مقامات الحريري

الحريري

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم اللهُمّ إنّا نحْمَدُك على ما علّمْتَ من البَيانِ. وألْهَمْتَ من التِّبْيان. كما نحْمَدُك على ما أسْبغْتَ منَ العَطاء. وأسبَلْت من الغِطاء. ونَعوذُ بكَ منْ شِرّةِ اللّسَنِ. وفضولِ الهذَرِ. كما نَعوذُ بكَ منْ معرّةِ اللّكَنِ. وفُضوحِ الحصَرِ. ونَستَكْفي بكَ الافتِتانَ بإطْراء المادِحِ. وإغضاءِ المُسامِحِ. كما نَستَكْفي بكَ الانتِصابَ لإزْراء القادِحِ. وهتْكِ الفاضِحِ. ونسْتغْفِرُك منْ سَوْقِ الشَّهَواتِ. الى سوقِ الشُّبُهاتِ. كما نستغْفِرُكَ منْ نقْلِ الخطَواتِ.

الى خِطَطِ الخَطيئَاتِ. ونسْتَوْهِبُ منْكَ توفيقاً قائِداً الى الرُشْدِ. وقَلْباً متقلِّباً معَ الحقّ. ولِساناً متحلّياً بالصّدْقِ. ونُطْقاً مؤيَّداً بالحُجّةِ. وإصابةً ذائِدَةً عنِ الزَّيْغِ. وعَزيمةً قاهِرةً هَوى النّفْسِ. وبصيرةً نُدْرِكُ بها عِرْفانَ القَدْرِ. وأنْ تُسعِدَنا بالهِدايَةِ. الى الدِّرايةِ. وتَعْضُدَنا بالإعانَةِ. على الإبانَةِ. وتعْصِمَنا منَ الغَوايَةِ. في الرّوايَةِ. وتصرِفَنا عنِ السّفاهَةِ. في الفُكاهَةِ. حتى تأمَنَ حصائِدَ الألْسِنَةِ. ونُكْفَى غَوائِلَ الزّخْرفَةِ. فلا نَرِدَ موْرِدَ مأثَمةٍ. ولا نقِفَ موْقِفَ مَنْدمَةٍ. ولا نُرْهَقَ بتَبِعةٍ ولا مَعتَبَةٍ. ولا نُلْجَأَ الى معْذِرَةٍ عنْ بادِرَةٍ. اللهُمّ فحقِّقْ لَنا هذِهِ المُنْيَةَ. وأنِلْنا هذِه البُغْيَةَ. ولا تُضْحِنا عنْ ظِلّكَ السّابِغِ.

ولا تجْعَلْنا مُضغَةً للماضِغِ. فقدْ مدَدْنا إليْكَ يدَ المسْألَةِ. وبخَعْنا بالاسْتِكانَةِ لكَ والمَسْكَنةِ. واستَنْزَلْنا كرَمَك الجَمّ. وفضْلَكَ الذي عمّ. بضَراعَةِ الطّلَبِ. وبِضاعَةِ الأمَلِ. بالتّوسّلِ بمحَمّدٍ سيّدِ البشَرِ. والشّفيعِ المُشفَّعِ في المحْشَرِ. الذي ختَمْتَ بهِ النّبيّينَ. وأعليتَ درجتَهُ في عِلّيّينَ. ووَصَفْتَه في كِتابِك المُبينِ. فقُلتَ وأنتَ أصدَقُ القائلين: وما أرْسَلْناكَ إلاّ رحمةً للعالَمينَ. اللهُمّ فصَلِّ علَيه وعلى آلِه الهادينَ. وأصحابِه الذين شادوا الدّين. واجْعَلْنا لهَدْيِه وهَديهمْ متّبِعينَ. وانْفَعْنا بمحبّتِه ومحبّتِهِمْ أجْمَعينَ. إنّك على كُلّ شيء قديرٌ. وبالإجابةِ جَديرٌ. وبعْدُ فإنّهُ قدْ جرَى ببَعْضِ أنْديَةِ الأدَبِ الذي ركدَتْ في هذا العصْرِ ريحُهُ. وخبَتْ مصابيحُهُ. ذِكْرُ

المَقاماتِ التي ابْتَدعَها بَديعُ الزّمانِ. وعلاّمَةُ همَذانَ. رحِمَهُ اللهُ تعالى. وعَزا الى أبي الفتْحِ الإسكنْدَريّ نشْأتَها. والى عيسى بنِ هِشامٍ رِوايتَها. وكِلاهُما مجْهولٌ لا يُعرَفُ. ونَكِرةٌ لا تتَعرّفُ! فأشارَ مَنْ إشارتُه حُكْمٌ. وطاعَتُه غُنْمٌ. الى أنْ أُنْشئَ مَقاماتٍ أتْلو فيها تِلْوَ البَديعِ. وإنْ لمْ يُدْرِكِ الظّالِعُ شأوَ الضّليعِ. فذاكَرْتُهُ بما قيلَ فيمَنْ ألّفَ بينَ كَلِمتَينِ. ونظَم بيْتاً أو بيتَينِ. واسْتقَلْتُ منْ هذا المَقامِ الذي فيهِ يَحارُ الفَهْمُ. ويفرُطُ الوهْمُ. ويُسْبَرُ غوْرُ العقْلِ. وتتَبَيّنُ فيمَةُ المَرْء في الفضْلِ. ويُضْطَرّ صاحِبُه الى أن يكونَ كحَاطِبِ لَيْلٍ.

أو جالِبِ رَجْلٍ وخَيْلٍ. وقلّما سلِمَ مِكْثارٌ. أو أُقيلَ لهُ عِثارٌ. فلمّا لمْ يُسْعِفْ بالإقالَةِ. ولا أعْفَى منَ المَقالَةِ. لبّيْتُ دعْوَتَهُ تلبِيَةَ المُطيعِ. وبذَلْتُ في مُطاوَعَتِه جُهْدَ المُستَطيعِ. وأنْشأتُ على ما أُعانِيه منْ قَريحةٍ جامِدةٍ. وفِطْنَةٍ خامِدةٍ. ورَويّةٍ ناضِبَةٍ. وهُمومٍ ناصِبَةٍ. خمْسينَ مَقامةً تحْتَوي على جِدّ القَوْلِ وهزْلِه. ورَقيقِ اللّفْظِ وجزْلِه. وغُرَرِ البَينِ ودُرَرِه. ومُلَحِ الأدَبِ ونوادِرِه. الى ما وشّحْتُها بهِ من الآياتِ. ومَحاسِنِ الكِناياتِ. ورصّعْتُهُ فيها من الأمْثالِ العربيّةِ. واللّطائِفِ الأدبيّةِ. والأحاجيّ النّحْويّةِ. والفَتاوَى اللّغويّةِ. والرّسائِلِ المُبتَكَرةِ. والخُطَبِ المُحَبّرةِ. والمواعِظِ المُبْكِيةِ. والأضاحيكِ المُلْهِيَةِ. ممّا أمْلَيْتُ جميعَهُ على لِسانِ أبي زيْدٍ السَّرُوجيّ. وأسْنَدْتُ رِوايتَهُ الى

الحارِثِ بنِ هَمّامٍ البِصْرِيّ. وما قصَدْتُ بالإحْماضِ فيهِ. إلا تنْشيطَ قارِئِيهِ. وتكْثيرَ سَوادِ طالِبيهِ. ولمْ أُودِعْهُ منَ الأشْعارِ الأجْنبيّةِ إلا بيْتَينِ فذّينِ أسّسْتُ علَيْهِما بُنْيَةَ المَقامَة الحُلْوانيّةِ. وآخَرَينِ توأمَينِ ضمّنْتُهُما خَواتِمَ المَقامَةِ الكرَجيّةِ. وما عدا ذلِك فخاطِري أبو عُذْرِهِ. ومُقْتَضِبُ حُلْوِهِ ومُرِّهِ. هذا معَ اعْتِرافيْ بأنّ البَديعَ رحِمَهُ اللهُ سَبّاقُ غاياتٍ. وصاحِبُ آياتٍ. وأنّ المتصَدّيَ بعدَهُ لإنْشاء مَقامةٍ. ولوْ أُوتيَ بَلاغَةَ قُدامَةَ. لا يغْترِفُ إلا من فُضالَتِه. ولا يسْري ذلِك المَسْرى إلا بدَلالَتِهِ. وللهِ دَرُّ القائِلِ: أسّسْتُ علَيْهِما بُنْيَةَ المَقامَة الحُلْوانيّةِ. وآخَرَينِ توأمَينِ ضمّنْتُهُما خَواتِمَ المَقامَةِ الكرَجيّةِ. وما عدا ذلِك فخاطِري أبو عُذْرِهِ. ومُقْتَضِبُ حُلْوِهِ ومُرِّهِ. هذا معَ اعْتِرافيْ بأنّ البَديعَ رحِمَهُ اللهُ سَبّاقُ غاياتٍ. وصاحِبُ آياتٍ. وأنّ المتصَدّيَ بعدَهُ لإنْشاء مَقامةٍ. ولوْ أُوتيَ بَلاغَةَ قُدامَةَ. لا يغْترِفُ إلا من فُضالَتِه. ولا يسْري ذلِك المَسْرى إلا بدَلالَتِهِ. وللهِ دَرُّ القائِلِ: فلوْ قبْلَ مَبْكاها بكَيْتُ صَبابةً ... بسُعْدى شفَيتُ النفسَ قبل التّنَدُّمِ

ولكِنْ بكَتْ قبْلي فهيّجَ لي البُكا ... بُكاها فقُلتُ الفضْلُ للمتَقدِّمِ وأرْجو أنْ لا أكونَ في هذا الهذَرِ الذي أوْرَدْتُهُ. والمَوْرِدِ الّذي تورّدْتُهُ. كالباحِثِ عنْ حتْفِهِ بظِلْفِه. والجادعِ مارِنَ أنْفِهِ بكفّهِ. فألحَقَ بالأخْسَرِينَ أعْمالاً الذينَ ضلّ سعْيُهُمْ في الحياةِ الدُنْيا. وهُمْ يحْسِبونَ أنّهُمْ يُحسِنونَ صُنْعاً. على أني وإنْ أغْمَضَ لي الفَطِنُ المُتغابي ونضَحَ عنّي المُحبُّ المُحابي. لا أكادُ أخْلُصُ منْ غُمْرٍ جاهِلٍ. أو ذي غِمْرٍ متَجاهِلٍ. يضَعُ مني لهَذا الوضْعِ. ويندّدُ بأنّهُ منْ مَناهي الشّرْعِ. ومَنْ نقَدَ الأشْياءَ بعَينِ المعْقولِ. وأنْعَمَ النّظَرَ في مَباني الأصولِ. نظَمَ هذِه المَقاماتِ. في سِلْكِ الإفاداتِ. وسلَكَها

مسْلَكَ الموْضوعاتِ. عنِ العَجْماواتِ والجَماداتِ. ولمْ يُسْمَعْ بمَنْ نَبا سمْعُهُ عنْ تِلكَ الحِكاياتِ. أو أثّمَ رُواتَها في وقْتٍ من الأوْقاتِ. ثمّ إذا كانَتِ الأعْمالُ بالنِّيّاتِ. وبها انْعِقادُ العُقودِ الدِّينِيّاتِ. فأيُّ حرَجٍ على مَنْ أنْشأ مُلَحاً للتّنْبيهِ. لا للتّمويهِ. ونَحا به منحَى التّهْذيبِ. لا الأكاذيبِ؟ وهلْ هُوَ في ذلِك إلا بمنزِلَةِ مَنِ انتَدَبَ لتعْليمٍ. أو هدَى الى صِراطٍ مُستَقيمٍ؟ على أنّني راضٍ بأنْ أحْمِلَ الهَوى ... وأخْلُصَ منْهُ لا عليّ ولا لِيا وباللهِ أعْتَضِدُ. فيما أعْتَمِدُ. وأعْتَصِمُ. ممّا يصِمُ. وأسْتَرْشِدُ. الى ما يُرْشِدُ. فما المَفْزَعُ إلاّ إليْهِ. ولا الاستِعانةُ إلا بهِ. ولا التّوفيقُ إلا منْهُ. ولا الموْئِلُ إلا هُوَ. علَيْهِ توكّلتُ وإليْهِ أُنيبُ. وبهِ نسْتَعينُ. وهو نِعْمَ المُعينُ.

المقامة الصنعانية

المقامة الصنعانية حدّثَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: لمّا اقتَعدْتُ غارِبَ الاغتِرابِ. وأنْأتْني المَترَبَةُ عنِ الأتْرابِ. طوّحَتْ بي طَوائِحُ الزّمَنِ. الى صنْعاء اليَمَنِ. فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ. باديَ الإنْفاضِ. لا أمْلِكُ بُلْغَةً. ولا أجِدُ في جِرابي مُضْغَةً. فطَفِقْتُ أجوبُ طُرُقاتِها مِثلَ الهائِمِ. وأجولُ في حَوْماتِها جَوَلانَ الحائِمِ. وأرُودُ في مَسارحِ لمَحاتي. ومَسايِحِ غدَواتي ورَوْحاتي. كريماً أُخْلِقُ لهُ ديباجَتي. وأبوحُ إلَيْهِ بحاجتي. أو أديباً تُفَرّجُ رؤيَتُه غُمّتي. وتُرْوي رِوايتُه غُلّتي. حتى أدّتْني خاتِمَةُ المَطافِ. وهدَتْني فاتِحةُ الألْطافِ. الى نادٍ

رَحيبٍ. مُحتَوٍ على زِحامٍ ونَحيبٍ. فوَلَجْتُ غابةَ الجمْعِ. لأسْبُرَ مَجْلَبَةَ الدّمْعِ. فرأيتُ في بُهْرَةِ الحَلْقَةِ. شخْصاً شخْتَ الخِلْقَةِ. عليْهِ أُهْبَةُ السّياحَةِ. وله رنّةُ النِّياحَةِ. وهوَ يطْبَعُ الأسْجاعَ بجواهِرِ لفظِهِ. ويقْرَعُ الأسْماعَ بزَواجِرِ وعْظِهِ. وقدْ أحاطَتْ بهِ أخلاطُ الزُّمَرِ. إحاطَةَ الهالَةِ بالقَمَرِ. والأكْمامِ بالثّمرِ. فدَلَفْتُ إليهِ لأقْتَبِسَ من فوائِدِه. وألْتَقِطَ بعْضَ فرائِدِه. فسمِعْتُهُ يقولُ حينَ خبّ في مجالِه. وهَدَرَتْ شَقاشِقُ ارتِجالِه. أيّها السّادِرُ في غُلَوائِهِ. السّادِلُ ثوْبَ خُيَلائِهِ. الجامِحُ في جَهالاتِهِ. الجانِحُ الى

خُزَعْبِلاتِه. إلامَ تسْتَمرُّ على غَيّكَ. وتَستَمْرئُ مرْعَى بغْيِكَ؟ وحَتّامَ تتَناهَى في زهوِكَ. ولا تَنْتَهي عن لَهوِكَ؟ تُبارِزُ بمَعصِيَتِكَ. مالِكَ ناصِيَتِكَ! وتجْتَرِئُ بقُبْحِ سيرَتِك. على عالِمِ سَريرَتِكَ! وتَتَوارَى عَن قَريبِكَ. وأنتَ بمَرْأى رَقيبِكَ! وتَستَخْفي مِن ممْلوكِكَ وما تَخْفى خافِيَةٌ على مَليكِكَ! أتَظُنُّ أنْ ستَنْفَعُكَ حالُكَ. إذا آنَ ارتِحالُكَ؟ أو يُنْقِذُكَ مالُكَ. حينَ توبِقُكَ أعمالُكَ؟ أو يُغْني عنْكَ ندَمُكَ. إذا زلّتْ قدَمُكَ؟ أو يعْطِفُ عليْكَ معشَرُكَ. يومَ يضُمّكَ مَحْشَرُكَ؟ هلاّ انتَهَجْتَ مَحَجّةَ اهتِدائِكَ. وعجّلْتَ مُعالجَةَ دائِكَ. وفَلَلْتَ شَباةَ اعتِدائِكَ. وقدَعْتَ نفْسَكَ فهِيَ أكبرُ أعدائِكَ؟ أما الحِمام ميعادُكَ. فما إعدادُكَ؟ وبالمَشيبِ إنذارُكَ. فما أعذارُكَ؟ وفي اللّحْدِ مَقيلُكَ. فما قِيلُكَ؟ وإلى الله مَصيرُكَ. فمَن نصيرُكَ؟ طالما أيْقَظَكَ الدّهرُ فتَناعَسْتَ. وجذَبَكَ الوعْظُ فتَقاعَسْتَ!

وتجلّتْ لكَ العِبَرُ فتَعامَيْتَ. وحَصْحَصَ لكَ الحقُّ فتمارَيْتَ. وأذْكَرَكَ الموتُ فتَناسَيتَ. وأمكنَكَ أنْ تُؤاسِي فما آسيْتَ! تُؤثِرُ فِلساً توعِيهِ. على ذِكْرٍ تَعيهِ. وتَختارُ قَصْراً تُعْليهِ. على بِرٍ تُولِيهِ. وتَرْغَبُ عَنْ هادٍ تَسْتَهْدِيهِ. الى زادٍ تَستَهْديهِ. وتُغلِّبُ حُبّ ثوبٍ تشْتَهيهِ. على ثوابٍ تشْتَريهِ. يَواقيتُ الصِّلاتِ. أعْلَقُ بقَلبِكَ منْ مَواقيتِ الصّلاةِ. ومُغالاةُ الصَّدُقاتِ. آثَرُ عندَكَ من مُوالاةِ الصَّدَقاتِ. وصِحافُ الألْوانِ. أشْهى إلَيْكَ منْ صَحائِفِ الأدْيانِ. ودُعابَةُ الأقْرانِ. آنَسُ لكَ منْ تِلاوَةِ القُرْآنِ! تأمُرُ بالعُرْفِ وتَنتَهِكُ حِماهُ. وتَحْمي عنِ النُّكْرِ ولا تَتحاماهُ! وتُزحزِحُ عنِ

الظُلْمِ ثمْ تغْشاهُ. وتخْشَى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ تخْشاهُ! ثمّ أنْشَدَ: تباً لطالِبِ دُنْيا ... ثَنى إلَيها انصِبابَهْ ما يسْتَفيقُ غَراماً ... بها وفَرْطَ صَبابَهْ ولوْ دَرى لَكفَاهُ ... مما يَرومُ صُبابَهْ ثمّ إنّهُ لبّدَ عَجاجَتَهُ. وغيّضَ مُجاجتَهُ. واعْتَضَدَ شكْوَتَهُ. وتأبّطَ هِراوَتَهُ. فلمّا رنَتِ الجَماعَةُ الى تحفُّزِهِ. ورأتْ تأهُّبَهُ لمُزايَلَةِ مركَزِهِ. أدْخَلَ كلٌ منهُمْ يدَهُ في جيْبِهِ. فأفْعَمَ لهُ سَجْلاً منْ سَيْبِه. وقال: اصْرِفْ هَذا في نفقَتِكَ. أو فرّقْهُ على رُفْقَتِكَ. فقبِلَهُ منهُم مُغضِياً. وانْثَنى عنْهُم مُثْنِياً. وجعَلَ يودِّعُ مَنْ يُشيّعُهُ. ليَخْفَى علَيْهِ مَهْيَعُهُ. ويُسرّبُ منْ يتْبَعُهُ. لكَيْ يُجْهَلَ مرْبَعُهُ. قال

الحارِثُ بنُ هَمّامٍ: فاتّبعْتُهُ مُوارِياً عنْهُ عِياني. وقَفوْتُ أثرَهُ منْ حيثُ لا يَراني. حتّى انْتَهى الى مَغارَةٍ. فانْسابَ فيها على غَرارَةٍ. فأمْهَلْتُه ريثَما خلَعَ نعْلَيْهِ. وغسَل رِجلَيْهِ. ثمّ هجَمْتُ علَيهِ. فوجدتُهُ مُشافِناً لتِلْميذٍ. على خبْزِ سَميذٍ. وجَدْيٍ حَنيذٍ. وقُبالَتَهُما خابيةُ نبيذٍ. فقلتُ لهُ: يا هذا أيَكونُ ذاكَ خبرَكَ. وهذا مَخْبَرَكَ؟ فزَفَرَ زفْرَةَ القَيْظِ. وكادَ يتميّزُ منَ الغيْظِ. ولمْ يزَلْ يحَمْلِقُ إليّ. حتّى خِفْتُ أن يسطُوَ عليّ. فلمّا أن خبَتْ نارُهُ. وتَوارَى أُوارُهُ. أنْشَد: لبِسْتُ الخَميصةَ أبغي الخَبيصَهْ ... وأنْشَبْتُ شِصّيَ في كل شِيصَه

المقامة الحلوانية

وصيّرتُ وعْظيَ أُحبولَةً ... أُريغُ القَنيصَ بها والقَنيصَه وألْجأني الدّهْرُ حتى ولَجْتُ ... بلُطْفِ احتِيالي على اللّيثِ عيصَه على أنّني لم أهَبْ صرفَهُ ... ولا نبَضَتْ لي مِنْهُ فَريصَه ولا شرَعت بي على مَورِدٍ ... يُدنّسُ عِرضيَ نفْسٌ حَريصَه ولو أنْصَفَ الدّهرُ في حُكمِهِ ... لَما ملّكَ الحُكْمَ أهلَ النّقيصَه ثمّ قال ليَ: ادْنُ فكُلْ. وإنْ شِئْتَ فقُم وقُلْ. فالتَفَتّ الى تِلميذِه وقُلتُ: عزَمْتُ عليْكَ بمَن تستَدفِعُ بهِ الأذى. لتُخْبرَنّي مَنْ ذا. فقال: هذا أبو زيْدٍ السَّروجيُّ سِراجُ الغُرَباء. وتاجُ الأدَباء. فانصرَفْتُ من حيثُ أتيتُ. وقضَيْتُ العجَبَ ممّا رأيْتُ. المقامة الحُلوانيّة حَكى الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: كلِفْتُ مُذْ ميطَتْ عني التّمائِمُ. ونِيطَتْ بيَ العَمائِمُ. بأنْ أغْشى مَعانَ الأدَبِ. وأُنضيَ إليْهِ

تتجاذب أطراف الأناشيد. ونتوارد طرف الأسانيد. إذ وقف بنا شخص عليه سمل. وفي مشيته قزل. فقال يا أخاير الذخائر. وبشائر العشائر. عموا صباحاً. وأنعموا اصطباحاً. وانظروا إلى من كان ذا نديٍّ وندىً. وجدة وجداً. وعقار وقرى. ومقار وقرا. فما زال به قطوب الخطوب. وحروب الكروب. وشرر شر الحسود. وانتياب النوب السود. وأقوى المجمع. وأفض المضجع. واستحالت الحال. وأعول العيال. وخلت

المرابط. ورحم الغابط. وأودى الناطق والصامت. وركى لنا الحاسد والشامت. وآل بنا الدهر الموقع. والفقر المدقع. إلى أن احتذينا الوجى. واغتذبنا الشجا. واستنبطنا الجوى. وطوينا الأحشاة على الطوى. واكتحلنا السهاد. واستوطنا الوهاد. واستوطأنا القتاد. وتناسينا الأقتاد. واستنبطنا الحين المجتاح. واستنبطنا اليوم المتاح. فهل من حر آس. أو سح مؤاس. فوالذي استخرجني من قيلة. لقد أمسيت أخا عيلة. لا أملك بيت ل يلة. قال الحارث بن همام فأويت لمفاقره. ولويت إلى استنباط فقره. فأبرزت ديناراً. وقلت له اختباراً. إن مدحته

رِكابَ الطّلَبِ. لأعْلَقَ منْهُ بِما يكونُ لي زينَةً بينَ الأنامِ. ومُزنَةً عندَ الأُوامِ. وكُنْتُ لفَرْطِ اللهَجِ باقْتِباسِه. والطّمَعِ في تقمّصِ لِباسِهِ. أُباحِثُ كلّ مَنْ جَلّ وقَلّ. وأسْتَسْقي الوَبْلَ والطّلّ. وأتعلّلُ بعَسى ولَعلّ. فلمّا حلَلْتُ حُلْوانَ. وقدْ بلَوْتُ الإخْوانَ. وسَبَرْتُ الأوْزانَ. وخبَرْتُ ما شانَ وَزانَ. ألفَيْتُ بها أبا زيْدٍ السَّروجيَّ يتقلّبُ في قوالبِ الانتِسابِ. ويخْبِطُ في أساليبِ الاكتِسابِ. فيدّعي تارَةً أنّهُ من آلِ ساسانَ. ويعْتَزي مرّةً الى أقْيالِ غسّانَ. ويبْرُزُ طَوراً في شِعارِ الشّعَراء. ويَلبَسُ حيناً كِبَرَ الكُبَراءِ. بيْدَ أنّهُ معَ تلوّنِ حالِهِ. وتبَيّنِ مُحالِهِ. يتحلّى برُواءٍ ورِوايَةٍ. ومُدراةٍ ودِرايَةٍ.

وبَلاغَةٍ رائِعَةٍ. وبَديهةٍ مُطاوعةٍ. وآدابٍ بارِعةٍ. وقدَمٍ لأعْلامِ العُلومِ فارِعةٍ. فكانَ لمحاسِنِ آلاتِهِ. يُلْبَسُ على عِلاّتِه. ولِسَعَةِ رِوايَتِه. يُصْبى الى رؤيَتِهِ. ولخلابَةِ عارِضَتِهِ. يُرْغَبُ عنْ مُعارضَتِهِ. ولعُذوبَةِ إيرادِهِ. يُسْعَفُ بمُرادِهِ. فتعَلّقتُ بأهْدابِهِ. لخَصائِصِ آدابِهِ. ونافَسْتُ في مُصافاتِهِ. لنَفائِسِ صِفاتِه. فكُنتُ بهِ أجْلو هُمومي وأجْتَلي ... زمانيَ طلقَ الوجْهِ مُلتَمِعَ الضّيا أرَى قُرْبَهُ قُرْبى ومَغْناهُ غُنْيَةً ... ورؤيَتَهُ رِيّاً ومَحْياهُ لي حَيا ولَبِثْنا على ذلِكَ بُرْهَةً. يُنْشئ لي كلَّ يومٍ نُزهَةً. ويدْرَأُ عن قلبي شُبهَةً. الى أنْ جدَحَتْ لهُ يَدُ الإمْلاقِ. كأس الفِراقِ. وأغْراهُ

عدَمُ العُراقِ. بتَطْليقِ العِراقِ. ولفَظَتْهُ مَعاوِزُ الإرْفاقِ. الى مَفاوِزِ الآفاقِ. ونظَمَهُ في سِلْكِ الرّفاقِ. خُفوقُ رايةِ الإخْفاقِ. فشحَذَ للرّحْلَةِ غِرارَ عزْمَتِهِ. وظَعَنَ يقْتادُ القلْبَ بأزِمّتِهِ. فما راقَني مَنْ لاقَني بعْدَ بُعْدِهِ ... ولا شاقَني مَنْ ساقني لوِصالِهِ ولا لاحَ لي مُذْ ندّ نِدٌ لفَضْلِهِ ... ولا ذو خِلالٍ حازَ مثلَ خِلالِهِ واسْتَسَرّ عني حيناً. لا أعرِفُ لهُ عَريناً. ولا أجِدُ عنْهُ مُبيناً. فلمّا أُبْتُ منْ غُربَتي. الى منْبِتِ شُعْبَتي. حضَرْتُ دارَ كُتُبِها التي هيَ مُنتَدى المتأدّبينَ. ومُلتَقَى القاطِنينَ منهُمْ والمُتغرّبينَ. فدخَلَ ذو لِحْيَةٍ كثّةٍ. وهيئَةٍ رثّةٍ. فسلّمَ على الجُلاّسِ. وجلَسَ في

أُخرَياتِ الناسِ. ثمّ أخذَ يُبْدي ما في وِطابِهِ. ويُعْجِبُ الحاضِرينَ بفصْلِ خِطابِهِ. فقال لمَنْ يَليه: ما الكِتابُ الذي تنظُرُ فيهِ؟ فقالَ: ديوانُ أبي عُبادةَ. المشْهودِ لهُ بالإجادَةِ. فقال: هلْ عثَرْتَ لهُ فيما لمحْتَهُ. على بَديعٍ استَملَحْتَهُ؟ قال: نعمْ قولُه: كأنّما تبْسِمُ عن لُؤلُؤٍ ... منضّدٍ أو برَدٍ أو أقاحْ فإنّهُ أبدَعَ في التّشبيهِ. المُودَعِ فيهِ. فقالَ لهُ: يا لَلعجَبِ. ولَضَيْعَةِ الأدبِ! لقدِ استَسْمَنْتَ يا هَذا ذا ورَمٍ. ونَفَخْتَ في غيرِ ضرَمٍ! أينَ أنتَ منَ البيْتِ النّدْرِ. الجامِعِ مُشَبّهاتِ الثّغْرِ؟ وأنْشَد: نفْسي الفِداءُ لثَغْرٍ راقَ مبسِمُهُ ... وزانَهُ شنَبٌ ناهيكَ من شنَبِ

يفترُّ عن لُؤلُؤٍ رطْبٍ وعن برَدٍ ... وعن أقاحٍ وعن طلْعٍ وعن حبَبِ فاستَجادَهُ مَنْ حضَر واسْتَحْلاهُ. واستَعادَهُ منْهُ واسْتمْلاهُ. وسُئِلَ: لمنْ هذا البيتُ. وهلْ حيٌ قائِلُهُ أو ميْتٌ؟ فقال: أيْمُ اللهِ لَلحَقُّ أحَقُّ أنْ يُتّبَعَ. ولَلصّدْقُ حَقيقٌ بأنْ يُستَمَعَ! إنّهُ يا قَوْمُ. لنَجيّكُمْ مُذُ اليوْمَ. قال: فكأنّ الجَماعَةَ ارْتابَتْ بعزْوَتِه. وأبَتْ تصْديقَ دعْوَته. فتوجّسَ ما هجَسَ في أفْكارِهِمْ. وفطِنَ لِما بَطَنَ مِنِ استِنْكارِهِمْ. وحاذَرَ أنْ يفْرُطَ إليْهِ ذمّ. أو يَلْحَقَهُ وصْمٌ. فقرأ: إنّ بعْضَ الظنّ إثْمٌ. ثم قال: يا رُواةَ القَريضِ. وأُساةَ القوْلِ المَريضِ. إنّ خُلاصَةَ الجوهَرِ تظهَرُ بالسّبْكِ. ويدَ الحقّ تصْدَعُ رِداءَ الشّكّ. وقدْ قيلَ فيما غبَرَ منَ الزّمانِ: عندَ الامتِحانِ. يُكرَمُ الرّجُلُ أو يُهانُ. وها أنا قدْ عرّضْتُ

خبيئَتي للاخْتِبارِ. وعرَضْتُ حَقيبَتي على الاعْتِبارِ. فابْتَدَر. أحدُ مَنْ حضَرَ. وقال: أعرِفُ بيْتاً لمْ يُنسَجْ على مِنْوالِهِ. ولا سمَحَتْ قَريحةٌ بمِثالِهِ. فإنْ آثَرْتَ اختِلابَ القُلوبِ. فانْظِمْ على هذا الأسْلوبِ. وأنْشَدَ: فأمطَرَتْ لؤلؤاً من نرْجِسٍ وسقَتْ ... ورْداً وعضّتْ على العُنّابِ بالبَرَدِ فلم يكُنْ إلا كلَمْحِ البَصَرِ أو هُوَ أقرَبُ. حتى أنْشَدَ فأغْرَب: سألتُها حينَ زارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِها ال ... قاني وأيداعَ سمْعي أطيَبَ الخبَرِ فزَحزَحَتْ شفَقاً غشّى سَنا قمَرٍ ... وساقَطَتْ لُؤلؤاً من خاتَمٍ عطِرِ فحارَ الحاضِرونَ لبَداهَتِه. واعتَرَفوا بنَزاهَتِه. فلمّا آنَسَ استِئْناسَهُمْ

بكَلامِهِ. وانصِبابَهُمْ الى شِعْبِ إكْرامِهِ. أطْرَقَ كطَرْفَةِ العَينِ. ثمّ قال: ودونَكُمْ بيتَينِ آخرَينِ. وأنشدَ: وأقبَلَتْ يومَجدّ البينُ في حُلَلٍ ... سودٍ تعَضُّ بَنانَ النّادِم الحَصِرِ فلاحَ ليْلٌ على صُبْحٍ أقلّهُما ... غُصْنٌ وضرّسَتِ البِلّورَ بالدَّرَرِ فحينَئذٍ استَسْنى القوْمُ قيمَتَهُ. واستَغْزَروا ديمَتَهُ. وأجْمَلوا عِشْرَتَهُ. وجمّلوا قِشرَتَهُ. قال المُخْبِرُ بهَذِهِ الحِكايَةِ: فلمّا رأيتُ تلهُّبَ جذْوَتِهِ. وتألُّقَ جلْوَتِهِ. أمعَنْتُ النّظَرَ في توسُّمِهِ. وسرّحْتُ الطّرْفَ في ميسِمِهِ. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيّ. وقدْ أقْمَرَ ليلُه الدّجُوجيُّ. فهنّأتُ نفسي بمَورِدِهِ. وابتدَرْتُ اسْتِلام يدِهِ. وقلتُ لهُ: ما الذي أحالَ

المقامة الدينارية

صفَتَكَ. حتى جهِلْتُ معرِفَتَكَ؟ وأيّ شيء شيّبَ لحيَتَكَ. حتى أنْكَرْتُ حِليَتَكَ؟ فأنشأ يقول: وقْعُ الشّوائِبِ شيّبْ ... والدّهرُ بالناسِ قُلَّبْ إنْ دانَ يوماً لشَخْصٍ ... ففي غدٍ يتغلّبْ فلا تثِقْ بوَميضٍ ... منْ برْقِهِ فهْوَ خُلّبْ واصْبِرْ إذا هوَ أضْرى ... بكَ الخُطوبَ وألّبْ فما على التِّبْرِ عارٌ ... في النّارِ حينَ يُقلَّبْ ثمّ نهضَ مُفارِقاً موضِعَهُ. ومُستَصْحِباً القُلوبَ معَهُ. المقامة الدّينارية رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: نظَمَني وأخْداناً لي نادٍ. لمْ يخِبْ فيه مُنادٍ. ولا كَبا قدْحُ زِنادٍ. ولا ذكَتْ نارُ عِنادٍ. فبيْنَما نحنُ

نتجاذَبُ أطْرافَ الأناشيدِ. ونَتوارَدُ طُرَفَ الأسانيدِ. إذْ وقَفَ بِنا شخْصٌ علَيْهِ سمَلٌ. وفي مِشيَتِهِ قزَلٌ. فقال: يا أخايِرَ الذّخائِرِ. وبشائِرَ العَشائِرِ. عِموا صَباحاً. وأنْعِموا اصطِباحاً. وانظُروا الى مَنْ كان ذا نَديّ ونَدًى. وجِدَةٍ وجَداً. وعَقارٍ وقُرًى. ومَقارٍ وقِرًى. فما زالَ بهِ قُطوبُ الخُطوبِ. وحُروبِ الكُروبِ. وشَرَرُ شرِّ الحَسودِ. وانْتِيابُ النّوَبِ السّودِ. حتى صفِرَتِ الرّاحَةُ. وقرِعَتِ الساحَةُ. وغارَ المنْبَعُ. ونَبا المَرْبَعُ. وأقْوى المجْمَعُ. وأقَضّ المضْجَعُ. واستَحالَتِ الحالُ. وأعْوَلَ العِيالُ. وخَلَتِ المَرابِطُ. ورَحِمَ الغابِطُ. وأودى النّاطِقُ والصّامِتُ. ورَثى لَنا الحاسِدُ والشّامِتُ. وآلَ بِنا الدّهرُ الموقِعُ. والفَقْرُ المُدْقِعُ. الى أنِ احْتَذيْنا الوَجى. واغْتذدَينا الشّجا. واستَبْطَنّا الجَوى. وطَوَيْنا الأحْشاءَ على الطّوى. واكْتَحَلْنا السُهادَ. واستَوطَنّا الوِهادَ. واستوطأن القتاد. وتناسينا الأقتاد، واستطبنا الحين المحتاج واستَبْطأنا اليومَ المُتاحَ. فهل من حُرٍّ آسٍ. أو سمْحٍ مُؤاسٍ؟ فوَالّذي استَخْرَجَني من قَيلَه. لقَد أمْسَيتُ أخا عَيْلَه. لا أمْلِكُ بيْتَ ليْلَه. قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فأوَيْتُ لمَفاقِرِه. ولوَطْتُ الى استِنْباطِ فِقَرِهِ. فأبْرَزتُ ديناراً. وقُلتُ لهُ اختِباراً: إنْ مدَحْتَهُ نَظْماً. فهوَ لكَ حتْماً. فانْبَرى يُنشِدُ في الحالِ. من غيرِ انتِحال: أكْرِمْ بهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْ ... جوّابَ آفاقٍ ترامَتْ سَفرَتُهْ مأثورَةٌ سُمعَتُهُ وشُهرَتُهْ ... قد أُودِعَتْ سِرَّ الغِنى أسرّتُهْ وقارَنَتْ نُجحَ المَساعي خطرَتُه ... وحُبِّبَتْ الى الأنامِ غُرّتُهْ كأنّما منَ القُلوبِ نُقْرَتُهْ ... بهِ يصولُ مَنْ حوَتْهُ صُرّتُهْ وإنْ تَفانَتْ أو توانَتْ عِتْرَتُهْ ... يا حبّذا نُضارُهُ ونَضْرَتُهْ وحبّذا مَغْناتُهُ ونصْرَتُهْ ... كمْ آمِرٍ بهِ استَتَبّتْ إمرَتُهْ ومُتْرَفٍ لوْلاهُ دمَتْ حسْرَتُهْ ... وجيْشِ همٍّ هزمَتْهُ كرّتُهْ

وبدرِ تِمٍّ أنزَلَتْهُ بدْرَتُهْ ... ومُستَشيطٍ تتلظّى جمْرَتُهْ أسَرّ نجْواهُ فلانَتْ شِرّتُهْ ... وكمْ أسيرٍ أسْلمَتْهُ أُسرَتُهْ أنقَذَهُ حتى صفَتْ مسرّتُهْ ... وحقِّ موْلًى أبدَعَتْهُ فِطْرَتُهْ لوْلا التُقَى لقُلتُ جلّتْ قُدرتُهْ ثم بسَط يدَهُ. بعدَما أنْشدَهُ. وقال: أنْجَزَ حُرٌ ما وعَدَ. وسَحّ خالٌ إذ رَعَدَ. فنبَذْتُ الدّينارَ إليْهِ. وقلتُ: خُذْهُ غيرَ مأسوفٍ علَيْهِ. فوضَعهُ في فيهِ. وقال: بارِك اللهُمّ فيهِ! ثمّ شمّرَ للانْثِناء. بعْدَ توفِيَةِ الثّناء. فنشأتْ لي منْ فُكاهَتِه نشوَةُ غرامٍ. سهّلَتْ عليّ ائْتِنافَ اغْتِرامٍ. فجرّدْتُ ديناراً آخَرَ وقلتُ لهُ: هلْ لكَ في أنْ تذُمّهُ. ثم

تضُمّهُ؟ فأنشدَ مُرتَجِلاً. وشَدا عجِلاً: تبّاً لهُ من خادِعٍ مُماذِقِ ... أصْفَرَ ذي وجْهَيْنِ كالمُنافِقِ يَبدو بوَصْفَينِ لعَينِ الرّامِقِ ... زينَةِ معْشوقٍ ولوْنِ عاشِقِ وحُبّهُ عندَ ذَوي الحَقائِقِ ... يدْعو الى ارتِكابِ سُخْطِ الخالِقِ لوْلاهُ لمْ تُقْطَعْ يَمينُ سارِقِ ... ولا بدَتْ مظْلِمَةٌ منْ فاسِقِ ولا اشْمأزّ باخِلٌ منْ طارِقِ ... ولا شكا المَمطولُ مطلَ العائِقِ ولا استُعيذَ منْ حَسودٍ راشِقِ ... وشرّ ما فيهِ منَ الخلائِقِ أنْ ليسَ يُغْني عنْكَ في المَضايِقِ ... إلاّ إذا فرّ فِرارَ الآبِقِ واهاً لمَنْ يقْذِفُهُ منْ حالِقِ ... ومَنْ إذا ناجاهُ نجْوى الوامِقِ قال لهُ قوْلَ المُحقّ الصّادِقِ ... لا رأيَ في وصلِكَ لي ففارِقِ

فقلتُ له: ما أغزَرَ وبْلَكَ! فقال: والشّرْطُ أمْلَكُ. فنفَحتُهُ بالدّينارِ الثّاني. وقلتُ لهُ: عوّذهُما بالمَثاني. فألْقاهُ في فمِهِ. وقرَنَهُ بتوأمِهِ. وانْكفأ يحمَدُ مغْداهُ. ويمْدَحُ النّاديَ ونَداهُ. قالَ الحارِثُ بنُ همّامٍ: فناجاني قلبي بأنّهُ أبو زيدٍ. وأنّ تعارُجَهُ لِكَيدٍ. فاستَعَدْتُهُ وقلتُ له: قد عُرِفْتَ بوشْيِكَ. فاستَقِمْ في مشيِكَ. فقال: إنْ كُنتَ ابنَ هَمّامٍ. فحُيّيتَ بإكْرامٍ. وحَييتَ بينَ كِرامٍ! فقلتُ: أنا الحارثُ. فكيفَ حالُك والحوادِثُ؟ فقال: أتقلّبُ في الحالَينِ بُؤسٍ ورَخاءٍ. وأنقَلِبُ مع الرّيحَينِ زعْزَعٍ ورُخاءٍ. فقلتُ: كيفَ ادّعَيْتَ القَزَلَ؟ وما مِثلُكَ مَن هزَلَ. فاستَسَرّ بِشرُهُ الذي كانَ تجلّى. ثمّ أنشَدَ حينَ ولّى: تعارَجْتُ لا رَغبَةً في العرَجْ ... ولكِنْ لأقْرَعَ بابَ الفرَجْ

المقامة الدمياطية

وأُلْقيَ حبْلي على غارِبي ... وأسلُكَ مسْلَكَ مَن قد مرَجْ فإنْ لامَني القومُ قلتُ اعذِروا ... فليسَ على أعْرَجٍ من حرَجْ المقامة الدّمياطيّة أخبَرَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: ظعَنْتُ الى دُمْياطَ. عامَ هِياطٍ ومِياطٍ. وأنا يومئِذٍ مرْموقُ الرَّخاء. موموقُ الإخاء. أسْحَبُ مَطارِفَ الثّراء. وأجْتَلي معارِفَ السّرّاء. فرافَقْتُ صَحْباً قد شَقّوا عَصا الشِّقاقِ. وارْتَضَعوا أفاوِيقَ الوِفاقِ. حتى لاحُوا كأسْنانِ المُشْطِ في الاستِواء. وكالنّفْسِ الواحِدَةِ في التِئامِ الأهْواء.

وكُنّا مع ذلِك نسيرُ النّجاء. ولا نرْحَلُ إلا كُلّ هَوْجاء. وإذا نزَلْنا منزِلاً. أو وَردْنا مَنْهَلاً. اخْتلَسْنا اللُّبْثَ. ولمْ نُطِلِ المُكْثَ. فعنّ لَنا إعْمالُ الرِّكابِ. في ليلةٍ فَتيّةِ الشّبابِ. غُدافيّةِ الإهابِ. فأسرَيْنا الى أن نَضا اللّيلُ شَبابَهُ. وسلَتَ الصّبحُ خِضابَهُ. فحينَ ملِلْنا السُرَى. ومِلْنا الى الكَرى. صادَفْنا أرْضاً مُخضَلّةَ الرُّبا. مُعتلّةَ الصَّبا. فتخيّرْناها مُناخاً للعِيسِ. ومَحطّاً للتّعريسِ. فلمّا حلّها الخَليطُ. وهَدا بها الأطيطُ والغَطيطُ. سمِعْتُ صَيّتاً منَ الرّجالِ. يقولُ لسَميرِه في الرّحالِ: كيفَ حُكْمُ سيرَتِكَ. معَ جيلِكَ وجيرتِكَ؟ فقال:

أرْعَى الجارَ. ولوْ جارَ. وأبذُلُ الوِصالَ. لمَنْ صالَ. وأحْتَمِلُ الخَليطَ. ولوْ أبْدى التّخليطَ. وأودّ الحَميمَ. ولو جرّعَني الحَميمَ. وأفضّلُ الشّفيقَ. على الشّقيقِ. وأفي للعَشيرِ. وإنْ لمْ يُكافئْ بالعَشيرِ. وأستَقِلّ الجَزيلَ. للنّزيلِ. وأغمُرُ الزّميلَ. بالجميلِ. وأنزّلُ سَميري. منزِلَةَ أميري. وأُحِلّ أنيسي. محَلّ رَئيسي. وأُودِعُ مَعارِفي. عَوارِفي. وأُولي مُرافِقي. مَرافقي. وأُلينُ مَقالي. للقالي. وأُديم تَسْآلي. عنِ السّالي. وأرْضى منَ الوَفاء. باللَّفاء. وأقْنَعُ منَ الَجزاء. بأقَلّ الأجزاء. ولا أتظلّمُ. حينَ أُظلَمُ. ولا أنْقَمُ. ولو لدَغَني الأرقَمُ. فقال لهُ صاحبُه: ويْكَ يا بُنيّ إنّما يُضَنّ بالضّنينِ.

ويُنافَسُ في الثّمينِ. لكِنْ أنا لا آتي. غيرَ المُؤاتي. ولا أسِمْ العاتي. بمُراعاتي. ولا أُصافي. مَنْ يأبى إنْصافي. ولا أُواخي. مَنْ يُلْغي الأواخي. ولا أُمالي. مَنْ يُخيّبُ آمالي. ولا أُبالي بمَنْ صرَمَ حِبالي. ولا أُداري. مَنْ جهِلَ مِقداري. ولا أُعطي زِمامي. مَنْ يُخْفِرُ ذِمامي. ولا أبْذُلُ وِدادي. لأضْدادي. ولا أدَعُ إيعادي. للمُعادي. ولا أغرِسُ الأيادي. في أرضِ الأعادي. ولا أسمَحُ بمُواساتي. لمَنْ يفْرَحُ بمَساءاتي. ولا أرى التِفاتي. الى مَن يشْمَتُ بوَفاتي. ولا أخُصّ بحِبائي. إلا أحبّائي. ولا أستَطِبّ لدائي. غيرَ أوِدّائي. ولا أمَلِّكُ خُلّتي. مَنْ لا يسُدّ خَلّتي. ولا أصَفّي نيّتي. لمَنْ يتمنّي منيّتي. ولا أُخْلِصُ دُعائي. لمَنْ لا يُفعِمُ وِعائي. ولا أُفرِغُ ثَنائي. على مَنْ

يفْرغُ إنائي. ومنْ حكمَ بأنْ أبذُلَ وتخْزُنَ. وألينَ وتخْشُنَ. وأذوبَ وتجْمُدَ. وأذْكو وتخْمُدَ؟ لا واللهِ بلْ نتَوازَنُ في المَقالِ. وزْنَ المِثْقالِ. ونَتحاذَى في الفِعالِ. حذْوَ النّعالِ. حتى نأَنَ التّغابُنَ. ونُكْفى التّضاغُنَ. وإلا فلِمَ أعُلّكَ وتُعلّني. وأُقلّكَ وتستَقلّني. وأجتَرِحُ لكَ وتجرَحُني. وأسْرَحُ إليْكَ وتُسرّحُني؟ وكيف يُجْتَلَبُ إنْصافٌ بضَيْمٍ. وأنّى تُشرِقُ شمْسٌ معَ غيْمٍ؟ ومتى أُصْحِبَ وُدٌ بعَسْفٍ. وأيّ حُرّ رضيَ بخُطّةِ خسْفٍ؟ وللهِ أبوكَ حيثُ يقول: جزَيْتُ مَنْ أعلَقَ بي وُدَّهُ ... جَزاءَ مَنْ يبْني على أُسّهِ وكِلْتُ للخِلّ كما كالَ لي ... على وَفاء الكَيْلِ أو بخْسِهِ

ولمْ أُخَسِّرْهُ وشَرُّ الوَرى ... مَنْ يوْمُهُ أخْسَرُ منْ أمْسِهِ وكلُّ منْ يطلُبُ عِندي جَنى ... فما لهُ إلا جَنى غرْسِهِ لا أبتَغي الغَبْنَ ولا أنْثَني ... بصَفقَةِ المغْبونِ في حِسّهِ ولسْتُ بالموجِبِ حقاً لمَنْ ... لا يوجِبُ الحقَّ على نفسِهِ ورُبّ مَذاقِ الهَوى خالَني ... أصْدُقُهُ الوُدّ على لَبْسِهِ وما دَرى منْ جهلِهِ أنّني ... أقْضي غَريمي الدّينَ منْ جِنسِه فاهجُرْ منِ استَغباكَ هجرَ القِلى ... وهَبْهُ كالمَلْحودِ في رمْسِهِ والبَسْ لمَنْ في وصْلِهِ لُبسَةٌ ... لباسَ مَنْ يُرْغَبُ عنْ أُنسِهِ ولا تُرَجِّ الوُدَّ ممّنْ يرَى ... أنّك مُحْتاجٌ الى فَلْسِهِ قال الحارثُ بنُ همّام: فلمّا وعَيتُ ما دارَ بينهُما. تُقْتُ الى أن أعرِفَ عينَهُما. فلمّا لاحَ ابنُ ذُكاء. وألحَفَ الجوَّ الضّياءُ. غدَوْتُ قبلَ استِقلالِ الرّكابِ. ولا اغتِداءَ الغُرابِ. وجعلْتُ

أستَقْري صوْبَ الصّوتِ اللّيْليّ. وأتوسّمُ الوُجوهَ بالنّظَرِالجَليّ. الى أنْ لمحْتُ أبا زيْدٍ وابنَهُ يتحادَثان. وعلَيهِما بُرْدانِ رثّانِ. فعَلِمتُ أنّهُما نجِيّا ليلَتي. ومُعْتَزَى رِوايَتي. فقَصَدْتُهُما قصْدَ كلِفٍ بدَماثَتِهِما. راثٍ لرَثاثَتِهِما. وأبَحْتُهُما التحَوّلَ الى رحْلي. والتّحكّمَ في كُثْري وقُلّي. وطَفِقْتُ أُسيّرُ بينَ السّيّارةِ فضْلَهُما. وأهُزّ الأعْوادَ المُثمِرَةَ لهُما. الى أنْ غُمِرا بالنُّحْلانِ. واتُّخِذا منَ الخُلاّنِ. وكُنّا بمعرَّسٍ نتبيّنُ منْهُ بُنْيانَ القُرَى. ونتنوّرُ نيرانَ القِرَى. فلمّا رأى أبو زيدٍ امتِلاءَ كِيسِهِ. وانجِلاءَ بُوسِهِ. قال لي: إنّ بدَني قدِ اتّسَخَ. ودرَني قد رسَخَ. أفتأذَنُ لي في قصْدِ قريَةٍ لأستَحمّ. وأقضيَ

هذا المُهِمَّ؟ فقلتُ: إذا شِئْتَ فالسّرعَةَ السّرْعَهْ. والرّجعَةَ الرّجْعَهْ! فقال: ستجِدُ مطْلَعي عليْكَ. أسرَعَ منِ ارْتِدادِ طرْفِكَ إليْكَ. ثمّ استَنّ استِنانَ الجَوادِ في المِضْمارِ. وقال لابْنِهِ: بَدارِ بَدارِ! ولمْ نخَلْ أنّهُ غَرَّ. وطلَبَ المفَرّ. فلبِثْنا نرقُبُهُ رِقبَةَ الأعْيادِ. ونستَطلِعُهُ بالطّلائِعِ والرّوّادِ. الى أنْ هَرِمَ النّهارُ. وكادَ جُرُفُ اليومِ ينْهارُ. فلمّا طالَ أمَدُ الانتِظارِ. ولاحَتِ الشمسُ في الأطْمارِ. قُلتُ لأصْحابي: قد تَناهَيْنا في المُهْلَةِ. وتمادَيْنا في الرّحلَةِ. الى أنْ أضَعْنا الزّمانَ. وبانَ أنّ الرجُلَ قد مان. فتأهّبوا للظّعَنِ. ولا تَلْووا على خضْراء الدِّمنِ. ونَهَضْتُ لأحدِجَ راحِلَتي. وأتحمّلَ لرِحلَتي. فوجدْتُ أبا زيْدٍ قد كتبَ. على القَتَبِ:

المقامة الكوفية

يا مَنْ غَدا لي ساعِداً ... ومُساعِداً دونَ البَشَرْ لا تحْسَبَنْ أنّي نأي ... تُكَ عنْ مَلالٍ أو أشَرْ لكنّني مُذْ لمْ أزَلْ ... ممّنْ إذا طَعِمَ انتشَرْ قال: فأقْرَأتُ الجَماعةَ القتَبَ. ليعْذِرَهُ منْ كان عتَبَ. فأُعجِبوا بخُرافَتِه. وتعوّذوا منْ آفَتِه. ثمّ إنّا ظعَنّا. ولمْ ندْرِ منِ اعتاضَ عنّا. المقامة الكوفيّة حَكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: سمَرْتُ بالكوفَةِ في ليلَةٍ أديمُها ذو لوْنَينِ. وقمرُها كتَعْويذٍ من لُجَينٍ. معَ رُفقَةٍ غُذوا بلِبانِ البَيانِ. وسحَبوا على سَحْبانَ ذيْلَ النّسْيانِ. ما فيهِمْ إلا مَنْ

يُحْفَظُ عنْهُ ولا يُتَحفَّظُ منْهُ. ويَميلُ الرّفيقُ إليهِ ولا يَميلُ عنهُ. فاستَهْوانا السّمَرُ. الى أنْ غرَبَ القمَرُ. وغلَبَ السّهَرُ. فلمّا روّقَ الليْلُ البَهيمُ. ولمْ يبْقَ إلا التّهويمُ. سمِعْنا منَ البابِ نبْأةَ مُستَنْبِحٍ. ثمّ تلَتْها صكّةُ مُستفْتِحٍ. فقُلنا: منِ المُلِمّ. في اللّيلِ المُدْلَهِمّ؟ فقال: يا أهلَ ذا المَغْنى وُقيتُمْ شَرّا ... ولا لَقيتُمْ ما بَقيتُمْ ضُرّا قدْ دفَعُ الليلُ الذي اكْفَهَرّا ... الى ذَراكُمُ شَعِثاً مُغْبَرّا أخا سِفارٍ طالَ واسْبَطَرّا ... حتى انْثَنى مُحْقَوْقِفاً مُصْفَرّا مثلَ هِلالِ الأُفْقِ حينَ افْتَرّا ... وقد عَرا فِناءكُمْ مُعْتَرّا وأمَّكُمْ دونَ الأنام طُرّا ... يبْغي قِرًى منكُمْ ومُستَقَرّا

فَدونَكُمْ ضَيْفاً قَنوعاً حُرّا ... يرْضَى بما احْلَوْلى وما أمَرّا وينثَني عنْكُمْ ينُثّ البِرّا قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فلمّا خلَبَنا بعُذوبَةِ نُطقِهِ. وعلِمْنا ما وَراء برْقِه. ابتَدَرْنا فتْحَ البابِ. وتلَقّيناهُ بالتّرْحابِ. وقُلْنا للغُلامِ: هيّا هَيّا. وهلُمّ ما تَهيّا! فقالَ الضّيفُ: والذي أحَلّني ذَراكُمْ. لا تلَمّظْتُ بقِراكُمْ. أو تَضْمَنوا لي أنْ لا تتّخِذوني كَلاًّ. ولا تجَشّموا لأجْلي أكْلاً. فرُبّ أكْلَةٍ هاضَتِ الآكِلَ. وحرَمَتْهُ مآكِلَ. وشَرُّ الأضْيافِ مَنْ سامَ التّكليفَ. وآذَى المُضيفَ. خُصوصاً أذًى يعْتَلِقُ بالأجْسامِ. ويُفْضي الى الأسْقامِ. وما قيلَ في المثَلِ الذي سارَ سائِرُهُ: خيرُ العَشاء سَوافِرُهُ. إلا ليُعَجَّلَ التّعَشّي. ويُجْتَنَبَ أكْلُ اللّيلِ الذي يُعْشي.

اللهُمّ إلاّ أن تقِدَ نارُ الجوعِ. وتَحولَ دونَ الهُجوعِ. قال: فكأنّهُ اطّلعَ على إرادَتِنا. فرَمى عنْ قوْسِ عَقيدَتِنا. لا جَرَم أنّا آنَسْناهُ بالتِزامِ الشّرْطِ. وأثْنَينا على خُلُقِهِ السّبْطِ. ولمّا أحْضَرَ الغُلامُ ما راجَ. وأذْكى بينَنا السّراجَ. تأمّلتُهُ فإذا هوَ أبو زيْدٍ فقُلتُ لصَحْبي: ليُهْنَأكُمُ الضّيفُ الوارِدُ. بلِ المَغْنَمُ البارِدُ. فإنْ يكُنْ أفَلَ قمَرُ الشِّعْرَى فقدْ طلَعَ قمَرُ الشِّعْرِ. أوِ استَسَرّ بدْرُ النّثْرَةِ فقدْ تبلّجُ بدْرُ النّثْرِ. فسرَتْ حُمَيّا المسَرّةِ فيهِمْ. وطارَتِ السِّنَةُ عنْ مآقِيهِمْ. ورَفَضوا الدَّعَةَالتي كانوا نَوَوْها. وثابُوا الى نشْرِ الفُكاهَةِ بعْدَما طوَوْها. وأبو زيْدٍ مُكِبٌّ على إعْمالِ يدَيْهِ.

حتى إذا استَرْفَعَ ما لدَيْهِ. قلتُ لهُ: أطْرِفْنا بغَريبَةٍ منْ غَرائِبِ أسْمارِكَ. أو عَجيبَةٍ منْ عَجائِبِ أسفارِكَ. فقال: لقدْ بلَوْتُ منَ العَجائِبِ ما لمْ يرَهُ الرّاؤونَ. ولا رواهُ الرّاوونَ. وإنّ منْ أعجبِها ما عايَنْتُهُ الليلَةَ قُبَيلَ انْتِيابِكُمْ. ومَصيري الى بابِكُمْ. فاستَخْبَرْناهُ عَنْ طُرفَةِ مَرآهُ. في مسرَحِ مسْراهُ. فقال: إنّ مَراميَ الغُربَةِ. لفَظَتْني الى هذِهِ التُرْبَةِ. وأنا ذو مَجاعَةٍ وبوسَى. وجِرابٍ كفؤادِ أمّ موسَى. فنهَضْتُ حينَ سَجا الدُجى. على ما بي منَ الوَجَى. لأرْتادَ مُضيفاً. أو أقْتادَ رَغيفاً. فساقَني حادِي السّغَبِ. والقضاءُ المُكنّى أبا العجَبِ. الى أنْ وقفْتُ على بابِ دارٍ. فقلْتُ على بِدارٍ:

حُييتُمُ يا أهلَ هذا المنزِلِ ... وعِشتُمُ في خفضِ عيشٍ خضِلِ ما عندكُمْ لابنِ سَبيلٍ مُرمِلِ ... نِضْوِ سُرًى خابِطِ ليْلٍ ألْيَلِ جَوِي الحَشى على الطّوى مُشتَمِلِ ... ما ذاقَ مذْ يومانِ طعمَ مأكَلِ ولا لهُ في أرضِكُمْ منْ مَوْئِلِ ... وقد دَجا جُنْحُ الظّلامِ المُسبِلِ وهْوَ منَ الحَيرَةِ في تملْمُلِ ... فهلْ بهَذا الرَّبعِ عذبُ المنهَلِ يقول لي: ألْقِ عَصاكَ وادخُلِ ... وابْشَرْ ببِشْرٍ وقِرًى مُعجَّلِ قال: فبرزَ إليّ جَوْذَرٌ. عليهِ شَوْذَرٌ. وقال: وحُرمَةِ الشّيخِ الذي سنّ القِرَى ... وأسّسَ المحْجوجَ في أُمّ القُرَى ما عِندَنا لِطارِقٍ إذا عَرا ... سوى الحديثِ والمُناخِ في الذَّرَى

وكيفَ يقْري مَنْ نَفى عنه الكَرى ... طوًى برَى أعظُمَهُ لمّا انْبَرى فما تَرى فيما ذكرتُ ما تَرى فقُلتُ: ما أصْنَعُ بمنزِلٍ قَفرٍ. ومُنزِلٍ حِلفِ فَقْرِ؟ ولكِنْ يا فَتى ما اسمُكَ. فقدْ فتَنَني فهْمُكَ؟ فقال: اسمي زيْدٌ. ومَنشإي فَيْدٌ. ووَردتُ هذِهِ المَدَرَةَ أمْسِ. معَ أخْوالي منْ بَني عبْسٍ. فقلتُ لهُ: زِدْني إيضاحاً عِشْتَ. ونُعِشْتَ! فقال: أخبرَتْني أمّي بَرّةُ. وهيَ كاسْمِها برّةٌ. أنّها نكَحَتْ عامَ الغارَةِ بماوانَ. رجُلاً من سَراةِ سَروجَ وغسّانَ. فلمّا آنَسَ منْها الإثْقال. وكان باقِعةً على ما يُقال. ظعَنَ عنْها سِرّاً. وهَلُمّ جَرّاً. فما يُعْرَفُ أحَيٌ هوَ فيُتوَقّعَ. أم أودِعَ اللّحْدَ البَلْقَعَ؟ قال أبو زيْدٍ: فعلِمْتُ بصِحّةِ العَلاماتِ أنّه ولَدي.

وصدَفَني عنِ التّعرُّفِ إليْهِ صَفْرُ يدي. ففصَلْتُ عنْهُ بكَبِدٍ مرْضوضَةٍ. ودُموعٍ مفْضوضةٍ. فهلْ سمِعْتُمْ يا أولي الألْبابِ. بأعْجَبَ منْ هذا العُجابِ؟ فقُلْنا: لا ومَنْ عندَهُ عِلمُ الكِتابِ. فقال: أثْبِتوها في عَجائِبِ الاتّفاقِ. وخلِّدوها بُطونَ الأوْراقِ. فما سُيّرَ مثلُها في الآفاقِ. فأحْضَرْنا الدّواةَ وأساوِدَها. ورَقَشْنا الحِكايَةَ على ما سرَدَها. ثمّ اسْتَبْطنّاهُ عنْ مُرْتآهُ. في استِضْمام فَتاهُ. فقالَ: إذا ثَقُلَ رُدْني. خَفّ عليّ أنْ أكْفُلَ ابْني. فقُلنا: إنْ كان يكْفيكَ نِصابٌ منَ المالِ. ألّفناهُ لكَ في الحالِ. فقالَ: وكيْفَ لا يُقْنِعُني نِصابٌ. وهلْ يحتَقِرُ قدْرَهُ إلا مُصابٌ؟ قالَ الرّاوي: فالتَزَمَ منْهُ كلٌ منّا قِسطاً. وكتبَ له بِهِ قِطّاً. فشَكرَ عندَ ذلِك الصُنْعَ. واستَنْفَدَ في الثّناء الوُسْعَ. حتى إنّنا اسْتَطلْنا القوْلَ. واستَقلَلْنا

الطَّوْلَ. ثمّ إنّهُ نشَرَ منْ وشْيِ السّمَرِ. ما أزْرَى بالحِبَرِ. الى أنْ أظَلّ التّنْويرُ. وجَشَرَ الصبْحُ المُنيرُ. فقضَيْناها ليلَةً غابَتْ شوائِبُها. الى أنْ شابَتْ ذَوائِبُها. وكمُلَ سُعودُها. الى أنِ انْفطَرَ عودُها. ولمّا ذَرّ قرْنُ الغَزالَةِ. طمرَ طُمورَ الغَزالَةِ. وقال: انْهَضْ بِنا لنَقبِضَ الصِّباتِ. ونستَنِضَّ الإحالاتِ. فقَدِ اسْتَطارَتْ صُدوعُ كَبِدي. منَ الحَنينِ الى ولَدِي. فوَصَلتُ جَناحَهُ. حتى سَنّيتُ نَجاحَهُ. فحينَ أحْرَزَ العَينَ في صرّتِه. فرَقَتْ أساريرُ مسرّتِهِ. وقال لي: جُزيتَ خَيراً عنْ خُطا قدَمَيكَ.

واللهُ خَليفَتي علَيْكَ. فقُلتُ: أُريدُ أن أتّبِعَكَ لأشاهِدَ ولَدَك النّجيبَ. وأُنافِثَهُ لكَيْ يُجيبَ. فنظَرَ إليّ نظْرَةَ الخادِعِ الى المَخْدوعِ. وضحِكَ حتى تغَرْغَرَتْ مُقلَتاهُ بالدّموعِ. وأنشَدَ: يا مَنْ يظَنّى السّرابَ ماءً ... لمّا روَيْتُ الذي روَيْتُ ما خِلْتُ أنْ يستَسِرّ مَكري ... وأنْ يُخيلَ الذي عنَيْتُ واللهِ ما بَرّةٌ بعِرْسي ... ولا ليَ ابنٌ بِهِ اكتَنَيْتُ وإنّما لي فُنونُ سِحرٍ ... أبدَعْتُ فيها وما اقتَدَيتُ لمْ يحْكِها الأصمَعيُّ فيما ... حكَى ولا حاكَها الكُمَيتُ تَخِذْتُها وُصلَةً الى ما ... تَجْنيهِ كَفّي متى اشتَهَيْتُ ولوْ تَعافَيتُها لحالَتْ ... حالي ولمْ أحْوِ ما حوَيْتُ فمهّدِ العُذْرَ أو فسامِحْ ... إنْ كُنتُ أجرَمْتُ أو جنَيْتُ

المقامة المراغية

ثمّ إنّه ودّعني ومَضى. وأوْدَعَ قلْبي جمْرَ الغَضا. المقامة المَراغيّة رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: حضَرْتُ ديوانَ النّظرِ بالمَراغَةِ. وقدْ جَرى بهِ ذكْرُ البَلاغَةِ. فأجمَعَ مَنْ حضَرَ منْ فُرْسانِ اليَراعَةِ. وأرْبابِ البَراعةِ. على أنّهُ لمْ يبْقَ مَنْ يُنقّحُ الإنْشاءَ. ويتصرّفُ فيهِ كيفَ شاءَ. ولا خلَفَ. بعْدَ السّلَفِ. مَنْ يبتَدِعُ طريقةً غَرّاء. أو يفتَرِعُ رسالةً عذْراءَ. وأنّ المُفلِقَ من كُتّابِ هذا الأوانِ. المُتمكّنَ من أزِمّةِ البَيانِ. كالعِيالِ على الأوائِلِ. ولو ملَكَ فَصاحَةَ سحْبانِ وائِلٍ. وكان بالمجْلِسِ كهْلٌ جالِسٌ في الحاشيةِ. عندَ مَواقِفِ الحاشِيَةِ. فكانَ كلّما شطّ القوْمُ في شوْطِهِمْ. ونشَروا

العَجْوَةَ والنّجْوَةَ منْ نوْطِهِمْ. يُنْبئ تَخازُرُ طرْفِهِ. وتشامُخُ أنفِهِ. أنّهُ مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ. ومُجْرَمِّزٌ سيَمُدّ الباعَ. ونابِضٌ يبْري النِّبالَ. ورابِضٌ يبْغي النّضالَ. فلمّا نُثِلَتِ الكَنائِنُ. وفاءتِ السّكائِنُ. وركَدَتِ الزّعازعُ. وكفّ المُنازِعُ. وسكنَتِ الزّماجِرُ. وسكتَ المزْجورُ والزّاجِرُ. أقبَلَ على الجَماعَةِ وقال: لقَدْ جئْتُمْ شيْئاً إدّاً. وجُرْتُمْ عنِ القصْدِ جِدّاً. وعظّمتُمُ العِظامَ الرُّفاتَ. وافْتَتُّمْ في المَيْلِ الى مَنْ فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللذت، معهم انعَقَدَتِ المودّاتُ. أنَسيتُمْ يا جَهابِذَةَ النّقْدِ. ومَوابِذَةَ

الحَلّ والعَقْدِ. ما أبْرَزَتْهُ طَوارِفُ القَرائِحِ. وبرّزَ فيهِ الجذَعُ على القارِحِ. منَ العِباراتِ المهَدَّبَةِ. والاستِعاراتِ المُستَعْذَبَةِ. والرّسائِلِ الموشّحَةِ. والأساجيعِ المُستَمْلَحَةِ؟ وهلْ للقُدَماء إذا أنعَمَ النّظَرَ. مَنْ حضَرَ. غيرُ المَعاني المطْروقَةِ المَوارِدِ. المعْقولَةِ الشّوارِدِ. المأثورَةِ عنهُمْ لتَقادُمِ المَوالِدِ. لا لتقدُّمِ الصّادِرِ على الوارِدِ؟ وإني لأعْرِفُ الآنَ مَنْ إذا أنْشا. وشّى. وإذا عبّرَ. حبّرَ. وإنْ أسهَبَ. أذْهَبَ. وإذا أوْجَزَ. أعْجَزَ. وإنْ بَدَهَ. شدَهَ. ومتى اخْتَرَعَ. خرَعَ. فقالَ لهُ ناظورَةُ الدّيوانِ. وعينُ أولَئِكَ الأعْيانِ: مَنْ قارِعُ هذِهِ الصّفاةِ. وقَريعُ هذِهِ الصّفاتِ؟ فقال: إنّه قِرْنُ مَجالِكَ. وقَرينُ

جِدالِكَ. وإذا شِئْتَ ذاكَ فرُضْ نَجيباً. وادْعُ مُجيباً. لتَرى عَجيباً. فقال لهُ: يا هَذا إنّ البُغاثَ بأرضِنا لا يَستَنْسِرُ. والتّمييزَ عندَنا بينَ الفِضّةِ والقضة متيَسِّرٌ. وقَلَّ منِ استَهدَفَ للنّضالِ. فخلّصَ منَ الدّاء العُضالِ. أوِ استَسارَ نقْعَ الامْتِحانِ. فلمْ يُقْذَ بالامتِهانِ. فلا تُعرِّضْ عِرْضَكَ للمَفاضِحِ. ولا تُعْرِضْ عنْ نَصاحَةِ النّاصِحِ. فقال: كُلُّ امرِئٍ أعْرَفُ بوسْمِ قِدْحِهِ. وسيَتَفرّى الليلُ عنْ صُبْحِهِ. فتَناجَتِ الجَماعَةُ فيما يُسْبَرُ بهِ قُلَيْبُهُ. ويُعْمَدُ فيهِ تقْليبُهُ. فقال أحدُهُمْ: ذَرُوهُ في حِصّتي. لأرْميَهُ بحَجَرِ قِصّتي. فإنّها عُضْلَةُ العُقَدِ. ومِحَكُّ المُنْتَقَدِ. فقلّدوهُ في هذا الأمْرِ الزّعامَةَ. تقْليدَ

الخوارِجِ أبا نَعامَةَ. فأقْبَلَ على الكهْلِ وقالَ: اعْلَمْ أني أُوالي. هذا الوالي. وأُرَقّحُ حالي. بالبَيانِ الحالي. وكُنْتُ أستَعينُ على تقْويمِ أوَدي. في بلَدي. بسَعَةِ ذاتِ يَدي. معَ قِلّةِ عدَدي. فلمّا ثَقُلَ حاذي. ونفِدَ رَذاذي. أمّمْتُهُ منْ أرْجائي. برَجائي. ودعوْتُهُ لإعادَةِ رُوائي وإرْوائي. فهَشّ للوِفادَةِ وراحَ. وغَدا بالإفادَةِ وراحَ. فلمّا استأذَنْتُهُ في المَراحِ. الى المُراحِ. على كاهِلِ المِراحِ. قال: قدْ أزْمَعْتُ أنْ لا أزوّدَكَ بَتاتاً. ولا أجْمعَ لكَ شَتاتاً. أو تُنْشِئَ لي أمامَ ارتِحالِكَ. رِسالَةً تودِعُها شرْحَ حالِكَ. حُروفُ إحْدى كلِمتَيْها يعُمّها النَّقْطُ. وحُروفُ الأخْرى لمْ يُعْجَمْنَ قطّ. وقدِ استأنَيْتُ بَياني حَوْلاً. فَما أحارَ قوْلاً. ونَبَهْتُ فِكْري

سَنَةً. فما ازْدادَ إلا سِنَةً. واستَعَنْتُ بقاطِبَةِ الكُتّابِ. فكلٌ منْهُمْ قطّبَ وتابَ. فإنْ كُنتَ صدَعْتَ عنْ وصْفِكَ باليَقينِ. فأتِ بآيَةٍ إنْ كُنتَ منَ الصّادِقين. فقال لهُ: لقَدِ استَسْعَيْتَ يَعْبوباً. واستَسْقَيْتَ أُسْكوباً. وأعطَيْتَ القوْسَ بارِيَها. أسْكَنْتَ الدّارَ ثانِيَها. ثمّ فكّرَ ريثَما اسْتَجَمّ قريحَتَهُ. واستَدَرّ لَقْحَتَهُ. وقالَ: ألْقِ دَواتَكَ واقْرُبْ. وخُذْ أداتَكَ واكتُبْ: ااسْتَجَمّ قريحَتَهُ. واستَدَرّ لَقْحَتَهُ. وقالَ: ألْقِ دَواتَكَ واقْرُبْ. وخُذْ أداتَكَ واكتُبْ: الكرَمُ ثبّتَ اللهُ جيْشَ سُعودِكَ يَزينُ. واللّؤمُ غَضّ الدّهرُ جَفْنَ حَسودِكَ يَشينُ. والأرْوَعُ يُثيبُ. والمُعْوِرُ يَخيبُ. والحُلاحِلُ يُضيفُ. والماحِلُ يُخيفُ. والسّمْحُ يُغْذي. والمَحْكُ يُقذي.

والعطاء ينجي والمطال يشجي، والدعاء يفي والمدح ينقي والحُرُّ يَجْزي. والإلْطاطُ يُخْزي. واطّراحُ ذي الحُرْمَةِ غَيٌ. ومَحْرَمَةُ بَني الآمالِ بغْيٌ. وما ضنّ إلا غَبينٌ. ولا غُبِنَ إلا ضَنينٌ. ولا خزَنَ إلا شَقيٌ. ولا قبَضَ راحَهُ تقيٌ. وما فتئ وعدُك يَفي. وآراؤكَ تَشْفي. وهِلالُكَ يُضي. وحِلْمُك يُغْضي. وآلاؤكَ تُغْني. وأعداؤكَ تُثْني. وحُسامُك يُفْني. وسؤدَدُكَ يُقْني. ومُواصِلُكَ يجْتَني. ومادِحُك يقْتَني. وسماحُكَ يُغيثُ. وسماؤكَ تَغيثُ. ودرُّكَ يَفيضُ. وردُّكَ يَغيضُ. ومؤمِّلُكَ شيْخٌ حَكاهُ فَيْءٌ. ولمْ يبْقَ لهُ شيءٌ. أمّكَ بظَنٍ حِرصُهُ يثِبُ. ومدَحَكَ بنُخَبٍ. مُهورُها تجِبُ.

ومَرامُهُ يخِفُّ. وأواصِرُهُ تشِفُّ. وإطْراؤهُ يُجْتَذَبُ. وملامُهُ يُجتَنَبُ. وورَاءهُ ضَفَفٌ. مَسّهُمْ شظَفٌ. وحصّهُمْ جنَفٌ. وعمّهُمْ قشَفٌ. وهوَ في دمْعٍ يُجيبُ. وولَهٍ يُذيبُ. وهَمٍّ تَضيّفَ. وكمَدٍ نيّفَ. لمأمولٍ خيّبَ. وإهْمالٍ شيّبَ. وعدوٍّ نَيّبَ. وهُدُوٍّ تغيّبَ. ولمْ يزِغْ ودُّهُ فيغْضَبَ. ولا خَبُثَ عودُهُ فيُقْضَبَ. ولا نفَثَ صدْرُهُ فيُنْفَضَ. ولا نشَزَ وصْلُهُ فيُبْغَضَ. وما يقْتَضي كرَمُكَ نبْذَ حُرَمِهِ. فبيِّضْ أمَلَهُ بتَخْفيفِ ألَمِهِ. ينُثّ حمدَكَ بينَ عالَمِهِ. بقيتَ لإماطَةِ شجَبٍ. وإعْطاءِ نشَبٍ. ومُداواةِ شجَنٍ. ومُراعاةِ يفَنٍ. موصولاً بخَفْضٍ. وسُرورٍ غَضٍّ.

ما غُشِيَ معْهَدُ غنيٍّ. أو خُشِيَ وهْمُ غبيٍّ. والسّلامُ. فلمّا فرَغَ منْ إمْلاءِ رِسالَتِهِ. وجلّى في هَيْجاء البَلاغَةِ عنْ بَسالَتِهِ. أرضَتْهُ الجماعَةُ فِعْلاً وقوْلاً. وأوْسَعَتْهُ حَفاوَةً وطَوْلاً. ثمّ سُئِلَ منْ أيّ الشّعوبِ نِجارُهُ. وفي أيّ الشِّعابِ وِجارُهُ؟ فقال: غسّانُ أُسرَتيَ الصّميمَهْ ... وسُروجُ تُرْبَتي القَديمَهْ فالبَيتُ مثلُ الشّمْسِ إشْ ... راقاً ومنزِلَةً جسيمَهْ والرّبْعُ كالفِرْدَوْسِ مطْ ... يَبَةً ومَنْزَهَةً وقيمَهْ واهاً لعيْشٍ كانَ لي ... فيها ولذّآتٍ عَميمَهْ أيّامَ أسْحَبُ مُطْرَفي ... في روضِها ماضي العَزيمَهْ أخْتالُ في بُردِ الشّبا ... بِ وأجْتَلي النِّعَمَ الوَسيمَهْ

لا أتّقي نُوَبَ الزّما ... نِ ولا حَوادِثَهُ المُليمَهْ فلوَ انّ كرْباً مُتْلِفٌ ... لَتَلِفْتُ منْ كُرَبي المُقيمَهْ أو يُفْتَدَى عيْشٌ مضى ... لفدَتْهُ مُهجَتيَ الكَريمَهْ فالموْتُ خيرٌ للفتى ... منْ عيشِهِ عيْشَ البَهيمَهْ تقْتادُهُ بُرَةُ الصَّغا ... رِ الى العظيمَةِ والهضيمَهْ ويرَى السّباعَ تَنوشُها ... أيْدي الضّباعِ المُستَضيمَهْ والذّئبُ للأيّامِ لوْ ... لا شُؤمُها لمْ تنْبُ شيمَهْ ولوِ استَقامَتْ كانتِ ال ... أحوالُ فيها مُستَقيمَهْ ثمّ إنّ خبَرَه نَما الى الوالي. فمَلأ فاهُ باللآلي. وسامَهُ أن ينضَويَ الى أحشائِهِ. ويَليَ ديوانَ إنْشائِهِ. فأحْسَبَهُ الحِباءُ. وظلَفَهُ عنِ الوِلايَةِ الإباءُ. قال الراوي: وكُنتُ عرَفْتُ عُودَ شجَرَتِه. قبلَ إيناعِ ثمرَتِهِ. وكِدْتُ أنبّهُ على عُلوّ قدْرِهِ. قبلَ استِنارَةِ بدْرِهِ.

فأوْحى إليّ بإيماضِ جفْنِهِ. أن لا أجرِّدَ عضْبَهُ منْ جفْنِهِ. فلمّا خرَجَ بَطينَ الخُرْجِ. وفصَلَ فائِزاً بالفُلْجِ. شيّعْتُهُ قاضِياً حقّ الرّعايَةِ. ولاحِياً لهُ على رفْضِ الوِلايَةِ. فأعْرَضَ مُتَبَسّماً. وأنْشَدَ مترنّماً: لَجَوْبُ البِلادِ معَ المَتْرَبَهْ ... أحَبُّ إليّ منَ المرْتَبَهْ لأنّ الوُلاةَ لهُمْ نَبوَةٌ ... ومعْتَبَةٌ يا لَها مَعْتَبَهْ ومافيهمِ مَنْ يرُبُّ الصّنيعَ ... ولا مَنْ يُشيِّدُ ما رتّبَهْ فلا يخدَعنْكَ لَموعُ السّرابِ ... ولا تأتِ أمْراً إذا ما اشْتبَهْ فكَمْ حالِمٍ سرّهُ حُلْمُهُ ... وأدرَكَهُ الرّوْعُ لمّا انْتبَهْ

المقامة البرقعيدية

المقامة البَرْقَعيديّة حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: أزْمَعْتُ الشّخوصَ منْ بَرْقَعيدَ. وقد شِمْتُ برْقَ عِيدٍ. فكرِهتُ الرّحلةَ عنْ تلكَ المَدينَةِ. أو أشهَدَ بها يوْمَ الزّينَةِ. فلمّا أظَلّ بفَرْضِهِ ونفْلِهِ. وأجْلَبَ بخَيْلِهِ ورَجْلِهِ. اتّبَعْتُ السُنّةَ في لُبسِ الجَديدِ. وبرَزْتُ معَ مَنْ برَزَللتّعييدِ. وحينَ التَأمَ جمْعُ المُصَلّى وانْتَظَمَ. وأخذَ الزِّحامُ بالكَظَمِ. طلَعَ شيخٌ في شمْلَتَينِ. محْجوبُ المُقلتَيْنِ. وقدِ اعْتَضَدَ شِبْهُ المِخْلاةِ. واسْتَقادَ لعَجوزٍ كالسِّعْلاةِ. فوقَفَ وِقْفَة مُتهافِتٍ. وحيّا تحيّةَ خافِتٍ. ولمّا فرَغَ منْ دُعائِهِ. أجالَ خَمْسَهُ في وِعائِهِ. فأبْرَزَ منْهُ رِقاعاً قدْ كُتِبنَ بألوانِ الأصْباغِ. في أوانِ الفَراغِ. فناوَلَهُنّ

عَجوزَهُ الحَيْزَبونَ. وأمرَها بأنْ تتوسّمَ الزَّبونَ. فمَنْ آنسَتْ نَدى يدَيْهِ. ألْقَتْ ورَقَةً منهُنّ لدَيْهِ. فأتاحَ ليَ القدَرُ المعْتوبُ. رُقْعَةً فيها مكْتوبٌ: لقَدْ أصبَحْتُ موقوذاً ... بأوجاعٍ وأوْجالِ ومَمْنُواً بمُخْتالٍ ... ومُحْتالٍ ومُغْتالِ وخَوّانٍ منَ الإخْوا ... نِ قالٍ لي لإقْلالي وإعْمالٍ منَ العُمّا ... لِ في تضْليعِ أعْمالي فكمْ أُصْلي بإذحالٍ ... وإمْحالٍ وترْحالِ وكَمْ أخْطِرُ في بالٍ ... ولا أخْطُرُ في بالِ فلَيْتَ الدّهْرَ لمّا جا ... رَ أطْفا ليَ أطْفالي

فلَوْلا أنّ أشْبا ... ليَ أغْلالي وأعْلالي لَما جهّزْتُ آمالي ... الى آلٍ ولا والي ولا جرّرْتُ أذْيالي ... على مَسْحَبِ إذْلالي فمِحْرابيَ أحْرَى بي ... وأسْماليَ أسْمَى لي فهلْ حُرٌ يَرى تخْفي ... فَ أثْقالي بمِثْقالِ ويُطْفي حَرَّ بَلْبالي ... بسِرْبالٍ وسِرْوالِ قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فلما استَعْرَضْتُ حُلةَ الأبْياتِ تُقْتُ الى معرِفَةِ مُلْحِمِها. وراقِمِ علَمِها. فناجاني الفِكْرُ بأنّ الوُصْلَةَ إلَيْهِ العَجوزُ. وأفْتاني بأنّ حُلوانَ المُعرِّفِ يَجوزُ. فرَصَدْتُها وهيَ تستَقْري

الصّفوفَ صَفّاً صَفاً. وتستَوكِفُ الأكُفَّ كفّاً كفاً. وما إنْ ينْجَحُ له عَناءٌ. ولا يرْشَحُ على يدِها إناءٌ. فلما أكْدى استِعْطافُها. وكدّها مَطافُها. عاذَتْ بالاسْتِرْجاعِ. ومالَتْ الى إرجاعِ الرِّقاعِ. وأنْساها الشيْطانُ ذِكْرَ رُقْعَتي. فلمْ تعُجْ الى بُقْعَتي. وآلَتْ الى الشيْخِ باكيةً للحِرْمانِ. شاكِيةً تحامُلَ الزّمانِ. فقالَ: إنّا للهِ. وأفوّضُ أمْري الى اللهِ. ولا حوْلَ ولا قوّةَ إلا باللهِ. ثمّ أنْشَدَ: لمْ يبْقَ صافٍ ولا مُصافٍ ... ولا مَعينٌ ولا مُعينُ وفي المَساوي بَدا التّساوي ... فلا أمينٌ ولا ثَمينُ ثم قال لها: مَنّي النّفْسَ وعِديها. واجْمَعي الرِّقاعَ وعُدّيها. فقالَتْ: لقدْ عدَدْتُها. لمّا استَعَدْتُها. فوجَدْتُ يدَ الضّياعِ. قد غالَتْ

إحْدى الرِّقاعِ. فقال: تعْساً لكِ يا لَكاعِ! أنُحْرَمُ ويْحَكِ القنَصَ والحِبالَةَ. والقَبَسَ والذُبالةَ؟ إنّها لضِغْثٌ على إبّالَةٍ! فانْصاعَتْ تقْتَصّ مَدْرَجَها. وتَنْشُدُ مُدْرَجَها. فلمّا دانَتْني قرَنْتُ بالرُقعَةِ. دِرْهَماً وقِطْعَةً. وقلتُ لها: إنْ رَغِبتِ في المَشوفِ المُعْلَمِ. وأشَرْتُ الى الدّرهَمِ. فَبوحي بالسّرّ المُبهَمِ. وإنْ أبَيْتِ أنْ تشْرَحي. فخُذي القِطعَةَ واسرَحي. فمالَتْ الى استِخْلاصِ البدْرِ التِّمّ. والأبلَجِ الهِمّ. وقالتْ: دعْ جِدالَكَ. وسَلْ عمّا بَدا لَكَ. فاستَطْلَعْتُها طِلْعَ الشّيخٍ وبَلْدَتِهِ. والشِّعْرِ وناسِجِ بُرْدَتِه. فقالَتْ: إنّ الشيخَ من أهلِ سَروجَ. وهوَ الذي وشّى الشّعرَ المَنسوجَ. ثمّ خَطِفَتِ الدّرْهمَ خَطفَةَ الباشِقِ. ومرَقَتْ مُروقَ السّهْمِ

الرّاشِقِ. فخالَجَ قلْبي أنّ أبا زيْدٍ هوَ المُشارُ إليْهِ. وتأجّجَ كرْبي لمُصابِهِ بناظِرَيْهِ. وآثرْتُ أنْ أُفاجِيهِ وأناجيهِ. لأعْجُمَ عودَ فِراسَتي فيه. وما كُنتُ لأصِلَ إليْهِ إلا بتَخطّي رِقابِ الجمْعِ. المَنْهيّ عنْهُ في الشّرْعِ. وعِفْتُ أنْ يتأذّى بي قوْمٌ. أو يسْري إليّ لوْمٌ. فسَدِكْتُ بمَكاني. وجعلْتُ شخْصَهُ قيْدَ عِياني. الى أنِ انْقضَتِ الخُطبَةُ. وحقّتِ الوثْبَةُ. فخفَفْتُ إليْهِ. وتوسّمْتُهُ على التِحامِ جَفنَيْهِ. فإذا ألمَعيّتي ألمَعيّةُ ابنِ عبّاسٍ. وفِراسَتي فِراسَةُ إياسٍ. فعرّفتُهُ حينَئِذٍ شخْصي. وآثَرْتُه بأحَدِ قُمْصي. وأهَبْتُ بهِ الى قُرْصي. فهشّ لعارِفَتي وعِرْفاني. ولبّى دعْوَةَ رُغْفاني. وانْطَلَقَ ويَدي زِمامُهُ. وظلّي

إمامُهُ. والعجوزُ ثالثَةُ الأثافي. والرّقيبُ الذي لا يَخْفَى عليْهِ خافي. فلمّا استَحْلَسَ وُكْنَتي. وأحضَرْتُهُ عُجالَةَ مُكْنَتي. قال لي: يا حارِثُ. أمَعَنا ثالِثٌ؟ فقلتُ: ليسَ إلا العَجوزُ. قال: ما دونَها سِرٌ محْجوزٌ. ثمّ فتَحَ كريمَتَيْهِ. ورأرَأ بتوْأمَتَيهِ. فإذا سِراجا وجْهِهِ يقِدانِ. كأنّهُما الفَرْقَدانِ. فابْتَهَجْتُ بسَلامَةِ بصَرِهِ. وعجِبْتُ منْ غَرائِبِ سِيَرِهِ. ولمْ يُلْقِني قَرارٌ. ولا طاوَعَني اصْطِبارٌ. حتى سألْتُهُ: ما دَعاكَ الى التّعامي. معَ سيرِكَ في المَعامي. وجوْبِكَ المَوامي. وإيغالِكَ في المَرامي؟ فتَظاهَرَ باللُّكْنَةِ. وتشاغَلَ باللُّهْنَةِ.

