مقالات موقع الدرر السنية

مجموعة من المؤلفين

من روائع المقالات القديمة

من روائع المقالات القديمة

السياسة الرشيدة في الإسلام

السياسة الرشيدة في الإسلام محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) 1 ربيع الثاني 1433هـ أتى على العالم حين من الدهر، وهو يتخبَّط في جهل وشقاء، ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء، حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم- صلوات الله عليه- بعزم لا يحوم عليه كلال، وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض؛ فأخذ يضع مكان الباطل حقًّا، ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة، وما لبثت الأمم أن تقلدت آداباً أصفى من كواكب الجوزاء، وتمتعت بسياسة يتجلَّى بها العدل في أحسن رُواء، وأرفع سناء. وضع الإسلام للسياسة نظاماً يقطع دابر الاستبداد، ولا يُبقي للحيف في فصل القضايا، أو الخلل في إدارة الشؤون منفذاً. أوصى الرعاة بأن لا ينفردوا عن الرعية بالرأي في آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. ثم التفت إلى الأمة، وعهد إليها بالرقابة عليهم، وإسدائهم النصيحة فيما تراه غير واقع على وجه الاستقامة، فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. ولم يكن الأمراء الراشدون - احتراماً لهذا القانون الإلهي - يكرهون من الناس، أو يحجرون عليهم البحث في الشؤون العامة، ومجادلتهم فيها بلهجة ناصح أمين، وهذه صحف التاريخ حافلة بقصص الذين كانوا يقفون للخليفة عمر بن الخطاب، وهو يخطب على منبر المسجد الجامع، فينكرون عليه عزل عامل اعتقدوا أمانته، أو يجادلونه في رأيٍ عَزَم على أن يجعله قانوناً نافذاً، فلا يكون منه سوى أن يقول لمن نطق على بينة: (أصبت)، ويرد على من أخطأ في المناقشة ردًّا جميلاً. وإن شئت مثلاً من سيرة الأمراء الذين تقلبوا في فنون من أبهة الملك، ولبسوا من عظمته بروداً ضافية؛ فقد حضر القاضي منذر بن سعيد مجلس الخليفة الناصر بمدينة الزهراء، فتلا الرئيس عثمان بن إدريس أبياتاً تمضمض فيها بشيء من إطراء الخليفة، حتى اهتزَّ لها طرباً، وكان منذر بن سعيد ينكر على الناصر إفراطه في تشييد المباني وزخرفتها، فأطرق لحظة، ثم قال: يا باني الزهراء مستغرقاً أوقاته فيها أما تمهل لله ما أحسنها رونقاً لو لم تكن زهرتها تذبل فما زاد الناصر على أن قال: (إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسُقيت بماء الخشوع، لا تذبل إن شاء الله)، فقال منذر: (اللهم اشهد؛ فإني قد بثثت ما عندي). في مقدرة ذلك الخليفة أن يفصل منذر بن سعيد عن وظائفه، أو يبعث به إلى المنفى غير آسف عليه، ويجعل عذره في ذلك العقاب خُطَبه التي كان يلقيها على منبر الجامع، ويتصدَّى فيها لنقد بعض أعمال الدولة، ولكنه أمير نفذت بصيرته إلى روح الشريعة الغرَّاء، ودرس تاريخ الخلفاء قبله عن عبرة، فعرف أن لا غنى للدولة عن رجال يجمعون إلى العلم شجاعة، وإلى الشجاعة حكمة، حتى يمتطوا منصب الدعوة إلى الإصلاح بحق، ويكوِّنوا الصلة التي يظهر بها أولو الأمر وبقية الشعب في مظهر أمة تولِّي وجهها شطر غاية واحدة، ثم لا يغيب عن مثل ذلك الخليفة العادل أن الدولة لا تحرز مجداً خالداً، وسمعة فاخرة، إلا أن تعيش في ظلالها أقوام حرة، وفي مقدمتهم علماء يجدون المجال للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فسيحاً. يصفون بعض الأمم بمحررة الشعوب، ويلقبون عاصمة بلادها بمطلع الحرية، إلا أن ناشر لواء الحرية بحقٍّ، ومعلم البشر كيف يتمتعون بالحقوق على سواء، من وضع لطاعة الرؤساء حدًّا فاصلاً، فقال: ((إنما الطاعة في المعروف))، وجعل الناس في موقف القضاء أكفاء، فقال صلوات الله عليه: ((أيها الناس! إنما ضلَّ من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها)). كم ظهر في البلاد العرب من سيد بلغ في الرياسة أن أحزر لقب مَلِك؛ كآل جفنة، وآل غسان، وربما وُجِد من بينهم من لا يقلُّ في قوته النفسية الفطرية عن الفاروق رضي الله عنه، فما بالهم لم يأخذوا في السياسة بنزعته، ويرموا إلى أغراضها عن قوس حكمته؟!. لا عجب أن يمتطي ابن خطاب تلك السياسة الفائقة، ويجول بها بين الأمم جولته، التي رفعت الستار عن أبصارهم، حتى شهدوا الفرق بين سيطرة الدولة المستبدة، وسيرة الخليفة الذي ينام في زواية من المسجد متوسِّداً إحدى ذراعيه. إن هو إلا الإسلام، أقام له أساسها، وأنار سراجها، فبنى أعماله على أساس راسخ، واستمدَّ آراءه من سراج باهر، فكانت صحف آثاره أبدع عند عشاق السياسة القيمة من مناظر الروضة الغناء. تدرَّب الخلفاء العادلون على مذاهب السياسة وفنون الحرب بما كانوا يتلقونه من حضرة الرسول- عليه الصلاة والسلام- من الحكم السامية؛ كحديث: ((الحرب خدعة))، أو ما يشاهدونه من التدابير المحكمة؛ كوسيلة التكتم في الأمر الجارية عند الدول لهذا العهد، وهي أن يبعث الرئيس الأعلى إلى الرئيس الأدنى، أو يناله رسالة مختومة، ويأمره أن لا يفك ختامها إلا في محل أو وقت يُسمِّيه له، وقد جاء في (صحيح البخاري) وغيره: أن حضرة صاحب الرسالة- عليه الصلاة والسلام- ناول عبد الله بن جحش- وهو أمير نجد- كتاباً، وقال له: ((لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا))، فلما بلغ عبد الله المكان، قرأ الكتاب، وأخبر الجند بما في ضِمنه من الأمر. إن اختلاف الأمم في عادتها وحاجاتها، يستدعي أن تكون سياستها وأنظمتها مختلفة، كما يقتضي أن يكون المدبرون لأحكام الأمة وتراتيبها المدنية ممن وقفوا على روحها، وأحاطوا خبرة بمزاجها، حتى لا يضعوا عليها من الأوامر والنواهي ما يجعل سيرها بطيئاً، أو يردها على عقبها خاسرة، وكذلك الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات، ويسير بها على ما يطابق المصالح، ولهذا فصل بعض أحكام لا يختلف أمرها باختلاف المواطن؛ كآية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. وحديث: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه))، ودلَّ على كثير منها بأصول عامة يستنبطها الراسخ في العلم بمقاصد الشريعة، البصير بما يترتب على الوقائع من آثار المقاصد والمصالح. وإن شريعة تقوم على قواعد: (الضرر يُزال. المشقة تجلب التيسير. العادة محكَّمة)، ويقول أحد العظماء من فقهائها: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من المعاملات والسياسات) لا يحق لأحد أن يرميها بمجافاة الإصلاح والبعد عما تقتضيه طبائع العمران، إلا أن يفوته العلم بحقائقها، أو يحمله الزيغ الجامد على مناوءتها.

_ اختيار: موقع الدرر السنية www.dorar.net المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (10/ 4591).

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات محمود محمد شاكر نُشر عام 1938م نحن شعوب متخاذلة، قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سِنَةِ النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط، التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة، التي خُلِق من أجلها الإنسان على الأرض. أجل .. وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية، يُتقنها، ويستجيدها، ويُطهِّرها من أدران البلاء، التي تعصف بإنسانية الإنسان، كما تعصف الريح بأوراق الشجر؛ فَلِمَ لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية؛ لتزهَى بها، وتبدو في زينتها؟ هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمَّت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين، كأنما نرى معجزة تحقِّقها أيدي مَرَدَة من الجن، ليسوا من الإنس في أصل ولا نسب. إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزاً وهلعاً واستكانة ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة؛ ليعرف كيف يعمل. إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة تقف على هذه الأرض موقفاً ظاهراً لمن يتأمل. هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملؤها حديداً، وناراً، وضجيجاً في الأرض، وصخباً طائراً في السماء. والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدَّة مهيَّأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَة متربصة، تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض، ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى؛ لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها. إن المدنية الأوربية المحدثة في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية، ودفعتها إلى زيادة التسلُّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كلِّ ما يمسُّ الاستعداد الحربي. ولا شك في أن هذه الإرادة وحدها- مع الإسراع في تنفيذها- سوف تؤدي حتماً إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشرِّ جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوِّه وجه الإنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلاً في العالمين. ولو أن هذا الاستعداد الحربي العظيم كان نتيجة للدفاع عن مبادئ استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها- لقلنا عسى أن تنتفع الإنسانيةُ بانهزام الباطل، وانتصار الحق، وإن ضحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر، الذين تأكلهم هذه الحروب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإصلاح، تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به. ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب الحديثة المقبلة إنما هي بغيٌ؛ لقد بغى بعضهم على بعض في العلم؛ فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه [أي العلم المادي]، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يُستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإرادة، وردَّهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض!. هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة (الحرية) من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإبداع، وزخارف الأرض، حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كلُّ غاوٍ وحليم- تثبتُ للناس أن (الحرية) كلمة ضامرة ضعيفة، لا معنى لها، ولا حياة فيها. ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصراً ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة- مع كثرة دورانها على الألسنة- مثل الذي شهده في هذا العصر؛ ففي كلِّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السرِّ، وحرية العلن، وعلى حرية الرأي، وحرية الضمير. في فرنسا- باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كلِّ بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبدُّ به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربي، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة الحرية. إن كلَّ عمل، بل كلَّ رأي، بل كلَّ فكر، بل كلَّ شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها في العلم والفن والأدب، وفي كل شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطاً فاسداً لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة، تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالحَ كلِّ شيء، وتنفي فساده، وتحريفه، وغلوَّه، وغروره؛ ليكون الانتفاع به أقرب لإنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتدُّ بها إلى وحشية الغرائز الدنيا، التي تتحكَّم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا رويَّة. هذه الصور الدانية الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية، التي تبني عليها سعادة القلب الإنساني، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية، وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمدُّ كلَّ هذه بأكبر أسباب الفساد، ألا وهو غرور هذه المدنية بعلمها، ورأيها، وفهمها، وادعائها إدراك سرِّ الحقيقة في كلِّ ما تتناوله بالبحث والتحليل. أما الشرق فهو الآن يموج، ويهتزُّ، ويمتدُّ بآماله، ويطالب بحرياته؛ فبذلك تُهَيِّئُه ضرورةُ الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتُهيِّئه طبيعتُه الموروثةُ للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها، وتُهيِّئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية؛ لتعبئة قواه التاريخية كلها؛ فيأخذ الحضارة الحديثة، فيصهرها، ويذيبها، ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى؛ تقوى الله في عمل الدنيا، وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يَسِمُ بها مدنيته الجديدة التي يَتهيَّأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (2/ 809)

حالة المسلمين

حالة المسلمين محمد البشير الإبراهيمي (ت 1384هـ - 1965م) نشر عام (1372هـ) تردَّد على أقلام الكتَّاب العرب وعلى ألسنة خطبائهم منذ عهد قريب، كلمات: (الوعي)، (اليقظة)، (النهضة)، منسوبة إلى الإسلام أو مضافة إلى المسلمين، والكلمة الأولى منهن حديثة الاستعمال في المعنى الاصطلاحي المراد منها، وإن كانت عريقة النسبة في معناها الوضعي، و (الوعي) في معناه الاجتماعي الذي يعنيه هؤلاء الكتَّاب والخطباء؛ إدراكٌ بعد جهلٍ، و (اليقظة) في قصدهم تنبُّهٌ بعد غفلة، و (النهضة) معناها حركةٌ بعد ركود. فهل هذه الأقلام والألسنة متهافتة في هذه الكلمات تصف حقيقة، أم تصور خيالاً؟ فإن الصفات لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الوقع الذي لا يمارى فيه لها. والوعي الحقيقي: يصحبه رعي ويعقبه سعي، واليقظة الحقيقية: يصحبها علم لا هوينا فيه، ويتبعها عمل لا تردد فيه، والنهضة الحقيقية: يصحبها حزم لا هوينا فيه، ويتبعها عزم، ويسوقها إقدام لا إحجام فيه، إلى غاية لا اشتباه فيها، وهل هذه الآثار وهذه الدوال موجودة حقيقة في المجتمعات الإسلامية؟ لا نثبت فنكون متفائلين في موضوع لا ينفع فيه التفاؤل، ولا ننكر فنكون مثبطين في مقام ينفر فيه التثبيط، إنما نقول مقررين للواقع إن شاء الله: إن المعاني الحقيقية للألفاظ الثلاثة لا تظهر إلا إذا سبقتها إرهاصات أو أمارات، كما يسبق الفجر طلوع الشمس، وأدلُّها تقارب القلوب وتعارف الشخوص، أو تجاوب الشعور، وتجانس الأفكار، وتعاطف الأرواح، وتهيؤ الطباع إلى الاستحالة من صبغة إلى صبغة، وإلى الانسلاخ من جلدة إلى جلدة، وصدق التوجيهات من النتائج إلى المقدمات، ومن الوسائل إلى الغايات، وسهولة التغلُّب على المضائق، وسرعة الاستجابة إلى داعي الحق إذا دُعيَ إليه، وخفَّة الإقدام إلى الأمام، وتلمُّس القيادة الرشيدة، والشعور بالحاجة إلى توحيدها، وغير ذلك من العوارض التي تظهر لمثل هذه الأطوار من حياة الأمم، وهل هذه الإرهاصات موجودة؟ نعم يوجد بعضها القليل، ولكن آفته الكبرى أنه متَّجه إلى غير القبلة المشروعة، وإن الرياح تسوق سُحُبه إلى غير أرضنا!! لنخرج من النفاق الغرَّار الخادع إلى الصدق والصراحة فنقول: الموجود من تلك الأشياء الثلاثة هو السماء مفسرة في الغالب بغير معانيها، مصوَّرة بغير صورها الحقيقية، وإذا فسد التصور فسد التصوير؛ لأننا ما زلنا نبني تصوراتنا على أُسس من الأماني، ونزجها بالفال ومعاني الفال، فلا تنتهي بنا إلى الأعمال، وإنما تنتهي إلى الخيال ثم إلى الخبال، وما زلنا على بقية من الافتتان بالتفسيرات القاموسية التي تقول لنا مثلاً: إن اليقظة هي الصحو من النوم، ولو أن نائماً صحا من نومه صحواً كاملاً، ولم يبق في أجفانه فتورٌ ولا ترفيفٌ، ولكنه بقي في مضجعه لم يعمل عملاً، ولم يأت شيئاً من مستلزمات الصحو ونواقض النوم، لكان هذا كافياً في تحقيق المعنى القاموسي، ولكنه لا يفيد المعنى الاجتماعي، بل يُعد كما لو كان يغطُّ في نومه، وكذلك تقول في معنى اليقظة ومعنى النهضة، تصحيح معاني هذه الكلمات يستلزم إصلاحاً شاملاً للمفاسد النفسية، ويتغلغل إلى مكامن الأمراض فيها، فيطهرها ليبني العلاج على أصلٍ صحيحٍ وإلى عروق الشر منها، فيمتلخها ليأمن النكسة، ومردُّ ذلك كله إلى الأخلاق، فهي أول ما فسد بيننا، فتكون أول ما أفسد علينا كل شيء، فلتكن هي أول ما نصلح إن كنا جادين في تثبيت الوعي واليقظة والنهضة ... لأن الأخلاق إذا استقامت تفتَّحت البصائر للوعي وتهيَّأت الشواعر لليقظة، وانبعثت القوى للنهضة. فكان الوعي بصيراً، وكانت اليقظة عامَّة، وكانت النهضة شاملة وكانت الحياة لذلك كله كاملة. نعترف أن نومنا كان ثقيلاً، وبأن عمر أمراضنا كان طويلاً، نعرف أن النوم الثقيل لا يصحو صاحبه لا بصوتٍ يصخ أو بضرب يصك، وأن المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلا بتدبير حكيم، قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم، ومما كانوا به مثلاً في الآخرين. ولكننا لم نصحُ من نومٍ إلا لنستغرق في نومٍ، ولم ننفلت من قبضة منوِّم؛ إلا لنقع في قبضة منوِّم، صحونا من نوم الاتكال، فنُقِلنا إلى نومِ التواكل، وخرجنا من نوم الجهل ومن نوم الركود إلى طفرةٍ تدق الأعناق، وانفلتنا من تنويم تجار الدين، فوقعنا في تنويم تجار السياسة، أولئك يمنُّوننا بسعادة الآخرة من دون أن يسلكوا بنا سبيلها الواضحة، وهؤلاء أصبحوا يُغنُّون لنا .. بسعادة الدنيا دون أن يدلُّونا على نهجها الصحيح، وكانت العاقبة لذلك كله ما نرى وما نحس وما نشكو. وما أضلنا إلا المجرمون الذين يدعونا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق، ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم رجال الدين الضالون الذين فرَّقوه إلى مذاهب وطوائف، والآخرون رجال السياسة الغاشُّون الذين بدَّلوا المشرب الواحد، فجعلوه مشارب .. فهل هبَّةٌ من روح الإسلام على أرواح المسلمين، تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت؟ وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة، وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة، وأيديهم على بناء حصن الحق، على الأسس التي وضعها محمد صلى الله عليه وسلم، ولا مطمع لنا في الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا أصبح المسلم يلتفت إلى جهاته الأربع، فلا يرى إلا أخاً يشارك في الآلام والآمال .. فهو حقيق أن يشاركه في العمل. إن الوسائل إلى هذه الغاية كثيرة، وأقربها نفعاً، وأجداها أثراً أن تُربَّى الأحداث من الصبا على غير ما ربَّانا آباؤنا، وأن نحجب عليهم نقائصنا، فإن اطَّلعوا عليها سميناها باسمها، وأنها نقائص وأنها سبب هلاكنا، وحذَّرناهم من التقليد لنا فيها، فإذا شبُّوا على هذه الهداية سلكنا بهم سبيل الحق الواحدة، ووجَّهناهم بتلك القابلية إلى وجهةٍ واحدة، وحميناهم من هذه التيارات الفكرية التي تتجاذبهم، ومن الذئاب الغربية التي تتخطفهم. إن شبابنا اليوم يتخبط في ظلماتٍ من الأفكار المتضاربة، والسبل المضلة، تتنازعه الدعايات المختلفة التي يقرأها في الجريدة والكتاب، ويسمعها في الشارع وفي المدرسة، ويرى مظاهرها في البيت وفي المسجد. وكل داعٍ إلى ضلالةٍ فكريةٍ أو إلى نحلةٍ دينيةٍ مفرِّقةٍ، يرفع صوته، ويجهر ويُزيِّن ويغري ويعد ويُمنِّي ونحن ساكتون؛ كأن أمر هؤلاء الشبَّان لا يعنينا، وكأنهم ليسوا منا ولسنا منهم! ولا عاصم من تربيةٍ صالحةٍ موحَّدةٍ، يعصمهم من التأثر بهذه الدعايات، ولا حامي من مذكِّر أو معلِّم أو مدرسة أو قانون يحميهم من الوقوع في هذه الإشراك. إن شبابنا هم هدف هذه الدعايات، وهم ميدان الصراع، وموضوع النزاع بين دعاة الفكرة الجامعة، وصوتهم ضعيف، وعملهم ضئيل، وبين دعاة الشيوعية والإلحاد والوطنية الضيِّقة والعنصريات المحدودة وأصواتهم عالية وأسنادهم قوية، ومحركهم الأول واحد، وإن لم يشعروا به أو غالطوا أنفسهم وغالطونا فيه، وما هم إلا أسلحة في يده موجهة إلى شبابنا، إن لم يُصِب بواحد منها أصاب بالآخر، وهو الظافر على كل حال، إن لم تعالجه بما يبطل كيده ويفلُّ أسلحته كلها، وهو حماية هذا الشباب وتحصينه بالمعوذات من فضائل الإسلام وأخلاقه وروحانيته، وإن فيه العوض المضاعف عن كل ما تمنِّيه به الدعايات الخارجية. إذا كان الشباب لا يفهم الدين من البيت ولا من المسجد ولا من المدرسة ولا من المجتمعات، فإن فهم شيئاً منه في شيء منها؛ فهِمه خلافاً وشعوذة وتخريفاً، ففي أي موضع يفهم الإسلام على حقيقته طهارة وسموًّا واتحاداً وقوة وعزة وسيادة؟ إن عاملناه بالإنصاف نقول: إنه معذور إن زلَّ وضلَّ بالانسياق مع هذه التيارات الخاطئة، التي تختلف بالأسماء والمبادئ، وتتفق في الغاية، وهي حرب الإسلام في أبنائه لتحاربه بعد ذلك بأبنائه وإذا كان الشاب يجلس إلى أبويه وذويه فلا يسمع إلا المذهب والخلاف، ولمز المخالفين بالمذهب قبل المخالفين بالدين، ثم يجلس إلى العالم الديني فلا يسمع إلا (عندنا وعندهم)، ثم يجلس في المدرسة فلا يسمع ذكراً للإسلام، ولا تمجيداً لمبادئه وعظمائه وتاريخه، ولا يرى فيها شيئاً من مظاهره، بل لا يسمع إلا تحقيراً لماضيه وغضًّا من أمجاده، إذا كان لا يسمع في مضطربه إلا هذا، ولا يرى إلا هذا، فكيف نطمع أن ينتصر مع هذه الدعايات الجارفة؟ إننا حين نطمع في هذا لفي غيٍّ بعيد إن شبابنا لجهلهم بالإسلام أصبحوا لا يثقون بماضيه، وكيف يثقون بماضٍ مجهولٍ وهذا حاضره؟!! أم كيف يدافعون عن هذا الماضي المجهول إذا عرض لهم الطعن فيه في الكتاب الطاعن؟ أم سمعوا اللعن له من الأستاذ اللاعن؟ أم كيف يفخرون بالمجهول إذا جُلِّيت المفاخرُ الأجنبية في كتابٍ يقرِّره قانون ويزكيه أستاذ؟! اعذروا الشبَّان ولا تبكوا على ضياعهم، فأنتم الذين أضعتموهم، ولا تلوموهم ولوموا أنفسكم!. أهملتموهم فذوقوا وبال الإهمال، وأنزلتموهم إلى اللجة، وقلتم لهم: إياكم أن تغرقوا .. ثم استرعيتم عليهم الذئاب، ومن استرعى الذئب ظلم .. لا أحمق منا: نلقِّن أبناءنا الخلاف في الدين والدنيا بأعمالنا؛ ونقول لهم بألسنتنا: اتحدوا!! وإنَّ صالحةً يأخذها الابنُ عن أبيه بطريق القدوة خير من ألف نصيحة باللسان. النهضاتُ الصادقة تبدأ من الأخلاق، وتنتهي إلى الأخلاق، وما زادت بحوث الفلسفة ماضيها وحاضرها في الأخلاق شيئاً على ما جاء به الإسلام، وأقرَّته الفطر السليمة، ويزيد الإسلام على هذه الفلسفات، ويشق بقوة العرض للفضيلة والتشويق لها وشرح آثارها في الفرد والجماعة وبيان صلتها الوثيقة بالأقانيم الثلاثة: الحق والخير والجمال. وإن شعراء العرب الفطريين لأدقُّ تصويراً للفضائل، وأصدقُ تعبيراً عليها، وتفسيراً لآثارها، وحثًّا على التحلِّي بها من جميع الفلاسفة النظريين، وقد أثَّرت المادياتُ في هذا العصر على عقول فلاسفته، ورانت عليها العصبيات الجنسية والإقليمية، حتى انعكس نظرهم في فهم الفضيلة، فسمَّوْها بغير اسمها! فأصبحت القوة فضيلة يُدعى إليها بدل الرحمة، والظلم فضيلة يتمجد بها بدل العدل، والاستعباد فضيلة يُتغنى بها بدل الحرية، وكل هذا يدل على أن الفضيلة في نظر الفلسفة العملية الجديدة هي لباسٌ للعقل، لا نبع منه، وأنها خاضعةٌ للحُكم لا للحكمة. أما الفضائل في نظر الإسلام وحكمه: فإنها صبغةٌ لا تتحول وحقيقة لا تتغير ولا تتبدل، فالصدق في معناه الإسلامي هو الصدق؛ لا تتصرف في معناه المصالح والمنافع، ولا تتلاعب به الأهواء والمطامع، والوفاء هو الوفاء، والعدل والإحسان والرفق والعفو عند القادر، كل أولئك من الفضائل الثابتة ثبوت الحقائق، لا تنال منها تصاريف الأيام، ولا يتصور أن يأتي على الناس يوم تُجمع فيه عقول العقلاء على أن الصدق مثلاً رذيلة، تصِمُ صاحبها بالذم، إلا إذا جوَّزنا مجيء يوم يخرج فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان، ويكون أفضل الذكر فيه أن يقال كلما ذكر الشيطان: رضي الله عنه!! فالموازين القرآنية للفضائل هي التي يجب أن تحكم في العقول، حتى تأمن على الفضيلة ما يجري بيننا على (الأوراق النقدية) ونحن أهل القرآن أحق الناس بالدعوة إلى هذا وتبيينه ونشره في هذا العالم المضطرب، الذي فقد الفضائل الإن

وحي القبور

وحي القبور مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ - 1937م) ذهبتُ في صبُح يوم ... أحملُ نفسي بنفسي إلى المقبَرَة، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيِّتٌ واحد؛ فكنت أمشي وفيَّ جنازةٌ بمُشَيِّعيها؛ من فكر يَحملُ فكراً، وخاطر يتبع خاطراً، ومعنىً يَبكِي، ومعنىً يُبكَي عليه. وكذلك دأبي كلما انحدرتُ في هذه الطريق إلى غير ذلك المكان، الذي تأتيه العيون بدموعها، وتمشي إليه النفوس بأحزانها، وتجيء فيه القلوب إلى بقايا. تلك المقابر التي لا يُنَادَى أهلُها من أهليهم بالأسماء ولا بالألقاب، ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا، يا أحزانَنَا! ذهبتُ أزورُ أمواتي الأعزاء، وأتصل منهم بأطراف نفسي؛ لأحيا معهم في الموت ساعةً، أعرض فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرَّف وأتوسَّم [أستطلع]، ثم أستبطِنُ مما في بطن الأرض، وأستَظهِرُ مما على ظهرها. وجلست هناك أُشْرِفُ من دهرٍ على دهر، ومن دنيا على دنيا، وأخرجت الذاكرةُ أفراحها القديمة؛ لتجعلَها مادةً جديدة لأحزانها، وانفتح لي الزمن الماضي، فرأيت رجعة الأمس، وكأن دهراً كاملاً خُلق بحوادثه وأيامه، ورُفع لعينيَّ كما ترفع الصورة المعلقة في إطارها. أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قطُّ إلا أنهم غابوا، والحبيبُ الغائبُ لا يتغيَّرُ عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه، مهما تَراخَتْ به الأيام [امتدت]؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى: تترك فيها ما لا يُمحَى؛ لأنها هي خالدة لا تُمحى. ذهب الأموات ذهابهم، ولم يقيموا في الدنيا، ومعنى ذلك أنهم مرُّوا بالدنيا ليس غيرُ، فهذه هي الحياة حين تعبِّر عنها النفس بلسانها لا بلسان حاجتها وحرصها. الحياة مدةُ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات، إن هي إلا مَصْنَعٌ يُسَوَّغُ كل إنسان جانباً منه، ثم يقال له: هذه الأداة فاصنع ما شئت: فضيلتَك أو رذيلتَك. جلست في المقبرة، وأطرقت أُفكر في هذا الموت، يا عجباً للناس! كيف لا يستشعرونه وهو يهدم من كل حي أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمه هو بجملته، وما زال كل بنيان من الناس به كالحائط المُسَلَّطِ عليه خرابه، يتأكَّلُ من هنا، ويتناثر من هناك؟! يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي! كيف يجعلون الحياة مدة نزاع وهي مدة عمل؟ وكيف لا تبرح تنزو النَّوازِي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع، فضربوا خصماً بخصم، وردُّوا كيداً بكيد، جاء حكم الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء: هذا لي؟ أما والله إنه ليس أعجب في السخرية بهذه الدنيا من أن يعطي الناس ما يملكونه فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً؛ إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً، ولا يرجع عنها الراجع إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهة العظم واللحم حتى على السِّكِّين القاطعة. تأتي الأيام وهي في الحقيقة تفرُّ فرارها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةً فإنما مضت هذه العشرون من عمره، ولقد كان ينبغي أن تُصحَّح أعمال الحياة في الناس على هذه الأصل البيِّن، لولا الطباع المدخولة، والنفوس الغافلة، والعقول الضعيفة، والشهوات العارمة؛ فإنه مادام العمر مقبلاً مدبراً في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناول من الدنيا إلا ما يرضيه محسوباً له ومحسوباً عليه في وقت معاً، وتكونُ الحياة في حقيقتها ليست شيئاً، إلَّا أن يكونَ الضميرُ الإنسانيُّ هو الحيَّ في الحيِّ. وما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند أكثر الناس مع الْمَوتى أبنية ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسَوا أنها موجودة، ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحي المتغلغل في الحياة إلى بعيد؛ فما القبر إلا بناء قائم لفكرة النهاية والانقطاع، وهو في الطَّرَف الآخر ردٌّ على البيت الذي هو بناء قائم لفكرة البدء والاستمرار، وبين الطَّرفين المَعْبَد، وهو بناء لفكرة الضمير، الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحاً أو يَقضى. القبر كلمة الصدق مبنيةً متجسِّمةً، فكل ما حولها يَتَكَذَّب ويتأوَّل، وليس فيها هي إلا معناها لا يَدْخُلُه كذبٌ، ولا يعتريه تأويل، وإذا ماتت في الأحياء كلمة الموت من غرور، أو باطل، أو غفلة، أو أثرة، بقي القبر مذَكِّراً بالكلمة، شارحاً لها بأظهر معانيها، وداعياً إلى الاعتبار بمدلولها، مبيِّناً بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية. القبر كلمة الأرض لمن ينخدع فيرى العمرَ الماضيَ كأنه غير ماض، فيعمل في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه؛ فلا يزال دائباً في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوان ويقْتَاسُ به، فشريعته جَوْفُه وأعضاؤه، وترجع في ذلك حيوانيتُه مع نفسه الروحانية، كالحمار مع الذي يملكه ويعلفه، ولو سُئل الحمار عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حِماري. القبر على الأرض كلمةٌ مكتوبةٌ في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حيٌّ في قانون نهايته؛ فلينظرْ كيف ينتهي. إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبارُ بها والجزاء عليها، فالحياةُ هي الحياةُ على طريقة السلامة لا غيرها، طريقةِ إكراه الحيوان الإنسانيِّ على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلِها أصلاً في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها؛ إذ كانت روحانيتُه في النهايات لا في بداياتها. في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتاً تعملُ أعمالَها؛ فإذا انتهت الحياة انقلبت أعمالُ الإنسان ذاتاً يُخَلَّد هو فيها؛ فهو من الخير خالدٌ في الخير، ومن الشر هو خالدٌ في الشر؛ فكأن الموتَ إنْ هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها؛ تولد مرتين: آتيةً وراجعة. وإذا كان الأمرُ للنهاية فقد وجب أن تبطل من الحياة نهاياتٌ كثيرة؛ فلا يترك الشرُّ يمضي إلى نهايته بل يُحسَم في بدئه، ويُقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأنُ في كل ما لا يَحسنُ أن يبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتدَّ: كالعداوة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب، وما شابه هذه أو شابَهَهَا؛ فإنها كلَّها انبعاثٌ من الوجود الحيواني، وانفجارٌ من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبرٌ كَيْ تَسْلَم للنفس الطيبة إنسانيتها إلى النهاية. يا مَن لهم في القبور أموات! إن رؤيةَ القبر زيادة ٌفي الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكونَ معنى القبر من معاني السلام العقليِّ في هذه الدنيا. القبر فمٌ ينادي: أسرعوا أسرعوا، فهي مدة لو صُرِفت كلها في الخير ما وَفَتْ به؛ فكيف يضيع منها ضياع في الشر أو الإثم؟ لو ولد الإنسان، ومشى، وأيفع، وشبَّ، واكتهل، وهرم في يوم واحد فما عساه كان يُضيِّع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطولَ الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصرَ من يوم. ينادي القبر: أصلحوا عيوبكم، وعليكم وقتٌ لإصلاحها؛ فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي، بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقتُ وهرب. هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبرُ أيضاً؛ فليس ينظر في هذا عاقلٌ إلا كان نظره كأنه حُكْمُ محكمةٍ على هذه الحياة كيف تنبغي، وكيف تكون؟ في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه، وأن يسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يميت في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر ينشأ للإرادة عقلها القويُّ الثابت، وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكاناً في هذا العقل، كما لا يجد الليل محلًّا في ساعات الشمس. ثلاثةُ أرواح لا تَصلُح روحُ الإنسان في الأرض إلا بها: روح الطبيعة في جمالها، وروحُ المعبد في طهارته، وروحُ القبر في موعظته.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: وحي القلم- مصطفى صادق الرافعي- راجعه واعتنى به الدكتور درويش الجويدي - المكتبة العصرية- بيروت (2/ 132).

المرأة المسلمة

المرأة المسلمة حسن البنا (ت 1368هـ - 1949م) نشر عام 1359هـ ليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل، وعلاقتهما، وواجب كل منهما نحو الآخر، فذلك أمر يكاد يكون معروفًا لكل الناس؛ ولكن المهم أن نسأل أنفسنا، هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام؟ الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشَّاها موجة ثائرة قاسية من حب التقليد الأوربي، والانغماس فيه إلى الأذقان. ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية، والنظم الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين، ومرونة أحكامه استغلالاً سيئًا، يخرجها عن صورتها الإسلامية إخراجًا كاملاً، ويجعلها نظمًا أخرى، لا تتصل به بحال من الأحوال، ويهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي، وكثيرًا من النصوص التي لا تتفق مع أهوائهم. هذا خطر مضاعف في الحقيقة، فهم لم يكفهم أن يخالفوا، حتى جاءوا يتلمَّسون المخارج القانونية لهذه المخالفة، ويصبغوها بصبغة الحِلِّ والجواز، حتى لا يتوبوا منها، ولا يقلعوا عنها يومًا من الأيام. فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرًا خاليًا من الهوى، وأن نعدَّ أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله تعالى ونواهيه، وبخاصة في هذا الأمر الذي يعتبر أساسيًّا وحيويًّا في نهضتنا الحاضرة. وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكِّر الناس بما عرفوا، وبما يجب أن يعرفوا من أحكام الإسلام في هذه الناحية. أولاً: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات، وهذه قضية مفروغ منها تقريبًا؛ فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها، واعتبرها أختًا للرجل وشريكة له في حياته، هي منه وهو منها: {بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها ... وعاملها على أنها إنسان كامل الإنسانية، له حقٌّ، وعليه واجب، يُشكر إذا أدَّى واجباته، ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا المعنى وتوضِّحه. ثانيًا: التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا لفوارق الطبيعة التي لا مناص منها بين الرجل والمرأة، وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل منهما، وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما. وقد يقال: إن الإسلام فرَّق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال، ولم يسوِّ بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح؛ ولكنه من جانب آخر يجب أن يلاحظ أنه إن انتقص من حقِّ المرأة شيئًا في ناحية، فإنه قد عوَّضها خيرًا منه في ناحية أخرى، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر، وهل يستطيع أحد- كائنًا من كان- أن يدَّعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي كتكوين الرجل سواء بسواء؟ وهل يستطيع أحد- كائنًا من كان- أن يدَّعي أن الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة؟ .. ثالثًا: بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة بينهما، وإن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها، هي التعاون على حفظ النوع، واحتمال متاعب الحياة. وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكَّاه، وصرفه عن المعنى الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي، يعظِّم غايته، ويوضِّح المقصود منه، ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام، ولنسمع قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. .. هذه هي الأصول التي راعاها الإسلام وقرَّرها في نظرته إلى المرأة، وعلى أساسها جاء تشريعه الحكيم كافلاً للتعاون العام بين الجنسين، بحيث يستفيد كل منهما من الآخر، ويعينه على شئون الحياة. والكلام على المرأة في المجتمع في نظر الإسلام يتلخَّص في هذه النقط: أولاً: يرى الإسلام وجوب تهذيب خلق المرأة، وتربيتها على الفضائل والكمالات النفسانية منذ النشأة، ويحثُّ الآباء وأولياء أمور الفتيات على هذا، ويعدهم عليه الثواب الجزيل من الله، ويتوعدهم بالعقوبة إن قصروا. وفي الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وفي الحديث الصحيح: (كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ... ) ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم له بنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة) ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى لهن عنه من لوازم مهمتهن: كالقراءة، والكتابة، والحساب، والدين، وتاريخ السلف الصالح، رجالاً ونساء، وتدبير المنزل، والشئون الصحية، ومبادئ التربية، وسياسة الأطفال، وكل ما تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها. وفي حديث البخاري رضي الله عنه: (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين). وكان كثير من نساء السلف على جانب عظيم من العلم والفضل والفقه في دين الله تبارك وتعالى. أما المقالات في غير ذلك من العلوم التي لا حاجة للمرأة بها فعبث لا طائل تحته، فليست المرأة في حاجة إليه، وخير لها أن تصرف وقتها في النافع المفيد. ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة. وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة للمنزل أولاً وأخيرًا. وليست المرأة في حاجة إلى التبحر ودراسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس. ثانيًا: التفريق بين المرأة وبين الرجل: يرى الإسلام في الاختلاط بين المرأة والرجل خطرًا محققًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج؛ ولهذا فإن المجتمع الإسلامي مجتمع انفرادي، لا مجتمع مشترك. سيقول دعاة الاختلاط: إن في ذلك حرمانًا للجنسين من لذة الاجتماع، وحلاوة الأنس التي يجدها كل منهما في سكونه للآخر، والتي توجِد شعورًا يستتبع كثيرًا من الآداب الاجتماعية؛ من الرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطباع .. إلخ. وسيقولون: إن هذه المباعدة بين الجنسين ستجعل كلاًّ منهما مشوقًا أبدًا إلى الآخر؛ ولكن الاتصال بينها يقلِّل من التفكير في هذا الشأن، ويجعله أمرًا عاديًّا في النفوس (وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنع) وما ملكته اليد زهدته النفس. كذا يقولون ويُفتن بقولهم كثير من الشبَّان، ولا سيما وهي فكرة توافق أهواء النفوس، وتساير شهواتها، ونحن نقول لهؤلاء: مع أننا نسلم بما ذكرتم في الأمر الأول نقول لكم: إن ما يعقب لذة الاجتماع بحلاوة الإنس من ضياع الأعراض، وخبث الطوايا، وفساد النفوس، وتهدُّم البيوت، وشقاء الأمر، وبلاء الجريمة، وما يستلزمه هذا الاختلاط من طراوة في الأخلاق، ولين في الرجولة، لا يقف عند حدِّ الرقَّة، بل هو يتجاوز ذلك إلى حدِّ الخنوثة والرخاوة، وكل ذلك ملموس لا يماري فيه إلا مكابر. كل هذه الآثار السيئة التي تترتب على الاختلاط تربو ألف مرة على ما ينتظر منه من فوائد، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة أولى، ولا سيما إذا كانت المصلحة لا تعدُّ شيئًا بجانب هذا الفساد. وأما الأمر الثاني فغير صحيح، وإنما يزيد الاختلاط قوة الميل، وقديمًا قيل: إن الطعام يقوي شهوة النهم. والرجل يعيش مع امرأته دهرًا، ويجد الميل إليها يتجدد في نفسه؛ فما باله لا تكون صلته بها مُذهبة لميله إليها، والمرأة التي تخالط الرجال تفتنُّ في إبداء ضروب زينتها، ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها، وهذا أيضًا أثر اقتصادي من أسوأ الآثار التي يعقبها الاختلاط، وهو الإسراف في الزينة والتبرج المؤدي إلى الإفلاس والخراب والفقر. لهذا نحن نصرح بأن المجتمع الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي، وأن للرجال مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن. ولقد أباح الإسلام للمرأة شهود العيد، وحضور الجماعة، والخروج في القتال عند الضرورة الماسة، ولكنه وقف عند هذا الحدِّ، واشترط له شروطًا شديدة من البعد عن كل مظاهر الزينة، ومن ستر الجسم، ومن إحاطة الثياب به فلا تصف ولا تشف. ومن عدم الخلوة بأجنبي مهما كانت الظروف، وهكذا. .ولقد أخذ الإسلام السبيل على الجنسين في هذا الاختلاط أخذًا قويًّا محكمًا. فالستر في الملابس أدب من آدابه. وتحريم الخلوة بالأجنبي حكم من أحكامه. وغض الطرف واجب من واجباته. والعكوف في المنازل للمرأة حتى في الصلاة شعيرة من شعائره. والبعد عن الإغراء بالقول والإشارة وكل مظاهر الزينة، وبخاصة عند الخروج- حد من حدوده. كل ذلك إنما يراد به أن يسلم الرجل من فتنة المرأة وهي أحب الفتن إلى نفسه، وأن تسلم المرأة من فتنة الرجل وهي أقرب الفتن إلى قلبها، والآيات الكريمة والأحاديث المطهرة تنطق بذلك. يقول الله- تبارك وتعالى- في سورة النور: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:30 - 31]. وفي سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. إلى آيات أخرى كثيرة. . وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم، والمراد بدخول الأحماء على المرأة: الخلوة بها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري ومسلم. وعن معقل بن يسار قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل

نحن المسلمين!

نحن المسلمين! علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها، سلوا مصر وواديها، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها .. سلوا بطاح إفريقيا، وربوع العجم، وسفوح القفقاس، سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، ووادي الدانوب، سلوا عنا كل أرض في الأرض، وكل حيِّ تحت السماء .. إن عندهم جميعا خبراً من بطولاتنا وتضحياتنا ومآثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا .. نحن المسلمين!! هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟ هل زانت جنَّات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟ هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجلَّ أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟ نحن حملنا المنار الهادي والأرض تتيه في ليل الجهل، وقلنا لأهلنا: هذا الطريق!. نحن نصبنا موازين العدل، يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان. نحن بنينا للعلم داراً يأوي إليها، حين شرده الناس عن داره. نحن أعلنَّا المساواة، يوم كان البشر يعبدون ملوكهم، ويؤلِّهون ساداتهم. نحن أحيينا القلوب بالإيمان، والعقول بالعلم، والناس كلَّهم بالحرية والحضارة. نحن المسلمين! نحن بنينا الكوفة، والبصرة، والقاهرة، وبغداد. نحن أنشأنا حضارة الشام، والعراق، ومصر، والأندلس. نحن شِدنا بيت الحكمة، والمدرسة النظامية، وجامعة قرطبة، والجامع الأزهر. نحن عمرنا الأموي وقبة الصخرة، وسُرَّ من رأى، والزهراء، والحمراء، ومسجد السلطان أحمد، وتاج محل. نحن علَّمنا أهل الأرض وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ. نحن المسلمين! منَّا أبو بكر، وعمر، ونور الدين، وصلاح الدين، وأورنك زيب. منَّا خالد، وطارق، وقتيبة، وابن القاسم، والملك الظاهر. منَّا البخاري، والطبري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، وابن خلدون. منَّا معبد وإسحاق وزرياب .. منا كل خليفة كان الصورة الحيَّة للمثُل البشرية العليا. وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً .. وكل عالم كان من البشر كالعقل من الجسد. منَّا مائة ألف عظيم وعظيم. نحن المسلمين! قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا .. قانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا .. وضعيفنا المحقُّ قويٌّ فينا، وقويُّنا عون لضعيفنا، وكلنا إخوان في الله، سواءٌ أمام الدين. نحن المسلمين! مَلَكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين، سننَّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين .. أقمنا حضارة كانت خيراً كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعمَّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا، وسقيناها نحن من دمائنا، وشدناها على جماجم شهدائنا!. وهل خلت الأرض من شهيد لنا قضى في سبيل الإسلام والسلام، والإيمان والأمان؟ نحن المسلمين! هل تحققت المثُل البشرية العليا إلا فينا؟ هل عرف الكون مجمعاً بشريًّا إلا مجمعنا، قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟ هل اتفق واقع الحياة، وأحلام الفلاسفة، وآمال المصلحين، إلا في صدر الإسلام؟ يوم كان الجريح المسلم يجود بروحه في المعركة، يشتهي شربةً من ماء، فإذا أخذ الكأس رأى جريحا آخر فآثره على نفسه، ومات عطشان. يوم كانت المرأة المسلمة يموت زوجها وأخوها وأبوها، فإذا أخبرت بهم سألت: ما فعل رسول الله؟ فإذا قيل لها: هو حيٌّ، قالت: كل مصيبةٍ بعده هيِّنة. يوم كانت العجوز ترد على عمر، وهو على المنبر في الموقف الرسمي، وعمر يحكم إحدى عشرة حكومة من حكومات اليوم. يوم كان الواحد منَّا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة. وكنَّا أطهاراً في أجسادنا وأرواحنا ومادتنا والمعنى. وكنَّا لا نأتي أمراً ولا ندعه، ولا نقوم ولا نقعد، ولا نذهب ولا نجيء إلا لله. قد أَمَتْنَا الشهوات من نفوسنا، فكان هوانا تبعاً لما جاء به القرآن. لقد كنَّا خلاصة البشر، وصفوة الإنسانية. وجعلنا حقًّا واقعاً ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملاً بعيداً. نحن المسلمين! تُنظم في مفاخرنا مائة إلياذة وألف شاهنامة. ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا تُعدُّ ولا تُحصى. من يعدُّ معاركنا المظفرة التي خضناها؟ ... من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟ من يستقري نابغينا وأبطالنا؟ .. إلا الذي يعدُّ نجوم السماء، ويحصي حصى البطحاء!!. اكتبوا (على هامش السيرة) ألف كتاب .. و (على هامش التاريخ) مثلها. وأنشئوا مائة في سيرة كل عظيم، ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء، والمنجم البكر. نحن المسلمين! لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيِّر وشرير. ولسنا شعباً كالشعوب، يؤلف بينهم الدم، ففي كل شعب صالح وطالح، ولكننا جمعية خيرية كبرى، أعضاؤها كل فاضل من كل أمة، تقي نقي .. تجمع بيننا التقوى إن مصل الدم، وتوحِّد بيننا العقيدة، إن اختلفت اللغات، وتُدنينا الكعبة إن تناءت بنا الديار .. أليس في توجُّهِنا كل يومٍ خمس مرات إلى هذه الكعبة، واجتماعنا كل عام مرة في عرفات، رمزاً إلى أن الإسلام قومية جامعة، مركزها الحجاز العربية، وإمامها النبي العربي، وكتابها القرآن العربي؟ نحن المسلمين! ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج .. لا حُجُب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار. هو واضح وضوح المئذنة، أفليس فيها ذلك المعنى؟ هل في الدنيا جماعة أو نِحلة تكرر مبادئها وتُذاع عشر مرات كل يوم، كما تُذاع مبادئ ديننا- نحن المسلمين- على ألسنة المؤذنين: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. نحن المسلمين! لا نهن ولا نحزن ومعنا الله .. ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر .. البطولة سجية فينا، وحب التضيحة يجري في عروقنا .. لا تنال من ذلك صروف الدهر، ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان .. لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها، ويعيش أهلها من جحيمها في جنات. لنا الشام وغوطتها التي سُقيت بالدم، لنا فيها الجبل الأشم .. لنا العراق لنا (الرميثة) وسهول الفرات .. لنا فلسطين التي فيها جبل النار. لنا مصر دار العلم والفن ومثابة الإسلام .. لنا المغرب كله، لنا (الريف) دار البطولات والتضحيات. لنا القسطنطينية ذات المآذن والقباب، لنا فارس والأفغان والهند وجاوة. لنا كل أرض يُتلى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان. لنا المستقبل .. المستقبل لنا إن عُدنا إلى ديننا. نحن المسلمين!

_ اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net المصدر: كتاب (قصص من التاريخ) - علي الطنطاوي - المكتب الإسلامي - ص 15.

الصراع بين الإسلام وأعدائه

الصراع بين الإسلام وأعدائه محمد البشير الإبراهيمي نشر عام 1373هـ الصراع بين الحق والباطل قديم، كان منذ خلق الله البشر، وجعل للأهواء حظًّا من السلطان على نفوسهم. ومن فروع هذا الصراع، الصراع بين الإسلام والكفر، فقد صرع الإسلام في عنفوان قوته السماوية الأولى كلَّ ما كان قائماً من الأديان والنحل الباطلة، ومزَّق بنوره وبرهانه الضلالات التي كانت مغطية على العقول، حتى استقر في قراره من النفوس والأقطار، وضرب بجرانه في القطعة العامرة من أرض الله. وأصبح برهانه لائحاً، وبيناته واضحة، وقوته غالبة، فإما مسلم وإما مُلقٍ بالسَّلَم، ومن كلمته العالية أنه جعل فريضة الدعوة إليه كلمة باقية في أهله، تتوجَّه إلى الضال ليهتدي، وإلى المهتدي كي لا يضلَّ. فلما ضعفت الدعوة إلى الإسلام في المسلمين بما شاب هدايتهم من ضلال، وما خالط عزائمهم من وهن، ثم تلاشت بتفرقهم فيه، واشتغالهم بالجدل الداخلي، وغفلتهم عن فوائد الدعوة فيهم وفي غيرهم، وبعدهم عن منبع هدايته الأولى، هاجت عليهم دعايات الأديان الأخرى، وما تفرَّع عنها من مذاهب مادية، تغري بالمادة وتؤلِّهها، ومن مذاهب فكرية تغري الفكر المسلم بالمروق من الدين، وخلع رِبقته، ثم تشعبت هذه المذاهب الفكرية إلى شعبتين: واحدة تسعى سعيها، وتبذل وسائلها لفتنة المسلم عن دينه، وإدخاله في دين آخر، وهذه الشعبة تجعل هدفها أطفال المسلمين الأحداث. والأخرى تريد المسلم أن يخرج من الإسلام إلى الإلحاد المحض الذي يكفر بالأديان كلها، وهذه الشعبة تجعل هدفها شباب المسلمين؛ لما يصحب الشباب من قوة الإحساس، وسرعة التأثر، وتأجُّج العاطفة، والميل إلى الانطلاق. والشعبتان معاً تلتقيان عند غاية واحدة هي فصل المسلمين- وهم قوة في العدد- عن دينهم، وهو مناط قوتهم الروحية؛ ليتمَّ للقائمين على الشعبتين استعباد أبدان المسلمين، واستغلال خيرات أوطانهم. ومَن ظنَّ مِن عقلاء المسلمين وعلمائهم أن هذه الحملة عليهم وعلى دينهم ليست مدبرة، وليست منظمة، وليست متعاونة متساندة، وليست مرصدة لوقتها، ورامية إلى هذا الهدف، مَن ظنَّ هذا فأقل درجته أنه مغفَّل جاهل مغرور. ولو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم، وكانت لهم دعاية منظمة يمدُّها الأغنياء بالمال، والعقلاء بالرأي، والعلماء بالبرهان المثبت للحقائق الإسلامية، وبالتوجيه لغاية الغايات فيه، وهي إسعاد الإنسانية، وتحقيق السلام بين البشر، والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم، وإقامة العدل بين الناس، ونشر المحبة بينهم، لو فعلوا ذلك، وحافظوا عليه في كل أطوار الزمن، لكانوا اليوم فيصلاً بين الكتلتين المتطاحنتين، وحاجزاً حصيناً بين البشرية وبين الكارثة المتوقعة، التي لا تُبقي على برٍّ ولا فاجر، ولا مؤمن ولا كافر، بل إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام، محسنون للإبانة عنها، ولعرضها على العقول، لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر، الثائرة على أديانه وقوانينه وأوضاعه؛ لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي، والطمأنينة الروحية، ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية، ولم تُقِم الموازين القسط بين طبقاتهم، ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم، ولم تغرس المحبة بينهم، فهم لذلك تائهون، متطلِّعون إلى حال تُغيِّر هذه الأحوال، وفي الإسلام ما يقول بذلك كله، ويَرجع بالناس إليه، وإلى اختياره حكماً، تُرضَى حكومته، لو وجد من يدعو إليه على بصيرة، ويبيِّن حقائقه، ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول. لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عهد كهذا العهد، في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم، وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم. والقضيتان متلازمتان في الطباع البشرية الغالبة، وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم. فمن سننه أن من لم يدافع دُوفع، وأن من لم يهاجم هُوجم، وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل، ولم يمض عليهم زمن تألَّبت فيه قوى الشرِّ عليهم، وتألَّفت جنوده على ما بينها من دعوات ومناقضات، كما تألَّبت في هذا الزمن، فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية، والبوذية والوثنية بجميع ألوانها، والمذاهب الاجتماعية المادية كلها أصبحت ألْباً على المسلمين والإسلام، متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق، صادرة في ذلك عن عهد وميثاق، يسند بعضها بعضاً، ويقرض بعضها بعضاً العون والتأييد، وأن العقلاء من هذه الأمم، المتعاونة على حرب الإسلام، مسوقون بأيدي الساسة الطامعين، والقساوسة المتعصبين، والملاحدة المستهترين، حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره، وهو أنهم قوة متحدة لحرب الإسلام، يشارك فيها ذو الدين بدينه، وذو المال بماله، وذو العقل بعقله. ويشارك فيها الساكت بسكوته. لا نلوم هؤلاء الأقوام على ما يسرون من عداوة الإسلام وما يعلنون، ولا على ما صنعوا بأهله وما يصنعون، فما اللوم برادِّهم على ما هم ماضون فيه، بعد أن ابتلوا سرائرنا، وامتحنوا ضمائرنا، فوجدوها عورات ومنافذ خالية من الحراسة التي يعرفونها عنا، ومن المناعة التي يتوقعونها منا، فسددوا الغارة على ديارنا فاكتسحوها، وشدَّدوا الحملة على خيرات أوطاننا فاستباحوها، ثم شنُّوا غارة أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها، إذ بذلك وحده يضمنون التمتع بخيراتنا، والتلذذ باستعبادنا. لا نلومهم على ذلك، فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضية، وأحد أطوار تاريخه، فهو حاقد عليه، يتخيَّل في شبحه مفوِّتاً للعز والسلطان، ومقيِّداً للشهوات في أتباع الشيطان، أو مانعاً من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان، وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلط والشهوة، ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفق أسمى، وهم بعد ذلك عمون عما وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفع، ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عزٍّ بالله، وعدل في أحكامه بين عباده، رحمة بهم وإحساناً، وإلى ما فيه من انطلاق، ولكن إلى الآفاق العليا الملكية. إنما نلوم أنفسنا، ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة، وعلى إهمال الدعوة لدينهم، والعرض لجماله ومحاسنه، وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألبة المتكالبة عليهم وعلى دينهم، حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عوناً لها على هدم ديننا، ومحو فضائلنا، والقضاء على مقوماتنا، فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم، وكأن الأمر لا يعنيهم، وكأن الدين ليس دينهم، وكأنهم لا يعلمون أن هذا التكالب إن استمر لا يبقى لهم عرضاً ولا مالاً ولا متاعاً، وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يُعِين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله، وكأنه يقلِّد عدوه سلاحاً قتَّالاً، يقتل به دينه وقومه، ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوه: اقتلني به. إننا لا نكون مسلمين حقًّا، ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوش المغيرة علينا وعلى ديننا، تارة باسم العلم، وتارة باسم الخير والإحسان، وأخرى باسم الرحمة بالإنسان، إلا إذا علمنا ما يراد بنا، وفقهنا الغايات لهذه الغارات، وتحدَّيناها بجميع قوانا المعنوية والمادية، وحشدها في ميدان واحد، هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية، ولا يتمُّ لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله، وإلى دينه الإسلام، على أساس قوي من أحجار العالم الرباني، والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه، والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله، والغني المستهين بماله في سبيل دينه، ثم وجهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضال قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين، وأرجعتهم إلى ربهم، فاتصلوا به، فتمسكوا بكتابه وهدي نبيه، وتمجدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه، كنا قلَّدناهم سلاحاً لا يفلُّ، وأسبغنا عليهم حصانة روحية، لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة، وحصانة أخرى مادية ملازمة لها، لا تهزمها الجموع المجمعة، ولو كان بعضها لبعض ظهيراً. المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية، تهدي ضالهم، وتصلح فاسدهم، تبتدئ من البيت، وتجاوزه إلى الجار والقرية، حتى تنتظم المجتمع كله. فإذا عمرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة، أعطت ثمراتها الصحيحة، وجاء نصر الله والفتح، ربطاً للوعد بالإنجاز، ووصولاً إلى الحقيقة على المجاز، ويومئذ تزول هذه الفوارق البغيضة من تلقاء نفسها، فلا مذهب إلا مذهب الحق، ولا طريقة إلا طريق القرآن، ولا نزعة إلا نزعة المجد والسمو، ولا عاطفة إلا عاطفة المحبة والخير، ولا غاية إلا نشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المضطرب. لا يأس من روح الله. فهذه مخايل نصر، وهذه مبشرات القطر، وهذه طلائع الزحوف الحاملة لراية الدعوة الإسلامية، وهؤلاء عصب من علماء الإسلام قائمون بإيحاء هذه الفريضة بصدق وإخلاص وتضحية، ومن ورائهم كتائب من شباب الإسلام، تفتَّحت بصائرهم على نوره، يحملون ألسنة قوالة للحق، وعقولاً جوالة في ميدان الحق، وإن عددهم كل يوم لفي ازدياد، وإن نجاحهم فيما يمارسونه من الدعوة إلى الله لفي اطراد، فما على القاعدين إلا أن ينضموا، وما على الغافلين إلا أن يهتموا، ولا على المستيئسين إلا أن يستبشروا ويؤيدوا، وما على الغافلين عن ذاك الشرِّ المستطير إلا أن ينتبهوا إلى هذا الخير، فيعملوا على نمائه وبقائه، وإن أثمن هدية يقدمها المسلم إلى هؤلاء الدعاة هي الاهتداء إلى الحق، والاقتداء بأهل الحق.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي) ((4/ 284)) , دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م.

الغيرة على الحقائق والمصالح

الغيرة على الحقائق والمصالح محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) نشر عام 1349هـ متى نظر الإنسانُ أو تدبر أمراً، ووقف بأنه حقيقة أو مصلحة، وجدَ في نفسه ارتياحاً عندما يلاقي شخصاً يشاركه في الشعور به، ويكون ارتياحه أشد حيث يراه يعمل على مقتضى هذا الشعور، كما أنه يتألم حينما يشاهد أمراً ينكر تلك الحقيقة أو المصلحة، ويكون تألمه أشد حيث يراه مجدًّا في مناوأتها، سالكاً غير سبيلها، وهذا التألم الذي يشتدُّ فيدفعك إلى أن تسهب في إيضاح وجه الحقيقة أو المصلحة، أو تعمل على أن تكفَّ يد من يبغي عليها ما أمكنك، هو ما نعنيه بالغيرة. فإذا حدَّثك الرجل في أمر، وأراك أنه مطمئن إلى أنه حقٌّ ثم لا تلبث أن تراه متحيزاً إلى من يكيد له، ويدعو إلى من ينقضه، فاعلم أنه خالي القلب من الاطمئنان إليه، وإنما أراك ظاهراً يخالف ما يُكنُّه صدره، وتطمئنُّ إليه نفسه، والعقل السليم لا يستطيع أن يفهم كيف يجتمع الإيمانُ بالحقِّ مع موالاة من يحاربه في السرِّ أو العلانية، فالغيرةُ على الحقِّ من مقتضيات الإيمان به، تَقْوَى بقوَّته، وتضعف بضعفه، وتُفقَد حيث لا يكون القلب مؤمناً. وفي الناس من يلهج بكلمة (التسامح)، يملأ بها فمه حتى لا تنكر عليه حين تراه، قد اتخذ من المضلين أو المفسدين في الأرض أولياء، يطيل التردد على أعتابهم، ويغمس لسانه أينما جلس في إطرائهم، ويجهد نفسه في تمويه باطلهم؛ والتسامح المعقول ألَّا تُؤذي من خالفك في العقيدة، فتنسب إليه زوراً، أو تنفي عنه مكرمة، أو تهضم له حقًّا، أو تنكث له عهداً، أو تخلف له وعداً، ومن التسامح المقبول أن تبرَّه وتقسط إليه، وتمدَّ إليه يد التعاون على المصالح المشتركة، وقد حرَّمت الشريعةُ الإسلامية الإساءةَ إلى المخالفين، الذين لم يُخرجونا من ديارنا، ولم يطعنوا في ديننا، ولم يوقدوا ناراً لحربنا، على وجه يعمُّ المخالفين المقيمين في ظلِّ الإسلام، ... وأذنت في أن نبرَّهم ونقسط إليهم قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. [الممتحنة: 8] وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نداري من ينتمون إلى الإسلام، ونعاشرهم بالمعروف، وإن عرفنا في لحن أقوالهم، أو غيره من الدلائل الخفية أنهم من طائفة المنافقين. أما الرجل يملك قلماً أو لساناً أو حساماً أو جاهاً، فيصرفه في نقض أساس ما هو دين حق، أو شريعة صالح، فذلك ما لا يتولَّاه إلا غبيٌّ لا يفرِّق بين الأعمى والبصير، أو زائغ عن سبيل الرشد، فما له من نور، وقد أنكر الله على من يتزلَّف لأشياع الغيِّ فقال: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. [النساء: 139] وفي الآية شاهدُ صدقٍ على أن العزة بيد الله، يخلعها على من يغار على الحقائق، غير مكترث بمن يناوئونها، وإن كانوا أُولي جاهٍ أو سلطان. فمن الغيرة على الحق أن تقاوم المبطلين أو المفسدين، قاطعاً النظر عن كل صلةٍ وعاطفة؛ ومن التسامح المقبول أن تدفعهم بالتي هي أحسن، حتى كأنك لا تعرف شيئاً من شؤونهم غير ما تصديت لمناقشتهم فيه، وذلك ما يستبين به الناس أنك لا تقصد إلا أن تكفَّ بأسهم، وتحمى النفوس من وباء دعايتهم. تتفاضل الحقائق والمصالح من ناحية ما يتصل بها من خير، فوجود الخالق أو صدق محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته مثلاً، يقوم على الإيمان به من سعادة الأفراد والأقوام أكثر مما يقوم على الإيمان بعدل أبي بكر وعمر بن الخطاب. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يترتب عليها من الفلاح فوق ما يترتب على زيارة أخ أو عيادة مريض. وكذلك الغيرة على الحقائق والمصالح تكون على قدر تفاضلها فيما يترتب عليها من العواقب، فالغيرة الصادقة أن يتألم الرجل من الجهل على مقام الأُلوهية أو الرسالة العظمى أشد مما يتألم للطعن في نفسه أو في أخٍ له أو صديق؛ ويتألم لهدم مسجد أو إلغاء مدرسة أشد مما يتألم لهدم بيت أو إهمال حديقة. بعيدٌ من الغيرة على الحقائق ذلك الذي يسمع سوء القول في الله أو في رسوله فلا يجد في نفسه لسماع هذا السَّفه أثراً، وإذا مُسَّ جانب مَن يتصل به نسباً، أو يمدُّ له من متاع هذه الحياة سبباً، هاج غضبه، وارتعدت فرائصه!! بعيدٌ من الغيرة على المصالح ذلك الذي يكون تحت يده مال فيبخل به على بناء مدرسة، يستنير فيها الناشئون، أو إقامة ملجأ يأوى إليه البائسون، ويبسط به يده في إنشاء مرقص أو ملهى، يتخذ فيه الفتيان والفتيات أنصاباً، يسفكون عليها دم الفضيلة. ضَعفُ الغيرةِ على الحق أو فقدها نقيصة تنزل بصاحبها إلى الحضيض. وكذلك ينبغي للإنسان أن يملك الغيرة عند ثورتها، فلا يخرج في معاملة المنتهك لحرمة الحق عن حدود العدل، فالذي يغار على أمر جعل الشارع لمنتهكه حدًّا مفروضاً، لا يحلُّ له أن يتجاوز ما حدَّه الشارع استرسالاً مع طغيانها، فإن كان الجزاء موكولاً لاجتهاد القاضي اجتزأ القاضي بالمقدار الذي يكفي للردع؛ وليس من الغيرة المحمودة أن يتعدَّى في جزاء السيئة ما يكفي للزجر عن اقترافها، والغيرة الصادقة هي التي تنهض بصاحبها إلى مكافحة المبطل أو المفسد، وتقويم عِوجه في تثبتٍ وحزم. الغيرة تبعث الرجل على الجهاد في الحق بأي وسيلة استطاعها، فالرئيس الغيور يذود عن الحق بما في يده من قوة، متى كان الهاجم عليه في غشاوة تمنعه من أن يفقه الحجة، والعالم الغيور لا يفتأ يذبُّ عن الحقِّ بلسانه أو قلمه، ولا يسوقه طمع أو رهبة إلى الخمول أو الصمت، وما خمول العالم وصمته سوى قلة الثقة بما وعد الله به أنصار الحقِّ من فوز وحياة طيبة، والموسر الغيور ينفق في سبيل الإصلاح باليمين واليسار؛ ومن كان صافي البصيرة يرتاح لظهور الحقِّ، وقيام المصلحة العامة، أكثر مما يرتاح لأن يكنز ذهباً، أو تكون له قصور فيحاء وحدائق غناء. وإذا أردت أن تميِّز فاقد الغيرة على المصالح ممن يغارون عليها، فهو الذي يجري وراء منافعه الخاصة أينما رآها أو تخيَّلها؛ يراها بجانب مصلحة عامة، فيظهر في زيِّ الداعي إلى هذه المصلحة، ويملأ الجو نداء للتعاون عليها، حتى إذا تراءت له منفعة لا يصل إليها إلا أن يقضي على ما ينفع الناس جميعاً، داسه بكلتا قدميه، وذهب إلى منفعته توًّا لا يلوي على شيء. قد يسلك الرجل طريق العدل، محافظة على المنصب، أو رغبة في حسن الأحدوثة، ولكن الغيرة على الحق هي التي تجعل الحاكم عادلاً في كل قضية؛ فالغيرة على الحق هي التي تقف بالقاضي في حدود الإنصاف، حين تُرفع إليه خصومة بين ذي سلطان وأشعث أغبر ذي طمرين، فلا يبالي أن ينصف ذا الطمرين، ويقضي على ذي السلطان، وكذلك يفعل القضاة العادلون. دُعي العلامة محمد بن بشير إلى قضاء قرطبة، فاستشار صديقاً له في قبول الولاية، فقال له: كيف حبك لمدح الناس لك، وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ قال: والله ما أبالي من مدحني أو ذمَّني، وما أُسَرُّ للولاية، ولا أستوحش للعزل. فقال: اقبل الولاية، ولا بأس عليك. وفي سيرة ابن بشير هذا ما يشهد بصدق غيرته على الحق، ويحقق ما وصف به نفسه، من أنه لا يسرُّ للولاية، ولا يستوحش من العزل. ومن الخطر على الحقوق والمصالح أن يتولَّى أمرها محروم من الغيرة عليها، وكم من حقٍّ أُهمل ومصلحة أُميتت، والسبب في إهمال ذاك، وإماتة هذه أن أُلقي أمرهما إلى من لم يذق للغيرة عليهما طعماً. ماذا يكون العمل في قضية الاعتداء على هتك الفتاة، إذا أُسندت إلى من تقلَّب في بيئة لا تعرف للعفاف سبيلاً؟ وماذا يكون العمل في قضية الاعتداء على الدين، إذا وُضعت بين يدي من لا يرى له حرمة، ولا يرعى للأمة التي تعتصم به ذمة؟ وكيف تدار مدرسة ترجع نظم التعليم فيها إلى مَن يُؤثر اللهو على الجدِّ، ويفتنه زخرف الحياة عن طرق الرشد، التي تخرج رجالاً يعملون صالحاً، ويبتكرون عظيماً، ونحن نرى في الشعوب من حيل بينها وبين واجبات دينها، وأُكرهت على التعامل بغير ما تأذن به شريعتها، واستبدَّ عليها في طريقة تعليم أبنائها، ذلك لأنها وقعت تحت ذي قوة استضعفها، ولم يكن له نصيب من الغيرة على شريعتها. إن أمة لها دين قيِّم، وشرع حكيم، ومجد لم يصف التاريخ له من نظير، لا يستقيم أمرها إلا لمن يغار على شرعها، أو يتودد لها باحترامه، والمحافظة على أصوله. وإذا حكى لنا التاريخ أن ذا سلطان آذى أمة إسلامية في دينها، أو قهرها بالسيف أو بوسيلة التعليم على أن تنسلخ من هداية ربها، فلأنه إنما وضع سلطانه على رؤوس جماعات متفرقة غافلة، أما الأمم المتيقظة التي تقدِّر الحقَّ قدره، فليس من السهل على ذي القوة أن يؤذيها في دينها، ويستخف بالحقوق التي قرَّرها شرعها، إلا أن يكون جهولاً بالعواقب، أو غير راغب في أن يكون سلطانه ثابت القواعد. الغيرة على الحق تتمثل فيمن ينظر إلى الدليل، ويصدع بما أراه الله، وإن كره السائلون .. وتتمثل الغيرة على الحقِّ فيمن يفسح له بعض الوجهاء في الإكرام مكانة، ولا يمنعه ذلك من أن ينظر إلى ما أكرمه الله به من عقل، ورفعه به من علم، فلا يسكت لذلك الوجيه عما يأتي من منكر، ويذهب في تقويمه كل مذهب ممكن. وفصل القول في هذا أن الغيرة على الحق والمصلحة ما غلبت على نفوس الأمة إلا استقامت سيرتها، وعلت في الأمم سمعتها، وحسنت في كلتا الحياتين عاقبتها، ولا حقَّ أجلى مما يدعو إليه الخلَّاق العليم، ولا مصلحة أعظم مما تهدي إليه أصول شرعه الحكيم، فإذا لم نرسم في نفوس نشئنا الغيرة على حقائق الدين، وما أرشد إليه من مصالح، وما سنَّه من آداب، ضلوا عن أسمى الحقائق، وأضاعوا أكبر المصالح، وتجرَّدوا من أسنى الآداب، وهل غير هذه العاقبة من خسران مبين؟! فمن أهم واجباتنا أن نربِّي نشأنا على الشعور بعظمة الله، ثم لا نفتأ نذكر لهم آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يطمئنوا إلى صحتها، ولا ندع أن نقرِّر لهم أصول الشريعة على وجه يجعلهم على بصيرة من حكمتها، وهذا ما يربِّي فيهم الغيرة المهذَّبة، ويعدُّهم لأن يكونوا للحقائق والمصالح أنصاراً.

_ اختيار: موقع الدرر السنية www.dorar.net المصدر: مجلة نور الإسلام - المجلد الأول - العدد السابع - رجب سنة 1349هـ - ص 483. (بتصرف)

الدعوة إلى الحق

الدعوة إلى الحق عبد الرحمن بن ناصر السعدي نشر عام 1373هـ. هذه كلمة يستلذُّ لها كل سامع، ويأنس بها كلُّ متوحِّش نافر، وتُوزن بها المذاهب والمقالات، وينقاد لها كل منصف قصده طلب الحقيقة، ويدَّعيها كلُّ أحد محقٌّ أو غير محقٍّ، ولكن لكل حقٍّ حقيقة، ولكل دعوى برهان، {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. فالله هو الحقُّ، ودينه حقٌّ، وكتبه المنزلة من السماء حقٌّ، ورسله حقٌّ، ووعده ووعيده حقٌّ، وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟ والحق هو الشيء الصحيح الثابت، والشيء النافع، الذي له النتائج الطيبة، والثمرات الصالحة المصلحة. الله تعالى هو الحق الذي قامت الأدلة العقلية والنقلية على وحدانيته، وعظمته، وسعة أوصافه، وكماله المطلق الذي لا غاية فوقه، الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والمجد إلا هو. ودينه هو الحق الذي دارت أخباره على الحقائق الصادقة، والعقائد النافعة، المصلِحة للقلوب والأرواح، وأحكامه على العدل المتنوع في العبادات والمعاملات في أداء حقوقه، وحقوق الخلق، باختلاف أحوالهم، وحقوقهم ومراتبهم {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115]. صدقاً في إخبارها، عدلاً في أحكامها وأوامرها ونواهيها. ورسله - صلوات الله وسلامه عليهم - صادقون مصدَّقون، قد تحلَّوْا بأعلى الفضائل وأكمل الصفات، وقد تخلَّوْا عن كلِّ خلق دنيء ووصف ناقص. وقد دلَّت البراهين القواطع على صدقهم، وصحة ما جاءوا به، كما دلَّت على بطلان ما ناقض هذه الأصول، التي تأسَّست عليها الحقائق. فالدعوة إلى هذه الأصول هي الدعوة إلى الحق {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فالدعوة إلى الحق هي أفرض الفروض، وأكمل الفضائل، وصاحبها مبارك أينما كان على نفسه وعلى غيره، وخصوصاً إذا دعا نفسه قبل غيره، واتصف بما دعا إليه كما في الآية السابقة وهي: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. فهذا لا أحسن قولاً منه، ولا أكمل منه؛ لأنه دعا الخلق إلى الله، وقام بما دعا إليه، وانقاد للدين والطاعة من كل وجه. وقد أمر تعالى بالدعوة إلى سبيله، وهي طريقة الرسول ودينه الذي هو الصراط المستقيم بالحكمة أي: بكل دعوة وكل وسيلة يحصل بها المقصود كله أو بعضه، وذلك متوقف على علم الداعي، ومعرفته، وبصيرته، ولا يكفي هذا حتى يعرف كيف الطريق إلى دعاية الخلق، وكيف سلوك الوسائل التي يتوصل بها إلى إيصال الحق إلى القلوب بالعلم والرفق واللين. وأحسن الوسائل إلى ذلك وأنجحها السبل التي دعا الرسل إليها قومهم- أولياءهم وأعداءهم- فإنهم يدعون إلى الله بتوضيح الحق وبيان أدلته وبراهينه، وإبطال ما يناقضه؛ يدعون كل أحد بما يناسب حاله ويليق بمقامه، فالمستجيبون القابلون لما جاءوا به، الذين ليس عندهم معارضات لما جاءت به الرسل، يبينون لهم الحق، ويخبرونهم بمواضع مراضي الله ومواطن سخطه، فإن ما معهم من الإيمان الصادق، والانقياد الصحيح، والاستعداد لطلب الحق، أكبر داع إلى سلوك سبيله إذا بان، والانقياد له إذا اتضح؛ ولهذا يخبر الله في كتابه في- عدة آيات- أنه {هدى ورحمة للمؤمنين}، و {هدى للمتقين}، و {هدى ورحمة لقوم يوقنون} لأن هؤلاء لا يحتاجون إلى مجادلة، فعندهم الاستعداد الكامل لسلوك الصراط المستقيم؛ وهو الإيمان واليقين بصحة ما جاء به الرسول وصدقه. وأما أهل الأغراض والأهواء المانعة من أتباع الحق، فإنهم يدعونهم مع التعليم والتوضيح للحقائق، بالموعظة الحسنة؛ بذكر ما في الأوامر من المصالح والخيرات، والثمرات العاجلة والآجلة. وكانوا يجادلون المعارضين والمعاندين بالتي هي أحسن من الترغيب والترهيب؛ في اتباع الحق، بذكر فضائله ومحاسنه، والترهيب من الباطل، بذكر مضاره ومساوئه، وإقامة الأدلة والبراهين المقنعة على ذلك، بحسب الحال والمقام، وذلك كله بالرفق واللين؛ وعدم المخاشنة المنفرة؛ لأن الغرض المقصود نفع الخلق، وردهم عما هم عليه من الباطل، قال تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44]. وفسَّر ذلك بقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17 - 19]. فتأمل حسن هذا الخطاب ورقته ولينه. وكانوا مع هذا كله يصبرون على أذاهم، ويتحملون من المخالفين المعارضين ما لا تحمله الجبال الرواسي، ويستعينون بالله على هدايتهم بالحلم والعفو والصفح، ومقابلتهم بضد ما يقابلونهم به، لعلمهم أن العقائد الراسخة في القلوب لا تزحزحها مجرد الدعوة ومجرد النصيحة، بل لابد من الصبر والعفو والتأني، والتنقل مع المخالفين شيئاً فشيئاً. وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع ذلك؛ وحسن تعليمه ودعوته وصبره الذي فاق به جميع الرسل؛ يعطي المؤلفة قلوبهم شيئاً من الدنيا؛ لأنهم إذا كرهوا هذا مالوا إلى هذا، ويبقى سادات العشائر على مراتبهم ورياستهم في قومهم، ويأمر رسله بالدعوة إلى الأهم فالأهم، كما قال لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن داعياً ومعلماً: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم إلى فقرائهم). وكان صلى الله عليه وسلم يدعو كلَّ أحد بحسب ما يناسب حاله ويليق به، ويلاطف الضعفاء من الجهال والنساء والصبيان؛ ترغيباً لهم في الخير، وترهيباً لهم من الشر. فمتى كانت الدعوة إلى الحق على هذا الوصف الجميل، كان لها موقعها الأكبر، وتأثيرها الجميل، ومنفعتها العظيمة، وأجرها الكثير. والله الموفق.

_ اختيار: موقع الدرر السنية www.dorar.net المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (1343هـ - 1383هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط1: 1431هـ. (1/ 271)

كلمة الحق

كلمة الحق أحمد محمد شاكر نشر سنة 1370هـ ما أَقلَّ ما قلنا (كلمةَ الحق) في مواقف الرجال، وما أكثر ما قصَّرنا في ذلك، إن لم يكن خوفاً فضعفاً، ونستغفر الله، وأَرى أَنْ قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا؛ كفَّارةً عما سَلَف من تقصير، وعما أَسْلَفْتُ من الذنوب، ليس لها إلَّا عفوُ الله ورحمته، والعمر يجري بنا سريعاً، والحياة توشك أن تبلغ منتهاها. وأَرى أنْ قد آنَ الأوانُ لنقولها ما استطعنا، وبلادُنا، وبلاد الإسلام تنحدر في مجرى السَّيْل، إلى هُوَّة لا قرار لها، هُوَّةِ الإلحاد والإباحية والانحلال، فإن لم نقف منهم موقف النذير، وإن لم نأخذ بحُجَزِهم عن النار انحدرنا معهم، وأصابنا من عَقابيل ذلك ما يصيبهم، وكان علينا من الإثم أضعاف ما حُمِّلوا. ذلك بأن الله أخذ علينا الميثاق {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. وذلك بأن ضرب لنا المثل بأَشقى الأُمم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]. وذلك بأن الله وصفنا معشرَ المسلمين بأننا خيرُ الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]. فإن فقدنا ما جعلنا الله به خير الأُمم، كنَّا كمَثَل أشقاها، وليس من منزلة هناك بينهما. وذلك بأن الله يقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب: 39]. وذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أَلاَ لا يمنعنَّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحقٍّ إذا رآه الناس أو شَهِدَه؛ فإنه لا يُقرِّب من أَجَلٍ ذلك، ولا يُبَاعد من رِزْقٍ، أَنْ يقولَ بحقٍّ، أو يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ). وذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحقرنَّ أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أَحدنا نفسه؟ قال: يرى أمراً لله عليه فيه مقال، ثم لا يقولُ فيه؛ فيقولُ الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقولَ فيَّ كذا وكذا؟ فيقولُ خَشْيَة الناس، فيقول: فإياي كنتَ أَحقَّ أن تَخْشَى). نريد أن نقول (كلمة الحق) في شؤون المسلمين كلها، نريد أن ننافح عن الإسلام ما استطعنا، بالقول الفصل، والكلمة الصريحة، لا نخشى أحداً إلاَّ الله؛ إذ نقول ما نقول في حدود ما أنزل الله لنا به، بل ما أوجب عليه أن نقوله، بهدي كتاب ربنا، وسنة رسوله. نريد أَن نحارب الوثنية الحديثة والشرك الحديث، اللذين شاعا في بلادنا وفي أكثر بلاد الإسلام، تقليداً لأُوربة الوثنية الملحدة، كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة، والشرك القديم. نريد أن ننافح عن القرآن، وقد اعتاد ناس أن يلعبوا بكتاب الله بين أَظهرنا، فمن متأوِّل لآياته غير ِمؤمن به، يريد أن يَقْسِرَها على غير ما يدل عليه صريح اللفظ في كلام العرب، حتى يوافق ما آمن به، أو ما أُشْرِبتْهُ نفسه، من عقائد أُوربة ووثنيتها وإلحادها، أو يُقَرِّبه إلى عاداتهم وآدابهم، إن كانت لهم آداب؛ ليجعل الإسلام ديناً عصريًّا في نظره ونظر ساداته الذين ارتضع لبانهم، أو رُبِّي في أحضانهم!!. ومِنْ مُنكرٍ لكل شيء من عالم الغيب، فلا يفتأ يحاور ويداور؛ ليجعل عالم الغيب كله موافقاً لظواهر ما رأى من سنن الكون، إن كان يرى، أو على الأصح لما فهم أَن أُوربة ترى!! نعم، لا بأس عليه عنده أن يؤمن بشيء مما وراء المادة، إن أثبته السادة الأُوربيون، ولو كان من خرافات استحضار الأرواح!! ومِنْ جاهلٍ لا يفقه في الإسلام شيئاً, ثم لا يستحي أن يتلاعب بقراءات القرآن وألفاظه المعجزة السامية, فيُكذِّب كل الأئمة والحفاظ فيما حفظوا ورووا؛ تقليداً لعصبية الإفرنج التي يريدون بها أن يهدموا هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ليجعلوه مثل ما لديهم من كتب. وهكذا ما نرى وترون. نريد أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن نحارب ما أحدث (النسوان) وأنصار (النسوان) من المنكرات الإباحية والمجون والفجور والدعارة, هؤلاء (النسوان) اللائي ليس لهن رجال, إلاَّ رجال (يُشْبِهْنَ) الرجال!! هذه الحركة النسائية الماجنة, التي يتزعمها المجددون وأشباه المجددين, والمخنثون من الرجال, والمترجلات من النساء, التي يهدمون بها كل خلق كريم, يتسابق أولئك وهؤلاء إلى الشهوات, وإلى الشهوات فقط. نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين, والصالحات من المؤمنات: الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة، واللاتي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصوُّن- إلى العمل الجدِّي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي المصون, إلى حجابها الذي أمر الله به؛ طوعاً أو كرهاً. نريد أن نثابر على ما دَعَوْنَا وندعو إليه، من العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله في قضائنا كله, في كل بلاد الإسلام، وهدم الطاغوت الإفرنجي الذي ضُرب على المسلمين في عقر دارهم في صورة قوانين، والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء: 60، 61]، ثم يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]. نريد أن نتحدث في السياسةِ العليا للأمة الإسلامية، التي تجعلهم (أمة واحدة)، كما وصفهم الله في كتابه، نسمو بها على بدعة القومية, وعلى أهواء الأحزاب. نريد أن نُبَصِّر المسلمين وزعماءَهم بموقعهم من هذه الدنيا بين الأمم، وتكالب الأمم عليهم بغياً وعَدْواً، وعصبية، وكراهية الإسلام أولاً وقبل كل شيء. نريد أن نعمل على تحرير عقول المسلمين وقلوبهم من روح التهتك والإباحية، ومن روح التمرد والإلحاد، وأن نريهم أثر ذلك في أوربة وأمريكا، اللتين يقلِّدانها تقليد القردة، وأن نريهم أثر ذلك في أنفسهم وأخلاقهم ودينهم. نريد أن نحارب النفاق والمجاملات الكاذبة، التي اصطنعها كُتَّاب هذا العصر أو أكثرهم فيما يكتبون وينصحون! يظنون أن هذا من حسن السياسة، ومن الدعوة إلى الحق (بالحكمة والموعظة الحسنة) اللتين أمر الله بهما!. وما كان هذا منهما قط، وإنما هو الضعف والاستخذاء والملق والحرص على عَرَض الحياة الدنيا. وما نريد بهذا أن نكون سفهاء أو شتاميين أو منفِّرين، معاذ الله، و (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنَّا نريد أن نقول الحق واضحاً غير ملتوٍ، وأن نصف الأشياء بأوصافها الصحيحة بأحسن عبارة نستطيعها، ولكنا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نصف رجلاً يعلن عداءه للإسلام، أو يرفض شريعة الله ورسوله مثلاً بأنه (صديقنا)، والله سبحانه نهانا عن ذلك نهياً حازماً في كتابه. ونربأ بأنفسنا أن نضعف ونستخذي؛ فنصف أمةً من الأمم تضرب المسلمين بالحديد والنار، وتهتك أعراضهم، وتنتهب أموالهم، بأنها أمة (صديقة) أو بأنها أمة (الحرية والنور) إذا كان من فعلها مع إخواننا أنها أمة (الاستعباد والنار)! وأمثال ذلك مما يرى القارئ ويسمع كل يوم، من علمائنا ومن كبرائنا وزعمائنا ووزرائنا، والله المستعان. نريد أن نمهِّد للمسلمين سبيل العزة التي جعلها الله لهم ومن حقهم إذا اتصفوا بما وصفهم به: أن يكونوا (مؤمنين). نريد أن نوقظهم وندعوهم إلى دينهم بهذا الصوت الضعيف ... ، ولكننا نرجو أن يدوِّي هذا الصوت الضعيف يوماً ما؛ فيملأ العالم الإسلامي، ويبلغ أطراف الأرض، بما اعتزمنا من نية صادقة نرجو أن تكون خالصة لله وحده؛ جهاداً في سبيل الله، إن شاء الله. فإن عجزنا أو ذهبنا، فلن يعدم الإسلام رجلاً أو رجالاً خيراً منا، يرفعون هذا اللواء، فلا يزال خَفَّاقاً إلى السماء، بإذن الله.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: كتاب (جمهرة مقالات العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر)، اعتنى بها عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل - دار الرياض 1426هـ، (1/ 421) بتصرف يسير.

المدنية المادية ..

