اللهِ الأنصاريُّ، قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أنسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً)) قُلْتُ: ((يا رَسُوْلَ اللهِ! أنْصُرُهُ مَظْلُوماً، فكيفَ أَنْصُرُهُ ظَالِماً؟)) قَالَ: ((تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَذلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ)) (¬2). الحديثانِ عاليانِ فِي السَّمَاعِ مَعَ نَظَافةِ (¬3) السَّنَدِ وصحَّةِ المَتْنِ، وأنسٌ فِي الأَوَّلِ، فمن دُونَهُ إلى أبي مُسْلِمٍ بَصْريونَ، ومَنْ بعدِ أبي مُسْلِمٍ إلى شَيْخِنا فِيهِ بغداديونَ. وَفِي الحَدِيْثِ الثَّانِي أنسٌ فمَنْ دُونَهُ إلى أبي مُسْلِمٍ كَمَا ذَكَرناهُ بصريونَ، ومَنْ بَعْدَهُ مِنَ ابنِ نُجَيْدٍ إلى شَيْخِنا (¬4) نَيْسابوريونَ. أخبرَني الشَّيْخُ الزَّكِيُ أَبُو الفَتْحِ مَنْصُورُ بنُ عَبْدِ المُنعِمِ بنِ أبي البركاتِ بنِ الإمامِ أبي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ الفَضْلِ (¬5) الفُرَاوِيُّ بقراءتي عَلَيْهِ بِنَيْسابورَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُثمانَ سعيدُ ابنُ مُحَمَّدٍ البَحِيريُّ - رَحِمَهُ اللهُ - قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سعيدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ حَمْدُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حاتِم مَكِّيُّ بنُ عَبْدانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمانِ بنُ بِشْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ (¬6)، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابنُ جُرَيجٍ، قَالَ: أخبرني عَبْدَةُ بنُ أبي لُبَابَةَ أنَّ وَرَّاداً مَوْلَى المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ ¬
أخبرَهُ: أنَّ المُغِيرةَ بنَ شُعبةَ كَتَبَ إلى مُعاويةَ كَتَبَ ذَلِكَ الكِتَابَ لَهُ وَرَّادٌ، إنّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ حِيْنَ يُسَلِّمُ: ((لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وله الحَمْدُ، اللَّهُمَّ لا مانعَ لِمَا أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجدُّ)) (¬1). المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ وَوَرَّادٌ وعَبْدَةُ: كُوفيونَ، وابنُ جُرَيْجٍ: مَكِّيٌّ، وعبدُ الرزاقِ: صَنعانيٌّ يَمَانٍ (¬2)، وعبدُ الرحمانِ بنُ بِشْرٍ فَشَيْخُنا ومَنْ بَيْنَهُمَا أجمعونَ: نيسابوريونَ. وللهِ سبحانَهُ الحَمْدُ الأتَمُّ عَلَى مَا أسبَغَ مِنْ إفضالِهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ الأفضلانِ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وعلى سائِرِ النَّبيينَ وآلِ كُلٍّ، نِهايةَ مَا يَسألُ السائلونَ وغَايةَ مَا يأمُلُ الآملونَ. آمِيْنَ، آمِيْنَ، آمِيْنَ (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