حتى إذا قَضى وطَرَهُ. أتْأرَ إليّ نظَرَهُ. وأنشَدَ: ولمّا تَعامى الدّهرُ وهْوَ أبو الوَرى ... عنِ الرُشْدِ في أنحائِهِ ومقاصِدِهْ تعامَيتُ حى قيلَ إني أخو عَمًى ... ولا غَرْوَ أن يحذو الفتى حَذوَ والِدهْ ثمّ قال لي: انْهَضْ الى المُخدَعِ فأتِني بغَسولٍ يَروقُ الطّرْفَ. ويُنْقي الكَفَّ. وينعِّمُ البَشَرةَ. ويُعطِّرُ النّكهَةَ. ويشُدّ اللّثَةَ. ويقوّي المَعِدَةَ. ولْيَكُنْ نَظيفَ الظَّرْفِ. أريجَ العَرْفِ. فتيَّ الدّقِّ. ناعِمَ السّحْقِ. يحسَبُهُ اللاّمِسُ ذَروراً. ويَخالُهُ الناشِقُ كافوراً. واقْرُنْ بهِ خِلالَةً نقيّةَ الأصْلِ. محبوبَةَ الوصْلِ. أنيقَةَ الشّكلِ. مَدْعاةً الى الأكْلِ. لها نَحافَةُ الصّبّ. وصَقالَةُ العَضْبِ. وآلَةُ الحرْبِ. ولُدونَةُ الغُصْنِ الرّطْبِ. قال:

المقامة المعرية

فنَهضْتُ فيما أمَرَ. لأدْرَأَ عنْهُ الغَمَرَ. ولمْ أهِمْ الى أنّهُ قصَدَ أنْ يَخْدَعَ. بإدْخاليَ المُخدَعَ. ولا تظنّيْتُ أنّهُ سخِرَ منَ الرّسولِ. في استِدْعاء الخِلالَةِ والغَسولِ. فلمّا عُدْتُ بالمُلتَمَسِ. في أقرَبَ منْ رجْعِ النّفَسِ. وجدْتُ الجوّ قدْ خَلا. والشيْخَ والشيْخَةَ قد أجْفَلا. فاستَشَطْتُ منْ مَكْرِهِ غضَباً. وأوْغَلتُ في إثْرِهِ طلَباً. فكانَ كمَنْ قُمِسَ في الماء. أو عُرِجَ بهِ الى عَنانِ السّماء. المقامة المعَرّيَّة أخبرَ الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: رأيتُ منْ أعاجيبِ الزّمانِ. أن تقدّم خَصْمانِ. الى قاضي مَعرّةِ النّعمانِ. أحدُهُما قدْ ذهَبَ منْهُ

الأطْيَبانِ. والآخَرُ كأنّهُ قَضيبُ البانِ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. كما أيّدَ بهِ المُتقاضيَ. إنّهُ كانَتْ لي مَمْلوكَةٌ رَشِقَةُ القدّ. أسيلَةُ الخدّ. صَبورٌ على الكدّ. تخُبّ أحْياناً كالنّهْدِ. وترقُدُ أطْواراً في المهْدِ. وتجِدُ في تمّوزَ مَسَّ البَرْدِ. ذاتُ عقْلٍ وعِنانٍ. وحدٍ وسِنانٍ. وكفٍّ ببَنانٍ. وفمٍ بلا أسْنانٍ. تلْدَغُ بلِسانٍ نَضْناضٍ. وترْفُلُ في ذيْلٍ فضْفاضٍ. وتُجْلى في سَوادٍ وبَياضٍ. وتُسْقَى ولكِنْ منْ غيرِ حِياضٍ. ناصِحَةٌ خُدَعَةٌ. خُبَأةٌ طُلَعَةٌ. مطْبوعَةٌ على المنفَعَةِ. ومطْواعَةٌ في الضّيقِ

والسَّعَةِ. إذا قطَعَتْ وصَلَتْ. ومتى فصَلتَها عنْكَ انفَصَلَتْ. وطالَما خدَمَتْكَ فجمّلَتْ. وربّما جنَتْ عليْكَ فآلَمَتْ وملْمَلَتْ. وإنّ هذا الفَتى استَخْدَمَنيها لغرَضٍ. فأخْدَمْتُهُ إيّاها بِلا عِوَضٍ. على أن يجْتَنيَ نفْعَها. ولا يُكلّفَها إلا وُسْعَه. فأوْلَجَ فيها مَتاعَهُ. وأطالَ بها استِمْتاعَهُ. ثم أعادَها إليّ وقدْ أفْضاها. وبذَلَ عنْها قيمَةً لا أرضاها. فقال الحَدَثُ: أمّا الشيخُ فأصدَقُ منَ القَطا. وأما الإفْضاءُ ففَرَطَ عنْ خَطا. وقدْ رهَنْتُهُ. عن أرْشِ ما أوْهَنْتُهُ. ممْلوكاً لي مُتناسِبَ الطّرَفَينِ. مُنتَسِباً الى القَينِ. نقِيّاً منَ الدّرَنِ والشَّينِ. يُقارِنُ محلُّهُ سَوادَ العينِ. يُفْشي الإحْسانَ. ويُنْشي الاسْتِحْسانَ. ويُغْذي الإنْسانَ. ويتَحامَى

اللّسانَ. إنْ سُوّدَ جادَ. أو وَسَمَ أجادَ. وإذا زُوّدَ وَهَبَ الزّادَ. ومَتى اسْتُزيدَ زادَ. لا يستَقِرّ بمَغْنى. وقلّما ينكِحُ إلا مَثْنى. يسْخو بمَوجودِه. ويسْمو عندَ جودِهِ. وينْقادُ معَ قَرينَتِهِ. وإنْ لمْ تكنْ منْ طينَتِهِ. ويُستَمْتَعُ بزينَتِهِ. وإنْ لمْ يُطْمَعْ في لينَتِه. فقال لهُما القاضي: إمّا أن تُبينا. وإلا فَينا. فابْتَدَر الغُلامُ وقال: أعارني إبرَةً لأرفوَ أطْما ... راً عَفاها البِلى وسوّدَها فانخرَمَتْ في يَدي على خطَإٍ ... منّيَ لمّا جذَبْتُ مِقوَدَها فلمْ ير الشيخُ أن يُسامِحَني ... بإرْشِها إذْ رأى تأوُّدَها بلْ قال هاتِ إبرَةً تُماثِلُها ... أو قيمَةً بعْدَ أن تجوّدَها واعْتاقَ ميلي رَهْناً لدَيْهِ ونا ... هيكَ به سُبّةً تَزوّدَها

فالعينُ مَرْهَى لرَهْنِه ويدي ... تقصُرُ عنْ أن تفُكّ مِروَدَها فاسبُرْ بذا الشّرْحِ غوْرَ مسكَنتي ... وارْثِ لمنْ لم يكُنْ تعوّدَها فأقبلَ القاضي على الشيخِ وقال: إيهٍ. بغَيرِ تمْويهٍ! فقال: أقسَمْتُ بالمَشْعَرِ الحَرامِ ومنْ ... ضمّ منَ الناسِكينَ خَيْفُ مِنى لوْ ساعَفَتْني الأيّامُ لمْ يرَني ... مُرتَهِناً مِيلَهُ الذي رَهَنا ولا تصدّيتُ أبتَغي بدَلاً ... منْ إبرَةٍ غالَها ولا ثَمَنا لكِنّ قوْسَ الخُطوبِ ترْشِقُني ... بمُصْمِياتٍ منْ هاهُنا وهُنا وخُبْرُ حالي كخُبْرِ حالتِهِ ... ضُرّاً وبؤساً وغُربَةً وضَنى قد عدَلَ الدهْرُ بينَنا فأنا ... نظيرُهُ في الشّقاء وهْوَ أنا

لا هُوَ يسْطيعُ فكّ مِروَدِهِ ... لمّا غدا في يَدَيّ مُرتَهَنا ولا مَجالي لِضيقِ ذاتِ يَدي ... فيهِ اتّساعٌ للعَفْوِ حينَ جَنى فهَذِهِ قصّتي وقصّتُه ... فانْظُرْ إلَيْنا وبينَنا ولَنا فلمّا وعَى القاضي قَصَصهُما. وتبيّنَ خَصاصَتَهُما وتخَصُّصَهُما. أبرَزَ لهُما ديناراً منْ تحْتِ مُصَلاُّه. وقال لهُما: اقْطَعا بهِ الخِصامَ وافِصلاهُ. فتلقّفَهُ الشيخُ دونَ الحدَثِ. واستَخلَصَهُ على وجهِ الجِدِّ لا العبَثِ. وقال للحدَثِ: نِصْفُه لي بسَهْمِ مَبَرّتي. وسهْمُكَ لي عنْ أرْشِ إبْرَتي. ولستُ عنِ الحقّ أميلُ. فقُمْ وخُذِ الميلَ. فعَرا الحدَثَ لما حدثَ اكتِئابٌ. واكفَهَرّ على سَمائِهِ سَحابٌ. وجَمَ لهُ القاضي. وهيّجَ أسَفَهُ على الدّينارِ الماضي. إلا أنّهُ جبَرَ بالَ الفتَى وبَلْبالَهُ. بدُرَيْهِماتٍ رضَخَ بها له. وقال لهُما: اجْتَنِبا المُعامَلاتِ. وادْرآ المُخاصَماتِ. ولا تحْضُراني في المُحاكَماتِ. فما عِندي كيسُ الغَراماتِ.

فنَهَضا منْ عِنْدِه. فرِحَينَ برِفْدِه. مُفصِحَينِ بحَمدِه. والقاضي ما يخْبو ضجَرُهُ. مُذْ بضَّ حجَرُهُ. ولا ينْصُلُ كمدُه. مُذْ رشَحَ جَلمَدُهُ. حتى إذا أفاقَ منْ غشيَتِه. أقبلَ على غاشِيَتِه. وقال: قدْ أُشرِبَ حِسّي. ونبّزني حدْسي. أنهُما صاحِبا دَهاء. لا خَصْما ادّعاء. فكيفَ السّبيلُ الى سبرِهِما. واستِنْباطِ سرّهِما؟ فقال له نِحْريرُ زُمرَتِه. وشِرارَةُ جَمرَتِه: إنّه لنْ يتِمّ استِخراجُ خَبْئِهِما. إلا بهِما. فقَفّاهُما عَوْناً يُرْجِعُهُما إليْهِ. فلمّا مَثَلا بينَ يدَيهِ. قالَ لهُما: اصْدُقاني سِنّ بَكْرِكُما. ولكُما الأمانُ منْ تبِعَةِ مَكْرِكُما. فأحْجَمَ الحدَثُ واسْتقالَ. وأقدَمَ الشيخُ وقال: أنا السَّروجيُّ وهذا ولَدي ... والشّبْلُ في المَخْبَرِ مثلُ الأسَدِ

وما تعدّتْ يدُهُ ولا يَدي ... في إبرَةٍ يوْماً ولا في مِرْوَدِ وإنّما الدهرُ المُسيءُ المُعْتَدي ... مالَ بِنا حتى غدَوْناً نجْتَدي كلَّ نَدي الرّاحةِ عذْبِ المَوْرِدِ ... وكلَّ جعْدِ الكفّ مغْلولَ اليَدِ بكُلّ فنٍ وبكلّ مقْصَدِ ... بالجِدّ إنْ أجْدَى وإلاّ بالدَّدِ لنَجلِبَ الرّشْحَ الى الحظّ الصّدي ... ونُنْفِدَ العُمْرَ بعيشٍ أنْكَدِ والموتُ منْ بعْدُ لَنا بالمَرصَدِ ... إنْ لمْ يُفاجِ اليومَ فاجَى في غَدِ فقال لهُ القاضي: للهِ دَرُّكَ فما أعذَبَ نفَثاتِ فيكَ. وواهاً لكَ لوْلا خِداعٌ فيكَ! وإني لكَ لمِنَ المُنْذِرِينَ. وعليْكَ منَ الحَذِرينَ. فلا تُماكِرْ بعْدَها الحاكِمينَ. واتّقِ سَطْوَةَ

المقامة الإسكندرية

المُتحكّمينَ. فما كُلّ مُسيْطِرٍ يُقيلُ. ولا كُلّ أوانٍ يُسْمَعُ القِيلُ. فعاهَدَهُ الشيخُ على اتّباعِ مَشورَتِه. والارْتِداعِ عن تلْبيسِ صورتِهِ. وفصَلَ عن جِهتِهِ. والختْرُ يلمَعُ من جبهتِهِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ أرَ أعجَبَ منْها في تصاريفِ الأسْفارِ. ولا قرَأتُ مِثلَه في تصانيفِ الأسْفارِ. المقامة الإسكندريّة قالَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ: طَحا بي مَرَحُ الشّبابِ. وهوَى الاكتِسابِ. الى أن جُبْتُ ما بينَ فرْغانَةَ. وغانَةَ. أخوضُ الغِمارَ. لأجْني الثّمارَ. وأقْتَحِمُ الأخْطارَ. لكَيْ أُدرِكَ الأوْطارَ. وكُنتُ لَقِفْتُ منْ أفْواهِ العُلَماء. وثَقِفْتُ منْ وَصايا الحُكَماء. أنهُ

يلْزَمُ الأديبَ الأريبَ. إذا دخَلَ البلَدَ الغريبَ. أنْ يَستَميلَ قاضِيَهُ. ويستَخْلِصَ مَراضِيَهُ. ليشْتَدّ ظهرُهُ عندَ الخصامِ. ويأمَنَ في الغُربَةِ جَوْرَ الحُكّامِ. فاتّخذْتُ هذا الأدَبَ إماماً. وجعلْتُهُ لمَصالحي زِماماً. فما دخلْتُ مَدينةً. ولا ولَجْتُ عَرينَةً. إلا وامتزجْتُ بحاكمِها امتِزاجَ الماءِ بالرّاحِ. وتقوّيْتُ بعِنايَتِهِ تقَوّي الأجْسادِ بالأرْواحِ. فبَينَما أنا عِندَ حاكِمِ الإسكنْدَريّةِ. في عشيّةٍ عرِيّةٍ. وقد أحضَرَ مالَ الصّدَقاتِ. ليَفُضّهُ على ذوي الفاقاتِ. إذْ دخَل شيخٌ عِفْرِيَةٌ. تعْتُلُهُ امرأةٌ مُصْبِيَةٌ. فقالت: أيّدَ اللهُ القاضيَ. وأدامَ بهِ التّراضي. إني امرأةٌ من أكرَمِ جُرثومَةٍ. وأطْهَرِ أرومةٍ. وأشرَفِ خُؤولَةٍ وعُمومَةٍ. مِيسَمي الصَّونُ. وشيمَتي الهَوْنُ. وخُلُقي نِعْمَ العَوْنُ. وبيْني وبينَ جاراتي بوْنٌ. وكان أبي إذا خطَبَني

بُناةُ المجْدِ. وأرْبابُ الجَدّ. سكّتَهُم وبكّتَهُم. وعافَ وُصلَتَهُمْ وصِلَتَهمْ. واحتجّ بأنّهُ عاهَدَ اللهَ تَعالى بحَلْفَةٍ. أن لا يُصاهِرَ غيرَ ذي حِرفَةٍ. فقيّضَ القدَرُ لنَصَبي. ووَصَبي. أنْ حضَرَ هذا الخُدَعَةُ ناديَ أبي. فأقسَمَ بينَ رهْطِهِ. أنّهُ وَفْقُ شرْطِهِ. وادّعى أنهُ طالَما نظَمَ دُرّةً الى دُرّةٍ. فباعَهُما ببَدْرَةٍ. فاغْتَرّ أبي بزَخرَفَةِ مُحالِهِ. وزوّجَنيهِ قبْلَ اختِبارِ حالِه. فلمّا استَخْرَجَني منْ كِناسي. ورحّلَني عنْ أُناسي. ونقَلَني الى كسْرِهِ. وحصّلَني تحْتَ أسرِهِ. وجدْتُهُ قُعَدَةً جُثَمَةً. وألفَيْتُهُ ضُجَعَةً نُوَمَةً. وكنتُ صحبْتُهُ برِياشٍ وزِيٍّ. وأثاثٍ ورِيٍّ. فما برِحَ يَبيعُهُ في سوقِ الهضْمِ. ويُتْلِفُ

ثمَنَهُ في الخَضْمِ. والقَضْمِ. الى أنْ مزّقَ ما لي بأسْرِهِ. وأنْفَقَ مالي في عُسْرِهِ. فلمّا أنْساني طعْمَ الرّاحةِ. وغادرَ بيْتي أنْقَى منَ الرّاحةِ. قلتُ له: يا هَذا إنّهُ لا مخْبأ بعْدَ بوسٍ. ولا عِطْرَ بعْدَ عَروسٍ. فانهَضْ للاكتِسابِ بصِناعَتِكَ. واجْنِني ثمَرَةَ براعتِكَ. فزعَمَ أن صِناعَتَهُ قد رُمِيتْ بالكَسادِ. لِما ظهرَ في الأرضِ من الفَسادِ. ولي منْهُ سُلالةٌ. كأنّهُ خِلالَةٌ. وكِلانا ما يَنالُ معَهُ شُبْعَةً. ولا ترْقأُ لهُ منَ الطّوى دمعَةٌ. وقد قُدتُهُ إليْكَ. وأحضَرْتُهُ لديْكَ. لتَعْجُمَ عودَ دعْواهُ. وتحْكُمَ بيْنَنا بِما أراكَ اللهُ. فأقْبَلَ القاضي عليْهِ وقال لهُ: قد وعَيْتُ قَصَصَ عِرْسِكَ. فبرْهِنِ الآنَ عن نفسِكَ.

وإلا كشَفْتُ عن لَبْسِكَ. وأمرْتُ بحبْسِكَ. فأطْرَقَ إطْراقَ الأُفعُوانِ. ثمّ شمّرَ للحرْبِ العَوانِ. وقال: اسْمَعْ حَديثي فإنّهُ عجَبُ ... يُضحَكُ من شرحِهِ ويُنتحَبُ أنا امرؤٌ ليسَ في خَصائِصِهِ ... عيْبٌ ولا في فَخارِهِ رِيَبُ سَروجُ داري التي ولِدْتُ بها ... والأصلُ غسّانُ حينَ أنتسِبُ وشُغليَ الدّرسُ والتبحُّرُ في ال ... عِلمِ طِلابي وحبّذا الطّلَبُ ورأسُ مالي سِحْرُ الكَلامِ الذي ... منهُ يُصاغُ القَريضُ والخُطَبُ أغوصُ في لُجّةِ البَيان فأخ ... تارُ اللآلي منْها وأنْتَخِبُ وأجْتَني اليانِعَ الجَنيَّ منَ ال ... قوْلِ وغيري للعودِ يحْتَطِبُ وآخُذُ اللفْظَ فِضّةً فإذا ... ما صُغْتُهُ قيلَ إنّهُ ذهبُ

وكُنتُ منْ قبلُ أمْتَري نشَباً ... بالأدَبِ المُقْتَنى وأحتَلِبُ ويمْتَطي أخْمَصي لُرْمَتِهِ ... مَراتِباً ليسَ فوقَها رُتَبُ وطالَما زُفّتِ الصِّلاتُ الى ... ربْعي فلمْ أرْض كلَّ منْ يهَبُ فاليوْمَ مَنْ يعْلَقُ الرّجاءُ بهِ ... أكسَدُ شيءٍ في سوقِه الأدَبُ لا عِرْضُ أبْنائِهِ يُصانُ ولا ... يُرْقَبُ فيهِمْ إلٌّ ولا نسَبُ كأنّهُمْ في عِراصِهِمْ جِيَفٌ ... يُبْعَدُ منْ نتْنِها ويُجْتَنَبُ فحارَ لُبّي لِما مُنيتُ بهِ ... منَ اللّيالي وصرْفُها عجَبُ وضاقَ ذرْعي لضيقِ ذاتِ يَدي ... وساوَرَتْني الهُمومُ والكُرَبُ

وقادَني دهْري المُليمُ الى ... سُلوكِ ما يستَشينُهُ الحسَبُ فبِعْتُ حتى لم يبْقَ لي سبَدٌ ... ولا بَتاتٌ إليْهِ أنْقَلِبُ وادّنْتُ حتى أثقَلتُ سالِفَتي ... بحَملِ دَينٍ من دونِه العطَبُ ثمّ طوَيتُ الحَشا على سغَبٍ ... خمْساً فلما أمَضّني السّغَبُ لمْ أرَ إلا جِهازَها عرَضاً ... أجولُ في بيعِه وأضْطَرِبُ فجُلتُ فيهِ والنّفْسُ كارهَةٌ ... والعينُ عَبرَى والقلبُ مُكتَئِبُ وما تجاوزْتُ إذ عبثْتُ بهِ ... حَدَّ التَراضي فيحدُثَ الغضَبُ فإنْ يكُنْ غاظَها توهُّمُها ... أنّ بَناني بالنّظْمِ تكتسِبُ أو أنّني إذ عزَمتُ خِطبَتَها ... زخْرَفتُ قوْلي لينجَحَ الأرَبُ

فوالّذي سارَتِ الرّفاقُ الى ... كعْبَتِهِ تستَحثُّها النُّجُبُ ما المكْرُ بالمُحصَناتِ من خُلُقي ... ولا شِعاري التّمويهُ والكذِبُ ولا يَدي مُذْ نشأتُ نيطَ بها ... إلا مَواضي اليَراعِ والكُتُبِ بل فِكْرَتي تنظِمُ القَلائِدَ لا كفْ ... في وشعري المنظوم لا السُّخُبُ فهَذِهِ الحِرفَةُ المُشارُ الى ... ما كُنتُ أحوي بها وأجتَلِبُ فأذَنْ لشَرْحي كما أذِنتَ لها ... ولا تُراقِبْ واحكُمْ بما يجِبُ قال: فلمّا أحكَم ما شادَهُ. وأكملَ إنشادَهُ. عطَفَ القاضي الى الفَتاةِ. بعْدَ أن شُعِفَ بالأبياتِ. وقال: أمَا إنّهُ قدْ ثبَتَ عندَ جميع الحُكّامِ. ووُلاةِ الأحْكامِ. انقِراضُ جيلِ الكِرامِ. وميْلُ

الأيامِ الى اللّئامِ. وإني لإخالُ بعْلَكِ صَدوقاً في الكلامِ. برِيّاً من المَلامِ. وها هو قدِ اعتَرَفَ لكِ بالقَرْضِ. وصرّحَ عنِ المَحْضِ. وبيّنَ مِصْداقَ النّظْمِ. وتبيّنَ أنّه مَعروقُ العظْمِ. وإعْناتُ المُعْذِرِ مَلأمَةٌ. وحبْسُ المُعسِرِ مألَمةٌ. وكِتْمانُ الفَقْرِ زَهادَةٌ. وانتِظارُ الفَرَجِ بالصّبرِ عِبادَةٌ. فارْجِعي الى خِدرِك. واعذُري أبا عُذْرِكِ. ونَهْنِهي عن غَرْبِكِ. وسلّمي لقَضاءِ ربّكِ. ثمّ إنّهُ فرضَ لهُما في الصّدقاتِ حِصّةً. وناوَلَهُما منْ دَراهِمِهما قَبصَةً. وقال لهُما: تعلّلا بهذه العُلالَةِ. وتندّيا بهذِهِ البُلالَةِ. واصْبِرا على كيْدِ الزّمانِ وكدّهِ. فعَسى اللهُ أنْ يأتيَ

بالفَتْحِ أو أمْرٍ من عِندِه. فنَهَضا وللشّيخِ فرْحَةُ المُطْلَقِ من الإسارِ. وهِزّةُ الموسِرِ بعْدَ الإعْسارِ. قال الرّاوي: وكنتُ عرفْتُ أنهُ أبو زيدٍ ساعةَ بزغَتْ شمسُهُ. ونزغَتْ عِرسُهُ. وكدْتُ أُفصِحُ عن افتِنانِه. وأثْمارِ أفْنانِهِ. ثمّ أشفَقْتُ من عُثورِ القاضي على بُهتانِه. وتزْويقِ لِسانِه. فلا يرَى عندَ عِرْفانِه. أن يُرشِّحَهُ لإحسانِه. فأحْجَمْتُ عنِ القوْلِ إحْجامَ المرْتابِ. وطوَيتُ ذكْرَهُ كطَيّ السّجِلّ للكِتابِ. إلا أني قُلتُ بعدَما فصَلَ. ووصلَ الى ما وصَلَ: لوْ أنّ لَنا مَنْ ينطَلِقُ في أثَرِه. لأتانا بفَصّ خبَرِهِ. وبِما يُنْشَرُ من حِبَرِهِ. فأتبَعَه

القاضي أحدَ أُمنائِهِ. وأمرَهُ بالتّجسّسِ عنْ أنبائِهِ. فما لبِثَ أنْ رجَعَ مُتَدَهْدِهاً. وقهْقَرَ مُقهْقِهاً. فقال له القاضي: مَهْيَمْ. يا أبا مرْيَمَ؟ فقال: لقدْ عايَنْتُ عجَباً. وسمعْتُ ما أنْشأ لي طرَباً. فقال لهُ: ماذا رأيتَ. وما الذي وعَيْتَ؟ قال: لمْ يزَلِ الشيخُ مذْ خرَجَ يُصفّقُ بيَدَيْهِ. ويخالِفُ بينَ رِجلَيْهِ. ويغرّدُ بمِلء شِدْقَيْهِ. ويقول: كِدْتُ أصْلَى ببَلِيّهْ ... منْ وَقاحٍ شَمّرِيّهْ وأزورُ السّجْنَ لوْلا ... حاكِمُ الإسكندريّهْ فضحِكَ القاضي حتى هوَتْ دنِّيّتُهُ. وذوَتْ سكينَتُهُ. فلمّا فاء الى الوَقارِ. وعقّبَ الاستِغْراب بالاستِغْفارِ. قال: اللهُمّ بحُرمَةِ عِبادِكَ المقرّبينَ. حرّمْ حبْسي على المتأدّبينَ. ثمّ قال لذلِكَ الأمين:

المقامة الرحبية

عليّ بهِ. فانطلقَ مُجِدّاً بطلَبِه. ثمّ عادَ بعدَ لأيِهِ. مخبّراً بنأيِهِ. فقال لهُ القاضي: أمَا إنّهُ لوْ حضَرَ. لكُفيَ الحذرَ. ثمّ لأوْلَيْتُهُ ما هو به أوْلى. ولأرَيتُهُ أنّ الآخِرَةَ خيرٌ لهُ من الأولى. قال الحارثُ بنُ همّام: فلمّا رأيتُ صَغْوَ القاضي إليهِ. وفَوْتَ ثمرَةِ التّنبيهِ علَيْهِ. غَشِيَتني نَدامَةُ الفرَزْدَقِ حينَ أبانَ النّوارَ. والكُسَعيِّ لمّا استَبانَ النّهارَ. المقامة الرّحبيّة حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: هتَفَ بي داعي الشّوْقِ. الى رَحبَةِ

مالِكِ بن طَوْقٍ. فلبّيتُهُ مُمتَطِياً شِمِلّةً. ومُنتَضياً عَزْمَةً مُشمَعِلّةً. فلمّا ألقيتُ به المَراشي. وشدَدْتُ أمراسي. وبرَزْتُ منَ الحَمّام بعدَ سبتِ راسي. رأيتُ غُلاماً أُفرِغَ في قالَبِ الجَمالِ. وأُلبِسَ من الحُسنِ حُلّةَ الكَمال. وقدِ اعْتَلَقَ شيخٌ برُدْنِهِ. يدّعي أنّهُ فتَك بابنِه. والغُلامُ يُنكِرُ عِرفَتَهُ. ويُكْبِرُ قِرفَتهُ. والخِصامُ بينَهُما مُتطايِرُ الشَّرارِ. والزِّحامُ عليهِما يجمَعُ بين الأخيارِ والأشرارِ. الى أن تَراضَيا بعْد اشتِطاطِ اللّدَد. بالتّنافُرِ الى والي البلَدِ. وكان ممّن يُزَنّ بالهَناتِ. ويغلِّبُ حُبَّ البَنين على البَناتِ. فأسْرَعا الى ندْوَتِه. كالسُّلَيْكِ في عَدْوَتِه. فلمّا حضَراه. جدّدَ

الشيخُ دعْواهُ. واستَدْعى عدْواهُ. فاستَنطَقَ الغُلامَ وقدْ فتَنَهُ بمحاسِنِ غُرّتِه. وطَرَّ عقلَهُ بتصْفيفِ طُرّتِهِ. فقالَ: إنّه أفيكَةُ أفّاكٍ. علِ غيرِ سفّاكٍ! وعَضيهَةُ مُحْتالٍ. على منْ ليس بمُغْتالٍ. فقال الوالي للشّيخ: إنْ شهِدَ لكَ عدْلانِ منَ المُسلِمين. وإلا فاسْتَوْفِ منهُ اليَمينَ. فقال الشيخُ: إنّهُ جدّلَهُ خسياً. وأفاحَ دمَهُ خالِياً. فأنّى لي شاهِدٌ. ولم يكُنْ ثَمّ مُشاهِدٌ؟ ولكِنْ ولّني تلْقينَهُ اليَمينَ. ليَبينَ لكَ أيصْدُقُ أم يَمينُ؟ فقال لهُ: أنتَ المالِك لذلك. معَ وجْدِكَ المُتَهالِك. على ابنِكِ الهالِك. فقال الشيخُ للغُلام: قُلْ والذي زيّن الجِباهَ بالطُّرَرِ. والعُيونَ بالحَوَرِ. والحَواجِبَ بالبَلَجِ. والمباسمَ بالفلَجِ. والجُفونَ بالسّقَمِ. والأنوفَ بالشّمَمِ.

والخُدودَ باللهَبِ. والثّغورَ بالشّنَبِ. والبَنانَ بالتّرَفِ. والخُصورَ بالهيَفِ. إنّني ما قتَلْتُ ابْنَكَ سهْواً ولا عمْداً. ولا جعلْتُ هامَتَهُ لسَيْفي غِمْداً. وإلا فرَمى اللهُ جَفْني بالعمَشِ. وخدّي بالنّمَشِ. وطُرّتي بالجلَحِ. وطَلْعي بالبَلَحِ. ووَرْدَتي بالبَهارِ. ومِسْكَتي بالبُخارِ. وبَدْري بالمُحاقِ. وفِضّتي بالاحْتِراقِ. وشُعاعي بالإظْلامِ. ودَواتي بالأقْلامِ. فقالَ الغُلامُ: الاصْطِلاءَ بالبَليّةِ. ولا الإيلاءَ بهذِه الألِيّةِ. والانقِيادَ للقَوَدِ. ولا الحَلِفَ بما لمْ يحلِفْ بهِ أحدٌ. وأبى الشيخُ إلا تجْريعَهُ اليَمينَ التي اخترَعَها. وأمْقَرَ

لهُ جُرَعَها. ولم يزَلِ التّلاحي بينَهُما يستَعِرُ. ومَحجّةُ التّراضي تعِرُ. والغُلامُ في ضِمْنِ تأبّيهِ. يخْلُبُ قلْبَ الوالي بتلوّيهِ. ويُطْمِعُهُ في أنْ يلبّيهِ. الى أن رانَ هَواهُ على قلْبِهِ. وألَبّ بلُبّهِ. فسوّلَ لهُ الوجدُ الذي تيّمَهُ. والطّمَعُ الذي توَهّمَهُ. أنْ يُخلّصَ الغُلامَ ويستخلِصَهُ. وأن يُنقِذَهُ من حِبالَةِ الشيخِ ثمّ يقتَنِصَهُ. فقال للشيخِ: هلْ لكَ فيما هوَ ألْيَقُ بالأقْوى. وأقرَبُ للتّقْوى؟ فقالَ: إلمَ تُشيرُ لأقْتَفيهِ. ولا أقِفُ لكَ فيهِ. فقال: أرى أنْ تُقصِرَ عنِ القِيلِ والقالِ. وتقتَصِرَ منهُ على مئَةِ مِثْقالٍ. لأتحمّلَ منْها بعْضاً. وأجْتَبي الباقيَ لكَ عُرْضاً. فقالَ الشيخُ: ما مِني خِلافٌ. فلا يكُنْ لوعدِكَ إخْلافٌ. فنقَدَهُ الوالي عِشرينَ. ووزّعَ على وزَعَتِه تكْمِلَةَ خمْسينَ. ورقّ ثوْبُ الأصيلِ. وانقطَعَ لأجْلِهِ صوْبُ التّحصيلِ. فقالَ: خُذْ ما

راجَ. ودَعْ عنْكَ اللّجاجَ. وعليّ في غدٍ أنْ أتوصّلَ. الى أن ينِضّ لكَ الباقي ويتحصّلَ. فقال الشيخُ: أقْبَلُ منْكَ على أنْ ألازمَهُ ليْلَتي. ويرْعاهُ إنْسانُ مُقلَتي. حتى إذا أعْفى بعْدَ إسْفارِ الصّبحِ. بِما بَقيَ منْ مالِ الصّلْحِ. تخلّصَتْ قائِبَةٌ من قُوبٍ. وبَرِئَ بَراءةَ الذّئْبِ منْ دمِ ابنِ يعْقوبَ. فقالَ لهُ الوالي: ما أُراكَ سفمْتَ شَططاً. ولا رُمْتَ فرَطاً. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُ حُجَجَ الشيخِ كالحُجَجِ السُرَيجيّةِ. علِمتُ أنه علَمُ السَّروجيّةِ. فلبِثْتُ الى أن زهَرَتْ نُجوم الظّلام. وانتَثَرتْ عُقودُ الزّحامِ. ثمّ قصَدْتُ فِناء الوالي. فإذا الشيخُ للفتى كالي. فنَشَدْتُه اللهَ أهُوَ أبو زيدٍ؟ فقال: أيْ ومُحِلّ الصّيدِ. فقُلتُ: مَنْ هذا الغُلامُ. الذي هفَتْ لهُ الأحْلامُ؟ قال: هوَ في النسبِ

فرْخي. وفي المكتَسَبِ فخّي! قلت: فهَلاّ اكتفَيْتَ بمَحاسِنِ فِطرَتِه. وكفَيتَ الواليَ الافتِتان بطُرّتِه؟ فقال: لوْ لمْ تُبرِزْ جبْهَتُهُ السّينَ. لَما قنْفَشْتُ الخمسينَ. ثمّ قال: بِتِ الليلَةَ عِندي لنُطْفئ نارَ الجَوى. ونُديلَ الهَوى. من النّوى. فقدْ أجْمَعْتُ على أنْ أنْسَلّ بسُحرَةٍ. وأُصْليَ قلبَ الوالي نارَ حسْرَةٍ! قال: فقَضَيتُ الليلةَ معَهُ في سمَرٍ. آنَقَ منْ حَديقَةِ زهَرٍ. وخَميلةِ شجَرٍ. حتى إذا لألأ الأفُقَ ذنَبُ السِّرْحانِ. وآنَ انبِلاجُ الفجْرِ وحانَ. ركِبَ متْنَ الطّريقِ. وأذاقَ الوالي عذابَ الحريقِ. وسلّمَ إليّ ساعَة الفِراقِ. رُقعَةً مُحكمَةَ الإلْصاقِ. وقال: ادْفَعْها الى الوالي إذا سُلِبَ القَرار. وتحقّقَ منّا الفِرارَ. ففضَضْتُها فِعْلَ المتملّسِ. منْ مِثلِ صحيفَةِ المتلمّسِ. فإذا فيها مكتوبٌ: مكتَسَبِ فخّي! قلت: فهَلاّ اكتفَيْتَ بمَحاسِنِ فِطرَتِه. وكفَيتَ الواليَ الافتِتان بطُرّتِه؟ فقال: لوْ لمْ تُبرِزْ جبْهَتُهُ السّينَ. لَما قنْفَشْتُ الخمسينَ. ثمّ قال: بِتِ الليلَةَ عِندي لنُطْفئ نارَ الجَوى. ونُديلَ الهَوى. من النّوى. فقدْ أجْمَعْتُ على أنْ أنْسَلّ بسُحرَةٍ. وأُصْليَ قلبَ الوالي نارَ حسْرَةٍ! قال: فقَضَيتُ الليلةَ معَهُ في سمَرٍ. آنَقَ منْ حَديقَةِ زهَرٍ. وخَميلةِ شجَرٍ. حتى إذا لألأ الأفُقَ ذنَبُ السِّرْحانِ. وآنَ انبِلاجُ الفجْرِ وحانَ. ركِبَ متْنَ الطّريقِ. وأذاقَ الوالي عذابَ الحريقِ. وسلّمَ إليّ ساعَة الفِراقِ. رُقعَةً مُحكمَةَ الإلْصاقِ. وقال: ادْفَعْها الى الوالي إذا سُلِبَ القَرار. وتحقّقَ منّا الفِرارَ. ففضَضْتُها فِعْلَ المتملّسِ. منْ مِثلِ صحيفَةِ المتلمّسِ. فإذا

فيها مكتوبٌ: قُلْ لوالٍ غادَرْتُه بعْدَ بيْني ... سادِماً نادِماً يعَضّ اليَدَيْنِ سلَبَ الشيخُ مالهُ وفتاهُ ... لُبَّهُ فاصْطَلى لَظى حسْرَتَيْنِ جادَ بالعينِ حينَ أعمى هواهُ ... عينَهُ فانْثَنى بِلا عينَينِ خفِّضِ الحُزنَ يا مُعَنّى فما يُجْ ... دي طِلابُ الآثارِ من بعدِ عَينِ ولَئِنْ جَلّ ما عَراكَ كما ج ... لّ لدى المُسلِمينَ رُزْءُ الحُسينِ فقَدِ اعتَضْتَ منهُ فَهماً وحزْماً ... واللّبيبُ الأريبُ يبْغيَ ذَينِ فاعصِ من بعدها المَطامعَ واعلَمْ ... أنّ صيْدَ الظّباء ليس بهَينِ لا ولا كُلّ طائِرٍ يلِجُ الفَخّ ... ولوْ كانَ مُحدَقاً باللُجَينِ ولَكَمْ مَنْ سعى ليَصْطادَ فاصْطي ... دَ ولك يلْقَ غيرَ خُفّي حُنينِ

المقامة الساوية

فتبصّرْ ولا تشِمْ كلّ برْقٍ ... رُبّ برْقٍ فيهِ صواعِقُ حَينِ واغضُضِ الطّرْفَ تسترحْ من غرامٍ ... تكتَسي فيهِ ثوْبَ ذُلٍ وشَينِ فبَلاءُ الفتى اتّباعُ هوَى النّف ... سِ وبذْرُ الهَوى طُموحُ العينِ قال الرّاوي: فمزّقتُ رُقعتَهُ شذَرَ مذَرَ. ولمْ أُبَلْ أعَذَلَ أم عذَرَ. المقامة السّاويّة حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: آنَسْتُ منْ قلْبي القَساوَةَ. حينَ حللْتُ ساوَةَ. فأخذْتُ بالخبَرِ المأثورِ. في مُداواتِها بزِيارَةِ القُبورِ. فلمّا صِرْتُ الى محلّةِ الأمْواتِ. وكِفاتِ الرُفاتِ.

رأيتُ جمْعاً على قبْرٍ يُحْفَرُ. ومجْنوزٍ يُقبَرُ. فانْحَزْتُ إليْهِمْ متفكّراً في المآلِ. متذكّراً مَنْ درجَ منَ الآلِ. فلما ألحَدوا المَيْتَ. وفاتَ قوْلُ لَيْتَ. أشرفَ شيخٌ من رُباوَةٍ. متخصّراً بهِراوَةٍ. وقدْ لفّعَ وجهَه برِدائِهِ. ونكّر شخْصَهُ لدَهائِهِ. فقال: لمِثْلِ هذا فلْيَعْمَلِ العامِلونَ. فادّكِروا أيّها الغافِلونَ. وشمِّروا أيّها المقَصّرونَ. وأحْسِنوا النّظَرَ أيه المتبصّرونَ! ما لكُمْ لا يَحْزُنُكمْ دفْنُ الأتْرابِ. ولا يهولُكُمْ هيْلُ التّرابِ؟ ولا تعْبأونَ بنَوازِلِ الأحْداثِ. ولا تستَعِدّونَ لنُزولِ الأجْداثِ؟ ولا تستعْبِرونَ لعَينٍ تدْمَعُ. ولا تعتَبرونَ بنَعْيٍ يُسمَعُ؟ ولا ترْتاعونَ لإلْفٍ

يُفقَدُ. ولا تلْتاعونَ لمناحَةٍ تُعْقَدُ؟ يشيِّعُ أحدُكُمْ نعْشَ الميْتِ. وقلْبُهُ تِلْقاءَ البيتِ. ويشهَدُ مُواراةَ نسيبِه. وفِكْرُهُ في استِخْلاصِ نصيبِه. ويُخَلّي بينَ وَدودِه ودُودِه. ثمّ يخْلو بمِزْمارِهِ وعودِهِ. طالَما أسِيتُمْ على انْثِلامِ الحَبّةِ. وتناسَيتُمُ اخْتِرامَ الأحبّةِ. واستَكَنْتُمْ لاعتِراضِ العُسرةِ. واستَهَنْتُمْ بانقِراضِ الأُسرَةِ. وضحِكْتُمْ عندَ الدّفْنِ. ولا ضحِكَكُمْ ساعةَ الزَّفْنِ. وتبخْتَرْتُمْ خلفَ الجنائِزِ. ولا تبخْتُرَكُمْ يومَ قبْضِ الجوائِزِ. وأعْرَضْتُمْ عنْ تعْديدِ النّوادِبِ. الى إعْدادِ المآدِبِ. وعنْ تحرُّقِ الثّواكِلِ. الى التّأنُّقِ في المآكِلِ. لا تُبالونَ بمَنْ هوَ بالٍ. ولا تُخْطِرونَ ذِكرَ الموتِ ببالٍ. حتى كأنّكُمْ قد علِقتُمْ منَ الحِمامِ. بذِمامٍ. أو حصَلْتُمْ منَ الزّمانِ.

على أمانٍ. أو وثِقْتُمْ بسلامةِ الذّاتِ. أو تحقّقْتُمْ مُسالَمَة هادِمِ اللّذّاتِ. كَلاّ ساء ما تتوهّمونَ. ثمّ كلاّ سوفَ تعلَمونَ! ثمّ أنشدَ: أيا مَن يدّعي الفَهْمْ ... الى كمْ يا أخا الوَهْمْ تُعبّي الذّنْبَ والذمّ ... وتُخْطي الخَطأ الجَمّ أمَا بانَ لكَ العيْبْ ... أمَا أنْذرَكَ الشّيبْ وما في نُصحِهِ ريْبْ ... ولا سمْعُكَ قدْ صمّ أمَا نادَى بكَ الموتْ ... أمَا أسْمَعَك الصّوْتْ أما تخشَى من الفَوْتْ ... فتَحْتاطَ وتهتمْ فكمْ تسدَرُ في السهْوْ ... وتختالُ من الزهْوْ وتنْصَبُّ الى اللهوْ ... كأنّ الموتَ ما عَمّ وحَتّام تَجافيكْ ... وإبْطاءُ تلافيكْ طِباعاً جمْعتْ فيكْ ... عُيوباً شمْلُها انْضَمّ إذا أسخَطْتَ موْلاكْ ... فَما تقْلَقُ منْ ذاكْ وإنْ أخفَقَ مسعاكْ ... تلظّيتَ منَ الهمّ

وإنْ لاحَ لكَ النّقشْ ... منَ الأصفَرِ تهتَشّ وإن مرّ بك النّعشْ ... تغامَمْتَ ولا غمّ تُعاصي النّاصِحَ البَرّ ... وتعْتاصُ وتَزْوَرّ وتنْقادُ لمَنْ غَرّ ... ومنْ مانَ ومنْ نَمّ وتسعى في هَوى النّفسْ ... وتحْتالُ على الفَلْسْ وتنسَى ظُلمةَ الرّمسْ ... ولا تَذكُرُ ما ثَمّ ولوْ لاحظَكَ الحظّ ... لما طاحَ بكَ اللّحْظْ ولا كُنتَ إذا الوَعظْ ... جَلا الأحزانَ تغْتَمّ ستُذْري الدّمَ لا الدّمْعْ ... إذا عايَنْتَ لا جمْعْ يَقي في عَرصَةِ الجمعْ ... ولا خالَ ولا عمّ

كأني بكَ تنحطّ ... الى اللحْدِ وتنْغطّ وقد أسلمَك الرّهطْ ... الى أضيَقَ منْ سمّ هُناك الجسمُ ممدودْ ... ليستأكِلَهُ الدّودْ الى أن ينخَرَ العودْ ... ويُمسي العظمُ قد رمّ ومنْ بعْدُ فلا بُدّ ... منَ العرْضِ إذا اعتُدّ صِراطٌ جَسْرُهُ مُدّ ... على النارِ لمَنْ أمّ فكمْ من مُرشدٍ ضلّ ... ومنْ ذي عِزةٍ ذَلّ وكم من عالِمٍ زلّ ... وقال الخطْبُ قد طمّ فبادِرْ أيّها الغُمْرْ ... لِما يحْلو بهِ المُرّ فقد كادَ يهي العُمرْ ... وما أقلعْتَ عن ذمّ ولا ترْكَنْ الى الدهرْ ... وإنْ لانَ وإن سرّ فتُلْفى كمنْ اغتَرّ ... بأفعى تنفُثُ السمّ

وخفّضْ منْ تراقيكْ ... فإنّ الموتَ لاقِيكْ وسارٍ في تراقيكْ ... وما ينكُلُ إنْ همّ وجانِبْ صعَرَ الخدّ ... إذا ساعدَكَ الجدّ وزُمّ اللفْظَ إنْ ندّ ... فَما أسعَدَ مَنْ زمّ ونفِّسْ عن أخي البثّ ... وصدّقْهُ إذا نثّ ورُمّ العمَلَ الرثّ ... فقد أفلحَ مَنْ رمّ ورِشْ مَن ريشُهُ انحصّ ... بما عمّ وما خصّ ولا تأسَ على النّقصْ ... ولا تحرِصْ على اللَّمّ وعادِ الخُلُقَ الرّذْلْ ... وعوّدْ كفّكَ البذْلْ ولا تستمِعِ العذلْ ... ونزّهْها عنِ الضمّ

وزوّدْ نفسَكَ الخيرْ ... ودعْ ما يُعقِبُ الضّيرْ وهيّئ مركبَ السّيرْ ... وخَفْ منْ لُجّةِ اليمّ بِذا أُوصيتُ يا صاحْ ... وقد بُحتُ كمَن باحْ فطوبى لفتًى راحْ ... بآدابيَ يأتَمّ ثمّ حسرَ رُدنَهُ عن ساعِدٍ شديدِ الأسْرِ. قد شدّ علَيهِ جبائِرَ المكْرِ لا الكسْرِ. متعرّضاً للاستِماحةِ. في مِعرَضِ الوقاحَةِ. فاختلَبَ بهِ أولئِكَ المَلا. حتى أتْرَعَ كُمّهُ ومَلا. ثمّ انحدَرَ من الرّبوةِ. جذِلاً بالحَبوةِ. قال الراوي: فجاذَبْتُه منْ وَرائِهِ. حاشيَةَ رِدائِهِ. فالتَفَتَ إليّ مُستسلِماً. وواجهَني مُسلِّماً. فإذا هوَ

المقامة الدمشقية

شيخُنا أبو زيدٍ بعينِه. ومَينِهِ. فقلتُ له: الى كمْ يا أبا زيدْ ... أفانينُكَ في الكيدْ ليَنحاشَ لكَ الصيدْ ... ولا تعْبا بمَنْ ذمّ فأجابَ من غيرِ استِحْياء. ولا ارْتِياء. وقال: تبصّرْ ودعِ اللوْمْ ... وقُلْ لي هل تَرى اليومْ فتًى لا يقمُرُ القومْ ... متى ما دَستُهُ تمّ فقلتُ لهُ: بُعداً لك يا شيخَ النّارِ. وزامِلَةَ العارِ! فَما مَثلُكَ في طُلاوَةِ علانِيَتِك. وخُبثِ نيّتِك. إلا مثَلُ رَوْثٍ مفضَّضٍ. أو كَنيفٍ مبيَّضٍ. ثمّ تفرّقْنا فانطلَقْتُ ذاتَ اليَمين وانطلقَ ذات الشِّمالِ. وناوَحْتُ مهَبّ الجَنوبِ وناوحَ مهبّ الشَّمالِ. المقامة الدّمشقيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: شخصْتُ منَ العِراقِ الى

الغوطَةِ. وأنا ذو جُرْدٍ مربوطةٍ. وجِدَةٍ مغْبوطَةٍ. يُلْهِيني خُلوُّ الذَّرْعِ. ويزْدَهيني حُفولُ الضّرْعِ. فلمّا بلغْتُها بعدَ شقّ النفْسِ. وإنْضاء العنْسِ. ألفَيتُها كما تصِفُها الألسُنُ. وفيها ما تشتَهي الأنفُسُ وتلَذّ الأعيُنُ. فشكرْتُ يدَ النّوى. وجرَيْتُ طلَقاً مع الهَوى. وطفِقْتُ أفُضّ خُتومَ الشّهَواتِ. وأجْتَني قُطوفَ اللّذّاتِ. الى أن شرعَ سفرٌ في الإعْراقِ. وقدِ استفَقْتُ منَ الإغْراقِ. فعادَني عيدٌ منْ تَذْكارِ الوطَنِ. والحَنينِ الى العطَنِ. فقوّضْتُ خِيامَ الغَيبَةِ. وأسرَجْتُ جَوادَ الأوبَةِ.

ولمّا تأهّبَتِ الرّفاقُ. واستتبّ الاتّفاقُ. ألَحْنا منَ المسيرِ. دونَ استِصْحابِ الخَفيرِ. فرُدْناهُ منْ كلّ قَبيلة. وأعْمَلنا في تحصيلِه ألفَ حيلةٍ. فأعْوَزَ وِجْدانُه في الأحياء، حتى خلنا أنه ليس من الأحياء مخارت لعوزه عُزومُ السيّارَةِ. وانْتَدَوْا ببابِ جَيْرونَ للاستِشارَةِ. فما زالوا بينَ عَقدٍ وحلٍّ. وشزَرٍ وسحْلٍ. الى أن نفِدَ التّناجي. وقنَطَ الرّاجي. وكان حِذَتَهُمْ شخْصٌ مِيسَمُهُ ميسَمُ الشبّانِ. ولَبوسُهُ لَبوسُ الرّهبانِ. وبيَدِه سُبْحَةُ النّسْوانِ. وفي عينِهِ ترجمَةُ النّشوانِ. وقد قيّدَ لحظَهُ بالجَمْعِ. وأرهَفَ أذُنَهُ لاستِراقِ السّمْعِ. فلمّا أنى انْكِفاؤهُمْ. وقد برحَ لهُ خَفاؤهُمْ. قال لهُمْ: يا قومُ ليُفرِخْ كرْبُكُمْ. وليَأمَنْ سِرْبُكُمْ.

فسأخْفُرُكُمْ بما يسْرو روْعَكُمْ. ويبدو طوعَكُمْ. قال الرّاوي: فاستَطْلَعنا منهُ طِلْعَ الخِفارَةِ. وأسْنَينا لهُ الجَعالَةَ عنِ السِّفارةِ. فزعَم أنّها كلِماتٌ لُقّنَها في المَنامِ. ليحتَرِسَ بها منْ كيْدِ الأنامِ. فجعَلَ بعْضُنا يومِضُ الى بعْضٍ. ويقلّبُ طرْفَيْهِ بينَ لحْظٍ وغضٍّ. وتبيّنَ لهُ أنّا استَضْعَفنا الخبَرَ. واستَشْعَرْنا الخَوَرَ. فقال: ما بالُكُمُ اتّخذْتُمْ جِدّي عبثاً. وجعلتُمْ تِبري خَبَثاً؟ ولَطالَما واللهِ جُبْتُ مَخاوِفَ الأقْطارِ. وولجْتُ مَقاحِمَ الأخْطارِ. فغَنيتُ بها عنْ مُصاحبَةِ خَفيرٍ. واستِصْحابِ جَفيرٍ. ثمّ إني سأنْفي ما رابَكُمْ. وأستَسِلُّ الحذَرَ الذي نابَكُمْ. بأنْ أُوافِقَكُمْ في البَداوةِ. وأرافِقَكُمْ في السّماوَةِ. فإنْ صدقَكُمْ وعْدي. فأجِدّوا سعْدي. وأسْعِدوا جِدّي. وإنْ كذبَكمْ فَمي. فمزّقوا أدَمي. وأرِيقوا دَمي. قال

الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فأُلْهِمْنا تصْديقَ رؤياهُ. وتحْقيقَ ما رَواهُ. فنزَعْنا عن مُجادَلَتِه. واستَهَمْنا على مُعادلَتِه. وفصَمْنا بقوْلِهِ عُرى الرّبائِثِ. وألغَيْنا اتّقاءَ العابِثِ والعائِثِ. ولمّا عُكِمَتِ الرّحالُ. وأزِفَ التّرْحالُ. استَنزَلْنا كلِماتِهِ الرّاقيةَ. لنجْعَلَها الواقيَةَ الباقيَةَ. فقال: ليقْرأ كُلٌ منكُمْ أمَّ القُرآنِ. كلّما أظَلَّ الملَوانِ. ثمّ ليَقُلْ بلِسانٍ خاضعٍ. وصوْتٍ خاشِعٍ: اللهُمّ يا مُحْيي الرُفاتِ. ويا دافِعَ الآفاتِ. ويا واقيَ المخافاتِ. ويا كريمَ المُكافاةِ. ويا موئِلَ العُفاةِ. ويا وليّ العفْوِ والمُعافاةِ. صلّ على محمّدٍ خاتِمِ أنبِيائِكَ. ومبلِّغ أنبائِكَ. وعلى مصابيحِ أسرتِه. ومفاتيحِ نُصرتِه. وأعِذْني منْ نزَغاتِ الشياطينِ. ونَزواتِ السّلاطينِ. وإعْناتِ الباغينَ. ومُعاناةِ الطّاغينَ. ومُعاداةِ العادينَ. وعُدْوانِ

المُعادينَ. وغلَبِ الغالِبينَ. وسلَبِ السّالِبينَ. وحِيَلِ المُحْتالينَ. وغِيَلِ المُغْتالينَ. وأجِرْني اللهُمّ منْ جَوْرِ المُجاوِرينَ. ومُجاوَرَةِ الجائِرينَ. وكُفّ عني أكُفّ الضّائِمِينَ. وأخرِجْني منْ ظُلُماتِ الظّالمينَ. وأدْخِلْني برحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحينَ. اللهُمّ حُطْني في تُرْبَتي. وغُرْبَتي. وغيْبَتي. وأوبَتي. ونُجْعَتي. ورجْعَتي. وتصرُّفي. ومُنصَرَفي. وتقلّبي. ومُنقلَبي. واحْفَظْني في نفْسي. ونفائِسي. وعِرْضي. وعرَضي. وعدَدي. وعُدَدي. وسكَني. ومسْكَني. وحَوْلي. وحالي. وملي. ومآلي. ولا تُلحِقْ بي تغييراً. ولا تُسلّطْ عليّ مُغيراً. واجْعَلْ لي منْ لدُنْكَ سُلطاناً نَصيراً. اللهُمّ احرُسْني بعينِك.

وعونِكَ. واخْصُصْني بأمنِكَ. ومنّكَ. وتولّني باختِيارِكَ وخيرِكَ. ولا تكِلْني الى كِلاءَةِ غيرِك. وهَبْ لي عافيَةً غيرَ عافِيَةٍ. وارْزُقْني رَفاهيَةً غيرَ واهيَةٍ. واكْفِني مَخاشيَ اللأوَاء. واكْنُفْني بغواشي الآلاء. ولا تُظْفِرْ بي أظفارَ الأعْداء. إنّك سميعُ الدُعاء. ثمّ أطرَقَ لا يُديرُ لحْظاً. ولا يُحيرُ لفْظاً. حتى قُلْنا: قد أبلَسَتْهُ خشيةٌ. أو أخرَسَتْهُ غشيَةٌ. ثمّ أقنعَ رأسَهُ. وصعّدَ أنفاسَهُ. وقال: أُقسِمُ بالسّماء ذاتِ الأبراجِ. والأرضِ ذاتِ الفِجاجِ. والماءِ الثَّجّاجِ. والسّراجِ الوهّاجِ. والبحْرِ العجّاجِ. والهواءِ والعَجاجِ. إنّها لَمِنْ أيمَنِ العُوَذِ. وأغْنى عنكُمْ منْ لابِسي الخُوَذِ. مَنْ درَسها عندَ ابتِسامِ الفلَقِ. لم يُشفِقْ منْ خطْبٍ الى الشّفَقِ. ومنْ ناجَى بها طَليعَةَ الغسَقِ. أمِنَ ليلَتَهُ منَ السّرَقِ. قال: فتلقّنّاها حتى أتْقَنّاها. وتدارَسْناها لكيْ لا ننْساها. ثمّ سِرْنا نُزْجي الحَمولاتِ. بالدّعَواتِ لا بالحُداةِ. ونحْمي الحُمولاتِ. بالكَلِماتِ لا بالكُماةِ. وصاحِبُنا يتعَهّدُنا بالعَشيّ والغداةِ. ولا يستَنْجِزُ منّا العِداتِ. حتى إذا عايَنّا أطْلالَ عانَةَ. قال لنا: الإعانَةَ الإعانةَ! فأحْضَرْناهُ المَعْلومَ والمكتومَ. وأرَيْناهُ المعْكومَ والمخْتومَ. وقُلْنا لهُ: اقْضِ ما أنتَ قاضٍ. فما تجِدُ فينا غيرَ راضٍ. فما استَخفّهُ سِوى الخِفّ والزَّينِ. ولا حَلِيَ بعينِهِ غيرُ الحَلْيِ والعَينِ. فاحتَمَل منهُما وِقْرَهُ. وناءَ بما يسُدّ فَقْرَهُ. ثمّ خالَسَنا مُخالَسَةَ الطّرّارِ. وانْصلَتَ منّا انصِلاتَ الفَرّارِ. فأوحَشَنا فِراقُهُ. وأدْهَشَنا امتِراقُهُ. ولمْ نزَلْ ننْشُدُهُ بكلّ نادٍ. ونستَخْبِرُ عنهُ كلَّ مُغوٍ وهادٍ. الى أن قيل: إنّه مُذْ دخَل عانَةَ. ما زايلَ الحانةَ. فأغْراني خُبْثُ هذا القولِ بسَبكِهِ. والانسِلاكِ فيما لستُ منْ سِلْكِه. فادّلَجْتُ الى الدّسكَرَةِ. في هيئةٍ منكّرَةٍ. فإذا الشيخُ في حُلّةٍ ممصّرَةٍ. بينَ دِنانٍ ومِعصَرَةٍ. وحولَهُ سُقاةٌ تبهَرُ. وشُموعٌ تزْهَرُ وآسٌ وعبْهَرٌ. ومِزْمارٌ ومِزْهَرٌ. وهوَ تارةً يستَبْزِلُ الدِّنانَ. وطَوْراً يستَنطِقُ العِيدانَ. ودَفعةً يستنشِقُ الرَّيْحانَ. وأخرَى يغازِلُ الغِزْلانَ. فلمّا عثرْتُ على لَبْسِهِ. وتفاوُتِ يومِهِ منْ أمْسِه. قلتُ: أوْلى لكَ يا ملْعونُ. أأُنسيتَ يومَ جَيْرونَ؟ فضحِكَ مُستَغرِباً. ثم أنشدَ مُطَرِّباً: بْ لي عافيَةً غيرَ عافِيَةٍ. وارْزُقْني رَفاهيَةً غيرَ واهيَةٍ. واكْفِني مَخاشيَ اللأوَاء. واكْنُفْني بغواشي الآلاء. ولا تُظْفِرْ بي أظفارَ الأعْداء. إنّك سميعُ الدُعاء. ثمّ أطرَقَ لا يُديرُ لحْظاً. ولا يُحيرُ لفْظاً. حتى قُلْنا: قد أبلَسَتْهُ خشيةٌ. أو أخرَسَتْهُ غشيَةٌ. ثمّ أقنعَ رأسَهُ. وصعّدَ أنفاسَهُ. وقال: أُقسِمُ بالسّماء ذاتِ الأبراجِ. والأرضِ ذاتِ الفِجاجِ. والماءِ الثَّجّاجِ. والسّراجِ الوهّاجِ. والبحْرِ العجّاجِ. والهواءِ والعَجاجِ. إنّها لَمِنْ أيمَنِ العُوَذِ. وأغْنى عنكُمْ منْ لابِسي الخُوَذِ. مَنْ

درَسها عندَ ابتِسامِ الفلَقِ. لم يُشفِقْ منْ خطْبٍ الى الشّفَقِ. ومنْ ناجَى بها طَليعَةَ الغسَقِ. أمِنَ ليلَتَهُ منَ السّرَقِ. قال: فتلقّنّاها حتى أتْقَنّاها. وتدارَسْناها لكيْ لا ننْساها. ثمّ سِرْنا نُزْجي الحَمولاتِ. بالدّعَواتِ لا بالحُداةِ. ونحْمي الحُمولاتِ. بالكَلِماتِ لا بالكُماةِ. وصاحِبُنا يتعَهّدُنا بالعَشيّ والغداةِ. ولا يستَنْجِزُ منّا العِداتِ. حتى إذا عايَنّا أطْلالَ عانَةَ. قال لنا: الإعانَةَ الإعانةَ! فأحْضَرْناهُ المَعْلومَ والمكتومَ. وأرَيْناهُ المعْكومَ والمخْتومَ. وقُلْنا لهُ: اقْضِ ما أنتَ قاضٍ. فما تجِدُ فينا غيرَ راضٍ. فما استَخفّهُ سِوى الخِفّ والزَّينِ. ولا حَلِيَ بعينِهِ غيرُ الحَلْيِ والعَينِ. فاحتَمَل منهُما وِقْرَهُ. وناءَ بما يسُدّ فَقْرَهُ. ثمّ خالَسَنا مُخالَسَةَ الطّرّارِ.

وانْصلَتَ منّا انصِلاتَ الفَرّارِ. فأوحَشَنا فِراقُهُ. وأدْهَشَنا امتِراقُهُ. ولمْ نزَلْ ننْشُدُهُ بكلّ نادٍ. ونستَخْبِرُ عنهُ كلَّ مُغوٍ وهادٍ. الى أن قيل: إنّه مُذْ دخَل عانَةَ. ما زايلَ الحانةَ. فأغْراني خُبْثُ هذا القولِ بسَبكِهِ. والانسِلاكِ فيما لستُ منْ سِلْكِه. فادّلَجْتُ الى الدّسكَرَةِ. في هيئةٍ منكّرَةٍ. فإذا الشيخُ في حُلّةٍ ممصّرَةٍ. بينَ دِنانٍ ومِعصَرَةٍ. وحولَهُ سُقاةٌ تبهَرُ. وشُموعٌ تزْهَرُ وآسٌ وعبْهَرٌ. ومِزْمارٌ ومِزْهَرٌ. وهوَ تارةً يستَبْزِلُ الدِّنانَ. وطَوْراً يستَنطِقُ العِيدانَ. ودَفعةً يستنشِقُ الرَّيْحانَ. وأخرَى يغازِلُ الغِزْلانَ. فلمّا عثرْتُ على لَبْسِهِ. وتفاوُتِ يومِهِ منْ

أمْسِه. قلتُ: أوْلى لكَ يا ملْعونُ. أأُنسيتَ يومَ جَيْرونَ؟ فضحِكَ مُستَغرِباً. ثم أنشدَ مُطَرِّباً: لزِمتُ السِّفارَ وجُبتُ القِفارَ ... وعِفْتُ النِّفارَ لأجْني الفرَحْ وخُضتُ السّيولَ ورُضتُ الخيولَ ... لجَرّ ذُيولِ الصّبى والمَرَحْ ومِطتُ الوَقارَ وبعْتُ العَقارَ ... لحَسْوِ العُقارِ ورشْفِ القدَحْ ولولا الطِّماحُ الى شُربِ راحٍ ... لما كانَ باحَ فَمي بالمُلَحْ ولا كان ساقَ دَهائي الرّفاقَ ... لأرضِ العِراقِ بحمْلِ السُّبَحْ فلا تغضَبَنّ ولا تصخَبَنّ ... ولا تعتُبَنّ فعُذْري وضَحْ ولا تعجَبَنّ لشيْخٍ أبَنّ ... بمغْنًى أغَنّ ودَنٍّ طفَحْ

فإنّ المُدامَ تُقوّي العِظامَ ... وتَشْفي السَّقامَ وتنْفي التّرَحْ وأصْفى السّرورِ إذا ما الوَقورُ ... أماطَ سُتورَ الحَيا واطّرَحْ وأحْلى الغَرام إذا المُستهامَ ... أزالَ اكتِتامَ الهَوى وافتضَحْ فبُحْ بهَواكَ وبرّدْ حَشاكَ ... فزَنْدُ أساكَ بهِ قدْ قدَحْ وداوِ الكُلومَ وسلِّ الهُمومَ ... ببِنْتِ الكُروم التي تُقترَحْ وخُصّ الغَبوقَ بساقٍ يسوقُ ... بَلاءَ المَشوقِ إذا ما طمَحْ وشادٍ يُشيدُ بصوتٍ تَميدُ ... جِبالُ الحديدِ لهُ إنْ صدَحْ وعاصِ النّصيحَ الذي لا يُبيحُ ... وِصالَ المليحِ إذا ما سمَحْ

وجُلْ في المِحالِ ولوْ بالمُحالِ ... ودعْ ما يُقالُ وخُذْ ما صلَحْ وفارِقْ أباكَ إذا ما أباكَ ... ومُدَّ الشّباكَ وصِدْ مَنْ سنَحْ وصافِ الخَليلَ ونافِ البَخيلَ ... وأوْلِ الجَميلَ ووالِ المِنَحْ ولُذْ بالمَتابِ أمام الذّهابِ ... فمَنْ دقّ بابَ كريمٍ فتَحْ فقلتُ لهُ: بَخٍ بخٍ لرِوايتِكَ. وأُفٍّ وتُفٍّ لغَوايَتِكَ! فباللهِ منْ أيّ الأعياصِ عِيصُكَ. فقدْ أعضَلَني عَويصُكَ؟ فقال: ما أحبُّ أنْ أُفصحَ عنّي. ولكِنْ سأُكَنّي: أنا أُطروفَةُ الزّما ... نِ وأعجوبَةُ الأُمَمْ وأنا الحُوَّلُ الذي احْ ... تالَ في العُرْبِ والعجَمْ غيرَ أنّي ابنُ حاجَةٍ ... هاضَهُ الدّهرُ فاهتضَمْ

وأبو صِبيَةٍ بدَوْا ... مثلَ لحْمٍ على وضَمْ وأخو العَيلَةِ المُعي ... لُ إذا احْتالَ لمْ يُلَمْ قال الرّاوي: فعرفتُ حينَئِذٍ أنّه أبو زيدٍ ذو الرّيبِ والعيْبِ. ومُسوِّدُ وجْهِ الشّيْبِ. وساءني عِظَمُ تمرّدِهِ. وقُبْحُ تورّدِهِ. فقلتُ لهُ بلِسانِ الأنَفَةِ. وإدْلالِ المعرِفَةِ: ألمْ يأنِ لكَ يا شيخَنا. أنْ تُقلِعَ عنِ الخَنا؟ فتضَجّرَ وزمْجَرَ. وتنكّرَ وفكّرَ. ثمّ قال: إنّها ليلَةُ مِراحٍ لا تَلاحٍ. ونُهْزَةُ شُرْبِ راحٍ لا كِفاحٍ. فعَدِّ عمّا بَدا. الى أنْ نتَلاقَى غَدا. ففارَقْتُه فرَقاً منْ عربَدَتِه. لا تعلُّقاً بعِدّتِه. وبِتُّ ليلَتي لابِساً حِدادَ النّدَمِ. على نقْلي خُطَى القدَمِ. الى ابنَةِ الكرْمِ لا الكرَمِ. وعاهدْتُ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى أن لا أحضُر بعدَها حانَةَ

المقامة البغدادية

نَبّاذٍ. ولو أُعطيتُ مُلكَ بغداذٍ. وأنْ لا أشهدَ معصَرَةَ الشّرابِ. ولو رُدّ عليّ عصْرُ الشّبابِ. ثمّ إنّنا رحّلْنا العِيسَ. وقتَ التّغليسِ. وخلّيْنا بينَ الشيّخَينِ أبي زيدٍ وإبليسَ. المقامة البغدادية رَوى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: ندَوْتُ بضَواحي الزّوْراء. معَ مشيخَةٍ منَ الشّعراء. لا يعْلَقُ لهُمْ مُبارٍ بغُبارٍ. ولا يجْري معهُمْ مُمارٍ في مِضْمارٍ. فأفَضْنا في حديثٍ يفضَحُ الأزهارَ. الى أنْ نصَفْنا النّهارَ. فلمّا غاضَ دَرُّ الأفْكارِ. وصبَتِ النّفوسُ الى الأوْكارِ. لمحْنا عجوزاً تُقبِلُ منَ البُعْدِ. وتُحضِرُ إحْضارَ الجُرْدِ. وقدِ استَتْلَتْ صِبيَةً أنحَفَ منَ المَغازِلِ. وأضعَفَ منَ الجَوازِلِ. فما كذّبَتْ إذ رأتْنا. أن عرَتْنا. حتى إذا ما حضرَتْنا. قالت: حيّا اللهُ

المَعارِفَ. وإنْ لم يكُنّ معارِفَ. إعلَموا يا مآلَ الآمِلِ. وثِمالَ الأرامِل. أنّي منْ سرَواتِ القَبائِلِ. وسَريّاتِ العقائِلِ. لمْ يزَلْ أهلي وبعْلي يحُلّونَ الصّدْرَ. ويَسيرونَ القلْبَ. ويُمْطونَ الظّهْرَ. ويولونَ اليَدَ. فلمّا أرْدَى الدّهرُ الأعْضادَ. وفجعَ بالجَوارِحِ الأكْبادَ. وانقلَبَ ظهْراً لبَطْنٍ. نَبا النّاظِرُ. وجَفا الحاجِبُ. وذهبَتِ العينُ. وفُقِدَتِ الرّاحةُ. وصلَدَ الزَّنْدُ. ووَهَنتِ اليَمينُ. وضاعَ اليَسارُ. وبانَتِ المَرافِقُ. ولم يبْقَ لنا ثَنيّةٌ ولا نابٌ. فمُذُ اغْبرّ العيشُ الأخضَرُ. وازْوَرّ المحْبوبُ الأصفَرُ. اسوَدّ يوْمي الأبيضُ. وابيَضّ فَوْدي الأسوَدُ.

حتى رثَى ليَ العدوّ الأزرَقُ. فحبّذا الموتُ الأحمَرُ! وتِلْوِي مَنْ ترَوْنَ عينُهُ فُرارُهُ. وترْجُمانُهُ اصْفِرارُهُ. قُصْوى بِغيَةِ أحدِهِمْ ثُرْدَةٌ. وقُصارَى أمْنِيّتِه بُردَةٌ. وكنتُ آلَيتُ أنْ لا أبذُلَ الحُرّ. إلا للحُرّ. ولوْ أني مُتُّ منَ الضُرّ. وقد ناجَتْني القَرونَةُ. بأنْ توجَدَ عندَكُمُ المَعونَةُ. وآذنَتْني فِراسَةُ الحوْباء. بأنّكُمْ ينابيعُ الحِباء. فنضّرَ اللهُ امرأً أبَرّ قسَمي. وصدّقَ توسُّمي. ونظَرَ إليّ بعَينٍ يُقذيها الجُمودُ. ويُقذّيها الجودُ. قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فهِمْنا لبَراعَةِ عِبارَتِها. ومُلَحِ استِعارَتِها. وقُلْنا لها: قد فتَنَ كلامُكِ. فكيفَ إلحامُكِ؟ فقالتْ: أفجّرُ الصّخْرَ. ولا فخْرَ! فقُلْنا: إن جعلْتِنا منْ رُواتِكِ. لم نبْخَلْ بمؤاساتِكِ.

فقالت: لأُريَنّكُمْ أوّلاً شِعاري. ثمّ لأرَوّيَنّكُمْ أشْعاري. فأبرَزَتْ رُدْنَ دِرْعٍ دَريسٍ. وبرَزَتْ بِرْزةَ عجوزٍ درْدَبيسٍ. وأنْشأتْ تقول: أشكو الى اللهِ اشتِكاءَ المريضْ ... ريْبَ الزّمانِ المتعدّي البَغيضْ يا قومُ إني منْ أُناسٍ غَنُوا ... دهراً وجفنُ الدهرِ عنهُمْ غَضيضْ فخارُهُمْ ليسَ لهُ دافِعٌ ... وصيتُهُمْ بينَ الوَرى مُستَفيضْ كانوا إذا ما نُجعَةٌ أعوزَتْ ... في السّنةِ الشّهباء روْضاً أرِيضْ تُشَبّ للسّارينَ نيرانُهُمْ ... ويُطعِمون الضّيفَ لحْماً غَريضْ ما باتَ جارٌ لهُمُ ساغِباً ... ولا لرَوْعٍ قال حالَ الجَريضْ

فغيّضَتْ منهُمْ صُروفُ الرّدى ... بِحارَ جودٍ لمْ نخَلْها تَغيضْ وأُودِعَتْ منهُمْ بُطونُ الثّرى ... أُسْدَ التّحامي وأُساةَ المَريضْ فمحْمَلي بعْدَ المطايا المطا ... وموطِني بعْدَ اليفاعِ الحضيضْ وأفرُخي ما تأتَلي تشتَكي ... بؤساً لهُ في كلّ يومٍ وميضْ إذا دَعا القانِتُ في ليلِهِ ... موْلاهُ نادَوْهُ بدمْعٍ يَفيضْ يا رازِقَ النّعّابِ في عُشّهِ ... وجابِرَ العظْمِ الكَسيرِ المَهيضْ أتِحْ لنا اللهُمّ مَنْ عِرضُهُ ... منْ دنَسِ الذّمّ نقيٌ رحيضْ يُطفِئ نارَ الجوعِ عنّا ولوْ ... بمَذْقَةٍ منْ حاِرزٍ أو مَخيضْ فهلْ فتًى يكشِفُ ما نابَهُمْ ... ويغنَمُ الشّكْرَ الطّويلَ العريضْ

فوالّذي تعْنو النّواصي لهُ ... يومَ وجوهُ الجمعِ سودٌ وبيضْ لولاهُمُ لمْ تبْدُ لي صفحَةٌ ... ولا تصدّيْتُ لنَظْمِ القَريضْ قال الرّاوي: فوَاللهِ لقدْ صدّعتْ بأبياتِها أعْشارَ القُلوبِ. واستخْرَجَتْ خَبايا الجُيوبِ. حتى ماحَها مَنْ دينُهُ الامْتِناحُ. وارْتاحَ لرِفدِها مَنْ لمْ نخَلْهُ يرْتاحُ. فلمّا افْعَوْعَمَ جَيبُها تِبْراً. وأوْلاها كلٌ مِنّا بِرّاً. تولّتْ يتْلوها الأصاغِرُ. وفُوها بالشّكْرِ فاغرٌ. فاشْرَأبّتِ الجَماعةُ بعْدَ مَمَرّها. الى سبْرِها لتَبْلوَ مواقِعَ بِرّها. فكفَلْتُ لهُمْ باستِنْباطِ السرّ المرْموزِ. ونهضْتُ أقْفو أثرَ العَجوزِ. حتى انتهَتْ الى سوقٍ مُغتَصّةٍ بالأنام. مُختصّةٍ بالزّحامِ. فانغَمَسَتْ

في الغُمارِ. وامّلَسَتْ منَ الصّبْيَةِ الأغْمارِ. ثمّ عاجَتْ بخُلُوّ بالٍ. الى مسجِدٍ خالٍ. فأماطَتِ الجِلْبابَ. ونضَتِ النّقابَ. وأنا ألمَحُها منْ خَصاصِ البابِ. وأرقُبُ ما ستُبْدي منَ العُجابِ. فلمّا انسرَتْ أُهبَةُ الخفَرِ. رأيتُ مُحَيّا أبي زيدٍ قد سفَرَ. فهمَمْتُ أن أهْجُمَ عليْهِ. لأعنّفَهُ على ما أجْرى إليْهِ. فاسْلَنْقَى اسلِنْقاءَ المتمرّدينَ. ثمّ رفَعَ عَقيرةَ المغرّدينَ. واندفَعَ يُنشِدُ: يا لَيتَ شِعري أدَهْري ... أحاطَ عِلْماً بقَدْري وهلْ دَرَي كُنْهَ غوْري ... في الخَدْع أم ليس يدْري كمْ قدْ قمَرْتُ بَنيهِ ... بحيلَتي وبمَكْري وكمْ برزَتْ بعُرْفٍ ... عليهِمِ وبِنُكْرِ

أصْطادُ قوْماً بوَعْظٍ ... وآخرينَ بشِعْرِ وأستفِزُّ بخَلٍّ ... عقْلاً وعَقْلاً بخَمْرِ وتارَةً أنا صخْرٌ ... وتارَةً أُختُ صخْرِ ولوْ سلَكْتُ سَبيلاً ... مألوفَةً طولَ عُمري لَخابَ قِدْحي وقَدْحي ... ودامَ عُسْري وخُسْري فقُلْ لمَنْ لامَ هذا ... عُذري فدونَكَ عُذري قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فلمّا ظهرْتُ على جليّةِ أمرِهِ. وبَديعَةِ أمْرِهِ. وما زخْرَفَ في شِعرِه منْ عُذرِهِ. علِمْتُ أنّ شيطانَهُ المَريدَ. لا يسمَعُ التّفْنيدَ. ولا يفعَلُ إلا ما يُريدُ. فثنَيْتُ الى أصحابي عِناني.

المقامة المكية

وأبثَثْتُهُمْ ما أثبتَهُ عِياني. فوجَموا لضَيْعَةِ الجوائِزِ. وتعاهَدوا على محرَمَةِ العَجائِزِ. المقامة المكّيّة حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: نهضْتُ من مدينةِ السّلامِ. لحِجّةِ الإسلامِ. فلمّا قضيْتُ بعَونِ اللهِ التّفَثَ. واستبَحْتُ الطّيبَ والرَّفَثَ. صادَفَ موسِمُ الخيْفِ. معْمَعانَ الصّيفِ. فاستَظْهَرْتُ للضّرورةِ. بِما يَقي حرَّ الظّهيرةِ. فبَينَما أنا تحتَ طِرافٍ. مع رُفقَةٍ ظِرافٍ. وقدْ حَمِيَ وَطيسُ الحصْباء. وأعْشى الهَجيرُ عينَ الحِرْباء. إذ هجَمَ عليْنا شيخٌ مُتَسَعْسِعٌ. يتْلوهُ فتًى متَرَعرِعٌ.

فسلّمَ الشيخُ تسْليمَ أديبٍ أريبٍ. وحاوَرَ مُحاوَرَةَ قَريبٍ لا غَريبٍ. فأُعْجِبْنا بما نثَرَ منْ سِمْطِهِ. وعِجبْنا منِ انبِساطِه قبلَ بسْطِهِ. وقُلْنا لهُ: ما أنتَ. وكيفَ ولَجْتَ وما استأذَنْتَ؟ فقال: أما أنا فعَافٍ. وطالِبُ إسْعافٍ. وسِرُّ ضُرّي غيرُ خافٍ. والنّظَرُ إليّ شفيعٌ لي كافٍ. وأمّا الانْسِيابُ. الذي علِقَ بهِ الارتِيابُ. فَما هوَ بعُجابٍ. إذ ما علَى الكُرَماء منْ حِجابٍ. فسألْناهُ: أنّى اهْتَدَى إليْنا. وبِمَ استَدَلّ علَيْنا؟ فقال: إنّ للكرَمِ نشْراً تَنُمّ بهِ نفَحاتُهُ. وتُرْشِدُ الى روضِهِ فوْحاتُهُ. فاستَدْلَلْتُ بتأرّجِ عَرْفِكُمْ. على تبلّجِ عُرفِكُم! وبشّرَني تضوُّعُ رندِكُمْ. بحُسْنِ المُنقَلَبِ منْ

عِندِكُم! فاستخْبَرْناهُ حينَئِذٍ عنْ لُبانَتِهِ. لنتَكفّلَ بإعانتِهِ. فقال: إنّ لي مأرَباً. ولفَتايَ مَطلَباً. فقُلْنا لهُ: كِلا المَرامَينِ سيُقْضى. وكِلاكُما سوفَ يرْضى. ولكِنِ الكُبرَ الكُبْرَ. فقال: أجَلْ ومنْ دَحا السّبْعَ الغُبْرَ. ثمّ وثبَ للمَقالِ. كالمُنشَطِ منَ العِقالِ. وأنشَدَ: إني امرُؤٌ أُبدِعَ بي ... بعدَ الوَجى والتّعَبِ وشُقّتي شاسِعةٌ ... يقْصُرُ عنها خَبَبي وما معي خرْدَلَةٌ ... مطبوعةٌ منْ ذهَبِ فحيلَتي مُنسَدّةٌ ... وحَيرَتي تلعَبُ بي إنِ ارتَحَلْتُ راجِلاً ... خِفْتُ دَواعي العطَبِ وإنْ تخلّفْتُ عنِ الرُفْ ... قَةِ ضاقَ مذْهَبي

فزَفْرَتي في صُعُدٍ ... وعَبْرتي في صبَبِ وأنتُمُ مُنتجَعُ الرّا ... جي ومرْمَى الطّلَبِ لُهاكُمُ منهَلّةٌ ... ولا انْهِلالَ السُحُبِ وجارُكُمْ في حرَمٍ ... ووَفْرُكُمْ في حرَبِ ما لاذَ مُرْتاعٌ بكُمْ ... فخافَ نابَ النُوَبِ ولا استَدَرّ آمِلٌ ... حِباءكُمْ فما حُبي فانعَطِفوا في قِصّتي ... وأحسِنوا مُنقلَبي فلوْ بلوْتُمْ عيشَتي ... في مطْعمي ومَشرَبي لساءكُمْ ضُرّي الذي ... أسلَمَني للكُرَبِ ولوْ خبَرْتُمْ حسَبي ... ونسَبي ومذْهَبي

وما حوَتْ معرِفَتي ... منَ العُلومِ الُّخَبِ لما اعتَرَتْكُمْ شُبهَةٌ ... في أنّ دائي أدَبي فلَيْتَ أنّي لمْ أكُنْ ... أُرضِعْتُ ثَدْيَ الأدَبِ فقد دَهاني شُؤمُه ... وعَقّني فيهِ أبي فقُلْنا له: أمّا أنتَ فقدْ صرّحَتْ أبياتُكَ بفاقَتِك. وعطَبِ ناقَتِكَ. وسنُمْطيكَ ما يوصّلُكَ الى بلدِكَ. فما مأرَبَةُ ولَدِكَ؟ فقال له: قُمْ يا بني كما قام أبوكَ. وفُهْ بما في نفسِك لا فُضّ فوكَ. فنهضَ نُهوضَ البطَلِ للبِرازِ. وأصْلَتَ لِساناً كالعضْبِ الجُرازِ. وأنشأ يقول: يا سادَةً في المَعالي ... لهُمْ مبانٍ مَشيدَهْ ومَنْ إذا نابَ خطْبٌ ... قاموا بدَفْعِ المكيدَهْ

ومن يهونُ عليهِمْ ... بذْلُ الكُنوزِ العَتيدَهْ أريدُ منكُمْ شِواءً ... وجرْدَقاً وعصيدَهْ فإنْ غَلا فَرُقاقٌ ... بهِ تُوارَى الشّهيدَهْ أو لمْ يكُنْ ذا ولا ذَا ... فشُبْعَةٌ منْ ثَريدَهْ فإنْ تعذّرْنَ طُرّاً ... فعجْوَةٌ ونَهيدَهْ فأحْضِروا ما تسنّى ... ولوْ شَظًى منْ قَديدَهْ وروِّجوهُ فنَفْسي ... لِما يروجُ مُريدَهْ والزّادُ لا بُدّ منْهُ ... لرِحْلَةٍ لي بَعيدَهْ وأنتُمُ خيْرُ رهْطٍ ... تُدعَوْنَ عند الشّديدهْ أيدِيكُمُ كلَّ يومٍ ... لَها أيادٍ جَديدَهْ

وراحُكُمْ واصِلاتٌ ... شمْلَ الصِّلاتِ المُفيدَهْ وبُغْيَتي في مَطاوي ... ما تَرفِدونَ زهيدَهْ وفيّ أجْرٌ وعُقْبَى ... تنْفيسِ كَرْبي حَميدَهْ ولي نتائِجُ فِكرٍ ... يفضَحْنَ كُلّ قَصيدَهْ قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فلمّا رأيْنا الشّبْلَ يُشبِهُ الأسَدَ. أرحَلْنا الوالِدَ وزوّدْنا الولَدَ. فقابَلا الصُّنْعَ بشُكْرٍ نشَرَ أرديَتَهُ. وأدّيا بِه ديَتَهُ. ولمّا عزَما على الانْطِلاقِ. وعَقَدا للرّحلَةِ حُبُكَ النّطاقِ. قُلتُ للشّيخِ: هلْ ضاهَتْ عِدَتُنا عِدَةَ عُرْقوبٍ. أو هلْ بقيَتْ حاجةٌ في

نفْسِ يعْقوبَ؟ فقال: حاشَ للهِ وكَلاّ. بل جَلّ مَعروفُكُمْ وجَلّى. فقُلتُ لهُ: فَدِنّا كما دِنّاكَ. وأفِدْنا كما أفَدْناكَ. أينَ الدّوَيْرَةُ. فقدْ ملَكَتْنا فيكَ الحَيرَةُ؟ فتنفّسَ تنفُّسَ منِ ادّكَرَ أوطانَهُ. وأنشدَ والشّهيقُ يلَعثِمُ لسانَه: سَروجُ داري ولكِنْ ... كيفَ السّبيلُ إلَيْها وقدْ أناخَ الأعادي ... بها وأخْنَوْا علَيْها فوالّتي سِرْتُ أبْغي ... حَطّ الذُنوبِ لدَيْها ما راقَ طرْفيَ شيءٌ ... مُذْ غِبتُ عنْ طرَفَيْها ثمّ اغرَوْرَقَتْ عيناهُ بالدّموعِ. وآذَنَتْ مَدامِعُهُ بالهُموعِ. فكَرِهَ أن يستَوكِفَها. ولم يملِكْ أن يكَفْكِفَها. فقطَعَ إنْشادَهُ المُستَحْلى.

المقامة الفرضية

وأوجَزَ في الوَداعِ وولّى. المقامة الفَرَضيّة أخبرَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: أرِقْتُ ذاتَ ليلَةٍ حالِكَةِ الجلْبابِ. هامِيَةِ الرَّبابِ. ولا أرَقَ صَبٍّ طُرِدَ عنِ الباب. ومُنيَ بصَدّ الأحْبابِ. فلمْ تزَلِ الأفكارُ يهِجْنَ همّي. ويُجِلنَ في الوَساوِسِ وهْمي. حتى تمنّيْتُ. لمَضَضِ ما عانَيْتُ. أنْ أُرْزَقَ سَميراً منَ الفُضَلاء. ليُقصّرَ طولَ ليلَتي اللّيْلاء. فما انقَضَتْ مُنيَتي. ولا أُغمِضَتْ مُقلَتي. حتى قرَعَ البابَ قارِعٌ. لهُ صوتٌ خاشِعٌ. فقلتُ في نفسي: لعلّ غَرْسَ التّمني قد أثمَرَ. وليْلَ الحظّ قد أقْمَرَ. فنهَضْتُ إليْهِ عَجْلانَ. وقلتُ: مَنِ الطّارِقُ الآن؟ فقال: غَريبٌ أجَنّهُ الليلُ.

وغشِيَهُ السّيْلُ. ويبْتَغي الإيواءَ لا غَير. وإذا أسْحَرَ قدّمَ السّيرَ. قال: فلمّا دَلّ شُعاعُهُ على شمْسِهِ. ونَمّ عُنوانُهُ بسِرّ طِرْسِهِ. علِمْتُ أنّ مُسامرَتَهُ غُنْمٌ. ومُساهَرَتَهُ نُعْمٌ. ففتَحْتُ البابَ بابتِسامٍ. وقلتُ: ادخُلوها بسَلام. فدخَلَ شخصٌ قد حنى الدّهرُ صَعْدَتَهُ. وبلّلَ القَطْرُ بُردَتَهُ. فحَيّا بلِسانٍ عضْبٍ. وبَيانٍ عذْبٍ. ثمّ شكرَ على تلبِيَةِ صوتِه. واعتَذَرَ منَ الطُّروقِ في غيرِ وقتِه. فدانَيْتُهُ بالمِصْباحِ المتّقِدِ. وتأمّلْتُهُ تأمّلَ المُنتَقِدِ. فألفَيْتُهُ شيخَنا أبا زيْدٍ بِلا رَيبٍ. ولا رَجْمِ غيْبٍ. فأحْلَلْتُه محلّ مَنْ أظفَرَني بقُصْوى الطّلَبِ. ونقَلَني منْ وقْذِ الُكرَبِ. الى رَوْحِ الطّرَبِ. ثمّ أخذَ

يشْكو الأينَ. وأخذْتُ في كيفَ وأينَ؟ فقال: أبلِعْني ريقي. فقدْ أتعَبَني طَريقي. فظَنَنْتُهُ مُستَبْطِناً للسّغَبِ. مُتكاسِلاً لهَذا السّبَبِ. فأحضَرْتُهُ ما يُحْضَرُ للضّيفِ المُفاجي. في اللّيلِ الدّاجي. فانقَبَضَ انقِباضَ المُحتَشِمِ. وأعْرَضَ إعْراضَ البَشِمِ. فسُؤتُ ظَنّاً بامتِناعِهِ. وأحْفَظَني حؤولُ طِباعِهِ. حتى كِدْتُ أُغْلِظُ لهُ في الكلامِ. وألسَعُهُ بحُمَةِ المَلامِ. فتبيّنَ منْ لمَحاتِ ناظِري. ما خامَرَ خاطِري. فقال: يا ضَعيفَ الثّقةِ. بأهلِ المِقَةِ. عدِّ عمّا أخطَرْتَهُ بالَكَ. واسْتَمِعْ إليّ لا أبا لكَ! فقلْتُ: هاتِ. يا أخا التُرّهاتِ! فقال: اعْلَمْ أني بِتُّ البارِحَةَ حَليفَ إفْلاسٍ. ونَجيَّ

وسْواسٍ. فلمّا قضى الليلُ نحْبَهُ. وغوّرَ الصُبحُ شُهْبَهُ. غدَوْتُ وقْتَ الإشْراقِ. الى بعضِ الأسْواقِ. متصدّياً لصَيْدٍ يسْنَحُ. أو حُرٍّ يسمَحُ. فلحَظْتُ بها تمْراً قد حَسُنَ تصْفيفُهُ. وأحسَنَ إليْهِ مَصيفُهُ. فجمعَ على التّحقيقِ. صَفاءَ الرّحيقِ. وقُنوءَ الَعقيقِ. وقُبالتَهُ لِبَأٌ قد برزَ كالإبْريزِ الأصفَرِ. وانجلى في اللونِ المزَعْفَرِ. فهوَ يُثْني على طاهِيهِ. بلِسانِ تناهِيهِ. ويصوِّبُ رأيَ مُشتَريهِ. ولوْ نقَدَ حبّةَ القلْبِ فيهِ. فأسرَتْني الشّهوةُ بأشْطانِها. وأسلَمَتْني العَيْمَةُ الى سُلْطانِها. فبَقيتُ أحْيَرَ من ضَبّ. وأذْهَلَ من صَبّ. لا وُجْدَ يوصِلُني الى نيْلِ المُرادِ. ولذّةِ الازْدِرادِ. ولا قدَمَ

تُطاوعُني على الذّهابِ. مع حُرقَةِ الالتِهابِ. لكِنْ حَداني القرَمُ وسوْرَتُهُ. والسّغَبُ وفَورَتُهُ. على أنْ أنتَجِعَ كُلَّ أرضٍ. وأقتَنِعَ منَ الوِرْدِ ببَرْضٍ. فلمْ أزَلْ سَحابةَ ذلِكَ النّهارِ. أُدْلي دَلْوي الى الأنْهارِ. وهيَ لا ترْجِعُ ببِلّةٍ. ولا تجْلُبُ نقْعَ غُلّةٍ. الى أنْ صغَتِ الشمسُ للغُروبِ. وضعُفَتِ النّفسُ منَ اللّغوبِ. فرُحْتُ بكبِدٍ حرّى. وانثَنَيْتُ أقدّمُ رِجْلاً وأؤخّرُ أخرى. وبينَما أنا أسعى وأقعُدُ. وأهُبُّ وأرْكُدُ. إذ قابَلَني شيخٌ يتأوّهُ أهّةَ الثّكْلانِ. وعيناهُ تهْمُلانِ. فما شغَلني ما أنا فيهِ منْ داء الذّيبِ. والخَوى المُذيبِ. عنْ تَعاطي مُداخَلَتِهِ. والطّمعِ في مُخاتَلَتِهِ. فقلتُ لهُ: يا هَذا إنّ لبُكائِكَ سِرّاً. ووَراء تحرُّقِكَ لشَرّاً. فأطْلِعْني

على بُرَحائِكَ. واتّخِذْني منْ نُصَحائِكَ. فإنّكَ ستجِدُ مني طَبّاً آسِياً. أو عوْناً مؤاسياً. فقال: واللهِ ما تأوّهي منْ عيشٍ فاتَ. ولا منْ دهْرٍ افْتاتَ بلْ لانقِراضِ العِلمِ ودُروسهِ. وأفولِ أقمارِهِ وشُموسِهِ. فقلت: وأيّ حادثَةٍ نجمَتْ. وقضيّةٍ استعْجَمتْ. حتى هاجَتْ لكَ الأسَفَ. على فقْدِ منْ سلَفَ؟ فأبْرَزَ رُقعَةً منْ كُمّهِ. وأقسَمَ بأبيهِ وأمّه. لقدْ أنزَلَها بأعْلامِ المدارِسِ. فما امتازوا عنِ الأعْلامِ الدّوارِسِ. واستنْطَقَ لَها أحْبارَ المَحابِرِ. فخرِسوا ولا خرَسَ سُكّانِ المقابِرِ. فقلتُ: أرِنيها. فلعلّي أغْني فيها. فقال: ما أبعَدْتَ في المَرامِ. فرُبّ رمْيَةٍ منْ غيرِ رامٍ. ثمّ ناوَلنيها. فإذا المكْتوبُ فيها: يهِ وأمّه. لقدْ أنزَلَها بأعْلامِ المدارِسِ. فما امتازوا عنِ الأعْلامِ الدّوارِسِ. واستنْطَقَ لَها أحْبارَ المَحابِرِ. فخرِسوا ولا خرَسَ سُكّانِ المقابِرِ. فقلتُ: أرِنيها. فلعلّي أغْني فيها. فقال: ما أبعَدْتَ في المَرامِ. فرُبّ رمْيَةٍ منْ غيرِ رامٍ. ثمّ ناوَلنيها. فإذا

المكْتوبُ فيها: أيّها العالِمُ الفَقيهُ الذي فا ... قَ ذُكاءً فما لهُ منْ شَبيهِ أفِتْنا في قضيّةٍ حادَ عنْها ... كلُّ قاضٍ وحارَ كلُّ فَقيهِ رجُلٌ ماتَ عنْ أخٍ مسلِمٍ حُ ... رٍ تقيٍّ منْ أمّهِ وأبيهِ ولهُ زوْجَةٌ لها أيّها الحِبْ ... رُ أخٌ خالِصٌ بلا تَمويهِ فحوَتْ فرْضَها وحازَ أخوها ... ما تبَقّى بالإرثِ دونَ أخيهِ فاشْفِنا بالجَوابِ عمّا سألْنا ... فهْوَ نصٌّ لا خُلْفَ يوجَدُ فيهِ فلمّا قرأتُ شِعْرَها. ولمحْتُ سرّها. قلتُ له: على الخَبيرِ بها سقَطْتَ. وعندَ ابنِ بجْدَتِها حططْتَ. إلا أني مُضطرِمُ الأحْشاء. مُضطَرٌّ الى العَشاء. فأكْرِمْ مثْوايَ. ثم استَمِعْ فتْوايَ. فقال: لقد أنصَفْتَ في الاشتِراطِ. وتجافَيْتَ عنِ الاشتِطاطِ. فصِرْ معي. الى مربَعي. لتَظْفَرَ بما تبْتَغي. وتنقَلِبَ كما ينْبَغي. قال: فصاحَبتُهُ الى ذَراهُ.