المدنية المادية .. وهل أفلست في إسعاد البشرية؟ أبو الوفا المراغي نشر عام 1360هـ وفِّق العلماء في الثلاثة القرون الأخيرة إلى مخترعات كانت مثاراً للدهش والاستغراب، فخيل إلى الناس أن حلم السعادة المنشودة قد تحقق، وأن البشرية تستقبل عصراً مملوءاً بالهناء والرخاء، وأنها لن ترى بعد ذلك بؤساً ولا شقاء، وأن نعيم الآخرة الذي وصف في الكتب السماوية سيتحقق في هذه الحياة، فعظم شأن العلم الطبيعي في أعينهم، ووسموا هذا العصر بعصر النور، وعنوا بالنور نور المعرفة والعلم، وغفلوا عن أن الذي يفتنهم من هذه المدنية هو الجانب الصناعي، وهو كما ولَّد الوسائل والآلات المعينة على تسهيل الحياة، وتخفيف الآلام ولَّد بجانبها البوارج والمدمرات والغواصات والطيارات والقنابل الهادمة والمحرقة والمهلكات من جميع الأنواع. هذه هي أهم مظاهر المدنية التي اغتبط بها الناس، وظنوا بها خيراً؛ ولكنها لم تحقق الظن فيها، فلم تفتح لهم باباً من أبوب السعادة إلا فتحت عليهم أبواباً من الويلات لم تعهدها البشرية في تاريخها، فما أن أخذت هذه المخترعات مكانها من الوجود وتميزت وظائفها وتوزعتها الدول، كلٌّ على قدرها، حتى تجاوبت نذر الحروب، فشهد الناس تلك المخترعات الجهنمية تصبُّ الحديد والنار في البحر والجو، وفي الأرياف والأمصار، وفي كل بقعة من البقاع حتى لم يبق بها ملاذ يعتصم به النساء والولدان وأنَّى يكون ملاذ، وقد سلطت الطائرات على الناس تمطرهم بوابل من القذائف، بلا تمييز بين محارب ومسالم، وشيخ وشاب، وسليم ومريض، وبلا رقيب ولا محاسب، وسلطت الغواصات والطرادات على مراكب المسافرين، وسفن التجارة في البحار، تغرق وتحرق ما تظفر به، من غير مبالاة بما تحمل من إنسان أو بضاعة! وجعلت السيارات تنقل عُدد الحرب وعتاده، وتحمل أوزاراً من الذخيرة والجنود إلى ميادين الحرب أو إلى المجازر البشرية التي أحدثتها المدنية المادية، وحوَّلت المصانع بأنواعها إلى مصانع حربية، وزاحمت مظاهر الحرب مظاهر السلام، حتى أصبح العالم كله في تناحر وصيال. كان الناس إلى ما قبل ربع قرن يعرفون أن معنى الحرب أن جنود الأمتين المتخاصمتين يقتتلون في ساحات معينة، فمن هزم خصمه أملى عليه الشروط التي يرضاها، لا أن يصبح جميع أفراد الأمم في خطوط النار حتى الهرمى والزمنى والنساء والأطفال، وكانوا يعرفون أن هناك معاهدات تحترم، وقوانين حربية لا تنقض، تحترم فيها حياة الزمنى والهرمى والنساء والولدان. ولكنا لم نعتم أن رأينا الحرب قد انقلبت إلى تناحر حيواني بين الجماعات، قد أهدرت فيها هذه النظم، ثم انقضت تلك الحروب وخلَّفت الفوضى في نواح كثيرة بدرجة كبيرة حتى فشا الإلحاد والزندقة، وتدهورت الأخلاق، فشاع التهتك بين الرجال والنساء، وتمردوا على العادات الصالحة، والتقاليد الكريمة، وأُسيء فهم الحرية، فخيل لأهل الأهواء أن كل منكر يمكن أن يُرتكب باسم الحرية، وتحلَّل الناس من الفضائل باسم المدنية، وانعكست موازين الأشياء في نظر الناس، فصار التدين رجعية، والاحتياط لصيانة العرض رجعية، ومراقبة الأبناء في تربيتهم رجعية، وهكذا عملت المدنية المادية في الأمم عمل السوس ينخر في العظام، حتى تهدَّم كيانها، وانتقض بنيانها، ثم استفاق عقلاء الأمم على أنَّات الألم، وصيحات الفزع من هذه الأحوال، وحاولوا جبر الصدع، ورمَّ الرثِّ، فعقدت المؤتمرات للنظر فيما أعقبته الحرب من هذا التطور الشديد الخطر على الاجتماع، وعلى السلام العام، رجاء توجيهه الوجهة النافعة للبشرية. وفي هذه الأثناء كانت المخترعات تسير في طريق الإتقان والكمال، وكان أسرعها سيراً في هذا الطريق المخترعات الحربية، وكان كثير من الأمم في غفلة عما وراء ذلك التقدم من خطر وشرٍّ، وكانت تعلِّل النفوس بسلام يطول أمده، ويحلو مذاقه، وبينما تسبح الأمم في هذا الخيال إذا الحرب الحاضرة تقرعهم قارعتها، وتقوم عليهم قيامتها، وإذا هم يسمعون ويشاهدون من الأخطار والأهوال ما يقصر دون وصفه الخيال. لهذا أجمع العقلاء بعد ما بلوا هذه المدنية المادية وابتلوا بها، أنها قد أفلست في إسعاد البشرية، وذهبوا في تعليل ذلك مذاهب شتى، أقربها إلى الصواب أن تلك المدنية إنما أفلست؛ لأنها فقدت أهم العناصر للوصول إلى هذه الغاية، وهو العنصر الروحي، أو عنصر الدين؛ فالمدنية إن لم تنتظم هذا العنصر فلن تصل إلى غايتها أبدا، ذلك أن الدين يطهر النفوس من الأدران والأضغان، ويكسر شرَّة الأطماع، ويحرم التطاول والطغيان، ويزيل الفوارق بين الأجناس والألوان، وينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات، ويقيمها على أسس العدل والمحبة والتعاون، ويحرم سفك الدماء إلا بحق، لا لمجرد الهوى والتسلط، ويريح النفوس القلقة مما تراه من التفاوت في الأرزاق والدرجات، ويندب إلى المثل العليا في الفضائل والآداب. تلك هي بعض مزايا الدين الذي تنبَّه العقلاء- بعد أن صهرتهم المحن وكرثتهم الخطوب- إلى وجوب توافره في بناء المدنية. وقد يكون مما يؤذن بالخير، ويبعث على الأمل في المستقبل القريب، أن شعور هؤلاء لا يزال في ازدياد. وفي الظن أنه لا تنجلي الظلمات الحاضرة حتى يستتم يقينهم بضرورة الدين كعنصر هام في مدنية يجب أن يسودها الأمن والسلام.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: مجلة الأزهر- الجزء السادس- المجلد الثاني عشر- 16 جمادى الآخرة سنة 1360هـ

الحضارة المتبرجة

الحضارة المتبرجة محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ) نُشر عام 1359هـ أُعطِيت هذه الحضارة الأوربية الحديثة أعظم روح من الفن كان في الأرض، من لدن آدم إلى يوم الناس هذا. وهذه الروح الفنية - على سموها في بعض نواحيها إلى غاية ما يتسامى إليه الخيال الفني - تتساقط وتتدنَّى وتنحدر من جوانبها إلى أدنأ ما يُبتذل من الفن العامي المثير لأشأم الغرائز الحيوانية في الإنسان. وبهذه الروح الفنية عالجت الحضارة الأوربية مشكلة الحياة السريعة الدائبة المثقلة بأعباء العمل، فاتخذت لكل ملل راحة واستجماماً، بلغت بهما غاية اللذة الفنية، تلك اللذة التي تجعل الأعصاب المجهدة إذا أوت إليها كأنما تأوي إلى بيت ذي رونق وزخرف وعطر وضوء يغمغم ألحاناً من الفن الموسيقي، فإذا بلغته استنامت بإجهادها على حشايا الخزِّ والديباج، نعومة وليناً ترسل في الأعصاب لذة تمسح الجهد حتى يسكن ويخفَّ ثم يتبدد. وكانت المرأة هي فنُّ الفنِّ للإنسانية، وهي الشاطئ الوادع لبحر الحياة المتموج، وكانت الظلَّ الرطيب في بيداء موقدة تحت أشعة الشمس المحرقة، وكانت هي السكن للقلب المسافر دائماً في طلب أسباب العيش والحياة. فجاء فن المدنية الحديثة فجعل الشاطئ بحراً آخر يموج موجاً فنيًّا مغرياً يجعل السباحة المجهدة فيه ضرباً من الراحة، وتركت الظلَّ الرطيب حرارة مستعرة تحرق، ولكنها تحرق بلذة، وفرشت السكن حتى مدَّته طريقاً بعيداً مترامياً يسافر فيه القلب سفراً بعيداً في أحلام وفتنة وجديد لا يتقادم. وبدأت المرأة بدءها لتجعل الحضارة فنًّا جديداً من تجميل الحياة للمكدودين. ثم جاءت الحرب الماضية، فخرجت المرأة من وطيسها المتوقد قد استوت ولذَّت وطابت، وتجدَّدت عقلاً وروحاً وجمالاً، وشاركت أسباب الحضارة في إيجاد حلٍّ جديد لمشكلة الإنسان العامل المنطلق في أعماله بسرعة وكد وإرهاق وعناء، فاتخذت فنَّ العقل السامي عبداً تصرِّفه في إنشاء لذات الحياة إنشاء عبقريًّا، تخشع لسلطانه النفس خشوعاً راضياً، ثم تمشي في جناته. تأبى أن تجد راحتها إلا راحة فيها، ذلك السحر الناعم الرقيق الفاتن، الذي يصنعه بنان مؤنث يقول للأشياء: كوني جميلة. فتكون. وأعطت العين للمرأة أشواقها المستبدة، وزيَّنت المرأة للعين متاعها المتجدد، فاستيقظت الغرائز كلُّها من هزَّة الأشواق وحبِّ الاستمتاع، وانحدرت في دم الرجل قطرات الفتنة المؤنثة، وسطعت في كيانه كلِّه نفحات العطر المعربد، وألقت المرأة ظلَّها على كلِّ شيء ألواناً تتخايل بالفن المنسق البديع، وصبغت كلَّ شيء في حلاوة أنوثتها، حتى لم يبق للرجولة ولا للإنسانية هوى في الحياة إلا وهو من المرأة، وإلى المرأة، وفي سبيل المرأة. وصارت المرأة هي المحور الذي تدور عليه الإنسانية في فلك الشهوات الضارية التي تنزع منازعها في حياة الإنسان باقتدار وقسر، وسار العالم كله على ذلك حتى ما يحسُّ ذو شعور أنه يعمل من أجل المرأة، مع أنه ما يعمل عامل إلا من أجلها. فهو في نشوة متصلة لا تنقطع في عمله، لأن الغرائز المنتشية هي التي تحكم وتصرف، وبذلك لم يبقَ له من الفكر ما يستطيع به في هذا الأمر أن يتبين حقيقة التيار المسكر الذي يتدافع به في حياته. أصبحت الحضارة الأوربية بعد ذلك فنًّا جميلاً يتوالى فيه زخرف الحسن مبعثراً ومنتظماً، لأن الأعمال كلها قد احتملتها إرادة واحدة، هي إرادة جعل الحياة أجمل مما هي؛ لتكون أمتع للعين والقلب والنفس والغريزة، مع إسقاط مطالب الروح السامية المتحررة من استبعاد الشهوات. ومن عجيب تصريف القدر في الحياة أن يجعل أعظم شيء فيها هو أقل الأشياء حظًّا من الحياة، فالروح التي هي أعظم ما وجد في الحياة، ترجع في غمرة اللذات والشهوات وأمواج الغريزة الطاغية، أقل ما وجد في الحياة، حتى ما يكون لها نصيب منها إلا ذلك الجو الأغبر القائم في عزلة موحشة، بعيدة عن تحقيق لذاتها الروحانية الحلوة التي تبقى حلاوتها خالدة في الهرم بعد الشباب، وفي العجز بعد القدرة، وفي السكون بعد الحركة وفي الموت بعد الحياة. وتقف الروح متغضنة جافة متكسرة، تنظر نظرة متألمة إلى ما يصيب الإنسان من اللذات الطارفة الطارئة، التي تتحول في نار الشهوات رماداً بعد توقد واشتعال. فاعتزال الروح في هذه المدنية الأوربية قد جعل العالم يعيش ليحترق بأسرع ما يمكن أن يحترق، وهذا هو العلة في امتياز هذه المدنية بالسرعة والنشاط والتوقد، واحتمالها متاعب الجهد المضني في سبيل استغلال أقصى ما يستطيع الإنسان من الإنتاج في العمل، ثم امتيازها بنظام الطبقات الذي تجهد جهدها أن تستره بتلك الزينة الفنية العلمية الظاهرة، لئلا يكون معنى ذلك أن المدنية تريد أن ترتدَّ بالناس إلى الحالة الطبيعية الوحشية اللئيمة التي ينتجها اجتماع همجي مستبد لا يعقل، وإنما يكون فيه اللذة التي تسكر العقل، والظلم الذي يثير العقل، والأثرة التي تطغى العقل. وجاء اشتراك المرأة اشتراكا عمليًّا في الحياة الأوربية العامة؛ ليقذف الروح بعيداً في عزلتها، ويدني غريزة تشتاق إلى غريزة تشوق، فكذلك بدأت الأنظمة الأدبية والاقتصادية والمدنية تخضع لسلطان الأشواق وحدها، دون سلطان الروح والعقل، وسلطان الأشواق هو الذي يكون غرضه دائماً أن يضيق ويتخصص وينفرد بأسباب شوقه، وسلطان الروح والعقل هو الذي يتراحب ويشمل ويعمُّ ويوجد المساواة بين الناس، مهما لقى من العنت والقسوة في وضع النظام الذي يريد أن يجعل به الناس أحراراً في قيود من الإنسانية السامية المترفعة عن الذل، كما تترفع عن بغي السطوة، والتي تستنكر العبودية الخاضعة، كما تستنكر الحرية الفوضى، والتي تأبى تحكُّم طبقة في طبقة، كما تأبى ثورة طبقة على طبقة. ولكن تبرج الحضارة الأوربية في ذلك الخلق الجميل الفتَّان ذي الحيلة والفتنة والسحر الذي يعيش في صورة الأنثى، قسر هذه المدنية على الخضوع لسطوة الشوق المتمرد، فقام النظام كلُّه على هوى واحد إلى المرأة. فالعامل الذي يعمل يريد أن يستغل الحياة بين يديه، لا ليعيش ويعيش معه أهله وبنوه، وتلك الدولة الصغيرة التي تسمى البيت، بل هو يعمل ليجد أولاً تلك اللذة الحاكمة الممتعة التي يستمتع بها في ظل تلك الدولة العظيمة التي تسمَّى المرأة. وإذا بدأت الطبقة العاملة من الشعب تجد حوافز أعمالها في شيء بعينه، كانت كل أعماله من الأدنى إلى الأعلى، لا تجد في أعمالها إلا هذا الحافز الواحد، وإذا تشابهت الحوافز تشابهت الغايات، وما يفترق هذا عن ذاك إلا بأن لكل شيء أسلوباً، ومهما اختلفت الأساليب في هذا، فلن تختلف في الدلالة إلا بمقدار الأصل العملي الذي يوجب هذا الاختلاف. والمكان الذي نصت عليه عروس النفس الإنسانية في هذه المدنية الحديثة، هو الحافز وهو الغاية، ولذلك تجد هذه المدنية قد تبرَّجت لأبنائها تبرُّج الفنِّ العبقريِّ الحافل بأسباب التحكم المستمر في أعمال كلِّ حيٍّ. ولما كانت هذه الحوافز على تعددها إنما هي في الحقيقة اختصاص فردي لكل واحد من الناس- لأن اللذة لا تقبل الشركة والتعدد- ولكل اختصاص عيب هو الأثرة، والإصرار على التفرد، ومعاندة الناس بعضهم بعضاً في سبيل هذا التفرد - وقع التضارب والتعادي والانتقاض في كلِّ عمل، وصار ما يُبنى لا يكاد يتمُّ حتى يلقاه ما يهدمه، وبذلك كان نظام هذه الحضارة مع روعة ما يُبنى يقابله نظام آخر في الهدم والتدمير، يخيف هذا بقدر ما يروع ذاك. ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية، ولولا هذه الشهوات التي انطلقت تشرف من مسكرات الفن المتبرج، ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة، لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدماً مستعبداً مستأثراً باغياً، ولما تعاندت القوة الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية، ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم؛ وذلك في مدى خمسة وعشرين عاماً، لم يستجمع العالم خلالها قوته، ولم يتألَّف ما تفرَّق، إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرق. إن الحضارة في هذه السنوات التي تبعت الحرب الماضية، كانت ترفِّه عن المكدودين ترفيهها الحلو الغني المتبرج؛ لتعطي القوى العاملة نشاطاً جديداً من النشوة، أي من الحالة التي يفقد فيها العقل والروح قدرتهما على التحكم في نظام الحياة. وأقدمت المرأة الأوربية إقدامها الجريء فجلبت زينتها من كل خيال، ومن كل فنٍّ، ومن كل سحر؛ لتعين الحضارة على الحياة والبقاء في هذا الجو الذي اختارته وعملت له. وكان هذا الإقدام ضرورة طبيعية للمقدمات التي سبقت عصر الحرب الماضية، ثم للحرب نفسها. فإن المرأة التي فقدت زوجها، والفتاة التي أضلَّت حبيبها، والبنت التي أضاعت قَيِّمها من أب أو أخ أو عم، ... وبقيت في موج الحياة حيرى متلددة [أي: واقفة متحيرة لا تدري أين تذهب]، لم تجد بدًّا من الإقدام على الطريق المجهول بجرأة واندفاع وتهور، فلما أوضعت [أي: أسرعت] في الطريق المجهول، وأسرعت خطاها جرى العالم وراءها يطلبها، فلم تجد بدًّا من أن تأخذ منه أكثر ما تستطيع لتجتلب لزينتها أحسن ما تستطيع، وتطارد الصيد للصائد في كلِّ وجه، حتى اصطدم العالم كله هذا الاصطدام الهائل الذي لا يدرى إلى أين ينتهي، ولا كيف ينتهي. وستخرج المرأة من هذه الحرب أيضاً كثيرة فاتنة حائرة، لا تجد أباها ولا زوجها ولا أخاها ولا حبيبها، وستكون في عينيها تلك النظرة الحزينة الضارعة التي تقول لك: أنقذني! أنقذني!! أنا وحدي، لا أجد من يعولني! وسينظر العالم الجديد إلى هذه المرأة بالرحمة والعطف والحنان، كما نظر للواتي كن بعد الحرب الماضية. وستعمل المرأة يومئذ لتكتسب الرجل في كل وجه، ثم لا تلبث أن توجد من بقايا العالم المتحطم سحراً جديداً لمدنية ساحرة، وبذلك يرتدُّ العالم إلى النظام الاقتصادي الفاجر المبني على اللذة وطلبها والبحث عنها، فتكون أنظمته كلها قائمة على الاستبداد، والفجور في الاستبداد. ويومئذ يبدأ تحقيق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة وما يكون في أعقاب الدهر، إذ (يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيِّم الواحد)، وحتى (ترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلُذْن به). وما يكون ذلك إلا يوم يتحقق للحياة المعنى الفني المحض، الذي لا يعرف قاعدة اجتماعية يحرص على تحقيقها للاجتماع، والذي يرى الحرية انطلاقاً من قيد الأخلاق، التي تقسره على مصلحة الجماعة دون لذة الفرد، وتتبرج الحياة تبرجاً هائلاً يجعل العقل غريزة جديدة تشتهي، والروح خلقاً منبوذاً حائراً يطوف على هذه الفتن، كما يطوف الصعلوك على مائدة ملكية. ويومئذ يرفع العلم؛ لأنه سيستعبد في إيجاد اللذات، وتفارقه الروح النبيلة التي لا يكون العلم إلا بها علماً، ولا يبقى في الأرض إلا الجهل الأحمق، الذي لا يعرف إلا السيطرة بحماقة، والأثرة بكَلَب، وتكون المرأة هي علم الحياة الجديد الذي يمزق الرجولة القليلة في جذب الشهوات العنيفة، ويغرق الفضيلة في طوفان المتعة الجميلة التي تبعث في الأعصاب المجهدة نشوة مسكرة.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محم

الفتح الإسلامي

الفتح الإسلامي علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) نشر عام 1936م (الفتح الإسلامي) أكبر لغز من ألغاز العبقرية، وأروع أحْجيَّة من أحاجي النبوغ، وأجل مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر. ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة، وأعصار مديدة، ارتقى فيها فن الحرب، وتقدم فيها البشر أشواطاً في كل ميدان من ميادين الحضارة، وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية، فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها، فبدت لهم هيِّنة ضئيلة، بعد أن كانوا يرونها لغزاً لا يحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية ولم يدركوا كنهها. وستمر قرون أخرى وأعصار قبل أن يكشف ذلك السر، وقبل أن يرى تاريخ البشر حادثاً أعجب وأعظم من (الفتح الإسلامي). إن الحوادث العظيمة في التاريخ على اختلاف مظاهرها وتنوع أشكالها، لا تعدوا أن تكون واحدة من ثلاث: إما أن تكون عظمتها فيما أورثت الإنسانية من حضارة وعمران، وما رفهت من عيش الناس، وما أفادتهم من رغد ونعمة وترف، وإما أن تكون هذه العظمة فيما خدمت به العقل البشري، وأمدته بأسباب القوة والنضج، ورفعت من تفكير الناس، وأدنتهم من المثل العليا التي يطمحون إليها، بما فتحت عليهم من أبواب الثقافة وسبل المعرفة، وإما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً؛ أي أن العظمة إما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً، أي أن العظمة إما أن تكون عظمة حضارة وعمران، أو علم وفكر، أو بطولة وحرب. (والفتح الإسلامي) أعظم الحوادث التاريخية كلها، في أبواب العظمة كلها، لا يدانيه في ذلك حادث في تاريخ الشرق والغرب، القديم منه والحديث. أما في الحروب فإن التاريخ يعرف كثيراً من الفاتحين، منذ عهد الإسكندر ومن قبل الإسكندر، إلى عهد نابليون ومن بعد نابليون، ولكنه لم يعرف فتحاً أوسع ولا أسرع من (الفتح الإسلامي) الذي امتد في اثني عشر عاماً فقط من طرابلس الغرب إلى آخر بلاد العجم، وحاز مصر وسورية وفارس كلها ... على أن ميزة الفتح الإسلامي ليست في السعة والسرعة وحدهما، ولكن ميزته الكبرى أنه فتح أبدي، فلم يعرف عن المسلمين أنهم دخلوا بلاداً وخرجوا منها؛ ذلك أنهم لا يفتحون البلاد بسيوفهم شأن كل الفاتحين، ولكنهم يفتحون القلوب والعقول، بعدلهم وعلمهم، فلا تلبث البلاد المفتوحة أن تندمج بالمسلمين، وتصبح أغير على الإسلام من المسلمين الفاتحين، بينما ترى البلاد التي فتحها غيرهم تبقى خاضعة لهم ما بقي السيف مصلتاً فوق رؤوس أهلها، فإذا أحسوا من الفاتحين غرة، وآنسوا منهم ضعفاً وثبوا عليهم فطردوهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، حتى أن أميركا على رغم أنها كانت خالية إلا من قبائل لا شأن لها، وليس فيها دين يناوئ ديناً، أو عادات تصادم عادات، وعلى رغم أن أهلها الذين استعمروها إنكليز كالإنكليز الحاكمين، فإنهم وثبوا عليهم وحاربوهم حتى نالوا استقلالهم؛ ولا تجد اليوم أميركياً واحداً يريد الانضمام إلى إنكلترا (الأم الكبرى)، بينما تجد كل مسلم في الصين أو الهند أو جاوا أو القسطنطينية - كل مسلم صحيح - يتحسر على الوحدة الإسلامية - ويسعى إليها - ولا يقبل بها بديلاً، على رغم ما أحدثوا لهم من كذبة وبدعة الوطنيات، وما أقاموا بين الإخوان من سدود، وما فصلوا به بينهم من حدود، وما مر على هذه التفرقة من سنين وأعوام. ذلك لأن (الفتح الإسلامي) فتح أبدي، مستقر في القلوب، لا تقوى قوة بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ. أما في العلم والثقافة؛ فقد كان (الفتح الإسلامي) أكبر حادث علمي، لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرر عقولها بالتوحيد، وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار،، والنيران والأخشاب، والقسس والأشراف. ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، ويحفز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسنة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم؛ وكان الفاتحون أنفسهم علماء فما إن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد يدرسون ويقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدثون، والفقهاء والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص والمؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدروا بعد للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوروبا، وكانوا أساتذة العالم الحديث. فكان من ثمرة الفتح أن هذه البلاد الأعجمية - التي كانت تئن في ظلام الجهل والظلم - لم تلبث أن ظهر منها علماء فحول، كان لهم الفضل على العقل البشري، ولا تزال أسماؤها خالدة، تضيء في جبين الدهر. ومن لعمري ينسى البخاري والطبري والأصبهاني والهمداني والشيرازي والسرخسي والمروزي والرازي والخوارزمي والنيسابوري والقزويني والدينوري والسيرافي والجرجاني والنسائي، وغيرهم وغيرهم ممن لا يحصيهم عد؟ ألا يشعر كل مسلم بأن هؤلاء وأمثالهم هم علماء الملة وأعلامها؟ ألا نحل كتاب البخاري أسمى محل من نفوسنا، ونتخذه حجة بيننا وبين الله؟ ألا يؤلف هؤلاء العلماء صلة من أوثق الصلات بيننا وبين فارس لا يستطيع أن يفصم عراها مئة حكومة من مثل الحكومة الحاضرة، التي تستن في فارس سنة (هذا الآخر ... ) في تركيا. أما في الحضارة والعمران؛ فللفتح الإسلامي أكبر الأثر في نشر الحضارة وتوطيد العمران، والعمران طبيعة في العربي المسلم، فلم يمض على فتح المسلمين بلاد العراق إلا سنوات حتى أسسوا مدينتين كبيرتين كان لهما الفضل والمنة على الحركة العلمية والأدبية في العالم كله. فضلاً عن أنهما كانتا قاعدتين حربيتين من أكبر القواعد الحربية؛ وما استقرت أقدامهم في البلاد حتى شرعوا في بناء المدن الكبيرة، والقصور العظيمة، وإنشاء أروع آثار البناء، حتى كانت بغداد وسرَّ من رأى، وكانت دمشق من قبل، والقاهرة ومدن الأندلس من بعد، أعجوبة في فن العمران، وها إن أثراً صغيراً من آثار العرب - ليس بأعظمها ولا أكبرها - لا يزال إلى اليوم محط ركاب الرحال من أهل العلم ورجال الأدب، ولا يزال مصدراً مالياً لحكومة من كبار حكومات أوروبة تعيش إلى اليوم بفضل العرب، وهي حكومة اسبانيا. ولقد حاول الإنكليز على قوتهم وغناهم - في هذا العصر الذي تيسرت فيه أسباب كل شيء - أن ينشئوا مثل (الحمراء) فأنشؤوا قصراً في سيدنهام يعد من أعظم المباني العصرية وأجملها، ولا يزال دون الأصل بمراحل فكيف بمن بنى الأصل في ذلك العصر الغابر؟ إنه ما من شك لدى المنصفين من المؤرخين، أنه لولا قيام الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى وازدهارها في الشرق حين كانت أمم الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، لم تقم الحضارة الحاضرة، ولم يتمتع البشر اليوم بثمراتها. فالفتح الإسلامي إذن أعظم حادث في البطولة والفكر والعمران. وهو لغز غامض حير نابليون (نابغة العصر الحديث في فن الحرب) وحير المؤرخين كلهم. ذلك أن العرب على ما امتازوا به من الكرم والشجاعة والوفاء والعزة والإباء، كانوا في جاهليتهم بداة متفرقين، وجاهليين وثنيين، منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، لا يعرفون إلا جامعة القبيلة، ووحدة العشيرة، فإذا فخروا فبها يفخرون، وإن دافعوا فعنها يدافعون ... إذا وجد العربي من القبيلة قافلة من غير قبيلته، كان في حل من انتهاب مالها، وقتل رجالها، لا حكومة تنظم أمورهم، ولا دين يردعهم، إلا ديناً مضحكاً سخيفاً، دين من يتخذ رباً من التمر، فإذا جاع أكله، أو من ينحت من الصخر صنماً ثم يعكف عليه عابداً داعياً، أو من يعبد الشجر والحجر. وكانوا يخشون كسرى، ويرهبون قيصر؛ وكان ملوكهم في الحيرة والشام تبعاً للفرس والروم وجنداً لهما، يضربون بعضهم ببعض، ليذهبوا هم بالغنم ويعود العرب بالغرم؛ وكان اتحاد قبيلتين اثنتين كبكر وتغلب في طاعة كليب، أو قيس والسَّكون في جيش قيس بن معدي كرب حادثاً عجيباً يكسب صاحبه فخر الأبد، وأمراً نادراً يلبث حديث الناس أياماً وليالي ... فكيف يتحد العرب كلهم، عدنانيهم وقحطانيهم، ويسيرون في صف واحد، يقدمهم رجل واحد، حتى يواجهوا جيوش كسرى وقيصر التي يرهبونها، ثم يضربونها الضربة القاصمة للظهر، فإذا انجلى غبار المعركة نظرت فإذا المعجزة قد ظهرت على أتمها، وإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا فارس الوثنية، وسورية النصرانية، ومصر الرومانية، قد محيت كلها محواً، وقامت مكانها أمم إسلامية في فارس وسورية ومصر، كأنما هي لإخلاصها للعربية والإسلام لم تكن يوماً من الأيام على غير الإسلام؟ أكان هذا الانقلاب ما بين ليلة وضحاها ... أكان هذا التبدل الذي تغلغل في صميم الأمة العربية فغير كل شيء فيها وأنشأها إنشاءً جديداً لأن رجلاً قام في مكة، يتلو كتاباً جاء به؟ أيقوى رجل مهما كان شأنه على مثل هذا العمل ويكون له في تاريخ العالم ومستقبل البشرية هذا التأثير؟ هذا هو اللغز الذي حيَّر المؤرخين من الغربيين، ولم يعرفوا له حلاً معقولاً! على حين أن الأمر واضح والسبب ظاهر، ذلك أن هذا الأمر لم يكن عمل رجل عظيم من عظماء الناس، ولكنه عمل الله جلت قدرته، أظهره على يد سيد أنبيائه، وخاتم رسله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ذلك أن (الفتح الإسلامي) معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم. هذا وإن من الخطأ أن نعد الفتح الإسلامي، مثل ما نعرف من فتوح الأمم المختلفة في الأعصار المتباينة، لأن للفتح الإسلامي طبيعة خاصة به تجعله ممتازاً عن سائر الفتوح، وتنشئ له في التاريخ باباً خاصاً، ذلك أن كافة الفتوح إنما كانت الغاية منها ضم البلاد المفتوحة إلى أملاك الفاتحين، والانتفاع بخيراتها ومواردها، لا نعرف فتحاً يخرج عن هذا المبدأ إلا الفتح الإسلامي، فلم تكن الغاية ضم البلدان إلى الوطن الإسلامي، وامتصاص دماء أهلها وأموالهم، واستغلال مواردها الطبيعية وخيراتها، ولكن غايته نشر الدين الإسلامي والسعي لإعلاء كلمة الله، وإذاعة هدي القرآن في الأرض كلها؛ فكانوا كلما وطئوا أرضاً عرضوا على حكومتها وشعبها الإسلام، فإن قبلوا به واتبعوه ونطقوا بكلمة الشهادة انصرفوا عنهم وعدُّوهم إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين أمير المؤمنين وآخر مسلم في أقصى الأرض؛ كلهم سواء في الحقوق الواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وإن لم يقبلوا بالإسلام عرضوا عليهم الجزية، وهي أقل بكثير مما كانوا يدفعونه إلى ملوكهم وأمرائهم، وسموهم ذميين لهم ذمة المسلمين، وأعطوهم الحرية في أمور دينهم ودنياهم، وتعهدوا لهم بالأمن الداخلي والخارجي. وإن أبوا أن يعطوا الجزية حاربوهم ... ثم لم يكرهوا أحداً على الإسلام لأن في صحة الإسلام وفوائده في الدنيا والآخرة ما يغني في الدعوة إليه عن السيف. وما (دين محمد دين السيف) كما يهتف العامة والجاهلون، ولكنه دين العقل والمنطق والعلم، والمسلمون عامة دعاة مرشدون، ولكنهم دعاة أقوياء يحملون القرآن بيد، والسيف بالأخرى، فمن قبل فما كانوا ليحاربوه، ومن أبى وحار

عظم الهمة

عِظَم الهمة محمد الخضر حسين (ت:1377 هـ) نشر عام 1364هـ شؤون الأمم شتى، وأعز شؤونها مكارم الأخلاق. وحقوق الأمم على علمائها وزعمائها كثيرة، وأهم حقوقها القيام على هذه المكارم؛ فالجماعة التي تعمل على تقويم الأخلاق، وترقية الآداب، هي التي تحمل من أعباء حقوق الأمة ما كان أرجح وزنًا، وأكبر نفعًا. . أتقدم إلى هذا المجمع الكريم، وألقي فيه كلمة صغيرة، أصف بها خلقًا من أجل الأخلاق، وهو عظم الهمة. ما هو عِظَم الهمة؟ أحكم علماء الأخلاق بيان هذا الخلق، فقالوا: (هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور). فعظيم الهمة يستخفُّ بالمرتبة السفلى، أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، ويعبر عن هذا المعنى النابغة الجعدي بقوله: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا وإذا كان هذا الخلق لا يقع إلا على معالي الأمور، فلا عظمة لهمم قوم يبتغون النهاية في زينة هذه الحياة، ويغرقون في التمتع بلذاتها المادية؛ كهؤلاء الذين يسرفون في الملابس المنمقة، والمطعومات الفاخرة، والمباني الشاهقة؛ فإن الزينة واللذائذ المادية لا تعد فيما تتسابق فيه الهمم من معالي الأمور: إذا كان في لبس الفتى شرف له فما السيف إلا غمده والحمائل والشاعر الذي يقول: همم الملوك إذا أرادوا ذكرها من بعدهم فبألسن البنيان لم يقل صوابًا، ولم ينطق بحكمة، إلا أن يريد من البنيان: ما أقاموه لمصالح عامة؛ كأن يكون مدارس، أو مستشفيات، أو دورًا للكتب، أو مساجد يذكر فيها اسم الله، أو ملاجئ تأوي إليها اليتامى أو المساكين وابن السبيل. يستصغر عظيم الهمة ما دون النهاية من معالي الأمور، وإذا رأى الوسائل في الخارج تخونه، وتأبى أن تساعده على إدراك النهاية، فإنه يمضي في عزمه، ويرضى بمبلغ جهده، وإن كان دون المرتبة العليا. ومن الخطل في الرأي أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة، حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة، انصرف عنها جملة، والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب. والذي يوافق الحكمة، ويقتضيه حق التعاون في سعادة الجماعة، أن يذهب الرجل في همه إلى الغايات البعيدة، ثم يسعى لها سعيًا، ولا يقف دون النهاية إلا حين ينفد جهده، ولا يهتدي للمزيد على ما فعل سبيلًا. والناس في الحقيقة أصناف: رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، وهذا من يسمى: (عظيم الهمة)، أو (عظيم النفس). ورجل فيه الكفاية لعظائم الأمور، ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في سفساف الأمور وصغائرها، وهذا من يسمى: (صغير الهمة)، أو (صغير النفس). ورجل لا يكفي لعظائم الأمور، ويحس بأنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لأمثالها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الرجل بصير بنفسه، متواضع في سيرته. هؤلاء ثلاثة، ورابعهم لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، مخلوق لأن يحمل أثقالها، وهذا من يسمونه: (فخورًا)، وإن شئت فسمِّه: (متعظمًا). من أين ينشأ عظم الهمة: يتربَّى عِظَم الهمة عن طريق الاقتداء؛ كأن ينشأ الفتى تحت رعاية ولي، أو أستاذ يطمح إلى النهايات من معالي الأمور، أو من طريق تلقين الحكمة، وبيان فضل عِظَم الهمة، وما يكسب صاحبه من سؤدد وكمال، أو من طريق درس التاريخ، والنظر في سير أعاظم الرجال، فإنا لو أخذنا نبحث عن مفاخر أولئك الذين يلهج التاريخ بأسمائهم، لوجدنا معظم مفاخرهم قائمة على هذا الخلق الذي نسميه: (عِظَم الهمة). والقرآن يملأ النفوس بعِظَم الهمة، وهذا العِظَم هو الذي قذف بأوليائه ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على عروش كانت ظالمة، ونسفوها من وجه البسيطة نسفًا، ثم رفعوا لواء العدل والحرية والمساواة، وفجَّروا أنهار العلوم تفجيرًا. وإذا رأينا من بعض قرائه هممًا ضئيلة، ونفوسًا خاملة، فلأنهم لم يتدبروا آياته، ولم يتفقهوا في حكمه. فضل عِظَم الهمة: يسمو هذا الخلق بصاحبه، فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يضطهد أو يزدري، فإذ هو عزيز كريم. وهو الذي يرفع القوم من سقوط، ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية. هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها، وتسل يدها من أسباب نجاتها ومنعتها. أما صغير الهمة، فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم. نعم، يورد هذا الخلق صاحبه موارد التعب والعناء، ولكن التعب في سبيل الوصول إلى النهاية من معالي الأمور يشبه الدواء المر، فيسيغه المريض كما يسيغ الشراب عذبًا باردًا، وعظيم الهمة قد يشتد حرصه على الشرف، حتى لا يكاد يشعر بما يلاقيه في سبيله من أنكاد وأكدار. وربما كان الشرف الذي يركب له الأخطار والشدائد أعزَّ وقعًا، وأدلَّ على عظم همته من الشرف الذي يناله في يسر وسهولة. أراد أبو الوليد الباجي - حين كان يناظر أبا محمد بن حزم - أن يثبت لهمته فضلًا عن همة ابن حزم، فقال له: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت تعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائر السوق. وأجابه ابن حزم قائلًا: أنت طلبت العلم في حال فاقة، رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، لا أرجو إلا علوَّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة. فضَّل أبو الوليد الباجي همته على همة ابن حزم بما كان يلاقيه في سبيل طلب العلم من شدة وعناء، وفضَّل ابن حزم همته على همة أبي الوليد الباجي بأنه كان يطلب العلم لفضيلته. ولو صحَّ قول ابن حزم، وثبت ما اتهم به أبا الوليد من أنه كان يطلب العلم لليسار والرفاهية، لكان أعظم همة ممن يريد اتخاذ العلم وسيلة إلى منصب، أو وجاهة، أو مال. يتعلق عِظَم الهمة بكل شأن رفيع، ومقام محمود، ولا تسع هذه الكلمة إلا أن نعرج فيها على عِظَم الهمة في العلم، وعِظَم الهمة في النصح والإرشاد. عِظَم الهمة في العلم: تتفاضل العلوم بغاياتها، وبقدر ما يكون لها من الاتصال بسعادة الإنسان. وتتفاضل همم الطلاب بالنظر إلى هذه العلوم المتفاضلة في نفسها. فلكلٍّ من علم الأخلاق وعلم العروض- مثلًا- أثر في الحياة الأدبية، ولكن علم الأخلاق أقرب إلى السعادة منزلة، وأوسع فيما ينفع الناس جولة. فمن يُعنى بالأخلاق؛ ليتحلَّى بمكارمها، يكون أرفع همة ممن يُعنى بالعروض؛ ليعرف أوزان الشعر، وما يلحقها من زخارف أو علة. وأعظم من هاتين الهمتين همة من جمع بين درس الأخلاق والعروض. أخذ بعض أهل العلم يدرس العروض بعد أن بلغ من الكِبَر عتيًّا، ولما لامه بعض أصحابه على اشتغاله بهذا العلم الصغير، وهو شيخ كبير، قال له: شهدت مجلس قوم كانوا يتحاورون في هذا العلم، ولم أكن على معرفة به، وكان نصيبي بينهم السكوت، فأخذتني ذلة. فمن درس علمًا فأتقنه، ثم بسط نظره في علوم أخرى، كان أعظم همة ممن درس علمًا، ثم قعد لا يلقي لغيره من العلوم بالًا، ولا يعرف لثمرها اللذيذ طعمًا. كان لطلاب العلم في الشرق حرص على أن يستكثروا من العلم، ويضعوا أيديهم في فنون شتى، وما كانت رغبة الواحد منهم في الاطلاع على العلوم والفنون بعائقة له عن أن يرسل نظره في بعضها حتى يرسخ فيها فهمًا، ويأخذ بأطرافه علمًا، ويرقى إلى المنزلة التي تُسمَّى: (تخصصًا). فشيخ الإسلام ابن تيمية كان طودًا راسخًا في علوم الشريعة، وأضاف إلى رسوخه في هذه العلوم أن بلغ في علوم اللغة مرتبة تخوله أن يخطِّئ سيبويه في نحو أربع عشرة مسألة في علم النحو. وهذا حجة الإسلام الغزالي كان متضلعًا من علوم الشريعة ووسائلها، وجمع إلى تضلعه في هذه العلوم أن كان يهاجم الفلاسفة في كثير من آرائهم، ويناقشها بمنطق وروية. وهذا القاضي عبد الوهاب بن نصر كان فقيهًا نحريرًا، وأديبًا فائقًا، وهو الذي يقول فيه أبو العلاء المعري: والمالكي ابن نصر زار في سفر بلادنا فحمِدنا النَّأْيَ والسفرا إذا تفقه أحيا مالكًا جدلًا وينشر المَلِك الضِّلِّيلَ إن شعرا فعِظَم الهمة يدعو طلاب علوم الشريعة الإسلامية أن يمدوا أنظارهم إلى هذه العلوم الحديثة؛ ليكونوا منها على بصيرة، وليزدادوا بها بينة على بيناتهم المفحمة لهذه الفئة، التي تزعم أن بين الدين والعلم خلافًا، وأن من العلم ما لا يستقر مع حقائق الدين في نفس واحدة. ومن عظم همة القائم على بعض هذه العلوم الحديثة: أن يأخذ نفسه بالاطلاع على حقائق الإسلام وآدابه؛ ليحرز بها الكمال والسعادة، وليتعالى عن أن يمشي وراء نفر يجتمعون على أن يحاربوا ما في هذا الدين القيم من حكمة وفضيلة. تتفاوت الهمم في العلم الواحد من ناحية الاطلاع على مسائله، ثم من ناحية التصرف في هذه المسائل بتحقيق النظر، وإجادة البحث. فطالب العلم الذي لا يدع بابًا من أبوابه إلا ولجه، ولا يغادر بحثًا من مباحثه المهمة إلا ألمَّ به، يكون أعظم همة ممن لا يطرق منه كل باب، أو لم يعرج فيه على كل مسألة قيمة. وطالب العلم الذي يخوضه بنظر حر، ويتناول مباحثه بنقد وبصيرة، يكون أعظم همة ممن يجمع مسائله حفظًا، ويتلقَّاها كما يتلقَّاها (حاكي الصدى)، لا يكلفك غير إملائها عليه. وطالب العلم الذي يتحرَّى لُبابه، ويجول في أصوله، يكون أعظم همة ممن يقضي الزمن في قشوره، ويحبس النظر في دائرة ضيقة من فروعه. وكذلك ترى الأستاذ النحرير يبخل بأوقاته النفيسة عن أن ينفقها في مناقشات واهية، وإنما يندفع إلى الخوض في حقائق العلم، والغوص على أسراره، وإذا توجهت إلى نقد عبارة مؤلف، فإنما يمس الخلل الذي يشوه صورة المسألة التي هي موضع البحث. هذا والأمل معقود على أن هذه المعاهد والمدارس، تنبت لنا رجالًا تعظم هممهم، فيجمعون من العلوم ما يجعل الشرق بحرًا زاخرًا، ويسيرون في كلِّ علم سيرة الباحث الذي يفتح فيه طرقًا قيمة، ويجعل نتائجه في تجدد ونماء. عِظَم الهمة في النصح والإرشاد: في سبيل الدفاع عن الحق، أو الدعوة إلى الإصلاح عقبة لا يقتحمها إلا ذوو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوسًا طاغية، وأحلامًا طائشة، وألسنة مقذعة، وربما كانت فيهم أيد باطشة، وأرجل في غير الخير ساعية. فأنصار الحقيقة ينصبون أنفسهم أمام هذه الشرور كلِّها، وإنما تعظم هممهم على قدر ما يتوقعونه من فقد محبوب، أو لقاء مكروه، فالذي ينكر على الحاكم خرقًا في السياسة، أو حيفًا في القضاء، يكون أعظم همة ممن لا يحمي الحقيقة إلا إذا عبثت بها أيدي الضعفاء، والذين لا يجدون ما ينفقون. يتمثل لكم عِظَم الهمة في منذر بن سعيد قاضي قرطبة، حين قام في خطبة الجمعة ينكر على الخليفة عبد الرحمن الناصر إسرافه في الإنفاق على تشييد المباني وزخرفتها، وأخذ يلقي الخطبة في كلام جزل افتتحه بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128، 129]، وسلك ذلك الكلام الجزل، وهو على علم بأن الخليفة حاضر مستمع إليه، ولكن الخليفة انصرف بعد أن قُضيت الصلاة، ولم يزد على أن صار يصلي في جامع لا يخطب فيه منذر بن سعيد. يشهد العالمان الرجل من ذوي الشأن يعمل عملًا غير صالح، وأعظمهما همة هو الذي يسبق إلى إنكار عمله، وتذكيره بسوء عاقبت

محاورة دينية اجتماعية (1/ 2)

محاورة دينية اجتماعية (1/ 2) عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376هـ) نشر عام 1367هـ هذه صورة محاورة بين رجلين كانا متصاحبين رفيقين مسلمين يدينان الدين الحق، ويشتغلان في طلب العلم جميعاً، فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة، ثم التقيا، فإذا هذا الغائب قد تغيَّرت أحواله، وتبدَّلت أخلاقه، فسأله صاحبه عن ذلك، فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين، ورفض ما جاء به المرسلون، فحاوله [لعلها فحاوره] صاحبه وقلبه، لعله يرجع عن هذا الانقلاب الغريب، فأعيته الحيلة في ذلك، وعرف أن ذلك علة عظيمة، ومرض يفتقر إلى استئصال الداء، ومعالجته بأنفع الدواء، وعرف أن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حوَّلته، والطرق التي أوصلته إلى هذه الحالة المخيفة، وإلى فحصها وتمحيصها وتخليصها وتوضيحها ومقابلتها بما يضادها ويقمعها، على وجه الحكمة والسداد. فقال لصاحبه مستكشفاً له عن الحامل له على ذلك: يا أخي ما هذه الأسباب التي حملتك على ما أرى؟ وما الذي دعاك إلى نبذ ما كنت عليه؟ فإن كان خيرا ًكنت أنا وأنت شريكين، وإن كان غير ذلك فأعرف من عقلك ودينك وأدبك أنني وأنك لا نرضى أن تقيم على ما يضرُّك. فأجابه صاحبه قائلاً: لا أكتمك أني قد رأيت المسلمين على حالة لا يرضاها ذوو الهمم العلية؛ رأيتهم في جهل وذلٍّ وخمول، وأمورهم مُدْبرة، وأحوالهم سيئة، وأخلاقهم منحلة، وقد فقدوا روح الدين والدنيا جميعاً، ورأيت في الجانب الآخر هؤلاء الأجانب قد ترقَّوْا في هذه الحياة، وتفننوا في الفنون الراقية والمخترعات العجيبة المدهشة والصناعات المتفوقة، فرأيتهم قد دانت لهم الأمم، وخضعت لهم الرقاب، وصاروا يتحكمون في الأمم الضعيفة بما شاؤوا، ويعدونهم كالعبيد والأجراء، فرأيت فيهم العزَّ الذي بهرني، والتفنن الذي أدهشني، فقلت في نفسي: لولا أن هؤلاء القوم هم القوم، وأنهم على الحق، والمسلمون على الباطل لما كانوا على هذا الوصف الذي ذكرت لك، فرأيت أن سلوكي سبيلهم واقتدائي بهم خير لي وأحسن عاقبة، فهذا الذي صيَّرني إلى ما رأيت. فقال له صاحبه حين أبدى ما كان خافياً: إذا كان هذا هو السبب الذي حولك إلى ما أرى، فهذا ليس من الأسباب التي يبنى عليها أولو الألباب والعقول عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ومستقبل أمرهم، فاسمع يا صديقي تمحيص هذا الأمر الذي غرك وحقيقته: إن تأخر المسلمين فيما ذكرت ليس ناشئاً عن دينهم، فإنه قد علم كل من له أدنى نظر وبصيرة أن دين الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح في أمور الدين وفي أمور الدنيا، ويحث على الاستعداد؛ من تعلم العلوم والفنون النافعة، ويدعو إلى تقوية القوة المعنوية والمادية لمقاومة الأعداء، والسلامة من شرهم وأضرارهم، ولم يستفد أحد منفعة دنيوية - فضلاً عن المنافع الدينية - إلا من هذا الدين، وهذه تعاليمه وإرشاداته قائمة لدينا تنادي أهلها: هلمَّ إلى الاشتغال بجميع الأسباب النافعة التي تعليكم وترقيكم في دينكم ودنياكم. أفبتفريط المسلمين تحتجُّ على الدين؟! إن هذا لهو الظلم المبين! أليس من قصور النظر، ومن الهوى والتعصب، النظر في أحوال المسلمين في هذه الأوقات التي تدهورت فيها علومهم وأعمالهم وأخلاقهم، وفقدوا فيها جميع مقومات دينهم، وترك النظر إليهم في زهرة الإسلام والدين في الصدر الأول، حيث كانوا قائمين بالدين، مستقيمين على الدين، سالكين كل طريق يدعو إليه الدين، فارتقت أخلاقهم وأعمالهم حتى بلغت مبلغاً ما وصل إليه ولن يصل إليه أحد من الأولين والآخرين، ودانت لهم الدنيا من مشارقها إلى مغاربها، وخضعت لهم أقوى الأمم، وذلك بالدين الحق والعدل والحكمة والرحمة، وبالأوصاف الجميلة التي كانوا عليها؟! أليس ضعف المسلمين في هذه الأوقات يوجب لأهل البصائر والنجدة منهم أن يكون جدهم ونشاطهم وجهادهم الأكبر متضاعفاً، ويقوموا بكل ما في وسعهم؛ لينالوا المقامات الشامخة، ولينجوا من الهوة العميقة التي وقعوا فيها؟! أليس هذا من أفرض الفرائض وألزم اللازمات في هذا الحال؟ فالجهاد في حال قوة المسلمين, وكثرة المشاركين فيه، له فضل عظيم يفوق سائر العبادات، فكيف إذا كانوا على هذه الحالة التي وصفت؟ فإن الجهاد لا يمكن التعبير عن فضائله وثمراته، ففي هذه الحال يكون الجهاد على قسمين: أحدهما: السعي في تقويم المسلمين، وإيقاظ هممهم، وبعث عزائمهم، وتعليمهم العلوم النافعة، وتهذيبهم بالأخلاق الراقية، وهذا أشق الأمرين، وهو أنفعهما وأفضلهما. والثاني: السعي في مقاومة الأعداء، وإعداد جميع العدد القولية والفعلية والسياسية؛ الداخلية والخارجية؛ لمناوءتهم، والسلامة من شرهم! أفحين صار الأمر على هذا الوصف الذي ذكرت، وصار الموقف حرجاً، تتخلَّى عن إخوانك المسلمين، وتتخلف مع الجبناء والمخالفين؟ فكيف مع ذلك تنضمُّ إلى حزب المحاربين! .. الله الله يا أخي لا تكن أقل ممن قيل فيهم: {تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ} [آل عمران: 167]. قاتلوا لأجل دينكم، أو ادفعوا لأجل قومكم ووطنكم، لا تكن مثل هؤلاء المنافقين، فأعيذك يا أخي من هذه الحال التي لا يرضاها أهل الديانات، ولا أهل النجدات والمروءات، فهل ترضى أن تشارك قومك في حال عزِّهم وقوة عددهم وعنصرهم، وتفارقهم في حال ذلِّهم ومصائبهم، وتخذلهم في وقت اشتدت فيه الضرورة إلى نصرة الأولياء، وردِّ عدوان الأعداء؟ فهل رأيت قوماً خيراً من قومك، أو شاهدت ديناً أفضل من دينك؟ فقال المنصوح: الأمر هو ما ذكرت لك، ونفسي تتوق إلى أولئك الأقوام الذين أتقنوا الفنون والصناعات، وترقوا في هذه الحياة. فقال له صاحبه وهو يحاوره: رفضت ديناً قيماً كامل القواعد، ثابت الأركان، مشرق البرهان، يدعو إلى كل خير، ويحث على السعادة والفلاح، ويقول لأهله: هلمَّ إلى كلِّ صلاح وإصلاح، وإلى كلِّ خير ونجاح، واسلكوا كلَّ طريق يوصلكم إلى السعادة الدنيوية والأخروية. دين مبني على الحضارة الراقية الصحيحة التي بنيت على العدل والتوحيد، وأُسِّست على الرحمة والحكمة والعلم والشفقة وأداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وسلمت من الظلم والجشع والأخلاق السافلة، وشملت بظلِّها الظليل وإحسانها الطويل وخيرها الشامل وبهائها الكامل ما بين المشارق والمغارب، وأقرَّ بذلك الموافق والمنصف المخالف، أتتركها راغباً في حضارات ومدنيات مبنية على الكفر والإلحاد، مؤسسة على الطمع والجشع والقسوة وظلم العباد، فاقدة لروح الإيمان ورحمته، عادمة لنور العلم وحكمته؟ حضارة ظاهرها مزخرف مزوَّق، وباطنها خراب، وتظنها تعمر الموجود، وهي في الحقيقة مآلها الهلاك والتدمير، ألم تر آثارها في هذه الأوقات، وما احتوت عليه من الآفات والويلات، وما جلبته للخلائق من الهلاك والفناء والتدمير؟ فهل سمع الخلق منذ أوجدهم الله لهذه المجازر البشرية التي انتهى إليها شوط هذه الحضارة نظيراً أو مثيلاً؟ فهل أغنت عنهم مدنيتهم وحضارتهم من عذاب الله لما جاء أمر ربك، وما زادتهم غير تتبيب؟ فلا يخدعنك ما ترى من المناظر المزخرفة، والأقوال المموهة، والدعاوى الطويلة العريضة؛ وانظر إلى بواطن الأمور وحقائقها، ولا تغرنك ظواهرها، وتأمل النتائج الوخيمة، والثمرات الذميمة، فهل أسعدتهم هذه الحضارة في دنياهم التي لا حياة لهم يرجون غيرها؟ أما تراهم يتنقلون من شرٍّ إلى شرور؟! ولا يسكنون في وقت إلا وهم يتحفزون إلى شرور فظيعة ومجازر عظيمة؟ فالقوة والمدنية والحضارة والمادة بأنواعها إذا خلت من الدين الحقِّ فهذه طبيعتها، وهذه ثمراتها وويلاتها، ليس لها أصول وقواعد نافعة، ولا لها غايات صالحة. ثم هب أنهم متعوا في حياتهم واستدرجوا فيها بالعز والرئاسة ومظاهر القوة والحياة، فهل إذا انحزت إليهم وواليتهم يشركونك في حياتهم، ويجعلونك كأبناء قومهم؟ كلا والله، إنهم إذا رضوا عنك جعلوك من أرذل خدامهم، وآية ذلك أنك في ليلك ونهارك تكدح في خدمتهم، وتتكلم وتجادل وتخاصم على حسابهم، ولم ترهم رفعوك حتى ساووا معك أدنى قومهم وبني جنسهم!! فالله الله يا أخي في دينك وفي مروءتك وأخلاقك وأدبك!! والله الله في بقية رمقك!! فالانضمام إلى هؤلاء والله، هو الهلاك. فقال له المنصوح: لقد صدقت فيما قلت، ولكن لي على هذا المذهب أصحاب مثقفون. ولي على هذا الرأي شبيبة مهذبون، قد تعاقدت معهم على التمسك بالإلحاد، واحتقار المستمسكين بدين رب العباد، قد أخذنا نصيباً وافراً من اللذات، واستبحنا ما تدعو إليه النفوس من أصناف الشهوات، فأنَّى لي بمقاطعة هؤلاء السادة الغرر؟ وكيف لي بمباينتهم وقد اتصلت بهم غاية الاتصال؟! فالآن يتنازعني داعيان: داعي الحق بعد ما بان سبيله واتضح دليله، وداعي النفس والاتصال بهؤلاء الأصحاب المنافي للحق غاية المنافاة، فكيف الطريق الذي يريحني ويشفيني، وما الذي عن هذا الأمر يسليني؟ فقال له صاحبه الناصح: ألم تعلم أن من أوجب الواجبات وأكبر فضائل الرجل اللبيب أن يتبع الحق الذي تبين له، ويدع ما هو فيه من الباطل، وخصوصاً عند المنازعات النفسية، والأغراض الدنيوية؛ وأن الموفَّق إذا وقع في المهالك طلب الوسيلة إلى تحصيل الأسباب المنجية؟ أما علمت أن من نعمة الله على العبد أن يقيض له الناصحين الذين يرشدونه إلى الخير، ويأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر، ويسعون في سعادته وفلاحه؟ ثم من تمام هذه النعمة أن يُوفَّق لطاعتهم، ولا يتشبه بمن قال الله فيهم: {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]. ثم اعلم أنه ربما كان الإنسان إذا ذاق مذهب المنحرفين، وشاهد ما فيه من الغي والضلال، ثم تراجع إلى الحق الذي هو حبيب القلوب، كان أعظم لوقعه وأكبر لنفعه! فارجع إلى الحق صادقاً، وثق بوعد الله {إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]. فقال المنصوح: لا يخفى عليك يا أخي أن الباطل إذا دخل في القلوب وتمكن منه لا يخرج بسهولة، فأريد أن توضح لي توضيحاً تامًّا بطلان ما عليه هؤلاء الملحدون، فإنهم يقيمون الشبه المتنوعة في ترويج قولهم؛ ليغتر به من لا بصيرة له. فقال له الناصح: اعلم أن الحق والباطل متقابلان، وأن الخير والشر متنافيان، وبمعرفة واحد من الضدين يظهر حسن الآخر أو قبحه، فأنبئك على وجه الإجمال والتنبيه اللطيف: إذا أردت أن تقابل بين الأشياء المتباينات فانظر إلى أساسها الذي أُسِّست عليه، وإلى قواعدها التي أنبتت عليها، وانظر إلى آثارها ونتائجها وثمراتها المتفرعة عنها، وانظر إلى أدلتها وبراهينها التي بها ثبتت، وانظر إلى ما تحتوي وتشتمل عليه من الصلاح والمنافع ومن المفاسد والمضار، فعند ذلك إذا نظرت لهذه الأمور بفهم صحيح وعقل رجيح، ظهر لك الأمر عياناً. فإذا عرفت هذه الأصول؛ فهذا الدين الحقُّ الذي دعت إليه الرسل عموماً، وخاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً، قد بُني وأُسِّس على التوحيد والتألُّه لله وحده لا شريك له، حبًّا، وخوفاً، ورجاء، وإخلاصاً، وانقياداً، وإذعاناً لربوبيته، واستسلاماً لعبوديته، قد دلَّ على هذا الأصل الذي هو أكبر جميع أصول الأدلة العقلية والفطرية، ودلَّت عليه جميع الكتب السماوية، وقرَّره جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من أهل العلوم الراسخة، والألباب ال

محاورة دينية اجتماعية (2/ 2)

محاورة دينية اجتماعية (2/ 2) عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376هـ) نشر عام 1367هـ [قال المنصوح] .. أريد أن تدلني على طريق يجمع بين السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، لأن نفوس من تربَّى وتخلَّق بأخلاق هؤلاء لا ترجع عما ألفته إلا بأمر قوي؛ إما بترغيب وهوى يجذبها، وإما بترهيب وخوف يقمعها. فقال له صاحبه الناصح: والله لقد أدركت في هذا الدين مطلوبك، وفيه والله كل مرادك ومرغوبك، فإنه الدين الذي جمع بين سعادة الدنيا والآخرة، وفيه اللذات القلبية والروحية والجسدية، ولا تفقد من مطالب النفوس الحقيقية شيئاً إلا أدركته؛ ولا من أنواع المسرات شيئاً إلا حصلته، ففيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وسأوضح لك ذلك؛ فاعلم أن أصول اللذات المطلوبة: أولاً: راحة القلوب وسكونها وطمأنينتها وفرحها وبهجتها وزوال همومها وغمومها. ثانياً: القناعة والطمأنينة بما أُوتيه العبد من المطالب الجسدية. ثالثاً: استعمال ذلك على وجه يحصل به السرور والاغتباط. فهذه الأمور الثلاثة من رُزِقها واستعملها على وجهها فقد نال كل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأدرك كلَّ ما تعلَّق به طمع الطامعين، فإن جميع اللذات ترجع إلى ما ذكرنا. فأما لذات القلوب وحصول سرورها وزوال كدرها؛ فإنما أصل ذلك بالإيمان التام بما دعا الله عباده إلى الإيمان به من الإيمان بتوحده بجميع نعوت الكمال، وامتلاء القلب من تعظيمه وإجلاله، ومن التأله له وعبوديته والإنابة إليه، وإخلاص العمل الظاهر والباطن لوجهه الأعلى، وما يتبع ذلك من النصح لعباد الله ومحبة الخير لهم، وبذل المقدور من نفعهم والإحسان إليهم، والإكثار من ذكر الله والاستغفار والتوبة، فمن أوتي هذه الأمور فقد حصل لقلبه من الهداية والرحمة والنور والسرور وزوال الأكدار والهموم والغموم ما هو نموذج من نعيم الآخرة. وأهل هذا الشأن لا يغبطون أرباب الدنيا والملوك على لذاتهم ورئاساتهم، بل يرون ما أعطوه من هذه الأمور يفوق ما أعطيه هؤلاء بأضعاف مضاعفة. وهذا النعيم القلبي لا يعرفه حق المعرفة إلا من ذاقه وجرَّبه فإنه كما قيل: من ذاق طعم نعيم القوم يدريه ومن دراه غدا بالروح يشريه فهذا إشارة لطريق هذا النعيم القلبي الذي هو أصل كل نعيم. وأما الأمر الثاني؛ فإن الله أعطى العباد القوة والصحة، وما يتبع ذلك من مال وأهل وولد وخول [أي: حَشَمُ الرجُل وأتباعه] وغيرها. والناس بالنسبة لهذه الأشياء نوعان؛ قسم صارت هذه النعم وتلقوها على وجه الشكر لله، والاغتباط بفضله، وتناولوها على وجه الاستعانة بها على طاعة المنعم، وعلموا أنها من أكبر الوسائل لهم إلى رضى ربهم وخيره وثوابه إذا استعملوها فيما هُيِّئت له وخُلِقت له، وقد رضوا بها عن الله كلَّ الرضى، فإنهم علموا أنها من عند الله الذي له الحكمة التامة في جميع أقضيته وأقداره، وله الرحمة الواسعة في جميع تدابيره، وله النعمة السابغة في كل عطاياه، وهو أرحم بهم من الخلق أجمعين، فحيث علموا العلم اليقيني صدورها ممن هذا شأنه قنعوا بما أعطوه منها؛ من قليل وكثير كلَّ القناعة، وسكنت قلوبهم عن التطلع والتطلب لما لم يقدر لهم. ومتى حصلت الطمأنينة والقناعة والرضى عن الله بما أعطى فقد حصلت الحياة الطيبة، فإذا أدركت حق الإدراك نعتهم هذا عرفت أن نعيم الدنيا في الحقيقة هو نعيم القناعة برزق الله، وطمأنينة القلوب بذكر الله وطاعته. إن الواحد من هؤلاء لو لم يكن عنده من هذه الأمور؛ وهي القوة والصحة، والمال والأهل والولد، وتوابع ذلك، إلا الشيء القليل، لكان في راحة وسرور من جهتين: جهة القناعة، وعدم تطلع النفس وتشوفها للأمور التي لم تحصل، وجهة ما ترجوه من ثواب الله العاجل والآجل على هذه العبادة القلبية التي تزيد على كثير من العبادات البدنية. فإن التعبد لله بمعرفة نعمه، والاعتراف بها، والرضى بها، والرجاء لله أن يديمها ويتمها، وأن يجعلها وسيلة إلى نعم أخرى، وأن يجعلها طريقاً للسعادة الأبدية، لا ريب أن هذه الأحوال القلبية من أفضل الطاعات وأجلِّ القربات. فكم بين سرور هذا الذي تعبَّد بروح الدين وحصلت له الحياة الطيبة، وبين من تلقَّى هذه النعم بالغفلة وعدم الاعتراف بنعمة المنعم، وشقى بهمومها وغمومها، وكان إذا حصل له شيء من مطالب النفوس لم يرض به، بل تشوَّف إلى غيره، وتطلَّع لسواه، فهذا يتنقل من كدر إلى كدر آخر؛ لأن قلبه قد تعلَّق تعلقاً شديداً بمطالب الجسد، فحيث جاءت على خلاف ما يؤمِّله ويريده، قلق أشد القلق، وهو لا يزال في قلق مستمر؛ لأن المطالب النفسية متنوعة جدًّا، فلو وافقه واحد لم يوافقه الآخر، ولو أرضاه واحد كدَّره الآخر، وربما اجتمع في الشيء الواحد سرور من وجه، وحزن من وجه آخر، فصفوه ممزوج بكدره، وسروره مختلط بحزنه، فأين الحياة الطيبة لهذا؟! وإنما الحياة الطيبة لأرباب البصائر والحجى الذين يتلقَّونها كلها بالقبول والقناعة والرضى. وأما الأمر الثالث، وهو جهة استعمال هذه النعم؛ فصاحب الدين الصحيح يتناولها على وجه الشكر لله على نعمه، والفرح بفضله، وينوي بها التقوي على ما خُلِق له من عبادة الله وطاعته، وينفقها محتسباً بها رضى الله وفضله وخلفه العاجل والآجل. ويعلم أنه إذا أنفق على نفسه وأهله أو ولده أو من يتصل به، فإنما نفقته صادفت محلها، ووقعت موقعها، فلم يتثاقل كثرة النفقة في هذا الطريق؛ لأنه يقول معتقداً: هذا أولى ما بذلت فيه مالي، وهذا ألزم ما قمت به من الواجبات والفروض، وهذا خير ما قمت به من المستحبات، وهذا أعظم ما أرجو له الخلف من الله، حيث يقول وهو الكريم الوفي: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. ولا يزال نصب عينيه احتساب الأجر في سعيه بكسبه وفي مصرفه أجناس ذلك وأنواعه وأفراده، متفطناً لقوله: (على أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك). فمن كان هذا وصفه فإن لذاته الدنيوية هي اللذات الحقيقية السالمة من الأكدار مهما يرجو من الثواب العاجل والآجل من الله، ومن كانت هذه صفته سهل عليه الأخذ من حلها، ووضعها في محلها، ويسرت له أموره غاية التيسير. وأما من استعمل هذه النعم على وجه الشره والغفلة ولم يفكر في الاعتراف بفضل الله في كل الأوقات وبنعم الله، ولم يفرح بالنعم؛ لأنها من فضل الله، بل فرح بها فقط لموافقة غرضه النفسي، ولا نوى بها الاستعانة على طاعة الله، ولا احتسب في نيلها وصرفها على المنفَق عليهم الأجر والثواب، فمن كان هذا وصفه، فإن الكدر والحزن له بالمرصاد؛ فإنه إذا فاتته بعض الشهوات النفسية حزن، وإن أدرك ما أدركه منها، ولم يكن على ما في خاطره من كل وجه حزن، وإن أراد منه ولده ومن يتصل به نفقة أو كسوة واجبة أو مستحبة حزن، ولم تخرج منه إلا بشق الأنفس، وإن خرجت منه خرج معها بضعة من سرور قلبه؛ لأنه يحب بقاء ماله ويحزن لنقصه على أي وجه كان، وليس عنده من الاحتساب ما يهون عليه الأمر، هذا إن كان غير بخيل، فإن كان شحيح النفس مطبوعاً على البخل، فإن حياته مع أولاده وأهله والمتصلين به حياة شقاء وعذاب وأكدار متواصلة وأحزان مستمرة، لا إيمان عنده يهون عليه النفقات، ولا نفس سخية لا تستعصي عن نيل المكرمات، فيا له من عذاب حاضر وعذاب مستمر! فأين هذا من ذاك الذي حصلت له الحياة الطيبة بأكملها؟! هذا كله بالنظر إلى هذه الأمور الثلاثة التي هي أصل اللذات عند العقلاء، قد اتضح لنا أن صاحب الإيمان الصحيح هو الذي فاز باللذات الحقيقية، وسلم من المكدرات. ثم إذا عطفنا النظر إلى الطوارئ البشرية التي لابد لكل عبد منها؛ وهي المصيبات التي تعتري العباد من الأمراض المتنوعة، وموت الأحبة، وفقد الأموال ونقصها، ووقوع المكاره بمن تحب وزوال المحاب، وغيرها من أنواع المصائب؛ دقيقها وجليلها، رأيت المؤمن حقًّا قد تلقَّاها بقوة وصبر واحتساب، وقد قام لها بارتقاب الأجر والثواب، وعلم أنها تقدير العزيز العليم، وأنها أقضيته صدرت من الرب الرحيم؛ فهان عليه أمرها وخفت عليه وطأتها، فإنه إذا فكر فيما فيها من الآلام الشاقة قابلها بما تتضمنه من تكفير السيئات، وتكثير الحسنات، ورفعة الدرجات، والتخلق بأخلاق الكرام والقوة والشجاعة، وإذا أنهكت بدنه وماله رآها مصلحة لقلبه وروحه. فإن صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه، والصبر على بلائه، وانتظار الفرج من الله إذا ألمت الملمات، واللجوء إلى الله عند جميع المزعجات والمقلقات، فأقل الأحوال عند هذا المؤمن أن تتقابل عنده المصائب والمحاب، والأفراح والأتراح، وقد تصل الحال بخواص المؤمنين إلى أن أفراحهم ومسراتهم عند المصيبات تزيد على ما يحصل فيها من الحزن والكدر الذي جبلت عليه النفوس، فأين هذه الحال من حال من تلقَّى المصيبات التي لابد للخلق منها بقلب منزعج مرعوب، وخشعت نفسه المهينة لما فيها من الشدائد والكروب، فبقيت الحسرات تنتاب قلبه وروحه، وزادت مصائب قلبه على مصائب بدنه، ليس عنده من الصبر وارتقاب الثواب ما يخفف عنه الأحزان، ولا من الإيمان ما يهون عنه الأشجان، تعتريه المصائب فلا تجد عنده ما يخففها، فتعمل عملها في قلبه وروحه وبدنه وأحواله كلها .. القلب مليء من الهم والغم والألم، والخوف السابق واللاحق قد ملأ نفسه فانحل لذلك لبه وانحطم، وقد ضعف توكله على الله غاية الضعف، حتى صار قلبه يتعلق بمن يرجو نفعه من المخلوقين، فيا لها من مصائب دنيوية اتصلت بالمصائب الدينية والخلقية، وتراكم بعضها فوق بعض حتى صار عنده أعظم من الجبال الرواسي. فوالله لو علم أهل البلاء والمصائب بما في الإيمان والروح والتسلية والحياة الطيبة لسارعوا إليه، ولو في هذه الحال التي هم فيها مضطرون إلى ما يخفف عنهم آلامها، ولا يجدونه إلا في الإيمان الصحيح الحقيقي وما يدعو إليه. ومما يتعلق به سرور الحياة ونعيمها، أو همها وغمها، معاشرة الخلق على اختلاف طبقاتهم، فمن عاشرهم بما يدعو إليه الدين استراح، ومن عاشرهم بحسب ما تدعو إليه الأغراض النفسية، فلابد أن يكون عيشه كدراً، وحياته منغصة. وتوضيح ذلك أن الناس ثلاثة أصناف؛ رئيس، ومرؤوس، ونظير. أما من له رياسة حكم، أو ثروة، وله أتباع وحاشية، فله معهم حالان؛ حالة فيما يفعله معهم، وحالة فيما يصيبه من أتباعه من خير وشر، وموافق للطبع ومخالف له، فإن هو حكم الدين والشرع في الحالتين استراح، وله أجر من الله؛ إذ استعمل العدل معهم، واستعمل النصح والإحسان، وقابل المسيء منهم بالعفو، وشكرهم على فعل المعروف والخير، مبتغياً بذلك وجه الله. وأيضاً فإنه إذا تأمل فيما فعله من خير اطمأنت نفسه، وانشرح صدره، فأين هذا من الرئيس الذي لا يبالي بظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولا يبالي بسلوك طرق العدل والإنصاف، وليس له صبر على أية أذية تصيبه من رعيته، فهو مع أتباعه في نكد مستمر، ورعيته قد مُلئت قلوبهم من مقته وبغضه، يتربصون به الدوائر والفرص، حتى إذا وقع في أقلِّ شيء أعانوا عليه أعدى أعدائهم، فهو معهم غير مطمئن على حياته ولا على نعمته، لا يدري متى تفجؤه البلايا، ليلاً أو نهاراً! .. هذه حالة الرئيس على وجه الإجمال .. وأما حالة المرؤوس؛ فإن أطاع الدين في وظيفته، وأطاع حاكمه أو سي

لماذا نحج؟

لماذا نحج؟ محب الدين الخطيب (1389هـ) نشر عام 1376هـ الحج تجريد للنفس من ماضيها المشوب بالإثم، ومن ثم فهو تجديد للحياة، وبقدر ما تصدق نية المسلم في ابتغاء هذا التجديد من الحج يكون حجه مبروراً، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). لقد يسر الله سبل الحج في هذا العصر، وتوطَّدت فيه دعائم الأمن بما لا عهد لحجاج المسلمين بمثله، إلا في صدر الإسلام وزمان التابعين لهم بإحسان، والمسلمون الآن في إقبال عظيم على إقامة هذه الشعيرة من شعائر الإسلام، حتى بلغ عدد الذين يقفون في عرفة ويطوفون بالكعبة بيت الله الحرام في هذه السنين رقماً قياسيًّا لا نظير له في التاريخ. ولكن بقي أمر آخر يجب أن يعرفه المسلمون جميعاً، ويجب أن يؤمن به الحجاج منه ويعملوا به، وهو أن العبادات كما أن لها أركاناً ومناسك لا تتمُّ إلا بأدائها، فإن لها كذلك حكمة عالية ومقاصد سامية، هي روحها وهي سببها الأول، وهي الغاية القصوى منها. فالصلاة وصفها الله عز وجل في سورة العنكبوت بأنها {تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. وأن تكبير الله في إحرامها، وفي أركانها يُصغِّر أمر الدنيا كلها في نفس المصلي، حتى يرى أنها لا تساوي بخزائنها وكنوزها ارتكاب جريمة تتغير بها هذه الصفة الإلهية للصلاة، فالمصلي الذي يعلم أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يستحي من الله، وهو يعلن عن عظمته بجملة: الله أكبر، أن يكون هو الذي ينقض صفة صلاته بما يستبيحه من بعض مخازي الفحشاء والمنكر، وأكثرها شيوعاً الكذب والغش والغيبة والنميمة. بل يستحي من ربه، وهو بين يديه يخاطبه، طالباً منه أن يهديه الصراط المستقيم، ثم لا يكاد ينفتل من صلاته حتى يخرج بشيء من أقواله أو أفعاله عن الصراط المستقيم! والحج هذه الشعيرة من شعائر الإسلام يقبل المسلمون على إقامتها والمسارعة إليها بشغف ونشاط وارتياح، ويدَّخرون لنفقاتها كرائم أموالهم، والحلال الطيب من نقودهم، فلماذا نقصِّر في إرشادهم إلى الحكمة الإلهية في الحج والمقاصد الإسلامية منه؟ لماذا لا نقول لهم إذا بلغوا أعلام الحرم وحدوده، وخلعوا عنهم المخيط من ملابس الحضارة، ليلتفوا بمئزر الفطرة من لباس الإحرام: إننا نخلع مع ثياب الحضارة ما أغرانا به الشيطان من آثامها وزلاتها، إننا اليوم أمام فرصة أنعم الله بها علينا لنتوب إليه توبة نصوحاً من كل ما اقترفنا قبل اليوم من إثم، وعلينا الآن أن نبرأ إليه من زلات الماضي، ونتطهر من أوضاره؛ لندخل في حياة جديدة، نعاهد الله على أن تكون حياة نظيفة، يرضاها لنا ويثيبنا عليها بسعادة الدنيا والآخرة؟ لماذا لا نقول لهم: إننا إذا هتفنا نناجي الله بكلمة (لبيك) لا معنى لذلك إلا أننا نعقد عقداً بيننا وبين الله على الاستجابة لكل ما هدانا إليه من مبادئ الإسلام العالية وهداياته السامية، واجتناب كل ما يدنِّس حجنا، ويسخط ربنا ما دمنا أحياء، إلى أن نلقاه مع أوليائه وصفوه عباده الصالحين؟ لماذا لا نقول لهم: إننا بتوجيه كلمة (لبيك) لله وحده عز وجل نعترف لربنا ولأنفسنا بأننا لا نطلب الخير والنفع إلا منه، ولا نشرك به أحداً غيره من نبي أو ملك أو ولي، فضلاً عن غيرهم، وأن كل ما سوى الله مخلوق له وكل مخلوقاته -على مراتبهم- محتاجون إليه، ملتمسون رحمته، ولا يكون منهم شيء إلا بإذنه؟ إن مشركي الجاهلية كانوا في حجهم يلبون كما نلبيه نحن في الإسلام، غير أنهم كانوا يستثنون فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فجاء الإسلام ليبطل هذه المثنوية وليوجه قلوب الناس إلى الله وحده. لماذا لا نقول لهم إذا جاءوا لرمي الجمرات في منى: إن هذه حرب يعلنها الإسلام على الشيطان وحزبه وتسويلاته، وإننا كلما خطر ببالنا بعد اليوم خاطر نعلم أنه يسخط الله يجب علينا أن نعلم أن هذا الخاطر من تسويل الشيطان، وأنه عدو لنا، وأننا آذناه بالحرب ونحن نرمي هذه الجمرات في الحج، ومن تمام الحج بعد الحج، وما دام الحاج على قيد الحياة، مواصلة مخالفة الشيطان، واعتباره العدوَّ الذي لا ينبغي للعاقل أن يغفل عن وساوسه وينقاد لتسويلاته. أهم شي في العبادات - ومنها أدعية الحج - أن نعقل معاني ألفاظها، ومن تعلَّم أن هذه المعاني تنعقد بها العهود بين المخلوق والخالق، وأن المخلوق ينبغي له عقد العزيمة على توخِّي ما يدعو الله به، وإلا فإنه لا يكون جادًّا بدعائه، ولا يكون دعاؤه مستجاباً، ولو أن كلَّ مسلم إذا قال لربه في صلاته: {اهدنا الصراط المستقيم}. تصور معاني هذه الكلمات، وتأمل في مدلولاتها، وعقد عزمه على توخي الصراط المستقيم في تصرفاته الشخصية، وفي معاملاته مع الناس، لكان المسلمون بهذه الكلمة وحدها أمة صدق واستقامة وخير، وكان ذلك منهم أبرع إعلان عن الإسلام في أمم الأرض، وأنه النظام الذي تبحث عنه الإنسانية ولا تزال تائهة عنه. أيها الواعظون في الحج، أوصلوا هذا الخير إلى نفوس إخوانكم الحجاج وقلوبهم، علِّموه لهم كما تعلمونهم مناسكهم. وإذا أفلح الحجاج - عاماً فعاماً - في الانخلاع من الماضي، والتطهر من أوضاره، ونَوَوْا صادقين أن يجدِّدوا عهدهم مع الله، وعلى تجديد حياتهم بما يرضيه، فإنهم سيعودون إن شاء الله إلى أوطانهم حاملين معهم نصيباً مباركاً من رسالة الإسلام، كما بعث الله بها حامل أكمل رسالاته، وأرجو أن نعمل بذلك من عامنا هذا؛ ليعود إلينا النور والهدى من بلاد النور والهدى، والله ولي العاملين.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (1343هـ - 1383هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط1: 1431هـ. (3/ 44) وهو جزء مقتبس من مقال نشر في مجلة الأزهر.

من ذكريات الحج

من ذكريات الحج علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) نشر عام 1955 ألا ترون العروق الشعرية كيف تحمل الدم من أطراف الجسم ثم تصبه في الأوردة الكبار، حتى يدور دورته في القلب مجتمعاً، وفي الرئة منتشراً، فيصفو بعد العكر، وينقى من الوضر، ويعود في الشرايين دماً أحمر جديداً، بعد أن كان في الأوردة دماً أسود فاسداً؟ كذلك الحج. يأتي المسلمون من آفاق الأرض الأربعة، أفراداً ثم ينتظمون جماعات، ثم يدورون حول الكعبة قلب الأرض المسلمة، ثم ينتشرون في عرفات رئة الجسم الإسلامي فتصفي نفوسهم من أكدار الشهوات، وتنقى أوضار الذنوب، ويعودون إلى بلادهم أطهاراً، قد استبدلوا بتلك النفوس نفوساً جديدة كأنها ما عرفت الإثم، ولا قاربت المعاصي. لذلك كان الحج أكبر أُمْنِية يتمناها لنفسه المسلم، ويتمناها له إخوانه وأصدقاؤه، فهم إذا دعوا له دعوة صالحة دعوا له بالحج. وإذا كان أقصى ما يتمناه من يُقدِّر العالِم، أو يُكْبِر الكاتب، أو يهوى الحبيب، أن يزور البيت الذي ولد فيه، والعشَّ الذي خرج منه، والمواطن التي شهدت طفولته وصباه، وكهولته وموته، ويطأ الأرض التي وطئ. وينشق الهواء الذي نشق، فكيف لا يتمنى المسلم أن يزور موطن الروح، ومهوى القلب؛ الأرض التي انبلج منها فجر الإسلام، وأشرقت منها شمسه، وعاش في ربوعها أعظم العظماء، وسيد الأنبياء، حبيب قلب كلِّ مسلم، ومن هو أعزُّ عليه وأحبُّ إليه مِن أُمِّه وأبيه وولده وأهله، ويدخل من باب السلام، ويبصر البيت الحرام، ويطوف بالكعبة والحطيم، ويرى زمزم والمقام. هنالك الفرحة الكبرى، التي لا تعدلها أفراح الدنيا، وهنالك اللقاء لا لقاء الحبيب بعد طول الهجران، وهنالك الموكب النوراني الذي يمرُّ مِن حول الكعبة، موكب الطائفين، من كلِّ جنس ولون، من بِيض وسُمر، وسُود وشُقْر، وشيوخ وفتيان، ورجال ونسوان، من كلِّ قطر من أقطار الأرض، ينادون بكلِّ لسان، يدعون ربًّا واحدًا يسألونه، وهو الكريم لا يرد سائلًا، ولا يضجره سؤال. إنكم لتعجبون إن رأيتم موكبًا يمشي ساعات لا يقف ولا ينقطع، أو أبصرتم جيشاً يلبث أيامًا، وهو يمر لا يتريث ولا ينفد، فاعجبوا، واعجبوا أشد العجب من موكب بدأ يمشي من خمسة آلاف سنة، من يوم بنى إبراهيم هذه البنية، ولا يزال يمشي إلى اليوم يطوف بهذه الغرفة القائمة في وادٍ غير ذي زرع من بطن مكة، المبنية بالحجارة السود، الخالية من الصقل والتهذيب والزخارف والنقوش، ومن نعم الله على الإسلام أنها بقيت كما هي، فلم تمتدَّ إليها اليد بمثل الفنِّ الذي أراقته العبقرية الإسلامية على الأُموي وقبة الصخرة والحمراء وتاج محل؛ لأن كلَّ بارع من الفن قد يوجد ما هو أبرع منه، أما الفطرة الساذجة التي شُيِّدت بها الكعبة فستظل أبداً نسيج وحدها، في العظمة والخلود. هذا الموكب الذي بدأ يمشي من خمسة آلاف سنة، ولا يزال يمشي إلى اليوم، وسيقف كلُّ جيش في الدنيا مهما بلغ من القوة والعديد، وكلُّ موكب بشري مهما حوى من الفخامة والعظم، ويظلُّ هذا الموكب يمشي، يمشي ما بقي الزمان ماشياً على طريق الأبد، يمشي في وقدة الشمس المتلظية في آب، ويمشي في قرة الشتاء في كانون، ويمشي في رأد الضحى، ويمشي في هدأة السحر، يمشي في الليل وفي النهار، يمشي في هناءة السلم، وفي غمرة الحرب، يمشي رغم النكبات والمصاعب والأهوال. لم توقف سيره جيوش الصليبيين لما رمتنا بها أوربة، فجاءت كالسيل المنهمر، ولكنه سيل من نار مدمرة، وهلاك مبيد، ولا القرامطة لما ثاروا ثورة البركان يرمي بالحمم، وعاثوا في الأرض فسادًا وتدميرًا، وأدخلوا الموت إلى الحرم الآمن، ولطخوا بدم الطائفين أرض المطاف، ولا المغول لما هبوا كما تهب الريح الصرصر العاتية، تدمر كلَّ شيء، لا وليس في الوجود قوة بشرية تستطيع أن تقف موكب الخلود الذي يطوف أبداً حول الكعبة البيت الحرام. إنه ليس الخبر كالعيان، وأنا مهما أوتيت من البيان لا أستطيع أن أصف لكم ما يحسُّ به الحاج عندما يقف على باب الحرم، ويرى الكعبة لأول مرة، فقولوا: آمين! أسأل الله أن يكتب لمن يريد منكم ألا يموت حتى تكتحل عينه برؤية هذا المشهد، مشهد الكعبة، الكعبة التي تتوجهون إليها من الشام ومصر والمغرب والمشرق، وكلِّ بلد على ظهر الأرض تتخيلونها بقلوبكم من وراء الجبال والصحارى والآكام البعاد، وكلما اقتربتم منها مرحلة شعرتم بازدياد الشوق، وغلبة الجهد. تحسون كأنكم تدنون من الحبيب ودونه الحجب والأستار، فلا تزال ترفع لكم حجابًا بعد حجاب وسترًا بعد ستر، حتى تروا طلعة الحبيب، وأين طلعته من طلعة الكعبة، قبلة الإسلام، ومهوى القلوب. ها هي ذي الكعبة يا ناس، وهذا الحطيم وزمزم والمقام، لقد صحت الرؤى وتحققت الأحلام، وهؤلاء المسلمون صفوفًا حولها، وراءها صفوف، صفوف تمتدُّ إلى خارج الحرم إلى وراء الحجاز، إلى الدنيا كلِّها، فهذه مركز الدائرة وهذه سرة الأرض، وهنا يلتقي المكان كله، فالمشرق هنا والمغرب، والنائي من الأرض والداني، وهنا الشام ومصر والعراق والمغرب وفارس والمشرق والهند هنا، وجاوة والأرض المسلمة كلها، وقد جاء أبناؤها من كلِّ مكان، كما تصبُّ الجداول في النهر الأعظم تدور معه حتى تستقر معه في حضن البحر الرحيب، يطوفون بالكعبة ثم يمضون إلى حضن عرفات. فلا ترى إلا بحرًا يموج بالسفائن البيض، بالخيام التي تبسم طهرًا لعين الشمس. قلت لكم إنه ليس الوصف كالعيان، ولا يستطيع قلم ولا لسان أن يصف لكم هاتيك العواطف السماوية، التي تملأ قلب المسلم إنه يطوف بالكعبة، فيخرج من حاضره، وينسى دنياه، ويرى أمامه هذا الموكب الطويل يمتدُّ خلال الزمان، فيبصر الخلفاء تمشي معه، والصالحين والعباد والأئمة، ويرى أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، ويبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يمشي على أثره، يدور من حيث دار، ويضع شفتيه موضع شفتي محمد الحبيب على الحجر الأسود. صدقوني إن كلَّ لذات الدنيا، بطعامها وشرابها ولباسها ومتع شهواتها ومناعم أموالها، لا تبلغ ذرة من اللذة الروحية التي يشعر بها الحاج وهو يلثم الحجر الأسود، الذي لثمه محمد، ومن قبله أبو الأنبياء إبراهيم، صلى الله عليهم جميعًا. فقولوا آمين، أسأل الله أن لا يحرمكم هذه النعمة. وعرفات، إنها لن ترى عين البشر مشهدًا آخر مثله، هيهات ما في الدنيا ثان لهذا المشهد العظيم، ولقد يجتمع في المعارض والألعاب الأولمبية واحتفالات التتويج في بلاد الغرب حشود من الناس وحشود، ولكن شتان ما بين الفريقين، أولئك جاؤوا للمتعة والفرجة والتجارة، وحملوا معهم دنياهم، وقصدوا بلدًا زاخرًا بأسباب اللذة والتسلية، وهؤلاء خلَّوْا دنياهم وراء ظهورهم، ونزعوها عن أجسادهم ومن قلوبهم مشهد لو كان يجوز أن يشهده غير مسلم لاقترحت أن تجعله هيئة الأمم المتحدة عيدها الأكبر، إذ هنا أُعلنت حقوق الإنسان، لا كما أُعلنت في الثورة الفرنسية، ولا كميثاق الأطلنطي الذي كُتب على الماء، أُعلنت قبل ذلك بأكثر من ألف سنة، وطبقت حقيقة، يوم قام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأعلن الحرية والمساواة وحرمة الدماء والمساكن ووصى بالنساء، وقرَّر لهن من ذلك اليوم الاستقلال الشخصي والمالي، مع أنَّ أكثر قوانين الأرض المدنية لا تقرُّ للمتزوجة في أموالها هذا الحق، وكان هذا المشهد في كلِّ سنة دليلًا قائمًا يملأ عيون البشر وأسماعهم على أن ما قرَّره محمد قد طُبِّق أكمل التطبيق. مشهد يهدم الفروق كلَّها، فروق الطبقات وفروق الألوان، وفروق الأجناس، الناس كلهم إخوة، لا ميزة لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح، وإذا كان اللباس الرسمي في الحفلات والمواقف الرسمية ما تعرفون، فاللباس الرسمي هنا قطعتان من قماش فقط، لا خياطة ولا أناقة ولا زخرف، ولا يفترق في هذا المقام أكبر ملك عن أصغر شحاد. إنه مشهد عجيب، إنه أُعجوبة الأعاجيب. عشرات وعشرات من آلاف الخيام، تحتها أقوام من كلِّ بقعة في الأرض، لا يجمعهم لون ولا لسان ولا بلد، ولكنهم لا يقفون ساعة حتى يحسَّ كلٌّ أنه أخ للآخر، أعز عليه من أخيه لأمه وأبيه، إخوان وحَّدتهم العقيدة، ووحَّدتهم القبلة، وربما عادى الأخ أخاه حقيقة، إن لم يكن دينه من دينه، ومذهبه من مذهبه؛ لأن أُخوَّة الدين والمذهب أقوى من أُخوَّة النسب. إنهم يضجُّون بكلِّ لغة، يهتفون جميعًا: لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك، دعوتنا فجئنا من أقاصي الدنيا، لم تمنعنا الجبال ولا القفار ولا البحار، ولم يمسكنا حب الأهل والولد، دعوتنا إلى القرآن لا قراءة وترنيمًا وتغييبًا، بل عملًا وتطبيقًا، فقلنا: لبيك اللهم لبيك، دعوتنا إلى العزة والوحدة والصدق في القول والعمل، فقلنا: لبيك اللهم لبيك. دعوتنا إلى الجهاد؛ جهاد النفس وجهاد الكافرين، فقلنا: لبيك اللهم لبيك. لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك. إن الحج هو الدورة التدريبية الكبرى، التي تقوي الأجسام والأرواح، التي تربي الأجساد والقلوب، التي تعدُّ للحقِّ جيشًا جنده متمرسون بالشدائد، حمَّالون للمصاعب، سامون بأرواحهم إلى حيث لا تستطيع أن تبلغ مداه روح. إن الحجَّ عيش في تاريخ المجد، في سيرة الرسول، في سماء الإيمان، إنه النهر الذي يغسل أوضار الناس، إنه الرئة التي تصفي الدم، وترده أحمر نظيفًا مملوءًا بالصحة والحياة. إنه المؤتمر الإسلامي الأكبر. أسأل الله أن يكتبه لمن لم ينعم به منكم، وأن يجعل لي ولمن حج معادًا إليه.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: كتاب (من نفحات الحرم) للشيخ علي الطنطاوي. دار الفكر. دمشق - طبعة 1400هـ، (ص53). بتصرف.

تهنئة وترحيب إلى الحجاج الكرام

تهنئة وترحيب إلى الحجاج الكرام عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376هـ) نشر عام 1369هـ لا تهنئة أعظم ولا أجل ولا أكمل من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). وهذا في الصحيحين. فلْيَهْنِ الوافدين لبيت الله ما وُعِدوا به من مغفرة الذنوب، وستر العيوب، ولْيَهْنِهم ما رُتِّبَ على الحج المبرور من هذا الجزاء الجزيل، ورضَى الربِّ الجليل. لِيَهْنِهم ما تضمَّنه هذا النسك العظيم من الخير والفضل الجسيم، وما فيه من التمتع والتعبد في تلك المشاعر الكريمة والمواقف، وما احتوت عليه هذه العبادة من الأسرار والحكم واللطائف. أليس الإحرام، ونزع اللباس المعتاد، ورفض المخيط عنواناً على الخضوع والخشوع للرب المحيط؟ أليس تكرار التلبية في تضاعيف النسك، وجميع أوقاته برهاناً على ملازمة العبد طاعة ربه في حركاته وسكناته، وأنه فقير إليه، مضطر إلى رحمته في مهماته وجميع حاجاته؟ يقول بلسان حاله ومقاله: (يا رب دعوتني على لسان خليلك ونبيك محمد، فأجبتك، وناديتني لمحض مصلحتي بمنتك وفضلك فلبيتك، كُلِّي لك؛ باطني وظاهري، عمري، وبشري، ومخي وعظمي، طالما وقعت في الذنوب والغفلات، وأعرضت عن سيدي وحبيبي مقبلاً على الأغراض والشهوات. فالآن تبت إليك من الهفوات، وأنبت إليك، طامعاً في عفوك عن المجرمين والعصاة، راجياً من كرمك أن تجيب دعوتي، وأن تقبل معذرتي، وافداً على بيتك وحرمك، طامعاً في خيرك وبِرِّك وكرمك، لئن رددتني من يؤويني، ولئن أقصيتني فمن يقربني ويدنيني، لا مانع لما أعطيت، ولا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك، ولا معول لي إلا عليك. أما الطواف بالبيت وبالمروة والصفا فبرهان والتزام التردد والتقلب في طاعة المولى، وفي ذلك اقتداء وتذكر للمصطفين من أنبيائه وأصفيائه، وأنهم حين تملَّقوا لله في هذه المواطن الشريفة غمرهم من جوده وكرمه ونعمائه في تنقلهم من عرفات إلى مزدلفة، ومنها إلى مشاعر منى. ورمي الجمرات دليل وبرهان على خضوعهم في خدمة الرب الجليل، وتزودهم من أسباب التعبدات والخير الجزيل. هنالك تسكب العبرات وتضج الخليقة بالدعوات المستجابات، وينيلهم الكريم بأفضل الهبات وأكمل الكرامات، وهنالك تنكسر النفوس وتخشع، وتهيبب القلوب إلى ربها وتخضع. مواقف يهون النصب والتعب متى وصل العبد إليها، ومشاعر تهوى قلوب الموفقين إليها، وكرامات وخيرات تأتي فاز بالخير والسعادة من نالها، ولمثلها فليعمل العاملون، ولتلك العرصات الفاضلة فليتنافس المتنافسون. لهذه الفضائل العظيمة تُشدُّ الرحال، ولمثلها يسهل إنفاق نفائس الأموال، مع أن الله قد وعد بالخلف العاجل وحسن الثواب في المآل. هنيئاً لكم أيها الوافدون لزيارة البيت العتيق، القادمون من كل فجٍّ عميق. لقد وجب أجركم على الله، وحقَّ احترامكم وإكرامكم على عباد الله. فيا سكان بيت الله الحرام، ويا مَنْ منَّ عليهم بجوار المشاعر الكرام؛ كونوا -رحمكم الله- خير قدوة في الخير؛ ليقتدي بكم إخوانكم في فعل الخيرات، وترك المنكرات. كونوا على جانب كبير من تقوى الله واحترام بيته الكريم، فأنتم أحقُّ وأولى من اتصف بكل خلق جميل؛ اغتناماً منكم لمضاعفة الأجر والثواب في هذه البقعة الشريفة؛ واحتراماً لحرمة بيته؛ وشكراً لنعم الله عليكم التي لا تعدُّ ولا تُحصى. واعلموا- رحمكم الله- أن من أفضل الأعمال وأشرفها مقابلة الحجاج بكلِّ خلق جميل ومعاملتهم بكل معاملة طيبة، واغتنام الإحسان إليهم على اختلاف مراتبهم، فإنهم ضيوف الله ثم ضيوفكم ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)). فكيف بمثل هؤلاء الضيوف الكرام الذين تغتنم أدعيتهم، ويُرجى ما عمله العبد معهم من الإحسان القولي والإحسان الفعلي، يرجو ثوابه من الله، ويرجون أن ينصرفوا عنكم راضين، ولمعروفكم شاكرين، وبحسن أفعالكم ومكارم أخلاقكم مقتدين. يا سكان بيت الله ما أحسن الإحسان من كلِّ أحد، وخصوصاً الإحسان الصادر منكم، وما أقبح الإساءة فيه من كل أحد، لا سيما إذا حصلت على الحجاج منكم، وكم في هذا البلد الحرام من البررة الأخيار، وكم فيها من التجار الصادقين الحائزين الشرف والاعتبار؛ الذين يرون من أعظم الفرص الثمينة مراعاة حجاج بيت الله، والقيام بحقوقهم، طلباً للثواب من الله. كم فيهم من يرعونهم عند البيع والشراء، والأخذ والإعطاء؟ كم فيهم من يبذل للفقراء منهم الإحسان والصدقات، وييسر على الموسرين عند المعاملات؟ كم فيهم من يحترمهم عند المشاعر الكريمة، ويعتقد أن الإساءة إليهم من أقبح الخصال الذميمة. اعلموا أن الإسلام يحث على هذه الخصال وخير منها، وأن كل برٍّ وإحسان يُقابَل به الحجاج فإنه مما حثَّ عليه الدين، ومما يُتقرَّب به إلى ربِّ العالمين، إنَّ مَن أكرم أضياف الله أكرمه الله. والله يحب المحسنين ويجزي الصادقين.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (1343هـ - 1383هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط1: 1431هـ. (1/ 287)

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها محمد البشير الإبراهيمي نشر عام 1372هـ الموافق1952م هذا العنوان جملة إن لم تكن من كلام النبوة فإن عليها مسحة من النبوة, ولمحة من روحها, وومضة من إشراقها. والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال, وقدمت عليه البراهين, وقام غائبه مقام العيان, وخلدته بطون التاريخ, واعترف به الموافق والمخالف, ولهج به الراضي والساخط, وسجلته الأرض والسماء. فلو نطقت به الأرض لأخبرت أنها لم تشهد منذ دحدحها الله أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة, ولم تشهد منذ دحدحها مجموعة من بني آدم اتحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة, ولم تشهد منذ دحدحها الله قوماً بدؤوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم, وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة, ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالاً صحيحاً للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة, ولم تشهد أمة وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة. هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين, ثم يشرحها الواقع, ويفسرها العيان الذي تحجبه بضعة عشر قرناً, بل إن هذه الأمة استقامت في مراحلها الأولى على هدي القرآن, وعلى هدي من أنزل على قلبه القرآن فبينه بالأمانة, وبلغه بالأمانة, وحكم به بالأمانة, وحكمه في النفوس بالأمانة, وعلم وزكى بالأمانة, ونصبه ميزاناً بين أهواء النفوس, وفرقاناً بين الحق والباطل, وحدًّا لطغيان الغرائز, وسدًّا بين الوحدانية والشرك, فكان أول هذه الأمة يحكمونه في أنفسهم, ويقفون عند حدوده, ويزنون به حتى الخواطر والاختلاجات, ويردون إليه كل ما يختلف فيه الرأي, أو يشذ فيه التفكير, أو يزيغ فيه العقل, أو تجمح فيه الغريزة, أو يطغى فيه مطغى النفس. فالذي صلح به أول هذه الأمة حتى أصبح سلفاً صالحاً هو هذا القرآن الذي وصفه منزِّلُه بأنه إمام, وأنه موعظة, وأنه نور, وأنه بينات, وأنه برهان, وأنه بيان, وأنه هدى, وأنه فرقان, وأنه رحمة, وأنه شفاء لما في الصدور, وأنه يهدي للتي هي أقوم, وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وأنه قول فصل وما هو بالهز ل. ووصفه من أنزل على قلبه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخلق جديده, ولا يبلى على الترداد, ولا تنقضي عجائبه, وبأن فيه نبأ من قبلنا, وحكم ما بعدنا, ثم هو بعد حجة لنا أو علينا. القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة, وحرر العقول من ربقة التقاليد السخيفة, وفتح أمامها ميادين التأمل والتعقل, ثم زكى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة, وزينها بالفضائل والآداب. والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية, وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية, وسوى بين الناس في العدل والإحسان, فلا فضل لعربي - إلا بالتقوى - على عجمي, ولا لملك على سوقة إلا في المعروف, ولا لطبقة من الناس فضل مقرر على طبقة أخرى. والقرآن هو الذي حل المشكلة الكبرى التي يتخبط فيها العالم اليوم ولا يجد لها حلاًّ, وهي مشكلة الغنى والفقر. فحدد الفقر كما تحدد الحقائق العلمية, وحث على العمل كما يحث على الفضائل العملية, وجعل بعد ذلك التحديد للفقير حقًّا معلوماً في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله, ويأخذه الفقير بشرف لأنه عطاء الله وحكمه, فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم, فلا تستشرف إليه نفسه, ولا تمتد إليه يده. والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية, ووضع الموازين القسط للأقدار, فلزم كل واحد قدر هـ, فكان كل واحد كوكباً في مداره, وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صير كل فرد مطمئناً إلى مكانه من المجموع, فخوراً بوظيفته, منصرفاً إلى أدائها على أكمل وجه, واقفاً عند حدوده من غيره, عالماً أن غيره واقف عند تلك الحدود, فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل لأن الإسلام أعطاها حقها واستوقن لها من الرجل, واستوثق منه على الوفاء, ولا العبد متذمر من وضعه من السيد لأن الإسلام أنقذه من ماضيه فهو في مأمن, وحدد له يومه فهو منه في عدل ورضى, وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء, ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب, ما دام سيده يرى في عتقه قربة وطريقاً إلى الجنة وكفارة للذنب. كذلك وضع القرآنة الحدود بين الحاكمين والمحكومين, وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} وأن في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس. القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة, بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها. وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر, ولا يهضم له حق, على أساس من الحب والعدل والإحسان. والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية والعبادات خالصة, والأحكام عادلة, والآداب قويمة, والأخلاق مستقيمة, والروح لا يهضم لها فيه حق, ولا يضيع له مطلب. هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها, جادة في إصلاحه, فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربها فتحكمه في نفسها, وتحكم به, وتسير على ضوئه, وتعمل بمبادئه وأحكامه, والله يؤيدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي) ((4/ 93)) , دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م.