كما حكَمَ اللهُ. فأدخَلَني بيتاً أحرجَ من التّابوتِ. وأوْهَنَ منْ بيتِ العنكَبوتِ. إلا أنّهُ جبَرَ ضيقَ ربْعِهِ. بتوْسِعَةِ ذرْعِهِ. فحكّمَني في القِرى. ومطايِبِ ما يُشتَرى. فقلتُ: أريدُ أزْهى راكبٍ على أشْهى مرْكوبٍ. وأنْفَعَ صاحِبٍ مع أضرّ مصْحوبٍ. فأفْكَرَ ساعةً طويلةً. ثمّ قال: لعلّك تعْني بنْتَ نُخَيلةٍ. معَ لِباء سُخَيلةٍ. فقلتُ: إياهُما عنَيْتُ. ولأجْلِهِما تعنّيْتُ. فنهَضَ نشيطاً. ثمّ ربَضَ مُستَشيطاً. وقال: اعْلَمْ أصلحَكَ اللهُ أنّ الصّدْقَ نَباهةٌ. والكذِبَ عاهَةٌ. فلا يحمِلنّكَ الجوعُ الذي هوَ شِعارُ الأنبِياء. وحِليَةُ الأولِياء. على أنْ تلْحَقَ بمَنْ مانَ. وتتخلّقَ بالخُلُقِ الذي

يُجانِبُ الإيمانَ. فقدْ تجوعُ الحُرّةُ ولا تأكُلُ بثَدْيَيها. وتأبى الدنيّةَ ولوِ اضطُرّتْ إلَيْها. ثمّ إنّي لستُ لك بزَبونٍ. ولا أُغضي على صَفقَةِ مغْبونٍ. وها أنا قد أنذَرْتُكَ قبلَ أنْ ينهَتِكَ السِّتْرُ. وينعَقِدَ فيما بينَنا الوِتْرُ. فلا تُلْغِ تدبُّرَ الإنْذارِ. وحَذارِ منَ المُكاذبَةِ حَذارِ. فقلْتُ لهُ: والذي حرّمَ أكْلَ الرِّبا. وأحَلّ أكْلَ اللِّبا. ما فُهْتُ بزورٍ. ولا دلّيْتُكَ بغُرورٍ. وستخْبُرُ حَقيقَةَ الأمْرِ. وتحْمَدُ بذْلَ اللّبإ والتّمْرِ. فهشّ هَشاشَةَ المصْدوقِ. وانطلَقَ مُغِذّاً الى السّوقِ. فما كان بأسرَعَ منْ أنْ أقبَلَ بهِما يدْلَحُ. ووجْهُهُ منَ التّعبِ يكلَحُ. فوضَعَهُما لديّ. وضْعَ المُمْتَنّ عليّ. وقال:

اضرِبْ الجيْشَ بالجيْشِ. تحْظَ بلَذّةِ العيشِ. فحسَرْتُ عن ساعِدِ النّهِمِ. وحملْتُ حملَةَ الفيلِ المُلتَهِمِ. وهو يلْحَظُني كما يلحَظُ الحَنِقُ. ويوَدّ منَ الغيْظِ لو أختَنِقُ. حتى إذا هلقَمْتُ النّوعينِ. وغادرْتُهُما أثَراً بعْدَ عينٍ. أقرَدْتُ حيْرَةً في إظْلالِ البَياتِ. وفِكرةً في جَوابِ الأبْياتِ. فما لبِثَ أن قام. وأحضَرَ الدّواةَ والأقْلامَ. وقال: قد ملأتَ الجرابَ. فأمْلِ الجَوابَ. وإلا فتهيّأ إنْ نكَلْتَ. لاغْتِرامِ ما أكلْتَ! فقلْتُ له: ما عِندي إلا التّحقيقُ. فاكتُبِ الجوابَ وباللهِ التوْفيقُ: قُلْ لمَنْ يُلغِزُ المسائِلَ إني ... كاشِفٌ سِرّها الذي تُخْفيهِ إنّ ذا الميّتَ الذي قدّمَ الشّرْ ... عُ أخا عِرسِهِ على ابنِ أبيهِ رجُلٌ زوّجَ ابنَهُ عنْ رِضاهُ ... بحَماةٍ لهُ ولا غَرْوَ فيهِ ثمّ ماتَ ابنُهُ وقدْ علِقَتْ منْ ... هُ فجاءتْ بابنٍ يسُرّ ذويهِ

فهُو ابنُ ابنِهِ بغيرِ مِراءٍ ... وأخو عِرسِهِ بلا تَمْويهِ وابنُ الابنِ الصّريحُ أدْنى الى الجَ ... دّ وأوْلى بإرْثِهِ منْ أخيهِ فلِذا حينَ ماتَ أوجِبَ للزّوْ ... جَةِ ثُمْنُ التُراثِ تستَوفيهِ وحوى ابنُ ابنِهِ الذي هوَ في الأصْ ... لِ أخوها منْ أمّها باقِيهِ وتخلّى الأخُ الشّقيقُ منَ الإرْ ... ثِ وقُلْنا يكفيكَ أن تبكيهِ هاكَ مني الفُتْيا التي يحْتَذيها ... كلُّ قاضٍ يقضي وكلُّ فَقيهِ قال: فلمّا أثبَتّ الجوابَ. واستَثبتُّ منهُ الصّوابَ. قال لي: أهلَكَ والليلَ. فشمِّرِ الذّيْلَ. وبادرِ السّيْلَ! فقلتُ: إني بِدارِ غُربَةٍ. وفي إيوائي أفضَلُ قُربَةٍ. لا سيّما وقد أغدَفَ جُنْحُ الظّلامِ. وسبّحَ الرّعدُ في الغَمامِ. فقال: اغْرُبْ عافاكَ اللهُ الى حيثُ شِيتَ. ولا تطمَعْ في أنْ تبيتَ. فقلتُ: ولمَ ذاكَ. معَ خُلوّ ذَراكَ؟ قال: لأني أنعَمْتُ النظَرَ. في التِقامِكَ ما حضَرَ. حتى لمْ تُبْقِ ولمْ

تذَرْ. فرأيتُك لا تنظُرُ في مصلحَتِكَ. ولا تُراعي حِفْظَ صحّتِكَ. ومَنْ أمعَنَ فيما أمعنْتَ. وتبطّنَ ما تبطّنْتَ. لم يكَدْ يخْلُصُ منْ كِظّةٍ مُدنِفَةٍ. أو هيْضَةٍ مُتلِفَةٍ. فدَعْني باللهِ كَفافاً. واخْرُجْ عني ما دُمْتَ مُعافًى. فوَالذي يُحْيي ويُميتُ. م لكَ عِندي مَبيتٌ! فلمّا سمِعْتُ ألِيّتَهُ. وبلَوْتُ بليّتَهُ. خرجْتُ منْ بيِته بالرّغْمِ. وتزوّدِ الغَمِّ. تجودُني السّماءُ. وتخْبِطُ بيَ الظّلْماءُ. وتَنبَحُني الكِلابُ. وتتقاذَفُ بيَ الأبوابُ. حتى ساقَني إلَيكَ لُطْفُ القضاء. فشُكْراً ليَدِه البَيضاء. فقلتُ لهُ: أحْبِبْ بلِقائِكَ المُتاحِ. الى قلْبيَ المُرْتاحِ! ثمّ أخذَ يفْتَنّ بحِكاياتِهِ. ويُشْمِطُ مُضحِكاتِهِ بمُبْكِياتِه.

المقامة المغربية

الى أنْ عطَسَ أنْفُ الصّباحِ. وهتَفَ داعي الفَلاحِ. فتأهّبَ لإجابَةِ الدّاعي. ثمّ عطَفَ الى وَداعي. فعُقْتُه عنِ الانبِعاثِ. وقلتُ: الضّيافَةُ ثلاثٌ! فناشَدَ وحرّجَ. ثمّ أمَّ المَخرَجَ. وأنشدَ إذ عرّجَ: لا تزُرْ منْ تُحبّ في كلّ شهرٍ ... غيرَ يومٍ ولا تزِدْهُ عليهِ فاجْتِلاءُ الهِلالِ في الشهْرِ يومٌ ... ثمّ لا تنظُرُ العُيونُ إليْهِ قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فودّعتُهُ بقلْبٍ دامي القُرْحِ. وودِدْتُ لوْ أنّ ليلَتي بطيئَةُ الصُبْحِ. المقامة المغربيّة حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: شهِدْتُ صَلاةَ المغْرِبِ. في

بعضِ مساجِدِ المغرِبِ. فلمّا أدّيتُها بفضْلِها. وشفَعْتُها بنَفْلِها. أخذَ طرْفي رُفقَةً قدِ انتَبَذوا ناحيةً. وامْتازوا صَفوةً صافيَةً. وهُمْ يتعاطَونَ كأسَ المُنافَثَةِ. ويقتَدِحونَ زِنادَ المُباحثَةِ. فرغِبْتُ في مُحادثتِهِمْ لكلِمَةٍ تُستَفادُ. أو أدبٍ يُستَزادُ. فسعَيْتُ إليهِمْ. سعْيَ المتطفّلِ عليْهِمْ. وقلتُ لهُمْ: أتقْبَلون نَزيلاً يطلُبُ جنى الأسْمارِ. لا جنّةَ الثّمارِ. ويبْغي مُلَحَ الحِوارِ. لا مَلْحاءَ الحُرارِ. فحَلّوا ليَ الحِبى. وقالوا: مرْحباً مرحَباً. فلمْ أجلِسْ إلا لمحَةَ بارِقٍ خاطِفٍ. أو نغبَةَ طائِرٍ خائِفٍ. حتى غَشيَنا جوابٌ. على عاتِقِه جِرابٌ. فحيّانا بالكلِمتَينِ. وحيّا المسجدَ بالتّسليمتَينِ.

ثمّ قال: يا أولي الألبابِ. والفضلِ اللُبابِ. أما تعلَمونَ أنّ أنْفَسَ القُرُباتِ. تنْفيسُ الكُرُباتِ؟ وأمْتَنَ أسبابِ النّجاةِ. مؤاساةُ ذوي الحاجاتِ؟ وإني ومَنْ أحلّني ساحتَكُمْ. وأتاحَ ليَ استِماحتَكُمْ. لشَريدُ محلٍّ قاصٍ. وبَريدُ صِبيَةٍ خِماصٍ. فهلْ في الجَماعةِ. منْ يفثأُ حُمَيّا المَجاعَةِ؟ فقالوا له: يا هذا إنّك حضرْتَ بعْدَ العِشاء. ولمْ يبْقَ إلا فَضلاتُ العَشاء. فإنْ كنتَ بها قَنوعاً. فما تجِدُ فينا مَنوعاً. فقال: إنّ أخا الشّدائِدِ. ليَقْنَعُ بلَفَظاتِ المَوائِدِ. ونُفاضاتِ المَزاوِدِ. فأمرَ كُلٌ منهُمْ عبْدَهُ. أنْ يزوّدَهُ ما عِندَهُ. فأعجَبَهُ الصُنْعُ وشكرَ عليْهِ. وجلَسَ يرْقُبُ ما يُحْمَلُ إليْهِ. وثُبْنا نحنُ الى استِثارَةِ مُلَحِ الأدَبِ وعُيونِه. واستِنْباطِ مَعينِهِ من عُيونِهِ. الى أنْ

جُلْنا فيما لا يَستَحيلُ بالانعِكاسِ. كقولكَ ساكِبُ كاسٍ. فتَداعَينا الى أنْ نستَنتِجَ لهُ الأفكارَ. ونفتَرِعَ منهُ الأبْكارَ. على أنْ ينظِمَ البادِئُ ثلاثَ جُماناتٍ في عِقدِهِ. ثمّ تتدرّج الزّياداتُ منْ بعدِهِ. فيرَبّعُ ذو ميمَنَتِهِ في نظْمِهِ. ويُسبِّعُ صاحِبُ ميسرَتِهِ على رغْمِهِ. قال الرّاوي: وكنّا قدِ انتظَمْنا عِدّةَ أصابِعِ الكفّ. وتألّفْنا أُلفَةَ أصْحابِ الكهْفِ. فابْتَدَرَ لعِظَمِ محْنَتي. صاحبُ ميمَنَتي. وقال: لُمْ أخاً ملّ. وقال مُيامِنُهُ: كبّرْ رَجاءَ أجْرِ ربّكَ. وقال الذي يليهِ: منْ يَرُبّ إذا برّ ينْمُ. وقال الآخرُ: سكّتْ كلَّ منْ نمّ لك تكِسْ. وأفضَتِ النّوبَةُ إليّ. وقد تعيّنَ نظْمُ السّمْطِ السُباعيّ عليّ. فلمْ يزَلْ فِكري يصوغُ ويكْسِرُ. ويُثْري ويُعسِرُ. وفي

ضِمْنِ ذلِك أستَطْعِمُ. فلا أجدُ منْ يُطعِمُ. الى أن ركَدَ النّسيمُ. وحصْحَصَ التّسليمُ. فقلتُ لأصْحابي: لو حضَرَ السَّروجيّ هذا المَقامَ. لشَفى الدّاءَ العُقامَ. فقالوا: لو نزَلَتْ هذهِ بإياسٍ. لأمْسَكَ على ياسٍ. وجعلْنا نُفيضُ في استِصْعابِها. واستِغْلاقِ بابِها. وذلِك الزّوْرُ المُعتَري. يلحَظُنا لحْظَ المُزدَري. ويؤلّفُ الدُرَرَ ونحنُ لا ندْري. فلمّا عثَرَ على افتِضاحِنا. ونُضوبِ ضحْضاحِنا. قال: يا قومُ إنّ منَ العَناء العظيمِ. استيلادَ العَقيمِ. والاستِشْفاءَ بالسّقيمِ. وفوْقَ كلّ ذي عِلمٍ عليمٌ. ثمّ أقبَل عليّ وقال: سأنوبُ منابَكَ. وأكفيكَ ما نابَكَ. فإنْ شِئْتَ أن تنثُرَ. ولا تعثُرَ. فقُلْ مُخاطِباً لمَنْ ذمّ البُخْلَ. وأكثَرَ العذْلَ: لُذْ بكلّ مؤمّلٍ إذا لمّ وملَك بذَلَ. وإنْ أحببْتَ أن تنظِمَ. فقُلْ للذي تُعظِمُ:

أُسْ أرْمَلاً إذا عَرا ... وارْعَ إذا المرءُ أسا أسْنِدْ أخا نَباهَةٍ ... أبِنْ إخاءً دَنسا أُسْلُ جَنابَ غاشِمٍ ... مُشاغِبٍ إنْ جلَسا أُسْرُ إذا هبّ مِراً ... وارْمِ بهِ إذا رَسا أُسْكُنْ تقَوَّ فعَسى ... يُسعِفُ وقْتٌ نكَسا قال: فلمّا سحرَنا بآياتِه. وحسرَنا ببُعْدِ غاياتِه. مدحْناهُ حتى استَعْفى. ومنحْناهُ الى أنِ استَكْفى. ثمّ شمّرَ ثيابَهُ. وازدَفَرَ جِرابَهُ. ونهضَ يُنشِدُ:

للهِ دَرُّ عِصابَةٍ ... صُدُقِ المَقالِ مَقاوِلا فاقوا الأنامَ فضائِلاً ... مأثورَةً وفواضِلا حاورْتُهم فوجَدتُ سحْ ... باناً لديْهِمْ باقِلا وحللْتُ فيهِمْ سائِلاً ... فلَقيتُ جوداً سائِلا أقسَمْتُ لوْ كان الكِرا ... مُ حياً لكانوا وابِلا ثم خَطا قِيدَ رُمحَينِ. وعادَ مُستَعيذاً من الحَينِ. وقال: يا عِزّ مَنْ عدِمَ الآلَ. وكَنْزَ منْ سُلِبَ المالَ. إن الغاسِقَ قدْ وقَبَ. ووجْهَ المحجّةِ قدِ انتقَبَ. وبيْني وبينَ كِنّي ليلٌ دامِسٌ. وطريقٌ طامِسٌ. فهلْ منْ مِصباحٍ يؤْمِنُني العِثارَ.

ويُبيّنُ ليَ الآثارَ؟ قال: فلمّا جِيء بالمُلتَمَسِ. وجلّى الوجوهَ ضوءُ القبَسِ. رأيتُ صاحِبَ صيْدِنا. هوَ أبو زيدِنا. فقلتُ لأصحابي: هذا الذي أشَرْتُ الى أنهُ إذا نطَقَ أصابَ. وإنِ استُمْطِرَ صابَ. فأتلَعوا نحوَه الأعْناق. وأحدَقوا بهِ الأحْداقَ. وسألوهُ أنْ يُسامِرَهُمْ ليلَتَهُ. على أن يجْبِروا عَيلَتهُ. فقال: حُبّاً لِما أحبَبْتُمْ. ورُحْباً بكُمْ إذا رحّبْتُمْ. غيرَ أني قصدتُكُمْ وأطْفالي يتضوّرونَ منَ الجوعِ. ويدْعونَ لي بوشْكِ الرّجوعِ. وإنِ استَراثوني خامرَهُم الطّيشُ. ولمْ يصْفُ لهمُ العيشُ. فدَعوني لأذْهبَ فأسُدَّ مَخْمَصَتَهُمْ. وأُسيغَ غُصّتَهُمْ. ثمّ أنقَلِبَ إليكُمْ على الأثَرِ. متأهّباً للسّمَرِ. الى السّحَرِ. فقُلْنا لأحدِ الغِلْمَةِ: اتّبِعْهُ الى فئَتِه.

ليكونَ أسرعَ لفَيْئَتِهِ. فانْطلَقَ معَهُ مضطَبِناً جِرابَه. ومُحَثْحِثاً إيابَه. فأبْطأ بُطْأَ جاوزَ حدّهُ. ثمّ عادَ الغُلامُ وحدَهُ. فقُلْنا له: ما عندَكَ من الحديث. عنِ الخبيثِ؟ فقال: أخذَ بي في طرُقٍ مُتعِبَةٍ. وسُبُلٍ متشعّبَةٍ. حتى أفضَيْنا الى دُوَيْرَةٍ خرِبَةٍ. فقال: هاهُنا مُناخي. ووكْرُ أفْراخي. ثمّ استَفْتَحَ بابَهُ. واختلَجَ مني جِرابَهُ. وقال: لَعمْري لقدْ خفّفْتَ عني. واستوْجَبْتَ الحُسْنى مني. فهاكَ نصيحةً هيَ منْ نفائِسِ النّصائحِ. ومغارِسِ المصالِحِ. وأنشدَ: إذا ما حوَيْتَ جنى نخلَةٍ ... فلا تقْرُبَنْها الى قابِلِ وإمّا سقَطْتَ على بيْدَرٍ ... فحوْصِلْ من السُنبلِ الحاصِلِ ولا تلبَثَنّ إذا ما لقَطْتَ ... فتَنشَبَ في كفّةِ الحابِلِ ولا توغِلَنّ إذا ما سبحْتَ ... فإنّ السّلامةَ في الساحِلِ

وخاطبْ بهاتِ وجاوِبْ بسوْفَ ... وبِعْ آجِلاً منكَ بالعاجلِ ولا تُكثِرَنّ على صاحبٍ ... فما ملّ قطُّ سوى الواصِلِ ثم قال: اخزُنْها في تأمورِكَ. واقْتَدِ به في أمورِكَ. وبادِرْ الى صحْبِكَ. في كِلاءةِ ربّكَ. فإذا بلَغْتَهُمْ فأبْلِغْهُمْ تحيّتي. واتْلُ عليْهِمْ وصيّتي. وقُلْ لهُمْ عنّي: إنّ السهَرَ في الخُرافاتِ. لَمِنْ أعظمِ الآفاتِ. ولستُ أُلْغي احتِراسي. ولا أجلُبُ الهوَسَ الى راسي. قال الراوي: فلمّا وقفْنا على فحْوى شِعرِهِ. واطّلَعْنا على

المقامة القهقرية

نُكْرِهِ ومكرِهِ. تلاوَمْنا على ترْكِهِ. والاغتِرارِ بإفْكِهِ. ثمّ تفرّقْنا بوجوهٍ باسِرَةٍ. وصفقَةٍ خاسِرةٍ. المقامة القَهقَريّة حدّث الحارثُ بنُ همّام قال: لحظْتُ في بعضِ مطارِحِ البَينِ. ومطامِحِ العينِ. فِتيَةً عليهِمْ سِيما الحِجى. وطُلاوَةُ نُجومِ الدُجى. وهمْ في مُماراةٍ مشتَدّةِ الهُبوبِ. ومُباراةٍ مشتطّةِ الأُلْهوبِ. فهزّني لقَصْدِهمْ هوى المُحاضرَةِ. واستِحْلاءُ جنى المُناظرةِ. فلمّا التحقْتُ برهْطِهِمْ. وانتظمْتُ في سِمْطِهمْ. قالوا: أأنتَ ممّنْ يُبْلى في الهَيْجاء. ويُلْقي دَلْوَهُ في الدِّلاء؟ فقلت: بل أنا منْ نظّارَةِ

الحرْبِ. لا منْ أبناء الطّعْنِ والضّرْبِ. فأضْرَبوا عن حِجاجي. وأفاضوا في التّحاجي. وكانَ في بحبوحةِ حلْقَتِهِمْ. وإكْليلِ رُفقَتِهِمْ. شيخٌ قد برَتْهُ الهُمومُ. ولوّحَتْهُ السَّمومُ. حتى عادَ أنْحلَ. منْ قلَمٍ وأقْحلَ منْ جلَمٍ. إلا أنهُ كان يُبدي العُجابَ. إذا أجابَ. ويُنْسي سحْبانَ. كلّما أبانَ. فأُعجِبْتُ بما أوتيَ من الإصابَةِ. والتّبريزِ على تلكَ العِصابةِ. وما زالَ يفضَحُ كلَّ مُعمًّى. ويُصْمي في كلّ مرْمًى. الى أن خلَتِ الجِعابُ. ونفِدَ السّؤالُ والجوابُ. فلما رأى إنْفاضَ القوْمِ. واضْطِرارَهُمْ الى الصّومِ. عرّضَ بالمُطارَحَةِ. واستأذنَ في المُفاتَحةِ. فقالوا

له: حبّذا. ومنْ لنا بِذا؟ فقال: أتعرِفونَ رِسالةً أرْضُها سماؤها. وصُبحُها مساؤها؟ نُسِجَتْ على مِنوالَينِ. وتجلّتْ في لوْنَينِ. وصلّتْ الى جِهَتَينِ. وبدتْ ذات وجهَينِ. إنْ بزغَتْ منْ مشرِقِها. فناهيكَ برَونَقِها. وإنْ طلعَتْ منْ مغرِبِها. فَيا لعَجَبِها! قال: فكأنّ القومَ رُموا بالصُّماتِ. أو حقّتْ عليهِمْ كلمةُ الإنْصاتِ. فما نبَسَ منهُمْ إنسانٌ. ولا فاهَ لأحدِهِمْ لِسانٌ. فحينَ رآهُم بُكْماً كالأنْعامِ. وصُموتاً كالأصْنامِ. قال لهُمْ: قدْ أجّلتُكُمْ أجَلَ العِدّةِ. وأرخَيت لكُمْ طِوَلَ المُدّةِ. ثم هاهُنا مجمَعُ الشّمْلِ. وموقِفُ الفصْلِ. فإنْ سمحَتْ خواطرُكُمْ مدَحْنا. وإنْ صلدَتْ

زِنادُكُمْ قدَحْنا. فقالوا لهُ: واللهِ ما لَنا في لُجّةِ هذا البحرِ مسبَحٌ. ولا في ساحِلِهِ مسرَحٌ. فأرِحْ أفكارَنا منَ الكدّ. وهنّئِ العطيّةَ بالنّقْدِ. واتّخِذْنا إخواناً يثِبونَ إذا وثَبْتَ. ويُثيبونَ متى استَثَبْتَ. فأطْرَقَ ساعةً. ثمّ قال: سمْعاً لكُمْ وطاعةً! فاستَمْلوا مني. وانْقُلوا عني: الإنسانُ. صَنيعةُ الإحسانِ. وربُّ الجَميلِ. فِعْلُ النّدْبِ. وشيمَةُ الحُرّ. ذخيرَةُ الحمْدِ. وكسْبُ الشُكْرِ. استِثْمارُ السّعادةِ. وعُنوانُ الكرَمِ. تباشيرُ البِشْرِ. واستِعْمالُ المُداراةِ يوجِبُ المُصافاةَ. وعقْدُ المحبّةِ يقتَضي النُصْحَ. وصِدْقُ الحديثِ. حِليةُ اللّسانِ. وفصاحَةُ المنطِقِ. سحرُ الألْبابِ.

وشرَكُ الهوى. آفَةُ النّفوسِ. وملَلُ الخلائقِ. شَينُ الخلائقِ. وسوءُ الطّمعِ. يُبايِنُ الورَعَ. والتِزامُ الحَزامَةِ. زِمامُ السّلامَةِ. وتطلُّبُ المثالِبِ. شرُّ المَعايِبِ. وتتبُّعُ العثَراتِ. يُدْحِضُ المودّاتِ. وخُلوصُ النيّةِ. خُلاصةُ العطيّةِ. وتهنئةُ النّوالِ. ثمَنُ السّؤالِ. وتكلُّفُ الكُلَفِ. يسهِّلُ الخَلَفَ. وتيقُّنُ المَعونَةِ. يُسَنّي المؤونَةَ. وفضْلُ الصّدْرِ. سعَةُ الصّدرِ. وزينَةُ الرُعاةِ. مقْتُ السُعاةِ. وجَزاءُ المدائِحِ. بثُّ المَنائِحِ. ومهْرُ الوسائِلِ. تشفيعُ المسائِلِ. ومجلَبَةُ الغَوايةِ. استِغْراقُ الغايةِ. وتجاوزُ الحدّ. يُكِلّ الحدَّ.

وتعدّي الأدَبِ. يُحبِطُ القُرَبَ. وتناسي الحُقوقِ. يُنشِئُ العُقوقَ. وتحاشي الرِّيَبِ. يرفَعُ الرُتَبَ. وارتِفاعُ الأخطارِ. باقتِحامِ الأخطارِ. وتنوّهُ الأقْدارِ. بمؤاتاةِ الأقْدارِ. وشرَفُ الأعْمالِ. في تقْصيرِ الآمالِ. وإطالةُ الفِكرَةِ. تنقيحُ الحِكمَةِ. ورأسُ الرّئاسةِ. تهذُّبُ السّياسَةِ. ومع اللّجاجَةِ. تُلْغى الحاجةُ. وعندَ الأوْجالِ. تتفاضَلُ الرّجالُ. وبتفاضُلِ الهِمَمِ. تتفاوتُ القِيَمُ. وبتزيُّدِ السّفيرِ. يهِنُ التّدبيرُ. وبخلَلِ الأحوالِ. تتبيّنُ الأهْوالُ. وبموجَبِ الصّبرِ. ثمَرَةُ

النّصْرِ. واستِحقاقُ الإحْمادِ. بحسَبِ الاجْتِهادِ. ووجوبُ المُلاحظَةِ. كِفاءُ المُحافظَةِ. وصفاءُ الموالي. بتعهُّدِ المَوالي. وتحلّي المُروءاتِ. بحِفْظِ الأماناتِ. واختِبارُ الإخْوانِ. بتخْفيفِ الأحْزانِ. ودفْعُ الأعْداء. بكفّ الأودّاء. وامتِحانُ العُقَلاء. بمُقارَنَةِ الجُهَلاء. وتبصُّرُ العَواقِبِ. يؤمنُ المَعاطِبَ. واتّقاءُ الشُنْعَةِ. ينشُرُ السُمْعَةَ. وقُبْحُ الجَفاء. يُنافي الوَفاء. وجوهَرُ الأحْرارِ. عندَ الأسْرارِ. ثمّ قال: هذهِ مِئَتا لفظَةٍ. تحتوي على أدَبٍ وعِظَةٍ. فمَنْ ساقَها هذا المَساقَ. فلا مِراءَ ولا شِقاقَ. ومنْ رامَ عكْسَ قالَبِها. وأنْ يردّها على عقِبِها. فلْيَقُلْ: الأسْرارُ. عندَ الأحرارِ. وجوهرُ الوَفاء. ينافي الجَفاء. وقُبْحُ السُمعةِ. ينشُرُ الشُنعَةَ. ثمّ على هذا المسحَبِ فليَسْحَبْها. ولا يرْهَبْها. حتى تكونَ خاتِمَةُ فِقَرِها. وآخِرَةُ دُرَرِها: ورَبُّ الإحسانِ. صنيعَةُ الإنسانِ. قال الراوي: فلمّا صدَعَ برسالَتِه الفَريدةِ. وأُملوحَتِهِ المُفيدةِ. علِمْنا كيفَ يتفاضَلُ الإنْشاءُ. وأنّ الفضْلَ بيدِ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ. ثمّ اعْتَلَقَ كلٌ منّا بذَيلِه. وفلَذَ لهُ فِلذَةً من نيْلِهِ. فأبى قَبولَ فِلْذَتي. وقال: لستُ أرْزأُ تلامِذَتي. فقلتُ له: كُنْ أبا زيدٍ على شُحوبِ سَحنتِكَ. ونُضوبِ ماء وجْنتِكَ. فقال: أنا هوَ على نُحولي وقُحولي. وقشَفِ مُحولي. فأخذْتُ في تثريبِه. على تشْريقِه وتغريبِه. فحوْلَقَ واسترْجَعَ. ثمّ أنشدَ منْ قلْبٍ موجَعٍ: تِحانُ العُقَلاء. بمُقارَنَةِ الجُهَلاء. وتبصُّرُ العَواقِبِ. يؤمنُ المَعاطِبَ. واتّقاءُ الشُنْعَةِ. ينشُرُ السُمْعَةَ. وقُبْحُ الجَفاء. يُنافي الوَفاء. وجوهَرُ الأحْرارِ. عندَ الأسْرارِ. ثمّ قال: هذهِ مِئَتا لفظَةٍ. تحتوي على أدَبٍ وعِظَةٍ. فمَنْ ساقَها هذا المَساقَ. فلا مِراءَ ولا شِقاقَ. ومنْ رامَ عكْسَ قالَبِها. وأنْ يردّها على عقِبِها. فلْيَقُلْ: الأسْرارُ.

عندَ الأحرارِ. وجوهرُ الوَفاء. ينافي الجَفاء. وقُبْحُ السُمعةِ. ينشُرُ الشُنعَةَ. ثمّ على هذا المسحَبِ فليَسْحَبْها. ولا يرْهَبْها. حتى تكونَ خاتِمَةُ فِقَرِها. وآخِرَةُ دُرَرِها: ورَبُّ الإحسانِ. صنيعَةُ الإنسانِ. قال الراوي: فلمّا صدَعَ برسالَتِه الفَريدةِ. وأُملوحَتِهِ المُفيدةِ. علِمْنا كيفَ يتفاضَلُ الإنْشاءُ. وأنّ الفضْلَ بيدِ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ. ثمّ اعْتَلَقَ كلٌ منّا بذَيلِه. وفلَذَ لهُ فِلذَةً من نيْلِهِ. فأبى قَبولَ فِلْذَتي. وقال: لستُ أرْزأُ تلامِذَتي. فقلتُ له: كُنْ أبا زيدٍ على شُحوبِ سَحنتِكَ. ونُضوبِ ماء وجْنتِكَ. فقال: أنا هوَ على نُحولي وقُحولي. وقشَفِ مُحولي. فأخذْتُ في تثريبِه. على تشْريقِه وتغريبِه. فحوْلَقَ واسترْجَعَ. ثمّ أنشدَ منْ قلْبٍ موجَعٍ:

سَلَّ الزّمانُ عليّ عضْبَهْ ... ليَروعَني وأحَدَّ غَرْبَهْ واستَلّ منْ جَفْني كَرا ... هُ مُراغِماً وأسالَ غَربَهْ وأجالَني في الأفْقِ أطْ ... وي شرْقَهُ وأجوبُ غرْبَهْ فبِكُلّ جوٍّ طلْعَةٌ ... في كلّ يومٍ لي وغَرْبَهْ وكذا المُغرِّبُ شخصُهُ ... متغرّبٌ ونواهُ غرْبَهْ ثمّ ولّى يجُرّ عِطفَيْهِ. ويخطِرُ بيَدَيْهِ. ونحنُ بين متلفّتٍ إليهِ. ومتهافِتٍ عليهِ. ثمّ لمْ نلبَثْ أن حللْنا الحِبى. وتفرّقنا أياديَ سَبا.

المقامة السنجارية

المقامة السِّنْجاريّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: قفَلتُ ذاتَ مرّةٍ منَ الشامِ. أنحو مدينةَ السّلامِ. في ركبٍ من بني نُمَيرٍ. ورُفقَةٍ أولي خيرٍ ومَيرٍ. ومعَنا أبو زيدٍ السّروجيُّ عُقلَةُ العَجْلانِ. وسَلْوَةُ الثّكْلانِ. وأُعجوبَةُ الزّمانِ. والمُشارُ إليْهِ بالبَنانِ. في البَيانِ. فصادَفَ نزولُنا سِنْجارَ. أنْ أوْلَمَ بها أحدُ التّجارِ. فدَعا إلى مأدُبَتِه الجَفلى. من أهلِ الحضارةِ والفَلا. حتى سرَتْ دعوتُهُ الى القافِلَةِ. وجمَعَ فيها بينَ الفَريضةِ والنّافِلَةِ. فلمّا أجَبْنا مُنادِيَهُ. وحللْنا نادِيَهُ. أحضَرَ منْ أطعِمَةِ اليدِ واليَدَيْنِ. ما حَلا في الفَمِ

وحَليَ بالعَينِ. ثمّ قدّمَ جاماً كأنّما جُمّدَ من الهَواء. أو جُمِعَ منَ الهَباء. أو صِيغَ منْ نورِ الفضاء. أو قُشِرَ منَ الدُرّةِ البيضاء. وقد أودِعَ لَفائِفَ النّعيمِ. وضُمّخَ بالطّيبِ العَميمِ. وسيقَ إليْهِ شِرْبٌ منْ تسْنيمٍ. وسفَرَ عنْ مرْأًى وسيمٍ. وأرَجِ نَسيمٍ. فلمّا اضطَرَمَتْ بمحْضَرِهِ الشّهَواتُ. وقرِمَتْ الى مخْبَرِهِ اللهَواتُ. وشارَفَ أنْ تُشَنّ على سِرْبِهِ الغاراتُ. ويُنادَى عندَ نهْيِهِ: يا للثّاراتِ! نشَزَ أبو زيدٍ كالمجْنونِ. وتباعَدَ عنهُ تباعُدَ الضّبّ منَ النّونِ. فراوَدناهُ على أن يعودَ. وأنْ لا يكونَ كقُدارٍ

في ثمودَ. فقال: والذي يُنشِرُ الأمْواتَ منَ الرِّجامِ. لا عُدْتُ دونَ رفْعِ الجامِ. فلمْ نجِدْ بُدّاً منْ تألُّفِهِ. وإبْرارِ حَلِفِهِ. فأشَلْناهُ والعُقولُ معَهُ شائِلَةٌ. والدّموعُ علَيْهِ سائِلَةٌ. فلمّا فاءَ الى مجْثمِهِ. وخلَصَ منْ مأثَمِهِ. سألناهُ لمَ قامَ. ولأيّ معنًى استرْفَعَ الجامَ؟ فقال: إنّ الزّجاجَ نَمّامٌ. وإني آليتُ مُذْ أعوامٍ. أنْ لا يضُمّني ونموماً مَقامٌ. فقُلنا لهُ: وما سبَبُ يَمينِكَ الصِّرّى. وألِيّتِكَ الحرّى؟ فقال: إنهُ كانَ لي جارٌ لسانُهُ يتقرّبُ. وقلبُهُ عقْرَبٌ. ولفظُهُ شهدٌ ينقَعُ. وخَبْؤهُ سمٌ منقَعٌ. فمِلْتُ لمُجاورَتِهِ. الى مُحاورَتِهِ. واغتَرَرْتُ بمُكاشَرَتِهِ. في مُعاشرَتِهِ. واستهْوَتْني خُضرَةُ دمْنَتِهِ. لمُنادَمَتِهِ. وأغرَتْني خُدْعَةُ سمَتِهِ.

بمُناسمَتِهِ. فمازَجْتُهُ وعندي أنّهُ جارٌ مُكاسرٌ. فبانَ أنّهُ عُقابٌ كاسِرٌ. وأنَسْتُهُ على أنهُ حِبٌ مؤانِسٌ. فظهرَ أنهُ حُبابٌ مؤالِسٌ. ومالحْتُهُ ولا أعلَمُ أنهُ عندَ نقْدِهِ. ممّنْ يُفرَحُ بفَقْدِه. وعاقرْتُهُ ولم أدْرِ أنهُ بعدَ فرّهِ. ممّنْ يُطرَبُ لمَفرّهِ. وكانتْ عندي جاريةٌ. لا يوجَدُ لها في الجَمالِ مُجاريَةٌ. إنْ سفرَتْ خجِلَ النّيِّرانِ. وصَلِيَتِ القُلوبُ بالنّيرانِ. وإنْ بسَمَتْ أزْرَتْ بالجُمانِ. وبيعَ المرْجانُ. بالمجّانِ. وإنْ رنَتْ هيّجَتِ البلابِلَ. وحقّقَتْ سحْرَ بابِلَ. وإنْ نطقَتْ عقَلَتْ لُبّ العاقِلِ. واستنْزَلَتِ العُصْمَ من المعاقِلِ. وإنْ

قرأتْ شفَتِ المفْؤودَ. وأحيَتِ الموؤودَ. وخِلْتَها أُوتِيَتْ منْ مَزاميرِ آلِ داودَ. وإنْ غنّتْ ظلّ معبَدٌ لها عبْداً. وقيلَ: سُحْقاً لإسْحَقَ وبُعْداً! وإنْ زمرَتْ أضحى زُنامٌ عندَها زَنيماً. بعدَ أن كان لجيلِهِ زعيماً. وبالإطْرابِ زعيماً. وإنْ رقصَتْ أمالَتِ العَمائِمَ عنِ الرؤوسِ. وأنستْكَ رقْصَ الحبَبِ في الكؤوسِ. فكُنتُ أزدَري معَه حُمْرَ النَّعَمِ. وأُحَلّي بتمَلّيها جيدَ النِّعَمِ. وأحْجُبُ مرْآها عنِ الشّمسِ والقمَرِ. وأذودُ ذِكْراها عنْ شرائِعِ السّمَرِ. وأنا معَ ذلِكَ أُليحُ. منْ أن تسْري برَيّاها

ريحٌ. أو يَكهُنَ بها سَطيحٌ. أو ينمّ علَيْها برْقٌ مُليحٌ. فاتّفَقَ لوشْلِ الحظّ المبْخوسِ. ونكْدِ الطّالِعِ المنْحوسِ. أنْ أنْطَقَتْني بوصْفِها حُمَيّا المُدامِ. عندَ الجارِ النّمّامِ. ثمّ ثابَ الفهْمُ. بعدَ أن صرِدَ السّهْمُ. فأحسَسْتُ الخبالَ والوَبالَ. وضَيعَةَ ما أُودِعَ ذلِكَ الغِرْبالُ. بيدَ أني عاهدْتُهُ على عكْمِ ما لفظْتُهُ. وأنْ يحفَظَ السّرَّ ولوْ أحفَظْتُهُ. فزعَمَ أنهُ يخزُنُ الأسرارَ. كما يخزُنُ اللّئيمُ الدّينارَ. وأنهُ لا يهتِكُ الأسْتارَ. ولو عُرِّضَ لأنْ يلِجَ النارَ. فما إنْ غبَرَ على ذلِكَ الزّمانِ. إلا يومٌ أو يومانِ.

حتى بَدا الى أميرِ تِلكَ المَدَرَةِ. وواليها ذي المَقدُرةِ. أنْ يقصِدَ بابَ قَيلِهِ. مجدِّداً عرْضَ خيلِهِ. ومُستَمطِراً عارِضَ نيلِهِ. وارْتادَ أنْ تصحَبَهُ تُحْفَةٌ تُلائِمُ هواهُ. ليُقدّمَها بينَ يدَيْ نجْواهُ. وجعلَ يبذُلُ الجعائلَ لروّادِهِ. ويُسنّي المراغِبَ لمَنْ يُظْفِرُهُ بمُرادِهِ. فأسَفّ ذلِكَ الجارُ الختّارُ الى بُذولِهِ. وعصى في ادّراغِ العارِ عذْلِ عَذولِهِ. فأتى الوالي ناشِراً أذُنَيْهِ. وأبثّهُ ما كُنتُ أسرَرْتُهُ إليْهِ. فما راعَني إلا انسِيابُ صاغِيَتِه إليّ. وانثِيالُ حفَدَتِهِ عليّ. يَسومُني إيثارَهُ بالدُرّةِ اليَتيمةِ. على أنْ أتحكّمَ عليْهِ في القِيمةِ. فغَشِيَني منَ الهمّ. ما غشِيَ فِرعَونَ وجنودَهُ منَ اليَمّ. ولمْ أزلْ أدافِعُ عنها ولا يُغْني الدّفاعُ. وأستَشفِعُ إليْهِ ولا يُجْدي الاستِشْفاعُ. وكلّما رأى منّي ازدِيادَ الاعْتِياصِ. وارتِيادَ المَناصِ. تجرّمَ وتضرّمَ. وحرّقَ عليّ الأُرَّمَ. ونفْسي معَ ذلِكَ لا تسمَحُ بمُفارَقَةِ بدْري. ولا بأنْ أنزِعَ قلْبي منْ صدري. حتى آلَ الوَعيدُ إيقاعاً. والتّقريعُ قِراعاً. فقادَني الإشْفاقُ منَ الحَينِ. الى أن قِضْتُهُ سوادَ العَينِ. بصُفرةِ العَينِ. ولم يحْظَ الواشي بغيرِ الإثْمِ والشَّينِ. فعاهدتُ اللهَ تَعالى مُذْ ذلِك العهْدِ. أنْ لا أُحاضِرَ نمّاماً منْ بعْدُ. والزّجاجُ مخصوصٌ بهذِه الطّباعِ الذّميمةِ. وبهِ يُضرَبُ المثَلُ في النّميمةِ. فقدْ جرى عليْهِ سيْلُ يميني. ولذلِكُمُ السّببِ لمْ تمْتَدّ إلَيْهِ يَميني: لِهِ. مجدِّداً عرْضَ خيلِهِ. ومُستَمطِراً عارِضَ نيلِهِ. وارْتادَ أنْ تصحَبَهُ تُحْفَةٌ تُلائِمُ هواهُ. ليُقدّمَها بينَ يدَيْ نجْواهُ. وجعلَ يبذُلُ الجعائلَ لروّادِهِ. ويُسنّي المراغِبَ لمَنْ يُظْفِرُهُ بمُرادِهِ. فأسَفّ ذلِكَ الجارُ الختّارُ الى بُذولِهِ. وعصى في ادّراغِ العارِ عذْلِ عَذولِهِ. فأتى الوالي ناشِراً أذُنَيْهِ. وأبثّهُ ما كُنتُ أسرَرْتُهُ إليْهِ. فما راعَني إلا انسِيابُ صاغِيَتِه إليّ. وانثِيالُ حفَدَتِهِ عليّ. يَسومُني إيثارَهُ بالدُرّةِ اليَتيمةِ. على أنْ أتحكّمَ عليْهِ في القِيمةِ. فغَشِيَني منَ الهمّ. ما غشِيَ فِرعَونَ

وجنودَهُ منَ اليَمّ. ولمْ أزلْ أدافِعُ عنها ولا يُغْني الدّفاعُ. وأستَشفِعُ إليْهِ ولا يُجْدي الاستِشْفاعُ. وكلّما رأى منّي ازدِيادَ الاعْتِياصِ. وارتِيادَ المَناصِ. تجرّمَ وتضرّمَ. وحرّقَ عليّ الأُرَّمَ. ونفْسي معَ ذلِكَ لا تسمَحُ بمُفارَقَةِ بدْري. ولا بأنْ أنزِعَ قلْبي منْ صدري. حتى آلَ الوَعيدُ إيقاعاً. والتّقريعُ قِراعاً. فقادَني الإشْفاقُ منَ الحَينِ. الى أن قِضْتُهُ سوادَ العَينِ. بصُفرةِ العَينِ. ولم يحْظَ الواشي بغيرِ الإثْمِ والشَّينِ. فعاهدتُ اللهَ تَعالى مُذْ ذلِك العهْدِ. أنْ لا أُحاضِرَ نمّاماً منْ بعْدُ. والزّجاجُ مخصوصٌ بهذِه الطّباعِ الذّميمةِ. وبهِ يُضرَبُ المثَلُ في النّميمةِ.

فقدْ جرى عليْهِ سيْلُ يميني. ولذلِكُمُ السّببِ لمْ تمْتَدّ إلَيْهِ يَميني: فلا تعذِلوني بعدَما قد شرحتُهُ ... على أنْ حُرِمْتمْ بي اقتِطافَ القطائِفِ فقد بانَ عُذري في صَنيعي وإنّني ... سأرْتُقُ فَتقي من تَليدي وطارِفي على أنّ ما زوّدْتُكُمْ من فُكاهَةٍ ... ألذُّ من الحُلْوى لدَى كل عارِفِ قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقبِلْنا اعتِذارَهُ. وقبّلنا عِذارَهُ. وقُلْنا لهُ: قِدْماً وقذَتِ النّميمةُ خيرَ البشَرِ. حتى انتشَرَ عنْ حمّالةِ الحطبِ ما انتشَرَ. ثمّ سألْناهُ عما أحدَثَ جارُهُ القَتّاتُ. ودُخْلُلُهُ المُفْتاتُ. بعدَ أن راشَ لهُ نبْلَ السّعايَةِ. وجذَمَ حبْلَ الرّعايةِ. فقال:

أخذَ في الاستِخْداء والاستِكانَةِ. والاستِشْفاعِ إليّ بذَوي المكانةِ. وكنتُ حرّجتُ على نفسي. أنْ لا يستَرْجِعَهُ أُنْسي. أو يرْجِع إليّ أمْسي. فلمْ يكُنْ لهُ مني سِوى الردّ. والإصْرارِ على الصّدّ. وهوَ لا يكتَئِبُ منَ النّجْهِ. ولا يتّئِبُ منْ وقاحةِ الوجهِ. بلْ يُلِطّ بالوَسائِلِ. ويُلحّ في المسائِلِ. فما أنقذَني منْ إبْرامِهِ. ولا أبْعَدَ عليْهِ نَيْلَ مَرامِهِ. إلا أبياتٌ نفثَ بها الصّدرُ الموتورُ. والخاطرُ المبْتورُ. فإنّها كانتْ مَدْحَرَةً لشيطانِهِ. ومسجَنَةً لهُ في أوطانِهِ. وعندَ انتِشارِها بتّ طَلاقَ الحُبورِ. ودَعا بالويْلِ والثّبورِ. ويَئِسَ منْ نشْرِ وصْلي المقْبورِ. كم يئِسَ الكُفّارُ منْ أصحابِ القُبورِ. فناشَدْناهُ أنْ يُنشِدَنا إيّاها. ويُنشِقنا ريّاها.

فقال: أجَلْ. خُلِقَ الإنسانُ منْ عجَلٍ. ثمّ أنشدَ لا يَزْويهِ خجَلٌ. ولا يثْنيهِ وجَلٌ: ونَديمٍ محَضْتُهُ صِدْقَ ودّي ... إذْ توهّمْتُهُ صَديقاً حَميما ثمّ أولَيتُهُ قَطيعةَ قالٍ ... حينَ ألفَيتُهُ صَديداً حَميما خِلتُهُ قبلَ أنْ يجرَّبَ إلْفاً ... ذا ذِمامٍ فبانَ جِلْفاً ذَميما وتخيّرْتُهُ كليماً فأمْسى ... منهُ قلْبي بما جَناهُ كَليما وتظنّيْتُهُ مُعيناً رَحيماً ... فتبيّنتُهُ لَعيناً رَجيما وتراءَيْتُهُ مُريداً فجلّى ... عنهُ سَبْكي لهُ مَريداً لَئيما وتوسّمْتُ أنْ يهُبّ نَسيماً ... فأبى أن يهُبّ إلا سَموما بِتُّ من لسْعِهِ الذي أعجزَ الرّا ... قي سَليماً وباتَ مني سَليما

وبَدا نهجُهُ غَداةَ افترَقْنا ... مُستَقيماً والجسمُ مني سَقيما لم يكنْ رائِعاً خَصيباً ولكِنْ ... كان بالشرّ رائِعاً لي خَصيما قلتُ لمّا بلَوْتُهُ ليتَهُ كا ... نَ عديماً ولمْ يكُنْ لي نَديما بغّضَ الصّبْحَ حينَ نمّ الى قلْ ... بي لأنّ الصّباحَ يُلْفى نَموما ودَعاني الى هوَى الليلِ إذْ كا ... نَ سوادُ الدُجى رَقيباً كَتوما وكفى مَنْ يَشي ولوْ فاهَ بالصّدْ ... قِ أثاماً فيما أتاهُ ولوما قال: فلمّا سمِعَ ربُّ البيتِ قَريضَهُ وسجْعَهُ. واستمْلَحَ تقريظَهُ وسبْعَهُ. بوّأهُ مِهادَ كرامَتِهِ. وصدّرَهُ على تكرِمتِهِ. ثم استحْضَرَ عشْرَ صِحافٍ منَ الغرَبِ. فيها حَلْواءُ القَنْدِ والضّرْبِ.

وقال لهُ: لا يستَوي أصحابُ النّارِ وأصحابُ الجَنّةِ. ولا يسَعُ أنْ يُجعَلَ البَريءُ كذي الظِّنّةِ. وهذهِ الآنِيةُ تتنزّلُ منزلَةَ الأبْرارِ. في صوْنِ الأسْرارِ. فلا تولِها الإبْعادَ. ولا تُلحِقْ هوداً بعادَ. ثم أمر خادمَهُ بنقْلِها الى مثْواهُ. ليحْكُمَ فيها بما يهْواهُ. فأقبلَ عليْنا أبو زيدٍ وقال: اقرأوا سورةَ الفتْحِ. وأبشِروا باندِمالِ القرْحِ. فقدْ جبرَ اللهُ ثُكْلَكُمْ. وسنّى أكْلكُمْ. وجمعَ في ظِلّ الحَلْواء شمْلَكُمْ. وعسَى أنْ تكرَهوا شيئاً وهوَ خيرٌ لكُمْ. ولمّا همّ بالانصِرافِ. مالَ الى استِهداء الصِّحافِ. فقال للآدِبِ: إنّ من دلائِلِ الظّرْفِ. سماحَةَ المُهدي بالظّرْفِ. فقال: كلاهُما لكَ والغُلمُ. فاحذِفِ الكلامَ. وانهضْ بسَلامٍ. فوثبَ في الجوابِ. وشكرَهُ شُكْرَ الرّوضِ للسّحابِ. ثمّ اقْتادَنا أبو زيْدٍ الى حِوائِهِ. وحكّمَنا في حَلْوائهِ. وجعلَ يقلّبُ الأواني بيَدِهِ. ويفُضّ عدَدَها على عدَدِه. ثمّ

المقامة النصيبية

قال: لستُ أدري أأشكو ذلِك النّمّامَ أم أشكُرُ. وأتناسَى فَعْلَتَهُ التي فعلَها أم أذكُرُ؟ فإنهُ وإنْ كان أسْلَفَ الجريمَةَ. ونمْنَمَ النّميمَةَ. فمِنْ غيمِهِ انهلّتْ هذِهِ الدّيمَةُ. وبسيفِهِ انحازَتْ هذه الغَنيمةُ. وقد خطرَ ببالي. أن أرْجِعَ الى أشْبالي. وأقنَعَ بما تسنّى لي. وأنْ لا أُتعِبَ نفْسي ولا أجْمالي. وأنا أودّعُكُمْ وداعَ مُحافِظٍ. وأستودِعُكُمْ خيرَ حافِظٍ. ثمّ اسْتَوى على راحِلَتِهِ. راجِعاً في حافرَتِه. ولاوِياً الى زافِرَتِهِ. فغادَرَنا بعدَ أنْ وخدَتْ عنْسُهُ. وزايَلَنا أُنْسُهُ. كدَسْتٍ غابَ صدرُهُ. أو ليلٍ أفَلَ بدْرُهُ. المقامة النّصيبيّة روى الحارثُ بنُ همّام قال: أمْحَلَ العِراقُ ذاتَ العُوَيْمِ. لإخْلافِ أنواء الغَيْمِ. وتحدّثَ الرُكْبانُ بريفِ نَصيبِينَ.

وبُلَهْنِيَةِ أهلِها المُخصِبينَ. فاقتَعَدْتُ مَهْرِيّاً. واعْتقلْتُ سمْهَرياً. وسِرْتُ تلفِظُني أرضٌ الى أرضٍ. ويجذِبُني رفْعٌ منْ خفْضٍ. حتى بلغْتُها نِقْضاً على نِقضٍ. فلمّا أنخْتُ بمغْناها الخصيبِ. وضربْتُ في مرْعاها بنَصيبٍ. نوَيْتُ أن أُلْقيَ بها جِراني. وأتّخذَ أهلَها جيراني. الى أنْ تحْيا السّنَةُ الجَمادُ. وتتعهّدُ أرضَ قوْمي العِهادُ. فواللهِ ما تمَضْمَضَتْ مُقلَتي بنوْمِها. ولا تمخّضَتْ ليْلَتي عن يومِها. دونَ أن ألفَيْتُ أبا زيدٍ السَّروجيَّ يجولُ في أرجاء نَصيبينَ. ويخبِطُ بها خبْطَ المُصابينَ والمُصيبينَ. وهوَ ينثُرُ منْ فيهِ الدُرَرَ. ويحتلِبُ بكفّيْهِ الدِّرَرَ. فوجدْتُ بها جِهاديَ قد حازَ

مَغنَماً. وقِدْحيَ الفَذّ قد صار توْأماً. ولم أزلْ أتْبَعُ ظِلّهُ أينَما انبَعَث. وألتَقِطُ لفظَهُ كلّما نفثَ. الى أنْ عراهُ مرضٌ امتدّ مَداهُ. وعرَقَتْهُ مُداهُ. حتى كادَ يسلُبُه ثوبَ المَحْيا. ويسلّمُهُ الى أبي يَحْيى. فوجدْتُ لفَوْتِ لُقياهُ. وانقِطاعِ سُقْياهُ. ما يجدُهُ المُبعَدُ عن مرامِهِ. والمُرضَعُ عندَ فِطامِهِ. ثمّ أرْجِفَ بأنّ رهْنَهُ قد غلِقَ. ومِخْلَبَ الحِمامِ بهِ قد علِقَ. فقَلِقَ صحْبُهُ لإرْجافِ المُرْجِفينَ. وانثالوا الى عَقوَتِهِ مُوجِفينَ: حَيارى يميدُ بهمْ شَجْوُهُمْ ... كأنّهمُ ارتَضعوا الخندَريسا

أسالوا الغُروبَ وعطّوا الجُيوبَ ... وصكّوا الخدودَ وشجّوا الرّؤوسا يودونَ لوْ سالمَتْهُ المَنونُ ... وغالَتْ نفائِسَهُمْ والنّفوسا قال الرّاوي: وكنتُ في مَنِ التفّ بأصْحابِه. وأغذّ الى بابِه. فلمّا انتهيْنا الى فِنائِه. وتصدّينا لاستِنْشاء أنْبائِهِ. برزَ إليْنا فتاهُ. مُفترّةً شفتَاهُ. فاستَطْلَعناهُ طِلْعَ الشيخِ في شَكاتِهِ. وكُنْهَ قُوى حرَكاتِهِ. فقال: قدْ كان في قبْضَةِ المرْضَةِ. وعرْكَةِ الوعْكَةِ. الى أنْ شفّهُ الدّنَفُ. واستشفّهُ التّلَفُ. ثمّ منّ اللهُ تَعالى بتقويةِ ذمائِهِ. فأفاقَ منْ إغمائِهِ. فارْجِعوا أدراجَكُمْ. وانْضوا انزِعاجَكُمْ. فكأنْ قد غَدا وراحَ. وساقاكُمُ الرّاحَ. فأعْظَمْنا

بُشْراهُ. واقترَحْنا أنْ نَراهُ. فدخَلَ مؤذِناً بِنا. ثمّ خرَج آذِناً لنا. فلَقينا منْهُ لَقًى. ولِساناً طلْقاً. وجلسْنا مُحدِقين بسَريرِهِ. محدّقينَ الى أساريرِه. فقلّبَ طرْفَهُ في الجَماعةِ. ثمّ قال: اجْتَلوها بنتَ السّاعةِ. وأنشَد: عافانيَ اللهُ وشُكْراً لهُ ... منْ عِلّة كادتْ تُعَفّيني ومنّ بالبُرْء على أنّهُ ... لا بُدّ منْ حتْفٍ سيَبْريني ما يتَناساني ولكنّهُ ... الى تقضّي الأُكْلِ يُنْسيني إنْ حُمّ لمْ يُغْنِ حَميمٌ ولا ... حمَى كُلَيْبٍ منْهُ يحْميني وم أُبالي أدَنا يومُهُ ... أم أُخّرَ الحَينُ الى حينِ فأيُّ فخْرٍ في حَياةٍ أرى ... فيها البَلايا ثمّ تُبْليني

قال: فدعَوْنا لهُ بامتِدادِ الأجلِ. وارتِدادِ الوجَلِ. ثمّ تداعَيْنا الى القِيامِ. لاتّقاءِ الإبْرامِ. فقالَ: كلاّ بلِ البَثوا بَياضَ يومِكُمْ عِندي. لتَشْفوا بالمَفاكَهَةِ وجْدي. فإنّ مُناجاتَكُمْ قوتُ نفْسي. ومَغْناطيسُ أُنسي. فتحرّيْنا مرْضاتَهُ. وتحامَيْنا مُعاصاتَهُ. وأقبَلْنا على الحَديثِ نمْخُضُ زُبْدَهُ. ونُلْغي زبَدَه. الى أنْ حانَ وقتُ المَقيلِ. وكلّتِ الألسُنُ منَ القالِ والقيلِ. وكان يوْماً حاميَ الوَديقَةِ. يانِعَ الحَديقَةِ. فقال: إنّ النّعاسَ قدْ أمالَ الأعْناقَ. وراودَ الآماقَ. وهو خصْمٌ ألَدُّ. وخِطْبٌ لا يُرَدُّ. فصِلوا حبْلَهُ بالقَيْلولَةِ. واقْتَدوا فيهِ بالآثارِ المنقولةِ. قال الرّاوي: فاتّبعْنا ما قالَ. وقِلْنا وقالَ. فضربَ اللهُ على الآذانِ. وأفرَغَ السِّنَةَ في الأجْفانِ. حى خرَجْنا منْ حُكْمِ الوجودِ. وصُرِفْنا

بالهُجودِ. عنِ السّجودِ. فما استيْقَظْنا إلا والحرُّ قدْ باخَ. واليومُ قد شاخَ. فتكرّعْنا لصَلاةِ العَجْماوَينِ. وأدّيْنا ما حَلّ منَ الدّينِ. ثمّ تحثْحَثْنا للارْتِحالِ. الى مُلْقى الرِّحالِ. فالتَفَتَ أبو زيدٍ الى شِبلِهِ. وكان على شاكِلَتِه وشكْلِهِ. وقال: إني لإخالُ أبا عَمْرَةَ. قد أضْرَمَ في أحشائِهِم الجَمرَةَ. فاسْتَدْعِ أبا جامِعٍ. فإنّهُ بُشرى كُلّ جائِعٍ. وأردِفْهُ بأبي نُعَيمٍ. الصّابِرِ على كلّ ضيْمٍ. ثمّ عزّزْ بأبي حَبيبٍ. المُحبَّبِ الى كلّ لَبيبٍ. المقَلَّبِ بينَ إحْراقٍ وتعْذيبٍ. وأهِّبْ بأبي ثَقيفٍ. فحبّذا هوَ منْ أليفٍ. وهلْمُمْ بأبي عوْنٍ. فما مثلُهُ منْ عوْنٍ. ولوِ استحْضَرْتَ أبا جميلٍ. لجَمّلَ أيّ تجْميلٍ. وحَيَّ هلَ بأمّ القِرَى. المذَكِّرةِ بكِسْرى. ولا تتناسَ أمّ جابِرٍ. فكمْ لها منْ ذاكِرٍ. ونادِ

أمّ الفرَجِ. ثمّ افتِكْ بها ولا حرَجَ. واختِمْ بأبي رَزينٍ. فهُو مسْلاةُ كلّ حزينٍ. وإنْ تقْرُنْ بهِ أبا العَلاء. تمْحُ اسمَكَ من البُخَلاء. وإيّاكَ واستِدْناءَ المُرْجفَينِ. قبلَ استِقلالِ حُمولِ البَينِ. وإذا نزَعَ القوْمُ عنِ المِراسِ. وصافَحوا أبا إياسٍ. فأطِفْ علَيْهِمْ أبا السَّرْوِ. فإنّهُ عُنْوانُ السّرْوِ. قال: ففَقِهَ ابنُهُ لَطائِفَ رُموزِهِ. بلَطافَةِ تمْييزِهِ. فطافَ عليْنا بالطّيّباتِ والطِّيبِ. الى أنْ آذَنَتْ الشّمسُ بالمَغيبِ. فلمّا أجْمَعْنا على التّوديعِ. قُلْنا لهُ: ألمْ ترَ الى هذا اليومِ البديعِ؟ كيفَ بَدا صُبحُهُ قمْطَريراً. ومُسْيُهُ مُستَنيراً؟ فسجَدَ حتى أطالَ. ثمّ رفَعَ رأسَهُ وقالَ: لا تيْأسَنْ عندَ النُّوَبْ ... منْ فرْجَةٍ تجلو الكُرَبْ فلكَمْ سَمومٍ هبّ ث ... مّ جرَى نسيمً وانقَلَبْ

وسَحابِ مكْروهٍ تن ... شّا فاضْمَحَلّ وما سكَبْ ودُخانِ خطْبٍ خِيفَ منْ ... هُ فما استَبانَ لهُ لهَبْ ولَطالَما طلَعَ الأسى ... وعلى تَفيئَتِه غرَبْ فاصْبِرْ إذا ما نابَ روْ ... عٌ فالزّمانُ أبو العجَبْ وترَجّ منْ رَوْحِ الإل ... هِ لَطائِفاً لا تُحْتَسَبْ قال: فاستَمْلَيْنا منْهُ أبياتَهُ الغُرّ. وواليْنا للهِ تَعالى الشُكْرَ. وودّعْناهُ مسرورينَ ببُرْئِهِ. مَغْمورينَ ببِرّهِ. تفسير ألفاظ ما تضمنته هذه المقامة من كلمات لغوية وكنى طفيلية وكنايات صوفية قوله (ذات العويم) يعني به الزمان المتقادم. ومثله ذات الزمين و (السمهربة) الرماح وفي تسميتها بذلك قولان. أحدهما أنها سميت لصلابتها من قولهم اسمهرّ الشيء إذا اشتد وقيل أنها منسوبة إلى سمهر زوج رديئة وكانا جميعاً يقومان الرماح بسوق هجر فنسبت إليهما وقوله (نقضاً على نقضٍ) أي مهزولاً على مهزول. و (الجران) باطن العتق وقيل منه يعمل السياط وقوله (فضرب الله على الآذان) أي أيامنا ومنه قوله عز وجل فضربنا على آذانهم في الكهف أي أعماهم وقيل في تفسيره منعناهم وقوله (تكرما لصلاة العجماوين) أي غسلنا أكارعنا عن الوضوء. والعجماوان صلاتا الظهر والعصر سميتا بذلك لإسرار القراءة فيهما. وقوله (هلمم) أي قل هلمّ وهي تأتي بمعنى هات وبمعنى أقبل والأفصح أن يوجد

المقامة الفارقية

لفظها مع المذكر والمؤنث والاثنين والجمع وبه نطق القرآن في قوله تعالى والقائلين لإخوانهن هلمّ إلينا. ومن العرب من يقول للمذكر الواحد هلمّ وللاصنين هلماً وللجبمع هلموا. والمؤنث الواحدة هلمي وللاثنين هلما وللجمع هلما وللجمع هلممن وقوله (حي هل) أي عجّل وأسرع يقال حيّ هل بفلان بتسكين اللام وفتحها وتنوينها وبإثبات النون معها ومنه قول ابن مسعود في عمر رضي الله عنه إذا ذكر الصالحون فحيّ هلاً بعمر. وفي حيّ هل لغات أخر أضربنا عن ذكرها إذ ليس هذا موضع استيفاء شرحها. فهذا تفسير الألفاظ اللغوية. وأما تفسير الكني الطفيلية والكنايات الصوفية (فأبو يحيى) كنية الموت و (أبو عمرة) كنية الجوع ويكنى أيضاً أبا مالك و (أبو جامع) والخوان و (أبو نعيم) الخبز الحواري و (أبو حبيب) الجدي (وأبو ثقيف) الخل و (أبو عون) الملح و (أبو جميل) البقل و (أم القرى) السكباج و (أم جابر) الهريسة و (أم الفرج) الجوذات و (أبو رزين) الخبيص و (أبو العلاء) ال فالوذق (كذا في الأصل) و (أبو إياس) الغسول و (المرجفان) الطست والإبريق و (أبو السرو) البخور المقامة الفارقيّة حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: يمّمْتُ ميّافَارِقينَ. معَ رُفقةٍ مُوافِقينَ. لا يُمارونَ في المُناجاةِ. ولا يدْرونَ ما طعْمُ المُداجاةِ. فكُنتُ بهِمْ كمَنْ لمْ يرِمْ عنْ وَجارِهِ. ولا ظعَنَ عنْ أليفِهِ وجارِهِ. فلمّا أنخْنا بها مطايا التّسْيارِ. وانتقلْنا عنِ الأكوارِ. الى

الأوْكارِ. تواصَيْنا بتَذْكارِ الصُحْبَةِ. وتناهَيْنا عنِ التّقاطُعِ في الغُربَةِ. واتّخذْنا نادِياً نعتَمِرُهُ طرَفَي النهارِ. ونتَهادَى فيهِ طُرَفَ الأخْبارِ. فبَينَما نحنُ بهِ في بعضِ الأيامِ. وقد انتظَمْنا في سِلكِ الالتِئامِ. وقفَ علَيْنا ذو مِقْوَلٍ جريّ. وجرْسٍ جهْوَريّ. فحَيّا تحيّةَ نفّاثٍ في العُقَدِ. قنّاصٍ للأسَدِ. والنّقَدِ. ثمّ قال: عِنديَ يا قومُ حديثٌ عَجيبْ ... فيهِ اعْتِبارٌ للّبيبِ الأريبْ رأيتُ في رَيْعانِ عُمْري أخا ... بأسٍ لهُ حدُّ الحُسامِ القَضيبْ يُقْدِمُ في المَعْرَكِ إقْدامَ منْ ... يوقِنُ بالفَتْكِ ولا يسْتَريبْ فيُفْرِجُ الضّيقَ بكَرّاتِه ... حتى يُرى ما كان ضَنْكاً رَحيبْ ما بارَزَ الأقْرانَ إلا انْثَنى ... عنْ موقِفِ الطّعْنِ برُمحٍ خضيبْ

ولا سَما يفتَحُ مُستَصْعِباً ... مُستَغْلِقَ البابِ مَنيعاً مَهيبْ إلا ونودِي حينَ يسْمو لهُ ... نصْرٌ منَ اللهِ وفتْحٌ قَريبْ هذا وكمْ من ليلَةٍ باتَها ... يَميسُ في بُرْدِ الشّبابِ القَشيبْ يرتَشِفُ الغِيدَ ويرشُفْنَهُ ... وهْوَ لدى الكُلّ المُفَدّى الحبيبْ فلم يزَلْ يبتَزّهُ دهرُهُ ... ما فيهِ منْ بطْشٍ وعودٍ صَليبْ حتى أصارَتْهُ اللّيالي لَقًى ... يَعافُهُ منْ كان منهُ قَريبْ قد أعجزَ الرّاقيَ تحْليلُ ما ... بهِ منَ الدّاء وأعْيا الطّبيبْ وصارَمَ البيضَ وصارَمْنَهُ ... من بعدِ ما كانَ المُجابَ المُجيبْ وآضَ كالمنْكوسِ في خَلْقِهِ ... ومَنْ يَعِشْ يَلقَ دواهي المَشيبْ وها هُوَ اليومَ مُسَجّى فمَنْ ... يرْغَبُ في تكْفينِ ميْتٍ غَريبْ ثمّ إنهُ أعلنَ بالنّحيبِ. وبكى بُكاءَ المُحبّ على الحَبيبِ. ولما رقأتْ دمعَتُهُ. وانْفثأتْ لوْعَتُهُ. قال: يا نُجعَةَ الرّوادِ. وقُدوَةَ الأجْوادِ.

واللهِ ما نطَقْتُ ببُهْتانٍ. ولا أخبَرْتُكُمْ إلا عنْ عِيانٍ. ولوْ كان في عَصايَ سيْرٌ. ولغَيمي مُطَيْرٌ. لاستأثرْتُ بما دعَوْتُكُمْ إليْهِ. ولما وقْفتُ موقِفَ الدّالّ علَيْهِ. ولكنْ كيفَ الطّيرانُ بلا جَناحٍ. وهلْ على منْ لا يجِدُ منْ جُناحٍ؟ قال الرّاوي: فطفِقَ القومُ يأتَمِرونَ. في ما يأمُرونَ. ويتخافَتونَ. في ما يأتُونَ. فتوهّمَ أنهُم يتمالَؤون على صَرْفِهِ بحِرْمانٍ. أو مُطالَبَتِه ببُرْهانٍ. ففرطَ منهُ أنْ قال: يا يلامِعَ القاعِ. ويَرامِعَ البِقاعِ. ما هذا الارْتِياء. الذي يأباهُ الحَياء؟ حتى كأنّكُمْ كُلّفْتُمْ مشَقّةً. لا شُقّةً. أوِ استُوهِبتُمْ بلدَةً. لا بُرْدَةً. أو هُزِزْتُمْ لكِسوَةِ البيْتِ. لا لتَكْفينِ الميْتِ؟ أُفٍّ لمَنْ لا تَنْدى صَفاتُهُ. ولا ترْشَحُ حَصاتُهُ! فلمّا بصُرَتِ الجَماعَةُ بذِلاقَتِهِ.

ومرارَةِ مَذاقَتِهِ. رفأهُ كُلٌ منْهُمْ بنَيْلِهِ. واحتَمَلَ طلَّهُ خوْفَ سيْلِهِ. قال الحارثُ بنُ همّام: وكان هذا السّائلُ واقِفاً خلْفي. ومُحتَجِباً بظهْري عنْ طرْفي. فلمّا أرْضاهُ القومُ بسَيْبِهِمْ. وحقّ عليّ التّأسّي بهِمْ. خلَجْتُ خاتَمي من خِنصِري. ولفتّ إليهِ بصَري. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيُّ بِلا فِريَةٍ. ولا مِرْيَةٍ. فأيقَنْتُ أنّها أُكذوبَةٌ تكذَّبَها. وأُحبولَةٌ نصبَها. إلا أنّني طويْتُهُ على غَرّهِ. وصُنْتُ شَغاهُ عنْ فرّهِ. فحَصَبْتُهُ بالخاتَمِ. وقلتُ: أرصِدْهُ لنفَقَةِ المأتَمِ. فقال: واهاً لكَ. فما أضْرَمَ شُعْلَتَك. وأكْرَمَ فَعْلتَكَ! ثمّ انطلَقَ يسْعى قُدْماً. ويهرْوِلُ هرْولَتهُ قِدْماً. فنزَعْتُ الى عِرْفانِ

المقامة الرازية

ميّتِه. وامتِحانِ دعْوى حميّتِهِ. فقرَعْتُ ظُنْبوبي. وألْهبْتُ أُلْهوبي. حتى أدركْتُه على غَلوَةٍ. واجتَلَيْتُهُ في خَلوَةٍ. فأخَذْتُ بجُمْعِ أرْدانِه. وعُقْتُهُ عن سُنَنِ ميْدانِهِ. وقلتُ لهُ: واللهِ ما لك منّي ملْجأٌ ولا منْجًى. أو تُريني ميّتَكَ المُسَجّى! فكشفَ عنْ سراويلِه. وأشار الى غُرْمولِهِ. فقلتُ لهُ: قاتلَكَ اللهُ فما ألْعبَكَ بالنُهى. وأحيَلَكَ على اللُّهَى! ثمّ عُدْتُ الى أصحابي عوْدَ الرّائِدِ الذي لا يكذِبُ أهلَهُ. ولا يُبَرقِشُ قولَهُ. فأخبَرْتُهُمْ بالذي رأيتُ. وما ورّيتُ ولا رأيتُ. فقَهْقهوا منْ كَيْتَ وكَيْتَ. ولعَنوا ذلِكَ المَيْتَ. المقامة الرّازيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عُنيتُ مذْ أحْكَمتُ تَدبيري.

وعرَفْتُ قَبيلي منْ دَبيري. بأنْ أُصْغيَ الى العِظاتِ. وأُلْغيَ الكَلِمَ المُحْفِظاتِ. لأتحلّى بمَحاسِنِ الأخْلاقِ. وأتخلّى ممّا يَسِمُ بالإخْلاقِ. وما زِلتُ آخُذُ نفْسي بهذا الأدَبِ. وأُخْمِدُ بهِ جمْرَةَ الغضَبِ. حتى صارَ التطبُّعُ فيهِ طِباعاً. والتكلّفُ لهُ هوًى مُطاعاً. فلمّا حللْتُ بالرَّيّ. وقد حللْتُ حِبى الغَيّ. وعرَفْتُ الحَيَّ منَ اللّيّ. رأيتُ به ذاتَ بُكرةٍ. زُمرةً في إثْرِ زُمرَةٍ. وهمْ مُنتَشِرونَ انتِشارَ الجرادِ. ومُستَنّونَ استِنانَ الجِيادِ. ومتواصِفونَ واعِظاً يقصِدونَهُ. ويُحِلّون ابنَ سَمْعونَ دونَهُ. فلمْ يتكاءدْني لاستِماعِ المَواعِظِ. واختِبارِ الواعِظِ. أنْ أُقاسيَ اللاّغِطَ.

وأحتمِلَ الضّاغِطَ. فأصْحبْتُ إصْحابَ المِطْواعَةِ. وانخرطْتُ في سِلْكِ الجَماعَةِ. حتى أفضيْنا الى نادٍ حشَد النّبيهَ والمغْمورَ. وفي وسَطِ هالَتِهِ. ووسْطِ أهِلّتِهِ. شيخٌ قد تقوّس واقْعَنْسَسَ. وتقلْنَسَ وتطلّسَ. وهوَ يصدَعُ بوعْظٍ يشْفي الصّدورَ. ويُلينُ الصّخورَ. فسمِعْتُهُ يقولُ. وقدِ افتَتَنَتْ بهِ العُقولُ: إبنَ آدمَ ما أغْراكَ بما يغُرُّك. وأضْراكَ بما يضُرُّك! وألْهجكَ بما يُطْغيكَ. وأبهجَكَ بمنْ يُطريكَ! تُعْنى بما يُعَنّيكَ. وتهمِلُ ما يعْنيكَ. وتنزِعُ في قوْسِ تعدّيكَ. وترْتَدي الحِرْصَ الذي يُرْديكَ! لا بالكَفافِ

تقْتَنِعُ. ولا منَ الحَرامِ تمْتَنِعُ. ولا للعِظاتِ تستَمِعُ. ولا بالوَعيدِ ترْتَدِعُ! دأبُكَ أنْ تتقلّبَ معَ الأهْواء. وتخبِطَ خبْطَ العَشْواء! وهمُّكَ أن تدأبَ في الاحتِراثِ. وتجْمَعَ التُراثَ للوُرّاثِ! يُعجِبُك التّكاثُرُ بما لدَيكَ. ولا تذكُرُ ما بينَ يدَيْكَ. وتسعى أبداً لغارَيْكَ. ولا تُبالي ألَكَ أمْ علَيكَ! أتظُنّ أنْ ستُترَكُ سُدًى. وأن لا تُحاسَبَ غداً؟ أم تحْسَبُ أنّ الموتَ يقبَلُ الرُّشَى. أو يُميّزُ بين الأسدِ والرّشا؟ كلاّ واللهِ لنْ يدفَعَ المَنونَ. مالٌ ولا بَنونَ! ولا ينفَعُ أهلَ القُبورِ. سِوى العمَلِ المبْرورِ! فطوبى لمَنْ سِمعَ ووَعى. وحقّقَ ما ادّعى! ونهى النّفْسَ عنِ الهوَى. وعلِمَ أنّ الفائِزَ منِ ارْعَوى! وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى. وأنّ سعيَهُ سوفَ

يُرى. ثمّ أنشدَ إنْشادَ وجِلٍ. بصوتٍ زجِلٍ: لعَمرُكَ ما تُغني المَغاني ولا الغِنى ... إذا سكنَ المُثري الثّرَى وثوَى بهِ فجُدْ في مَراضي اللهِ بالمالِ راضِياً ... بما تقْتَني منْ أجرِهِ وثوابِهِ وبادِرْ بهِ صرْفَ الزّمانِ فإنّهُ ... بمِخلَبِهِ الأشْغى يغولُ ونابِهِ ولا تأمَنِ الدهْرَ الخؤونَ ومَكرَهُ ... فكمْ خامِلٍ أخْنى عليهِ ونابِهِ وعاصِ هوى النّفسِ الذي ما أطاعَهُ ... أخو ضِلّةٍ إلا هوى من عِقابِهِ

وحافِظْ على تقْوى الإلهِ وخوفِهِ ... لتنْجوَ مما يُتّقى منْ عِقابِهِ ولا تلهُ عن تَذكارِ ذنبِكَ وابكِهِ ... بدمعٍ يُضاهي المُزْنَ حالَ مَصابِهِ ومثّلْ لعينَيْكَ الحِمامَ ووقْعَهُ ... وروْعَةَ مَلْقاهُ ومطْعَمَ صابِهِ وإنّ قُصارى منزِلِ الحيّ حُفرَةٌ ... سينْزِلُها مُستَنْزَلاً عن قِبابِهِ فَواهاً لعبْدٍ ساءهُ سوءُ فعلِهِ ... وأبدى التّلافي قبلَ إغلاقِ بابِهِ قال: فظلّ القوْمُ بينَ عَبْرَةٍ يُذْرونَها. وتوْبَةٍ يُظهِرونَها. حتى

كادَتِ الشمْسُ تَزولُ. والفَريضَةُ تَعولُ. فلمّا خشعَتِ الأصْواتُ. والتأمَ الإنْصاتُ. واستكَنّتِ العبَراتُ. والعِباراتُ. استصرخ مستصرخ بالأمير الحاضر. وجعل يجأر إليه من عامله الجائر. والأمير صاغ إلى خصمه. لاه عن كشف ظلمه. فلما يئس من روحه. استنهض الواعظ لنصحه. فنهض نهضة الشمير. وأنشد معرضاً بالأمير عجباً لراجٍ أن ينال ولاية ... حتى إذا ما نال بعيته بغى يسدى ويلحم في المظالم والغاً ... في وردها طوراً وطوراً مولغاً

ما إن يبالي حين يتبع الهوى ... فيها أأصلح دينه أم أوتغا يا ويحه لو كان يوقن أنه ... ما حاله إلا تحول لما طغى أو لو تبين ما ندامه من صغا ... سمعاً إلى إفك الوشاة لما صغا فانقد لمن أضحى الزمان بكفه ... وتغاض إن ألغى الرعاية أو لغا وارع المرار إذا دعاك لرعيه ... ورد الأجاج إذا حماك السيغا واحمل أذاه ولو أمضك مسه ... وأسال غرب الدمع منك وأفرغا فليضحكنك الدهر منه إذا نبا ...

.. عنه وشب لكيده نار الوغى ولينزلن به الشمات إذا بدا ... متخلياً من شغله متفرقاً ولتأوين له إذا ما خده ... أضحى على ترب الهوان ممرغا هذا له ولسوف يوقف موقفاً ... فيه يرى رب الفصاحة ألثغا وليحشرن أذل من فقع الفلا ... ويحاسبن على النقيصة والشغا ويؤاخذن بما اجتنى ومن اجتنى ... ويطالبن بما احتسى وبما ارتغى

ويناقشن على الدقائق مثل ما ... قد كان يصنع بالورى بل أبلغا حتى يعض على الولاية كفه ... ويود لو لم يبغ منها ما بغى ثم قال أيها المتوشح بالولاية. المترشح للرعاية. دع الإدلال بدولتك. وال اغترار بصولتك. فإن الدولة ريح قلب. والإمرة برق خلب. وإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته. وأشقاهم في الدارين من ساءت رعايته. فلا تك ممن يذر الآخرة ويلغيها. ويحب العاجلة ويبتغيها. ويظلم الرعية ويؤذيها. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها. فوالله ما يغفل الديان. ولا تمهل يا إنسان. ولا تلغى الإساءة ولا الإحسان. بل سيوضع

لك الميزان. وكما تدين تدان. قال فوجم الوالي لما سمع. وامتقع لونه وانتفع. وجعل يتأفف من الإمرة. ويردف الزفرة بالزفرة. ثم عمد إلى الشاكي فأشكاه. وإلى المشكو منه فأشجاه. وألطف الواعظ وحباه. واستدعى منه أن يغشاه. فانقلب عنه المظلوم منصوراً والظالم محصوراً. وبرزَ الواعِظُ يتهادَى بينَ رفقَتِهِ. ويتباهَى بفوْزِ صفْقَتِهِ. واعْتَقَبْتُهُ أخطو مُتَقاصِراً. وأُريهِ لمْحاً باصِراً. فلمّا اسْتَشَفّ ما أُخْفيهِ. وفطِنَ لتقلُّبِ طرْفي فيهِ. قال: خيرُ دَليلَيكَ منْ أرشَدَ. ثمّ اقتربَ مني وأنشدَ: أنا الذي تعرِفُهُ يا حارِثُ ... حِدْثُ مُلوكٍ فكِهٌ مُنافِثُ

أُطرِبُ ما لا تُطرِبُ المَثالِثُ ... طوْراً أخو جِدّ وطوْراً عابِثُ ما غيّرَتْني بعْدَكَ الحَوادِثُ ... ولا التَحى عودي خطْبٌ كارِثُ ولا فَرى حدّيَ نابٌ فارِثٌ ... بلْ مِخلَبي بكُلّ صيْدٍ ضابِثُ وكلّ سرْحٍ فيهِ ذِئْبي عائِثُ ... حتى كأني للأنامِ وارِثُ سامُهُمُ وحامُهُمُ ويافِثُ قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ: تاللهِ إنّكَ لأبو زيدٍ. ولقدْ قُمتَ للهِ ولا عَمرَو بنَ عُبَيدٍ. فهشّ هَشاشَةَ الكريمِ إذا أُمّ. وقال: اسمَعْ يا ابنَ أُمّ. ثمّ أنشأ يقولُ:

المقامة الفراتية

عليْكَ بالصّدْقِ ولوْ أنّهُ ... أحرَقَكَ الصّدقُ بنارِ الوَعيدْ وابْغِ رِضَى اللهِ فأغْبى الوَرى ... منْ أسخَطَ الموْلَى وأرضى العَبيدْ ثمّ إنّه ودّعَ أخدانَهُ. وانطلَقَ يسحَبُ أرْدانَهُ. فطلبْناهُ منْ بعْدُ بالرَّيّ. واستَنْشَرْنا خبرَهُ منْ مَدارِجِ الطّيّ. فما فينا مَنْ عرَفَ قرارَهُ. ولا دَرى أيُّ الجَرادِ عارَهُ. المقامة الفُراتيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أوَيْتُ في بعضِ الفتَراتِ. الى سقْيِ الفُراتِ. فلَقيتُ بها كُتّاباً أبْرَعَ منْ بَني الفُراتِ. وأعْذَبَ أخْلاقاً منَ الماء الفُراتِ. فأطَفْتُ بهِمْ لتهَذُّبِهِمْ. ولا لذَهَبِهِمْ. وكاثَرْتُهُمْ لأدَبِهِم. لا لمآدِبِهمْ. فجالَسْتُ منهُمْ أضْرابَ

قَعْقاعِ بنِ شَوْرٍ. ووصلتْ بهِمْ الى الكَوْرِ. بعدَ الحَوْرِ. حتى إنّهُمْ أشرَكوني في المرْتَعِ والمرْبَعِ. وأحَلّوني محَلّ الأنْمُلَةِ منَ الإصْبَعِ. واتّخذوني ابنَ أُنسِهِمْ عندَ الوِلايَةِ والعَزْلِ. وخازِنَ سِرّهِمْ في الجِدّ والهزْلِ. فاتّفَقَ أنْ نُدِبوا في بعْضِ الأوْقاتِ. لاستِقْراء مَزارِعِ الرُزْداقاتِ. فاخْتاروا منَ الجَواري المُنْشآتِ. جاريةً حالِكَةَ الشِّياتِ. تَحْسَبُها جامِدةً وهي تمُرّ مرّ السّحابِ. وتنْسابُ في الحَبابِ كالحُبابِ. ثمّ دعَوْني الى المُرافَقَةِ. فلبّيتُ بلِسانِ المُوافَقَةِ. فلمّا تورّكْنا على المَطيّةِ الدّهْماء. وتبَطّنّا الوَلِيّةَ الماشيةَ على الماء.

ألفَيْنا بها شيخاً علَيْهِ سحْقُ سِرْبالٍ. وسِبٌّ بالٍ. فعافَتِ الجَماعَةُ مَحْضَرَهُ. وعنّفَتْ منْ أحضَرَهُ. وهمّتْ بإبْرازِهِ منَ السّفينةِ. لولا ما ثابَ إلَيْها منَ السّكينَةِ. فلمّا لمحَ منّا استِثْقالَ ظِلّهِ. واستِبْرادَ طَلّهِ. تعرّضَ للمُنافثَةِ. فصُمّتَ. وحمْدَلَ بعدَ أنْ عطَسَ فما شُمّتَ. فأخْرَدَ ينظُرُ فيما آلَتْ حالُهُ إليْهِ. وينتظِرُ نُصرَةَ المَبْغيّ علَيْهِ. وجُلْنا نحْنُ في شُجونٍ. منْ جِدٍّ ومُجونٍ. الى أنِ اعتَرَضَ ذِكْرُ الكِتابَتَينِ وفضْلِهِما. وتَبْيانِ أفضَلِهِما. فقالَ قائِلٌ: إنّ كتَبَةَ الإنْشاء أنْبَلُ الكُتّابِ. ومالَ مائِلٌ الى تفْصيلِ الحُسّابِ. واحتدّ الحِجاجُ. وامتدّ اللَّجاجُ. حتى إذا لمْ يبْقَ للجِدالِ

مَطرَحٌ. ولا للمِراء مسرَحٌ. قال الشيخُ: لقدْ أكثرْتُمْ يا قوْمُ اللّغَطَ. وأثَرْتُمُ الصّوابَ والغلَطَ. وإنّ جَليّةَ الحُكمِ عِندي. فارتَضوا بنقْدي. ولا تستَفْتوا أحداً بعْدِي. اعْلَموا أنّ صِناعَةَ الإنْشاء أرْفَعُ. وصِناعَةَ الحِسابِ أنفَعُ. وقلَمَ المُكاتَبَةِ خاطِبٌ. وقلَمَ المُحاسَبَةِ حاطِبٌ. وأساطيرَ البَلاغَةِ تُنسَخُ لتُدْرَسَ. ودساتيرَ الحُسْباناتِ تُنسَخُ وتُدرَسُ. والمُنشِئُ جُهَينَةُ الأخْبارِ. وحقيبةُ الأسْرارِ. ونَجيُّ العُظماء. وكَبيرُ النُّدَماء. وقلَمُهُ لِسانُ الدولَةِ. وفارِسُ الجولَةِ. ولُقْمانُ الحِكمَةِ.

وتَرْجُمانُ الهِمّةِ. وهوَ البَشيرُ والنّذيرُ. والشّفيعُ والسّفيرُ. بهِ تُستَخْلَصُ الصّياصي. وتُملَكُ النّواصي. ويُقتادُ العاصي. ويُستَدْنى القاصي. وصاحِبُهُ بريءٌ من التّبِعاتِ. آمِنٌ كيْدَ السُعاةِ. مقرَّظٌ بينَ الجماعاتِ. غيرُ معرَّضٍ لنَظْمِ الجِماعاتِ. فلمّا انتهى في الفصْلِ. الى هذا الفصْلِ. لحَظَ منْ لمَحاتِ القوْمِ أنهُ ازْدَرَعَ حُبّاً وبُغْضاً. وأرْضى بعْضاً وأحفَظَ بعْضاً. فعقّبَ كلامَهُ بأنْ قال: إلا أنّ صِناعَة الحِسابِ موضوعةٌ على التّحقيقِ. وصَناعَةَ الإنشاءِ مبنيّةٌ على التّلْفيقِ. وقلَمَ الحاسِبِ ضابِطٌ. وقلمَ المُنشِئ خابِطٌ. وبينَ إتاوَةِ توظيفِ المُعامَلاتِ. وتِلاوَةِ طَواميرِ السّجِلاّتِ. بوْنٌ لا يُدرِكُهُ قِياسٌ. ولا يعْتَورُهُ التِباسٌ.

إذِ الإتاوَةُ تمْلأ الأكْياسَ. والتّلاوَةُ تفَرِّغُ الرّاسَ. وخَراجُ الأوارِجِ يُغْني النّاظِرَ. واستِخْراجُ المَدارِجِ يُعَنّي الناظِرَ. ثمّ إنّ الحسَبَةَ حفَظَةُ الأموالِ. وحمَلَةُ الأثْقالِ. والنّقَلَةُ الأثْباتُ. والسّفَرَةُ الثّقاتُ. وأعْلامُ الإنْصافِ. والانتِصافِ. والشّهودُ المَقانِعُ في الاختِلافِ. ومنهُمُ المُستَوْفي الذي هوَ يدُ السّلطانِ. وقُطْبُ الدّيوانِ. وقِسْطاسُ الأعملِ. والُهَيمِنُ على العُمّالِ. وإليْهِ المآبُ في السّلْمِ والهرْجِ. وعلَيْهِ المَدارُ في الدّخْلِ والخرَجِ. وبهِ مَناطُ الضّرّ والنّفْعِ. وفي يدِهِ رِباطُ

الإعْطاء والمنْعِ. ولوْلا قلَمُ الحُسّابِ. لأوْدَتْ ثمرَةُ الاكتِسابِ. ولاتّصَلَ التّغابُنُ الى يومِ الحِسابِ. ولَكانَ نِظامُ المُعامَلاتِ مَحْلولاً. وجُرْحُ الظُلاماتِ مطْلولاً. وجيدُ التّناصُفِ مغْلولاً. وسيْفُ التّظالُمِ مسْلولاً. على أنّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ. ويَراعُ الحِسابِ متأوِّلٌ. والمُحاسِبُ مناقِشٌ. والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ. ولكِلَيْهِما حُمَةٌ حينَ يرْقَى. الى أنْ يُلْقى ويُرْقى. وإعْناتٌ فيما يُنْشا. حتى يُغْشى. ويُرْشى. إلا الذينَ آمَنوا وعمِلوا الصّالِحاتِ وقَليلٌ ما هُمْ. قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أمْتَعَ الأسْماعَ. بما راقَ وراعَ. استَنْسَبْناهُ فاسْتَرابَ. وأبَى الانتِسابَ. ولوْ وجَدَ مُنْساباً لانْسابَ. فحصَلْتُ منْ لبْسِهِ على غُمّةٍ. حتى ادّكَرْتُ بعْدَ أمّةٍ. فقُلْتُ: والذي سخّرَ الفلَكَ الدّوّارَ. والفُلْكَ السّيّارَ. إني لأجِدُ ريحَ أبي زيدٍ. وإنْ كنتُ أعهدُهُ ذا رَواءٍ وأيْدٍ. فتبسّمَ ضاحِكاً من قوْلي. وقال: أنا هوَ على استِحالَةِ حالي وحوْلي. فقلتُ لأصحابي: هذا الذي لا يُفْرى فرِيُّهُ. ولا يُبارَى عبقَريُّهُ. فخطَبوا منْهُ الوُدّ. وبذَلوا لهُ الوُجْدَ. فرَغِبَ عنِ الأُلفَةِ. ولم يرْغَبْ في التُّحْفَةِ. وقال: أما بعْدَ أنْ سحَقْتُمْ حقّي. لأجلِ سَحْقي. وكسفْتُمْ بالي. لإخْلاقِ سِرْبالي. فما أراكُمْ إلا بالعينِ السّخينَةِ. ولا لكُمْ مني إلا صُحْبَةُ السّفينةِ. ثمّ أنشدَ: نّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ. ويَراعُ الحِسابِ متأوِّلٌ. والمُحاسِبُ مناقِشٌ. والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ. ولكِلَيْهِما حُمَةٌ حينَ يرْقَى. الى أنْ يُلْقى ويُرْقى. وإعْناتٌ فيما يُنْشا. حتى يُغْشى. ويُرْشى. إلا الذينَ آمَنوا وعمِلوا الصّالِحاتِ وقَليلٌ ما هُمْ. قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أمْتَعَ الأسْماعَ. بما راقَ وراعَ. استَنْسَبْناهُ فاسْتَرابَ. وأبَى الانتِسابَ. ولوْ وجَدَ

مُنْساباً لانْسابَ. فحصَلْتُ منْ لبْسِهِ على غُمّةٍ. حتى ادّكَرْتُ بعْدَ أمّةٍ. فقُلْتُ: والذي سخّرَ الفلَكَ الدّوّارَ. والفُلْكَ السّيّارَ. إني لأجِدُ ريحَ أبي زيدٍ. وإنْ كنتُ أعهدُهُ ذا رَواءٍ وأيْدٍ. فتبسّمَ ضاحِكاً من قوْلي. وقال: أنا هوَ على استِحالَةِ حالي وحوْلي. فقلتُ لأصحابي: هذا الذي لا يُفْرى فرِيُّهُ. ولا يُبارَى عبقَريُّهُ. فخطَبوا منْهُ الوُدّ. وبذَلوا لهُ الوُجْدَ. فرَغِبَ عنِ الأُلفَةِ. ولم يرْغَبْ في التُّحْفَةِ. وقال: أما بعْدَ أنْ سحَقْتُمْ حقّي. لأجلِ سَحْقي. وكسفْتُمْ بالي. لإخْلاقِ سِرْبالي. فما أراكُمْ إلا بالعينِ السّخينَةِ. ولا

لكُمْ مني إلا صُحْبَةُ السّفينةِ. ثمّ أنشدَ: إسمَعْ أُخَيّ وصيّةً منْ ناصِحٍ ... ما شابَ محْضَ النُصْح منه بغِشّهِ لا تَعجَلَنْ بقضيّةٍ مبْتوتَةٍ ... في مدْحِ منْ لمْ تبلُهُ أو خدشِهِ وقِفِ القضيّةَ فيهِ حتى تجْتَلي ... وصْفَيْهِ في حالَيْ رِضاهُ وبطْشِهِ ويَبينَ خُلّبُ برْقِهِ منْ صِدْقِهِ ... للشّائِمينَ ووبْلُهُ منْ طَشّهِ فهُناكَ إنْ ترَ ما يَشينُ فوارِهِ ... كرَماً وإنْ ترَ ما يَزينُ فأفْشِهِ ومنِ استَحَقّ الإرْتِقاءَ فرقّهِ ... ومنِ استحطّ فحُطّهُ في حشّهِ واعلَمْ بأنّ التّبرَ في عِرْقِ الثّرى ... خافٍ الى أنْ يُستَثارَ بنَبْشِهِ وفَضيلةُ الدّينارِ يظهَرُ سِرُّها ... منْ حَكّهِ لا مِنْ مَلاحَةِ نقْشِهِ ومنَ الغَباوةِ أن تعظّمَ جاهِلاً ... لصِقالِ ملبَسِهِ ورونَقِ رَقْشِهِ

المقامة الشعرية

أو أن تُهينَ مهذّباً في نفسِهِ ... لدُروسِ بِزّتِهِ ورثّةِ فُرْشِهِ ولَكَمْ أخي طِمْرَينِ هِيبَ لفضْله ... ومفَوّفِ البُرْدَينِ عيبَ لفُحْشِهِ وإذا الفتى لمْ يغْشَ عاراً لم تكنْ ... أسْمالُهُ إلاّ مَراقي عرْشِهِ ما إنْ يضُرُّ العَضْبُ كوْنُ قِرابِهِ ... خلَقاً ولا البازِي حَقارَةُ عُشّهِ ثمّ ما عتّمَ أنِ استوْقَفَ الملاّحَ. وصعِدَ منَ السّفينةِ وساحَ. فندِمَ كلٌ منّا على ما فرّطَ في ذاتِه. وأغْضى جفْنَه على قَذاتِهِ. وتعاهَدْنا على أنْ لا نحتَقِرَ شخْصاً لرَثاثَةِ بُرْدِهِ. وأنْ لا نزْدَريَ سيْفاً مخْبوءاً في غِمدِهِ. المقامة الشِّعريّة حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: نَبا بي مألَفُ الوطَنِ. في شرْخِ الزّمنِ. لخَطْبٍ خُشِيَ. وخوفٍ غشِيَ. فأرَقْتُ كأسَ الكَرى.

ونصَصْتُ رِكابَ السُّرَى. وجُبْتُ في سَيْري وُعوراً لم تُدَمّثْها الخُطى. ولا اهتَدَتْ إليْها القَطا. حتى ورَدْتُ حِمَى الخِلافَةِ. والحرَمَ العاصمَ من المَخافةِ. فسرَوْتُ إيجاسَ الرّوْعِ واستِشْعارَهُ. وتسرْبَلْتُ لِباسَ الأمْنِ وشِعارَهُ. وقصَرْتُ همّي على لذّةٍ أجتَنيها. ومُلْحَةٍ أجْتَليها. فبرَزْتُ يوْماً الى الحريمِ لأرُوضَ طِرْفي. وأُجيلَ في طُرْقِهِ طَرْفي. فإذا فُرْسانٌ مُتتالونَ. ورِجالٌ مُنثالونَ. وشيْخٌ طويلُ اللّسانِ. قصيرُ الطّيلَسانِ.

قد لَبّبَ فتًى جَديدَ الشّبابِ. خلَقَ الجِلْبابِ. فركضْتُ في إثْرِ النّظّارَةِ. حتى وافَيْنا بابَ الإمارَةِ. وهُناكَ صاحِبُ المَعونَةِ مربِّعاً في دَسْتِهِ. ومُروِّعاً بسَمْتِهِ. فقالَ لهُ الشيخُ: أعَزَّ اللهُ الواليَ. وجعلَ كعْبَهُ العاليَ. إني كفَلْتُ هذا الغُلامَ فَطيماً. وربّيتُهُ يَتيماً. ثمّ لمْ آلُهُ تعْليماً. فلمّا مهَرَ وبَهَرَ. جرّدَ سيْفَ العُدْوانِ وشَهَرَ. ولمْ إخَلْهُ يلْتَوي عليّ ويتّقِحُ. حينَ يرتَوي مني ويلْتَقِحُ. فقالَ لهُ الفتى: عَلامَ عثَرْتَ مني. حتى تنشُرَ هذا الخِزْيَ عني؟

فوَاللهِ ما ستَرْتُ وجْهَ بِرّكَ. ولا هتَكْتُ حِجابَ سِتْرِكَ. ولا شقَقْتُ عَصا أمرِكَ. ولا ألغَيْتُ تِلاوَةَ شُكْرِكَ. فقالَ لهُ الشيخُ: ويْلَكَ وأيُّ رَيْبٍ أخْزى منْ رَيْبِكَ. وهلْ عيبٌ أفحَشُ منْ عيبِكَ؟ وقدِ ادّعيتَ سِحْري واستَلْحَقتَهُ. وانتحَلْتَ شِعْري واستَرَقتَهُ؟ واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء. أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء. وغَيرَتُهُمْ على بَناتِ الأفكارِ. كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ. فقالَ الوالي للشّيخِ: وهلْ حينَ سرَقَ سلَخَ أم مسخَ. أم نسَخَ؟ فقال: والذي جعلَ الشّعْرَ ديوانَ العرَبِ. وتَرْجُمانَ الأدَبِ. ما أحْدَثَ سوى أن بتَرَ شمْلَ شرْحِهِ. وأغارَ على ثُلُثَيْ سَرْحِهِ. فقال لهُ: أنْشِدْ أبياتَكَ برمّتِها. ليتّضِحَ ما احتازَهُ منْ جُملَتِها. فأنشدَ:

يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةِ إنّها ... شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكدارِ دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها ... أبْكَتْ غداً بُعْداً لها منْ دارِ وإذا أظَلّ سَحابُها لم ينتَقِعْ ... منْه صدًى لجَهامِهِ الغرّارِ غاراتُها ما تنْقَضي وأسيرُها ... لا يُفتَدى بجلائِلِ الأخْطارِ كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها حتى بَدا ... متمَرّداً مُتجاوِزَ المِقْدارِ قلَبَتْ لهُ ظهْرَ المِجَنّ وأولَغَتْ ... فيهِ المُدى ونزَتْ لأخْذِ الثّارِ فارْبأ بعُمرِكَ أن يمُرّ مُضَيَّعاً ... فيها سُدًى من غيرِ ما استِظهارِ واقطَعْ علائِقَ حُبّها وطِلابِها ... تلْقَ الهُدى ورَفاهَةَ الأسْرارِ

وارْقُبْ إذا ما سالَمتْ من كيدِها ... حرْبَ العَدى وتوثُّبَ الغَدّارِ واعْلَمْ بأنّ خُطوبَها تفْجا ولوْ ... طالَ المدى ووَنَتْ سُرى الأقدارِ فقال لهُ الوالي: ثمّ ماذا. صنعَ هذا؟ فقال: أقْدَمَ للُؤمِهِ في الجَزاء. على أبْياتيَ السُداسيّةِ الأجْزاء. فحذَفَ منها جُزءينِ. ونقَصَ منْ أوزانِها وزْنَينِ. حتى صارَ الرُّزْء فيها رُزْءينِ. فقالَ له: بيّنْ ما أخذَ. ومنْ أينَ فلَذَ؟ فقال: أرْعِني سمْعَكَ. وأخْلِ للتّفَهُّمِ عني ذرْعَكَ. حتى تتبيّنَ كيفَ أصْلَتَ عليّ. وتقْدُرَ قدْرَ اجْتِرامِهِ إليّ. ثم أنْشَدَ. وأنفاسُهُ تتصعّد: يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّ ... ةِ إنّها شرَكُ الرّدى دارٌ متى ما أضْحكت ... في يومِها أبْكَتْ غدا وإذا أظَلّ سَحابُها ... لم ينتَقِعْ منْه صدى غاراتُها ما تنْقَضي ... وأسيرُها لا يُفتَدى كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها ... حتى بَدا متمَرّدا

قلَبَتْ لهُ ظهْرَ المِجَ ... نّ وأولَغَتْ فيهِ المُدى فارْبأ بعُمرِكَ أن يمُرّ ... مُضَيَّعاً فيها سُدى واقطَعْ علائِقَ حُبّها وطِلابِها ... تلْقَ الهُدى وارْقُبْ إذا ما سالَمتْ ... من كيدِها حرْبَ العَدى واعْلَمْ بأنّ خُطوبَها ... تفْجا ولوْ طالَ المدى فالتفَتَ الوالي الى الغُلامِ وقال: تبّاً لكَ منْ خِرّيجٍ مارِقٍ. وتِلميذٍ سارِقٍ! فقالَ الفَتى: برِئْتُ منَ الأدَبِ وبَنيهِ. ولحِقْتُ بمَنْ يُناويهِ. ويقوّضُ مَبانِيهِ. إنْ كانتْ أبياتُهُ نمَتْ الى عِلْمي. قبلَ أن ألّفْتُ نظْمي. وإنّما اتّفقَ تواردُ الخَواطِرِ. كما قدْ يقَعُ الحافِرُ على الحافِرِ. قال: فكأنّ الواليَ جوّزَ صِدْقَ زعْمِهِ. فندِمَ على بادِرَةِ ذمّهِ. فظَلّ يُفكّرُ في ما يكْشِفُ لهُ عنِ الحقائِقِ. ويميّزُ بهِ الفائِقَ. منَ المائِقِ. فلمْ يرَ إلا أخْذَهُما بالمُناضَلَةِ.

ولزّهُما في قرَنِ المُساجَلَةِ. فقالَ لهُما: إنْ أرَدْتُما افتِضاحَ العاطِلِ. واتّضاحَ الحقّ منَ الباطِلِ. فتَراسَلا في النّظْمِ وتبارَيا. وتَجاوَلا في حلبَةِ الإجازَةِ وتجارَيا. ليهْلِكَ منْ هلَكَ عنْ بيّنَةٍ. ويحْيا مَنْ حَيّ عنْ بيّنَةٍ. فقالا بلِسان واحِدٍ. وجَوابٍ متوارِدٍ: قدْ رضينا بسَبْرِكَ. فمُرْنا بأمرِكَ. فقال: إني مولَعٌ من أنواعِ البَلاغَةِ بالتّجْنيسِ. وأراهُ لها كالرّئيسِ. فانظِما الآنَ عشَرَةَ أبياتٍ تُلحِمانِها بوَشْيِهِ. وتُرَصّعانِها بحَلْيهِ. وضمِّناها شرْحَ حالي. معَ إلْفٍ لي بَديعِ الصّفَةِ. ألمَى الشّفَةِ. مَليحِ التّثَنّي. كثيرِ التّيهِ والتّجَنّي. مُغْرًى بتَناسي العهْدِ. وإطالَةِ الصّدّ. وإخْلافِ الوعْدِ.

وأنا لهُ كالعَبْدِ. قال: فبرَزَ الشيخُ مُجَلّياً. وتلاهُ الفَتى مُصَلّياً. وتجارَيا بيْتاً فبَيْتاً على هذا النّسَقِ. الى أن كمُلَ نظْمُ الأبياتِ واتّسَقَ. وهيَ: وأحْوَى حَوى رِقّي برِقّةِ ثغْرِهِ ... وغادَرَني إلْفَ السُّهادِ بغَدْرِهِ تصدّى لقتْلي بالصّدودِ وإنّني ... لَفي أسرِهِ مُذْ حازَ قلبي بأسْرِهِ أصدّقُ منهُ الزّورَ خوْفَ ازْوِرارِهِ ... وأرْضى استماعَ الهُجرِ خشية هجْرِهِ وأستَعْذِبُ التّعْذيبَ منهُ وكلّما ... أجَدّ عذابي جَدّ بي حُبّ بِرّهِ

تَناسى ذِمامي والتّناسي مذَمّةٌ ... وأحفَظَ قلْبي وهْوَ حافِظُ سِرّهِ وأعجَبُ ما فيهِ التّباهي بعُجْبِهِ ... وأكْبِرُهُ عنْ أنْ أفوهَ بكِبرِهِ لهُ منّيَ المدْحُ الذي طابَ نشْرُهُ ... ولي منهُ طيُّ الوِدّ من بعْدِ نشْرِهِ ولوْ كان عدلاً ما تجنّى وقد جَنى ... عليّ وغيري يجتَني رشْفَ ثغرِهِ ولوْلا تثَنّيهِ ثنَيْتُ أعنّتي ... بِداراً الى منْ أجْتَلي نورَ بدرِهِ وإني على تصْريفِ أمري وأمرِهِ ... أرى المُرّ حُلواً في انقِيادي لأمرِهِ فلمّا أنشَداها الوالي مُتراسِلَينِ. بُهِتَ لذَكاءيْهِما المُتعادِلَينِ.

وقال: أشهَدُ باللهِ أنّكُم فرْقَدا سماءٍ. وكزَنْدَينِ في وعاءٍ. وأنّ هذا الحدَثَ ليُنْفِقُ ممّا آتاهُ اللهُ. ويستَغْني بوُجْدِهِ عمّنْ سِواهُ. فتُبْ أيها الشيخُ منِ اتّهامِهِ. وثُبْ الى إكْرامِهِ. فقالَ الشيخُ: هيهاتَ أن تُراجِعَهُ مِقَتي. أو تعْلَقَ بهِ ثِقَتي! وقدْ بلَوْتُ كُفْرانَهُ للصّنيعِ. ومُنيتُ منهُ بالعُقوقِ الشّنيعِ. فاعتَرَضَهُ الفتى وقال: يا هذا إنّ اللّجاجَ شؤمٌ. والحنَقَ لؤمٌ. وتحقيقَ الظِّنّةِ إثمٌ. وإعْناتَ البَريء ظُلمٌ. وهَبْني اقترَفْتُ جَريرةً. أوِ اجتَرَحْتُ كَبيرةً. أمَا تذْكُرُ ما أنشَدْتَني لنفسِكَ. في إبّانِ أُنسِكَ: سامِحْ أخاكَ إذا خلَطْ ... منهُ الإصابَةَ بالغلَطْ وتجافَ عنْ تعْنيفِه ... إنْ زاغَ يوماً أو قسَطْ

واحفَظْ صَنيعَكَ عندَه ... شكرَ الصّنيعَةَ أم غمَطْ وأطِعْهُ إنْ عاصَى وهُنْ ... إنْ عَزّ وادْنُ إذا شحَطْ واقْنَ الوَفاءَ ولَوْ أخ ... لّ بما اشترَطْتَ وما شرَطْ واعْلَمْ بأنّكَ إن طلبْ ... تَ مهذَّباً رُمتَ الشّطَطْ منْ ذا الذي ما ساء ق ... طُّ ومنْ لهُ الحُسْنى فقطْ أوَمَا تَرى المَحْبوبَ وال ... مَكروهَ لُزّا في نمَطْ كالشّوْكِ يبْدو في الغُصو ... نِ معَ الجَنيّ المُلتَقَطْ ولَذاذَةُ العُمرِ الطّوي ... لِ يَشوبُها نغَصُ الشّمَطْ ولوِ انتقَدْتَ بَني الزّما ... نِ وجَدتَ أكثرَهُم سقَطْ رُضْتُ البَلاغَةَ والبَرا ... عَةَ والشّجاعَةَ والخِطَطْ فوجَدتُ أحسنَ ما يُرى ... سبْرَ العُلومِ معاً فقطْ

قال: فجعَلَ الشيخُ يُنَضْنِضُ نضْنَضَةَ الصِّلّ. ويُحملِقُ حملَقَةَ البازي المُطِلّ. ثمّ قال: والذي زيّنَ السّماء بالشُّهُبِ. وأنزلَ الماء من السُّحُبِ. ما روْغي عنِ الاصْطِلاحِ. إلا لتَوْقّي الافتِضاحِ. فإنّ هذا الفتى اعْتادَ أن أمونَهُ. وأُراعيَ شُؤونَهُ. وقد كانَ الدهرُ يسُحّ. فلمْ أكُنْ أشُحّ. فأمّا الآنَ فالوقْتُ عَبوسٌ. وحشْوُ العيْشِ بوسٌ. حى إنّ بِزّتي هذه عارَةٌ. وبيْتي لا تَطورُ بهِ فارَةٌ. قال: فرَقّ لمَقالِهما قلبُ الوالي. وأوى لهُما من غِيَرِ اللّيالي. وصَبا الى اختِصاصِهِما بالإسعافِ. وأمرَ النّظّارَةَ بالانصِرافِ. قال الرّاوي: وكُنتُ متشوّفاً الى مرْأى الشيخِ لعلّي أعلَمُ عِلمَهُ. إذا عاينْتُ وَسْمَهُ. ولم يكُنِ الزّحامُ يسفِرُ عنْهُ. ولا يُفرَجُ لي فأدنوَ منهُ. فلما تقوّضَتِ الصّفوفُ. وأجفَلَ

الوقوفُ. توسّمْتُهُ فإذا هو أبو زيدٍ والفتى فتاهُ. فعرَفْتُ حينئذ مغْزاهُ في ما أتاهُ. وكِدْتُ أنقَضُّ عليهِ. لأستعْرِفَ إلَيهِ. فزجَرَني بإيماضِ طرْفِهِ. واستَوقفَني بإيماء كفّهِ. فلزِمْتُ موقِفي. وأخّرْتُ منصَرَفي. فقال الوالي: ما مَرامُكَ. ولأي سببٍ مُقامُكَ؟ فابتدَرَهُ الشيخُ وقال: إنهُ أنيسي. وصاحِبُ ملْبوسي. فتسمّحَ عندَ هذا القولِ بتأنيسي. ورخّصَ في جُلوسي. ثمّ أفاضَ عليهِما خِلعتَينِ. ووصلَهُما بنِصابٍ منَ العينِ. واستعْهَدَهُما أن يتَعاشَرا بالمعروفِ. الى إظْلالِ اليوم المَخوفِ. فنَهضا منْ نادِيهِ. مُنشِدَينِ بشُكْرِ أياديهِ. وتبعْتُهُما لأعرِف مثواهُما. وأتزوّدَ من نجْواهُما. فلمّا أجَزْنا حِمى الوالي. وأفضَيْنا الى الفضاءِ

الخالي. أدركَني أحدُ جلاوِزَتِه. مُهيباً بي الى حوزَتِه. فقلتُ لأبي زيدٍ: ما أظنّهُ استَحْضَرَني. إلا ليَستَخبِرَني. فماذا أقولُ. وفي أيّ وادٍ معَهُ أجولُ؟ فقال: بيّنْ لهُ غَباوَةَ قلبِهِ. وتلْعابي بلُبّهِ. ليعْلَمَ أنّ ريحَهُ لاقَتْ إعصاراً. وجدوَلَهُ صادَفَ تيّاراً. فقلتُ: أخافُ أن يتّقدَ غضَبُهُ. فيلْفَحَكَ لهَبُهُ. أو يستَشْريَ طيْشُهُ. فيسرِيَ إليكَ بطْشُهُ. فقال: إني أرحَلُ الآن الى الرُّهى. وأنّى يلْتَقي سُهَيلٌ والسُّهَى؟ فلمّا حضرْتُ الواليَ وقد خَلا مجلِسُهُ. وانجلَى تعبُّسُهُ. أخذ يصِفُ أبا زيدٍ وفضلَهُ. ويذُمّ الدهرَ لهُ. ثمّ قال: نشَدْتُك اللهَ

ألَسْتَ الذي أعارَهُ الدَّسْتَ؟ فقلت: لا والذي أحلّكَ في هذا الدَّسْتِ. ما أنا بصاحِبِ ذلِك الدّسْتِ. بل أنت الذي تمّ عليهِ الدّسْتُ. فازْوَرّتْ مُقلَتاهُ. واحمرّتْ وجْنَتاهُ. وقال: واللهِ ما أعجزَني قطُّ فضْحُ مُريبٍ. ولا تكْشِيفُ مَعيبٍ. ولكِنْ ما سمِعْتُ بأنّ شيخاً دلّسَ. بعدَما تطلّسَ. وتقلّسَ. فبِهذا تمّ لهُ أنْ لبّسَ. أفتَدْري أينَ سكَعَ. ذلِك اللُّكَعُ؟ قلت: أشفَقَ منْكَ لتَعَدّي طورِهِ. فظعَنَ عنْ بغْدغدَ منْ فورِهِ. فقال: لا قرّبَ اللهُ لهُ نَوى. ولا كلأهُ أينَ ثوَى. فما زاوَلْتُ أشَدّ منْ نُكرِهِ. ولا ذُقْتُ أمَرّ منْ مكْرِهِ. ولوْلا حُرمَةُ أدبِهِ. لأوْغَلْتُ في طلَبِهِ. الى أن يقَعَ في يَدي فأُوقِعَ به. وإني لأكرَهُ أن تَشيعَ فَعْلتُهُ بمدينةِ السّلامِ.

المقامة القطيعية

فأفتَضِحَ بينَ الأنامِ. وتحْبَطَ مكانَتي عندَ الإمامِ. وأصيرَ ضُحْكَةً بين الخاصّ والعامّ. فعاهَدني على أن لا أفوهَ بما اعتَمَدَ. ما دُمْتُ حِلاًّ بهذا البلَدِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فعاهدْتُهُ مُعاهدَةَ منْ لا يتأوّلُ. ووَفَيْتُ لهُ كما وَفى السّمَوْألُ. المقامة القَطيعيّة حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: عاشَرتُ بقطيعَةِ الرّبيعِ. في إبّانِ الرّبيعِ. فِتيةً وجوهُهُمْ أبلَجُ من أنوارِهِ. وأخلاقُهُمْ أبهَجُ من أزهارِهِ. وألفاظُهُمْ أرقُّ من نسيمِ أسحارِهِ. فاجتَلَيتُ منهُمْ ما يُزْري

على الرّبيعِ الزّاهِرِ. ويُغْني عن رنّاتِ المَزاهِرِ. وكنّا تقاسَمْنا على حِفْظِ الوِدادِ. وحَظْرِ الاستِبْدادِ. وأن لا يتفرّدَ أحدُنا بالتِذاذٍ. ولا يستأثِرَ ولو برَذاذٍ. فأجْمَعْنا في يومٍ سَما دَجْنُهُ. ونَما حُسنُه. وحكَمَ بالاصْطِباحِ مُزْنُهُ. على أنْ نلتَهي بالخُروجِ. الى بعضِ المُروجِ. لنُسرِّحَ النّواظِرَ. في الرّياضِ النّواضِرِ. ونصْقُلَ الخواطِرَ. بشَيْمِ المَواطِرِ. فبرَزْنا ونحنُ كالشّهورِ عِدّةً. وكنَدْمانَيْ جَذيمَةَ مودّةً. الى حَديقَةٍ أخذَتْ زُخرُفَها

وازّيّنَتْ. وتنوّعتْ أزاهيرُها وتلوّنَتْ. ومعَنا الكُمَيتُ الشَّموسُ. والسُقاةُ الشُّموسُ. والشّادي الذي يُطرِبُ السّامِعَ ويُلهِيهِ. ويَقْري كلَّ سمْعٍ ما يشتَهيهِ. فلمّا اطمأنّ بِنا الجُلوسُ. ودارَتْ عليْنا الكؤوسُ. وغَلَ علَيْنا ذِمْرٌ. عليهِ طِمْرٌ. فتجَهّمْناهُ تجهُّمَ الغيدِ الشِّيبَ. ووجَدْنا صفْوَ يومِنا قد شِيبَ. إلا أنهُ سلّمَ تسليمَ أولي الفَهْمِ. وجلسَ يَفُضّ لَطائِمَ النّثْر والنّظْمِ. ونحنُ ننْزَوي منِ انبِساطِهِ. وننْبَريْ لطَيِّ بِساطِهِ. الى أنْ غنّى شادِينا المُغْرِبُ.

ومُغرِّدُنا المُطْرِبُ: إلامَ سُعادُ لا تَصلِينَ حَبْلي ... ولا تأوينَ لي ممّا أُلاقي صبَرْتُ عليكِ حتى عيلَ صبْري ... وكادَتْ تبلُغُ الرّوحُ التّراقي وها أنا قدْ عزَمْتُ على انتِصافٍ ... أُساقي فيهِ خِلّي ما يُساقي فإنْ وَصْلاً ألذُّ بهِ فوَصْلٌ ... وإنْ صَرْماً فصرْمٌ كالطّلاقِ قال: فاسَفْهَمْنا العابثَ بالمَثاني. لِمَ نصَبَ الوصْلَ الأوّلَ ورفَعَ الثّاني؟ فأقْسَمَ بتُربَةِ أبَوَيْه. لقدْ نطَقَ بما اختارَهُ سيبوَيه. فتشَعّبَتْ حينئذٍ آراءُ الجمْع. في تجويزِ النّصبِ والرّفعِ. فقالتْ فِرقَةٌ: رفْعُهُما هوَ الصّوابُ. وقالتْ طائِفةٌ: لا يجوزُ فيهِما إلا الانتِصابُ. واستَبْهَمَ على آخرينَ الجوابُ. واستعَرَ بينَهُمُ الاصطِخابُ. وذلِكَ الواغِلُ يُبْدي ابتِسامَ ذي معرِفةٍ. وإنْ لمْ يفُهْ ببِنْتِ شفَةٍ. حتى إذا سكنَتِ الزّماجِرُ. وصمتَ المزْجورُ والزّاجِرُ. قال: يا قومُ

أنا أُنَبّئُكُمْ بتأويلِهِ. وأميّزُ صَحيحَ القوْلِ منْ عَليلِهِ. إنهُ لَيَجوزُ رفْعُ الوصْلَينِ ونصْبُهُما. والمُغايَرَةُ في الإعرابِ بينَهُما. وذلِكَ بحسَبِ اختِلافِ الإضْمارِ. وتقْديرِ المحْذوفِ في هَذا المِضْمارِ. قال: ففَرَطَ منَ الجَماعةِ إفْراطٌ في مُماراتِهِ. وانخِراطٌ الى مُباراتِهِ. فقال: أما إذا دعوْتُمْ نَزالِ. وتلبّبْتُمْ للنّضالِ. فما كلِمَةٌ هيَ إنْ شِئْتُمْ حرْفٌ محْبوبٌ. أوِ اسمٌ لِما فيهِ حرْفٌ حَلوبٌ؟ وأي اسمٍ يترَدّدُ بينَ فرْدٍ حازِمٍ. وجمْعٍ مُلازِمٍ؟ وأيّةُ هاءٍ إذا التحقَتْ أماطَتِ الثِّقَلَ. وأطلَقَتِ المُعتقَلَ؟ وأينَ تدخُلُ السينُ فتعزِلُ العامِلَ. منْ غيرِ أن تُجامِلَ؟ وما منْصوبٌ أبَداً على الظّرْفِ. لا يخْفِضُهُ سوى حرْفٌ؟ وأيّ مُضافٍ أخَلّ منْ عُرَى الإضافَةِ بعُرْوَةٍ. واختلَفَ حُكمُهُ بينَ مساءٍ وغُدوَةٍ؟ وما العامِلُ الذي يتّصلُ آخِرُهُ بأوّلِهِ. ويعمَلُ معكوسُهُ مثلَ عمَلِه؟ وأيّ عمَلٍ نائِبُهُ أرْحَبُ منهُ وَكْراً. وأعظَمُ

مَكْراً. وأكثَرُ للهِ تَعالى ذِكْراً؟ وفي أيّ موطِنٍ تلبَسُ الذُّكْرانُ. براقِعَ النّسوانِ. وتبرُزُ ربّاتُ الحِجالِ. بعَمائِمِ الرّجالِ؟ وأينَ يجِبُ حِفظُ المَراتِبِ. على المضْروبِ والضّارِبِ؟ وما اسمٌ لا يُعرَفُ إلا باستِضافَةِ كلِمتَينِ. أوِ الاقتِصارِ منه على حرْفَينِ. وفي وَضْعِهِ الأوّلِ التِزامٌ. وفي الثّاني إلْزامٌ؟ وما وصْفٌ إذا أُردِفَ بالنّونِ. نقَصَ صاحِبُهُ في العُيونِ. وقُوّمَ بالدّونِ. وخرَجَ منَ الزَّبونِ. وتعرّضَ للهُونِ؟ فهَذِهِ ثِنْتا عشْرَةَ مسألةً وفْقَ عدَدِكُمْ. وزِنَةَ لَدَدِكُمْ. ولو زِدْتُمْ زِدْنا. وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا. قال المُخبرُ بهذِهِ الحِكايةِ: فورَدَ عليْنا من أحاجِيهِ اللاّتي هالَتْ. لمّا انْهالَتْ. ما حارَتْ لهُ الأفكارُ وحالَتْ. فلمّا أعجزَنا العَوْمُ في بحرِهِ. واستسْلَمَتْ تَمائِمُنا لسِحْرِهِ. عدَلْنا منِ استِثْقالِ الرّؤيَةِ لهُ الى استِنْزالِ الرّوايَةِ عنهُ. ومِنْ بَغْيِ التّبرّمِ بهِ الى ابتِغاء التعلّمِ منهُ. فقال: والذي

نزّلَ النّحْوَ في الكَلامِ. منزِلَةَ المِلْحِ في الطّعامِ. وحجَبَهُ عن بصائِرِ الطّغامِ. لا أنَلْتُكُمْ مَراماً. ولا شفيْتُ لكُمْ غَراماً. أو تُخوّلَني كلُّ يدٍ. ويخْتَصّني كلٌ منكُم بيَدٍ. فلمْ يبْقَ في الجماعةِ إلا منْ أذْعَنَ لحُكمِهِ. ونبَذَ إلَيْهِ خُبْأةَ كُمّهِ. فلمّا حصلَتْ تحتَ وِكائِهِ. أضرَمَ شُعلَةَ ذكائِهِ. فكشَفَ حينئذٍ عن أسْرارِ ألْغازِهِ. وبدائِعِ إعْجازِهِ. ما جَلا بهِ صدأ الأذْهانِ. وجلّى مطْلَعَهُ بنورِ البُرْهانِ. قال الرّاوي: فهِمْنا. حينَ فهِمْنا. وعجِبْنا. إذْ أُجِبْنا. وندِمْنا. على ما ندّ مِنّا. وأخذْنا نعتَذِرُ إليهِ اعتِذارَ الأكْياسِ. ونعْرِضُ عليهِ ارتِضاعَ الكاسِ. فقالَ: مأرَبٌ لا حَفاوةٌ. ومشْرَبٌ لمْ يبْقَ لهُ

عندي حَلاوَةٌ. فأطَلْنا مُراودَتَهُ. ووالَيْنا مُعاوَدَتَهُ. فشمخَ بأنفِهِ صَلَفاً. ونأى بجانِبِه أنَفاً. وأنشدَ: نَهاني الشيْبُ عمّا فيهِ أفْراحي ... فكيفَ أجمَعُ بين الرّاحِ والرّاحِ وهل يجوزُ اصطِباحي من مُعتّقةٍ ... وقد أنارَ مشيبُ الرّأسِ إصْباحي آلَيتُ لا خامرَتني الخمرُ ما علِقَتْ ... روحي بجِسْمي وألفاظي بإفْصاحي ولا اكتسَتْ لي بكاساتِ السُلافِ يدٌ ... ولا أجَلتُ قِداحي بين أقْداحِ ولا صرَفْتُ الى صِرْفٍ مُشَعشَعةٍ ... همّي ولا رُحتُ مُرْتاحاً الى راحِ

ولا نظَمْتُ على مشمولَةٍ أبداً ... شملي ولا اخترْتُ نَدماناً سوى الصّاحي مَحا المشيبُ مِراحي حينَ خطّ على ... رأسي فأبغِضْ به من كاتِبٍ ماحِ ولاحَ يلْحَى على جرّي العِنانَ الى ... ملْهًى فسُحْقاً لهُ من لائِحٍ لاحِ ولوْ لهَوْتُ وفَوْدِي شائِبٌ لخَبا ... بينَ المصابيحِ من غسّانَ مِصْباحي قومٌ سَجاياهُمُ توْقيرُ ضَيْفِهِمِ ... والشّيبُ ضيفٌ له التّوْقيرُ يا صاحِ ثمّ إنّه انْسابَ انسيابَ الأيْمِ. وأجْفلَ إجْفالَ الغيْمِ.

تفسير ما أودع هذه المقامة من النكت العربية والأحاجي النحوية

فعلِمْتُ أنهُ سِراجُ سَروجَ. وبدْرُ الأدبِ الذي يجْتابُ البُروجَ. وكان قُصارانا التّحرُّقَ لبُعدِهِ. والتّفرُّقَ منْ بعدِهِ. تفسير ما أودع هذه المقامة من النكت العربية والأحاجي النحوية أما صدر البيت الأخير من الأغنية الذي هو (فإن وصلاً الذُّ به فوصل) فإنه نظير قولهم المرء مجزيّ بعمله أن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌ وهذه المسئلة أودعها سيبويه كتابه وجوز في إعرابها أربعة أوجه أحدها وهو إجودها أن تنصب خبراً الأول وترفع الثاني وتنصب شراً الأول وترفع الثاني ويكون تقديره إن كان عمله خيراً فجزاؤه خير وإن كان عمله شراً فجزاؤه شر فتنصب الأول على أنه خبر كان وترفع الثاني على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقد حذفت في هذا الوجه كان واسمها لدلالة حرف الشرط الذي هو أن على تقديرهما وحذفت أيضاً المبتدأ لدلالة الفاء التي هي جواب الشرط عليه لأنه كثيراً ما يقع بعدها. والوجه الثاني أن تنصبهما جميعاً ويكون تقدير الكلام إن كان عمله خيراً فهو يجزي خيراً وإن كان عمله شراً فهو يجزي شتراً فينتصب الأول على أنه خبر كان وينتصب الثاني انتصاب المفعول به. والوجه الثالث أن ترفعهما جميعاً ويكون تقدير الكلام إن كان في عمله خير فجزاؤه خير فيرتفع خبر الأول على أنه فاعل كان وتجعل كان المقدرة ههنا هي التامة التي تأتي بمعنى حدث ووقع فلا تحتاج إلى خبر كقوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ويكون التقدير في المسئلة إن كان خير ف جزاؤه خير أي يإن حدث خير فجزاؤه خير. والوجه الرابع وهو أضعفها أن ترفع الأول على ما تقدم شرحه في الوجه الثالث وتنصب الثاني على ما بين ذكره في الوجه الثاني ويكون التقدير أن كان في عمله خير فهو يجزي خيراً وعلى

حسب هذا التقدير والمقدرات المحذوفات فيه يجري إعراب البيت الذي غنى به. ومما ينتظم في هذا السلك قولهم المرء مقتول بما قتلب به إن سيفاً فسيفٌ وإن خنجراً فخنجر (وإما الكلمة التي هي حرف محبوب أو اسم لما فيه حرف حلوب: فهي نعم إن أردت بها تصديق الأخبار أو العدة عند السؤال فهي حرف، وإن عنيت بها الإبل فهي اسم، والنعم تذكر وتؤنث وتطلق على الإبل وعلى كل ماشية فيها إبل، وفي الإبل الحرف وهي النّاقة الضامة، سميت حرفاً تشبيهاً لها بحرف السيف، وقيل إنه الضخمة تشبيهاً لها بحرف الجبل. وأما الاسم المردد بين فرد حازم وجمع ملازم: فهي سراويل، قال بعضهم: هو واحد وجمعه سراويلات، فعلى هذا القول هو فرد. وكنى عن ضمه الخصر بأنه حازم. وقال آخرون: بل هو جمع واحده سروال مثل شملال وشماليل وسربال وسرابيل، فهو على هذا القول جمع. ومعنى قوله ملازم أي لا ينصرف، وإنّم لم ينصرف هذا النوع من الجمع وهو كل جمع ثالثه ألف وبعدها حرف مشدد أو حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن لثقله وتفرده دون غيره من الجموع بأن لا نظير له في الأسماء الآحاد. وقد كنى في هذه الأحجية عما لا ينصرف بالملازم كما كنى في التي قبلها عما ينصرف باللازم. وأما الهاء التي إذا التحقت أماطت الثقل وأطلقت المعتقل: هي الهاء اللاحقة بالجمع المقدم ذكره كقولك: صيارفة وصياقلة، فينصرف هذا الجمع عند التحاق الهاء بها لأنها قد أصارته الى أمثال الآحاد نحو رفاهية وكراهية، فخف بهذا السبب وصرف لهذه العلة. وقد كنى في هذه الأحجية عما لا ينصرف بالمعتقل كما كنى في التي قبلها عما لا ينصرف بالملازم. وأما السين التي تعزل العامل من غير أن تجامل: فهي التي تدخل على الفعل المستقبل وتفصل بينه وبين أن التي كانت قبل دخولها من أدوات النصب فيرتفع حينئذ الفعل وتنتقل أن عن كونها الناصبة للفعل الى أن تصير المخففة من الثقيلة، وذلك كقوله تعالى: علم أن سيكون منكم مرضى، وتقديره: علم أنه سيكون. وأما المنصوب على الظرف الذي لا يخفضه سوى حرف: فهو عند إذ لا يجره غير من خاصة، وقول العامة ذهبت الى عنده لحن. وأما المضاف الذي أخل من عرى الإضافة بعروة واختلف حكمه بين مساء وغدوة: فهو لدن، ولدن من الأسماء الملازمة للإضافة وكل ما يأتي بعدها مجرور به إلا غدوة فإن العرب نصبتها بلدن لكثرة استعمالهم إياها في الكلام ثم نوّنتها أيضاً ليتبين بذلك أنها منصوبة لا أنها من نوع المجرورات التي لا تنصرف. وعند بعض النحويين أن لدن بمعنى عند، والصحيح أن بينهما فرقاً لطيفاً وهو أن عند يشتمل معناها على ما هو في ملكك ومكنتك مما دنا منك

وبعد عنك، ولدن يختص معناها بما حضرك وقرب منك. وأما العامل الذي يتصل آخره بأوله ويعمل معكوسه مثل عمله: فهو يا، ومعكوسه أي، وكلتاهما من حروف النداء وعملهم في الاسم المنادى سيان وإن كانت يا أجول في الكلام وأكثر في الاستعمال، وقد اختار بعضهم أن ينادى بأي القريب فقط كالهمزة. وأما العامل الذي نائبه أرحب منه وكراً وأعظم مكراً وأكثر لله تعالى ذكراً: فهو باء القسم، وهذه الباء هي أصل حروف القسم بدلالة استعمالها مع ظهور فعل القسم في قولك: أقسم بالله، ولدخولها أيضاً على المضمر كقولك: بك لأفعلن، وإنما أبدلت الواو منها في القسم لأنهما جميعاً من حروف الشفة ثم لتقارب معنييهم لأن الواو تفيد الجمع والباء تفيد الإلصاق وكلاهما متفق والمعنيان متقاربان، ثم صارت الواو المبدلة من الباء أدور في الكلام وأعلق بالأقسام ولهذا ألغز بأنه أكثر لله تعالى ذكراً. ثم إن الواو أكثر موطناً من الباء لأن الباء لا تدخل إلا على الاسم ولا تعمل غير الجر، والواو تدخل على الاسم والفعل والحرف وتجر تارة بالقسم وتارة بإضمار رب وتنتظم أيضاً مع نواصب الفعل وأدوات العطف فلهذا وصفها برحب الوكر وعظم المكر. وأما الموطن الذي يلبس فيه الذكران براقع النسوان وتبرز فيه ربات الحجال بعمائم الرجال: فهو أول مراتب العدد المضاف وذلك ما بين الثلاثة الى العشرة فإنه يكون مع المذكر بالهاء ومع المؤنث بحذفها، كقوله تعالى: سخره عليهم سبع ليال وثمانية أيام، والهاء في هذا الموطن من خصائص المؤنث كقولك: قائم وقائمة وعالم وعالمة، فقد رأيت كيف انعكس في هذا الموطن حكم المذكر والمؤنث حتى انقلب كل منهما في ضد قالبه وبرز في بزة صاحبه. وأما الموضع الذي يجب فيه حفظ المراتب على المضروب والضارب: فهو حيث يشتبه الفاعل بالمفعول لتعذر ظهور علامة الإعراب فيهما أو في أحدهما، وذلك إذا كانا مقصورين مثل موسى وعيسى، أو من أسماء الإشرة نحو ذاك وهذا، فيجب حينئذ لإزالة اللبس إقرار كل منهما في رتبته ليعرف الفاعل منهما بتقدمه والمفعول بتأخره. وأما الاسم الذي لا يفهم إلا باستضافة كلمتين أو الاقتصار منه على حرفين: فهو مهما، وفيها قولان: أحدهما أنها مركبة من مه التي هي بمعنى اكفف ومن ما، والقول الثاني، وهو الصّحيح، إن الأصل فيها م فزيدت عليها ما أخرى كما تزاد على أن، فصار لفظها ما ما فثقل عليهم توالي كلمتين بلفظ واحد فأبدلوا من ألف ما الأولى هاء فصارتا مهما. ومهما من أدوات الشرط والجزاء ومتى لفظت بها لم يتم الكلام ولا عقل المعنى إلا بإيراد كلمتين بعدها كقولك: مهما تفعل افعل، وتكون حينئذ ملتزماً للفعل. وإن

المقامة الكرجية

اقتصرت منها على حرفين وهما مه التي بمعنى اكفف فهم المعنى وكنت ملزماً من خاطبته أن يكف. وأما الوصف الذي إذا أردف بالنون نقص صاحبه في العيون وقوم بالدون وخرج من الزبون وتعرض للهون: فهو ضيف إذا لحقته النون استحال الى ضيفن، وهو الذي يتبع الضيف، وينزل في النقد منزلة الزيف. المقامة الكَرَجيّة حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: شتَوْتُ بالكَرَجِ لدَينٍ أقتَضيهِ. وأرَبٍ أقْضيهِ. فبلَوْتُ منْ شِتائِها الكالِحِ. وصِرّها النّافِحِ. ما عرّفَني جَهْدَ البَلاء. وعكَفَ بي على الاصْطِلاء. فلمْ أكُنْ أُزايلُ وِجاري. ولا مُستَوْقَدَ ناري. إلا لضَرورَةٍ أُدفَعُ إليْها. أو إقامةِ جماعةٍ أحافِظُ عليه. فاضطُررْتُ في يومٍ جَوُّهُ مُزْمَهِرٌّ. ودَجْنُهُ مكفَهِرٌّ. الى أن برَزْتُ منْ كِناني. لمُهِمٍّ عَناني. فإذا شيخٌ عاري الجِلدَةِ. بادي الجُردَةِ. وقدِ اعتَمّ برَيْطَةٍ.

واستَثْفَر بفُوَيطَةٍ. وحوالَيهِ جمْعٌ كَثيفُ الحواشي. وهو يُنشِدُ ولا يُحاشي: يا قومِ لا يُنبِئكُمُ عن فَقري ... أصْدَقُ من عُرْيي أوانَ القُرِّ فاعتَبِروا بِما بَدا منْ ضُرّي ... باطِنَ حالي وخَفِيَّ أمْري وحاذِروا انقِلابَ سِلْمِ الدهْرِ ... فإنني كُنتُ نَبيهَ القدْرِ آوي الى وَفْرٍ وحدٍّ يَفْري ... تُفيدُ صُفري وتُبيدُ سُمْري وتشتَكي كُومي غَداةَ أقْري ... فجرّدَ الدّهرُ سُيوفَ الغدْرِ وشَنّ غاراتِ الرّزايا الغُبْرِ ... ولمْ يزَلْ يسْحَتُني ويَبْري

حتى عفَتْ داري وغاضَ دَرّي ... وبارَ سِعْري في الوَرى وشِعْري وصِرْتُ نِضْوَ فاقَةٍ وعُسْرِ ... عاري المَطا مجرَّداً من قِشْري كأنّني المِغزَلُ في التّعرّي ... لا دِفْءَ لي في الصِّنّ والصِّنَّبْرِ غيرُ التّضحّي واصْطِلاءِ الجمْرِ ... فهلْ خِضَمٌ ذو رِداءٍ غَمْرِ يستُرُني بمُطرَفٍ أو طِمْرِ ... طِلابَ وجهِ اللهِ لا لشُكْري ثم قال: يا أرْبابَ الثّراء. الرّافِلينَ في الفِراء. مَنْ أوتيَ خيراً فليُنْفِقْ. ومنِ استَطاعَ أن يُرفِقْ فليُرْفِقْ. فإنّ الدُنْيا غَدورٌ.

والدهرَ عَثورٌ. والمُكنَةَ زَورَةُ طيْفٍ. والفُرصَةُ مُزنَةُ صيفٍ. وإني واللهِ لَطالَما تلقّيتُ الشّتاءَ بكافاتِهِ. وأعدَدْتُ الأُهَبَ لهُ قبل مُوافاتِهِ. وها أنا اليومَ يا سادَتي. ساعِدي وِسادَتي. وجِلْدَتي بُرْدَتي. وحَفْنَتي جَفنَتي. فليَعتَبِرِ العاقِلُ بحالي. ولْيُبادِرْ صرْفَ اللّيالي. فإنّ السّعيدَ منِ التّعظَ بسِواهُ. واستَعدّ لمسْراهُ. فقيلَ لهُ: قد جلَوْتَ علَينا أدبَكَ. فاجْلُ لنا نسبَكَ. فقال: تبّاً لمُفتَخِرٍ. بعَظْمٍ نخِرٍ! إنّما الفخْرُ بالتُّقى. والأدَبِ المُنتَقى. ثم أنشدَ: لعَمرُكَ ما الإنسانُ إلا ابنُ يومِه ... على ما تجلّى يومُهُ لا ابنُ أمسِهِ وما الفخرُ بالعظْمِ الرّميمِ وإنّما ... فَخارُ الذي يبغي الفخارَ بنفسِهِ ثمّ إنّهُ جلسَ مُحقَوقِفاً. واجْرَنثَمَ مُقَفقِفاً. وقال: اللهُمّ يا مَنْ

غمرَ بنوالِهِ. وأمرَ بسؤالِهِ. صلِّ على محمدٍ وآلهِ. وأعِنّي على البَرْدِ وأهْوالِهِ. وأتِحْ لي حُرّاً يؤثِرُ منْ خَصاصَةٍ. ويؤاسي ولوْ بقُصاصَةٍ. قال الراوي: فلمّا جلّى عنِ النّفْسِ العِصاميّةِ. والمُلَحِ الأصمعيّةِ. جعلَتْ ملامِحُ عيني تَعجُمُهُ. ومَرامي لحْظي تَرجُمُه. حتى استَبَنْتُ أنهُ أبو زيدٍ. وأنّ تعرّيَهُ أُحبولَةُ صيدٍ. ولمحَ هوَ أنّ عِرْفاني قد أدْركَهُ. ولمْ يأمَنْ أنْ يهتِكَهُ. فقال: أُقسِمُ بالسَّمَرِ والقمَرِ. والزُّهْرِ والزَّهَرِ. إنهُ لنْ يستُرَني إلا مَنْ طابَ

خِيمُهُ. وأُشرِبَ ماءَ المُروءةِ أديمُهُ. فعقَلْتُ ما عَناهُ. وإنْ لم يدْرِ القومُ معْناهُ. وساءني ما يُعانِيهِ منَ الرِّعدَةِ. واقشِعْرارِ الجِلْدَةِ. فعمَدْتُ لفَرْوةٍ هيَ بالنّهارِ رِياشي. وفي الليلِ فِراشي. فنضَوتُها عني. وقلتُ له: اقْبَلْها مني. فما كذّبَ أنِ افْتَراها. وعيني تَراها. ثم أنشدَ: للهِ من ألبَسَني فَروةً ... أضحتْ من الرِّعدَةِ لي جُنّهْ ألبَسنِيها واقِياً مُهجَتي ... وُقّيَ شرَّ الإنْسِ والجِنّهْ سيَكتَسي اليومَ ثَنائي وفي ... غدٍ سيُكسى سُندُسَ الجَنّهْ قال: فلمّا فتَن قُلوبَ الجَماعَةِ. بافتِنانِهِ في البَراعَةِ. ألقَوْا عليْهِ منَ الفِراء المُغشّاةِ. والجِبابِ المُوشّاةِ. ما آدَهُ ثقَلُهُ. ولم يكَدْ يُقلّهُ. فانطلقَ مُستَبشِراً بالفَرجِ. مُستَسقِياً

للكَرَجِ. وتبعْتُهُ الى حيثُ ارتفَعَتِ التّقيّةُ. وبدَتِ السّماءُ نقيّةً. فقلتُ له: لَشَدّ ما قرّسَكَ البرْدُ. فلا تتعرّ منْ بعْدُ! فقال: ويْكَ ليسَ منَ العدْلِ. سُرعةُ العذْلِ! فلا تعْجَلْ بلَوْمٍ هوَ ظُلْمٌ. ولا تقْفُ ما ليْسَ لكَ بهِ عِلمٌ. فوَالّذي نوّرَ الشّيبَةَ. وطيّبَ تُربَةَ طَيْبَةَ. لو لمْ أتَعرّ لرُحْتُ بالخَيبَةِ. وصفَرِ العَيبَةِ. ثمّ نزَعَ الى الفِرارِ. وتبرقَعَ بالاكْفِهْرارِ. وقال: أمَا تعْلَمُ أنّ شِنْشِنتيَ الانتِقالُ منْ صَيدٍ الى صيْدٍ. والانعِطافُ منْ عمْرٍو الى زيدٍ؟ وأراكَ قد عُقتَني وعقَقْتَني. وأفَتّني أضْعافَ ما أفدْتَني. فأعْفِني عافاكَ الله منْ لغوِكَ. واسْدُدْ دوني بابَ جِدّكَ ولهْوِكَ. فجبذتُهُ جبْذَ التِّلْعابَةِ. وجعْجَعْتُ به للدُعابَةِ.

وقلتُ له: واللهِ لوْ لمْ أُوارِكَ. وأُغَطِّ على عَوارِكَ. لمَما وصلْتَ الى صِلةٍ. ولا انقلَبْتَ أكْسى منْ بصَلَةٍ. فجازِني عنْ إحساني إليْكَ. وسَتري لكَ وعلَيْكَ. بإن تسمَحَ لي بردّ الفَروَةِ. أو تُعرّفَني كافاتِ الشّتوَةِ. فنظرَ إليّ نظَرَ المتعجّبِ. وازْمهَرّ ازمِهْرارَ المتغَضّبِ. ثمّ قال: أمّا رَدّ الفَروةِ فأبْعَدُ منْ ردّ أمسِ الدّابِرِ. والمَيْتِ الغابِرِ. وأما كافاتُ الشّتْوةِ فسُبحانَ مَنْ طبَع على ذِهنِكَ. وأوْهى وِعاءَ خَزْنِكَ. حتى أُنسيتَ ما أنشدْتُكَ بالدَّسْكَرةِ. لابنِ سُكّرَةَ: جاء الشتاءُ وعِندي منْ حوائِجِه ... سبْعٌ إذا القطْرُ عن حاجاتِنا حبَسا

المقامة الرقطاء

كِنٌّ وكِيسٌ وكانونٌ وكاسُ طِلاً ... بعْدَ الكَبابِ وكفٌ ناعمٌ وكِسا ثم قال: لَجوابٌ يَشفي. خيرٌ من جِلبابٍ يُدْفي. فاكْتَفِ بما وعَيْتَ وانْكَفي. ففارَقْتُهُ وقدْ ذهبَتْ فَروَتي لشِقْوَتي. وحصلْتُ على الرِّعدَةِ طولَ شَتْوَتي. المقامة الرّقْطاء حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: حلَلْتُ سوقَيِ الأهوازِ. لابِساً حُلّةَ الإعْوازِ. فلبِثْتُ فيها مُدّةً. أُكابِدُ شِدّةً. وأزَجّي أياماً مسوَدّةً. الى أنْ رأيتُ تَماديَ المُقامِ. من عَوادِي الانتِقامِ.

فرمَقْتُها بعَينِ القالي. وفارَقتُها مُفارقَةَ الطّلَلِ البالي. فظعَنْتُ عن وشَلِها. كَميشَ الإزارِ. راكِضاً الى المياهِ الغِزارِ. حتى إذا سِرْتُ منها مرحلَتَينِ. وبَعُدْتُ سُرَى ليلَتَينِ. تراءتْ لي خيمَةٌ مَضروبَةٌ. ونارٌ مشبوبَةٌ. فقلتُ: آتِيهِما لعَلّي أنقَعُ صَدًى. أو أجِدُ على النّارِ هُدًى. فلمّا انتهَيتُ الى ظِلّ الخَيمَةِ رأيتُ غِلمَةً رُوقَةً. وشارَةً مرْموقَةً. وشيْخاً علَيْهِ بزّةٌ سَنيّةٌ. ولدَيهِ فاكهةٌ جَنيّةٌ. فحيّيْتُهُ. ثمّ تحامَيتُهُ. فضحِكَ إليّ. وأحسنَ الرّدَّ عليّ. وقال: ألا تجلِسُ الى مَنْ تَروقُ فاكِهَتُهُ. وتَشوقُ مُفاكَهتُهُ؟ فجلَسْتُ لاغتِنامِ مُحاضرَتِهِ. لا لالْتِهامِ ما بحضْرَتِهِ.

فحينَ سفَرَ عن آدابِهِ. وكشَرَ عن أنيابِهِ. عرَفْتُ أنهُ أبو زيدٍ بحُسنِ مُلَحِهِ. وقُبْحِ قلَحِهِ. فتَعارَفْنا حينَئذٍ. وحفّتْ بي فرْحَتانِ ساعتَئذٍ. ولمْ أدْرِ بأيّهِما أنا أضْفى فرَحاً. وأوْفى مرَحاً: أبإسْفارِهِ. منْ دُجُنّةِ أسْفارِهِ؟ أم بخِصْبِ رِحالِهِ. بعدَ إمحالِهِ؟ وتاقَتْ نفسي الى أن أفُضّ ختْمَ سِرّهِ. وأبطُنَ داعِيَةَ يُسْرِهِ. فقلتُ له: منْ أينَ إيابُكَ. والى أينَ انسِيابُكَ. وبِمَ امتلأتْ عِيابُك؟ فقال: أمّا المَقْدَمُ فمِنْ طوسَ. وأما المَقصِدُ فإلى السّوسِ. وأما الجَدَةُ التي أصَبْتُها فمِنْ رِسالَةٍ اقتَضَبْتُها. فسألتُهُ أن يَفرُشَني دِخلتَهُ. ويسْرُدَ عليّ رِسالتَهُ. فقال: دونَ مَرامِكَ حرْبُ البَسوسِ. أو تَصحبَني الى

السّوسِ. فصاحَبتُهُ إليْها قَهْراً. وعكفْتُ علَيْهِ بها شهْراً. وهوَ يَعُلّني كاساتِ التّعليلِ. ويُجِرّني أعِنّةَ التأميلِ. حتى إذا حرِجَ صدْري. وعِيلَ صبْري. قلتُ له: إنهُ لمْ يبْقَ لكَ عِلّةٌ. ولا لي في المُقامِ تَعِلّةٌ. وفي غدٍ أزْجُرُ غُرابَ البينِ. وأرْحَلُ عنكَ بخُفّيْ حُنَينٍ. فقال: حاشا للهِ أنْ أُخْلِفَكَ. أو أُخالِفَكَ. وما أرْجأتُ أنْ أحدّثَكَ. إلا لأُلَبّثَكَ. وإذا كُنتَ قدِ استربْتَ بعِدَتي. وأغْراكَ ظَنُّ السوء بمُباعَدَتي. فأصِخْ لقَصَصِ سيرَتي المُمتدّةِ. وأضِفْها الى أخْبارِ الفرَجِ بعْدَ الشّدةِ. فقلتُ لهُ: هاتِ فما أطوَلَ

طيَلَكَ. وأهْوَلَ حيَلَكَ! فقال: اعْلَمْ أنّ الدهْرَ العَبوسَ. ألْقاني الى طوسَ. وأنا يومَئِذٍ فَقيرٌ وَقيرٌ. لا فَتيلَ لي ولا نَقيرٌ. فألجأني صفَرُ اليَدَينِ. الى التطوُّقِ بالدَّينِ. فادّنْتُ لسوء الاتّفاقِ. ممّنْ هوَ عَسِرُ الأخْلاقِ. وتوهّمْتُ تسَنّيَ النَّفاقِ. فتوسّعْتُ في الإنْفاقِ. فما أفَقْتُ حتى بهَظَني دَينٌ لزِمَني حقُّهُ. ولازَمَني مُستَحِقُّهُ. فحِرْتُ في أمري. وأطلَعْتُ غَريمي على عُسْري. فلمْ يُصَدّقْ إمْلاقي. ولا نزَعَ عنْ إرْهاقي. بلْ جَدّ في التّقاضي. ولَجّ في اقْتِيادي الى القاضي. وكلّما خضَعْتُ له في الكلام.

واستنْزَلتُ منهُ رِفقَ الكِرامِ. ورغّبْتُهُ في أنْ ينظُرَ لي بمُياسرَةٍ. أو يُنظِرَني الى ميسرَةٍ. قال: لا تطْمَعْ في الإنْظارِ. واحتِجانِ النُّضارِ. فوَحقّكَ ما تَرى مسالِكَ الخَلاصِ. أو تُريَني سبائِكَ الخِلاصِ! فلمّا رأيتُ احتِدادَ لَدَدِهِ. وأنْ لا مَناصَ لي منْ يدِهِ. شاغَبْتُهُ. ثمّ واثبْتُهُ. ليُرافِعَني الى والي الجَرائِمِ. لا الى الحاكِمِ في المظالمِ. لِما كان بلَغَني منْ إفْضالِ الوالي وفضْلِهِ. وتشدُّدِ القاضي وبُخْلِهِ. فلمّا حضَرْنا بابَ أميرِ طوسَ. آنَسْتُ أن لا بأسَ ولا بوسَ. فاستَدْعَيْتُ دَواةً وبَيْضاءَ. وأنشأتُ رِسالةً رقْطاءَ. وهيَ:

أخلاقُ سيّدِنا تُحَبُّ. وبعَقْوَتِهِ يُلَبُّ. وقُربُهُ تُحَفٌ. ونأيُهُ تلَفٌ. وخُلّتُهُ نسَبٌ. وقَطيعَتُهُ نصَبٌ. وغَرْبُهُ ذَلِقٌ. وشُهْبُهُ تأتَلِقُ. وظَلْفُهُ زانَ. وقَويمُ نهجِهِ بانَ. وذهنُهُ قلّبَ وجرّبَ. ونعْتُهُ شرّقَ وغرّبَ: سيّدٌ قُلَّبٌ سَبوقٌ مُبِرٌّ ... فطِنٌ مُغرِبٌ عَزوفٌ عَيوفُ مُخلِفٌ مُتلِفٌ أغَرُّ فَريدٌ ... نابِهٌ فاضِلٌ ذكيٌّ أَنوفُ مُفْلِقٌ إنْ أبانَ طَبٌّ إذا نا ... بَ هِياجٌ وجلَّ خطْبٌ مَخوفُ

مَناظِمُ شرَفِهِ تأتَلِفُ. وشُؤبوبُ حِبائِهِ يكِفُ. ونائِلُ يدَيْهِ فاضَ. وشُحُّ قلبِهِ غاضَ. وخِلْفُ سَخائِهِ يُحتلَبُ. وذهَبُ عِيابِهِ يُحتَرَبُ. مَنْ لفّ لِفّهُ فلَجَ وغلَبَ. وتاجِرُ بابِهِ جلبَ وخلَبَ. كفَّ عنْ هضْمِ بَريٍّ. وبَرئَ من دنَسِ غَويٍّ. وقرَنَ لِيانَهُ بعِزّ. ونكّبَ عنْ مذْهَبِ كَزّ. ليسَ بوَثّابٍ عندَ نُهْزَةِ شَرّ. بل يعِفّ عِفّةَ بَرّ: فلِذا يُحَبُّ ويُستَحَقُّ عَفافُهُ ... شَغَفاً بهِ فلُبابُهُ خَلاّبُ أخلاقُهُ غُرٌ ترِفُّ وَفُوقُهُ ... فُوقٌ إذا ناضلْتَهُ غَلاّبُ سُجُحٌ يهِشّ وذو تَلافٍ إنْ هَفا ... خِلٌّ فليْسَ بحقّهِ يُرْتابُ

لا باخِلٌ بلْ باذِلٌ خِرْقٌ إذا ... يُعْتَرُّ بَرْزٌ لا يَليهِ بابُ إنْ عضّ أزْلٌ فَلّ غرْبَ عِضاضِهِ ... بمَنابِهِ فانْحَتّ منْهُ نابُ وجَديرٌ بمَنْ لَبّ وفطَنَ. وقَرُبَ وشطَنَ. أنْ أذْعَنَ لقَريعِ زمَنٍ. وجابِرِ زمَنٍ. مُذْ رضِعَ ثدْيَ لِبانِهِ. خُصّ بإفاضَةِ تهْتانِهِ. نعشَ وفرّجَ. وضافرَ فأبْهَجَ. ونافرَ فأزْعَجَ. وفاءَ بحَقٍّ أبْلَجَ. أتْعَبَ مَنْ سيَلي. وقُرّظَ إذْ هُزّ وبُليَ. وتوّجَ صِفاتِهِ. بحُبّ عُفاتِهِ: فلا خَلا ذا بهْجَةٍ ... يمتَدُّ ظِلُّ خِصْبِهِ

فإنهُ بَرٌّ بمَنْ ... آنسَ ضوْءَ شُهْبِهِ زانَ مَزايا ظَرْفِهِ ... بلُبْسِ خوفِ ربّهِ فلْيَهْنِ سيّدَنَا فوزُهُ بمَفاخِرَ تأثّلَتْ وجَلّتْ. وفوْتُهُ بصنائِعَ تمّتْ ونمّتْ. ويُلائِمُ قُرْبَ حضرَتِهِ. غوْثُ رِقّهِ بحظٍّ منْ حُظوَتِهِ. فإنهُ تَليدُ ندْبٍ. وشَريدُ جدْبٍ. وجَريحُ نوَبٍ أثّرتْ. وناظِمُ قلائدَ تسيّرَتْ. إذا جاشَ لخُطبَةٍ فلا يوجَدُ قائلٌ. ثمّ قُسٌّ ثم باقلٌ. فإنْ حبّرَ قلتَ حِبَرٌ نُنِمَتْ. وخِلْتَ رِياضاً قد نمتْ. هذا ثمّ شِرْبُهُ برْضٌ. وقوتُهُ قرْضٌ. وفلَقُهُ غسَقٌ. وجِلْبابُهُ خلَقٌ. وقدْ قلِقَ لتوَغُّرِ غَريمٍ

غاشِمٍ. يستَحثّهُ بحقٍّ لازِمٍ. فإنْ منّ سيدُنا بكفّهِ. بهِباتِ كفّهِ. توشّحَ بمجْدٍ فاقَ. وباءَ بأجْرِ فكّي منْ وَثاقٍ. لا خلَتْ سَجايا خُلْقِهِ. ترفِدُ شائِمَ برْقِهِ. بمَنّ ربٍّ أزَليٍّ. حيٍّ أبَديٍّ. قال: فلمّا استشَفّ الأميرُ لآليها. ولمحَ السّرَّ المودَعَ فيها. أوعَزَ في الحالِ بقضاء دَيْني. وفصَلَ بينَ خصْمي وبيْني. ثمّ استَخْلَصَني لمُكاثرَتِهِ. واخْتَصّني بأثَرَتِهِ. فلبِثْتُ بضْعَ سِنينَ أنعَمُ في ضيافَتِهِ. وأرتَعُ في ريفِ رافَتِهِ. حتى إذا غمَرَتْني مواهِبُهُ. وأطالَ ذيْلي ذهَبُهُ. تلطّفْتُ في الارتِحالِ. على ما تَرى منْ حُسْنِ الحالِ. قال: فقلْتُ لهُ شُكراً لمَنْ أتاحَ لكَ لُقْيانَ السّمْحِ

المقامة الوبرية

الكَريمِ. وأنقذَكَ بهِ منْ ضغْطَةِ الغَريمِ! فقال: الحمدُ للهِ على سعادَةِ الجَدّ. والخُلوصِ منَ الخصْمِ الألَدّ. ثمّ قال: أيُّما أحَبُّ إليْكَ أنْ أُحذيَكَ منَ العَطاء. أمْ أُتحِفَكَ بالرّسالَةِ الرّقْطاء؟ فقلتُ: إمْلاءُ الرّسالَةِ أحَبُّ إليّ! فقال: وهوَ وحقّكَ أفُّ عليّ. فإنّ نِحْلَةَ ما يلِجُ في الآذانِ. أهْوَنُ منْ نِحلَةِ ما يخرُجُ منَ الأرْدانِ. ثمّ كأنّهُ أنِفَ واستَحْيا. فجمَعَ لي بينَ الرّسالَةِ والحُذْيا. ففُزْتُ منهُ بسَهْمَينِ. وفصلْتُ عنهُ بغُنْمَينِ. وأُبْتُ الى وطَني قَريرَ العينِ. بِما حُزْتُ منَ الرّسالةِ والعَينِ. المقامة الوَبَريّة حكى الحارِثُ بنُ همّامٍ قال: مِلتُ في رَيِّقِ زَماني الذي غبَرَ. الى مُجاوَرَةِ أهْلِ الوبَرِ. لآخُذَ إخْذَ نُفوسِهِمِ الأبيّةِ. وألسِنَتِهِمِ

العربيّةِ. فشمّرْتُ تشْميرَ منْ لا يألو جُهْداً. وجعلْتُ أضرِبُ في الأرضِ غَوْراً ونَجْداً. الى أنِ اقتَنَيْتُ هَجْمَةً منَ الرّاغِيَةِ. وثَلّةً منَ الثّاغِيَةِ. ثم أوَيتُ الى عرَبٍ أرْدافِ أقْيالٍ. وأبناءِ أقوالٍ. فأوْطَنوني أمنَعَ جَنابٍ. وفلّوا عنّي حدّ كُلّ نابٍ. فما تأوّبَني عندَهُم همٌّ. ولا قرَعَ صَفاتيَ سهْمٌ. الى أنْ أضْلَلْتُ في ليلَةٍ مُنيرةِ البدْرِ. لَقْحةً غَزيرَةَ الدَّرّ. فلمْ أطِبْ نفْساً بإلْغاء طلَبِها. وإلْقاءِ حبْلِها على غارِبِها. فتدثّرْتُ فرَساً مِحْضاراً. واعتقلْتُ لَدْناً خطّاراً. وسرَيْتُ ليْلَتي جمْعاءَ.

أجوبُ البَيداءَ. وأقْتَري كلَّ شجْراء ومَرْداء. الى أن نشرَ الصّبْحُ راياتِهِ. وحَيْعَلَ الدّاعي الى صَلاتِهِ. فنزَلْتُ عنْ متْنِ الرَّكوبَةِ. لأداء المكْتوبَةِ. ثمّ حُلْتُ في صهْوَتِها. وفرَرْتُ عنْ شحْوَتِها. وسِرْتُ لا أرى أثَراً إلا قفَوْتُهُ. ولا نشَزاً إلا علَوْتُهُ. ولا وادِياً إلا جزَعْتُهُ. ولا راكِباً إلا استَطْلَعْتُهُ. وجِدّي مع ذلِكَ يذهَبُ هدَراً. ولا يجِدُ وِرْدُهُ صدَراً. الى أن حانَتْ صَكّةُ عُمَيٍّ. ولفْحُ هَجيرٍ يُذْهِلُ غَيْلانَ عنْ مَيٍّ. وكان يوْماً أطْوَلَ من ظِلّ القَناةِ. وأحَرَّ منْ دمْعِ المِقْلاتِ. فأيقَنْتُ

أني إنْ لمْ أستَكِنّ منَ الوَقْدَةِ. وأستَجِمّ بالرّقْدَةِ. أدْنَفَني اللُّغوبُ. وعلِقَتْ بي شَعوبُ. فعُجْتُ الى سرْحَةٍ كَثيفَةِ الأغصانِ. وريقَةِ الأفْنانِ. لأغَوّرَ تحْتَها الى المُغَيرِبانِ. فوَاللهِ ما اسْتَرْوَحَ نفَسي. ولا اسْتَراحَ فرَسي. حتى نظَرْتُ الى سانِحٍ. في هيئَةِ سائِحٍ. وهوَ ينتَجِعُ نُجْعَتي. ويشتَدّ الى بُقعَتي. فكرِهْتُ انْعِياجَهُ الى مَعاجي. فاستعَذْتُ باللهِ منْ شرّ كُلّ مُفاجي. ثمّ ترجّيْتُ أن يتصدّى مُنشِداً. أو يتبدّى مُرشِداً. فلمّا اقترَبَ منْ سرْحَتي. وكادَ يحِلّ بساحَتي. ألفَيْتُهُ شيخَنا السَّروجيَّ مُتّشِحاً بجِرابثهِ. ومُضْطَغِناً أُهْبَةَ تَجْوابِهِ. فآنسَني إذْ وردَ.

وأنْساني ما شرَدَ. ثمّ استَوْضَحْتُهُ منْ أينَ أثَرُهُ. وكيفَ عُجَرُهُ وبُجَرُهُ؟ فأنشَدَ بَديهاً. ولمْ يَقُلْ إيهاً: قُلْ لمُستَطلِعٍ دَخيلَةَ أمري ... لكَ عِندي كَرامَةً وعَزازَهْ أنا ما بينَ جوْبِ أرضٍ فأرْضٍ ... وسُرًى في مَفازَةٍ فمَفازَهْ زادِيَ الصّيدُ والمَطيّةُ نعْلي ... وجَهازِي الجِرابُ والعُكّازَهْ فإذا ما هبَطْتُ مِصْراً فبَيْتي ... غُرفَةُ الخانِ والنّديمُ جُزارَهْ ليسَ لي ما أُساءُ إنْ فاتَ أوْ أح ... زَنُ إنْ حاولَ الزّمانُ ابتِزازَهْ غيرَ أني أبيتُ خِلْواً منَ اله ... مّ ونَفْسي عنِ الأسى مُنْحازَهْ أرْقُدُ الليلَ مِلْءَ جَفْني وقَلْبي ... بارِدٌ منْ حَرارةٍ وحَزازَهْ

لا أُبالي منْ أيّ كأسٍ تفوّقْ ... تُ ولا ما حَلاوَةٌ منْ مَزازَهْ لا ولا أستَجيزُ أن أجعَلَ الذ ... لّ مَجازاً الى تسَنّي إجازَهْ وإذا مطْلَبٌ كسا حُلّةَ العا ... رِ فبُعْداً لمَنْ يَرومُ نَجازَهْ ومتى اهتزّ للدّناءةِ نِكْسٌ ... عافَ طبْعي طِباعَهُ واهتِزازَهْ فالمَنايا ولا الدّنايا وخيْرٌ ... من رُكوبِ الخَنا رُكوبُ الجِنازَهْ ثم رفعَ إليّ طَرْفَهُ. وقال: لأمْرٍ ما جدَعَ قَصيرٌ أنفَهُ. فأخبَرْتُهُ خبرَ ناقَتي السّارِحةِ. وما عانَيْتُهُ في يومي والبارِحَةِ. فقال: دعِ

الالْتِفاتَ. الى ما فاتَ. والطِّماحَ. الى ما طاحَ. ولا تأسَ على ما ذهبَ. ولوْ أنهُ وادٍ منْ ذهبٍ. ولا تستَمِلْ مَنْ مالَ عنْ ريحِكَ. وأضْرَمَ نارَ تَباريحِكَ. ولوْ كان ابنَ بوحِكَ. أوْ شَقيقَ روحِكَ. ثمّ قال: هلْ لكَ في أن تَقيلَ. وتتحامَى القالَ والقيلَ؟ فإنّ الأبْدانَ أنْضاءُ تعَبٍ. والهاجِرَةَ ذاتُ لهَبٍ. ولنْ يصْقُلَ الخاطِرَ. ويُنشّطَ الفاتِرَ. كقائِلَةِ الهَواجِرِ. وخُصوصاً في شهْرَيْ ناجِرٍ. فقلتُ: ذاكَ إليْكَ. وما أُريدُ أنْ أشُقّ علَيْكَ. فافتَرَشَ التُّرْبَ واضْطجَعَ. وأظْهَرَ أنْ قدْ هجَع. وارتَفَقْتُ على أن أحرُسَ. ولا أنْعَسَ. فأخَذَتْني السِّنَةُ. إذْ زُمّتِ الألسِنَةُ. فلمْ أُفِقْ

إلا والليلُ قد تولّجَ. والنّجْمُ قد تبلّجَ. ولا السّروجيّ ولا المُسرَجَ. فبِتُّ بلَيلَةٍ نابِغيّةٍ. وأحْزانٍ يَعقوبيّةٍ. أُساوِرُ الوُجومَ. وأُساهِرُ النّجومَ. أفكّرُ تارَةً في رُجْلَتي. وأخْرى في رَجْعَتي. الى أنْ وضَحَ لي عِندَ افتِرارِ ثغْرِ الضّوّ. في وجْهِ الجوّ. راكِبٌ يخِدُ في الدّوّ. فألْمَعْتُ إليْهِ بثَوْبي. ورجوْتُ أن يُعَرّجَ الى صوْبي. فلمْ يعْبأ بإلْماعي. ولا أوى لالْتِياعي. بلْ سارَ على هَيْنَتِهِ. وأصْماني بسهْمِ إهانَتِهِ. فأوفَضْتُ إلَيْهِ لأستَرْدِفَه. وأحْتَمِلَ تغطْرُفَهُ. فلمّا أدرَكْتُهُ بعْدَ الأينِ. وأجَلْتُ فيهِ مسْرَحَ العينِ. وجدْتُ

ناقَتي مَطيّتَهُ. وضالّتي لُقطتَهُ. فما كذّبتُ أنْ أذْرَيْتُهُ عن سَنامِها. وجاذَبْتُهُ طرَفَ زِمامِها. وقلتُ لهُ: أنا صاحِبُها ومُضِلُّها. ولي رِسلُها ونسْلُها. فلا تكُنْ كأشْعَبَ. فتُتْعِبَ وتَتْعَبَ. فأخذَ يلْدَغُ ويَصْئي. ويتّقِحُ ولا يَستَحْيي. وبَيْنا هوَ ينْزو ويَلينُ. ويستَأسِدُ ويسْتَكينُ. إذْ غَشينا أبو زيْدٍ لابِساً جِلدَ النّمِرِ. وهاجِماً هُجومَ السّيلِ المُنهَمِرِ. فخِفْتُ واللهِ أنْ يكونَ يومُهُ كأمْسِهِ. وبدرُهُ مثلَ شمْسِهِ. فألحَقَ بالقارِظَينِ. وأصيرَ خبَراً بعْدَ عَينٍ. فلمْ أرَ إلا أنْ أذكَرْتُهُ العُهودَ المنسيّةَ. والفَعْلَةَ الإمْسيّةَ. وناشَدْتُهُ اللهَ. أوافَى للتّلافي. أمْ لِما فيهِ إتْلافي. فقال: مَعاذَ اللهِ أنْ أُجهِزَ

على مَكْلومي. أو أصِلَ حَروري بسَمومي! بلْ وافَيْتُكَ لأخْبُرَ كُنْهَ حالِكَ. وأكونَ يَميناً لشِمالِكَ. فسكَنَ عندَ ذلِك جاشِي. وانْجابَ استِيحاشي. وأطلَعْتُهُ طِلْعَ اللِّقْحَةِ. وتبَرْقُعَ صاحِبي بالقِحَةِ. فنظَرَ إلَيْهِ نظرَ ليْثِ العِرّيسَةِ. الى الفَريسَةِ. ثمّ أشْرَعَ قِبَلَهُ الرّمْحَ. وأقْسَمَ لهُ بمَنْ أنارَ الصبْحَ. لَئِنْ لمْ ينْجُ مَنْجَى الذُّبابِ. ويرْضَ منَ الغَنيمَةِ بالإيابِ. لَيورِدَنّ سِنانَهُ وَريدَهُ. ولَيَفْجَعَنّ بهِ وَليدَهُ ووَديدَهُ. فنبَذَ زِمامَ النآقَةِ وحاصَ. وأفلَتَ ولهُ حُصاصٌ. فقال لي أبو زيدٍ: تسَلّمْها وتسَنّمْها. فإنّها إحْدى

الحُسْنَيَينِ. ووَيْلٌ أهوَنُ من وَيْلَينِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فحِرْتُ بينَ لوْمِ أبي زيدٍ وشُكْرِهِ. وزِنَةِ نفْعِهِ بضُرّهِ. فكأنّهُ نوجِيَ بذاتِ صدْري. أو تكهّنَ ما خامَرَ سِرّي. فقابلَني بوجْهٍ طَليقٍ. وأنشدَ بلِسانٍ ذَليقٍ: يا أخي الحامِلَ ضَيْمي ... دونَ إخْواني وقوْمي إنْ يكُنْ ساءكَ أمْسي ... فلقَدْ سرّكَ يوْمي فاغْتَفِرْ ذاكَ لِهذا ... واطّرِحْ شكري ولوْمي ثمّ قال: أنا تَئِقٌ. وأنتَ مَئِقٌ. فكيْفَ نتّفِقُ؟ وولّى يفْري أديم الأرضِ. ويرْكُضُ طِرْفَهُ أيّما رَكْضٍ. فما عدَوْتُ أنِ اقْتَعَدْتُ مَطيّتي. وعُدْتُ لطِيّتي. حتى وصلْتُ الى حِلّتي. بعدَ اللّتَيّا والتي. تفسير ما أدوع هذه المقامة من الألفاظ اللغوية والأمثال العربية قوله (ريق زماني) ورائقه يعني أوله وقد يخفف فيقالب رق. وقوله (آخذ أخذ نفوسهم الأبية) يعني اقتدي بهم يقال منه أخذ إخذه وأخذه بكسر الهمزة وفتحها. (والهجمة) نحو

المائة من الإبل. (والثلثة) القطيع من الغم. (والراغبة) الإبل. (والثاغبة) الشاة. ومنه قولهم ما له راغية ولا ثاغية أي لا ناقة ولا شاة. وقوله (أرداف إقبال) أي يخلفون الملوك إذا غابوا. وقوله (أبناء أقوال) أي فصحاء. يقال للمنطيق أنه ابن أقواله. وقوله (فتدثرت فرساً محاضراً) التدر الوثوب على ظهر الفرس. والمحضار والمحضير الشديد العدو مأخوذ من الحضر وهو العدو. وقوله (اقترى كل شجراء ومرداء) الاقتراء تتبع الأرض والشجراء ذات الشجر. والمراداء الخالية من النبات ومنه اشتقاق الأمرد لخلو وجهه من الشعر. وقوله (حيعل الداعي إلى صلاته) يعني به قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح والمصدر منه الحيعلة ومثله من المصادر الهيللة والحمد له والحولقة والبسملة والحسبلة والسيحلة والجعلفة فالهيللة حكاية قول لا إله إلا الله والحمد له حكاية قول الحمد لله. والحولقة حكاية قول لا حول ولا قوة إلا بالله. والبسملة حكاية قول بسم الله. والحسبلة حكاية قول حسبنا الله. والسبحلة حكاية قول سبحان الله. والجعفلة حكاية قول جعلت فداك. وقوله (فنزلت عن متن الركوبة) يعي المركوبة يقال ناقة ركوب وركوبة وحلوب وحلوبة وقد قرئ فمنها ركوبتهم (والصهوة) مقعد الفارس (والشحوة) الخطوة (والجزع) قطع الوادي عرضاً. وقوله (صكة عمي) يعني به قائم الظهيرة. وقد اختلف في أصله فقيل كان عمي رجلاً مغواراً فغزا أقواماً عند قائم الظهيرة وصكهم صكة شديدة فصار مثلاً لكل من جاء ذلك الوقت. وقيل المراد به الظبي لأنه يسدر في الهواجر ويذهب بصره فيصطك وكذلك الحية واصطكاك الظبي بما يستقبله كاصطكاك الأعمى ثم صغر الأعمى تصغير الترخيم فقيل عمي كما صغروا أسود وأزهر فقالوا سويد وزهير. وقوله (وكان يوم أطول من ظل القناة) يوصف اليوم الطويل بظل القناة كما يوصف اليوم القصير بإبهام القطاة، والعرب تزعم أن ظل الرمح أطول ظل ومنه قول شبرمة بن الطفيل ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاك المراهر وقوله (أحرّ من دمع المقلات) المقلاة هي المرأة التي لا يعيش لها ولد فدمعها أبدا حار لحزنها لأنه يقال أن دمعة الحزن حارة ودمعة السرور باردة ولهذا قيل للمدعو له أقر الله عينه مأخوذ من القر وهو البرد. وقيل للمدعو عليه اسخن الله عينه مأخوذ من السخنة وهي الحرارة وقيل أن إقرار العين مأخوذ من القرار فكأنه دعا له أن يرز ق ما يقر عينه حتى لا تطيح إلى ما لغيره. وكانت الجاهلية تزعم أن المقلات إذا وظئت على قتيل شريف عاش ولدها وإلى هذا

أشار بشر بن أبي حازم في قوله تظل مقاليت النساء يطأنه يقلن ألا يلقى على المرء مبرر وقوله (علقت بي شعوب) يعني المنية ولا يدخل هذا الاسم أداة التعريف مثل دجلة وعرفة وقوله (لا غور تحتها إلى المغيربان) التغوبر النزول للقائلة كما أن التعريس النزول آخر الليل للتهويم أو الاستراحة. والمغيربان تصغير المغرب وكان قياس تصغيره المغيرب إلا أن العرب ألحقت آخره ألفاً ونوناً على طريق الشذوذ وقوله (مضطغناً أهبة تجوابه) الاضطغان أن يحمل الشيء تحت حضنه والاضطبان أن يحمله تحت ضبنه والضبن ما بين الإبط والكشح وكلاهما متقارب ويقال أول مراتب الحمل الإبط ثم الضبن وهو أسفل الإبط ثم الحضن وهو عند الجنب. والتجواب مصدر جاب. وجمع المصادر التي جاءت على تفعال هي بفتح التاء إلا قولهم تبيان وتلقاه لا غير وزاد بعضهم تيصال. وقوله (عجري وبحري) يريد به جميع أمري الظاهر والباطن. وأصل العجر العقل البانئة في العصب والبحر العقد الناشئة في البطن. وقوله (ولم يقل أيها) أي لم ي أمرني بالكف. يقال للمستزاد ايهٍ وللمستكف أيها. وقوله (لامر ما جدع قصير أنفه) قصير هذا هو مولى جذيمة الإبرش وكان جدع أنفه بيده حين قتلت الزباء مولاه ثم أتاها وأوهمها أن عمر بن عدي ابن أخت جذيمة هو الذي جدع أنفه اتهاماً له بأنه غش خاله جذيمة إذ أشار عليه بقصدها. فمظي بهذا القول عندها حتى جهزته مراراً إلى العراق فكان يأتيها بالطرف منه إلى أن استصحب في آخر نوبة الرجال في الصناديق وتوصل إلى قتلها والأخذ بثأر مولاه منها. وقصته مشهورة. وقوله (ولو كان ابن بوحك) يعني ولد الصلب إشارة إلى أنه في باحة الدار وهي عرصتها وجمعها بوح. وقيل أن البوح من أسماء الذكر. وقوله (في شهري ناجر) هما شهرا الحر. وقيل أنهما حزيران وتموز. وأنكر أبو بكر بن دربد هذا القول وقال هما طلوع نجمين. وقوله (بت بليلة نابغية) أومأ به إلى قول النابغة فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع. وقوله (فألمعت إليه بثوبي) يعني إليه يقال منه المع ولمع بمعنى. وقوله (يلدغ ويصي) هذا مثل يضرب لمن يظلم ويشكو يقال صأت العقرب تصي صئياً وصئياً بفتح الصاد وكسرها إذا صوتت وكذلك الفرخ. وما أحسن قول ابن الرومي في هذا المعنى تشكي المحب وتشكو وهي ظالمة ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان وقوله (ينزو ويلين) هذا المثل يضرب لمن يتعزز ثم بذل ويقال أن أصله أن الجدي ينزو وهو صغير فإذا كبر لان. وقوله (لابساً جلد النمر) هذا مثل يضرب للمنقح الجريء لأن النمر

المقامة السمرقندية

أجرأ سبع وأقله احتمالاً للضيم ومن هذا اشتقاق قولهم تنمر أي صار مثل النمر. وقوله (فالحق بالقارظين) الأصل في القارظ أنه الذي يجني القرظ وهو النبات المدبوغ به. والقارظان المشار إليها أحدهما من عنزة والآخر من النمرين قاسط وكانا خرجا يجنيان القرظ فلم يرجعا ولا عرف لهما خبر فضرب بهما المثل لكل غائب لا يرجي إيابه وإليهما أشار أبو ذؤيب في قوله وحتى يؤوب القارظان كلاهما وينشر في القتلى كليب لوائل. وقوله (حروري بسمومي) الحرور الريح الحارة ليلاً والسموم الريح الحارة نهاراً وقد يقال إحداهما مقام الأخرى مجازاً. وقال الحرور يكون ليلاً ونهاراً والسموم يختص بالنهار. وقوله (ليث العريسة) يعني مأوى السبع ويقال فيه عريس وعريسة بإثبات الهاء وحذفها كما يقال شاب وغابة وعرين وعرينة. فأما الغيل والخيس فلم يلحقوا بهما الهاء. وقوله (أفلت وله خصاص) هذا المثل يضرب لمن نجا من هلكة أشفى عليها بعد ما كاد يهوي فيها والحصاص العدو وقيل أنه الضراط. وقوله (ويل أهون من ويلين) هذا مثل يضرب تسلية لمن نابه بعض المكروه ومثله قول الراجز أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض وقوله (أنا نئق وأنت مئق فكيف نتفق) هذا المثل يضرب للمتنافيين في الخلق فإن التئق هو الممتلئ غيظاً مأخوذ من قولهم أتأقت الإناء إذا ملأته. والمئق هو الباكي فكأن النئق ينزع إلى الشر لغيظه والمئق يضيق ذرعاً باحتماله ومثله قول بعضهم أنا كلف وأنت صلف. فكيف نأتلف. وقوله (لطيتي) يعني لقصدي ووجهتي ووقد يقال فيها طية بالتخفيف. وقوله (بعد اللتيا والتي) اللتيا تصغير التي وهو على غير قياس التصغير المطرد لأن القياس أن يضم أول الاسم إذا صغر وقد أقر هذا الاسم على الفتحة الأصلية عند تصغيرها إلا أن العرب عوضته عن ضم أوله بأن زادت ألفاً في آخره وأجرت أسماء الإشارة عند تصغيرها على حكمه فقالت في تصغير الذي والتي اللذيا واللتيا. وفي تصغير ذا وذاك ذياً وذياك. وقد اختلف في معنى قولهم نبعد اللتيا واللتي فقيل هما من أسماء الداهية وقيل المراد بهما بعد صغير المكروه وكبيره. المقامة السّمَرْقَنديّة أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: استَبْضَعْتُ في بعضِ أسْفاريَ

القَنْدَ. وقصدْتُ سمَرْقَنْدَ. وكنتُ يومَئِذٍ قَويمَ الشّطاطِ. جَمومَ النّشاطِ. أرْمي عنْ قوْسِ المِراحِ. الى غرَضِ الأفْراحِ. وأسْتَعينُ بماء الشّبابِ. على ملامِحِ السّرابِ. فوافَيْتُها بُكْرَةَ عَروبَةَ. بعْدَ أن كابَدتُ الصّعوبَةَ. فسَعَيْتُ وما ونَيْتُ. الى أنْ حصَلَ البيْتُ. فلمّا نقَلْتُ إليْهِ قَنْدي. وملكْتُ قوْلَ عِندي. عُجْتُ الى الحَمّامِ على الأثرِ. فأمَطْتُ عني وعْثاءَ السّفرِ. وأخذْتُ في غُسْلِ الجُمْعَةِ بالأثَرِ. ثمّ بادَرْتُ في هَيْئَةِ الخاشعِ. الى مسجِدِها الجامِعِ. لألْحَقَ بمَنْ يَقْرُبُ منَ الإمامِ. ويقرِّبُ أفضَلَ الأنْعامِ. فحَظيتُ بأنْ

جلّيْتُ في الحَلْبَةِ. وتخيّرْتُ المركَزَ لاستِماعِ الخُطبةِ. ولم يزَلِ النّاسُ يدخُلونَ في دينِ اللهِ أفْواجاً. ويرِدونَ فُرادَى وأزْواجاً. حتى إذا اكْتَظّ الجامِعُ بحفْلِهِ. وأظَلّ تَساوي الشّخْصِ وظِلّهِ. برزَ الخَطيبُ في أُهْبَتِهِ. مُتهادِياً خلْفَ عُصبَتِهِ. فارْتَقى في مِنبَرِ الدّعوةِ. الى أن مثَلَ بالذّروَةِ. فسلّمَ مُشيراً باليَمينِ. ثم جلَسَ حتى خُتِمَ نظْمُ التأذينِ. ثمّ قامَ وقال: الحمدُ للهِ الممْدوحِ الأسْماء. المحْمودِ الآلاء. الواسعِ العَطاء. المدْعُوّ لحَسْمِ اللأواء. مالِكِ الأمَمِ. ومصوِّرِ الرّمَمِ. وأهْلِ السّماحِ والكرَمِ. ومُهلِكِ عادٍ وإرَمَ. أدْرَكَ كلَّ سِرٍ عِلمهُ. ووَسِعَ كلَّ مُصِرٍ حِلمُهُ. وعَمّ كلَّ عالَمٍ طَوْلُهُ. وهدّ كلَّ ماردٍ حولُهُ. أحمَدُهُ حمْدَ موَحِّدٍ مُسلِمٍ. وأدعوهُ دُعاءَ مؤمِّلٍ مسَلِّمٍ. وهوَ اللهُ لا إلهَ إلا هوَ الواحِدُ الأحَدُ. العادِلُ الصّمَدُ.

لا ولَدَ له ولا والِد. ولا رِدْءَ معَه ولا مُساعِد. أرسَلَ محمّداً للإسْلامِ ممَهِّداً. وللمِلّةِ موطِّداً. ولأدِلّةِ الرّسُلِ مؤكِّداً. وللأسْوَدِ والأحْمَرِ مُسَدِّداً. وصَلَ الأرْحامَ. وعلّمَ الأحْكامَ. ووسَمَ الحَلالَ والحَرامَ. ورسَمَ الإحْلالَ والإحْرامَ. كرّمَ اللهُ محَلَّهُ. وكمّلَ الصّلاةَ والسّلامَ لهُ. ورحِمَ آلَهُ الكُرَماء. وأهلَهُ الرُحَماء. ما همَرَ رُكامٌ. وهدَرَ حَمامٌ. وسرَحَ سَوامٌ. وسَطا حُسامٌ. اعْمَلوا رَحِمَكُمُ اللهُ عمَلَ الصُلَحاء. واكْدَحوا لمَعادِكُمْ كدْحَ الأصِحّاء. وارْدَعوا أهْواءكُمْ ردْعَ الأعْداء. وأعِدّوا للرّحلَةِ إعدادَ السُعَداء. وادّرِعوا حُلَلَ الورَعِ. وداوُوا عِلَلَ الطّمَعِ. وسوّوا أوَدَ العمَلِ. وعاصُوا وساوِسَ الأمَلِ. وصوّروا لأوْهامِكُمْ حُؤولَ

الأحْوالِ. وحُلولَ الأهْوال. ومُسوَرَةَ الأعْلالِ. ومُصارَمَةَ المالِ والآلِ. وادّكِروا الحِمامَ وسَكْرَةَ مصْرَعِهِ. والرّمْسَ وهوْلَ مُطّلَعِهِ. واللّحْدَ ووحْدَةَ مودَعِهِ. والمَلَكَ وروْعَةَ سؤالِهِ ومَطْلَعِهِ. والمَحوا الدّهْرَ ولؤمَ كَرّهِ. وسوءَ مِحالِهِ ومَكْرِهِ. كمْ طمَسَ مَعلَماً. وأمرّ مطْعَماً. وطحْطَحَ عرَمْرَماً. ودمّرَ ملِكاً مُكَرَّماً. همُّهُ سكُّ المسامِعِ. وسحُّ المَدامِعِ. وإكْداءُ المطامعِ. وإرْداءُ المُسمِعِ والسّامِعِ. عمّ حُكمُهُ المُلوكَ والرَّعاعَ. والمَسودَ والمُطاعَ. والمحْسودَ والحُسّادَ. والأساوِدَ

والآسادَ. ما موّلَ إلا مالَ. وعكَسَ الآملَ. وما وصَلَ إلا وصالَ. وكلَمَ الأوْصالَ. ولا سَرّ إلا وساء. ولَؤمَ وأساء. ولا أصَحّ إلا ولّدَ الدّاءَ. ورَوّعَ الأوِدّاء. اللهَ اللهَ. رَعاكُمُ اللهُ! إلامَ مُداومَةُ اللهْوِ. ومُواصَلَةُ السّهْوِ؟ وطولُ الإصْرارِ. وحمْلُ الآصارِ؟ واطّراحُ كَلامِ الحُكَماء. ومُعاصاةُ إلهِ السّماء؟ أمَا الهَرَمُ حصادُكُمْ. والمَدَرُ مِهادُكُمْ! أمَا الحِمامُ مُدرِكُكُمْ. والصّراطُ مَسلَكُكُمْ! أمَا الساعَةُ موعِدُكُكمْ. والساهِرةُ مورِدُكُمْ! أمَا أهْوالُ الطّامّةِ لكُمْ مُرصَدَةٌ. أمَا دارُ العُصاةِ الحُطَمَةُ المؤصَدَةُ! حارِسُهُمْ مالِكٌ. ورواؤهُمْ حالِكٌ.