دولة الكلام المبطلة الظالمة

دولة الكلام المبطلة الظالمة محمد رشيد رضا نشر عام 1337هـ الموافق 1919م إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق، ومزية الكلام التي ميَّز بها الإنسان وفضَّله من سائر أنواع جنسه الحيواني، هو أنها التعبير عما في النفس من العلم؛ ليتعاون الناس بإفضاء كلٍّ بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم، وتحسين أعمالهم , ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة، حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس، وصرف الأذهان عن الحقائق. وقد أجمع الناس على ما هَدَت إليه الأديان، وقرَّره الحكماء من مدح الصدق والصادقين، وذمِّ الكذب والكاذبين، إلا ما قيل في حال التعارض بين مفسدة الكذب في مسألة معينة، ومفسدة أخرى أكبر منها، كالكذب على صائل ظالم يريد قتل بريء محترم الدم بما يصرفه عن قتله بإنكار المكان الذي يوجد فيه، أو غير ذلك، والإسلام يهدي في مثل هذه الحال إلى التفصِّي من الكذب بالتعريض، ففي حديث عمران بن حصين في البخاري: (إن في المعاريض مَنْدوحة عن الكذب) ولكن كثيرًا من الناس ينظمون في سلك هذا الاستثناء ما ليس منه، كالتعارض بين الصدق وما يخشونه من فوت بعض شهواتهم ومطامعهم غير المشروعة به، فيستبيحون الكذب للتوسل به إلى تلك الشهوات والمطامع الشخصية أو القومية. اللصوص وقطاع الطرق والشطار المحتالون، وشهداء الزور، وأصحاب الدعاوي الباطلة ووكلاؤهم، كلُّ أولئك وأمثالهم يكذبون لأجل مطامعهم الشخصية، ورجال السياسة من الأمراء والوزراء والسفراء، ومَن دونهم من الوكلاء السياسيين وكُتَّابهم وجواسيسهم، كلُّ أولئك يكذبون لأجل مطامع دولتهم ومنافع أممهم، والفريقان يذمَّان الكذب مع الذَّامِّين، ويمدحان الصدق مع المادحين، ولا يعترف أحد منهم بأنه يكذب لدفع الضرر عن نفسه أو قومه، أو لجلب النفع لهم، كما يعترف من كذب تصريحًا أو تعريضًا لدفع الصائل الظالم عن البريء إلا أن يكون الاعتراف من بعض المشتركين في هذا الإثم لبعض، أو لمن يعلم حالهم ممن له صلة بهم. من عجيب أمر الإنسان أن الكذب والإفك وقول الزور وطمس معالم الحق وتشييد صروح الباطل، لم يكن مقصورًا على المتكالبين على الشهوات الدنيوية والمطامع المالية والسياسة، بل تجاوزهم إلى رجال الأديان، ورجال المذاهب من أهل الدين الواحد، وهم أجدر بالصدق والتزام الحق، ولكنهم جعلوا الدين الذي موضوعه الهدى وتزكية النفس بالاعتقاد الصحيح والفضائل، وسيلة للمال والجاه، فصاروا كطلاب المنافع الشخصية بالسرقة والغصب ونحوهما، وطلاب المنافع السياسية بالبغي والعدوان على الأمم والشعوب. وأعجب أمر هؤلاء وأغربه أن فيهم أناسًا يتعمدون الكذب على خصومهم، واستباحة أفحش ما حرَّمه دينهم في سبيل عداوتهم، لا يبتغون بذلك مالاً ولا جاهًا، بل يقصدون التقرب به إلى إلههم، معتقدين أنه يرضيه كل ما فيه إيذاء أعدائه، وإن كان من الباطل والشرِّ الذي حرَّمه على أبنائه وأحبائه في معاملة بعضهم لبعض، ومن كان يظن في ربه وإلهه حبَّ الباطل والشرِّ والرضا بهما، فكيف يطمع منه عدوه بالتزام حقٍّ أو عمل خير؟ & zwj;! أولئك الذين يقولون: إن المقاصد والغايات الحسنة، تبيح الوسائل المحرمة والمبادئ السيئة، وإن الباطل قد يوصل إلى الحقِّ، والشرَّ قد يؤدي إلى الخير، أي إنهم يختارون أن يكونوا مبطلين أشرارًا، مجرمين في الحال؛ ليصيروا أخيارًا في المآل. إذا كان علماء الأديان وأولياؤها، وشِيَع المذاهب وأنصارها، يؤلفون الكتب ويدونون الأسفار في تضليل المجادلات والمشاغبات؛ ليؤيد كل فريق منهم ما يوصف به وينتمي إليه منها، فهل يكثر على عبيد المال وعشاق العظمة والجاه ومنهومي اللذات والشهوات، ومفتوني السلطة والسيادة، أن يقلبوا جميع الحقائق، ويستحلُّوا جميع المحارم في سبيل التمتع بتلك اللذات، والعلو في تلك الدرجات، والإشراف على الأمم والشعوب بالأمر والنهي، وغير ذلك من التصرف والتشريع الذي هو شأن الربِّ عزَّ وجلَّ؟ إن دولة الكلام المؤيدة بجحافل الكذب والزور والبهتان والإفك، والافتراء والإخلاق والاختراق والخلابة والتمويه والتلبيس والتدليس تترقى بترقي الحضارة، وتتدلى بتدليها، وتتسع باتساع دائرة العلوم والمعارف، وتضيق بضيقها، فهي مساوقة لدولة الأحكام مؤيدة لها. الكذب شرُّ الرذائل على الإطلاق، فهو مفسد الأديان والتواريخ، ومزيل الثقة بين الأفراد والجماعات، ومولد الفتن والحروب بين الأمم، وقلما تستغني رذيلة من الرذائل، أو فتنة من الفتن عن شدِّ أزرها بالكذب، أو أحد جنوده وحملة بنوده، وما ألجأ الناس إلى الكذب على شدة قبحه، وفحش ضرره، والإجماع على ذمِّه إلا عدم التناصف بينهم، وترك تحكيم العدل فيما تتعارض فيه منافعهم، وتتنازع منازعهم، والأصل في ذلك أن الضعيف هو الذي يكذب على القوي الذي لا ينصفه أو لا يواتيه، والقوة والضعف أنواع شتى، فكم من قوي في شيء، ضعيف في غيره، فإذا رأيت السيد يكذب على عبده، والمخدوم على خادمه، والأمير على السوقة، فلا تظنَّ أن هذا جاء على خلاف الأصل، فإن في هؤلاء السادة المخدومين والأفراد الحاكمين ضعفًا في الأخلاق، وقبائح الأعمال، فيتحرون كتمانها عن خدمهم وأتباعهم، فلا يجدون وسيلةً لذلك إلا الكذب أو التلبيس والتمويه، فيلجؤون إليه صاغرين. الحكومة المستبدة تعلم الشعب الضعيف الخاضع الكذب والرياء حتى يصير ملكةً له، يفسد عليه أمور دينه ودنياه، وقلَّما يحتاج رجال هذه الحكومة إلى الكذب على شعبهم المسكين؛ لأنه خاضع لكل ظلم، قابل لكل ضيم، وإنما يكذب الضعيف على القويِّ الجائر الذي لا يرضَى بالحقِّ، ورُبَّ قويٍّ في شيء، ضعيف في غيره، فيكذب فيما هو ضعيف فيه، ومن هذا النوع حكومات الأمم القوية بالعلم والنظام والأحزاب السياسية، فكلُّ حكومة من هذه الحكومات تكذب على نُوَّاب أُمَّتها ورؤساء أحزابها في كلِّ ما تعلم أنه لا يرضيهم من أعمالها الاستعمارية وسياستها الخارجية وغير ذلك، ويستتبع ذلك الكذب على أهل المستعمرات، وإلباس كثير من الأعمال ثوب زور. والكذب على أهل العلم والرأي لا يرجى أن يروج له إلا بلبس الحقِّ الذي تُخشَى مغبَّة ظهوره، وكذلك كذب الحكومات القوية بالعلم والاستعداد الحربي بعضهم على بعض؛ فلذلك صار الكذب فنًّا من أدقِّ الفنون، وركنًا من أركان السياسة. وليعتبر القارئ في ذلك بـ .. أقوال أقطاب ساسة الحلفاء وكبار وزرائهم في الأسباب الحاملة لدولهم على الحرب وأساسها حرية الشعوب واستقلالها.

_ اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net المصدر: (مجلة المنار)، المجلد الحادي عشر - ذي القعدة 1337هـ - وكتاب (مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية) - دار ابن العربي - ط الأولى - 1994م - 3/ 1147. بتصرف

أبصر طريقك

أبصر طريقك محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ) نُشر عام 1372هـ الموافق 1953م منذ ظهر دين الله في الأرض، وتدافعت أمواجه شمالا وجنوبا وشرقًا وغربًا، وضرب تياره أسوار العالم المحيط به، وطهر بلادًا كثيرة وغسلها مما فيها من الشرك والكفر والإهلال لغير الله سبحانه، أخذت تتجمع في أطرافه عداوة لا تنام، وبقيت هذه العداوة تنازل جنود الله عامًا بعد عام في ثغور الإسلام. ثم احتشدت هذه العداوات المتفرقة في الثغور حشدًا واحدًا، بدأت به الغزوات المتلاحقة التي عرفت في التاريخ باسم الحرب الصليبية، وظلت هذه الحروب مشبوبة قرونًا طويلة، وأداتها السلاح والجيوش والمواقع. ثم انتهت حرب السلاح والجيوش، إذ وضع العالم الإسلامي سلاحه، بل أصحُّ من ذلك أن العالم الإسلامي يومئذ لم يكن معه سلاح يضعه أو يرفعه، وإذا كان فيه سلاح، فهو سلاح لا يغني عنه في لقاء هذه الأسلحة الجديدة التي جاءت مع الغزاة، ومن يومئذ انتقلت الحرب الصليبية من ميادين القتال إلى ميدان آخر: هو الحياة نفسها! كانت خطة الحرب الصليبية الجديدة هو دك الحياة الإسلامية كلِّها: تدكُّ بناء هذه الحياة، وتدكُّ علمها، وتدكُّ آدابها، وتدكُّ أخلاقها، وتدكُّ تاريخها، وتدكُّ لغتها، وتدكُّ ماضيها، وفي خلال ذلك ينشأ بناء جديد لهذه الحياة، بعلم غير العلم الأول، وأدب غير الأدب، وأخلاق غير الأخلاق، وتاريخ غير التاريخ، ولغة غير اللغة، وماض غير الماضي، ويأتي يوم فإذا الهزيمة واقعة كما وقعت في الميادين، ويصبح العالم الإسلامي وليس معه من الحياة التي كان بها عالمًا صحيحًا، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يومًا في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئًا. جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة، تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قومًا قد سُلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان، ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثيره الفطرة من بغض العدوِّ والشكِّ فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصح، وتهاوى آخرون، فوقعوا في حَوْزة العدوِّ، إذ غرَّتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلَّت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عامًا، في سكون وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدوُّ منَّا مبلغًا لم يكن في أول الأمر يظنُّ أنه يبلغه، فقد تهاوى البناء كله فجأة، وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالًا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد. ذهب كلُّ شيء يكون للحياة البشرية قوامًا وعمادًا: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحلُّ مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة، ذهب الذي كان يتحدر إلينا كما تتحدر الوارثات من أصلاب الآباء إلى أصلاب الأبناء، وجاء الذي يتحدر إلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يُبقى ولا يذر، ذهب شيء وجاء شيء، فتغيَّر نظرنا وفكرنا، وتغيَّر إدراكنا ومعرفتنا، وتغيَّر شعورنا وإحساسنا، وتغيَّر لساننا وبياننا، فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا، فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منَّا مَن طرحه وراء ظهره، ولم يبال به، وتهيَّب منَّا مَن تهيَّب فوقف لا يدري ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيَّب، فطلبت مخرجًا مِن هذا الشيء الذي تنكره إنكارًا خفيفًا، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي، فرأت المخرج في تجديد التراث الماضي تجديدًا مقاربًا، يطابق الحياة الجديدة من وجوه، وينكر الحياة القديمة من وجوه أخرى. ومن يومئذ انقسم العالم العربي والإسلامي إلى طائفتين: طائفة منكرة لا تعبأ شيئًا بالحياة الماضية كلها، وطائفة لم يبلغ بها الإنكار أن لا تعبأ، فالتمست تجديد الحياة الماضية على أسس جديدة، وإذا هذه الأسس التي تريد أن تؤسس عليها، هي في جوهرها مستمدة كلها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بين ظهرانينا. هذه صورة مصغرة للحياة في العالم الإسلامي الحاضر، لا يدركها المرء حتى يعلم أن العالم الإسلامي مقبل على خطر أبشع من خطر الغزو الصليبي الأول بالسلاح، مقبل على هزيمة منكرة تكون عاقبتها تبديل الإسلام تبديلًا كاملًا حتى لا يبقَى له من ظلِّ الحقِّ إلا ما بقي من ظل المسيحية الحقة في العالم المسيحي الحاضر. ودعاة هذا التبديل، علموا أو لم يعلموا، قد تعاوَوْا في كلِّ مكان باسم الدفاع عن الإسلام، وباسم إحياء الإسلام، وباسم تجديد الإسلام، وهم يعملون جاهدين على أن ينشروا دينهم الجديد - كما ينبغي أن يُسمَّى - بجميع الوسائل التي يظنون أنها تُفضي بهم إلى الدفاع عن الإسلام أو إحيائه أو تجديده، وهم على مرِّ الزمن سوف يتركون آثارًا عميقة في حياة العالم الإسلامي الحاضر، وسيتبعهم تابعون يقتفون آثارهم، مبعدين عن النهج الأول الذي بني عليه هذا الإسلام الذي يدافعون عنه أو يحيونه أو يجددونه! بل إن هؤلاء أنفسهم قد كانوا خلفاء لجيل سبق من قبلهم، أعمته الحياة التي بهرت عينيه، وزلزلت عقائده، فطلب كما يطلبون، الدفاع عن الإسلام وإحياءه وتجديده على أسس لم يستمدَّ أصلها من الحق الذي في دينه، بل من أصل بعيد هو الحياة التي يحياها العالم الصليبي الذي غلب وقهر وظهر مجده في هذه الأرض. إن هذا الوباء الذي يجتاح العقل الإسلامي والحياة الإسلامية، قد نفذ إلى كلِّ ركن في العالم، وسارت حُمَيَّاه سَوْرة مستبدة بكثير من رؤوس الدعاة. وانطلقت الألسنة مسرعة تُريد أن تبني بناء عقليًّا جديدًا لهذا الإسلام الذي تهدَّم بناؤه القديم، فما تجد لسانًا إلا وهو يرسل طوفانًا من الكلام بلا حذر ولا توقف، وكلُّ لسان يرى في الذي يرسله مادة صحيحة لبناء هذا العالم المتهدم. وأصبح كل داعية إمامًا يقتدى به، والمقتدون به لا يعلمون شيئًا إلا أن هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلًا صحيحًا من أصول هذا الإسلام الذي يدعوهم إليه، وكل داعية يظنُّ نفسه ينبوعًا يروى الظامئين، يسألونه فيجيب، فيطوفون به طواف الوثني بالصنم، مادة علمهم أن يستمدوا منه ما يجود عليهم به، ولا يجد أحدهم متسعًا أن يلتمس علمه إلا من فيض لسان هذا الإمام الداعي، والإمام مشغول بالتماس المعاني التي يفيضها عليهم، وهم لا يسألونه من أين يأتي بها، وكلُّ داعية مشغول بإعداد المادة لمن يتبعه، لا يحذر ولا يخاف ولا يتحرَّى، وكل داعية مشغول عن الداعية الآخر، لا ينظر في أمره ولا يتعقبه ولا يقول له من أين جئت بهذا، بل لعله يغفل عن أفسد الفساد في قوله وفعله، وأقبح القبح الذي يبثُّه في أتباعه؛ لأنه يقول لنفسه: إننا مشغولون جميعا برمِّ هذا البناء الذي تهدم، بل ببناء شيء هو خير من الذي تهدم. وكل داعية منهم هو في الحقيقة منكر للحياة الأولى للإسلام، ولكنه يريد أن يقاوم الفناء بأن يستخرج من نواحي هذه الحياة ما يقنع هو به، ويقنع بعض الناس به: إن في ماضي الإسلام ما يمكن أن يكون مماثلًا للحياة الحاضرة، أو تصحيحًا لبعض أخطاء الحياة الحاضرة، بيد أنه لا يصل إلى ذلك إلا بنظره هو، وتفكيره هو، بصورة يرتضها هو، ولا يبالي أن يكون استدلاله في غير موضعه، ولا أن يكون فكره قد فسَّر الأشياء على غير ما ينبغي أن تكون عليه، أو على غير ما كانت عليه. فأعمال هؤلاء الدعاة، ليست في الحقيقة إلا ضربًا من هذيان هذا الوباء المقرون بالحمَّى، ليس له أصل إلا فَوْرة الدم في المحموم. فإذا استمرَّ أمر الإسلام على هذا الذي نراه، فقد انتهى كلُّ شيء، وإذا قُدِّر لهذا العالم الإسلامي أن تعتزل طائفة منه هذا الخبل الخابل، لتعيد النظر في الأصول الصحيحة لدينها، والتي لقي بها هذا الدين عالم الشرك والكفر فدكَّه ومزَّقه، وأقام فيه بناءً قاوم الفناء ثلاثة عشر قرنًا، فيومئذ تبدأ المرحلة الأولى لجهاد طويل شاق، يتحدى طواغيت الكفر بإيمان صحيح، لا تشوبه شائبة من هوى أصحاب الأهواء، بل هو طاعة الله ورسوله، لا يغنى غيرها شيء، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}. وأعود فأقول: من ظنَّ هذا تشاؤمًا وتثبيطا فليظن ما شاء له الظن! وليس يغني عن الأعمى شيئًا أن تقول له: أنت مبصر بعينين لماحتين. ولا عن المغروس في حومة الهلاك أن تقنعه بأنه خالد ليس للموت عليه سلطان.

_ اختيار موقع الدرر السنية - www.dorar.net . المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/ 588)

أصول سعادة الأمة

أصول سعادة الأمة محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) نشر عام 1349هـ سعادة الأمة: أن تستنير عقولها، وتسمو أخلاقها، وتغتبط بالنظم التي تساس بها، وترضى عن طريق تطبيقها، وترتاح إلى تنفيذها، وتأمن أن تمتد يد غريبة إلى حق من حقوقها. أما استنارة عقولها، فبإقامة معاهد كافية للتعليم؛ فإن الأمة التي تتألف من متعلمين وغير متعلمين، يصعب على قادتها، متى أرادوا توجيهها نحو الحياة الصالحة، أن يجدوها لينة القياد، خفيفة الخطا. والتعليم الصحيح: ما يؤخذ فيه بأرقى النظم وأحكم الأساليب. وتلقي العلوم بأساليب غير مهذبة هو العلة في تباطؤ النهضة العلمية، وعدم انتظام طرق البحث والتفكير. ولا سبيل إلى أن يغبط الشعب بنهضته العلمية، حتى يتربى نشؤه على أن يطلبوا العلم بداعي اجتلاء الحقائق، والحرص على أسمى الفضائل. ومما يقعد بهم عن مرتبة النبوغ والابتكار في العلوم: أن يجعلوا لطلب العلم غاية مادية، حتى إذا أدركوها، انقطعوا. والتعليم الذي تؤمن عاقبته، وتزكو ثمرته: ما اهتدى فيه الطلاب إلى طريقة نقد الآراء وتمحيصها، حتى لا يقبلوا رأياً إلا أن يستبينوا رجحانه بدليل، وقد رأينا رأي العين أن طائفة من أبنائنا قد انحرفوا عن طريق الرشد، ولو كانوا ممن يرد الآراء إلى قوانين البحث المعقولة، لاستقاموا على هدى الله وما كانوا من المفتونين. وأما سمو أخلاقها، فلِتستقيم أعمالها، وتنتظم المعاملات بينها، والأعمال الخطيرة إنما تقوم على نحو الصبر والعزم والكرم والإقدام، والمعاملات الرابحة لا تدوم في تماسك وصفاء، إلا أن تكون محفوظة بنحو الصدق والأمانة والحلم، وسماحة النفس ورقة العاطفة، وهذا الوجه من وجوه السعادة ملقى في عهدة من يتولى أمر التربية؛ كالأمهات والآباء ورجال التعليم، ولا يكون في الأمهات والآباء والمعلمين كفاية لأن يخرج الطفل أو الفتى من بين أيديهم طاهر السريرة، مستقيم السيرة، حتى يكون التعليم الديني ضارباً بأشعته في جميع مدارسنا، أولية كانت أو عليا، وإذا وصلت التربية الدينية إلى النفوس من طريقها الصحيح، فلا ترى منها إلا حياء وعفافاً، وصدقاً وأمانة، واستصغاراً للعظائم، وغيرة على الحقائق والمصالح، وما شئت بعد من عزة النفس وكبر الهمة. تلك خصال لا تثبت أصولها وتعلو فروعها إلا أن يتفيأ عليها ظلال الهداية ذات اليمين وذات الشمال. وأما توافر وسائل الثروة، فلِتكون مرافق الحياة بين يديها، والعيش ميسوراً لكل فرد من أفرادها، وما أبعد الأمة عن سعادة الحياة إذا كثر فيها أولئك الذين يتكففون الناس في أيديهم، وأولئك الذين يترددون على المقاهي والنوادي في الصباح، كما يترددون عليها في المساء! من حقوق الأمة أن يهيئ لها ولاة أمورها الوسائل للأعمال العامة، وينظروا في ترقية الصناعة والزراعة والتجارة، وتوسيع دائرتها، يُعنَون بها من الوجهة العلمية: بفتح مدارس لتلقي ما له اختصاص بهذه الأصول الاقتصادية من علوم وفنون، ويُعنَون بها من الوجهة العملية: بإنشاء مصانع، وتشجيع الزراع، وتدبير الوسائل لرواج البضائع الوطنية ما استطاعوا، وبمثل هذه المساعي تجد الأيدي العاطلة مجالاً للعمل، ولا تخرج أثمان ملابسنا وأمتعة منازلنا وسائر مرافق حياتنا عن حدود أوطاننا. وليست تبعة الحالة الاقتصادية ملقاة على عاتق أولي الأمر وحدهم، بل على الموسرين حظ من هذه التبعة عظيم؛ إذ في ميسورهم تأليف شركات تراعي في نظمها أصول الدين الحنيف، فتفيض بربح مبارك غزير، ويعيش من العمل بها خلق كثير. أقمت في عاصمة ألمانيا وبعض مدنها وقراها زمناً غير قصير، فلم أر قط سائلاً سليم البنية، بل لم أر في تلك المدة متكففاً غير نفر قليل هم ما بين رجل مقطوع اليد أو الرجل، أو عجوز بلغت من الكبر ما فت في عضدها، لم أر سليم البدن يتكفف؛ إذ لا يعدم سليم البدن أن يجد هنالك عملاً حيوياً إذا شاء، والتعليم -وهو هناك إلزامي- يقبح لصاحبه أن يقف موقف الاستجداء. وكثير من أمراء الإسلام كانوا ينظرون الأمة برأفة، ويجتهدون في أن يخففوا عنها متاعب الحياة ما قدروا. وهذا طاهر بن الحسين يقول في كتابه الذي بعث به إلى ابنه عبد الله حين ولاه المأمون مصر والرقة وما بينهما: (وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال، وانصب لمرضى المسلمين دوراً تؤويهم، وقواماً يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدِّ ذلك إلى سرف في بيت المال). وفي فتح طرق العمل للمستطيعين، وإقامة مستشفيات وملاجئ للمرضى والعاجزين، إنقاذ للأمة من أن تقود الحاجة طائفة من أبنائها إلى نواد أو مستشفيات يفتحها من يقصد إلى إفساد عقائدها الدينية، أو إطفاء غيرتها الوطنية. وأما الاغتباط بالنظم المدنية، فذلك ما يدعوها إلى أن تحترمها من صميم أفئدتها، فتراعيها في السر؛ كما تتقيها في العلانية، فيكتفي الناس في أكثر الخصومات بمعرفة الحق من طريق الاستفتاء. وأولو الأمر هم الذين يقررون النظم المدنية، ويقومون على تطبيقها، فأولو الأمر - على اختلاف طبقاتهم، وتفاوت مقاماتهم - طائفة من الأمة تولوا النظر في شؤونها العامة، فيجب أن يتجلى فيهم روح النيابة عنها، ولا يتجلى هذا الروح إلا أن يعملوا على ما يكفل مصالحها، ومقتضى هذا أن تساس بنظم تراها أحكم وضعاً، وأرعى للمصالح. والأمة الإسلامية إنما تشهد للنظم بالحكمة ورعاية المصالح، متى وافقت أصول شريعتها، ولم ينتهك بها شيء من حرمتها. وأما الرضا عن حال التطبيق، فلأن صحة النظم إنما يظهر أثرها على أيدي من يوكل إليهم أمر تطبيقها. وما مزية القانون العادل إذا وكل العمل به إلى من لم تحسن المدرسة أدبه؟ فتطبيق القوانين على الحوادث، يرجع إلى أدب الحاكم، ومبلغه من العلم والفهم. فمن حق الأمة أن لا يتولى الحكم فيما شجر بينها إلا ذو ثقافة يجيد بها عمل التطبيق، واستقامة يقف أمامها القوي والضعيف على سواء، وهذا ما يدور عليه فضيلة العدل المأمور به في قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]، وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45]. وأما الارتياح لطرق التنفيذ، فيعود إلى السلطة الإجرائية؛ كإدارة الشرطة. وحق الشعب على هؤلاء أن تأخذهم به الرحمة، ويشعروا بأنه جسدهم بعض أعضائه. أقمت في بعض البلاد الشرقية، فكنت أرى بين رجال القوة المسلحة وسائر الوطنيين جفاء يتطاير شرره لأدنى مخاطبة تدور بينهما، ثم رحلت إلى عاصمة أوربية، وطفت في بعض المدن والقرى، فكنت أرى تعطفاً وائتلافاً بين الجند والشرطة وبقية الشعب، ولا يكاد الناظر يفرق بينهما إلا بما يحمله الأولون من هيئة رسمية أو سلاح، كنت أشاهد سائق العجلة يجادل الشرطي مدة غير قصيرة، وأصواتهما في ارتفاع متساوية، ولا يكون بعد هذا إلا أن يقنع أحدهما الآخر ويفترقا. نحن نعلم أن انتشار التعليم في الشعب يساعد رجال الأمن وغيرهم على تنفيذ النظم العامة بكلمة ينبهون بها من يروم مخالفتها، ولكن المحروم من التعليم هو في حاجة إلى أن ينظر إليه بشفقة، ويعالج إليه بشيء من الرفق، إلا أن يخرق النظام متمرداً. قال معاوية بن أبي سفيان: (لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني). وتطبيق النظم على الواقع، وتنفيذها بعدل، حق من حقوق الأمة على ولاة أمورها، وإذا توقف على شيء يرجع الخطاب فيه إلى بعض أفراد الأمة؛ كأداء الشهادة على وجهها، كانت تبعته على أولئك الذين يستطيعون أن يشهدوا بحق، ويكتمون الشهادة وهم يعلمون. وأما أمن الأمة من أن تسطو يد غريبة على حق من حقوقها، فلتطمئن على عزتها وكرامتها، ولتشعر بأن من تلدهم سيعيشون كما تعيش الأمم ذات الشوكة أحراراً، ولا تأمن بأس خصومها، ولا تنظر إلى مستقبل أبنائها، فتراه أغر محجلاً، إلا أن يكون ما بينهما وبين رعاتها عامراً بالنصح من ناحية، وبحسن الطاعة من ناحية أخرى، فبالنصح ترقى معاهد التعليم، فتستغني بعلم أبنائها وكفايتهم للعمل عن أن تستمد وسائل الدفاع والمنعة من وطن غير وطنها، وبحسن الطاعة ينتظم أمر الجند، وتبلغ القوة المالية غايتها. وقد عني الإسلام - فيما عني - بهاتين الخصلتين العظيمتين: إخلاص ولاة الأمور للأمة، وطاعة الأمة لولاة أمورها، فأوجب على الولاة أن يقيموا سياستهم على رعاية الحقوق والمصالح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، إلا لم يجد ريح الجنة).ثم التفت إلى الرعية، فأمرهم بحسن الطاعة. ومن شواهد هذا: قوله -عليه الصلاة والسلام-: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة). فالحق أن سعادة الأمة في أيدي رؤسائها، فإذا استقاموا على الطريقة، وساسوها برفق وحرص على مصالحها وكرامتها، سرت بجانبهم مستقيمة، فلا تلبث أن تنجح في سيرتها، وتظفر ببغيتها؛ {الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} [يونس: 63 - 64].

_ المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (5/ 130)

لا قوة إلا قوة الحق ولا مجد إلا مجد التضحية *

لا قوة إلا قوة الحق ولا مجد إلا مجد التضحية * علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) نشر عام1931 لقد اتضح الأمر وظهر الخبيء، وعلمنا أن الحارس لص والحامي غاصب، ولكن دمشق لم تمت كلا، بل هي حية تدافع عن حقها، وتبذل مهجتها في سبيل حريتها. ولقد كاد ينفجر البركان، وإذا هو انفجر فسيحرق أعداء الحق فيبيدهم فلا يُبقي لهم أثرًا. لقد رأينا من هؤلاء الطلاب، الذين نخشى عليهم النسيم أن يؤذيهم، أسودًا يفتحون صدورهم للرصاص، ويصيحون بخصومهم: اقتلونا، فعلى أجسادنا سيبنى استقلال سوريا! أما بعد، فهذا يوم العمل. هذا يوم يقف فيه الشعبُ بحقه، وخصمه بباطله ليتنازعا، وقد تنازعا، ولكن عون الحق هو الله، والله أكبر. وإذا أتَونا بالصفوف كثيرةً جئنا بِصفٍّ واحدٍ لن يُكسرا ذلك هو صف أبناء الوطن، صف يدعمه الحق، صف يؤيده الإخلاص، صف لا يهاب الموت في سبيل الله والوطن!. ألا أعدُّوا ما شئتم من قوة، من رصاص ومدافع، من رشاشات ودبابات، فسنُعِدُّ صدوراً تخفق فيها قلوب تفيض بالإيمان، وتتفجر بالوطنية، وترغب في التضحية. وسنفتحها لكم. لا قوة إلا قوة الحق، ولا مجد إلا مجد التضحية، وسيأتي يوم تزول فيه القوة وتدول فيه الدولة الظالمة، ولا يتبقى إلا الحق. فجاهدي يا دمشق، وهاهم رجالك يجاهدون معك، ويعرِّضون أنفسهم للموت دونك، وهاهم أبناؤك الطلاب يحمونك بأرواحهم، وها هي تلك الأرواح الطاهرة، أرواح الشهداء، تخطب من السماء خطبة الوطنية والإخلاص. إن هذه الدماء دفعة جديدة من ثمن الاستقلال، إنها أريقت لغسل صفحة الذل التي خطها عليها الأقوياء! والله معك، والله أكبر. أيها الشهداء، هذه الجنة قد أعدت لكم فادخلوها آمنين. إننا لن ننساكم أبداً. إنكم خالدون لم تموتوا، ويا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً. ويا إخوان الشهداء وأهليهم، إنكم إن خسرتم إخوانكم وذويكم، فقد ربحتم شرف التضحية، قد كسبتم حمد التاريخ، قد بؤتم بثواب الله ... وكلنا إخوانكم وذووكم. إننا تجمعنا الآلام، وتوحِّد بيننا الضحايا. ألا فلنهتف جميعاً: لا قوة إلا قوة الحق، ولا مجد إلا مجد التضحية، وعلى الشهداء السلام. المصدر: كتاب (البواكير) جمع وترتيب: مجاهد مأمون ديرانية. دار المنارة. الطبعة الأولى 2009م، (ص196 - 197).

_ * هذا المقال وإن كان قد قيل من قبل ثمانين سنة بمناسبة ثورة الشعب السوري على الاحتلال، لكن كأن الشيخ يخاطب به أهل سورية هذه الأيام وما أحوجهم الآن إلى من يشد أزرهم ويحثهم على مواصلة جهادهم ضد عدوهم، ويبشر شهداءهم بالجنة ويصبر أهليهم، كما فعل الشيخ قديما، وما أشبه الليلة بالبارحة.

السعادة

السعادة علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) نشر عام 1948 يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنَّه حمل حملين، ويضحك هذا ويغنِّي؛ فكأنَّه ما حمل شيئًا. ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها. ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُه. وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِّلْم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره. وكان يومًا في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتدُّ عليه فيها الضيق ويعظم الهمُّ، وبقي أسبوعًا كاملًا من غير دخان، صابرًا عنه أملًا بهذه الدخينة، فلمَّا رأى ذلك ترك التدخين، وانصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة. وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بتَوَهُّمِ أن في أمعائه ثعبانًا، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلًا وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعبانًا فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحسَّ بالعافية، ونزل يقفز قفزًا، وكان قد صعد متحاملًا على نفسه يلهث إعياءً، ويئنُّ ويتوجَّع، ولم يمرض بعد ذلك أبدًا. ما شفِي الشيخ لأنَّ ثعبانًا كان في بطنه ونَزَل، بل لأن ثعبانًا كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لَقُوًى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب. تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ ألَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضًا، خامل الجسد، واهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حيَّة تقبل عليه، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبًا، كأنَّه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيًّا يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره، أو كتابًا مستعجلًا من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته، فأحسَّ الخفة والشبع، وعدا عدوًا إلى المحطة، أو إلى مقرِّ الوزير؟ هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة! يا أيها القراء: إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها؛ زهدًا فيها، واحتقارًا لها. يُصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحًا بيضاء مشرقة؟ ويُحْمَى عن الطعام ويُمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟ لماذا لا تعرفون النِّعم إلا عند فقدها؟ لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟ لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي، أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟ كلٌّ يبكي ماضيه، ويحنُّ إليه؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟ أيها السادة والسيدات: إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا، لما نَظَر مِن شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنَّى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًّا. فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟ من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلَّ في الصحراء، وكاد يهلك جوعًا وعطشًا، لما رأى غدير ماء، وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا، فلما رأى ما فيه، ارتدَّ يأسًا، وسقط إعياءً، لقد رآه مملوءًا بالذهب! وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا، أنه سأل ربَّه أن يحوِّل كلَّ ما مسَّته يده ذهبًا، ومسَّ الحجر فصار ذهبًا؛ فكاد يجنُّ مِن فرحته؛ لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه؛ ليأكل، فمسَّ الطعام، فصار ذهبًا وبقي جائعًا، وأقبلت بنته تواسيه، فعانقها فصارت ذهبًا، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته، وأن يبعد عنه الذهب! وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة، فانصفق عليه بابها، فمات غريقًا في بحر من الذهب. يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟ أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟ كلَّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به، والوقت يمرُّ، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها، ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يومًا، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرًا وتبرًا، واستفدت من كلِّ لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة (باب اللوق) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس، وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلِّها، وأسفت على أمثالها، فلو أنِّي فكرت كلَّما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها لربحت شيئًا كثيرًا. ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلَّى في القطار بالنظر في كتاب (قواعد التحديث) للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب. والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائمًا، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئًا من العلم فأَلَّف (الحاشية). والسَّرَخْسي أَمْلَى وهو محبوس في الجبِّ، كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا. وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يُضَيِّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؛ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنَّه لو قرأ مثله لا أقول كلَّ ليلة، بل كلَّ أسبوع مرة لكان عَلَّامَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي، والجاحظ، بل خذوا كتابًا واحدًا كـ (نهاية الأرب)، أو (لسان العرب)، وانظروا، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، ونسخه مرة واحدة بخطِّه، فضلًا عن تأليف مثله من عنده؟ والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون، ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكِّن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا أذكر الفلاسفة والمخترعين، ولكن أذكِّركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لمَّا امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها، والشافعي لمَّا كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه، والمعرِّي لما سَمِع أرْمَنِيَّيْنِ يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه، والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء؛ فتعجبون، ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون. انظروا كم يحفظ كلٌّ منكم من أسماء الناس، والبلدان، والصحف، والمجلات، والأغاني، والنكات، والمطاعم، والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمرُّ به كلَّ يوم من المقروءات، والمرئيات، والمسموعات؛ فلو وضع مكان هذا الباطل علمًا خالصًا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت. أعرف نادلًا كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة- وهم مئات- يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شايًا، أو هاضومًا (كازوزة أو ليمونًا) والقهوة حلوة ومرة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة، ويردد هذه الطلبات جهرًا في نَفَسٍ واحد، ثم يجيء بها، فما يخرم مما طلب أحد حرفًا! فيا سادة: إن الصحة والوقت والعقل، كلُّ ذلك مال، وكلُّ ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد. وملاك الأمر كلِّه ورأسه الإيمان، الإيمان يُشبع الجائع، ويُدفئ المقرور، ويُغني الفقير، ويُسَلِّي المحزون، ويُقوِّي الضعيف، ويُسَخِّي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسًا، ومن خيبته نُجحًا. وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلَّ مُرَتَّبك، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقلُّ عنك فهمًا وعلمًا، وحسبًا ونسبًا. وأنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا مَلِكَي الأرض. فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبًا يحشوها، ويلبسها الذهب، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدوابَّ والمحامل، وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر، وأنت ترحل في أيام أو ساعات. فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها ... سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم، سعداء إن كانت أفكاركم دائمًا مع الله، فشكرتم كل نعمة، وصبرتم على كل بَلِيَّة، فكنتم رابحين في الحالين، ناجحين في الحياتين. والسلام عليكم ورحمة الله.

_ المصدر: كتاب صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة، (ص17) بتصرف.

أعيادنا بين العادة والعبادة

أعيادنا بين العادة والعبادة محمد البشير الإبراهيمي (ت 1373هـ - 1954م) نُشر عام 1373هـ الموافق 1954م كلمتا العادة والعيد: تجتمعان في أصل الاشتقاق اللفظي، وتلتقيان على الاشتراك في المعنى الوضعي، ولكن الإسلام حينما شرع عيديه العظيمين بيَّن بناء مشروعيتهما على معانٍ دينية جليلة، وأبقى اللفظ للدلالة على الزمن المؤقت لتلك المعاني، كما هو شأنه في جميع حقائقه وأحكامه القدرية والتكليفية والكونية المشهودة والمغيبة، يدل عليها بمفردات وتراكيب عربية مما يعرف الناس، ويبقي لها جزءًا من المعنى يتصل بالمعاني الدينية أيَّ اتصال، أو يكون جزءًا منها ثم يصرف بقية الأجزاء من المعاني إلى الغرض الديني الكامل حتى لا يكون اللفظ منقولًا من معنى قديم أفرغ منه إفراغًا إلى معنى جديد شُحن به شحنًا. وما كاد الإسلام يظلِّل العرب بلوائه حتى كانت للألفاظ التي تصرف في معانيها الوضعية بالتخصيص أو التعميم أو غيرها من وجوه التصرف مفهومة لا يلتوي فيها ذهن، ولا يجافيها إدراك، وانتقلت مع الإسلام إلى الأمم الأخرى فإذا اللغة العربية قائمة بهذا الدين، كأنما أعدت له إعدادًا، ووضعت وضعًا أوليًّا خاصًّا لمعانيه الدينية الجديدة، وكانت بذلك أحسن مؤدٍّ لحقائقه، وأعظم حامل لأسراره، ويتلطف علماء البيان حينما يسمون هذا النوع من التصرف (الحقائق الشرعية) يقابلون به الحقائق الوضعية، وهنا يتجلى لطف الله وسماحة دينه، إذ لم يجعل للدين لغة خاصة، وللدنيا أخرى، بل جعل لغة الدنيا هي لغة الدين، مع أن لغة الدنيا لا تتسع في العادة لحمل الحقائق العليا كصفات الله، ولا لوصف الغيبيات المطلقة، كالعوالم الروحانية وما بعد الموت ودار الجزاء. لم يبق من معنى كلمة العيد في الإسلام إلا أنه يعود في زمن مقدر، أما ما عدا ذلك فصرفه إلى معان دينية مما ينفع الناس، ففي العيدين المشروعين أحكام تقمع الهوى، من ورائها حكم تغذِّي العقل، من تحتها أسرار تصفي النفس، من بين يديها ذكريات تثمر التأسي في الحق والخير، وفي أطوائها عِبر تجلِّي الحقائق، وأمثلة عملية في الإحسان وتقوية ملكته، وقواعد متينة في التربية الفاضلة، وموازين تقيم المعدلة بين الأصناف المتفاوتة من البشر، ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة، وإصلاح الشأن، ودروس تطبيقية عالية في التضحية والإيثار، والرحمة والمحبة، وهما مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات، ومنافسة في المكرمات. قرن الإسلام كل واحد من العيدين بشعيرة من شعائره العامة، لها جلالها الخير في الروحانيات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات، ولها ريحها الهابَّة بالخير والبر والإحسان والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة أمة صالحة للوجود، نافعة في الوجود إلا بها. هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الموعي لمعظم أحكامه، وناهيك بالشعيرتين منزلة بين شعائر الإسلام، وإنهما مظهر الامتحان الذي هو أساس التكليف، وإن كليهما سوق امتياز يمتاز منه الموفقون طرائف الخير، والعاملون لله فيه بالصدق والوفاء، وما كل تاجر رابح، وما كل متجر ربيح، وما كل بضاعة من أعمال العاملين تروج عنه الله، وإن شرَّ ما باء به تاجر في تجارة أن يجتمع عليه التعب والخسارة. هذا الربط الإلهي بين العيدين وبين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما، وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن حتى ما ندب إليه الدين، وهو في ظاهر أمره دنيوي، كالتجمل والتحلي والتعطر والتوسعة على العيال، وإلطاف الضيوف، والمرح، واختيار المناعم والأطايب، واللهو، مما لا يخرج إلى حد السرف والتغالي والتفاخر المذموم. فمن تحرر المحاسن في الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية، وأريد بها تحقيق حكمة الله، أو شكر نعمته انقلبت قربات، إلى الغاية التي نطق بها الحديث الصحيح: ((حتى اللقمة تضعها في فِي امرأتك)). كِلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جلال وجمال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تخالط القلوب، واطمئنان يلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطراح، وكأنه شباب وخطته النضرة، أو غصن عاوده الربيع فوخزته الخضرة، فلو وصف العيد نفسه وصف الخائل المزهو، وخلع على نفسه كل ما انتهى إليه خيال الشعراء، لكان مقصرًا عن الغاية مما وصفه الإسلام به، ولكان نازلا عن المنزلة التي وضعه فيها، وليس السر في يومه الذي يبتدئ بطلوع شمس، وينتهي بغروبها، وإنما السر فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وإفضال، وما يغشى النفوس المستعدة للخير فيه من سمو وكمال. العيد في نظرة الإسلام ملتقى عواطف تتقارب، بين طوائف كانت في أمسه تتحارب، ففيه يتنزَّل الغني المترف، ويصعد الفقير المترب، فيلتقيان في عالم من عوالم المثال كما يقول الصوفية، هو خير ما ظلَّت الإنسانية تنشده فلا تجده، يتجلى العيد بجلاله على الغني فينسى تألهه بالمال، ويذكر أن كل من حوله إخوانه أولا وأعوانه ثانياً فيمحو إساءة عام بإحسان يوم، ويتجلَّى على الفقير بجماله فينسى متاعب العام، ومكاره العام، وتمحو بشاشة العيد من نفسه آثار الحقد والتبرم والضيق، ولا تتفتح أمام عينيه إلا الطريق الواصلة بالله، المؤدية إلى الخير، وتنهزم في نفسه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء. هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام، وكما حققها المسلمون الصادقون يوم كانوا، فكان هذا الدين من العام زاد الرحلة بآثاره، ثم بانتظاره للعام كله، وكانت آثاره في النفوس كآثار الحمَّام في الأبدان رحضًا للأبدان، وبعثًا للنشاط، فأين نحن اليوم من هذه الأعياد، وأين هذه الأعياد منا؟ وأين آثار العبادة فيها من آثار العادة؟ آفة محاسن الإسلام - وما محاسن شيء كله حسن - هذه الظواهر المتقلبة التي سمون مجموعها عادة، فهي التي تتسلط على تلك المحاسن بالطمس والتشويه حتى تمسخ الجمال، ثم تنسخ التأثير، ثم تفسخ العقد، فلا يبقى للجمال استهواء للنفوس ولا تأثير فيها، ولا سلطان عليها، وقد تبدأ بالإلف يعقبه أنس، يعقبه تأثر، يعقبه اعتبار، يعقبه تحكم، يعقبه تحيكم، ثم ينتهي بأسوأ ما ينتهي إليه تعاقب الأطوار، وهو النزول عن حكم الدين في ثبوته، والعقل في تقبيحه وتحسينه، والفكر في تأنيه ووزنه وقياسه وترتيبه وتقديره لحكم العادة المضطربة المتقلبة، فتصبح هي الحاكمة المقبحة المحسنة المقدرة، وهي صاحبة الاعتبار الأول في تقدير الحياة، ثم تتسامى إلى المسلمات اليقينية، فتمسها بالتشكيك ثم إلى الحقائق الدينية فتبتليها بالتزهيد فيها أو بالتبغيض، وهذا هو شر ما وصل إليه المسلمون بالنسبة إلى شعائر دينهم: تهجر بين أقوام فيصبح هجرها عادة تخشى مخالفتها والخروج عنه، ويقيمها أقوام بحكم العادة لا بحكم الدين، وآية ذلك أن فاعلها يأتي بها متبرمًا متثاقلًا مقدرًا لعتاب الناس لا لعذاب الله، وهذا التناقض في آثار العادة واقع بين المسلمين مشهود مشهور. ونحن لا ننكر أن عوائد الناس تابعة لأحوال الناس رقيًّا وانحطاطًا، فالأمة الراقية ترقى عادتها في الغالب؛ لأن عادتها تتشعب من مقوماتها، والأمة المنحطة تنحط عاداتها، والمسلمون اليوم في أحط دركات الانحطاط، فلا عجب إذا كانت عاداتهم المتحكمة فيهم من نوع حالتهم العامة. فمناشئ العادات فيهم هي أخص أحوالهم من الجهل والأمية والفقر والذلة والهوان وموت الشعور بالكرامة والشرف، ويقظة الشعور بالمهانة والنقص في النفس وفي الجنس والنفور من القريب والخضوع لحكم الغريب، فقل ما شئت في عادات تتكون من هذه الأمشاج الخبيثة، ثم حدث ولا حرج عن الآثار السيئة لتحكم هذه العادات في حياة المسلمين، ثم ابكهم مع الباكين، حينما تمد هذه العادات السخيفة مدَّها فتنصبُّ على الدين، فتصبح موازينه مأخوذة بالاعتبارات العادية، وأحكامه خاضعة للاعتبارات العادية، وأعماله تابعة للاعتبارات العادية، وواقعنا اليوم هو هذا، فليسلم العقلاء منا بهذا الدافع وليعالجوا الحالة على ضوئه، وحذار من المكابرة فيه، فشر الخلال أن نركب الكبيرة ثم نكابر فيها فنصيرها كبيرتين، وتحجبنا المكابرة عن العلاج فنكون من الهالكين. بلونا أمر المسلمين في القرون الأخيرة شهادة للحاضر، وتلقفًا لأخبار الغائب، وبدأنا بأنفسنا فوجدنا أنا ما أوتينا إلا من ضعف سلطان الدين على نفوسنا، ووزننا للأشياء كلها بالميزان العادي، وتحكيمنا للعادات السخيفة التي نبتت فينا في عصور الانحطاط. هذه شعيرة الحج على جلالتها أصبحت متأثرة بالعوائد، فلا يحفز معظم المسلمين إليها ذلك الحافز الديني، ولا تدفعهم إلى تحمل لأوائها تلك الغاية السامية التي شرع الحج لتحقيقها، وإنما يحفز معظم الناس إليها الافتتان الشائع بالتلقيب، كأنهم يتبرمون بأسمائهم المجردة من كثرة التبذل والاستعمال، فيسعون في إضافة لقب أو وصف، كما يتهالك الخليون الفارغون على الألقاب الحكومية الزائفة، ويبذلون فيها الجعائل، وإن ذلك لمن هذا، وفي الأمم إذا تداعت للسقوط مشابه من البناء إذا تداعى للانهيار. وهذه شعيرة الصوم خلت بين المسلمين من روحها التي تزكي وتجلب الروح والاطمئنان، وأصبحت وظيفة عادية يقوم بها القائمون تأثرًا بالعادة، لا انسياقًا للدين، ويتركها المنتهكون لحرمات الله، فيشيع الترك، فيكون هو العادة الجارية، ويكون الصوم شذوذًا خارقًا للعادة، وكلا الأمرين واقع في الأقطار الإسلامية، فالمحافظة على الصوم تغلب في الجزائر مثلًا اتباعا لعادة المجتمع المتشدد مع المفطرين، وهذا المجتمع المتشدد في الصم متساهل إلى أقصى الحدود مع تاركي الصلاة، فلو كان للشعائر سلطانها الديني على النفوس لما أفطر في رمضان أحد، ولما ترك الصلاة أحد، ولما كان للعادة دخل في هذا المجال، ولو كان المتشددون مدفوعين بدافع ديني لكان تشددهم مع تاركي الصلاة أقوى وأشد، وأولى وأوكد. وعمود هذه الكلمة هو الأعياد، ولكن ضرورة التمثيل خرجت بنا عن الجدد إلى الحيد بعض الشيء، فلنعد إلى العيد، ولنقل: إن المسلمين جردوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطلوها من تلك المعاني الروحية الفوارة، التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة، مع تجهم الأحداث، وبالبشر مع عبوس الزمن، وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وحسٍّ بليد، وشعور بارد، وأَسِرَّة عابسة، وكأنها عملية تجارية تتبع الخصب والجدب، وتتأثر بالعسر واليسر والنفاق والكساد، لا صبغة روحية ذاتية تؤثر ولا تتأثر. ولولا نفحات فطرية تهبُّ على نفوس الصغار القريبين من الفطرة، فتتجلى فيها بعض معاني العيد، فتطفح بشرًا على وجوههم، وتنبعث فرحًا في شمائلهم، ونشاطًا في حركاتهم، واجتماعًا على المحبة في زمرهم، واتجاهًا إلى المبهجات في مجتمعاتهم، لولا ذلك لكانت المآتم أعمر بالحركة وأدل على الحياة من أعيادنا. العادات محكمة ... ويقيد الفقهاء إطلاق العادة بأن تكون محققة لمصلحة، أو دافعة لمفسدة، وبأن لا تنقض نصًّا شرعيًّا، ولا تعاند حكمًا إجماعيًّا، فإن لم تكن كذلك كانت باطلة مردودة، ونحن نقول: إن عاداتنا مع سخافتها، أصبح

الصيام

الصيام محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) نُشر عام 1322 هـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] هذه الآية مدنية، وهكذا الشأن في كل آية استفتحت بهذا العنوان، بخلاف ما افتتح بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، فقد وقع في الآيات المكية والمدنية، وإنما ابتدأت بهذا المطلع الذي يخص المؤمنين؛ لأنها سيقت للتكليف بأمر فرعي وهو الصوم، وكذلك جرت سنة كتاب الله أن يفتتح الأوامر الفرعية بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] الآية، ونحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية إلى غير ذلك. ويُصدِّر الأوامر الاعتقادية بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، والسر في ذلك أن الفروع لا تصح إلا مع وجود شرطها وهو الإيمان، فناسب توجيه الخطاب إلى من حصلوا على شرط صحتها وهم الذين آمنوا، مع ما في ذلك من تقوية الداعية لهم، والمبالغة في التهييج إلى العمل، فكأنه يقول لهم أيها المؤمنون شأن المؤمن بالله أن يتلقى أوامره بغاية القبول وسرعة الامتثال، ومن يرى من الأصوليين عدم تكليف غير المؤمنين بفروع الشريعة لا يحتاج إلى بيان وجه العدول عن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، في الأوامر الفرعية. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، الصيام في اللغة: الإمساك عما تنازع إليه النفس، كالكلام والطعام والشراب والنكاح، وفي الشريعة: الإمساك عن المفطرات بياض النهار. وشرع الصيام لتصفية مرآة العقل، ورياضة النفس بحبسها عن شهواتها، وإمساكها عن خسيس عاداتها، وليذوق الموسرون لباس الجوع فيعرفون قدر نعمة الله عليهم، وتهيج عواطفهم إلى مواساة الفقراء. قال أبو بكر بن العربي: (كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حرج، ثم أرخص الله لهذه الأمة في الإمساك عن الكلام ليرفعها بالكرامة في أعلى الدرج، فوقعت في ارتكاب الزور واقتراب المحظور في حرج، فأنبأنا الله سبحانه على لسان رسوله أن من اقترب زوراً أو أتى من القول منكوراً، أن الله سبحانه في غنى عن الإمساك عن طعامه وشرابه). يسمع الناس بحديث ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))، وحديث ((كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به))، وحديث ((الصيام جنة))، فيضعونها في غير مواضعها، ويحملونها على غير محاملها، باعتقاد أنها صادقة على أهل الدرجة الأولى وهو خطأ صراح. كيف تكون رائحة فم تقذر بتناول الأعراض، والتمضمض بنحو الكذب والهذيان والمراء أطيب عند الله من ريح المسك؟ وكيف يستاهل صيام تجهم وجهه بسماجة المعاصي أن يضاف إلى ملك الملوك جل جلاله ويتولى جزاءه بنفسه؟ وكيف يكون الصيام جنة ووقاية من عذاب الله، وقد انخرق سياجه وتدنس ذيله بقول الزور، والتلبس بالآثام التي تهيئ له في نار جهنم وطاء وغطاء؟ نعم لأهل تلك الدرجة ثواب عن صيامهم، ولكنه لا يبلغ في الموازنة مبلغ ثقل أوزارهم فيستحقون هذه الكرامات. ومما يعاكس حكمة الصيام، ويهدم أصل مشروعيته، الإسراف في الأكل سواد الليل، والتفنن في الأطعمة تفنن ذوي الأرواح القدسية على الأذواق العجيبة وأسرار الملكوت، ومنهم من لا يقنعهم التمتع بها في بيوتهم حتى ينقلون أحاديثها اللذيذة عندهم إلى المنتديات العامة والمجتمعات التي تضم أشتاتاً من الناس، ويتواجدون لسماعها ولا تواجد الأم بنغامات صبيها عندما يكاد يبين لها عن مآربه الخفية، وإنه ليعظم في عينك الرجل بادي الرأي حتى تحسبه من رجال الأمة، فما يروعك إلا وقد أخذ يسوق إليك حديث الأطعمة، ويشخص لك هيئاتها يحللها لك تحليلاً كيماويًّا، ثم يطبخها بلسانه مرة أخرى، وإن لفقه النفس أثراً عظيماً في تعديل المخاطبات وتحسين العادات. {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] هذا التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، والمعنى أن الصوم لم يفرض عليكم وحدكم حتى يعظم وقعه في نفوسكم، بل كان مكتوباً على الأمم الماضية من لدن آدم إلى عهدكم، وما يقوله بعض المفسرين من أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وقدره أيضاً لا يلتفت إليه بدون أثر صحيح يثبته، وكل ما جاء في القرآن مطلقاً أو مبهماً لا ينبغي تقييده أو حمله على معنى معين إلا بحديث ثابت. وفائدة هذا التشبيه تهوين هذه العبادة الشاقة، وتخفيف وطأتها على الأنفس ببيان عدم اختصاصهم بإيجابها؛ لأن الأمور الشاقة إذا عمت سهل تحملها، ولم تشفق الأعناق من التطرق بعهدتها. و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] تصيرون أتقياء، فإن الصوم يقهر النفس ويخطمها عن مألوفاتها، وذلك مما يورث التقوى، وقد فسرت (الجنة) في حديث (الصيام جنة) بالوقاية والسترة من المعاصي رعاية لهذا المعنى، وهو ثاني فهمين في الحديث. أولهما ما أشرنا إليه فيما سبق، وقد كنى عليه الصلاة والسلام عن طهارة نفوس الصائمين من رجس المعاصي، وتخلصها من البواعث على الفواحش بغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين، كما كنى عن تنزيل الرحمة وحسن القبول للأعمال بفتح أبواب الجنة في قوله: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة - وللبخاري أبوب السماء - وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) وحمل هذا الحديث على الكناية أعظم للمنة، وأتم للنعمة، وأفيد للصائمين من حمله على ظاهره، ولا مانع من حمله على الحقيقة أيضاً.

_ المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (12/ 108) (بتصرفٍ يسير)

معنى الصوم

معنى الصوم محمد البشير الإبراهيمي (ت 1384هـ - 1965م) نُشر عام 1373هـ الموافق 1954م للإسلام في كل عبادة من عباداته حِكَمٌ تستجليها العقول على قدر استعدادها, فمنها حكم ظاهرة يدركها العقل الواعي بسهولة, ومنها حِكَمٌ خفية يفتقر العقل في اجتلائها إلى فَضْلِ تأملٍ، وجَوَلانِ فكرٍ. ولكلِّ عبادة في الإسلام تؤدَّى على وجهها المشروع, وبمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجُّه، واستجماع الخواطر, واستحضار العلاقة بالمعبود. والغرض الأخصُّ للإسلام في عباداته التي شرعها هو تزكية النفس، وتصفيتُها من شوائب الحيوانية الملازمة لها من أصل الجِبِلِّة, وترقيتُها للمنازل الإنسانية الكاملة, وتغذيتها بالمعاني السماوية الطاهرة, وفتح الطريق أمامها للملأ الأعلى؛ لأن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه كائنٌ وسط ذو قابلية للصفاء الملَكِي, والكَدَر الحيواني, وذو تركيب يجمع حمأَ الأرض وإشراق السماء, وقد أوتي العقل والإرادة والتميز؛ ليسعد في الحياتين: المنظورة والمذخورة, أو يشقى فيهما؛ امتحاناً للعقل من خالق العقل والمنعم به؛ ليظهر مزية العاقل على غير العاقل من المخلوقات. والعبادات إذا لم تعطِ آثارَها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة , أو جسم بلا روح. والصوم في الإسلام عبادة سلبية؛ بمعنى أنها إمساك مطلق عن عدة شهوات نفسية في اليوم كله لمدة شهر معيَّن؛ فليس فيها عمل ظاهر للجوارح كأعمال الصلاة وأعمال الحج مثلاً. ولكن آثار الصوم في النفوس جليلة، وفِيْهِ من الحكم أنه قمع للقوى الشهوانية في الإنسان, وأنه تنمية للإرادة, وتدريب على التحكم في نوازع النفس, وهو في جملته امتحان سنوي يؤدِّيه المسلم بين يدي ربِّه, والنجاح في هذا الامتحان يكون بأداء الصوم على وجهه الكامل المشروع, ولكن درجة النجاح لا يعلمها إلا الله؛ لتوقف الأمر فيه على أشياء خفية لا تظهر للناس, ومنها الإخلاص, ولذا ورد في النصوص الدينية: ((الصوم لي وأنا أجزي به)). والصوم مشروع في جميع الأديان السماوية , وحكمته فيها واحدة, ولكن هيئاته وكيفياته تختلف. واختلافُ المظاهر في العبادة الواحدة لا يقدح في اتحاد حقيقتها, ولا في اتحاد حكمها وهذا الإمساك يشمل في اعتبار الدين الكامل عدة أشياء جوهرية، تمسك المسلمون بالظواهر منها، كالإمساك عن شهوة البطن, وغفلوا عن غيرها وهي سرُّ الصوم وجوهره، وغايته المقصودة في تزكية النفس, وأهمُّها الإمساك عن شهوة اللسان من اللغو والكذب والغيبة والنميمة, ومنها اطمئنان النفس وفرحها بالاتصال بالله, ومنها تعمير النهار كله بالأعمال الصالحة, ومنها الحرص على أداء العبادات الأخرى كالصلاة في مواقيتها, ومنها كثرة الإحسان إلى الفقراء والبائسين وإدخال السرور عليهم بجميع الوسائل؛ حتى يشترك الناس كلهم بالخير, فتتقارب قلوبهم, وتتعاون أنواع البر على تهذيب نفوسهم, وتصفية صدورهم من عوامل الغل والبغضاء, وتثبيت ملكات الخير فيهم. ومن المقاصد الإلهية البارزة في ناحية من نواحي الصوم أنه تجويع إلزامي, يذوق فيه ألمَ الجوع مَنْ لم يذقْه طول عمره من المُنَعَّمِين الواجدين. وفي ذلك مِنْ سِرِّ التربية ما هو معروف في أخذ الطفل بالشدة في بعض الأوقات, ومن لوازم هذا التجويع ترقيقُ العواطف, وتهيئة صاحبها للإحسان إلى الفقراء المحرومين؛ فإن مَن لم يذق طعم الجوعِ لا يعرف حقيقة الجوع، ولا يحسُّ آثاره، ولا يتصوَّره تصوُّرًا حقيقيًّا, ولا يهزُّه إذا ذُكِّر به؛ فالغنيُّ الذي لم يذق آلام الجوع طوال عمره لا يتأثر إذا وقف أمامه سائل محروم يشكو الجوع, ويصف آلامه, ويطلب الإحسان بما يخفِّف تلك الآلام؛ فيخاطبه وكأنما يخاطب صخرة صمَّاء؛ لأنه يحدِّثه بلغة الجوعِ، ولغةُ الجوع لا يفهمها المترفون المنعَّمون، وإنما يفهمها الجياع؛ فكيف نرجو من هذا الغنيِّ أن يتأثر, وأن يهتزَّ للإحسان, وهو لم يَجُعْ مرة واحدة في عمره؟. فهو لا يتصّور ألم الجوع, ومن لم يتصوَّر لم يُصدِّق, ومن لم يحس بالألم لم يحسن إلى المتألمين. ولو أن المسلمين أقاموا سنة الإحسان التي أرشدهم إليها الصوم لم ينبت في أرضهم مبدأ من هذه المبادئ التي كفرت بالله، وكانت شرًّا على الإنسانية. وأنا فقد عافاني الله من وجع الأضراس طول عمري؛ فانعدم إحساسي به؛ فكلما وصف لي الناس وجع الأضراس, وشكوا آلامه المبرِّحة سخرت منهم, وعددت الشكوى من ذلك نقيصة فيهم؛ هلعاً، أو خورًا، أو ما شئت. وفي هذه الأيام غمزني ضرس من أضراسي غمزةً مؤلمة أطارت صوابي, وأصبحت أؤمن بأن وجع الأضراس حقٌّ, وأنه فوق ما سمعت عنه, وأن شاكيه معذور، جدير بالرثاء والتخفيف بكلِّ ما يستطاع. هذه هي القاعدة العامة في طبائع الناس, فأما الذي يحسن؛ لأن الإحسان طبيعة قارَّةٌ فيه, أو يحسن لأن الإحسان فضيلة وكفى، فهؤلاء شذوذ في القاعدة العامة. وشهر الصوم في الإسلام هو مستشفى زماني تعالج فيه النفوس من النقائص التي تراكمت عليها في جميع الشهور من السنة, ومكَّن لها الاسترسال في الشهوات التي يغري بها الإمكان والوُجْد, فيداويها هذا الشهر بالفطام والحِمْية، والحيلولة بين الصائم وبين المراتع البهيمية. ولكنَّ هذه الأشفيةَ كلَّها لا تنفع إلا بالقصد والاعتدال. لو اتَّبع الناس أوامر ربِّهم, ووقفوا عند حدوده لصلحت الأرض, وسَعُد مَنْ عليها, ولكنهم اتبعوا أهواءهم ففسدوا, وأفسدوا في الأرض وشقوا, وأشقوا الناس.

_ المصدر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م (4/ 288) بتصرف

عبادة الأحرار

عبادة الأحرار محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ) نُشر عام 1369هـ الموافق 1950م سألتني أن أكتب لك شيئًا عن هذه الكلمة المعذبة: الصيام. فقد ضرب عليها الناس من الحكم، وصبوا عليها من الفوائد ما لو تأملته لم يَعْدُ أن يكون عرضًا طفيفًا من أعراض التجارب التي تمرُّ بالصائم. ولرأيتهم يبنون فوائدهم وحكمهم على غير منطق، كالذي يزعمونه من أن الغنيَّ إذا جاع في صيامه أحسَّ بل عرف كيف تكون لذعة الجوع على جوف الفقير، فهو عندئذ أسرع شيء إلى الجود بماله وبطعامه. ثم يزعمون أن الفقير الصائم إذا عرف أنه استوى هو والغني في الجوع قنع واطمأنت نفسه، لا أدري أمِن شماتته بالغني حين جاع كجوعه وظمئ كظمئه، أم من حبه للمساواة في أي شيء كانت، وعلى أي صورة جاءت! ولا تزال تسمع مثل هذه الحكم، حتى كأنَّ ربك لم يكتب هذه العبادة إلا ليعيش الفقير، وليعيش الغني، كلاهما في سلطان معدته جائعًا وشبعان ... ! ومنذ ابتلى المسلمون بسوء التفسير لمعاني عباداتهم، ومنذ أدخلوا عليها ما ليس منها، ساء أمرهم ودخل عليهم عدوهم من أنفسهم ومن غير أنفسهم، وجعل بأسهم بينهم، وتتابعوا في الخطأ بعد الخطأ، حتى تراهم كما تراهم اليوم: ألوف مؤلفة ما بين الصين ومراكش، تستبدُّ بهم الطغاة، بل تهاجمهم في عقر دارهم شرذمة من قدماء الأفاقين، ومن أبناء الذل والمسكنة، فتمزق أنباء دينهم ولغتهم من الأرض المقدسة شرَّ ممزَّق. وكل نكيرهم أصوات تضجُّ، ثم عودة إلى موائد الشهوات ولذات النفوس ومضاجع الراحة والترف والنعيم: حرصوا على الحياة وأسباب الحياة، فذلُّوا حتى أماتهم الذلُّ، ولو حرصوا على الموت وأسباب الموت، لعزُّوا به في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ولقد كتب علينا الصيام لينقذنا من مثل هذا البلاء، ولكنا نسينا الله فأنسانا أنفسنا، حتى صرفنا أعظم عبادة كتبت علينا - إلى معنى الطعام نتخفف منه لتصحَّ أبداننا، ونبذله لنواسي فقيرنا، ونجتمع عليه لتأتلف قلوبنا، ونصوم شهر رمضان فلا تصحُّ لنا أبدان، ولا يواسى فقير، ولا تأتلف قلوب - وإذا تمَّ بعض ذلك فسرعان ما يزول بزوال الشهر، وتنتهي آثاره في النفس وفي البدن وفي المجتمع. ولو أنصفنا هذه الكلمة المظلومة المعذبة لرأينا الصيام - كما كتب على أهل هذا الدين - طاعة خالصة بين العبد وربه، يأتيها الفقير الهالك ابتغاء رضوان الله، ويأيتها الغني الواجد ابتغاء رضوان الله، ويأتيانها جميعًا في شهر رمضان، ويأتيانها فرادى في غير شهر رمضان، لا ليعيشا في معاني المعدة بالبذل أو بالحرمان، بل ليخرجا معا سواء عن سلطان الطعام والشراب، وليخرجا معا سواء من سلطان الشهوات، بل ليخرجا معًا سواء من سلطان كل نقيصة: من سلطان الخوف، فلا يخاف أحدهما إلا الله، ومن سلطان الرياء، فلا يعمل إلا لله. وليس بين الصائم وبين ربِّه أحد، ولا يحول بينه وبين الاستجابة لربه شيء من أشياء الدنيا، أو حاجات البدن، أو داعيات الغرائز أو نزوات العقول. فتأمَّل معنى الصيام من حيث نظرت إليه: هو عتق النفس الإنسانية من كل رقٍّ: من رقِّ الحياة ومطالبها ومن رقِّ الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رقِّ النفس وشهواتها، ومن رقِّ العقول ونوازعها، ومن رقِّ المخاوف حاضرها وغائبها، حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل. فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضًا وتأتيه تطوعًا. ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض، لتقيم فيها الحق، ولتقضي فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق- لا يرضى لها أن تذلَّ لأعظم حاجات البدن؛ لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة؛ لأنها أسمى منها، ولا لأطغى قوى الأرض؛ لأنها أعزُّ سلطانًا منها. وأراد الله أن يكرِّم هذه العبادات فأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس عن ربه إذ قال: ((الصوم لي)). فلا رياء فيه؛ لأنه جُرِّد لله فلا يراد به إلا وجه الله، فاستأثر به الله دون سائر العبادات، فهو الذي يقبله عن عبده، وهو الذي يجزي به كما يشاء. وقد دلَّنا الله سبحانه على طرف من هذا المعنى إذ جعل الصيام معادلًا لتحرير الرقبة في ثلاثة أحكام من كتابه: إذ جعل على من قتل مؤمنًا خطأ تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92]. وجعل على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا تحرير رقبة من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]. وجعل كفارة اليمين تحرير رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] فانظر لِمَ كتب الله على من ارتكب شيئًا من هذه الخطايا الثلاث: أن يحرر رقبة مؤمنة من رقِّ الاستعباد، فإن لم يجدها فعليه أن يعمل على تحرير نفسه من رقِّ مطالب الحياة، ورقِّ ضرورات البدن، ورقِّ شهوات النفس، فالصيام كما ترى هو عبادة الأحرار، وهو تهذيب الأحرار وهو ثقافة الأحرار. ولو حرص كل مسلم على أن يستوعب بالصيام معاني الحرية، وأسباب الحرية، ومقاليد الحرية، وأنف لدينه ولنفسه أن تكون حكمة صيامه متعلقة بالأحشاء والأمعاء والبطون في بذل طعام أو حرمان من طعام- لرأينا الأرض المسلمة لا يكاد يستقرُّ فيها ظلم؛ لأن للنفوس المسلمة بطشًا هو أكبر من الظلم، بطش النفوس التي لا تخشى إلا الله، ولا يملك رقَّها إلا خالق السموات والأرض وما بينهما. ولرأينا الأرض المسلمة لا يستولى عليها الاستعمار؛ لأن النفوس المسلمة تستطيع أن تهجر كل لذة، وتخرج من كل سلطان، وتستطيع أن تجوع وتعرَى، وأن تتألم وتتوجع صابرة صادقة مهاجرة في سبيل الحقِّ الأعلى، وفي سبيل الحرية التي ثقفها بها صيامها، وفي سبيل إعتاق الملايين المستعبدة في الأرض بغير حق وبغير سلطان. واستطاع كل مسلم أن يكون صرخة في الأرض تلهب القلوب، وتدعوها إلى خلع كل شرك يقود إليه الخوف من الظلم، ويفضل إليه حب الحياة وحب الترف وحب النعمة، وهي أعوان الاستعمار على الناس. ويوم يعرف المسلمون صيامهم حق معرفته، ويوم يجعلونه مدرسة لتحرير نفوسهم من كل ضرورة وكل نقيصة، فحقٌّ على الله يومئذ أن ينصر هذه الفئة الصائمة عن حاجات أبدانها وشهوات نفوسها، الطالبة لما عند ربها من كرامته، التي كرَّم بها بني آدم، إذ خلقهم في الدنيا سواء أحرار، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وفعل الخيرات. ويومئذ ينصرهم على عدوهم، ويستخلفهم في الأرض مرة أخرى لينظر كيف يعملون.

_ المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (2/ 937)

فضل شهر رمضان

فضل شهر رمضان محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) الأزمنة في أنفسها متماثلة، وتفاضلها بما يظهر فيها من هداية وخير، وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إذ يقول: وما فاقت الأيامُ أخرى بنفسها ولكنَّ أيامَ الملاحِ ملاحُ وإذا نظرنا إلى شهر رمضان من هذا الوجه، وجدنا له مزايا تكسبه حرمة، وتجعل إقبال الناس فيه على الأعمال الفاضلة عظيماً. فكان هذا الشهر مظهر الكتاب الذي هو منار الهداية، ومطلع السعادة؛ كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] وإن شهراً ينزل فيه كتاب يملأ العقول حكمة، والقلوب طهارة، لذو طلعة مباركة، ومقدم كريم. ومن مزايا هذا الشهر: أنه الشهر الذي فتحت فيه مكة المكرمة، ذلك الفتح الذي علت به كلمة الإسلام في البلاد العربية، وعلى أساسه قامت الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب. فقد جمع هذا الشهر بين مزيتين عظيمتين: أولاهما: أنه الزمن الذي أنزل فيه القرآن إلى سماء الدنيا جملة، أو ابتدئ فيه نزوله إلى الناس، ثم تواردت آياته على حسب ما تقتضيه الحكمة. ثانيتهما: أنه كان مظهر الفتح الذي استوثقت به عرى دولة الإسلام التي مدت سلطانها العادل، وساست الأمم بشريعة تلائم مصلحة كل زمان ومكان. واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون للناس من بين سائر الشهور شهر يقضون بياض نهاره في عبادة الصوم، واختار أن يكون شهر رمضان هو الشهر الذي تؤدي فيه هذه العبادات ذات الحكمة السامية، والثواب الجزيل. ولعظم ما يترتب على الصيام من إصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، جعلت فريضته في القواعد التي يقوم عليها الإسلام، والدليل على أن القصد من الصيام: الإصلاح والتهذيب، لا تعذيب النفوس بنحو الجوع والعطش: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). وليس معنى هذا الحديث: أن من يقول زوراً، ويعمل به، ليس له من صيام، وإنما القصد منه: التنبيه على أن الصيام لا يتقبله الله تعالى بقبول حسن إلا إذا اجتنب صاحبه قول الزور والعمل به. ولرفعة منزلة الصيام، وعظم آثاره في إصلاح النفوس وتقريبها من مقام الخالق تعالى، أخذ في نظر الشارع عناية خاصة، فجاء في الحديث القدسي: أن الصوم لله، وأنه يتولى جزاءه بنفسه، ففي (الموطأ)، وغيره: ((كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به)). أضاف الله تعالى صيام العبد إلى نفسه؛ لأن سائر الأعمال تظهر على صاحبها، وقد يدخلها شيء من الرياء، والصوم لا يظهر على صحابه، فيقع لله خالصاً، وأخبر في الحديث: أن الله تعالى يتولى جزاءه بنفسه؛ إيماء إلى عظم ثوابه؛ فإن أكرم الأكرمين لا يقابل العمل الصالح إلا بالجزاء الأوفى، وأكد ذلك بأن جزاء الصوم فوق الجزاء المضعف إلى سبعمائة ضعف. أمر الشارع بالإنفاق في وجوه البر، وورد في السنة ما يدل على أن للإنفاق في هذا الشهر فضلاً على الإنفاق في بقية الشهور، يظهر هذا من حديث ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان))، وفضيلة التأسي به - عليه الصلاة والسلام - تدعو إلى بسط اليد بالمعروف في هذا الشهر أكثر من بسطها فيما عداه من الشهور؛ حتى يجد الفقراء من إحسان الأسخياء راحة بال، فيقبلوا على الصيام والقيام بنشاط. أمر الشارع بتلاوة القرآن تمكيناً لحجته، واستضاءة بنور حكمته، وجاء في السنة ما يرشد إلى الاستكثار من تلاوته، يظهر هذا من حديث ابن عباس في لقي جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الحديث: ((وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن))، والدراسة: القراءة، وما زال أولو الألباب من الناس يجعلون لشهر رمضان نصيباً من تلاوة القرآن أكثر من نصيب كل شهر. والتهجد في جزء من الليل قربة يبعث عند الله مقاماً محموداً، ونبهت السنة على أن من جزاء القيام في ليالي رمضان غفراناً يمحو الذنوب السالفة، قال صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه))، وظاهر الحديث: أن هذا الغفران المترتب على قيام رمضان، يأتي على ذنوب السالفة جميعاً فيسقطها، ولكن أهل العلم قصروه على صغائر الذنوب دون كبائرها، ورأوا أن فضل العمل الصالح لا يبلغ أن يسقط الكبائر من المعاصي، وصاحبها لم يتب عنها، أو لم تقم عليه العقوبة المقررة على من يرتكبها. يقولون هذا، وهم يسلمون أن لمشيئة الله تعالى سلطاناً قد يفعل في كبائر الذنوب ما تفعله التوبة الخالصة أو إقامة الحدود. وكان صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي السنة بأسرها، وورد في الصحيح: أنه خرج في إحدى ليالي رمضان من جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، جرى هذا ثلاث ليال، ولم يخرج في الليلة الرابعة، وقد ضاق المسجد على الحاضرين حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس، ثم قال: (أما بعد: فإنه لم يَخْفَ عليَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها). والخوف من افتراض هذه الصلاة قد يكون من جهة أن الله تعالى جعلها في حقهم من الأمور المندوب إليها، ولم يأمر بفعلها في جماعة على نحو الصلوات المفروضة؛ رفقاً بهم، فإذا تظاهروا بالقوة عليها، وساروا بها سيرة ما افترضه الله عليهم من الصلوات، كانوا قد شدَّدوا على أنفسهم في أمر جعل الله لهم فيه يسراً. فمن المحتمل أن يكون ما أخذوا به أنفسهم من الشدة سبباً لأن ينزل الوحي بفرض هذه الصلاة؛ ابتلاء لهم حتى يظهر عجزهم عن إقامتها، ويدركوا العسر الذي راعاه الشارع في عدم إيجابها، والتأكيد في الاجتماع لها، ومتى كان القصد من فرضها تنبيههم لوجه الرفق بهم في عدم فرضها أولاً، لم يلزم استمرار هذا الفرض حتى يقال: كيف يأمر الشارع الناس بما يعجزون عن المداومة عليه؟ وقد رأينا الشارع يسنُّ أحكاماً لمقاصد سامية، حتى إذا أحسَّ الناس بما فيها من عسر، عاد إلى ما يقتضيه أصل التشريع من الرفق والتيسير، فالنبي صلى الله عليه وسلم قصد بعدم خروجه لصلاة التراويح في المسجد قطع أمر من المحتمل أن يكون وسيلة لتكليف يثقل عليهم القيام به، ويظهر عجزهم عنه. وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن الناس يجتمعون في صلاة القيام برمضان على إمام واحد، وبقوا على هذا الحال إلى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقام أبيَّ بن كعب إماماً لهذه الصلاة، وجمع الناس على الائتمام به. قال عبد الرحمن القاري: (خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل، ثم عزم فجعلهم على أُبيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعم البدعة هذه). فالذي فعله عمر بن الخطاب إنما هو جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا يصلونها فرادى وجماعات في المسجد متفرقة، فعل هذا؛ لأن الأمر الذي ترك من أجله رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامتها في المسجد في جماعة، وهو خوف الافتراض، قد انقطع بالوحي، فعمر بن الخطاب استند فيما فعل إلى عمل النبي صلى الله عليه وسلم، مع تحقيق النظر في الوجه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تركها من أجله، وأراد بالبدعة: هيئة اجتماع الناس على إمام واحد، وسماها بدعة؛ تشبيهاً لها بعد أن تركت سنين، بما أحدث على غير مثال سابق. وتفضل الله تعالى بليلة جعل العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، وهي ليلة القدر. وجمهور أهل العلم على أنها تكون في رمضان؛ أخذاً بظاهر أحاديث أرشدت إلى التماسها في هذا الشهر. ومن ذهب من السلف إلى أنها تكون في ليلة من السنة غير مقيدة بشهر، حمل تلك الأحاديث على التماس ليلة القدر في رمضان في تلك السنة خاصة. وهذه الأعمال الصالحات التي جعلها الشارع عمارة شهر رمضان؛ من نحو: الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، وبسط اليد بالمعروف، شأنها أن تهذب النفوس، وتحبب إليها التقوى، وتعودها على السماحة واحتمال المكاره، وتهيئها للثبات والمواظبة على صالح الأعمال في سائر أيام السنة. فمن اتقى في شهر رمضان بعض المحارم، ورأيته يصوم مع الصائمين، ويصلي مع المصلين، حتى إذا انقضى هذا الشهر، جعل يتباطأ عن أداء الواجبات، ويبادر إلى ما كان يتقيه من المحرمات، فذلك الذي أقام أعماله على غير إخلاص، ولم يخالط قلبه بشاشة الاستقامة على ما أمر الله. تكثر الطاعات في رمضان، فيكثر الثواب، وتقل فيه المعاصي، فيقل العقاب، وإلى هذا يشير قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين))، ففتح أبواب الجنة إشارة بطرق المجاز إلى كثرة الثواب، أو إلى ما يفتحه الله للناس في هذا الشهر من الطاعات؛ كما أن تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين إشارة إلى قلة المخالفات وإغواء الشياطين، أو إلى ما يترتب عليها من قلة العقوبات. فُضِّل شهر رمضان بما وصفناه من المزايا، فاستحق اليوم الذي يلي آخر يوم منه أن يتخذ عيداً؛ لأنه يوم تمتلئ فيه قلوب الناس ابتهاجاً بما عملوا في هذا الشهر من خير، وأيُّ نعمة يصيبها الإنسان في هذه الحياة تساوي نعمة أداء ركن من أركان الإسلام، محفوفاً بضروب من أجلِّ الطاعات، وأشرف الآداب؟! وأيُّ ارتياح يساوي في نظر أولي الألباب ارتياح النفس عندما تشعر بأنها اتقت الله ما استطاعت؛؟ وإنما ارتياحها لما ترجوه من رضا الخالق، وما يتبعه من عزة في الدنيا، وسعادة في الأخرى.

_ المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (10/ 141)

العجيبة الثامنة

العجيبة الثامنة علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) نشر عام 1987م عجائب العالم القديم سبع: أهرام مصر، وحدائق بابل، وبقية السبع التي تعرفونها. وهي عجائب حقًّا، ولكنها هياكل شيدت من حجارة قطعت من صخور الجبل أو آجر جبل من تراب الأرض ونضج على جمر الأفران، وهذه العجيبة الثامنة أثر من عمل الأذهان. تلك تحف من عمل السواعد القوية والأيدي الصناع، وهذه من عمل الفكر الخالص والقرائح العبقرية ... إنها كتبٌ لو جمعت لبني منها هرم صغير أو لشيد برج هائل. فهل يقاس أثر لا روح فيه- وإن لم يخل من عبقرية تروع ناظريها ويكبرها المتأمل فيها- بآثار حية تبعث الأرواح في الأجساد، وتثير السواكن من الأفكار، وتحرك القرائح فتدفعها إلى الابتكار؟ هل عرفتم (القاموس المحيط)؟ إن فيه ستين ألف مادة، فهل فيكم من قرأه كله؟ من يستطيع أن ينسخه بخطه نسخاً؟ فكيف بمن ألفه تأليفاً؟! و (لسان العرب)، وهو أكبر منه وأوسع، فيه ثمانون ألف مادة. من قرأه منكم؟ ومن يستطيع أن يكتبه؟ و (تاج العروس شرح القاموس)؟ و (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، العربي الأموي الذي كان على أمويته يتشيع؟ و (نهاية الأرب)، و (صبح الأعشى)، و (تفسير الطبري)، و (فتح الباري)، و (المبسوط)، و (شرح المواقف) للسيد الجرجاني، والزرقاني على (المواهب)، و (معجم البلدان) ... وأمثال هذه الكتب التي تعد بالعشرات، بل بالمئات؟ إنها تمضي الأعمار دون قراءتها قراءة، فضلاً عن كتابتها كتابة. فتصوروا كيف ألَّفها مؤلفوها وكتبوها بأيديهم، وتناقلها الناس ونسخوا منها نسخاً؟ حتى كان في مكتبة العزيز بن المعز، وهو من ملوك الدولة العبيدية التي تُدعَى بالفاطمية، بضع وثلاثون نسخة من كتاب (العين). وهو أول المعجمات بالعربية، بل لعلي لا أكون مبالغاً إن قلت إنه أول المعجمات في الألسن كلها، ابتكره رجل كان من أذكى البشر جميعاً، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع علماً جاء به كاملاً، هو علم العروض. استنبطه من أصوات القصارين وهم يخبطون بالمخابط على الثياب فتختلف أصواتها، فميز منها (السبب) (طق) من (الوتد) (ططق)، وطبق ذلك على شعر العرب ووضع هذه الأوزان. وكان في هذه المكتبة عشرون نسخة من تاريخ الطبري، منها - كما يقول المقريزي في (خططه) - نسخة بخط الطبري نفسه، وفيها مائة نسخة من (الجمهرة) لابن دريد. وكل ذلك في عهد لم تكن عرفت فيه المطابع ولا الطابعات. المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب، ذهب جلها ولم يبق منها إلا قُلُّها. وهذا الذي بقى هو الأقل الأقل، وهو - على ذلك - شيء عظيم؛ ففي مكتبات إسطنبول - كما نقلوا - أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية، وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم، وفي مصر ثمانون ألف مخطوط، وفي موريتانيا واليمن وغيرهما. ولا نزال مع ذلك نجد بالمصادفة نوادر أخرى لم نكن نعرف لها وجوداً، آتيكم عليها بأمثلة. فهذا كتاب (الفصول والغايات) الذي قالوا إن المعري عارض به القرآن، واستمرت التهمة أكثر من تسعة قرون والمتهم بريء، والكتاب مفقود، وفقده يؤكد التهمة ويقويها، حتى وجده خالي محب الدين الخطيب في مكة في موسم الحج أيام الشريف حسين، لما كان محرر (القبلة) التي حلت محلها الجريدة الرسمية (أم القرى) رآه بيد أحد الباعة، فاشتراه بثمن بخس، وأهداه إلى مكتبة صديقه أحمد تيمور باشا (التي ضُمَّت بعدُ إلى دار الكتب)، ثم طبعة الأستاذ الزناتي، وهو ثالث الإخوان الثلاثة: الزيات، وطه حسين، والزناتي. وكان صديقنا الأستاذ عز الدين التنوخي يفتش عن رسالة لأبي الطيب اللغوي في خزانة شيخنا مفتي الشام، الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين، فوجد بالمصادفة كتابه (الإبدال) -الذي كان يعتقد بأنه مفقود- ضمن مجموعة من المخطوطات. وكنت قبل قدومي إلى المملكة من نحو خمس وعشرين سنة أزور مكتبة محدث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله ... فوجدت كتاباً عظيماً هو ركيزة من ركائز علم اللغة، كان المعتقد أنه فقد فيما فقد من كنوز مكتبنا الإسلامية، وهو (معجم الأصلين)، أي الكتاب والسنة، للإمام الهروي، أحد أئمة اللغة في القرن الرابع. وقد ذكره ابن الأثير في مقدمة (النهاية) وعدَّه خير ما أُلِّف في هذا الموضوع. وجدت منه نسخة صحيحة، مشكولاً أكثرها مكتوبة من ثمانمائة سنة عليها خطوط بعض الأعلام، وقد سألت صديقنا الدكتور صلاح الدين المنجد، وكان يومئذ مدير معهد المخطوطات، فعلمت أنه ليس في الدنيا من هذا الكتاب إلا نسخة ناقصة في جامعة بوسطن في أمريكا، ونسخة أخرى ناقصة أيضاً في إسطنبول. وهذا الكتاب إذا طبع كان أصلاً من الأصول، وصحح عليه القاموس ولسان العرب. وقد كتبت إلى كل جامعة أو مجمع آمل أن يعتني به وأن يطبعه، فما وجدت عند أحد اهتماماً ولا تلقيت منه جواباً! وبيعت مرة تركة عالم في دمشق بالمزاد، وكانت عنده كتب كثيرة، فجرد أولاده- وهم جهلة- الكتب المطبوعة المجلدة فاحتفظوا بها ثم أشعلوا النار بالباقي. وبينما كانت النار تأكل هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن رأوا بينها كتاباً فيه صور ملونة أعجبتهم، فسلُّوه من وسط اللهب وقد احترق طرفه, عرضوه على الوراقين، فإذا هو نسخة من (عجائب المخلوقات) للقزويني مكتوبة من أكثر من أربعمائة سنة، ميزتها أن فيها صوراً ملونة مذهبة كأنما صورت الآن، لها قيمة فنية لا تقدر، فباعوه بمئة ليرة (يوم كانت لليرة منزلتها)، وباعه الذي اشتراه للمتحف البريطاني بألف ومئتي ليرة، وأحسب هذه النسخة قد استقرت هناك. هذه المكتبة التي أصابتها المصائب وحاقت بها النكبات، العامة الشاملة والخاصة المفردة؛ كنكبتها بالمغول لما انحدر علينا سيلهم المدمر من أقصى الشرق، فجرف في طريقه مظاهر العمران وثمار الفكر حتى وصل إلى هذه المكتبة، فألقوا - من جهلهم - كتبها في دجلة يمرون عليها يتخذونها جسراً! حتى نقلوا أن ماء دجلة حيال الضفتين قد اسود مسافات مما ذاب فيه من المداد والحبر، بل من حصاد الأدمغة ونتاج العقول. ولما دخل الإسبان الأندلس أحرقوا مكتباتها، حتى صار ليلها نهاراً مما صعد منها من اللهب. وحسبكم أن تعلموا أن واحدة من مكتبات قرطبة كانت فهارس دواوين الشعر فيها - كما يقول ابن خلدون - أربعة وأربعين دفتراً كبيراً. فهارس دواوين الشعر فقط! أحرقها الإسبان فأضاءت ليالي الأندلس هذا عدا ما أصابها من النكبات الفردية، من التحريق والتخريق والتمزيق والتغريق، حتى لم يبق من هذه المكتبة إلا الأقل الأقل، وهذا الأقل لا تزال المطابع في الشرق والغرب تطبع منه من مئتي سنة إلى الآن، ولم تطبع إلا بعض هذا القليل الذي بقي. لقد اطلع عالم تركي على طرف من هذا التراث، هو حاجي خليفة صاحب (كشف الظنون)، فوصف في كتابه العظيم ما اطلع عليه فكان نحو عشرين ألف كتاب، وألفت ذيول لكشف الظنون تزيد عليه أضعافاً، وكلها مطبوع معروف تتداوله أيدي الناس. وعالم تركي آخر هو طاش كبري زاده، صاحب (مفتاح السعادة)، وصف جانباً آخر اطلع عليه فكان في ثلاثمائة وستة عشر علماً (أو بحثاً إذا شئتم التدقيق والتحقيق). وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن مكتبة الخليفة العبيدي- الذي يسميه الناس الفاطمي- لما استولى عليها صلاح الدين الأيوبي كانت كتبها تقرب من المليون. إن من هذه الكتب ما لا يستطيع الواحد منا أن يقرأه قراءة، فكيف إذا حاول أن ينسخه نسخاً؟ فكيف وكثير منها أملاه مؤلفوه إملاء لأنهم كانوا من مكفوفي البصر؟ كـ (المخصص) لابن سيده، أوسع كتاب في اللغة، أملاه إملاء. و (الاستيعاب) لابن عبد البر، أملاه إملاء وهو ضرير لا يقدر أن يأخذ من الكتب. و (المبسوط) أوسع كتاب في الفقه، أملاه مؤلفه وهو محبوس في الجب تحت الأرض لكلمة حق قالها عند حاكم ظالم، فكان تلاميذه يقفون في الطريق يستملون ويكتبون، وهو يملي عليهم من بطن الجبِّ، ما عنده كتاب ينظر فيه، ولا مرجع يرجع إليه، وقد بين ذلك في كتاب العبادات في آخر باب الإقرار. والطبري كان يريد أن يجعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة، فسأل تلاميذه فاستكثروه، فجعله في ثلاثة آلاف وقال: وا أسفاه، لقد كلَّت الهمم عن طلب العلم! وقاضي مصر بكار بن قتيبة، لما سجنه ابن طولون وطال سجنه سأله طلاب الحديث أن يأذن لهم بالسماع منه، فكان يحدثهم وهو في السجن يأخذون عنه من راء الباب. وابن تيمية كتب كثيراً من رسائله وهو في السجن. وابن سينا ألف رسالته عن القولنج (ونحن لا نزال إلى الآن نستعمل في الشام كلمة القولنج) ورسالة حي بن يقظان (التي قلدها ابن طفيل الأندلسي، فاشتهرت قصته وماتت قصة ابن سينا) كتبها وهو سجين. وقصة (حي ابن يقظان) هي التي نسج على منوالها ومشى على أثرها مؤلف رواية روبنسون كروزو المشهورة. بل إن الكتاب العظيم لابن سينا، وهو (الشفاء) الذي بقي الأساس في دراسة الكتب في جامعات أوربا إلى ما قبل أربعمائة سنة، ألَّفه وهو هارب متنقل في البلدان متوارٍ عن الأبصار. بل لقد أخرجت هذه العصور المتأخرة كتباً كبيرة، كشرح القاموس للزَّبيدي (الهندي الأصل اليماني المقام). بل لقد ألفت في عصرنا هذا كتاب كبار، ككتاب (الأعلام) للزركلي، ومجموعة (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (ظهر الإسلام) لأحمد أمين، و (تاريخ العرب قبل الإسلام) لجواد علي العراقي الذي توفي حديثاً، و (شرح الكامل) للمرصفي. ولقد حدث أحد تلاميذه أنه دخل عليه يوماً - وكان يسكن غرفة مقفرة من دار خربة في حي قديم من أحياء القاهرة، يضل الماشي في أزقته ويغوص في وحله، لأنه كان من فقره لا يستطيع أن يجد غير هذه الدار في غير هذا الحي- فوجده قاعداً على حصير بالٍ مفروش في وسط الغرفة، ليس فيها سواه، وأمامه كتب منثورة والصحائف منشورة، وحول الحصير خيط من الدبس مصبوب على الأرض. فسأله: ما هذا الدبس يا مولانا؟ فضحك الشيخ وقال: إنه سور يحميني من هجمات البق! في هذه الغرفة العارية، على هذه القطعة من الحصير، ألَّف الشيخ كتابه العظيم (شرح الكامل للمبرد)، هذا الكتاب من الكتب التي يفاخر بها عصرنا العصور الخوالي، لهذا العالم الذي ينافس بأمثاله القرون الماضيات. ولا تزال في المكتبات العامة والخاصة عشرات، بل مئات، من المخطوطات؛ في دار الكتب المصرية، وفي المكتبة الظاهرية في الشام، وفي مكتبات إسطنبول وبغداد، وفي مكتبة باريس، وفي مكتبة المتحف البريطاني، وفي الإسكوريال في إسبانيا، وفي مكتبة عارف حكمة في المدينة، وفي مكتبات فاس وغيرها في المغرب، هذه التي سلمت من أيدي المتعصبين من أعضاء محكمة التفتيش، ولو بقي كل ما كان في الأندلس لوجدنا شيئاً عظيماً، وفي ليدن في هولندا، وفي مكتبة بوسطن في أمريكا ... في هذه المكتبات التي رأيت بعضاً منها واطلعت على فهارس بعض، وسمعت الأخبار عن بعض، لا تزال فيها الآن آلاف مؤلفة من هذه المخطوطات. وفي المكتبات الخاصة آلاف أخرى. أذكر لكم من هذه المكتبات ما عرفته أو سمعت به. من أكبرها مكتبة أحمد تيمور باشا الذي تعقب كتب التاريخ خاصة، فكان يشتري الكتاب منها بوزنه ذهباً إن لم يستطع شراءه بأقل من ذلك. ومكتبة أحمد زكي باشا (وكلا المكتبتين في دار الكتب المصرية الآن والحمد لله). ومكتبة عبد الحي الكتاني في المغرب، وهي من أغنى الكتب في التاريخ. ومكتبة أنستاس الكرملي، وفيها كثي

ويلك آمن ... !

ويلك آمن ... ! محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ) نُشر عام 1358هـ الموافق 1940م أيام من الدهر حائرة في أودية الزمن، وساعات تخلع المصائب وتلبسها بين الثانية والثانية، ورعب مظلم خيَّم على الأرض فلا تُضيئه إلا شقائق النار، وهي تفري الجو ذاهبة وآيبة، وحيرة سابحة فيها عقول البشر لا تدع قرارًا لفكر ولا خيال، وسهام نافذة من البلايا تفتق نسج النفس الإنسانية فتقًا رغيبًا يتعايا على الراقع والمصلح ... فياله من بلاء مطبق على العالم إطباق اليوم الصائف يسدُّ بحَرِّه منافذ الأنفاس. ما الحياة؟ ما الإنسان؟ ما العقل؟ ما الحضارة؟ إلى أين نسير؟ كيف نعمل؟ لماذا نعيش؟ فيم نتعب؟ تبًّا لكلِّ هذه الضلالات الداجية التي لا يبرق فيها نجم واحد يقول للإنسان: اتبعني، سوف تهتدي!! هذه هي الحضارة الأوربية الحديثة قد انتهت بالناس إلى خلق هذا الإشكال الدائم الذي لا يُحلُّ، وساقت الناس إلى مرعى من الشك وبيء، كلما ازدادوه غذاء زادهم بلاء، فلا ينتهي من ينتهي إلا إلى هلكة تدع فكرة الحياة خرافة عظيمة قد اتخذت لها أسلوبًا تتجلَّى فيه، فكان أبلغ أسلوب وأفظع أسلوب، هذا الإنسان الذي يحمل من رأسه قنبلة حشوها المادة المتفجرة التي تهلكه وتهلك ما يطيف به أو يقاربه، فلا هو ينتفع بنفسه، ولا ينتفع العالم به. لقد أخفقت هذه المدنية في سعيها لخير الإنسان، وأثبتت بكل دليل أنها مهما تكن أحسنت إلى الإنسانية، فلم تحسن مرة واحدة أن تضبط نوازع النفس، وتردَّها إلى الطريق الواحد الذي ينبغي أن تصدر عنه، حتى تكون كل أعمالها نقية طاهرة متشابهة. ذلك الطريق هو طريق الروح الذي لا يتمُّ لعمل تمام، ولا يظفر بخلود أو بقاء، إلا أن يكون فيه مس الروح، وطهارة الروح، وقدس الروح. أطلقت هذه المدنية في الدم الإنساني كل ذئاب الشرِّ والرذيلة، فخرجت من مكانها جائعة قد سلبها الجوع كلَّ إرادة تحملها على بعض الورع الذي يكف منها، فعاثت في إنسانية الإنسان حتى جُنَّ، وتنزَّى في الأرض وحشًا يجعل شريعته المقدسة تنبع أحكامها من معدته، ومن أحكام هذه المعدة ومطالبها، وكذلك انقلب النظام الاجتماعي في العالم من نظام روحي عقلي سامٍ، إلى نظام اقتصادي تجاري ضار، الآكل والمأكول فيه سواء؛ لأن النية انعقدت في كليهما على الافتراس، وما الفرق بينهما إلا فرق القوة التي أعدت هذا للظفر، وأسلمت ذلك إلى العجز، فدفعت به إلى رحى تدور بأسباب من الطغيان والفجور. وما هي شريعة المعدة في هذه المدنية الاقتصادية التجارية؟ هي شريعة السوق التي لا تعرف قيمة الشيء إلا في ميزان من الطلب، فما طُلب فهو الجيد، وما عمي على الطالب فهو الرديء الذي لا قيمة له، وكل شيء قائم في جوهره على النزاع الذي لا تسامح فيه، والأمر كله للغلبة: غلبة الأقوى، لا غلبة الأعدل، غلبة الحيلة لا غلبة الصدق، غلبة البراعة لا غلبة الحق. فهذه الشريعة هي شريعة إعزاز القوى؛ لأن القوة تسوغه أن يتسلط، وإذلال الضعيف؛ لأن الضعف تهالك به أن يتحكم، وليس بين هذين معدلة ولا نصفة، وليس أحدهما من الآخر إلا كالثعبان من العصفور إذا عرض له، فسلط عليه الرعب من عينيه، فينتفض في قبضة أشعتهما المفترسة المسمومة حتى يبرد دمه فلا يستطيع حركة، ولا يتنغش بدنه بذماء من الحياة. هي الشريعة التي تجعل إنسانها القوي مقبرة لإنسانها الضعيف، فالقوي أبداً آكل قد أرمت في نفسه تلك الجيف التي انتهشها وألقى بها في معدته، فتجيفت وتعفنت، وتصاعدت أرواحها المنتنة في حياته، فجعلته متسرعاً نفاذاً كأنما يريد أن يهرب بنفسه من نفسه التي لا يطيق جوها؛ لأنه جو خانق، تطوف فيه أشباح الفرائس المسكينة التي بطشت بها أنيابه ومخالبه. هذه الحضارة القابرة التي تدنست روحها بالرمم التي ضعفت أن تقاوم القوة، لن تستطيع إلا أن تفسد العالم وتدنِّسه كما تدنَّست، فإنه محال أن تكون الشريعة مدنسة نجسة، وتأتي الناس بخير طاهر مبارك يغسل أدران الإنسانية التي تتجمع عليها يومًا بعد يوم، ولا أن تخرج نفس الإنسان فيها مع الفجر ندية مشرقة رفافة، تستقبل بفضائلها أعمال نهارها. إن شريعة إعزاز القوي وإعلاء الأقوى، وإذلال الضعيف وإسقاط الأضعف، هي الشريعة الحيوانية التي لم تعل إلا بإذلال الروح والعقل وإسقاطهما ونبذهما، هي شريعة البغي والعدوان على الروح بالروح الشيطانية، وعلى العقل بالعقل المتمرد، وكلما استحكم أمرها كانت الإنسانية ذاهبة إلى نبع نجس تنغمس فيه لتصدر عنه أقوى مما وردت - أي أنجس مما وردت. إن الكون لا يصلح إلا على معنى الأقوى والأضعف! هذا حق لا يمارى فيه إلا مكابر أو مبطل أو أحمق. ولكن يبقى ذلك العمل الإنساني الذي يثبت للإنسان معاني النبل المنحدرة في روحه من نبل النور الأزلي الذي بعث الحياة بعثاً في نفسه وفي أعماله، وبهذا العمل وحده يعرف الإنسان معنى السعادة في السراء والضراء، وفيما أرضى وما أسخط، وتكون حاله في الحالين واحدة، وذلك بأن تتسع روحه بالواجب الاجتماعي الروحي الذي يتراحب بإنسانيته في الكون كله، فتقع اللذة منها موقع الألم، وينزل الألم في منزل اللذة، وتمسح النظرة السامية عن الوجود كل الغبار الأرضي الذي يغطي محاسن الحياة، وتنير الكلمة ظلمة النفس: الحمد لله فيما سرَّ وما ساء. والعمل الإنساني المستمد روحه من العمل الإلهي في الإنسان هو العدل والمساواة، وقد جعلت الحضارة الحديثة معنى العدل والمساواة صدقة يتصدق بها أغنياء قوم على فقرائهم، وأقوياؤهم على ضعفائهم، لا على معنى الصدقة في إخلاصها لله ثم للإنسانية، ولكن على معنى التخفف من تعب الغِنى وتعب القوة. أما حقيقة العدل والمساواة، فهي عمل الإنسان الأقوى في رفع الإنسان الأضعف إلى مرتبته، فلا يزال هو يرتفع بقوته، ولا يزال الضعيف يسمو معه؛ لأنه معقود الأواصر به. وإذا كان ذلك هو القاعدة، فالاجتماع كله سام ذاهب إلى السمو، ولا يكون فيه معنى للطبقات إلا على معنى التدرج، ولا يكون التدرج إلا على تماسك وتواصل، وليس تماسك ولا تواصل إلا على حرص الأعلى على التعلق بالأدنى، وكذلك لا يرتفع شيء من المجتمع؛ لأنه أعطى القدرة على الارتفاع، ولا يسقط الشيء الآخر منه؛ لأنه لم يجد ما يتعلق إذ حرم هذه القدرة أو زويت عنه أسبابها. وقد جعل الإسلام من أول أمره غرضًا للمسلم لا يرضى منه غيره، وردَّ معنى الإسلام إليه، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاعدة وقال للناس: اعملوا: فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه أزر بعض. والإيمان لا يعرف الغني والفقر، والقوة والضعف، والمراتب الحيوانية التي طبعتها الطبيعة على تنازع البقاء وغلبة الأقوى، بل هو معنى يوحد الناس حتى ليس لأحد فضل على أحد إلا بقدر منه، وحتى إن العبد المملوك العاجز ليرفعه إيمانه على من ملكه واستبد به وأعتق رقبته بماله، إذا لم يكن هذا المالك قد استحق بإيمانه مرتبة هذا العبد. وفي بعض الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء هداية إلى هذا الأصل، فقد رُوي عن المعرور بن سويد أنه قال: ((لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية!! إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)). ولا ينتهي عجب متعجب من بلاغته صلى الله عليه وسلم، وكيف ينزل كلامه تنزيلًا في معانيه، تدور بها دورة دائمة لا تنتهي على نظام ثابت لا يتبدل. فقدم صلى الله عليه وسلم الأخوة بين المؤمنين؛ لأنها هي الأصل الذي لا يتمُّ معنى الإيمان ولا معنى الإنسانية إلا به، وردَّ على هذه الأخوة ما يوجبه المجتمع من مراتب الناس على الغنى والفقر، والقوة والضعف، ألا وهي الخدمة التي يقوم بها النظام الاجتماعي فقال: ((إخوانكم خولكم)) ولم يقل: (خَوَلكم إخوانكم)، هذا مع أن أصل الخطاب إلى أبي ذر يتوجه إلى مقصود بذاته، وهو خادمه أو غلامه الذي سبَّه، فكان أول ما يسبق إلى اللسان، وأقرب ما يسرع إليه الوهم، أن يتعين خادمه بالابتداء. ثم انظر كيف قال: ((جعلهم الله تحت أيديكم))، ((فمن كان أخوه تحت يده))، وكيف حرَّر الإنسان من ربقة العبودية على عنقه، فجعله تحت يده يستظل ويتحرك في هذا الظل، ولم يجعله في يده يتصرف فيه ويقبض عليه ويستذله، فإن شاء حطمته قبضته. ثم درج على هذا الأسلوب البليغ حرفاً بعد حرف حتى قال: ((فإن كلفتموهم فأعينوهم))، وذلك زكاة القوة التي بها مَلَك المالكُ، واستخدم المستخدم. فإذا كان المؤمن قد قوى على تكليف ضعيفه أن يعمل، فهو أقوى على أن يشاركه إذا عجز، أو قعد به الضعف الذي أصاره إلى أن يرضى أن يخدم نفسه من كان أعلى يداً وأقوى قوة. فهذه هي شريعة الروح الطاهرة التي تتعطر من نواحيها برائحة جنة الخلد، فانظر ما بينها وبين شرائع المعدة التي جعلت أحشاءها مقابر للضعفاء تأكل منهم. فهل يمكن أن يتطهر العالم فيما يستقبل من أيامه على أساس هذا الهدي النوراني، الذي جعل النظام الاجتماعي سموًّا بالإنسان كله على مراتبه كلها؟ {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف: 17]

_ المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/ 193) (بتصرف)

النبوغ

النبوغ مصطفى لطفي المنفلوطي (ت: 1342هـ -1924م) من العجز أن يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزناً، وأن ينظر إلى من فوقه من الناس نظر الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق، وعندي أن من يخطئ في تقدير قيمته مستعلياً خير ممن يخطئ في تقديرها متدلياً؛ فإن الرجل إذا صغرت نفسه في عين نفسه يأبى لها من أعماله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده؛ فتراه صغيراً في علمه، صغيراً في أدبه، صغيراً في مروءته وهمته، صغيراً في ميوله وأهوائه، صغيراً في جميع شؤونه وأعماله؛ فإن عظمت نفسه عظم بجانبها كل ما كان صغيراً في جانب النفس الصغيرة. ولقد سأل أحدُ الأئمة العظماء ولدَه، وكان نجيباً: أيُّ غاية تطلب في حياتك يا بني؟ وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكون؟ فأجابه: أحب أن أكون مثلك، فقال: ويحك يا بني لقد صغَّرت نفسك، وسقطت همتك؛ فلتبك على عقلك البواكي، لقد قدَّرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون كعلي بن أبي طالب؛ فما زلت أجدُّ، وأكدح حتى بلغتُ تلك المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي ما تعلم، من الشأو البعيد والمدى الشاسع؛ فهل يسرك، وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عليّ؟ كثيراً ما يخطئ الناس في التفريق بين التواضع وصغر النفس، وبين الكبر وعلو الهمة، فيحسبون المتذلل المتملق الدنيء متواضعاً، ويسمون الرجل إذا رفع بنفسه عن الدنايا، وعرف حقيقة منزلته من المجتمع الإنساني متكبراً. فتى كان عذبَ الروحِ لا من غضاضةٍ ولكنَّ كبراً أن يُقال به كبرُ وما التواضع إلا الأدب، ولا الكبر إلا سوء الأدب؛ فالرجل الذي يلقاك متبسماً متهللاً، ويقبل عليك بوجهه، ويصغي إليك إذا حدثته، ويزورك مهنئاً ومعزياً ليس صغير النفس كما يظنون، بل هو عظيمها؛ لأنه وجد التواضع أليق بعظمة نفسه؛ فتواضع، والأدبَ أرفعَ لشأنه؛ فتأدب. فإذا بلغ الذل بالرجل ذي الفضل أن ينكس رأسه للكبراء، ويتهافت على أيديهم وأقدامهم لثماً وتقبيلاً، ويتبذل بمخالطة السوقة والغوغاء بلا ضرورة ولا سبب، ويكثر من شتم نفسه، وتحقيرها، ورميها بالجهل والغباوة، ويبصبص برأسه، وهو سائر في طريقة بصبصة الكلب بذنبه، ويجلس في مدارج الطرق، وعلى أفواه الدروب جلسة البائس المسكين- فاعلم أنه صغير النفس، ساقط الهمة، لا متواضع، ولا متأدب. إن علو الهمة إذا لم يخالطه كبر يزري به، ويدعو صاحبه إلى التنطع وسوء العشرة كان أحسنَ ذريعة يتذرع بها الإنسان إلى النبوغ في هذه الحياة، وليس في الناس من هو أحوج إلى علو الهمة من طالب العلم؛ لأن حاجة الأمة إلى نبوغه أكثر من حاجتها إلى نبوغ سواه من الصانعين والمحترفين، وهل الصانعون والمحترفون إلا حسنة من حسناته، وأثر من آثاره؟ بل هو البحر الزاخر الذي تستقي منه الجداول والغدران. فيا طالب العلم كن عالي الهمة، ولا يكن نظرك في تاريخ عظماء الرجال نظراً يبعث في قلبك الرهبة والهيبة؛ فتتضاءل وتتصاغر كما يفعل الجبان المستطار حينما يسمع قصة من قصص الحروب، أو خرافة من خرافات الجان، وحذار أن يملك اليأس عليك قوتك وشجاعتك؛ فتستسلم استسلام العاجز الضعيف، وتقول: من لي بِسُلَّم أصعد فيها إلى السماء حتى أصل إلى قبة الفلك؛ فأجالس فيها عظماء الرجال؟ يا طالب العلم، أنت لا تحتاج في بلوغك الغاية التي بلغها النابغون من قبلك إلى خلق غير خلقك، وجو غير جوك، وسماء وأرض غير سمائك وأرضك، وعقل وأداة غير عقلك وأداتك. ولكنك في حاجة إلى نفس عالية كنفوسهم، وهمة عالية كهممهم، وأمل أوسع من رقعة الأرض، وأرحب من صدر الحليم، ولا يقعدن بك عن ذلك ما يهمس به حاسدوك في خلواتهم من وصفك بالوقاحة أو بالسماجة؛ فنعم الخلق هي إن كانت السبيل إلى بلوغ الغاية؛ فامض على وجهك، ودعهم في غيهم يعمهون. جناحان عظيمان يطير بهما المتعلم إلى سماء المجد والشرف: علو الهمة والفهم في العلم أما علو الهمة فقد عرفته، وأما الفهم في العلم، فإليك الكلمة الآتية: العلم علمان: علم محفوظ وعلم مفهوم. أما العلم المحفوظ؛ فيستوي صاحبه فيه مع الكتاب المرقوم، ولا فرق بين أن تسمع من الحافظ كلمة، أو تقرأ في الكتاب صفحة؛ فإن أشكل عليك شيء مما تسمع، فانظر إن نطق الكتاب بشرح مشكلاته، نطق الحافظ بتفسير كلماته. الحافظ يحفظ ما يسمع؛ لأنه قوي الذاكرة، وقوة الذاكرة قدر مشترك بين الذكي والغبي والنابه والخامل؛ لأنَّ الحفظ ملكة مستقلة بنفسها عن بقية الملكات: وإنك لترى الشيخ الفاني الذي لا يميز بين الطفولة والهرم، والذي يبكي على الحلوى بكاء الطفل عليها، ويرتعد فرقاً حينما يسمع ابنته تخيف طفلها بأسماء الجن والشياطين، ويسرد ذلك من تواريخ شبيبته وكهولته ما لو دوَّنته لكان تاريخاً صحيحاً ضخماً مملوءاً بالغرائب والنوادر؛ وقيل لأحد العلماء: إن فلاناً حفظ متن البخاري، فقال: لقد زادت نسخة في البلد! ذلك هو السر العظيم في كثرة المتعلمين وقلة العاملين؛ لأن من فهم معلوماً من المعلومات حق الفهم أُشْرِبَتْه روحه، وخالط لحمه ودمه، ووصل من قلبه إلى سويدائه، وكان إحدى غرائزه، فلا يرى له بدًّا من العمل به رضي أم أبى. لولا أن العلم الديني قد أصبح اليوم علماً محفوظاً لما وجدت في العلماء من يجمع بين اعتقاد الوحدانية وبين التردد على أبواب الأحياء والأموات في مزاراتهم وفي مقابرهم يسألهم المعونة والمساعدة على قضاء الله وقدره، ولا وجدت بين الذين يحفظون قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]. مَنْ يُسْنِد النفع والضر إلى كل من سال لعابه، وتمزق إهابه، ولا وجدت في الناس كثيراً من ضعفاء العزيمة الذين يحفظون ما ورد على ألسنة الأنبياء والحكماء من مدح الفضائل وذم الرذائل، ثم لا تجد فرقاً بينهم وبين العامة في ارتكاب المنكرات والنفور من الصالحات. لو كان العلم المحفوظ علماً- وهو على ما نشاهد ونعلم من سوء الأثر وقلة الجدوى- ما مدح العلم في كتاب ولا سنة، ولا قدَّسه كاتب، أو ترنم بمدحه شاعر، فإذا سمعت ذكر العلم فاعلم أنه العلم المفهوم لا المحفوظ، وآية فهم المعلوم تأثر العالم به، وظهوره في حركاته وسكناته، وترقرقه في شمائله، ولا تثق بالحافظ فيما ينقل إليك، فربما مرَّ بالمعلوم مُحَرَّفاً فأخذه على علاته. وأقبح ما عرفنا من أطواره أنه يجمع في حافظته بين النقيض ونقيضه، والغث والسمين، والجيِّد والزائف، فكأن ذاكرته حانوت عطَّار اختلطت فيها الأدوية الشافية، بالعقاقير السامة. وجملة الأمر أن الحافظ البحت لا رأي له في مبحث فيسأل عن مذهب، ولا أثر لمعلوماته في نفسه فيقتدى به، ولا ذوق له في الفهم فيعتمد على شرحه وتأويله. أما العلم المفهوم فهو الواسطة التي إذا جمع المتعلم بينها وبين علو الهمة طار إلى المجد بجناحين، وكان له سبيل مختصر إلى منزلة العظماء ودرجة النابغين. والعلم سلسلة طويلة طرفاها في يدي آدم أبي البشر وإسرافيل صاحب الصور، ومسائله حلقات يصنع كل نابغة من النوابغ في كل عصر من العصور واحدة منها، ولن يبلغ المتعلم درجة النبوغ إلا إذا وضع في العلم الذي مارسه مسألة، أو كشف حقيقة، أو أصلح هفوة، أو اخترع طريقة، ولن يسلس له ذلك إلا إذا كان علمه مفهوماً لا محفوظاً، ولا يكون مفهوماً إلا إذا أخلص المتعلم إليه، ولم ينظر إليه نظر التاجر لسلعته، والمحترف لحرفته؛ فالتاجر يجمع من السلع ما يتفق سوقه، لا ما يغلو جوهره، والمحترف لا يهمه من حرفته إلا لقمة الخبز وجرعة الماء، أحسن أم أساء. لا يزور العلم قلباً مشغولاً بترقب المناصب، وحساب الرواتب، وسَوْقِ الآمال وراء الأموال، كما لا يزور قلباً مقسماً بين تصفيف الطُّرَّة، وصقل الغرَّة، وحسن القوام، وجمال الهندام، وطول الهيام بالكأسين: كأس المدام، وكأس الغرام.

_ المصدر: كتاب (مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة، دار الجيل- بيروت، 1404هـ، 1984م، (1/ 238) بتصرف.

العلماء والإصلاح

العلماء والإصلاح محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) نُشر عام 1349هـ الموافق 1930م نود من صميم قلوبنا أن تكون نهضتنا المدنية راسخة البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة. ولا يرسخ بناؤها، ويروع طلاؤها، وتحمد عاقبتها، إلا أن تكون موصولة بنظم الدين، مصبوغة بآدابه، والوسيلة إلى أن يجري فيها روح من الدين يجعلها رشيدة في وجهتها، بالغة غايتها: أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية، فلا يذروا شيئاً يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه. ينظر أهل العلم في حال الناس من جهة ما يتقربون به إلى الخالق، ويزنون أعمالهم ليميزوا البدعة من السنة، ويرشدوهم إلى أن يعملوا صالحاً. ومن الذي لا يدرك أن البدع تقف كقطع من الليل المظلم، فتغطي جانباً من محاسن الشريعة الغراء، وهي - بعد هذا - ضلالات تهوي بأصحابها في ندامة وخسران؟ ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يدور بينهم من المزاعم الباطلة، والأحاديث المصنوعة، وينفون خبثها نفي النار لخبث الحديد، يفعلون هذا ليكون الناشئ المسلم نقي الفكر، صافي البصيرة، لا يحمل في نفسه إلا عقائد خالصة، وحقائق ناصعة. ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يجري بينهم من المعاملات، فيصلحون ما كان فاسداً، ويصلون ما كان متقطعاً، وما شاعت المعاملات التي نهي عنها الدين في غير هوادة؛ كالربا، والميسر، إلا حيث قل من يعظ الناس في ارتكابها، ويبسط القول في شؤم عاقبتها. ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يمسهم من السراء والضراء، ويسعون ما استطاعوا في كشف الضر عنهم، ولو بعرض حالهم على أولي الشأن، وإثارة دواعيهم إلى أن يعالجوا العسر حتى ينقلب بفضل تدبيرهم يسراً. يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس: أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة، كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم، وقال أحد علمائهم: وأتعبُ إن لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً وغيريَ إن لم يُتْعِبِ الناسَ يَتْعَبُ ينظر أهل العلم بعين الاحتراس إلى كل من يدعو إلى مذهب باسم الدين، ويتخذون الوسائل إلى الاطلاع على حقيقة قصده. ومن أسباب وهن حبل الإسلام، وتقطع أوصاله: مذاهب يبتدعها ملاحدة يمكرون، أو جهال لا يفقهون. أفلم يكن المذهب البهائي يعمل لهدم قواعد الإسلام، واستهواء أبنائه من خلف ستار؟! وقد أحس بعض أتباعه اليوم بقوة، فصاروا يخطبون على منابر النوادي، ويجهرون بشيء من مزاعمه، وعرف بعض خصوم الإسلام قصدهم، فقاموا يشدون أزرهم، ويرددون الثناء على مذهبهم. نحن نعلم أن في كل أمة فئة يفتحون صدورهم لقبول كل دعوة توافق أهواءهم، أو تأتيهم في طلاء يلائم أذواقهم، ولكن نهوض العلماء بعزم وحكمة، إن لم يسحق آراء هذه الفئة سحقاً، فإنه يكشف عما فيها من سوء، فلا يسكن إليها إلا من هم إلى الحيوان الأعجم أقرب منهم إلى الإنسان. يرقب أهل العلم كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة، ولا تعد هذه المراقبة وهذا النقد خارجين عن خطة العالم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه، كواجب التعليم والإفتاء. وإذا قصَّ علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قصَّ علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً. كان أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر ابن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحية من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مال موفر يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد الأضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة. وكان محمد بن عبد الله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما كان يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وهي منها، حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة. وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودًّا واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً، أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يعرفون في طائفة من العلماء رجاحة الرأي، وصراحة العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء؟ وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبد الرحمن بن القاسم في القاهرة. ينظر أهل العلم إلى ما غرق فيه بعض شبابنا من التشبه بالمخالفين، وتقليدهم في عادات لا تغني من الرقي شيئاً، وقد يرى بعضهم انحطاط كثير من أبنائنا في هذا التشبه والتقليد، فيعده قضاء مبرماً، ويملكه خاطر اليأس، حتى ينتكث من التعرض للشؤون العامة ومعالجتها، ولكن الذي يعرف علة هذا التسرع، ويكون قد قرأ التاريخ ليعتبر، يرى الأمر أهون من أن يصل بالنفوس إلى التردد في نجاح الدعوة، بله اليأس من نجاحها. وأذكر بهذا: أن كاتباً كتب في إحدى المجلات مقالاً تحت عنوان: (وحدة العالم) يدعو فيه إلى مسايرة أوربا في السفور ونحوه، وقال في علة الدعوة إلى هذه المسايرة: ليخرج الشرق والغرب في مدنية واحدة، وأشار على دعاة الإصلاح في الشرق بأن لا يقفوا في سبيل هذه المدنية، زاعماً أنهم لا يستطيعون مقاومتها، ولا يزيدون على أن يجعلوا سيرها بطيئاً، ورغب إليهم أن يحثوا الناس على المسارعة إلى قبولها. والذين ينظرون إلى مدنية أوربا باعتبار، يبصرون فيها على البداهة ما لا يرتضيه العقل، ولا يقبله الشرع. واختلاف الأمم بالحق خير من اتحادها على باطل، ولا يفوت الحكمة أن تجد نفوساً مهذبة، وعقولاً سليمة فتقبلها. فحقيق على العلماء أن يبتسموا لهذا الرأي تبسم الازدراء، ولا يقيموا لمثله وزناً إلا أن يكشفوا سريرته، ويعرضوا على الأنظار سوء مغبته. والعالم بحق من يتدرَّع بالإيمان البالغ، والثقة بما وعد الله به الداعي إلى الحق من الظهور على أشياع الباطل، وإن أوتوا زخرفاً من القول، وسعة من المال، وكانوا أكثر قبيلاً. لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات، فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجاً، نصحوا لهم بأن يستقيموا، أو رأوا حقًّا مهملاً، لفتوا إليه أنظارهم، وأعانوهم على إقامته. أمر السلطان سليم بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن، فبلغ هذا النبأ الأستاذ علاء الدين الجمالي، وكان متولياً أمر الفتوى، فذهب إلى السلطان وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً، فعليك بالعفو عنهم. فغضب السلطان سليم، وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك، فقال الأستاذ علاء الدين: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة، وإلا، فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة غضب السلطان، وعفا عن الجميع. ومتى كان في ولاة الأمور شيء من العدل، وكان في الداعي إلى الإصلاح حكمة وإخلاص، نجحت الدعوة في سعيها، وبلغت بتأييد الله مأربها. يكون العالم رفيقاً في خطابه، ليناً في إرشاده، أما إذا أراده ذو قوة على أن يقول ما ليس بحق، أو يأتي ما ليس بمصلحة، أخذ بالتي هي أرضى للخالق، وكان مثالاً للاستقامة صالحاً. أذكر أن أحمد بن طولون دعا القاضي بكار بن قتيبة إلى خلع الموفق من ولاية العهد، فأبى، فحبسه، وكرر عليه القول، فأصر على الإباءة، وبقي في السجن حتى ثقل ابن طولون في مرض الوفاة، فبعث إلى القاضي بكار يقول له: أردك إلى منزلتك، أو أحسن منها، فقال بكار للرسول: قل له: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله عز وجل. فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك، فأطرق ساعة ثم قال: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله عز وجل. وأمر بنقله من السجن إلى دار اكتريت له. وإنما يقوم العالم بإسداء النصيحة إلى ذي قوة، أو لا يوافقه فيما يخدش أمانته وتقواه، متى قدَّر مقامه العلمي قدره، وكان شأن العلم أسمى في نظره من كل شأن، وهذا الشعور هو الذي يهيئه - بعد داعية الغيرة - لأن يجاهد في سبيل الحق مستهيناً بكل ما يعترضه من أذى. ومن أدب العلماء: أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه، وكم من عالم قام في وجه الباطل، فأوذي فتجلد للأذى، وأجاب داعي التقوى متأسياً بقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون). وممن جرى على هذا الخلق المتين: أبو بكر بن العربي يوم كان قاضياً بأشبيلية، قال في كتاب (القواصم والعواصم): حكمت بين الناس، فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا علي، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا عليَّ حتى أمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن الأقدار، لكنت قتيل الدار، يعني بقتيل الدار: عثمان رضي الله عنه. ولا يستحق لقب عالم أو مصلح ذلك الذي يدعو الناس إلى العمل الصالح، ويقبض عنه يده، أو ينهاهم عن العمل السيئ، ولا يصرف عنه وجهه، فمن أدب العلماء: أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يؤاخذ به، وعمل ما يحمد عليه؛ كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين؛ فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم وقبول نصائحهم. وإذا كان العدد القليل فيما سلف يكفي لحراسة الدين، وإرشاد من ينحرف عنه حتى يعود إليه، فلأن سلطان الإسلام يومئذ، وصوت غالب الجهل عليه خافت، أما اليوم، فالحال ما ترون وما تسمعون، فلا يمكن للدعوة أن تأتي بفائدتها إلا أن تضم المعاهد الإسلامية بين جدرانها طوائف كثيرة من أولي الغيرة والعزم، يصرفون جهدهم في الدفاع عن الدين، والدعوة إلى الخير، ويعيدون الدعوة مرة بعد أخرى. وستنبت المعاهد الإسلامية - إن شاء الله - كثيراً من العلماء القوامين على نحو ما وصفناه، ولا سيما حين يأخذ التعليم بالأزهر الشريف نظامه الأسمى، ويجري مثل هذا النظام في غيره من المعاهد الإسلامية؛ كجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، ويقوى الأمل في أن تؤتي هذه المعاهد الثمرة الغزيرة الطيبة، متى نظر إليها أولو الأمر برعاية، وعاملوا النشء المتخرجين منها بما يدل على أنهم يحترمون الشريعة، ويقدرون ما تثبته في الأمة من رشد وإصلاح.

_ المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (5/ 116)

العلم وعلو الهمة

العلم وعلو الهمَّة عبد الرحمن بن قاسم (ت 1392هـ) نُشر عام 1357هـ الموافق 1938م عالي الهمَّة يطلب معالي الأمور، وفي (التعريفات) الهمَّة: توجُّه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره. فعالي الهمَّة يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع عليه لحظة في غير قربة، ويبادر اللحظات. عالي الهمَّة يطلب أشرف شيء ينفعه في الدنيا والآخرة، وقد علم بالضرورة أنه ليس في الوجود أشرف من العلم {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. كيف لا والعلم هو الدليل، فإذا عُدم وقع الضلال، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالعلم، وما يجب له على عباده من دينه الذي رضيه لهم، وبالقيام به صلاح الدنيا والآخرة، وبالغفلة عنه زوال النعم وحلول النقم. وطلب العلم ومعرفة ما قصد به العبد أشرف ما بُذلت فيه الأنفاس والمهج؛ وأشرف الأرباح وعنوان الفلاح، وأقرب الخلق من الله العلماء، والعامل من غير علم وبصيرة ليس من عمله على طائل. قال أبو حنيفة: من ترك الدليل ضلَّ السبيل. اهـ. ولا سبيل إلى الله والجنة إلا الكتاب والسنة. وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وقال ابن الجوزي: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في العلم والعمل زادت مرتبته في دار الجزاء انتهب الزمان، ولم يضيِّع لحظة، ولم يترك فضيلة إلا حصَّلها. والعلم ما في الصدور لا ما في القِمَطْر [ما يصان فيه الكتب]، ومن أخلص في طلبه دلَّه على الله، ولا تُنال الراحة بالراحة، وعلى قدر التعب تكون الراحة؛ فإنَّ مصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له، كما قال الشاعر: أُعدتِ الراحةُ الكبرَى لمَن تعِبا وفاز بالحقِّ مَن لم يَأْلُهُ طلَبا وعلو الهمَّة يدلُّ على عظم العقل، ومن له عقل فهم الخطاب، ومن فهم الخطاب فهم المقصود. ومن عمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق. وينبغي لعالي الهمَّة الطالبِ المجدَ أن ينبعث من قلبه الافتقار إلى ملهم الصواب أن يدلَّه على حكمه الذي شرعه لعباده، ومتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، ومن علامة توفيق الله له صرف همته العالية إلى العلم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل) [إسناده ضعيف]. وأرشد صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن إلى سياسة حكيمة نافعة في التعليم قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) فهذا بيان كيفية التعلم؛ البداءة بالأهمِّ فالأهمِّ من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، ثم ينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض المتعلمين من الاشتغال بالفروع والذيول فضلاً عن الفضول، ومن ترك الأصول حرم الوصول. وأصل الأصول وأشرف الكلام كلام الله؛ فيه الهدى والنور، قال صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ؛ فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به). وقال: (إنها ستكون فتن) قالوا: فما المخرج منها؟ قال: (كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) [ضعيف]. وكان يقول في خطبه: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). وحضَّ صلى الله عليه وسلم على التمسك به وبسنته في غير ما موضع، وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وسنتي) فنفى الضلال عمن تمسك بهما. وقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). إن عالي الهمَّة لا يؤثر على كتاب الله شيئاً، فإنه كلام الله أنزله بلغة رسوله صلى الله عليه وسلم سيد العرب وأفصح العرب، ولغته أفصح اللغات وأوسعها وأدخلها في الإعجاز. وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحافظ على ألفاظ القرآن في تعبيراته، وكان الصحابة والتابعون يتحرون ألفاظ النصوص، وحدث خلوف رغبوا عن ألفاظ النصوص، وأقبلوا على الألفاظ الحادثة، وألفاظ النصوص من الكتاب والسنة حجة وعصمة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولهذا كانت علوم الصحابة والتابعين أصحَّ من علوم من بعدهم وأفصح وأقلَّ تكلفاً فيما يروونه من المعاني، بل لما استحكم هجران النصوص عند أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في غاية الفساد والتناقض، فاتباع السنة- والله الذي لا إله إلا هو- نجاة؛ والسنة هي التي نقلها أهل العلم كابر عن كابر ومن رزقه الله العلم والنظر في سير السلف رأى أن هذا العالم في ظلمة، وجمهور العالم على غير جادة، ولو رفعوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء لرفعهم الله كما رفع سلفهم، ولأعزهم كما أعزهم {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}. ألم يعلموا أن الأخذ بالعلم النافع من علامة كمال العقل، وصرف الزمان إلى حفظ ما غيره أولى من سخافة العقل والرِّضَى بالدون. ومن أكبر الرزايا وأعظم البلايا أن يعطيك الله همة عالية، ويمنعك من العمل بمقتضاها. إن عالي الهمَّة لا يستبدل الأدنى بالذي هو خير، من بدَّل القراءة من كتاب الله وسنة رسوله وكتب أهل السنة والاهتداء بها والأخذ بها غيرها- فقد بدَّل نعمة الله كفراً، واستبدل الأدنى بالذي هو خير. من ضيَّع ذهنه الوقَّاد الذي يميز به في الفضول فقد بدَّل نعمة الله كفراً، واستبدل الأدنى بالذي هو خير، والله سبحانه يجزيه بجنس عمله، فمن استبدل الأدنى بالأعلى فإن الله يبدله بالعزِّ ذلًّا وبالفرح غمًّا وبالسرور حزناً وبقُرَّة العين سخنة العين: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 16]. وليس هذا كمن استبدل البقل بالمنِّ لا والله. العلم قوت الروح، ويحتاجه الإنسان كل لحظة وذاك قوت البدن (بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه). ولا دواء لهذا إلا الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقال صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). عليك بكتاب الله وسنة نبيه، وأعظم سبب في تحصيلهما التقوى، قال الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلمَ نورٌ ونورُ اللهِ لا يؤتاه عاصِ ويحفظ العلم بالتذاكر والفهم، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. وإذا ظفرت برجل من أهل العلم، طالب للدليل، محكم له، متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان، فاشدد يديك به. وقف في مواقف الابتهال إلى ذي العزة والجلال، وانطرح بين يديه بالأسحار، وقل: يا معلِّم إبراهيم علِّمني، ويا مفهِّم سليمان فهِّمني. واعلم أن الله تعالى يثيب العامل المخلص رزقاً عاجلاً- إما للقلب أو البدن أو لهما- ورحمة مدخرة في خزائنة. فلا تسأمنَّ العلم واسهر لنيله بلا ضجرٍ تحمد سُرَى السيرِ في غدِ ولا يذهبنَّ العمر منك سبهللا ولا تغبننْ في النعمتينِ بل اجهدِ واعلم بأن جمع الهمِّ أصل الأصول، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلم للعمل به؛ فإنَّه كلما دله على فضل اجتهد في نيله، وكثيراً ما ترى من يثب ويثيب وهو يقرأ، ولم يحصل على طائل لمانع قام به من نفسه لا من ربه {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. ولقد حصل من الغفلة عن الكتاب والسنة اللذين لا نجاة للعبد إلا بمعرفتها والعمل بهما ما يُشجي الصدور، ويُدمي القلوب، وصار اشتغال بعض طلاب العلم بالعلوم المزاحمة لهذا الأصل الأصيل والمنهل العذب الجليل، بل أصبحت حالهم تُدمي العيون، وتفتت الأكباد، وتسقط القلوب، وتقتل النفوس الحية، ولقد كثر من يدَّعي العلم، وقلَّ العلماء حقيقة، القائمين بما حمَّلهم الله به، وصار كثير ممن يطلب العلم لحظوظ الدنيا، وأعرضوا عن الكتاب والسنة فلم يذوقوا لها حلاوة، ووقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: (إنكم في زمان قليل قراءه، كثير فقهاؤه، وسيأتي بعدكم زمان كثير قراؤه، قليل فقهاؤه) [من كلام ابن مسعود] فإنا لله وإنا إليه راجعون (من يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين). بل أصبحنا في جيل اتخذوا البدع والخرافات حجة وسنداً على أن الكتاب والسنة غير صالح للترقية البشرية، ولا سيما في هذه القرون؛ قرون المدنية والحضارة، جهلاً منهم بالدين الحنيف .. !! ولو تأمَّلوا قليلاً لعلموا أنهم في ضلال مبين، وجرى الأكثر وراء المدنية، وغلغلها في نفوسهم طائفة من المبتدعين حتى رموا الدين بالجمود والرجعية، فأصبحت تعاليم الدين في خبر كان، والله المستعان.

_ المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة (1343هـ - 1383هـ)، جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبد العزيز الطويل، دار أطلس الخضراء، الرياض، ط1، 1431هـ، (3/ 374)

لمن أكتب؟

لمن أكتب؟ محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ) نُشر عام 1367هـ الموافق 1948م بيني وبينها أيام معتقة كأنها خمر في دنان الزمان، فإذا ما قدَّر الله لنا أن نجتمع يوماً، طارت بلبي نشوة ترمي بي إلى عالم ساكن ناضر ناعم النسمات، فأفارق بها عالمًا صاخبًا محترقًا، لافح الرياح، عاصف الأعاصير. واجتماعنا هو إحدى الأماني التي يقول في مثلها الشاعر: أماني من سُعدَى رِواءٌ، كأنما سَقَتْك بها سُعدَى على ظمأ بردا وإذا اجتمعنا وتنهدت بيننا الأحاديث، فربما فاجأتني بالسؤال لا أتوقعه، فيردني سؤالها إلى نفسي ردًّا عنيفًا لا أملك معه إلا أن أديم طرفي إلى هذا الوجه الذي يُخفي وراءه نفسًا ثائرة، ولكنها ساكنة على ثورتها سكون الجبال الراسيات، ولست أدري أتلك إحدى لطائف الحيل التي تحب أن توقظني بها من غفوة الأحلام، أم تلك يقظة دائمة في نفس لا تطيق إلا أن تكون متيقظة حين يدعوها الهوى إلى إغفاءة تريحها من ثورة نفسها واضطرابها؟ وأي ذلك كان، فهي قد أخذتني أخذاً شديداً حين استوت في جلستها وقالت: حدثني، لمن تكتب هذا الذي تكتبه؟ إنهم جميعًا نيام يغطُّون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها. فلما أفقت على سؤالها، جعلت أردده في نفسي، وأنا أملأ عيني من صفاء هذه الينابيع التي تترقرق في وجهها وفي عينيها، وأخيراً قلت لها: لن أجيبك إلا حيث تقرأين كلامي، ودعينا لما بنا، فإن لقاءنا ساعةٌ فرَّت إلينا من هذا الفراق السرمدي. لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولِمَ أكتب؟ ولكني أحسُّ الآن من سرِّ قلبي أني إنما كنت أكتب، ولا أزال أكتب لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو: أهو حيٌّ فيسمعني، أم جنين لم يولد بعدُ سوف يقدر له أن يقرأني؟ ولست على يقين من شيء إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يومًا على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها، وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم، ولم يتورع أهلها عن الجور والبغي في كل شيء، حتى في أنبل الأشياء، وهو العلم. لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، ولم يداخلني الشك في حقيقة هذه الشعوب، وإن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور والخداع والعبث، وفي أكفان من الفقر والجهل والمخافة، وفي كهوف من الظلم والاستبداد وقلة الرحمة، كل ذلك شيء أراه وأعرفه، ولكني أستشفُّ تحت ذلك كله نقاء وطهرًا وقوة تدب في أوصال هذه العالم الذي أوجِّه إليه كلامي، وهو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كُتب له فيها أن يهبَّ مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، وهو خليق أن يكون سرَّ الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. ولعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، والتي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، وهي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خبث الحديد. أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أوزاعًا من خلق الله لا ندري كيف نشؤوا، وعلى أي شيء قامت شهرتهم، ولا إلى أين تمضي أهدافهم؟ وهم فوق ذلك كله قد لوثوا ضمائرهم وعقولهم وأخلاقهم وعزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدي إلى خير، وهم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتُلي بهم الغرب، وامتُحنت بهم الحضارة الغربية. ولست أشك ساعة في أنهم لا خير فيها البتة، مهما دلَّ ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيرًا، أو أنهم سوف ينتهون إلى خير، ولست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملة واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية والإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها وفي جهادها وفي أهدافها. وأنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، والتي هي شعوبهم، ظنًّا منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ الناس في العلم، فضلًا عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلًا عن أن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. وهم في خلال ذلك - إلا من عصم الله - يبسطون ألسنتهم بسطًا شديدًا في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مسبة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة وأمريكا وغيرهما كأنما هم منها ومن صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها. وأنا أعلم أن أكثر أهل السلطان في هذا الشرق، لا يزالون يعيشون في عزلة لا يبالون قليلًا ولا كثيرًا بما فيه خير بلادهم، وأنهم يحتقرون جماهير الشعوب احتقارًا ينسرب في خاص كلامهم كما ينسرب في أكثر أفعالهم. وهم فئة قليلة فتنتها النعمة والترف واللذاذات، حتى ما تبالي أن تصبَّ على أممها ضروبًا من المظالم كان ينبغي أن تترفع عن ارتكابها، لا رحمة بالناس، بل مخافة من الناس، فالشعوب إذا هاجها ما يهجيها لم تبق على شيء وإن كان في بقائه خيرها. وأنا أعلم أن أهل الدين - إلا من رحم ربك - قد رموا بدينهم ظهريًّا، وإن لبسوا لباسه، وتشبهوا على الناس وغرُّوهم باسم هذا الدين. وهم يأكلون باسم الدين نارًا حامية، وهم قد فقدوا بفقد آداب هذا الدين كل شيء يجعل لهم عند الناس مكانة ترفعهم عن الشبهات، وبذلك أصبحوا كالعامة التي تحتاج إلى من يقودها ويهديها. وقصارى ما يقال هو أن الحياة في هذا الشرق على اختلاف نحله ومذاهبه وأديانه وأحزابه، قد صار كأهل سفينة جنَّ أكثر من فيها، وكلهم يريد أن يقود السفينة كما خيَّلت له طوائف وساوسه وأوهامه، مستبدًّا بما يرى من الرأي، ولكني مع ذلك لن أيأس ساعة من أهل الخير، لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المحيطة بالجماعة، فيدفعها حبُّ الحياة وحبُّ الخير إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم، ثم تنشط من عقالها إلى قيادة هذه الناس بقوة تنفث في هؤلاء جميعًا روحًا مسددة هادية تبرئهم مما أصابهم، وتستنقذ منهم من يصلح للبقاء والعمل في جيل جديد، له هدف معين، وله طريق لا يفارقه، وله همة جياشة تجعله يطوي المسافات المترامية طيًّا حتى يصل إلى غايته، لم يلحقه كلل ولا سآمة ولا إعياء. فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الخلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروى أرضاً صالحة تنبت نباتًا طيبًا. ومهما كان من أمر تلك الطوائف التي ذكرتها، ومهما كان رأيها في هذه الشعوب التي تنتمي إليها، ومهما عدت شعوبها سائمة ترعى أيامًا معدودة حتى تتخطفها أرماح الأجل، فمن هذه (السائمة) سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقها؛ لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة. إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس، ترمي بأشعتها هنا وهنا، ولا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم وأبدانهم؛ ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلَّهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغت قوته أو جبروته. ألا إن الشرق العربي لينتظر صابرًا كعادته هذا الرجل، وإني لأحس أن كل شرقي قد أصبح اليوم يتلفت لا من حيرة وضلال، بل توقعًا لشيء سوف يأتي قد أنَى [حان ودنا] زمانه، ففي كل نفس منه خاطرة تختلج. وهذا الإحساس فينا هو الذي يحملني على الإيمان بأن ذلك كائن عن قريب، وأننا قد أشرفنا على زمن قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل؛ لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد ارتضعنا لبانها منذ الأزل البعيد. وكل ما دخل علينا في القرون الماضية من المظالم والأكاذيب والاستبداد، لم يستطع أن يخفت ذلك الصوت الذي تتجاوب به نفوسنا باسم الحق والحرية والعدل. إن هذه الشعوب التي تُرى اليوم كأنها على بلادها أسمال بالية ممزقة، قد بدأت تحسُّ أن عليها أن تتجدد أو أن تزول، وطبيعة الحياة تأبى لها أن تزول، فهي لابد أن تتجدد. وهذا الدافع وحده سوف يمهد للرجل المنتظر أن يزأر زئيره فتصغى له آذان الملايين من أبناء الشرق، ثم تنطلق من مجاثهما إليه مجيبة لندائه، فإذا انطلقت إليه أرسالًا [جماعات واحدة بعد الأخرى]، فيومئذ لن يقف في طريقها أولئك الساسة المنافقون، ولا أولئك العلماء المتبجحون، ولا أولئك الديَّانون المخادعون، بل سوف يصيرون تبعًا، وقد طال ما خيلت لهم نفوسهم أنهم الرؤوس والسادة. فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها [حجارة عراض توضع فوق القبور] منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتر [مسافة ما بين السبابة والإبهام] منها شريك.

_ المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/ 555)

شرعة الحرب في الإسلام

شرعة الحرب في الإسلام محمد البشير الإبراهيمي (ت 1384هـ - 1965م) نُشر عام 1374هـ الموافق 1955م من لوازم الحرب سفك الدماء، والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلا بحقها، وليست عصمة الدماء خاصة بالمسلمين في حكم الإسلام، بل مثلهم في ذلك ثلاثة أصناف من الكتابيين وهم: • الذميون الذين استقروا في دار الإسلام وفي ذمته. • والمعاهدون الذين استقروا فيها بعهد محدد بأجل. • والمستأمنون وهم كل من دخلها بأمان مؤجل أو غير مؤجل. فهذه الأصناف دماؤهم معصومة كدماء المسلمين، ولا يجوز للحاكم كيفما كانت سلطته أن يستبيح دم أحدهم إلا بحقه، وأول حق يكتسبه المسلم بإسلامه، أو الذمي ومن معه من الأصناف المذكورة - هو عصمة دمه وماله، فإذا سفك دم غيره عدوًا بغير حق، استُبيح دمه، ورُفعت العصمة عنه بما كسبت يداه، وإذا أخذ مال غيره بغير وجه شرعي أُخِذ من ماله بقدره من غير زيادة ولا إجحاف ولا ظلم. فالحرب في الإسلام لا تكون إلا لمن آذنه بالحرب، أو وقف في وجه دعوته، يصدُّ عنه المستعدين لتلقيها، والإسلام في أعلى مقاصده يعتبر الحرب مفسدة لا تُرتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها، وأول مفسدة شُرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية، ومفسدة الوقوف في سبيل الدعوة الإسلامية بالقوة، ولو أن قريشًا لم يقفوا في طريق الدعوة المحمدية، وتركوها تجري إلى غايتها بالإقناع لما قاتلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم بدءوها بالعدوان والتقبيح، والحيلولة بينها وبين بقية العرب، والقعود بكل صراط لصدِّ الناس عنها. ومن اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة (شرع) أو (وجب) أو غيرهما من صيغ الأحكام، وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري، ولكنه ليس خيرًا محضًا ولا صلاحًا سرمدًا، وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًّا آخر. ومما وقر في نفوس البشر أن بعض الشرور لا تُدفع بالخير، ولا تنقصم إلا بشرٍّ آخر. وإذا كانت الأحكام على الأشياء إنما هي بعواقبها وآثارها، فإن الشرَّ الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيرًا كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن، وكقتل الثلث لإصلاح الثلثين، كما يؤثر عن الإمام مالك، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ .. } [الحج: 39، 40] ففي قوله تعالى: {يُقَاتَلُونَ} وفي قوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وفي قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} بيان للشروط المسوغة للحرب في الإسلام، تُحمل عليها نظائرها في كل زمان. شرعت الحرب في الإسلام، أي أُذن فيها بدستور كامل للحدود التي تربطها، وتحدُّ أولها وآخرها، وتخفف من شرورها، وتكبح النفوس على الاندفاع فيها إلى الخروج عن الاعتدال وتعدي الحدود. وإذا كان الإسلام الذي هو آخر الأديان السماوية إصلاحًا عامًّا لأوضاع البشر، فإن أحكام القتال فيه إصلاح وتهذيب لمسألة طبيعية فيهم وهي الحرب. إن أحكام الحرب في الإسلام مثال غريب في تاريخ العالم: ماضيه وحاضره يصوِّر الحرب عذابًا تحفُّه الرحمة من جميع جهاته، ويتخلله الإحسان في جميع أجزائه، ولو وازناها بالقوانين المتبعة في الحروب إلى يومنا هذا، وقارنا أسبابها في الإسلام ببواعثها اليوم لوجدنا الفروق أجلى من الشمس. ولو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلا قوانينه الحربية، لكان فيها مقنع للمنصفين باعتناقه، ذلك أن الحرب تنشأ عادة عن العداوات والمنافسات على المصالح المادية، والعداوة من عمل الشيطان، يوريها بين أبناء آدم ليرجعوا إلى الحيوانية الضارية التي لا عقل لها، ولا رحمة فيها، ولا عدل معها، فجاء الإسلام بتعاليمه السامية المهذبة للفطرة المشذِّبة للحيوانية، فحدَّدت أسباب الحرب وأعمالها تحديدًا دقيقًا، وحرَّمت البغي والعدوان، وقيَّدتها بقوانين هي خلاصة العدل ولبابه، حتى كأنها عملية جراحية تؤلم دقائق لتترك الراحة والاطمئنان العمر كله. حرَّم الإسلام التعذيب والتشويه والمثلة في الحرب، أوصى بالأسرى خيرًا، حتى جعل إطعامهم والإحسان إليهم قربة إلى الله، أمر بألَّا يُقتل إلا المقاتل أو المحرض على القتال، أو المظاهر على المسلمين، نهى وتوعد عن قتل النساء والصبيان والشيوخ الهرمى والقعدة والرهبان المنقطعين في الصوامع، نهى عن عقر الحيوان المنتفع به، نهى عن إتلاف الزرع وإحراق الأشجار وقطعها، وما وقع ليهود المدينة إنما هو تصرف خاص لحكمة، لا تشريع عام للتشفي والانتقام، ووصية أبي بكر - رضي الله عنه - للجيش هي الكلمة الجامعة في هذا الباب، وهي التطبيق العملي لمجملات النصوص من الكتاب والسنة. وما نسبة هذه الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام من قبل أربعة عشر قرنًا إلى ما يجري في حروب هذا العصر الذي يدعونه عصر النور والعلم والإنسانية والمدنية إلا كنسبة نور النهار إلى ظلمة الليل. أين ما يرتكب في حروب هذا العصر المدني من تقتيل النساء وبقر بطونهن على الأجنة، ومن قتل الصبيان والعجزة، وهدم البيوت بالقنابل الجوية والمدافع الأرضية على مَن فيها، ومِن هدم المعابد، ومن تسميم المياه والأجواء، وإحراق الناس أحياء، إلى القنبلة الذرية التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم؟ أين هذه الموبقات من تلك الرحمة الشاملة التي جاء بها الإسلام، والإسلام يعتبر السلم هو القاعدة، والحرب شذوذ في القاعدة؛ لأن الإسلام دين عدل ورحمة وعمران وعصمة في ما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنسب. والدين هو ملاك التهذيب النفسي، والعقل هو قسطاس الآراء التي تقوم عليها الحياة، والعرض هو مقياس الشرف الإنساني، والمال هو قوام الحياة، والنسب هو مناط الفخر، وملاك القوميات والنظام التفاضلي والتنافس المحمود، فإذا انهارت هذه الكليات ارتكست الإنسانية، وتردت إلى الحيوانية، فحاطها الإسلام بحصون من الأحكام المنيعة. ولحرص الإسلام على السِّلْم جاءت آية الأنفال آمرة بالجنوح له كلما جنح له العدو حتى لا يُسبق المسلمون إلى فضيلة. والإسلام يأمر بالوفاء لذاته، ويجعله من آيات الإيمان، وينهى عن الغدر، ويجعله شعبة من النفاق، يأمر بالوفاء حتى في الحرب التي هي مظنة الترخيص في الأخلاق، والتساهل في الفضائل، يقول تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. ويقول في وجوب انتصار المسلم للمسلم: {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، ويقول: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. هذه هي آداب الحرب في الإسلام وأعماله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

_ المصدر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م (5/ 92)

سنن الاجتماع

سنن الاجتماع في الحاكمين والمحكومين محمد رشيد رضا نشر عام 1325هـ الموافق 1907م طبيعة الاجتماع تقضي بوجود الحكام، ما قضت بوجود النزاع والخصام، فإذا لم يتغلب على الناس من يحكم فيهم كما يشاء، اختاروا هم لأنفسهم من يحكم بينهم كما يشاؤون؛ لأن ما قضت به سنن الوجود واقع ما له من دافع. الحكم حاجة من حاجات الناس يقوم به بعضهم بالنيابة عن الباقين، فهو كسائر الحاجات من العلوم والمهن والحرف كالزراعة والصناعة والتجارة التي يقوم بكل فرع من فروعها من يكفي المجتمع همها، كما يقوم هو بسائر حاجاتهم ويكفيهم ما أهمهم. فالحاكمون كغيرهم من العاملين كل صنف يخدم مجموع الأصناف التي يعبر عنها بالشعب أو الأمة من حيث يخدمونه و (كل ميسر لما خلق له) ومسيَّر إلى حيث يسوقه استعداده، فمن سابق ومتخلف، ومن محسن ومسيء، والكل جزاء، والجزاء إما مال يكفي أو يغني، وإما مال وجاه يعلي. جزاء الأعمال التي تطلبها طبيعة الاجتماع طبيعي مثلها، ولولا ذلك لما اندفع كل فريق إلى العمل الذي يزين له استعداده جزاءه والغبطة به، فمن يطلب من الجزاء الطبيعي على العمل أكثر مما تفرضه سنة الاجتماع من الجزاء عليه فهو باغ متنكب صراط الحق غير مقيم لميزان العدل؛ إذ يطفف لنفسه ويخسر للأمة. البغي في اقتضاء الجزاء يكون من الأفراد ومن الجمعيات والأصناف، فالأول لا تأثير له في إفساد الأمة، وتلافيه سهل، وأما الثاني فهو البلاء المبين؛ لأن قوة الاجتماع هي أعظم القوى. وإنما يتحقَّق البغي بتحديد قيم الأعمال والأشياء تحديداً طبيعيًّا إن أمكن، أو قانونيًّا ليكون متجاوز الحد هو الباغي الذي يجب إرجاعه عن بغيه. ينجح زيد في بغيه على عمرو إذا كان أقوى منه علماً أو جسماً، والحاكم يفصل بينهما إذا رفع الأمر إليه، وإلا كان الراضي بالهضيمة مستحقًّا لها جزاءً على جهله، ... والخطب الجلل أن يتفق صنف من القائمين بأعمال المجتمع فيبغون في طلب الجزاء. ومنه ما يعرف في هذا العصر باعتصاب العمال [قريب المعنى من الإضراب] ولكن هذا الاعتصاب يجري في أعمال لم تحدد أجورها تحديداً طبيعيًّا ولا شرعيًّا، ومسلك العدل في تحديد القانون له دقيق، ولا أرى له وجهاً ترضي به طبيعة الاجتماع إلا أن يكون النسبة بين كسب المالكين وأجور العاملين، ويأبى علينا هذا المقال أن نخوض فيه ويرضى لنا أن نرده إلى الحاكمين. لا نقول: إن اعتصاب العمال من البغي، ولا نقول: إن فيه خطراً على الشعب. وإنما الخطر العظيم في بغي الحاكمين، الذين يوكل إليهم تلافي بغي الأفراد والجمعيات من المحكومين لهم. ما هو نوع عمل الحكام في الأمة وما هو نوع جزائهم عليه؟ جاء في فاتحة الكلام أن الحاكم إما متغلب بالقوة يحكم كما يشاء، وإما مختار من المحكومين له فيحكم بينهم بما يشاؤون من الشرائع والقوانين، فالحاكم الأول يرى أن عمله من قبيل إدارة صاحب المزرعة والماشية والعبيد لما يملك، وأن ما يأخذه هو من قبيل الغلة والريع، وأنه يجب على المحكومين له أن يقوموا له في مزرعته (مملكته) الكبيرة بما يطلب، وأن يرضوا بما يفرضه لهم وعليهم، والمحكومون له يرونه سلطاناً باغياً يتربصون به الدوائر على حسب حالهم في العلم والقوة أو الجهل والضعف. والحاكم الثاني يعلم كما يعلم المحكومون له أن عمله من قبيل عمل الفعلة والأجراء، وأن ما يأخذه من الجزاء المالي عليه أجرة مفروضة، وأن الجزاء المعنوي وهو الجاه أثر طبيعي لإحسانه في عمله، كما يكون لغيره من المحسنين إلى الأمة في ترقية العلوم والفنون والأعمال. على حسب حال الأمة يكون حكامها في نفس الأمر الذي تقضي به طبيعة الاجتماع (كما تكونون يولَّى عليكم)، قال أبو العلاء، فيلسوف الشعراء: مُلَّ المقامُ فكمْ أعاشرُ أُمَّةً حكَمت بغيرِ كتابِها أمراؤُها ظلمُوا الرعيَّةَ واستجازوا كيدَها فعَدَوْا مصالحَها وهم أُجراؤُها كذلك شأن أكثر الأجراء والوكلاء مع المالكين، الجاهلين بما يجب أن يكون عليه ملكهم، العاجزين عن تحديد الأعمال، وتحديد أجور العمال، وإلزام كل عامل أن يلزم حدَّه، لذلك أنحى الفيلسوف في شعره باللائمة على الأمة التي مكَّنت أُجراءها من الاستبداد في السيادة عليها حتى تجاوزوا مصالحها، يُنبِّهها بذلك إلى إقامة الشريعة فيهم، وإرجاعهم إلى الكتاب العزيز الذي جعل أمر المؤمنين شورى بينهم. ولن تقدر الأمة على القيام به إلا بتغيير الأفكار والأخلاق التي كان من أثرها الطبيعي أن صار الأجراء سادة مالكين، وتحصيل الأفكار والعلوم والأخلاق التي تمكنها بالاتحاد من جعل المتغلب بقوته، مختاراً لعدله وفضيلته. إذا أحسن الحاكم المتغلب في عمله، واقتصد فيما يتناول من مال الأمة جزاء عليه- كان جديراً بالجاه الصحيح، وهو ملك القلوب، وقيادتها بالمحبة والتعظيم، وبما يتبعه من الحمد والثناء، وإذا أساء عملاً، وأسرف فيما يأخذ يفوته الجاه الصحيح، ويستبدل به الجاه الباطل، وهو قهر الرعية على أن تعامله معاملة الحاكم العادل من الثناء والتعظيم الصوري مكابرة للنفس، وعصياناً للقلب في سبيل طاعته الإلزامية. أما الحاكم المختار للأمة فهي التي تفرض له برضاها أجره، وتُمَلِّكه قلوبها طائعة مختارة. روى ابن سعد في الطبقات عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: افرضوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعينه. قالوا، نعم: برداه (ثوباه) إن أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره (أي: ما يركبه) إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق على أهله قبل أن يستخلف. قال أبو بكر: رضيت. وفي رواية أو روايات: أنه أراد أن يعمل في التجارة طرفاً من النهار لأجل عياله، وينظر في أمور الناس في سائر الأوقات فمنعوه. وقال عمر: نفرض لك. فأراد أن يتمنع فأقنعوه، وفرضوا له كواحد من المهاجرين لا أرقاهم ولا أدناهم. وكذلك كان ينفق قبل الخلافة. هكذا كانت حكومة المسلمين في أول عهدها كانت من القسم الثاني من التقسيم المتقدم، فعرض عليها من عوارض الاجتماع ما حوَّلها عن وضعها، وجعلها من القسم الآخر. وكم من حكومة كانت ظالمة بالتغلب فزحزحتها طبيعة الاجتماع عن مكانها، ووضعتها تحت سيطرة الأمة كحكومات الفرنجة في بلادها. لم تكن حكومة الشورى في المسلمين أثراً لارتقاء اجتماعي فيهم، ولذلك لم يطل عليها العهد، وإنما كانت ائتماراً بأمر الدين وعملاً بهدايته. وقد تغلبت العصبيات في الأمة قبل أن يستقر هذا النوع من الحكومة، ويلقي بوانيه (أي يثبت ويقيم) بهدي الدين، ويصير طبيعيًّا في الأمة. للحكومات آجال مقدرة بقدر أحوال المحكومين لها الاجتماعية، ولمدبر الكون فيها سنن لا تتبدل ولا تتحول، فما قصر أجل حكومة الشورى في المسلمين إلا لأن ذلك المجموع المؤلف من جميع الشعوب والأجناس لم يكن مستعدًّا لأن يكون مسيطراً على حاكميه؛ لقلة معارفه الاجتماعية، ولانتفاء الوحدة التي تجعل الأمة كرجل واحد. وإنما يستفيد الناس من الدين والدنيا في كل زمان بقدر استعدادهم. ولو كانوا شعباً واحداً في قطر واحد لرُجي لهم طول هذا الأجل، كما طال أجل حكومة الرومان، ثم قضي عليها بالتوسع في العمران، ودخول الشعوب الكثيرة تحت سلطانها. إذا أراد الله بأمة أن تنهض إلى جعل حكومتها تحت سيطرتها كما يجب أن تكون- سهَّل لها من أسباب العلم الصحيح، والتربية القويمة ما ينير أذهانها، ويجمع كلمتها حتى تكون أمة عاقلة حكيمة (والعاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) كما قال الأفغاني. يسُرُّنا أن نرى بوادر العلم والتربية في أفراد من أمتنا الإسلامية في كل شعب وكل قطر، وأن نرى بعض مرشديها يحثونها على الاستزادة منهما، ويسوءنا أن بعض الجاهلين المرائين يفتاتون على المرشدين المخلصين، فيعلقون آمال الأمة بغير هذا الطريق المعبَّد، والصراط السوي في تقويم الحكومة، وما يجب أن تعاملها به الأمة. ولكن قضت سنة الله بأن يغلب الحق الباطل، ويرجح النافع على الضار ولو بعد حين. يسهل على من أوتي الخلابة في القول، والعرفان بأهواء الجماهير، أن يغش أمة هي في طور الطفولة في الحياة الاجتماعية، وليس لها زعماء وحكماء ترجع في الأمور العامة إليهم. ويسهل على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب أن ينصح لها، ويهديها سبل الرشاد، فإذا هي رُزئت بالمختلبين وحدهم شقيت، وإذا هي رُزقت الناصحين سعدت، وإذا تنازعها الصنفان وجد صاحب الحق من نصر العقلاء وإن قلوا، ما يفلُّ جموع أنصار الباطل وإن كثروا، وبذلك ترتقي الأمة ارتقاءً يجعلها أهلاً لأن تختار حكامها، وتحدد لهم الجزاء المالي على أعمالهم، وتمنحهم الجاه والشرف باختيارها؛ لأنهم يحكمونها بمشيئتها المبنية على الحكمة والعرفان، وهي تجزيهم بمشيئتها الناشئة عن الرضى والإذعان.

_ المصدر: (مجلة المنار)، المجلد العاشر - صفر 1325هـ - وكتاب (مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية) - دار ابن العربي - ط الأولى - 1994م - 1/ 408 بتصرف.

ريع اللصوص

ريع اللصوص علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) نُشر عام 1986م تمنيت لو أن اللصوص والمفسدين في الأرض اجتمعوا في مكان محصور، إذَنْ لهان الوصول إليهم وإصلاحهم أو القضاء عليهم. ولو اجتمع البعوض كله في موضع واحد لقضي على البعوض؛ لأن نجاته في تفرقه واختفائه، وأنه يضرب ويهرب ويضر ويفر فلا يوصل إليه. وشرٌّ من الحشرات والبعوض وجراثيم الأمراض قوم بيغن وشامير، واجتماعهم في فلسطين من بشائر القضاء عليهم، وأن نرى تأويل قوله تعالى فيهم، وقوله الحق: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 4، 5] والأولى التي بعث الله عليهم عباده المؤمنين به المخلصين له هي التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، الذين جاسوا خلال الديار التي حسبوها يوماً ديارهم (في المدينة)، ثم أُجلوا عنها وعن جزيرة العرب فلن يعودوا بعون الله إليها. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]؛ وهذا ما نراه الآن، حين اجتمع في أيدي اليهود -على قلتهم- أمضَى السلاح، وناصرهم أقوى الدول، وجعلهم الله أكثر نفيراً في الحرب. ولكن الله يمهد بذلك للمسلمين - إن عادوا إلى دينهم - ليسوؤوا وجوههم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة. وسنرى تأويل هذا عياناً ونرى تحقيق ما خبَّر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي من وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي خلفي فاقتله)؛ أي أننا سنقف أمامهم في المعركة التي يكون الظفر فيها لنا عليهم، فكيف نظفر بهم وهم متفرقون في البلدان مندسون بين الشعوب؟ وهل يكون القتال إلا بين جماعتين ظاهرتين؟ فاجتماعهم في فلسطين وقيام دولتهم فيها تصديق لوعد الله ورسوله لنا. ولا تعجبوا من نطق الشجر والحجر. ألم يعلمنا الله كيف ننطق الأسطوانة وشريط التسجيل والرائي (التلفزيون)؟ ألم ينطق لنا الجماد؟ فلماذا تعجبون ولا تكادون تصدقون إن سمعتم أن الشجر والحجر ينطقان؟ وهذا وعد من الله لنا إن عدنا إلى ديننا وجعلنا معركة فلسطين معركة إسلامية، لا معركة استرداد الأرض فقط، فكل شعب تسلب أرضه يحارب لاسترداد أرضه، ولا معركة قومية عربية، لأن لغيرنا قوميات، فإن اعتمدنا على القومية وحدها صرنا نحن وهم سواء ووكلنا الله - كما وكلهم - إلى أنفسنا، وإن تخلَّى الله عنا ووكلنا إلى أنفسنا ضعنا. إن معهم وعد بلفور، وهذا وعد من رب بلفور الذي خلقهم وخلق بلفور، وسيقفون بين يدي رب العالمين يوم لا ينفع المال ولا السلاح، يوم تبرز الجحيم لمن يرى، فمن ينقذهم يومئذ منها؟ وهذا، ولا تقولوا لي: قد خرجت عن الموضوع؛ فإن موضوعي اليوم هو الكلام عن اللصوص، أثاره في نفسي وقوفي في المكان الذي كان يسمَّى يومئذ (ريع اللصوص). وأكبر لصوص العصر وأعظمهم جرماً وأشدهم إثماً اليهود الذين هم اليوم في فلسطين. وإذا كان من يسرق متاعاً من الدار يكون من المجرمين الفجار، فكيف بمن يسرق الدار كلها؟ وكيف بالذي يُعينه على جريمته، ويكون معه على صاحب البيت؟ ألا يكون مجرماً مثله؟ فكيف بمن يسرق قُطراً كاملاً، يأخذه من أهله، يحتله بسلاح البغي والعدوان، ثم إذا قام من أصحابه من يطالب بحقه فيه أحالوه إلى المحكمة بتهمة مقاومة الاحتلال؟ أرأيتم أجرأ على الحق من هذا؟ أرأيتم من هو أصفق وجهاً وأوقح نفساً من اللص الذي ينكر عليك أن تطالب بحقك؟ وإذا جاء من يزعج المحتل بكى وشكا، وقال: إنه يريد أن يكون آمناً، وهذا يذهب أمنه ويفسد عليه حياته! ولو أنني حصرت ذهني لجمعت مما عرفت من أخبار اللصوص كتاباً صغيراً، ولو أن أحد المؤلفين يضع كتاباً في طبقاتهم وأخبارهم لجاء منه أثر أدبي تاريخي، ولا تعجبوا، فإن أجدادنا ألفوا في سير العلماء والدعاة والمصلحين والعقلاء والمجانين واللصوص والمجرمين، ونحن نزعم أننا نعيش في عصر النور فلا نفعل عشر ما فعلوا. ولعل أدنى طبقاتهم وأيسرها (لو أن في السرقة يسيراً!) هو الذي يسرق عن حاجة، يسرق ليعيش. وشرٌّ منه الذي يسرق طمعاً واستكثاراً من المال بالحرام، والذي يسرق متستراً بجاهه أو منزلته أو ثقة الناس به، والمحتال والمزور، والذي يأكل مال الأرملة واليتيم، وينسى أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً. والذي يستهين بسرقة أموال الدولة، ابتداء من صحيفة الورق الصقيل يكتب في وسطها رقم هاتف أو عنوان صديق، ومن استعمال سيارة الدولة في خاصة شأنه وشأن أسرته، وانتهاء بالذي يسرق أموال المناقصات والتعهدات. وهذا كله من (الغلول) الذي توعد الله فاعله وقال عنه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] فمن أين له يوم القيامة مثل ما غله وسرقه ليأتي به؟ والذي يسرق وقت العمل؛ يكلف بأن يجيء الساعة الثامنة فيجيء التاسعة، وأن يخرج في الثانية فيخرج في الواحدة، ويمضي باسمه على دفتر الدوام ثم ينسل فيغيب ساعة أو بعض ساعة. والذي يسرق أوقات المراجعين وكرامتهم، فتكون القضية محتاجة إلى خمس دقائق فيقول لصاحبها: تعالَ غداً، يحسب أنه إن قعد وراء المكتب والمراجع واقف أمامه أن ذلك سيدوم له، ثم يدعي أنه مؤمن، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). والتلميذ الذي يسرق الجواب في الامتحان. إنه حين يسرق بعينه من ورقة جاره أكبر ذنباً من الذي يسرق بيده من جيبه؛ لأن سرقة المال يزول أثرها بردِّ المال، ومن سرق الجواب ونال الدرجة زوراً، ثم أخذ بعدها الشهادة زوراً، ثم نال المنصب زوراً، يستمر أثر جريمته دهراً، وربما صار بشهادته معلماً وهو غير عالم، فنشأ على يديه الآثمتين جماعة من الجهلاء، فيكون كحامل جرثومة المرض يعدي من يتصل به، ومن أعداه ذهب فأعدى سواه، فسرى المرض في جسد الأمة. أما السرقات الأدبية فلها حديث قديم جدًّا طويل جدًّا، كتبت فيه في غير هذا الموضع، وقد ظهر الآن لون منها ما عرفه الأولون هو سرقة المطبوعات. وقد تجرَّعت منه المرَّ وذقت منه الصَّابَ والعلقم. آخذ كتابي المطبوع بإذني وعلمي والكتاب المسروق، فلا أميز أنا واحداً من واحد؛ لأن الورق هو الورق والحرف هو الحرف والحبر هو الحبر! لكني إن لم أستطع أن أميز فإن في الوجود من يميز الصالح من الفاسد، ومن يكافئ على الحسن، ويعاقب على السيئ، هو الله الذي سيقف بين يديه الظالم والمظلوم. وربما أحسن إليَّ هذا الذي سرق كتبي؛ لأنني آخذ منه حقي يوم يُلغى التعامل بالريال وبالدولار وباليِنِّ وبالمارك، ولا يبقى إلا التعامل بالحسنات، فمن كان له حق أخذ من حسنات من عليه الحق، أو ألقي عليه من سيئاته. ومن السرقات ما لا يعوض. كان في متحف دمشق مجموعة من الدنانير الأموية بقيت بعد هذا الزمان الطويل وقلَّ أمثالها، سرقها مرة لص فأذابها وجعلها سبيكة فأضاع قيمتها التاريخية، وإن حفظ كتلتها الذهبية؛ كالذي سرق دفتري في رحلة الحجاز، وقد حدثتكم خبره، ودفتراً آخر ضخماً كتبت فيه بخطي مباحث علم النفس والفلسفة لما كنا ندرسها سنة 1929 (1348هـ)، وكان عزيزاً عليَّ؛ لأن فيه فصلاً من تاريخ حياتي، ولأن فيه قطعة من نفسي، لست أدري مَن سرقه من بيتي. وما سرقه لصٌّ محترف تسلَّق الجدار أو كسر الأقفال، ولكن سرقه واحد ممن أدخلته أنا داري، لا يعلم إلا الله وحده من هو. ومن اللصوص الذين يستعيرون الكتب ولا يردونها، لذلك قررت قراراً لا رجعة فيه أن لا أعير أحداً كتاباً مهما كان السبب: ألا يا مستعير الكتب دعني ... فإن إعارتي للكتب عار فمحبوبي من الدنيا كتابي ... وهل أبصرت محبوباً يعار؟ ومن اللصوص الذين لا يؤبه لهم الذين يسرقون وقتك؛ فيأتي من يزورك على غير ميعاد، يهبط عليك كما تهبط المصيبة، وينزل بك كموت الفجأة. ولطالما عطَّل عليَّ مثل هؤلاء مقالة كنت أعدها، أو درساً كنت أحضره. لذلك لا أستقبل الآن أحداً أبداً بلا موعد، لا كبراً مني ولكن حفاظاً على وقتي. وإذا كانت سرقة المال ذنباً، فسرقة الوقت الذي يأتي بالمال أكبر؛ الوقت الذي تنال به المال والعلم، ويكون سبباً في دخوله الجنة أو في دخولك النار. على أن هذا كله يعدُّ في مجتمعاتنا من الشواذِّ، والأصل في الناس الاستقامة والخير وبعد، فإني سأورد عليكم طرفتين من طرف اللصوص فيهما إن شاء الله متعة: في دمشق مسجد كبير اسمه (جامع التوبة)، وهو جامع مبارك فيه أنس وجمال، سمِّي بجامع التوبة؛ لأنه كان خاناً ترتكب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري وهدمه وبناه مسجداً. وكان فيه - من نحو سبعين سنة- شيخ مربٍّ عالم عامل اسمه الشيخ سليم المَسْوَتي، وكان أهل الحي يثقون به، ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دنياهم. وكان عند هذا الشيخ تلميذ صالح، وكان مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه، وكان يسكن في غرفة في المسجد. مرَّ عليه يومان لم يأكل فيهما شيئاً، وليس عنده ما يَطعمه، ولا ما يشتري به طعاماً، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت، وفكَّر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، فآثر أن يسرق ما يقيم صلبه. وهذه القصة واقعة، أعرف أشخاصها، وأعرف تفصيلها، وأروي ما فعل الرجل، لا أحكم على فعله بأنه خير أو شر أو أنه جائز أو ممنوع. وكان المسجد في حيٍّ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها متلاصقة والسطوح متصلة، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مشياً على السطوح. فصعد إلى سطح المسجد، وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمح فيه نساء فغضَّ من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جنبها داراً خالية، وشمَّ رائحة الطبخ تصعد منها، فأحس مِن جوعه لما شمَّها كأنها مغناطيس يجذبه إليها. وكانت الدور من طبقة واحدة، فقفز قفزتين من السطح إلى الشرفة فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القدر، فرأى فيها باذنجاناً محشواً، فأخذ واحدة ولم يبال من شدة جوعه بسخونتها، وعض منها عضة، فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: أعوذ بالله، أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟ وكبر عليه ما فعل، فندم واستغفر وردَّ الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ، وهو لا يكاد - من شدة الجوع - يفهم ما يسمع. فلما انقضى الدرس وانصرف الناس (وأؤكد لكم أن القصة واقعة) جاءت امرأة مستترة (ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة) فكلَّمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفَّت الشيخ حوله فلم يرَ غيره، فدعاه وقال له: هل أنت متزوج؟ قال: لا. قال: هل تريد الزواج؟ فسكت، فقال له الشيخ: قل، هل تريد الزواج؟ قال: يا سيدي، ما عندي ثمن رغيف آكله فلماذا أتزوج؟ قال الشيخ: إن هذه المرأة خبَّرتني أن زوجها توفي، وأنها غريبة عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عمٌّ عجو

صدق العزيمة - أو قوة الإرادة

صدق العزيمة - أو قوة الإرادة محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) نُشر عام 1349هـ الموافق 1930م يخطرُ في النفس أمرٌ فتثِقُ بأنه حقٌ أو نافع، فتحرص على حصوله، فإذا أضافت إلى هذا الحرص النظر في وسيلة بلوغها إياه؛ وبدا لها أنه في حدود استطاعتها، فسرعان ما تقبل عليه وتبذل سعيها للوصول إليه؛ وذلك ما نسميه بالعزم أو الإرادة. فما يخطر في النفس مما تعتقد حقيته أو نفعه، وتود أن يكون حاصلًا لديها ثم لا تسعى له سعيه؛ ولا تضع لبلوغه خطة، فإنما هو التمني الذي لا يفرق بين المحال والمستطاع؛ والذي يخطر في نفوس القاعدين كما يخطر في نفوس المجاهدين، وما مثله إلا كمثل الشرر الذي يلمع حول النار ثم يتصاعد هباء. وإذا تحدثنا في هذا المقال عن قوة الإرادة وذهبنا في حديثها مذهب خصال الحمد، فإنما نعني الإرادة المتوجهة إلى ما هو خير، ومن أفضل ما يمدح به الرجل أن يتوجه بعزمه القاطع إلى إظهار حق أو إقامة مصلحة. تنشأ قوة الإرادة من التجارب، فمن تعلق همه بأمر كان قد عُرف بطريق التجربة أنه ميسور وأن عاقبته سلامة ونجاح، انقلب همه في الحال عزمًا صادقًا، أما من لم تسبق له تجربة فقد يتخيل الأمر بمكان لا تناله يده، أو يخشى من أن يلاقي وراء السعي إليه خيبة؛ فيقف في تردد وإحجام، فذو العمر الطويل من أولى الألباب قد يكون أسرع إلى بعض الأمور وأشد عزمًا عليها من حديث السن، لما تفيده التجارب من إمكانها ونجاح السعي لها. وتنشأ قوة الإرادة من درس التاريخ؛ فالذي يخطر في باله أمر قرأ في سيرة شخص أنه كان قد هم بمثله وعمل لحصوله فنجح عمله وصلحت عاقبته، شأنه أن يعزم على ذلك الخاطر ويجعله بعد العزم عملا نافذًا، فمن يخطر في باله أن يدعو الحاكم الجائر بالموعظة الحسنة، وقد قرأ سير العلماء الذين كانوا يأمرون بعض الجبارين بالمعروف فيأتمرون، أو يكظمون في الأقل غيظهم ولا يبطشون، يكون أقوى عزمًا على الدعوة ممن لم يقرأ في هذا الشأن خبرًا، لما عرفه من أن للحق الذي يخرج في أسلوبه الحكيم سطوة على النفوس وإن كانت طاغية، فيقدم على وعظه في رفق وحسن خطاب، فإن لم يهده سبيل الرشد قضى حق النصيحة له، وما على الذين أوتوا الحكمة إلا البلاغ. وتنشأ قوة الإرادة من أدلة خاصة تجعل الرجل على يقين من نجاح العمل وحسن العاقبة، واعتبروا في هذا بتصميم أبي بكر الصديق رضي الله عنه على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فإنه كان عالمًا بأنه على حق من قتالهم، وكان على ثقة من أنه سينتصر بفئته القليلة على جموعهم الكثيرة، ومما دلَّه على أنه الظافر، وأن المرتدين عن الدين لا يفلحون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} [التوبة: 33] ولو تقاعد أبو بكر عن جهاد تلك القبائل، وخلَّى الردة تتفشَّى في جزيرة العرب وباء فاتكًا، لانفصمت عرى الوحدة العربية الإسلامية، ولم يستقم أمر تلك الفتوح التي كانت عاقبتها ظهور دين الحق على سائر الأديان. وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا الأخرى وبلوغها غاية قصوى، كسجية إباءة الضيم تهز الضعيف، وتثير في نفسه العزم على أن يدافع القوي عن حقوقه ما استطاع دفاعه، وكذلك خلق الشجاعة يجعل الرجل أمضى عزمًا، وأسبق إلى الحرب من الجبان الذي يتمثل له الموت في كل سبيل. ومما يساعد الرجل على صدق العزيمة خلق التعفف وشرف الهمة، فلتجدنَّ أنزه القوم نفسًا وأبعدهم عن الطمع وجهة، أشدهم عزمًا على أن يقول حقًّا أو يعمل صالحًا، وإن لم يرض من قوله الحق أو عمله الصالح ذو مال أو سلطان. تتفاوت الإرادة في القوة، وتفاوتها على قدر قوة شعور الرجل بما للشيء من حقية أو نفع، وعلى قدر ثقته من تيسره وإمكان حصوله، فالذي أتقن علمًا فأحاط بأصوله، وغاص على أسراره يكون عزمه في الدعاية إلى الأعمال المرتبطة به أقوى من عزم ذلك الذي وقف في دراسته عند حد لا يجعله من أعلامه، والرئيس العادل يكون أقوى عزمًا على حرب أعدائه من الرئيس الجائر، لأن العادل يثق من قومه بحسن الطاعة أكثر مما يثق الجائر، ومن ظفر من قومه حسن الطاعة فقد ظفر بأكبر أسباب الفوز والانتصار. نقرأ في التاريخ أن المنصور بن أبي عامر الذي جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم في قرطبة قد غزا ستًّا وخمسين غزوة دون أن تنتكس له راية أو يتخاذل له جيش، أو يصاب له بعث، أو تهلك له سرية، ومن درس سيرته لم يعجب لهذا الانتصار المطرد، إذ يجد فيها عدلًا ومساواة يأخذان النفوس إلى أن تلقي إليه بالمودة والامتثال، ومن الأخبار الشاهدة بما وصفنا أن رجلًا من العامة وقف بمجلسه وقال له: إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك. وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة [أي: الترس]، وكان للفتي فضل محل عنده، فقال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية، ثم نظر إلى الفتى وقال له: ادفع الدرقة إلى فلان وانزل صاغرًا وساوِ خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك؛ ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدِّمه مع خصمه إلى صاحب المظالم؛ لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره. وبعد أن جازاه القضاء بما يستحق أبعده المنصور عن خدمته، وصاحب مثل هذه السيرة حقيق بأن يكون له - متى همَّ بالحرب - عزم لا يختلج بتردد. فمن وضع أمامه غاية شريفة ورام من قومه العمل لها بعزم لا يخالطه فتور، فما عليه إلا أن يريهم بالأسلوب السائغ والدليل المقنع وجه شرف تلك الغاية، ثم يصف لهم طريقها الناجح، فلا يكون منهم إلا أن يتسابقوا إليها ويقتحموا كل عقبة تلاقيهم في سبيلها. فإذا رأيت قومًا يذكرون في صباحهم ومسائهم شيئًا من معالي الأمور ولم ترهم يسعون له سعيه، ولا يتقدَّمون إليه بخطوة فاعلم أن العزم لم يأخذ من قلوبهم مأخذه، فهم إما أن يكونوا عن حقيقته وشرف غايته غائبين، وإما أنهم ضلُّوا طريقه وما كانوا مهتدين. وإذا ذكرنا العزم النافذ في خصال الشرف فإنما نريد الإقدام على الأمر بعد استبانة عاقبته، ولو على وجه الظن الغالب، وذلك ما يعنيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: ولكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث. والمكيث من لا يخف إلى الهجوم إلى بعد روية وتدبر. ولا يُعدُّ في قلة العزم أن يستبين الرجل الحق أو المصلحة ويقف دون عزمه مانع، كان يعلم أن عقول الجمهور لا تتسع لقبوله، ويخشى الفتنة فيرجئه ريثما يمهد له بما يجعله مقبولًا سائغًا. قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. فقال له عمر: لا تعجل يا بني، إن الله تعالى ذمَّ الخمر مرتين وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه وتكون فتنة. ولا يُعدُّ في قلة العزم أن يرى الرجل رأيًا ويعقد النية على إنفاذه ثم يبدو له على طريق الحجة أنه غير صالح فينصرف عنه، وقوي العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله، فيقبل بها على ما يراه صوابًا، ويدبر بها عما يراه فسادًا. وإذا قال الشاعر مادحًا: إذا همَّ ألقَى بينَ عَيْنَيْه عزمَه ... ونكَّب عن ذِكْرِ العواقِبِ جانبًا فإنما يريد الهمَّ الناشئ عن رجاحة رأي. وقويُّ العزم متى بصر بالأمر ووثق بأنه سداد قطع نظره عن العواقب، ونهض له في قوة، أما ضعيف العزم فإنه يترك نفسه مجالًا للخواطر، وذكر العواقب، هذه تغريه على العمل، وهذه تصده عنه حتى تفوت الفرصة، ويذهب وقت العمل ضائعًا. ومن صرامة العزم أن تفرغ فؤادك من كل داعية شأنها أن تلحق بعزمك، أو تصرف وجهك عنه صفحًا، وتتمثل هذه الصرامة في عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) إذ خرج من البحر أول قدومه على الأندلس، وأهديت له جارية بارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغلت عنها بما أهمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهمُّ به ظلمت همتي، فلا حاجة لي بها الآن. وردَّها على صاحبها. وكثيرًا ما يجيء التردد في الأمر من ناحية الشهوات والعواطف، كالذي يثق بما في طلب العلم من خير وشرف، ويقعده عنه حب الراحة، وإيثار ما تنزع إليه النفس من اللذات الحاضرة، والذي يقول. إذا كنتَ ذَا رأيٍ فكُنْ ذَا عزيمةٍ ... فإنَّ فسادَ الرأْيِ أن تتردَّدَا إنما ينبه على التردد الناشئ عن نحو الشهوات والعواطف، فذلك هو التردد المفسد للرأي والموقع في خسر. لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم، فكم من فتى يساويه في نباهة الذهن وسائر وسائل السؤدد فتيان كثيرون، ولكنه يجد من قوة الإرادة ما لا يجدون، فيكون له شأن غير شأنهم، ويبلغ في المحامد شأوًا أبعد من شأوهم، ولو نظرت إلى كثير ممن ظهروا أكثر مما ظهر غيرهم، وأقمت موازنة بينهم وبين كثير من لداتهم لم تجد في أولئك الظاهرين مزية يرجح بها وزنهم غير أنهم يهمون بالأمر فيعملون. وإذا جعلت تتقصى أثر دولة الموحدين التي وضعت قدمها في فاس، وبسطت أجنحتها على الأندلس والجزائر وتونس، وجدت أقصى هذه الدولة همة طفحت بها نفس محمد بن تومرت بعد انصرافه عن مجالس أبي حامد الغزالي وأبي بكر الطرطوشي وغيرهما عائدًا إلى بلده بالمغرب الأقصى. وكم من أمة أو دولة لم ينقذها ممن يبتغي بها سوء سوى قوة الإرادة، وقد يكون فيما صنع هارون الرشيد بالبرامكة غلو في الانتقام وسرف في القتل، ولكن تنقية مناصب الدولة منهم لم تكن إلا بنت اليقظة والإرادة التي لا يأخذها التردد في قطع المكر السيئ من جذوره، وإذا صحَّ ما يصفهم به بعض أهل العلم من أنهم كانوا يكيدون للإسلام كيد الباطنية، كان لهارون الرشيد موقف خير من موقف المنتقم لملكه أو ملك أسرته من بعده. فإذا كان صدق العزيمة من أفضل خصال الشرف وأجلها في الإصلاح أثرًا، فجدير بأساتيذ التربية أن يعطوه من عنايتهم نصيبًا وافرًا، وحقيق بالرجال القوامين على الشؤون العامة أن يأخذوا به أنفسهم، ويقيموه شاهدًا على كفايتهم، فإنَّ ما بيننا وبين المدنية الفاضلة والحياة الآمنة مسافة طويلة المدَى صعبة المرتقَى، إذا لم نقطعها بالعزم الصارم والعمل والمتواصل ظلمنا أنفسنا، ولم نقض حق الأجيال بعدنا، فمن واجبهم علينا أن نبني لهم صروحًا من العزِّ شامخة، فإن لم نستطع هيَّأنا لهم أسسًا ليرفعوا عليها قواعد الشرف والمنعة، فإذا هم أحرار في أوطانهم حقًّا، مكرمون لنزلائهم طوعًا. وما اقترن العزم الصحيح بأدب التوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت عاقبته نجاحًا ورشدًا {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

_ المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (5/ 136)

أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة (1/ 2)

أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة (1/ 2) للعلامة محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1393هـ - 1973م) نُشر عام 1353هـ الموافق 1934 م الحرية: لا تجد لفظًا تهواه النفوس، وتهش لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه - مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه - مثلَ لفظِ الحرية. وما سبب ذلك التعلق العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللفظ، أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم. فالوقح يحسب الوقاحة حرية، فيخف عنده ما ينكره الناس من وقاحته، والجريء الفاتك ينمي صنيعه إليها، فيجد من ذلك مبررًا لجرأته، ومحب الثورة يعد الحرية مسوغًا لدعوته، والمَفْتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حر العقيدة إلى غير هؤلاء. فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقي من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن؟ والتحقيق أن الحرية إنما يُعنى بها السلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة. ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرق، وقد شاع عند العرب أن يلصقوا مَذامَّ الصفات النفسانية بالرق؛ إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، وزهدوا في خصال الكمال. دعوة الإسلام إلى الحرية: الحرية وصف فطري في البشر؛ فإننا نرى المولود ييفع حرًّا لا يعرف للتقييد شبحًا. وإذ قد كان الإسلام دين الفطرة كما وصفه الله تعالى بقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] فكل ما هو من أصل الفطرة فهو من شعب الإسلام ما لم يمنعه مانع. ويزيد إعرابًا عن كون الحرية من أصول الإسلام قوله تعالى في وصف محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أتباعه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. فالإصر: هو التكاليف الشاقة، والأغلال: غير الإصر؛ فهي مستعارة للعبودية التي كانوا عليها في الجاهلية وهي عبودية الأصنام وسدنتها، وعبودية الملوك، وعبودية القادة أصحاب المرابيع [جمع مرباع، وهو ربع الغنيمة كان يأخذه سيد القبيلة حين يُغير بها]. ومما يزيد هذا بيانًا قول عمر لعمرو بن العاص في قصة ولده الآتية: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. فأما والإنسان مدني بطبع خلقته، محتاج إلى الاتصال ببني نوعه؛ لأنه ضعيف محتاج في قوام أمره إلى التعاون، فالحرية المطلقة تنافي مدنيته؛ فتعين أن الحرية المحمودة التي يدعو إليها الإسلام والحكماء هي حرية مقيدة لا محالة. مظاهر الحرية: تتعلق الحرية بالاعتقاد، والقول، والعمل. فأما حرية الاعتقاد: فقد أسَّس الإسلام حرية العقيدة بإبطال العقائد الضالة المخالفة لما في نفس الأمر؛ فان محور تلك العقائد هو إرغام الناس على أن يعتقدوا مالا قبل له بجولان الفكر فيه، أو ما يموه بتخيلات. وتكليف اعتقاد مالا يفهم ينافي الحرية. فبَيَّن الإسلامُ الاعتقادَ الحقَّ، ونصبَ الأدلةَ عليه وعلى تفريعه، ودعا الناس إلى الاستنتاج من تلك الأدلة، قال تعالى: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:101]. وقد اختلف الصحابة، وحدث الخلاف في عهدهم ومن بعدهم في مسائل كثيرة كمسألة الإمامة، ومسألة القدر، ومسألة التكفير بالذنب، فلم تكن طائفة ترغم غيرها إلا إذا خرج المخالف عن حد المناظرة إلى المغالبة والإرهاق. .. لم يسمح الإسلام بتجاوز حرية الاعتقاد حد المحافظة على دائرة الإيمان والإسلام المفسَّرَين في حديث جبريل الشهير؛ لأن ما تجاوز من حرية الاعتقاد يفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية فلا يكون محمودًا. فالذي يعتقد عقيدة الإسلام ثم يخرج عنه فهو المرتد؛ فارتداده إما أن يكون مع إظهار الحرابة للإسلام، وهذا النوع قد حدث زمن النبي صلى الله عليه وسلم من نفر من عُكل وعُرينة فحكم فيهم رسول الله بحكم المحارب. وأما بدون حرابة فقد ارتد نفر آخرون ثم تابوا فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم. ثم ارتدت قبائل من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان الكفر، أو بجحد وجوب الزكاة، وقد أجمع الصحابة على وجوب قتالهم؛ فكان إجماعهم أصلًا في قتل المرتد، مع الاعتضاد له بما رواه معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من بدل دينه فاقتلوه)). يعني الإسلام. وليس هذا الحكم بقادح في أصل حرية الاعتقاد؛ لأن الداخل في الإسلام قد كان على حريته في اعتقاده قبل دخوله فيه، فلما دخل في الإسلام صار غير حرٍّ في خروجه منه؛ لقيام معارض الحرية؛ لأن الارتداد يؤذن بسوء طوية المرتد من قبل؛ فإنه لا يتصور أن يجد بعد إيمانه دينًا آخر أنفذ إلى القلب من الإيمان، فتعين أن يكون دخوله في الإيمان لقصد التجسس، أو لقصد التشويه بالدين في نظر من لم يؤمنوا به؛ ليوهمهم أنه دين لا يستقر متبعه عليه بعد أن يعرفه ....... وقد يكون الارتداد لمجرد الاستخفاف والسخرية بالإسلام. وحرمة الله توجب الذب عن دينه في مثل هذا، على أن عدم المؤاخذة به يفضي إلى انحلال الجامعة، كما وقع في ردة العرب لو لم يؤخذوا بالصرامة. أما حرية الاعتقاد نحو غير الداخلين في الإسلام فلم يحمل الإسلام أهل الملل على تبديل أديانهم، بل اقتنع منهم بالدخول تحت سلطانه، وبدعائهم على الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. ومعلوم أن الدخول تحت سلطان الإسلام ليس متعلقًا بالاعتقاد ولا بالعمل، ولكنه راجع إلى حفظ أمن دولة الإسلام، إذ الإسلام دينٌ قرينُ دولة؛ فكان من موجباتِ حفظِ بقائه تأمينُه من غوائل الناقمين على ظهوره .. وأما حرية القول: فهي أن يجهر المفكر برأيه، ويصرح بما يراه صوابًا مما يأنس من نفسه أنه يحسن الإصابة فيه، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]. ولا شك أن قول العدل قد تكرهه النفوس التي يقمعها الحق؛ ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر شعب الإيمان قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .. وفي الحديث الصحيح ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)). فالتغيير باليد خاص بأولي الأمر، وجعل التغيير بالقلب أضعف الإيمان فهو حظ ضعيف، فتعيَّن أن حظ عامة المؤمنين هو تغيير المنكر باللسان. ومن حرية القول بذل النصيحة قال الله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} {ِالعصر: 3]. وفي الحديث الصحيح: ((الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). ومن حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي كمراجعة الابن أباه والمرأة زوجها، وفي حديث عمر بن الخطاب: ... صخبت عليَّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت عليها أن تراجعني قالت: ولِمَ تُنكر عليَّ أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وقد أخبر عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره. وقد راجع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياء من غير التشريع .. ومن حرية القول حرية العلم والتعليم، ومظهرها في الإسلام في حالين: الحال الأول: الأمر ببث العلم بقدر الاستطاعة ..... ووراء هذا مرتبة أخرى في العلم والتعليم وهي مرتبة الاستنباط في العلم، فقد دعا الإسلام إليها، وأوجبها على من بلغ رتبة المقدرة عليها في الأحكام الشرعية، وهي مرتبة الاجتهاد بمراتبه. وفي الحديث: ((من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد)). وأَيَّةُ حريةٍ للعلم أوسع من هذه؛ إذ جعل الأجر على الخطأ؟ الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلبًا للحق؛ لأن الحق مشاع. ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: إني عزمت أن أكتب كتبك هذه - يعني الموطأ باعتبار أبوابه - نسخًا ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها. فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدع الناس وما هم عليه. لم يقتصر الإسلام في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحرية لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه، وقد كان اليهود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرسون التوراة في المدارس بالمدينة .. وأما حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره؛ فحرية العمل في الخويصة مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، ولا يجبر على أن يعمل لغيره إلا إذا تعين عليه عمل من المصالح العامة، أو ما فيه حفظ حياة الغير مثل الدفاع عن الحوزة، وحراسة الثغور، وإنقاذ الغريق، وخدمة من تتعين عليه خدمته، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة. وكل ذلك يرجع إلى القسم الثاني في الحقيقة. وكذلك التصرف في المال عدا ما هو محظور شرعًا، إلا إذا طرأ عليه اختلال التصرف من عَتَهٍ أو سفه، وذلك قيد في الحرية؛ لأنها حرية غير ناشئة عن إرادة صحيحة؛ فألغيت لأجل مصلحته ومصلحة عائلته. وحكم النساء في حرية التصرف مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهن من انتفاء المفاسد؛ فلهن التصرف في أموالهن إذا كن رشيدات، ولهن إشهاد الشهود في غيبة أزواجهن. وكل ذلك لا عهد للعرب ولا لأهل الأديان الأخرى بمثله. ولهن الخروج لقضاء حوائجهن بالمعروف، ولهن حضور الجمعة والجماعة والعيدين .. وأما حرية العمل المرتبط بعمل الغير فأصله أنه لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره، ولكنه لا يعمل عملًا فيه اعتداء على حق الغير كاحترام الكليات التشريعية، وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة؛ لأن مرجع أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات. وكذلك قد تراعى أعمال تجب على المرء لغيره؛ لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبثِّ الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة. سد ذرائع انخرام الحرية: جرى الإسلام على عادته في التشريع، وهي أن يشرع الوسائل، ويؤسس القواعد المفضية إلى مقاصده، ثم يحيطها بسد الذرائع التي قد تتسلل من منافذها مفسدات المقاصد، فتعود على أصولها بالإبطال، وتلك هي المُلَقَّبة في أصول الفقه بسد الذريعة. وهذه الذرائع إنما تتعلق بالقول والعمل؛ فأوجب الإسلام على المسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله والإخلاص فيه، وترك الرياء، وسمي الرياء بالشرك الأصغر؛ وذلك ليجتنب الناس حب المحمدة الباطلة؛ فإن حب المحمدة قائد إلى الاستعباد الاختياري، ومانع للحرية؛ لأن الافتتان بحب المحمدة يُحَتِّم على صاحبه الخوف من الانتقاد، وغضب الجمهور من الذين لا يفقهون مصلحة من غيرها، ولا يميزون بين الحق و

أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة (2/ 2)

أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة (2/ 2) للعلامة محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1393هـ - 1973م) نُشر عام 1353هـ الموافق 1934 م المساواة: نُقَفِّي القول في الحرية ببيان المساواة: المساواة مصدر ساواه إذا كان سواء له، أي: مماثلًا؛ فالسَّواء المِثل. ولا يتصور تمام المساواة بين شيئين، أو أشياء في البشر؛ لأن أصل الخلقة جاء على تفاوت في الصفات المقصودة ذاتية ونفسية، وذلك التفاوت يؤثر تمايزًا متقاربًا، أو متباعدًا في أخلاق البشر وآثارهم بتفاوت الحاجة إليهم، وترقب المنافع والمضار من تلقائهم، وذلك يقضي تفاوت معاملة الناس بعضهم لبعض في الاعتبار والجزاء. فلو دعت شريعة إلى دحض هذه الفروق والمميزات لدعت إلى ما لا يستطاع. وتأبى الطباعُ على الناقلِ فضلًا على ما في ذلك من حمل الناس على إهمال المواهب السامية، وذلك فساد قبيح، والله لا يحب الفساد. ويكون الاقتراب إلى الفساد يفيد الاقتراب إلى الإفراط في إلغاء المميزات الصالحة، ولا تستقيم شريعة ولا قانون لو جاء بهذا الإلغاء؛ فإن الذين تطرفوا في اعتبار المساواة لا يسيرون طويلًا حتى تجبههم سدود لا يستطيعون اقتحامها كالشيوعيين؛ فقد وقفوا في حدود عجزوا عن تحقيق مبدأ المساواة فيها كمساواة أبكم لفصيح، ومعتوه لذكي. ومن هذا يتضح القياس، وتظهر المساواة الحقة بين الناس، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:19 - 20]، وقال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. إذن فالمساواة تعتمد توفر شروط وانتفاء موانع؛ فالشريعة التي تبني المساواة على اعتبار الشروط والقيود شريعة مساواتها ضعيفة. والشريعة التي تبني مساواتها على انتفاء الموانع شريعةٌ مساواتُها واسعةٌ صالحةٌ، ويظهر أن الدعوة الإسلامية بنت قاعدة المساواة على انتفاء الموانع. وشتان بين قوَّةِ تأثيرِ الشرط وتأثير المانع، والشريعةُ التي لا تقيد المساواة بشيء شريعةٌ مضلِّلَة. فإذا عددنا المساواة في أصول شريعة الإسلام فإنما نعني بها المماثلة بين الناس في مقاديرَ معلومةٍ، وحقوق مضبوطة من نظام الأمة، سواء كان الضبط بكليات ومستثنيات منها، أم كان بتعداد مواقع المساواة. المساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء: الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية: الأولى: المساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات: وهي المُعَبَّر عنها بالعدل، وهو خصلة جليلة جاءت به جميع الشرائع، وبينت تفاصيله بما يناسب أحوال أتباعها. وشريعة الإسلام أوسع الشرائع في اعتبار هذه المساواة، ففي خطبة الوداع: ((وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب)). وفي الصحيح: ((أن الرُّبَيِّعَ بنت النَّضْر لطمت جارية، فكسرت ثنيَّتها، فطلب أهل الجارية القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فجاء أنس بن النضر أخو الربيع وكان من خاصة الصحابة من الأنصار فقال: يا رسول الله، والله لا تكسر ثنية الربيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص)). ثم إن أهل الجارية رضوا بالأرش. وقصة الفزاري الذي لطمه جبلة بن الأيهم معروفة. الثانية: المساواة في تنفيذ الشريعة وإقامتها بين الأمة: بحيث تجري أحكامها على وتيرة واحدة ولو فيما ليس فيه حق للغير؛ مثل إقامة الحدود. وقد سرقت امرأة من بني مخزوم من قريش حليًّا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليها، وعظم ذلك على قريش فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال قائل: ومن يجترئ عليه غير أسامة بن زيد؟ فكلموا أسامة، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). أشار كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما كان في الأمم السالفة من التفاضل في إقامة الشريعة، وقد كان ذلك في بني إسرائيل كما ثبت في بعض طرق هذا الحديث في الصحاح، وثبت أن الرومان كانت عقوبات الجنايات المتماثلة تختلف عندهم على حسب اختلاف حالات المجرمين ووسائلهم. الثالثة: المساواة الأهلية، أي: في الصُّلوحية للأعمال والمزايا وتناول المنافع بحسب الأهلية لذلك، وهذه قد تكون بين جميع من هم داخلون تحت سلطة الإسلام، وتكون بين المسلمين خاصة، وتكون بين أصناف المسلمين من الرجال أو من الأحرار من النساء. والأصل في هذه الأهلية في الإسلام هو المساواة بين الداخلين تحت حكم الإسلام كلهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة: ((لهم ما لنا وعليهم ما علينا)). ثم المساواة بين المسلمين خاصة في أحكام كثيرة بحكم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. قد جمع حكمُ الأخوَّةِ اطرادَ المساواةِ، فدخل الرجال والنساء والأحرار والعبيد إلا فيما دلت الأدلة على تخصيصه بصنف دون آخر لا تخصيصًا اقتضاه حال الفطرة، أو مصلحة عامة. وفي الحديث: ((الناس كأسنان المشط)) فلم يقصر المساواة على جنس أو قبيلة، ولم يقدم عربيًّا على عجمي، ولا أبيض على أسود، ولا صريحًا على مولى، ولا لصيق، ولا معروف النسب على مجهوله. وفي خطبة حجة الوداع: ((أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)). قد كان تمايز الأجناس أو القبائل في القوانين والشرائع السالفة أصلًا في الأحكام؛ ففي التوراة سفرٌ لِخَصَائصِ اللاويين، وعند الرومان والفرس وبني إسرائيل لم يكن للدخيل في الأمة مثل ما للأصيل، وعند العرب لم يكن للصريح ما للصيق بَلْهَ الغريب عن القبيلة، والإسلام أبطل ذلك. أَمَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيدَ بنَ حارثة وهو من موالي قريش، وأَمَّرَ ابنَه أسامة بن زيد على جيش؛ فتكلم في المرتين بعض العرب فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن تطعنوا في إمارته- يعني أسامة- فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان زيد لخليقًا بالإمارة، وإن هذا أسامة لمن أحب الناس إليَّ)). فنبه بقوله: ((إن كان لخليقًا بالإمارة)) على أن الاعتبار بالكفاءة، ونبه بقوله: ((لمن أحب الناس إلي)). على أنه إنما اكتسب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لفضله وكفاءته؛ إذ بذلك تكتسب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك لم يختص الإسلامُ بالمساواة طبقةً. وقد كان نظام الطبقات فاشيًا بين الأمم؛ فكانت الفرس والروم يعدون الناس أربع طبقات أشرافًا، وأوساطًا، وسفلةً، وعبيدًا. وكان العرب يعدون الناس طبقات ثلاثًا سادةً، وسوقةً، وعبيدًا، فكان الفرس يخصون كل طبقة بخصائص لا تبلغ إليها الطبقة التي هي دونها. سأل رستم قائد جيوش الفرس في حرب القادسية زهرة بن حوية عن الإسلام فكان من جملة ما قاله زهرة لرستم: إن الناس بنو آدم إخوة لأب وأم. فقال رستم: إنه منذ ولي أردشير لم يدع أهل فارس أحدًا من السفلة يخرج من عمله، ورأوا أن الذي يخرج من عمله تعدى طوره، وعادى أشرافه. قال زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقول، بل نطيع الله في السفلة، ولا يضرنا من عصى الله فينا. وكان العرب يفرقون في الدية بين السادة والسُّوقة وفي الاقتصاص في الدماء، ويسمون ذلك بالتكايل، فَيُقَدَّر دمُ السيدِ أضعافَ دمِ السُّوقة، فجاء الإسلام بإبطال ذلك ففي الحديث: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم)). ولم يعتبر الإسلام للطبقات أحكامًا في الأهلية للكمال إلا في جعل الناس قسمين أهل الحل والعقد، والرعية؛ فأهل الحل والعقد هم ولاة الأمور، وأهل العلم، ورؤساء الأجناد، فهؤلاء طبقة إسلامية جُعل إليها النظر في إجراء مصالح الأمة، ومن خصائصها: انتخاب الخليفة، كما فعل عبد الرحمن بن عوف في تعيين الخليفة من الستة بعد عمر رضي الله عنهم. وأما المخالفون في الدين من أتباع حكومة الإسلام فقد منحهم الإسلام مساواة في معظم الحقوق عدا ما روعي لهم فيه احترام شرائعهم فيما بينهم، وعدا بعض الأحكام الراجعة إلى موانع المساواة. وقد اختلف علماء الإسلام في القصاص بين المسلم والذمي، وجوز العلماءُ ولايةَ الذمي ولاياتٍ كالكتابة ونحوها. وقد كان في الأمم الماضية يعد الاختلاف بين الحكومات ورعاياها في الدين حائلًا دون نيل الحقوق، وموجبًا للاضطهاد. وقد قص التاريخ علينا عدة اضطهادات من هذا القبيل كاضطهاد الآشوريين والرومان لليهود، واضطهاد التبابعة للنصارى في نجران، وهم أصحاب الأخدود، وتاريخ الإسلام مُبَرَّأ من ذلك. موانع المساواة: موانع المساواة في الإسلام - كما أشرت إليه في أول مبحثها - تكون: جِبِلِّية، وشرعية، واجتماعية، وسياسية؛ فالموانع الجبلية كموانع مساواة المرأة للرجل، فيما لا تستطيع أن تساويه فيه بخلقها؛ مثل قيادة الجيش، والقضاء عند جمهور المسلمين؛ لاحتياج هذه الخطط إلى رباطة الجأش، وكمنع مساواة الرجل للمرأة في كفالة الأبناء الصغار، وفي استحقاق النفقة. والموانع الشرعية هي المعلولة لعلل أوجبتها، وهي مبينة في مواضعها من كتب الشريعة مثلًا عدم المساواة في إباحة تعدد الأزواج للمرأة، وفي مقدار الميراث، وفي عدد الشهادة، ومثل عدم مساواة العبد للحر في قبول الشهادة، وكذلك أهل الذمة عند من منع قبول شهادتهم، ومن منع القصاص لهم من المسلمين بالقتل. والموانع الاجتماعية تتعلق غالبًا بالأخلاق، وبانتظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه، كعدم مساواة الجاهل للعالم في الولايات المشروطة بالعلم كالقضاء والفتوى، وعدم مساواة العطاء بين أهل ديوان الجند، فقد أعطاهم عمر على حسب السابقية في الإسلام، وحفظ القرآن. والموانع السياسية هي التي ترجع إلى حفظ حكومة الإسلام، وسد منافذ الوهن أن يصل إليها كمنع مساواة أهل الذمة للمسلمين في الأهلية للولايات التي يمنع منها التدين بغير الإسلام، ومنع مساواتهم للمسلمين في تزوج المسلمات، ومنع مساواة غير القرشيِّ القرشيَّ في الخلافة للوجه الذي نبه إليه أبو بكر يوم السقيفة؛ إذ قال: إن العرب لا تدين لغير هذا الحي من قريش. قال إمام الحرمين في ((الإرشاد)): ومن شرائطها أي الخلافة عند أصحابنا أن يكون الإمام من قريش، وهذا مما يخالف فيه بعض الناس وللاحتمال فيه مجال. أثر الدعوة في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام: أهابت دعوة الإسلام بالأمم، وقد كانوا غافلين مستسلمين، ففتحت أعينهم إلى ما في معاملة سادتهم وكبرائهم إياهم من الاعتداء والغض؛ فأخذ أولئك يقتربون إلى تقويم أَوَدِ جبابرتهم، والطموح إلى إصلاح أحوالهم، وأَخَذَ هؤلاء ينزلون عن صياصي الجبروت، ويخفضون من غلوائهم، فحدثت بذلك يقظة فكرية في العالم. اخترقت دعوة الإسلام أفكار الحضارة العالمية بطرق شتى: منها تناقل الأخبار، ومنها الجوار، ومنها الدعوة بالكتب النبوية إلى ملوك الأمم المشهورة مثل الفرس، والروم والحبش، والقِبْط، وملوك أطراف بلاد العرب في العراق والشام والبحرين وحضرموت، ومنها: هجرة المسلمين الأول

حقوق المال في الإسلام

حقوق المال في الإسلام عبدالرحمن بن ناصر السعدي (1376هـ) نشر عام 1373هـ لا ريب أن الشرع قد بيَّن للعباد كل ما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم، وخصوصاً الواجبات الكبيرة التي هي أهم المهمات؛ الواجبات على القلب، والواجبات على البدن، وجميع الأقوال والأفعال. وكذلك وضَّح الله ورسوله الواجبات المالية توضيحاً تامًّا؛ مجملاً ومفصلاً. فأمرنا بأداء الحقوق المالية، والإنفاق مما رزق الله، وأثنى على القائمين بها، وذمَّ المانعين لها أو لبعضها، وفصل ذلك. فذكر الأموال التي تجب فيها الزكاة، من الحبوب، والثمار والمواشي، والعروض، والنقود، وذكر شروطها، ونصبها ومقدار الواجب منها، ولمن تدفع؛ للمصالح المحتاج إليها، وللمحتاجين. فآكد الحقوق المالية هذا الحق الأكبر؛ حق الزكاة التي هي من أعظم أركان الإسلام ومبانيه التي لا يتم إلا بها. وفصَّل أيضاً ما في المال من النفقات الواجبة للنفس والأهل، والأولاد، والمماليك؛ من الآدميين والبهائم. وبيَّن الله ورسوله أيضاً وجوب الوفاء بالمعاملات الصحيحة، والعقود الشرعية، على اختلاف أنواعها وتباين أسبابها. وبيَّن أيضاً ما يتعلق بالمال من الحقوق العارضة إذا وجدت أسبابها، كبدل النفوس والأموال المتلفة بغير حق، وما فيه من الحقوق العارضة لحاجة الغير من ضيف ونحوه، أو لاضطرار الغير، فأوجب مواساة المضطرين، ودفع اضطرارهم بإطعام الجائع، وكسوة العاري، وهذا من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن غيره. ومن ذلك إلزام الناس بالمعاوضات؛ منها ما هو محرم، كإكراههم على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم. ومنها ما هو عدل، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، إذا وجب عليهم البيع أو الشراء لسبب يقتضي الوجوب؛ إما أداء دين أو غيره. ويجب منعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، ومثل التسعير على العمال، ومن يحتاج الناس إليهم، ومَنَعم من أخذ الزيادة الفاحشة، كما يمنع الناس من هضمهم لحقوقهم. ففي أمثال هذه المسائل يجب على الناس مراعاة العدل، ومنع أسباب الظلم. وهذه الأمور منها أشياء واضحة لكل واحد، ومنها أشياء يكون فيها اشتباه والتباس، يجب أن تفحص وتحقق تحقيقاً تامًّا لتعرف مرتبتها، فما دامت مشتبهة، فالأصل تحريم أموال الغير، والأصل إبقاء الناس على معاملاتهم، واحترام حقوقهم، حتى يتضح ما يوجب الخروج عن هذا الأصل لأصل شرعي أقوى منه. وأما ما يهذي به كثير من الناس عندما انتشرت الشيوعية، وشاعت دعايتها، وأثَّرت على كثير من العصريين، وراجت على بعض أهل العلم، من أنه يسوغ لأولياء الأمور أن يلزموا أهل الغنى والثروة أن يواسوا بذلك أهل الحاجة والفقراء، وأن يفتتوا ثروتهم على أهل الحاجات، وأن يسددوا بزائد ثروتهم جميع المصالح، التي تحتاجها الأمة بغير رضاهم، بل بالقهر والقسر. فهذا معلوم فساده بالضرورة من دين الإسلام، وأن الإسلام بريء من هذه الحالة الشيوعية أو هي مبدأ الشيوعية، ونصوص الكتاب والسنة على ذلك، وإبطال هذا القول صريحة وكثيرة جدًّا. وإجماع الأمة يبطل هذا القول المنافي لنصوص الكتاب والسنة، والمنافي للفطرة التي فطر الله عليها العباد، والفاتح للظلمة وأرباب الجشع أبواب الظلم والشر والفساد، فالله يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره على من يشاء، وقد جعل الله العباد بعضهم فوق بعض درجات في كل الصفات؛ في العقل والحمق، وفي العلم والجهل، وفي حسن الخلق وضده، وفي الغنى والفقر، وفي كثرة الأولاد والأموال والأتباع وضد ذلك؛ حكم بذلك قدراً، ويسر كلًّا لما خلق له، وأوجب على كل من أعطاه شيئاً من هذه النعم وغيرها من واجبات حددها وفصلها تفصيلًا، وجعل لنيل المطالب الدنيوية والأخروية أسباباً وطرقاً، من سلكها أفضت به إلى مسبباتها، وأوصلته إلى نتائجها، وهؤلاء المنحرفون يريدون أن يبطلواقدر الله وشرعه، ويبرروا آراءهم الفاسدة، بشبه لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد يضيفون ذلك إلى بعض نصوص الشريعة، تحريفاً منهم، يعرفه كل من له أدنى معرفة بالشريعة. وكثُر الدعاة إلى هذه الطريقة الشنيعة؛ تغريراً من بعضهم، واغتراراً من آخرين، يقلدونهم على غير بصيرة، والبصير لا يخفى عليه الأمر، وقد يروجون باطلهم بأنَّ تضخُّم المال في أيد قليلة سبب لمفسدة الترف المفسد للأخلاق، وسبب لإثارة الأحقاد من الفقراء والمعدمين، وهذا غلط فاحش وضعف نظر، فإن الغنى قد يكون سبباً للطغيان، وقد يكون سبباً للتواضع، والتزود من طاعة الله، والقيام بحقوق المال الشرعية، وعلى فرض ما فيه من الترف ونحوه، فإنَّ ما حاولوه من القضاء على ثروة المثرين سبب لشرور عظيمة، لا تنسب إليها أي مفسدة، وسبب لإثارة فتن كثيرة عكس ما قالوه، وهل هذه الشرور والحروب الطاحنة إلا من آثار ذلك - كما هو معلوم لكل أحد. وما قالوه في زيادة ثروة المال، يقال مثله في زيادة قوة الجسد، وصحة البدن، فإنه قد يبعث على شرور، كما قد يبعث إلى خير ويُتوسل به إلى خيرات، فنعم الله المتنوعة على العباد إما أن يشكروها ويتوسلوا بها إلى ما خلقوا له، من عبادة الله وشكره والقيام بحقه، وإما أن تكون بعكس ذلك، والله تعالى قد كفى عباده أضرار الثروة بما شرعه في الأموال من الحقوق الواجبة والمستحبة التي لو قام بها أرباب الأموال لكانوا من خير البرية أخلاقاً وأعمالاً، وأشرفهم وأعظمهم اعتباراً، ولما ترتب على ذلك من الشر شيء، ولكن لما منع أكثر الخلق ما أوجب الله عليهم في أموالهم- وخصوصاً الزكاة- سلط عليهم أنواع الظلمة من ولاة ظالمين، ومن فتاوى الجاهلين المتجرئين {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا ْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]. واعلم أن الشبه التي تثار لنصر كل باطل، إذا فرض صحة بعضها فإنها نظريات ضئيلة جدًّا، ونظر قاصر، حيث نظروا نظراً جزئيًّا، وحكموا حكماً كليًّا، وعموا عن الأصول التي تبنى عليها الأحكام، ويعتبرها الشرع، وتتولد عنها المصالح العامة الكلية، وتنغمر فيها المفاسد الجزئية، وتوافق الشريعة والحكمة وفطرة الله التي فطر عليها العباد، وتدع الخليقة هادئة، والأسباب قائمة، والارتباط بين الناس وثيقاً {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132].

_ المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (1343هـ - 1383هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط1: 1431هـ. (1/ 301)

نهج الأحرار من قديم

نهجُ الأحرارِ من قديم محمد الغزالي (ت 1416هـ - 1996 م) في السهول المستوية ينداح السيل حتى يبلغ منتهاه، ما يعترضه شيء. وفي حقول الأرز والقمح تهب الريح فتميل السيقان الغضة كلها، ما ينتصب منها عود. وبين جماهير الدهماء ينتشر التقليد الخاطئ، أو العرف السيئ فما يرده ذكاء، أو تمتد رهبة السلطان وسطوة الملك الطائش فما يقمعها تمرد. ولكن هناك رجالاً من معادن فريدة تشذُّ عن هذا العموم المهين. فهي الجبال التي تقف مد السيل، والأشجار التي لا تنثني مع هبوب العاصفة. وهم الصاحون بين السكارى، فإذا شاع خطأ تعرضوا هم له بالنقد، وإذا ألف الناس مسلكاً لم يعجبهم تصرفوا هم منفردين على طريقة المعرى حين قال: تثاءبَ عمرو إذ تثاءبَ خالِدُ ... بعدوَى فما أعدتْنيَ الثؤباءُ وإذا ركع الناس بين يدي ملك ظالم، أو استكانوا لأوضاع مزرية، لمحت في أبصارهم بريق الأنفة، وفي سيرتهم شرف الحرية، فما يستريحون حتى تنجو البلاد والعباد من آثار الفساد، وقيود العبودية. أولئك هم الثوار الذين يعتز بهم الإيمان وتستقيم بهم الحياة. وإذا كان الله جل شأنه قد صان العمران البشري بالجبال، وقال في كتابه: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] فقد اقتضت حكمته العليا أن تصون المجتمع الإنساني بهذا النفر من حراس الحقائق الرفيعة، وحماة المعالم الفاضلة. فهم الدواء الخالد لكل ما يفشو في الدنيا من علل، وهم الأمل الباقي لبقاء الخير في الأرض، وإن ترادفت النوب، واكفهرت الآفاق. ربما كان عشق الحق خليقة فيهم فطرهم الله عليها، كما قال في كتابه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]. ولعشق الحق أعباء مرهقة، أولها الصبر على تثبيط الخاذلين، وكيد المعوقين والمخالفين، بيد أن طبيعة الثورة على الباطل لا تكترث لشيء من هذا، وفي الحديث الصحيح. ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة- أو حتى يأتي أمر الله- وهم على ذلك)). وأكثر الناس يعرف الحق معرفة حسنة، غير أنه لا يأسى لهزيمته، ولا يأسف لضياعه! أو لعل إحساساً من الضيق يخامره خذلان الحق، إلا أن هذا الإحساس يصطدم بمصالح النفس، وضرورات العيش، ومطالب الأولاد، فيتراجع المرء رويداً رويداً عن هذا الشعور النبيل، ويؤثر الاستسلام على المقاومة، والاستكانة للواقع عن تغييره وإنكاره. وهذا السلوك لا يتفق مع طبيعة الإيمان، ويستحيل أن تتقبله نفس ثائرة لله مؤملة فيما عنده. فالغاضب لله ورسوله يذهل في سورة يقينه عما يحرص عليه الجبناء من حياة ومتاع، ولا يرى أمامه إلا نصرة الحق ورفع لوائه وليكن ما يكون. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)). على أن من العبث انتظار التفاني في الحق من عبيد أهوائهم وصرعى نزواتهم، إن الأمر يحتاج إلى تربية وتبصرة حتى يكون مذاق الإيمان أحلى في فم الإنسان من كل لذة عاجلة. عندما يشعر امرؤ بالسعادة؛ لأنه واسى محروماً، أو نصر ضعيفاً، أو آمن قلقاً، أو آوى هائماً، أو أحصن عرضاً، أو حقن دماً، فهو إنسان كبير، ومثله أهل لأن يفتدى عناصر الإيمان بالنفس والنفيس. والثائرون ضد الظلم والناقمون من أعوانه رجال من ذلك المعدن الصلب، واندفاعهم لتقليم الأظافر الشرسة ضرب من الإصلاح العام للحياة والأحياء {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]. وفي الأعصار الأخيرة قامت ثورات شتى استهدفت إنقاذ الجماهير من الملوك المسلطين، وأسرهم المحظوظة، وثورة يوليو سنة 1952 من بين هذه الثورات الخطيرة، ونحب أن نقول بجلاء إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها! وذلك أن الله قد خلق البشر آحاداً صحيحة، وجعل لكل أحد منهم مدى معيناً يمتد فيه طولاً وعرضاً. فإذا عنَّ لأحدهم أن يتطاول وينتفخ ويتزيد، فعلى حساب الآخرين حتماً. ومن هنا تجد من حوله أنصاف بشر أو أرباع بشر! أصبحوا كسوراً لا رجالاً سواء، وما نقص من تمام إنسانيتهم أضيف زوراً إلى الكبير المغرور، فأصبح فرعوناً مالكاً، بعدما كان فرداً كغيره من عباد الله. ولما كان الإسلام إنقاذاً من جهالاتهم المتوارثة، وحماية للفطرة من أن تأكلها تقاليد السوء، وقوانين الاستبداد الأعمى، فقد جعل كلمة التوحيد -وهي عنوانه وحقيقته - نفياً للوثنيات كلها، ورفضاً لأية عبودية في الأرض، وتدعيماً للحرية التي ذرأ الله الناس عليها، والكمال الذي رشحهم له. ذلك بعض ما تعنيه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله)، وهي الكلمة التي يرددها الألوف دون وعي، بل لعلهم يعيشون في ظلها عبيد أوهام. وقد بُعث محمد للناس وفي قلوبهم وجل من سطوة الملوك الأولين، فلما جيء بأعرابي يوماً في حضرته أخذته رعدة - يحسب نفسه قريباً من أحد الجبابرة - فقال له الرسول: ((هوِّن عليك، إني لست بملك، أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)). كان قد وقر في الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين؛ فإن الأبراج التي يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض، ووصلتهم بالسماء، فزعموا أنهم نسل آلهة، أو عاشوا كذلك، وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم! فأراد محمد أن يعرف العرب أنه بشر مثلهم لا ملك فوقهم، ثم انتسب إلى أمه، لا إلى العظماء من أجداده، ليزداد لله تواضعاً، ومن الناس قرباً. وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا في أثره، وربطوا نسبهم بالجماهير التي نبتوا منها فما تنكروا لها، ولا تكبروا عليها، ولا حسب أحدهم نفسه من دم أنقى أو عنصر أزكى. واسمع إلى أبي بكر بعد ما ولي الخلافة يقول: (أما بعد فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم). وجاء في خطبة لعمر بن الخطاب: (اعلموا أن شدتي التي كنتم ترونها ازدادت أضعافاً على الظالم والمعتدي، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم، فاتقوا الله وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم). أيها الناس: (إنه لم يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله). هذا هو وضع الحاكم المسلم في الدولة المسلمة، رجل من صميم الأمة يطلب أن يعان على الحق، وأن يمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجاً للمصالح العامة، لا مصيدة للمنافع الخاصة، ولا باباً إلى البطر والطغيان، ذلك هو دأب الإسلام الذي خطَّ مصارع الجبابرة في الدنيا، وحطَّ منازلهم في الآخرة {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. حيث يكون العسف والخسف لابد أن يكون الإسلام ديناً ثائراً يطلب النصفة والرحمة. وحيث يكون الاستعلاء والاستعباد لابد أن يكون المسلمون ثواراً ينشدون العزة الكرامة. وقد تكون عقبى الجهاد موتاً في غربة، أو قتلاً في معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب. وماذا في هذا؟ إن ما يحذره غيرهم هو الذي ينشدون لأنفسهم! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون، أو يموتوا كما يريدون. إنهم عزيمة تؤثر في الحياة سلباً وإيجاباً، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين. ويعجبني قول الطرماح بن حكيم، وهو يسعى إلى الغنى حتى لا يحتاج إلى فسقة الأمراء في عهده أو إلى عَداة الخلفاء - كما سماهم: وإني لمقتادٌ جوادي وقاذفٌ ... به وبنفس العام إحدى المقاذفِ لأكسب مالاً، أو أؤول إلى غنى ... من الله يكفيني عَداة الخلائفِ ثم اسمع إلى هذا الثائر الضارب في مناكب الأرض طلباً للعزة يقول: فيارب إن حانت وفاتي فلا تكن ... على شرجع يعلى بخضر المطارفِ - أي على نعش ملفوف بالأقمشة المطرزة - ولكن قبري بطنُ نسرٍ مقيله ... بجو السماءِ في نسور عواكفِ وآسى شهيداً ثاوياً في عصابةٍ ... يصابون في فجٍ من الأرضِ خائفِ والمسلمون اليوم لن ينجحوا في حرب الاستعمار إلا إذا استهتروا بالموت وأحبوه في ذات الله. أرأيت تاريخنا القديم وأبطالنا الأولين: لقد كانوا يتمنون من أعماق قلوبهم أن تثوى جثثهم الممزقة في حواصل الطير وأجواف الوحوش. وهم هلكى، لا بين أحضان الأهل الباكين والأحباب المواسين، ولكن في وحشية الصحراء ورحاب الميادين أو في أفق مبهم من أعماء الدنيا، وعلى شفة أحدهم وهو يجود بروحة قول الشاعر: وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصالِ شلوٍ ممزَّعِ هكذا مضت سنة الإيمان منذ أبرم عقد الجنة، ووصفت آيات الله من وقَّعوا عليه بأنهم {يَقتلون ويُقتلون} [التوبة: 111]. وهكذا مضت سنة الرجولة من قديم الزمان. فاعتبرت موت الرجل بين أهله معرة؛ لأن هذا شأن النساء والعبيد. فمصارعهم تحمرُّ بها صحائف التاريخ، ويلبس الشفق القاني ثوبه الأرجواني منها! وبذلك المعنى هتف الشاعر القديم: وإنا لقومٌ ما نرى القتل سبةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ تسيلُ على حدِ الظباتِ نفوسُنا ... وليست على غير الظباتِ تسيلُ وما مات منا سيدٌ حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيلُ أجل هذه شارات السيادة، ألَّا يموت الرجل حتف أنفه، ولكن يموت في عرصات الوغَى. لما قتل الأمويون مصعب بن الزبير، قام أخوه عبد الله فخطب الناس فكانت خطبته تعبيراً لبنى أمية أنهم يموتون على فرشهم! أما آل الزبير فقد كفنوا في دمائهم بطلاً من بعد بطل .. وخطب أبو حمزة الخارجي يصف رجاله، وكيف جند لهم المنايا، واستهلكهم صدق الجهاد، فكان من كلامه في لقائهم الحتوف: (استخفُّوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشباب منهم قُدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضَّبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت إليه طير السماء .. فكم من عين في مناقير طائر، طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله ... ! وكم من كفٍّ زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله.). فانظر مصاير أولئك الشباب كيف خطَّها القدر؟ وكيف تذكر في سياق الدلالة على حب الله والتفاني فيه؟ إن أولئك الشهداء المستميتين في محاربة البغي، الذين رضوا أن تُدقَّ أعناقهم قبل أن تَدقَّ على أبواب الإسلام يد آثمة، وأن تُمزق أعضاؤهم قبل أن يتمكن من الكيد لدين الله كافر سافر أو منافق خناس. إن أولئك الشباب الهلكى، المبعثرة أحشاؤهم هنا وهناك، سوف تجمعهم القدرة العليا بكلمة واحدة، فإذا الجبين المشجوج ناصع مشرق، وإذا العين المفقودة حوراء مبصرة، وإذا الجثة الممزعة بشر سوي يقول لله: (آمنت بك وتحملت فيك ما ترى) تلك سنة المؤمنين الأحرار، في المحيا والممات.

_ المصدر: كتاب (من مقالات الشيخ الغزالي)، جمع: عبد الحميد حسانين حسن، دار نهضة مصر- القاهرة. (1/ 65).

ضريبة الذل (يا ليت قومي يعلمون)

ضريبة الذل (يا ليت قومي يعلمون) سيد قطب (ت: 1386هـ - 1966م) نشر عام 1952م بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مفزعة، قلقة، تخاف من ظلها، وتَفْرَقُ من صداها، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4]، {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون. وإنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون، ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله، كم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع، وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به، أو ناطها الناس ... ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هَيِّنٌ هَيِّن، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل، السادة الذين لهث في إثرهم، ووَصْوَصَ بذنبه لهم، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء! كم من رجل كان يملك أن يكون شريفاً، وأن يكون كريماً، وأن يصون أمانة الله بين يديه، ويحافظ على كرامة الحق، وكرامة الإنسانية، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئاً، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، وأن يحرس الحق، وأن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه، وضعف عن تكاليف الكرامة، وتجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه، رخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نُبِذَ كما تُنْبَذُ الجيفة، وركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يَعِدُونه ويمنونه يوم كان له من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة، ومن الأمانة ملاذ. كثير هم الذين يَهْوُونَ من القمة إلى السَّفْح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد، ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في سبيلهم هَوَوْا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مَهَاوي الضلال، ومع تكاثر العظات والتجارب فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية، ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة، ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطمع والمطمح، وتلهث وراء الوعود والسراب ..... ثم تَهْوِي وتَنْزَوِي هنالك في السفح خَانِعَةً مَهِينَة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار. لقد شاهدتُ في عمري المحدود - ومازلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تُبْهِظ كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتُنَكِّس رؤوسهم .... ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا والآخرة، ويَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاد. لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً، ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة .... شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهماً، وهم يؤدون للذل ديناراً أو قنطاراً، شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه، وهم يملكون أن يَرْهَبَهم ذوو الجاه والسلطان! لا، بل شاهدت شعوباً بأَسْرِها تُشْفِقُ من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات، ضرائب لا تُقَاس إليها تكاليف الحرية، ولا تبلغ عُشْرَ مِعْشَارِها، وقديماً قالت اليهود لنبيها {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فأَدَّتْ ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء، تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف .... وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة والنصر في عالم الرجال. إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية، والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، ولا فكاك. فإلى الذين يَفْرَقُونَ من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرِّغُون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم لتتحرر وتتخلص. إلى هؤلاء جميعاً أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ، وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يَرْهَبُون الجاه والسلطان يَرْهَبُهم الجاه والسلطان. ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأذلاء الذين باعوا الضمائر، وخانوا الأمانات، وخذلوا الحق، وتمرغوا في التراب ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله، ملعونين من الناس، وأمثلة كذلك ولو أنها قليلة على الذين يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا، ويأبون أن يبيعوا رجولتهم، وقد عاش من عاش منهم كريماً، ومات من مات منهم كريما.

سماحة الإسلام

سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) نُشر عام 1350هـ الموافق 1932م من يدرس أصول الإسلام بجد، ويذهب في تعريف روح تشريعه مذاهب بعيدة المدى، يدرك دون أن يأخذه ريب: أنه دين نزل من السماء؛ ليضرب بهدايته في أرجاء المعمورة، ويعلم الأمم أرقى نظم الاجتماع، وقد ارتفعت في الشرق والغرب رايته، يوم تولى أمره زعماء لبسوا من آدابه بروداً سنية، وتحروا في الدعوة إليه سبلاً سوية، ولا أستطيع أن ألم في هذا المقال بما احتوته شريعته من النظم المدنية، والقواعد التي تشهد بأنه تشريع لم يكن للعواطف البشرية والعادات القومية عليه سلطان، فأكتفي بأن أصف لك ناحية يتمثل فيها عدل قضائه، ورفق سياسته، وسمو آدابه، تلك الناحية هي: أصوله الخاصة في معاملة غير المسلمين. المخالفون في نظر الإسلام: محاربون، أو معاهدون، أو أهل ذمة، والمراد: ذمة الله؛ أي: عهده، فهذا الاسم يشعر بأن من مَسَّهم بأذى، فقد خان عهد الله، وعهد دينه الحنيف. أما المحاربون، فهم الذين يهاجمون أمة إسلامية، أو يتحفزون للهجوم عليها، أو يمدون أيديهم إلى حق من حقوقها، وحكم الإسلام في هؤلاء: أن يُدفعوا إذا هاجموا، ويُبادروا بما يكفُّ بأسهم إذا تحفَّزوا، ويُقوَّموا إذا اعتدوا على الحق حتى ينصفوا، يأذن الإسلام في دفع المهاجم، أو كف المناوئ، مع رعاية جانب الرفق والأخذ بالعرف. ومن الرفق الذي أقام عليه سياسته الحربية: أنه منع من التعرض بالأذى لمن لم ينصبوا أنفسهم للقتال؛ كالرهبان، والفلاحين، والنساء، والأطفال، والشيخ الهرم، والأجير، والمعتوه، والأعمى، والزَّمِن، ومن الفقهاء من لا يجيز قتل الأعمى والزَّمِن، ولو كانا ذوي رأي في الحرب وتدبير. ولا يجوز قتل النساء، وإن استُعملن لحراسة الحصون، أو رَمين بنحو الحجارة، ودليل هذا قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190]، فجعل القتال في مقابلة القتال. ونبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على أن من لا يقاتل لا يُقتَل، حين وجد امرأة في بعض الغزوات قتيلة، فأنكر ذلك وقال: (ما كانت هذه لتقاتل). وإذا وضع المحاربون الأطفال والنساء أمامهم، وجب الكفُّ عن قتالهم، إلا أن يتخذوا ذلك ذريعة للفوز علينا، ونخشى أن تكون دائرة السوء على جندنا. ولا يجيز الإسلام التمثيل بالمحارب، قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً)، ويمنع من حمل رؤوسهم من بلد إلى بلد، أو حملها إلى الولاة، وقد أنكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا، وقال: هو فعل الأعاجم. ولم يشرع الإسلام للأسير حكمًا واحدًا، بل جعل أمره موكولًا إلى الأمير الذي يقدر مصلحة الحرب، وله أن يخلي سبيله بفداء، أو بغير فداء. ولا يرغم الإسلام المحارب على الدخول في ملته، بل يعرض عليه أن يقيم تحت سلطانه آمنًا على نفسه وماله وعرضه ودينه، ويستوي في هذا الحكم أصحاب الأديان السماوية، وغيرهم، قال الإمام مالك، وصاحبه ابن القاسم: تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام. وأما المعاهدون، وهم الذين انعقد بيننا وبينهم عهد على السلم، فيجب علينا الوفاء بعهدهم، وأن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، وإذا كان في بعض ذوي القوة من يحس من خصمه المعاهد تحفُّزًا إلى الخيانة، فيسبقه إليها، فإن الإسلام يوجب في حال الخوف من خيانة المعاهدين أن ننبذ لهم العهد علنًا، وفي القرآن الكريم: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58]. ولم يخصَّ الإسلام تأمين المحارب بصاحب الدولة، بل هو حق لكل مسلم ومسلمة، فإذا أمَّن رجل أو امرأة من المسلمين محاربًا، كان تأمينه نافذًا، واعتصم بهذا التأمين من أن يناله أحد بسوء حتى يبلغ مأمنه. وليس من شرط التأمين البلوغ، ولا الإسلام، فلو أمَّن صبيٌّ يعلم ما يقول، أو أحد من أهل الذمة بعض المحاربين، كان هذا التأمين عقدًا محترمًا. بلغ الدين في رعاية عهد الأمان أقصى غاية، فلو أشار المسلم إلى الحربي إشارة يريد بها عدم التأمين، ففهمها الحربي على التأمين، وجب له الأمان على حسب ما فهم من تلك الإشارة. وهذا حكم التأمين في حال الحرب، أما تأمين المحارب ليدخل البلاد بقصد التجارة، وظنَّ المحارب أن هذا التأمين نافذ، وجب الوفاء له على حسب ظنه، وليس لولي الأمر إن لم يرض عن هذا التأمين إلا أن يرد المحارب إلى مأمنه. وإذا أخذ المحارب أماناً لينظر في الدين، ولم ينشرح صدره للإسلام، فما لنا إلا أن نرده إلى داره آمنًا، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة: 6]. ولو ظفر المسلمون بمحارب جاء مقبلًا من بلد عدو، فقال: جئت لأطلب الأمان. لم يجز التعرض له بمكروه، وإذا لم يروا المصلحة في تأمينه، ردوه إلى مأمنه. ولو وجد المسلمون طائفة من المحاربين في أطراف بلاد الإسلام، فقالوا: جئنا تجارًا، وظننا أنكم لا تتعرضون لمن جاء تاجرًا، فليس لنا إلا أن ندعهم وشأن تجارتهم، أو نردهم إلى مأمنهم، إلا أن تقوم الشواهد على أنهم يقصدون من الشر ما لا يقولون. ومن رعاية الإسلام لعهد التأمين: أن أكَّد في احترام أموال المعاهدين، حتى إذا رجع المعاهد إلى بلده، وترك في دار الإسلام وديعة، أو دينًا، وجب إرسالها إليه، فإن مات بُعث إلى ورثته إن عُرفوا، فإن لم يُعرفوا، أُرسل بها إلى رئيس قومه. ويدلك على ما لعهد التأمين في دين الإسلام من حرمة: قول عمر بن الخطاب: (إنه بلغني أن رجالاً منكم يطلبون العلج، حتى إذا أسند إلى الجبل، وامتنع، قال رجل (مَتَرْس)، يقول: لا تخف، حتى إذا أدركه، قتله، وإني والذي نفسي بيده! لا أعلم مكان واحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه). وأما من رضوا بالإقامة تحت راية الدولة الإسلامية، فقد قرر لهم الدين من الحقوق ما يكفل لهم حريتهم، ويجعلهم أعضاء حية مرتبطة بسائر أعضاء الأمة المسلمة ارتباط ألفة وعطف وتعاون. توجد هذه الروابط في القرآن والحديث، وآثار الصحابة، وأقوال أهل العلم من بعدهم. يقتضي العهد الذي يعقد لأهل الذمة: أن يقيموا تحت راياتنا متمتعين بحقوقهم الدينية، آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وإليك نص عهد عمر بن الخطاب لأهل إيليا: (أعطاهم الأمان لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم، ولا ينقص منها، ولا من خيرها، ولا من صُلُبهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم). إن القرآن كقانون أساسي لدولة الإسلام لم يترك ناحية من نواحي الاجتماع أو السياسة إلا وضع لها أصلًا يُهتدى به في تفاصيل أحكامها، وانظر إليه ماذا صنع في ناحية هي أكبر النواحي الاجتماعية أو السياسية، وهي معاملة الطوائف غير المسلمين إذا اختاروا الإقامة في جوارنا، ولم ينزعوا إلى مناوأتنا، اقرأ إن شئت قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8]، فالآية تحث على رعاية قانون العدل في معاملتهم، وتدل - بعد هذا - على فضيلة البر بهم، وإذا عبرت عن هذا المعنى بعدم النهي عنه، فلأنها قصدت الرد على ما يسبق إلى الذهن من أن مخالفتهم للدين تمنع من برهم، وتسهل الاستهانة بحقوقهم. وقد جرى أمراء الإسلام العادلون على سيرة هذه الآية، فكانوا ينصحون لنوابهم بالعدل، ويخصون أهل الذمة في نصيحتهم بالذكر، وأحسن مَثَل نسوقه على هذا: كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص، وهو يومئذ الوالي على مصر، ومما جاء في هذا الكتاب: (وإن معك أهل ذمة وعهد، وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم). ومنه: (وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من ظلم معاهداً، أو كلفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة)، احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لك خصمًا، فإنه من خاصمه خصمه). فانظروا إلى مكانة العهد في الإسلام، وزنوها بمعاهدات يأخذ فيها بعض الأقوياء على أنفسهم احترام حقوق شعب إسلامي، حتى إذا أمسكوا بناصيته، لم يستحيوا أن يعبثوا بالأرواح، وتجول أيديهم في الأموال، ويعملوا جهدهم على أن يقلبوهم إلى جحود بعد إيمان، ويحنقون بعد هذا كله على من يسميهم: أعداء الإنسانية، وقابضي روح الحرية. أدرك الفقهاء رعاية شارع الإسلام لأهل الذمة، وحرصه على احترام حقوقهم، فاستنبطوا من أصوله أحكاماً جعلوا المسلم وغير المسلم فيها على سواء، وأذكر من هذه الأحكام: أنهم أجازوا للمسلم أن يوصي أو يقف شيئاً من ماله لغير المسلمين من أهل الذمة، وتكون هذه الوصية أو الوقف أمراً نافذاً، ولما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)، قالوا: البيع على غير المسلم الداخل في ذمة الإسلام كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته كالخطبة على خطبة المسلم، كلاهما حرام. وإذا ذكر فقهاؤنا آداب المعاشرة، نبهوا على حقوق أهل الذمة، وندبوا إلى الرفق بهم، واحتمال الأذى في جوارهم، وحفظ غيبتهم، ودفع من يعرض لأذيتهم. قال شهاب الدين القرافي في كتاب (الفروق): (إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم، ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام). وقال ابن حزم في (مراتب الإجماع): (إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة). وجعل الإسلام أحكام رؤسائهم فيما بينهم نافذة، فلهم أن يتحاكموا أمام رؤساء مللهم فيما يعرض لهم من القضايا، وإنما اختلف علماؤنا فيما إذا رفع الخصمان منهم القضية إلى الحاكم المسلم، فقال المالكية: إن كان ما رفعوه ظلمًا لا تختلف الشرائع في تحريمه؛ كالغصب، والقتل، وجب على المسلم أن يفصل فيه على وجه العدل، فإن كان مما تختلف فيه الشرائع، كان له الخيار في الفصل بينهم بشريعة الإسلام، أو صرفهم إلى رئيس طائفتهم. وحملوا على هذا الوجه قوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42]. وقال الإمام أبو حنيفة: على الحاكم المسلم متى ارتفع إليه الخصمان من أهل الكتاب أن يفصل في قضيتهم، وليس له الإعراض عنهم، وأخذ في وجوب الفصل بينهم بقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة: 49]، وقال: إن الأمر القاطع في هذه الآية ناسخ للتخيير في آية: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42]. هذا أصل البحث في هذه المسألة، أما تفصيل المذاهب، وبسط أدلتها، فموضعه كتب الفقه، وأحكام القرآن. وأباح للمسلم أن يتزوج تحت سلطان الإسلام بيهودية أو نصرانية، وجعل لها من الحقوق ما لزوجته المسلمة، وفي الزواج صلة الصهر، وتتبعها صلة النسب، وفي هذا شاهد على أن الدين الحنيف ليس بالدين الذي يدعو إلى التقاطع المانع من المعاشرة بالمعروف، والتعاون على مرافق الحياة. وكره الإسلام أن يجري المسلم في مخاطبة المسلمين مجرى أولئك الذين يتعصبون لمعتقدا

بيان أن سعادة الأمة في التهذيب

بيان أن سعادة الأمة في التهذيب محمد رشيد رضا (ت 1354هـ - 1935م) نُشر عام 1315هـ الموافق 1898م تلك آيات من الحكمة، تتلى على مجتمع هذه الأمة، تنبه فكر الناسي، وتبعث همة الآسي، وشذرات من معدن العلم السماوي، تُهْدَى إلى معمل الفكر الإنساني؛ ليصوغ منها عقودًا، ويضرب منها نقودًا، تتحلى بها أجياد العقائل العواطل، وتعامل بها أكف المُثْرِي والعائل، لعلهم يفلحون. إذا تأملت في تاريخ هذا الإنسان رأيت أبناءه قد وقع منهم الاختلاف في كل شيء {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118 - 119) اختلفوا في العقائد والمذاهب، والعادات والمشارب، وجرى هذا الخلاف منهم في مدركات الحس، كما سرى في مدارك العقل، ألا ترى أن بعضهم لا يستطيب أكل اللحوم ذوقًا، كما أن بعضهم يستقبحها عقلًا، أما سمعت أن منهم مَن أنكر مظاهر الوجود وحقائق الأشياء، زعمًا أنها خيالات وأوهام تتراءى للحواس، ولا تحقُّق لها في نفسها. ومن رام حصر مواد الاختلاف والافتراق بين الأمم والشعوب، وبين الآحاد والأشخاص، فقد رام عبثًا، وحاول شططًا، وفيما أشرنا إليه من النموذج بلاغ لقوم يفقهون. إن أصالة الخلاف والمنابذة، وتمكُّنهما من نفوس أفراد هذا النوع قد جعلته من الخواص اللازمة، أو الفصول المقومة لذاته، والمقسمة لجنسه، بحيث يصح أن يعرف الإنسان بأنه (حيوان مخالف)، أفلا يجدر بنا أن نعجب بعد هذا إذا رأينا جميع الناس أو أمة منهم قد اتفقوا على شيء، وأجمعوا على شأن؟! ألا يجب علينا أن نغتنم ذلك الشيء فنتخذه ذريعة لجمع كلمتهم واتفاق وجهتهم، الذي لا قوام لحياتهم على الوجه الذي ينبغي إلا به؟ بلى، ولكن أَنَّى لنا الظفر بهذه الرغيبة المفقودة، والاهتداء لهاتِهِ الضالة المنشودة؟ وكيف لنا أن نطمع بما يكاد يخرج به الإنسان عن كونه الخاص به فلا يكون إنسانًا؟ ولعل قائلًا يقول: إنا لا نرتاب في أن الاختلاف المطلق لا ينفك عن البشر، لكن ذلك لا ينافي الاتفاق على بعض الشؤون، فهل تعلم لنا شيئًا لا تخالف فيه ولا تنازع، وهو مما يقصد بالعمل، ويتوصل إليه بالسعي، لنجعله معقدًا للارتباط، إذا أخذنا في الدعوة إلى الاجتماع على أصول العلم الصحيح؟ والجواب: نعم، إن هؤلاء الناس مهما تباينوا في الوسائل، واختلفوا في المقاصد فهم متفقون على شيء واحد يصح أن يكون علة غائية لكل حركة وسكون يصدران منهم، ألا وهو: التخلص من البؤس والشقاء، والظفر بهناء العيش ونعمة البال عاجلًا أو آجلًا، وإن شئت قلت: هو دفع المؤلم، واجتلاب الملائم إما لنفس العامل فقط، وإما له ولمن يشاركه في المنزل أو الوطنية أو الجنسية. وما نشاهده من سعي الكثير منهم إلى ما يبلسهم للهلكة، ويتجافى بهم عن مضاجع الراحة والهناء، فإنما هو لإِخطاء النهج، وضلال الطريق القصد. يظهر هذا في سيرة المحكوم والحاكم، والجاهل والعالم، والتاجر والصانع، والحارس والزارع، والمنفق والممسك، والحليم والسفيه، والشجاع والجبان، والعفيف والشَّرِه، كلٌّ يسعى لما يرى أن فيه راحته ونعيمه. لكن ربما خفي على البعض في نحو الجاني والمنتحر، ويظن أن الجاني على غيره بما يعود على ذاته بالضرر أو التلف، والمتعمد إزهاق روحه بيده لا يقصدان بعملهما ما ذكر، والحق أن عملهما هذا ليس إلا تخلصًا من بلاء، أو توصلًا إلى نعماء، بحسب ما وصل إليه الاجتهاد. فالإنسان حريص كل الحرص على تحصيل العيشة الراضية والحياة الطيبة، وكل سعي أفراده إنما هو في هذه السبيل. وكما يطَّرد هذا في سعي طالبي الحياة الدنيا، يطَّرد أيضًا في سعي مريدي الآخرة، فالصائم والقائم، والزاهد والعابد، إنما يقصدون السعادة الأبدية {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (الحاقة: 21 - 23)، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72). فقد تبين أن الناس متفقون مبدأ وغاية (في الجملة)، وإنما وقع الاختلاف بينهم في الأفكار والأعمال (غالبًا) من الخطأ في تصور الغاية بتصور ما ليس بسعادة سعادة، الذي يتبعه الخطأ في اختيار المبدأ الذي يستند إليه العمل، كأن يتصور أن سعادته في تحصيل الثروة بأية وسيلة ومن أي طريق، ويختار المبدأ لاكتساب المال السرقة وأمثالها. وقد يكون تصور الغاية صحيحًا ويقع الخطأ في اختيار المبدأ، فيختل العمل المترتب عليه، كأن يتصور أن السعادة في كسب المال من الطرق الشريفة في الوجوه المشروعة، ويرى أن المبدأ لذلك صناعة الكيمياء (الكاذبة) بتحويل المعادن إلى ذهب، كما يجوز أن يعرقل العمل مع صحة المبدأ والغاية لعدم السلوك إليه من طريقه والدخول عليه من بابه، كأن يختار التجارة مبدأً للكسب، ويتهجم على العمل بغير علم بأساليبها ولا اختبار، أو لعدم توفر دواعي النجاح من الخارج، أي من الأمور التي لا تنالها يد الكاسب، كأن يختار التجارة أو الزراعة، ويأتي بجميع أسبابها مستوفيًا شروطها، فتنزل بالزرع جائحة، أو تذهب بالتجارة الأنواء، ويحطم السفين اعتلاج الأمواج. فعلينا أن نبحث في الطريق الموصل إلى صحة الغاية ومبادئها وانتظام أمر العمل، بحيث ينطبق على المبدأ، ويؤدي إلى الغاية من غير خطأ ولا ضلال، وبالنتيجة في انتظام أمر المعاش والمعاد بما تصل إليه يد الإمكان، ويدخل في اختيار الإنسان. وهو أشرف الأبحاث وأفضلها، لا ينطق لسان، ولا يجري يراع بأفضل من الكلام فيه. ولا غرو فإن البحث فيما يوصل الإنسان إلى الراحة والهناء في الدنيا والمثوبة الحسنة في العقبى لَهُوَ أَجَلُّ ما يتحدث فيه المتحدثون، ويتنافس فيه المتنافسون، فألقِ إليه السمع وأنت شهيد. أنت تعلم أن قوام الدنيا والدين بالعمل. والعمل لا يكون إلا عن علم، فالأحرى أن نقول بالعلم والعمل، وكلكم حارث (كاسب وعامل) وكلكم همَّام (يهم بالأمر فيعمله) لكن الهم مختلف والكسب مختلف {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران: 152)، ثم كلٌّ من القسمين طبقات، فمنهم السائد والمسود، والقوي والضعيف، والغني والفقير إلى غير ذلك من الطبقات المتقابلة. ولا سبيل إلى المساواة بين الناس بجعلهم في رتبة واحدة، كما ينزع إليه بعض الملاحدة في هذا العصر؛ لأن مُبْدِع العالَم (تعالى) فضَّل بعضهم على بعض في الرزق وغيره، كما اقتضته حكمته في طبيعة الكون، وجرت به سُنته {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)، وإنما السبيل الذي نقصده، والطريق الذي توخينا البحث عنه: هو الذي إذا سلكه العالم الإنساني على اختلاف الطبقات وتنوع المراتب، فاز بالعيشة الراضية والحياة الطيبة ألا وهو: تهذيب الأخلاق، وكماله لا يكون إلا بالاستناد إلى الدين المبين. التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي، تنال به هذه الوجودات سعادة الحياة، وحياة السعادة، شهد بذلك التاريخ الصحيح وصدقه العقل السليم. لا راحة لفرد من الأشخاص في نفسه إلا بتهذيب أخلاقه في نفسه، ولا في منزله إلا بتهذيب أهل المنزل، وعلى هذا النحو أهل المدينة والمملكة العظيمة. فكما أن التهذيب الشخصي هو مدار انتظام معيشة الشخص الواحد، كذلك التهذيب العمومي هو مدار انتظام معيشة الأمة كلها؛ إذ ليس المهذب إلا من يقوم بحقوق نفسه وحقوق غيره على صراط العدل المستقيم. وإذا كان انتظام أمر الحياة معلولًا لتهذيب الأخلاق، فبالضرورة يكون وجوده بوجود علته وعدمه لعدمها؛ إذ لا معنى لكونه معلولاً إلا هذا، ومن هنا نفهم السر في اختلال معيشة الأفراد وانتظامها، وانفصام عرى الاتحاد بين الجماعات والتئامها، وصعود بعض الأمم أعلى درج الارتقاء، وهبوط بعضها إلى أسفل درك الانحطاط، ووقوف البعض بين بين، تتنازعه عوامل العلتين، حتى يأتي أمر الله، واعتَبِرْ ذلك في سير الإنسان من يوم علم تاريخه إلى الآن تلقه صحيحًا مطردًا. ربما خفي على البعض الارتباط بين الأخلاق والأعمال، فلم يسلم بأن حسنها لحسنها، وقبحها لقبحها، مع تسليمه بأن سعادة الدارين إنما هي بالأعمال، وهذا الخفاء لا يكون إلا عن الجهل بمعنى لفظ الأخلاق وما هو المراد منه، فإذا فهم ما هو المعنى منه انجلى له ذلك الارتباط كالشمس ليس دونها سحاب. الأخلاق جمع خُلُق (بالضم)، وهو صفة النفس، كما أن الخَلْق (بالفتح) صفة الجسد، وقد عرفه علماء التهذيب بأنه: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى روية ولا تفكر. وبيان ذلك أن مما يناجي الإنسان به وجدانه، ويوحي إليه إحساسه أنه لا يصدر عنه عمل اختياري، فعلًا كان أو تركًا، إلا عن داعية من النفس، وإن جميع جوارحه مسخرة لخدمة سلطان الروح، وإن إرادة هذا السلطان التي لا ترد مهما جاءت بالجزم إنما ينفذها إلى الجوارح بريد الفكر والخيال. وإذا دقق النظر رأى أن جميع إرادات السلطنة الروحية تصدر عن داعيتين: الأولى: انفعال وتأثر - كالجوع يدعو إلى الأكل - ومحلها الطبع. والثانية: إدراك وتصور - كتصور خطر المرض يدعو إلى تناول الدواء - ومستندها العقل. وهاتان الداعيتان آلتان لتحريك الأعضاء للعمل، والآلة لا تتحرك بنفسها، واليد المحركة لهاتين الآلتين: خلق حسن أو خلق سيئ؛ إذ لا تخلو الداعية للعمل من مصاحبة أحد أمرين: إما الجور بتفريط أو إفراط؛ كالأكل زيادة عن الشبع شرهًا وجشعًا، أو ترك الشبع وما يناسب المزاج من الطعام حرصًا وبخلًا، وكالامتناع عن شرب الدواء عند الاحتياج استبشاعًا لطعمه، أو تناوله مع الاستغناء عنه وسوسة ووهمًا. وإما العدل، بإمضاء ما فيه المصلحة مع التجافي عن طرفي الإفراط والتفريط. والجور والعدل جنسان لأنواع الأخلاق الفاضلة والذميمة، فإذا أصيب ملك الروح برزيئة الجور فأمر بما لا ينبغي ونهى عما ينبغي، ورعية الجوارح لا مندوحة لها عن طاعته، لا تلبث مملكة البدن أن يسرع إليها الفساد ويحل بها الدمار. وهذا واضح في مملكة البدن، كما هو واضح في المملكة الظاهرية، بل هو في مملكة البدن أشد وضوحًا وظهورًا. وأما إذا تحلى بفضيلة العدل فيستقيم - ولا ريب - نظام المملكة، وتبلغ من الانتظام غاية الكمال. من فهم ما قلناه من أن جميع الأعمال إنما تصدر بإرادة الروح عن داعيتين، وأن الروح في ذلك لا تخلو عن العدل أو الجور، وعلم مع ذلك أن العدل هو غاية تهذيب الأخلاق، بل هو المحور الذي تدور عليه سيارات الفضائل، وأن الجور ضده، فهم وجه الارتباط بين الأخلاق والأعمال، وأذعن لتفاوتها بحسبها ضعةً وخسةً، ورفعة وشممًا، وإذا لاحظ بعد هذا ما قلناه أولاً من أن الحصول على رغائب الدنيا والآخرة موقوف على العمل لا على الأماني والتشهي، انكشف له مقدار تأثير الأخلاق في المجتمع الإنساني صلاحًا وفسادًا. كيف لا يكون الخلق المهذب أفضل الفضائل وغاية الكمال، وهو ثمرة الأديان السماوية والشرائع الإلهية، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقد علمت أنه ثمرة العقل السليم أيضًا. نعم، أكثر آيات القرآن الكريم جاءت في الحث على مكارم الأخلاق (كالعدل، والقسط في الأمور كلها، والبر والإحسان لجميع الناس، والصبر، والحلم، والحياء، والرفق، والرحمة، والوفاء، والصدق، والتواضع، والعفو، والأمانة، وأمثالها)، وينهَى ويحذر من سفسافها (كالجور، والجزع، والغلظة، والب

أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم هو الإسلام

أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم هو الإسلام محمد البشير الإبراهيمي (ت 1384هـ - 1965م) نُشر عام 1371هـ الموافق 1952م وقد يبدو هذا العنوان مدهشًا وغريبًا، لتأثُّرات مختلفة، في كثير من النفوس المختلفة، ولشيء من السخرية من النفوس الساخرة. أما الدهشة فإنَّ صاحبها معذور مهما كان، وأما الغرابة فكل وارد جديد على السمع أو على الذهن يُسْتَغرَب، ولكنه إذا تكرّر وكثر ترداده أصبح مأنوسًا، وأما السخرية فلا تأتي هنا إلَّا من رجلين: رجل انطوت نفسه على بغض للإسلام وحقد على بنيه، واحتقار لتعاليمه، ورجل لم يفهم الإسلام إلاّ من حالة المسلمين اليوم، ولم يعلم أن بين حقائق الإسلام وبين حالة المسلمين اليوم بُعدَ المشرقين، والذي في العنوان إنما هو الإسلام لا المسلمون. العناوين لا ذنب لها دوالّ على ما وراءها، فاسمعوا ما وراء هذا العنوان، ثم ليندهش المندهشون إن لم يقتنعوا، وليسخر الساخرون إن شاءوا. تولّى الإسلام في أوَّل مراحله قيادة العالم الإنساني العامر للأقاليم المعتدلة، فقاده إلى السعادة والخير بأصلين من أصوله وهما القوة والرحمة، وبوسيلتين من وسائله في القيادة وهما العدل والإحسان، وبأحكامه المحققة لحكمة الله في عمارة هذا الكون. والقوة والرحمة صفتان موجودتان في كل زمان، ولكنهما متنابذتان لم تجتمعا قط في ماضٍ ولا حاضر، حتى جاء الإسلام فجمع بينهما وزاوج، وخلط بينهما ومازج، فجاء منهما ما يجيء من التقاء السالب بالموجب في عالم الكهرباء: حرارةٌ وضوءٌ وحركة. وما زال معروفًا عند العقلاء، قريبًا من مدارك البسطاء، أن القوة وحدها لا خير فيها؛ لأنها جبرية واستعلاء، وأن الرحمة وحدها لا خير فيها؛ لأنها ضعف وهُوَيْنا، وإن الخير كل الخير في اجتماعهما، ولكن الجمع بينهما ليس من مقدور الإنسان المسخّر للأهواء والعوائد، المنساق للأماني والمطامع، المنجدب إلى مركز الأنانية، فلا تجتمع بينهما على وجه نافع إلَّا قوة سماوية تتجلَّى في نبوَّة ووحي وخلافة راشدة واتِّباع صادق مشتق من هذه. ومن حكمة الإسلام العليا أنه وضع الموازين القسط للمتضادات فإذا هي متآلفة، والمتنافرات إذا تآلفت صلح عليها الكون؛ لأنها سرُّ الكون وملاكه، فوضع الحدود لهذه المتنافرات، وأعطى كل واحدة حقَّها، ووجَّهها إلى الخير في مدارها الطبيعي، فإذا هي أشياء في الاسم والذات والوظيفة، ولكنها شيء واحد في الغاية والفائدة والأثر، وكلها خير ونفع وصلاح وجمال. وضع الحدود بين المرأة والرجل فائتلفا، وأطفأ بالعدل والإحسان نار الخلاف بينهما، والخلاف بينهما هو أصل شقاء البشرية، ولا يتم إصلاح في المجتمع ما دام الخلاف قائمًا بين الجنسين، وما زالت الجمعيات البشرية من الرجال مختلفة النظر إلى المرأة، فبعضهم يرفعها إلى أعلى من مكانها فيُسقطها ويسقط معها، ويعطيها أكثر من حقِّها ومن مقتضيات طبيعتها فيفسدها ويفسد بها المجتمع، وبعضهم يحُطها عن منزلتها الإنسانية فيعدُّها إمَّا بهيمة وإما شيطاناً، حتى جاء الإسلام فأقرَّها في وضعها الطبيعي وأنصفها من الفريقين. كذلك وضع الحدود بين الآباء والأبناء، وكم أزاغت الشرائع والقوانين الوضعية هذه القضية عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط. كذلك وضع الحدود للسادة والعبيد، وللحاكمين والمحكومين، وللأغنياء والفقراء، وللجار وجاره، وللإنسان والحيوان، وللروح والجسم، فألّف بين السادة والعبيد بقانون الرفق، والترغيب المتناهي في العتق، وألَّف بين الحاكمين والمحكومين بقانون العدل والمساواة، وبين الأغنياء والفقراء بنظام الزكاة والإحسان، وبين الجيران بوجوب الارتفاق والحماية، حتى اعتبر الجيرة لحمة كلحمة النسب أو أشد، ومَحا من المجتمع نظام الطبقات والأجناس والعناصر، فلا فضل لعربي على أعجمي إلَّا بالتقوى، ولا عزَّة للكاثر، ولا تعظّم بالآباء، ولا عصبية بالقبيلة، ولا تفاضل بالجاه والمال، وجعل لليتيم حرمة تدفع عنه غضاضة اليتم، ولابن السبيل حقًّا يحفظه من الضياع وفساد الأخلاق، وللغريب حقًّا يُنسيه وحشة الاغتراب، وجعل ميزان التفاضل روحيًّا لا ماديًّا، فالغني أخو الفقير بالإسلام، وليس الغني أخًا للغنيِّ بالمال، وقرَّر للحيوان الأعجم حق الرفق والتربيب، وحماه من الإعنات والتعذيب، وأشركه مع الإنسان في الرحمة، ففي كل ذات كبدٍ حرَّى أجرٌ، وحلَّ مشكلة الروح والجسم، وعدل ما كان يتخبَّط فيه فلاسفة الأمم من أن العناية بأحدهما مضيعة للآخر، فوفَّق بين مطالب الروح والجسم، وحدَّد لكلٍّ غذاءه وقِوامَه، فإذا هما متآلفان متعاونان على الخير والنفع. ساس الإسلام الأرض بقانون السماء، فأشاع إشراقَه في غسقها، وأدخل نسَقَه في الإحكام على نسَقها، وقيّد الحيوانية العارمة في الإنسان بقيود الأوامر والنواهي الإلهية التي لا خيار معها ولا مراجعة فيها، وبذلك نقل الأمم التي دانت به من حال إلى حال، نقلها من الفوضى إلى النظام، ومن التنابذ إلى التآخي، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الاضطراب إلى الاستقرار، ومن نزعات نفسية متباينة إلى نزعة واحدة أقرَّها في الأرض بهم، ونقل الأمم المتبدية إلى حال وسط من الحضارة المتأنية المقتصدة، ونقل الأمم المتحضرة إلى حال من الحضارة العقلية تأخذ بالحُجّة، وتمنع من التضخّم والتهافت. ونقل الأمم المؤلهة للملوك والكبراء إلى حال من عرفان القدر وفهم الكرامة، جعلتهم هم الملوك. قاد الإسلام أهله بقانونه السماوي الشامل لأنواع التدابير المحيطة بمصالح البشر من حرب وسلم، وخوف وأمن، وسياسة وإدارة، وقضاء في الأموال والدماء والجنايات، وفي بناء الأسرة. قاد بهذا القانون أعقل سكّان الأرض إذ ذاك في أعمر بقاعها، فما شكا أحد ظلماً ولا هضماً، فإن وقع شيء من ذلك فهو من حاكم حادَ عن صراطهِ، أو شخص أخلَّ بأشراطه، وقد أخذت الأمم الخارجية منه كثيراً من قوانينه العادلة في فترات احتكامهم بالمسلمين محاربين أو معاهدين في الشام والأندلس وإفريقية، كما أخذوا كثيراً من العادات الصالحة في تدبير المعاش وفي الحياة المنزلية، وما زال كثير من تلك الأصول بارز العين أو ظاهر الأثر في المدينة الحالية. جاء الإسلام أوَّل ما جاء بإصلاح الأسرة وبنائها على الحب والبرِّ والطاعة: الحبّ المتبادل بين أفراد الأسرة، والبرّ من الأبناء للآباء، والطاعة في المعروف من الزوجة للزوج، وحاط ذلك كله بأحكام واجبة وتربية تكفل تلك الأحكام، وتجعل تنفيذها صادرًا من نفس الإنسان، والرقابة عليها من ضميره، فلا تحتاج إلى وازع خارجي، وجعل تقوى الله والخوف منه حارسين على النفس والضمير، فكلما هم الإنسان بالزيغ تنبّهاه إلى لزوم الجادّة. وإن يقظة الضمير الذي سمَّاه النبي عليه الصلاة والسلام وازع الله في نفس المؤمن، ومراقبته لأعمال صاحبه لَهيَ أعلى وأسمى ما جاء به الإسلام من أصول التربية النفسية، وهي أقرب طريق لتعطيل غرائز الشرّ في الإنسان، وفرق عظيم بين من يمنعه من السرقة مثلاً خوف الله، وبين من لا يمنعه منها إلَّا خوف القانون: فالأوّل يعتقد أنه بعين من الله تراقبه من السرِّ والعلن، فهو لا يسرق في السرِّ ولا في العلن، والثاني لا يمنعه من السرقة إلَّا قانون يؤاخذ على الذنب بعد قيام البيّنات عليه، وفي قدرة الإنسان أن يتحاشى كلَّ أسباب المؤاخذة الظاهرة، فإذا أمن ذلك قارف الشر مُقدمًا غير محجم، فالخوف من الله يَجتَثُّ السرقة وجميع الشرور من النفس حتى لا تخطر على بال المؤمن الصادق، وبذلك يأمن النّاس على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، أما الخوف من القانون فربّما زاد الناس ضراوة بالشرّ بما يتفنّنون فيه من الحِيل التي تجعلهم في مأمن من مؤاخذة القانون، فكأنَّ هذه القوانين الأرضية تقول للناس: لا سبيل لي عليكم ما دمتم مستترين منّي، غائبين عن عيني، ولذلك فهي لا تمنع الفساد في الأرض بل تزيده تمكّناً فيها، وانتشار الشرور في هذا العصر أصدق شاهد على ذلك. نقول ونعيد القول بأن أصلح نظام لقيادة العالم الإنساني هو الإسلام، ولا نلتفت لسخر الساخر، ولا نأبه لدهشة المندهش، ونأتي بالحجّة على لون آخر، وهو أن الإسلام عقائد وعبادات وأحكام وآداب، وكل هذه الأجزاء رامية إلى غرض واحد، وهو إصلاح نفس الفرد الذي هو أصلح لإصلاح النفسية الاجتماعية، فعقائد الإسلام مبنية على التوحيد، والتوحيد أقرب لإدراك العقل الإنساني من التعدد، وأدعى لاطمئنانه وارتكازه وتسليمه، والعقل إذا اطمأن من هذه الجهة انصرف إلى أداء وظيفته مجموعاً غير مشتّت. والعبادات غذاء وتنمية لذلك التوحيد وعون تزكية النفس وتصفيتها من الكدورات الحيوانية، والأحكام- ومنها الحدود-ضمان للحقوق، وحسم للشرور، وزجر للثاني أن يتّبع الأوّل، ومَن تأمل القواعد التي بُنيت عليها أحكام المعاملات في الإسلام علم ما علمناه، وهي: لا ضَرَرَ ولا ضِرَار، الضرورات تُبيح المحظورات، ما أبيح للضرورة يُقدر بقدرها، درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، الحدود زواجر وجوابر، القصاص حياة. والآداب تزرع المحبّة بين الناس، وترقق العواطف، فتقوي عاطفة الخير والتسامح والإيثار والكرم والشجاعة والصبر، وتضعف عاطفة الشر والتشدّد والأثرة والبخل والجبن والجزع. العالم اليوم في احتراب وحبله في اضطراب، وقد ملكت عليه المادة أمره، وقد جفّت الروحانية فيه فضؤلتْ، فلم يبق لها سلطانها الآمر الناهي، وانطمست فيه البصائر الهادية فهو يتخبط في ظلمات، وتجسّمت المطامع الشوهاء فتولت القيادة، وقد جر على نفسه في ثلاثة عقود من السنين حربين عاتيتين أهلكتا الحرث والنسل وهو يتحفَّز للثالثة، وقد كان قبل اليوم إذا اختلف اثنان وجد بينهما ثالث يدعو إلى الإصلاح أو ينتصر للمظلوم، فما زالت به المطامع وفشوّ الإلحاد، وشيوع الفلسفة المادية، والاغترار بالعقل، حتى أصبح مقسّما إلى كتلتين قويتين عظيمتين متضادتين، تدورُ كل واحدة على مبدإ اتخذته ديناً ودعت الناس إليه، فانضم كل ضعيف إلى واحدة مُكرهاً كطائع، وكلا المبدأين لا رحمة فيه ولا خير، وكلاهما ينطوي على شرور، وكلاهما يعتمد على الظفر والناب ذلك فيهم نشروا أحكامه وتعاليمه حتى نعم العالم، ويومئذ يشهدون انقلاباً فكرياً يقضي على هذا الجنون الذي ابتُليَ به العالم. والإسلام دين اقتناع، فلا أقول إنه يجب على العالَم أن يصبح مسلماً كاملاً يصلي ويصوم وإنما أقول: إن دواءه مما هو فيه هو الإسلام، فليأخذْ أو فليدَعْ. لا يضير الإسلام في حقائقه ومثله العليا أن لم ينتفع به أهله في تحسين حالهم، فما ذلك من طبيعته ولا من آثاره فيهم، وإنما ذاك نتيجة بُعدهم عن هدايته، وهو كدين سماوي محفوظ الأصول يهدي كل من استهداه، وينفع كل مستعدّ للانتفاع به، ولو أن أمة وثنية اعتنقته فأخذته بقوة فأقامتْه على حقيقته-من العقائد إلى الآداب-لسادت به هذه المآت من الملايين من أهله الأقدمين الذين أضاعوا روحه ولبابه، وأخذوا برسومه والنسبة إليه، ولم يزحزحها عن السيادة أنها جديدة في الإسلام، كما لا ينفع تلك المآت من الملايين أنها عريقة في الإسلام. ولا حجّة علينا ببعض الشعوب الإسلامية التي استبدلت القوانين الأوربية بأحكام القرآن،

إلى علماء الأزهر

إلى علماء الأزهر علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م) نُشر عام 1366هـ الموافق 1947م ما عرفنا من عرفنا من علماء الأزهر إلا ملوكًا، لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم، إذا قال واحدهم لبَّت الأمة، وإذا دعا هبَّ الشعب، وإذا أنكر على الحكومة منكراً أزالت الحكومة المنكر، وإذا أمرها بمعروف أطاعت بالمعروف، فكانوا هم السادة وهم القادة، وهم أولو الأمر: هذه حكومة مصطفى فهمي باشا تستجيب سنة 1899م لرغبة الإنكليز في إضعاف القضاء الشرعي، فتضع مشروعها المشهور لتعديل اللائحة الشرعية، وضم اثنين من أعضاء الاستئناف الأهلي إلى المحكمة الشرعية العليا، ويبلغ من ثقتها بقوتها، وتأييد مجلس الشورى لها أن لا تبالي باحتجاج الحكومة العثمانية على المشروع، وتعرضه على المجلس، وكان من أعضائه الشيخ حسونة النواوي (الذي جمعت له مشيخة الأزهر وفتوى الديار المصرية) فيقول كلمة موجزة في إنكار المشروع، وينسحب من المجلس، ويتبعه القاضي التركي، فتكون هذه الكلمة كافية لقتل المشروع، فيردُّه المجلس كله، وتحاول الحكومة إنفاذه على رغمه فلا تجد عضوًا استئنافيًّا واحدًا يقبل الانضمام إلى المحكمة العليا، عرضت ذلك على الشيخ محمد عبده، وكان من أعضاء الاستئناف الأهلي وسعد زغلول وأحمد عفيفي ويوسف شوقي ويحيى إبراهيم، فأبوا جميعًا، وتمشي كلمة الشيخ في الناس مشي النار في يابس الحطب، فتهب الأمة كلها وتؤيده حتى ترضى الحكومة بالهزيمة وتسترد مشروعها. ولم يكونوا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يخافون غضبة ملك جبار: هذا حسين باشا الجزائري يصل مصر، فيفر منه أمراؤها إلى الوجه القبلي، فيأخذ أموالهم كلها، ولا يرضيه في عتوه وجبروته أن يستولي على عروضهم حتى يسطو على أعراضهم، فيقبض على نسائهم وأولادهم، ويسوقهم إلى السوق ليبيعهم زاعمًا أنهم أرقاء لبيت المال، وكانت الأحكام عرفية، وسيوف الظلم مصلتة، ولواء البغي مرفوعًا، ولكن ذلك لم يمنع علماء الأزهر من إنكار هذا المنكر، ولم يرهبوا بطش الباشا، وهم يرون أن أفضل الشهداء رجل قال كلمة حق عند إمام جائر فقتله بها، فمضوا إليه وتكلم الشيخ محمد أبو الأنوار فقال له: (أنت أتيت إلى هذه البلدة، وأرسلك السلطان لإقامة العدل، ورفع الظلم كما تقول، أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟ فقال: هؤلاء أرقاء لبيت المال قال: هذا لا يجوز ولم يقل به أحد. فغضب أشد الغضب وطلب كاتب ديوانه، وقال: اكتب أسماء هؤلاء، وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره. فقال له الشيخ محمود البنوفري: اكتب ما تريد بل نحن نكتب أسماءنا بخطنا). وكانت النصرة لهم عليه، فأحقوا الحق وأبطلوا الباطل، ووضع الله في قلبه هيبتهم؛ لأن من خاف الله خافه كل شيء. فكانوا بذلك (أجلَّ من الملوك جلالة)، وكانت إشارتهم للحكام أمرًا، وطاعتهم عليهم فرضًا، حدَّث الشيخ محمد سليمان [في كتابه الجليل من أخلاق العلماء] أن أباه قدم لطلب العلم في الأزهر أواخر أيام الشيخ إبراهيم البيجوري، فشكا إليه ظلم تلك الأيام، وما كان فيها من السخرة والمعونة، فكتب له ورقة بمساحة إصبعين، هذا نص ما كان فيها: (ولدنا مدير الدقهلية، رافعه من طلبة العلم يجب إكرامه، خادم العلم والفقراء، الخاتم (إبراهيم البيجوري) فدفعها إلى المدير، فقبلها ووضعها على رأسه، ودفعت عنه هذه الورقة كل مظلمة، وأنالته كل مكرمة، ورفعت قدره عند المدير وعند الناس. وكان الشيخ الأزهري موقرًا في الجامع وفي البيت وفي السوق، ومبجلًا عند الطلبة والعامة والحكام، وكان أقصى أمل الطالب أن يخدم الشيخ، وأن يحمل له نعله، وإذا سبه عد سبه إكرامًا، وتحمَّله مسرورًا، ورآه من أسباب الفتوح. وكان الطالب الأزهري المجاور يذهب إلى بلده في العيد أو في الإجازة، فيقبل البلد كله عليه يقبل يده، ويتبرك به، ويشم فيه عبق الأزهر، ويكون المرجع لأهله في الجليل من شؤونهم والحقير، ويكون فقيههم، والحاكم بينهم، لا مرد لحكمه، ولا اعتراض عليه؛ لأنه يحكم بشرع الله، ويبين حكمه في فتواه. هذا ما عرفناه، فما الذي جرى حتى تبدلت الحال ... ؟ ما الذي نزع هيبة المشايخ من القلوب، وأنزلهم من مكانتهم عند الحكام؟ أقول: أنتم أيها الأزهريون فعلتم هذا كله! أنتم تنكبتم سبيل أسلافكم، فما الشيخ اليوم شيخ مسلك، ولكنه موظف محاضر، وما التلميذ مريد طيع ولكنه مشاكس مشاغب، وما يطلب علمًا ولكن يبتغي شهادة، أنتم ثُرتم على مشايخكم، وعلمتم الناس الثورة عليهم، أنتم أيها الطلاب، أنتم مددتم أيديكم إلى مدرسيكم فجرأتم هؤلاء أن يمدوا أيديهم ... ، أنتم أطلقتم ألسنتكم فيهم فشجعتم هذه الصحف أن تتطاول حزبية إلى الكلام على شيخ الأزهر، أنتم أيها الأزهريون جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعًا لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع، لقد كان الأزهر لله، فصار للناس، وكان للآخرة فغدا للدنيا، وكان يجيئه الطالب يبتغي العلم وحده، يتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل من مطلع الفجر إلى ما بعد العشاء، ينتقل من شيخ إلى شيخ، ففي كل ساعة درس، ولكل درس كتاب، ولكل كتاب ساعة للتحضير والمراجعة، لا يدع الدرس إلا للصلاة في المسجد، صلاة خشوع وتبتل، أو للأكل فيه، أكل قناعة وتقشف، أو لشرب العرقسوس أو الخرنوب، هذه ملذاتهم من دنياهم، لا يخرجون من المسجد إلا عصر الخميس، يؤمون الرياض والحياض للاستجمام والاستحمام لا يأملون من العلم مالًا، وقد كان أقصى مرتب الشيخ الأزهري إلى عهد قريب ثلاثة جنيهات في الشهر، ولا يبلغها إلا نفر قليل، فراضوا نفوسهم على القناعة، وعودوها الصبر وألزموها الرضا، هذا المرصفي يحدث عنه الأستاذ محمود حسن زناتي أنه كان في دار بالية، في حي قديم، وقد جلس على حصير ألقى عليه كتبه وأوراقه، ومن حوله خيط من عسل القصب، مرشوش على البلاط، يدرأ عنه هجوم البق، لم يمنعه هذا الحصير الخلق في هذا الدار البالية من أن يشرح عليه (الكامل)، وأورثهم هذا الفقر عزة في نفوسهم: أورثهم كبر العلم، وكل كبر مذموم إلا كبر العلم، فلم يكونوا يحفلون أحدًا من أبناء الدنيا؛ لأنهم لم يتذوقوا لذتها حتى يداجوا فيها، ولم يميلوا إليها حتى يتزلفوا إليهم من أجلها، كسروا قيودها وتخلصوا من رقها، وهانت عليهم وهان أهلها، هذا هو اللورد كرومر، وما أدراك ما اللورد كرومر؟! يدخل على الشيخ محمد الأنبابي شيخ الأزهر، ويسلم عليه، فيرد الشيخ التحية وهو قاعد، فيعظم اللورد قعوده، ويقعد إلى جنبه، فيقول له مغضبًا: (يا سيدنا الشيخ، ألست تقوم للخديوي؟ قال: نعم. قال: فلم لم تقم لي؟ قال: إن الخديوي ولي الأمر، وأما أنت فلست منا.) فيزيد ذلك اللورد إجلالًا له، ويكتبه في أحد تقريراته لحكومته. وهذا هو رياض باشا، وكان رئيس الحكومة، وناظر المالية يزور مدرسة دار العلوم، وكان الشيخ حسن الطويل مدرسًا فيها، فلا يسلم الرئيس ويدخل حتى يبتدره الشيخ من آخر القاعة، فيقول له: يا باشا، أما آن لكم أن تجعلوني معكم ناظرًا؟ فيدهش الباشا ويقول: ما هذا يا شيخ حسن؟ فيقول: ما تسمع يا باشا؟ قال: فأي نظارة تريد؟ قال: المالية. قال: لماذا؟ قال: لأستبيح أموالها. فذعر الباشا وخرج يرتجف، وقال لعلي مبارك باشا ناظر المعارف: لا بد أن تخرج هذه الرجل من خدمة الحكومة. قال: كيف وماذا أصنع مع علماء الأرض وهو عالم عالمي؟) كذلك كانوا، زهدوا في الدنيا فجاءتهم الدنيا، وأعرضوا عنها فأقبلت عليهم، وهابوا الله فهابهم الناس، فكيف حالكم اليوم يا إخواننا الأزهريين؟ يا إخواننا، إن هذا الأزهر المعمور، لبث خمسمائة سنة من عمره، وهو منار العلم المفرد في الدنيا لولاه لتاهت في ظلمات الجهل، وهو حارس الدين واللغة، فأدركوه لا ينطفئ المنار، ويهجع الحارس، وتترك الدنيا للظلام وللصوص. يا إخواننا، ما عاش الأزهر، ولا عز بالعلم وحده، وما العلم بلا عمل؟ ولكن عز بالتقوى وبالعمل وبالخلق المتين. لقد كانت لعلماء الأزهر أخلاق لا أقول ضاعت، ولكن اختفت عن الناس، تلك الأخلاق كانوا يجلون مشايخهم فيجلهم الناس كلهم، هذا هو الشيخ الباجوري شيخ الجامع كان يجلس بعد المغرب في الصحن فيقبل عليه العلماء والطلبة يقبلون يده، وكان الشيخ مصطفى المبلط وهو أكبر منه، ناظره في طلب المشيخة ولم ينلها، يندس فيهم ويقبل يد الشيخ، فانتبه إليه مرة، فأمسك به وبكى وقال: (حتى أنت يا شيخ مصطفى؟ لا لا. فقال الشيخ مصطفى: نعم. وأنا! لقد خصك الله بفضل وجب أن نقره، وصرت شيخنا فعلينا أن نوقرك). وكانوا يقدمون العلم على المنصب، ويعرفون لأهله حقهم، هذا هو الشيخ الشربيني شيخ الجامع الأزهر يدخل مع الطلبة على الشيخ الأشموني حتى يلثم يده، وكان الأشموني ربما قال له: إزيك يا عبد الرحمن؟ فيكون الشيخ كأنما حيَّته من فرحته بذلك الملائكة. ولم يكونوا يدعون للعدو ثغرة يدخل منها إليهم، ويجعلون خلافهم إذا اختلفوا بينهم، هذا هو الشيخ الأمير كانت بينه وبين الشيخ القويسني جفوة بلغت الحاكم، وزاره الأمير فسأله عنها، وأوهمه أن القويسني أخبره بها، وكان يريد معرفة حقيقتها ليزيلها، فقال الشيخ الأمير: ليس بيننا إلا الخير، وما أظن الشيخ القويسني حدثك بشيء من هذا. وأثنى عليه ومدحه، ونزل من عند الحاكم فمر به على ما كان بينهما، وأنبأه بما كان فقال القويسني: صدقت في ظنك ما قلت للحاكم شيئًا. قال الشيخ الأمير: هكذا أهل العلم يسوون أمورهم بينهم. أما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة في التآلف إمساكًا على عروة الإسلام، وحفظًا لكرامة العلم، وزال بذلك ما كان بينهما. فيا إخواننا الأزهريين، سألتكم بالله ارجعوا بالأزهر إلى سبيله التي درج عليها، أعيدوه سنته الأولى، أفيضوا عليه الدين والتقوى، والتقوى روح العلم، فإن فارقته كان جسمًا بلا روح، أحيوا فيه أخلاق الأسلاف، ليكن لكم تقاهم وزهدهم، فتكون لكم عزتهم ومكانتهم، يا إخواننا لم نجد والله خيرًا في الجامعة الأزهرية، فردوا علينا الجامع الأزهر!.