وطَعامُهُمْ السّمومُ. وهواؤهُمُ السَّمومُ. لا مالَ أسعدَهُمْ ولا ولَدَ. ولا عدَدَ حَماهُمْ ولا عُدَدَ. ألا رَحِمَ اللهُ امْرَأً ملكَ هَواهُ. وأمَّ مسالِكَ هُداهُ. وأحْكَمَ طاعَةَ موْلاهُ. وكدَحَ لرَوحِ مَأواهُ. وعمِلَ ما دامَ العُمرُ مُطاوِعاً. والدهْرُ مُوادِعاً. والصّحةُ كامِلَةً. والسّلامَةُ حاصِلَةً. وإلا دهَمَهُ عدَمُ المَرامِ. وحصَرُ الكَلامِ. وإلمامُ الآلامِ. وحُمومُ الحِمامِ. وهُدُوُّ الحَواسّ. ومِراسُ الأرْماسِ. آهاً لها حسْرَةً ألَمُها مؤكّدٌ. وأمَدُها سَرْمَدٌ. ومُمارِسُها مُكمَدٌ! ما لوَلَهِهِ حاسِمٌ. ولا لسَدمِهِ راحِمٌ. ولا لهُ ممّا عَراهُ عاصمٌ! ألْهَمَكُمُ اللهُ أحمَدَ الإلْهامِ. وردّاكُمْ رِداءَ الإكْرامِ. وأحلّكُمْ دارَ السّلامِ! وأسألُهُ الرحْمَةَ لكُمْ ولأهلِ مِلّةِ الإسلامِ. وهوَ أسمَحُ الكِرامِ. والمُسَلِّمُ والسّلامُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُ الخُطبَةَ نُخبةً بلا سَقَطٍ. وعَروساً بغيرِ نُقَطٍ. دَعاني الإعجابُ بنمَطِها العَجيبِ. الى استِجْلاء وجْهِ الخَطيبِ. فأخَذْتُ أتوَسّمهُ جِدّاً. وأقلّبُ الطّرْفَ فيهِ مُجِدّاً. الى أنْ وضحَ لي بصِدْقِ العلاماتِ. أنه شيخُنا صاحِبُ المَقاماتِ. ولم يكُنْ بُدٌّ منَ الصّمتِ. في ذلِك الوقْتِ. فأمسَكْتُ حتى تحلّلَ منْ الفَرْضِ. وحلّ الانتِشارُ في الأرضِ. ثمّ واجهْتُ تِلقاءهُ. وابتَدَرْتُ لِقاءَهُ. فلما لحظَني خفّ في القِيامِ. وأحْفى في الإكْرامِ. ثمّ استَصْحَبَني الى دارِه. وأوْدَعَني خصائِصَ أسْرارِه. وحينَ انتشَر جَناحُ الظّلامِ. وحانَ ميقاتُ المَنامِ. أحضرَ أباريقَ المُدامِ. معكومَةً بالفِدامِ. فقلتُ: أتَحْسوها أمامَ النّومِ. وأنتَ إمامُ القوْمِ؟ فقال: مَهْ أنا بالنّهارِ خطيبٌ. وباللّيْلِ أطِيبُ! فقلتُ: واللهِ ما أدْري أأعْجَبُ من تسَلّيكَ عنْ أُناسِكَ. ومسقَطِ راسِكَ. أم منْ خِطابَتِكَ مع أدناسِكَ. ومَدارِ كاسِكَ؟ فأشاحَ بوجهِهِ عني. ثم قال اسمَعْ مني: رُ مُطاوِعاً. والدهْرُ مُوادِعاً. والصّحةُ كامِلَةً. والسّلامَةُ حاصِلَةً. وإلا دهَمَهُ عدَمُ المَرامِ. وحصَرُ الكَلامِ. وإلمامُ الآلامِ. وحُمومُ الحِمامِ. وهُدُوُّ الحَواسّ. ومِراسُ الأرْماسِ. آهاً لها حسْرَةً ألَمُها مؤكّدٌ. وأمَدُها سَرْمَدٌ. ومُمارِسُها مُكمَدٌ! ما لوَلَهِهِ حاسِمٌ. ولا لسَدمِهِ راحِمٌ. ولا لهُ ممّا عَراهُ عاصمٌ! ألْهَمَكُمُ اللهُ أحمَدَ الإلْهامِ. وردّاكُمْ رِداءَ الإكْرامِ. وأحلّكُمْ دارَ السّلامِ! وأسألُهُ

الرحْمَةَ لكُمْ ولأهلِ مِلّةِ الإسلامِ. وهوَ أسمَحُ الكِرامِ. والمُسَلِّمُ والسّلامُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُ الخُطبَةَ نُخبةً بلا سَقَطٍ. وعَروساً بغيرِ نُقَطٍ. دَعاني الإعجابُ بنمَطِها العَجيبِ. الى استِجْلاء وجْهِ الخَطيبِ. فأخَذْتُ أتوَسّمهُ جِدّاً. وأقلّبُ الطّرْفَ فيهِ مُجِدّاً. الى أنْ وضحَ لي بصِدْقِ العلاماتِ. أنه شيخُنا صاحِبُ المَقاماتِ. ولم يكُنْ بُدٌّ منَ الصّمتِ. في ذلِك الوقْتِ. فأمسَكْتُ حتى تحلّلَ منْ الفَرْضِ. وحلّ الانتِشارُ في الأرضِ. ثمّ واجهْتُ تِلقاءهُ. وابتَدَرْتُ لِقاءَهُ. فلما لحظَني خفّ في القِيامِ. وأحْفى في الإكْرامِ. ثمّ استَصْحَبَني الى دارِه. وأوْدَعَني خصائِصَ أسْرارِه. وحينَ انتشَر جَناحُ الظّلامِ. وحانَ ميقاتُ المَنامِ. أحضرَ أباريقَ المُدامِ. معكومَةً بالفِدامِ.

فقلتُ: أتَحْسوها أمامَ النّومِ. وأنتَ إمامُ القوْمِ؟ فقال: مَهْ أنا بالنّهارِ خطيبٌ. وباللّيْلِ أطِيبُ! فقلتُ: واللهِ ما أدْري أأعْجَبُ من تسَلّيكَ عنْ أُناسِكَ. ومسقَطِ راسِكَ. أم منْ خِطابَتِكَ مع أدناسِكَ. ومَدارِ كاسِكَ؟ فأشاحَ بوجهِهِ عني. ثم قال اسمَعْ مني: لا تبْكِ إلْفاً نأى ولا دارا ... ودُرْ مع الدّهرِ كيفَما دارا واتّخِذِ الناسَ كُلّهُمْ سكَناً ... ومثّلِ الأرضَ كلّها دارا واصْبِرْ على خُلْقِ مَنْ تُعاشِرُهُ ... ودارِهِ فاللّبيبُ منْ دارى ولا تُضِعْ فُرصَةَ السّرورِ فما ... تدْري أيَوْماً تعيشُ أمْ دارا واعْلَمْ بأنّ المَنونَ جائِلَةٌ ... وقدْ أدارَتْ على الوَرى دارا

وأقسَمَتْ لا تَزالُ قانِصَةً ... ما كرّ عَصرا المَحْيا وما دارا فكيفَ تُرْجى النّجاةُ من شرَكٍ ... لم ينْجُ منهُ كِسْرى ولا دارا قال: فلمّا اعْتَوَرتْنا الكُؤوسف. وطرِبَتِ النّفوسُ. جرّعَني اليَمينَ الغَموسَ. على أنْ أحفظَ عليْهِ الناموسَ. فاتّبعْتُ مَرامَهُ. ورعيْتُ ذِمامَهُ. ونزّلْتُهُ بينَ الملإ منزِلَةَ الفُضَيْلِ. وسدَلْتُ الذّيْلَ. على مَخازي اللّيْلِ. ولمْ يزَلْ ذلِكَ دأبَهُ ودَابي. الى أنْ تهيّأ إيابي. فودّعْتُهُ وهوَ مصرٌّ على التّدْليسِ. ومُسِرٌّ حسْوَ الخَنْدَريسِ.

المقامة الواسطية

المقامة الواسطية حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: ألْجأني حُكمُ دهْرٍ قاسِطٍ. الى أنْ أنتَجِعَ أرضَ واسِطٍ. فقصَدْتُها وأنا لا أعرِفُ بها سكَناً. ولا أملِكُ فيها مسْكِناً. ولمّا حللْتُها حُلولَ الحوتِ بالبَيْداءِ. والشّعرَةِ البيضاء في اللِّمَةِ السّوداء. قادَني الحظُّ الناقِصُ. والجَدُّ النّاكِصُ. الى خانٍ ينزِلُهُ شُذّاذُ الآفاقِ. وأخْلاطُ الرّفاقِ. وهوَ لنَظافَةِ مكانِهِ. وظَرافَةِ سكّانِهِ. يرَغّبُ الغَريبَ في إيطانِهِ. ويُنسِيهِ هوَى أوطانِهِ. فاستَفْرَدْتُ منهُ بحُجرَةٍ. ولمْ أُنافِسْ في أُجرَةٍ. فما كان إلا كلَمْحِ طرْفٍ. أو خطّ حرْفٍ. حتى سمِعتُ جاري بيْتَ بيْتَ. يقولُ لنَزيلِهِ في البيتِ: قُمْ يا بُنيّ

لا قَعَدَ جَدُّكَ. ولا قامَ ضِدُّكَ. واستَصْحِبْ ذا الوجْهِ البَدْريّ. واللّوْنِ الدُرّيّ. والأصْلِ النّقيّ. والجسْمِ الشّقيّ. الذي قُبِضَ ونُشِرَ. وسُجِنَ وشُهِرَ. وسُقِيَ وفُطِمَ. وأُدْخِلَ النّارَ بعْدَما لُطِمَ. ثمّ ارْكُضْ بهِ الى السّوقِ. ركْضَ المَشوقِ. فقايِضْ بهِ اللاّقِحَ المُلْقِحَ. المُفسِدَ المُصلِحَ. المُكْمِدَ المُفَرِّحَ. المُعَنّيَ المُروّحَ. ذا الزّفيرِ المُحرِقِ. والجَنينِ المُشرِقِ. واللّفْظِ المُقنِعِ. والنَّيْلِ المُمْتِعِ. الذي إذا طُرِقَ. رعَدَ وبرَقَ. وباحَ بالحُرَقِ. ونفَثَ في الخِرَقِ. قال:

فلمّا قرّتْ شِقْشِقَةُ الهادِرِ. ولمْ يبْقَ إلا صدَرُ الصّادِرِ. برزَ فتًى يَميسُ. وما معَهُ أنيسٌ. فرأيتُها عُضْلَةً تلعَبُ بالعُقولِ. وتُغْري بالدّخولِ. في الفُضولِ. فانطلَقْتُ في أثَرِ الغُلامِ. لأخْبُرَ فحْوَى الكلامِ. فلمْ يزَلْ يسْعى سعْيَ العَفاريتِ. ويتفَقّدُ نضائِدَ الحوانيتِ. حتى انْتَهى عندَ الرّواحِ. الى حِجارَةِ القَدّاحِ. فناوَلَ بائِعَها رَغيفاً. وتَناوَلَ منهُ حجَراً لَطيفاً. فعَجِبْتُ منْ فَطانَةِ المُرسِلِ والمُرسَلِ. وعلِمْتُ أنّها سَروجيّةٌ وإنْ لم أسْألْ. وما كذّبْتُ أنْ بادَرْتُ الى الخانِ. منطَلِقَ العِنانِ. لأنظُرَ كُنْهَ فَهْمي. وهلْ قرْطَسَ في التّكهّنِ سَهْمي. فإذا أنا في الفِراسَةِ فارِسٌ. وأبو زيْدٍ بوَصيدِ الخانِ جالِسٌ. فتَهادَيْنا بُشْرى الالتِقاء. وتقارَضْنا تحيّةَ الأصْدِقاء. ثمّ قال: ما الذي نابَكَ. حتى زايَلْتَ جَنابَكَ؟ فقلت: دهْرٌ

هاض. وجَوْرٌ فاضَ! فقال: والذي أنزَلَ المطرَ منَ الغَمامِ. وأخرَجَ الثّمرَ من الأكْمامِ. لقدْ فسَدَ الزّمانُ. وعمّ العُدْوانُ. وعُدِمَ المِعْوانُ. واللهُ المُستَعانُ. فكيفَ أفْلَتَّ. وعلى أيّ وصْفَيْكَ أجْفَلْتَ؟ فقلتُ: اتّخَذْتُ الليْلَ قَميصاً. وأدْلَجْتُ فيهِ خَميصاً. فأطْرَقَ ينْكُتُ في الأرضِ. ويفكّرُ في ارتِيادِ القَرْضِ والفَرْضِ. ثمّ اهزّ هِزّةَ مَنْ أكْثَبَهُ قنَصٌ. أو بدَتْ لهُ فُرَصٌ. وقال: قد علِقَ بقَلْبي أن تُصاهِرَ منْ يأسو جِراحَكَ. ويَريشُ جَناحَكَ. فقلتُ: وكيفَ أجمَعُ بيَ غُلٍّ وقُلٍّ. ومنِ الذي يرْغَبُ في ضُلّ بنِ ضُلٍّ؟ فقالَ: أنا المُشيرُ بكَ وإلَيْكَ. والوكيلُ لكَ

وعليْكَ. معَ أنّ دينَ القوْمِ جبْرُ الكَسيرِ. وفكُّ الأسيرِ. واحتِرامُ العَشيرِ. واستِنْصاحُ المُشيرِ. إلا أنهُمْ لوْ خطَبَ إلَيْهِمْ إبْراهيمُ بنُ أدهَمَ. أو جبَلَةُ بنُ الأيْهَمِ. لما زوّجوهُ إلا على خَمْسِمائَةِ دِرْهَمٍ. اقتِداءً بما مهَرَ الرّسولُ. صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ. زوْجاتِهِ. وعقَدَ بهِ أنكِحَةَ بَناتِهِ. على أنّك لنْ تُطالَبَ بصَداقٍ. ولا تُلْجأ الى طَلاقٍ. ثمّ إني سأخْطُبُ في موقِفِ عقْدِكَ. ومجْمَعِ حشْدِكَ. خُطبَةً لمْ تفتُقْ رَتْقَ سمْعٍ. ولا خُطِبَ بمِثلِها في جمْعٍ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فازْدَهاني بوصْفِ الخُطْبَةِ المَتْلُوَّةِ. دونَ الخِطبَةِ المَجْلُوّةِ.

حتى قُلتُ لهُ: قد وَكلْتُ إليْكَ هذا الخطْبَ. فدبّرْهُ تدْبيرَ منْ طَبّ لمَنْ حبّ. فنهضَ مُهَرْوِلاً. ثمّ عادَ متَهلّلاً. وقال: أبْشِرْ بإعْتابِ الدّهْرِ. واحْتِلابِ الدّرّ! فقد وُلّيتُ العَقْدَ. وأُكفِلْتُ النّقْدَ. وكأنْ قدْ. ثمّ أخذَ في مُواعدَةِ أهلِ الخانِ. وإعْدادِ حَلْواء الخِوانِ. فلمّا مدّ اللّيلُ أطْنابَهُ. وأغْلَقَ كُلُّ ذي بابٍ بابَهُ. أذّنَ في الجَماعَةِ: ألا احْضُروا في هذهِ السّاعةِ! فلمْ يبْقَ فيهِمْ إلا منْ لَبّى صوتَهُ. وحَضرَ بيْتَهُ. فلمّا اصْطَفّوا لدَيْهِ. واجتمَعَ الشاهِدُ والمشْهودُ علَيْهِ. جعلَ يرْفَعُ الأصْطُرْلابَ ويضَعُهُ. ويلْحَظُ التّقويمَ ويدَعهُ. الى أن نعَسَ القوْمُ. وغشِيَ النّومُ. فقلْتُ لهُ: يا هَذا ضعِ

الفاسَ في الرّاسِ. وخلّصِ النّاسَ منَ النّعاسِ. فنظَرَ نظْرَةً في النّجومِ. ثمّ انْتشَطَ منْ عُقلَةِ الوجومِ. وأقْسمَ بالطُّورِ. والكِتابِ المسْطورِ. ليَنْكَشِفَنّ سِرّ هَذا الأمْرِ المسْتورِ. ولَيَنْتَشِرَنّ ذِكْرُهُ الى يوْمِ النُّشورِ. ثمّ إنّهُ جَثا على رُكْبَتِهِ. واستَرْعى الأسْماعَ لخُطْبَتِهِ. وقال: الحمدُ للهِ الملِكِ المحْمودِ. المالِكِ الوَدودِ. مُصَوّرِ كُلّ موْلودٍ. ومآلِ كلّ مطْرودٍ. ساطِحِ المِهدِ. وموَطِّدِ الأطْوادِ. ومُرْسِلِ الأمطارِ. ومسَهِّلِ الأوْطارِ. وعالِمِ الأسْرارِ ومُدْرِكِها. ومُدمِّرِ الأمْلاكِ ومُهْلِكِها. ومُكَوِّرِ الدّهورِ ومُكرِّرِها. ومُوردِ الأمورِ ومُصدِرِها. عمّ سَماحُهُ وكَملَ. وهطَلَ رُكامُهُ وهمَلَ. وطاوَعَ السّؤلَ والأمَلَ. وأوْسَعَ

المُرْمِلَ والأرْمَلَ. أحْمَدُهُ حمْداً ممْدوداً مَداهُ. وأُوَحّدُهُ كما وحّدَهُ الأوّاهُ. وهوَ اللاهُ لا إلَهَ للأمَمِ سِواهُ. ولا صادِعَ لِما عدّلَهُ وسَوّاهُ. أرْسَلَ محمّداً علَماً للإسْلامِ. وإماماً للحُكّامِ. ومُسدِّداً للرَّعاعِ. ومعَطِّلاً أحْكامَ وُدٍّ وسُواعٍ. أعْلَمَ وعلّمَ. وحكَمَ وأحْكَمَ. وأصّلَ الأصولَ ومهّدَ. وأكّدَ الوعودَ وأوْعَدَ. واصَلَ اللهُ لهُ الإكْرامَ. وأوْدَعَ روحَهُ دارَ السّلامِ. ورَحِمَ آلَهُ وأهْلَهُ الكِرامَ. ما لمَعَ آلٌ. وملَعَ رالٌ. وطلَعَ هِلالٌ. وسُمِعَ إهلالٌ.

إعْمَلوا رعاكُمُ اللهُ أصلَحَ الأعْمالِ. واسْلُكوا مسالِكَ الحلالِ. واطّرِحوا الحَرامَ ودعوهُ. واسْمَعوا أمرَ اللهِ وعُوهُ. وصِلوا الأرْحامَ وراعوها. وعاصوا الأهْواءَ وارْدَعوها. وصاهِروا لُحَمَ الصّلاحِ والوَرَعِ. وصارِموا رهْطَ اللهْوِ والطّمَعِ. ومُصاهِرُكُمْ أطْهَرُ الأحْرارِ مولِداً. وأسْراهُمْ سودَداً. وأحْلاهُمْ مَوْرِداً. وأصحّهم موْعِداً. وها هُوَ أَمّكُمْ. وحلّ حرَمكُمْ. مُمْلِكاً عَروسَكُمُ المُكرّمةَ. وماهِراً لها كما مهَرَ الرّسولُ أمَّ سلمَةَ. وهوَ أكْرَمُ صِهْرٍ أودِعَ الأوْلادَ. ومُلّكَ مَنْ أرادَ. وما سَها مُمْلِكُهُ ولا وَهِمَ. ولا وَكِسَ مُلاصِمُهُ ولا وُصِمَ. أسْألُ اللهَ لكُمْ إحْمادَ وِصالِهِ

ودَوامَ إسْعادِهِ. وألْهَمَ كُلاً إصْلاحَ حالِهِ والإعْدادَ لمَعادِهِ. ولهُ الحمْدُ السّرمَدُ. والمدْحُ لرَسولِهِ محمّدٍ. فلمّا فرَغَ منْ خُطبَتِه البَديعةِ النّظامِ. العَريّةِ منَ الإعْجامِ. عقَدَ العقْدَ على الخمْسِ المِئِينَ. وقال لي: بالرِّفاء والبَنينَ. ثمّ أحضرَ الحَلْواءَ التي كانَ أعدّها. وأبْدى الآبِدَةَ عندَها. فأقبلْتُ إقْبالَ الجماعَةِ علَيْها. وكِدْتُ أهوي بيَدي إلَيْها. فزجَرَني عنِ المؤاكَلَةِ. وأنْهَضَني للمُناوَلَةِ. فوَاللهِ ما كان بأسرَعَ منْ تصافُحِ الأجْفانِ. حتى خرّ القوْمُ للأذْقان. فلمّا رأيتُهُمْ كأعْجازِ نخْلٍ خاوِيَةٍ. أو كصَرْعى بنتِ خابيَةٍ. علِمْتُ أنّها لإحْدى الكُبَرِ. وأمُّ العِبَرِ. فقلتُ له: يا عُدَيّ

نفْسِهِ. وعُبَيْدَ فَلْسِهِ! أعددتَ للقَوْمِ حُلْوى. أم بَلْوى؟ فقال: لمْ أعْدُ خَبيصَ البَنْجِ. في صِحافِ الخلَنْج! فقلتُ: أُقسِمُ بمَنْ أطْلَعَه زُهْراً. وهَدَى بها السّارينَ طُرّاً. لقدْ جِئْتَ شيئاً نُكْراً. وأبقَيْتَ لكَ في المُخزِياتِ ذِكْراً. ثمّ حِرْتُ فِكرةً في صَيّورِ أمِهِ. وخيفَةً منْ عدْوى عرّهِ. حتى طارَتْ نفسي شَعاعاً. وأُرعِدَتْ فَرائِصي ارْتِياعاً. فلمّا رأى استِطارَةَ فرَقي. واسْتِشاطَةَ قلَقي. قال: ما هَذا الفِكْرُ المُرْمِضُ. والرّوْعُ المومِضُ؟ فإنْ يكُنْ فِكرُك في أجْلي. منْ أجْلي. فأنا الآنَ أرتَعُ وأطْفِرُ.

وأقوِي هذِهِ البُقْعَةَ مني وأُقفِرُ. وكمْ مثلِها فارَقْتُها وهيَ تصفِرُ. وإنْ يكُنْ نظَراً لنفْسِكَ. وحذَراً منْ حبسِكَ. فتناوَلْ فُضالَةَ الخَبيصِ. وطِبْ نفْسً عنِ القَميصِ. حتى تأمَنَ المُستَعديَ والمُعْديَ. ويتمهّدَ لكَ المُقامُ بعْدي. وإلا فالمفَرَّ المفَرَّ. قبْلَ أن تُسْحَبَ وتُجَرَّ. ثمّ عمَدَ لاستِخْراجِ ما في البيوتِ. منَ الأكْياسِ والتّخوتِ. وجعلَ يستَخْلِصُ خالِصَةَ كلّ مخزونٍ. ونُخبَةَ كلّ مَذْروعٍ وموزونٍ. حتى غادرَ ما ألْغاهُ فخُّهُ. كعظْمٍ استُخرِجَ مُخُّهُ. فلمّا همّنَ ما اصْطَفاهُ ورزَمَ. وشمّرَ عنْ ذِراعَيْهِ وتحزّمَ. أقبَلَ عليّ إقْبالَ منْ لبِسَ الصّفاقَةَ. وخلَعَ الصّداقَةَ. وقال: هلْ لكَ في المُصاحبَةِ الى البَطيحَةِ. لأزوّجَكَ بأخْرى مَليحَةٍ؟ فأقْسَمْتُ لهُ بالذي جعلَهُ مُبارَكاً أيْنَما كان. ولمْ يجْعَلْهُ ممّنْ خانَ في خانٍ. إنهُ لا قِبَلَ لي بنِكاحِ حُرّتَينِ. ومُعاشَرَةِ ضَرّتَينِ. ثمّ قلتُ لهُ قوْلَ المتطبّعِ بطِباعِهِ. الكائِلِ لهُ بصاعِهِ: قدْ كفَتْني الأولى فخْراً. فاطْلُبْ آخرَ للأخْرى. فتبسّمَ منْ كلامي. ودلَفَ لالْتِزامي. فلوَيْتُ عنهُ عِذاري. وأبدَيْتُ لهُ ازْوِراري. فلمّا بصُرَ بانقِباضي. وتجلّى لهُ إعْراضي. أنشدَ: حَبَ وتُجَرَّ. ثمّ عمَدَ لاستِخْراجِ ما في البيوتِ. منَ الأكْياسِ والتّخوتِ. وجعلَ يستَخْلِصُ خالِصَةَ كلّ مخزونٍ. ونُخبَةَ كلّ مَذْروعٍ وموزونٍ. حتى غادرَ ما ألْغاهُ فخُّهُ. كعظْمٍ استُخرِجَ مُخُّهُ. فلمّا همّنَ ما اصْطَفاهُ ورزَمَ. وشمّرَ عنْ ذِراعَيْهِ وتحزّمَ. أقبَلَ عليّ إقْبالَ منْ لبِسَ الصّفاقَةَ. وخلَعَ الصّداقَةَ. وقال: هلْ لكَ في المُصاحبَةِ الى البَطيحَةِ. لأزوّجَكَ بأخْرى مَليحَةٍ؟ فأقْسَمْتُ لهُ

بالذي جعلَهُ مُبارَكاً أيْنَما كان. ولمْ يجْعَلْهُ ممّنْ خانَ في خانٍ. إنهُ لا قِبَلَ لي بنِكاحِ حُرّتَينِ. ومُعاشَرَةِ ضَرّتَينِ. ثمّ قلتُ لهُ قوْلَ المتطبّعِ بطِباعِهِ. الكائِلِ لهُ بصاعِهِ: قدْ كفَتْني الأولى فخْراً. فاطْلُبْ آخرَ للأخْرى. فتبسّمَ منْ كلامي. ودلَفَ لالْتِزامي. فلوَيْتُ عنهُ عِذاري. وأبدَيْتُ لهُ ازْوِراري. فلمّا بصُرَ بانقِباضي. وتجلّى لهُ إعْراضي. أنشدَ: يا صارِفاً عنّي المو ... دّةَ والزّمانَ لهُ صُروفْ ومُعنّفي في فضْحِ منْ ... جاورْتُ تعْنيفَ العَسوفْ لا تلْحِني فيما أتيْ ... تُ فإنّني بهمِ عَروفْ ولقدْ نزلْتُ بهمْ فلمْ ... أرَهُم يُراعونَ الضّيوفْ وبلَوْتُهُمْ فوجدْتُهُمْ ... لمّا سبَكْتُهُمُ زُيوفْ ما فيهِمِ إلا مُخي ... فٌ إنْ تمكّنَ أو مَخوفْ

لا بالصّفيّ ولا الوَفيّ ... ولا الحَفيّ ولا العَطوفْ فوثبْتُ فيهمْ وثْبَة ال ... ذئبِ الضّريّ على الخَروفْ وتركتُهُمْ صرْعى كأنه ... مْ سُقوا كأسَ الحُتوفْ وتحكّمَتْ في ما اقْتَنوْ ... هُ يَدي وهُمْ رُغْمُ الأنوفْ ثمّ انْثَنَيْتُ بمَغْنَمٍ ... حُلْوِ المَجاني والقُطوفْ ولَطالَما خلّفْتُ مكْ ... لومَ الحشى خلْفي يطوفْ ووَتَرْتُ أرْبابَ الأرا ... ئِكِ والدّرانِكِ والسّجوفْ ولَكَمْ بلغْتُ بحيلَتي ... ما ليسَ يُبلَغُ بالسّيوفْ ووَقفْتُ في هوْلٍ تُرا ... عُ الأُسْدُ فيهِ منَ الوقوفْ

ولكَمْ سفكتُ وكمْ فتكْتُ ... وكمْ هتكْتُ حِمى أَنوفْ وكَمِ ارْتِكاضٍ موبِقٍ ... لي في الذّنوبِ وكم خُفوفْ لكنّني أعدَدْتُ حُسْ ... نَ الظّنّ بالمَوْلى الرّؤوفْ قال: فلمّا انتهى الى هذا البيتِ لجّ في الاستِعْبارِ. وألَظَّ بالاستِغْفارِ. حتى اسْتَمالَ هوَى قلْبي المُنحرِفِ. ورجَوْتُ لهُ ما يُرْجى للمُقْتَرِفِ المُعْتَرِفِ. ثمّ إنّهُ غيّضَ دمْعَهُ المُنْهَلّ. وتأبّطَ جِرابَهُ وانْسَلّ. وقال لابنِهِ: احتَمِلِ الباقي. واللهُ الواقي. قال المُخْبِرُ بهذِه الحِكاية: فلمّا رأيتُ انْسِيابَ الحيّةِ والحُيَيّةِ. وانتِهاءَ الدّاء الى الكَيّةِ. علِمْتُ أن ترَبُّثي بالخانِ. مَجْلَبَةٌ للهَوانِ. فضمَمْتُ رُحَيْلي. وجمَعْتُ للرّحلَةِ ذَيْلي. وبِتُّ ليْلَتي أسْري الى الطّيبِ. وأحتَسِبُ اللهَ على الخَطيبِ.

المقامة الصورية

المقامة الصّوريّة حكى الحارثُ بنُ همّام قال: ارْتَحلْتُ من مدينةِ المنصورِ. الى بلدَةِ صورٍ. فلمّا حصلْتُ به ذا رِفعَةٍ وخفْضٍ. ومالِكَ رفْعٍ وخفضٍ. تُقْتُ الى مِصْرَ توَقانَ السّقيمِ الى الأُساةِ. والكريمِ الى المؤاساةِ. فرفَضْتُ علائِقَ الاستِقامَةِ. ونفَضْتُ عوائِقَ الإقامةِ. واعْرَوْرَيْتُ ظَهْرَ ابنِ النّعامَةِ. وأجفَلْتُ نحوَها إجْفالَ النّعامَةِ. فلمّا دخلْتُه بعدَ مُعاناةِ الأينِ. ومُداناةِ الحَيْنِ. كلِفْتُ به كلَفَ لنّشْوانِ بالاصْطِباحِ. والحَيَرانِ بتنفُّسِ الصّباحِ. فبَينَما أنا يوْمً به أطوفُ. وتحْتي فرسٌ قَطوفٌ.

إذ رأيتُ على جُرْدٍ منَ الخيْلِ. عُصبَةً كمَصابيحِ الليْلِ. فسألْتُ لانتِجاعِ النّزْهَةِ. عنِ العُصبَةِ والوِجهَةِ. فقيلَ: أما القومُ فشُهودٌ. وأمّا المقْصِدُ فإمْلاكٌ مشهودٌ. فحدَتْني مَيعَةُ النّشاطِ. على أنْ سِرْتُ معَ الفُرّاطِ. لأفوز بحلاوَةِ اللُّقَاطِ. وأحوزَ حَلْواءَ السِّماطِ. فأفْضيْنا بعدَ مُكابدَةِ العَناء. الى دارٍ رفيعَةِ البِناء. وسيعَةِ الفِناء. تشهَدُ لِبانيها بالثّراء والسّناء. فلمّا نزلْنا عنْ صهَواتِ الخُيولِ. وقدّمنا الأقْدامَ للدّخولِ. رأيتُ دِهْليزَها مُجَلّلاً بأطْمارٍ مُخرّقةٍ. ومُكلّلاً بمخارِفَ معلّقَةٍ. وهناكَ شخصٌ على قَطيفَةٍ. فوقَ دَكّةٍ لَطيفَةٍ. فرابني عُنوانُ الصّحيفةِ. ومرْأى هذِه الطّريفَةِ. ودعاني

التّطيّرُ بتِلْكَ المناحِسِ. الى أن عمَدْتُ لذَلِكَ الجالِسِ. فعزَمْتُ عليْهِ بمُصَرِّفِ الأقدارِ. ليُعَرّفَني مَنْ رَبُّ هذهِ الدّارِ. فقال: ليسَ لها مالِكٌ معيَّنٌ. ولا صاحِبٌ مُبيَّنٌ. إنّما هيَ مَصطَبَةُ المُقيِّفينَ والمدَرْوِزينَ. ووَليجَةُ المُشَقشِقينَ والُجَلْوِزينَ. فقلتُ في نفسي: إنّا للهِ على ضِلّةِ المسْعى. وإمْحالِ المرْعى. وهمَمْتُ في الحالِ بالرُّجْعى. لكنّي استَهْجَنتُ العَوْدَ منْ فوْري. والقهْقَرَةَ دونَ غيري. فوَلجْتُ الدّارَ متجرِّعاً الغُصَصَ. كما يلِجُ العُصفورُ القفَصَ. فإذا فيه أرائِكُ منقوشَةٌ. وطنافس مفروشة ونمارق

مصفوفة وسجوف مرصوفة وقد أقبَلَ المُمْلِكُ يَميسُ في بُردتِهِ. ويتَبَهْنَسُ بين حفَدَتِهِ. فحين جلَسَ كأنّهُ ابنُ ماء السّماء. نادى مُنادٍ منْ قِبَلِ الأحْماء: وحُرْمَةِ ساسانَ أُستاذِ الأستاذينَ. وقدوةِ الشّحاذينَ. لا عقَدَ هذا العقْدَ المُبجَّلَ. في هذا اليوم الأغرّ المحجَّلِ. إلا الذي جالَ وجابَ. وشبّ في الكُدْيَةِ وشابَ! فأعْجَبَ رهْطَ الصِّهْرِ ما أشاروا إليْهِ. وأذِنوا في إحْضارِ المنصوصِ عليْهِ. فبرزَ حينئذٍ شيخٌ قد أمالَ الملَوانِ قامتَهُ. ونوّرَ

الفَتَيانِ ثَغامتَهُ. فتباشرَتِ الجماعةُ بإقْبالِهِ. وتبادَرَتْ الى استِقبالِهِ. فلمّا جلَس على زُرْبِيّتِهِ. وسكنتِ الضّوْضاءُ لهيبَتِهِ. ازْدَلَفَ الى مسْنَدِهِ. ومسحَ سَبلَتَهُ بيَدهِ. ثمّ قال: الحمدُ للهِ المُبتَدِئِ بالإفْضالِ. المُبتَدِعِ للنّوالِ. المقرَّبِ إليْهِ بالسّؤالِ. المؤمَّلِ لتحقيقِ الآمالِ. الذي شرعَ الزّكاةَ في الأموال. وزجَرَ عنْ نهْرِ السؤالِ وندَبَ الى مواساةِ المُضطَرّ. وأمرَ بإطْعامِ القانِعِ والمعْتَرّ. ووصَفَ عِبادَهُ المقرَّبينَ. في كِتابِهِ المُبينِ. فقال وهوَ أصدَقُ القائلينَ: والذين في أموالِهِمْ حقٌّ معلومٌ. للسائِلِ والحرومِ. أحمَدُهُ على ما رزَقَ منْ طُعمَةٍ هنيّةٍ. وأعوذُ بهِ منِ استِماعِ دعوَةٍ بلا نِيّةٍ.

وأشهدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ إلهاً يَجزي المتصدّقينَ والمُتصَدّقاتِ. ويمحَقُ الرّبا ويُرْبي الصّدَقاتِ. وأشهَدُ أنّ محمّداً عبدُهُ الرّحيمُ. ورسولُهُ الكريمُ. ابتَعَثَهُ ليَنسخَ الظُلمَةَ بالضّياء. وينتَصِفَ للفُقراء منَ الأغنياء. فرَفَقَ، صلى اللهُ عليهِ وسلّم، بالمِسْكينِ. وخفَضَ جَناحَهُ للمُستَكينِ. وفرضَ الحُقوقَ في أموالِ المُثْرينَ. وبيّنَ ما يجِبُ للمُقلّينَ على المُكثِرينَ. صلّى اللهُ عليْهِ صَلاةً تُحْظيهِ بالزُّلْفَةِ. وعلى أصفِيائِه أهلِ الصُّفّةِ. أما بعْدُ فإنّ اللهَ تعالى شرعَ النكاحَ لتَتَعفّفوا. وسنّ التّناسُلَ لكيْ

تتضاعفوا. فقال سُبحانَهُ لتَعرِفوا: يا أيّها الناسُ إنّا خلَقْناكُمْ من ذكَرٍ وأنثى وجعلْناكُمْ شُعوباً وقَبائِلَ لتَعارَفوا. وهذا أبو الدّرّاجِ. ولاّجُ بنُ خرّاجٍ. ذو الوَجْهِ الوَقاحِ. والإفْكِ الصُّراحِ. والهَريرِ والصّياحِ. والإبْرام والإلْحاحِ. يخطُبُ سَليطَةَ أهلِها. وشَريطَةَ بعلِه. قَنْبَسَ. بِنْتَ أبي العَنْبَسِ. لِما بلغَهُ منِ التِحافِها. بإلْحافِها. وإسْرافه. في إسْفافِها. وانْكِماشِها. على مَعاشِها. وانتِعاشِها. عندَ هِراشِها. وقد بذلَ لها منَ الصَّداقِ شَلاّقاً وعُكّازاً. وصِقاعاً وكزّازاً. فأنْكِحوهُ إنْكاحَ مثلِهِ. وصِلوا حبْلَكُمْ بحَبْلِهِ. وإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فسوفَ يُغْنيكُمُ اللهُ منْ فضْلِهِ. أقولُ قوْلي وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُمْ. وأسألُهُ أن يُكثِرَ في المَصاطِبِ نسْلَكُمْ. ويحْرُسَ منَ المَعاطِبِ شمْلَكُمْ. فلمّا فرَغَ الشيخُ منْ خُطبَتِهِ. وأبْرَمَ للختَنِ عقْدَ خِطبَتِهِ. تساقَطَ منَ النِّثارِ. ما استَغْرَقَ حدَّ الإكْثارِ. وأغْرى الشّحيحَ بالإيثارِ. ثمّ نهَضَ الشيخُ يسحَبُ ذَلاذِلَهُ. ويَقْدُمُ أراذِلَهُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فتبِعْتُهُ لأنظُرَ عُرْجَةَ القوْم. وأُكمِلَ بهْجةَ اليومِ. فعاجَ بهِمْ الى سِماطٍ زيّنَتْهُ طُهاتُهُ. وتناصَفَتْ في الحُسْنِ جِهاتُهُ. فحينَ ربعَ كُلُّ شخْصٍ في رِبْضَتِهِ. وطفِقَ يرتَعُ في روضَتِهِ. انسلَلْتُ منَ الصّفّ. وفررْتُ منَ الزّحْفِ. فحانَتْ منَ الشيخِ لَفتَةٌ إليّ. ونظرَةٌ هجَم به طرْفُهُ عليّ. فقال: الى أينَ يا بُرَمُ. هلاّ عاشَرْتَ مُعاشرَةَ مَن فيهِ كرمٌ؟ فقلت: والذي خلقَها طِباقاً. وطبّقها إشْراقاً. لا ذُقتُ لَماقاً. ولا لُسْتُ رُقاقاً. أو تُخبِرَني أين مدَبُّ صِباكَ. ومِنْ أينَ مهَبُّ صَباكَ؟ فتنفّسَ الصُعداءَ مِراراً. وأرسَلَ البُكاءَ مِدْراراً. حتى إذا استَنْزَفَ الدّمْعَ. استَنْصَتَ الجمْعَ. وقال لي: أرْعِني السّمْعَ: الوَجْهِ الوَقاحِ. والإفْكِ الصُّراحِ. والهَريرِ والصّياحِ. والإبْرام والإلْحاحِ. يخطُبُ سَليطَةَ أهلِها. وشَريطَةَ بعلِه. قَنْبَسَ. بِنْتَ أبي العَنْبَسِ. لِما بلغَهُ منِ التِحافِها. بإلْحافِها. وإسْرافه. في إسْفافِها. وانْكِماشِها. على مَعاشِها. وانتِعاشِها. عندَ هِراشِها. وقد بذلَ لها منَ الصَّداقِ شَلاّقاً وعُكّازاً. وصِقاعاً وكزّازاً. فأنْكِحوهُ إنْكاحَ مثلِهِ. وصِلوا حبْلَكُمْ بحَبْلِهِ. وإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فسوفَ يُغْنيكُمُ اللهُ منْ فضْلِهِ. أقولُ قوْلي وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُمْ. وأسألُهُ أن يُكثِرَ في المَصاطِبِ نسْلَكُمْ.

ويحْرُسَ منَ المَعاطِبِ شمْلَكُمْ. فلمّا فرَغَ الشيخُ منْ خُطبَتِهِ. وأبْرَمَ للختَنِ عقْدَ خِطبَتِهِ. تساقَطَ منَ النِّثارِ. ما استَغْرَقَ حدَّ الإكْثارِ. وأغْرى الشّحيحَ بالإيثارِ. ثمّ نهَضَ الشيخُ يسحَبُ ذَلاذِلَهُ. ويَقْدُمُ أراذِلَهُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فتبِعْتُهُ لأنظُرَ عُرْجَةَ القوْم. وأُكمِلَ بهْجةَ اليومِ. فعاجَ بهِمْ الى سِماطٍ زيّنَتْهُ طُهاتُهُ. وتناصَفَتْ في الحُسْنِ جِهاتُهُ. فحينَ ربعَ كُلُّ شخْصٍ في رِبْضَتِهِ. وطفِقَ يرتَعُ في روضَتِهِ. انسلَلْتُ منَ الصّفّ. وفررْتُ منَ الزّحْفِ. فحانَتْ منَ الشيخِ لَفتَةٌ إليّ. ونظرَةٌ هجَم به طرْفُهُ عليّ. فقال: الى أينَ يا بُرَمُ. هلاّ عاشَرْتَ مُعاشرَةَ مَن فيهِ كرمٌ؟ فقلت: والذي

خلقَها طِباقاً. وطبّقها إشْراقاً. لا ذُقتُ لَماقاً. ولا لُسْتُ رُقاقاً. أو تُخبِرَني أين مدَبُّ صِباكَ. ومِنْ أينَ مهَبُّ صَباكَ؟ فتنفّسَ الصُعداءَ مِراراً. وأرسَلَ البُكاءَ مِدْراراً. حتى إذا استَنْزَفَ الدّمْعَ. استَنْصَتَ الجمْعَ. وقال لي: أرْعِني السّمْعَ: مَسقَطُ الرّأسِ سَروجُ ... وبها كنتُ أموجُ بلدَةٌ يوجَدُ فيها ... كُلُّ شيءٍ ويَروجُ ورِدْها منْ سَلسَبيلٍ ... وصحارِيها مُروجُ وبَنوها ومَغاني ... هِمْ نُجومٌ وبُروجُ حبّذا نفْحَةُ ريّا ... ها ومَرآها البَهيجُ وأزاهيرُ رُباها ... حينَ تنْجابُ الثّلوجُ

منْ رآها قال مرْسى ... جنّةِ الدّنْيا سَروجُ ولمَنْ ينْزاحُ عنها ... زفَراتٌ ونشيجُ مثلُ ما لاقَيتُ مُذْ زَحْ ... زَحَني عنْها العُلوجُ عَبرَةٌ تهْمي وشجْوٌ ... كلّما قَرّ يَهيجُ وهُمومٌ كُلَّ يومٍ ... خطْبُها خطْبٌ مَريجُ ومساعٍ في التّرَجّي ... قاصِراتُ الخَطْوِ عوجُ ليتَ يومي حُمَّ لمّا ... حُمّ لي منْها الخُروجُ قال: فلمّا بيّن بلَدَهُ. ووعَيْتُ ما أنشدَهُ. أيقَنْتُ أنهُ علاّمَتُنا أبو زيدٍ. وإنْ كان الهرَمُ قد أوثَقَهُ بقَيدٍ. فبادَرْتُ الى مُصافحَتِهِ. واغْتَنَمْتُ مؤاكَلَتَهُ منْ صحْفَتِهِ. وظَلْتُ مدّةَ مَقاميَ بمِصْرَ أعْشو

المقامة الرملية

الى شُواظِهِ. وأحْشو صدَفَتَيّ منْ دُرَرِ ألْفاظِهِ. الى أنْ نعَبَ بينَنا غُرابُ البَينِ. ففارَقْتُهُ مُفارقَةَ الجفْنِ للعَينِ. المقامة الرّمْليّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: كنتُ في عُنفُوانِ الشّبابِ. ورَيْعانِ العيْشِ اللُّبابِ. أقْلي الاكتِنانَ بالغابِ. وأهْوى الانْدِلاقَ منَ القِرابِ. لعِلْمي أنّ السّفَرَ ينفِجُ السُّفَرَ. ويُنتِجُ الظّفَرَ. ومُعاقَرَةَ الوطَنِ. تَعْقِرُ الفِطَنَ. وتحْقِرُ مَنْ قطَنَ.

فأجَلْتُ قِداحَ الاستِشارَةِ. واقْتدَحْتُ زِنادَ الاستِخارَةِ. ثمّ استجَشْتُ جأشاً أثْبَتَ منَ الحِجارَةِ. وأصْعَدْتُ الى ساحِلِ الشّامِ للتّجارَةِ. فلمّا خيّمتُ بالرّملَةِ. وألقَيتُ بها عَصا الرّحلَةِ. صادَفْتُ بها رِكاباً تُعَدّ للسُّرى. ورِحالاً تُشَدّ الى أمّ القُرى. فعصَفَتْ بي ريحُ الغَرامِ. واهْتاجَ لي شَوْقٌ الى البيتِ الحَرامِ. فزمَمْتُ ناقَتي. ونبذْتُ عُلَقي وعَلاقَتي. وقلتُ للائِمي أقصِرْ فإنّي ... سأخْتارُ المَقامَ على المُقامِ وأُنفِقُ ما جمَعتُ بأرضِ جمْعٍ ... وأسْلو بالحَطيمِ عنِ الحُطامِ ثم انتَظَمْتُ معَ رُفقَةٍ كنجومِ اللّيلِ. لهُمْ في السيرِ جِرْيَةُ السّيلِ.

والى الخيرِ جرْيُ الخَيلِ. فلمْ نزَلْ بينَ إدْلاجٍ وتأوِيبٍ. وإيجافٍ وتقْريبٍ. الى أنْ حبَتْنا أيْدي المَطايا بالتُّحْفَةِ. في إيصالِنا الى الجُحْفَةِ. فحلَلْناها متأهّبينَ للإحْرامِ. مُتباشِرِينَ بإدْراكِ المَرامِ. فلمْ يكُ إلا أنْ أنَخْنا بها الرّكائِبَ. وحطَطْنا الحقائِبَ. حتى طلعَ عليْنا منْ بينِ الهِضابِ. شخْصٌ ضاحي الإهابِ. وهوَ يُنادي: يا أهْلَ ذا النّادي. هلُمّ الى ما يُنْجي يوْمَ التّنادي! فانْخرَطَ إليْهِ الحَجيجُ وانْصلَتوا. واحْتَفّوا بهِ وأنْصَتوا. فلمّا رأى تأثُّفَهُمْ حولَهُ. واستِعْظامَهُمْ قولَهُ. تسَنّمَ إحْدى الإكامِ. ثمّ تنحْنَحَ مُستَفْتِحاً للكلامِ. وقال: يا معْشرَ الحُجّاجِ. النّاسِلينَ منَ الفِجاجِ. أتَعْقِلونَ ما تُواجِهونَ. والى منْ تتوجّهونَ؟ أم تدرونَ على مَنْ تَقْدَمونَ.

وعلامَ تُقدِمونَ؟ أتَخالونَ أنّ الحجّ هوَ اختِيارُ الرّواحلِ. وقطْعُ المراحِلِ. واتّخاذُ المَحامِلِ. وإيقارُ الزّوامِلِ؟ أم تظنّونَ أنّ النُسْكَ هوَ نَضْوُ الأرْدانِ. وإنْضاءُ الأبْدانِ. ومُفارقَةُ الوِلْدانِ. والتّنائي عنِ البُلْدانِ؟ كلاّ واللهِ بل هوَ اجتِنابُ الخَطيّةِ. قبلَ اجْتِلابِ المطيّةِ. وإخلاصُ النّيّةِ. في قصْدِ تلكَ البَنِيّةِ. وإمْحاضُ الطّاعةِ. عندَ وُجْدانِ الاستِطاعَةِ. وإصْلاحُ المُعامَلاتِ. أمام إعْمالِ اليَعْمَلاتِ. فوالذي شرَعَ المَناسِكَ للنّاسِكِ. وأرشَدَ السّالِكَ في اللّيلِ الحالِكِ. ما يُنْقي الاغتِسالُ بالذَّنوبِ. منَ الانغِماسِ في الذُّنوبِ! ولا

تعدِلُ تعرِيَةُ الأجْسامِ. بتَعْبِيَةِ الأجْرام. ولا تُغْني لِبْسَةُ الإحْرامِ. عنِ المتلبِّسِ بالحَرامِ. ولا ينفَعُ الاضْطِباعُ بالإزارِ. معَ الاضْطِلاعِ بالأوْزارِ. ولا يُجْدي التّقرّبُ بالحَلْقِ. مع التّقلّبِ في ظُلْمِ الخلْقِ. ولا يَرْحَضُ التّنسّكُ في التّقصيرِ. درَنَ التّمسّكِ بالتّقصيرِ. ولا يَسعَدُ بعَرَفَةَ. غيرُ أهلِ المعرِفَةِ. ولا يزْكو بالخَيْفِ. منْ يرغَبُ في الحَيْفِ. ولا يشْهَدُ المَقامَ. إلا منِ استَقامَ. ولا يَحْظى بقَبولِ الحِجّةِ. منْ زاغَ عنِ المحَجّةِ. فرحِمَ اللهُ امْرأً صَفا. قبلَ مسْعاهُ الى الصّفا. وورَدَ شَريعةَ الرّضى. قبلَ شُروعِهِ على الأضا.

ونزعَ عنْ تَلْبيسِهِ. قبلَ نزْعِ مَلبوسِهِ. وفاضَ بمعْروفِهِ. قبلَ الإفاضَةِ منْ تعريفِهِ. ثمّ رفعَ عَقيرَتَهُ بصوتٍ أسْمَعَ الصُمَّ. وكادَ يُزعزِعُ الجِبالَ الشُمَّ. وأنشدَ: ما الحَجُّ سيرُكَ تأويباً وإدْلاجا ... ولا اعْتِيامُكَ أجْمالاً وأحداجا ألحَجُّ أن تقصِدَ البيتَ الحرامَ على ... تجْريدِكَ الحَجّ لا تقْضي به حاجا وتمْتَطي كاهِلَ الإنْصافِ متّخذاً ... ردعَ الهَوى هادِياً والحَقَّ مِنْهاجا وأنْ تُؤاسيَ ما أوتيتَ مَقدُرَةً ... مَنْ مدّ كفّاً الى جدْواكَ مُحْتاجا

فهَذهِ إنْ حوَتْها حِجّةٌ كمُلَتْ ... وإنْ خَلا الحجُّ منها كان إخداجا حسْبُ المُرائينَ غَبْناً أنهُمْ غرَسوا ... وما جنَوا ولَقوا كدّاً وإزْعاجا وأنّهُمْ حُرِموا أجْراً ومَحْمَدَةً ... وألحَموا عِرضَهم من عابَ أوْ هاجى أُخَيَّ فابْغِ بما تُبدِيهِ منْ قُرَبٍ ... وجْهَ المُهَيمِنِ ولاّجاً وخرّاجا فلَيسَ تخْفَى على الرّحمَنِ خافِيَةٌ ... إنْ أخلَصَ العبدُ في الطاعاتِ أو داجى وبادِرِ الموْتَ بالحُسْنى تُقدّمُها ... فما يُنَهْنَهُ داعي الموتِ إن فاجا

واقْنَ التّواضُعَ خُلْقاً لا تُزايِلُهُ ... عنكَ اللّيالي ولوْ ألْبَسنَكَ التّاجا ولا تَشِمْ كلَّ خالٍ لاحَ بارِقُهُ ... ولوْ تَراءى هَتونَ السّكْبِ ثجّاجا ما كُلّ داعٍ بأهلٍ أن يُصاخَ لهُ ... كم قد أصَمّ بنَعيٍ بعضُ منْ ناجى وما اللّبيبُ سوى مَنْ باتَ مُقتنعاً ... ببُلْغَةٍ تُدرِجُ الأيّامَ إدْراجا فكلُّ كُثْرٍ الى قُلٍّ مَغبّتُهُ ... وكلّ نازٍ الى لينٍ وإنْ هاجا قال الرّاوي: فلمّا ألْقَحَ عُقْمَ الأفْهامِ. بسِحْرِ الكَلامِ. استَروَحْتُ

ريحَ أبي زيدٍ. ومادَ بيَ الارْتِياحُ إليْهِ أيَّ ميْدٍ. فمكثْتُ حتى استوْعَبَ نثَّ حِكمَتِهِ. وانحدَرَ منْ أكمَتِهِ. ثمّ دلَفْتُ إليْهِ لأتصفّحَ صفَحاتِ مُحيّاهُ. واستشِفّ جوهَرَ حِلاهُ. فإذا هوَ الضّالّةُ التي أنشُدُها. وناظِمُ القَلائِدِ اللاتي أنشدَها. فعانَقْتُهُ عِناقَ اللامِ للألِفِ. ونزّلتُهُ منزِلَةَ البُرْء عندَ الدّنِفِ. وسألتُهُ أن يُلازِمَني فأبى. أو يُزامِلَني فنَبا. وقال: آلَيتُ في حِجّتي هذِهِ أن لا أحْتَقِبَ ولا أعتَقِبَ. ولا أكتَسِبَ ولا أنتَسِبَ. ولا أرتَفِقَ. ولا أُرافِقَ. ولا أُوافِقَ منْ يُنافِقُ. ثمّ ذهبَ يهرْوِلُ. وغادرَني أوَلوِلُ. فلمْ أزَلْ أقْريهِ نظَري. وأوَدُّ لوْ يمشي على ناظِري. حتى

توقّلَ أحدَ الأطْوادِ. ووقفَ للَجيجِ بالمِرْصادِ. فلمّا شاهدَ إيضاعَ الرُكْبانِ. في الكُثْبانِ. وقّعَ بالبَنانِ على البَنانِ. واندفَعَ يُنشِدُ: ليسَ منْ زارَ راكِباً ... مثلَ ساعٍ على القدَمْ لا ولا خادِمٌ أطا ... عَ كعاصٍ منَ الخدَمْ كيفَ يا قوْمِ يسْتَوي ... سعْيُ بانٍ ومَنْ هدمْ سيُقيمُ المُفَرِّطو ... نَ غداً مأتَمَ النّدَمْ ويقولُ الذي تقرّ ... بَ طوبَى لمنْ خدَمْ ويْكِ يا نفْسُ قدّمي ... صالحاً عندَ ذي القِدَمْ وازْدَري زُخْرُفَ الحيا ... ةِ فوُجْدانُهُ عدَمْ واذْكُري مصْرعَ الحِما ... مِ إذا خطْبُهُ صدَمْ

وانْدُبي فعْلَكِ القَبي ... حَ وسُحّي لهُ بدَمْ وادْبُغيهِ بتوْبَةٍ ... قبلَ أن يحْلَمَ الأدَمْ فعسى اللهُ أنْ يقي ... كِ السّعيرَ الذي احتدَمْ يومَ لا عثْرَةٌ تُقا ... لُ ولا ينفعُ السّدَمْ ثمّ إنّهُ أغمضَ عضْبَ لِسانِهِ. وانطلَقَ لِشانِهِ. فما زِلْتُ في كلّ موْرِدٍ نرِدُهُ. ومعَرَّسٍ نتوسّدُهُ. أتفقّدُهُ فأفْقِدُهُ. وأستَنْجِدُ بمَنْ يَنشُدُهُ فلا يجِدُهُ. حتى خِلتُ أنّ الجِنّ اختَطفَتْهُ. أوِ الأرضَ اقتطَفَتْهُ. فما كابَدْتُ في الغُربَة. كهذهِ الكُربَةِ. ولا مُنِيتُ في سَفْرَةٍ. بمِثلِها منْ زفْرَةٍ.

المقامة الطيبية

المقامة الطّيْبيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أجمَعْتُ حينَ قضَيْتُ مناسِكَ الحجّ. وأقَمْتُ وظائِفَ العجّ والثّجّ. أنْ أقصِدَ طَيْبَةَ. مع رُفقَةٍ منْ بَني شَيْبَةَ. لأزورَ قبرَ النّبيّ المُصطَفى. وأخرُجَ منْ قَبيلِ منْ حجّ وجَفا. فأُرْجِفَ بأنّ المسالِكَ شاغِرةٌ. وعرَبَ الحرَمَينِ مُتشاجِرةٌ. فحِرْتُ بين إشْفاقٍ يُشَبّطُني. وأشْواقٍ تُنشّطُني. الى أنْ أُلْقيَ في رَوْعيَ الاستِسْلامُ. وتغلِيبُ زِيارَةِ قبرِهِ عليْهِ السّلامُ. فاعْتَمْتُ القُعْدَةَ. وأعددْتُ العُدّةَ. وسِرْتُ والرُفْقَةَ

لا نلْوي على عُرْجةٍ. ولا نَني في تأويبٍ ولا دُلْجةٍ. حتى وافَيْنا بَني حرْبٍ. وقد آبوا منْ حرْبٍ. فأزْمَعْنا أن نُقَضّيَ ظِلَّ اليومِ. في حِلّةِ القومِ. وبينَما نحنُ نتخيّرُ المُناخَ. ونَرودُ الوِرْدَ النُّقاخَ. إذ رأيْناهُمْ يركُضونَ. كأنّهُمْ الى نُصُبٍ يوفِضونَ. فرابَنا انثِيالُهمْ. وسألْنا: ما بالُهُمْ؟ فقيلَ قد حضرَ ناديَهُمْ فقيهُ العرَبِ. فإهْراعُهُم لهذا السّببِ. فقلتُ لرُفقَتي: ألن نشْهَدُ مَجْمَعَ الحيّ. لنتبيّنَ الرُشْدَ من الغَيّ؟ فقالوا: لقدْ أسْمَعتَ إذ دعَوْتَ. ونصَحْتَ وما ألَوْتَ. ثمّ نهضْنا نتّبِعُ الهادي. ونؤمّ النّاديَ.

حتى إذا أظْلَلْنا عليْهِ. واستَشْرَفْنا الفَقيهَ المَنهودَ إلَيْهِ. ألفَيْتُهُ أبا زيدٍ ذا الشُّقَرِ والبُقَرِ. والفَواقِرِ والفِقَرِ. وقدِ اعْتَمّ القَفْداءَ. واشتمَلَ الصّمّاءَ. وقعدَ القُرْفُصاءَ. وأعْيانُ الحيِّ بهِ مُحتَفّونَ. وأخْلاطُهُمْ عليْهِ مُلتفّونَ. وهو يقول: سَلوني عنِ المُعضِلاتِ. واستَوضِحوا مني المُشكِلاتِ. فوَالذي فطَرَ السّماء. وعلّمَ آدمَ الأسْماء. إني لَفَقيهُ العرَبِ العَرْباء. وأعْلَمُ منْ تحتَ الجرْباء. فصمَدَ لهُ فتًى فَتيقُ اللّسانِ. جرِيّ الجَنانِ. وقال: إني حاضَرْتُ فُقَهاء الدّنيا. حتى انتَخَلْتُ منهُمْ مِئَةَ فُتْيا. فإنْ كنتَ ممّنْ يرغَبُ عنْ بَناتِ غيرٍ.

ويرْغَبُ منا في مَيْرٍ. فاستَمِعْ وأجِبْ. لتُقابَلَ بما يجِبُ. فقال: اللهُ أكبرُ. سيَبينُ المَخْبَرُ. وينكَشِفُ المُضمَرُ. فاصْدَعْ بما تؤمَرُ. قال: ما تَقولُ في مَنْ توضّأ ثمّ لمسَ ظَهرَ نعلِهِ؟ قال: انتَقَضَ وُضوءُهُ بفِعلِهِ. قال: فإنْ توضّأ ثمّ أتْكأهُ البَردُ؟ قال: يُجَدّدُ الوُضوء منْ بعْدُ. قال: أيَمْسَحُ المتوَضّئ أُنثَيَيْهِ؟ قال: قد نُدِبَ إليْهِ. ولمْ يوجَبْ علَيْهِ. قال: أيجوزُ الوُضوء ممّا يقْذِفُهُ الثّعبانُ؟ قال: وهلْ أنْظَفُ منهُ للعُرْبانِ؟ قال: أيُستَباحُ ماء

الضّريرِ؟ قال: نعَمْ ويُجتنَبُ ماء البَصيرِ. قال: أيَحُلّ التطوّفُ في الرّبيع؟ قال: يُكْرَه ذاك للحدَثِ الشّنيعِ. قال: أيجِبُ الغُسْلُ على منْ أمْنى؟ قال: لا ولوْ ثنّى. قال: فهلْ يجِبُ على الجُنُبِ غسْلُ فرْوَتِهِ؟ قال: أجَلْ وغسْلُ إبْرَتِهِ. قال: أيجبُ عليْهِ غسْلُ صَحيفَتِهِ؟ قال: نعَمْ كغسْلِ شفتِهِ. قال: فإنْ أخلّ بغسْلِ فأسِهِ؟ قال: هوَ كما لوْ ألْغَى غسْلَ رأسِهِ. قال: أيجوزُ الغُسلُ في الجِرابِ؟ قال: هوَ كالغُسلِ في الجِبابِ. قال:

فما تقولُ في مَنْ تيمّمَ ثمّ رأى رَوْضاً؟ قال: بطَلَ تيمُّمُهُ فليَتَوضّا. قال: أيجوزُ أن يسْجُدُ الرّجلُ في العَذِرَةِ؟ قال: نعمْ ولْيُجانِبِ القَذِرَةَ. قال: فهلْ لهُ السّجودُ على الخِلافِ؟ قال: لا ولا على أحدِ الأطْرافِ. قال: فإنْ سجَدَ على شِمالِهِ؟ قال: لا بأسَ بفِعالِهِ. قال: فهلْ يجوزُ السّجودُ على الكُراعِ؟ قال: نعمْ دونَ الذّراعِ. قال: أيُصلّي على رأسِ الكلْبِ؟ قال: نعَمْ كسائِرِ الهضْبِ. قال: أيجوزُ للدّارِسِ حمْلُ

المصاحِفِ؟ قال: لا ولا حمْلُها في الملاحِفِ. قال: ما تَقولُ في مَنْ صلّى وعانَتُهُ بارِزَةٌ؟ قال: صلاتُهُ جائِزَةٌ. قال: فإنْ صلّى وعليْهِ صومٌ؟ قال: يُعيدُ ولوْ صلّى مائَةَ يومٍ. قال: فإنْ حمَلَ جرْواً وصلّى؟ قال: هوَ كما لوْ حمَلَ باقِلّى. قال: أتصِحّ صَلاةُ حامِلِ القَرْوَةِ؟ قال: لا ولوْ صلّى فوقَ المَرْوَةِ. قال: فإنْ قطَرَ على ثوْبِ المُصَلّي نجْوٌ؟ قال: يمْضي في صَلاتِهِ ولا غَرْوَ. قال: أيَجوزُ أن يؤمّ الرّجالَ مقنّعٌ؟ قال: نعمْ ويؤمّهُمْ مُدَرَّعٌ. قال: فإنْ أمّهُمْ مَنْ في يدِهِ وقْفٌ؟ قال: يُعيدونَ ولوْ أنّهُمْ ألفٌ.

قال: فإنْ أمّهُمْ منْ فخْذُهُ بادِيَةٌ؟ قال: صلاتُهُ وصلاتُهُم ماضيَةٌ. قال: فإنْ أمّهُمُ الثّورُ الأجَمُّ؟ قال: صلِّ وخَلاكَ ذمٌ. قال: أيدخُلُ القصْرُ في صَلاةِ الشاهدِ؟ قال: لا والغائِبِ الشّاهِدِ. قال: أيَجوزُ للمَعذورِ أن يُفطِرَ في شهرِ رمَضانَ؟ قال: ما رُخّصَ إلا للصّبْيانِ. قال: فهلْ للمُعَرِّسِ أن يأكُلَ فيه؟ قال: نعمْ بمِلئ فيهِ.

قال: فإنْ أفطَرَ فيهِ العُراةُ؟ قال: لا تُنكِرُ عليْهِمِ الوُلاةُ. قال: فإنْ أكلَ الصّائِمُ بعدَما أصبَحَ؟ قال: هوَ أحوَطُ لهُ وأصلَحُ. قال: فإنْ عمَدَ لأنْ أكلَ ليْلاً؟ قال: ليُشمّرْ للقَضاء ذَيْلاً. قال: فإنْ أكلَ قبْلَ أن تتَوارَى البَيْضاءُ؟ قال: يلزَمُهُ واللهِ القَضاءُ. قال: فإنِ استَثارَ الصّائِمُ الكَيْدَ؟ قال: أفْطَرَ ومنْ أحَلّ الصّيدَ. قال: ألَهُ أن يُفْطِرَ بإلحاحِ الطّابِخِ؟

قال: نعَمْ لا بِطاهي المَطابِخِ. قال: فإنْ ضحِكَتِ المرأةُ في صومِها؟ قال: بطَلَ صومُ يومِها. قال: فإنْ ظهرَ الجُدَرِيُّ على ضَرّتِها؟ قال: تُفطِرُ إن آذَنَ بمضَرّتِها. قال: ما يجِبُ في مِئَةِ مِصباحٍ؟ قال: حِقّتانِ يا صاحِ. قال: فإنْ ملَكَ عشْرَ خَناجِرَ؟ قال: يُخرِجُ شاتَينِ ولا يُشاجِرُ. قال: فإنْ سمَحَ للسّاعي بحَميمَتِهِ؟ قال: يا بُشْرى لهُ يومَ قِيامتِهِ! قال:

أيستَحِقّ حمَلَةُ الأوْزارِ منَ الزّكاةِ جُزّاً؟ قال: نعَمْ إذا كانوا غُزًى. قال: أيَجوزُ للحاجّ أن يعتَمِرَ؟ قال: لا ولا أنْ يختَمِرَ. قال: فهلْ لهُ أنْ يقتُلَ الشُجاعَ؟ قال: نعمْ كما يَقتُلُ السّباع. قال: فإنْ قتَلَ زَمّارَةً في الحرَمِ؟ قال: عليْهِ بدَنَةٌ منَ النّعَمِ. قال: فإنْ رمى ساقَ حُرٍّ فجَدّلَهُ؟ قال: يُخرِجُ شاةً بدَلَهُ. قال: فإنْ قتَلَ أمّ عوْفٍ بعْدَ الإحْرامِ؟ قال: يتصدّقُ بقَبضَةٍ منْ طَعامٍ. قال: أيجِبُ على الحاجّ استِصْحابُ القارِبِ؟ قال: نعمْ ليَسوقَهُمْ الى المَشارِبِ.

قال: ما تَقولُ في الحَرامِ بعْدَ السّبتِ؟ قال: قدْ حلّ في ذلِكَ الوقتِ. قال: ما تَقولُ في بيْعِ الكُمَيتِ؟ قال: حَرامٌ كبَيعِ الميْتِ. قال: أيَجوزُ بيعُ الخلّ بلَحْمِ الجمَلِ؟ قال: ولا بلَحْمِ الحمَلِ. قال: أيَحِلّ بيْعُ الهديّةِ؟ قال: لا ولا بيعُ السّبيّةِ. قال: ما تَقولُ في بيْعِ العَقيقَةِ؟ قال: محْظورٌ على الحقيقَةِ. قال: أيَجوزُ بيْعُ الدّاعي. على الرّاعي؟ قال: لا ولا على السّاعي. قال: أيُباعُ الصّقْرُ بالتّمرِ؟ قال: لا ومالِكِ الخَلْقِ

والأمرِ. قال: أيَشتَري المُسلِمُ سلَبَ المُسلِماتِ؟ قال: نعَمْ ويورَثُ عنهُ إذا ماتَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يُبْتاعَ الشافِعُ. قال: ما لِجوازِهِ منْ دافِعٍ. قال: أيُباعُ الإبريقُ على بَني الأصْفَرِ؟ قال: يُكرَهُ كبَيْعِ المِغْفَرِ. قال: أيَجوزُ أن يَبيعَ الرّجُلُ صَيْفِيّهُ؟ قال: لا ولكِنْ ليَبِعْ صَفيّهُ. قال: فإنِ اشتَرى عبْداً فبانَ بأمِّهِ جِراحٌ؟ قال: ما في ردّهِ منْ جُناحٍ. قال: أتَثْبُتُ الشُفْعَةُ للشّريكِ في الصّحْراء؟ قال: لا ولا للشّريكِ في الصّفْراء. قال: أيَحِلّ

أنْ يُحْمَى ماء البِئْرِ والخَلا؟ قال: إنْ كانَ في الفَلا فَلا. قال: ما تَقولُ في مَيتَةِ الكافِرِ؟ قال: حِلٌّ للمُقيمِ والمُسافِرِ. قال: أيجوزُ أن يُضَحّى بالحُولِ؟ قال: هوَ أجدَرُ بالقَبولِ. قال: فهلْ يُضحّى بالطّالِقِ؟ قال: نعمْ ويُقْرَى منْها الطّارِقُ. قال: فإنْ ضحّى قبْلَ ظُهورِ الغَزالَةِ؟ قال: شاةُ لحْمٍ بِلا مَحالَةٍ. قال: أيحِلّ التكَسّبُ بالطَّرْقِ؟ قال: هوَ كالقِمارِ بِلا فرْقٍ. قال: أيُسَلّمُ القائِمُ على القاعِدِ؟ قال: محْظورٌ فيما بينَ الأباعِدِ. قال: أيَنامُ

العاقِلُ تحتَ الرّقيعِ؟ قال: أحْبِبْ بهِ في البَقيعِ. قال: أيُمنَعُ الذّمّيّ منْ قتْلِ العَجوزِ؟ قال: مُعارضَتُهُ في العَجوزِ لا تَجوزُ. قال: أيجوزُ أن ينتَقِلَ الرّجُلُ عنْ عِمارَةِ أبيهِ؟ قال: ما جُوّزَ لخامِلٍ ولا نَبيهٍ. قال: ما تَقولُ في التهَوّدِ؟ قال: هوَ مِفْتاحُ التّزهُّد. قال: ما تَقولُ في صبْرِ البَليّةِ؟ قال: أعظِمْ بهِ منع خَطيّةٍ. قال: أيَحِلّ ضرْبُ السّفيرِ؟ قال: نعمْ والحمْلُ على المُستَشيرِ.

قال: أيُعزِّزُ الرّجُلُ أباهُ؟ قال: يفعَلُهُ البَرُّ ولا يأباهُ. قال: ما تَقولُ في مَنْ أفقَر أخاهُ؟ قال: حبّذا ما توَخّاهُ! قال: فإنْ أعْرى ولدَهُ؟ قال: يا حُسْنَ ما اعتَمَدَهُ! قال: فإنْ أصْلى ممْلوكَهُ النّارَ؟ قال: لا إثْمَ عليْهِ ولا عارٌ. قال: أيَجوزُ للمرأةِ أنْ تصرِمَ بعْلَها؟ قال: ما حظَرَ أحدٌ فِعْلَها. قال: فهلْ تؤدَّبُ المرأةُ على الخجَلِ؟ قال: أجلْ. قال: ما تَقولُ في مَنْ نحَتَ أثلَةَ أخيهِ؟ قال: أثِمَ ولوْ أذِنَ لهُ فيهِ. قال: أيَحْجُرُ الحاكِمُ على صاحبِ الثّوْرِ؟ قال: نعمْ ليأمَنَ غائِلَةَ الجوْرِ. قال: فهلْ لهُ أن يضْرِبَ على يدِ اليَتيمِ؟ قال: نعمْ الى أن يَستَقيمَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يتّخِذَ لهُ ربَضاً؟ قال: لا ولوْ كان لهُ رِضًى. قال: فمتى يبِيعُ بدَنَ السّفيهِ؟ قال: حينَ يرى لهُ الحظَّ فيهِ. قال: فهلْ يجوزُ أن يبْتاعَ لهُ حَشّاً؟ قال: نعمْ إذا لمْ يكُنْ مُغَشًّى. قال: أيجوزُ أن يكونَ الحاكِمُ ظالِماً؟ قال: نعمْ إذا كان عالِماً. قال: أيُستَقْضى منْ ليستْ لهُ بَصيرةٌ؟ قال: نعمْ إذا حسُنَتْ منهُ السّيرَةُ. قال: فإنْ تعرّى منَ العَقْلِ؟ قال: ذاكَ عُنوانُ الفضْلِ. قال: فإنْ كانَ لهُ زهْوُ جبّارٍ؟ قال: لا إنْكارَ عليهِ ولا إكْبار. قال: أيجوزُ أن يكونَ الشاهِدُ مُريباً؟ قال: نعمْ إذا كان أريباً. قال: فإنْ بانَ أنّهُ لاطَ؟ قال: هوَ كما لوْ خاطَ. قال: فإنْ عُثِرَ على أنّهُ غربَلَ؟ قال: تُرَدّ شهادَتُهُ ولا تُقبَلُ. قال: فإنْ وضَحَ أنهُ مائِنٌ؟ قال: هوَ لهُ وصْفٌ زائِنٌ. قال: ما يجِبُ على عابِدِ الحَقّ؟ قال: يُحلَّفُ بإلَهِ الخلْقِ. قال: ما تَقولُ في منْ فقَأ عينَ بُلبُلٍ عامِداً؟ قال: تُفقَأُ عينُه قوْلاً واحِداً. قال: فإنْ جرَحَ قَطاةَ امرأةٍ فماتَتْ؟ قال: النّفْسُ بالنّفْسِ إذا فاتَتْ. قال: فإنْ ألقَتِ الحامِلُ حَشيشاً منْ ضرْبِهِ؟ قال: ليُكفِّرْ بالإعْتاقِ عنْ ذنْبِهِ. قال: ما يجِبُ على المُختَفي في الشّرْعِ؟ قال: القطْعُ لإقامَةِ الرّدْعِ. قال: فما يُصنَعُ بمَنْ سرَقَ أساوِدَ الدّارِ؟ قال: يُقطَعُ إنْ ساوَينَ رُبعَ دينارٍ. قال: فإنْ سرَقَ ثَميناً من ذهَبٍ؟ قال: للا قَطْعَ كما لو غصَبَ. قال: فإنْ بانَ على المرأةِ السّرَقُ؟ قال: لا حرَجَ عليْها ولا فرَقَ. قال: أينعَقِدُ نِكاحٌ لمْ يشهَدْهُ القَواري؟ قال: لا والخالِقِ الباري. قال: ما تَقولُ في عَروسٍ باتَتْ بلَيلَةٍ حُرّةٍ. ثمّ رُدّتْ في حافِرَتِها بسُحْرَةٍ؟ قال: يجبُ لها نصفُ الصّداقِ. ولا تلْزَمُها عِدّةُ الطّلاقِ. فقال لهُ السّائِلُ. للهِ دَرُّكَ من بحْرٍ لا يُغَضْغِضُهُ الماتِحُ. وحِبْرٍ لا يبلُغُ مدْحَهُ المادِحُ! ثمّ أطرَقَ إطْراقَ الحَييّ. وأرَمّ إرْمامَ العَييّ. فقال لهُ أبو زيدٍ: إيهٍ يا فَتى! فإلى متى وإلى متى؟ فقالَ لهُ: لمْ يبْقَ في كِنانَتي مِرْماةٌ. ولا بعْدَ إشْراقِ صُبحِكَ مُماراةٌ. فبِاللهِ أيُّ ابنِ أرْضٍ أنتَ. فما أحسنَ ما أبَنْتَ. فأنشَدَ بلِسانٍ ذلِقٍ. وصوتٍ صهْصَلِقٍ: مَنْ أفقَر أخاهُ؟ قال: حبّذا ما توَخّاهُ! قال: فإنْ أعْرى ولدَهُ؟ قال: يا حُسْنَ ما اعتَمَدَهُ! قال: فإنْ أصْلى ممْلوكَهُ النّارَ؟ قال: لا إثْمَ عليْهِ ولا عارٌ. قال: أيَجوزُ للمرأةِ أنْ تصرِمَ بعْلَها؟ قال: ما حظَرَ أحدٌ فِعْلَها. قال: فهلْ تؤدَّبُ المرأةُ على الخجَلِ؟ قال: أجلْ.

قال: ما تَقولُ في مَنْ نحَتَ أثلَةَ أخيهِ؟ قال: أثِمَ ولوْ أذِنَ لهُ فيهِ. قال: أيَحْجُرُ الحاكِمُ على صاحبِ الثّوْرِ؟ قال: نعمْ ليأمَنَ غائِلَةَ الجوْرِ. قال: فهلْ لهُ أن يضْرِبَ على يدِ اليَتيمِ؟ قال: نعمْ الى أن يَستَقيمَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يتّخِذَ لهُ ربَضاً؟ قال: لا ولوْ كان لهُ رِضًى. قال: فمتى يبِيعُ بدَنَ السّفيهِ؟ قال: حينَ يرى لهُ الحظَّ فيهِ. قال: فهلْ

يجوزُ أن يبْتاعَ لهُ حَشّاً؟ قال: نعمْ إذا لمْ يكُنْ مُغَشًّى. قال: أيجوزُ أن يكونَ الحاكِمُ ظالِماً؟ قال: نعمْ إذا كان عالِماً. قال: أيُستَقْضى منْ ليستْ لهُ بَصيرةٌ؟ قال: نعمْ إذا حسُنَتْ منهُ السّيرَةُ. قال: فإنْ تعرّى منَ العَقْلِ؟ قال: ذاكَ عُنوانُ الفضْلِ. قال: فإنْ كانَ لهُ زهْوُ جبّارٍ؟ قال: لا إنْكارَ عليهِ ولا إكْبار. قال: أيجوزُ أن يكونَ الشاهِدُ مُريباً؟ قال: نعمْ إذا كان أريباً. قال: فإنْ بانَ أنّهُ لاطَ؟ قال: هوَ كما لوْ خاطَ.

قال: فإنْ عُثِرَ على أنّهُ غربَلَ؟ قال: تُرَدّ شهادَتُهُ ولا تُقبَلُ. قال: فإنْ وضَحَ أنهُ مائِنٌ؟ قال: هوَ لهُ وصْفٌ زائِنٌ. قال: ما يجِبُ على عابِدِ الحَقّ؟ قال: يُحلَّفُ بإلَهِ الخلْقِ. قال: ما تَقولُ في منْ فقَأ عينَ بُلبُلٍ عامِداً؟ قال: تُفقَأُ عينُه قوْلاً واحِداً. قال: فإنْ جرَحَ قَطاةَ امرأةٍ فماتَتْ؟ قال: النّفْسُ بالنّفْسِ إذا فاتَتْ. قال: فإنْ ألقَتِ الحامِلُ حَشيشاً منْ ضرْبِهِ؟ قال: ليُكفِّرْ بالإعْتاقِ عنْ ذنْبِهِ. قال: ما يجِبُ على المُختَفي في الشّرْعِ؟ قال: القطْعُ لإقامَةِ الرّدْعِ. قال: فما

يُصنَعُ بمَنْ سرَقَ أساوِدَ الدّارِ؟ قال: يُقطَعُ إنْ ساوَينَ رُبعَ دينارٍ. قال: فإنْ سرَقَ ثَميناً من ذهَبٍ؟ قال: للا قَطْعَ كما لو غصَبَ. قال: فإنْ بانَ على المرأةِ السّرَقُ؟ قال: لا حرَجَ عليْها ولا فرَقَ. قال: أينعَقِدُ نِكاحٌ لمْ يشهَدْهُ القَواري؟ قال: لا والخالِقِ الباري. قال: ما تَقولُ في عَروسٍ باتَتْ بلَيلَةٍ حُرّةٍ. ثمّ رُدّتْ في حافِرَتِها بسُحْرَةٍ؟ قال: يجبُ لها نصفُ الصّداقِ. ولا تلْزَمُها عِدّةُ الطّلاقِ. فقال

لهُ السّائِلُ. للهِ دَرُّكَ من بحْرٍ لا يُغَضْغِضُهُ الماتِحُ. وحِبْرٍ لا يبلُغُ مدْحَهُ المادِحُ! ثمّ أطرَقَ إطْراقَ الحَييّ. وأرَمّ إرْمامَ العَييّ. فقال لهُ أبو زيدٍ: إيهٍ يا فَتى! فإلى متى وإلى متى؟ فقالَ لهُ: لمْ يبْقَ في كِنانَتي مِرْماةٌ. ولا بعْدَ إشْراقِ صُبحِكَ مُماراةٌ. فبِاللهِ أيُّ ابنِ أرْضٍ أنتَ. فما أحسنَ ما أبَنْتَ. فأنشَدَ بلِسانٍ ذلِقٍ. وصوتٍ صهْصَلِقٍ: أنا في العالَمِ مُثْلَهْ ... ولأهْلِ العِلمِ قِبلَهْ غيرَ أنّي كُلَّ يومٍ ... بينَ تعْريسٍ ورِحلَهْ والغَريبُ الدّارِ لوْ ح ... لّ بطوبى لمْ تطِبْ لَهْ

ثمّ قال: اللهُمّ كما جعلْتَنا ممّنْ هُدِيَ ويهْدي. فاجعَلهُمْ ممّنْ يهْتَدي ويُهْدي. فساقَ إليْهِ القومُ ذَوْداً معَ قَيْنَةٍ. وسألوهُ أن يَزورَهُمُ الفَينَةَ بعدَ الفَينةِ. فنهضَ يُمَنّيهِمِ العَوْدَ. ويُزَجّي الأمَةَ والذّوْدَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فاعْتَرَضْتُهُ وقلتُ لهُ عهْدي بكَ سَفيهاً. فمتى صِرْتَ فَقيهاً؟ فظلّ هُنيهَةً يَجولُ. ثم أنشدَ يقولُ: لبِستُ لكُلّ زمانٍ لَبوسا ... ولابَستُ صَرْفَيهِ نُعمى وبوسَى وعاشرْتُ كلَّ جَليسٍ بما ... يُلائِمُهُ لأروقَ الجَليسا فعندَ الرُّواةِ أُديرُ الكلامَ ... وبينَ السُقاةِ أديرُ الكؤوسا وطوْراً بوعْظي أسيلُ الدّموعَ ... وطوْراً بلَهْوي أسُرّ النّفوسا

وأقْري المَسامِعَ إمّا نطَقْتُ ... بَياناً يقودُ الحَرونَ الشَّموسا وإنْ شِئتُ أرعَفَ كفّي اليَراعَ ... فساقَطَ دُرّاً يُحَلّي الطُّروسا وكم مُشكِلاتٍ حَكينَ السُهى ... خَفاءً فصِرنَ بكَشفي شُموسا وكمْ مُلَحٍ لي خلَبْنَ العُقولَ ... وأسْأرْنَ في كُلّ قلْبٍ رَسيسا وعذْراءَ فُهْتُ بها فانْثَنى ... عليها الثّناءُ طَليقاً حَبيسا على أنّني منْ زَمانٍ خُصِصْتُ ... بكيْدٍ ولا كيدَ فِرعَوْنَ موسى يسَعِّرُ لي كلَّ يومٍ وغًى ... أطامِنْ لَظاها وَطيساً وَطيسا ويَطْرُقُني بالخُطوبِ التي ... يُذِبنَ القُوَى ويُشِبنَ الرّؤوسا ويُدْني إليّ البَعيدَ البَغيضَ ... ويُبعِدُ عني القَريبَ الأنيسا ولوْلا خَساسَةُ أخْلاقِهِ ... لَما كانَ حظّيَ منهُ خَسيسا

فقُلتُ له: خفّضِ الأحْزانَ. ولا تلُمِ الزّمانَ. واشْكرْ لمَنْ نقلَكَ عنْ مذْهَبِ إبْليسَ. الى مذْهَبِ ابنِ إدْريسَ. فقال: دعِ الهِتارَ. ولا تهْتُكِ الأسْتارَ! وانهَضْ بنا لنَضْرِبَ. الى مسْجِدِ يثْرِبَ. فعسَى أنْ نرْحَضَ بالمَزارِ. درَنَ الأوْزارِ. فقلْتُ: هيْهاتَ أن أسيرَ. أو أفْقَهَ التّفْسيرَ! فقال: تاللهِ لقدْ أوْجَبْتَ ذِمماً. وطلَبْتَ إذْ طلَبْتَ أمَماً. فهَاكَ ما يَشْفي النّفسَ. وينْفي اللَّبْسَ. قال: فلمّا أوضحَ لي المُعَمّى. وكشفَ عنّي الغُمّى. شدَدْنا الأكوارَ. وسِرْتُ وسارَ. ولمْ أزَلْ منْ مُسامرَتِهِ. مُدةَ مُسايرَتِهِ. في ما أنْساني طعْمَ المَشقّةِ.

المقامة التفليسية

وودِدْتُ معهُ بُعْدَ الشُقّةِ. حتى إذا دخَلْنا مدينَةَ الرّسولِ. وفُزْنا منَ الزّيارةِ بالسُّولِ. أشْأمَ وأعْرَقْتُ. وغرّبَ وشرّقْتُ. المقامة التّفْليسيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عاهدْتُ اللهَ تعالَى مُذْ يفَعتُ. أنْ لا أؤخِّرَ الصّلاةَ ما استَطَعْتُ. فكنتُ مع جوْبِ الفلَواتِ. ولهْوِ الخلَواتِ. أُراعي أوْقاتَ الصّلاةِ. وأحاذِرُ منْ مأثَمِ الفَواتِ. وإذا رافَقْتُ في رِحلَةٍ. أو حللْتُ بحِلّةٍ. مرْحَبْتُ بصَوْتِ الدّاعي إليْها. واقتَدَيْتُ بمنْ يُحافِظُ عليْها. فاتّفَقَ حينَ دخلْتُ تفْليسَ. أن صلّيتُ معَ زُمْرَةٍ مَفاليسَ. فلمّا قضيْنا الصّلاةَ. وأزْمَعْنا

الانفِلاتَ. برزَ شيخٌ بادِي اللَّقوَةِ. بالي الكُسوَةِ والقُوّةِ. فقالَ: عزمْتُ على منْ خُلِقَ منْ طينَةِ الحُريّةِ. وتفوّقَ دَرَّ العصبيّةِ. إلا ما تكلّفَ لي لُبْثَةً. واستمَعَ مني نَفثَةً. ثمّ لهُ الخِيارُ منْ بعْدُ. وبيدِهِ البذْلُ والرّدُّ. فعقَدَ لهُ القومُ الحُبَى. ورسَوْا أمْثالَ الرُبى. فلمّا آنَس حُسْنَ إنْصاتِهمْ. ورَزانَةَ حَصاتِهِمْ. قال: يا أولي الأبْصارِ الرّامِقَةِ. والبَصائِرِ الرّائِقَةِ. أمَا يُغْني عنِ الخبَرِ العِيانُ. ويُنْبئُ عنِ النّارِ الدخانُ؟ شَيبٌ لائِحٌ. ووهْنٌ فادِحٌ. وداءٌ واضِحٌ. والباطِنُ فاضِحٌ. ولقدْ كُنتُ واللهِ ممّنْ

ملَكَ ومالَ. ووَليَ وآلَ. ورفَدَ وأنالَ. ووصَلَ وصالَ. فلمْ تزَلِ الجَوائِحُ تسْحَتُ. والنّوائِبُ تنْحَتُ. حتى الوَكْرُ قَفْرٌ. والكفُّ صَفْرٌ. والشّعارُ ضُرٌّ. والعيشُ مُرٌّ. والصّبْيَةُ يتَضاغَوْنَ من الطّوى. ويتمنّونَ مُصاصَةَ النّوى. ولمْ أقُمْ هذا المَقامَ الشّائنَ. وأكشِفْ لكُمُ الدّفائِنَ. إلا بعْدَما شَقيتُ ولُقيتُ. وشِبْتُ ممّا لَقيتُ. فلَيتَني لمْ أكُنْ بَقيتُ. ثمّ تأوّهَ تأوّهَ الأسيفِ. وأنشدَ بصوتٍ ضَعيفٍ: أشْكو الى الرّحْمنِ سُبْحانَهُ ... تقلُّبَ الدّهْرِ وعُدْوانَهُ وحادِثاتٍ قرعَتْ مَرْوَتي ... وقوّضَتْ مَجدي وبُنْيانَهُ

واهْتصَرَتْ عودي ويا ويلَ منْ ... تهتَصِرُ الأحداثُ أغصانَهُ وأمحَلَتْ ربْعيَ حتى جلَتْ ... منْ ربْعيَ المُمْحِلِ جِرْذانَهُ وغادرَتْني حائِراً بائِراً ... أُكابِدُ الفَقْرَ وأشْجانَهُ منْ بعْدِ ما كنتُ أخا ثروَةٍ ... يسحَبُ في النّعْمَةِ أرْدانَهُ يختَبِطُ العافونَ أوْراقَهُ ... ويحْمَدُ السّارونَ نيرانَهُ فأصبحَ اليومَ كأنْ لمْ يكُنْ ... أعانَهُ الدّهرُ الذي عانَهُ وازْوَرّ مَنْ كانَ لهُ زائِراً ... وعافَ عافي العُرْفِ عِرْفانَهُ فهلْ فتًى يحْزُنُهُ ما يَرى ... منْ ضُرّ شيخٍ دهْرُهُ خانَهُ فيَفْرِجَ الهَمَّ الذي همَّهُ ... ويُصلِحَ الشّانَ الذي شانَهُ

قال الرّاوي: فصَبَتِ الجماعَةُ الى أن تستَثبِتَهُ. لتَستَنجِشَ خُبْأتَهُ. وتستَنفِضَ حَقيبتَهُ. فقالتْ لهُ: قد عرَفْنا قدْرَ رُتبتِكَ. ورأيْنا دَرَّ مُزنَتِكَ. فعرّفْنا دوْحةَ شُعبَتِكَ. واحْسِرِ اللّثامَ عنْ نِسبَتِكَ. فأعْرَضَ إعْراضَ منْ مُنيَ بالإعْناتِ. أو بُشّرَ بالبَناتِ. وجعلَ يلعَنُ الضّروراتِ. ويتأفّفُ منْ تغَيُّضِ المُروءاتِ. ثمّ أنشدَ بلَفظٍ صادِعٍ. وجَرْسٍ خادِعٍ: لعَمْرُكَ ما كُلُّ فرْعٍ يدُلّ ... جَناهُ اللّذيذُ على أصلِهِ فكُلْ ما حَلا حينَ تُؤتى بهِ ... ولا تسألِ الشّهْدَ عنْ نحْلِهِ وميّزْ إذا ما اعتَصرْتَ الكُرومَ ... سُلافَةَ عصْرِكَ منْ خَلّهِ

لتُغْلي وتُرْخِصَ عنْ خِبرَةٍ ... وتشْريَ كُلاًّ شِرَى مثلِهِ فعارٌ على الفَطِنِ اللّوذَعيّ ... دُخولُ الغَميزَةِ في عقلِهِ قال: فازْدَهى القومُ بذَكائِهِ ودهائِه. واختلَبَهُمْ بحُسْنِ أدائِهِ مع دائِهِ. حتى جمَعوا لهُ خَبايا الخُبَنِ. وخَفايا الثُّبَنِ. وقالوا لهُ: يا هَذا إنكَ حُمْتَ على رَكِيّةٍ بَكيّةٍ. وتعرّضْتَ لخَليّةٍ خليّةٍ. فخُذْ هذِه الصُّبابَةَ. وهَبْها لا خطأً ولا إصابَةً. فنزّلَ قُلَّهُمْ منزِلَةَ الكُثْرِ. ووصَلَ قَبولَهُ بالشُكْرِ. ثمّ تولّى يجُرّ شِقَّهُ. وينْهَبُ بالخَبْطِ طُرْقَهُ. قالَ المُخبِرُ بهذِهِ الحِكايَةِ. فصُوّرَ لي أنّهُ مُحيلٌ لحِلْيَتِهِ. متصَنّعٌ في

مِشيَتِهِ. فنهَضْتُ أنْهَجُ مِنْهاجَهُ. وأقْفو أدراجَهُ. وهوَ يلْحَظُني شَزْراً. ويوسِعُني هجْراً. حتى إذا خَلا الطّريقُ. وأمْكَنَ التّحْقيقُ. نظرَ إليّ نظرَ منْ هشّ وبشّ. وماحَضَ بعْدَما غشّ. وقال: إني لإخالُكَ أخا غُربَةٍ. ورائِدَ صُحبَةٍ. فهلْ لكَ في رَفيقٍ يَرفُقُ بكَ ويُرفِقُ. ويَنفُقُ عليْك ويُنفِقُ؟ فقلتُ لهُ: لو أتاني هذا الرّفيقُ. لواتاني التّوْفيقُ. فقال لي: قدْ وجَدْتَ فاغْتَبِطْ. واستَكْرَمْتَ فارتَبِطْ. ثمّ ضحِكَ مليّاً. وتمثّلَ لي بَشَراً سَوِيّاً. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيّ لا قَلَبَةَ بجسمِهِ. ولا شُبهَةَ في وسْمِهِ. ففرِحْتُ بلُقيَتِهِ. وكذِبِ لَقْوَتِهِ. وهمَمْتُ بمَلامَتِهِ. على سوء مَقامَتِهِ. فشَحا فاهُ.