_ المصدر: في سبيل الإصلاح للشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة، ط6، 1427هـ (ص 114)

الاستبداد يشل القوى

الاستبداد يشل القوى محمد الغزالي (ت 1416هـ - 1996 م) الحكم الذي ساد بلاد الإسلام من بضعة قرون كان طرازاً منكراً من الاستبداد والفوضى. . انكمشت فيه الحريات الطبيعية، وخارت القوى المادية والأدبية، وسيطر على موازين الحياة العامة نفر من الجبابرة أمكنتهم الأيام العجاف أن يقلبوا الأمور رأساً على عقب، وأن ينشروا الفزع في القلوب، والقصر في الآمال، والوهن في العزائم. والحكم الاستبدادي تهديم للدين، وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعاً. وهو دخان مشئوم الظل، تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد. فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج. ومن هنا حكمنا بأن الوثنية السياسية حرب على الله وحرب على الناس. وأن الخلاص منها شيء لا مفر منه لصلاح الدنيا والآخرة. وقد أصيب الإسلام في مقاتله من استبداد الحاكمين باسمه. بل لقد ارتدت بعض القبائل، ولحقت بالروم فراراً من الجور. وعندما يوضع رأس فارغ على كيان كبير فلابد أن يفرض عليه تفاهته، وأثرته، وفراغه. . . ومن هنا تطرق الخلل إلى شئون الأمة كلها، فوقعت في براثن الاستعمار الأخير؛ لأن الخلفاء والملوك والرؤساء كانوا في واقع أمرهم حرباً على الأمة الإسلامية، أو كانوا في أحسن أحوالهم تراباً على نارها، وقتاماً على نورها. فلو خلوها وشأنها لاستطاعت الدفاع عن نفسها، متخففة من أعباء هؤلاء الحكام، ومن جنون العظمة الذي استولى عليهم. ثم إن الإسلام ينكر أساليب العسف التي يلجأ إليها أولئك المستبدون في استدامة حكمهم واستتباب الأمر لهم. إنه يحرم أن يضرب إنسان ظلماً، أو أن يسفك دمه ظلماً. فما تساوى الحياة كلها شيئا إذا استرخصت فيها حياة فرد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق". فأشد الجرائم نكراً، أن يقتل امرؤ من الناس توطيداً لعزة ملك أو سيطرة حاكم. وفي حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء المقتول يوم القيامة آخذاً قاتله وأوداجه تشخب دماً عند ذي العزة جل شأنه، فيقول: يا رب، سل هذا، فيم قتلني؟ فيقول المولى عز وجل: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان. . . قيل: هي لله". وفي التعذيب دون القتل، وهو ما ينتشر في سجون الظلمة، يروي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جرد ظهر مسلم بغير حق لقى الله وهو عليه غضبان". ويقول أيضا: "ظهر المسلم حمى، إلا بحقه". يعني أن المسلم لا يجوز أن يمس بسوء أبداً، إلا أن يرتكب ذنباً أو يصيب حدًّا، فعندئذ يؤخذ منه الحق الثابت في دين الله. إن الجو المليء بما يصون الكرامات، ويقدس الدماء والأموال والأعراض هو الجو الذي يصنعه الإسلام للناس كافة، وهو - بداهة - الجو الذي يحسنون فيه العمل والإنتاج. فحيث تسود الطمأنينة، ويختفي الرعب، ينصرف العامة إلى تثمير أموالهم، وتكثير ثرواتهم؛ لأنهم واثقون أن حصاد ما يغرسون لهم ولذراريهم، فهم غير مدخرين وسعاً في العمل والإنتاج. إلا أن هذه البيئة الوادعة الآمنة المشجعة على الكدح والكسب تقلصت رقعتها في الأمة الإسلامية خلال القرون الأخيرة!!. ووقع الفلاحون والصناع وأهل الحرف المختلفة في براثن أمراء يحكمون بأمرهم لا بأمر الله. فكانت عقبى الترويع المتجدد النازل على رؤوسهم أن أقفرت البلاد وصوَّح نبتها، وعمَّ الخراب أرجاءها. وتستطيع أن تلقي نظرة عجلى على تاريخ مصر خلال المائتي سنة الأخيرتين، فيما كتبه عبد الرحمن الجبرتي. إنك ترى من الأحداث ما لا ينفد عجبك له. حكام يطلبون من المال من الناس كلما تحركت رغبة الطلب في نفوسهم. فإذا الضرائب تفرض دون وعي، والأملاك تصادر دون حق. وخصومات على الحكم تشعل جذوتها عصابات طامعة من أصحاب الجاه وعشاق السلطة، وتسفك فيها الدماء بغزارة، ولا يفوز فيها إلا أقدر الفريقين على الفتك، وأطولهم يداً بالأذى. ما هذا؟ أمة انفرط عقدها فليس يمسكها شيء، وضاع أصلها فلا تستحي من سلوك. وتشبثت بها الفتن طولاً وعرضاً، فهي كحريق هائل كلما ظن أنه انطفأ في ناحية اندلع في ناحية أخرى.!! ومن البديهي أن تمحق أسباب العمران بله مظاهر الحضارة في أتون هذه الفوضى الضاربة. .!! البديهي أن تضطرب شئون الري، وأن يفر الفلاحون من زراعة الأرض، وأن يعيش أهل المدن وكأنهم يستعيرون أعمارهم يوماً بيوم. فإذا كان القُطر المصري البائس صورة لأقطار الأمة الإسلامية المنتشرة بين المحيطين، فأي مستقبل ترقبه لمثل هذه الأمة التي عزَّ فيها الداء واستفحل الخطب؟؟ إن سقوطها في مخالب المستعمرين الغزاة كان النتيجة الحتم!! وتخلفها في ميدان الحياة المتدفعة المتدفقة هنا وهناك أمر لم يكن منه بد. والمسئول عن هذه الجريمة النكراء هو الاستبداد السياسي الذي وقعت البلاد فريسة له، وكان دين الله بين ضحاياه الكثيرة. يجب أن نعلم أن الناس يتهيؤون للعمل العظيم، ويتجهون إليه بأفكار رتيبة مستريحة، حين يكون الشعور بالأمن مستولياً على أقطار أنفسهم. أما حيث تستخف الذئاب الحاكمة وراء جدران الدواوين، وتنقضُّ متى شاءت على أقرب فريسة لها، فهيهات أن يزدهر إنتاج، أو يستقيم سعى. الحريات الكاملة ضرورة لنشاط القوى الإنسانية وتفتح المواهب الرفيعة. إن النبات يذبل في الظل الدائم، ويموت في الظلام، ولن تتفتح براعمه، وتتكون أثماره إلا في وهج الشمس. كذلك الملكات الإنسانية، لا تنشق عن مكنونها من ذكاء واختراع، إلا في جو من الإرادة المطلقة، والحرية الميسرة. والعالم الإسلامي ـ ونقولها محزونين ـ نُكب بمن رد نهاره الضاحي ليلاً طويلاً. نكب ـ في العصر الماضيـ بحكام ظنوا البشر قطعاناً من الدواب، فهم لا يحملون في أيديهم إلا العصا. والحاكم الذي لا تألف رعيته منه إلا العصا جرثومة عبوديتها أولاً. وهو القنطرة التي تمهد للإذلال الخارجي أخيراً. ونحن موقنون بأن الاستعمار الذي نشر غيومه في ربوع الأمة الإسلامية كان ومازال لا علة له إلا هذا الضرب من الحكومات. ومما يقترن بالاستبداد السياسي ولا ينفك عنه، غمط الكفايات، وكسر حدتها، وطرحها في مهاوي النسيان ما أمكن. ذلك أن المستبد يغلب عليه أن يكون مصاباً بجنون العظمة. وربما اعتقد أن كل كفاية إلى جانب عبقريته الخارقة صفر لا تستحق تقديراً ولا تقديماً. . وإذا أكرهته الظروف على الاعتراف بكفاية ما، اجتهد في بعثرة الأشواك أمامها، واستغل سلطانه في إقصائها أو إطفائها. وفي رأيي أن حظوظ الأمم من الكفايات متساوية، أو متقاربة، وأن أولي النباهة والمقدرة عند أية دولة في الغرب، لا يزيدون كثيراً عن أمثالهم في أي شعب شرقي. كل ما هنالك أن قيادة الجماهير في أوروبا وأمريكا أخذ طريقه الطبيعي إلى أيدي الأذكياء الأكفاء. أما في الشرق الإسلامي مثلاً فإن القياد ـ بأسباب مفتعلة ـ ضلَّ طريقه عن أصحابه الأحقاء به، وسقط في أيدي التافهين والعجزة. وهذه الأسباب المفتعلة يقيمها ـ عن عمد ـ الاستبداد السياسي حيث يظهر ويسود. إن المستبد يؤمن بنفسه قبل أن يؤمن بالله. ويؤمن بمجده الخاص قبل أن يؤمن بمصلحة الأمة. ومن هنا يعول على الأتباع الفانين فيه، يحشدهم حوله، ويرفض الاستعانة بالكفايات التي لا تدين بالولاء له، ولا يبالي بحرمان الوطن، أو الدين من مهارتهم. وتأخر العالم الإسلامي في القرون الأخيرة مرجعه انتشار هذا الوباء! فإن منع الرجل القوي من القيام على الأمانات العامة تضييع له ولها، تضييع ينطق لسانه بهذه الشكاة: لم لا أُسَلُّ مِن القِراب وأُغمد * * * لم لا أُجرَّدُ والسيوف تُجرَّدُ؟ أو كما قال الآخر، كاشفاً عن عواقب حرمان الأمة فيما ينوبها من أزمات: أضاعوني وأي فتى أضاعوا * * * ليوم كريهة وسداد ثغر!! وطبيعة الرجل الكفء كراهية الهوان والتحقير. ألا ترى موقف عنترة بن شداد حين هوجمت قبيلته، وكان أبوه قد وظَّفه في الرعي والخدمة؟ لقد تطلعت إليه عند اشتداد الهجوم، وافتقاد الأبطال!! وجاء شداد مسرعاً يطلب من الابن المحقر المبعد أن يقود حركة المقاومة! وقال عنترة ـ مندداً بموقف أبيه منه: إن العبد لا يحسن الكر والفر، ولكنه يحسن الحلاب والصر! فقال الوالد المحرج: كر وأنت حر. واسترد الفارس مكانته، فاستعادت القبيلة كرامتها، وحسناً فعل شداد، وحسناً فعل ابنه! إن الملكات الإنسانية العالية في ندرة المعادن النفيسة من ذهب وماس ولؤلؤ ومرجان. وإضاعتها خسارة يعز معها العوض المكافئ. وانهيار التاريخ الإسلامي في القرون الأخيرة يرجع ـ كما أسلفنا ـ إلى ذوبان الكفايات وسط عواصف من الهوى والجحود. وإلى استعلاء نفر من الرجال الذين تقوم ملكاتهم النفسية على إحسان الخطف والتسخير، وربط الأتباع بهم على أساس المنفعة المعجلة! وشئوننا المادية والأدبية من عدة قرون تدور حول هذا المحور. فبينما كانت أوروبا تنتفض من خمولها، وتهب الرياح رخاء في أرضها، ويجد العباقرة الفرص مضاعفة أمامهم ليفكروا ويكتشفوا ويخترعوا. وبذلك تمهد الطريق أمام الذكاء الإنساني الرفيع كي يسير ويشد وراءه القافلة الحانية عليه المعجبة به، في ذلك الوقت نفسه، كان الشُّطار عندنا من الأمراء والعمد يتنازعون على حكم المدائن والقرى، ومؤهلاتهم للسيادة المنشودة لا تعدو القدرة على سحق الخصوم. فكيف تصلح أمة تتكتل أحزابها حول عصبية السلطان المسروق بدل أن تتجمع حول مثل عالية، ومبادئ نبيلة؟ لقد جنت علينا هذه الأحوال يقيناً، وجنينا من طول بقائها في بلادنا تأخراً في المظاهر الأولى للعمران، بله تأخراً في مجال الإجادة والابتكار. وفي أثناء مغيب الحرية عن بلد ما، يقل النقد للأغلاط الكبيرة، أو يختفون، وتضعف روح النقد عموما، أو تتوارى. وهذه حال تمكن للفساد، وتزيد جذوره تشبثاً بالبيئة العليلة. وحاجة الأمم للنقد ستظل ما بقي الإنسان عرضة للخطأ والإهمال، بل ستظل ما بقي الكملة من البشر يخشون ويخافون الحساب! ومادامت العصمة لا تعرف لكبير أو صغير، فيجب أن يترك باب النقد مفتوحاً على مصراعيه. ويجب أن يحس الحاكم والمحكومون بأن كل ما يفعلون أو يذرون موضع النظر الفاحص والبحث الحر. فإن كان خيرا شجعوا على استدامته. وإن كان شرًّا نبهوا إلى تركه، وحذروا من العودة إليه، بعد أن يرفع الغطاء عن موطن الزلل فيه. وقيمة النقد في إحسان الأعمال وضمان المصالح لا ينكرها عاقل. وإنما هلكت الأمم الهالكة لأن الأخطاء شاعت فيها دون نكير، فما زالت بها حتى أوردتها موارد التلف. ونحن لا نحب لأمتنا هذا المصير. إن أغلب الناس إذا أمن النقد لم يتورع عن التقصير في عمله، ولم يستح من إخراجه ناقصاً وهو قدير على إكماله! وقد كان خالد بن الوليد بصيراً بهذه الطبيعة عندما أعاد تنظيم الجيش الإسلامي في موقعة اليرموك على أساس تمتاز به كل قبيلة، وينكشف به صبرها وبلاؤها، وتحمل به تبعتها من النصر والهزيمة، تبعة غير عائمة ولا غامضة. . وكانت التعبئة الأولى للجيش تخلط بين الناس في كيان عام، وتتيح لأي متخاذل أن يفر من معرة التقصير، فلا يدرى بدقة: من المسئول؟ وعقل الألسنة عن الكلام في عمل الاستبداد والمستبدين ضيع على أمتنا مصالح عظيمة خلال الأعصار السابقة. إذ طمأن العجزة والمفسدين، وجعلهم يسترسلون في غيهم، فما يفكرون، في إطراح كسل، ولا ترك منقصة. . . أما الحر

الحرية

الحرية مصطفى لطفي المنفلوطي (ت: 1342هـ -1924م) استيقظت فجر يوم من الأيام على صوت هرَّة تموء [المواء: صوت الهرة] بجانب فراشي وتتمسح بي، وتلح في ذلك إلحاحاً غريباً، فرابني أمرها، وأهمني همها، وقلت: لعلها جائعة. فنهضت، وأحضرت لها طعاماً فعافته، وانصرفت عنه، فقلت: لعلها ظمآنة. فأرشدتها إلى الماء فلم تحفل به، وأنشأت تنظر إليَّ نظرات تنطق بما تشتمل عليها نفسي من الآلام والأحزان؛ فأثَّر في نفسي منظرها تأثيراً شديداً، حتى تمنيت أن لو كنتُ سليمانَ أفهم لغة الحيوان؛ لأعرف حاجتها، وأفرج كربتها، وكان باب الغرفة مُرْتَجاً [أي: مقفلاً]، فرأيت أنها تطيل النظر إليه، وتلتصق بي كلما رأتني أتجه نحوه، فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن أفتح لها الباب، فأسرعت بفتحه، فما وقع نظرها على الفضاء، ورأت وجه السماء، حتى استحالت حالتها من حزن وهمٍّ إلى غبطة وسرور، وانطلقت تعدو في سبيلها، فعدت إلى فراشي وأسلمت رأسي إلى يدي، وأنشأت أفكر في أمر هذه الهرة، وأعجب لشأنها وأقول: ليت شعري هل تفهم هذه الهرة معنى الحرية؛ فهي تحزن لفقدانها، وتفرح بلقياها؟ أجل، إنها تفهم معنى الحرية حق الفهم، وما كان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من أجلها، وما كان تضرُّعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعياً وراء بلوغها. وهنا ذكرت أن كثيراً من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به الهرة المحبوسة في الغرفة، والوحش المعتقل في القفص، والطير المقصوص الجناح من ألم الأسر وشقائه، بل ربما كان بينهم من يفكر في وجهة الخلاص، أو يتلمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن، ويأنس به، ويتلذذ بآلامه وأسقامه. من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميداناً في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقُه شؤماً عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيداً بحريته ... ؟! يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهين المحبسين: محبس نفسه، ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد. صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالاً، وسماها تارة ناموساً وأخرى قانوناً؛ ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام. صنع له هذه الآلة المخيفة، وتركه قلقاً حذراً، مروع القلب، مرتعد الفرائص، يقيم من نفسه على نفسه حراساً تراقب حركات يديه، وخطوات رجليه، وحركات لسانه، وخطرات وهمه وخياله؛ لينجو من عقاب المستبد، ويتخلص من تعذيبه، فويل له ما أكثر جهله! وويح له ما أشد حمقه! وهل يوجد في الدنيا عذاب أكبر من العذاب الذي يعالجه؟ أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه؟ ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها .. كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه وما يلتئم مع طبيعته، فحالوا بينه وبين ذلك، وملؤوا قلبه خوفاً من المرض أو الموت، وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب، وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات. لا سبيل إلى السعادة في الحياة، إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا مطلقاً، لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس. الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر. الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللُّعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية. ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثاً جديداً، أو طارئاً غريباً، وإنما هي فطرته التي فُطر عليها إن الإنسان الذي يمدّ يديه لطلب الحرية ليس بمتسوِّل ولا مستجد، وإنما هو يطلب حقًّا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه، ولا يد لأحد عنده.

_ المصدر: كتاب (مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة، دار الجيل- بيروت، 1404هـ، 1984م، (1/ 127) بتصرف.

إباءة الضيم

إباءة الضيم وأثرها في سيادة الأمم محمد الخضر حسين (ت:1377هـ) نُشر عام 1364هـ الموافق 1927م الضَّيْم: الظلم والاضطهاد، وإباءته: كراهته والنفور منه. والنفور الصادق من الضيم يستلزم الغضب عند وقوعه؛ كما قال مهيار الديلمي يمدح أبا سعيد بن عبد الرحيم: نفى الضيمَ عنه أنفُ غضبانَ ثائرٍ ... يَخِفُّ وقِسْطُ الحادثات ثقيلُ وإذا غضب الرجل من الضيم غضبة ملتهبة، بذل وسعه في التخلص منه، أو في التوقي منه قبل وقوعه، فمن لم يغضب لوقوع الضيم، أو لم يبذل وسعه في التخلص أو الحذر منه، فهو محروم من هذا الخلق المجيد. ولهذا الخُلُق صلة محكمة بخلقين عظيمين: عزة النفس، والبطولة، فمن لم يكن عزيز النفس، لم يتألم من أن يضام، ومن لم يكن بطلًا، احتمل الضيم رهبة أو حرصًا على الحياة. ومن طالع العرب في عهد جاهليتهم، عرف أنهم كانوا يأبون الضيم في حماسة وصلابة، ويعدُّونه في أول ما يفتخرون به من مكارم الأخلاق، وقد أخذ هذا الخُلُق في أشعارهم ومفاخراتهم مكانًا واسعًا، فنبهوا على أنَّ احتمال الضيم عجز، والعاجز لا يُرجَى لدفع مُلمَّة، ولا للنهوض بمهمة. قال المتلمس: ولا تقْبَلنْ ضيمًا مخافةَ مِيتةٍ ... وموتَنْ بها حرًّا وجِلدُك أمْلَسُ وضربوا لاحتمال الضيم أبشع الأمثال، وأشدها تنفيرا منه، فقال المتلمس أيضا: ولا يُقيم على ضيمٍ يُراد به ... إلَّا الأذلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتَدُ هذا على الخَسْفِ مربوطٌ برُمَّتِه ... وذا يُشَجُّ فلا يَرثِي له أحدُ ونبهوا على أن حرية النفس والإقامة على ضيم لا يجتمعان أبداً، فقال الشنفرى: ولكنَّ نفسًا حرَّةً لا تُقيمُ بي ... على الضَّيْمِ إلا رَيْثما أتحوَّلُ وأشاروا في حكمهم إلى أن ذوي النفوس الزكية يتجافون عن مواطن الضيم، وينأون عنها، ولو إلى مواقع الخطوب الدامية، قال معن بن أوس: إذا أنت لم تُنصفْ أخاك وجَدْتَه ... على طَرَفِ الهجران إن كان يعقِلُ ويركبُ حدَّ السَّيفِ مَن أنْ تُضيمَه ... إذا لم يكنْ عن شَفْرةِ السَّيفِ مَزْحَلُ وإباءة العرب للضيم أيام جاهليتهم ملأت أعين الدول المجاورة لهم مهابة، فعاشوا ولم يكن لواحدة من تلك الدول عليهم من سبيل. قال النعمان بن المنذر يصف العرب في محادثة له مع كسرى: (وأما عزها ومنعتها (يعني: العرب)، فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوَّخوا البلاد، ووطَّدوا الملك، ولم يطمع فيهم (أي: العرب) طامع، ولم ينلهم نائل). جاء الإسلام، فوجد العرب قد يتجاوزون في هذه الخصلة حدَّ الاعتدال، فهذَّبها، وأحاطها بحكمة حقَّقت فيها معنى ابتغاء العزة، وهيَّأتها لأن تلتقي بالعدل، وترافق الحلم، وتساير السياسة الرشيدة أينما سارت. ... هذَّب الإسلام إباءة الضيم، وجعلها من الخصال التي يقتضيها الإيمان الصادق، فأصبحت خلقًا إسلاميًّا، أينما وجد الإيمان الصادق، وجدت إباءة الضيم بجانبه، ألا تقرؤون فيما تقرؤون من الكتاب المجيد قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، ولا عزة لمن يسومه عدوه ضيماً، فيطأطئ له رأسه خاضعًا، وإنما قتل في نفسه الشعور بالمهانة الحرص على الحياة، أو على شيء من متاعها، وكل متاعها في جانب العزة حقير. يأبى الرجل الراسخ في مكارم الأخلاق أن يلحقه الضيم في نفسه، ويأبى بعد هذا أن يضام من يمتُّ إليه بصلة قرابة أو جوار أو استجارة؛ إذ اضطهاد أحد من أمثال هؤلاء يجرُّ إليه عارًا، ويلبسه صغارًا. ورجل الأخلاق يغضب لأن يضام المنتمي إليه بصلة قرابة، وإذا كان هذا القريب ممن يناوئه، ويضمر له سوءًا، قال المغيرة بن حنباء: وأغضبُ للمولَى فأمنعُ ضيمَه ... وإن كان غشًّا ما تَجِنُّ ضمائِرُه يغار الرجل على ذوي القرابة والصداقة والجوار، ويبذل في إنقاذهم من الضيم دمه، أو ماله، أو جاهه، فيعظم بهذه المزية في أعين من يقدرون المكارم قدرها. وأكبر أُباةِ الضيم همة، وأرقاهم في سماء السيادة مقامًا، من يغار على الأمة التي يجمع بينه وبينها دين أو وطن، ويأبى أن تمسها لفحة من ضيم، فيجاهد في سبيل سلامتها من أن يُهضَم حق من حقوقها، أو يُغتَصب شبر من أوطانها. ويصور لك إباءة الرجل لأن يضام قومه قول عتبان الشيباني حين نزلت ثقيف متغلبة على أرض قومه: فلا صُلحَ ما دامت منابرُ أرضِنا ... يقومُ عليها مِن ثَقيفَ خطيبُ ودفع الضيم عن الأمة حق على كل من يستطيع الاشتراك فيه بنفس، أو مال، أو تدبير، أو تحريض. وقد نص علماء الشريعة على أن العدو إذا أقبل مهاجمًا، كان فرضًا على كل شخص، حتى النساء أن يخرجوا لدفاعه بما استطاعوا. ووقاية الأمة من مهانة الضيم تستدعي العمل لأن تكون للأمة قوتان: مادية، ومعنوية. أما المادية، فبإعداد ما يتطلبه الدفاع من وسائل الانتصار على العدو، وهذا ما أشار إليه القرآن المجيد بقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. وأما المعنوية، فبتربية النشء على خلق الشجاعة، وصرامة العزم، والاستهانة بالموت. فالأمة التي تأبى الضيم بحق، هي الأمة التي تلد أبطالًا، وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعد بها بخل، ولا يلهيها ترف، وتفاضل الأمم في التمتع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم، على قدر ما تلد من أبطال، وما تعده من أدوات الرمي والطعان: متى تَجْمعِ القلبَ الذَّكِيَّ وصارِمًا ... وأنفًا حميًّا تجتنِبْك المظالمُ إباءة الضيم خلق محمود أينما حلَّ، وأهم موقع له نفوس الرجال الموكول إليهم تدبير شؤون الأمة، وتنفيذ ما يحقق آمالها، وإنما تسقط الأمة في هاوية الاحتلال الأجنبي، إذا وقع زمام أمرها في يد من صغرت همته، فلا يغضب للضيم الذي يلقى على عنقه، ويسوق الأمة بعصاه إلى جهل وفقر وشقاق. ... ومن الحكمة أن يعمل الإنسان للتخلص من الضيم، بعد شيء من التدبر وإحكام الرأي، حتى لا تفضي به مكافحة الضيم الصغير إلى ضيم أفظع منه، أو تفوت على الجماعة مصلحة أو مصالح كبيرة، لا يعد ذلك الضيم في جانبها شيئاً مذكوراً، وأورد في بيان هذا مثلين: أحدهما: من السيرة النبوية، وثانيهما: من التاريخ الصحيح. أما السيرة، فقد جاء في قضية الحديبية: أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع المشركين صلحًا، قد يبدو في أول النظر أن فيه إجحافًا بحقوق المسلمين، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: (بلى). قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني). ومن نظر في الفوائد التي ترتبت على هذا الصلح، وجدها من العظم بحيث لا يعد الصلح وقبول ما تمسك به المشركون من الشروط إلا شيئًا لا يقام له وزن، وعرف أن السياسة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوم سبيلًا مما بدا لعمر بن الخطاب في نظرته الأولى. وأما التاريخ: فإن الإسبان لما طغوا على ملوك الطوائف بالأندلس، وشعر هؤلاء الملوك بضعفهم عن مقاومتهم، ظهر للمعتمد بن عباد ملك إشبيلية أن يستعين في دفاعهم بسلطان المغرب يوسف بن تاشفين، فقال له بعض أولئك الملوك: نخشى أن يدخل بلاد الأندلس، ويرد العدو، ثم يبسط سلطانه علينا، فقال المعتمد تلك المقالة الخالدة: (لأن أرعى الجمال خير من أن أرعى الخنازير!).

_ المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (5/ 42)

يوم البعث

يوم البعث محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ) نُشر عام 1356هـ الموافق 1940م إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل، ولا تنثني، ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تُشْعِرُ العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حياً يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينيه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه، ويتمنى أحدنا يومئذٍ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجاً ونزاعاً، عسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة. وهذا العارض إذا ألمَّ جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفاً بطيئاً مرهقاً كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسداً لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟. الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أنحائه حركة الروح العاملة - فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان. وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَكٌ، وأشواك، وحطب، وكل ما لا نفع فيه إلا أذى وبلاءً عليه وعلى الناس. وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل من الأمم؛ فإن الفرد هو خلاصة الجماعة، وأصل الجماعة؛ فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه. وعندئذٍ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة مدوية مجلجلة، ترمي في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة، والأماني الباطلة المكذوبة. وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون؛ ليوقظوا الأحياء الذين ضُرب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزاً وذلاً ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش. أما اليوم الذي نحن فيه فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله؛ فهل يحق لنا أن نؤمل أنَّ هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يَلُمُّ ما تشعث من حياته؛ ليستقبل حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقضاض على أوثان المظالم القديمة التي نُصبت، فَعَبَدها من عَبَدَ ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا -على أوهامهم - إلا فُتاتاً من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟. إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤالًا واحداً يكون جوابه عملاً صارماً نافذاً لا يرعوي دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقاً لا يبطل. من أنا؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه - فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة، ولكن البحث عن الحقيقة هو أبدًا أروع شيء وأخوف شيء، فإن السائل شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق - فإن السؤال سوف ينزع به وينبُثُ عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصا المسنون، ويرجع مجرَّحاً تدمي جروحه، يتألم، ويتوجع، ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه. فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها، ويكفها عن الشك والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشامخ؛ فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة. والأمر كله الآن بيد الشعب أفراداً أفراداً، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يَكِلُ كلَّ أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية. فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية، فيجلي لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة، وجراثيم التفاني والانقراض. ليس لشرقيٍّ أو عربيٍّ بعد اليوم أن يقف مستكيناً يقول لحكومته: افعلي من أجلي يا حكومتي العزيزة! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأتِ فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منَّا همه سامياً إلى غاية، وأمله معقوداً بغرض، ويبيت ليله ونهاره يَتَدَارس في نفسه، وفي أهله، وفي عشيرته، وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد - حقيقة ما يجب أن يتعرَّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟؟ والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟. فالعالم، والأديب، والشاعر، والفيلسوف، والعامل، والصانع، وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم، ونوازعهم - يجب أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدأون، وأنهم دائماً في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد. أما قيام الدعوة على البحث عن طريق الإصلاح، وأساليب الإصلاح، وتحقيق ذلك بالطرق العلمية ... إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدي على الأمة شيئًا إلَّا ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد، وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها. إن الأمم لا يُصلحها مشروع، ولا أسلوب من الحكم، ولا باب من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلاً - بما فيه من الحركة النفسية - على أن الحياة التي يعيشها هي إثبات لوجوده، ولا يثبت الوجود للحي إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلاَّ أن تكون كل أفكاره متنبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟ فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم، وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور، والجهل، والغباء، والبلادة، وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه، وأجوده، وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل من أنا؟ فتجديد الحياة في الشرق حقيقة لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض. وأما إذا انطلقنا مع أحلام النوم، وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مسوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت .. أي البلادة! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدماً في حاجاته ومرافقه. إنَّ من الهراء أن تأتي مجلس قوم من المهندسين قد اختلفوا في الأرض، هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحوَّلوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته ... مما يصلح عليه البناء؛ فإن هؤلاء إذا بدأوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة فاعلم أنه لا فلاح لهم. وإنما الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتاً يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر. فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف، والمنابذة، وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضاً وتبايناً وافتراقاً، وأن يصغي إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغماً روحياً فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل. وعندئذٍ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياةُ الحياةَ إلى الغاية التي يرمي إليها الشرق بأبصاره من تاريخه، ومن وراء التاريخ. إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ - وسنبدأ بإذن الله - فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا أن نضع الأسس العلمية، أو السياسية، أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها، وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟ إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صُوْرٍ جديد يكون صوته فزعاً جديداً مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحاً بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المستعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن. يومئذٍ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا؟ عملاً صامتاً لا يتكلم؛ لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة، والجهل، والخمول.

_ المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/ 211)

موت الأمم وحياتها

موت الأمم وحياتها محمد البشير الإبراهيمي (ت 1384هـ - 1965م) نُشر عام 1350هـ الموافق 1934م إنَّ موت الأمم، وحياة الأمم لفظان مطروقان مستعملان في نصابهما من الوضع اللغوي، كموت الأرض بالقحط، وحياتها بالغيث، لا ينبو بهما ذوق ولا منطق ولا فهم، وإن معناهما لأوسع وأجل من معنى حياة الفرد، وموت الفرد، هذه حياة محدودة، وموت لا رجعة بعده إلاَّ في اليوم الآخر، وتلك حياة ممدودة الأسباب ينتابها الضعف فتعالج، ويُلِمّ بها المرض فتداوى، ويطرقها الوهن فتقوى، ويدركها الانحلال فتشد، ويعرض لها الانتقاض فترمم، وتظلم آفاقها بالجهل فتنار بالعلم. طالما قال القائلون عن أمتنا: إنها ماتت، وطالما فرح الشامتون بموتها، وطالما نعاها نعاة الاستعمار على مسمع منَّا، وأعلنوا البشائر بموتها في عيدهم المئوي فَعَدَّوه تشييعاً لجنازة الإسلام الذي هو مَسّاك حياة هذه الأمة في هذا الوطن، فقالوا: ماتت لا رحمها الله، وصدقهم ضعفاء الإيمان منَّا فقالوا: ماتت رحمها الله، وقلنا نحن: إنها مريضة مشفية، ولكن يرجى لها الشفاء إن حضر الطبيب، وأحسن استعمال الدواء؛ فحقق الله قولنا، وخيب أقوال المبطلين وكذب فألهم، فحضر الطبيب في حين الحاجة إليه، وأذن بالإصلاح في آذان المريض فانتفض انتفاضة تطايرت بها الأثقال، وانفصمت الأغلال، وكان من آثارها هذا اليوم الذي لا يصوره الخيال والوهم، وإنما يصوره العيان والواقع. فإذا بقي في الدنيا ممسوس، يكابر في المحسوس، ولا يصدق بوجود هذه الأمة، ولا يؤمن بحياتها - فقولوا له: تطلع من هذه الثنايا على قرية الحنايا، وقارن يومها بأمسها، يراجعك اليقين، ويعاودك الإيمان. قلنا في هذه الأمة ومازلنا نقول: إن عوارض الموت وأسبابه كلها موجودة فيها من الجهل، والفقر، والتخاذل، وفساد الأخلاق، واختلاف الرأي، وفقد القيادة الرشيدة. وقلنا - مع ذلك - ومازلنا نقول: إنها مرْجُوَّة الحياة ما دام مناط الرجاء فيها سالماً صحيحاً، ومناط الرجاء هو نقطة من الإيمان ما زالت لائطة بالقلوب وصِلَةٌ بالقرآن ما زالت مرعية في الألسنة، وإن هذا الرجاء معلق بخيط دقيق لا نقول إنه كخيط العنكبوت، ولكننا نقول: إنه أقوى من السلاسل الحديدية إذا أمده الاستعداد والتدبير الرشيد. هذه النقطة هي مبعث القوة ولو بعد حين، وهي مكمن السيادة والعزة ولو في الأخير، والسبق يعرف آخر المضمار. من أطوار هذه الأمة في التاريخ أن اختلف ملوكها وقادتها وساستها، وذاقت من خلافهم الشر والبلاء، واختلف علماؤها في الدين فكان خلافهم وبالاً على الأمة، وتشتيتاً لشملها، وصدعاً لجدار وحدتها، وقطعاً لما أمر الله به أن يوصل من أرحامها، ثم فَرَّ العلماء من الميدان، وتركوه للأمراء المستبدين، ثم ألقى الأمراء المقاليد في أيدي السفهاء من الأنصار والذرية والأتباع، وكل أولئك قد فعل في هذه الأمة ما لم يفعله (نيرون). وكل تلك الأعمال قد أثرت في أخلاق الأمة التأثير العميق، وسكت العلماء أذلة وهم صاغرون، يرون الحق مهضوماً فلا ينطقون، والمنكر فاشياً فلا يغيِّرون ولا ينكرون، وهيهات بعد أن تنازلوا عن حقهم طائعين. يقع ذلك كله في كل طور من الأطوار التاريخية حتى يبتلى المؤمنون، ويظنوا بالله الظنون، وإذا بذلك العرق يتحرك، وإذا بتلك الانتفاضة تعرو، وإذا بالأمة قائمة من كبوتها، تذود قادة السوء عن القيادة، وعلماء السوء عن الإمامة، وتنزل دخيل الشر بدار الغربة. جَرَّبنا فصحَّت التجربة، وبلونا فصدق الابتلاء، وامْتَحَنَّا فدل الامتحان على أن عرق الإيمان في قلوب هذه الأمة كعرق الذهب في المنجم كلاهما لا يبلى وإن تطاولت القرون، ثم جلونا هذا العرق في عمل ثلاثين سنة خلت فإذا خصائصه الطبيعية لم تتغير. هذه الأمة كَبَا بِها الزمن، وأدارها على غرائب من تصاريفه حتى أصبحت عوناً له على نفسها، وترصد لها العدو كل غائلة، ففتنها عن دنياها حتى سلمت له فيها، ثم فتنها عن دينها حتى كادت تتلقاه عنه مشوهاً ممسوخاً، وأحاطت بها خطيئاتها من كل جانب فجنت على نفسها بما كسبت أيديها من سوء الأقوال، وفساد الأعمال. ولكن ذلك العرق المخبوء في تلك المضغة يتحرك، فيأتي بالعجائب.

_ المصدر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م (2/ 350)

مقالات مميزة

مقالات مميزة

السلفيون ليسوا وحدهم ..

السلفيون ليسوا وحدهم .. نقد المفكرين الغربيين للنظام الديمقراطي!! عبد الله الزهراني يصر الخطاب العلماني وبعض الأصوات في الخطاب التنويري في السعودية على تصوير الاتجاه المخالف للديمقراطية - وخاصة الاتجاه السلفي- بأنه اتجاه شاذ، متخلف، سطحي في تفكيره، مخالف لما هو معلوم في العالم المعاصر بالضرورة .. ونحن إذا رجعنا إلى العالم الغربي نفسه سنجد أن عدداً كبيراً من علمائه ومفكريه معارضون بشكل قاطع للنظام الديمقراطي .. وقاموا بتوجيه النقد إليه، ووجهوا إليه اعتراضات كثيرة من عدة جهات. والاطلاع على نقد المفكرين الغربيين للنظام الديمقراطي مفيد من عدة وجوه: الوجه الأول: أن ذلك يكشف عن أن الخلل في النظام الديمقراطي ليس راجعاً إلى مخالفته للأصول الشرعية فقط .. وإنما هو راجع أيضاً إلى بنية النظام نفسه، وإلى شروطه، وتطبيقاته المهنية. والوجه الثاني: أن الإطلاع على ذلك النقد يكشف أن رفض الديمقراطية ليس موقفاً خاصاً بالسلفيين ولا بالإسلاميين عموماً , وإنما هو موقفٌ شائعٌ في الأوساط الفكرية الغربية والإسلامية. وقد جمع الدكتور: سفر الحوالي قدراً من أسماء المفكرين الغربيين الرافضين للنظام الديمقراطي في كتابه العلمانية، ونقل نقدهم ومواقفهم من مؤلفاتهم .. وسأنقل كلامه الذي جمع فيه كلام المفكرين الغربيين الذين نقدوا الديمقراطية بنصه حيث يقول: ((الناس في الغرب يقبلون الحوار والنقاش حول أي موضوع ما عدا موضوع الديمقراطية، فالديمقراطية بمبادئها - كالحرية والمساواة - وحقوقها وضماناتها - كما أسلفنا - منطقة مقدسة لا ينبغي أن تكون موضع جدال، وما لها لا تكون كذلك وهم لا يعلمون لها بديلاً إلا الديكتاتورية ذلك الشبح الرهيب؟! ومع ذلك فقد كثرت اعتراضات المفكرين على هذا المبدأ، وانتقد من جوانب عديدة، ويتلخص نقد الكتاب الديمقراطيين للديمقراطية في أمور: 1 - ميوعة الاصطلاح، وصعوبة تحديده بدقة علمية يمكن بواسطتها التمييز بين الحقيقة وبين الادعاء المزيف. يقول صاحب كتاب نظم الحكم الحديثة: "كل محاولة تستهدف تحديد الاستعمال الصحيح لاصطلاح الديمقراطية، من شأنها أن تواجه مزيداً من التعقيدات، وليست البلاد التي تسمى بالديمقراطية تقليداً ... هي التي تظهر المتناقضات والعيوب فحسب؛ بل إن البلاد الشيوعية في العالم والتي تعتنق مفهوماً سياسياً مخالفاً تماماً تدعي بذات التأكيد أنها ديمقراطيات شعبية، وأن انتساب البلاد الأخرى إلى الديمقراطية إنما هو من قبيل الخداع". ويقول آرنولد توينبى: "أصبح استخدام اصطلاح الديمقراطية مجرد شعار من الدخان، لإخفاء الصراع الحقيقي بين مبدأي الحرية والمساواة". ويقول رسل عنها: "كانت تعنى حكم الأغلبية مع نصيب قليل غير محدود المعالم من الحرية الشخصية، ثم أصبحت تعني أهداف الحزب السياسي الذي يمثل مصالح الفقراء على أساس أن الفقراء في كل مكان هم الأغلبية، وفي المرحلة التالية أصبحت تمثل أهداف زعماء هذا الحزب، وها هي الآن في أوروبا الشرقية وجزء كبير من آسيا يصبح معناها الحكم المستبد لمن كانوا يوماً ما نصراء للفقراء، والذين أصبحوا يقصرون نصرتهم هذه للفقراء على إيقاع الخراب بالأغنياء، إلا إن كان هؤلاء الأغنياء من الديمقراطيين بالمعنى الجديد". صحيح أن لفظ الديمقراطية يعني عند إطلاقه حكم الشعب، لكن الآراء تتضارب كثيراً حول كيفية الحكم، ونوعية الاقتراع والتمثيل، وشروط المقترعين، وتحديد الفئات السياسية. ترى الشيوعية أن الدول الرأسمالية ليست ديمقراطية بالمعنى الصحيح؛ لأن الحكم فيها حقيقة بيد الطبقة الثرية، وأن المصطلح الحقيقي لها هو: (دكتاتورية رأس المال).

وفى الوقت نفسه تقول الرأسمالية: إن الدول الشيوعية ليست ديمقراطية، لأن كل سلطاتها تنحصر في قبضة قليلة واحدة من الشعب وهي الحزب الشيوعي؛ ولذلك لا تحسب الدول الشيوعية في عداد العالم الحر. هذا بالإضافة إلى الانقسامات داخل الدول الديمقراطية الليبرالية. 2 - الأحزاب المتشاحنة التي لا تعبر عن إرادة الأمة: إن الواقع المحسوس لينطق بصراحة بأن النظام الديمقراطي يقضي على وحدة الأمة، ويفتتها إلى تكتلات متناحرة وأحزاب متطاحنة لأسباب لم تكن لتستدعي التكتل والتحزب لولا أن النظام نفسه يشجع على ذلك ويهيئه، ومع خطورة هذا التمزق على الأمة؛ فإنه ينبني عليه أثر خطر بالنسبة لتحقيق مصالح الشعب. وذلك أن الدول الديمقراطية الغربية يوجد بها نوعان من الأنظمة: - نظام الحزبين، ونظام الأحزاب المتنافسة، وندع الكلام حول عيوب النظامين كليهما لهارولد لاسكي المشار إليه: "في إنجلترا مثلاً إذا اقتصر الأمر على حزبي المحافظين والعمال، فسوف يضطر كثير من الموظفين لأن يختاروا بين بديلين، ليس بينهم وبين أحدهما تجاوب كامل خلاق، ولهذا السبب ينهض الادعاء بأن نظام الأحزاب المتعددة الذي يسمى عادة بنظام المجموعة يتلاءم مع انقسام الرأي بصورة أكثر فاعلية. ولكن بناء على خبرتنا بنظام المجموعة - كما في فرنسا وحكومة ويمار في ألمانيا - يبدو أنه مصحوب دائما بعيبين خطيرين، ويكمن أكثر هذين العيبين أهميةً في أن هذا النظام عندما يعمل تكون الطريق الوحيدة التي يتحكم بها في السلطة التشريعية هي تنظيم نوع من الائتلاف بين المجموعات ... ويكون من نتيجة ذلك أن يستعاض عن تحمل المسئولية بالمناورات وأن تصبح السياسة مجردة من التماسك وسعة الأفق والعيب الثاني الذي يظهر بدرجة ملحوظة في فرنسا هو أن نظام المجموعة يميل إلى تجميع السلطة حول الأشخاص أكثر من تجميعها حول المبادئ". 3 - إيجاد طبقة ثرية مسيطرة دكتاتورية: هذا العيب الخطر ملازم للأنظمة الديمقراطية الغربية، وهو أجلى عيوبها وأبرزها، وبه تتذرع الشيوعية في هجومها على العالم الليبرالي، كما تستغله الأحزاب اليسارية داخل هذه الدول نفسها. من الحقائق المقررة عالمياً أن المصالح المادية هي الدافع الوحيد والمحرك الرئيسي للعمل السياسي، وكل دول العالم الديمقراطي لا تخفي حقيقة أنها تعمل جاهدة لحماية امتيازاتها، وضمان تفوقها الاقتصادي، وتوفير المجال الحيوي لشعبها، وهذا هو القناع الظاهري الذي تتستر به إمبراطوريات المال في هذه الدول، والتي تتحكم في السياسة الخارجية والداخلية مباشرة، أو بطريق الضغط على السلطة الحاكمة. وفيما يحسب الشعب أنه سيد نفسه ومقرر مصيره، تقوم الطبقة الرأسمالية المحتكرة بسن القوانين لحماية مصالحها، والزج بسياسة الدولة فيما يخدم أغراضها النفعية الخاصة. يقول لاسكى: إن الدولة الديمقراطية تبذل الكثير في سبيل تحقيق المساواة بين الموطنين فيما تمنحهم من ضمانات، كما تتجه أوامرها القانونية إلى حماية الملكية القائمة للامتيازات أكثر مما تعمل على توسيع نطاقها، فانقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء يجعل أوامر الدولة القانونية تعمل لصالح الأغنياء ... إذ أن نفوذهم يرغم نواب الدولة وذوي السلطة فيها على أن يكون لرغباتهم الاعتبار الأول. وتعبر الدولة عن رغبات أولئك الذين يسيطرون على النظام الاقتصادي، فالنظام القانوني بمثابة قناع تختفي وراءه مصلحة اقتصادية مسيطرة لتضمن الاستفادة من النفوذ السياسي، فالدولة أثناء ممارستها لسلطتها لا تعمد إلى تحقيق العدالة العامة أو المنفعة العامة، وإنما تعمل على تحقيق المصلحة للطبقة المسيطرة في المجتمع بأوسع معاني هذه المصلحة.

إن الحرية والمساواة اللتين حصلنا عليهما كانتا أولاً وقبل كل شئ حرية ومساواة لمالك الثروة. والأمثلة الواقعية على ذلك واضحة للعيان، ولعل في الحروب التي خاضتها وتخوضها الولايات المتحدة أصرح دليل على خضوع السياسة الديمقراطية لضغط الطبقة المحتكرة. فالحرب العالمية الأولى، وكذلك الحرب الثانية، ثم حرب فيتنام كلها دخلتها أمريكا دون أن يكون لها مصلحة مباشرة أو يتعرض أمنها القومي للخطر، وبغض النظر عن دوافعها ونتائجها كان الشعب الأميركي يرفض تدخل حكومته في هذه الحرب، وكانت المظاهرات الصاخبة تنظم باستمرار احتجاجاً على ضياع الأرواح والأموال فيما لا جدوى منه. لكن الطبقة الرأسمالية التي تملك مصانع السلاح وشركاتها الكبرى التي تتولى تسويقه تكمن مصلحتها في إشعال الحروب واستمرارها، والذي حصل ويحصل دوماً هو تنفيذ رغبة هذه الفئة القليلة مقابل تعطيل رغبات الشعب بكامله. ولما حاول الرئيس كنيدي تقديم المصلحة القومية، وعقد اتفاقية وفاق دولي تخلصت منه هذه الطبقة، فأزهقت روحه بعملية اغتيال غريبة لا تزال أسرارها في طي الكتمان إلى الآن. وليس هذا فحسب، بل إن إمبراطوريات المال لتملك المنظمات الإرهابية والعصابات المسلحة، إلى جانب عصابات الرقيق الأبيض والرشاوى، بالإضافة إلى سيطرتها على وسائل الإعلام، واستخدامها في الفضائح السياسية والمالية والأخلاقية، وكلها شباك تنصبها للاقتناص بالقوة تارة، وبالإغراء تارة أخرى. والحقيقة التي يجب ألا تغرب عن بالنا في هذا الصدد؛ هي أن الطبقة الرأسمالية المسيطرة ليست سوى مجموع المنظمات الربوية الاحتكارية اليهودية التي تخطط للسيطرة على العالم أجمع؛ وفق أوامر التلمود والبروتوكولات. 4 - تزييف وتطويع الرأي العام: هذا العيب متلازم والعيب الذي قبله؛ فوجود طبقة ثرية مسيطرة يجعل وقوع وسائل الأعلام - المكون الرئيسي للرأي العام - في قبضتها أمراً طبيعياً، كما أن خضوع وسائل الإعلام لفئة معينة تتيح لها القدرة على تقوية مركزها، ودعم نفوذها السياسي والمالي عن طريق تكوين الرأي العام أو تضليله، مما يضمن فوز المرشحين الموالين لها، ونجاح مخططاتها، يقول ميشيل ستيورات في معرض حديثه عن مشكلات الديمقراطية وعيوبها: "هناك نفوذ الثروة على تكوين الرأي العام، فالديمقراطية تتطلب فرصاً متكافئةً لجميع الذين يريدون الإقناع أو التعبير عن الرأي، ولقد حاولت الديمقراطية توفير ذلك بإزالة العقبات القانونية على حرية الكلام والكتابة. وثمة اتجاه معاصر يتمثل في ملكية فئة قليلة للصحافة، كما وأن النفقات الباهظة لإدارة صحيفة تجعل دخول ملاك جدد لميدان الصحافة أمراً عسيراً، ثم إن المصالح الصناعية والتجارية تؤثر على الإذاعة والتليفزيون، ومن الجائز مع تقدم الدراسات الخاصة بعلم النفس والدعاية والإعلام أن تزيد مقدرة القلة التي تستطيع أن تنفق بسخاء للتحكم في وسائل الإعلام على تكييف عقول الباقين مما ينال من حق الشخص وقدرته على التفكير، وهو الغرض الأساسي للديمقراطية، وهذه المشكلة هي أكثر المشاكل خطورة، لأنها ليست من مخلفات الماضي، وإنما هي قوة بلوتوقراطية (سيطرة رأس المال) جديدة ظهرت حديثاً". ويركز لاسكى اهتمامه على الصحافة ودورها في تزييف الرأي العام، فيقول: إن جمع الأخبار ونشرها عمل لا يراعى فيه العرض الموضوعي للوقائع، فالأخبار سرعان ما تصبح دعاية عندما تتمكن مادتها من التأثير في السياسة، كما يميل مضمون الأخبار في المجتمع المتفاوت إلى فائدة من بيدهم مقاليد السلطة الاقتصادية.

ومعظم الأفراد يعتمدون على الصحف في استقاء معلوماتهم، وهذه الصحف تعتمد في بقائها على الإعلانات التي تستطيع أن تحصل عليها، كما أن إصدار الصحف عموماً باهظ التكاليف، بحيث لا يستطيع أن يؤسسها إلا الأغنياء فقط. ونظراً لأنها تعتمد على المعلن فيتحتم عليها غالباً أن تنشر تلك الأخبار والتعليقات التي ترضي أولئك. وبذلك تكون النتيجة تحيزاً واضحاً في نقل الأخبار للحوادث الصحيحة التي قد تقلق الطبقة الغنية أو تحرجها. 5 - الفتور في تجاوب المواطنين مع العملية الانتخابية: تدعي الديمقراطية أنها حكم الشعب، وأن النواب وأعضاء الحكومة إنما يختارون وفقاً لإرادة الشعب، وأنهم تبعاً لذلك يمثلون الشعب تمثيلاً صادقاً. ولكن هذه الدعوى تناهضها أمور عدة منها: الدول التي تقصر حق الانتخاب على فئة معينة لأسباب عنصرية أو جنسية أو طائفية لا يمكن أن تعد نسبتها إلى الديمقراطية صادقة، كما يرى ستيورات ويمثل لذلك بسويسرا التي لم تعط للنساء حق الانتخاب، وبالدول التي لا يحظى الملونون أو الطوائف الدينية فيها بذلك كبعض الولايات المتحدة وإيرلندة. بالنسبة للدول التي لا تضع مثل هذه الحواجز، بل تحفز المواطنين بكل وسائل الإعلام على الإدلاء بأصواتهم، يلاحظ بوضوح عزوف نسبة ليست قليلة من الشعب عن الاشتراك في العملية الانتخابية، وتكون النتيجة أن الذي يفوز في الانتخابات، حزباً أو فرداً - يفوز لأنه حصل لا على أصوات أغلبية الشعب، بل على أصوات أغلبية المشتركين فعلاً في الاقتراع. فإذا أضفنا الرافضين للانتخابات إلى الذين دخلوها معارضين، فسنجد غالباً أن الأغلبية الفائزة في الانتخابات ليست سوى أقلية بالنسبة لمجموع الشعب. وبذلك لا يصح بحال القول بأن الحكومة تمثل الشعب تمثيلاً كاملاً أو صادقاً، وهذا العيب تعترف به الدول الديمقراطية نفسها، وليس من دولة تستطيع نفيه، وإنما تتباهى فيما بينها بانخفاض نسبة الرافضين، وتحقيق أرقام قياسية في عدد المشتركين. وعلى سبيل المثال يذكر مؤلفو كتاب نظام الحكم والسياسة في الولايات المتحدة أنه لم تزد نسبة الناخبين عن (66%) من عدد الأشخاص الذين بلغوا سن الانتخاب، وفي بعض الأحيان أقل من (55%)، وفي سنة (1956) (60.5%) فقط. 6 - القضاء على الميزات الفردية: على الرغم من أن الديمقراطية - في جوهرها - نظام فردي، كان وجوده أصلاً بمثابة رد فعل لإهدار الحقوق الفردية في ظل النظام الإقطاعي، فإن الفرد الممتاز في الديمقراطية مهضوم الحق بالنسبة لمشاركته في صياغة القرارات التي تتخذها الحكومة. هذا العيب لفت نظر بعض النقاد إلى آفة تعانى منها الديمقراطية، ومنهم أليكسيس كاريل، فالدكتور كاريل يعجب كيف رضيت البشرية أن ترزح تحت نير نظام يقضي على المميزات الفردية، ولا يقيم للصفوة الممتازة أي وزن في التأثير على سير الأحداث، عدا ما يتمتع به سائر الناس، ويقول: هناك غلطة أخرى تعزى إلى اضطراب الآراء فيما يتعلق بالإنسان والفرد، وتلك هي المساواة الديمقراطية. إن هذا المذهب يتهاوى الآن تحت ضربات تجارب الشعوب، ومن ثَمَّ فإنه ليس من الضروري التمسك بزيفه، إلا أن نجاح الديمقراطية قد جعل عمرها يطول إلى أن يدعو للدهشة، فكيف استطاعت الإنسانية أن تقبل مثل هذا المذهب لمثل هذه السنوات الطويلة؟! إن مذهب الديمقراطية لا يحفل بتكوين أجسامنا وشعورنا، إنه لا يصلح للتطبيق على المادة الصلبة وهى الفرد.

صحيح أن الناس متساوون، ولكن الأفراد ليسوا متساوين، فتساوي حقوقهم وهمٌ من الأوهام، ومن ثم لا يجب أن يتساوى ضعيف العقل مع الرجل العبقري أمام القانون ... ومن خطل الرأي أن يعطوا (أي: الأغبياء) قوة الانتخاب نفسها التي تعطى للأفراد مكتملي النمو، كذلك فإن الجنسين لا يتساويان، فإهمال انعدام المساواة أمر خطير جداً، لقد ساهم مبدأ الديمقراطية في انهيار الحضارة بمعارضة نمو الشخص الممتاز ... ولما كان من المستحيل الارتفاع بالطبقات الدنيا، فقد كانت الوسيلة الوحيدة لتحقيق المساواة الديمقراطية بين الناس هي الانخفاض بالجميع إلى المستوى الأدنى، وهكذا اختفت الشخصية. ويؤيد رأيه هذا ما يقع فعلاً في الدول الديمقراطية عند الاقتراع على قضية اقتصادية مثلاً، حيث يكون نصيب عالم الاقتصاد الضليع صوتاً واحداً فقط، وهو ما يحصل عليه الفرد المتوسط أو الجاهل، وغالباً ما تكون النتيجة في غير صالح الأفراد الممتازين بسبب انسياق عامة الشعب وراء عواطفهم وخضوهم للتضليل الدعائي. 7 - تعارض المصلحة الذاتية للفرد والجماعة: هذا العيب يلقي ضوءاً على المحك الذي يظهر حقيقة أي نظام أرضي بشري، فالديمقراطية تدعى أنها النظام الأمثل لتحقيق المصلحة الفردية والجماعية بإتاحتها الفرصة للحصول عليها بطريقة قانونية. لكن المشكلة تكمن في تعارض مصلحة الفرد ذاته - وكذلك الجماعة - بين اتخاذ هذا القرار أو ضده، إذ هو لا يستطيع التوفيق بين مطالبه الخاصة، كما أنه لا يستطيع التيقن من كون نتيجة القرار ستحقق هذه المطالب أو تنفيها. ولنأخذ مسألة رفع الأجور مثلاً لذلك: تطالب نقابات العمال دائماً برفع الأجور - لكي تكسب أصواتهم - وهي إذ تطالب بذلك تعلم يقيناً أن رفعها يحقق للعمال مصلحة من جهة، لكنه يفوتها من جهة أخرى؛ لأنه يكون مصحوباً بارتفاع الأسعار. ومن ناحية أخرى يقول بيكر في سياق نقده لأسلوب التمثيل: إن الناس جميعاً لهم مصالح كثيرة متعددة، حيث لا يمكن لجانب منها أن ينمو ويطرد إلا بسن تشريع يحقق هذا الغرض، ولكن هذا التشريع يسن على حساب الآخرين، فالزراع والعمال مثلاً هم المنتجون والمستهلكون في وقت معاً، فهم كمنتجين يتطلعون إلى أسعار أعلى من تلك التي يبيعون بها منتجاتهم، ولكنهم كمستهلكين يتطلعون إلى أسعار أقل من تلك التي يشترون بها حاجياتهم. هذه بعض العيوب التي لاحظها بعض الكتاب الديمقراطيون على الديمقراطية في المبدأ والتطبيق، وقد حاول كاتبان فرنسيان صياغتها في عبارات موجزة فكان مما استنتجاه: 1 - الصراعات الدائمة بين الأحزاب المنقسمة على بعضها. 2 - الحكومات التي لم يتجاوز متوسط بقائها في الحكم طيلة نصف قرن ثمانية أشهر. 3 - المنافسات الحمقاء بين المواطنين. 4 - عدم وجود سياسة متجانسة لمدى طويل. 5 - البطء الشديد في تقدم مستوى حياة الجماهير، سياسة الإسكان، عدم كفاية التربية المدنية والاقتصادية والاجتماعية. وملاحظة هذه المساوئ هي التي دفعت بالكاتب الإنجليزي أ. د لندساس إلى القول: "إن هناك دائماً هوةً رهيبةً بين النظريات الرفيعة عن الديمقراطية التي نقرأ عنها في كتب النظريات السياسية، وبين وقائع السياسة الفعلية". ومع أن كل هذه الانتقادات لم تنفذ إلى لب المشكلة وأساسها المتمثل في الحكم بغير ما أنزل الله وعبادة الأهواء والشهوات من دونه؛ فإنها ترشد إلى فداحة الخطب وشناعة الغلطة التي وقع فيها المجتمع الغربي بتنكره للحق وتمرده على الله استكباراً وغروراً) انتهى وفي تصوري أن هناك عدداً من العلماء والمفكرين الآخرين - لم يذكرهم الدكتور سفر- ممن اعترض على النظام الديمقراطي وبيبنوا عيوبه النظامية والمهيمنة .. ويجد القارئ عدداً من النقود في كتاب (نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية , محمد أحمد مفتي) ولو جُمعت في مؤلف واحد لكشفت لنا الصورة بشكل كبير .. وبينت أن المبالغة في مدح النظام الديمقراطي بصورته الغربية هو الذي يمثل حالة الشذوذ الفكري!!. ومن المتوقع أن يعترض بعض المتحمسين للنظام الديمقراطي الغربي .. فيقول: إن كان بعض المفكرين الغربيين نقدوا الديمقراطية فهناك عشرات غيرهم مدحوها وأثنوا عليها؟!! وهذا صحيح .. ولكن هذا لا ينفع؛ لأن قضية الحوار منحصرة في نقد من يصور الاتجاه الناقد للديمقراطية بأنه اتجاه شاذ مخالف للضرورة العالمية، ويصوره بأنه ناتج عن جهل وسطحية في التفكير .. فهذا التصوير ينكشف خطؤه بإثبات أن نقد الديمقراطية ليس موقفاً خاصا بالاتجاه السلفي فقط .. بل هو موقف وقفه كثير من المفكرين الإسلاميين والغربيين, فلماذا يصور بأنه موقف شاذ سطحي بسيط؟!!.

خلط الإسلام بالديمقراطية إساءة كبيرة للإسلام

خلط الإسلام بالديمقراطية إساءة كبيرة للإسلام عبد الله بن عبد العزيز العنقري كم يحار العاقل حين يقف على ممارسات مُضلِّلة في مشرقنا الإسلامي تتميز بأنها مكشوفة، لا تنطلي على من أمعن النظر فيها، لا لمصادمتها للجوانب العلمية فحسب، بل لمصادمتها للواقع الذي يراه كل ذي عينين لم يُصِبْهما الغَبَش. ومن أسوأ هذه الممارسات ما انتدب إليه فئام نصّبوا أنفسهم وكلاء بالقوة عن عدد من التيارات المعاصرة ذات المناحي الفلسفية المكشوفة والرموز العالمية المشهورة، ليقربوا شُقَّة الخلاف بينها وبين الإسلام، بل ويعلنوا بلا تردد أن الإسلام - في شموخه وعليائه وعظمة مصادره - متماشٍ تماماً مع تلك التيارات التائهة، مع أن تلك التيارات - في كتبها ومقالاتها، وجميع مؤتمراتها وملتقياتها عبر تاريخها الطويل - قد حددت حقيقة موقفها من الكون والحياة والإنسان، بما يبرهن على بطلان ادعاء قرب ما بينها وبين أي دين، لأنها قد قامت في أصل فلسفتها على ضرورة إقصاء الدين عن الحياة وإزالة سلطانه عنها بالكُليّة، وتنشئة إنسان غير مكترث بتاتاً بأمر الإيمان بالله، ليتجه بكل طاقاته إلى أمرحياته الماديّة الصِّرفة، ولا سِرَّ يُفشى بهذا، لأن ظروف نشأة التيارات التي نتحدث عنها - بوضعها الماثل أمامنا - معروفة تاريخيّاً، من جهة نشأتها على خلفية صراع طويل مرير بين المتسلطين من رجالات الكنيسة وبين خصومهم في أوروبا، مما مهَّد هناك لظهور تيارات جعلت من أولويّات مهامّها إقصاء أي دين عن طريقها، فنشْأتُها - بلا ريب - نشأة مضطربة قلقة، وفي إثر صراع متهوِّر ولَّد رغبة متزايدة في انتهاج مسلك ردة الفعل ضد كل دين، وبخاصة بعد انتصار الثورة الفرنسية التي حاربت الدين بكل عنف. والبراهين الدالة على هذا أوسع من أن يحاط بها، سواء من واقع التاريخ الأوروبي أو الشواهد المقررة لذلك في أدبيات رموز هذه التيارات ومنظِّريها. ومع كل هذا ظل الترويج لهذه التيارات - داخل أمتنا - يُمارِس أسلوب التضليل في عرضها، وبطريقة لا يرتضيها حتى مُنظِّرو تلك التيارات الذين صدّروها، إذ أخذ المروِّجون لها على عواتقهم أن يعرضوها بصورة تخالف حقيقتها التي هي عليها. ومن هنا أُقْحِم الإسلام في أكثر من تيار وفد إلى الأمة من الشرق أو الغرب، لا بدعوى عدم التعارض بين ذاك التيار وبين الإسلام فحسب، بل بدعوى الالتقاء التام، فلذا روَّجوا لأسماء مُهجَّنة، كاسم: (اشتراكية الإسلام) و (ديمقراطية الإسلام) و (ليبرالية الإسلام) وأمثالها من الأسماء التي يصدق عليها قول الشاعر: أيها المُنكِح الثُّرَيَّا سُهَيلا عمرك الله كيف يلتقيان هي شاميَّة إذا ما استقلَّت وسهيل إذا استقلَّ يمان وقد تصدى لمهمة المزج المزوَّرة ثُلّة برزت مشاريعها المضلِّلة بقوة في القرن الماضي، وانتهجت سلوك مسارين متوازيين في هذا السبيل. الأول: يعتمد إخفاء جوانب خطيرة تجلي حقيقة هذه التيارات الوافدة، ولذا عرضوها بأسلوب يراعي طمس ما يوضح أهم ما فيها، من أسسها الحقيقية المبنية على ما قرره أساتذة كل تيار، من الجانب المؤكِّد على إقصاء الدين عن الحياة، وربما المعلِن حربَه عليه. الثاني: العمل - بعد ذلك - على تقريب أو دمج ما بين الإسلام وبين التيار المختار، من خلال التركيز على مصطلحات عامة، كالحرية والإخاء والعدالة والمساواة، والدفعُ بأن هذه الأمور مشتركة بين دين الله وبين التيار المروَّج له، رغم التفاوت الهائل بين الوجهة الشرعية حيال هذه المصطلحات وبين ما تقرره بشأنها جميع التيارات التي رفعتها بلا استثناء.

والمقال يتضح بالمثال: فالاشتراكية حين طبَّقَتْ أفكارها البائدة عدد من البلدان، ورفعت شعاراتها الرنّانة، وظهر لها ألوف الدعاة في العالم قابَلَ هذه الأفكارَ الضالة عددٌ من المروِّجين لها داخل بلداننا يزعمون أنها متماشية مع الإسلام، وتداولوا في حينه عبارة: (الإسلام نظام اشتراكي)، ووصموا رموزاً كباراً من سلف الأمة بالاشتراكيين، كما هو الحال مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث جعله أنصار هذا التيار (الخليفة الاشتراكي). ومِثْلُ ذلك الديمقراطية، فإن عدداً روَّج لها - ولا يزال - بنفس الأسلوب، فكتبوا عن ديمقراطية الإسلام، وسمَّوا عدداً من أحكام الشرع الشريف باسم النظم الديمقراطية، حتى مزج بعضهم بين الشورى والديمقراطية تحت اسم (شوروقراطية)، ومرة أخرى لم يسلم عمر رضي الله عنها من إقحامه في التيار الذي ارتضوه، فصار عندهم (الخليفة الديمقراطي). والذي لا ينقضي منه العجب أن بعض الذين روّجوا للاشتراكية قبل انهيارها بدعوى تآخيها مع الإسلام قد أعادوا الكَرَّة بالترويج للديمقراطية - خصم الاشتراكية - بدعوى تآخيها أيضاً مع الإسلام!! فليت شعري كيف الْتَقَى الإسلام مع الاشتراكية ومع الديمقراطية على حدٍّ سواء!؟ إن الداء هنا يكمن في وجود من يسايرون هذه التيارات، على حساب الإسلام، مُدّعين أن ذلك مما يجعل الإسلام ديناً مقبولاً في الأوساط العالمية، إذ لا مصادمة فيه لديهم لأي اتجاه! وبناء عليه فإن بروز أي مبدأ على أنقاض الديمقراطية - كما سيرى الناس يوماً ما - سيُقابَل بهذا اللون من التعامل، لأن الإشكال عائد إلى ترسُّخ منهج عقيم في خلط الحق بالباطل، وطمس معالم الحقيقة، سواء في دين الله، أو في تيارات التِّيه والضياع الوافدة. ولا يَغِيب عن القارئ الكريم أن هذا اللون من التعامل مع هذه التيارات إنما يحدث بكل مرارة داخل أمتنا فقط؛ لأن مُروِّجي تلك التيارات يستيقنون صعوبة، بل واستحالة المناداة العامة بهذه التيارات لدينا بالوجه الحقيقي الذي هي عليه في بلادها، ولذا سعوا إلى عمليات التهجين الفاشلة تلك، لا ليظهروا تلك التيارات في صورة التيار الذي لا يعارضه الإسلام؛ بل في صورة التيار الذي يشهد له الإسلام ويزكّيه. والأمر المؤكَّد أن التعرف الدقيق على حقيقة أي تيار قديم أو حديث له مسار محدَّد يعيه كل ذي منهج علمي في دراسة المذاهب والأديا ن، لأن كل تيار له - كما قدّمت - أساتذة ومُنظِّرون معتبرون، فهم المصادر التي عنهم صدرت هذه التيارات، كما أنهم المظاهر الذين بهم ظهرت، فالتعرف على حقيقة تلك التيارات إنما يكون من خلال ما سطره هؤلاء بأقلامهم وفاهوا به بألسنتهم، أما المستوردون المتلقُّون لها فهم مجرد تلامذة لأولئك، منهم يتعلمون، ولهم يتبعون، وعلى خُطاهم يسيرون، فهم كما قيل: نقَّطتموا لهمُ وهم خطُّوا على نُقَط لكم كمعلِّم الصبيان ومن هنا فإن الحقيقة الكبيرة التي يجب أن نستحضرها دائماً هي أن ما ينفيه أولئك التلامذة المُرِيدون - مما قد أثبته الأساتذة المنظِّرون - ما هو إلا نوع تدليس وتَعْمِية على الناس من قِبَلِ المريدين، كما فعلوها مع الاشتراكية عندما روّجوا لها بأسلوب مضلِّل، ولم يُجَلُّوها للجماهير المستغفَلة بوجهها الكالح الذي يوضح حقيقتها في بلادها التي وفدت منها، حيث الصراحة، بل الوقاحة في عرضها بأسلوب لا يمكن أن يقبله حتى أجهل المسلمين، لو صدق الناقلون في عرضها.

وما يُروَّج له اليوم في أوساط أمتنا عن الديمقراطية يصدق عليه ما ذكرنا عن التجربة الاشتراكية البائسة، فإن جوانب كثيرة من الديمقراطية لم تُوضَّح للأمة، لا من جهة حقيقتها ومفهومها الذي هي عليه بالفعل، ولا من جهة تداعياتها بعد التطبيق، تلك التداعيات التي أثمرت إشكالات كبيرة لم تزل المجتمعات التي انتشرت فيها تعاني آثارها، كما سترى في هذه المقالة موجزاً بعون الله، وبشهادة الشهود من أهلها. ولنعرض للديمقراطية من هذين الجانبين: (حقيقتها، وآثارها بعد التطبيق) بإنصاف ومصداقية، لنقف على واقع الديمقراطية البعيد عن الدعاية المضللة، وصيحات الحاجبين للحقيقة. فعن الجانب الأول المتعلق بحقيقة الديمقراطية يقال: الديمقراطية لما كانت تعني باختصارٍ (حُكْم الشعب) - سواء في وضعها البدائي عند اليونان أو في تطبيقاتها المعاصرة - صار الشعب عندهم هو مَصْدَر السلطات. بما فيها أهم وأكبر السلطات، وهي السلطة التشريعية، التي تعد في الإسلام خالص حق الله وحده لاشريك له، وبذلك أصبح الشعب في الوضع الديمقراطي المرجع الوحيد في التحليل والتحريم، فالمحَرَّم ما حرمه الشعب، والمباح ما أباحه، بقطع النظر عن وجود حكم شرعي مغاير بالكُلّيّة لاختيار الشعب في القرآن والسنة وإجماع الأمة عبر القرون. فكما أن من بدهيات المسلمين أن ماحرمه الله فهو الحرام المرفوض وما أباحه فهو المباح، فإن منطق الديمقراطية يقول: ما أباحه الشعب فهو المباح وإن حرمه الله، وما منعه الشعب فهو المرفوض، وإن أباحه الله! لما كانت الديمقراطية تعني هذا بكل وضوح سعى كثير من الخالطين لها بالإسلام إلى إخفاء هذا الجانب الخطير منها، وركزوا على جوانب يرون أنها مشرقة في الديمقراطية، مصحوبة بعرض أوضاع مغلوطة - ومرفوضة شرعاً- في ممارسات الأفراد أو الحكومات داخل أمّتنا اليوم، لتكون محل مقارنة بين مجتمعاتنا وبين المجتمعات الغربية، هكذا - بكل سهولة - تُصوَّر الأمور بهذا التصوير غير الأمين، وكأن الديمقراطية جملة من الأخلاقيات الجميلة البعيدة عن أي منحى عقدي ضال أُسِّست عليه، مع أن هذا خلاف الواقع تماماً، فإن المعرِّفين للديمقراطية المعاصرة في البلاد الغربية من أصحاب التوجّه الأيديولوجي - الذي يمثل الوجه الحقيقي للديمقراطية - يؤكدون أنها تنبثق من إطار ذهني مبني على افتراضات، منها الإحساس الدائم بالرغبة في التغيير. وهذا التغيير الذي ينبغي أن يكون عليه الديمقراطي لابد أن يشمل عندهم (القيم والمبادئ)! والسبب في هذه الوجهة المروِّعة لا يقل خطورة عنها، إذ صرّح أصحاب هذا التوجه أن السبب هو أن البِنَى الاجتماعية لا تُبنَى على قواعد ثابتة أصلاً حتى تستقر عليها المبادئ والقيم، ولذا فإن الأفراد عندما يقررون أن شيئاً ما هو الحق والعدل فهو الحق والعدل، وهذا يعني أن الحق والعدل الذي يشيع في المجتمع الديمقراطي في وقت ما يمكن بكل سهولة أن يتغير لاحقاً، إذ لا يوجد ما يقبل الثبات، بل الأمر خاضع للمتغيرات الاجتماعية المحيطة بالديمقراطي؛ وبناء عليه فإن المجتمع ذا المنظور العقدي الأخلاقي - كالمجتمع المسلم زمن النبوة - يستحيل عندهم وبلا أدنى تردد أن يُصنَّف ضمن المجتمعات الديمقراطية. وذلك عائد إلى أن الديمقراطية إنما تُبنَى على المنظور العلماني التعدُّدِيّ للمجتمع، كما أوضح (ميشيل نوفاك) في كتابه: (روح الديمقراطية) ومِثلُه (كرن شيلدز) الذي أكّد أن الديمقراطية نظام سياسي علماني، فالدين لا علاقة له بالديمقراطية.

ومن أخطر ما يترتب على هذا ما نبه عليه (داريوش شيغان) من أن الديمقراطية تتطلب «عَلْمَنة العقول والمؤسسات» أي أن تُبنَى على أساس علماني، وذلك يستلزم بكل تأكيد قيامَ المجتمع الديمقراطي بتكريس المفاهيم العلمانية لتتشرَّبَها العقول والأفكار، كما يستلزم صبغ المؤسسات الكبار في الدولة بالصبغة العلمانية. وهذا سبب تركيزهم على ما سمّوه (الروح الرياضية) بتقبل الرأي الآخر وعدم منعه، مهما كان بالغاً في الضلال، على حد قول (توماس جيفرسون): «لا يضيرني إن قال جاري: إن هناك عشرين إلهاً، أو لا إله» (انظر لما تقدم من تعريف الديمقراطية والنقول كتاب نقض الجذور الفكرية للديمقراطية ص20 - 24، 88). فتأمل تهميش الخلاف مع الملحد والوثني من جهة، وتأمل شدة ربط الديمقراطية بالعلمانية لدى المصدِّرين لها، لتعرف درجة الزيف الذي سلكه المدَّعون وجود تطابق بين الديمقراطية والإسلام، بدعوى الْتِقاء الإسلام مع الديمقراطية في كذا وكذا من المظاهر العامة التي دندن حولها أولئك المدَّعون، وكأن الإسلام يقررها على النحو الذي تقرره الديمقراطية، والتي أخفيت كثير من جوانبها الرابطة لها بالعلمانية كما نقلنا هنا. هذا من جهة توضيح حقيقة الديمقراطية بأسسها التي لا قوام لها إلا بها، كما يقرره أهلها. أما من جهة التطبيق - وهو الجانب الثاني - فلابد قبل تفصيله من التنبيه إلى أن دعاة الديمقراطية في مشرقنا الإسلامي يصوِّرون مَن نقدها في مظهر بغيض جداً، إذ يُصور على أنه يؤيد البطش والظلم، حتى صاركثيرون يخشون التعرض للديمقراطية بالنقد، لأنهم سيُحْسبون في عداد الداعمين لما يسمى بالدكتاتورية، وصارت التهمة بمجانبة المفاهيم الديمقراطية مقارِنة للتهمة بالتعدي والإجرام، وكأنما أضحت الديمقراطية وحياً منزلاً لا يتطرق إليه الخطأ! والحق أن عدداً من المناصرين المتطرفين للديمقراطية - وإن ادعوا سعة الأفق وتقبل الرأي المضاد - يجعلون الديمقراطية في المقام الذي يتعالى عن النقد، كما أوضح جانباً من ذلك صاحب بحث (النقد الغربي للفكرة الديمقراطية) الذي أبان أن هذا ليس هو مفهوم المفكرين الغربيين أنفسهم عن الديمقراطية، لأنهم يقررون أنها مجرد شكل من أشكال الحكم، لها سلبياتها وإيجابياتها، وأنها ليست النظام الأمثل في كل حالة، بل قرروا بصريح العبارة أنها قد لا تناسب مجتمعاً ما أو وقتاً ما - وإن كان واقع الساسة المتسلطين في الغرب منذ عهد نابليون إلى يومنا هذا هو الذي يكرّس أن الديمقراطية يجب نشرها، مهما ارتُكِب في سبيل ذلك من تجاوزات مدمرة- زد على هذا أن الناظر لنقد الديمقراطية عند اليونان حيث كان مهدها الأول يجد أن أكثر مشاهير فلاسفتهم ومفكريهم قد ذموا الديمقراطية منذ البداية، ونوهوا إلى السلبيات الكبيرة التي تتضمنها، بل اشتهر عن بعضهم شدة العداء لها، وتصنيفُها ضمن أنظمة الحكم الفاسدة التي لا تسعى أساساً لتحقيق المنفعة العامة. ولم يزل نقد الديمقراطية حاضراً وواقعاً حتى في تطبيقاتها المعاصرة، حيث وُوْجِهت بنقد مركَّز عاصف من قِبَل عدد من المفكرين الغربيين، ومن أهم ما ركزوا عليه في نقدهم ما خلَّفه تطبيقها من سلبيات شائكة، من أبرزها ما يأتي (والكلام لا يزال مستفاداً عن البحث الذي أشرت إليه):

1 - أن الديمقراطية رسَّخت حُكْمَ الأقلية - تحت اسم خيار الشعب - فخالف التطبيق على الأرض التنظير المقرر في الكتب، وذلك أن قلة من محترفي السياسة هي التي تضطلع بالمهمة في واقع الأمر، والشعبُ - الذي ادعوا أنه يحكم - بعيدا عن سُدَّة الحكم، وإنما مهمته التوجه لصناديق الاقتراع مرة كل عدد من السنين، ليضفي ما يسمونه الشرعية على حكم هذه الأقلية، ومن هنا ركَّز ناقدو الديمقراطية في الغرب على حقيقة بالغة الغرابة، هي أن الديمقراطية أشبه ما تكون بالشيء الخيالي، والأمر الموهوم البعيد عن الواقع، وعليه فلا تعجب إذا علمت أن نسبة كبيرة تبلغ ثلث المحرِّرين الغربيين لا يقبلون الديمقراطية أصلاً، فضلاً عن الترويج لها في كتاباتهم! لأن الديمقراطية إنما استمدت قوتها من تلك المفردات التي جذبت إليها كثيراً من الأنصار، كمفردة الكرامة الإنسانية وضمان الحقوق ونحوهما، لكن الواقع التطبيقي قد أثبت انتهاكات شديدة لهذه المفردات على يد الديمقراطية نفسها، كما سترى في الفقرتين الآتيتين إن شاء الله. 2 - من أهم ما وُجِّه للديمقراطية من النقد ذلك الواقع الفاسد الذي خلَّفته، من جهة أن كل شيء في ظل الحكم الديمقراطي أصبح ممكن الشراء، سواء المناصب السياسية أو القرارات السياسية، أو الدعم الخارجي لِقُوى يكون دعمها على حساب الجبهة الداخلية، بل وصل الأمر إلى إثارة حروب طاحنة لا هدف لها، إلا مجرد التسويق لمنتجات شركات الأسلحة، ومثله التغاضي عن النشاطات المدمِّرة للبيئة من قِبَل شركات الطاقة، ونقل صاحب البحث نموذج ذلك عن (جريج بالاست) صاحب كتاب (أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها)، حيث أوضح أنه رغم حظر القانون الأمريكي على الشركات دفع أموال لمساندة الحملات الانتخابية، إلا أن الواقع كان بخلاف هذا تماماً، حيث دعمت شركات الطاقة حملة الرئيس الأمريكي السابق، مقابل ألا تتعقب حكومته أنشطتها المدمرة للبيئة، لأن هذه الشركات تستخدم - حسب تعبير صاحب الكتاب - «أقذر وقود» مما أدى إلى نشر الأمراض وقتل الأطفال في المناطق المحيطة بتلك الشركات، أو بمناطق دفن نفاياتها الكيمائية الخطيرة، وذلك نموذج واحد من بين نماذج كثيرة تدل على حقيقة انتهاك الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية في المعقل الأكبر للديمقراطية! 3 - وجود آثار مدمرة لتطبيق الديمقراطية تتعلق بالجوانب الاقتصادية التي عليها مدار اهتمام أولئك القوم، وقد أعطى (جريج بالاست) إحصائية مَهُولة من خلال التركيز على النمو في أمريكا بين عامي 1983 - 1997م ففي هذه الحقبة الزمنية الطويلة اتضح أن (85.5%) من نسبة النمو قد استولى عليها أغنى الأمريكيين، ويُمثِّلون نسبة (1%) فقط، ورغم ارتفاع الدخل ذلك الوقت إلا أن (80%) من العائلات الأمريكية لم تتلق منه شيئاً، بينما ربحت (طبقة الواحد في المائة) (2.9 ترليون) من أصل (3.5 ترليون) دولار، فاتضح بذلك أخي القارئ حقيقة نكبة الشعب بالديمقراطية التي سموها حكم الشعب، واتضح معنى كون الديمقراطية تُرسِّخ حكم الأقلية وتُغلِّب مصالحها على حساب الشعب المستغفل الذي أوهموه بأنه يحكم، وقد خلص صاحب بحث (النقد الغربي) إلى نتيجة كبيرة الأهمية، وهي أن الواقع الغربي قد لفظ الديمقراطية، بسبب المشكلات الشائكة التي ترتبت على تطبيقها، فإن الديمقراطية قد وُجدت في الواقع الغربي لظروف تاريخية معيَّنة، ثم صار واقع الغرب المعاصر يتنكر لها الآن بعد اختلاف هذا الواقع في طبيعته وخصائصه عن ذلك الواقع الذي أفرزها.