المقامة الزبيدية

وأنشدَ قبلَ أنْ ألْحاهُ: ظهَرْتُ برَتٍّ لكَيْما يُقالَ ... فقيرٌ يُزَجّي الزّمانَ المُزَجّى وأظهرْتُ للنّاسِ أنْ قد فُلجتُ ... فكمْ نالَ قلْبي بهِ ما ترَجّى ولوْلا الرّثاثَةُ لمْ يُرْثَ لي ... ولوْلا التّفالُجُ لمْ ألْقَ فُلْجا ثمّ قال: إنّهُ لم يبْقَ لي بهذِه الأرضِ مرتَعٌ. ولا في أهلِها مطْمَعٌ. فإنْ كنتَ الرّفيقَ. فالطّريقَ الطّريقَ. فسِرْنا منها متجرِّدَينِ. ورافَقْتُهُ عامَينِ أجرَدَينِ. وكنتُ على أنْ أصحبَهُ ما عِشْتُ. فأبى الدّهْرُ المُشِتُّ. المقامة الزَّبيديّة أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: لمّا جُبْتُ البِيدَ. الى زَبيدَ. صحِبَني غُلامٌ قدْ كنتُ ربّيتُهُ الى أن بلغَ أشُدَّهُ. وثقّفْتُهُ حتى أكمَلَ

رُشْدَهُ. وكان قد أنِسَ بأخْلاقي. وخبَرَ مجالِبَ وِفاقي. فلمْ يكُنْ يتخَطّى مَرامي. ولا يُخطئ في المَرامي. لا جَرَمَ أنّ قُرَبَهُ التاطَتْ بصَفَري. وأخلَصْتُهُ لحَضَري وسَفَري. فألْوى بهِ الدهرُ المُبيدُ. حينَ ضمّتْنا زَبيدُ. فلمّا شالتْ نَعامتُهُ. وسكَنتْ نأمَتُهُ. بقيتُ عاماً. لا أُسيغُ طَعاماً. ولا أُريغُ غُلاماً. حتى ألجأتْني شَوائِبُ الوَحْدَةِ. ومتاعِبُ القَومَةِ والقَعْدَةِ. الى أنْ أعْتاضَ عنِ الدُرِّ الخرَزَ. وأرْتادَ مَنْ هُوَ سِدادٌ منْ عوَزٍ. فقصَدْتُ منْ يَبيعُ العَبيدَ. بسوقِ زَبيدَ. فقلتُ: أريدُ غُلاماً يُعجِبُ إذا قُلّبَ. ويُحمَدُ إذا جُرّبَ. وليَكُنْ ممّنْ خرّجَهُ الأكْياسُ. وأخرَجَهُ الى السّوقِ الإفْلاسُ. فاهتزّ كلٌ منهُمْ لمَطْلَبي ووثَبَ. وبذَلَ تحصيلَهُ عنْ كثَبٍ.

ثمّ دارَتِ الأهلّةُ دَوْرَها. وتقلّبَتْ كَوْرَها وحَوْرَها. وما نجَزَ منْ وُعودِهِمْ وعْدٌ. ولا سحّ لها رعْدٌ. فلمّا رأيتُ النّخاسينَ. ناسينَ أو مُتَناسينَ. علِمْتُ أنْ ليسَ كلُّ منْ خلَقَ يَفْري. وأن لنْ يحُكّ جِلدي مثلُ ظُفري. فرفَضْتُ مذْهبَ التّفويضِ. وبرَزْتُ الى السّوقِ بالصُّفْرِ والبِيضِ. فإني لأسْتَعرِضُ الغِلْمانَ. وأستَعْرِفُ الأثْمانَ. إذ عارَضَني رجلٌ قدِ اختَطَم بلِثامٍ. وقبَضَ على زَنْدِ غُلامٍ. وقال: من يشتَري مني غُلاماً صنَعا ... في خَلْقِهِ وخُلْقِهِ قد برَعا بكلّ ما نُطْتَ بهِ مُضْطَلِعاً ... يَشْفيكَ إنْ قال وإنْ قُلتَ وَعى

وإنْ تُصِبْكَ عَثرَةٌ يَقُلْ لَعا ... وإنْ تسُمْهُ السّعْيَ في النارِ سَعى وإن تُصاحِبهُ ولوْ يوماً رَعى ... وإنْ تُقَنّعْهُ بظِلْفٍ قَنِعا وهْوَ على الكَيْسِ الذي قد جمَعا ... ما فاهَ قطُّ كاذِباً لا ادّعى ولا أجابَ مَطْمَعاً حينَ دعا ... ولا استَجازَ نَثَّ سِرٍّ أُودِعا وطالَما أبدَعَ في ما صنَعا ... وفاقَ في النّثْرِ وفي النّظْمِ مَعا واللهِ لوْلا ضنْكُ عيشٍ صدَعا ... وصِبيَةٌ أضْحَوْا عُراةً جُوَّعا ما بِعْتُهُ بمُلْكِ كِسرَى أجْمَعا قال: فلمّا تأمّلْتُ خَلقَهُ القَويمَ. وحُسنَهُ الصّميمَ. خِلتُهُ منْ وِلْدانِ جَنّةِ النّعيمِ. وقلتُ: ما هذا بشَراً إنْ هذا إلا ملَكٌ كَريمٌ! ثمّ استَنْطَقْتُهُ عنِ اسْمِهِ. لا لرَغْبَةٍ في عِلمِه. بل لأنظُرَ أينَ فصاحَتُهُ من صَباحَتِهِ. وكيفَ لهْجَتُهُ منْ بهجَتِهِ. فلمْ ينطِقْ بحُلوَةٍ ولا مُرّةٍ. ولا فاهَ فَوْهَةَ ابنِ أمَةٍ ولا حُرّةٍ. فضرَبْتُ عنهُ صَفْحاً. وقلْتُ له:

قُبْحاً لعِيّكَ وشُقْحاً! فَغارَ في الضّحِكِ وأنْجَدَ. ثمّ أنْغَضَ رأسهُ إليّ وأنشدَ: يا مَنْ تلَهّبَ غيظُهُ إذْ لمْ أبُحْ ... باسْمي لهُ ما هَكذا مَنْ يُنصِفُ إنْ كان لا يُرضيكَ إلا كشْفُهُ ... فأصِخْ لهُ أنا يُوسُفٌ أنا يوسُفُ ولقد كشَفْتُ لكَ الغِطاء فإن تكنْ ... فطِناً عرَفتَ وما إخالُك تَعرِفُ قال: فسَرّى عَتْبي بشِعْرِهِ. واسْتَبى لُبّي بسِحْرِهِ. حتى شُدِهْتُ عنِ التّحقيقِ. وأُنسيتُ قِصّةَ يوسُفَ الصّدّيقِ. ولمْ يكُنْ لي همٌّ إلا مُساوَمةُ موْلاهُ فيهِ. واستِطْلاعُ طِلعِ الثّمَنِ لأوفيهِ. وكنتُ أحسَبُ أنهُ سينظُرُ شَزْراً إليّ. ويُغْلي السّيمَةَ عليّ. بلْ قال: إنّ الغُلامَ إذا نَزُرَ ثمَنُهُ. وخفّتْ مؤنُهُ.

تبرّكَ بهِ موْلاهُ. والتَحَفَ عليْهِ هواهُ. وإني لأوثِرُ تحْبيبَ هذا الغُلامِ إليْكَ. بأنْ أخَفِّفَ ثمنَهُ عليْكَ. فزِنْ مائَتَيْ دِرْهَمٍ إن شِيتَ. واشْكرْ لي ما حَييتَ! فنقَدْتُهُ المبلغَ في الحالِ. كما يُنقَدُ في الرّخيصِ الحَلالُ. ولمْ يخطُرْ لي ببالٍ. أنّ كُلّ مُرخَصٍ غالٍ. فلمّا تحقّقَتِ الصّفْقَةُ. وحَقّتِ الفُرقَةُ. همَلَتْ عيْنا الغُلامِ. ولا هُمولَ دمْعِ الغَمامِ. ثمّ أقبلَ على صاحِبِه وقال: لَحاكَ اللهُ هلْ مِثلي يُباعُ ... لكَيْما تشبَعَ الكَرِشُ الجِياعُ وهلْ في شِرْعَةِ الإنْصافِ أني ... أكلَّفُ خُطّةً لا تُستَطاعُ وأنْ أُبْلى برَوْعٍ بعدَ روعٍ ... ومثلي حينَ يُبْلى لا يُراعُ أمَا جرّبْتَني فخَبَرْتَ مني ... نصائِحَ لمْ يُمازِجْها خِداعُ وكمْ أرْصَدْتَني شرَكاً لصَيْدٍ ... فعُدْتُ وفي حَبائِليَ السّباعُ ونُطْتَ بيَ المصاعِبَ فاسْتَقادَتْ ... مُطاوِعَةً وكانَ بها امتِناعُ

وأيُّ كريهَةٍ لم أُبْلِ فيها ... وغُنْمٍ لمْ يكُنْ لي فيهِ باعُ وما أبدَتْ لي الأيامُ جُرْماً ... فيُكشَفَ في مُصارَمَتي القِناعُ ولم تعثُرُ بحمدِ اللهِ مني ... على عيْبٍ يكتَّمُ أو يُذاعُ فأنّى ساغَ عندَك نبْذُ عهدي ... كما نَبَذَتْ بُرايَتَها الصَّناعُ ولِمْ سمَحَتْ قَرونُكَ بامْتِهاني ... وأنْ أُشْرى كما يُشْرى المتاعُ وهلاّ صُنتَ عِرضي عنهُ صوْني ... حَديثَكَ جَدّ بِنا الوداعُ وقلتَ لمنْ يُساوِمُ فيّ هذا ... سَكابِ فما يُعارُ ولا يُباعُ فما أنا دونَ ذاكَ الطِّرْفِ لكِنْ ... طِباعُكَ فوقَها تلْكَ الطّباعُ على أني سأُنشِدُ عندَ بيْعي ... أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا

قال: فلما وعى الشيخُ أبياتَهُ. وعقَلَ مُناغاتَهُ. تنفّسَ الصُعَداءَ. وبكى حتى أبْكى البُعَداءَ. ثمّ قال لي: إني أُحِلّ هذا الغُلامَ محَلّ ولَدي. ولا أميّزُهُ عنْ أفْلاذِ كبِدي. ولوْلا خُلوُّ مُراحي. وخُبُوُّ مِصْباحي. لما درَج عنْ عُشّي. الى أن يُشَيَّعَ نعْشي. وقد رأيْتَ ما نزَلَ به من لوْعَةِ البَينِ. والمؤمِنُ هَينٌ لَينٌ. فهلْ لكَ في تسلِيَةِ قلبِهِ. وتسْرِيَةِ كَربِهِ. بأن تُعاهِدَني على الإقالَةِ فيهِ متى استَقلْتُ. وأنْ لا تستَثْقِلَني إذا ثقّلْتُ؟ ففي الآثارِ المُنتَقاةِ. المَرويّةِ عنِ الثِّقاتِ: مَنْ أقالَ نادِماً بيعَتَهُ. أقالَهُ اللهُ عَثرتَهُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فوعَدْتُهُ وعْداً أبرَزَهُ الحَياءُ. وفي القلْبِ أشياءُ. فاسْتَدْنى حينَئذٍ الغُلامَ إليْهِ. وقبّلَ ما بيْنَ عينَيهِ. وأنشدَ والدّمْعُ يرْفَضُّ من جَفْنَيهِ: خفِّضْ فدَتْكَ النّفسُ ما تُلاقي ... منْ بُرَحاء الوجْدِ والإشْفاقِ فما تطولُ مُدّةُ الفِراقِ ... ولا تَني ركائِبُ التّلاقي

بحُسنِ عوْنِ القادِرِ الخَلاّقِ ثم قال لهُ: أستودِعُكَ منْ هوَ نعْمَ الموْلى. وشمّرَ ذيلَهُ وولّى. فلبِثَ الغُلامُ في زَفيرٍ وعَويلٍ. ريثَما يقطَعُ مدى مِيلٍ. فلما استَفاقَ. وكفْكَفَ دمعَهُ المُهْراق. قال: أتدري لمَ أعوَلْتُ. وعَلامَ عوّلْتُ؟ فقلتُ: أظنّ فِراقَ موْلاكَ. هو الذي أبْكاكَ! فقال: إنّك لَفي وادٍ وأنا في وادٍ. ولكَمْ بينَ مُريدٍ ومُرادٍ. ثمّ أنشدَ: لمْ أبْكِ واللهِ على إلْفٍ نزَحْ ... ولا على فوْتِ نَعيمٍ وفرَحْ وإنّما مَدمَعُ أجْفاني سفَحْ ... على غَبيّ لحْظُهُ حينَ طمَحْ ورّطَهُ حتى نعَنّى وافتَضَحْ ... وضيّعَ المنْقوشَةَ البيضَ الوَضَحْ ويْكَ أمَا ناجَتْكَ هاتِيكَ المُلَحْ ... بأنّني حُرٌّ وبَيْعي لمْ يُبَحْ إذ كان في يوسُفَ معنًى قد وضَحْ قال: فتمثّلْتُ مَقالَهُ في مِرْآةِ المُداعِبِ. ومَعرِضِ المُلاعِبِ.

فتصلَّبَ تصلُّبَ المُحِقّ. وتبرّأ منْ طينَةِ الرّقّ. فجُلْنا في مُخاصَمَةٍ. اتّصَلَتْ بمُلاكَمةٍ. وأفْضَتْ الى مُحاكمَةٍ. فلمّا أوضَحْنا للقاضي الصورَةَ. وتلَوْنا علَيْهِ السّورَةَ. قال: ألا إنّ منْ أنذرَ فقدْ أعْذرَ. ومنْ حذّرَ كمَنْ بشّرَ. ومَنْ بصّرَ فما قصّرَ. وإنّ فيما شرَحتُماهُ لَدَليلاً على أنّ هذا الغُلامَ قد نبّهَكَ فما ارْعَوَيْتَ. ونصَحَ لكَ فما وعَيْتَ. فاستُرْ داءَ بلَهِكَ واكْتُمْهُ. ولُمْ نفْسَكَ ولا تلُمْهُ. وحَذارِ منِ اعتِلاقِهِ. والطّمَعِ في استِرْقاقِهِ. فإنهُ حُرُّ الأديمِ. غيرُ معَرَّضٍ للتّقْويمِ. وقدْ كانَ أبوهُ أحْضَرَهُ أمْسِ. قُبَيْلَ أُفولِ الشّمسِ. واعْترَفَ بأنّهُ فرْعُهُ الذي أنْشاهُ. وأنْ لا وارِثَ لهُ سِواهُ. فقلْتُ للقاضي: أوَتَعْرِفُ أباهُ. أخْزاهُ اللهُ؟ فقال: وهلْ يُجهَلُ أبو زيْدٍ الذي جُرْحُهُ جُبارٌ. وعِندَ كلّ قاضٍ لهُ أخبارٌ وإخْبارٌ؟ فتحرّقْتُ

حينَئذٍ وحوْلَقْتُ. وأفَقْتُ ولكِنْ حينَ فاتَ الوقتُ! وأيقَنْتُ أنّ لِثامَهُ كان شرَكَ مَكيدَتِهِ. وبيْتَ قَصيدَتِهِ. فنَكّسَ طَرْفي ما لَقيتُ. وآلَيْتُ أنْ لا أُعامِلَ مُلَثَّماً ما بَقيتُ. ولمْ أزَلْ أتأوّهُ لخُسْرِ صَفْقَتي. وافتِضاحي بينَ رُفقَتي. فقال ليَ القاضي. حينَ رأى امتِعاضي. وتبيّنَ حَرَّ ارتِماضي: يا هذا ما ذهَبَ منْ مالِكَ ما وعظَكَ. ولا أجْرَمَ إليْكَ مَنْ أيقَظَكَ. فاتّعِظْ بِما نابَكَ. وكاتِمْ أصْحابَكَ ما أصابَكَ. وتذكّرْ أبداً ما دهِمَكَ. لتَقيَ الذّكْرى دراهِمَكَ. وتخلّقْ بخُلْقِ منِ ابتُليَ فصبَرَ. وتجَلّتْ لهُ العِبَرُ فاعْتبَرَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فودّعْتُهُ لابِساً ثوْبَ الخجَلِ والحَزَنِ. ساحِباً ذيْلَي الغَبْنِ والغَبَنِ.

ونوَيْتُ مُكاشَفَةَ أبي زيدٍ بالهَجْرِ. ومُصارَمَتَهُ يدَ الدّهْرِ. فجعَلْتُ أتنَكّبُ عن ذَراهُ. وأتجنّبُ أنْ أراهُ. الى أن غشيَني في طَريقٍ ضيّقٍ. فحيّاني تحيّةَ شَيّقٍ. فما زِدْتُ على أن عبسْتُ. وما نبَسْتُ. فقال: ما بالُكَ سمَخْتَ بأنفِكَ. على إلْفِكَ؟ فقُلْتُ: أنَسيتَ أنّكَ احتلْتَ وختَلْتَ. وفعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فعَلْتَ؟ فأضْرَطَ بي مُتَهازِياً. ثمّ أنشَدَ مُتَلافِياً: يا مَنْ بَدا منهُ صُدو ... دٌ موحِشٌ وتجهُّمُ وغَدا يَريشُ مَلاوِماً ... منْ دونِهِنّ الأسْهُمُ ويقولُ هلْ حُرٌّ يُبا ... عُ كما يُباعُ الأدْهَمُ أقْصِرْ فما أنا فيهِ بِدْ ... عاً مثلَما تتوَهّمُ

قد باعَتِ الأسْباطُ قبْ ... لي يوسُفاً وهُمُ هُمُ هذا وأُقسِمُ بالتي ... يَسْري إلَيْها المُتْهِمُ والطّائِفِينَ بها وهُمْ ... شُعْثُ النّواصي سُهَّمُ ما قُمْتُ ذاكَ الموْقِفَ ال ... مُخْزي وعِنْدي دِرْهَمُ فاعْذِرْ أخاكَ وكُفّ عنْ ... هُ مَلامَ مَنْ لا يَفْهَمُ ثمّ قال: أمّا معْذِرَتي فقدْ لاحَتْ. وأمّا دراهِمُكَ فقَدْ طاحَتْ. فإنْ كانَ اقْشِعْرارُكَ مني. وازْوِرارُكَ عني. لفَرْطِ شفَقَتِكَ. على غُبّرِ نفقَتِكَ. فلسْتُ ممّنْ يلْسَعُ مرّتَينِ. ويوطئُ على جمرَتَينِ. وإنْ كُنتَ طوَيْتَ كشْحَكَ. وأطَعْتَ شُحّكَ. لتَستَنْقِذَ ما علِقَ بأشْراكي. فلْتَبْكِ على عقلِكَ البَواكي. قال الحارثُ بنُ همّامٍ:

المقامة الشيرازية

فاضْطرّني بلَفْظِهِ الخالِبِ. وسِحْرِهِ الغالِبِ. الى أنْ عُدْتُ لهُ صَفيّاً. وبهِ حَفِيّاً. ونبَذْتُ فَعْلَتَهُ ظِهْريّاً. وإنْ كانت شيئاً فَريّاً. المقامة الشّيرازيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: مرَرْتُ في تَطْوافي بشِيرازَ. علي نادٍ يستَوقِفُ المُجْتازَ. ولوْ كان على أوْفازٍ. فلمْ أستَطِعْ تعَدّيهِ. ولا خطَتْ قدَمي في تخَطّيهِ. فعُجْتُ إليْهِ لأسْبُكَ سِرَّ جوهَرِهِ. وأنظُرَ كيفَ ثمَرُهُ من زَهَرِهِ. فإذا أهْلُهُ أفْرادٌ. والعائِجُ إلَيْهِمْ مُفادٌ. وبينَما نحنُ في فُكاهَةٍ أطْرَبَ منَ الأغاريدِ. وأطيَبَ منْ حلَبِ العَناقيدِ. إذِ احتَفّ بِنا ذو طِمْرَينِ. قد كاد يُناهِزُ

العُمْرَينِ. فحيّا بلِسانٍ طَليقٍ. وأبانَ إبانَةَ مِنطيقٍ. ثمّ احتَبى حُبوَةَ المُنتَدينَ. وقال: اللهُمّ اجْعَلْنا منَ المُهتَدينَ. فازْدَراهُ القومُ لطِمْرَيْهِ. ونَسوا أنّ المرءَ بأصغَرَيْهِ. وأخَذوا يتَداعَوْنَ فصْلَ الخِطابِ. ويعْتدّونَ عودَهُ من الأحْطابِ. وهوَ لا يُفيصُ بكلِمَةٍ. ولا يُبينُ عنْ سِمَةٍ. الى أنْ سبَرَ قرائِحَهُمْ. وخبَرَ شائِلَهُمْ وراجِحَهُمْ. فحينَ استخْرَجَ دفائِنَهُمْ. واستَنْثَلَ كنائِنَهُمْ. قال: يا قومُ لوْ علِمْتُمْ أنّ وراء الفِدامِ. صَفْوَ المُدامِ. لَما احتقَرْتُمْ ذا أخْلاقٍ. وقُلتُمْ ما لَهُ منْ خَلاقٍ! ثمّ فجّرَ منْ ينابيعِ الأدَبِ

والنُكَتِ النُّخَبِ. ما جلَبَ بهِ بَدائعَ العجَبِ. واستَوْجَبَ أن يُكتَبَ بذَوْبِ الذّهَبِ. فلمّا خلَبَ كُلَّ خِلْبٍ. وقلَبَ إليْهِ كلَّ قلْبٍ. تحلْحَلَ. ليَرْحَلَ. وتأهّبَ. ليَذْهَبَ. فعلِقَتِ الجماعَةُ بذَيلِهِ. وعاقَتْ مسْرَبَ سيْلِهِ. وقالتْ لهُ: قد أرَيْتَنا وسْمَ قِدْحِكَ. فخبّرْنا عنْ قَيضِكَ ومُحّكَ. فصمَتَ صُموتَ مَنْ أُفحِمَ. ثمّ أعْوَلَ حتى رُحِمَ. قال الراوي: فلما رأيتُ شوْبَ أبي زيدٍ ورَوْبَهُ. وأسلوبَهُ المألوفَ وصَوْبَهُ. تأمّلْتُ الشيخَ على سُهومَةِ مُحَيّاهُ. وسُهوكَةِ ريّاهُ. فإذا هوَ إيّاهُ. فكتَمْتُ سِرّهُ كما يُكتَمُ الداءُ الدّخيلُ. وستَرْتُ مكرَهُ وإنْ لمْ يكُنْ يُخيلُ. حتى إذا نزَعَ عنْ إعْوالِهِ. وقدْ عرَفَ عُثوري على حالِهِ. رمَقَني بعَينِ مِضْحاكٍ. ثمّ طَفِقَ يُنشِدُ بلِسانِ مُتباكٍ:

أستَغْفِرُ اللهَ وأعْنو لهُ ... منْ فرَطاتٍ أثقَلَتْ ظَهْريَهْ يا قوْمُ كمْ منْ عاتِقٍ عانسٍ ... ممدوحَةِ الأوْصافِ في الأنديَهْ قتَلْتُها لا أتّقي وارِثاً ... يطْلُبُ مني قوَداً أو دِيَهْ وكلّما استَذْنَبْتُ في قتْلِها ... أحَلْتُ بالذّنْبِ على الأقْضِيَهْ ولمْ تزَلْ نفسي في غَيّها ... وقتْلِها الأبكارَ مُستَشْرِيَهْ حتى نَهاني الشّيبُ لمّا بَدا ... في مَفْرِقي عنْ تِلكمُ المَعصِيَهْ فلمْ أُرِقْ مُذْ شابَ فَوْدي دماً ... منْ عاتِقٍ يوماً ولا مُصْبِيَهْ وها أنا الآن على ما يُرى ... مني ومِنْ حِرْفَتي المُكدِيَهْ

أرُبُّ بِكْراً طالَ تعْنيسُها ... وحجْبُها حتى عنِ الأهويَهْ وهْيَ على التّعنيسِ مخطوبَةٌ ... كخِطبَةِ الغانِيَةِ المُغْنِيَهْ وليسَ يكْفيني لتَجْهيزِها ... على الرّضى بالدّونِ إلا مِيَهْ واليَدُ لا توكي على دِرْهَمٍ ... والأرضُ قفْرٌ والسّما مُصْحِيَهْ فهلْ مُعينٌ لي على نقلِها ... مصْحوبَةً بالقَيْنَةِ المُلْهِيَهْ فيغْسِلَ الهمّ بصابونِهِ ... والقلْبُ من أفكارِهِ المُضْنِيَهْ ويقْتَني مني الثّناءَ الذي ... تَضُوعُ ريّاهُ معَ الأدْعِيَهْ قال الراوي: فلمْ يبْقَ في الجَماعَةِ إلا منْ ندِيَتْ لهُ كفُّهُ. وانْباعَ إليْهِ عُرْفُهُ.

المقامة الملطية

فلمّا نجَحَتْ بُغيَتُهُ. وكمَلَتْ مِئَتُهُ. أخذَ يُثْني عليْهِمْ بصالِحٍ. ويشمِّرُ عنْ ساقِ سارحٍ. فتَبِعْتُهُ لأستَعْرِفَ رَبيبَةَ خِدْرِهِ. ومنْ قتَلَ في حِدْثانِ أمرِهِ. فكأنّ وشْكَ قِيامي. مثّلَ لهُ مَرامي. فازْدَلَفَ مني. وقال: افْقَهْ عني: قتْلُ مِثلي يا صاحِ مزْجُ المُدامِ ... ليسَ قتْلي بلَهْذَمٍ أو حُسامِ والتي عُنسَتْ هيَ البكرُ بنتُ ال ... كَرْمِ لا البِكْرُ من بَناتِ الكِرامِ ولتَجْهيزِها الى الكاسِ والطّا ... سِ قِيامي الذي تَرى ومُقامي فتَفَهّمْ ما قُلتُهُ وتحَكّمْ ... في التّغاضي إنْ شِئتَ أو في المَلامِ ثمّ قال: أنا عِرْبيدٌ. وأنتَ رِعْديدٌ. وبيْنَنا بوْنٌ بَعيدٌ. ثمّ ودّعَني وانطَلَقَ. وزوّدَني نظرَةً منْ ذي علَقٍ. المقامة المَلْطِيّة

أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أنَخْتُ بمَلْطِيّةَ مطيّةَ البَينِ. وحَقيبَتي ملأى منَ العينِ. فجعَلْتُ هِجّيرايَ. مُذْ ألقَيْتُ بها عصايَ. أن أتورّدَ موارِدَ المرَحِ. وأتصيّدَ شوارِدَ المُلَحِ. فلمْ يَفُتْني بها منظَرٌ ولا مسمَعٌ. ولا خَلا مني ملعَبٌ ولا مرتَعٌ. حتى إذا لمْ يبْقَ لي فيها مأرَبٌ. ولا في الثّواء بها مَرْغَبٌ. عمَدْتُ لإنْفاقِ الذّهبِ. في ابتِياعِ الأُهَبِ. فلمّا أكمَلْتُ الإعْدادَ. وتهيّأ الظّعْنُ منها أو كادَ. رأيتُ تِسعَةَ رهْطٍ قد سبأوا قهوَةً. وارتَبأوا ربْوَةً. ودماثَتُهُمْ قيْدُ الألحاظِ. وفُكاهَتُهُمْ حُلوَةُ الألْفاظِ. فنحَوْتُهُمْ

طلَباً لمُنادَمتِهِمْ. لا لمُدامَتِهِمْ. وشَعَفاً بمُمازَجَتِهِمْ لا بزُجاجَتِهمْ. فلمّا انتظَمْتُ عاشِرَهُمْ. وأضحَيْتُ مُعاشِرَهمْ. ألفَيتُهُمْ أبناءَ عَلاّتٍ. وقَذائِفَ فلَواتٍ. إلا أنّ لُحْمَةَ الأدَبِ. قد ألّفَتْ شمْلَهُمْ أُلفَةَ النّسَبِ. وساوَتْ بينهُم في الرُّتَبِ. حتى لاحوا مثلَ كواكِبِ الجوْزاءِ. وبدَوْا كالجُملَةِ المُتناسِبَةِ الأجْزاءِ. فأبْهَجَني الاهتِداءُ إليْهِمْ. وأحمَدْتُ الطّالِعَ الذي أطلعَني عليْهِمْ. وطفِقْتُ أُفيضُ بقِدْحي معَ قِداحِهِمْ. وأسْتَشْفي برِياحِهِمْ لا بِراحِهِمْ. حتى أدّتْنا شُجونُ المُفاوضَةِ. الى التّحاجي بالمُقايَضَةِ. كقوْلِكَ إذا عنَيْتَ

بهِ الكَراماتِ. ما مثلُ النّوْمُ فاتَ. فأنْشأنا نجْلو السُهَى والقمرَ. ونجْني الشّوْكَ والثّمَرَ. وبيْنا نحنُ ننْشُرُ القَشيبَ والرّثَّ. وننْشُلُ السّمينَ والغَثَّ. وغَلَ عليْنا شيخٌ قد ذهَبَ حِبرُهُ وسِبْرُهُ. وبقِيَ خُبْرُهُ وسَبْرُهُ. فمثَلَ مُثولَ منْ يسمَعُ وينظُرُ. ويلتَقِطُ ما ننْثُرُ. الى أن نُفِضَتِ الأكياسُ. وحصْحَصَ الياسُ. فلمّا رأى إجْبالَ القَرائِحِ. وإكْداءَ الماتِحِ والمائِحِ. جمَعَ أذيالَهُ. وولاّنا قَذالَهُ. وقال: ما كُلّ سوْداء تمْرَةٌ. ولا كلّ صهْباء خمرَةٌ. فاعْتَلَقْنا بهِ

اعتِلاقَ الحِرْباء بالأعْوادِ. وضربْنا دونَ وِجْهَتِهِ بالأسْدادِ. وقلْنا لهُ: إن دَواء الشّقّ أن يُحاصَ. وإلا فالقِصاصَ القِصاصَ. فلا تطمَعْ في أن تجْرَحَ وتطْرَحَ. وتُنهِرَ الفَتْقَ وتسْرَحَ! فلوَى عِنانَهُ راجِعاً. ثم جثَمَ بمَكانِهِ راصِعاً. وقال: أمّا إذا استَثَرْتُموني بالبَحْثِ. فلأحْكُمُ حُكمَ سُلَيْمانَ في الحرْثِ. اعْلَموا يا ذَوي الشّمائِلِ الأدبِيّةِ. والشَّمولِ الذّهبيّةِ. أنّ وضْعَ الأُحجِيّةِ. لامتِحانِ الألمَعيّةِ. واستِخْراجِ الخَبيّةِ الخفيّةِ. وشرْطُها أنْ تكونَ ذاتَ مماثلَةٍ حَقيقيّةٍ. وألْفاظٍ معْنَويّةٍ. ولَطيفَةٍ أدَبيّةٍ. فمتى نافَتْ هذا النّمَطَ. ضاهَتِ

السّقَطَ. ولمْ تدْخُلِ السّفَطَ. ولم أرَكُمْ حافَظتُمْ على هذهِ الحُدودِ. ولا مِزْتُمْ بينَ المقبولِ والمرْدودِ. فقُلْنا لهُ: صدَقْتَ. وبالحقّ نطَقْتَ. فكِلْ لَنا منْ لُبابِكَ. وأفِضْ عليْنا منْ عُبابِكَ. فقال: أفْعَلُ لئلاّ يرْتابَ المُبطِلونَ. ويظنّوا بيَ الظّنونَ. ثمّ قابلَ ناظُورَةَ القومِ وقال: يا مَنْ سَما بذَكاءٍ ... في الفضلِ واري الزِّنادِ ماذا يُماثِلُ قولي ... جوعٌ أُمِدّ بزادِ ثمّ ضحِكَ الى الثّاني وأنشدَ: يا ذا الذي فاقَ فضْلاً ... ولمْ يُدَنّسْهُ شَينُ ما مثلُ قوْلِ المُحاجي ... ظهْرٌ أصابَتْهُ عينُ ثمّ لحَظَ الثّالِثَ وأنشأ يقول: يا مَنْ نتائِجُ فكرِهِ ... مثلُ النّقودِ الجائِزَهْ ما مثلُ قولِكَ للّذي ... حاجَيْتَ صادَفَ جائِزَهْ ثمّ أتلَعَ الى الرّابِعِ وقال:

أيا مُستَنْبِطَ الغام ... ضِ منْ لُغْزٍ وإضْمارِ ألا اكْشِفْ ليَ ما مثلُ ... تناوَلْ ألفَ دينارِ ثمّ رَمى الخامِسَ ببصرِه وقال: يا أيّهَذا الألْمَع ... يّ أخو الذّكاء المُنجَلي ما مثلُ أهْمَلَ حِليَةً ... بيِّنْ هُديتَ وعجِّلِ ثمّ التفَت لفْتَ السّادِسِ وقال: يا مَنْ تقصّرُ عن مَدا ... هُ خُطى مُجارِيهِ وتضْعُفْ ما مثلُ قولِكَ للّذي ... أضْحى يحاجيكَ اكفُفِ اكفُفْ ثمّ خلجَ السابعَ بحاجِبِه وقال: يا منْ لهُ فِطنَةٌ تجلّتْ ... ورُتبَةٌ في الذّكاء جلّتْ بيّنْ فما زِلْتَ ذا بَيانٍ ... ما مثلُ قولي الشَقيقُ أفلَتْ ثم استنْصَتَ الثّامِنَ وأنشدَ: يا مَنْ حدائِقُ فضلِهِ ... مطلولَةُ الأزهارِ غضّهْ

ما مثلُ قولِكَ للمُحا ... جي ذي الحِجى ما اختارَ فِضّهْ ثمّ حدجَ التاسِعَ ببصرِهِ وقال: يا منْ يُشارُ إليهِ في ال ... قلبِ الذّكيّ وفي البَراعَهْ أوضِحْ لنا ما مثلُ قوْ ... لِكَ للمُحاجي دُسْ جماعَهْ قال الراوي: فلما انتهى إليّ. هزّ مَنكِبَيّ. وقال: يا منْ لهُ النُّكَتُ التي ... يُشجي الخُصومَ بها وينكُتْ أنتَ المُبينُ فقُلْ لنا ... ما مثلُ قوْلي خاليَ اسكُتْ ثم قال: قد أنْهلْتُكُمْ وأمهَلتُكُمْ. وإنْ شِئْتُمْ أنْ أعُلّكُمْ علّلتُكُمْ. قال: فألْجأنا لهَبُ الغُلَلِ. الى استِسقاء العَلَلِ. فقال: لستُ كمَنْ يستأثِرُ على نَديمِهِ. ولا ممّنْ سمْنُهُ في أديمِه. ثمّ كرّ على الأوّلِ وقال: يا منْ إذا أشكلَ المُعَمّى ... جلَتْهُ أفكارهُ الدّقيقَهْ

إنْ قال يوماً لكَ المُحاجي ... خذْ تلكَ ما مِثلُهُ حَقيقَهْ ثم ثَنى جيدَهُ الى الثّاني وقال: يا منْ بَدا بيانُهُ ... عنْ فضلِهِ مُبيِّنا ماذا مثالُ قولِهِمْ ... حِمارُ وحْشٍ زُيّنا ثم أوحى الى الثالثِ بلحْظِهِ وقال: يا منْ غدا في فضلِهِ ... وذكائِهِ كالأصْمَعي ما مثلُ قولِكَ للذي ... حاجاكَ أنْفِقْ تقمَعِ ثمّ حملَقَ الى الرّابعِ وأنشدَ: يا منْ إذا ما عَويصٌ ... دجا أنارَ ظلامَهْ ماذا يُماثِلُ قوْلي ... إسْتَنْشِ ريحَ مُدامَهْ ثمّ أومضَ الى الخامِسِ وقال:

يا مَنْ تنزّهَ فَهمُهُ ... عنْ أن يرَوّي أو يَشُكّا ما مثلُ قولِكَ للذي ... أضْحى يُحاجي غطِّ هَلكى ثمّ أقبلَ قِبَلَ السادِسِ وأنشدَ: يا أخا الفِطنَةِ التي ... بانَ فيها كمالُهُ سارَ باللّيلِ مُدّةً ... أيُّ شيءٍ مثالُهُ ثم نَحا بصرَهُ الى السابِعِ وقال: يا منْ تحلّى بفَهْمٍ ... أقامَ في الناسِ سوقَهْ لكَ البَيانُ فبيّنْ ... ما مثلُ أحْبِبْ فَروقَهْ ثم قصدَ قصْدَ الثامنِ وأنشدَ: يا منْ تبوّأ ذِروَةً ... في المجدِ فاقتْ كلَّ ذرْوَهْ ما مثلُ قولِكَ أعطِ إذْ ... ريقاً يلوحُ بغيرِ عُروَهْ ثم ابتسمَ الى التّاسِعِ وقال: يا مَنْ حوَى حُسنَ الدّرا ... يَةِ والبَيانِ بغيرِ شكِّ

ما مثلُ قولِكَ للمُحا ... جي ذي الذّكاء الثّورُ مِلكي ثم قبَضَ بجُمْعِهِ على رُدْني وقال: يا مَنْ سَما بثُقوبِ فِطنَتِهِ ... في المُشكلاتِ ونورِ كوْكبهِ ماذا مِثالُ صَفيرُ جَحفَلةٍ ... بيّنْهُ تِبْياناً ينمّ بهِ قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أطرَبَنا بما سمِعْناهُ. وطالَبَنا مُكاشَفَةَ معْناهُ. قُلنا لهُ: لسْنا منْ خيلِ هذا المَيدانِ. ولا لَنا بحَلّ هذِه العُقَدِ يَدانِ. فإنْ أبَنْتَ. مننْتَ. وإنْ كتَمْتَ. غممْتَ. فظَلّ يُشاوِرُ نفسَيْهِ. ويُقلّبُ قِدْحَيْهِ. حتى هانَ بذْلُ الماعونِ عليْهِ. فأقبَلَ حينئذٍ على الجَماعةِ. وقال: يا أّلَ البَلاغَةِ والبَراعَةِ. سأعلّمُكُمْ ما لمْ تكونوا

تعْلَمونَ. ولا ظننْتُمْ أنّكُمْ تُعلَّمونَ. فأوْكوا عليْهِ الأوعِيَةَ. وروِّضوا بهِ الأنديَةَ. ثمّ أخذَ في تفسيرٍ صقلَ به الأذْهانَ. واستفْرَغ معهُ الأرْذانَ. حتى آضَتِ الأفْهامُ أنْوَرَ منَ الشّمسِ. والأكْمامُ كأنْ لمْ تغْنَ بالأمسِ. ولمّا همّ بالمَفرّ. سُئِلَ عنِ المَقَرّ. فتنفّسَ كم تتنفّسُ الثَّكولُ. وأنشأ يقولُ: كلُّ شِعْبٍ ليَ شِعْبُ ... وبهِ رَبْعيَ رحْبُ غيرَ أنّي بسَروجٍ ... مُستَهامُ القلْبِ صَبّ هيَ أرضي البِكرُ والج ... وُّ الذي فيهِ المَهَبّ والى روضَتِها الغنّا ... ء دونَ الرّوضِ أصْبو ما حَلا لي بعْدَها حُلْ ... وٌ ولا اعْذَوْذَبَ عذْبُ قال الراوي: فقلْتُ لأصحابي هذا أبو زيدٍ السَّروجيّ. الذي أدْنى مُلَحِهِ الأحاجيّ. وأخذْتُ أصِفُ لهُمْ حُسنَ توشيَتِهِ. وانقِيادَ الكَلامِ

تفسير الأحاجي المودعة هذه المقامة

لمشيّتِهِ. ثمّ التفَتُّ فإذا بهِ قدْ طمَرَ. وناءَ بما قمَرَ. فعجِبْنا ممّا صنَعَ إذْ وقَعَ. ولمْ ندْرِ أيْنَ سكَعَ وصَقَعَ. تفسير الأحاجي المودعة هذه المقامة أما جوع أمدّ بزاد. فمثله طوامير. وأما ظَهر إصابته عَين، فمثله مطاعين. وأما صادف جائزة، فمثله الفاصلة. وأما تناول ألف دينار، فمثله هادية. وأما أهمل حلية، فمثله الغاشية. وأما اكفف اكفف، فمثله مهمه. وأما الشقيق افلت، فمثله أخطار. وأما ما اختار فضة. فمثله أبارقة، لأن الرقة من أسماء الفضة وقد نطق بها النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال في الرقة ربع العشر. وأما دس جماعة، فمثله طافية. وأما خالي اسكت، فمثله خالصة، لأنك إذا ناديت مضافاً الى نفسك جاز لك حذف الياء وإثباتها ساكنة ومتحرّكة، وقد حذف ههنا حرف النداء كما حذفه في أصل الأحجية، وصه بمعنى اسكت. وأما خذ تلك، فمثله هاتيك، وأما حمار وحش زينا، فمثله فرازين،

المقامة الصعدية

لأن الفرا حمار الوحش، ومنه الحديث: كل الصيد في جوف الفرا. وأما قوله انفق تقمع، فمثله منتقم، لأن الأمر من مان يمون مُنْ. ومضارع وقمت تقِم. وأما استنش ريح مدامة، فمثله رحراح، لأن الأمر من استدعاء الرائحة رح. وأما غطِّ هلكى، فمثله صُنبور، لأن البور هم الهلكى، وفي القرآن: وكنتم قوماً بوراً. وأما سار بالليل مدة، فمثله سراحين. وأما احبب فروقة، فمثله مقلاع، لأن الأمر من ومق يمق مق، واللاع الجبان، يقال فلان هاع لاع إذا كان جباناً جزعاً. وأما اعطِ إبريقاً يلوح بغير عروة، فمثله اسكوب، لأن الأوس الإعطاء والأمر اس، والكوب الإبريق بغير عروة، وأما الثور ملكي، فمثله اللآلي، لأن اللأى على وزن القنا هو ثور الوحش. وأما صفير جحفلة، فمثله مكاشفة، لأن المكاء الصفير. قال الله تعالى: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية؛ والأصل في المكاء المد ولكنه قصره في هذه الأحجية كما حذف همزة الفراء في أحجيته. وكلا الأمرين من قصر الممدود وحذف همزة المهموز جائز. المقامة الصَّعْديّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أصْعَدْتُ الى صَعْدَةَ. وأنا ذو

شَطاطٍ يحْكي الصّعْدَةَ. واشتِدادٍ يبدُرُ بناتِ صَعدةَ. فلمّا رأيتُ نَضرتَها. ورعَيْتُ خُضرتَها. سألتُ نَحاريرَ الرّواةِ. عمّنْ تحْويهِ منَ السَّراةِ. ومعادِنِ الخيْراتِ. لأتّخِذَهُ جَذْوَةً في الظُلُماتِ. ونَجدَةً في الظُّلاماتِ. فنُعِتَ لي قاضٍ بها رحيبُ الباعِ. خَصيبُ الرِّباعِ. تَميميُّ النّسَبِ والطّباعِ. فلمْ أزَلْ أتقرَّبُ إليْهِ بالإلْمامِ. وأتَنَفّقُ عليهِ بالإجْمامِ. حتى صِرْتُ صَدى صَوْتِهِ. وسَلْمانَ بيتِهِ. وكنتُ معَ اشْتِيارِ شَهْدِهِ. وانتِشاقِ

رَنْدِهِ. أشْهَدُ مَشاجِرَ الخُصومِ. وأسفِرُ بينَ المَعصومِ منهُمْ والموْصومِ. فبَينَما القاضي جالِسٌ للإسْجالِ. في يومِ المحْفِلِ والاحتِفالِ. إذ دخَلَ شيخٌ بالي الرّياشِ. بادِي الارتِعاشِ. فتبصّرَ الحفْلَ تبصُّرَ نقّادٍ. ثم زعَمَ أنّ لهُ خصْماً غيرَ مُنقادٍ. فلمْ يكُنْ إلا كضَوْء شَرارَةٍ. أو وحْيِ إشارٍَ. حتى أُحضِرَ غُلامٌ. كأنّهُ ضِرْغامٌ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. وعصَمَهُ منَ التّغاضي. إنّ ابْني هذا كالقَلَمِ الرّديّ. والسيفِ الصّدِيّ. يجهَلُ أوْصافَ الإنصافِ. ويرْضَعُ أخلافَ الخِلافِ. إنْ أقدَمتُ أحجَمَ. وإذا أعرَبْتُ أعجَمَ. وإنْ أذْكَيْتُ أخْمَدَ. ومتى شوَيتُ رمّدَ. معَ أنّي كفَلْتُهُ مُذْ

دَبّ. الى أن شبّ. وكنتُ لهُ ألْطَفَ مَنْ ربّى ورَبَّ. فأكْبَرَ القاضي ما شَكا إليْهِ. وأطْرَفَ بهِ منْ حَوالَيْهِ. ثمّ قال: أشْهَدُ أنّ العُقوقَ أحدُ الثُّكْلَينِ. ولَرُبّ عُقْمٍ أقَرُّ للعَينِ. فقالَ الغُلامُ. وقد أمعَضَهُ هذا الكلامُ: والذي نصَبَ القُضاةَ للعدْلِ. وملّكَهُمْ أعِنّةَ الفضْلِ والفَصْلِ. إنّه ما دَعا قَطُّ إلا أمّنْتُ. ولا ادّعى إلا آمَنْتُ. ولا لَبّى إلا أحْرَمْتُ. ولا أوْرَى إلا أضْرَمْتُ. بيْدَ أنهُ كمَنْ يبْغي بيْضَ الأنُوقِ. ويطْلُبُ الطّيَرانَ منَ النّوقِ! فقالَ لهُ القاضي: وبِمَ أعْنَتَكَ. وامتَحَنَ طاعتَكَ؟ قال: إنهُ مُذْ صَفِرَ منَ المالِ. ومُنِيَ بالإمْحالِ. يسومُني أنْ أتلَمّظَ بالسّؤالِ. وأستَمْطِرَ سُحْبَ

النّوالِ. ليَفيضَ شِربُهُ الذي غاضَ. وينْجَبرَ منْ حالِهِ ما انْهاضَ. وقد كانَ حينَ أخذَني بالدّرْسِ. وعلّمَني أدَبَ النّفْسِ. أشْرَبَ قلْبي أنّ الحِرْصَ مَتعَبَةٌ. والطّمَعَ معْتَبَةٌ. والشَّرَهُ مَتْخَمَةٌ. والمسألَةَ مَلأمَةٌ. ثمّ أنشدَني منْ فلْقِ فيهِ. ونحْتِ قَوافيهِ: إرْضَ بأدنى العيشِ واشْكُرْ عليْهِ ... شُكْرَ منِ القُلُّ كثيرٌ لدَيْهْ وجانِبِ الحِرصَ الذي لم يزَلْ ... يحُطُّ قدْرَ المُتَراقي إلَيْهْ وحامِ عنْ عِرضِكَ واستَبْقِهِ ... كما يُحامي اللّيْثُ عنْ لِبْدتَيْهْ واصْبِرْ على ما نابَ منْ فاقَةٍ ... صبْرَ أولي العزْمِ وأغمِضْ عليْهْ ولا تُرِقْ ماء المُحَيّا ولوْ ... خوّلَكَ المسْؤولُ ما في يدَيْهْ فالحُرُّ مَنْ إنْ قَذيَتْ عينُهُ ... أخْفى قَذى جَفنَيْهِ عن ناظِرَيْهْ ومَنْ إذا أخْلَقَ ديباجُهُ ... لمْ يرَ أنْ يُخْلِقَ ديباجَتَيْهْ

قال: فعبَسَ الشيخُ واكفهَرّ. وانْدرَأ على ابنِهِ وهرّّ. وقال لهُ: صَهْ يا عُقَقُ. يا مَنْ هوَ الشّجَى والشَّرَقُ! ويْكَ أتُعَلّمُ أمّكَ البِضاعَ. وظِئْرَكَ الإرْضاعَ؟ لقدْ تحكّكَتِ العقْرَبُ بالأفعى. واستَنّتِ الفِصالُ حتى القَرْعى! ثمّ كأنّهُ ندِمَ على ما فرَطَ منْ فيهِ. وحدَتْهُ المِقَةُ على تَلافِيهِ. فرَنا إلَيْهِ بعينِ عاطِفٍ. وخفضَ لهُ جناحَ مُلاطِفٍ. وقال لهُ: ويْكَ يا بُنيّ إنّ مَنْ أُمِرَ بالقَناعَةِ. وزُجِرَ عنِ الضّراعَةِ. هُمْ أرْبابُ البِضاعَةِ. وأولُو المَكسَبَةِ بالصّناعَةِ. فأمّا ذَوو الضّروراتِ. فقدِ استُثْنيَ بهِمْ في المَحْظوراتِ. وهبْكَ جهِلْتُ هذا التّأويلَ. ولمْ يبلُغْكَ ما قيلَ. ألسْتَ الذي عارَضَ

أباهُ. في ما قالَ وما حاباهُ: لا تقْعُدَنّ على ضُرٍّ ومسْغَبَةٍ ... لكيْ يُقالَ عزيزُ النّفسِ مُصطَبِرُ وانظُرْ بعينِكَ هل أرضٌ مُعطّلةٌ ... منَ النّباتِ كأرضٍ حفّها الشّجَرُ فعَدِّ عمّا تُشيرُ الأغْبِياءُ بهِ ... فأيُّ فضْلٍ لعودٍ ما لهُ ثمَرُ وارْحَلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به ... الى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ واستَنزِلِ الرّيَّ من دَرّ السّحابِ فإنْ ... بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الظّفَرُ وإنْ رُدِدتَ فما في الرّدّ مَنقَصَةٌ ... عليكَ قد رُدّ موسى قبلُ والخَضِرُ قال: فلما أنْ رأى القاضي تَنافيَ قولِ الفتى وفِعلِهِ. وتحلّيَهُ بما ليسَ منْ

أهلِهِ. نظَرَ إليْهِ بعَينٍ غَضْبى. وقال: أتَميميّاً مرّةً وقَيسِيّاً أخرى؟ أُفٍّ لمَنْ ينقُضُ ما يَقولُ. ويتلوّنُ كما تتلوّنُ الغولُ! فقال الغُلامُ: والذي جعلَكَ مِفْتاحاً للحَقّ. وفتّاحاً بينَ الخَلْقِ. لقدْ أُنسيتُ مُذْ أسِيتُ. وصَدِئ ذِهْني مُذْ صَديتُ. على أنّهُ أينَ البابُ الفُتُحُ. والعَطاءُ السُّرُحُ؟ وهلْ بقيَ منْ يتبرّعُ باللُّهى. وإذا استُطْعِمَ يقولُ ها؟ فقالَ لهُ القاضي: مَهْ! فمَعَ الخَواطئ سهْمٌ صائِبٌ. وما كُلُّ برْقٍ خالِبٌ. فميّزِ البُروقَ إذا شِمْتَ. ولا تشْهَدْ إلا بما علِمْتَ.

فلمّا تبيّنَ للشّيخِ أنّ القاضيَ قدْ غضِبَ للكِرامِ. وأعْظَمَ تبْخيلَ جميعِ الأنامِ. علِمَ أنّهُ سينصُرُ كلِمَتَهُ. ويُظهِرُ أُكرومَتَهُ. فما كذّبَ أنْ نصَبَ شبكَتَهُ. وشوَى في الحَريقِ سمكَتَهُ. وأنْشأ يقول: يا أيّها القاضي الذي عِلمُهُ ... وحِلمُهُ أرسَخُ منْ رَضْوَى قدِ ادّعى هَذا على جهلِهِ ... أنْ ليسَ في الدُنيا أخو جَدوى وما دَرَى أنكَ منْ معشَرٍ ... عطاؤهُمْ كالمَنِّ والسّلْوى فجُدْ بِم يَثْنيهِ مُستَخزِياً ... مما افتَرى من كذِبِ الدّعوى وأنثَني جَذْلانَ أُثْني بما ... أولَيتَ من جَدوى ومن عَدوى قال: فهَشّ القاضي لقولِهِ. وأجزَلَ لهُ منْ طولِهِ. ثمّ لفتَ وجهَهُ الى الغُلامِ. وقد نصَلَ لهُ أسهُمَ المَلامِ. وقال لهُ: أرأيْتَ

بُطْلَ زعْمِكَ. وخطَأَ وهْمِكَ؟ فلا تَعجَلْ بعدَها بذَمّ. ولا تنْحَتْ عوداً قبلَ عجْمٍ. وإيّاكَ وتأبّيكَ. عن مُطاوَعَةِ أبيكَ! فإنّكَ إنْ عُدتَ تعُقُّهُ. حاقَ بكَ مني ما تستحِقُّهُ. فسُقِطَ الفَتى في يدِهِ. ولاذَ بحِقْوِ والِدِهِ. ثمّ نهضَ يُحفِدُ. وتبِعَهُ الشيخُ يُنشدُ: منْ ضامَهُ أو ضارَهُ دهرُهُ ... فلْيَقْصِدِ القاضيَ في صَعْدَهْ سمَاحُهُ أزْرى بمَنْ قبلَهُ ... وعدْلُهُ أتْعَبَ مَنْ بعْدَهْ قال الرّاوي: فحِرْتُ بينَ تعْريفِ الشيخِ وتنْكيرِهِ. الى أنِ احْرَورَفَ لمَسيرِهِ. فناجَيْتُ النّفْسَ باتّباعِهِ. ولوْ الى رِباعِهِ. لعَلّي أظهَرُ على أسرارِهِ. وأعْرِفُ شجرَةَ نارِهِ. فنبَذْتُ العُلَقَ. وانطلَقْتُ حيثُ انطلَقَ. ولم يزَلْ يخْطو وأعْتَقِبُ. ويبْعُدُ وأقتَرِبُ. الى أن تَراءى

المقامة المروية

الشّخْصانِ. وحقّ التّعارُفُ على الخُلْصانِ. فأبْدى حينَئِذٍ الاهْتِشاشَ. ورفَعَ الارتِعاشَ. وقال: منْ كاذَبَ أخاهُ فلا عاشَ! فعرَفْتُ عندَ ذلِكَ أنهُ السَّروجيُّ بِلا مَحالَةٍ. ولا حُؤولِ حالَةٍ. فأسرَعْتُ إليْهِ لأصافِحَهُ. وأستَعْرِفَ سانِحَهُ وبارِحَهُ. فقال: دونَكَ ابنَ أخيكَ البَرَّ. وترَكَني ومَرَّ. فلمْ يعْدُ الفتَى أنِ افْتَرّ. ثمّ فَرّ كما فَرّ. فعُدْتُ وقد استَبَنْتُ عينَهُما. ولكِنْ أينَ هُما. المقامة المَرْوِيَّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: حُبّبَ إليّ مُذْ سعَتْ قدَمي. ونفَثَ قلَمي. أنْ أتّخِذَ الأدَبَ شِرْعَةً. والاقتِباسَ منهُ نُجْعَةً. فكُنتُ

أنَقّبُ عنْ أخبارِهِ. وخزَنَةِ أسْرارِهِ. فإذا ألْفَيْتُ منهُمْ بُغيَةَ الملتَمِسِ. وجُذْوَةَ المُقتَبِسِ. شدَدْتُ يَدي بغَرْزِهِ. واستَنزَلْتُ منهُ زَكاةَ كنزِهِ. على أنّي لمْ ألْقَ كالسَّروجيّ في غَزارَةِ السُّحْبِ. ووضْعِ الهِناء مَواضِعَ النُّقْبِ. إلا أنهُ كانَ أسْيَرَ منَ المثَلِ. وأسرَعَ منَ القمَرِ في النُّقَلِ. وكنتُ لهَوى مُلاقاتِهِ. واستِحْسانِ مَقاماتِهِ. أرْغَبُ في الاغتِرابِ. وأستَعْذِبُ السّفَرَ الذي هوَ قِطعَةٌ من العَذابِ. فلمّا تطوّحْتُ الى مرْوَ. ولا غَرْوَ. بشّرَني بمَلقاهُ زجْرُ الطّيرِ.

والفألُ الذي هوَ بَريدُ الخيرِ. فلمْ أزَلْ أنشُدُهُ في المحافِلِ. وعندَ تلَقّي القَوافِلِ. فلا أجِدُ عنْهُ مُخبِراً. ولا أرى لهُ أثَراً ولا عِثْيَراً. حتى غلَبَ اليأسُ الطّمَعَ. وانْزَوى التّأميلُ وانْقمَعَ. فإني لَذاتَ يومٍ بحضْرَةِ والي مرْوَ. وكانَ ممّنْ جمَعَ الفضْلَ والسَّرْوَ. إذ طلَعَ أبو زيْدٍ في خلَقٍ مِمْلاقٍ. وخُلُقٍ مَلاّقٍ. فحَيّا تحيّةَ المُحْتاجِ. إذا لقِيَ ربَّ التّاجِ. ثمّ قالَ لهُ: اعْلَمْ وُقيتَ الذّمّ. وكُفيتَ الهَمّ. أنّ مَنْ عُذِقَتْ بهِ الأعْمالُ. أُعْلِقَتْ بهِ الأمالُ. ومَنْ رُفِعَتْ لهُ الدّرَجاتُ. رُفِعَتْ إليْهِ الحاجاتُ. وأنّ السّعيدَ منْ إذا قدَرَ. وواتاهُ القدَرُ. أدّى زكاةَ النِّعَمِ. كما يؤدّي زكاةَ النَّعَمِ. والتزَمَ لأهْلِ الحُرَمِ.

ما يُلتزَمُ للأهْلِ والحرَمِ. وقد أصبحْتَ بحمدِ اللهِ عَميدَ مِصرِكَ. وعِمادَ عصْرِكَ. تُزْجى الرّكائِبُ الى حرَمِكَ. وتُرْجى الرّغائِبُ منْ كرَمِكَ. وتُنزَلُ المَطالِبُ بساحَتِكَ. وتُستَنْزَلُ الرّاحةُ منْ راحَتِكَ. وكان فضلُ اللهِ عليْكَ عظيماً. وإحْسانُهُ لديْكَ عَميماً. ثمّ إني شيخٌ ترِبَ بعْدَ الإتْرابِ. وعدِمَ الإعْشابَ حينَ شابَ. قصَدْتُكَ منْ محَلّةٍ نازِحَةٍ. وحالَةٍ رازِحَةٍ. آمُلُ منْ بحرِكَ دُفعَةً. ومنْ جاهِكَ رِفعَةً. والتّأميلُ أفضَلُ وسائِلِ السائِلِ. ونائِلِ النّائِلِ. فأوْجِبْ لي ما يجِبُ عليْكَ. وأحسِنْ كما أحْسَنَ اللهُ إليْكَ. وإيّاكَ أن تلْويَ عِذارَكَ. عمَّنِ ازْدَراكَ. وأمَّ دارَكَ. أو

تقبِضَ راحَكَ. عمّنِ امْتاحَكَ. وامْتارَ سَماحَكَ. فوَاللهِ ما مجَدَ مَنْ جمَدَ. ولا رشَدَ منْ حشَدَ. بلِ اللّبيبُ مَنْ إذا وجَدَ جادَ. وإنْ بَدأ بعائِدَةٍ عادَ. والكَريمُ منْ إذا استُوهِبَ الذّهَبَ. لمْ يهَبْ أنْ يهَبَ. ثمّ أمْسَكَ يرْقُبُ أُكُلَ غرْسِهِ. ويرْصُدُ مطيبَةَ نفْسِهِ. وأحَبَّ الوالي أنْ يعْلَمَ هلْ نُطفَتُهُ ثمَدٌ. أم لقَريحَتِهِ مدَدٌ. فأطْرَقَ يرَوّي في استيراء زَنْدِهِ. واستِشْفافِ فِرِنْدِهِ. والتَبَسَ على أبي زيدٍ سِرُّ صَمْتَتِهِ. وإرْجاءِ صِلَتِهِ. فتوَغّرَ

غضَباً. وأنْشَدَ مُقتَضِباً: لا تحقِرَنّ أبيْتَ اللّعنَ ذا أدبٍ ... لأنْ بَدا خلَقَ السّرْبالِ سُروتا ولا تُضِعْ لأخي التّأميلِ حُرمتَهُ ... أكانَ ذا لسَنٍ أم كان سِكّيتا وانفَحْ بعُرْفِكَ منْ وافاكَ مختَبطاً ... وانعَشْ بغَوْثِكَ من ألفيتَ مَنكوتا فخَيرُ مالِ الفتى مالٌ أشادَ لهُ ... ذِكْراً تناقَلَهُ الرُكبانُ أو صِيتا وما على المُشتَري حمْداً بمَوْهِبَةٍ ... غبنٌ ولوْ كان ما أعْطاهُ ياقوتا

لوْلا المُروءةُ ضاقَ العُذْرُ عن فَطِنٍ ... إذا اشْرأبّ الى ما جاوَزَ القوتا لكنّهُ لابْتِناء المجْدِ جدّ ومِنْ ... حُبّ السّماحِ ثنَى نحوَ العُلى لِيتا وما تنشّقَ نشْرَ الشّكْرِ ذو كرَمٍ ... إلا وأزْرى بنَشرِ المِسكِ مَفتوتا والحمدُ والبخلُ لم يُقضَ اجتماعهما ... حتى لقَدْ خيلَ ذا ضَبّاً وذا حوتَا والسّمحُ في الناسِ محبوبٌ خلائِقُهُ ... والجامدُ الكفّ ما ينْفَكّ ممْقوتا

وللشّحيحِ على أمْوالِهِ علَلٌ ... يوسِعْنَهُ أبَداً ذمّاً وتبْكيتا فجُدْ بما جمَعتْ كفّاكَ من نشَبٍ ... حتى يُرَى مُجْتَدي جَدواكَ مَبهوتا وخُذْ نصيبَكَ منهُ قبلَ رائِعَةٍ ... من الزّمانِ تُريكَ العودَ منحوتا فالدّهْرُ أنكَدُ من أن تستَمرّ بهِ ... حالٌ تكرّهْتَ تلكَ الحالَ أم شيتا فقال لهُ الوالي: تاللهِ لقدْ أحسَنْتَ. فأيُّ ولَدِ الرّجُلِ أنتَ؟ فنظَرَ إليْهِ عنْ عُرْضٍ. وأنشَدَ وهُوَ مُغْضٍ:

لا تسْألِ المرْءَ مَنْ أبوهُ ورُزْ ... خلالَهُ ثمّ صِلْهُ أو فاصْرِمِ فما يَشينُ السُّلافَ حينَ حَلا ... مَذاقُها كونُها ابنَةَ الحِصْرِمِ قال: فقرّبَهُ الوالي لبَيانِهِ الفاتِنِ. حتى أحلّهُ مقْعَدَ الخاتِنِ. ثمّ فرَضَ له من سُيوبِ نيْلِهِ. ما آذنَ بطولِ ذَيلِهِ. وقِصَرِ لَيلِهِ. فنهَضَ عنْهُ برُدْنٍ مَلآنَ. وقلْبٍ جذْلانَ. وتبِعْتُهُ حاذِياً حَذْوَهُ. وقافِياً خَطْوَهُ. حتى إذا خرَجَ منْ بابِهِ. وفصَلَ عنْ غابِهِ. قُلتُ لهُ: هُنّئْتَ بِما أوتيتَ. ومُلّيتَ بِما أُوليتَ! فأسْفَرَ وجهُهُ وتَلالا. ووالى شُكْراً للهِ تَعالى. ثمّ خطَرَ اخْتِيالاً. وأنشدَ ارتِجالاً: منْ يكُنْ نالَ بالحَماقَةِ حَظّاً ... أو سَما قدرُهُ لِطيبِ الأصولِ

المقامة العمانية

فبِفَضْلي انتَفَعْتُ لا بفُضولي ... وبقَوْلي ارتفَعْتُ لا بقُيولي ثم قال: تَعْساً لمَنْ جدَبَ الأدَبَ. وطوبى لمَنْ جدّ فيهِ ودأبَ! ثمّ ودّعَني وذهَبَ. وأوْدَعَني اللَّهَبَ. المقامة العُمانيّة حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: لهِجْتُ مُذْ اخْضَرّ إزاري. وبَقَلَ عِذاري. بأنْ أجوبَ البَراري. وعلى ظُهورِ المَهاري. أُنْجِدُ طَوْراً. وأسْلُكُ تارَةً غوْراً. حتى فلَيْتُ المَعالِمَ والمجاهِلَ. وبلَوْتُ المنازِلَ والمَناهِلَ. وأدْمَيْتُ السّنابِكَ والمَناسِمَ.

وأنْضَيْتُ السّوابِقَ والرّواسِمَ. فلمّا ملِلْتُ الإصْحارَ. وقد سنَحَ لي أرَبٌ بصُحارَ. مِلْتُ الى اجْتيازِ التّيارِ. واختِيارِ الفُلْكِ السّيّارِ. فنقَلْتُ إليْهِ أساوِدي. واستَصْحَبْتُ زادي ومَزاوِدي. ثمّ ركِبْتُ فيهِ رُكوبَ حاذِرٍ ناذِرٍ. عاذِلٍ لنفْسِهِ عاذِرٍ. فلمّا شرَعْنا في القُلْعَةِ. ورفَعْنا الشُّرُعَ للسّرعَةِ. سمِعْنا منْ شاطئ المَرْسى. حينَ دَجا الليلُ وأغْسى. هاتِفاً يقول: يا أهْلَ ذا الفُلْكِ القَويمِ. المُزجّى في البحرِ العَظيمِ. بتقْديرِ العَزيزِ العليمِ. هل أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنجيكُمْ منْ عذابٍ أليمٍ؟ فقُلْنا لهُ: أقْبِسْنا نارَك أيها الدّليلُ. وأرشِدْنا كما يُرشِدُ الخَليلُ الخَليلَ. فقال: أتستَصْحِبونَ

ابنَ سبيلٍ. زادُهُ في زَبيلٍ. وظِلّهُ غيرُ ثَقيلٍ. وما يَبغي سوى مَقيلٍ؟ فأجْمعْنا على الجُنوحِ إليْهِ. وأنْ لا نبْخَلَ بالماعونِ عليْهِ. فلمّا اسْتَوى على الفُلْكِ. قال: أعوذُ بمالِكِ المُلْكِ. منْ مسالِكِ الهُلْكِ! ثم قال: إنّا رُوِينا في الأخْبارِ. المنقولَةِ عنِ الأحْبارِ. أنّ اللهَ تَعالى ما أخذَ على الجُهّالِ أن يتعلّموا. حتى أخذَ على العُلَماء أنْ يعَلِّموا. وإنّ مَعي لَعوذَةً. عنِ الأنبِياء مأخوذَة. وعندي لكُمْ نَصيحةٌ. براهينُها صَحيحةٌ. وما وَسِعَني الكِتْمانُ. ولا مِنْ خيميَ الحِرْمانُ. فتَدَبّروا القوْلَ وتفهّموا. واعْمَلوا بما تُعلّمونَ وعلّموا. ثمّ صاحَ صيْحَةَ المُباهي. وقال: أتَدْرونَ ما هيَ؟ هيَ واللهِ حِرْزُ السّفْرِ. عندَ مسيرِهِمْ في البحْرِ. والجُنّةُ منَ الغَمّ. إذا جاشَ موْجُ اليَمّ. وبها استَعْصَمَ نوحٌ منَ الطّوفانِ. ونَجا ومَنْ معَهُ

منَ الحَيوانِ. على ما صدَعَتْ بهِ آيُ القُرآنِ. ثمّ قرأ بعْضَ أساطيرَ تَلاها. وزخارِفَ جَلاها. وقال: ارْكَبوا فيها باسْمِ اللهِ مُجْراها ومُرْساها. ثمّ تنفّسَ تنفُّسَ المُغرَمينَ. أو عِبادِ اللهِ المُكرَمينَ. وقال: أمّا أنا فقدْ قُمتُ فيكُم مَقامَ المبلِّغينَ. ونصَحْتُ لكُمْ نُصْحَ المُبالِغينَ. وسلَكْتُ بكُمْ محَجّةَ الرّاشِدينَ. فاشْهَدِ اللهُمّ وأنتَ خيرُ الشاهِدينَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فأعْجَبَنا بيانُهُ البادي الطُّلاوَةِ. وعجّتْ لهُ أصواتُنا بالتّلاوَةِ. وآنَسَ قلبي منْ جرْسِهِ. معرِفَةَ عينِ شمْسِهِ. فقلْتُ لهُ: بالذي سخّرَ البحرَ اللُّجّيّ. ألسْتَ السَّروجيّ؟ فقال لي: بَلى. وهلْ يَخْفى ابنُ جَلا؟ فأحْمَدْتُ حينَئذٍ السّفَرَ. وسفَرْتُ عن نفْسي إذ سفَرَ. ولمْ نزَلْ نسيرُ والبحرُ رهْوٌ. والجوّ صحْوٌ. والعيشُ صَفوٌ. والزّمانُ لهْوٌ. وأنا أجِدُ للِقيانِهِ.

وجْدَ المُثْري بعِقْيانِهِ. وأفرَحُ بمُناجاتِهِ. فرَحَ الغَريقِ بمَنْجاتِهِ. الى أن عصَفَتِ الجَنوبُ. وعسَفَتِ الجُنوبُ. ونسَيَ السّفْرُ ما كانَ. وجاءهُمُ الموْجُ منْ كلّ مَكانٍ. فمِلْنا لهذا الحدَثِ الثّائِرِ. الى إحْدى الجَزائِرِ. لنُريحَ ونستَريحَ. ريثَما تُؤاتي الرّيحُ. فتَمادَى اعْتِياصُ المَسيرِ. حتى نفِدَ الزّادُ غيرَ اليَسيرِ. فقال لي أبو زيدٍ: إنهُ لنْ يُحرَزَ جَنى العودِ بالقُعودِ. فهلْ لكَ في استِثارَةِ السّعودِ بالصّعودِ؟ فقلْتُ لهُ: إني لأتْبَعُ لكَ من ظِلّكَ. وأطْوَعُ منْ نعلِكَ. فنَهَدْنا الى الجَزيرَةِ. على ضُعْفِ المَريرَةِ. لنركُضَ في امتِراء المِيرَةِ. وكِلانا لا يملِكُ فَتيلاً. ولا يهتَدي فيها سَبيلاً. فأقْبَلْنا نَجوسُ خِلالَها. ونتفيّأُ ظِلالَها. حتى أفْضَيْنا الى قصرٍ مَشيدٍ. لهُ بابٌ منْ حَديدٍ. ودونَهُ زُمرةٌ من عَبيدٍ. فناسَمْناهُمْ

لنتخِذَهُمْ سُلّماً الى الارتِقاء. وأرشِيَةً للاستِقاء. فألْفَيْنا كلاً منهُمْ كَئيباً حَسيراً. حتى خِلْناهُ كسيراً أو أسيراً. فقُلْنا: أيتُها الغِلْمَةُ. ما هَذي الغُمّةُ؟ فلمْ يُجيبوا النّداء. ولا فاهوا ببَيْضاء ولا سَوْداء. فلمّا رأيْنا نارَهُمْ نارَ الحُباحِبِ. وخُبرَهُمْ كسَرابِ السّباسِبِ. قُلْنا: شاهَتِ الوجوهُ. وقبُحَ اللُّكَعُ ومَنْ يرْجوهُ! فابتَدَرَ خادِمٌ قد علَتْهُ كَبْرَةٌ. وعرَتْهُ عبْرَةٌ. وقال: يا قوْمُ لا توسِعونا سَبّاً. ولا توجِعونا عتْباً. فإنّا لَفي حُزنٍ شامِلٍ. وشُغْلٍ عنِ الحديثِ شاغِلٍ. فقالَ لهُ أبو زيدٍ: نفِّسْ خِناقَ البَثّ. وانْفِثْ إنْ قدَرْتَ على النّفْثِ. فإنّكَ ستجِدُ مني عَرّافاً كافِياً. ووَصّافاً شافِياً. فقالَ لهُ: اعْلَمْ أنّ ربّ هذا القصْرِ هوَ قُطْبُ هذِهِ البُقعَةِ. وشاهُ هذِهِ الرُقعَةِ. إلا أنّهُ لمْ يخْلُ منْ كمَدٍ. لخُلوّهِ من ولَدٍ. ولمْ يزَلْ يستَكْرِمُ المَغارِسَ. ويتخيّرُ منَ المَفارِشِ النّفائِسِ. الى أن بُشّرَ بحمْلِ عَقيلضةٍ. وآذَنَتْ رقْلَتُهُ بفَسيلَةٍ. فنُدِرَتْ له النّذورُ. وأُحصِيَتِ الأيامُ والشّهورُ. ولمّا حانَ النِّتاجُ. وصيغَ الطّوقُ والتّاجُ. عسُرَ مخاضُ الوضْعِ. حتى خِيفَ على الأصْلِ والفَرْعِ. فما فِينا مَنْ يعرِفُ قَراراً. ولا يطْعَمُ النّومَ إلا غِراراً. ثمّ أجْهَشَ بالبُكاء وأعْولَ. وردّدَ الاستِرْجاعَ وطوّلَ. فقال لهُ أبو زيدٍ: اسْكُنْ يا هَذا واستَبْشِرْ. وابْشِرْ بالفَرَجِ وبشّرْ! فعِندي عَزيمةُ الطّلْقِ. التي انتشَرَ سَمْعُها في الخَلْقِ. فتبادَرَتِ الغِلمَةُ الى موْلاهُمْ. مُتباشِرينَ بانكِشافِ بلْواهُمْ. فلمْ يكُنْ إلا كَلا ولا حتى برزَ مَنْ هلْمَمَ بِنا إلَيْهِ. فلما دخلْنا عليْهِ. ومثَلْنا بينَ يدَيْهِ. قال لأبي زيدٍ: ليَهْنِكَ مَنالُكَ. إنْ صدَقَ مقالُكَ. ولم يفِلْ فالُكَ. فاستَحضرَ قلَماً مبْرِيّاً. وزبَداً بحرِيّاً. وزَعفَراناً قد دِيفَ. في ماء ورْدٍ نظيفٍ. فما إنْ رجَعَ النفَسُ. حتى أُحضِرَ ما التَمَسَ. فسجَدَ أبو زيدٍ وعفّرَ. وسبّحَ واستَغْفرَ. وأبْعَدَ الحاضِرينَ ونفّرَ. ثمّ أخذَ القلمَ واسْحَنْفَرَ. وكتبَ على الزّبَدِ بالمُزَعْفَرِ: سّباسِبِ. قُلْنا: شاهَتِ الوجوهُ. وقبُحَ اللُّكَعُ ومَنْ يرْجوهُ! فابتَدَرَ خادِمٌ قد علَتْهُ كَبْرَةٌ. وعرَتْهُ عبْرَةٌ. وقال: يا قوْمُ لا توسِعونا سَبّاً. ولا توجِعونا عتْباً. فإنّا لَفي حُزنٍ شامِلٍ. وشُغْلٍ عنِ الحديثِ شاغِلٍ. فقالَ لهُ أبو زيدٍ: نفِّسْ خِناقَ البَثّ. وانْفِثْ إنْ قدَرْتَ على النّفْثِ. فإنّكَ ستجِدُ مني عَرّافاً كافِياً. ووَصّافاً شافِياً. فقالَ لهُ:

اعْلَمْ أنّ ربّ هذا القصْرِ هوَ قُطْبُ هذِهِ البُقعَةِ. وشاهُ هذِهِ الرُقعَةِ. إلا أنّهُ لمْ يخْلُ منْ كمَدٍ. لخُلوّهِ من ولَدٍ. ولمْ يزَلْ يستَكْرِمُ المَغارِسَ. ويتخيّرُ منَ المَفارِشِ النّفائِسِ. الى أن بُشّرَ بحمْلِ عَقيلضةٍ. وآذَنَتْ رقْلَتُهُ بفَسيلَةٍ. فنُدِرَتْ له النّذورُ. وأُحصِيَتِ الأيامُ والشّهورُ. ولمّا حانَ النِّتاجُ. وصيغَ الطّوقُ والتّاجُ. عسُرَ مخاضُ الوضْعِ. حتى خِيفَ على الأصْلِ والفَرْعِ. فما فِينا مَنْ يعرِفُ قَراراً. ولا يطْعَمُ النّومَ إلا غِراراً. ثمّ أجْهَشَ بالبُكاء وأعْولَ. وردّدَ الاستِرْجاعَ وطوّلَ. فقال لهُ أبو زيدٍ: اسْكُنْ يا هَذا واستَبْشِرْ. وابْشِرْ بالفَرَجِ وبشّرْ! فعِندي عَزيمةُ الطّلْقِ. التي انتشَرَ سَمْعُها في الخَلْقِ. فتبادَرَتِ الغِلمَةُ الى موْلاهُمْ. مُتباشِرينَ بانكِشافِ بلْواهُمْ.

فلمْ يكُنْ إلا كَلا ولا حتى برزَ مَنْ هلْمَمَ بِنا إلَيْهِ. فلما دخلْنا عليْهِ. ومثَلْنا بينَ يدَيْهِ. قال لأبي زيدٍ: ليَهْنِكَ مَنالُكَ. إنْ صدَقَ مقالُكَ. ولم يفِلْ فالُكَ. فاستَحضرَ قلَماً مبْرِيّاً. وزبَداً بحرِيّاً. وزَعفَراناً قد دِيفَ. في ماء ورْدٍ نظيفٍ. فما إنْ رجَعَ النفَسُ. حتى أُحضِرَ ما التَمَسَ. فسجَدَ أبو زيدٍ وعفّرَ. وسبّحَ واستَغْفرَ. وأبْعَدَ الحاضِرينَ ونفّرَ. ثمّ أخذَ القلمَ واسْحَنْفَرَ. وكتبَ على الزّبَدِ بالمُزَعْفَرِ: أيّهَذا الجَنينُ إني نصيحٌ ... لكَ والنّصحُ منْ شُروطِ الدّينِ أنتَ مُستَعْصِمٌ بكِنّ كَنينٍ ... وقَرارٍ منَ السّكونِ مَكينِ ما تَرى فيهِ ما يَروعُكُ منْ إل ... فٍ مُداجٍ ولا عدوٍّ مُبينِ

فمتى ما برَزْتَ منهُ تحوّلْ ... تَ الى منزِلِ الأذى والهونِ وتَراءى لكَ الشّقاءُ الذي تلْ ... قَى فتَبْكي لهُ بدَمْعٍ هَتونِ فاستَدِمْ عيشَكَ الرّغيدَ وحاذِرْ ... أن تَبيعَ المَحقوقَ بالمظْنونِ واحتَرِسْ من مُخادِعٍ لك يرْقي ... كَ ليُلقيكَ في العذابِ المُهينِ ولَعَمْري لقدْ نصَحْتُ ولكِنْ ... كمْ نَصيحٍ مُشبَّهٍ بظَنينِ ثمّ إنهُ طمَسَ المكتوبَ على غَفلَةٍ. وتفَلَ عليْهِ مئَةَ تَفلَةٍ. وشدّ الزّبَدَ في خِرقَةِ حريرٍ. بعدَما ضمّخَها بعَبيرٍ. وأمرَ بتعْليقِها على فخْذِ الماخِضِ. وأنْ لا تعْلَقَ بها يدُ حائِضٍ. فلمْ يكُنْ إلا كذُواقِ شارِبٍ. أو فُواقِ حالِبٍ. حتى اندَلَقَ شخْصُ الولَدِ. لخصّيصَى الزَّبَدِ. بقُدرَةِ الواحِدِ الصّمَدِ. فامتلأ القصْرُ حُبوراً. واستُطيرَ عَميدُهُ وعَبيدُهُ سُروراً. وأحاطَتِ الجماعَةُ بأبي زيدٍ تُثْني عليْهِ.

وتُقبّلُ يدَيْهِ. وتتبرّكُ بمِساسِ طِمْرَيْهِ. حتى خُيّلَ إليّ أنّهُ القَرَنيُّ أُوَيْسٌ. أوِ الأسَديُّ دُبَيسٌ. ثمّ انْثالَ عليْهِ منْ جَوائِزِ المُجازاةِ. ووصائِلِ الصّلاتِ. ما قيّضَ لهُ الغِنى. وبيّضَ وجْهَ المُنى. ولمْ يزَلْ ينْتابُهُ الدّخْلُ. مُذْ نُتِجَ السّخْلُ. الى أن أُعطِيَ البحْرُ الأمانَ. وتسنّى الإتْمامُ الى عُمانَ. فاكْتَفى أبو زيدٍ بالنِّحْلَةِ. وتأهّبَ للرّحلَةِ. فلمْ يسمَحِ الوالي بحرَكَتِهِ. بعْدَ تجرِبَةِ برَكَتِهِ.

بلْ أوعَزَ بضَمّهِ الى حُزانَتِهِ. وأنْ تُطلَقَ يدُهُ في خِزانَتِهِ. قالَ الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُهُ قدْ مالَ. الى حيثُ يكتَسِبُ المالَ. أنْحَيْتُ علَيْهِ بالتّعْنيفِ. وهجّنْتُ لهُ مُفارَقَةَ المألَفِ والأليفِ. فقالَ إليْكَ عني. واسْمَعْ منّي: لا تَصْبوَنّ الى وطَنْ ... فيهِ تُضامُ وتُمتَهَنْ وارْحَلْ عنِ الدّارِ التي ... تُعْلي الوِهادَ على القُنَنْ واهْرُبْ الى كِنٍّ يَقي ... ولوَ انّهُ حِضْنا حضَنْ وارْبأ بنَفسِكَ أنْ تُقي ... م بَحيثُ يغْشاكَ الدَّرَنْ وجُبِ البِلادَ فأيُّها ... أرْضاكَ فاخْتَرْهُ وطَنْ ودَعِ التّذكُّرَ للمَعا ... هِدِ والحَنينَ الى السّكَنْ

المقامة التبريزية

واعْلَمْ بأنّ الحُرّ في ... أوطانِهِ يَلْقَى الغبَنْ كالدُرّ في الأصْدافِ يُستزْ ... رى ويُبْخَسُ في الثّمَنْ ثمّ قال: حسبُكَ ما استَمَعْتَ. وحبّذا أنتَ لوِ اتّبَعْتَ! فأوْضَحْتُ لهُ مَعاذيري. وقلتُ لهُ: كُنْ عَذيري. فعذَرَ واعتَذَرَ. وزوّدَ حتى لم يذَرْ. ثمّ شيّعَني تشْييعَ الأقارِبِ. الى أنْ ركِبْتُ في القارِبِ. فودّعْتُهُ وأنا أشْكو الفِراقَ وأذُمّهُ. وأوَدُّ لوْ كانَ هلَكَ الجَنينُ وأمُّهُ. المقامة التبريزيّة أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أزْمَعْتُ التّبريزَ منْ تبريزَ. حينَ نبَتْ بالذّليلِ والعَزيزِ. وخلَتْ من المُجيرِ والمُجيزِ. فبَيْنا أنا في إعدادِ الأُهبَةِ. وارْتِيادِ الصُحْبَةِ. ألْفَيتُ بها أبا زيدٍ

السَّروجيَّ مُلتَفّاً بكِساءٍ. ومُحْتَفّاً بنِساءٍ. فسألْتُهُ عنْ خطْبِهِ. وإلى أينَ يسْرُبُ مع سِرْبِهِ؟ فأوْمأ الى امرأةٍ منهُنّ باهِرَةِ السّفورِ. ظاهِرَةِ النّفورِ. وقال: تزوّجْتُ هذهِ لتؤنِسَني في الغُربَةِ. وترْحَضَ عني قشَفَ العُزْبَةِ. فلَقيتُ منها عرَقَ القِرْبَةِ. تمْطُلُني بحقّي. وتكلّفُني فوْقَ طوْقي. فأنا منها نِضْوُ وَجَى. وحِلْفُ شجْوٍ وشجَى. وها نحْنُ قد تساعَيْنا الى الحاكِمِ. ليَضْرِبَ على يدِ الظّالِمِ. فإنِ انتظَمَ بيْنَنا الوِفاقُ. وإلا فالطّلاقُ والانطِلاقُ. قال: فمِلْتُ الى أن أخْبُرَ لمَنِ الغلَبُ. وكيفَ يكونُ المُنقلَبُ. فجعلْتُ شُغْلي دَبْرَ أُذْني. وصحِبتُهُما وإنْ كنتُ لا أُغْني. فلمّا حضَرَ القاضي

وكان ممّن يرَى فضْلَ الإمْساكِ. ويضَنُّ بنُفاثَةِ السّواكِ. جَثا أبو زيدٍ بينَ يدَيْهِ. وقال: أيّدَ اللهُ القاضيَ وأحسَنَ إليْهِ. إنّ مطيّتي هذهِ أبيّةُ القِيادِ. كثيرَةُ الشِّرادِ. معَ أني أطْوَعُ لها منْ بَنانِها. وأحْنى عليْها منْ جَنانِها. فقالَ لها القاضي: ويْحَكِ! أما علِمْتِ أنّ النُّشوزَ يُغضِبُ الرّبّ. ويوجِبُ الضّرْبَ؟ فقالتْ: إنّهُ ممّن يدورُ خلْفَ الدارِ. ويأخُذُ الجارَ بالجارِ. فقال لهُ القاضي: تباً لكَ! أتَبْذُرُ في السِّباخِ. وتستَفرِخُ حيثُ لا إفْراخَ؟ اعْزُبْ عني لا نَعِمَ عوفُكَ. ولا أمِنَ خوفُكَ! فقالَ أبو زيدٍ: إنها ومُرسِلِ الرّياحِ. لأكْذَبُ منْ سَجاحِ! فقالتْ: بل هوَ ومَنْ طوّقَ

الحَمامَةَ. وجنّحَ النّعامَةَ. لأكْذَبُ من أبي ثُمامَةَ. حينَ مَخْرَقَ باليَمامَةِ. فزفَرَ أبو زيدٍ زَفيرَ الشُّواظِ. واسْتَشاطَ استِشاطَةَ المُغْتاظِ. وقال لها: ويْلَكِ يا دَفارِ يا فَجارِ. يا غُصّةَ البعْلِ والجارِ! أتَعْمِدينَ في الخَلوَةِ لتَعْذيبي. وتُبدينَ في الحَفلَةِ تكْذيبي؟ وقد علِمْتِ أني حينَ بنَيتُ عليْكِ. ورنَوْتُ إليْكِ. ألفَيتُكِ أقْبَحَ من قِرْدَةٍ. وأيْبَسَ منْ قِدّةٍ. وأخشَنَ من لِيفَةٍ. وأنْتَنَ منْ جيفَةٍ. وأثقَلَ منْ هَيضَةٍ. وأقذَرَ منْ حيضَةٍ. وأبرَزَ من قِشرَةٍ. وأبْرَدَ من قِرّةٍ. وأحمَقَ من رِجلَةٍ. وأوسَعَ منْ دِجلَةَ! فستَرْتُ عَوارَكِ. ولمْ أُبْدِ عارَكِ. على أنهُ لوْ حبَتْكِ

شيرينُ بجَمالِها. وزُبَيدَةُ بمالِها. وبِلْقيسُ بعَرْشِها. وبُورانُ بفَرْشِها. والزّبّاء بمُلْكِها. ورابِعَةُ بنُسكِها. وخِندِفُ بفَخْرِها. والخنْساءُ بشِعْرِها في صخرِها. لأنِفْتُ أن تكوني قَعيدَةَ رَحْلي. وطَروقَةَ فحْلي! قال: فتذمّرَتِ المرأةُ وتنمّرَتْ. وحسَرَتْ عنْ ساعِدِها وشمّرَتْ. وقالتْ لهُ: يا ألأمَ منْ مادِرٍ. وأشْأمَ منْ قاشِرٍ. وأجْبَنَ منْ صافِرٍ. وأطْيَشَ منْ طامِرٍ! أتَرْميني بشَنارِكَ. وتَفْري

عِرْضي بشِفارِكَ؟ وأنتَ تعْلَمُ أنكَ أحقَرُ منْ قُلامَةٍ. وأعْيَبُ منْ بَغْلةِ أبي دُلامَةَ. وأفضَحُ منْ حَبْقَةٍ. في حلْقَةٍ. وأحْيَرُ منْ بَقّةٍ. في حُقّةٍ! وهَبْكَ الحَسَنَ في وعْظِهِ ولفْظِهِ. والشّعْبيَّ في عِلْمِهِ وحِفْظِهِ. والخَليلَ في عَروضِهِ ونحوِهِ. وجَريراً في غزَلِهِ وهجْوِهِ. وقُسّاً

في فَصاحَتِهِ وخِطابَتِهِ. وعبْدَ الحَميدِ في بَلاغَتِهِ وكِتابَتِهِ. وأبا عَمْرٍو في قِراءتِهِ وإعْرابِهِ. وابنَ قُرَيبٍ في رِوايَتِهِ عنْ أعْرابِهِ. أتظُنّني أرْضاكَ إماماً لمِحْرابي. وحُساماً لقِرابي؟ لا واللهِ ولا بَوّاباً لِبابي. ولا عَصاً لجِرابي! فقالَ لهُما القاضي: أراكُما شَنّاً وطَبقةَ. وحِدَأةً وبُندُقَةً. فاتْرُكْ أيّها الرّجُلُ اللَّدَدَ. واسْلُكْ في سيْرِكَ الجَدَدَ. وأمّا أنْتِ فكُفّي عنْ سِبابِهِ. وقِرّي إذا أتى البَيتَ منْ بابِهِ. فقالَتِ المرأةُ: واللهِ ما أسْجُنُ عنهُ لِساني. إلا إذا كَساني. ولا أرْفَعُ لهُ شِراعي. دونَ إشْباعي. فحلَفَ أبو زيْدٍ بالمُحَرِّجاتِ الثّلاثِ. أنهُ لا يملِكُ سوى أطْمارِهِ الرِّثاثِ. فنظَرَ القاضي

في قَصَصِهِما نظَرَ الألمَعيّ. وأفْكَرَ فِكرَةَ اللّوذَعيّ. ثمّ أقبلَ عليْهِما بوجْهٍ قد قطّبَهُ. ومِجَنٍّ قد قلَبَهُ. وقال: ألَمْ يكْفِكُما التّسافُهُ في مجلِسِ الحُكْمِ. والإقْدامُ على هذا الجُرْمِ. حتى تَراقَيتُما منْ فُحْشِ المُقاذَعَةِ. الى خُبْثِ المُخادَعَةِ؟ وايْمُ اللهِ لقدْ أخطأتِ استُكُما الحُفْرَةَ. ولمْ يُصِبْ سَهْمُكُما الثُّغْرَةَ. فإنّ أميرَ المؤمِنينَ. أعَزّ اللهُ ببقائِهِ الدّينَ. نصَبَني لأقْضيَ بينَ الخُصَماء. لا لأقضيَ دَينَ الغُرَماء. وحَقِّ نِعمَتِهِ التي أحلّتْني هذا المَحَلّ. وملّكَتْني العَقْدَ والحَلّ. لَئِنْ لمْ تُوضِحا لي جليّةَ خَطْبِكُما. وخَبيئَةَ خِبّكُما. لأُنَدّدَنّ بكُما في الأمصارِ. ولأجْعلَنّكُما عِبرَةً لأولي الأبصارِ! فأطْرَقَ أبو زيدٍ إطْراقَ الشُجاعِ. ثمّ قالَ لهُ: سَماعِ سَماعِ: هِما بوجْهٍ قد قطّبَهُ. ومِجَنٍّ قد قلَبَهُ. وقال: ألَمْ يكْفِكُما التّسافُهُ في مجلِسِ الحُكْمِ. والإقْدامُ على هذا الجُرْمِ. حتى تَراقَيتُما منْ فُحْشِ المُقاذَعَةِ. الى خُبْثِ المُخادَعَةِ؟ وايْمُ اللهِ لقدْ أخطأتِ استُكُما الحُفْرَةَ. ولمْ يُصِبْ سَهْمُكُما الثُّغْرَةَ. فإنّ أميرَ المؤمِنينَ. أعَزّ اللهُ ببقائِهِ الدّينَ. نصَبَني لأقْضيَ بينَ الخُصَماء. لا لأقضيَ دَينَ الغُرَماء. وحَقِّ نِعمَتِهِ التي أحلّتْني هذا المَحَلّ. وملّكَتْني العَقْدَ والحَلّ. لَئِنْ لمْ تُوضِحا لي جليّةَ خَطْبِكُما. وخَبيئَةَ خِبّكُما. لأُنَدّدَنّ بكُما في الأمصارِ. ولأجْعلَنّكُما عِبرَةً لأولي الأبصارِ! فأطْرَقَ أبو زيدٍ إطْراقَ الشُجاعِ. ثمّ قالَ لهُ: سَماعِ سَماعِ: أنا السَّروجيّ وهَذي عِرْسي ... وليسَ كُفْؤُ البدْرِ غيرَ الشّمسِ وما تَنافى أُنسُها وأُنسي ... ولا تَناءى ديرُها عنْ قَسّي

ولا عدَتْ سُقْيايَ أرْضَ غَرْسي ... لكِنّنا منذُ لَيالٍ خمْسِ نُصبحُ في ثوبِ الطّوى ونُمْسي ... لا نعرِفُ المَضْغَ ولا التّحَسّي حتى كأنّا لخُفوتِ النّفْسِ ... أشْباحُ مَوْتى نُشِروا منْ رَمْسِ فحينَ عزّ الصّبرُ والتأسّي ... وشَفّنا الضُرُّ الأليمُ المَسّ قُمْنا لسَعْدِ الجَدّ أو للنّحْسِ ... هذا المَقامَ لاجتِلابِ فَلْسِ والفَقْرُ يُلْحي الحُرَّ حينَ يُرْسي ... الى التّحَلّي في لِباسِ اللَّبْسِ فهذِهِ حالي وهَذا دَرْسي ... فانظُرْ الى يوْمي وسَلْ عن أمسي وأمُرْ بجَبري إنْ تَشا أو حبْسي ... ففي يدَيْكَ صحّتي ونُكْسي فقالَ لهُ القاضي: ليَثُبْ أُنسُكَ. ولْتَطِبْ نفسُكَ. فقد حقّ لكَ أن تُغفَرَ خَطيّتُكَ. وتُوَفَّرَ عطيّتُكَ. فثارَتِ الزّوجَةُ عندَ ذلِك

واستَطالَتْ. وأشارَتْ الى الحاضِرينَ وقالتْ: يا أهلَ تبريزَ لكُمْ حاكِمٌ ... أوْفى على الحُكّامِ تبْريزا ما فيهِ من عيْبٍ سوى أنهُ ... يومَ النّدى قِسمَتُهُ ضِيزَى قصَدْتُهُ والشيخُ نبْغي جَنى ... عودٍ لهُ ما زال مهْزوزا فسَرّحَ الشيخَ وقد نالَ منْ ... جَدْواهُ تخْصيصاً وتمْييزا وردّني أخْيَبَ منْ شائِمٍ ... بَرْقاً خَفا في شهْرِ تمّوزا كأنّهُ لمْ يدْرِ أني التي ... لقّنْتُ ذا الشّيخَ الأراجيزا وأنّني إنْ شِئْتُ غادَرْتُهُ ... أُضْحوكَةً في أهلِ تَبْريزا قال: فلمّا رأى القاضي اجْتِراء جَنانِهِما. وانصِلاتَ لِسانِهِما. علِمَ أنهُ قد مُنيَ منهُما بالدّاء العَياء. والداهِيَةِ الدّهْياء. وأنهُ مَتى منَحَ أحدَ الزّوجينِ. وصرَفَ الآخرَ صَفْرَ اليَديْنِ. كان كمَنْ قضى الدّيْنَ بالدَّيْنِ. أو صلّى المغرِبَ ركْعتَينِ. فطَلْسَمَ وطرْسَمَ.

واخْرَنْطَمَ وبرْطَمَ. وهمْهَمَ وغمْغَمَ. ثمّ التفَتَ يَمنَةً وشامةً. وتملْمَلَ كآبَةً ونَدامَةً. وأخذ يذُمّ القضاء ومَتاعِبَهُ. ويَعُدّ شوائِبَهُ ونَوائِبَهُ. ويفَنّدُ طالِبَهُ وخاطِبَهُ. ثمّ تنفّسَ كما يتنفّسُ الحَريبُ. وانتَحَبَ حتى كادَ يفضَحُهُ النّحيبُ. وقال: إنّ هذا لَشَيْءٌ عجيبٌ. أأُرْشَقُ في موقِفٍ بسَهْمَيْنِ. أأُلزَمُ في قَضيّةٍ بمَغْرَمَينِ. أأُطيقُ أنْ أُرضيَ الخصْمَينِ. ومنْ أينَ ومِنْ أينَ؟ ثمّ عطَفَ الى حاجِبِه. المُنفِذِ لمآرِبِهِ. وقال: ما هذا يومُ حُكْمٍ وقَضاءٍ. وفصْلٍ وإمْضاءٍ! هذا يومُ الاعتِمامِ. هذا يومُ الاغْتِرامِ. هذا يومُ البُحْرانِ. هذا يومُ الخُسْرانِ! هذا يومٌ عصيبٌ. هذا يومٌ نُصابُ فيهِ ولا نُصيبُ! فأرِحْني منْ هذَينِ المِهذارَيْنِ. واقطَعْ لسانَهُما بدينارَينِ. ثمّ ّقِ الأصْحابَ. وأغلِقِ البابَ. وأشِعْ أنهُ يومٌ مذْمومٌ.

تفسير ما أودع هذه المقامة من الألفاظ اللغوية والأمثال العربية

وأنّ القاضيَ فيهِ مهْمومٌ. لئلاّ يحْضُرَني خُصومٌ! قال: فأمّنَ الحاجِبُ على دُعائِهِ. وتَباكى لبُكائِهِ. ثمّ نقَدَ أبا زيدٍ وعِرْسَهُ المِثقالَينِ. وقال: أشهَدُ أنّكُما لأحْيَلُ الثّقَلينِ. لكِنِ احْتَرِما مجالِسَ الحُكّامِ. واجتَنِبا فيها فُحشَ الكلامِ. فما كُلُّ قاضٍ قاضي تبريزَ. ولا كُلَّ وقتٍ تُسمَعُ الأراجيزُ. فقالا لهُ: مثلُك منْ حجَبَ. وشُكرُكَ قدْ وجَبَ. ونهَضا وقدْ حظِيا بدينارَينِ. وأصْلَيا قلْبَ القاضي نارَينِ. تفسير ما أودع هذه المقامة من الألفاظ اللغوية والأمثال العربية قوله (لقيت منها عرق القربة) هذا مثل يضرب لمن يلقى شدة من الأمر الذي يزاوله كما أن حامل القربة يلقي جهداً حتى يعرق. وقوله (جعلته دبر أذني) يعني طرحته وهو كقوله تعالى فنبذوه وراء ظهورهم. وقوله (اكذب من سجاج) يعني التي تنبأوت في عهد مسيلمة الكذاب وسارت إليه لتناظره وتختبره ثم آمنت به ووهبت نفسها له وهذا الاسم مبني على الكسر مثل حذام وةقطام لكونه من الأسماء المعدولة واشتقاقه من السجاحة وهي السهولة ومنه قولهم ملكت فاسحج. وقولها (اكذب من أبي ثمامة) هذه كنية مسيلمة الكذاب وكان تنبأ باليمامة ومخرق بها إلى أن سار إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه فقتله. وقوله (لا نعم عوفك) العوف الحال والعوف أيضاً الذكر ويدعي للباني على أهله فيقال له نعم عوفك. وقوله (يا دفار يا فجار) هذان الاسمان معدولان عن دافرة وفاجرة والدفر النتن وبه سميت الدنيا أن دفر وكل ما سمي بصفة غيالبة ثم عدل بها إلى فعال بني على الكسر عند البداء كقولك يا لكاع يا خباث يا دفار يا فجار ولا يجوز استعمال ذلك في غير البداء إلا في ضرورة الشعر كقول الحطيئة أطوف ما أطوفز ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع

وإما قوله (احمق من رجلة) فهي ضرب من الحمض تنبت في مجاري السيل فيحترقها. وإما ق ولها (الأم من مادر) فهو رجل من بني هلال بن عامر كان اتخذ حوضاً لسقي إبله فلما رويت سلح فيه ومدره بسلحه لئلا ينتفع به من بعده. وإما قولها (اشأم من قاشر) فإنه فحل كان في بعض قبائل سعد بن زيد مناة بن تميم ما طرق إبلاً إلا ماتت وقيل المراد به العام المجدب وسمي قاشراً لقشره ما على وجه الأرض من النبات. وأما قولها (اجبن من صافر) فقد اختلف في تفسيره فقال بعضهم عني به كل ما يصفر من الطير وخص بالجبن لكثرة ما يتقيه من جوارح الجو ومصايد الأرض وقيل أنه طائر بعينه إذا جنه الليل تعلق ببعض الأغصان ولم يزل يصفر طول ليلته خوفاً على نفسه من أن ينام فيؤخذ وقيل أنه الذي يصفر بالمرأة لريبة وهو بجبن وقت صفيره مخافة أن يظهر على أمره وقيل أن المراد به في المثل المصفور به وهو الذي ينذر بالصفير ليهرب فعلى هذا القول فاعل هنا بمعنى مفعول كقوله تعالى من ماء دافق مدفوق وكقولهم راحلة بمعنى مرحولة وهو كثير في كلامهم وقد جاء مفعول بمعنى فاعل كقوله تعالى حجاباً مستوراً أي ساتراً وكقوله تعالى إنه كان وعده مأتيا. وأما قولها (اطبش من طامر) فالمراد به المرغوث ويسمى طامر بن طامر لكثرة وثوبه. وأما قوله القاضي (أراكما شناً وطبقة وحدأة وبندقة) فإنه أراد به أن كلاً منكما كفء. لصاحبه ومقاوم له ولكل من المثلين تفسير مختلف فيه. أما شن وطبقة فإن العلماء مختلفون في معنى قولهم وافق شن طبقة فقال الأكثرون أونهما قبيلتان فشن هو ابن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن بزار وطبقة حي من إياد وكانت طبقة لا تطاق فأوقعت بها شن فانتصفت منها. وقال بعضهم كان شن رجلاً من دهاة العرب وكان ألزم نفسه أن لا يتزوج إلا بامرأة تلزمته فكان يجيوب البلاد في ارتياد طلبته فصاحبه رجل في بعض أسفاره، فلما أخذ منهما السير قال له شن أتحملني أم أحملك فقال له الرجل يا جاهل وهل يحمل الراكب الراكب فأمسك وسارا حتى أتيا على زرع فقال له شن أترى هذا الزرع أكل أم لا فقال له يا جاهل أما تراه في سنبله فأمسك إلى أن استقبلتهما جنازة فقال له شن أترى صاحبها حياً أم لا فقال له ما رأيت أجهل منك أتراهم حملوا إلى القبر حياً ثم أنهما وصلا إلى قربة الرجل فصار به إلى منزله وكانت له بنت تسمى طبقة فأخذ يطرفها بحديث رفيقه فقالت له ما نطق إلا بالصواب ولا استفهمك إلا عما يستفهم عن مثله ذوو الألباب. أما قوله أتحملني أم أحملك فإنه أراد أتحدثني أم أحدثك حتى نطقع الطريق بالحديث. وأما قوله أترى هذا الزرع أكل أم لا فإنه أراد

المقامة التنيسية

هل استسلف أربابه ثمنه أم لا. وأما استفهامه عن حياة صاحب الجنازة فإنه أراد به أخلف عقباً يحيى ذكره به أم لا. فلما خرج إلى الرجل حدثه بتأويل ابنته كلامه فخطبها إليه فزوجه إياها فلما سار بها إلى قومه وخبروا ما فيها من الدهاء والفطنة قالوا وافق شن طبقة فسار مثلاً. وحكي أن الأصمعي سئل عن تفسير هذا المثل فقال أظن الشن وعاء من آدم كان قد استشن فلما اتخذ له غطاء وافقه ضرب فيه هذا المثل. وأما حدأة وبندقة فإنه يقال المقامة التِّنِّيسيّة حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أطَعْتُ دَواعيَ التّصابي. في غُلَواء شَبابي. فلمْ أزَلْ زِيراً للغِيدِ. وأُذُناً للأغارِيدِ. الى أن وافَى النّذيرُ. وولّى العيشُ النّضيرُ. فقَرِمْتُ الى رُشْدِ الانتِباهِ.

وندِمْتُ على ما فرّطْتُ في جنْبِ اللهِ. ثمّ أخذْتُ في كسْعِ الهَناتِ بالحَسَناتِ. وتلافي الهفَواتِ قبلَ الفَواتِ. فمِلْتُ عنْ مُغاداةِ الغاداتِ. الى مُلاقاةِ التُّقاةِ. وعنْ مُقاناةِ القَيْناتِ. الى مُداناةِ أهلِ الدّياناتِ. وآلَيتُ أن لا أصْحَبَ إلا مَنْ نزَعَ عنِ الغَيّ. وفاءَ منشَرُهُ الى الطّيّ. وإنْ ألْفَيْتُ منْ هوَ خَليعُ الرّسَنِ. مَديدُ الوسَنِ. أنْأيْتُ داري عن دارِهِ. وفرَرْتُ عنْ عَرّهِ وعارِهِ. فلمّا ألقَتني الغُربَةُ بتِنّيسَ. وأحَلّتني مسجِدَها الأنيسَ. رأيتُ بهِ ذا حَلقَةٍ مُلتَحمَةٍ. ونظّارَةٍ مُزدَحِمةٍ. وهوَ يقولُ بجأشٍ مَكينٍو ولِسنٍ

مُبينٍ: مِسكينٌ ابنُ آدمَ وأيُّ مِسكينٍ. ركَنَ من الدّنيا الى غيرِ رَكينٍ. واستَعصَمَ منها بغيرِ مَكسنٍ. وذُبِحَ من حُبّها بغيرِ سِكّينٍ. يَكْلَفُ بها لغَباوَتِهِ. ويَكْلَبُ عليْها لشَقاوَتِهِ. ويعْتَدّ فيها لمُفاخرَتِهِ. ولا يتزوّدُ منها لآخرتِهِ. أُقسمُ بمَنْ مرَجَ البَحرَينِ. ونوّرَ القمَرَينِ. ورفَعَ قدْرَ الحجريْنِ. لوْ عقَلَ ابنُ آدَمَ. لما نادَمَ. ولوْ فكّرَ في ما قدّمَ. لبَكى الدّمَ. ولوْ ذكَرَ المُكافاةَ. لاستَدرَكَ ما فاتَ. ولوْ نظَرَ في المآلِ. لحسّنَ قُبْل الأعْمالِ. يا عجَباً كلَّ العجَبِ. لمَنْ يقتَحِمُ ذاتَ اللهَبِ. في اكْتِنازِ الذّهبِ. وخزْنِ النّشَبِ.

لذوي النّسَبِ. ثمّ منَ البِدْعِ العَجيبِ. أن يعِظَكَ وخْطُ المشيبِ. وتؤذِنُ شمسُكَ بالمَغيبِ. ولستَ ترى أن تُنيبَ. وتهذّبَ المَعيبَ. ثمّ اندفَعَ يُنشِدُ. إنشادَ منْ يُرشِدُ: يا ويْحَ مَنْ أنذرَهُ شَيبُهُ ... وهوَ على غَيّ الصِّبا منكَمِشْ يعْشو الى نارِ الهَوى بعْدَما ... أصبَحَ من ضُعْفِ القُوى يرتَعِش ويمتَطي اللهْوَ ويعْتَدُّهُ ... أوْطأ ما يفتَرِشُ المُفتَرِشْ لم يهَبِ الشّيبَ الذي ما رأى ... نجومَهُ ذو اللُّبّ إلا دُهِشْ ولا انتهَى عمّا نَهاهُ النُهى ... عنهُ ولا بالى بعِرْضٍ خُدِشْ فذاكَ إنْ ماتَ فسُحْقاً لهُ ... وإن يعِشْ عُدّ كأنْ لمْ يعِشْ

لا خيْرَ في مَحْيا امرئٍ نشْرُهُ ... كنَشْرِ ميْتٍ بعدَ عشْرٍ نُبِشْ وحبّذا مَن عِرضُهُ طيّبٌ ... يَروقُ حُسْناً مثلَ بُرْدٍ رُقِشْ فقُلْ لمَن قد شاكَهُ ذنبُهُ ... هلَكْتَ يا مِسكينُ أو تنتَقِشْ فأخْلِصِ التّوبَةَ تطمِسْ بها ... منَ الخَطايا السودِ ما قد نُقِشْ وعاشِرِ الناسَ بخُلقٍ رِضًى ... ودارِ منْ طاشَ ومنْ لم يطِشْ ورِشْ جَناحَ الحُرّ إنْ حَصّهُ ... زمانُهُ لا كانَ منْ لم يرِشْ وأنجِدِ الموْتورَ ظُلماً فإنْ ... عجِزْتَ عن إنْجادِهِ فاستجِشْ وانعَشْ إذا ناداكَ ذو كَبوَةٍ ... عساكَ في الحشْرِ بهِ تنتَعِشْ وهاكَ كأسَ النُصْحِ فاشرَبْ وجُدْ ... بفَضْلَةِ الكأسِ على مَنْ عطِشْ

قال: فلمّا فرَغَ من مُبكِياتِهِ. وقضَى إنشادَ أبياتِهِ. نهضَ صبيٌّ قد شدَنَ. وأعْرى البَدَنَ. وقال: يا ذَوي الحَصاةِ. والإنْصاتِ الى الوَصاةِ. قد وعَيْتُمُ الإنشادَ. وفقِهتُمُ الإرْشادَ. فمَن نَوى منكُمْ أن يقْبَلَ. ويُصلِحَ المُستَقبَلَ. فلْيُبِنْ ببِرّي عنْ نِيّتِهِ. ولا يعدِلْ عني بعَطيّتِهِ. فوالذي يعلَمُ الأسرارَ. ويغفِرُ الإصْرارَ. إنّ سرّي لكَما تَرَوْنَ. وإنّ وجهي ليَستَوْجِبُ الصّوْنَ. فأعينوني رُزِقْتُمُ العوْنَ. قال: فأخذَ الشيخُ في ما يعطِفُ عليْهِ القُلوبَ. ويُسَنّي لهُ المطْلوبَ. حتى أنْبَطَ حَفرُهُ. واعْشَوشَبَ قَفْرُهُ. فلمّا أنْ ترِعَ الكيسُ. انصَلَتَ يميسُ. ويحمَدُ تِنّيسَ. ولمْ يحْلُ للشيخِ المُقامُ. بعْدَما انْصاعَ الغُلامُ. فاستَرْفَعَ الأيْدي بالدّعاء.

ثمّ نَحا نحْوَ الانكِفاء. قال الراوي: فارتَحْتُ الى أن أعجُمَهُ. وأحُلَّ مُترجَمَهُ. فتَبعتُهُ وهو يشتَدّ في سمْتِهِ. ولا يفْتُقُ رتْقَ صمتِهِ. فلمّا أمِنَ المُفاجيَ. وأمكَنَ التّناجي. لفَتَ جيدَهُ إليّ. وسلّمَ تسْليمَ البَشاشَةِ عليّ. ثمّ قال: أراقَكَ ذكاءُ ذاكَ الشُّوَيْدِنِ؟ فقلتُ: إي والمؤمِنِ المُهَيمِنِ! قال: إنهُ فتى السّروجيّ. ومُخرِجِ الدُّرّ منَ اللُّجّيّ! فقلْتُ: أشهَدُ إنّكَ لَشَجرَةُ ثمرَتِهِ. وشُواظُ شرَرَتِهِ. فصدّقَ كَهانَتي. واستَحْسَنَ إبانَتي. ثمّ قال: هل لكَ في ابتِدارِ البيتِ. لنَتنازَعَ كأسَ الكُمَيتِ؟ فقلتُ لهُ: ويْحَكَ أتأمُرونَ الناسَ بالبِرّ وتَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ؟ فافتَرّ افتِرارَ مُتَضاحِكٍ. ومرّ غيرَ مُماحِكٍ. ثمّ بَدا لهُ أنْ تَراجَعَ إليّ. وقال: احفَظْها عني وعليّ:

المقامة النجرانية

إصْرِفْ بصِرْفِ الرّاحِ عنكَ الأسى ... وروّحِ القلْبَ ولا تكتَئِبْ وقلْ لمَنْ لامكَ في ما بِهِ ... تدفعُ عنكَ الهمّ قدْكَ اتّئِبْ ثمّ قال: أمَا أنا فسأنطَلِقُ. الى حيثُ أصطَبِحُ وأغْتَبِقُ. وإذا كُنتَ لا تَصحَبُ. ولا تُلائِمُ مَن يطرَبُ. فلسْتَ لي برَفيقٍ. ولا طريقُكَ لي بطَريقٍ. فخَلّ سَبيلي ونكّبْ. ولا تُنقّرْ عني ولا تُنقّبْ. ثمّ ولّى مُدْبِراً ولمْ يُعَقّبْ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فالْتَهَبْتُ وجْداً عندَ انطِلاقِهِ. ووَدِدْتُ لوْ لمْ أُلاقِهِ. المقامة النَّجرانِيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: تَرامتْ بي مَرامي النّوى. ومسَاري الهَوى. الى أن صِرْتُ ابنَ كُلّ تُربَةٍ. وأخا كُلّ غُربةٍ. إلا أني لمْ أكُنْ أقطَعُ وادِياً. ولا أشهَدُ نادِياً. إلا لاقْتِباسِ الأدَبِ المُسْلي عنِ

الأشْجانِ. المُغْلي قيمَةَ الإنسانِ. حتى عُرِفَتْ لي هذه الشِّنْشِنَةُ. وتناقلَتْها عني الألسنَةُ. وصارتْ أعْلَقَ بي منَ الهوى ببَني عُذْرَةَ. والشّجاعَةِ بآلِ أبي صُفرَةَ. فلمّا ألْقَيتُ الجِرانَ بنَجْرانَ. واصطَفَيتُ بها الخُلاّنَ والجيرانَ. تخِذْتُ أندِيَتَها مُعتَمَري. وموسِمَ فُكاهَتي وسمَري. فكنْتُ أتعَهّدُها صَباحَ مساء. وأظهَرُ فيها على ما سرّ وساء. فبَينَما أنا في نادٍ محْشودٍ. ومحْفِلٍ مشْهودٍ. إذ جثَمَ لدَيْنا هِمٌّ. علَيهِ هِدْمٌ. فحَيّا تحيّةَ ملِقٍ. بلِسانٍ ذلِقٍ. ثمّ قال: يا بُدورَ المَحافِلِ. وبحورَ

النّوافِلِ. قد بيّنَ الصّبْحُ لِذي عيْنَينِ. ونابَ العِيانُ مَنابَ عدْلَينِ. فماذا تَروْنَ. في ما ترَوْنَ؟ أتُحسِنونَ العَوْنَ. أم تنأوْنَ. إذْ تُدعَوْنَ؟ فقالوا: تاللهِ لقَدْ غِظْتَ. ورُمْتَ أن تُنبِطَ فغِضْتَ. فناشَدَهُمُ اللهَ عمّاذا صدّهُمْ. حتى استَوجَبَ ردَّهُمْ. فقالوا: كنّا نتَناضَلُ بالألْغازِ. كما يُتَناضَلُ يومَ البِرازِ. فما تمالَكَ أن شعّثَ منَ المَنْضولِ. وألْحَقَ هذا الفضْلَ بنمَطِ الفُضولِ. فلَسَنَتْهُ لُسْنُ القوْمِ. ووَخَزوهُ بأسنّةِ اللّوْمِ. وأخذَ هوَ يتنصّلُ من هَفوَتِهِ. ويتندّمُ على فَوْهَتِهِ. وهُمْ مُضِبّونَ على

مؤاخذَتِهِ. ومُلَبّونَ داعيَ مُنابَذَتِهِ. الى أن قالَ لهُمْ: يا قومِ إنّ الاحتِمالَ منْ كرَمِ الطّبْعِ. فعَدّوا عنِ اللّذْعِ والقَذْعِ. ثمّ هلُمّ الى أن نُلغِزَ. ونُحكّمَ المُبرِّزَ. فسكنَ عندَ ذلِك توقُّدُهُمْ. وانحَلّتْ عُقدُهمْ. ورَضوا بما شرَطَ عليهِمْ ولَهُمْ. واقتَرَحوا أنْ يكونَ أوّلَهُمْ. فأمْسكَ ريْثَما يُعقَدُ شِسْعٌ. أو يُشَدّ نِسْعٌ. ثمّ قال: اسمَعوا وُقيتُمُ الطّيشَ. ومُلّيتُمُ العيْشَ. وأنشدَ مُلغِزاً في مِروَحَةِ الخيْش: وجارِيَةٍ في سيرِها مُشمَعِلّةٍ ... ولكِنْ على إثْرِ المَسيرِ قُفولُها لها سائِقٌ من جِنسِها يستَحثّها ... على أنهُ في الإحتِثاثِ رَسيلُها

تُرى في أوانِ القَيظِ تنظُفُ بالنّدى ... ويَبدو إذا ولّى المَصيفُ قُحولُها ثمّ قال: وهاكُمْ يا أولي الفضْلِ. ومَراكِزَ العقْلِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في حابولِ النّخْلِ: ومُنتَسِبٍ الى أمٍّ ... تَنَشّا أصْلُهُ منْها يعانِقُها وقد كانتْ ... نفَتْهُ بُرهَةً عنْها بهِ يتوصّلُ الجاني ... ولا يُلْحى ولا يُنْهى ثمّ قال: ودونَكُمُ الخَفيّةَ العلَمِ. المُعتَكِرَةَ الظُلَمِ. وأنشدَ مُلغِزاً في القلَمِ: ومأمومٍ بهِ عُرِفَ الإمامُ ... كما باهَتْ بصُحْبَتِهِ الكِرامُ لهُ إذ يرتَوي طَيْشانُ صادٍ ... ويسكُنُ حينَ يعْروهُ الأُوامُ

ويُذْري حين يُستَسْعى دُموعاً ... يرُقْنَ كما يروقُ الإبتِسامُ ثمّ قال: وعلَيْكُمْ بالواضِحَةِ الدّليلِ. الفاضِحَةِ ما قيلَ. وأنشدَ مُلغِزاً في المِيلِ: وما ناكِحٌ أُختَينِ جَهْراً وخُفيَةً ... وليسَ عليهِ في النّكاحِ سَبيلُ متى يغْشَ هذي يغْشَ في الحالِ هذه ... وإنْ مالَ بعْلٌ لمْ تجِدْهُ يَميلُ يَزيدُهُما عندَ المَشيبِ تعهّداً ... وبِرّاً وهذا في البُعولِ قَليلُ ثم قال: وهذِهِ يا أولي الألْبابِ. مِعْيارُ الآدابِ. وأنشَد مُلغِزاً في الدّولابِ: وجافٍ وهْوَ موْصولٌ ... وَصولٌ ليسَ بالجافي

غَريقٌ بارِزٌ فاعْجَبْ ... لهُ منْ راسِبٍ طافِ يسُحّ دُموعَ مهْضومٍ ... ويهْضِمُ هَضْمَ مِتْلافِ وتُخْشى منهُ حِدّتُهُ ... ولكِنْ قلبُهُ صافِ قال: فلمّا رشَقَ. بالخَمْسِ التي نسَقَ. قال: يا قوْمِ تدَبّروا هذهِ الخمْسَ. واعْقِدوا عليْها الخَمْسَ. ثمّ رأيَكُمْ وضَمّ الذّيلِ. أوِ الازدِيادَ منْ هَذا الكَيْلِ! قال: فاستَفزّتِ القوْمَ شهوَةُ الزّيادَةِ. على ما أُشرِبوا منَ البَلادَةِ. فقالوا لهُ: إنّ وُقوفَنا دونَ حدّكَ. ليُفْحِمُنا عنِ استِيراء زنْدِكَ. واستِشْفافِ فِرِنْدِكَ. فإنْ أتْمَمتَ عشْراً فمِنْ عِندِكَ. فاهتزّ اهتِزازَ منْ فلَجَ سهمُهُ. وانخَزَلَ خصْمُهُ. ثمّ افتَتَح النُطْقَ بالبَسمَلَةِ. وأنشدَ مُلغِزاً في المُزَمَّلَةِ:

ومَسْرورَةٍ مَغمومَةٍ طولَ دهرِها ... وما هيَ تدري ما السُرورُ ولا الغَمُّ تُقرَّبُ أحياناً لأجْلِ جَنينِها ... وكمْ ولدٍ لوْلاهُ طُلّقَتِ الأمُّ وتُبعَدُ أحياناً وما حالَ عهدُها ... وإبعادُ من لم يَستَحِلْ عهدُه ظُلمُ إذا قَصُرَ الليلُ استُلِذّ وصالُها ... وإن طالَ فالإعراضُ عن وصْلِها غُنمُ لها ملبَسٌ بادٍ أنيقٌ مبَطَّنٌ ... بما يُزْدَرى لكنْ لِما يُزْدرى الحُكمُ ثم كشَرَ عن أنيابِهِ الصُفْرِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الظُفْرِ: ومرهوبِ الشَّبا نامٍ ... وما يرْعى ولا يشرَبْ يُرى في العَشْرِ دونَ النّحْ ... رِ فاسمَعْ وصفَهُ واعْجَبْ ثم تخازرَ تخازُرَ العِفْريتِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في طاقَةِ الكِبريتِ:

وما مَحْقورَةٌ تُدْنى وتُقْصى ... وما منْها إذا فكّرْتَ بُدُّ لها رأسانِ مُشتَبِهانِ جِداً ... وكُلٌ منهُما لأخيهِ ضِدُّ تعذَّبُ إن هُما خُضِبا وتُلغى ... إذا عَدِما الخِضابَ ولا تُعَدّ ثمّ تخمّطَ تخمُّطَ القَرْمِ. وأنشدَ في حلَبِ الكَرْمِ: وما شيءٌ إذا فسَدا ... تحوّلَ غيُّهُ رشَدا وإنْ هوَ راقَ أوصافاً ... أثارَ الشرّ حيثُ بَدا زَكيُّ العِرقِ والِدُهُ ... ولكِنْ بِئْسَ ما ولَدا ثمّ اعتَضَدَ عَصا التَّسيارِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الطيّارِ: وذي طَيشَةٍ شِقُّهُ مائِلٌ ... وما عابَهُ بهِما عاقِلُ يُرى أبداً فوقَ عِلّيّةٍ ... كما يعْتَلي المَلِكُ العادِلُ

تساوَى لدَيْهِ الحَصا والنُّضارُ ... وما يستَوي الحقُّ والباطلُ وأعْجَبُ أوصافِهِ إنْ نظرْتَ ... كما ينظُرُ الكَيّسُ الفاضِلُ تَراضي الخُصومِ بهِ حاكِماً ... وقدْ عرَفوا أنّهُ مائِلُ قال: فظلّتِ الأفكارُ تَهيمُ في أوديةِ الأوْهامِ. وتَجولُ جوَلانَ المُستَهامِ. الى أن طالَ الأمَدُ. وحصْحَصَ الكمَدُ. فلمّا رآهُمْ يزنِدونَ ولا سَنا. ويقْضونَ النّهارَ بالمُنى. قال: يا قومِ إلامَ تنظُرونَ. وحتّامَ تُنظَرونَ؟ ألَمْ يأنِ لكُمُ استِخْراجُ الخَبيّ. أو استِسلامُ الغَبيّ؟ فقالوا: تاللهِ لقدْ أعْوَصْتَ. ونصَبْتَ الشَّرَكَ فقنَصْتَ. فتحَكّمْ كيفَ شيتَ. وحُزِ الغُنْمَ والصّيتَ. ففرَضَ عنْ كلّ مُعَمًى فرْضاً. واستخلَصَهُ منهُمْ نَضّاً. ثمّ فتَح الأقفالَ. ورسمَ

الأغْفالَ. وحاولَ الإجْفالَ. فاعتلَقَ بهِ مِدرَهُ القومِ. وقال لهُ: لا لُبسَةَ بعْدَ اليومِ. فاستَنْسِبْ قبلَ الانطِلاقِ. وهَبْها مُتعَةَ الطّلاقِ. فأطْرَقَ حتى قُلْنا مُريبٌ. ثمّ أنشَدَ والدمعُ مُجيبٌ: سَروجُ مطْلِعُ شمْسي ... وربْعُ لَهْوي وأُنسي لكِنْ حُرِمْتُ نَعيمي ... بها ولَذةَ نفْسي واعْتَضْتُ عنها اغْتِراباً ... أمَرَّ يومي وأمْسي ما لي مقَرٌّ بأرضٍ ... ولا قَرارٌ لعَنْسيْ يوماً بنَجدٍ ويوْماً ... بالشّأمِ أُضْحي وأُمسي أُزْجي الزّمانَ بقوتٍ ... منغّصٍ مُستَخَسّ ولا أبيتُ وعندي ... فلْسٌ ومَنْ لي بفَلْسِ

المقامة البكرية

ومنْ يعِشْ مثلَ عيشي ... باعَ الحياةَ ببخْسِ ثم إنّهُ اخْتَبَن خُلاصَةَ النّضّ. وندرَ ضارِباً في الأرضِ. فناشدْناهُ أن يعودَ. وأسْنَيْنا لهُ الوعودَ. فلا وأبيكَ ما رجعَ. ولا التّرغيبُ لهُ نجعَ. المقامة البَكرِيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: هَفا بيَ البينُ المطَوِّحُ. والسيرُ المبرِّحُ. الى أرضٍ يضِلّ بها الخِرّيتُ. وتفْرَقُ فيها المصاليتُ. فوجَدتُ ما يجِدُ الحائِرُ الوحيدُ. ورأيتُ ما كُنتُ منه أحيدُ. إلا أني شجّعْتُ قلْبيَ المَزْؤودَ. ونسأتُ نِضْوِيَ المجْهودَ. وسِرْتُ سيرَ الضّارِبِ بقِدْحَينِ. المُستَسلِمِ للحَينِ. ولمْ أزَلْ

بينَ وخْدٍ وذَميلٍ. وإجازَةِ مِيلٍ بعْدَ ميلٍ. الى أن كادَتِ الشمْسُ تجِبُ. والضّياءُ يحتجِبُ. فارْتَعْتُ لإظْلالِ الظّلامِ. واقتِحامِ جَيشِ حامٍ. ولمْ أدْرِ أأكْفِتُ الذّيلَ وأرتبِطُ. أم أعتَمِدُ اللّيلَ وأختَبِطُ؟ وبيْنا أنا أقلّبُ العزْمَ. وأمتَخِضُ الحزْمَ. تَراءى لي شبَحُ جمَلٍ. مُستَذْرٍ بجبَلٍ. فترَجّيتُهُ قُعْدَةَ مُريحٍ. وقصدْتُهُ قصْدَ مُشيحٍ. فإذا الظّنّ كَهانَةٌ. والقُعدَةُ عَيرانَةٌ. والمُريحُ قدِ ازْدَمَلَ ببِجادِهِ. واكتَحَلَ برُقادِه. فجلَسْتُ عندَ راسِهِ. حتى هبّ من نُعاسِهِ. فلمّا ازْدَهَرَ سِراجاهُ. وأحَسّ بمَنْ فاجاهُ.

نفَرَ كما ينفِرُ المُريبُ. وقال: أخوكَ أمِ الذّيبُ؟ فقلتُ: بلْ خابِطُ ليْلٍ ضَلّ المسلَكَ. فأضِئْ أقْدَحْ لكَ. فقال: ليَسْرُ عنكَ همُّكَ. فرُبّ أخٍ لكَ لمْ تلِدْهُ أمُكَ. فانْسرَى عندَ ذلِكَ إشْفاقي. وسرَى الوسَنُ الى آماقي. فقال: عندَ الصّباحِ يحْمَدُ القومُ السُّرى. فهلْ تَرى كما أرى؟ فقلتُ: إني لكَ لأطْوَعُ منْ حِذائِكَ. وأوْفَقُ من غِذائِكَ. فصَدَعَ بمحبّتي. وبخْبَخَ بصُحْبَتي. ثمّ احتَمَلْنا

مُجِدَّينِ. وارتَحلْنا مُدلِجَيْنِ. ولمْ نزَلْ نُعاني السُّرى. ونُعاصي الكَرى. الى أنْ بلغَ الليلُ غايتَهُ. ورفَعَ الفجْرُ رايتَهُ. فلمّا أسْفرَ الفاضِحُ. ولمْ يبْقَ إلا واضِحٌ. توسّمتُ رفيقَ رِحلَتي. وسَميرَ لَيلَتي. فإذا هوَ أبو زيدٍ مطلَبُ النّاشِدِ. ومَعلَمُ الرّاشِدِ. فتهادَيْنا تحيّةَ المُحبّينِ. إذا التَقَينا بعْدَ البيْنِ. ثمّ تباثَثْنا الأسْرارَ. وتناثَثْنا الأخْبارَ. وبَعيري ينحِطُ منَ الكِلالِ. وراحِلَتُهُ تزِفُّ زَفيفَ الرّالِ. فأعْجَبَني اشْتِدادُ أمرِها. وامتِدادُ صبرِها. فأخَذْتُ أستَشِفُّ جوهرَها. وأسألُهُ منْ أين تخيّرَها. فقال: إنّ لهذِهِ النّاقَةِ. خبَراً حُلْوَ المَذاقَةِ. مليحَ السّياقَةِ. فإنْ أحببْتَ استِماعَهُ فأنِخْ. وإنْ لمْ تشأ فلا تُصِخْ. فأنَخْتُ لقولِه نِضْوي. وأهدَفْتُ السّمْعَ

لما يَروي. فقال: اعْلَمْ أني استَعرَضْتُها بحَضْرَمَوْتَ. وكابدْتُ في تحصيلِها الموْتَ. وم زِلتُ أجوبُ علَيها البُلدانَ. وأطِسُ بأخفافِها الظِّرّانَ. الى أنْ وجدْتُها عُبْرَ أسفارٍ. وعُدَّةَ قرارٍ. لا يلحَقُها العَناءُ. ولا تُواهِقُها وجْناءُ. ولا تدْري ما الهِناءُ. فأرْصَدتُها للخَيرِ والشرّ. وأحلَلْتُها محَلَّ البَرّ السَّرّ. فاتّفَقَ أن ندّتْ مُذْ مُدةٍ. وما لي سِواها قُعدَةٌ. فاستشْعَرْتُ الأسَفَ. واستَشرفْتُ التّلَفَ. ونسيتُ كُلّ رُزْءٍ سلَفَ. ومكثت ثلاثا

لا استطيع انبعاثا ولا اطعم النوم الا حثاثا. ثمّ أخذْتُ في استِقْراء المَسالِكِ. وتفقُّدِ المسارِحِ والمَبارِكِ. وأنا لا أستَنْشي منها ريحاً. ولا أستَغْشي يأساً مُريحاً. وكلّما ادّكَرْتُ مضاءها في السيرِ. وانبِراءها لمُباراةِ الطّيرِ. لاعَني الادّكارُ. واستَهوَتْني الأفكارُ. فبَينَما أنا في حِواء بعضِ الأحْياءِ إذْ سمِعْتُ منْ شخْصٍ متبَعِّدٍ. وصوْتٍ متجرِّدٍ: منْ ضَلّتْ لهُ مطيّةٌ. حضرَميّةٌ وطِيّةٌ. جِلدُها قد وُسِمَ. وعَرُّها قد حُسِمَ. وزِمامُها قد ضُفِرَ. وظهرُها كأنْ قد كُسِرَ ثم جُبِرَ. تَزينُ الماشيَةَ. وتُعينُ النّاشيَةَ. وتقطَعُ المَسافَةَ النّائِيَةَ. وتظَلّ

أبداً لكَ مُدانِيةً. لا يعتَوِرُها الوَنى. ولا يعترِضُها الوَجى. ولا تُحْوِجُ الى العَصا. ولا تَعْصي في مَنْ عصى. قال أبو زيدٍ: فجذَبَني الصوتُ الى الصّائِتِ. وبشّرَني بدرَكِ الفائِتِ. فلمّا أفْضَيْتُ إليْهِ. وسلّمْتُ علَيْهِ. قلتُ لهُ: سلّمِ المطيّةَ. وتسلّمِ العطيّةَ. فقال: وما مطِيّتُكَ. غُفِرَتْ خطِيّتُكَ؟ قلت له: ناقَةٌ جُثّتُها كالهَضْبَةِ. وذِروَتُه كالقُبّةِ. وجلَبُها مِلْءُ العُلبَةِ. وكنتُ أُعطيتُ بها عِشرينَ. إذ حللْتُ يَبرينَ. فاستَزَدْتُ الذي أعطى. ودريْتُ أنهُ أخْطا. قال: فأعْرَضَ عني حينَ سمِعَ صِفَتي. وقال: لستَ بصاحِبِ لُقطَتي! فأخَذْتُ بتَلابيبِهِ. وأصرَرْتُ على تكذيبِهِ. وهمَمْتُ بتمزيقِ جَلابيبِهِ. وهوَ يقول: يا هذا ما مطيّتي بطِلْبِكَ. فاكْفُفْ عني منْ غَربِكَ. وعدّ عنْ سبّكَ. وإلا فقاضِني الى حَكَمِ هذا الحيّ. البَريء من الغَيّ. فإنْ أوجبَها لكَ فتسلّمْ. وإن زَواها عنْكَ فلا تتكلّمْ. فلمْ أرَ دَواءَ قِصّتي. ولا مَساغَ غُصّتي. إلا أنْ آتيَ الحكَمَ. ولوْ لكَمَ. فانْخَرَطْنا الى شيخٍ رَكينِ النِّصْبَةِ. أنيقِ العِصْبَةِ. يؤنَسُ منهُ سُكونُ الطائِرِ. وأنْ ليسَ بالجائرِ. فاندَرأتُ أتظلّمُ وأتألّمُ. وصاحبي مُرِمٌّ لا يترَمْرَمُ. حتى إذا نثلْتُ كِنانَتي. وقضَيْتُ من القَصَصِ لُبانَتي. أبرَزَ نعْلاً رَزينَةَ الوزْنِ. مَحْذوّةً لمسلَكِ الحَزْنِ. وقال: هذهِ التي عرّفْتُ. وإياها وصَفْتُ. فإنْ كانتْ هي التي أُعطِيَ بها عِشرينَ. وها هوَ من المُبصِرينَ. فقدْ كذَبَ في دعْواهُ. وكبُرَ ما افتَراهُ. اللهُمّ إلا أنْ يَمُدّ قَذالَهُ. ويُبَيّنَ مِصداقَ ما قالَهُ. فقالَ الحكَمُ: اللهُمّ غَفْراً. وجعلَ يقلّبُ النّعْلَ بطْناً وظهْراً. ثمّ قال: أما هذِهِ النّعلُ فنَعْلي. وأما مطِيّتُكَ ففي رحْلي. فانهَضْ لتسَلُّمِ ناقتِك. وافعَلِ الخيرَ بحسَبِ طاقَتِكَ. فقُمْتُ وقلت: لستَ بصاحِبِ لُقطَتي! فأخَذْتُ بتَلابيبِهِ. وأصرَرْتُ على تكذيبِهِ. وهمَمْتُ بتمزيقِ جَلابيبِهِ. وهوَ يقول: يا هذا ما مطيّتي بطِلْبِكَ. فاكْفُفْ عني منْ غَربِكَ. وعدّ عنْ سبّكَ. وإلا فقاضِني الى حَكَمِ هذا الحيّ. البَريء من الغَيّ. فإنْ أوجبَها لكَ فتسلّمْ. وإن زَواها عنْكَ فلا تتكلّمْ. فلمْ أرَ دَواءَ قِصّتي. ولا مَساغَ غُصّتي.

إلا أنْ آتيَ الحكَمَ. ولوْ لكَمَ. فانْخَرَطْنا الى شيخٍ رَكينِ النِّصْبَةِ. أنيقِ العِصْبَةِ. يؤنَسُ منهُ سُكونُ الطائِرِ. وأنْ ليسَ بالجائرِ. فاندَرأتُ أتظلّمُ وأتألّمُ. وصاحبي مُرِمٌّ لا يترَمْرَمُ. حتى إذا نثلْتُ كِنانَتي. وقضَيْتُ من القَصَصِ لُبانَتي. أبرَزَ نعْلاً رَزينَةَ الوزْنِ. مَحْذوّةً لمسلَكِ الحَزْنِ. وقال: هذهِ التي عرّفْتُ. وإياها وصَفْتُ. فإنْ كانتْ هي التي أُعطِيَ بها عِشرينَ. وها هوَ من المُبصِرينَ. فقدْ كذَبَ في دعْواهُ. وكبُرَ ما افتَراهُ. اللهُمّ إلا أنْ يَمُدّ قَذالَهُ. ويُبَيّنَ مِصداقَ ما قالَهُ. فقالَ الحكَمُ: اللهُمّ

غَفْراً. وجعلَ يقلّبُ النّعْلَ بطْناً وظهْراً. ثمّ قال: أما هذِهِ النّعلُ فنَعْلي. وأما مطِيّتُكَ ففي رحْلي. فانهَضْ لتسَلُّمِ ناقتِك. وافعَلِ الخيرَ بحسَبِ طاقَتِكَ. فقُمْتُ وقلت: أُقسِمُ بالبيتِ العَتيقِ ذي الحُرَمْ ... والطائِفينَ العاكِفينَ في الحَرَمْ إنّك نِعْمَ منْ إليْهِ يُحتكَمْ ... وخيرُ قاضٍ في الأعاريبِ حكَمْ فاسلَمْ ودُمْ دوْمَ النّعامِ والنَّعَمْ فأجابَ من غيرِ رويّةٍ. ولا عَقْدِ نيّةٍ. وقال: جُزيتَ عن شُكرِكَ خيراً يا ابنَ عمْ ... إذ لستُ أستَوجبُ شكراً يُلتَزَمْ شرُّ الأنامِ منْ إذا استُقْضي ظلمْ ... ثمّ مَنِ استُرْعي فلمْ يرْعَ الحُرَمْ فذانِ والكَلْبُ سَواءٌ في الفِيَمْ ثمّ إنهُ نفّذَ بينَ يدَيّ. منْ سلّم النّاقَةَ إليّ. ولمْ يمْتَنّ عليّ. فرُحْتُ نَجيحَ الأرَبِ. أجُرّ ذيْلَ الطّرَبِ. وأقولُ: يا لَلْعَجَبِ! قال

الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ تاللهِ لقدْ أطْرَفْتَ. وهرَفْتَ بما عرَفْتَ. فناشَدتُكَ اللهَ هلْ ألفَيْتَ أسْحَرَ منكَ بلاغَةً. وأحسَنَ للّفْظِ صِياغَةً؟ فقال: اللهُمّ نعَمْ. فاستَمِعْ وانْعَمْ. كُنتُ عزَمْتُ. حين أتْهَمْتُ. على أن أتّخِذَ ظَعينَةً. لتكونَ لي مُعينَةً. فحينَ تعيّنَ الخِطْبُ المُلِبّ. وكادَ الأمرُ يستَتِبّ. أفْكَرْتُ فكْرَ المتحرِّزِ منَ الوهْمِ. المتأمِّلِ كيفَ مَسقِطُ السّهْمِ. وبِتُّ ليلَتي أُناجي القلْبَ المعذَّبَ. وأقلّبُ العزْمَ المُذَبذَبَ. الى أن أجمَعْت على أن أُسْحِرَ. وأُشاوِرَ أوّلَ منْ أُبصِرُ. فلمّا قوّضَتِ الظُّلمَةُ أطْنابَها. وولّتِ الشُّهُبُ أذْنابَها. غدَوْتُ غُدُوَّ المتعرِّفِ. وابتكرْتُ ابتِكارَ المتعيِّفِ. فانْبَرى لي يافِعٌ. في وجْهِهِ شافِعٌ.

فتيمّنْتُ بمنظَرِهِ البَهيجِ. واستَقْدَحْتُ رأيَهُ في التّرويجِ. فقال: أوَتبْغيها غَواناً. أم بِكْراً تُعانى؟ فقلتُ: اختَرْ لي ما تَرى. فقدْ ألْقَيتُ إليكَ العُرى. فقال: إليّ التّبيينُ. وعليْكَ التّعيينُ. فاسمَعْ أنا أفْديكَ. بعْدَ دفْنِ أعاديكَ. أما البِكرُ فالدُرّةُ المخزونَةُ. والبَيضَةُ المَكنونَةُ. والباكورَةُ الجَنِيّةُ. والسُلافَةُ الهَنيّةُ. والروْضَةُ الأُنُفُ. والطّوْقُ الذي ثمُنَ وشرُفَ. لمْ يُدَنّسْها لامِسٌ. ولا تسَغْشاها لابِسٌ. ولا مارسَها عابِثٌ. ولا وكَسَها طامِثٌ. ولها الوجهُ الحَييّ. والطّرْفُ الخفيّ. واللّسانُ العَيِيّ.

والقلْبُ النّقيّ. ثمّ هيَ الدُمْيَةُ المُلاعِبَةُ. واللّعْبَةُ المُداعِبَةُ. والغَزالَةُ المُغازِلَةُ. والمُلْحَةُ الكامِلَةُ. والوِشاحُ الطاهرُ القَشيبُ. والضّجيعُ الذي يُشِبُّ ولا يُشيبُ. وأما الثّيّبُ فالمَطيّةُ المذَلّلَةُ. واللُّهْنَةُ المعَجّلَةُ. والبِغْيَةُ المُسهَّلَةُ. والطّبّةُ المُعلِّلَةُ. والقَرينةُ المتحبِّبَةُ. والخَليلَةُ المتقرِّبَةُ. والصَّناعُ المدَبِّرَةُ. والفَطْنَةُ المختَبِرَةُ. ثمّ إنّها عُجالَةُ الرّاكِبِ. وأُنشوطَةُ الخاطِبِ. وقُعدَةُ العاجِزِ. ونُهْزَةُ المُبارِزِ. عريكَتُها لَيّنَةٌ. وعُقلَتُها هيّنَةٌ. ودِخلَتُها متَبيِّنَةٌ.

وخِدمَتُها مزيِّنَةٌ. وأقسِمُ لقد صدَقْتُ في النّعتَينِ. وجلَوْتُ المَهاتَينِ. فبأيّتِهِما هامَ قلبُكَ؟ قال أبو زيد: فرأيتُهُ جندَلَةً يتّقيها المُراجِمُ. وتُدمى منها المَحاجِمُ. إلا أني قلتُ له: كُنتُ سمعتُ أن البِكْرَ أشَدُّ حُبّاً. وأقلُّ خِبّاً. فقال: لعَمْري قد قيلَ هذا. ولكِنْ كمْ قوْلٍ آذى! ويْحَكَ أمَا هيَ المُهرَةُ الأبيّةُ العِنانِ. والمَطيّةُ البَطيّةُ الإذْعانِ! والزَّنْدَةُ المتعسِّرَةُ الاقْتِداحِ. والقَلعَةُ المُستَصْعَبَةُ الافتِتاحِ! ثمّ إنّ مؤونَتَها كثيرةٌ. ومَعونتَها يَسيرةٌ. وعِشْرَتَها صَلِفَةٌ. ودالّتَها مُكلَّفَةٌ. ويدَها خرْقاء. وفِتْنَتها صَمّاء. وعَريكتَها خشْناء. وليلَتَها ليْلاء. وفي رياضَتِها عَناءٌ. وعلى خِبرَتِها غِشاءٌ!

وطالما أخزَتِ المُنازِلَ. وفرِكَتِ المُغازِلَ. وأحنَقَتِ الهازِلَ. وأضرَعَتِ الفَنيقَ البازِلَ. ثمّ إنّها التي تقول: أنا ألْبَسُ وأجلِسُ. فأطلُبُ منْ يُطلِقُ ويحبِسُ! فقلتُ لهُ: فما ترى في الثّيّبِ. يا أبا الطّيّبِ؟ فقال: ويْحَكَ أترغبُ في فُضالَةِ المآكِلِ. وثُمالَةِ المناهِلِ؟ واللّباسِ المُستَبذَلِ. والوِعاءِ المُستَعْمَلِ؟ والذّواقَةِ المُتطرِّفَةِ. والخَرّاجةِ المتصرِّفَةِ؟ والوَقاحِ المتسلِّطَةِ. والمُحتَكِرَةِ المتسخِّطةِ؟ ثمّ كلمَتُها كُنتُ وصِرْتُ. وطالَما بُغيَ عليّ فنُصِرْتُ. وشتّان بين اليومِ وأمْسِ. وأينَ القمرُ منَ الشّمسِ؟

وإنْ كانتِ الحَنّانَةَ البَروكَ. والطّمّاحَةَ الهَلوكَ. فهيَ الغُلُّ القَمِلُ. والجُرْحُ الذي لا يندَمِلُ! فقلتُ له: فهلْ ترى أن أترَهّبَ. وأسلُكَ هذا المذْهَبَ؟ فانْتَهَرني انتِهارَ المؤدِّبِ. عندَ زَلّةِ المتأدِّبِ. ثمّ قال: ويلَكَ أتَقتَدي بالرُّهْبانِ. والحقُّ قدِ استَبانَ؟ أُفٍّ لكَ. ولوَهْنِ رائِكَ. وتبّآً لك ولأولَئِكَ! أتُراكَ ما سمعْتَ بأنْ لا رَهْبانيّةَ في الإسلام. أو ما حُدّثْتَ بمناكِحِ نبيّكَ عليْهِ أزْكى السّلامِ؟ ثم أمَا تعلَمُ أنّ القَرينَةَ الصالحةَ تَرُبّ بيتَكَ. وتُلبّي صوتَكَ. وتغُضّ طرْفَكَ. وتطيّبُ عَرفكَ؟ وبها ترَى قُرّةَ عينِكَ. وريْحانَةَ أنفِكَ. وفرْحةَ قلبِكَ. وخُلْدَ ذِكرِكَ. وتعِلّةَ يومِكَ وغدِكَ. فكيفَ رَغِبْتَ عنْ سُنّةِ المُرسَلينَ. ومُتعَةِ المتأهِّلينَ. وشِرْعَةِ المُحْصَنينَ. ومَجْلَبَةِ المالِ والبَنين؟ واللهِ لقدْ ساءني فيكَ. ما سمِعْتُ من فيكَ. ثمّ أعْرَضَ إعْراضَ المُغضَبِ. ونَزا نَزَوانَ العُنظَبِ. فقلتُ لهُ: قاتَلَكَ اللهُ أتنطَلِقُ متبخْتِراً. وتدعُني متحيِّراً؟ فقال: أظنّكَ تدّعي الحَيرَةَ. لتَستَغْنيَ عنِ المُهَيْرَةِ! فقلتُ له: قبّحَ اللهُ ظنّكَ. ولا أشَبّ قرْنَكَ! ثمّ رُحْتُ عنهُ مَراحَ الخَزْيانِ. وتُبتُ منْ مُشاوَرَةِ الصّبيانِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ أُقسِمُ بمنْ أنْبَتَ الأيْكَ. أنّ الجدَلَ منكَ وإلَيْكَ. فأغْرَبَ في الضّحِكِ وطرِبَ طَرْبَةَ المُنهَمِكِ. ثم قال: العَقِ العسَلَ. ولا تسَلْ! فأخَذْتُ أُسهِبُ في مدْحِ الأدبِ. وأفضّلُ ربّّهُ على ذي النّشبِ. وهوَ ينظُرُ إليّ نظرَ المُستَجْهِلِ. ويُغْضي عني إغْضاءَ المتمهّلِ. فلمّا أفْرَطْتُ في العَصبيّةِ. للعُصبَةِ الأدبيّةِ. قال لي: صهْ. واسمعْ مني وافْقَهْ: ْ لا رَهْبانيّةَ في الإسلام. أو ما حُدّثْتَ بمناكِحِ نبيّكَ عليْهِ أزْكى السّلامِ؟ ثم أمَا تعلَمُ أنّ القَرينَةَ الصالحةَ تَرُبّ بيتَكَ. وتُلبّي صوتَكَ. وتغُضّ طرْفَكَ. وتطيّبُ عَرفكَ؟ وبها ترَى قُرّةَ عينِكَ. وريْحانَةَ أنفِكَ. وفرْحةَ قلبِكَ. وخُلْدَ ذِكرِكَ. وتعِلّةَ يومِكَ

وغدِكَ. فكيفَ رَغِبْتَ عنْ سُنّةِ المُرسَلينَ. ومُتعَةِ المتأهِّلينَ. وشِرْعَةِ المُحْصَنينَ. ومَجْلَبَةِ المالِ والبَنين؟ واللهِ لقدْ ساءني فيكَ. ما سمِعْتُ من فيكَ. ثمّ أعْرَضَ إعْراضَ المُغضَبِ. ونَزا نَزَوانَ العُنظَبِ. فقلتُ لهُ: قاتَلَكَ اللهُ أتنطَلِقُ متبخْتِراً. وتدعُني متحيِّراً؟ فقال: أظنّكَ تدّعي الحَيرَةَ. لتَستَغْنيَ عنِ المُهَيْرَةِ! فقلتُ له: قبّحَ اللهُ ظنّكَ. ولا أشَبّ قرْنَكَ! ثمّ رُحْتُ عنهُ مَراحَ الخَزْيانِ. وتُبتُ منْ مُشاوَرَةِ الصّبيانِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ أُقسِمُ بمنْ أنْبَتَ الأيْكَ. أنّ الجدَلَ منكَ وإلَيْكَ. فأغْرَبَ في الضّحِكِ وطرِبَ طَرْبَةَ المُنهَمِكِ. ثم قال: العَقِ العسَلَ. ولا تسَلْ! فأخَذْتُ أُسهِبُ في مدْحِ الأدبِ. وأفضّلُ ربّّهُ على ذي النّشبِ. وهوَ ينظُرُ إليّ نظرَ المُستَجْهِلِ. ويُغْضي عني

إغْضاءَ المتمهّلِ. فلمّا أفْرَطْتُ في العَصبيّةِ. للعُصبَةِ الأدبيّةِ. قال لي: صهْ. واسمعْ مني وافْقَهْ: يقولونَ إنّ جَمالَ الفتى ... وزينَتَهُ أدَبٌ راسِخُ وما إنْ يَزينُ سوى المُكثِرينَ ... ومنْ طوْدُ سودَدِهِ شامِخُ فأما الفَقيرُ فخيْرٌ لهُ ... منَ الأدَبِ القُرْصُ والكامِخُ وأيّ جَمالٍ لهُ أنْ يُقال ... أديبٌ يعلِّمُ أو ناسِخُ ثمّ قال: سيتّضِحُ لكَ صِدْقُ لهجَتي. واستِنارَةُ حُجّتي. وسِرْنا لا نألو جُهْداً. ولا نستَفيقُ جَهْداً. حتى أدّانا السيرُ. الى قريَةٍ عزَبَ عنها الخيرُ. فدخلْناها للارْتِيادِ. وكِلانا منْفِضٌ منَ الزّادِ. فما

إنْ بلَغْنا المَحَطّ. والمُناخَ المخْتَطّ. أو لَقيَنا غُلامٌ لمْ يبلُغِ الحِنْثَ. وعلى عاتِقِه ضِغْثٌ. فحيّاهُ أبو زيدٍ تحيّةَ المُسلمِ. وسألَهُ وَقفَةَ المُفهِمِ. فقال: وعمّ تسألُ وفّقكَ اللهُ؟ قال: أيُباعُ هاهُنا الرُّطَبُ. بالخُطَبِ؟ قال: لا واللهِ! قال: ولا البلَحُ. بالمُلَحِ؟ قال: كلا واللهِ. قال: ولا الثّمرُ. بالسّمَرِ؟ قال: هيهاتَ واللهِ! قال: ولا العَصائِدُ. بالقصائدِ؟ قال: اسْكُتْ عافاكَ اللهُ! قال: ولا الثّرائِدُ. بالفَرائدِ؟ قال: أينَ يُذهَبُ بكَ أرشَدَكَ اللهُ؟ قال: ولا الدّقيقُ. بالمعْنى الدّقيقِ؟ قال: عدّ عنْ هذا أصْلَحَكَ اللهُ! واستَحْلى أبو زيدٍ تَراجُعَ السّؤالِ والجَوابِ. والتّكايُلَ منْ هذا الجِرابِ. ولمَحَ الغُلامُ أنّ

الشّوطَ بَطينٌ. والشيخَ سُوَيطينٌ. فقال له: حسبُكَ يا شيخُ قد عرَفْتُ فنّكَ. واستبَنْتُ أنّكَ. فخُذِ الجوابَ صُبرَةً. واكْتَفِ بهِ خِبرَةً: أما بهذا المكانِ فلا يُشتَرى الشِّعرُ بشَعيرَةٍ. ولا النّثرُ بنُثارَةٍ. ولا القَصَصُ بقُصاصَةٍ. ولا الرّسالَةُ بغُسالَةٍ. ولا حِكَمُ لُقْمانَ بلُقمَةٍ. ولا أخْبارُ المَلاحِمِ بلَحْمَةٍ. وأما جيلُ هذا الزّمانِ فما منهُمْ مَنْ يَميحُ. إذا صيغَ لهُ المديحُ. ولا مَنْ يُجيزُ. إذا أُنشِدَ لهُ الأراجيزُ. ولا منْ يُغيثُ. إذا أطرَبَهُ الحديثُ. ولا منْ يَميرُ. ولوْ أنّهُ أميرٌ. وعندَهُمْ أنّ مثَلَ الأديبِ. كالرّبْعِ الجَديبِ. إنْ لم تجُدِ الرّبْعَ ديمَةٌ. لمْ تكُنْ لهُ قيمةٌ. ولا دانَتْهُ بَهيمةٌ. وكذا الأدَبُ. إنْ لم يعْضُدْهُ نشَبٌ. فدَرْسُهُ نصَبٌ. وخزْنُهُ

حصَبٌ. ثمّ انسَدَرَ يعْدو. وولّى يحْدو. فقال لي أبو زيدٍ: أعَلِمْتَ أنّ الأدَبَ قد بارَ. وولّتْ أنصارُهُ الأدْبارَ؟ فبُؤتُ لهُ بحُسْنِ البَصيرَةِ. وسلّمْتُ بحُكْمِ الضّرورةِ. فقال: دعْنا الآنَ منَ المِصاعِ. وخُضْ في حديثِ القِصاعِ. واعْلَمْ أنّ الأسْجاعَ. لا تُشبِعُ منْ جاعَ. فما التّدبيرُ في ما يُمسِكُ الرّمَقَ. ويُطفِئ الحرَقَ؟ فقلتُ: الأمرُ إليْكَ. والزّمامُ بيديْكَ. فقال: أرى أنْ ترْهَنَ سيفَكَ. لتُشبِعَ جوفَكَ وضيفَكَ. فناوِلْنيهِ وأقِمْ. لأنقَلِبَ إليكَ بما تلْتَقِمُ. فأحسنْتُ به الظّنّ. وقلّدتُهُ السيفَ والرّهْنَ. فما لَبِثَ أنْ ركِبَ الناقَةَ. ورفضَ الصّدقَ والصّداقَةَ. فمكثْتُ مليّاً أترَقّبُهُ. ثمّ نهضْتُ أتعقّبُهُ. فكُنتُ كمَنْ ضيّعَ اللّبَنَ في الصّيفِ. ولم ألْقَهُ ولا السّيفَ.

المقامة الشتوية

المقامة الشّتَويّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عشَوْتُ في ليلَةٍ داجِيَةِ الظُّلَمِ. فاحِمَةِ اللِّمَمِ. الى نارٍ تُضْرَمُ على علَمٍ. وتُخبِرُ عن كرَمٍ. وكانتْ ليلَةً جوُّها مَقرورٌ. وجَيْبُها مَزْرورٌ. ونجمُها مغْمومٌ. وغيمُها مرْكومٌ. وأنا فيها أصْرَدُ منْ عينِ الحِرْباء. والعَنْزِ الجَرْباء. فلمْ أزلْ أنُصّ عنْسي. وأقولُ: طوبى لكِ ولَنفْسي! الى أن تبصّرَ المُوقِدُ آلي. وتبيّنَ إرْقالي. وتبيّنَ إرْقالي. فانحدَرَ يعْدو الجَمَزَى. ويُنشِدُ مُرتَجِزاً: حُيّيتَ منْ خابِطِ ليْلٍ ساري ... هَداهُ بلْ أهْداهُ ضوءُ النارِ الى رَحيبِ الباعِ رحْبِ الدّارِ ... مرحِّبٍ بالطّارِقِ المُمْتارِ

تَرْحابَ جعْدِ الكفّ بالدّينارِ ... ليسَ بمُزْوَرٍّ عنِ الزُوّارِ ولا بمِعْتامِ القِرى مِئْخارِ ... إذا اقشَعرّتْ تُرَبُ الأقْطارِ وضَنّتِ الأنواءُ بالأمْطارِ ... فهْوَ على بؤسِ الزّمانِ الضّاري جمُّ الرّمادِ مرهَفُ الشِّفارِ ... لمْ يخْلُ في ليلٍ ولا نَهارِ من نحْرِ وارٍ واقتِداحِ وارِي ثمّ تلقّاني بمُحيّا حَييٍّ. وصافَحَني براحَةِ أريَحِيٍّ. واقْتادَني الى بيتٍ عِشارُهُ تخورُ. وأعْشارُهُ تفورُ. وولائِدُهُ تمورُ.

وموائِدُهُ تدورُ. وبأكْسارِهِ أضْيافٌ قدْ جلبَهُم جالِبي. وقُلّبوا في قالَبي. وهُمْ يجتَنونَ فاكِهةَ الشّتاء. ويمرَحونَ مرَحَ ذَوي الفَتاء. فأخذْتُ مأخذَهُمْ في الاصطِلاء. ووجدْتُ بهِمْ وجْدَ الثّمِلِ بالطِّلاء. ولمّا أنْ سَرى الحصَرُ. وانْسَرى الخَصَرُ. أُتينا بمَوائِدَ كالهالاتِ دَوْراً. والرّوْضاتِ نَوْراً. وقد شُحنّ بأطْعِمَةِ الوَلائمِ. وحُمينَ منَ العائِبِ واللائِمِ. فرفَضْنا ما قيلَ في البِطنَةِ. ورأيْنا الإمْعانَ فيها منَ الفِطنَةِ. حتى إذا اكتَلْنا بصاعِ الحُطَمِ. وأشْفَيْنا على خطَرِ التُخَمِ. تعاوَرْنا مَشوشَ الغمَرِ. ثمّ تبوّأنا مقاعِدَ السّمَرِ. وأخذَ كُلُّ واحِدٍ منا يَشولُ بلِسانِهِ.

وينشُرُ ما في صِوانِهِ. ما عَدا شيخاً مُشتَهِباً فَوْداهُ. مُخلَوْلِقاً بُرْداهُ. فإنّهُ ربَضَ حَجرَةً. وأوسَعَنا هِجرَةً. فغاظَنا تجنّبُهُ. المُلتَبِسُ موجِبُهُ. المعْذورُ فيهِ مؤنّبُهُ. إلا أنّا ألَنّا لهُ القوْلَ. وخشِينا في المسألَةِ العوْلَ. وكلّما رُمْنا أنْ يَفيضَ كما فِضْنا. أو يُفيضَ في ما أفَضْنا. أعْرَضَ إعْراضَ العِلّيّةِ عنِ الأرْذَلينَ. وتَلا: إنْ هذا إلا أساطيرُ الأوّلينَ. ثمّ كأنّ الحَميّةَ هاجَتْهُ. والنّفْسَ الأبيّةَ ناجَتْهُ. فدلَفَ وازْدَلَفَ. وخلعَ الصّلَفَ. وبذلَ أنْ يتَلافى ما سلَفَ. ثمّ استرْعى سمْعَ السّامِرِ. واندفَعَ كالسّيلِ الهامِرِ. وقال: عِندي أعاجيبُ أرْويها بلا كذِبِ ... عنِ العِيانِ فكَنّوني أبا العجَبِ

رأيتُ يا قوْمِ أقْواماً غذاؤهُمُ ... بَوْلُ العجوزِ وما أعني ابنَةَ العِنَبِ ومُسنِتِينَ منَ الأعْرابِ قوتُهُمُ ... أن يشتووا خِرقةً تُغني من السّغَبِ وقادِرينَ متى ما ساء صُنعُهُمُ ... أو قصّروا فيه قالوا الذّنْبُ للحطَبِ وكاتِبينَ وما خطّتْ أنامِلُهُمْ ... حرْفاً ولا قرَأوا ما خُطّ في الكُتُبِ وتابِعينَ عُقاباً في مسيرِهِمِ ... على تكمّيهِمِ في البيْضِ واليَلَبِ ومُنتَدينَ ذَوي نُبْلٍ بدَتْ لهُمُ ... نبيلَةٌ فانْثَنوْا منها الى الهرَبِ وعُصبَةً لمْ ترَ البيْتَ العَتيقَ وقدْ ... حجّتْ جُثِيّاً بلا شكٍّ على الرُّكَبِ ونِسوَةً بعدَما أدْلجنَ من حلَبٍ ... صبّحنَ كاظِمَةً من غيرِ ما تعَبِ

ومُدلِجينَ سرَوْا من أرضِ كاظِمَةٍ ... فأصبَحوا حينَ لاحَ الصُبحُ في حلَبِ ويافِعاً لم يُلامِسْ قطُّ غانِيَةً ... شاهَدتُهُ ولهُ نسلٌ منَ العَقِبِ وشائِباً غيرَ مُخْفٍ للمَشيبِ بَدا ... في البَدْوِ وهْوَ فتيُّ السِّنّ لم يشِبِ ومُرضَعاً بلِبانٍ لمْ يفُهْ فمُهُ ... رأيتُهُ في شِجارٍ بيّنِ السّبَبِ وزارِعاً ذُرَةً حتى إذا حُصِدَتْ ... صارتْ غُبَيراء يهواها أخو الطّرَبِ وراكِباً وهْوَ مغلولٌ على فرَسٍ ... قد غُلّ أيضاً وما ينفكّ عن خبَبِ وذا يدٍ طُلُقٍ يقْتادُ راحِلَةً ... مُستَعجِلاً وهْوَ مأسورٌ أخو كُرَبِ

وجالِساً ماشياً تهْوي مطيّتُهُ ... بهِ وما في الذي أوْرَدتُ من رِيَبِ وحائكاً أجْذَمَ الكفّينِ ذا خرَسٍ ... فإن عجبتمْ فكمْ في الخَلقِ من عجَبِ وذا شَطاطٍ كصدرِ الرّمحِ قامَتُهُ ... صادَفتُهُ بمِنًى يشكو منَ الحدَبِ وساعياً في مسَرّاتِ الأنامِ يرى ... إفْراحَهُمْ مأثماً كالظُّلمِ والكذِبِ ومُغْرَماً بمُناجاةِ الرّجالِ لهُ ... وما له في حديثِ الخلقِ من أرَبِ وذا ذِمامٍ وفَتْ بالعَهْدِ ذمّتُهُ ... ولا ذِمامَ لهُ في مذهَبِ العرَبِ

وذا قُوًى ما اسْتبانَتْ قطّ لِينَتُهُ ... ولِينُهُ مُستَبينٌ غيرُ مُحتجِبِ وساجداً فوقَ فحْلٍ غيرَ مكترِثٍ ... بِماأتى بلْ يراهُ أفضلَ القُرَبِ وعاذِراً مؤلِماً مَنْ ظلّ يعذِرُهُ ... معَ التّلطّفِ والمعذورُ في صخَبِ وبلْدَةً ما بها ماءٌ لمُغتَرِفٍ ... والماءُ يجري عليْها جرْيَ مُنسرِبِ وقريةً دونَ أُفحوصِ القطا شُحنتْ ... بديلمٍ عشيهُمْ من خُلسَةِ السّلَبِ وكوْكَباً يتَوارى عندَ رؤيتهِ ال ... إنسانُ حتى يُرَى في أمنَعِ الحُجُبِ وروْثَةً قوّمَتْ مالاً لهُ خطَرٌ ... ونفْسُ صاحِبِها بالمالِ لم تطِبِ

وصحفَةً من نُضارٍ خالصٍ شُريتْ ... بعدَ المِكاسِ بقيراطٍ من الذّهبِ ومُستَجيشاً بخشْخاشٍ ليدفعَ ما ... أظَلّهُ منْ أعاديهِ فلمْ يخِبِ وطالَما مرّ بي كلبٌ وفي فمهِ ... ثورٌ ولكنّهُ ثورٌ بلا ذنَبِ وكمْ رأى ناظِير فيلاً على جمَلٍ ... وقد تورّكَ فوقَ الرّحْلِ والقتَبِ وكم لَقيتُ بعرْضِ البيدِ مُشتكياً ... وما اشتكى قطّ في جِدٍّ وفي لعِبِ وكنتُ أبصرْتُ كرّازاً لراعِيَةٍ ... بالدّوّ ينظُرُ من عينَينِ كالشُهُبِ

وكم رأتْ مُقلَتي عينَينِ ماؤهُما ... يجري من الغَرْبِ والعَينانِ في حلَبِ وصادِعاً بالقَنا من غيرِ أن علِقَتْ ... كفّاهُ يوماً برُمْحٍ لا ولمْ يثِبِ وكم نزلْتُ بأرضٍ لا نَخيلَ بها ... وبعدَ يوم رأيتُ البُسرَ في القُلُبِ وكم رأيتُ بأقْطارِ الفَلا طبَقاً ... يطيرُ في الجوّ منصَبّاً الى صبَبِ وكم مشايخَ في الدُنْيا رأيتُهُمُ ... مخَلَّدينَ ومَنْ ينْجو من العطَبِ وكم بدا لي وحْشٌ يشتكي سغَباً ... بمنطِقٍ ذلِقٍ أمضى منَ القُضُبِ وكم دَعانيَ مُستَنْجٍ فحادثَني ... وما أخَلّ ولا أخْلَلْتُ بالأدَبِ

وكم أنختُ قَلوصي تحت جُنبُذَةٍ ... تُظلّ ما شئتَ من عُجمٍ ومن عُرُبِ وكم نظرْتُ الى منع سُرّ ساعَتَهُ ... ودمعُهُ مستَهِلُّ القطرِ كالسُّحُبِ وكم رأيتُ قَميصاً ضرّ صاحِبَهُ ... حتى انثنَى واهيَ الأعضاء والعصَبِ وكمْ إزارٍ لوَ انّ الدهرَ أتلَفَهُ ... لجفّ لِبْدُ حَثيثِ السيرِ مُضطرِبِ هذا وكمْ منْ أفانينٍ معجِّبَةٍ ... عندي ومن مُلَحٍ تُلهي ومن نُخَبِ فإنْ فطِنتمْ للَحنِ القوْلِ بان لكُمْ ... صِدْقي ودلّكُمُ طلْعي على رُطَبي

وإنْ شُدِهتُمْ فإنّ العارَ فيهِ على ... منْ لا يُمَيّزُ بينَ العودِ والخشَبِ قال الحارثُ بنُ همّام: فطفِقْنا نخبِطُ في تقْليبِ قَريضِهِ. وتأويلِ مَعاريضِهِ. وهوَ يلهو بِنا لهْوَ الخليّ بالشّجيّ. ويقول: ليسَ بعُشّكِ فادْرُجي. الى أن تعسّرَ النّتاجُ. واستحْكَمَ الارْتجاجُ. فألْقَينا إليْهِ المَقادَةَ. وخطَبْنا منهُ الإفادَةَ. فوقَفْنا بينَ المَطمَعِ والياسِ. وقال: الإيناسف قبلَ الإبْساسِ! فعلِمنا أنهُ ممّنْ يرغَبُ في الشُّكْمِ. ويرْتَشي في الحُكْمِ. وساء أبا مثْوانا أنْ نعرَّضَ للغُرْمِ. أو نُخَيَّبَ بالرُّغْمِ. فأحْضَرَ صاحِبُ المنزِلِ ناقةً عِيديّةً. وحُلّةً سَعيديّةً. وقال له: خُذْهُما حَلالاً. ولا ترْزأ أضْيافي زِبالاً. فقال: أشهَدُ أنها شِنشِنَةٌ أخزَميّةٌ. وأريَحيّةٌ حاتِميّةٌ. ثم قابلَنا بوجهٍ بِشرُهُ يشِفّ.

ونَضْرَتُهُ ترِفّ. وقال: يا قوْمِ إنّ الليْلَ قدِ اجْلَوّذَ. والنّعاسَ قدِ استحْوَذَ. فافْزَعوا الى المَراقِدِ. واغتَنِموا راحَةَ الرّاقِدِ. لتَشرَبوا نَشاطاً. وتُبعَثوا نِشاطاً. فتَعوا ما أفَسّرُ. ويتسهّلَ لكُمُ المتعسِّرُ. فاسْتَصوَبَ كلٌ ما رآهُ. وتوسّد وِسادَةَ كَراهُ. فلمّا وسَنَتِ الأجْفانُ. وأغْفَتِ الضِّيفانُ. وثبَ الى النّاقَةِ فرحَلَها. ثمّ ارتَحَلَها ورحّلَها. وقال مُخاطِباً لها: سَروجَ يا ناقَ فَسيري وخِدِي ... وأدْلِجي وأوّبي وأسْئِدي حتى تَطا خُفّاكِ مرْعاها النّدي ... فتَنعَمي حينَئذٍ وتَسعَدي وتأمَني أنْ تُتْهِمي وتُنْجِدي ... إيهِ فدَتكِ النّوقُ جِدّي واجهَدي وافْرِي أديمَ فدْفَدٍ ففَدْفَدِ ... واقْتَنِعِي بالنّشْحِ عندَ الموْرِدِ

ولا تَحُطّي دونَ ذاكَ المَقصِدِ ... فقدْ حلَفْتُ حَلفَةَ المُجتَهِدِ بحُرمَةِ البيتِ الرّفيعِ العُمُدِ ... إنّكِ إنْ أحلَلْتِني في بلَدي حللْتِ منّي بمحَلّ الولَدِ قل: فعلِمْتُ أنهُ السّروجيُّ الذي إذا باعَ انْباعَ. وإذا ملأ الصّاعَ انْصاعَ. ولمّا انبلَجَ صَباحُ اليومِ. وهبّ النّوّامُ منَ النّومِ. أعلَمتُهُمْ أن الشيخَ حينَ أغْشاهُمُ السُباتَ. طلّقَهُمُ البَتاتَ. وركِبَ النّاقَةَ وفاتَ. فأخذَهُم ما قَدُمَ وما حَدُثَ. ونَسوا ما طابَ منهُ بِما خبُثَ. ثمّ انشَعَبْنا في كلّ مشْعَبٍ. وذهبْنا تحْتَ كُلّ كوكَبٍ. قال الشيخ الرئيس أبو محمد القاسم بن علي رضي الله عنه قد فسرت سر كل لعر تحته ولم أبعد على من يقرأه كتفه وقد بقيت أليماط اشتملت عليها هذه المقدمة ربما التمس تفسيرها على بعض من تقع إليه فأحببت إيضاحها له يكسى حيرة الشبهة

الأول وقوله (من نحر وار) يعني الجمل المكتنز شحماً الكثير مخاً. وقوله (عشارة تخور وإعشاره تفور) العشار النوق الحوامل والأعشار البرمة العظيمة كأنها شعبت لعظميها يقال برمة أعشار وجفنة أكسار وثوب أسمال وبرد أخلاق وحبل أرمام ووصف الجماعة منها كوصف الواحد. وقوله (فاكهة الشتاء) كني بها عن النار ومنه قوله بعض المحدثين النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتياً فليصطل أن الفواكه في الشتاء شهية ... والتار المقرور أفضل مأكل وقوله (موائد كالهالات) يعني دارات القمر ودارة الشمس تسمى الطفاوة. وقوله (مشوش الغمر) يعني المنديل يقال مش يده بالمنديل أي مسحها ومنه قول امرئ القيس نمش بأعراف الحياد اكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب وقوله (مشتهباً فوداه) أي صارا من الشيب في لون الأشهب ومنه قول امرئ القيس أيضاً قالت الخساء لما جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب وقوله (رنص حجرة) يعني ناحية ويقال في المثل لمن يشارك في الرخاء ويجانب عند البلاء يرتع وسطاً ويربض حجرة. وقوله (فاسترعة سمع السامر) يعني السمار لأن السامر اسم للجمع كالحاضر اسم للحي النازلين على الماء وكالباقر اسم لجماعة البقر وقال بعض أهل اللغة هوة اسم للبقر مع رعاتها واشتقاق السامر من السمر وهو ظل القمر مأخوذ من السمرة فلما كان غالب أحوال السمار أنهم يتحدثون في ظل القمر اشتق لهم اسم منه وإلى هذا يرجع قولهم لا أكلمه القمر والسمر. وقوله (ليس يعشك فادرجي) هذا مثل يضرب لمن يتعاطى ما لا ينبغي له والعشر ما يكون في شجرة فإذا كان في حائط أو كهف جبل فهو وكر. وقوله (الإيناس قبل الإنساس) هذا مثل أيضاً ومعناه أنه ينبغي أن بؤس الإنسان ث م يكلف واصله أن حالب الناقة يؤنسها حين يروم حلبها ثم لبس بها الحلب والإيساس أن تقول لها بس لتسكن وتدر وتسمى الناقة التي تدر على الابساس البسوس. وقوله (يرغب في الشكم) الشكم ما أعطيته على سبيل المجازاة فإن أعطيته مبتدءاً فهو الشكد. وقوله (ساء أبا مثوابا) يعني المضيف الذي أووا إليه وثووا عنده. وقوله (ناقة عيدية) قيل أنها منسوبة إلى فحل منجب اسمه عيد وقيل هي منسوبة إلى فخذ من مهرة اسمه عيد بن ميرة وكانت مهرة وعيد تتخذان نجائب الإبل

فنسبت إليهما. وقوله (حلة سعيدية) هي منسوبة إلى سعيد بن العاص وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كساه وهو غلام حلة فنسب جسها إليه. وقوله (لا ترزأ أضيافي ربالاً) أي لا ترزأهم شيئاً وإن قل والأصل في الزبال ما تحمله النملة بفيها. وقوله (شنشة خزيمة) أشار به إلى المثل الذي ضربه حد حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن الخزم الطاءي حين نشأ حاتم وتقيل أخلاق جده أخزم في الجود فقال شنشة أعرفها من الخزم وتمثل عقيل بن غلفة بن حي قال إن بني ضر جوني ما نداه ... من يلق آساد الرجال يكم شنشة أعرفها من أخزم ومن ادعى أن المثل فقد سها فيه وقوله (الجلوذ) أي أسرع في الذهاب ومتهة حلاوط. وقوله (وثب إلى الناقة فرحلها) يعني شد عليها الرحل وبه سميت الراحلة لأنها بمعنى مفعولة كقوله تعالى في عيشة راضية وكقوله تعالى من داعي أي مدموق والراحلة تقعل على الناقة والجمل ودخول الهاء فيها بمبالغة مثل دهية وراوية. وقوله (ارتحلها) أي ركبها وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فركبه الحسن ومضى في سجوده فلما قضى صلاته قال إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله. وقوله (ورحيا) أي زعجها وأشخصها واحد بها في ترحيل

المقامة الرملية

المقامة الرّمليّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: كنتُ أخذْتُ عنْ أولي التّجارِيبِ. أنّ السّفَرَ مِرآةُ الأعاجيبِ. فلمْ أزَلْ أجوبُ كلّ تَنوفَةٍ. وأقتَحِمُ كُلّ مَخوفَةٍ. حتى اجتَلَبْتُ كلّ أُطروفَةٍ. فمِنْ أحسَنِ ما لمحْتُهُ. وأغْرَبِ ما استَمْلَحْتُهُ. أنْ حضَرْتُ قاضيَ الرّملَةِ. وكانَ منْ أربابِ الدّولَةِ والصّولَةِ. وقد تَرافَعَ إليْهِ بالٍ في بالٍ. وذاتُ جَمالٍ في أسْمالٍ. فهمّ الشيخُ بالكلامِ. وتِبْيانِ المَرامِ. فمنعَتْهُ الفَتاةُ منَ الإفْصاحِ. وخسأتْهُ عنِ النُباحِ. ثمّ نضَتْ عنها فَضْلَةَ الوِشاحِ. وأنشدَتْ بلِسانِ السّليطَةِ الوَقاحِ: يا قاضيَ الرّملَةِ يا ذا الذي ... في يدِهِ التّمرَةُ والجَمْرَهْ إليْكَ أشْكو جوْرَ بعْلي الذي ... لمْ يحجُجِ البيتَ سوى مرّهْ

ولَيْتَهُ لمّا قضى نُسكَهُ ... وخفّ ظَهراً إذْ رمى الجَمرَهْ كانَ على رأيِ أبي يوسُفٍ ... في صِلَةِ الحِجّةِ بالعُمْرَهْ هذا على أنّيَ مُذْ ضمّني ... إليْهِ لمْ أعْصِ لهُ أمْرَهْ فمُرْهُ إمّا أُلفَةً حُلوَةً ... تُرْضي وإمّا فُرقَةً مُرّهْ منْ قبلِ أنْ أخلَعَ ثوْبَ الحَيا ... في طاعَةِ الشيخِ أبي مرّهْ فقال لهُ القاضي: قد سمِعتَ بما عزَتْكَ إليْهِ. وتوعّدَتْكَ عليْهِ. فجانِبْ ما عرّكَ. وحاذِرْ أنْ تُفرَكَ. وتُعْرَكَ. فجَثا الشيخُ على ثفِناتِهِ. وفجَرَ ينْبوعَ نفثَاتِهِ. وقال: إسمَعْ عداكَ الذّمُّ قولَ امرئٍ ... يوضِحُ في ما رابَها عُذرَهْ واللهِ ما أعْرَضْتُ عنها قِلًى ... ولا هَوَى قلبي قضى نذرَهْ

وإنّما الدهْرُ عَدا صرْفُهُ ... فابْتَزّنا الدُّرّةَ والذّرّهْ فمنزِلي قفرٌ كما جِيدُها ... عُطْلٌ منَ الجَزْعَةِ والشّذْرَهْ وكنتُ منْ قبْلُ أرى في الهَوى ... ودينِهِ رأيَ بني عُذرَهْ فمُذْ نَبا الدهرُ هجَرْتُ الدُّمى ... هِجرانَ عفٍّ آخِذٍ حِذْرَهْ ومِلتُ عنْ حَرْثيَ لا رغبَةً ... عنهُ ولكِنْ أتّقي بَذْرَهْ فلا تلُمْ مَنْ هذِهِ حالُهُ ... واعطِفْ عليْهِ واحتَمِلْ هَذرَهْ قال: فالتَظَتِ المرأةُ منْ مَقالِهِ. وانتضَتِ الحُجَجَ لجِدالِهِ. وقالتْ لهُ: ويلَكَ يا مَرْقَعانُ. يا مَنْ هُو لا طَعامٌ ولا طِعانٌ! أتَضيقُ بالولَدِ ذرْعاً. ولكُلّ أكولَةٍ مرْعًى؟ لقدْ ضلّ فهْمُكَ. وأخطأ سهمُكَ. وسفِهَتْ نفسُكَ. وشقِيَتْ بِكِ عِرسُكَ. فقال لها

القاضي: أمّا أنتِ فلوْ جادَلتِ الخنْساء. لانثَنَتْ عنكِ خرْساء. وأما هوَ فإنْ كانَ صدَقَ في زعمِهِ. ودعْوى عُدْمِهِ. فلهُ في همّ قَبْقَبِهِ. ما يشغلُهُ عنْ ذبْذَبِهِ. فأطرَقَتْ تنظُرُ ازوِراراً. ولا تُرجِعُ حِواراً. حتى قُلْنا: قد راجعَها الخفَرُ. أو حاقَ بها الظّفَرُ. فقالَ لها الشيخُ: تعْساً لكِ إنْ زخْرفْتِ. أو كتَمْتِ ما عرَفْتِ! فقالت: ويْحَكَ وهلْ بعْدَ المُنافَرَةِ كتْمٌ. أو بقيَ لنا على سِرٍّ ختْمٌ؟ وما فينا إلا مَنْ صدَقَ. وهتَكَ صوْنَهُ إذ نطَقَ. فلَيتَنا لاقَيْنا البَكَمَ. ولمْ نلْقَ الحكَمَ. ثمّ التفَعَتْ بوِشاحِها. وتباكَتْ لافْتِضاحِها. وجعلَ القاضي يَعجَبُ منْ خطبِهِما ويُعجِّبُ. ويلومُ لهُما الدّهْرَ ويؤنِّبُ. ثمّ أحْضَرَ من الورِقِ ألْفَينِ. وقال: أرْضِيا بهِما

الأجْوَفَينِ. وعاصِيا النّازغَ بينَ الإلْفينِ. فشَكَراهُ على حُسنِ السَّراحِ. وانطَلَقا وهُما كالماء والرّاحِ. وطفِقَ القاضي بعْدَ مسرَحِهِما. وتَنائي شبَحِهِما. يُثْني على أدَبِهِما. ويقول: هل منْ عارِفٍ بهِما؟ فقال لهُ عينُ أعْوانِهِ. وخالِصَةُ خُلْصانِهِ: أما الشيخُ فالسّروجيّ المشهودُ بفضلِهِ. وأما المرأةُ فقَعيدَةُ رحْلِه. وأمّا تحكُمُهما فمَكيدةٌ من فِعلِهِ. وأُحبولَةٌ من حبائِلِ ختْلِه! فأحْفَظَ القاضيَ ما سمِعَ. وتلهّبَ كيفَ خُدِعَ. ثمّ قال للواشي بهِما: قُمْ فرُدْهُما. ثم اقصِدْهُما وصِدْهُما. فنهضَ ينفُضُ مِذروَيْهِ. ثمّ عادَ يضرِبُ أصْدَرَيْهِ! فقال لهُ القاضي: أظهِرْنا على ما نبَثْتَ.

ولا تُخْفِ عنّا ما استَخْبَثْتَ. فقال: ما زِلْتُ أستَقْري الطُّرُقَ. وأستَفتِحُ الغُلُقَ. الى أن أدرَكْتُهُما مُصْحِرَينِ. وقد زمّا مطيَّ البيْنِ. فرغّبتُهُما في العَلَلِ. وكفَلْتُ لهُما بنَيلِ الأمَلِ. فأُشْرِبَ قلبُ الشّيخِ أن ييْأسَ. وقال: الفِرارُ بقُرابٍ أكيَسُ! وقالتْ هيَ: بلِ العوْدُ أحمَدُ. والفَروقَةُ يَكْمَدُ. فلمّا تبيّن الشيخُ سفَهَ رائِها. وغَرَرَ اجتِرائِها. أمسكَ ذَلاذِلَها. ثمّ أنشأ يقول لها: دونَكَ نُصْحي فاقتَفي سُبْلَهْ ... واغني عنِ التّفصيلِ بالجُملَهْ طيري متى نقّرْتِ عن نخلَةٍ ... وطلّقِيها بتّةً بتْلَهْ

وحاذِري العوْدَ إليْها ولوْ ... سبّلَها ناطورُها الأبْلَهْ فخيرُ ما للّصّ أنْ لا يُرى ... ببُقْعةٍ فيها لهُ عَمْلَهْ ثمّ قال لي: لقدْ عُنّيتَ. في ما وُلّيتَ. فارجِعْ منْ حيثُ جِئْتَ. وقلْ لمُرسِلِكَ إن شِئْتَ: رُوَيدَكَ لا تُعقِبْ جَميلَكَ بالأذى ... فتُضْحي وشملُ المال والحمد مُنصَدعْ ولا تتغضّبْ منْ تزَيُّدِ سائِلٍ ... فما هوَ في صوْغِ اللّسانِ بمُبتدِعْ وإنْ تكُ قد ساءتكَ مني خَديعَةٌ ... فقبلكَ شيخُ الأشعرِيّينَ قد خُدِعْ

المقامة الحلبية

فقالَ لهُ القاضي: قاتَلَهُ اللهُ فما أحسَنَ شُجونَهُ. وأملَحَ فنونَهُ! ثمّ إنّهُ أصْحَبَ رائِدَهُ بفرْدَينِ. وصُرّةً منَ العينِ. وقالَ لهُ: سِرْ سَيرَ منْ لا يرَى الالتِفاتَ. الى أن تَرى الشيْخَ والفَتاةَ. فبُلّ يدَيْهِما بهَذا الحِباء. وبيّن لهُما انخِداعي للأدَباء. قال الرّاوي: فلمْ أرَ في الاغتِرابِ. كهَذا العُجابِ. ولا سمِعْتُ بمِثلِه ممّنْ جالَ وجابَ. المقامة الحلبيّة روى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: نزعَ بي الى حلَبَ. شوْقٌ غلَبَ. وطلَبٌ يا لهُ من طلَبٍ! وكنتُ يومَئِذٍ خَفيفَ الحاذِ. حَثيثَ النّفاذِ. فأخذْتُ أُهبَةَ السيرِ. وخفَفْتُ نحوَها خُفوفَ الطّيرِ. ولمْ أزَلْ مُذْ حلَلْتُ رُبوعَها. وارْتبَعْتُ ربيعَها. أُفاني الأيّامَ.

في ما يَشْفي الغَرامَ. ويُرْوي الأُوامَ. الى أنْ أقْصرَ القلْبُ عنْ وَلوعِهِ. واسْتَطارَ غُرابُ البينِ بعْدَ وقوعِهِ. فأغْراني البالُ الخِلْوُ. والمرَحُ الحُلوُ. بأنْ أقصِدَ حِمْصَ. لأصْطافَ ببُقعَتِها. وأسبُرَ رَقاعَةَ أهلِ رُقعتِها. أفْرَعْتُ إليْها إسْراعَ النّجْمِ. إذا انْقَضّ للرّجْمِ. فحينَ خيّمتُ برُسومِها. ووجَدْتُ رَوْحَ نَسيمِها. لمحَ طَرْفي شيْخاً قد أقبلَ هَريرُهُ. وأدبَرَ غَريرُهُ. وعندَهُ عشَرَةُ صِبْيانٍ. صِنْوانٌ وغيرُ صِنْوانٍ. فطاوَعْتُ في قصْدِهِ الحِرصَ. لأخبُرَ بهِ أُدَباءَ حِمصَ. فبَشّ بي حينَ وافَيتُهُ. وحيّا بأحسَنَ ممّا

حيّيتُهُ. فجلسْتُ إليْهِ لأبلوَ جنى نُطقِهِ. وأكْتَنِهَ كُنْهَ حُمقِهِ. فما لبِثَ أنْ أشارَ بعُصَيّتِهِ. الى كُبْرِ أُصَيْبِيَتِهِ. وقال لهُ: أنشِدِ الأبياتَ العَواطِلَ. واحْذَرْ أن تُماطِلَ. فجَثا جِثوَةَ ليْثٍ. وأنشدَ منْ غيرِ ريْثٍ: أعْدِدْ لحُسّادِكَ حدّ السّلاحْ ... وأوْرِدْ وِرْدَ السّماحْ وصارِمِ اللهْوَ ووصْلَ المَها ... وأعمِلِ الكومَ وسُمرَ الرّماحْ واسْعَ لإدْراكِ محَلٍّ سَما ... عِمادُهُ لا لادّراعِ المِراحْ واللهِ ما السّؤدُدُ حسْوُ الطِّلا ... ولا مَرادُ الحَمدِ رُودٌ رَداحْ

واهاً لحُرٍّ واسِعٍ صدرُهُ ... وهمُّهُ ما سَرّ أهْلَ الصّلاحْ مورِدُهُ حُلوٌ لسؤّالِهِ ... ومالُهُ ما سألوهُ مُطاحْ ما أسمَعَ الآمِلَ رَدّاً ولا ... ماطَلَهُ والمطْلُ لؤمٌ صُراحْ ولا أطاعَ اللهْوَ لمّا دَعا ... ولا كَسا راحاً لهُ كأسَ راحْ سوّدَهُ إصْلاحُهُ سرَّهُ ... ورَدْعُهُ أهْواءهُ والطِّماحْ وحصّلَ المدْحَ لهُ علمُهُ ... ما مُهِرَ العورُ مُهورَ الصِّحاحْ فقال لهُ: أحسَنتَ يا بُدَيرُ. يا رأسَ الدّيرِ! ثمّ قالَ لتِلوِهِ. المُشتَبِهِ بصِنْوِهِ: ادنُ يا نُوَيرَةُ. يا قمَرَ الدُوَيرَةِ! فدَنا ولمْ يتَباطا. حتى حلّ منهُ مقْعَدَ المُعاطى. فقال لهُ: اجْلُ الأبْياتَ العَرائِسَ.

وإنْ لمْ يكُنّ نَفائِسَ. فبَرى القلَم وقَطّ. ثمّ احْتَجَرَ اللّوْحَ وخطّ: فتَنَتْني فجنّنَتْني تجَنّي ... بتَجنٍّ يفْتَنّ غِبَّ تجَنّي شغَفَتني بجَفنِ ظَبْيٍ غَضيضٍ ... غنِجٍ يقْتَضي تغَيُّضَ جَفْني غَشيَتْني بزِينتَينِ فشفّتْ ... ني بزِيٍّ يشِفّ بينَ تثَنّي فتظَنّيتُ تجْتَبيني فتجْزي ... ني بنَفْثٍ يشْفي فخُيّبَ ظنّي ثبّتَتْ فيّ غِشّ جيْبٍ بتَزْيي ... نِ خَبيثٍ يبْغي تشَفّيَ ضِغْن فنَزَتْ في تجنّي فثنَتْ ... ني بنَشيجٍ يُشْجي بفَنٍّ ففَنّ فلمّا نظرَ الشيخُ الى ما حبّرَهُ. وتصفّحَ ما زبَرَهُ. قال له: بورِكَ فيكَ منْ طَلاً. كما بورِكَ في لا ولا. ثمّ هتَفَ: اقْرُبْ.

يا قُطْرُبُ. فاقْتَرَبَ منهُ فتًى يحْكي نجْمَ دُجْيةٍ. أو تِمْثالَ دُميةٍ. فقال لهُ: ارْقُمِ الأبْياتَ الأخْيافَ. وتجنّبِ الخِلافَ. فأخذَ القلَمَ ورقَمَ: إسْمَحْ فبَثُّ السّماحِ زَينٌ ... ولا تُخِبْ آمِلاً تضَيّفْ ولا تُجِزْ رَدَّ ذي سؤالٍ ... فنّنَ أم في السّوالِ خفَّفْ ولا تظُنّ الدّهورَ تُبقي ... مالَ ضَنينٍ ولوْ تقَشّفْ واحلُمْ فجفنُ الكرامِ يُغضي ... وصَدرُهمْ في العَطاء نفنَفْ ولا تخُنْ عهْدَ ذي وِدادٍ ... ثبْتٍ ولا تبْغِ ما تزيَّفْ فقال له: لا شَلّتْ يَداكَ. ولا كلّتْ مُداكَ. ثمّ نادى: يا عشَمْشَمُ.

يا عِطْرَ منْشَمَ! فلبّاهُ غُلامٌ كدُرّةِ غوّاصٍ. أو جُؤذُرِ قنّاصٍ. فقالَ لهُ: اكتُبِ الأبياتَ المَتائِيمَ. ولا تكُنْ منَ المَشائيمِ. فتناولَ القلَمَ المثقّفَ. وكتبَ ولمْ يتوقّفْ: زُيّنتْ زينَبٌ بقَدٍّ يقُدُّ ... وتَلاهُ ويْلاهُ نهْدٌ يهُدُّ جُندُها جيدُها وظَرفٌ وطَرْفٌ ... ناعِسٌ تاعِسٌ بحدٍّ يَحُدُّ قدرُها قدْ زَها وتاهَتْ وباهَتْ ... واعْتَدَتْ واغتَدَتْ بخَدٍّ يخُدّ

فارَقَتْني فأرّقَتْني وشطّتْ ... وسطَتْ ثمّ نمّ وجْدٌ وجَدّ فدَنَتْ فدّيَتْ وحنّتْ وحيّتْ ... مُغضَباً مُغضِياً يوَدّ يُوَدّ فطفِقَ الشيخُ يتأمّلُ ما سطَرَهُ. ويقلّبُ فيهِ نظرَهُ. فلمّا استحسَنَ خطَّهُ. واستَصَحّ ضبْطَهُ. قال لهُ: لا شَلّ عشرُكَ. ولا استُخبِثَ نشْرُكَ. ثمّ أهابَ بفتًى فتّان. يسفِرُ عنْ أزهارِ بُستانٍ. فقالَ لهُ: أنشِدِ البَيتينِ المُطرَفَينِ. المُشتَبِهَيِ الطّرفَينِ. اللذَينِ أسْكَتا

كلّ نافِثٍ. وأمِنا أنْ يعَزَّزا بثالِثٍ. فقالَ له: اسمَعْ لا وُقِرَ سمْعُكَ. ولا هُزِمَ جمعُكَ. وأنشدَ منْ غيرِ تلبّثٍ. ولا تريّثٍ: سِمْ سِمَةً تحْسُنُ آثارُها ... واشكُرْ لمنْ أعطى ولوْ سِمسِمَهْ والمكْرُ مهْما استطَعْتَ لا تأتِهِ ... لتَقْتَني السّؤدَدَ والمَكرُمَهْ فقال لهُ: أجدْتَ يا زُغْلولُ. يا أبا الغُلولِ. ثمّ نادَى: أوضِح يا ياسينُ. ما يُشكِلُ من ذَواتِ السّينِ. فنهضَ ولمْ يتأنّ. وأنشدَ بصوْتٍ أغنّ: نِقْسُ الدّواةِ ورُسغُ الكفّ مُثبَتةٌ ... سيناهُما إنْ هُما خُطّا وإنْ دُرِسا وهكذا السّينُ في قسْبٍ وباسِقَةٍ ... والسفحِ والبخس واقسِرْ واقتبس قبَسا

وفي تقسّسْتُ باللّيلِ الكلامَ وفي ... مُسيطرٍ وشَموسٍ واتخِذْ جرَسا وفي قَريسٍ وبرْدٍ قارِسٍ فخذِ ال ... صّوابَ منّي وكُنْ للعِلمِ مُقتَبِسا فقال لهُ: أحسنْتَ يا نُغَيشُ. يا صنّاجةَ الجيْشِ. ثمّ قال: ثِبْ يا عَنبَسَةُ. وبيّنِ الصّاداتِ المُلتَبِسَةَ. فوثبَ وِثبَةَ شِبلٍ مُثارٍ. ثم أنشَدَ من غيرِ عِثارٍ: بالصّادِ يُكتَبُ قد قبَصْتُ دراهِماً ... بأنامِلي وأصِخْ لتَستَمِعَ الخَبَرْ

وبصَقْتُ أبصُقُ والصِّماخُ وصَنجةٌ ... والقَصُّ وهْوَ الصّدرُ واقتصّ الأثَرْ وبخَصْتُ مُقلتَهُ وهَذي فُرصَةٌ ... قد أُرعِدَتْ منهُ الفَريصَةُ للخَوْرِ وقصَرْتُ هِنداً أي حبَستُ وقد دنا ... فِصْحُ النّصارَى وهْوَ عيدٌ مُنتظَر وقرَصْتُهُ والخمْرُ قارِصَةٌ إذا ... حذَتِ اللّسانَ وكلّ هذا مُستَطَرْ فقال له: رَعْياً لكَ يا بُنيّ. فلقدْ أقرَرْتَ عينيّ. ثمّ استَنْهَضَ ذا جُثّةٍ كالبَيذَقِ. ونَعشَةٍ كالسّوذَقِ. وأمرَهُ بأنْ يقِفَ بالمِرصادِ. ويسرُدَ ما يجْري على السّينِ والصّادِ. فنهضَ يسحَبُ بُردَيْهِ. ثمّ

أنشَدَ مُشيراً بيدَيْهِ: إنْ شِئْتَ بالسّينِ فاكتُبْ ما أبيّنهُ ... وإنْ تَشأ فهْوَ بالصّاداتِ يُكتَتَبُ مَغسٌ وفَقسٌ ومُسطارٌ ومُمّلسٌ ... وسالغٌ وسِراطُ الحقّ والسّقَبُ والسّامِغانِ وسقْرٌ والسَّويقُ ومِسْ ... لاقٌ وعن كل هذا تُفصحُ الكُتُبُ فقال له: أحسَنتَ يا حبَقَةُ. يا عينَ بقّةَ. ثمّ نادى: يا دَغْفَلُ. يا أبا زَنفَلَ. فلبّاهُ فتًى أحسَنُ منْ بيضَةٍ. في روضَةٍ. فقال له: ما

عَقْدُ هِجاء الأفعالِ. التي أخِرُها حرْفُ اعتِلالٍ؟ فقال: اسْمَعْ لا صُمّ صَداكَ. ولا سمِعَتْ عِداكَ! ثمّ أنشدَ. وما استَرشَدَ: إذا الفِعْلُ يوماً غُمّ عنْكَ هجاؤه ... فألحِقْ بهِ تاء الخِطابِ ولا تقِفْ فإنْ ترَ قبْلَ التّاء ياءً فكَتْبُهُ ... بياءٍ وإلا فهْوَ يُكتَبُ بالألِفْ ولا تحسُبِ الفِعلَ الثّلاثيّ والذي ... تعدّاهُ والمهموزُ في ذاك يختلِفْ فطَرِبَ الشيخُ لما أدّاهُ. ثمّ عوّذَهُ وفدّاهُ. ثمّ قال: هلمّ يا قَعْقاعُ. يا باقِعَةَ

البِقاعِ. فأقْبَلَ فتًى أحسَنُ منْ نارِ القِرى. في عينِ ابنِ السُرَى. فقال له: اصدَعْ بتمْييزِ الظّاء منَ الضادِ. لتَصْدَعَ بهِ أكْبادَ الأضْدادِ. فاهتَزّ لقوْلِهِ واهتَشّ. ثمّ أنشَدَ بصوتٍ أجَشّ: أيها السائلي عنِ الضّادِ والظّا ... ء لكَيْلا تُضِلّهُ الألْفاظُ إنّ حِفظَ الظّاءات يُغنيكَ فاسمع ... ها استِماعَ امرِئٍ لهُ استيقاظُ هيَ ظَمْياءُ والمظالِمُ والإظْ ... لامُ والظَّلْمُ والظُّبَى واللَّحاظُ والعَظا والظّليمُ والظبيُ والشّيْ ... ظَمُ والظّلُّ واللّظى والشّواظُ

والتّظَنّي واللّفْظُ والنّظمُ والتق ... ريظُ والقَيظُ والظّما واللَّماظُ والحِظا والنّظيرُ والظّئرُ والجا ... حِظُ والنّاظِرونَ والأيْقاظُ والتّشظّي والظِّلفُ والعظمُ والظّن ... بوبُ والظَّهْرُ والشّظا والشِّظاظُ والأظافيرُ والمظَفَّرُ والمحْ ... ظورُ والحافِظونَ والإحْفاظُ والحَظيراتُ والمَظِنّةُ والظِّنّ ... ةُ والكاظِمونَ والمُغْتاظُ والوَظيفاتُ والمُواظِبُ والكِظّ ... ةُ والإنتِظارُ والإلْظاظُ

ووَظيفٌ وظالِعٌ وعظيمٌ ... وظَهيرٌ والفَظُّ والإغْلاظُ ونَظيفٌ والظَّرْفُ والظّلَفُ الظّا ... هِرُ ثمّ الفَظيعُ والوُعّاظُ وعُكاظٌ والظَّعْنُ والمَظُّ والحنْ ... ظَلُ والقارِظانِ والأوْشاظُ وظِرابُ الظِّرّانِ والشّظَفُ البا ... هِظُ والجعْظَريُّ والجَوّاظُ

والظَّرابينُ والحَناظِبُ والعُنْ ... ظُبُ ثمّ الظّيّانُ والأرْعاظُ والشَّناظِي والدَّلْظُ والظّأبُ والظَّبْ ... ظابُ والعُنظُوانُ والجِنْعاظُ والشّناظيرُ والتّعاظُلُ والعِظْ ... لِمُ والبَظْرُ بعْدُ والإنْعاظُ هيَ هذي سِوى النّوادِرِ فاحفَظْ ... ها لتَقْفو آثارَكَ الحُفّاظُ واقضِ في ما صرّفتَ منها كما تق ... ضيهِ في أصْلِهِ كقَيْظٍ وقاظوا

فقال لهُ الشيخُ: أحسنْتَ لا فُضّ فوكَ. ولا بُرّ منْ يجفوكَ. فوَاللهِ إنّكَ معَ الصِّبا الغَضّ. لأحْفَظُ منَ الأرضِ. وأجمَعُ من يومِ العرْضِ. ولقدْ أورَدْتُك ورُفْقتَكَ زُلالي. وثقّفْتُكُم تثْقيفَ العَوالي. فاذْكُروني أذكُرْكُمْ واشْكُروا لي وَلا تكفُرون. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فعجِبْتُ لما أبْدى من بَراعَةٍ. معجونَةٍ برِقاعَةٍ. وأظهَرَ منْ حَذاقَةٍ. ممزوجَةٍ بحَماقَةٍ. ولمْ يزَلْ بصَري يُصَعِّدُ فيهِ ويصوِّبُ. وينقِّرُ عنهُ وينقِّبُ. وكنتُ كمنْ ينظُرُ في ظَلْماء. أو يَسري في بهْماء. فلما استَراثَ تنبُّهي. واسْتَبان تدلُّهي. حمْلقَ إليّ وتبسّمَ. وقال: لمْ يبقَ مَنْ يتوسّمُ. فبُهْتُ لفَحْوى كلامِهِ. ووجَدْتُهُ أبا زيدٍ عندَ ابتِسامِهِ. فأخذْتُ ألومُهُ على تديُّرِ بُقعَةِ النَّوْكى. وتخيُّرِ حِرفَةِ الحمْقَى. فكأنّ وجهَهُ أُسِفّ رَماداً. أو أُشرِبَ سَواداً.

إلا أنهُ أنشدَ وما تَمادى: تخيّرْتُ حِمْصَ وهَذي الصّناعهْ ... لأُرزَقَ حُظوَةَ أهلِ الرَّقاعَهْ فما يَصطَفي الدّهرُ غيرَ الرّقيعِ ... ولا يوطِنُ المالَ إلا بِقاعَهْ ولا لأخي اللُّبّ منْ دهْرِهِ ... سوى ما لعَيْرٍ رَبيطٍ بِقاعَهْ ثم قال: أمَا إنّ التعليمَ أشرَفُ صِناعةٍ. وأربَحُ بِضاعةٍ. وأنجَعُ شَفاعةٍ. وأفضَلُ براعَةٍ. وربُّهُ ذو إمْرَةٍ مُطاعَةٍ. وهيبَةٍ مُشاعَةٍ. ورعيّةٍ مِطواعةٍ. يتسيْطَرُ تسيْطُرَ أميرٍ. ويرتِّبُ ترْتيبَ وزيرٍ. ويتحكّمُ تحكُّمَ قَديرٍ. ويتشبّهُ بِذي مُلْكٍ كبيرٍ. إلا أنهُ يخْرَفُ في أمَدٍ يَسيرٍ. ويتّسِمُ بحُمقٍ شَهيرٍ. ويتقلّبُ بعقْلٍ صَغيرٍ. ولا يُنَبّئكَ مثلُ خَبيرٍ. فقلتُ لهُ: تاللهِ إنّكَ لابنُ الأيّامِ. وعلَمُ الأعلامِ. والسّاحِرُ اللاعِبُ بالأفْهامِ. المُذَلَّلُ لهُ سُبُلُ الكَلامِ. ثمّ لمْ

المقامة الحجرية

أزَلْ معتَكِفاً بنادِيهِ. ومُغتَرِفاً منْ سيْلِ وادِيهِ. الى أن غابَتِ الأيامُ الغُرُّ. ونابَتِ الأحْداثُ الغُبْرُ. ففارقْتُهُ ولعَيْني العُبْرُ. المقامة الحَجْرِيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: احتَجْتُ الى الحِجامَةِ. وأنا بحَجْرِ اليَمامةِ. فأُرشِدْتُ الى شيخٍ يحْجُمُ بلَطافَةٍ. ويسفِرُ عنْ نَظافَةٍ. فبعَثْتُ غُلامي لإحْضارِهِ. وأرْصَدْتُ نفْسي لانتِظارِهِ. فأبْطأ بعْدَما انطلَقَ. حتى خِلتُهُ قد أبَقَ. أو ركِبَ طبَقاً عنْ طبَقٍ. ثمّ عادَ عوْدَ المُخفِقِ مسْعاهُ. الكَلِّ على موْلاهُ. فقُلْتُ لهُ: ويلَكَ أبُطْءَ فِنْدٍ. وصُلودَ زَندٍ؟ فزَعَم أنّ الشيخَ أشْغَلُ من ذاتِ النِّحْيَيْنِ. وفي حربٍ

كحَرْبِ حُنَينٍ. فعِفتُ المَمْشى الى حجّامٍ. وحِرْتُ بين إقدامٍ وإحْجامٍ. ثمّ رأيتُ أنْ لا تعْنيفَ. على منْ يأتي الكَنيفَ. فلمّا شهِدْتُ

موسِمَهُ. وشاهدْتُ مِيسَمَهُ. رأيتُ شيْخاً هيئَتُهُ نَظيفَةٌ. وحركَتُهُ خَفيفَةٌ. وعليْهِ منَ النّظارَةِ أطْواقٌ. ومنَ الزِّحامِ طِباقٌ. وبينَ يَدَيْهِ فتًى كالصَّمْصامَةِ. مُستَهدِفٌ للحِجامَةِ. والشيخُ يقولُ له: أراكَ قد أبرَزْتَ راسَكَ. قبلَ أن تُبرِزَ قِرْطاسَكَ. ووَلّيتَني قَذالَكَ. ولمْ تقُلْ لي ذا لَكَ. ولستُ ممّنْ يبيعُ نقْداً بدَينٍ. ولا يطلُبُ أثَراً بعدَ عينٍ. فإنْ أنتَ رضَخْتَ بالعَينِ. حُجِمْتَ في الأخدَعَينِ. وإنْ كُنتَ ترى الشُحّ أوْلى. وخزْنَ الفَلْسِ في النّفْسِ أحْلى. فاقْرأ عبَسَ وتولّى. واغْرُبْ عني وإلا. فقالَ الفتَى: والذي حرّمَ صوْغَ المَينِ. كما حرّمَ صيْدَ الحرَمَينِ. إني لأفْلَسُ منِ ابنِ يوْمَينِ. فثِقْ بسَيلِ تلْعَتي. وأنْظِرْني الى سَعَتي. فقالَ لهُ الشيخُ: ويْحَكَ

إنّ مثَلَ الوُعودِ. كغرْسِ العودِ! هوَ بينَ أن يُدرِكَهُ العطَبُ. أو يُدرَكُ منهُ الرُّطَبُ. فما يُدْرِيني أيَحْصُلُ منْ عودِكَ جَنًى. أم أحصُلُ منهُ على ضنًى؟ ثمّ ما الثّقَةُ بأنّكَ حينَ تبتَعِدُ. ستَفي بما تعِدُ؟ وقد صارَ الغدْرُ كالتّحْجيلِ. في حِليَةِ هذا الجيلِ. فأرِحْني باللهِ منَ التّعذيبِ. وارْحَلْ الى حيثُ يَعْوي الذّيبُ. فاسْتَوى الغُلامُ إليْهِ. وقدِ استوْلى الخجَلُ علَيْهِ. وقال: واللهِ ما يَخيسُ بالعهْدِ. غيرُ الخَسيسِ الوغْدِ. ولا يرِدُ غَديرَ الغَدْرِ. إلا الوَضيعُ القدْرِ. ولوْ عرَفْتَ منْ أنا. لما أسمَعْتَني الخَنا. لكنّكَ جهِلْتَ فقُلْتَ. وحيثُ وجَبَ أنْ تسْجُدَ بُلْتَ. وما أقبَحَ الغُربَةَ والإقلالَ. وأحسَنَ قوْلَ منْ قال: إنّ الغَريبَ الطّويلَ الذّيلِ ممتَهَنٌ ... فكيفَ حالُ غَريبٍ ما لهُ قوتُ لكنّهُ ما تَشينُ الحُرُّ موجِعَةٌ ... فالمِسكُ يُسحَقُ والكافورُ مَفتوتُ

وطالَما أُصْليَ الياقوتُ جمرَ غضًى ... ثمّ انطَفى الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ فقالَ لهُ الشيخُ: يا ويلَةَ أبيكَ. وعوْلَةَ أهليكَ! أأنْتَ في موقِفِ فخْرٍ يُظهَرُ. وحسَبٍ يُشهَرُ. أم موقِفِ جِلْدٍ يُكشَطُ. وَقَفاً يُشْرَطُ؟ وهبْ أنّ لكَ البيتَ. كما ادّعَيتَ. أيَحْصُلُ بذلِكَ. حَجْمُ قَذالِكَ؟ لا واللهِ ولوْ أنّ أباكَ أنافَ. على عبْدِ مُنافٍ. أو لخالِكَ دانَ. عبدُ المَدانِ. فلا تضْرِبْ في حَديدٍ بارِدٍ. ولا تطْلُبْ ما لسْتَ لهُ

بواجِدٍ. وباهِ إذا باهَيْتَ بموجودِكَ. لا بحُدودِكَ. وبمَحْصولِكَ. لا بأصولِكَ. وبصِفاتِكَ. لا برُفاتِكَ. وبأعْلاقِكَ. لا بأعْراقِكَ. ولا تُطِعِ الطّمَعَ فيُذِلَّكَ. ولا تتّبِعِ الهَوى فيُضِلّكَ. وللهِ القائلُ لابنِهِ: بُنيّ استَقِمْ فالعُودُ تَنمي عُروقُهُ ... قَويماً ويغْشاهُ إذا ما التَوى التّوَى ولا تُطِعِ الحِرْصَ المُذِلّ وكنْ فتًى ... إذا التَهَبتْ أحشاؤهُ بالطّوى طوَى وعاصِ الهَوى المُرْدي فكم من محَلِّقٍ ... إلى النّجْمِ لمّا أنْ أطاعَ الهَوى هوَى وأسعِفْ ذوي القُربى فيقبُحُ أن يُرى ... على من إلى الحرّ اللُّبابِ انضوى ضوَى وحافِظْ على مَنْ لا يخونُ إذا نَبا ... زمانٌ ومن يرْعى إذا ما النوى نوَى

وإنْ تقتدرْ فاصْفحْ فلا خيرَ في امرِئٍ ... إذا اعتلَقتْ أظفارُهُ بالشّوى شَوى وإيّاكَ والشّكوى فلمْ ترَ ذا نُهًى ... شكا بل أخو الجهل الذي ما ارعوى عوى فقالَ الغُلامُ للنّظّارَةِ: يا للعَجيبةِ. والطُرفَةِ الغَريبةِ! أنْفٌ في السّماء. واسْتٌ في الماء! ولفْظٌ كالصّهْباء. وفِعْلٌ كالحَصْباء! ثمّ أقبلَ على الشيخِ بلِسانٍ سَليطٍ. وغيظٍ مُستَشيطٍ. وقال: أفٍّ لكَ منْ

صوّاغٍ باللّسانِ. روّاغٍ عنِ الإحْسانِ! تأمُرُ بالبِرّ. وتعُقّ عُقوقَ الهِرّ. فإنْ يكُنْ سبَبُ تعنُّتِكَ. نَفاقَ صنعَتِكَ. فرَماها اللهُ بالكَسادِ. وإفْسادِ الحُسّادِ. حتى تُرى أفرَغَ منْ حَجّامِ ساباطَ. وأضيَقَ رِزْقاً منْ سمّ الخِياطِ. فقال لهُ الشيخُ: بلْ سلّطَ اللهُ عليْكَ بَثْرَ الفَمِ. وتبيُّغَ الدّمِ. حتى تُلْجأ الى حجّامٍ عظيمِ الاشْتِطاطِ. ثَقيلِ الاشْتِراطِ. كَليلِ المِشْراطِ. كثيرِ المُخاطِ والضُّراطِ. قال: فلمّا تبيّنَ الفتى أنهُ يشْكو الى غيْرِ مُصَمَّتٍ. ويُراوِدُ استِفْتاحَ بابٍ مُصْمَتٍ. أضْرَبَ عنْ رجْعِ الكَلامِ. واحتفَزَ للقيامِ. وعلِمَ الشيخُ أنهُ قدْ ألامَ. بما أسمَعَ الغُلامَ. فجنَحَ الى سِلمِهِ.

وبذَلَ أنْ يُذعِنَ لحُكمِهِ. ولا يَبْغي أجْراً على حَجْمِهِ. وأبى الغُلامُ إلاّ المَشْيَ بدائِهِ. والهرَبَ منْ لِقائِهِ. وما زالا في حِجاجٍ وسِبابٍ. ولِزازٍ وجِذابٍ. الى أن ضجّ الفَتى منَ الشِّقاقِ. وتَلا رُدنُهُ سورَةَ الانشِقاقِ. فأعْوَلَ حينئِذٍ لوَفارَةِ خُسرِهِ. وانعِطاطِ عِرْضِهِ وطِمْرِهِ. وأخذَ الشيخُ يعتَذِرُ منْ فرَطاتِهِ. ويُغيِّضُ منْ عبَراتِهِ. وهوَ لا يُصْغي الى اعتِذارِهِ. ولا يقصِّرُ عنِ استِعْبارِهِ. الى أنْ قالَ لهُ: فَداكَ عمُّكَ. وعدَاكَ ما يغُمُّكَ! أما تسْأمُ الإعْوالَ. أما تعرِفُ الاحتِمالَ. أمَا سمِعْتَ بمَنْ أقالَ. وأخذَ بقولِ منْ قال: أخمِدْ بحِلمكَ ما يُذكيهِ ذو سفَهٍ ... من نارِ غيظكَ واصْفَحْ إن جنى جانِ فالحِلمُ أفضَلُ ما ازْدانَ اللّبيبُ بهِ ... والأخذُ بالعَفوِ أحْلى ما جَنى جانِ

فقال لهُ الغُلام: أمَا إنّكَ لو ظهرْتَ على عيْشيَ المُنكَدِرِ. لعَذَرْتَ في دمْعيَ المُنهَمِرِ. ولكِنْ هانَ على الأملَسِ ما لاقَى الدّبِرُ. ثمّ كأنّهُ نزَعَ الى الاستِحْياء. فأقْلَعَ عنِ البُكاء. وفاء الى الارْعِواء. وقال للشيخِ: قدْ صِرْتُ الى ما اشتَهَيْتَ. فارْقَعْ ما أوْهَيتَ. فقال: هيْهاتَ شغلَتْ شِعابي جَدوايَ. فشِمْ بارِقَ سِوايَ. ثمّ إنهُ نهضَ يستَقْري الصّفوفَ. ويستَجْدي الوُقوفَ. ويُنشِدُ في ضِمْنِ ما هوَ يطوفُ: أُقسِمُ بالبيتِ الحرامِ الذي ... تهْوي إليْهِ الزُمَرُ المُحرِمَهْ لوْ أنّ عِندي قُوتَ يومٍ لَما ... مسّتْ يَدي المِشْراطَ والمِحجَمهْ

ولا ارتضَتْ نفْسي التي لمْ تزَلْ ... تسْمو الى المجْدِ بهذي السِّمَهْ ولا اشْتَكى هذا الفتى غِلظَةً ... منّي ولا شاكَتْهُ منّي حُمَهْ لكِنْ صُروفُ الدّهرِ غادَرْنني ... كخابِطٍ في اللّيلَةِ المُظلِمَهْ واضْطَرّني الفقْرُ الى موقِفٍ ... منْ دونِهِ خوْضُ اللّظى المُضرَمه فهلْ فتًى تُدرِكُهُ رِقّةٌ ... عليّ أو تعطِفُهُ مَرْحَمَهْ قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فكُنتُ أوّلَ منْ أوى لبَلْواهُ. ورقّ لشَكْواهُ. فنفَحْتُهُ بدِرْهَمَينِ. وقلتُ: لا كانا ولوْ كانَ ذا مَيْنٍ! فابتهَجَ بباكُورَةِ جَناهُ. وتفاءلَ بهِما لغِناهُ. ولمْ تزَلِ الدّراهِمُ تنْهالُ عليْهِ. وتنْثالُ لديْهِ. حتى آلَ ذا عيشَةٍ خضْراء. وحَقيبةٍ بجْراء.

فازْدهاهُ الفرَحُ عندَ ذلِكَ. وهنّأ نفْسَهُ بما هُنالِكَ. وقال للغُلام: هَذا ريْعٌ أنتَ بَذرُهُ. وحلَبٌ لكَ شطرُهُ. فهلُمّ لنَقتَسِمَ. ولا نحْتَشِمْ. فتقاسَماهُ بينَهُما شقَّ الأبلَمَةِ. ونهَضا مُتّفِقَي الكَلِمَةِ. ولمّا انتظَمَ بينهُما عقْدُ الاصْطلاحِ. وهمّ الشيخُ بالرّواحِ. قُلتُ له: قدْ تبوّغَ دَمي. ونقلْتُ إليْكَ قدَمي. فهلْ لكَ أن تحْجُمَني. وتُكفْكِفَ ما دهَمَني؟ فصوّبَ طرْفَهُ وصعّد. ثمّ ازْدَلَفَ إليّ وأنشدَ: كيفَ رأيتَ خُدْعَتي وختْلي ... وما جرى بيْني وبينَ سخْلي حتى انثَنَيْتُ فائِزاً بالخصْلِ ... أرْعى رياضَ الخِصْبِ بعدَ المحلِ

باللهِ يا مُهجةَ قلْبي قلْ لي ... هلْ أبصرَتْ عيناكَ قطُّ مثلي يفتَحُ بالرُقيَةِ كلَّ قُفْلِ ... ويستَبي بالسّحْرِ كلَّ عقْلِ ويعجِنُ الجِدّ بماء الهزْلِ ... إنْ يكُنِ الإسكَندَريُّ قبْلي فالطّلُّ قد يبْدو أمامَ الوَبْلِ ... والفضْلُ للوابِلِ لا للطّلِّ قال: فنبّهَتْني أُرجوزَتُهُ عليْهِ. وأرَتْني أنهُ شيخُنا المُشارُ إليهِ. فقرّعْتُهُ على الابتِذالِ. والاتِحاقِ بالأرْذالِ. فأعْرضَ عمّا سمِعَ. ولمْ يُبَلْ بِما قُرّعَ. وقال: كُلَّ الحِذاء يحْتَذي الحافي الوَقِعُ. ثمّ قاصاني مُقاصاةَ المُهانِ. وانطلَقَ هوَ وابنُهُ كفَرَسيْ رِهانٍ. قال الشيخ الإمام الرئيس أبو محمد القاسم بن علي رضي الله عنه قد أودعت هذه المقامة

المقامة الحرامية

بضعة عشر مثلاً من أمثال العرب وما أنا أفسر ما أخاله يلتبس على من يقتسر. أما قوله (بطء فند) فهو مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكانت بعثته بالمدينة ليقتبس لها ناراً فقصد من فوره مصر وأقام بها سنة ثم جاءها بعد السنة وهو يشتد ومعه جمر فتبدد منه فقال تعست الحجلة. وأما قوله (أنف في السماء واست في الماء) فيضرب هذا المثل لمن يكبر مقالاً ويصغر فعالاً. وأما قوله (افرغ من حجام ساباط) فذكر أنه كان حجاماً ملازماً ساباط المدائن. يحجم الجندي بدانق نسيئة وربما مرت عليه برهة لا يقرئه فيها حد فكان يبرز أمه عند تمادي عطلته فيحجمها لكيلاً يقرع بالبطالة فما زال يحجمها حتى نزف دمياً وماتت. وأما قوله (يشكو إلى غير مصمت) فهو مثل يضرب لمن لا يكترث بشأن صاحبه ولا يعبأ باستمرار شكايته لأنه لو أشكاه لصمت وأمسك عن الكلام ومنه قول الراجز يحاطب جملاً له إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل القبل لو مت ونحو هذا المثل (هان على الأملس ما لاقى الدير) وأما قوله (شعلت شعابي حدواي) فالمراد به أنه ليس يفضل عني ما أصرفه إلى غيري والشعاب هي النواحي واحدها شعب. وقوله (كل الحذاء يحتذى الحافي الوقع) معناه أن المجهود يقنع بما يحد والوقع أن تصيب الحجارة القدم فتوهنها ف أما البعير الموقع فهو الذي يكثر آثار الكسر لظهره. المقامة الحَراميّة روى الحارثُ بنُ همّامٍ عنْ أبي زيدٍ السَّروجيّ قال: ما زِلْتُ مُذ رحَلْتُ عنْسي. وارتَحَلْتُ عنْ عِرْسي وغَرْسي. أحِنّ إلى عِيانِ البَصرَةِ. حَنينَ المظْلومِ الى النُصرَةِ. لِما أجمَعَ عليْهِ أرْبابُ

الدّرايَةِ. وأصْحابُ الرّوايَةِ. منْ خصائِصِ معالمِها وعُلَمائِها. ومآثِرِ مشاهِدِها وشُهَدائِها. وأسْألُ اللهَ أن يوطِئَني ثَراها. لأفوزَ بمرْآها. وأنْ يُمطيَني قَراها. لأقْتَري قُراها. فلمّا أحَلّنيها الحظُّ. وسرَحَ لي فيها اللّحْظُ. رأيتُ بها ما يمْلأ العَينَ قُرّةً. ويُسْلي عنِ الأوطانِ كلّ غَريبٍ. فغلَسْتُ في بعض الأيامِ. حينَ نصَلَ خِضابُ الظّلامِ. وهتَفَ أبو المُنذِرِ بالنُّوّامِ. لأخْطوَ في خِطَطِها. وأقْضيَ الوطَرَ منْ توسُّطِها. فأدّاني الاخْتِراقُ في مَسالِكِها. والانصِلاتُ في سِككِها. الى محلّةٍ موسومَةٍ

بالاحْتِرامِ. منسوبَةٍ الى بني حَرامٍ. ذاتِ مَساجِدَ مشهودَةٍ. وحِياضٍ موْرودَةٍ. ومَبانٍ وثيقَةٍ. ومغانٍ أنيقَةٍ. وخصائِصَ أثيرَةٍ. ومَزايا كثيرةٍ: بها ما شِئْتَ منْ دِينٍ ودُنْيا ... وجيرانٍ تنافَوْا في المعاني فمَشغوفٌ بآياتِ المثاني ... ومفْتونٌ برَنّاتِ المثاني ومُضْطَلِعٌ بتلْخيصِ المعاني ... ومُطّلِعٌ الى تخْليصِ عانِ وكمْ منْ قارِئٍ فيها وقارٍ ... أضَرّا بالجُفونِ وبالجِفانِ وكمْ منْ مَعْلَمٍ للعِلْمِ فيها ... ونادٍ للنّدى حُلْوِ المَجاني

ومَغْنًى لا تزالُ تغَنُّ فيهِ ... أغاريدُ الغَواني والأغاني فصِلْ إن شِئتَ فيها مَنْ يُصَلّي ... وإمّا شِئْتَ فادنُ منَ الدِّنانِ ودونَكَ صُحبَةَ الأكياسِ فيها ... أوِ الكاساتِ منطَلِقَ العِنانِ قال: فبَينَما أنا أنفُضُ طُرُقَها. وأستَشِفُّ رونَقَها. إذْ لمحْتُ عندَ دُلوكِ بَراحِ. وإظْلالِ الرّواحِ. مسجِداً مُشتَهِراً بطَرائِفِهِ. مزدَهِراً بطوائِفِه. وقد أجْرى أهلُهُ ذِكْرَ حُروفِ البدَلِ. وجرَوْا في حلْبَةِ الجدَلِ. فعُجْتُ نحوَهُمْ. لأستَمطِرَ نوّهُمْ. لا لأقتَبِسَ نحوَهُمْ. فلمْ يكُ إلا كقَبْسَةِ العَجْلانِ. حتى ارتفَعَتِ الأصْواتُ

بالأذانِ. ثمّ رَدِفَ التّأذينَ بُروزُ الإمامِ. فأُغْمِدَتْ ظُبى الكلامِ. وحُلّتِ الحِبى للقِيامِ. وشُغِلْنا بالقُنوتِ. عنِ استِمْدادِ القوتِ. وبالسّجودِ. عنِ استِنْزال الجودِ. ولمّا قُضيَ الفَرْضُ. وكادَ الجمْعُ ينفَضّ. انْبَرى منَ الجماعَةِ. كهْلٌ حُلْوُ البَراعةِ. لهُ منَ السّمتِ الحسَنِ. ذَلاقَةُ اللّسَنِ. وفَصاحَةُ الحسَنِ. وقال: يا جيرَتي. الذينَ اصْطفَيتُهُمْ على أغصانِ شجرَتي. وجعلْتُ خِطتَهُمْ دارَ هِجرَتي. واتّخَذْتُهُمْ كَرِشي وعَيبَتي. وأعددْتُهُمْ لمَحْضَري وغيْبَتي. أما تعْلَمونَ أنّ لَبوسَ الصّدقِ أبْهى الملابِسِ الفاخِرةٍ. وأنّ فُضوحَ الدُنيا أهوَنُ منْ فُضوحِ الآخِرَةِ؟ وأنّ الدّينَ إمْحاضُ النّصيحَةِ. والإرْشادَ عُنوانُ العَقيدَةِ الصّحيحةِ؟ وأنّ المُستَشارَ مُؤتَمَنٌ. والمستَرشِدَ

بالنُصحِ قَمِنٌ؟ وأنّ أخاكَ هوَ الذي عذلَكَ. لا الذي عذَرَكَ؟ وصديقَكَ منْ صدقَكَ. لا مَنْ صدّقَكَ؟ فقال لهُ الحاضِرون: أيها الخِلّ الوَدودُ. والخِدْنُ الموْدودُ. ما سِرّ كلامِكَ المُلغَزِ. وما شرْحُ خِطابِكَ الموجِزِ. وما الذي تبْغيهِ منّا ليُنْجَزَ؟ فوَالذي حَبانا بمحبّتِكَ. وجعلَنا منْ صفْوَةِ أحِبّتِكَ. ما نألوكَ نُصْحاً. ولا ندّخِرُ عنْكَ نَضْحاً. فقال: جُزيتُمْ خيراً. ووُقيتُمْ ضَيراً. فإنّكُمْ ممّنْ لا يَشْقى بهِمْ جَليسٌ. ولا يصدُرُ عنهُمْ تلْبيسٌ. ولا يُخيَّبُ فيهِمْ مَظنونٌ. ولا يُطْوى دونَهُمْ مكْنونٌ. وسأبُثّكمْ ما حاكَ في صدْري. وأستَفْتيكُمْ في ما عيلَ فيهِ صبْري. اعْلَموا أني كُنتُ عندَ صُلودِ الزّنْدِ. وصُدودِ الجَدّ. أخْلَصْتُ معَ اللهِ نِيّةَ العقْدِ. وأعطَيتُهُ صَفقَةَ العهْدِ. على أنْ لا أسْبأ مُداماً. ولا أُعاقِرَ

نَدامَي. ولا أحْتَسيَ قهوَةً. ولا أكْتَسيَ نشْوَةً. فسوّلَتْ ليَ النّفسُ المُضِلّةُ. والشّهوَةُ المُذلّةُ المُزِلةُ. أنْ نادَمْتُ الأبْطالَ. وعاطَيتُ الأرْطالَ. وأضَعْتُ الوَقارَ. وارتضَعْتُ العُقارَ. وامتطَيْتُ مَطا الكُمَيتِ. وتناسيْتُ التّوبَةَ تَناسيَ الميْتِ. ثمّ لمْ أقْنَعْ بهاتِيكُمُ المَرّةِ. في طاعَةِ أبي مُرّةَ. حتى عكفْتُ على الخَندَريسِ. في يومِ الخَميسِ. وبتُّ صَريعَ الصّهْباء. في اللّيلَةِ الغرّاء. وها أنا بادي الكآبَةِ. لرَفْضِ الإنابَةِ. نامي النّدامَةِ. لوصْلِ المُدامَةِ. شديدُ الإشْفاقِ. منْ نقْضِ الميثاقِ. مُعتَرِفٌ بالإسْرافِ. في عَبّ السُّلافِ: فيَا قوْمِ هلْ كَفّارَةٌ تعْرِفونَها ... تُباعِدُ منْ ذَنْبي وتُدني الى ربّي

قال أبو زيد: فلمّا حلّ أُنشوطَةَ نفْثِهِ. وقَضى الوَطَرَ منِ اشتِكاء بثّهِ. ناجَتْني نفْسي يا أبا زيْدٍ. هذهِ نُهزَةُ صيْدٍ. فشمّرْ عن يدٍ وأيْدٍ. فانتهَضْتُ منْ مَجْثِمي انتِهاضَ الشّهْمِ. وانخرَطْتُ منَ الصّفّ انخِراطَ السّهْمِ. وقُلتُ: أيها الأرْوَعُ الذي ... فاقَ مجْداً وسؤدُدا والذي يبْتَغي الرّشا ... دَ ليَنجو بهِ غَدا إنّ عندي عِلاجَ ما ... بِتَّ منهُ مسَهَّدا فاستَمِعْها عجيبةً ... غادرَتْني مُلَدَّدا أنا منْ ساكِني سَرو ... جَ ذَوي الدّينِ والهُدى كنتُ ذا ثرْوَةٍ بها ... ومُطاعاً مُسَوَّدا مرْبَعي مألَفُ الضّيو ... فِ ومالي لهُمْ سُدَى أشتَري الحمْدَ باللُّهى ... وأقي العِرْضَ بالجَدا

لا أُبالي بمُنفِسٍ ... طاحَ في البَذْلِ والنّدى أوقِدُ النارَ باليَفا ... عِ إذا النِّكسُ أخْمَدا وبَراني المؤمِّلو ... نَ مَلاذاً ومَقْصِدا لمْ يشِمْ بارِقي صَدٍ ... فانْثَنى يشْتَكي الصّدَى لا ولا رامَ قابِسٌ ... قدْحَ زَندي فأصْلَدا طالَما ساعَدَ الزّما ... نُ فأصْبَحْتُ مُسْعَدا فقَضى اللهُ أنْ يُغيّ ... رَ ما كانَ عَوّدا بوّأ الرّومَ أرْضَنا ... بعْدَ ضِغْنٍ تولَّدا فاسْتباحوا حريمَ مَنْ ... صادَفوهُ موَحِّدا وحوَوْا كلَّ ما استس ... رّ بها لي وما بدا

فتطوّحْتُ في البِلا ... دِ طَريداً مُشرَّدا أجْتَدي الناسَ بعْدَما ... كُنتُ من قَبْلُ مُجْتَدى وتُرى بي خَصاصَةٌ ... أتَمنّى لها الرّدى والبَلاءُ الذي بهِ ... شمْلٌ أُنسي تبَدّدا إسْتِباءُ ابْنَتي التي ... أسَروها لتُفْتَدى فاسْتَبِنْ مِحنَتي وم ... دّ الى نُصْرَتي يَدا وأجِرْني منَ الزّما ... نِ فقدْ جارَ واعْتَدى وأعِنّي على فَكا ... كِ ابْنَتي منْ يدِ العِدَى فبِذا تَنْمَحي المآ ... ثِمُ عمّنْ تمرّدا وبِهِ تُقبَلُ الإنا ... بَةُ ممّنْ تزَهّدا وهْوَ كفّارَةٌ لمَنْ ... زاغَ منْ بعْدِ ما اهْتَدى

ولَئِنْ قُمتُ مُنشِداً ... فلقَدْ فُهْتُ مُرشِدا فاقْبَلِ النُصْحَ والهِدا ... يَةَ واشْكُرْ لمَنْ هَدى واسمَحِ الآنَ بالّذي ... يتسنّى لتُحْمَدا قال أبو زيدٍ: فلمّا أتْمَمْتُ هذْرَمَتي. وأُوهِمَ المسؤولُ صِدْقَ كلِمَتي. أغْراهُ القرَمُ الى الكرَمِ بمؤاساتي. ورغّبَهُ الكلَفُ بحمْلِ الكُلَفِ في مُقاساتي. فرضَخَ لي على الحافِرَةِ. ونضَخَ لي بالعِدَةِ الوافِرَةِ. فانقلَبْتُ الى وَكْري. فرِحاً بنُجْحِ مَكْري. وقد حصلْتُ منْ صوْغِ المَكيدةِ. على سوْغِ الثّريدَةِ. ووصلْتُ منْ حوْكِ القَصيدَةِ. الى لوْكِ العَصيدَةِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ سُبحانَ منْ أبدعَكَ. فما أعْظمَ خُدَعَكَ. وأخْبَثَ بدَعَكَ!

المقامة الساسانية

فاستَغْرَبَ في الضّحِك. ثمّ أنشدَ غيرَ مُرتَبِكٍ: عِشْ بالخِداعِ فأنتَ في ... دهْرٍ بَنوهُ كأُسْدِ بِيشَهْ وأدِرْ قَناةَ المَكْرِ حت ... ى تسْتَديرَ رَحى المَعيشَهْ وصِدِ النّسورَ فإنْ تعذ ... رَ صيدُها فاقْنَعْ بريشَهْ واجْنِ الثّمارَ فإنْ تفُتْ ... كَ فرَضّ نفسَكَ بالحشيشَهْ وأرِحْ فؤادَكَ إنْ نَبا ... دهْرٌ منَ الفِكَرِ المُطيشَهْ فتغايُرُ الأحْداثِ يؤ ... ذِنُ باستِحالَةِ كُلّ عيشَهْ المقامة السّاسانيّة حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: بلَغني أنّ أبا زيدٍ حينَ ناهزَ القَبْضَةَ. وابتَزّهُ قيدُ الهرَمِ النّهْضَةَ. أحضرَ ابنَهُ. بعْدَما اسْتَجاشَ ذِهنَهُ. وقال لهُ: يا بُنيّ إنهُ قد دنَا ارتِحالي منَ الفِناء. واكتِحالي بمِروَدِ الفَناء. وأنتَ بحمْدِ اللهِ وليُّ عهْدي. وكبْشُ الكَتيبَةِ

السّاسانيّة منْ بعْدي. ومثلُكَ لا تُقرَعُ لهُ العَصا. ولا يُنَبَّهُ بطَرْقِ الحصَى. ولكِنْ قد نُدِبَ الى الإذْكارِ. وجُعِلَ صيْقَلاً للأفكارِ. وإني أُوصيكَ بما لمْ يوصِ بهِ شيثٌ الأنْباطَ. ولا يعْقوبُ الأسْباطَ. فاحفَظْ وصيّتي. وجانِبْ معْصِيتي. واحْذُ مِثالي. وافْقَهْ أمْثالي. فإنّكَ إنِ استَرشدْتَ بنُصْحي. واستَصْبَحْتَ بصُبْحي. أمْرَعَ خانُكَ.

وارتفَعَ دُخانُكَ. وإنْ تناسَيْتَ سُورَتي. ونبذْتَ مَشورَتي. قَلّ رمادُ أثافيكَ. وزَهِدَ أهلُكَ ورهْطُكَ فيكَ. يا بُنيّ إني جرّبْتُ حقائِقَ الأمورِ. وبلَوْتُ تصاريفَ الدّهورِ. فرأيْتُ المرْءَ بنَشَبِهِ. لا بنَسَبِهِ. والفحْصَ عن مكسَبِهِ. لا عنْ حسَبِهِ. وكُنتُ سمِعْتُ أنّ المَعايِشَ إمارَةٌ. وتجارَةٌ. وزِراعَةٌ. وصناعَةٌ. فمارَسْتُ هذِهِ الأرْبَعَ. لأنظُرَ أيّها أوفقُ وأنفَعُ. فما أحْمَدْتُ منها معيشَةً. ولا استرْغَدْتُ فيها عِيشَةً. أما فرَصُ الوِلاياتِ. وخُلَسُ الإماراتِ. فكأضْغاثِ الأحْلامِ. والفَيْءِ المُنتَسِخِ بالظّلامِ. وناهيكَ غُصّةً بمَرارَةِ الفِطامِ.

وأما بضائِعُ التّجاراتِ. فعُرْضَةٌ للمُخاطَراتِ. وطُعمَةٌ للغاراتِ. وما أشبَهَها بالطّيورِ الطّيّاراتِ. وأما اتّخاذُ الضِّياعِ. والتّصدّي للازدِراعِ. فمنْهَكَةٌ للأعْراضِ. وقُيودٌ عائِقَةٌ عنِ الارْتِكاضِ. وقلّما خَلا ربُّها عنْ إذْلالٍ. أو رُزِقَ رَوْحُ بالٍ. وأما حِرَفُ أولي الصناعاتِ. فغيْرُ فاضِلَةٍ عنِ الأقْواتِ. ولا نافِقَةٍ في جَميعِ الأوْقاتِ. ومُعظَمُها معْصوبٌ بشَبيبَةِ الحَياةِ. ولمْ أرَ ما هوَ بارِدُ المَغنَمِ. لَذيذُ المطعَمِ. وافي المَكْسَبِ. صافي المَشرَبِ. إلا الحِرفَةَ التي وضعَ ساسنُ أساسَها. ونوّعَ أجْناسَها. وأضْرَمَ في الخافِقَيْنِ نارَها. وأوضَحَ لبَني غَبْراءَ مَنارَها. فشَهِدْتُ وقائِعَها مُعْلِماً. واخترْتُ سِيماها لي مِيسَماً. إذْ كانَتِ المَتْجَرَ الذي لا يَبورُ.

والمنهَلَ الذي لا يغورُ. والمِصْباحَ الذي يعْشو إلَيْهِ الجُمهورُ. ويستصْبِحُ بهِ العُمْيُ والعورُ. وكانَ أهلُها أعَزّ قَبيلٍ. وأسعَدَ جيلٍ. لا يَرْهَقُهُمْ مسُّ حيْفٍ. ولا يُقلِقُهُمْ سَلُّ سيْفٍ. ولا يخْشَوْنَ حُمَةَ لاسِعٍ. ولا يَدينونُ لدانٍ ولا شاسِعٍ. ولا يرْهَبونَ ممّنْ برَقَ ورعَدَ. ولا يحفِلونَ بمَنْ قامَ وقعَدَ. أنديَتُهُمْ منزّهَةٌ. وقُلوبُهُمْ مرفّهَةٌ. وطُعَمُهُمْ مُعجَّلَةٌ. وأوقاتُهُمْ محَجّلَةٌ. أيْنما سقَطوا. لقَطوا. وحيثُما انخرَطوا. خرَطوا. لا يتّخذونَ أوْطاناً. ولا يتّقونَ سُلطاناً. ولا يمْتازونَ عمّا تغْدو خِماصاً. وتَروحُ بِطاناً. فقالَ لهُ ابنُهُ: يا أبَتِ لقدْ صدَقْتَ. في ما نطَقْتَ. ولكنّك رتَقْتَ. وما فتَقْتَ. فبيّنْ لي كيفَ أقتَطِفُ. ومنْ أينَ تؤكَلُ الكتِفُ؟ فقال: يا بُنيّ

إنّ الارتِكاضَ بابُها. والنّشاطَ جِلبابُها. والفِطنَةَ مِصباحُها. والقِحَةَ سلاحُها. فكُنْ أجْوَلَ منْ قُطرُبٍ. وأسرى من جُندُبٍ. وأنشَطَ من ظَبْيٍ مُقمِرٍ. وأسلَطَ من ذِئْبٍ متنمِّرٍ. واقْدَحْ زَنْدَ جدّكَ بجِدّكَ. واقْرَعْ بابَ رعْيِكَ بسعْيِكَ. وجُبْ كُلّ فجّ. ولِجْ كلّ لُجّ. وانتَجِعْ كلّ روْض. وألْقِ دلْوَكَ الى كُلّ حوْضٍ. ولا تسْأمِ الطّلَبَ. ولا تمَلّ الدأَبَ. فقدْ كانَ مكتوباً على عَصا شيْخِنا ساسانَ: منْ طلبَ. جلبَ. ومنْ جالَ. نالَ.

وإيّاكَ والكسلَ فإنهُ عُنوانُ النّحوسِ. ولَبوسُ ذَوي البوسِ. ومِفتاحُ المَترَبَةِ. ولِقاحُ المَتعَبَةِ. وشيمَةُ العجَزَةِ الجهَلَةِ. وشِنشِنَةُ الوُكَلَةِ التُّكَلَةِ. وما اشْتارَ العسَلَ. منِ اخْتارَ الكسلَ. ولا ملأ الرّاحةَ. منِ استوْطأ الرّاحةَ. وعليْكَ بالإقْدامِ. ولوْ على الضِّرْغامِ. فإنّ جَراءةَ الجَنانِ. تُنطِقُ اللّسانَ. وتُطلِقُ العِنانَ. وبها تُدرَكُ الحُظوَةُ. وتُملَكُ الثّروةُ. كما أنّ الخوَرَ صِنْوُ الكسَلِ. وسبَبُ الفشَلِ. ومَبْطأةٌ للعمَلِ. ومَخْيَبَةٌ للأمَلِ. ولهذا قيلَ في المثلِ: منْ جسَرَ. أيسَرَ. ومنْ هابَ. خابَ. ثمّ ابْرُزْ يا بُنيّ في بكورِ أبي زاجِرٍ. وجَراءةِ أبي الحارثِ. وحَزامَةِ أبي قُرّةَ. وختْلِ أبي جَعْدَةَ. وحِرْصِ أبي عُقبَةَ. ونشاطِ أبي وثّابٍ. ومكْرِ أبي الحُصَينِ. وصبْرِ أبي أيّوبَ. وتلَطّفِ أبي غزْوانَ. وتلوّنِ أبي بَراقِشَ. وحيلَةِ قَصيرٍ. ودَهاء عمْرٍو. ولُطفِ الشّعْبيّ. واحتِمالِ الأحنَفِ. وفِطنَةِ إياسٍ. ومَجانةِ أبي نُواسٍ. وطمَعِ أشعَبَ. وعارِضَةِ أبي العَياء. واخلُبْ بصوْغِ اللّسانِ. واخدعْ بسِحرِ البَيانِ. وارْتَدِ السوقَ قبلَ الجَلَبِ. وامتَرِ الضّرْعَ قبلَ الحلَبِ. وسائِلِ الرُكبانَ قبلَ المُنتجَعِ. ودمّثْ لجَنبِكَ قبلَ المُضطَجَعِ. واشحَذْ بصيرَتَكَ للعِيافَةِ. وأنعِمْ نظرَكَ للقِيافَةِ. فإنّ منْ صدَقَ توسّمُهُ. طالَ تبسّمُهُ. ومنْ أخطأتْ فِراسَتُهُ. أبطأتْ فَريسَتُهُ. وكُنْ يا بُنيّ خَفيفَ الكَلّ. قَليلَ الدّلّ. راغِباً عنِ العَلّ. قانِعاً منَ الوَبلِ بالطّلّ. وعظّمْ وقعَ الحَقيرِ. واشكُرْ على النّقيرِ. ولا تقنَطْ عندَ الرّدّ. ولا تستَبعِدْ رشْحَ الصّلْدِ. ولا تيْأسْ منْ رَوحِ اللهِ إنهُ لا ييْأسُ منْ رَوحِ اللِ إلا القوْمُ الكافِرونَ. وإذا خُيّرتَ بينَ ذَرّةٍ منْقودَةٍ. ودُرّةٍ موْعودَةٍ. فمِلْ الى لنّقْدِ. وفضّلِ اليومَ على الغدِ. فإنّ للتأخيرِ آفاتٍ. وللعَزائِمِ بدَواتٍ. وللعِداتِ مُعَقِّباتٍ. وبيْنَها وبينَ النّجازِ عقَباتٌ وأيّ عقَباتٍ. وعليْكَ بصَبْرِ أولي العزْمِ. ورِفْقِ ذَوي الحزْمِ. وجانِبْ خُرْقَ المُشتَطّ. وتخلّقْ بالخُلْقِ السّبْطِ. وقيّدِ الدّرْهَمَ بالرّبْطِ. وشُبِ البَذْلِ بالضّبْطِ. ولا تجْعَلْ يدَكَ مغْلولَةً الى عُنقِكَ ولا تَبسُطْها كلّ البسْطِ. ومتى نَبا بكَ بلَدٌ. أو نابَكَ فيهِ كمَدٌ. فبُتّ منهُ أملَكَ. واسْرَحْ منهُ جمَلَكَ. فخيْرُ البِلادِ ما جمّلَكَ. ولا تستَثْقِلَنّ الرّحلَةَ. ولا تكْرهَنّ النُقلَةَ. فإنّ أعْلامَ شَريعَتِنا. وأشياخَ عَشيرَتِنا. أجْمَعوا على أنّ الحركَةَ برَكةٌ. والطّراوَةَ سُفتَجَةٌ. وزَرَوْا على منْ زعَمَ أنّ الغُربَةَ. كُربَةٌ. والنُقلَةَ. مُثلَةٌ. وقالوا: هي تَعِلّةُ منِ اقتنَعَ بالرّذيلةِ. ورضِيَ بالحشَفِ وسوء الكِيلَةِ. وإذا أزْمَعْتَ على الاغْتِرابِ. وأعْدَدْتَ لهُ العَصا والجِرابَ. فتخيّرِ الرّفيقَ المُسعِدَ. منْ قبْلِ أن تُصعِدَ. فإنّ الجارَ. قبلَ الدّارِ. والرّفيقَ. قبلَ الطّريقِ: َبْطأةٌ للعمَلِ. ومَخْيَبَةٌ للأمَلِ. ولهذا قيلَ في المثلِ: منْ جسَرَ. أيسَرَ. ومنْ هابَ. خابَ. ثمّ ابْرُزْ يا بُنيّ في بكورِ أبي زاجِرٍ. وجَراءةِ أبي

الحارثِ. وحَزامَةِ أبي قُرّةَ. وختْلِ أبي جَعْدَةَ. وحِرْصِ أبي عُقبَةَ. ونشاطِ أبي وثّابٍ. ومكْرِ أبي الحُصَينِ. وصبْرِ أبي أيّوبَ. وتلَطّفِ أبي غزْوانَ. وتلوّنِ أبي بَراقِشَ. وحيلَةِ قَصيرٍ. ودَهاء عمْرٍو. ولُطفِ الشّعْبيّ. واحتِمالِ الأحنَفِ. وفِطنَةِ إياسٍ. ومَجانةِ أبي نُواسٍ. وطمَعِ أشعَبَ. وعارِضَةِ أبي العَياء. واخلُبْ بصوْغِ اللّسانِ. واخدعْ بسِحرِ البَيانِ. وارْتَدِ السوقَ قبلَ الجَلَبِ. وامتَرِ الضّرْعَ قبلَ الحلَبِ. وسائِلِ الرُكبانَ قبلَ

المُنتجَعِ. ودمّثْ لجَنبِكَ قبلَ المُضطَجَعِ. واشحَذْ بصيرَتَكَ للعِيافَةِ. وأنعِمْ نظرَكَ للقِيافَةِ. فإنّ منْ صدَقَ توسّمُهُ. طالَ تبسّمُهُ. ومنْ أخطأتْ فِراسَتُهُ. أبطأتْ فَريسَتُهُ. وكُنْ يا بُنيّ خَفيفَ الكَلّ. قَليلَ الدّلّ. راغِباً عنِ العَلّ. قانِعاً منَ الوَبلِ بالطّلّ. وعظّمْ وقعَ الحَقيرِ. واشكُرْ على النّقيرِ. ولا تقنَطْ عندَ الرّدّ. ولا تستَبعِدْ رشْحَ الصّلْدِ. ولا تيْأسْ منْ رَوحِ اللهِ إنهُ لا ييْأسُ منْ رَوحِ اللِ إلا القوْمُ الكافِرونَ. وإذا خُيّرتَ بينَ ذَرّةٍ منْقودَةٍ. ودُرّةٍ موْعودَةٍ. فمِلْ الى لنّقْدِ. وفضّلِ اليومَ على الغدِ. فإنّ للتأخيرِ آفاتٍ. وللعَزائِمِ بدَواتٍ.

وللعِداتِ مُعَقِّباتٍ. وبيْنَها وبينَ النّجازِ عقَباتٌ وأيّ عقَباتٍ. وعليْكَ بصَبْرِ أولي العزْمِ. ورِفْقِ ذَوي الحزْمِ. وجانِبْ خُرْقَ المُشتَطّ. وتخلّقْ بالخُلْقِ السّبْطِ. وقيّدِ الدّرْهَمَ بالرّبْطِ. وشُبِ البَذْلِ بالضّبْطِ. ولا تجْعَلْ يدَكَ مغْلولَةً الى عُنقِكَ ولا تَبسُطْها كلّ البسْطِ. ومتى نَبا بكَ بلَدٌ. أو نابَكَ فيهِ كمَدٌ. فبُتّ منهُ أملَكَ. واسْرَحْ منهُ جمَلَكَ. فخيْرُ البِلادِ ما جمّلَكَ. ولا تستَثْقِلَنّ الرّحلَةَ. ولا تكْرهَنّ النُقلَةَ. فإنّ أعْلامَ شَريعَتِنا. وأشياخَ عَشيرَتِنا. أجْمَعوا على أنّ الحركَةَ برَكةٌ. والطّراوَةَ سُفتَجَةٌ.

وزَرَوْا على منْ زعَمَ أنّ الغُربَةَ. كُربَةٌ. والنُقلَةَ. مُثلَةٌ. وقالوا: هي تَعِلّةُ منِ اقتنَعَ بالرّذيلةِ. ورضِيَ بالحشَفِ وسوء الكِيلَةِ. وإذا أزْمَعْتَ على الاغْتِرابِ. وأعْدَدْتَ لهُ العَصا والجِرابَ. فتخيّرِ الرّفيقَ المُسعِدَ. منْ قبْلِ أن تُصعِدَ. فإنّ الجارَ. قبلَ الدّارِ. والرّفيقَ. قبلَ الطّريقِ: خُذْها إليْكَ وصيّةً ... لمْ يوصِها قبْلي أحَدْ غَرّاءَ حاويَةً خُلا ... صاتِ المَعاني والزُّبَدْ نقّحْتُها تنْقيحَ منْ ... مَحَضَ النّصيحةَ واجتَهدْ فاعْمَلْ بما مثّلْتُهُ ... عمَلَ اللّبيبِ أخي الرَّشَدْ حتى يقولَ الناسُ هـ ... ذا الشّبلُ منْ ذاكَ الأسَدْ ثمّ قال: يا بُنيّ قد أوْصيتُ. واستقْصَيْتُ. فإنِ اقتَدَيْتَ فوَاهاً لكَ. وإنِ اعتَديْتَ فآهاً منكَ! واللهُ خَليفَتي عليْ: َ. وأرْجو أنْ لا تُخْلِفَ ظنّي فيكَ. فقالَ لهُ ابنُهُ: يا أبَتِ لا وُضِعَ عرْشُكَ. ولا رُفِعَ

المقامة البصرية

نعْشُكَ. فلقَدْ قلتَ سَدَداً. وعلّمْتَ رشَداً. ونحَلْتَ ما لمْ ينْحَلْ والِدٌ ولَداً. ولَئِنْ أُمْهِلْتُ بعْدَكَ. لا ذُقْتُ فقْدَكَ. فلأتأدّبَنّ بآدابِكَ الصالِحةِ. ولأقْتَدِيَنّ بآثارِكَ الواضِحَةِ. حتى يُقال: ما أشْبَهَ الليلةَ بالبارِحَةِ. والغادِيةَ بالرّائِحَةِ. فاهْتزّ أبو زيْدٍ لجَوابِهِ وابتسَمَ. وقال: منْ أشبَهَ أباهُ فَما ظلَمَ. قالَ الحارثُ بنُ همّامٍ: فأُخبِرْتُ أنّ بَني ساسانَ. حينَ سَمِعوا هَذي الوَصايا الحِسانَ. فضّلوها على وَصايا لُقْمانَ. وحفِظوها كما تُحفَظُ أمّ القُرْآنِ. حتى إنّهُمْ لَيَروْنَها الى الآنَ. أوْلى ما لقّنوهُ الصّبيانَ. وأنفَعَ لهُمْ منْ نِحلَةِ العِقيانِ. المقامة البَصْريّة حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أُشعِرْتُ في بعضِ الأيامِ همّاً برَحَ

بي استِعارُهُ. ولاحَ عليّ شِعارُهُ. وكنتُ سمِعتُ أنّ غِشْيانَ مجالِسِ الذّكْرِ. يسْرو غَواشيَ الفِكْرِ. فلمْ أرَ لإطْفاء ما بي منَ الجمْرَةِ. إلا قصْدَ الجامِعِ بالبَصرَةِ. وكانَ إذْ ذاكَ مأهولَ المسانِدِ. مَشْفوهَ المَوارِدِ. يُجْتَنى منْ رِياضِهِ أزاهيرُ الكَلامِ. ويُسمَعُ في أرْجائِهِ صَريرُ الأقْلامِ. فانطلَقْتُ إليْهِ غيرَ وانٍ. ولا لاوٍ على شانٍ. فلمّا وطِئْتُ حَصاهُ. واستَشْرَفْتُ أقْصاهُ. تَراءى لي ذو أطْمارٍ بالِيَةٍ. فوْقَ صخْرَةٍ عالِيَةٍ. وقدْ عصيَتْ بهِ عُصَبٌ لا يُحْصى عديدُهُمْ. ولا يُنادَى وَليدُهُمْ. فابتَدْتُ قصْدَهُ. وتورّدْتُ

وِرْدَهُ. ورجَوْتُ أنْ أجِدَ شِفائي عندَهُ. ولمْ أزَلْ أتنقّلُ في المَراكِزِ. وأُغْضي للاّكِزِ والواكِزِ. الى أن جلسْتُ تُجاهَهُ. بحيْثُ أمِنْتُ اشْتِباهَهُ. فإذا هوَ شيخُنا السّروجيّ لا ريْبَ فيهِ. ولا لَبْسَ يُخْفيهِ. فانْسَرى بمَرْآهُ همّي. وارْفَضّتْ كتيبَةُ غمّي. وحينَ رآني. وبصُرَ بمكاني. قال: يا أهْلَ البصرَةِ رعاكُمُ اللهُ ووقاكُمْ. وقوّى تُقاكُمْ. فما أضْوَعَ ريّاكُمْ. وأفضلَ مَزاياكُمْ! بلَدُكُمْ أوْفَى البِلادِ طُهرَةً. وأزْكاها فِطرَةً. وأفسَحُه رُقعَةً. وأمرَعُها نُجعَةً. وأقوَمُها قِبلَةً. وأوسَعُها دِجلَةً. وأكثرُها نهْراً ونَخلَةً.

وأحسَنُها تَفْصيلاً وجُملَةً. دِهْليزُ البلَدِ الحَرامِ. وقُبالَةُ البابِ والمَقامِ. وأحدُ جَناحَيِ الدّنْيا. والمِصْرُ المؤسّسُ على التّقْوى. لمْ يتدنّسْ ببُيوتِ النّيرانِ. ولا طِيفَ فيهِ بالأوْثانِ. ولا سُجِدَ على أديمِهِ لغَيرِ الرّحْمَنِ. ذو المَشاهِدِ المشْهودَةِ. والمساجِدِ المقصودَةِ. والمَعالِمِ المشْهورَةِ. والمقابِرِ المَزورَةِ. والآثارِ المحْمودَةِ. والخِطَطِ المحْدودَةِ. بهِ تلْتَقي الفُلْكُ والرّكابُ. والحيتانُ والضِّبابُ. والحادِي والمَلاّحُ. والقانصُ والفلاحُ. والناشِبُ والرّامِحُ.

والسّارِحُ والسّابِحُ. ولهُ آيةُ المدّ الفائِضِ. والجزْرِ الغائِضِ. وأما أنتمْ فممّنْ لا يختلِفُ في خَصائِصِهِمِ اثْنانِ. ولا يُنكِرُها ذو شَنآنٍ. دَهْماؤكُمْ أطْوَعُ رَعِيّةٍ لسُلْطانٍ. وأشكَرُهُمْ لإحْسانٍ. وزاهِدكُمْ أوْرَعُ الخليقَةِ. وأحسنُهُمْ طَريقَةً على الحَقيقَةِ. وعالِمُكُمْ علاّمَةُ كلّ زمانٍ. والحُجّةُ البالِغَةُ في كلّ أوانٍ. ومنكُمْ منِ استنبَطَ عِلمَ النّحْوِ ووضَعَهُ. والذي ابتدَعَ ميزانَ الشِّعْرِ واخترَعَهُ. وما منْ فخْرٍ إلا ولَكُمْ فيهِ اليَدُ الطّولى. والقِدْحُ المُعَلّى. ولا صيتٍ إلا وأنتُمْ أحَقُّ بهِ وأوْلى. ثمّ إنّكُمْ أكثرُ أهلِ مِصرٍ مؤذّنينَ. وأحسَنُهُمْ في النّسكِ قَوانينَ. وبكُمُ اقتُدِيَ في التّعريفِ. وعُرِفَ التّسحيرُ

في الشّهرِ الشّريفِ. ولكُمْ إذا قرّتِ المضاجِعُ. وهجَعَ الهاجِعُ. تَذْكارٌ يوقِظُ النّائِمَ. ويؤنِسُ القائِمَ. وما ابتسَمَ ثغْرُ فجرٍ. ولا بزَغَ نورُهُ في برْدٍ ولا حرٍّ. إلا ولتأذينِكُمْ بالأسْحارِ. دويٌّ كدويّ الرّيحِ في البِحارِ. وبِهذا صدَعَ عنكُمُ النّقْلُ. وأخبرَ النّبيُّ، عليهِ السّلامُ، منْ قبلُ. وبيّنَ أنّ دويّكُمْ بالأسْحارِ. كدويّ النّحلِ في القِفارِ. فشرَفاً لكُمْ ببِشارَةِ المُصطَفى. وواهاً لمِصرِكُمْ وإنْ كانَ قدْ عَفا. ولمْ يبْقَ منهُ إلا شَفاً. ثمّ إنهُ خزَنَ لسانَهُ. وخطَمَ بيانَهُ. حتى حُدِجَ بالأبْصارِ. وقُرِفَ بالإقْصارِ. ووُسِمَ بالاستِقْصارِ. فتنفّسَ تنفُّسَ مَنْ قِيدَ لقَوَدٍ. أو ضبَثَتْ بهِ براثِنُ أسَدٍ. ثمّ قال: أما أنتُمْ يا أهلَ البَصرَةِ فما منْكُمْ إلا العَلَمُ المعروفُ. ومنْ لهُ المعرفَةُ والمعروفُ. وأما أنا فمَنْ عرَفَني فأنا ذاكَ. وشرُّ المَعارِفِ

منْ آذاكَ. ومنْ لم يُثْبِتْ عِرْفَتي فسأصْدُقُهُ صِفَتي. أنا الذي أنجدَ وأتهَمَ. وأيمَنَ وأشأمَ. وأصْحرَ وأبحَرَ. وأدْلَجَ وأسْحَرَ. نشأتُ بسَروجَ. ورَبيتُ على السُّروجِ. ثمّ ولَجْتُ المَضايقَ. وفتحْتُ المغالِقَ. وشهِدْتُ المَعارِكَ. وألَنْتُ العَرائِكَ. واقْتَدْتُ الشّوامِسَ. وأرْغَمْتُ المَعاطِسَ. وأذَبْتُ الجَوامِدَ. وأمَعْتُ الجَلامِدَ. سَلوا عني المشارِقَ والمَغارِبَ. والمَناسِمَ والغَوارِبَ. والمَحافِلَ والجَحافِلَ. والقَبائِلَ والقَنابِلَ. واستَوْضِحوني منْ نقَلَةِ الأخْبارِ. ورُواةِ الأسْمارِ. وحُداةِ الرُكْبانِ. وحُذّاقِ الكُهّانِ. لتَعْلَموا كمْ فجٍّ سلَكْتُ. وحِجابٍ هتكْتُ. ومَهلَكةٍ اقتَحمْتُ. ومَلحَمَةٍ ألْحَمْتُ. وكمْ ألْبابٍ خدَعْتُ. وبِدَعٍ ابتَدَعْتُ. وفُرَصٍ اختلَسْتُ. وأُسُدٍ افترَسْتُ. وكمْ محلِّقٍ غادَرْتُهُ لَقًى. وكامِنٍ استَخرَجْتُهُ بالرُّقى. وحجَرٍ شحذْتُهُ حتى انصدَعَ. واستَنْبَطْتُ زُلالَهُ بالخُدَعِ. ولكِنْ فرَطَ ما فرَطَ والغُصْنُ رَطيبٌ. والفَوْدُ غِرْبيبٌ. وبُرْدُ الشّبابِ قَشيبٌ. فأمّا الآنَ وقدِ استشَنّ الأديمُ. وتأوّدَ القَويمُ. واستَنارَ اللّيلُ البَهيمُ. فليْسَ إلا النّدَمُ إنْ نفَعَ. وترْقيعُ الخَرْقِ الذي قدِ اتّسَعَ. وكُنتُ رُوّيتُ منَ الأخْبارِ المُسنَدَةِ. والآثارِ المُعتَمَدةِ. أن لكُمْ منَ اللهِ تعالى في كلّ يومٍ نَظرَةً. وأنّ سِلاحَ الناسِ كلّهِمِ الحَديدُ. وسِلاحَكُمُ الأدْعِيَةُ والتّوْحيدُ. فقصَدْتُكُمْ أُنْضي الرّواحِلَ. وأطْوي المَراحِلَ. حتى قُمْتُ هذا المَقامَ لَديْكُمْ. ولا مَنّ لي عليكُمْ. إذْ ما سعَيْتُ إلا في حاجَتي. ولا تعِبْتُ إلا لراحَتي. ولسْتُ أبْغي أعطِيَتَكُمْ. بل أستَدْعي أدعِيتَكُمْ. ولا أسْألُكُمْ أموالَكُمْ. بل أستنزِلُ سُؤالَكُمْ. فادْعوا الى اللهِ بتوْفيقي للمَتابِ. والإعْدادِ للمآبِ. فإنهُ رفيعُ الدّرَجاتِ. مُجيبُ الدّعَواتِ. وهوَ الذي يقبلُ التّوبَةَ عنْ عِبادِهِ ويعْفو عنِ السّيّئاتِ. ثمّ أنشدَ: بَ. والمَناسِمَ والغَوارِبَ. والمَحافِلَ والجَحافِلَ. والقَبائِلَ والقَنابِلَ.

واستَوْضِحوني منْ نقَلَةِ الأخْبارِ. ورُواةِ الأسْمارِ. وحُداةِ الرُكْبانِ. وحُذّاقِ الكُهّانِ. لتَعْلَموا كمْ فجٍّ سلَكْتُ. وحِجابٍ هتكْتُ. ومَهلَكةٍ اقتَحمْتُ. ومَلحَمَةٍ ألْحَمْتُ. وكمْ ألْبابٍ خدَعْتُ. وبِدَعٍ ابتَدَعْتُ. وفُرَصٍ اختلَسْتُ. وأُسُدٍ افترَسْتُ. وكمْ محلِّقٍ غادَرْتُهُ لَقًى. وكامِنٍ استَخرَجْتُهُ بالرُّقى. وحجَرٍ شحذْتُهُ حتى انصدَعَ. واستَنْبَطْتُ زُلالَهُ بالخُدَعِ. ولكِنْ فرَطَ ما فرَطَ والغُصْنُ رَطيبٌ. والفَوْدُ غِرْبيبٌ. وبُرْدُ الشّبابِ قَشيبٌ. فأمّا الآنَ وقدِ استشَنّ الأديمُ. وتأوّدَ القَويمُ. واستَنارَ اللّيلُ

البَهيمُ. فليْسَ إلا النّدَمُ إنْ نفَعَ. وترْقيعُ الخَرْقِ الذي قدِ اتّسَعَ. وكُنتُ رُوّيتُ منَ الأخْبارِ المُسنَدَةِ. والآثارِ المُعتَمَدةِ. أن لكُمْ منَ اللهِ تعالى في كلّ يومٍ نَظرَةً. وأنّ سِلاحَ الناسِ كلّهِمِ الحَديدُ. وسِلاحَكُمُ الأدْعِيَةُ والتّوْحيدُ. فقصَدْتُكُمْ أُنْضي الرّواحِلَ. وأطْوي المَراحِلَ. حتى قُمْتُ هذا المَقامَ لَديْكُمْ. ولا مَنّ لي عليكُمْ. إذْ ما سعَيْتُ إلا في حاجَتي. ولا تعِبْتُ إلا لراحَتي. ولسْتُ أبْغي أعطِيَتَكُمْ. بل أستَدْعي أدعِيتَكُمْ. ولا أسْألُكُمْ أموالَكُمْ. بل أستنزِلُ سُؤالَكُمْ. فادْعوا الى اللهِ بتوْفيقي للمَتابِ. والإعْدادِ للمآبِ. فإنهُ رفيعُ الدّرَجاتِ. مُجيبُ الدّعَواتِ. وهوَ الذي يقبلُ التّوبَةَ عنْ عِبادِهِ ويعْفو عنِ السّيّئاتِ. ثمّ أنشدَ: أستغْفِرُ اللهَ منْ ذُنوبٍ ... أفرَطْتُ فيهِنّ واعْتَدَيْتُ كمْ خُضْتُ بحْرَ الضّلالِ جهْلاً ... ورُحتُ في الغَيّ واغْتَدَيْتُ

وكمْ أطَعْتُ الهَوى اغْتِراراً ... واختَلْتُ واغْتَلْتُ وافْترَيْتُ وكمْ خلَعْتُ العِذارَ ركْضاً ... الى المَعاصي وما ونَيْتُ وكمْ تَناهَيْتُ في التّخطّي ... الى الخَطايا وما انتهيْتُ فلَيتَني كُنتُ قبل هذا ... نَسْياً ولمْ أجْنِ ما جنَيْتُ فالمَوتُ للُجْرِمين خيرٌ ... من المَساعي التي سعَيْتُ يا رَبِّ عفْواً فأنْتَ أهلٌ ... للعَفْوِ عنّي وإنْ عصَيْتُ قال الرّاوي: فطفِقَتِ الجَماعَةُ تُمِدّهُ بالدّعاء. وهوَ يقلّبُ وجْهَهُ في السّماء. الى أن دمَعَتْ أجفانُهُ. وبَدا رَجفانُهُ. فصاحَ: اللهُ أكبرُ بانَتْ أمارَةُ الاستِجابَةِ. وانْجابَتْ غِشاوَةُ الاستِرابَةِ. فجُزيتُمْ يا أهلَ البُصَيْرَةِ. جَزاءَ منْ هدَى منَ الحَيرَةِ. فلمْ يبْقَ منَ القوْمِ إلا منْ سُرّ لسُرورِهِ. ورضخَ لهُ بمَيْسورِهِ. فقَبِلَ

عفْوَ بِرّهِمْ. وأقبلَ يُغْرِقُ في شُكرِهِمْ. ثمّ انحدَرَ منَ الصّخرَةِ. يؤمّ شاطئَ البَصرَةِ. واعْتَقَبْتُهُ الى حيثُ تخالَيْنا. وأمِنّا التّجسّسَ والتّحسّسَ علَيْنا. فقلْتُ لهُ: لقدْ أغْرَبْتَ في هذِهِ النّوبَةِ. فما رأيُكَ في التّوبَةِ؟ فقال: أُقسِمُ بعَلاّمِ الخَفيّاتِ. وغَفّارِ الخطيّاتِ. إنّ شأني لَعُجابٌ. وإنّ دُعاء قومِكَ لَمُجابٌ. فقلتُ: زِدْني إفْصاحاً. زادَكَ اللهُ صَلاحاً! فقال: وأبيكَ لقدْ قُمتُ فيهِمْ مَقامَ المُريبِ الخادِعِ. ثمّ انقلَبْتُ منهُمْ بقَلْبِ المُنيبِ الخاشِعِ! فطوبى لمَنْ صغَتْ قُلوبُهُمْ إليْهِ. وويْلٌ لمَنْ باتوا يدْعونَ عليْهِ! ثمّ ودّعَني وانطلَقَ. وأوْدَعَني القلَقَ. فلمْ أزَلْ أُعاني لأجْلِهِ الفِكَرَ.

وأتشوّفُ الى خِبرَةِ ما ذكرَ. وكلّما استَنشَيْتُ خبرَهُ منَ الرُّكْبانِ. وجَوّابَةِ البُلْدانِ. كُنتُ كمَنْ حاوَرَ عجْماء. أو نادَى صخْرَةً صمّاء. الى أن لَقيتُ بعْدَ تَراخي الأمَدِ. وتَراقي الكَمَدِ. ركْباً قافِلينَ منْ سفَرٍ. فقلتُ: هلْ منْ مُغرِّبَةِ خبَرٍ؟ فقالوا: إنّ عندَنا لخَبراً أغرَبَ منَ العَنْقاء. وأعْجَبَ منْ نظَرِ الزّرْقاء. فسألتُهُمْ إيضاحَ ما قالوا. وأنْ يَكيلوا بما اكْتالوا. فحَكَوْا أنهمْ ألمّوا بسَروجَ. بعْدَ أنْ فارقَها العُلوجُ. فرأوْا أبا زيْدِها المعْروفَ. قد لبِسَ الصّوفَ. وأَمَّ الصّفوفَ. وصارَ بها الزّاهِدُ الموصوفَ. فقلتُ: أتعْنونَ ذا المَقاماتِ؟ فقالوا: إنهُ الآنَ ذو الكَراماتِ! فحفَزَني إليْهِ النّزاعُ. ورأيتُها فُرصَةً لا تُضاعُ. فارْتَحلْتُ رِحلَةَ المُعِدّ. وسِرْتُ نحوَهُ سيرَ المُجِدّ. حتى حللْتُ بمسْجِدِهِ. وقرارَةِ متعبّدِهِ.

فإذا هوَ قد نبَذَ صُحبَةَ أصْحابِهِ. وانتصَبَ في مِحْرابِهِ. وهو ذو عَباءةٍ مخلولَةٍ. وشمْلَةٍ موصولَةٍ. فهِبْتُهُ مَهابَةَ منْ ولَجَ على الأسودِ. وألْفَيْتُهُ ممّنْ سِيماهُمْ في وُجوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجودِ. ولمّا فرَغَ منْ سُبْحتِهِ. حيّاني بمُسبِّحَتِهِ. منْ غيرِ أن نغَمَ بحديثٍ. ولا استَخْبرَ عنْ قديمٍ ولا حَديثٍ. ثمّ أقْبلَ على أوْرادِهِ. وتركَني أعجَبُ منِ اجتِهادِهِ. وأغبِطُ مَنْ يَهدي اللهُ منْ عِبادِهِ. ولمْ يزَلْ في قُنوتٍ وخُشوعٍ. وسُجودٍ ورُكوعٍ. وإخْباتٍ وخُضوعٍ. الى أن أكْملَ إقامَة الخمْسِ. وصارَ اليومُ أمْسِ. فحينئذٍ انْكفأ بي الى بيتِهِ. وأسْهَمَني في قُرْصِهِ وزَيْتِهِ. ثمّ نهضَ الى مُصلاّهُ. وتخلّى بمُناجاةِ موْلاهُ. حتى إذا التمَعَ الفجرُ. وحقّ للمُتهَجِّدِ الأجْرُ. عقّبَ تهجّدَهُ بالتّسْبيحِ. ثمّ اضطَجَعَ ضِجْعَةَ المُستريحِ. وجعلَ يرجّعُ

بصوْتٍ فَصيحٍ: خلِّ ادّكارَ الأرْبُعِ ... والمعْهَدِ المُرتَبَعِ والظّاعِنِ المودِّعِ ... وعدِّ عنْهُ ودَعِ وانْدُبْ زَماناً سلَفا ... سوّدْتَ فيهِ الصُّحُفا ولمْ تزَلْ مُعتكِفا ... على القبيحِ الشّنِعِ كمْ ليلَةٍ أودَعْتَها ... مآثِماً أبْدَعْتَها لشَهوَةٍ أطَعْتَها ... في مرْقَدٍ ومَضْجَعِ وكمْ خُطًى حثَثْتَها ... في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَها وتوْبَةٍ نكَثْتَها ... لمَلْعَبٍ ومرْتَعِ وكمْ تجرّأتَ على ... ربّ السّمَواتِ العُلى ولمْ تُراقِبْهُ ولا ... صدَقْتَ في ما تدّعي

وكمْ غمَصْتَ بِرّهُ ... وكمْ أمِنْتَ مكْرَهُ وكمْ نبَذْتَ أمرَهُ ... نبْذَ الحِذا المرقَّعِ وكمْ ركَضْتَ في اللّعِبْ ... وفُهْتَ عمْداً بالكَذِبْ ولمْ تُراعِ ما يجِبْ ... منْ عهْدِهِ المتّبَعِ فالْبَسْ شِعارَ النّدمِ ... واسكُبْ شآبيبَ الدّمِ قبلَ زَوالِ القدَمِ ... وقبلَ سوء المصْرَعِ واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ ... ولُذْ مَلاذَ المُقترِفْ واعْصِ هَواكَ وانحَرِفْ ... عنْهُ انحِرافَ المُقلِعِ إلامَ تسْهو وتَني ... ومُعظَمُ العُمرِ فَني

في ما يضُرّ المُقْتَني ... ولسْتَ بالمُرْتَدِعِ أمَا ترَى الشّيبَ وخَطْ ... وخَطّ في الرّأسِ خِطَطْ ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّمَطْ ... بفَودِهِ فقدْ نُعي ويْحَكِ يا نفسِ احْرِصي ... على ارْتِيادِ المَخلَصِ وطاوِعي وأخْلِصي ... واسْتَمِعي النُّصْحَ وعي واعتَبِرِي بمَنْ مضى ... من القُرونِ وانْقَضى واخْشَيْ مُفاجاةَ القَضا ... وحاذِري أنْ تُخْدَعي وانتَهِجي سُبْلَ الهُدى ... وادّكِري وشْكَ الرّدى وأنّ مثْواكِ غدا ... في قعْرِ لحْدٍ بلْقَعِ آهاً لهُ بيْتِ البِلَى ... والمنزِلِ القفْرِ الخَلا وموْرِدِ السّفْرِ الأُلى ... واللاّحِقِ المُتّبِعِ

بيْتٌ يُرَى مَنْ أُودِعَهْ ... قد ضمّهُ واسْتُودِعَهْ بعْدَ الفَضاء والسّعَهْ ... قِيدَ ثَلاثِ أذْرُعِ لا فرْقَ أنْ يحُلّهُ ... داهِيَةٌ أو أبْلَهُ أو مُعْسِرٌ أو منْ لهُ ... مُلكٌ كمُلْكِ تُبّعِ وبعْدَهُ العَرْضُ الذي ... يحْوي الحَييَّ والبَذي والمُبتَدي والمُحتَذي ... ومَنْ رعى ومنْ رُعي فَيا مَفازَ المتّقي ... ورِبْحَ عبْدٍ قد وُقِي سوءَ الحِسابِ الموبِقِ ... وهوْلَ يومِ الفزَعِ ويا خَسارَ مَنْ بغَى ... ومنْ تعدّى وطَغى وشَبّ نيرانَ الوَغى ... لمَطْعَمٍ أو مطْمَعِ يا مَنْ عليْهِ المتّكَلْ ... قدْ زادَ ما بي منْ وجَلْ لِما اجتَرَحْتُ من زلَلْ ... في عُمْري المُضَيَّعِ

فاغْفِرْ لعَبْدٍ مُجتَرِمْ ... وارْحَمْ بُكاهُ المُنسجِمْ فأنتَ أوْلى منْ رَحِمْ ... وخيْرُ مَدْعُوٍّ دُعِي قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ يزَلْ يرَدّدُها بصوتٍ رقيقٍ. ويصِلُها بزَفيرٍ وشَهيقٍ. حتى بكيتُ لبُكاء عينيهِ. كَما كُنتُ منْ قبلُ أبكي عليْهِ. ثمّ برزَ الى مسجِدِهِ. بوُضوء تهجّدِهِ. فانطلَقْتُ رِدْفَهُ. وصلّيتُ مع مَنْ صلّى خلفهُ. ولمّا انفَضّ مَنْ حضَرَ. وتفرّقوا شغَرَ بغَرَ. أخذَ يُهَينِمُ بدَرْسِهِ. ويسْبِكُ يومَهُ في قالِبِ أمْسِهِ. وفي ضِمْنِ ذلِكَ يُرِنّ إرْنانَ الرَّقوبِ. ويبْكي ولا بُكاءَ يعْقوبَ. حتى استَبَنْتُ أنهُ التحقَ بالأفْرادِ. وأُشرِبَ قلبُهُ هوى الانْفِرادِ. فأخطَرْتُ بقَلْبي عَزْمَةَ الارتِحالِ. وتخْلِيَتَهُ والتّخلّي بتِلكَ الحالِ. فكأنهُ تفرّسَ ما نويْتُ. أو كوشِفَ بما أخْفَيْتُ. فزفَرَ زَفيرَ الأوّاهِ. ثمّ قرأ: فإذا عزَمْتَ فتوكّلْ على اللهِ. فأسْجَلْتُ عندَ ذلِكَ بصِدْقِ

خاتمة

المُحدّثينَ. وأيقَنْتُ أنّ في الأمّةِ محَدّثينَ. ثمّ دنَوْتُ إليْهِ كما يدْنو المُصافِحُ. وقلتُ: أوْصِني أيها العبْدُ النّاصِحُ. فقال: اجعَلِ الموتَ نُصْبَ عينِكَ. وهذا فِراقُ بيني وبينِكَ. فودّعْتُهُ وعبَراتي يتحدّرْنَ منَ المآقي. وزَفَراتي يتصَعّدْنَ منَ التّراقي. وكانتْ هذِهِ خاتِمَةَ التّلاقي. خاتمة قال الشيخُ الرّئيسُ أبو محمّدٍ القاسِمُ بنُ عليّ برّدَ اللهُ مَضْجَعَهُ: هذا آخِرُ المَقاماتِ التي أنشأتُها بالاغْتِرارِ. وأملَيْتُها بلِسانِ الاضْطِرارِ. وقدْ أُلجِئْتُ الى أن أرصَدْتُها للاستِعْراضِ. ونادَيْتُ عليْها في سوقِ الاعْتِراضِ.

هذا معَ معرِفَتي بأنها منْ سقَطِ المَتاعِ. وممّا يستَوجِبُ أنْ يُباعَ ولا يُبْتاعَ. ولوْ غشِيَني نورُ التّوفيقِ. ونظرْتُ لنفْسي نظرَ الشّفيقِ. لسَترْتُ عَواري الذي لمْ يزَلْ مسْتوراً. ولكِنْ كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مسْطوراً. وأنا أسَغْفِرُ اللهَ تعالَى ممّا أودَعْتُها منْ أباطيلِ اللّغْوِ. وأضاليلِ اللهْوِ. وأسترْشِدُهُ الى ما يعْصِمُ منَ السّهْوِ. ويُحْظي بالعَفْوِ. إنهُ هوَ أهلُ التّقْوى وأهلُ المَغفِرَةِ. ووليُّ الخيْراتِ في الدُنْيا والآخِرَةِ. انتهى طبعه في اليوم الرابع والعشرون من ربيع الثاني من شهور سنة 1391 الموافق لليوم التاسع من شهر حزيران سنة 1874 وذلك في مطبعة المعارف أما غلطه ف طفيف وهي كسقوط حركة وما أشبه ولا يخلو كتاب مطبوع من الغلط وعلى الخصوص إذا كان ذا حركات كثيرة كهذا الكتاب غير أنه بعد المراجعة إذا وجد إغلاط مهمة لطبعها على ورقة منفصلة ويرسلها إلى المشتركين ليلصقوها بكتبهم هذا وعندنا أحرف كأحرفه للبيع ومن راد أن يطبع شيئاً مثله يقدر أن يفوز بمرغوبه في هذه المطبعة والمجابرة بهذا الخصوص مع كاتبيه خليل سركيس

§1/1