والبحث رغم قلة أوراقه قد مُلِئ بعدة مقولات للمفكرين الغربيين الناقدين للديمقراطية، مصحوباً بوقائع وإحصائيات ذات مدلول مخيف، يدعو بعضها إلى الذهول، بل إلى الاشمئزاز. فهذا جانب من حقيقة الديمقراطية في الغرب، من الناحية التنظيرية ومن الناحية الواقعية يثبت للمنصف أنها في سبيلها إلى أن تبلى وتضمحل هناك، ولاسيما مع تنامي الهزات الاقتصادية الشديدة بين الحين والآخر، ولهذا طرح خصوم الديمقراطية في الغرب سؤالاً محرجاً لأنصارها، وهو أن الشعب - في ظل فشل الديمقراطية - لو قرر بأكثريته أن يتخلى عن الديمقراطية، فهل سيُطبَّق خيار الشعب الذي تدعي الديمقراطية أن الحكم راجع إليه، أم ستنقلب الديمقراطية على الشعب وتلزم الأكثرية بالخيار الذي لا يريد؟ وعلى كلا التقديرين فالديمقراطية بين أمرين أحلاهما مُرٌّ، ومع كل هذه الوقائع المزلزلة في الغرب فالمبشرون بالديمقراطية في المشرق الإسلامي لا يزالون إلى اليوم يهتفون بها، كأنما عثروا على كنز لم يُسبَقُوا إليه، بما سيورطون به الأمة في البدء من حيث فشل الآخرون، وتلك حالة مزرية لهم تكررت مع أفكار ونظريات سقطت في معاقلها، لكنهم أبوا إلا مناصرتها في مشرقنا، وإن دخلت في بلدانها ضمن خبر (كان). ولا تعجب أخي القارئ من مصادمة هؤلاء للحقيقة، فإن المكابرة وصلت بصاحب كتاب (التراث والتجديد ص69) حدّاً زعم فيه أن العلمانية البغيضة هي أساس الوحي، وأن الوحي علماني في جوهره! فإذا ادعى أن وحي الله العظيم ليس إلا علمانياً في جوهره فماذا أبقى من منابذة الحقيقة ومجانبتها؟ وقد علم من له اهتمام ولو محدود بالعلمانية أنها - كما ينص معجم أكسفورد - عقيدة قائمة على استبعاد أي اعتبار مستمد من الإيمان بالإله أو الحياة الآخرة، كما أنها تقرر أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية. ومع ذلك يصل الاستخفاف بعقول الناس حدّاً يدعي فيه صاحب التجديد المصطنع أن العلمانية العازلة للدين عن الحياة هي أساس هذا الوحي، الذي نزل لجعل الحياة كلها قائمة على أحكام الشرع بإجماع المسلمين وهذا الاستخفاف بالحقائق لا يرفضه من له أدنى غيرة على الإسلام فحسب، بل يرفضه حتى العلماني الذي يؤمن بمبدئه هذا، مما يؤكد على شدة استغفال عدد من الكُتَّاب لقرائهم وبلوغهم في الاستخفاف بهم مبلغاً عاملوهم معه معاملة لا تليق بالإنسان، من حيث هو إنسان. واللهُ يعلم أن هذا الخلط الفوضوي للإسلام بتيارات التيه الوافدة لا يمكن أن يخفى على ذي وعي بشموخ هذا الدين وعظمته، وأن من المحال الذي لا يقبل الرفع أن تُخلط فوضى التائهين الشرقيين أو الغربيين بدين الله ذي المصادر المضبوطة والنصوص المحفوظة، سواء تَسمَّت هذه التيارات باسم الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية أو أي اسم في الطريق لم يصل بعد، وسواء تبنَّى هذا الخلط أفراد أو مجموعات تتحايل على شباب الأمة وشاباتها لإقناعهم بقبول الزيف في ثوب إسلامي، فإن دين الله أرفع وأسمى مما يظنون، وقد قيَّض الله لهم على الدوام من يكشف زيفهم، حفظاً لدين ارتضاه تعالى لبني الإنسان أجمعين، ولئن وُجِد في ديانات أخرى خلط وتسيُّب وصل إلى حد وجود (قس ملحد) يمارس عمله الوعظي في الكنيسة الهولندية! فإن دين الإسلام أعصى على المتسيبين مما يظنون، ولا يلين لهم: (حتى يلين لضِرْس الماضِغ الحَجَر)، إذ كيف يُخلَط دين ينص كتابه العظيم على جعل المحيا بل والممات لله رب العالمين بتيارات تقرر في أول ما تقرر وجوب عزل هذا الدين بالكُليَّة عن الحياة!

وكيف يُخلط أسمى مبدأ أكرم الله به الإنسان، فعرف به ربه، وعرف من خلاله الهدف السامي الذي لأجله خلقه الله، كيف يخلط بأشد التيارات تسبّباً في تيه البشرية عن ربها وغياب الهدف من خَلْقها عن واقعها! ويكفيك أن تستحضر حقيقة أن أساتذة هذه التيارات قد خرجوا من الدنيا ولم يعلموا أعظم حقيقة فيها، وهي الهدف الذي لأجله خُلِقوا، ولأجله أقام الله سماواته وأرضه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ذلك الهدف الذي لم يلتبس يوماً ما على صبيان المسلمين وعجائزهم، فضلاً عن علمائهم بحمد الله. أفلا يخجل العابثون بالحقائق من سماجة عبثهم، حينما يخلطون دين الله بتيارات الضياع والتِّيه هذه؟ ومن أسوأ ما في خلط الإسلام بالديمقراطية أن يظهر الإسلام بمظهر القاصر الذي لا يتم قصوره إلا بترقيعه من غيره، إذ من المؤكد أن الديمقراطية ذات منحى أجنبي عن الإسلام، لها تاريخها وبيئتها التي ظهرت فيها وتطبيقاتها القديمة والمعاصرة التي رسمها منظِّروها بعيداً عن الإسلام، فإذا خلطنا الإسلام بها فكأنما وجدنا فيه قصوراً احتجنا معه إلى سدِّه من الديمقراطية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يُظْهِر هذا الخلط الباطل الديمقراطيةَ بمظهر مضلِّل، حاصِلُه أنها الحلم المنشود الذي إذا لجأت إليه المجتمعات الإسلامية حُلَّت مشاكلها واستقامت أحوالها، مع أن الديمقراطية تعاني كما رأيت إشكالات كثيرة خلَّفتها في المجتمعات التي طبقتها، لكن تجاهل الحقيقة عند أنصار الديمقراطية حملهم على إظهارها بمظهر مضلل، يعتمد الانتقائية في عرضها لهذه الأمة التي كمَّل الله تعالى بنفسه لها دينها، فلم ولن يبقى بعد إكمال الحكيم الخبير مجال لوجود نقص تحتاج معه الأمة إلى تكميل. وأعجب لمن يزايد في دعايته للديمقراطية عندنا بمواقف تقع في البلاد الغربية لعدد من الساسة مع شعوبهم، يدلل بها على مدى رعايتهم لهم وشدة حدبهم عليهم، وكأنه لا يجد ما هو أنبل وأشرف في تاريخ أمته من مواقف لم يكن يراد بها إلا وجه الله، لا الدعاية الانتخابية التي أخذت بألباب الساسة في الغرب، فاصطنعوا مواقف وأقوالاً جذابة، رغبة في جني ثمارها عند أول سباق انتخابي قادم. ألا يجد أبناؤنا المروِّجون للديمقراطية في سِيَر خلفاء الأمة الراشدين مواقف شامخة، تقصر دونها بمراحل مواقف من يزايدون بعرض مواقفهم؟

ألا يجدون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد - لا الديمقراطي - كان يقول لرعيته: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي، ليرفعها إلي حتى أقصّه منه)، وطبق ذلك على أحد ولاته حين ضرب رجلا مائة سوط ظلماً، فقال للذي ضُرِب: قم فاقتص منه، حتى اضطُرّ الوالي إلى أن يصطلح مع الرجل على أن يفتدي منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين، ولما قدمت رفقة من التجار ليلا فنزلوا المسجد قال - وهو أعظم حاكم في الأرض إذ ذاك - لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم، فسمع عمر تلك الليلة بكاء صبي فتوجه لأمه، وقال: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم تكرر هذا منه أكثر من مرة، فلما كان في المرة الأخيرة قالت له: قد أبرمتني منذ الليلة، إني أريغه عن الفطام فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفُطُم، فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، ثم أمر مناديا: «لا تُعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام» وكتب بذلك - لأجل هذا الموقف - إلى الآفاق، فصار العطاء في بيت المال لكل من وُلِد، بعد أن كان لمن تم فطامه، ولما تقرقر بطنه عام الرمادة - حين وقعت المجاعة وكان قد اقتصر على الزيت، دون السَّمن - قال قولته المشهورة: «تَقَرْقَرْ تقرقُرَكَ، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيى الناس». ولئن روَّج أنصار الديمقراطية لها، بدعوى أنها شديدة المحاسبة للمسؤولين في الغرب، من جهة أن كل مسؤول لا يستطيع أن يمتلك أكثر مما في رصيده قبل تعيينه، فليعلموا - رغم مافي هذه الدعوى من إشكال تبين بما تقدم - ليعلموا أن عمر رضي الله عنه قد سبقهم إلى هذا النوع من المحاسبة فكان إذا استعمل والياً كتب ماله، بل إنه أمر بعض ولاته فكتبوا أموالهم فشاطرهم أموالهم، فأخذ منهم نصفاً لبيت المال وأعطاهم نصفا، وبلغت به الأمور حدّاً رعى فيه حق الحيوان - فضلا عن الإنسان - حتى إنه كان مرة في سفر فعدل بمن معه إلى راعي غنم ليقول له: «إني قد مررت بمكان هو أخصب من مكانك، وإن كل راع مسؤول عن رعيته» وقال - وهو في المدينة كما هو معلوم -: «لو مات جَمَلٌ ضَياعاً على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه». (انظر لهذه الأخبار: طبقات ابن سعد 3 /،281، 286، 292، 294، 301، 305، 307، 313). وبعد الخلفاء من الصحابة ألا يجدون في سيرة عمر بن عبد العزيز أن والياً كتب إليه: إنه رُفع لي رجل يسبك فهممت أن أضرب عنقه! فكتب إليه عمر: لو قتلته لأقدْتُك به، إنه لا يُقتل أحد بسَبّ أحد إلا من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، فاسبُبْه إن شئت أو خل سبيله. ولما كتب إليه وال آخر: إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية كتب إليه عمر: إن الله قد بعث محمداً داعيا، ولم يبعثه جابيا، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطْوِ كتابك وأَقْبِل. ولما دخل المسجد ليلاً عثر في رجل نائم فقال الرجل بجرأة وغضب: أمجنون أنت!؟ فقال الخليفة الحليم الوقور بكل سهولة: (لا)، فهمَّ الجندي بالرجل ليعاقبه، فزجره عمر قائلاً: مَهْ، إنما سألني أمجنون أنت فقلت: لا. (انظر أيضاً طبقات ابن سعد 5/ 369، 384، 402). والأمثلة بحمد الله في تاريخ الأمة لا تحصى، تجدها في كل وقت يُطبَّق فيه شرع الله، كما ينبغي أن يطبق، بما تبين به لكل ذي إنصاف أن مجرد مقارنة الإسلام بغيره مما يصدق عليه قول الأول: إذا أنت فضلت امرأً ذا براعة على ناقص كان المديح من النقص

أفلا يجد المروجون لمواقف ساسة الغرب الديمقراطي في تاريخ أمتهم شيئاً من مواقف النُّبْل المشرفة التي لم يُرِد بها مَن وقفها أيَّ دعاية انتخابية؟ والديمقراطية كغيرها من التيارات الأرضية لما كانت تعاني إشكالات مزمنة حار أطباؤها في علاجها، حتى تبرع بعض أنصارها - في المشرق الإسلامي - بحل نادر لها، وفق التصوير الآتي: علاج مشاكل الديمقراطية هو بالمزيد من الديمقراطية! فأضحى العلاج كعلاج صاحب الخمر الذي نُصِح بتركه، فأجاب بقوله: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء ولا يُعهَد في عرف العقلاء أن المشاكل تُحل بمزيد من المشاكل إلا وفق هذا المفهوم الأعوج الذي يُمثِّل حقيقة التيه التي تعانيها هذه التيارات الأرضية. ومعلوم أن تطبيق أي مبدأ أو نظام كفيل ببيان حسنه من سوئه، والمعاناة التي يُغض الطرف عنها من آثار تطبيق الديمقراطية هي من أوضح الأدلة على بيان ما فيها من عوار آخذٍ في الازدياد بمضي الوقت، إلى أن يصل أنصارها يوماً ما إلى ما وصل إليه أنصار الاشتراكية الذين أقسموا جهد أيمانهم أن تيارهم سيعُمُّ الأرض كلها، وستجد البشرية فيه ما يحقق العدالة المطلقة التي تنشدها. أما دين الإسلام فإن تطبيقه السليم قد أخضع المنصفين حتى من خصومه إلى الإقرار بأنه يمثل الرحمة الحقيقية التي جعلها الله لهذه البشرية، ولذا لم تزدد هذه الأمة بتطبيقه إلا عزة ومنعة، إلى أن دخلت الدواخل والرواسب على الأمة ورضي فئام من أبنائها باستبدال الذي هو أدنى - من تيارات الانحراف - بالذي هو خير، فتراكمت في الأمة مشاكل يجزم من كان له عقل يعي به الأمور أن مِن المحال أن ترتفع هذه المشاكل بغير الإسلام. وهنا تتضح المعادلة على حقيقتها بين الإسلام وبين الديمقراطية، فالإسلام إذا طُبِّق حُلَّت مشاكل الأمة، والديمقراطية إذا طبقت أفرز تطبيقها مشاكل تُحل بمثلها! - وفق مفهوم بعض أنصارها - فمن يستطيع من المنصفين أن يقارن حالاً كهذا بحال الإسلام حين يطبق؟ ولئن كانت الديمقراطية في المجتمعات الغربية حلماً منشوداً عقدوا عليه الآمال مدداً من حياتهم فما ذاك إلا لعدم وجود الإسلام بينهم، فلا غرابة أن يتنقلوا بين التيارات على مدى قرون متطاولة يترنحون بينها، فِعْل التائهين، أما من أكرمه الله بدين الإسلام فكيف يتطلع إلى تيارات التيه هذه، وكأنه لم يعرف تاريخ هذه الأمم التي أضحت هذه التيارات فيها بمثابة المَوْضات التي يتنقل بينها متابعوها، فتزدهر منها موضة في وقت، ثم تعود بالية قديمة، لوجود موضة أجَدّ منها في نظر من استحسنها. ولئن كان التنقل بين هذه التيارات يستغرق فترات أطول من التنقل بين الموضات فما ذاك إلا لمد الآمال في كل تيار، رجاء أن ينجح، ولإعطائه مزيداً من الوقت، ليتمكن من تحقيق الأحلام المنشودة، وإن أردت البرهان على هذا فتأمل في كتابات لمع نجمها في القرن الماضي حول تيارات وأفكار اضمحلت لاحقاً، وقارِنْها بكتابات اليوم، لتجد مصداق هذا الكلام، بل إن من كُتِب له عمر بعد عدد من السنين لو طالع ما سيُكتب في وقته وقارنَه بما يُكتب اليوم لوجد أن المحصلة النهائية لهذه التيارات - مهما تباينت - واحدة ترتفع أسهمها في وقت ثم تظل تنحدر إلى أن تعلن الإفلاس، وتلك طبيعة هذه المبادئ الأرضية المبتورة عن النور الرباني الذي سماه الله تعالى مِنّةً في قوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وبعث به نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فلماذا العدول عن مِنَّة الله ورحمته إلى نقمة تيارات التيه، وإلى متى لا نعتبر بقوم من بني جلدتنا أضاعوا شبيبتهم في الدعاية الفارغة لتيارات اجتلبوها من الشرق أو الغرب، وجاؤوا كالمبشرين بها، ثم لم يجنوا منها إلا الفشل الذي عم بلادهم والنكد الذي ختموا بها حياتهم - بعد أن انحنت في سبيلها ظهورهم واشتعلت شيباً لأجلها رؤوسهم - عائذاً بالله من سوء الختام. إذاً فخلْط ما بين الإسلام والديمقراطية ضرب من ضروب التضليل الذي يصدق عليه أنه كذب عليهما معاً، فليست حقيقة الديمقراطية بتلك التي تُصوَّر في أمتنا - مبتورة عن المنحى العقدي الضال الذي قامت عليه - ولا هي بالحل الحقيقي لبني الإنسان، كما يدّعيه أنصارها عندنا، مما لم يدَّعه للديمقراطية أهل الإنصاف في مواطنها التي جُلبت منها، كما أن الإسلام في عظمته وجلالة من كَمَّله تعالى ليس بالوضاعة التي يُجرّ من خلالها جرّاً ليتماشى مع تيار تائه سيرى الناس يوماً سقوطه كما سقط ما قبله. وإذا سقطت الديمقراطية فستتبين عند ذلك فظاعة الجناية التي ارتكبها من خلطوا الإسلام بالديمقراطية، حين عرَّضوا هذا الدين لأن يُنسب للفشل - وحاشاه - لاقترانه بتيار لفَظَه الناس بعد أن تبدَّى لهم أن آمالهم فيه كانت {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39]. وهذا بعينه ما عرَّض الإسلامَ له من خلطوه بالاشتراكية الفاشلة التي هَوَت في سلة مهملات التاريخ بعد أن لفظها الناس. وما تنبيه أهل العلم الشرعي على خطورة هذا الخلط بين الإسلام وتيارات التيه قبل سقوطها إلا إبانة للحقيقة من جهة، واستباق لكارثة وصم الإسلام بفشلٍ لم يتسبب فيه من جهة أخرى.

إذاً فليُحْسب فشل الديمقراطية الحاضر والقادم عليها هي، وليسلم دين الله من الصدِّ عنه، لسبب لا تعلق له به، وليرتقب ناصرو الديمقراطية سقوطاً قريباً لها، بعد أن صَمّوا آذانهم وأغمضوا أبصارهم عن وقائع فشلها الكثيرة، ومنها هذه الوقائع الراهنة في السياسات الظالمة خلال السنوات العشر الماضية، التي أزهق الغرب فيها من الأرواح، وأحل بها من الخسائر المادية ما لم يَخْفَ على أحد، كل ذلك بحجة فرض هذه الديمقراطية بالقوة على شعوب المنطقة. ولا عجب فقد أغمض مناصرو الديمقراطية أبصارهم من قبل عن المفاسد الخلقية المنتنة التي أوجدتها الديمقراطية في كل مجتمع حلت به، باسم الحرية الشخصية، فغدت أرقام الفواحش في تلك المجتمعات وصمة عار توضح لك معنى قلب الحقائق عند الحديث عن (حقوق الإنسان) حيث جُعِلَ هذا الإنسان - الذي كرمه الله - بمثابة السلعة الترويجية، تُنشَر الدعاية المخزية المتعلقة به كما تنشر لأي سلعة أخرى، وكان المتضرر الأكبر من ذلك هذه المرأة المسكينة التي بلغت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم أن قال فيها: (اللهم إني أُحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم) (رواه أحمد 3/ 439) فقرنها باليتيم في الضعف، وحرج على من ظلمها حقها. فتأمل كيف جاوز الظالمون المدى في ظلمها والعبث بها باسم مناصرة حقوقها، حتى أزالوا من قاموسها في بلدانهم اسم (العِرْض الشريف) وسط ضحكاتهم الساخرة وغمزاتهم الفاجرة، فصار الوصول إليها سهل المنال، إلى الحد الذي أضحت المرأة فيه فقرة حاضرة ضمن كل تسلية وترفيه عابث منحط، وما هذه المسابقات المأساوية الظالمة، المسماة بمسابقات ملكات الجمال إلا شاهد سنوي مؤكد على مدى النظرة المتدنية للمرأة التي باتت تُعرض على ناظر الرجال كما تعرض الدواب من الخيول وغيرها لينظر في جمالها، تماماً كما ينظر إلى السلع الأخرى في مزادات السيارات عند خروج مايُعبر عنه بالموديلات الجديدة كل عام فوا أسفاً على هذا الإنسان كيف استذلته الديمقراطية!، والله لكأن المرأة غير داخلة ضمن حدود التكريم الذي شرف الله به الإنسان ورفع من قدره، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا! وهكذا أوصلت الديمقراطية شقائق الرجال إلى حال مزرية بعد أن تنوَّعت وجوه الانتهاك الوقح لشرفها، وكأن حق (عِرْض) كريم شريف للمرأة يدعو إلى إكبارها وتقديرها من قبل الرجل، بل ويرفع من مستوى العلاقة الإنسانية بينه وبينها، كأنه ليس من الحقوق التي يجب أن تكون من أبجديات هذه العلاقة! وهذه المسألة بعينها تبرز جانبا من الصورة المضللة حين يُخلط الإسلام بالديمقراطية، ففي الوقت الذي يُنتهك فيه (العِرض) البشري في ظلال الديمقراطية، وباسم حقوق الإنسان وحريته، يجعل الشرع الشريف حماية هذا العرض ضرورة عظمى من الضرورات الخمس التي إذا اختلت اختل البناء بأسره، ويجعل عقوبة العابثين بالأعراض أشد العقوبات، ثم يريد مزوِّرو الحقيقة أن يصدقهم الناس حين يخلطوا ديمقراطيتهم العابثة بدين الإسلام - الحامي الأكبر للعرض البشري - كما أرادوا أن يصدقهم الناس بدعواهم تطابق ما بين الإسلام وبين الديمقراطية في مفهوم (الحرية) وهم يرون أن ما يسمَّى بالحرية في الغرب بلغ من التسيُّب حدّاً سُمِح فيه لعُبَّاد الشيطان أن يمارسوا طقوس عبادتهم الهمجية المنحطة بلا نكير، لأن التعددية والأفق الديمقراطي لا يضيق عن السماح بممارسة هذا اللون من العبادة، ولو كانت للشيطان عدو الإنسان الأول، وبعد ذلك كله يقول المزوّرون: إن الإسلام كالديمقراطية قد جاءا بالحرية وبحقوق المرأة، فوجوه الألفة بينهما قوية! ويلوون كعادتهم نصوص الشرع الشريف لتثبيت أكذوبتهم المكشوفة.

وبكل حال فإن الإسلام - بحمد من أكمله - ليس شيئاً ضبابيّاً غامضا كالليبرالية مثلا الموصومة في الغرب دوماً بالغموض وعدم الوضوح، حتى قررت الموسوعة الشاملة أنها مصطلح غامض، لأن معناها يتبدل بمرور السنين! وقررت الموسوعة البريطانية أن من النادر أن توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض، ولهذا انهارت بعض حركاتها لهذا الغموض المطبق (انظر حقيقة الليبرالية ص16) فأما دين الله فلم يكن قط خفيا غامضا، حتى يُنقِّله المتهوِّرون تبعاً لأهوائهم، بل هو جلي المنهج واضح المعالم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) (رواه أحمد 4/ 126)، فمن هَوِيَ تيارات التِّيه من ديمقراطية أو ليبرالية أو اشتراكية أو غيرها فليكن واضحاً، ولا يُجيِّر هواه على دين الله، لينشُره في الناس من خلال مَسْحة شرعية يضلل بها الناس، فإن هذا المسلك المغلوط هو عين ما سلكه الخوارج الغلاة، ولكن في اتجاه معاكس لاتِّجاه هؤلاء، حيث جعل الخوارج تشددهم وتهورهم وظلمهم منسوباً إلى دين الله، وهذا هو المفهوم الذي سعوا إلى نشره في الأمة، وأفهموه من سايرهم في باطلهم، ألا فقَاتَلَ الله الغلاة والجفاة معاً، ما أشد جنايتهم على أمة الإسلام!، ولِله ما أعدل وأصدق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصفت أهل التفريط والإفراط معا بوصف واحد، وهو وصف (شِرار الأمة)! إذ جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج الغلاة: (شرار أمتي) الحديث (رواه الآجري: 56)، كما قال في الجفاة من حاملي الأمة على طرائق الزائغين قبلها: (ليَحْمِلنَّ شرارُ هذه الأمة على سنن الذين خَلَوا من قبلهم) الحديث (رواه الآجري: 34). وما ذاك إلا لأن أهل الإفراط والتفريط جانبوا الوسطية الحقيقية التي جلّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته، فمن جاوز هذه الوسطية غلوا أو جفاء فلا وصف أدق من وصفه بما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي نهاية مقالي أدعو أهل العلم عموماً، والزملاء المختصين بدراسة العقيدة والمذاهب المعاصرة - ممن يتولون تدريسها في الجامعات الإسلامية - إلى مزيد من الكتابة العلمية الموثَّقة في هذه المسألة، وذلك من خلال مقارنة أوسع للقضايا المثارة بين الإسلام والديمقراطية، كالحرية، وعموم مسائل المرأة ونحوها من مواضع الممايزة والمباينة الكبيرة بين الإسلام والديمقراطية، مما تعمدت تجنب النقاش الموسع فيه خلال هذه المقالة، رغبة في عدم الإطالة، وعسى الله أن يجعل هذه المقالة متبوعة بمقالات علمية، تجلي للناس هذا الغبش الذي اشترك في إحداثه أكثر من طرف، حتى صار كثير من عوامّ المسلمين يتوهم أن الديمقراطية مصدر الأمل القادم الذي ستُستنقذ به بلادهم بعد أن أُوهموا أن دينهم العظيم لا يعارضها، إذاً فلنوضّح الحقيقة، لنُفهم فلذات أكبادنا من بنين وبنات أن كل أمر تُمدَح به الديمقراطية من جهة مروجيها يستحيل - إن كان محل مدح فعلاً - ألا يكون موجوداً في دين الله على أكمل وأتم ما يكون من الحسن والبهاء، ليعتز فلذات الأكباد بمصدر عزهم الوحيد، ويستغنوا به عما سواه من تيارات الشرق والغرب، وينأوا بأنفسهم عن إشكالات تلك التيارات المهلكة التي هي اليوم سرطان البشرية الأكبر. ومما يؤكد على أهل العلم ضرورة الكتابة المؤصلة في هذا الجانب الكبير مانجده من كتابات بعيدة عن المصداقية، عظيمة الزيف، فلا علاج لها إلا بالعلم المؤصل على وفق الشرع، ومن الله وحده نستمد التوفيق. مَسَّكَنا الله بما تركنا عليه رسوله صلى الله عليه وسلم من المحجّة البيضاء، وسلَّمنا من الغلو والجفاء إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه.

تلميذ يحكي أحوال شيخه

تلميذ يحكي أحوال شيخه القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية 11 صفر 1433هـ قال رحمه الله: علِم الله، ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو-مع ذلك- من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرِّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه (¬1). وقد شاهدت من قوته، وكلامه، وإقدامه، وكتابه أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً (¬2). ورأيته في المنام؛ وكأني ذكرت له شيئاً من أعمال القلب؛ وأخذت في تعظيمه ومنفعته، فقال: أما أنا، فطريقتي: الفرح بالله، والسرور به. أو نحو هذا من العبارة، وهكذا كانت حاله في الحياة، يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله (¬3). وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها، ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها (¬4). وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم. وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه. ونحو هذا من الكلام، فسُرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله، ورضي عنه (¬5) وكان يقول كثيراً: ما لي شيء ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء. وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت: أنا المكدِّي وابن المكدِّي وهكذا كان أبي وجدِّي وكان إذا أُثْني عليه في وجهه، يقول: والله! إني إلى الآن أُجدِّدُ إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً (¬6). وقال: العارف يسير إلى الله عز وجل بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس. وكان يتمثل كثيراً: عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ وكان يتمثل أيضاً: وأخرجُ من بين البيوتِ لعلني أُحدث عنك النفسَ في السر خاليا (¬7). وحدثني شيخنا، قال: ابتدأني مرض؛ فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض. فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك؛ أليست النفس إذا فرحت وسرت، قويت الطبيعة، فدفعت المرض؟ فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تُسَرُّ بالعلم، فتقوى به الطبيعة، فأجد راحة. فقال: هذا خارج عن علاجنا (¬8). وسمعت شيخنا رحمه الله يقول - وقد عرض له بعض الألم - فقال له الطبيب: أضر ما عليك الكلام في العلم، والفكر فيه، والتوجه، والذكر. فقال: ألستم تزعمون أن النفس إذا قويت وفرحت؛ أوجب فرحها لها قوة، تعين بها الطبيعة على دفع العارض؛ فإنه عدوها، فإذا قويت عليه قهرته؟ فقال له الطبيب: بلى. فقال: إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر، والكلام في العلم، وظفرت بما يشكل عليها منه، فرحت به وقويت، فأوجب ذلك دفع العارض هذا. أو نحوه من الكلام (¬9). ¬

(¬1) ((الوابل الصيب)) (ص: 48). (¬2) ((الوابل الصيب)) (ص: 76). (¬3) ((مدارج السالكين)) (2/ 176). (¬4) ((الوابل الصيب)) (ص: 48). (¬5) ((مدارج السالكين)) (2/ 345). (¬6) ((مدارج السالكين)) (1/ 524). (¬7) ((الرد الوافر)) (ص: 69). (¬8) ((روضة المحبين)) (ص: 70). (¬9) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 250).

وحضرتُه مرة، صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفتَ إلي، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء، سقطت قوتي. أو كلاماً قريباً من هذا (¬1). وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر (¬2). ولقد شاهدت من فراسته أموراً عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سِفراً ضخماً (¬3). وسمعته يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها، لا يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي، لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة (¬4). وكان يقول- في محبسه في القلعة-: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً، ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا (¬5). وكان يقول- في سجوده وهو محبوس-: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك ما شاء الله (¬6). وقال لي مرة: المحبوس: من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] (¬7). وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروعَ، ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين (¬8). وكان صغيراً عند بني المنجا، فبحث معهم، فادَّعوا شيئاً أنكره، فأحضروا النقل، فلما وقف عليه، ألقى المجلد من يده غيظاً، فقالوا له: ما أنت إلا جريء؛ ترمي المجلد من يدك، وهو كتاب علم؟! فقال سريعاً: أيما خير؛ أنا أو موسى؟ فقالوا: موسى. فقال: أيما خير؛ هذا الكتاب، أو ألواح الجوهر التي كان بها العشر كلمات؟ قالوا: الألواح. فقال: إن موسى لما غضب، ألقى الألواح من يده. أو كما قال (¬9). وكان إذا سئل عن مسألة حكمية، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قَدَر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته. وهذه فتاويه- رحمه الله- بين الناس، فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك. وكان خصومه يعيبونه بذلك؛ ويقولون: سأله السائل عن طريق مصر- مثلاً- فيذكر له معها: طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند! وأي حاجة بالسائل إلى ذلك؟! ولعمر الله! ليس ذلك بعيب، وإنما العيب الجهل والكبر. ورأيت شيخنا يتحرى في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها (¬10). وشهدته إذا أعيته المسائل، واستصعبت عليه؛ فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثة بالله، واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه، بأيتهن يبدأ. ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علماً وحالاً، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أعطي حظه من التوفيق. ومن حُرِمَه، فقد منع الطريق والرفيق (¬11). وكان إذا أشكلت عليه المسائل، يقول: يا معلم إبراهيم! علمني. ويكثر الاستعانة بذلك؛ اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه؛ حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته؛ وقد رآه يبكي؛ فقال: والله! ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منها، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما، وجدهما، اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء، فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم - صلوات الله عليه -) (¬12). قال ابن القيم -رحمه الله-: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وكان شيخنا- يعني شيخ الإسلام ابن تيمية- كثير الدعاء بذلك (¬13). تم اقتباسه وتهذيبه والتصرف فيه من كتاب: (سماعات ابن القيم من شيخ الإسلام ابن تيمية) لسهيل بن عبد الله السردي، نشر: دار النوادر، ط1، 1431هـ، (ص 343 - 373) ¬

(¬1) ((الوابل الصيب)) (ص: 63). (¬2) ((الوابل الصيب)) (ص: 63). (¬3) ((مدارج السالكين)) (2/ 489). (¬4) ((الوابل الصيب)) (ص: 48). (¬5) ((الوابل الصيب)) (ص: 48). (¬6) ((الوابل الصيب)) (ص: 48). (¬7) ((الوابل الصيب)) (ص: 48). (¬8) ((زاد المعاد)) (4/ 68 - 69). (¬9) ((الوافي بالوفيات)) (4/ 319). (¬10) ((إعلام الموقعين)) (4/ 159). (¬11) ((إعلام الموقعين)) (4/ 172). (¬12) ((إعلام الموقعين)) (4/ 257). (¬13) ((إعلام الموقعين)) (4/ 257).

سيادة القهر

سيادة القهر عايض الدوسري الأحد 9 محرم 1433هـ أطلقت إحدى الشخصيات العلمانية السعودية تغريدة على موقع (التوتير) قبل يومٍ تقريبًا قالت فيها: "أنا أرضى بالعدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى". أجده من المناسب جدًا أن أفتتح مقالي بهذه المقولة الجوهرية التي تختصر مساحات شاسعة وصفحات عديدة للتعبير عما يريده الليبرالي المستلب أو التنويري المقهور. أعتقد أنَّ سيادة الواقع، المحكوم بالقهر والغلبة والظلم واستلاب الحقوق، هو العامل الأساس في الضغط على عقول فئة من العقول الشابة الذكية والنابهة للبحث عن مخرجٍ سريع من هذا الواقع، وربما لأن النماذج والأمثلة الدينية المعاصرة التي يعرفونها لا تسمح باستنباط ملامح ذلك المخرج، لذا وجدوا أنَّ الحرية هي الحل الناجع والمثالي للخروج من واقع القهر والغلبة والأثرة. ولأنَّ هذا الحل هو الحل الوحيد -في نظرهم- فكان ولا بد من إلتزام لوازمه ومقتضياته وفق مبدأ "تحت أي مسمى". ولا بد أن يتنبه المصلحون وعلى رأسهم علماء الشريعة أنَّ القهر يولد قناعات جديدة، واعتقادات حادثة، وهذه الاعتقادات تجر بدورها التزامات أخرى، وهكذا يجد الإنسان نفسه مضطرًا للالتزام بها حتى لا يخسر المبدأ الذي قرره، ليجد نفسه في نهاية المطاف محاطًا بتصورات مخالفة لما كان عليه في أول الأمر. وهذا التأثر ليس وليدة العصر الحاضر، بل هو وليدة كل عصر يكون فيه الإنسان تحت ضغطٍ ما. ففي القرنين الهجريين الأول والثاني نجد أنَّ جملة من الأذكياء والعقلاء، الذين كانوا مدفوعين بحمى النضال عن الإسلام تجاه خصومه من أبناء المِلَل والنِحَل الأخرى، وجدوا أنفسهم مُلزمين بمجموعة مبادئ لا بد لهم من التزامها إن أرادوا المضي قُدمًا في نضالهم "العظيم". فمن أجل إبطال معتقدات الخصوم لا بد وأن يبطلوا مجموعة من الأمور منها على سبيل المثال: "قضية التقليد"، حيث قرروا أنه لا يُعرف بالتقليد الحق أو الباطل، ولأجل إلزام الخصوم بذلك التزموا بهذا المبدأ، فآل أمرهم -كما يقول الحافظ ابن حجر- إلى تكفير من قلد الرسول في معرفة الله تعالى، ولزمهم القول بعدم إيمان أكثر المسلمين. ومن أخطر العوامل الواقعية التي يمكن أن تُولد عقائد جديدة "العامل السياسي"، حتى قيل إن "مذهب القدرية" كان أشبه بالمعارضة السياسية التي تشكلت كحركة مضادة للدولة المستبدة. ومثله قد يُقال عن "مذهب الجبرية" أو "المرجئة" أنها أيضًا حركات جاءت نتيجة ضغط الواقع لكن في اتجاهٍ عكسي. الخلاصة هنا هي أن العقول الذكيَّة المضطربة -على وجه الخصوص- تريد أن تتحرر من قهر الواقع بما تراه مناسبًا و"تحت أي مسمى". وإذا أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، من باب "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، فسوف نجد أن التاريخ السياسي-الديني للمسيحية قد يُقارب ما حصل ويحصل بين المسلمين. فقد كانت "الكنيسة"، كممثلٍ رسمي وواجهة دينية للدين المسيحي، تخوض حرباً شرسةً مع الإلحاد والهرطقة التي أخذت في الانتشار في أرجاء أوروبا. لكن بسبب ممارسات خاطئة واعتقادات ضالة دخلت الكنيسة في عصر "الأزمات الداخلية" أي بين رجال الدين أنفسهم، وبشكل أدق بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!

لم يعد ممكنًا إنكار الخلل العقدي والمنهجي والسلوكي "للكنسية"، ليس من نظرة إسلامية بل من نظرة نقدية مسيحية داخلية، فبدأت تظهر حركات نقدية وتصحيحية تركز بشكل أساسي على الخلل السلوكي الذي كان يمارسه رجال الدين والباباوات. فكانت الاعتراضات تتركز على بيع وشراء ترقيات الكنيسة، ومناصبها، وغنى رجال الدين الفاحش، وإقطاعيات الكنيسة، وبقية المخازي السلوكية المادية والأخلاقية، فكان موقف الكنيسة واضحًا وهو الحرمان من حقوق الكنيسة لمن يتعرض لمخازيها بالنقد، ولم تكن "الكنيسة" راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد، ولمواجهة الخطر قام تحالف بين "الكنيسة" و"الملوك"، أي تحالف بين الإقطاعيين لمواجهة حركة التمرد والنقد الديني والشعبي. ونتيجة طبيعة لذلك زاد النقد، وظهرت حركات تصحيحية كثيرة أخرى، منها المؤمن ومنها المتشكك ومنها الحركات الإلحادية. وما إن ظهر "مارتن لوثر" حتى تلقت الكنيسة الضربة الكبرى على يده وعلى يد "جون كالفن"، وحدث أن تحالفت الحركة الإصلاحية مع بعض الملوك ضد الكنيسة، وأراد هؤلاء الملوك أن يستقل بسيادته عن سيادة الكنيسة وعن سلطة بقية الملوك، ووجد بعض الإصلاحيين الأمر أسهل حينما تحالفوا من الملكيات ضد المرجعية الدينية، فمثل لهم ملاذً آمن وفرصة عظيمة لضرب الأسس الفلسفية والدينية للنظام الإقطاعي، وهذا ما لم تدركه الملكيات آنذاك. لم يكن بكل تأكيد "مارتن لوثر" ملحدًا أو مهرطقًا أو متشككًا، بل كان مؤمنًا قسيسًا متشددًا إلى أبعد الحدود، ولذا لم يكن يتخيل أن حركته الإصلاحية فيما بعد ستكون إحدى الأسس التي سوف تشيد العلمانية الملحدة صرحها عليها. وهذا ينسحب أيضًا على مجموعة من الأذكياء، الذين يمكن أن يحسبوا على المؤمنين مثل: "رينيه ديكارت" و"ليبتز" و"إيمانويل كانط"، الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، فحاول الجمع بين منهج العقلانيين والكنسيين، وذلك من أجل الحفاظ على الإيمان بصورة وسطية تنويرية! لكن محاولتهم الصادقة والبريئة تلك كانت بكل جدارة الضربة الأخيرة للكنيسة، فجاءت ضربة التغيير من داخل الكنيسة لا من خارجها. هذا التاريخ الكنسي يُحاول البعض جره إلى البيئة الإسلامية، ومن خلال محاولة صناعة أو تبني "عمائم ليبرالية" تنشط بفعاليَّة من داخل أسوار الدين، ولذا ليس من المستغرب أن يقول الدكتور "جورج طرابيشي": "ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم"!، فهو يربط -بشكل له مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي وما يجب أن يُكرر في الدين الإسلامي. خصوصًا إذا عرفنا أن الدكتور "طرابيشي" دعاء بكل صراحة إلى علمنة الإسلام مثل المسيحية بواسطة إعادة قراءة التراث الإسلامي الديني من خلال عيون عَلمانية، أي من خلال "مذبحة التراث". فهؤلاء -كطرابيشي وأمثاله- يريدون بكل وضوح تطبيق المقولة المنسوبة "لجمال الدين الأفغاني" القائلة: "لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه"! وهذا قد لا ينطبق على كثير من الأخوة الفضلاء الذين يُسمون بالتنويريين، حيث إن دافعهم هو الغيرة على الدين والشغف بالحرية والعقل والحقوق، لكن تضخمت قضية "الحرية" بشكل كبير ومفزع، بسبب تضخم القهر واستلاب الحقوق، حتى التزموا جعل الشريعة أو "تطبيق الشريعة" محكومة بـ "صندوق الاقتراع" وفق مبدأ "سيادة الأمة". فما هو مبدأ "سيادة الأمة" المقدم على "سيادة الشريعة"؟

هل يُمكن القول إن المقصود بـ"سيادة الأمة"، الذي يحكم "سيادة الشريعة"، هو اختيار الأمة بكاملها، أي توافق كل أفرادها على شيءٍ ما؟ لا أظن عاقلاً يمكنه أن يزعم ذلك، فلا يُمكن بحال أن تتفق أمة من الأمة بكل أفرادها على أمرٍ ما حتى ولو كان من أعظم الأصول، وهذا أمرٌ بدهي. وإنني أزعم أنه لو طرح موضوع "الإيمان وجود الله" في "صندوق الاقتراع" في السعودية على وجه التحديد فلا أظن أن تكون النتيجة 100%. إذن، المقصود من "سيادة الأمة"، وهو "سيادة الأكثرية" أي اختيار الأكثرية، وأن تقوم السيادة على مبدأ اعتبار الأكثرية في تقرير الشرعية، فالشرعية ذاتية في "الناس الأكثر"، و"الشريعة" هي الممنوحة الشرعية بواسطة "الأمة" أو بالأصح -علميًا وواقعيًا- بواسطة الأكثرية. وهذا حكم تقريري بانعدام الشرعية الذاتية "للشريعة" أو "لحكم الله"، وانتقلت "الشرعية" أو "السيادة" لمجموعة من الناس يُسمون "الأكثرية". و"مبدأ الأكثرية" مبدأ سياسي يُشير إلى فوز مجموعة أو تكتل "مهما كان" بأكثر من نصف أصوات الناخبين، أو بتعبير آخر، "مبدأ الأكثرية" أو "السيادة" هي نفس "مبدأ الغلبة" لكن بواسطة الاقتراع. وهو مبدأ قديم عرفه اليونان وأشار إليه "أرسطو"، ونصَّ "جان جاك روسو" أنَّ "الأكثرية" ملزمة للآخرين. هذا المبدأ "الأكثرية" يقوم على إدعاء الحق في إعطاء صفة الحق والصواب لمبدأ العدد؛ لمجرد أنه عدد، فما يقره العدد الأكثر يصبح هو الحق والصواب والحقيقة، وهذا بلا شك مخالفة صريح للإسلام الذي لا يعتبر بمسألة العدد أو "الأكثرية" في مسألة تحديد الأمور القطعية أو تحديد ماهية الحق أو الصواب والحقيقة، فضلا عن تقرير قبول الشريعة أو رفضها. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. وإنه من الصعوبة -على الأقل بالنسبة إليَّ- فهم قول القائل الفاضل: "فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية. وإن اختارت شيئا آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به، لأنه لا خير في قيم ومبادئ لا تؤمن بها الشعوب ولا تتمثلها وتطبّقها إلا خوفا ونفاقا وتقيّة". ثم قوله بعد ذلك مباشرة: "لا يعني أن الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق كما يتصور البعض. بل المعيار من حيث المنطق المعرفي هو المرجعية التي يؤمن بها الإنسان سواء كانت دينية عقدية/ أو فلسفية وضعية، ومعرفة الحلال والحرام في الإسلام لا يكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة". حقيقة أجد صعوبة بالغة في رؤية التوافق بين التقريرين السابقين، ففي الأول "الأكثرية" هي من تعطي الشرعية لمنظومة القيم الإسلامية بل للشريعة نفسها، أي بكل وضوح "الأكثرية" هي معيار شرعية الأخلاق والقوانين والقيم. لكن في التقرير الثاني "الأكثرية" ليست هي معيار المبادئ والقيم والأخلاق! حقيقة احتاج إلى مساعدة لفهم كيفية التوافق بين هذين التقريرين.

فإذا كانت الأمة لها الحرية والحق في اختيار الشريعة [منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين] أو نبذها، فكيف لا يكون "الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق"؟! وهو نفسه المعيار في تحديد المرجعية نفسها، وهي مرجعية الأخلاق والقانون! وحينما يُقال: إن "معرفة الحلال والحرام في الإسلام لا تكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة". فما المقصود من هذا الكلام؟ نحن بين خيارين اثنين: الأول: أن يكون هذا الكلام مجرد محاولة تعريف القارئ أنَّ الحلال والحرام في الإسلام يكون من خلال الكتاب والسنة، وهذا في الحقيقة تعريف للمعروف لا فائدة منه. والثاني: أن يكون الكلام تقريرًا لكون الاستفتاء الشعبي ليس مصدرًا للحلال والحرام عند المسلمين أنفسهم، ومن ثمة فلا يجوز للأمة أن تختار منظومة القيم والمبادئ المخالفة للإسلام كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين. فإذا تقرر هذا فقد نُقض الكلام كله ومن أساسه! إنَّ القوانين إنما تصدر في أغراضها وغاياتها عن القيم والمبادئ الأخلاقية، فمحيط القانون جزء من محيط الأخلاق، أو كما أوضح "مونتيسكيو" في كتابه "روح القوانين" أن الشرائع في كل مجتمع وليدة عاداته وهي مصدره. فالقوانين تأتي لتنقل القيمة أو الخلق إلى حيز التنفيذ أو الاحترام أو الاعتبار. وعليه، فإن من شرَّعَ قانوناً يحرِّمُ أمراً ما، فمن المفترض أنه يفعل هذا لأنه رأى هذا الأمر قبيحاً يستحق الحظر والمنع. فمن هنا صار الذي يعلق التشريعات على نتائج التصويت قد أعطى الناسِ حقَّ التحريم والتحليل، وجعلهم هم المرجع في تعيين الحلال والحرام على مستوى الجماعة. إن مبدأ "سيادة الأمة" ليس مبدأ إسلاميًا من الأساس، بل هو من مبادئ الأنظمة الوضعية التي أعطت "الحاكمية العليا" "للأمة = الأكثرية"، وهذا ما يتصادم مع الإسلام. ولما لم تكن أوروبا المسيحية محكومة "بسيادة الشريعة"، فقد كانت محكومة "بسيادة الكنيسة" أو"سيادة الملكيات"، والجميع يدعي الحكم باسم "الحق الإلهي"، فما كان من الشعوب الأوروبية إلا أن استبدلت ذلك بسيادتها على نفسها، وأعطت نفسها صفة الحاكمية المطلقة، فهم الذين يُقررون ويشرعون القوانين، وهم معيار ما هو خُلقي وما هو غير خُلقي، فالشذوذ مثلاً كان غير شرعي لكن الشعب قرر أن يجعله مباحًا فكان مُباحًا، فصار الشعب هو الشريعة. هذا الواقع الأوروبي المبهر صار له ضحايا من المسلمين، وأصبحوا مرتهنين لمنظمة المفاهيم الغربية، وأصبحت قراءة المراجع الدينية تتم بعيون غربية، حتى يُخيل إليك وأنت تقرأ ما سرد بعضهم من الآيات للتدليل على "سيادة الأمة" وكأنك تقرأ كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق وهو يُقرر أنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي للحكم! قهر الواقع بالإضافة إلى الانبهار بالغرب والنموذج الغربي "أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب ... كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته، وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة"، كما يقول المفكر المسيحي المصري "رفيق حبيب".

إن أخشى ما أخشاه على هؤلاء الإخوة الفضلاء أن يكون الحق السياسي والإنساني دافعًا لهم، من حيث لا يشعر بعضهم، إلى تحطيم الشريعة، وتكرار ما حصل بشكل متكرر في تاريخنا الإسلامي بل والإنساني، وذلك من خلال لجوء الإنسان المقهور إلى تحطيم أقل العدوين خطرًا عليه، المرجعية الدينية لا السلطة السياسية. فهو لا يمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة السلطة السياسية، فيتوجه بسهامه إلى المرجعية الدينية بل للشريعة نفسها، تحت أسماء مختلفة مثل: السلفية، أهل السنة والجماعة، تطبيق الشريعة. ثم يجعل هدفه الأول، أو سمه التكتيكي، نقض وتفكيك المرجعية الشرعية التي تُعطي -كما يزعم- السلطة السياسية القاهرة الشرعية الإلهية، ففي هذه المرحلة، كما صرح البعض، يجب التوجه لتفكيك ونقد ونقض السلفية كإطار مرجعي شرعي، أما السلطة السياسية فلا يشملها الآن التفكيك، لأنه كما يُقال فكك الإطار وسوف تسقط الصورة حتمًا. لكن ماذا لو كانت النتيجة تحطيم الإطار ثم بقاء الصورة منحوتة على الجدار! إن العاقل يفهم لماذا أصبحت "سيادة الأمة" هي السلطة العليا في الغرب، فالغرب يفصل بين الدين والدولة، فلا بد حينئذ من إقرار سيادة الشعب، إذ أن الدولة ليست دينية ولا محكومة بشريعة الله. لكن الدولة المسلمة مهمتها حراسة الدين وحراسة الشريعة، لا تخيير الشعب أو الاستناد إلى اختياره في تقرير شرعية أو عدم شرعية الشريعة. في مبدأ "سيادة الأمة" تكون الأمة أو "الأكثرية" هي السلطة العليا التي لا تعرف سلطة أعلى منها، حتى الشريعة نفسها، فلو قررت الأكثرية إباحة المحرمات وتحريم الحلال، بل نبذ الشريعة جملة وتفصيلاً فلها الحق في ذلك، فهي السلطة العليا ولا يوجد أعلى منها. أو كما عبر أحد الفضلاء من أنصار مبدأ "سيادة الأمة" بكل وضوح أنه إذا "اختارت الأمة غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها". وفي الأنظمة السياسية الوضعية تكون الصفة الأصلية للسيادة هي سلطة وضع القوانين، أي التشريع، ولا يُمكن أن يُفرض عليها أي التزامات من قبل أي سلطة، ولذا لا يُمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة، والسيادة لا تقبل التجزئة، فالسلطة العليا واحدة، وهي أيضًا غير قابلة للتنازل، فلا يحق لصاحبها أن يتنازل عنها. وأظن أن بعض الذين يرون "سيادة الأمة" خلطوا بين السيادة كسلطة عليا لا شيء فوقها، وبين بعض مهام الأمة السياسية في الإسلام، فطردوا سلطة "سيادة الأمة" حتى جعلوها-دون مبالغة- نفس سلطة الله سبحانه وتعالى في التشريع. إن الأمة ليست حرة بمجموعها أو بإفرادها بل الجميع مقيد بأحكام الشريعة لا يسعه الخروج عنها فضلا أن يجعل الشريعة محلا للاقتراع. فالشريعة حاكمة على المسلم فردًا أو دولة لا يسع أحد منهم سن قانون يُخالفها فضلاً عن أن يطرحها بالكلية! قال الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] أي أن السلطة العليا والسيادة هي لحكم الله، وقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي المرجع السيادي لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل سبحانه فحكمه إلى الشعب أو "سيادة الأمة"، ولم يقل ردوه إلى "سيادة الأمة"، فضلاً أن يقول سبحانه وتعالى إذا "اختارت أمتكم غير كتابي وسنة نبيي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها". في الختام، هذه كلمة موجهة للعلماء وطلاب العلم للالتفات إلى أهمية هذه المواضيع وخطورة الواقع وما يفرزه على الشباب والنابهين، وهذا يحتم على العلماء وطلاب العلم أن يتصدر اهتمامهم هذا الموضوع دراسة وتحليلا وتقييماً ونقدًا، فأثمن ما لدى المسلم هو شريعة الإسلام، وهي مقدمة على أي مصلحة دنيوية، وإذا لم يوجد من العلماء وطلاب العلم من يتصدى بعلم وحكمة لمثل هذه المواضيع فإن الوضع خطر، وهو كما قال "ابن قيم الجوزية" أنه حينما تنزل بالأمة فتن عقائدية أو فكرية ولم يجدوا من العلماء فكرًا أو سيرة يتخذونه نموذجًا، فإن أذكياء الأمة قد يصبحون زنادقة. وحقيقة لا بد من الاعتراف بها هنا، وهي أنه بسبب قهر الواقع واستلاب الحقوق والظلم وعدم وجود نماذج دينية نزيهة كافية، فإنَّ أعداد الشباب الذين لديهم الاستعداد "لقبول العدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى" تزداد، وأصبحت "الحرية" و"العدالة" و"المساواة" الثالوث المقدسة لدى بعضهم، وهي مقدمة على الشريعة نفسها، والله المستعان. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].

مقتطفات من مقال مفاتيح السياسة الشرعية

مقتطفات من مقال مفاتيح السياسة الشرعية إبراهيم بن عمر السكران 3 محرم 1433هـ مدخل: الحمد لله وبعد،، أثيرت في الأيام الماضية في الساحة الفكرية المحلية إشكالية العلاقة بين (سيادة الشعب) و (سيادة الشريعة)، وشارك فيها أطياف متعددة من خلفيات فكرية متنوعة، تنويرية وقومية وليبرالية، والحقيقة أنني هممت بالكتابة حول هذه الإشكالية وتاريخها وعلاقتها بقواعد السياسة الشرعية، إلا أنني حين بدأت بالكتابة فعلاً؛ بدأ يقاطعني السؤال المتكرر الذي صرت أسمعه من عدد من القراء الكرام، وهو قولهم: (إذا كنتم تنتقدون الديمقراطية وسيادة الشعب والحريات الليبرالية فما هو البديل السياسي الذي سيقدمه الإسلاميون إذن؟ ما الذي تريدون بالضبط؟). صرت أتعرض لِلكمات هذا السؤال في كل مرةٍ أستعرض فيها الموقف الشرعي النقدي تجاه المفاهيم السياسية الغربية. كنت سابقاً أجيب القارئ الكريم بكل اختصار أننا نطمح إلى (السياسة الشرعية) فيعاودني السؤال مرة أخرى (وماذا تقصدون بالسياسة الشرعية؟) وهكذا صرت محاصراً بهذا السؤال في كل مرةٍ أحاول فيها المشاركة بنقد المفاهيم السياسية الغربية. ولذلك تفاجأت بنفسي هاهنا مضطراً لتقديم تلخيصٍ مكثف لمفهوم (السياسة الشرعية) الذي يتطلع إليه الإسلاميون، على شكل مفاتيح، وبعدما أنتهي من عرض هذه المعالم العامة، والتخلص -ولو نسبياً- من ضغط سؤال (وما هي السياسة الشرعية التي تطالبون بها؟) سأعود -بإذن الله- بعد عدة أيام وسأطرح ورقة أخرى نتناقش فيها سوياً حول مفهوم (سيادة الشعب) وتطوره التاريخي وصولاً إلى الفكر السياسي العربي المعاصر. قطعية نصوص الصبر والطاعة ومنع الخروج: لاحظت في عدد من المجالس الفكرية، ومواقع التواصل الاجتماعي، أن بعض المعنيين بالتغيير السياسي الناقمين على الاستبداد، يرمون أحياناً ببعض العبارات التهكمية تجاه أحاديث (الصبر والطاعة ومنع الخروج)، وهذه المشاهد في الحقيقة من أكثر الانحرافات إزعاجاً للمؤمن المعظّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأشخاص الذين يتهكمون بأحاديث الصبر والطاعة وتحريم الخروج هم في الواقع في غاية الحماقة، بل لا يستطيع العقل أن يتصور حماقة أطرف من ذلك، إذ كيف يهينهم المتغلب ويكبتهم، فيفرغون حنقهم في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذا والله الخسارة والغبن بعينه. الأمر بطاعة أولي الأمر جاء في كتاب الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59] فهو نص متواتر قطعي. وأما أحاديث (منع الخروج فيما دون الكفر) فقد جاءت بطرق كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبلغ حد التواتر، قال الشوكاني عنها (ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب، أي باب الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وذكرناها، متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له أُنسةٌ بعلم السنة) [نيل الأوطار:13/ 469، ت حلاق] كيف يعرف المؤمن أن نصوص (الصبر، والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، ومنع الخروج المسلح فيما دون الكفر البواح) كلها قطعية متواترة عن رسول الله، يجزم القلب بأن رسول الله قالها، ونطق بها، ثم يتهور المرء بمثل هذه العبارات في انتقاص هذه النصوص؟! لا أدري والله كيف يطاوعه قلبه ويستخف بها وهو يعلم أن رسول الله نطق بها؟ يسيء لك المتغلب فتقتص من نبيك؟!

والبعض يقول لأن هناك فريقاً يستغل هذه النصوص بتطبيقات سيئة، ولذلك نحن نتهكم بهذه الأحاديث، وما رأيت حجة أضل من هذه الحجة، إذن لتسخر بنصوص الحكم بما أنزل الله لأن هناك من يسيء تطبيقها، ولتسخر بنصوص النهي عن المنكر لأن هناك من يسيء تطبيقها، ولتسخر بأحاديث القتال في سبيل الله لأن هناك من يسيء تطبيقها، وهكذا، فهل هذا تفكير مؤمن يحترم نبيه؟! يجب أن نحاول الإصلاح السياسي من الداخل، وتكثير العدل الشرعي وتخفيف الظلم؛ دون أن نخسر علاقتنا بحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فماذا تساوي صناديق الاقتراع في العالم كله إذا أسأنا بنصف كلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يجب بناء حاجز نفسي عظيم بين هؤلاء المتهورين وبين نصوص (الطاعة والصبر ومنع الخروج) يجب أن لا تكون هذه الأحاديث كلأ مباحاً يُستهتر بها ونحن نشاهد، فأين الغيرة والحمية لرسول الله؟! انتشار الاستبداد والأثرة والمظالم السياسية ليس مبرراً بتاتاً لهذه الإساءات المتكررة لحديث رسول الله، بالله عليك تأمل هذه الآيات وانظر مقام رسول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات:1 - 3] انظر كيف كان مجرد "رفع الصوت" بحضرة رسول الله يجعل المرء على حافة "حبوط العمل"! نعم تحبط أعمالك كلها من صلواتك وصدقاتك وذكرك لله كل ذلك بمجرد "رفع الصوت" بحضرة رسول الله، يهبط رصيد أعمالك إلى الصفر، وتفقد كل ما عملت، لمجرد جهر بالصوت على رسول الله، فكيف بالله عليكم بمن يستهتر وينتقص أحاديث رسول الله؟! وبعض الفضلاء يعتذر ويبرر لهذه الشريحة من المتهورين، بأنهم مستاؤون من التطبيقات الخاطئة للطاعة السياسية! وهذا خطأ خطير، أي مكسب لك في تسويغ الإساءة للسنة النبوية تحت أي ذريعة كانت، بالعكس، كان يفترض بك يا أخي الفاضل أن تكون في صف سنة رسول الله، لا في صف أقوام يعبدون الله على حرف، وتراهم إذا دعوا إلى النصوص معرضين، فإذا جاءت النصوص بما يهوون يأتون مذعنين، وما ذاك إلا بسبب مرض القلوب الذي غزاهم، قال الله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا) [النور:48 - 50]. أخيراً .. هذه معالم عامة، ولازال هناك الكثير من مسائل السياسة الشرعية، سأحاول استيفاءها في مناسبات قادمة، وما سبق كله ليس هو من الكليات القطعية المجمع عليها، بل بعضها ثوابت لا يختلف فيها الفقهاء، وبعضها مسائل اجتهادية لذلك عبرت فيها بلغة (الراجح والمرجوح) لا بلغة (الحق والباطل)، ويبقى للمخالف من أهل السنة فيها احترام اجتهاده، والله أعلم،، وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،

ليبرالية بقشرة إسلامية

ليبرالية بقشرة إسلامية بندر بن عبدالله الشويقي الأربعاء 5 محرم 1433هـ (ماذا لو قرَّرُ الشعبُ تنحيةَ الشريعة؟). دعونا الآن نؤجِّل هذا التساؤل المفترَض رُغمَ أهميته شرعاً، وخطورته عقدياً. ولنتحدَّث عن أمثلةٍ واقعيةٍ، تشرحُ الخلل الجليَّ والانحراف الضَّخم، لدى من يطلقُ قاعدة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة)، ومن يعُدُّ الحكمَ بشرعِ الله دون تصويتٍ واستفتاءٍ اعتداءً على الناسِ وانتهاكاً لحقوقهم، ومن يقولُ: إن اعتمادَ مرجعيَّة الشريعة دون تصويتٍ واستفتاءٍ سوف يحوِّلُ الناس إلى منافقين. وقبل الدخُول في التفصيل، أجدُ من الضروريِّ هنا التنبيهَ إلى الفرقِ الشاسع بين البحثِ في أصل الحكم الشرعي، وبين البحثِ في مشروعية الخروج عن هذا الحكم لاعتبارات الضرورة، أو عدم الاستطاعة. أقولُ هذا لأني رأيتُ من أبعد النجعة فاستدلَّ بحال النجاشيِّ في الحبشة، حين لم يحكم في بلده بشريعة الإسلام، فجعلَ ذلك دليلاً على قاعدة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة). مثلُ هذا الاستدلال يجعلك تتوقف كثيراً عند أهلية أصحابه لمناقشة مثل هذه المسائل؛ إذ من المعلومِ -عند من يعرف التأريخ- أن النجاشيَّ كان مستضعفاً لا نصيرَ له، فكان يخفي إسلامه عن قومه مداراةً لهم، وخوفاً منهم، فكيف يطلبُ من مثله الحكمُ بشريعة الإسلام؟! وكيف يصحُّ الاستدلال بحاله، على حالة الدولة المسلمة المستقرة. أعجبُ من هذا وأغربُ مسلك من يستدلُّ بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم دولته بمكة، ولم يفرض على الناس حكمَ الشريعة! فكيف يمكن أن يخطر هذا الاستدلالِ ببال من يدركُ أن النبيَّ كان بمكةَ في بلاءٍ وشدةٍ، وكان أصحابه يؤذون أمامه، ويعذبون، ويفتنون عن دينهم، فلا يستطيع الدفعَ عنهم، ولا يملك إلا أن يأمرهم بالصبر. بل كان هو نفسه يؤذى ويوضع القذر على رأسه الشريفة وهو ساجدٌ عند الكعبة. فالحديثُ هنا عن إقامة دولة وعن تطبيق الشريعة يطرح علامات استفهام حول مصداقية المستدلِّ. وإن بالغنا في إحسان الظنِّ فسنقولُ: إننا أمامَ فقهٍ وفهمٍ يبلغ الغاية في الهشاشةِ والضَّعف. حسناً ... دعونا الآن نطوي مثل هذه الاستدلالات الهزيلة، ولنؤجل البحثَ في الصور والتساؤلات المفترضَة، ولنشرع في الحديثِ عن الآثار الواقعية لقاعدة (سيادة الأمة، قبل تطبيق الشريعة) ... فما الذي يعنيه هذا التقعيد؟ وهل يعي أصحابه مآلات قولهم؟ لنأخُذ مثالاً نعايشه هنا في السعودية يشرحُ الإشكال والخلل في مثل هذا التنظير: نحن لدينا مرجعية قضائية معلنة هي (شريعة الإسلام). وأدركُ -كما يدركُ غيري- أن ثمةَ خروقاتٍ واسعةً لتلك المرجعية المعلَنَة. وقد كنَّا إلى وقتٍ قريبٍ نحسبُ أن من أهمِّ واجبات المصلحين الإلحاح والمطالبة بتصحيح واستدراك ما نقصَ، كي يصحَّ لنا أن نقول بحقٍّ: (إن مرجعيتنا في الحكم شريعةُ الإسلام). لكن حسب نظرية (سيادة الأمة، قبل تطبيق الشريعة)، فإنَّ على المصلحين أن يعيدوا النظر في شرعية مطلبهم هذا. فمن الآن وصاعداً: سيكونُ من الخطأ ومن الإثم ومن الجُرم والاستبداد مطالبة الحكومة عندنا بالتزام شرع الله، لأنها لا تملك الحقَّ في ذلك أصلاً؛ إذ ليس لها إكراه الناس على حُكم الشرع دون عمل تصويتٍ واستفتاءٍ! فما دامت السلطةُ ترفُض إجراء هذا التصويتِ، وتأبى القيامَ به، فإنه لا يحقُّ لها إطلاقاً اعتمادُ الشريعة مرجعيةً للحُكم، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يطالبها بهذا!

ليس هذا فحسبُ ... بل إن من توابع تلك النظرية الجديدة أن من الواجب على المصلحين الصادقين الناصحين أن يقوموا بوظيفةٍ معاكسةٍ لوظيفتهم الحالية. فما دامت سيادة الأمة مغيبةً، وما دام هناك إصرارٌ على تغييبها، فإن على المصلحين أن يطالبوا بهدم وإلغاء القسم المتبقي لدينا من مرجعية شريعة الإسلام، بدل أن يسعوا في استكماله وتسديده! لأن هذا القسم في الواقع يمثل انتهاكاً لسيادة الأمة، وإكراهاً على الدين! أصحاب النظرية الجديدة يقولون: حكمُ الشريعة لا يجوز أن يأتي إلا عبر (سيادة الأمة) من خلال نظام التصويتِ الحرِّ. ولا يجوزُ الإتيان بالشريعة عبر الفَردِ المتغلِّب، أو الفئة المتغلِّبة. فما لم تتحقَّق سيادة الأمة، وما لم يُفسَح لها المجالُ لتعبِّرَ عن نفسها وتختارَ مرجعيتها، فليس لأحدٍ أن يستبدَّ فيفرض على الأمةِ الحكمَ بشريعَةِ الإسلامِ. لأن القرآن ينصُّ على أنه (لا إكراه في الدين)، ولأن فرضَ الشريعة دون تصويتٍ سوف يؤدي إلى تحويل السعوديين إلى منافقين! بل إن النظريةَ الجديدةَ تقتضي -وإن لم ينتبه أصحابها لذلك- أنَّ السعوديين تحوَّلواً منذ زمنٍ بعيدٍ إلى أبناء سَلولٍ؛ إذ من المعلوم أنه لم يُتَح لهم التصويت على مرجعية الشريعة، بل اتخذ هذا القرارُ وأُعلنَ دون الرجُوع إلى أصواتهم، فوجدوا أنفسهم يلتزمون أحكاماً لم يختاروها. فهم -إذن- منذ عقودٍ منغمسون في النفاق إلى آذانهم! إذا ذهبنا خارجَ السعودية، وأرَدْنا تصدير تلك النظرية المبدعةِ إلى الدُّعاة والمصلحين في الخارج، فجئنا -مثلاً- إلى إمارةِ (دبي). فيفترض أن نشرحَ للناسِ هناك أنه مع الإصرار على تغييب سيادة الأمة في بلدهم، فإن من الواجب عليهم ألا يتورَّطوا في المطالبة بسنِّ أيِّ قانونٍ يحدُّ من مظاهر انتهاك شرع الله هناك. لا بُدَّ أن يفهموا أنه لا يحقُّ لهم مطالبة حاكمهم المتغلِّب بحظر الخمور -مثلاً- أو منع التعري على الشواطئ. لأن الله قال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .. } [البقرة: 256]. ولأن الفردَ المتغلِّبَ ليس له فرضُ الشريعة دون تصويتٍ واستفتاءٍ، ولأن منع الخمور سيحوِّلُ السُّكارى إلى منافقين، والعرايا إلى منافقاتٍ. وهذا يتنافى مع مقاصد الشريعة! خلاصة النظرية أننا دائماً: ينبغي أن نطالبَ فقط بشيءٍ واحدٍ: (سيادة الأمة)، وما لم يُجَب مطلبنا، فإن واجبنا يقضي أن نجتهدَ جميعاً في نبذ الشريعة وإقصائها ما أمكن، لئلا نخالف أمر الله الذي قال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ونحن -في فعلنا هذا- مأجورون عند الله، لأننا راعينا الأولويات الشرعية، فحرصنا على أن تكون (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة)! تلك حقيقةُ ما يقرِّره ويدعو إليه -دون وعيٍ- أولئك المتصدون لتجديد النظرية السياسية الإسلامية بزعمهم. فهذا معنى قولهم إن الشريعة لا يجوز أن تُفرَضَ إلا عبر التصويت، وهذا معنى قولهم: (سيادة الأمة) قبل (تطبيق الشريعة). فتشريعات الإسلام-حسب تنظيراتهم- يجب أن يلتزمها الفردُ في نفسه فقط، أما على مستوى الدولة، فلا شريعةَ إلا بتصويتٍ، ومع غياب التصويت، لا بُد من تعطيل التشريعات الإسلامية كلها، إلى أن تستعيد الأمة سيادتها عبر صناديق الاقتراع! بين حكم المتغلب، وسيادة الأمة:

مشكلةُ أصحاب تلك النظرية الأخيرة أنهم حين يناقشون مسألة الإلزام بمرجعية الشريعة، يتحدَّثُ أحدُهم وكأنَّ لديه دولةً سوف يعيد تركيبها من الصِّفر. هو يتحدثُ وكأنه جالسٌ على كرسي، وبين يديه أرضٌ فضاءٌ لا يوجد فيها دولةٌ، ولا سكان، ولا سُلطة لأحدٍ عليها، وعن يمينه يجلس الشعب الذي سوف يسكن هذه الأرض بعد تشكيل نظامها، وعن يساره صندوقٌ فيه مفاتيح السلطة التشريعية. فيأتي أحدُهم ليفتح الصندوق، ويخرج منه مفاتيح السلطة بأطراف أصابعه، ثم يسأل من حوله بذكاءٍ وفطنهٍ: أيهما أحسن وأضمن أن نعطي مفتاحَ السلطة للشعب كلِّه، أو أن نختار فرداً واحداً نمنحه حقَّ فرض الشريعة؟ ترى أحدَهم يحدِّثُ من حوله مُفاخراً: أنا أرى منح سلطة التشريع للشعب. بينما أنتم ترون منحها لفَردٍ متغلبٍ. هذا هو الفرق بيني وبينكم. فكلُّنا نؤمن بمرجعية الشريعة. لكن نختلف في تحديد الطرف الذي سوف نمنحه حقَّ الحكم بالشرع! ما لم ينتبه له هذا القائلُ أن النقاشَ والبحثَ ليس عن دولةٍ سوف نبنيها على أرض المريخ أو زُحَلٍ. بل الكلامُ يتعلقُ بأوضاعٍ ودُوَلٍ قائمة لم تأتِ باختيار أحدٍ ولا مشورته. فحين يكون أمامك بلدٌ محكومٌ بنظامٍ فرديٍّ متغلبٍ مستأثر بالسلطة، ولا ينوي التنازل عنها، أو إشراك غيره فيها، والناسُ خاضعون له (طوعاً أو كرهاً)، وهو يحكمهم بقانونٍ وضعيٍّ لم يشاورهم فيه. فهل هناك إشكالٌ لو سعينا في إقناعه بتحويل نظامه، أو تقريبه -على الأقل- إلى المرجعية الإسلامية؟ حسب نظرية (سيادة الأمة) لا يجوز ذلك. لأن هذا من الإكراه في الدين. فإذا لم يقبل المتغلبُ الاحتكامَ لسيادة الأمة والتصويت على مرجعية الشرع، حرُم علينا السعيُ إلى تحكيم الشريعة من خلاله! ومن نصح هذا الحاكم المتنفِّذَ بالتزام شرع الله في حكمه، فإنه يكون آثماً عند الله -عز وجلَّ-، لأن الشريعة لا يجوز أن تأتي إلا عبرَ سيادة الأمة! وقد تعب جملةٌ من الأفاضل كي يشرحوا: أنهم لا يؤمنون بصحة وجود فردٍ مُتغلِّبٍ يملك حقَّ نصب الشَّريعة ونزعها متى شاء. لكنَّهم يعالجونَ أوضاعاً قائمةً، ويجتهدون في الاقترابِ من حكم الشرع حسبَ السبُل المتاحَة. فإن كانوا يعملون في ظلِّ نظامٍ يحتكم للتصويت والانتخاب ويلتزم نتائجه، فسوف يسعون لمرجعية الشريعة من خلال هذا النظام إن رأوا المصلحةَ في ذلك. وإن كانوا يعملون في ظل نظام حكمٍ فرديٍّ يرفض التنازُل عن السلطة، فسوف يسعَون لتحقيق مرجعية الشريعة من خلاله أيضاً. ولو أن هذا الفردَ المتغلبَ سمع وأطاعَ لهم فالتزم شرعَ الله في قضائه وحُكمه وتشريعاته، فلا يعني هذا أن القصة انتهت، فتفرُّده بالسلطة المطلقة وإن كان واقعاً مفرُوضاً بالقوةِ، فليس هو الوضع الصحيح الذي ينشدونه، لكنَّه خيرٌ من وضعٍ يجمعُ بين تفرُّدٍ بالسلطةِ، وإقصاء لمرجعية الشرع. هذه النقطة ظلت عصيةً على فهم أصحاب تلك النظرية المتفرِّدة، فظلُّوا يردِّدُون ويتساءلون بذكاءٍ: أيهما أحسن أن يناط تطبيقُ الشريعة بالفَرد أم بالأمة؟ تناقضٌ غير مفهومٍ عزيزي القارئ حاول أن تجمع بين هاتين الفكرتين، علَّك تفلحُ فيما عجزتُ عنه. يقولُ أحدُهم: "وظيفة الاستفتاء هو الاحتكام إلى إرادة الناس حين تتصارع القيم والإرادات، فيتمُّ حسمُها بمسارٍ سلميٍّ وحضاريٍّ، لا بمسارِ الحرُوب والاقتتالِ والإرهابِ والقَمْعِ والإقصاء وسَفك الدِّماء وانتهاك الحرمات ... ". تأمَّل معي - أيها القارئ الكريم- كيف يتمُّ تصوير نتيجة إقرار مرجعية الشريعة دون تصويت: (اقتتالٍ)، (إرهابٍ)، (قمع)، (إقصاء)، (سفك دماءٍ)، (انتهاك حرماتٍ).

ففي رأي صاحب تلك النظرية، أن حكمَ الشريعة في بلاد المسلمين إذا لم يأتِ عبر صناديق الاقتراع، فالنتيجةُ شلالاتٌ منسكبةٌ من الدماء، وركامٌ من الجماجم والأشلاء، وليس هناك أيُّ فرصة لخيارٍ ثالثٍ. مع أن صاحبَ هذه المقولة هو نفسُه الذي كان يقول: إن الشعوبَ إذا خُيِّرت، فهي قطعاً لن تختارَ إلا الإسلام! هل هناك في التناقُضات أوضح من هذا؟! أين يمكنُ أن توجد هذا الصورة: شعبٌ نقطعُ ونوقنُ ونجزمُ أنه متى خُيِّر، فلن يختار مرجعيةً غير شريعة الإسلام، ولا يمكنُ أبداً أن يبتغي عنها بديلاً. لكنَّ هذا الشعب نفسه سوف يُشعل الأرض، ويزلزلُ الأرجاء، ويحوِّل البلاد إلى أنهارٍ وبحارٍ ومحيطاتٍ من الدماء، فيما لو أعلن حاكمه التزامه شريعة الإسلامِ دون استفتاءٍ وتصويتٍ! ألا يمكن أن يتصوَّر هؤلاء شعباً مسلماً يفرح ويستبشر لو سمعَ قراراً بالتزام حكومته المتغلِّبة بدين الله وشرعِه؟! هل الشريعة كائنٌ حيٌّ؟ أن يتبنى أحدٌ وجهة نظرٍ خاطئةٍ، فليس ثمة ما يستغربُ؛ إذ الجميع يخطئ. لكن البليَّة حين يكون الخطأ مبنياً على تصوُّرٍ بالغ السذاجة لمسألةٍ اقتحمها الكاتبُ بجُرأةٍ دون أن يفهم أبعادها وحدودها. وتزدادُ الصورةُ قُبحاً حين يُصَاغُ ذاك التصوُّر الساذج ثم يُطرَحُ بلغة الأستاذ الخبير، الذي سوفَ "يحرِّك المياه الراكدة"، ويعلِّمُ الآخرين كيفيَّة "إعادة تنظيم وترتيب النظرية السياسية في التصوُّر الإسلامي". يقولُ صاحبُ مقالة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة) معترِضاً على من حاول أن يشرح له سُوءَ فهمه: "تستغربُ أن يأتي بعضُ المعترضين ويقول: (السيادة لا تكونُ لأحدٍ من الخلق. السيادة للشريعة فقط). حسناً: أتعلمونَ ما معنى هذا الكلام؟ وأرجو أن يتحملَّني البعضُ، لأني سأبدأ بشَرح البدهيات العقليَّةِ ومآلات إنكارها. وشرحُ البدهيات ثقيلٌ على نُفوس العقلاء. ولكن ما الحلُّ مُكرَهٌ أخاك لا بطَل!! ". هو هنا وضع نفسه في صورة الأستاذ المحنَّك، والقانوني الخبير الذي وجد نفسه مكرهاً على ممارسة مهمةٍ ثقيلةٍ على نفسه؛ مهمة شرح البدهيات العقلية لمن لا يفهمها. وحين شرعَ الخبيرُ في الشرح قال: "إذا قلنا (السيادة للشريعة) فهذا يعني أن الشريعة كائنٌ حيٌّ يملك القدرة والإرادة. يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق، ويجلس على عرشه، ويأمُر وينهى! وبالتالي: الشريعة هي التي تطبقُ نفسها في الواقع! وهي التي تنقُل نفسها من كونها منظومةً من القيمِ والأحكام والمبادئ إلى كونها دستُوراً .. وليست بحاجةٍ إلى تصويت واستفتاء الأمة كما يقول التنويريون (هداهم الله). ثم يضيف شارحاً غباء المعترضين عليه: "بناءً على هذا المنطق، إذا أردْنا أن نطبقَ الشريعة في ولاية (لاس فيغاس) بأمريكا مثلاً. فيكفي أن نرسِل القرآن وصحيح البخاري -زادهما الله تشريفاً- إلى (لاس فيغاس)، ونضعهما في أحد البيوت الفخمة، وعلى أحد الرفوف المذهَّبة. وبإذن الله لن تمرَّ سنةٌ إلى ولاس فيغاس بدون ملاهي وفنادق للدعارة والقمار". هذا ما قاله صاحبُ النظرية. وسوف أعترفُ أن الرجُل بحقٍّ كان يشرحُ بدهيةً ومسلمةً عقليةً. وقد كان بإمكانه أن يريح نفسه من هذه المهمة الثقيلة عليه، لو أنه أعطى نفسه فرصةً لفهم معنى (السيادة) التي يتحدَّث عنها الجميعُ. واختصاراً للوقت سوف أشرح له المسألة بنفس طريقته، وأقول له:

إن كنت تظنُّ أن (سيادة الأمة) كائنٌ حيٌّ يأكل الطعامَ، ويمشي في الأسواق، ويجلس على العرش، ويفرِضُ نفسه بنفسه. فما عليك إلا أن تتصل هذه الليلة بسيادة الأمة، وتطلب منها أن تحجُز مقعداً على أقرب رحلةٍ، فتأتي إلينا، أو تذهب إلى أي بلدٍ يوجد فيه حكمٌ فرديُّ متغلِّبٌ. وبمجرَّد وصولها إلى هناك، تتغافل عين الرقيب، فتتسلل في ظلمة الليل، وتتربَّع في المادة الأولى من الدستور. وفي الصباح ينتهي الاستبداد، وتنكشف الغمة، وتنعم الأمة في ظلِّ حكمٍ ديمقراطيٍّ رشيدٍ! هل هذا منطقٌ مقبولٌ؟ أصلُ الإشكال هنا أن الكاتب عاجزٌ عن التمييز بين (السيادة العليا)، وبين من ينفِّذ مُستلزمات ومقتضيات هذه السيادة ويطبق القوانين الناشئة عنها. هو يظنُّ أن السيادة الشرعيَّة العليا هي لذاك يُنفِّذ القوانين ويطبقِّها، ويتصوَّر أن من يطبق الشريعة وينفِّذها في الواقع، لا بُدَّ أن يكون هو صاحبُ السيادة التشريعية! هو يقول: الشريعة لن تحكم بنفسها، ولا بُدَّ لها من عملٍ بشريٍّ يجسِّدُها على الأرض. فإذا لم ترضوا بأن تكون الأمةُ هي التي تختارُ مرجعيَّة الشريعة، فليس أمامكم إلا أن تقولوا: إن فرداً أو جماعةً يملكون ذلك الحقَّ. فأنتم تهربون من سيادة الأمة، إلى سيادة الفرد المتغلِّب. أنتم توهمون الناس أنكم تدعُون لسيادة الشريعة، بينما الواقع أنكم تنادون بسيادة الفرد. أنتم ترفضُون أن يصوِّت الشعبُ على اختيار حكم الشريعة، ثم تقبلون إسناد حقِّ الاختيار للحاكم المتغلِّبُ، فتجعلون حقَّ الحكم بالشريعة ونبذها منوطاً به. هكذا تمَّ تصوير المسألة ... وربما جاء الآن دوري لأمارس تلك العملية الثقيلة على العقلاء، عملية شرح البدهيات العقلية والمسلَّمات الشرعية: معنى سيادة الشريعة: حين يقولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق". أو يقولُ "إنما الطاعة في المعروف". و"على المرءِ المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحبَّ أو كرِهَ، إلا أن يؤمرَ بمعصيةٍ. فإن أُمِرَ بمعصيةٍ، فلا سمعَ ولا طاعةَ". حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فهو يؤسِّسُ لمبدأ سيادة الشريعة. لأنه في كلامه هذا لا يقرِّرُ حُكمَاً فَردياً والتزاماً شخصياً وحسب، بل قد أسَّسَ -أيضاً- لمعنى سيادة الشريعة سيادةً قانونيةً. فحين يأتي التشريعُ المناقضُ صراحةً لدين الله، فلا سمعَ ولا طاعةَ. سواءٌ جاء هذا التشريع عبر فردٍ متغلِّبٍ، أو عبر تصويتٍ عامٍ، أو بواسطةٍ برلمانٍ منتخَبٍ. فكلُّ هؤلاء مخلوقون، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. فليس لأحدٍ أن يلتزمَ التشريع المناقض صراحةً للدين إلا مع الإكراه. ولا يجوزُ للقاضي أن يحكُمَ بهذا التشريع، أو يعاقبَ من خالفه. وإن حكَم به القاضي، فليس لصاحب السلطة التنفيذية إنفاذ هذا الحكم. فإن فعلوا ذلك: فلن نقولَ أنهم آثمون شرعاً فقط. بل نقول -أيضاً-: أنهم مستحقُّون للعقوبة الدنيوية. فلو ذهبت تلك الحكومة ومجلسُها التشريعيُّ، فمن حقِّ المتضرِّر مقاضاة القاضي الذي حكم عليه بما يخالف الشرعَ، ومقاضاة من أنفذ الحكم مع معرفته بمناقضته للشرع. ولا يُعفي هؤلاء من المسؤولية استنادهم لقرار مجلسٍ تشريعيٍّ ناشيءٍ عن (سيادة الأمة). لأن تشريعاتِ الإسلام وتكاليفه لا تبطلها مجالسٌ ولا أصواتٌ. لكن حسبَ نظرية (سيادة الأمة)، فإنه لا مسؤولية على من أنفذ حكماً مخالفاً للشرع، فأراق دماً أو استباحَ مالاً أو عِرضاً. لأن هذا لم يزد على امتثال ما يجبُ عليه (شرعاً!). حسناً ... لقائلٍ أن يقول: هل يمكن أن تنجح دولةٌ بهذا الطريقة؟ يقرِّرُ المجلس التشريعي، فيرفض القضاةُ تنفيذَ قراره. ويحكم القاضي، فترفض السلطة تنفيذ حكمه؟

بالتأكيد: لا يمكنُ أبداً أن تنجحَ دولةٌ هذا نظامُها. لأجل ذلك قلنا: لا يسوغ شرعاً ولا يجوزُ -في حال الاختيار- طرح أحكام الشرع المطهَّر للتصويت. لأن ثمرة هذا التصويت لن يكون لها قيمة في حكم الإسلام، وليس لها أيةُ أثرٍ قانونيٍّ إلا بحُكم القوةِ والإكراه. وهذا كلُّه في التصويت على قانونٍ واحدٍ مناقضٍ للشرعِ. أما التصويت على نبذِ مرجعيَّة الشريعة كلِّها فذاك أمرٌ أنكَرُ وأبطَلُ. ومتى حصل هذا، فإن الدولة تفقِدُ شرعيَّتها أصلاً، والمجلس التشريعي يفقد شرعيَّته أيضاً. فلا فرقَ بين حاكمٍ فَرْدٍ ينبُذ الشرعَ، أو مجلس تشريعيٍّ يمارسُ العملية نفسها. وهذا مقتضى قول الله تعالى: (إن الحكمُ إلا لله). تلك هي البدهية الشرعية التي لم يدرك بعضُ الناسِ آثارها القانونية في نظام الإسلام. فالحكومات حين تنبذُ مرجعية الإسلام بالقوةِ أو بالتصويت، ثم تحولُ بين الناس وبين الاحتكام إلى دينهم، فالنتيجة سقوط شرعية الحكومة، لا سقوط سيادة الإسلام. ولمزيدٍ من التوضيح، دعونا نسأل أصحاب نظرية (سيادة الأمة): حين يأتي التشريع المناقض لدين الله من خلال تصويتٍ نزيهٍ يعبِّرُ عن ذاك الشيء الذي تسمُّونه (سيادة الأمة)، فما موقفكم منه؟ هم يقولون: سنسعى لإبطاله عبر تصويتٍ آخر. لكن ما موقفهم إذا لم يستطيعوا ذلك. هل سيتركون ما أمرهم الله به، ويلتزمون القانون الناشيء عن (سيادة الأمة)، فينتهكون به الدماء والأعراض والأموال المعصومة؟ وإذا كان أحدُهم في موقع السلطة التنفيذية، هل سيُلزِمُ الناسَ بهذا التشريع المناقض لدين الله والمستند إلى (سيادة الأمة)؟ وإذا كان في موقع القضاء: هل سيقضي بسجن ومعاقبة من اختار دينه، فأطاع الله وعصى القانون الصادر عن مجلسٍ تشريعيٍّ منتخَبٍ يمثِّلُ (سيادة الأمة)؟ هذه التساؤلات هي ما سيقرِّبُ ويشرحُ الخلل الضخم في فكرة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة). وهذا المعنى هو ما قصدتُ تقريبه في مقالة (مهزلة العقل "التنويري"). مرجعية الشريعة وسيادتها، تعني أن شرعية الأفعال والتصرفات والدول، وحدود الحقوق والالتزامات تقاسُ بالشريعة، وليس بقرار بشرٍ، فرداً كان أو جماعةٍ. مرجعية الشريعة في الدولة المسلمة مادةٌ دستورية أو (فوق دستورية) كتبها الله في كتابه، فلا يغيرها تصويتٌ ولا اقتراعٌ. وتعطيل هذه المادة (بالقوَّةِ أو بالتصويت)، لا يعني أن آثارها القانونية انتهت. فالتشريع الذي يعطلُ عقوبة القصاص من قاتل العمدِ -مثلاً- ويكتفي بسجنِه، لن يكونَ له أثرٌ في إثبات عصمة دماء القتلة. فمتى سقط هذا التشريع، أو سقطت الدولة التي فرضته، وجاءت دولةٌ تلتزم مرجعيَّة الشرع، فحقُّ القصاص ثابتٌ، وليس لأحدٍ أن يقول: إن الجريمة وقعت قبل اعتماد الشريعة مرجعاً. وقس على ذلك سائر الأحكام والتشريعات الإسلامية. فتعطيلها عملياً، لا يعني أن آثارها في عصمة الدماء والأموال وإثبات الحقوق انتهت. نقطة أخرى حصل فيها خلطٌ كثيرٌ: أصحابُ فكرة (سيادة الأمة) يحسبون أنا إذا قلنا إن على الحاكم المتغلِّب أن يلتزم شرع الله في حكمه، فنحن نمنحه حقَّ اختيار الشريعة أو نبذها، فلذلك صاروا يقترحُون ويقولون: لماذا لا نجعل حقَّ اختيار الشرع ونبذه منوطاً بالأمة بدل أن نجعله لفردٍ متغلبٍ؟! ما لم يفهمه هؤلاء: أننا نحنُ حين نطالب المتغلِّب بالتزام شرع الله، فإنما نطلبُ منه التزام أمرٍ واجبٍ عليه ولازمٍ له، ولسنا نخيره كي يحكمَ بدين الله أو ينبذه. فلا يصلح أن يقارَن حالُنا بحالِ من يريدُ إقرار حقِّ رفض مرجعية الإسلام عبر التصويت.

نحن نقول للمتغلِّب: لا خيار لك سوى الحكم بشرع الله. وإن لم تفعل فلا شرعية لنظامك عندنا. بل إن الشرعية ستكون لمن يقدرُ على خلعك واقتلاعك من كرسيك، ومحاكمتك على جنايتك العُظمى حين حرمتَ المسلمين من الاحتكام لدينهم. فهل هذا التصوُّر الشرعيُّ الواضحُ، يماثلُ موقف الآخرين من ذلك الشيء الذي يسمونه (سيادة الأمة)، حين جعلوا له حقَّ اختيار الشريعة، وحقَّ رفضها ووطئها بالأقدام؟ هم يريدون مجلساً أو صناديقَ تملك الحقَّ في نبذ دين الإسلامِ، ثم يكون على الناس السمعُ والطاعة، بعدما يرتبون على قرار الصناديق الحقوق والالتزامات. فرقٌ كبيرٌ بين من يطالب الحاكمَ المتغلب بالتزام الشرع، وبين من ينصبُ -باختياره- مجلساً تشريعياً أو استفتاءً يملك الحقَّ القانوني في نبذ وإقصاء دين الله بطريقةٍ (حضارية!!). حسناً ... لقائلٍ أن يقول: لكن هذا الفرد المتغلِّب قد يحكم بالشريعة اليومَ، وينبذها غداً؟ نرجع لنقول ونكرِّر: ومن قالَ إننا منحناه الحقَّ في ذلك، أو فوضناه فيه ... فهل نسيتم أنكم تتحدثون عن (متغلِّب)؟ ... هل تفهمون ما معنى (متغلبٍ)؟ أنتم تتحدثون عن حاكمٍ فرضَ سلطانه بالقوَّةِ، ولم يكن لأحدٍ خيارٌ في نصبه وتمكينه. فإذا أمَرْناهُ بالتزام شرعِ الله في حكمه وقضائه وتشريعاته، فهل يعني هذا أنا منحناه تفويضاً بنبذ الشريعة متى شاء؟ هل يمكن لعاقلٍ أن يفكر بهذه الطريقة؟ إن قلتم: نريدُ ضمانات تقطع على هذا المتغلِّب السبيل كي لا يجعل الشرع ألعوبةً بيده، فيأخذ به متى شاء، وينبذه متى شاء؟ مرةً أخرى سنقول: تذكروا أنكم تتحدثون عن (متغلِّبٍ) لا يرى نفسه ملزماً بمطالباتكم. فإن استطعتم إقناعه أو إلزامهُ بضماناتٍ تحفظ شرع الله من عبثه، فنحن معكم، بل سنكون قبلكم في هذا الطريق ... لكن في الواقع أنتم لا تفعلون هذا. أنتم لو أطاعكم هذا المتغلِّبُ، فلن تطلبوا منه تصويتاً لتشكيل مجلسٍ يراقب التزامه بشرع الله. بل ستطلبون منه تصويتاً أو مجلساً يملك الحقَّ في نبذ شرع الله! أنتم تريدون نقلَ حقَّ العبث بالشرع، من قصر الرئاسة إلى قبة البرلمان! أما نحنُ فلو أطاعنا هذا المتغلِّب، أو قدرنا على إلزامه، فسوف ننصبُ فوقه مجلساً يراقب التزامه بالشرع، ويملك حقَّ عزله ومحاسبته لو نبذ مرجعية الإسلامِ ورفض الاحتكام إليه. فهل أدركتُم الفرقَ بيننا وبينكم الآن؟ نحن مرجعية الشرع لدينا محسومةٌ، وإنما نبحثُ عمَّن يحولها إلى واقعٍ عمليٍّ. أما أنتم فمرجعية الشريعة عندكم محلُّ بحثٍ ونظرٍ، وتصويتٍ واقتراعٍ. نحن نريدُ مرجعية الإسلام. وأنتم تريدون مرجعية صناديق الاقتراع. نحن نريدُ (كلمةَ الله) هي العليا. وأنتم تريدون (الحرية) هي العليا. بكلمةٍ أوضح: أنتم شربتم الكأس الليبرالية دون شعورٍ، فأسكرت عقولكم وقلوبكم، فصرتم تطالبون بحرية (نبذ الشرع)، تحت شعار (المحافظة على الشرع)! فإن أردتم برهاناً إضافياً بشرحُ الإشكال لديكم، فاقرأوا معي الفقرة الآتية: أنتم تستدلون بآية: (لا إكراه في الدين) كي تسندوا رأيكم في عدم جواز الحكم بشريعة الإسلام دون تصويتٍ واستفتاءٍ. فهلا أخبرتمونا من أين تسرَّب إليكم هذا الفهمُ للآية؟ تلك الآيةُ الكريمةُ إنما يستدلُّ بها في هذا الموضع ذاك الليبرالي والعلماني الذي يأبى أن يستندَ نظامُ الدولة لمرجعية دينيةٍ، سواءٌ جاءت هذه المرجعيَّة عبر فردٍ متغلِّبٍ، أو عبر صناديق الاقتراع، لأنه يرى الدين التزاماً شخصياً لا يجوز إقحامه في مرجعيَّة الحكم بأي طريقٍ. تلك هي الرؤية الليبرالية العلمانية المعروفة، ومنها انطلق أصحابها في تفسير خاطئ لآية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .. } [البقرة: 256]، كي يثبتوا أنه لا يجوز أن يستند نظامُ الحكم لمرجعية دينيةٍ. لكن ماذا عنكم أنتم يا من تريدون فرضَ مرجعيةِ الدين عبرَ صناديق الاقتراع؟ هل يصلح لكم أن يستندَ لمثل هذه الآية؟ أصحاب نظرية (سيادة الأمة) متى حصلوا على أغلبية الثلثين مثلاً، ونجحوا في تثبيت مرجعية الشريعة في الدستور، فهم - في النهاية - سوف يُلزِمُون الثلث المتبقي بمرجعية الشريعة الإسلامية. أي أنهم سيمارسون (الإكراه في الدين)! ولا مفرَّ لهم من هذه الحقيقة إلا أن يراجعوا فهمهم للآية الكريمة، فيكفُّوا عن قراءتها بأعينٍ ليبراليةٍ علمانيةٍ. تلك الآية الشريفة لا علاقة لها بنصب الشريعة مرجعيةً لنظام الحكم. فهي إنما تتحدثُ عن إكراه الكافر على اعتناق دين الإسلام. وأما اعتمادُ مرجعية الشرعِ، فليس هذا من الإكراه الممنوع في الآية. ومن أصرَّ على هذا الفهم، فإن عليه ألا يحكم بشريعة الإسلام حتى يحصل على تأييدٍ كليٍّ يبلغ نسبة (100%) من الأصوات! وحتى بعد الحصول على هذه النسبة الخرافية، فليس للقاضي في المحكمة أن ينزل أيَّ عقوبةٍ شرعيةٍ إلا بعد إقناع الجاني بقبُولها، كي لا يمارس عليه الإكراه في الدين باسم سيادة الأمة!

سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة (1)

سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة (¬1) سعد بن مطر العتيبي السبت 1 محرم 1433هـ 1 - لعلّ من حكمة العليم الحكيم: أنَّ ثمة أخطاء ترتكب، أو شبهات تقذف في بحر الشريعة، فتكون سبباً في الانتباه إلى المبادئ والأصول كلّما ابتعد النّاس عنها، أو خفت ذكرها بينهم .. وكم من مسائل أثيرت على خلاف الأصول والمبادئ، كان أثرها ظاهرا في إشعال جذوة الأصول وتجديد قوة المبادئ في النفوس، وتحريك حالة التبلّد التي قد تصيب الحراك الفكري، الذي يُنتظر منه الإصلاح والتصحيح. وقد دونتُ أمثلة عصرية لذلك في موضع آخر .. نعم كان لها ضحايا .. لكنهم قلَّة في جانب ما يُحقِّقُه الانتباه للأصول وحمايتها من نجاة واسعة، وبقاء الحق متوارثا بصفاء، ولو خلى الزمان ممن يطبقه. ولذلك لا أجدني قلقاً حين يثار شيءُ من هذا القبيل، لا حباً لإثارته - معاذ الله - ولكن طمعاً في نفع مآله فيما يحدثه من حراك نافع، إذا ما هبّت له القلوب الحيّة، فأحيته في النّاس على جميع المستويات. يقول جوستاف لوبون: "إنَّ الأخطاء التي تُظنّ من الحقائق - تلعب في دفع عجلة التاريخ دوراً أكبر من الدور الذي تلعبه الحقائق ذاتها " (¬2). ومن ذلك موضوعات تثار - عاطفة حيناً، ومناكفة أحياناً - دون تمحيص ودراسة، غاية ما توصف به أنَّها: أفكار وحديث نفس عارض، وقد يصحبه - في أحسن الأحوال- استدلال لا يخلو من سطحية، في سياق تقعّر - لا تعمّق - في الطرح، وتكلف في التقسيم؛ تسوق من ينساق لها بعيداً عن الأصول والثوابت، ومن ثمّ تقذف أمامه شبهة لتوهِمه أنَّها قدمت له شيئاً ذا بال! والشبهات التي تنطلق ممن لديه ثقافة إسلامية، لا تكاد تخلو من تلبيس - قد لا يكون مقصودا - بذكر آية أو حديث أو أثر .. ومن هنا ينبغي التعامل معها بمنهج التعامل مع الشبهات، ومن أصول ذلك: الردّ إلى المحكمات، وهو ما لخصته في عنوان هذه المقالة المقتضبة .. وقبل بضعة عقود، طُرحت في العالم الإسلامي بضعة أفكار، ورميت في بحره الطهور الطاهر بضعة أحجار، كان من بينها: فكرة غربية غريبة يعبّر عنها بمبدأ أو نظرية (سيادة الأمَّة)؛ زُعِم أنَّها من الإسلام، وليست منه في شيءٍ! وقد تصدَّى لتفنيد هذه الشبهة آنذاك وبعده، عددٌ من علماء الشريعة، وأهل السياسة من عربٍ وعجم، وشرق وغرب، وأساتذة قانون من أهل الإسلام؛ في عشرات المصادر، وما لا أحصي من المراجع، والمقالات. وقد بيّن أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله وعفى عنه، أنَّ جرثومة تسلل تلك الأفكار تكمن في: نزعة " التقليد لدول الغرب (ونحن إنما نعني بداهة بوجه خاص دوله الكبرى) وذلك فيما يتعلق بالمبادئ أو النظريات والمذاهب والأنظمة الدستورية (أو السياسية) " (¬3)؛ وبيّن أنَّهم يقلّدون في الظواهر، دون أن يعرفوا الحقائق؛ كما سأشير إن شاء الله. ¬

(¬1) وضعت هذه المقالة بناء على اقتراح عدد من الإخوة والأخوات؛ قصد كشف موقف العلماء الشرعيين ممن لهم عناية بالفقه السياسي والسياسة الشرعية، وغيرهم من أهل الشأن - من إشكالية أجنبية مستوردة ألصقت بالإسلام! وهي إشكالية وشبهة ليست بجديدة؛ بل وجدت منذ عقود فأسقطت في حينها، لكنها تجدد على نحو ما، أحيانا تلبيسا ومناكفة من خصوم الشريعة، وأحيانا التباساً من بعض مريديها، والنتيجة واحدة. (¬2) الأسس العلمية لفلسفة التاريخ، لجوستاف لوبون:17 - 18 (بواسطة: أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي:248). (¬3) أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي:248. وفصَّل القول في ذلك بالمثال في ص: 198 وما بعدها.

وهذه الجرثومة عينها، هي التي وصفها (شيخ الإسلام) مصطفى صبري رحمه الله بالتطفَّل للأمم، الذي يورث الوهن في العقيدة! 2 - وإذا ما عدنا إلى أصل الموضوع، ابتغاء ردّ ومحاكمة مفهوم السيادة إلى الكتاب والسنّة؛ فإنَّ مما ينبغي بيانه بين يدي ذلك: التفريق بين مسألتين: الأولى: معنى السيادة. والثانية: نظريات السيادة. وفي كلِّ منها مؤلفات عديدة، ودراسات كثيرة. غير أنَّ الذي يعنينا منها هنا، هو الأول، أعني: معنى السيادة. فما معنى السيادة؟ وما الموقف الشرعي من معناها؟ وقبل الجواب على هذا السؤال ينبغي -أيضاً- أن نفرق بين مصطلحين دارجين (¬1): الأول: سيادة الدولة والثاني: السيادة في الدولة. فسيادة الدولة: صفة تنفرد بها السلطة السياسية في نشاطها الداخلي بحيث تكون آمرة على الأفراد والجماعات؛ والخارجي بحيث تدير علائقها الخارجية دون خضوع لإرادة دولة أخرى، وإن التزمت المواثيق الدولية فبالتزامها. وهذا ظاهر؛ فلكل دولة حرية في ممارسة سلطاتها وعلاقاتها. وليست هذه محل الحديث هنا. وأمَّا السيادة في الدولة: فهي التي تعنينا، وهي محل الحديث في موضوعنا. وأول من استخدم مصطلح السيادة هذه في الفكر السياسي الأجنبي المعاصر، هو المفكّر الفرنسي جان بودان Jean Bodin (¬2) . فقد ألف كتاباً بعنوان: "ستة كتب عن الجمهورية" نشره عام1576م، عرّف فيه السيادة بأنَّها: " سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدّها القانون ". وفي توضيحه لمعنى السيادة، فرّق بودان بين السيد (صاحب السيادة) وبين الحاكم؛ " فالسيد أو صاحب السيادة، هو من كانت سلطته دائمة. أمَّا الحاكم فسلطته مؤقتة؛ ولذلك فلا يمكن وصفه بأنَّه صاحب السيادة؛ وإنَّما هو مجرد أمين عليها" (¬3). ومن خصائص السيادة لديه: أنَّها مطلقة، لا تخضع للقانون. وأنَّها تُمكِّن سلطة التقنين من وضع القوانين، دون موافقة الرعايا (¬4). ومن خصائصها: أنَّه لا يمكن أن يفرض عليها أيّ إرادة من قبل إرادة أخرى (¬5). وممن تحدث عن حقيقة معنى السيادة العميد دوجي Duguit فيما عُرف بالقانون الأعلى وسيادة القاعدة القانونية الأعلى. حيث بيّن أنَّها سلطة حاكمة للسلطات. وقد أفاد منه د. عبد الحميد حيث أشار إلى أنَّ السيادة هي: " السلطة العليا التي لا نعرف فيما تنظّم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها " (¬6). ¬

(¬1) السيادة في الإسلام - بحث مقارن، د. عارف أبو عيد:25 - 26. (¬2) ينظر: نظرية الدولة، د. محمد كامل عبيد:292، بواسطة: مبادئ نظام الحكم في الإسلام، د. فؤاد محمد النادي:25؛ وأصول نظام الحكم في الإسلام، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد: 108. (¬3) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د. فتحي عبد الكريم:85؛ وأصول نظام الحكم في الإسلام، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد: 108. (¬4) المرجع السابق. (¬5) ينظر: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية:، د. محمد مفتي ود. سامي صالح الوكيل:13. (¬6) المرجع السابق، نقلاً عن: القانون الدستوري والأنظمة السياسية، لمتولي:29.

وممن بيّن مفهوم السيادة هوبز، إذ وضح أنَّها: " سلطة عليا متميزة وسامية، ليست في القمة بل فوق القمة، فوق كل الشعب وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كلّه؛ ولهذا السبب فإنَّ هذه السلطة تكون مطلقة، وبالتالي غير محدودة لا في مداها ولا في مدتها، وبدون مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض " (¬1). ومع أنَّ بودان بيّن فكرة السيادة، لكن بيانه لها قد خلا من بيان أساس لهذه السيادة، ولاسيما مع استبعاده للتأسيس على نظرية التفويض الإلهي في المفهوم الكنسي، وهو ما جعل فكرة السيادة لديه لا ترقى إلى مستوى النظرية؛ مما فتح المجال لتدخل غيره في استكمال بناء نظرية السيادة وفق الفلسفة الوضعية (¬2)؛ ثم شاع هذا المصطلح في الفكر الديمقراطي بعد كتاب " العقد الاجتماعي" للفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو، حين شارك في استكمال النظرية وفق فلسفته؛ فطبق معنى السيادة الوضعي من خلال نظريتي: سيادة الأمّة، وسيادة الشعب. والذي يهمنا هنا كما أسلفت، هو معنى السيادة وحقيقته المؤثرة في الحكم المتعلق بديننا ونظامنا الإسلامي، لا بغيره؛ إذْ هو المعيار والحكم على غيره لا العكس؛ لأنَّ الشرعي حين يُبيِّن حكم مصطلح ما، من المصطلحات المحدثة أو الوافدة، فإنَّه يبحث عن معنى المصطلح وحقيقته، سواء وجد في الواقع أو لم يوجد، وهو لا يرهن الحكم باللفظ والنشأة على حساب المعنى، ولا برؤية من حاول تطبيقه وفق فلسفته. وبعبارة أخرى: أن يفرق بين البحث في نشأة المصطلح بوصفه مصطلحا بلفظه ومعناه، فهنا في الأمر سعة. وبين البحث في حقيقة المصطلح ومعناه بغض النظر عن لفظه ونشأته وتاريخه، وهنا لابد من بيان الحكم الشرعي فيه. وعليه فخلاصة القول هنا: أنَّ السيادة في نظرية الدولة ونظام الحكم، تعني في أصل فكرتها: السلطة العليا المطلقة التي تقيٍّد سلطة الأمّة، وسلطة الحكومة بسلطاتها، ومن ثمّ تقيد تبعاً لذلك القواعد القانونية التي يتشكل منها الدستور، والذي تقوم بوضعه سلطة عليا تمثل المجتمع. وممن عرفها بلغة الشرعيين، الدكتور صلاح الصاوي، إذ قال: " السيادة هي: السلطة العليا المطلقة التي تفرّدت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال " (¬3). 3 - وبناء على هذا البيان لحقيقة السيادة الذي خلاصته وجود سلطة عليا مطلقة لا تحكمها سلطة أخرى لا بجانبها ولا أعلى منها؛ فإنَّنا نستطيع أن نقول بكل ثقة ووضوح: تلك حقيقة لا توجد في غير نظام الإسلام، وهي ظاهرة في نظام الحكم الإسلامي على وجه الخصوص؛ فإنَّه محكوم باتفاق المسلمين بسلطة عليا مطلقة حقا، تتمثل في: كتاب الله تعالى وسنة رسوله. يوضح ذلك الدكتور فتحي عبد الكريم في رسالته العلمية (الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة) حين يبين ذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسة: ¬

(¬1) فكرة السيادة لجاك ماريتان، المجلة الدولية للتاريخ السياسي الدستوري:13، بواسطة: الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د. فتحي عبد الكريم:85؛ وينظر: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية:، د. محمد مفتي ود. سامي صالح الوكيل:16. (¬2) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د. فتحي عبد الكريم:88 - 89. (¬3) نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، له:14.

الأول: أنَّ السيادة ونظريات السيادة، لم تستطع تقديم أساسٍ قانونيٍ أعلى للسلطة، سوء كان ذلك في الفكرة الأولى للسيادة، أو بعد انتقالها إلى الأمَّة أو الشعب؛ وهذا ما دفع بعض كبار أساتذة القانون الفرنسيين (دوجي) إلى أن يقرِّر أنَّ فكرة السيادة بمفهومها الحقيقي، " غير قابلة لأي حلّ بشري! لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يُفسِّر من الناحية الإنسانية - أن إرادة إنسانية يمكن أن تسمو أو تعلو على إرادة إنسانية أخرى " (¬1). ولهذا يقرّر أستاذ آخر هو (لافاريير) أنَّه: " إذا كانت النية تتجه إلى تقديم السيادة على أنَّها حق في الأمر، فإنَّه لا يوجد سوى نظرية واحدة منطقية ومقبولة، وهي: النظرية الدينية، تلك التي تُقرِّر أنَّ السلطة السياسية ترجع في مصدرها إلى الله؛ وفي هذه الحالة إذا ما وجد في السيادة عنصر إلهي، فإنَّ الإرادات البشرية سوف تخضع لقرارات صاحب السيادة؛ لأنَّ هذه السيادة سوف تكون إعلاناً عن سلطة تعلو سلطة البشر " (¬2). الثاني: أنَّ سلطة السيادة مطلقة؛ وهذا يعني أنَّه لا يصح أن ترد عليها قيود؛ لأنَّ ورود القيود عليها يخالف جوهر النظرية، ولا تتفق مع طبيعتها كما يقول د. فتحي عبد الكريم، الذي يقول " ولهذا السبب وجدنا أحد كبار المفكرين (جورج سل) يقرر بحق أنّ نظرية السيادة غير مفهومة في ظل شخصية الدولة القانونية التي تحيا في ظل نظام قانوني؛ لأنَّ السيادة تعني قدرة العمل الإرادي المطلق في حين أنَّ الدولة كشخصية قانونية- تعني قدرة العمل الإرادي المحدّد وفق النظام القانوني، ويرى سل أنَّ فكرة السيادة تؤدي إلى هدم فكرة الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون. أمَّا طبقاً للنظرية الإسلامية، فإنَّ السلطة مقيدة بأحكام القرآن والسنة، والتي تُشكِّل نوعاً سامياً من القانون الدستوري الذي يعلو على القانون الدستوري الوضعي؛ لأنَّ الأمَّة كلّها لو اجتمعت لا تملك أن تغيّر أو تعدّل فيه. وبذلك كانت دولة الإسلام أول دولة قانونية في التاريخ، يَخضع فيها الحكّام للقانون ويمارسون سلطانهم وفقاً لقواعد عليا تُقيدهم ولا يستطيعون الخروج عليها". الثالث: من حيث ضمانات تقييد السلطة بالسيادة؛ فإنَّ " نظرية السيادة حسب مفهومها الأصلي الصحيح، تأبى أي تقييد للسلطة، ولا تعرفه، وأنَّ السلطة فيها مطلقة من أيّ قيود؛ لذلك فإنَّه يكون من المنطقي أن لا تعرف هذه النظرية فكرة الضمانات اللازمة لتقييد السلطة؛ وبالتالي فلا يمكن القول بوجود أيّة ضمانات لهذا التقييد. أمَّا بالنسبة للنظرية الإسلامية، فإنَّ الوضع مختلف، ذلك أنَّ رسالة الإسلام لم تكتف بوضع نظام الحكم المقيد؛ وإنَّما عنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد ... ولقد رأينا من من دراسة النظرية الإسلامية أنَّ هذه الضمانات على نوعين: يتمثل أولهما في الشورى، وما تمثله من ضرورة رجوع الحكّام إلى الأمَّة في الأمور الهامّة. ويتمثل الثاني في رقابة الأمّة نفسها على تصرفات الحكّام، وحقّها في عزلهم إن صدر منهم ما يُبرِّر ذلك " (¬3) قلت كما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه؛ فكان فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله. قال ((إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)) (رواه الشيخان). ¬

(¬1) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د. فتحي عبد الكريم:463. (¬2) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د. فتحي عبد الكريم:463. (¬3) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د. فتحي عبد الكريم:464 - 465.

ومن له معرفة بالنظام الإسلامي، لن يجد معاناة في تحديد حقيقة السيادة العليا في النظام الإسلامي كلِّه بما فيه النظام السياسي، فما هي إلا تلك التي يعبّر عنها العلماء والمفكرون المسلمون المعاصرون بتعبيرات من مثل: مبدأ المشروعية العليا، والحاكمية، والشرعية العليا، والحكم بما أنزل الله؛ ونحوها من التعبيرات المألوفة لدى الشرعيين والمتخصصين، بل ولدى عموم المسلمين. 4 - ومن هنا فلا غرابة في اتفاق العلماء والباحثين المعاصرين - ولا سيما من لهم عناية بالسياسة الشرعية - على أنَّ السيادة العليا في الإسلام للشريعة ممثلة في نصوص القرآن والسنة؛ لأنَّ هذه الحقيقة مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة؛ فلا سيادة تعلو سيادة الكتاب والسنة وهيمنتهما على غيرهما من الكتب والشرائع السابقة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فضلاً عن آراء عموم الناس وأقوالهم ونظرياتهم البشرية. والحقيقة أنَّك عندما تضطر لتوضيح الواضحات، ستجد معاناة تشبه معاناتك عندما تحاول إثبات أنّ الشمس هي الشمس لمن لا يمكنه التعرف عليها! وهكذا الشأن عندما يتحدث المسلم عن قضية قطعية؛ ولذلك فمن المنهج العلمي العملي معرفة موقع الحقيقة المتفق عليها من عقيدة أهل الإسلام، وليس بالضرورة تعداد أدلتها النصية وغيرها لكثرتها (¬1)، ولكون الاشتغال بها قد يوحي بأنَّ في المسألة خلافا مع أنَّه لا خلاف فيها. وهنا أكتفي بعبارات كافية شافية - لمريد الحق دون مكابرة - في تأكيد حقيقة أنَّ سيادة الشريعة من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة؛ بعضها للمتقدمين، وبعضها للمعاصرين. فمن عبارات المتقدمين الممزوجة بالاستدلال: قول أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- منبها إلى دليل الإجماع هنا في أقوى صوره: " قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النّاس: عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، وعلمائهم وعامتهم؛ بل عامّة إلى الثقلين الجنّ والإنس. وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين، وما سنّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته .. بل ثبت أنَّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ... فكيف بمن دونهم، بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام: أنَّه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة غيره، فكيف بالخروج عنه وعن الرسل؟! " (¬2). ومنها قول ابن القيم رحمه الله: " والصحيح أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم؛ فإنَّه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنَّه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنَّه غير واجب، وأنَّه مخيّر فيه مع تيقنه أنَّه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ، له حكم المخطئين " (¬3). ¬

(¬1) ويمكن أن يراجع فيها - إضافة إلى كتب العقيدة والتفسير والأصول والرسائل والفتاوى لكبار علماء الأمة ومفكريها المؤصلين من السابقين والمعاصرين- بعض الأطروحات العلمية المتخصصة، ومن أجمعها: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي،، للشيخ عبد العزيز مصطفى كامل، وهو يقع في مجلدين، من مطبوعات دار طيبة عام 1415. (¬2) مجموع الفتاوى:11/ 424. (¬3) مدارج السالكين:1/ 365.

وقال ابن أبي العز الحنفي: " ... إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنَّه مخير فيه، أو استهان به بعد تيقنه أنَّه حكم الله، فهذا كفر أكبر " (¬1). ولاحظ التصريح بنفي التخيير في العبارات السابقة. ومن عبارات المعاصرين الممزوجة بالاستدلال: قول الشيخ محمد شلتوت رحمه الله: "العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة؛ ذلك أن الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌ ليس له أساس، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية، والتي توحي باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أي قوة من خارج النفس. وإذاً فالإسلام يحتم تعانق الشريعة والعقيدة، بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة، وقد كان هذا التعلق طريق النجاة والفوز بما أعد الله للمؤمنين. وعليه فمن آمن بالعقيدة، وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلماً عند الله، ولا سالكا في حكم الإسلام سبيل النجاة " (¬2). ومن العبارات الأكثر دقة في وصف الواقع بحكم المعاصرة، قول الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله: "هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم (المعلوم من الدين بالضرورة)، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي. وهذه الأشياء تمثل الركائز أو (الثوابت) التي تجسّد إجماع الأمَّة، ووحدتها الفكرية والشعورية والعلمية. ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساساً بين المسلمين، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته! وأعتقد أنَّ من هذه الأمور: أنَّ الله تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه، وعلى لسان رسوله، للتبرك بها، أو لقراءتها على الموتى! أو لتعليقها لافتات تزيّن بها الجدران؛ وإنَّما أنزلها لتُتَّبع وتنفّذ، وتحكم علاقات الناس، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر الله ونهيه، وحكمه وشرعه. وكان يكفي هذا القدر عند من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً، وبالقرآن منهاجا؛ لأن يقول أمام حكم الله ورسوله: سمعنا وأطعنا، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة " (¬3)؛ ثم سرد جملة من الأدلة التي جعلت لزومية الحكم بما أنزل من الأحكام المعلومة بالضرورة من دين الإسلام تحت عنوان تالٍ: " كثرة الأدلة على فرضية الحكم بما أنزل الله". والعجيب أن من يتأمّل أصول أدلة هذا الأصل العظيم يجدها مشبَّعة بمعاني اللزومية! فمن يتدبر قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50]-على سبيل المثال- يجد ذلك فيه ظاهراً؛ فمن يتدبر هذه الآية كما يقول شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: " يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله أُكِّد بمؤكدات ثمانية: ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوي، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر ص:304 ط 1418. (¬2) الإسلام عقيد وشريعة:11. (¬3) من فقه الدولة في الإسلام: 102.

الأوّل: الأمر به في قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. الثاني: أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال [قلت: لا في صورة انتخابات ولا استفتاء وتخيير ولا غيره]؛ وذلك في قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، يقول سبحانه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. (قلت: فكيف بمن يقبل - فضلاً عن أن يروّج - الفتنة عن لزوم حكم الشريعة كلها؟!). الرابع: إنَّ التولي عن حكم الله وعدم قبول شيءٍ منه، ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم؛ قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]. الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله؛ فإنَّ الشكور من عباد الله قليل، يقول الله تعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنَّه حكم الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]؟! السابع: تقرير معنى عظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة: 50]. الثامن: إنَّ مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها وأتمها وأعدلها؛ وأنَّ الواجب الانقياد له مع الرضا والتسليم، يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. وهذه المعاني موجودة في آيات كثيرة من القرآن، وتدل عليها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله " (¬1). وهذا أصل من الأصول التي لا تقبل الاستثناء مع القدرة، بل هي لازمة التطبيق، لا خيار لأحدٍ في تطبيقها؛ وفي هذا يقول الشيخ محمد مصطفى الزحيلي: " إنَّ المسلمين عامّة، وحكّام المسلمين خاصّة ليس لهم الخيار في تطبيق الشريعة أو عدم تطبيقها؛ بل هي إلزامية من الله تعالى الذي تفرد وحده بالخلق، وتفرد وحده بالأمر والتشريع، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] وقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]. ومن ترك حكم الله تعالى وهو قادر على تطبيقه، أو قصّر في تنفيذه بدون عذر ولا ضرورة، فإنَّه مؤاخذ ومسؤول أشدّ المسؤولية أمام الله تعالى. وهذا ما سبق بيانه في وجوب تحكيم الشريعة، والانضواء تحت لوائها، والتقيد بأحكامها، وعدم الخروج عنها، أو الخيرة في تطبيقها " (¬2). وقال الشيخ يوسف القرضاوي تحت عنوان: الثوابت لا يتدخل فيها التصويت: " إنَّ هناك أموراً لا تدخل مجال التصويت، ولا تُعرض لأخذ الأصوات عليها؛ لأنَّها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً. فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين، وما عُلِم منه بالضرورة " (¬3). ¬

(¬1) وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه، لسماحة مفتي عام المملكة السابق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:35. مع رسالة: تحكيم القوانين لمفتي الديار السعودية الأسبق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله. (¬2) التدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية:103. (¬3) من فقه الدّولة في الإسلام:142.

وقال الدكتور عبد العزيز عزت الخياط: " والسيادة للشرع موضع إجماع المسلمين قاطبة، لا يشذّ عن ذلك واحد ... فأهل السنة يرون أنَّ الإمام يستمد سلطته من الأمّة، سواء أكان المختارون له هم أهل الحل والعقد، أو من الأمّة بمجموعها إذا تيسر ذلك، وسلطته تستمد من الشعب، وإن كانت السيادة للشرع. وهذا فرق آخر بين الديمقراطية والإسلام؛ فالسيادة والسلطة في الحكم الديمقراطي هي للشعب، بينما السيادة في الإسلام للشرع، والسلطان للأمّة " (¬1). فالسيادة في دين الإسلام لشريعة الإسلام باتفاق أهل الإسلام؛ وما يذكره بعضهم من وجود خلاف، فهو خلاف لفظي ليس إلا. إذ هناك من يقول: السيادة للأمّة، ولكنه في حقيقة الأمر يعني أنَّ السلطة في تحقيق السيادة للأمّة؛ لأنَّه يعود ليؤكد أنَّ الأمّة محكومة بالشريعة الإسلامية ممثلة في الكتاب والسنّة. وسبب هذا الفهم: الخلط بين مصطلح السيادة والسلطة؛ ولهذا فرَّق أهل الشأن بينهما. وفي هذا يقول الدكتور عبد الجليل محمد علي: "بالنظرة المتعمِّقة في النظريات السالفة للوقوف على ما اختلفت فيه وما اتفقت عليه، نجد أنَّ الخلاف ما هو إلا خلاف في الصياغة دون المضمون؛ وآية ذلك: أنّ النظريات قد اتفقت فيما بينها على أنَّ السيادة للأحكام الإلهية الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ وهذا ليس محل جدال أو نقاش مع أصحاب نظرية السيادة الإلهية. أمَّا أصحاب النظرية الثانية فإنَّهم بعد أن ذكروا لنا أنَّ السيادة للأمَّة، عادوا فقالوا: إن هذه الأخيرة - وأقصد الأمَّة - يجب أن لا تبرم أمراً بموجب ما لها من سيادة، يخالف نصاً وارداً في أحكام التشريع الإلهي؛ وبذلك تكون سيادة الأمَّة مقيدة بهذا التشريع الإلهي، فإذا تجاوزته فقدت مشروعيتها. وفي التحليل النهائي فإنَّنا نجد أنفسنا أمام سيادة للأمّة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة، وهي: سيادة التشريع المنزّل من عند الله، ... وبذلك لا يكون هناك خلاف في الحقيقة بين هذه النظريات المختلفة " (¬2). وواضح أنَّ تقييد سيادة الشعب يخرجها عن معنى السيادة الأصلي الذي يعني: السلطة العليا المطلقة التي لا يقيدها شيء أو التي لا توجد سلطة أخرى إلى جانبها كما يقول دوجي. وجاء في كتاب: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية: "الإسلام جاء بقواعد تبيّن السيادة للشرع، وأنَّ حقّ السلطان للأمّة؛ وأنَّ الإمام نائب عن الأمّة في ممارسة ومباشرة هذا السلطان. ولقد خفي هذا المعنى على كثير ممن نسب السيادة أو بعضها للأمّة، حيث اختلط عليهم ممارسة السلطان ومباشرة الحكم مع واقع السيادة، فجعلوها أمراً واحداً! مع اختلافهما شرعاً وعقلاً " (¬3). وجاء فيه: " وما جعله الله عز وجل من سلطان للأمّة بالاستخلاف وللإمام بالبيعة، ليس تفويضاً ولا منحاً للسيادة بحال من الأحوال، بل هو تكليف وابتلاء للقيام بواجبات الدين وأحكامه " (¬4). ¬

(¬1) النظام السياسي في الإسلام - النظرية السياسية -نظام الحكم:73 - 74. (¬2) مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة، دراسة مقارنة (النظام الإنجليزي-النظام الفرنسي- النظام السوفييتي):223 - 224؛ وينظر أيضاً: دراسة في منهاج الإسلام السياسي، لسعدي أبو جيب:73 - 74. (¬3) د. محمد مفتي، ود. سامي الوكيل:38. (¬4) المصدر السابق: 46.

وهذه السيادة لا يخرمها ظلم ظالم، ولا استبداد أحدٍ باسم الشريعة؛ فالشريعة ما شرع الله، لا ما نسبه أهل الأهواء والظلم إلى شريعة الله؛ ولذلك جاءت النصوص الصريحة في تجريم الجور، وتحريم الظلم، ومن ذلك الوعيد لبعض القضاة من أهل الإسلام بالنار، لتجاوزهم سيادة الشريعة، وحكمهم بالجهل فضلاً عن تعمد الظلم. حيث تقاس شرعية أعمال الدولة بمدى التزامها بسيادة الشريعة. ولا تكون أخطاء الدولة العارضة فضلاً عن جورها المتعمد، حكماً على الإسلام وسيادة شريعته. 5 - ولمَّا كانت طريقة أهل الإسلام في نظر المسائل المحدثات تنطلق من منهج الإسلام ذاته؛ وذلك من خلال: ردّ ومحاكمة كل مسألةٍ، إلى الكتاب والسنة وفق أصول الاستنباط الصحيح؛ فما لم يتنازع المسلمون في حكمه قبولاً أو ردّاً، فهو الإجماع الشرعي المعتبر؛ وما تنازع المؤهّلون للاجتهاد في حكمه فهي التعددية الفقهية السائغة، تكون محلّ مناقشة وتدارس بين أهل العلم لا محل تجريم؛ وما كان محلّ تفصيل فصّلوا فيه. لمّا كان ذلك كذلك، تمت محاكمة الديمقراطيات الحديثة، المتفرعة عن نظرية سيادة الأمّة ثم نظرية سيادة الشعب؛ إذ اتفق المؤهّلون من أهل العلم بالشريعة على رفض فلسفتها وأيديولوجيتها المخالفة للشريعة؛ ورأى جمهورهم التفصيل في آلياتها، لإمكان الفصل بين الأمرين. وبناء على رأي جمهور فقهاء العصر في مشروعية التدرج في تطبيق العدل الإسلامي (الشريعة الإسلامية)، تمت مشاركة الحركات الإسلامية بالدول العلمانية في العمل السياسي ببلادهم، مفيدين من آليات الديمقراطية فيها؛ إذ لا خيار مستطاعٍ لهم فيها إلا سلوك هذه الطريق، التي تساهم في تخفيف منكر الحكم بغير ما أنزل الله شيئاً فشيئاً بالأدوات السلمية الممكنة. وللأسف أن ثمة من عكس العملية في عالمنا العربي والإسلامي؛ فعمل على ما يؤدي إلى استخدام آليات الديمقراطية في ترسيخ فلسفتها المتفق على بطلانها شرعا. وهذا ظاهر في تقديم فلسفة الديمقراطية المناقضة للإسلام، على الإسلام ذاته، من خلال عزل الشريعة عن العقيدة، وتجاوز تلازمهما المتقرِّر شرعاً بادعاء عدم لزوم الحكم بها في حالةٍ ما، والتعامل مع الشريعة كما لو كانت قوانين بشرية مدنية تقبل الاستفتاء عليها بنعم أو لا؟! وقد بيّن الشيخ مصطفى صبري رحمه الله أنَّ ادعاء عدم لزوم الشريعة فرع عن القول بمبدأ (فصل الدين عن السياسة) العلماني، إذ قال رحمه الله: "القول بفصل الدين عن السياسة معناه: ادِّعاء عدم لزوم الدين للحكومة ... ومعنى عدم لزومه للحكومة: ألا يكون له - أي للدين - سلطة عليها، ورقابة على أعمالها كما كانت للحكومة سلطة على الأمّة، ورقابة على أعمالها " (¬1). بل وصفها في الحالة الإسلامية: " إعلان استقلال من الحكومة التي كانت تابعة في أحكامها لأحكام الإسلام ضدّ متبوعها، وهو لا يقلّ في المعنى عن إعلان الحرب؛ لتمرّدها على متبوعها وخروجها عن طاعته " (¬2). 6 - وقبل ختام هذه المقالة أذكر ما دوّنه بحرقة أحد شهود الحقبة التي أثيرت فيها شبهة سيادة الأمّة، وهو أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله، إذ يقول، منتقداً من ينسبون (مبدأ سيادة الأمَّة) إلى الإسلام: ¬

(¬1) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعبادة المرسلين، له: 4/ 281. (¬2) المصدر السابق:4/ 283.

"ما درى أولئك أنَّ هذا المبدأ هو في حقيقته نظرية فرنسية - شأنه شأن مبدأ السيادة - استنبطه الفقهاء [يعني شراح القانون] الفرنسيون قبيل عصر الثورة الفرنسية، لظروف خاصّة بفرنسا في ذلك الحين، وأنَّ هذه النظرية إنَّما كانت بمثابة سلاح من أسلحة الكفاح ضد مبدأ (سيادة المَلِك) الذي كان سائداً في ذلك الزمان، وكان يستند إلى نظرية (الحق الإلهي) [يعني المفهوم الكنسي] التي لم يعد لها في زماننا هذا مكان، اللهم إلا في متحف آثار تاريخ المذاهب والنظريات السياسية. وما دروا أنَّ مبدأ سيادة الأمَّة - كما قررته الثورة الفرنسية في دساتير الديمقراطيات الغربية - لم تعد بنا حاجة إليه في هذا العصر؛ لأنَّه لم يعد هناك وجود لمبدأ سيادة الملك ونظرية الحق الإلهي اللذين من أجل محاربتهما استنبط الفقهاء الفرنسيون مبدأ سيادة الأمَّة. وفضلاً عن ذلك فإنَّ هذا المبدأ - كما أثبتت حوادث التاريخ حتى في البلد التي أنشأته (وهي فرنسا) - كان خطراً على الحريات، وأقوى سناد للاستبداد " (¬1). ولارتباط فكرة التقليد في (سيادة الأمَّة) عند أولئك بالتقليد في (نظام الاقتراع العام)، علق رحمه الله وعفى عنه على ذلك بقوله: " ليس هناك فيما أعتقد كارثة نكبتنا بها نزعة التقليد الأعمى والأعرج للأنظمة الغربية أفدح من تلك التي نكبتنا بها حين قلدنا الغرب ونقلنا عنه نظام الانتخاب (أو الاقتراع) العام. لقد وصفتُ هذا التقليد في هذا المقام (بالأعمى والأعرج)؛ لأنّنا أخذنا بهذا النظام في بداية عهدنا بالنظام النيابي البرلماني - طبقا لدستور عام 1923م- حين كانت نسبة الأميّة لدينا في مصر تبلغ نحو 80% من عدد السكان، بينما كانت انجلترا التي تعدّ مهد النظام النيابي البرلماني وموطنه الأول، والتي سبقتنا في الأخذ به بعدة قرون، لم يتقرر فيها نظام الانتخاب العام إلا عام 1918م، أي قبل أن نأخذ به بخمسين سنة! (¬2). وبذلك أغفلنا السُنَّة السليمة القويمة التي يجب أن تسير عليها أنظمة الحكم في طريق تطورها، وهي: سنّة التدرج. كما أغفلنا النظر إلى النتائج العملية للأخذ بذلك النظام الانتخابي في البلاد التي سبقت لها تجربته، وإلى آراء رجال الفكر السياسي بصدده، واقتصرنا على النظر إلى النصوص الدستورية دون التفات إلى النتائج العملية، وفي ذلك خطأ مبين فاحش مألوف لدى كثير من المقلدين " (¬3). ثم أورد شاهداً تاريخياً إذْ قال: "حين تقرّر في فرنسا لأوّل مرّة نظام الانتخاب العامّ، سنة 1848م عدّ ذلك كما يقول الأستاذ بارتملي -: خطئاً كبيراً، إذ أدّى ذلك الخطأ إلى سقوط الجمهورية، وقيام نظام الامبراطورية (ذي الصبغة الدكتاتورية)؛ فمن الخطر (كما يقول ذلك العالم الفرنسي الكبير) أن ندعو عامّة الشعب إلى الاشتراك في الشؤون العامّة، إذا كان أفراده لم يحرزوا بعد قسطاً من النضوج السياسي ومن روح الجماعة le sens collectif " (¬4) . قلت: كل هذا في من زعم أنَّ لمبدأ سيادة الأمَّة صلة بالإسلام! ¬

(¬1) أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي:248 - 249. وقد فصّل ذلك بالأمثلة في كتابه: مبادئ نظام الحكم في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة: 177. (¬2) وقال في الحاشية تعليقا: " يلاحظ أنَّه حتى عام 1918م كانت انجلترا تأخذ بنظام الانتخاب المقيد (وهو عكس نظام الانتخاب العام) أي أنّه يشترط في الناخب شرط نصاب مالي أو كفاءة ". (¬3) المصدر السابق: 263. (¬4) المصدر السابق:264.

وفي هذا المعنى يقول فرانك بيلي: " قد يبدو لأوّل وهلة أنَّ التصويت ثم قبول قرار الأكثرية شيء منطقي ... لكن المسألة ليست بهذه البساطة! لأنَّه كثيراً ما يكون هناك أكثر من خيارين يتعين انتقاء واحد منهما، وعلاوة على ذلك فإنَّه لا يتبع أن يضع كل مقترع عدداً من الخيارات بالترتيب نفسه الذي يفضله. لنفترض أنَّه توجد ثلاثة خيارات أوب وج، فقد لا توجد أكثرية 50بالمائة + 1 لأي منها؛ وإذ طلب إلينا ترتيبها فقد تكون احتمالات الترتيب كما يلي: أ, ب، ج، - أ، ج، ب - ب، أ, ج - ب، ج، أ -ج، أ، ب - ج، ب، أ - ومع ذلك قد لا تظهر أكثرية واضحة في الترتيب. ومن البديهي أنَّ الأمر يزداد صعوبة حين تكون لدينا أربعة خيارات للحصول على أكثرية واضحة لخيار ما؛ ولذلك قد يتم استنباط قواعد غير قاعدة 50 بالمائة +1 " (¬1). ومع إشكاليات محددات الأغلبية ومن ثم محددات الأقلية - يقول أستاذنا الشيخ الدكتور منير البياتي حفظه الله: " في النظام الديمقراطي لا توجد ضمانات ضد طغيان الأغلبية في البرلمان، وهي تمتلك حق التشريع، من أن تعصف بحقوق الأقلية، وتستبيح لنفسها تدميرها متبجحة بأنَّها منتخبة من قبل الشعب، وأنَّها تمثله! وأنَّ إرادتها مطلقة؛ لأنَّها تمثل إرادة الأمَّة صاحبة السيادة!؛ والنتيجة الطبيعية لذلك، هي الاستبداد والطغيان " (¬2)؛ وقد استشهد بأقوال لعدد من الأساتذة الغربيين وغيرهم في باب مهم بعنوان: تطبيق النظام الديمقراطي، من أطروحته القيمة: (النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية - دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة)، والذي أمضى في تأليفها ما يقارب عقداً من الزمن. 7 - وأخيراً فإنَّ حالات الضرورة الاستثنائية، لا تخرم مبدأ سيادة الشريعة بحال؛ وإنّما قد ترفع الإثم عن التأخر الاضطراري في إعلان تحكيم الشريعة أو التدرج في تطبيقها؛ وهذه مسألة خارجة عن محل الإشكال، ومع ذلك فإنَّ العاجز عن تطبيق الشريعة يجب عليه وجوباً: التزام ما يمكنه تطبيقه منها في نفسه ومن حوله ومن تحت ولايته مع اعتقاد لزوم تحكيمها فيما يتطلب سلطانا، عند الاستطاعة على ذلك، دون أن يكون لأحدٍ في ذلك خيرة. وقد نبَّهت - وغيري - إلى قاعدة الاستثناء للضرورة في بدايات ما يُعرف بالربيع العربي، إثر سقوط رأس النظام التونسي السابق، وذلك في خاطرة بعنوان: نحو وعي فقهي سياسي خاطرة من وحي الثورة التونسية، ومما جاء فيها: "ولعل من أهم وظائف العلماء في مثل هذه الحال في هذه العصر: أن يبادروا إلى درء الفتن، وبناء الوحدة الوطنية الأصلح في تحقيق المصالح ودرء المفاسد منطلقين من أصول الإسلام ومبادئه وموازنته الشرعية. وعليه؛ ففي مجتمعات تعمقت فيها الأحزاب غير الإسلامية فكرا، ينبغي أن يتم التعاون في المشترك الوطني الذي حفظ للأمة كيانها، ويُعملوا قواعد التدرج في بناء دولة تدرأ المفاسد، وتحقق ما أمكن من المصالح. وليس من المناسب طرح ما تقتضي السياسة الشرعية التأني في طرحه. ففرق بين تقرير الأحكام الشرعية الثابتة والمتغيرة، الذي يجب أن يستمر وتتوارثه الأجيال، وخاصة ما كان من قبيل (فقه المُنْسَأ أي: المؤخر لحينه)، وبين ظروف تطبيق ذلك وآليات تنزيله في الواقع، التي تحكمها ظروف المرحلة وفق أسس شرعية معروفة عند علماء الشريعة " (¬3). هذا ما تيسر تدوينه عرضاً، في بيان قضية مهمّة، قد تخفى على بعض أهل الإسلام تفاصيلها لارتباطها بمصطلح أجنبي النشأة؛ ولكثرة ترويج الديمقراطية من خصوم الإسلام وغيرهم، دون وعيٍّ للفروق الجوهرية في النظر إلى الديمقراطية بين فلسفتها المناقضة للإسلام في جعلها السيادة للبشر أمة أو شعبا أو برلمانا، وبين آلياتها التي يمكن الإفادة منها بعد إخضاعها للسيادة الإسلامية وضبطها بضوابط النظام الإسلامي. أسأل الله تعالى أن يوفق أهل الإسلام للحكم بشريعته في كل بلادهم، حتى يذوق النّاس طعم العدالة الإسلامية ورحمة الله في أرضه، دون تدخل طاغية مستبدّ متجاوز لحدود الله، فرداً كان أو جماعة. وصلى اللهم على خاتم الأنبياء، وقدوة الحكّام الأوفياء، نبينا محمد وآله. ¬

(¬1) معجم بلاكويل للعلوم السياسية:393. (¬2) النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية - دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة:319. (¬3) نشر في عدد من المواقع ومنها موقع الاتحاد العالمي الإسلامي، وهي موجودة على موقعي: http://smotaibi.com/dim/articles.php?action=show&id=219

على هامش سجال "السيادة"

على هامش سجال "السيادة" عبد الله بن صالح العجيري الثلاثاء 26 ذي الحجة 1432هـ صدقاً، ما كنت أرغب في الدخول في هذا السجال، خصوصاً وأنه قد بدأ يطول، وبدأت بوادر السقوط في نكسة التكرار تلوح، وأخشى أن ندخل جميعاً في حلقة مفرغة، يكون فيها التعويل على مجرد المكاثرة والتكرار، وتكون الغلبة لمن يكتب أخيراً، وتضحى فيها العصبيات الشخصية والمجاملات هي المسيطرة على المشهد، دون محاولة جادة لتفهم أطروحات المخالف، والتنزل قبولاً أو رفضاً في مناقشة ما يطرحه من اعتراضات. حين ترى فصيلاً يطرح إشكالية وتأتيه الاعتراضات مفصلة عن اليمين والشمال ثم تجده يعرض تماماً عن مناقشة تفاصيل هذه الاعتراضات فاعلم أن ثمة مشكلة حقيقية، وليس ينفعه إظهار الابتهاج والفرح بتحريك المياه الساكنة وإثارة النقاش، ثم هو يتمنع عن أداء واجب النقاش بالسماع والجواب. ليس القصد هنا بطبيعة الحال المطالبة بالتسليم باحتجاجات هذه الطائفة أو تلك لكن الحديث عن ضرورة مناقشة هذه الاحتجاجات والتعاطي معها على الأقل كشبهات تعكر صفو القضية المطروحة، وبالتالي فهي تحتاج لوقفات تجلي الموقف منها صحةً وفساداً، وليس من المعقول أن يعيد طرفٌ استجلاب اجتجاجاته القديمة ليقوم بإعادة طرحها من غير توقفٍ عند الاعتراضات التي قدمت حيالها ليطور من طبيعة الاحتجاج القديم مجيباً عن إشكال الخصم عند طرحها. حين أقرأ مثلاً استدلال أحدهم (بأحكام الجزية) وما يترتب عليها من آثار ليخرج لنا بفكرة (سماح الشريعة بعدم تطبيقها)، فإنني لا أستطيع أن أخفي عجبي الشديد من هذا الاستدلال، تعظم حالة العجب طبعاً حين يعيد ذات الشخص تكرار ذات الاحتجاج مرة بعد مرة مع توارد الاعتراضات، هذا التصور الغريب لأحكام الجزية والذي يختزلها في ضريبة مالية تدفعها الأمم لقاء إبقاء دارهم على ما هي عليه وإقرار شريعتهم وسيادتهم كما هي هو تصور شديد الغرابة لمن قرأ ولو قليلاً في أحكام الجزية، بل لمن قرأ خاتمة آية الجزية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، فالجزية إنما تؤخذ على أهل الذمة ليعيشوا في كنف الأمة المسلمة وفي ذمتهم أما الدار والشريعة فهي للمسلمين، الدار دار إسلام والشريعة الظاهرة شريعته، فلا أقل مع غرابة هذا الاستدلال وقيام المعارض من تثبيت هذا الاستدلال بالبرهنة والتدليل، لا أن يعاد مرة بعد أخرى وكأن شيئاً لم يكن. هذا مثال واحدٍ فقط من أمثلة كثيرة تعصف بهذا السجال وكأن الحوار إنما هو من طرف واحد، عليه واجبات التدليل وتقديم الإجابات أما الطرف الآخر فلديه كلام يريد أن يقوله ولا يهمه بعد ذلك ماذا قال أو سيقول الطرف المقابل، وراجع تفاصيل مشهد السجال وما قدمه كل طرف من أدلة وجوابات تعلم حجم الإشكال.

إن عملية الاستدلال لا تكون بمجرد تكثير سواد الأدلة بل لا بد أن تكون منهجية الاستدلال بهذه الأدلة صحيحة أولاً ولا بد من دفع الاعتراضات عنها ثانياً، وليس من المعقول أن يأتي المستدل ليناقش فكرة هيمنة الشريعة وإلزاميتها فيقتصر على سوق طائفة من أدلة (عدم الإكراه) من جنس (لا إكراه في الدين) (لست عليهم بمصيطر) ويعرض تماماً عن الطائفة الأخرى من صور الإكراه بحق (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) والسيرة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في فتوحاتهم، ومحال الإجماع من كلام الفقهاء في تقرير العقوبات على فعل المعاصي وترك الواجبات حتى على مستوى التعبدات الشخصية كإجماعهم على عقوبة تارك الصلاة مثلاً، فإن تغييب الدلائل المضادة للفكرة والإعراض عن مناقشتها ستشكل ولا بد ثغرة كبيرة في تقرير هذه الفكرة خصوصاً إذا كانت هذه الأدلة مبسوطة على لسان الطرف الآخر. أما الاستكثار (بالأدلة المضروبة) من جنس (تولد النفاق من ظاهرة الإلزام) فهي في الحقيقة تزيد القول وهناً بدل تقويته، وقد أحسن الشيخ فهد العجلان في تفكيك هذه الإشكالية وبيان أوجه الاعتراض عليها عبر مقاله الماتع (هل الإلزام بأحكام الإسلام يؤدي إلى النفاق؟) ومع ذلك فلم نجد ممن استدل بهذا الدليل اعتراضاً على ما طرحه الشيخ أو اعترافاً بخطأ هذا الجنس من الاستدلال، وإنما ساد منطق الإعراض، وكأن منطق الصمت كفيل بإبطال اعتراضات الخصم أو هو ضمانة لنسيانها في خضم السجال، وهذا الاستدلال المليء بالثغرات يعبر عن حالة التكثر والتعجل والتشوه في منهجية الاستدلال الذي يمارسها هذا الفصيل في معالجته لقضية كلية خطيرة تتعلق بسيادة الشريعة. الأكثر إيلاماً حين تمتد حالة التشوه من مجال الاستدلال لتصل إلى نقطة البحث ذاتها فيتشوه البحث كله بسبب محاولات إعادة تعريف محل الإشكال وتطويره بحسب ظروف السجال، ولتتشوه في الطريق أقوال المعترضين حين يصورون -بحسن نية أو سوء نية- وكأنهم جماعة من المغفلين الذين لا يكادون يفقهون حديثاً، بل ويسجلون اعتراضاتهم على البدهيات والقضايا الواضحة. نعم، تزداد المشكلة حين تتكاثر حالات الاتهام (بسوء الفهم) للطرف المستقبل للخطاب مع ما معه من علمٍ وذكاءٍ وزكاءٍ ثم لا تجد اعترافاً حقيقياً من مصدر الخطاب بأن المشكلة قد تكون من عنده في شكل الخطاب وهيئته على الأقل، أو الاعتراف بأن ثمة نقطة اختلاف عميقة تستحق المعالجة. دعونا نعيد ترتيب المسألة باختصار، ولنحاول قدر الإمكان تحرير محل الخلاف الحقيقي بعد أن زاده طول السجال غموضاً بدل أن يكون سبباً في تنقيحه وتحريره، ثم نعلق بعدها على جملة من الإشكالات. ليست المشكلة أبداً في اعتقاد حل الحلال شرعاً أو حرمة المحرم. وليست المشكلة في أن الالتزام الفردي بهذه الأحكام الشرعية واجب شرعي، وأن تارك الالتزام محل للمؤاخذة الأخروية. وليست المشكلة أيضاً في وجوب الدعوة لتحكيم الشريعة، وأن ثمة خيارات متعددة في فرض الهيمنة الشرعية في الواقع، وأن الأمر قد يستدعي أناةً وطول نفسٍ وتدرجٍ لفرض هذه الهيمنة في الواقع. ليس شيءٌ من ذلك مثيراً للإشكال، ولا هو محل للخلاف، غير أن المخالف لسببٍ غير مفهومٍ يعيد ويكرر نفي هذه المعاني عن كلامه، موهماً أن جلّ مخالفيه فهموه خطأً. موضع الإشكال والخلاف من البداية، في مسألة: هل يصلح أن يخير المسلمون بين أن يحكموا بدينهم، وبين أن يُحكموا بغيره؟

هذا ببساطة هو محل النزاع الذي انطلق منه هذا السجال، وهو المحل الذي تتجاذبه جملة من الإشكالات، وليس بخافٍ أن بواعث هذا السجال وذيوله إنما جاءت تعليقاً على مشهد الربيع العربي، وثورة الشعوب المسلمة، ولأجله طرحت مسألة حرية هذه الشعوب المسلمة في قبول أو رفض تحكيم الشريعة، والموقف الشرعي الصحيح من هذا القبول والرفض، ما بين طرف يرفض مبدأ التخيير أصلاً، وآخر يراه حقاً من حقوق الأمة وخياراً يجب احترامه. (1) الإشكالية الأولى التي تقفز إلى ذهني حين التأمل في مشهد تخيير المسلمين بأحكام الشريعة هو أنها تنطلق من فرضية مفادها أن كون الشعوب مسلمة لا يصح أن يكون تعبيراً كافياً عن رغبتها في تحكيم الإسلام، فكون الشعوب موصوفة بالإسلام شيء ورغبة تلك الشعوب بحكم الشريعة شيء آخر، الأمر الذي يجعل من مسألة التخيير بين الشريعة وغيرها عملية واقعية مشروعة، ومن بدهيات التدين بالإسلام أنه يحتوي في طياته الرغبة في تحكيمه فهذا التحاكم والالتزام ليس مجرد لازم من لوازم الإيمان بل هو واحد من مكوناته الصميمية، فلا معنى إذن في تخيير المسلمين بالتحاكم لشريعتهم إلا أن يكون تخييراً لهم في إسلامهم قبولاً ورفضاً وهو خيار لا معنى له إطلاقاً حين يكون الحديث عن شعوب مسلمة .. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} .. (2) تَفهُّم هذه الإشكالية يقود إلى إشكالية أخرى تتصل بمسألة التخيير بين الشريعة وما يضادها، فحين تكون قابلاً بمبدأ التخيير بين الشريعة وضدها، فستلتزم إتاحة المجال لحرية الاختيار ليكون خياراً فاعلاً في الساحة، وبالتالي فلا بأس في مشهد النظام المقبول إسلامياً من إتاحة المجال للدعاية للإسلام والدعاية المضادة له، وإقامة الأحزاب بكافة صورها وأشكالها، وإعطاء المجال لمادح الشريعة وللقادح فيها بالكلام والحديث والدعوة، بل بذل حق إعلان الطعن في الله ونبيه ودينه، كل ذلك لتكون صادقاً في إتاحة المجال للشعوب المسلمة للاختيار الحر وفق معطيات ينصف فيها الباطل من الحق، ويأخذ فيها الباطل حصته من حق الدعوة كحق الحق من غير فرق، ولأجل هذا سبق وأن دارت رحى السجال حول مجال الحريات في ظل النظام السياسي الإسلامي بالنظر إلى "حرية المنافقين"، والكل يعلم نتائج ذاك السجال وما ترتب على الاستدلال بأحوال المنافقين من لوازم باطلة، كفتح المجال للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وشريعة الإسلام والسخرية والهزء بالمسلمين والتآمر على الدولة المسلمة .. الخ، فإن كان المخالف يؤمن بأن الإسلام يُؤمِّن هذا الفضاء الفسيح من الحريات المنفلته، ولا يرى بأساً في فتح المجال للقادحين في الشريعة، فعليه أن يدلل على مشروعية رأيه أولاً، ثم عليه تقديم الإجابات على سلسلة طويلة من الإشكالات، لا أن يتجاوز واجبات الاستدلال هذه بفرض رؤية غير مدللة ولا مبرهنة، وإن أذعن إلى واجب التضييق والحد من هذا اللون من الحريات، فهل التضييق عنده ناتج عن هيمنة القيم الشرعية؟ أم هو ناتج عن حكم الصندوق؟ فإن قبل بهيمنة الشريعة فقد أقر بعلو الشريعة ذاتياً على كل نظام وعدم افتقار تحكيمه في الواقع إلى شرعية بشرية، وإلا فقد جوّز تمدد هذا المجال من الحريات، وعاد على قوله بالتضييق بالنقض.

(3) وهذا يؤكد الإشكالية الثالثة وهي تتصل بمنطق الحق والباطل وأحكام كلٍ منهما وآثاره، فالإسلام جاء بمنظومة من التشريعات العقدية والعملية انطلاقاً من حقيقة كونه حقاً، فجاءت هذه الشريعة فرقاناً بين الحق والباطل لا على مستوى التنظير والحكم الأخروي فحسب بل على المستوى العملي وفق منظومة تشريعية يتم من خلالها التفريق بين قيم الحق وقيم الباطل، ولتلغى كافة صور المساواة بينهما، (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، بل لتمتد حالة نفي المساواة إلى حملة الحق وحملة الباطل، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ}. أما الأمثلة والشواهد على هذه الحقيقية الشرعية في تفاصيل التشريعات العملية فأكثر من أن تُذكر في أبواب العبادات والجنايات والحدود والتوارث والأنكحة والأطعمة والشهادة والولاية والحضانة والقتال وحرية التعبد الخ الخ .. وخذ هذه الشواهد مختصرة للتدليل على سعة الشبكة التي تشملها هذه المنظومة التشريعية العملية، والتي تؤكد بدهية نفي المساواة بين حق الحق وحق الباطل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}، {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، (لا يقتل مسلم بكافر)، (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)، (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)، (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، (من تشبه بقوم فهو منهم) .. الخ الخ. هذه بعض الشواهد فقط مما خطر في بالي الآن، وأظنها كافية في التأكيد على هذه الحقيقة الشرعية وهي تغني عن الاستطراد والاستغراق في ذكر الفروع الفقهية الناشئة عن هذه الشواهد في مختلف الأبواب الشرعية.

حين أستحضر هذا المعنى فلا أستطيع إخفاء استغرابي الشديد حين أجد تلك المقابلة التي تضفي شرعية للباطل متى ما أعطيت تلك الشرعية للحق، فإذا أعطيت للحق حق الدعوة فيجب أن تقبل ذلك من الباطل، وإذا سمحت بفرض هيمنة الشريعة فاقبل من العلماني أن يفرض هيمنة العلمانية، إنه من المهم جداً الانطلاق بالإسلام باعتباره حقاً والتعاطي مع الأفكار المخالفة له على أساس أنها باطل لا تتمتع بالشرعية، وأنه لا تناقض إطلاقاً حين أفسح المجال للحق ليعمل في الواقع وأجهد في منع جيوب الباطل، وأخشى صادقاً أن يكون محل السجال القادم في حقوق الباطل في المجتمعات المسلمة. (4) آخر ما أحب إبداؤه من ملاحظات يتصل بحالة الخلط الشديد بين سؤالين شديدي التباين، حالة الخلط هذه أفرزت قدراً من الإشكال في معالجة فكرة سيادة الأمة وتطبيق الشريعة السؤالان ببساطة شديدة هما: - من يطبق الشريعة؟ - لماذا نطبق الشريعة؟ والوعي بالفارق بين السؤالين يحل مشكلة سؤال السيادة لمن؟ فالذي يطبق الشريعة -في الأصل- ويخرجها إلى حيز التنفيذ هم حملة النظام السياسي الإسلامي المنبثق عن الأمة. أما لماذا تطبق الشريعة فلأن تطبيقها هو مراد الله تعالى. فشرعية التطبيق ليست ناشئةً عن إرادة الأمة وإنما الشرعية مكتسبة من واضع هذه الشريعة وهو الله تعالى، وفرق عظيم بين هذا التصور وبين من يجعل شرعية التطبيق راجعاً إلى إرادة الناس، فرق بين من ينفذ أحكام الشريعة في الواقع لأنها حكم الله وبين من ينفذها لأنها حكم الصندوق. فالأمة إذن هي من تحمل الشريعة، أما لماذا تحملها؟ فلتحقيق مراد الله تعالى الذي أمر بالالتزام والإلزام بها. فإن قيل: الشريعة لا تطبق نفسها بنفسها، وإنما تحتاج إلى إرادةٍ وأناسٍ يطبقونها، وبغير هذه الإرادة لا يمكن أن تتمثل الشريعة في الواقع. فيقال: نعم، وليس هذا محل الإشكال ولا مجال البحث، فإن جميع الأعمال البشرية والتكاليف الشرعية لا تتحقق وجوداً في الواقع إلا بإرادة الامتثال، فالصلاة مثلاً لن تحصل ما لم يرد المصلي إيقاعها ولكن هذا لا يعني أن شرعية تحقيق الصلاة في الواقع ناشئةٌ عن هذا الإرادة هذا أولاً، وثانياً .. ليت من يطرح هذا الاستشكال لمنع هيمنة الشريعة إلا بالاختيار الحر، يستحضر إشكاله عند فرض هيمنة الديمقراطية في الواقع، فهي الأخرى كرةٌ في ملعب النظام السياسي تفتقر إلى تحريك الإرادة لتتحقق في الواقع، وهي الأخرى ليست كائناً يمشي على قدمين بل هي تحتاج إلى جملةٍ من الضمانات لتصح الممارسة الديمقراطية، ليتم حماية الأقليات من دكتاتورية الأكثرية، ولتتحقق قيم العدالة والمساواة، فما ستقدمه من معالجات لضمان تطبيق نظام صحي ديمقراطي في واقع (ما قبل النظام الديمقراطي) فالتزمه عند إرادة فرض الشريعة في واقع (ما قبل الشريعة)، وإذا كنت ترى أن أي نظام سياسي يجب أن يكون محكوماً بقيم العدل والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص، وأن الدولة يجب أن تكون دولة حقوق ومؤسسات وأن لهذه المعاني هيمنة واجبةً لذاتها عندك، فليكن هذا مدخلاً لتصور إمكانية إقامة نظامٍ محكومٍ بالإطار الإسلامي تكون السيادة فيها للشريعة، خصوصاً ونحن نتحدث عن شعوب مسلمة لا يتصور أن يُطرح عليها سؤال الهوية الدينية، فما بالنا نصر على طرحه، ونلتزم في سبيله بتلك اللوازم الفاسدة.

ونحن نتفهم تماماً أن فرض هيمنة الشريعة في الواقع يحتاج إلى حكمةٍ وعقلٍ وتصورٍ لأحكام الشريعةِ ومعطيات الواقعِ، فالذي حطم الأصنام بمكة يوم الفتح هو من كان يصلي عند الكعبة والأصنام تحيط بها من كل جانب. كما تنفهم أيضاً أن كثيراً من العاملين في الشأن السياسي من الإسلاميين اليوم يعملون في مناخ يستدعي قدراً من المرونة والمناورة واستحضار أحكام الضرورة والحاجة، ومعرفةً بحدود فقه الممكن والمتاح، وهم مطالبون بتقديم خطابٍ سياسيٍ مقبولٍ يلتزم حدود الاستطاعة شرعاً فلا يتجاوزون حكماً شرعياً ممكن التطبيق في ضوء معطيات الواقع، ولا يُلزمون أنفسهم ما لا يطيقون، ويجب على الشباب المسلم أيضاً أن يتفهم طبيعة هذا الخطاب السياسي والحاجة الماسة إليه تحقيقاً للمصالح وتخفيفاً للشر، وأنه لا يلزم أن يكون معبراً عن حكم الشريعة الأصلي، وأن ثمة مجالاً للاجتهاد في مساحات فقه الممكن، المهم أن لا يتم تحريف أحكام الإسلام تحت أي ذريعة وأي مبرر، بل الإبقاء على صفاء الإسلام ونقاء شريعته من التحريف واجبٌ شرعيٌ مقدسٌ. وإذا كان السياسي المجتهد في إصابة حكم الشريعة الأصلي في غير القطعيات منهياً عن ادعاء أنه يطبق حكم الله، ومأموراً بالتصريح بأنه إنما يعمل باجتهاده، فكيف الظن بمن يجتهد في إصابة حكم الشريعة المتعلق بحال الضرورة والاستطاعة، (وإذا أنت حاصرت أهل حصن، أو أهل قرية، فأرادوا أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك). نعم قد نتفهم ضروباً من الاجتهاد في العمل السياسي وما يكتنفه من أحكام الضرورة والاستطاعة، لكننا لن نتفهم بحال الإغارة على أحكام الشريعة، وجعل أحكام الاستثناء أصلاً، وفقه الممكن هو صورة الشريعة المثلى. ختاماً .. ما أبعد المسافة التي كانت تفصل بين موقع الشريعة من ديمقراطية الأمس، والمسافة التي تفصلها عن ديمقراطية اليوم، فبالأمس كانت الشريعة تمثل مرجعية عليا للمشاركة الديمقراطية، واليوم أضحت مجرد خيار من زمرة خيارات في هذه اللعبة.

من ربقة الحرية إلى نعمة العبودية

من ربقة الحرية إلى نعمة العبودية محمد بن إبراهيم السعيدي السبت 23 ذي الحجة 1432هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: السلفية وأسلمة المصطلحات: النهضة الإسلامية السلفية الأخيرة والتي بدأت على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى ولا نزال نعيشها حتى هذا اليوم، تعرضت منذ النشأة للكثير من التحديات الفكرية في مواضيع هامة ومفصلية في الفكر الإسلامي من أمثال توحيد العبادة (الألوهية) وتوحيد الأسماء والصفات ومفهوم البدعة وطرق الاستنباط من النصوص الشرعية وحدود المسلم والعلاقة مع الآخرين، كل هذه التحديات الفكرية خاضتها الحركة السلفية في كل مكان وُجِدت فيه ابتداءً من الدرعية في وسط الجزيرة العربية وانتهاء بكانوا في وسط الغرب الإفريقي ومندناو في وسط جزائر الفلبين مرورا بكل ما تعرفه من عواصم وبقاع نزل الفكر السلفي بساحتها. وفي الغالب فإن الحركة السلفية تخرج من تلك النزاعات منتصرة ومتماسكة وجالبة إليها المزيد من الأتباع من علية القوم ودهمائهم، ومن أسباب ذلك أن الحركة كانت ترجع في كل ما يرد عليها من أسئلة حول تلك القضايا إلى رصيد رصين من النصوص الشرعية الواضحة والتي تسقط أمام بيانها جميع الحجج العقلية والأبعاد التأويلية للمحكمات، كما ترجع إلى رصيد وافر من أقوال أعلام الأمة من السلف ومن مشى على نهجهم من الخلف رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين. ولا يخفى على باحثٍ: ما لمدونات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من البركة على هذه الحركة حيث حررت تلك المدونات مذهب السلف في أكثر القضايا التي تواجه السلفيين تعقيدا في كل مكان يصل إليه فكرهم. ومع بوادر ما يُعرف بالنهضة الحديثة، جاء مع الفكر الأوربي مصطلحات وقضايا جديدة نشأت في محاضن الغرب وتاريخه الاجتماعي والاقتصادي والفكري، من مثل: الاقتصاد، الرأسمالية، الاشتراكية، الديمقراطية، النظام السياسي، الحرية، المساواة، الوطنية، القومية، الدولة المدنية. تعامل أكثر المعنيين بالقضايا المعاصرة في ذلك الوقت مع أكثر هذه القضايا بمبدأ الأسلمة، وهو مبدأ ناشيء عن مقدمتين ونتيجة، وهي: أن هذه الدعوات خير، وأن الإسلام سباق إلى كل خير، والنتيجة أن أكثر هذه المباديء موجودة في الإسلام وإن لم يكن ذلك بأسمائها التي اصطلح عليها الغربيون، ولذلك بذلوا وسعهم في سبيل استخراجها من تعاليم الدين ومقاصده. وقد أصاب هؤلاء العلماء في كثير من الأشياء، لكن الاستطراد، في هذا المنطلق أوقع البعض منهم في مشكلات كبرى تستحق الكثير من المراجعة. لم يكن السلفيون بمعزل عن هذه المشكلة لكنهم كانوا أقل الناس إقبالا على أسلمة المصطلحات، ولعل المشكلة الأكبر عندهم تكمن في أنهم لم يجدوا في رصيدهم الفكري الذي نوهنا عنه قبل قليل ما يمكن الاعتماد عليه كثيرا في مواجهة نُظرائهم من الإسلاميين الذين أصبحت عندهم هذه القضايا المؤسلمة مسلمات لا تقبل النقاش ولا تحتمل إلا قولاً واحداً، أدى هذا إلى دفعٍ عظيم في اتجاه القول بإسلامية هذه القضايا عند الكثير من السلفيين أنفسهم بالرغم من عدم توفر رصيدٍ من أقوال السلف يوضح المنهج الصحيح تجاهها، وإخال أن تبنيهم، لمشروع الأسلمة جاء لكونهم وقعوا بين خيارين: إما أن يقبلوا بها بثوبها المؤسلم وإما أن يوصموا بعدم وضوح الرؤية والبعد عن الواقع والافتقار إلى المشروع السلفي، ومن أبرز ما وقع فيه الحديث من هذه القضايا: مسألتا الحرية والديمقراطية. التدرج في شرح الحرية:

في التراث الإسلامي لا تعرف الحرية إلا في مقابل الرق، ويطلق الحر حقيقة على غير المُستَرَقِ من الناس، ويطلق مجازاً أو نقلا على المتخلق، بالإباء والشمم على اعتبار أنها، بعيدة من صفات الأرقاء لكنها لم تعرف كمصطلح حقوقي إلا في الفلسفة الأوربية، ورثها فلاسفة التنوير في مطلع العصر الحديث عن فلاسفة اليونان الأقدمين. ولا يغض من ذلك ذكرها في بعض كتب علماء المسلمين كالقشيري في رسالته وابن تيمية في رسالة العبودية والسخاوي في فتح المغيث، فإنهم يعنون بها الانفلات من استرقاق الخلق إلى عبودية الله تعالى وهذا بعيد عن المعنى المصطلحي لهذه الكلمة. أما في الفكر الإسلامي المعصر، فلم أجد مصطلحاً من المصطلحات التي اشتهر القول بأسلمتها أكثر شؤماً على الفكر الإسلامي من هذا المصطلح، فقد بدأت علاقة المفكرين المسلمين معه في الدعوة إلى نبذ الاستبداد السياسي على يد عبدالرحمن الكواكبي. ثم انتقلت إلى أن تُعتبر مقصداً من مقاصد التشريع الإسلامي على يد الشيخ الطاهر بن عاشور، ثم هو يُستخدم الآن كوسيلة من وسائل انتهاك التشريع الإسلامي. ومن تتبع أقوال المتحدثين عن الحرية من العلماء والمفكرين الإسلاميين المعتدلين في استخدامه, يجد أنهم يعنون بها: ما يذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن للإنسان إرادة وقدرة، فيما يختاره من معتقدات وما يقوم به من أعمال وأن ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى ومشيئته سبحانه وعلمه، على ما فصله علماء الإسلام في حديثهم عن القدر. كما يعنون بها: ما من الله تعالى به على المسلمين من رفع الحرج عن الأمة والتيسير عليها في التشريع وكثرة المباحات في مقابل قلة المناهي. فهم يقولون إن الإسلام جاء بالحرية المنضبظة بضوابط الشريعة الإسلامية، وضوابطُها: كل ما نهى الله تعالى عنه، فمن عمل في نطاق الواجبات والمستحبات والمباحات والمكروهات فهو مستمتع بالحرية التي جاء بها الإسلام قبل الحضارة الغربية والمواثيق الدولية بأكثر من ألف عام. هذا ما يريده المعتدلون من الكتاب والمفكرين حين يتحدثون عن الحرية المنضبطة وعند عرض هذه النظرة على الفكر الغربي فإننا لا نجد هناك ما يقاربها فضلا عن أن يتطابق معها. فالحرية هناك لا تحمل معنى واحداً بل ليس لها مفهوم محدد عند فلاسفتهم ابتداء من سقراط وانتهاء بسارتر، وهذا ما يجعل استخدامها كمصطلح للتعبير عن قيمة إسلامية استخداما خطراً لكونها كسائر المصطلحات الناشئة في بيئة مختلفة تأتينا بكامل أعبائها التي تحملتها عبر تاريخها الطويل الذي لا ينتمي إلينا ولا يمكن أن ننتمي إليه ولا يمكن أيضا أن نفصلها عنه بحال من الأحوال. ولهذا التباين بين مُراد المفكرين المسلمين المعتدلين من الحرية المنضبطة, وبين مرادات مفكري وطن منشأ هذا المصطلح, لم يتوقف الواقع الثقافي في عالمنا الإسلامي عند استخدام هذا المصطلح كتعبير غير معقد عن قيمة إسلامية، بل تجاوز ذلك إلى انتهاك القيمة الإسلامية لصالح المصطلح الوافد، حيث أدى القول بكونها مقصداً من مقاصد الشرع إلى اعتبار أن لها أحكام المقاصد من حفظ الدين والنفس والمال والعرض والنسل الثابتة باستقراء جميع أحكام الشريعة، ولا يخفى أن مراعاة المقاصد يستعملها الفقيه في فهم النصوص، وتأويلها وصرفها عن حقائقها إلى مجازاتها، كما تستخدم المقاصد في الاجتهاد في أحكام النوازل عند تعذر النصوص على اعتبار أن المقاصد ثابتة بالنص، وأصل الاجتهاد هو إعطاء غير المنصوص حكم ما فيه نص، بل ربما يستخدمها أهل صناعة الحديث في رد بعض الأحاديث دراية. الحرية ومقاصد الشريعة:

فإذا وصلنا إلى أن نجعل الحرية مقصداً من مقاصد الشرع تعين أن نعطيَهَا كل هذه المكانة، فنستعين بها على فهم النصوص أو تأويلها، ونجعلها بمثابة الدليل في أحكام النوازل، ونرد بها ما لا يتفق معها من أحاديث كجزء من علم الحديث دراية. وهذا ما لا يمكن لأمرين: أحدهما: أن اعتبار الحرية مقصداً للشارع كما يُقدمها عدد من المفكرين الإسلاميين يعني: أن الله أنزل الشريعة كي يكون الإنسان مريداً، أو كي يتمتع بالمباحات، وهذا مالا يمكن أن يستقيم، لأن الشريعة إنما اختص بها الإنسان من بين سائر الكائنات لكونه أهلاً لحمل أمانة التكليف وإنما أهَّله لذلك العقل والإرادة، فكيف تكون الإرادة التي هي مقتضى التكليف بالشرائع مقصداً لها أي للإرادة أيضا؟ فهذا دور لا يستقيم في المنطق بحال من الأحوال. الثاني: أن المقاصد لابد عليها من أدلة خاصة صريحة قاطعة في دلالتها وهذا ما لا يوجد للحرية في الكتاب والسنة، وسوف يأتي الكلام عن ذلك قريبا. المهم أن نمضي إلى أن القول بمقصدية الحرية للتشريع أنموذج للإشكالات التي لا يمكن الانفكاك عنها حين نُصِر على أسلمة مصطلح مُعَبَّأ بأثقالٍ لا تمت لنا بصلة. قمة الخطل في فهم الحرية: وقد بلغ الخطل بالبعض إلى أن قال إن تحقيق الحرية مُقَدَّم على تطبيق الشريعة، ووجه الخطل في هذا القول مع اجلالنا الكبير لعين قائله ولعلمه: أنه بقوله هذا لن يستطيع تعريف الحرية التي يرى أنها مقدمةٌ على تطبيق الشريعة، لأنه إن عرَّفها بكونها ما قررته الشريعة من إرادة للإنسان وما شرعته من مباحات، فهذه لا يمكن أن تكون إلا مع الشريعة ولا يُمكن أن تكون سابقة لها، وإن أراد بها: الاختيار المطلق غير المنضبط بضوابط الشريعة فالإقرار عليه كفر باتفاق، وإن أراد بها رفع الظلم وتحقيق العدل وإعادة توزيع الثروة فهذه قيم نبيلة أخرى غير الحرية. والحاصل: أن كلمة: تحقيقُ الحريةِ مقدمٌ على تطبيق الشريعة كلمة أنتجها غلوٌ في هذا المصطلح ولم ينتجها تحقيق علمي، بدليل أن قائل هذه الكلمة قال بعدها: لا طاعة لحاكم يتجاهل مرجعية القرآن، هكذا قال، وعليه يكون الحاكم الذي يحقق الحرية كأولوية مقدمة على الشريعة لا طاعة له، وهذا تناقض يؤكد ما قدمته من أن الغلو في المصطلح هو الذي أنتج مثل هذه الكلمة وليس الرصيد العلمي. يؤكد ذلك: أن صاحب هذا القول أورده في سياق من الكلمات الاستبدادية والمسيئة لمخالفيه، كوصفه مخالفيه من السلفيين، بأنهم يروجون لثقافة سامة ومسمومة ومضللة ومحرفة تربط الفتنة بالخروج على الحاكم, وأنهم أصحاب ثقافات ميتة، وهذا يعني فشلا ذريعاً في أول اختبار له في تطبيق الحرية التي يدعوا إليها. ومظاهر الغلو في مصطلح الحرية كثيرة لن أتتبعها هنا لكنني اخترت أقربها عهداً لكونه مثالاً حاضراً في الأذهان، وسوف أنتقل منه إلى الموقف الذي أراه صواباً من هذا المصطلح. الحرية بين فلاسفة الغرب ودعاة الإسلام: وبداية القول إن فلاسفة الغرب لا يتفقون في مرادهم بالحرية بل لا يتفقون في مدى إمكانية تطبيقها، لكنهم لا يختلفون في أبرز سماتها عندهم، وهي: - أن الفرد ليس مسؤولا في أفكاره أو تصرفاته إلا أمام القانون. - ليس من حق القانون أن يقف في وجه الفرد إلا لمنع الإضرار بالآخرين أو بالمجتمع. - ضوابط الإضرار بالآخرين أو بالمجتمع لا تحددها اعتبارات شخصية أو عرفية، بل تحددها قواعد قانونية تنطلق من أن الأصل عدم مسؤولية الفرد.

كل من يختلفون في الحرية من فلاسفة الغرب لا يختلفون في أن هذه هي معالم الحرية سواء وافقوها أم خالفوها، والمفكرون الإسلاميون المناصرون للحرية لا يُقِرُّون هذه المعالم، بل جميعهم يرى أن الفرد مسؤولٌ أمام الشريعة في أفكاره وأفعاله، وأن القانون لا يكون مخالفا للشريعة، وأن معيار الإضرار بالنفس أو بالغير تحدده نواميس إلهية قد تكون معلومة المعاني وقد تكون تعبدية لكن الالتزام بها واجب. وهذا الاختلاف بين الفريقين -أعني مفكري الغرب والمفكرين الإسلاميين المعاصرين - حتَّم على كل من ناصر الحرية من مفكري الإسلام، أن يُضِيف اشتراط أن تكون الحرية منضبطة بضوابط الشرع. وحين نرجع إلى ضوابط الشرع نجِدُ أنها كثيرة جداً بحيث يصعب أو يستحيل أن نُقنع غربياً أو مستغرباً بأن مصطلح الحرية الذي وُلِد وتربى عندهم لا يتنافى مع ديننا، اللهم إلا إذا قمنا بتقديم تنازلات كثيرة متتابعة كي نُزَيِّن ديننا في أعينهم، وهذا بالفعل ما نراه مُشاهداً من كثيرٍ من الناشطين الإسلاميين بل ومن الفقهاء المولعين بهذا المصطلح، حتى وصل الأمر إلى إنكار عدد من الحدود والعقوبات الشرعية لا لشيء سوى أنها تتنافى مع الحرية التي اعتبروها مقصداً يحاكمون إليه النصوص الشرعية، كإنكار حد الردة وعقوبة المُجَدِّف والمبتدع ورجم الزاني وتحكيم الأكثرية في مرجعية الدين والسماح للكافرين بالإعلان عن رموز كفرهم في بلاد المسلمين, بل وصل الأمر بالبعض منهم إلى مطابقة الفكر العلماني، بحيث يصعب التفريق بين طرحهم السياسي والطرح العلماني مع رفضهم لهذه التسمية، وآخرون منهم رضوا بما سموه علمانية جزئية. بين مصطلح الحرية ومصطلح الاستعباد لله: إنني أدعوا إلى رفض هذا المصطلح وإلقائه عن ثقافتنا كلياً غير مأسوف عليه فهو مصطلح مُشَوَّه مشبوه مُنهِك لإرثنا الديني، إذ لا يُمكن تطابقه معه إلا في أحد حالين: إما التكلف في محاولة استدعائه، وإما تقديم التنازلات التي تذهب بخصائص الدين أدراج الرياح. وإذا كنَّا نُريد باستخدام هذا المصطلح دعوة العالم إلى ديننا وإبراز خصائصه ومقوماته فلن يكون هناك أفضل من الاقتصار على المصطلحات الواضحة غير الحمالة وأفضل هذه المصطلحات ما قرره الشرع وعبرت عنه النصوص الشرعية. فالحق أن يقال: إن الإسلام دين استعباد لله تعالى يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وقد يقول قائل: وما المانع أن نريد هذا الأمر باستخدامنا مصطلح الحرية؟ والجواب: أن المانع الحقيقي هو ما قدمته من أن المصطلحات بنات بيئات، فلا يمكن أبدا أن نأتي بمصطلح من بيئته ثم نضعه بيننا إلا واستطاع هذا المصطلح من تلقاء نفسه نسج بيئة مقاربة لبيئته التي نشأ فيها. وحين نرجع إلى واقع الحركة الفكرية، اليوم بين الإسلاميين وأنفسهم، وبين الإسلاميين والليبراليين نجد أن مصطلح الحرية واضح الأثر فيما يشجر بينهم من مشكلات، وإن لم يكن هو المؤثر الوحيد فيها إلا أن استئصاله من الساحة الفكرية لا شك، سيؤدي إلى نتائج محمودة لاسيما على وحدة الصف الإسلامي. أمَّا مصطلح الاستعباد لله ففضلا عن كونه المعبِّر عن حقيقة الخطاب الشرعي، فهو أيضا أكثر ألقاً وجاذبية للإسلام حين ندعوا إليه غير أهله، كيف لا، وهو دعوة الله تعالى والاسم الذي ارتضاه لنا والعمل المحدد الذي خلقنا سبحانه وتعالى لأجله، المصطلح الذي حمله آباؤنا إلى مشارق الأرض ومغاربها ففتحوا به القلوب قبل البلدان، وتقدم به رِبعي ابن عامر إلى الهرمزان في شموخ وإباء وهو يقول: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

وقبل الحديث عن مدى شُغل العبد في الإسلام بمهام عبوديته وتناقض هذه المهام مع مصطلح الحرية الرائج الآن على حساب العبودية، استعرض بعض ما يُقَدَّمُ على أنه نماذج من الدعوة إلى الحرية في القرآن: فمن ذلك الآيات التي تُقَرِّرُ منح العبد خاصية المشيئة والإرادة، كقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر} وقوله سبحانه: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} وكقوله سبحانه: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} وغير ذلك من الآيات التي تثبت للعبد قدرة واختياراً، لا تخرج عن مشيئة الله وقدرته كما هو مذهب أهل السنة والجماعة. وحقيقة هذه الآيات أنها لا تساعد أبداً فيما يريدونه منها من إقرار مبدأ الحرية لأنها لا تُثبت وصف الكفر لمن اختار غير الإيمان وحسب، بل تُرتِّب على الاختيار الخاطئ عقابا أخرويا مغلظا. فالآية الأولى، وهي أكثر الآيات انتشاراً في هذا السياق قلَّما يتلونها كاملة لأن تلاوتها كاملة يضيع وجه الاستدلال منها: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} كما أن الآية ليس فيها نفي للعقوبة الدنيوية عمَّن انتقل إلى الكفر بعد الإسلام. أما قوله تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} فقد وقعت في سياق تفصيلي لحوار يدور بين اهل النار وأهل اليمين، يدل على أن الكافرين لا يحاسبون على كفرهم فقط بل على تركهم لفرائض الإسلام،: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 37 - 47]. ولا أدري كيف يسوغ لمؤمن أن يزعم أن الإنسان حرُ في اختياره وهو يؤمن أن العقاب الأخروي له بالمرصاد؟ وهناك من دعاة الحرية من فهم هذا التناقض فلجأ إلى ما هو أسوأ وهو الجنوح إلى وحدة الأديان وتسميتها كلها إسلاما، وجعل الفارق بينها هو مسألة الاختيار المحض وحسب. وقد يَجيب أحدهم بأن مرادنا أنه حر في اختياره في الدنيا، فلا إكراه في الدين كما قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]، وهو جواب لم ينظر صاحبه فيه إلى تفسير السلف للآية وهو: أنها تكليف للمسلمين وذلك بنهيهم عن إكراه من تحت أيديهم من اليهود والنصارى على الإسلام، وليست آية تخيير بين الإسلام وغيره، كما أنها مُتقدمة على الآيات التي أمرت بقتال المشركين كافة وهو ما يُقوي القول بكونها خاصة فيمن تحت أيدي المسلمين من اليهود والنصارى.

ولا يُمكن أن يستقيم مفهوم الحرية في الذهن مع القول بعقوبة المرتد بالقتل كما هو مجمع عليه بين العلماء العتبرين سواء أقلنا إن القتل عقوبة على الردة باعتبارها جُرماً، أو باعتبار هذه العقوبة صيانة للمجتمع الإسلامي من التفكك والانهيار العقدي كما يذهب إليه بعضهم، فعلى كلا الاعتبارين لا يستقيم أن نقول إن الإسلام أتى بالحرية وهو يحكم على من يختار غيره بالقتل، وهذه الإشكالية هي سبب ظهور القول بإنكار حد الردة بين عدد من المعاصرين، ومحاولاتهم تضعيف ما ورد فيه من الأحاديث أو تأويله. أما الاستدلال على تضمن الشريعة للحرية: بحكم الإباحة وأنها هي الأصل من بين الأحكام، فهو تعسف شديد من وجوه: أولها: أن الإباحة هو الحكم التخييري الوحيد من خمسة أحكام ليس فيها تخيير، بل هي عزائم فالوجوب عزيمة على الفعل يستحق تاركها الإثم والاستحباب عزيمة على الفعل أيضا يستحق فاعلها الأجر والحرام عزيمة على الترك يستحق فاعله الوزر والمكروه عزيمة على الترك يستحق تاركه الأجر، فالقول بتضمن الشريعة للحرية اعتماداً على حكم من خمسة أحكام تغليب لا مستند له. الثاني: أن الأشياء التي الأصل فيها الإباحة، كثيرة بأنواعها لا بأجناسها، ومعنى ذلك: أن أجناسها يمكن حصرها في المطعومات والمشروبات والملبوسات، وكل منها يتنوع إلى مالا نهاية، ومع هذا التنوع الكبير إلا أن كل مباح منها تطرأ عليه أحكام العزائم فبهيمة الأنعام حلال إلا أن الحرمة تطرأ عليها في أحوال عديدة جمعتها آية سورة المائدة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} , كما أن جنس المطعومات يدخل فيه أجناس من المخلوقات يحرم أكلها كجنس السباع وجنس المستقذرات وكذلك المشروبات يدخل فيها أجناس محرمة أيضاً. أما الأشياء التي الأصل فيها الحرمة فكثيرة بأجناسها وأنواعها، فجنس الرجال حرام على النساء إلا ما كان بعقد صحيح، وجنس النساء حرام على الرجال إلا ما كان كذلك، وجنس الأموال حرام إلا ما مُلِك بعقد صحيح،, ومناجم معادن الأرض حرام إلا ما لا يؤدي الاستحواذ عليه إلى مضرة بالمسلمين، وجنس العقود حرام إلا ما ثبت حلُّه،. وكل ذريعة باليقين أو بغالب الظن إلى هذه المحرمات فهي محرمة، بعكس الذرائع إلى المباحات فقد تكون مباحة وقد تكون محرمة. والعبادات وهي تشغل حيزاً كبيراً من وقت المسلم واجبة أو مستحبة، وليس فيها مباح على الإطلاق، بل إن المباحات من العادات والطبائع الجبلية تنقلب إلى مستحبات بالنية، ولا عكس فلا تنقلب العبادات إلى مباحات. الثالث: أن حكم المجتهد بإباحة أمرٍ مرحلةٌ، تالية للجزم بعدم دليل، أي أن المجتهد لا يحكم بالإباحة حتى يتحقق عنده عدم دليل عزيمة أو حظر، قال إمام الحرمين: " فما لم يُعلَم فيه تحريم يجري على حكم الحِلِّ؛ والسبب فيه أنَّه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غير مستند إلى دليل؛ فإذا انتفى دليل التحريم ثَمَّ، استحال الحكم به "غياث الأمم, 490. الرابع: أن الصحيح في حكاية القاعدة الأصولية: أن الأصل في المنافع الإباحة، على ما قرره الرازي في المحصول، وليست الأصل في الأشياء الإباحة كما هو شائع، وهذا الأمر يُغير كثيراً في الحكم على أمور يظن الناس والحقيقة أنها محرمة أو مكروهة كإضاعة الوقت فيما لا نفع فيه من سمر أو لهو أو غيره. فإذا كانت الإباحة تُعكِّر عليها هذه الأمور الأربع لم يصح الاعتماد عليها في نسبة الحرية إلى الشريعة.

ومحل التساؤل هنا: ما هو السر في كون المسلم يشعر مع هذه الشريعة بالسعة واليسر مع أن المباحات ليست أكثر من حيث الأجناس من بقية ما وردت فيه العزائم، هذا إن لم نقل إنها أقل بكثير؟. الجواب: أن ذلك عائد إلى أن تكاليف الشريعة ومنهياتها تأتي ملبية لحاجات الإنسان فلا يشعر مع التزامها بكثرة قيودها. من الآثار السلبية لمصطلح الحرية: لكن مصطلح الحرية الذي راج بين الناس في هذه الأيام وكثرت نسبته إلى الشريعة كان له أثر فيما يشهده العصر من نفرة من تكاليف الشرع وزهد في النصوص الشرعية، إما بإسقاطها أو تأويلها أو الاستعلاء عليها. وذلك أن مصطلح الحرية حل محل الاستعباد لله عز وجل بحيث لم يعُد الإذعان لله تعالى هو شأن المسلم حينما يستمع إلى النص، بل أصبح كل نص يخالف الهوى أو مألوف الناس نصاً فيه نظر، الأمر الذي يحقق الغربة الفعلية للملتزمين بالنصوص في هذا العصر، ولعل ذلك أحد مظاهر الغربة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)). ومن مظاهر رواج هذا المصطلح على حساب العبودية أنك لا تكاد تجد بابا من أبواب التعامل اليوم إلا ولمصطلح الحرية فيه النصيب الأوفر. فالباحثون في الاقتصاد الإسلامي يعدون الحرية المنضبطة إحدى خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام بل إن بعضهم يعد الحرية المنضبطة ركنا في هذا الاقتصاد، مع أن الحقيقة التي يعرفها الفقهاء أن المحرمات في أبواب المعاملات الإسلامية أكثر بكثير من المباحات، لدرجة جعلت تكييف المعاملات المعاصرة أو إيجاد البديل لها من المهمات الصعبة التي ينبري لها جهابذة الفقهاء والاقتصاديين، وكثيراً ما تعذر عليهم ذلك. وكذلك يقولون: إن الإسلام أعطى المرأة حرية منضبطة بضوابط الشرع، الأمر الذي يتناقض مع أحكام النساء في الولاية والسفر وغير ذلك، وهو ما أدى إلى الجنوح إلى إنكار هذه الأحكام عند عدد ممن شعر بالتناقض بين القول بالحرية وهذه الأحكام، فاتخذ الحرية دليلا لرد النصوص الثابتة أو تأويلها. ولا يقل الكلام في هذين الأمرين عن الكلام في حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، فقد أُلقِيَ من أجل الحرية بكثير من الأحكام الفقهية التي تنظم الرأي والفكر وتحفظ المجتمع من مظاهر التجديف والقول على الله تعالى بغير علم. إذا استبعدنا مصطلح الحرية ماذا نكسب؟ وحين نلقي عنَّا هذا المصطلح الدخيل جانبا، ونعود إلى القول بالاستعباد لله تعالى فلن نخسر شيئاً، بل سوف نحقق مكاسب كثيرة منها: 1 - صدق التوصيف لحال الشريعة مع الإنسان، فالإنسان عبد لله اضطراراً، والشريعة تجعل منه عبداً لله اختياراً أيضاً، فيكون بذلك عبداً لله مرتين، الأولى باستسلامه لله تعالى في قضائه وقدره، والثانية باستسلامه لله تعالى فيما أمر ونهى، فالأولى يُعبِّر عنها مثل قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} سورة البقرة.

والثانية يُعبِّر عنها مثل قوله تعالى في سورة البقرة أيضا: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} , ولذلك جاءت العبادة مالكة لسائر يوم الإنسان من يقظته حيث تبدأ معه اليوم بالصلاة الواجبة، وتحكم مفاصل يومه بصلوات مفروضة،, ثم تحكم على كل تصرف من تصرفاته في سائر يومه بأحد الأحكام الخمسة فلا يخرج فعل من أفعال العبد عن أن يكون واجباً أو مندوباً أو مكروها أو حراماً أو مباحاً، فحتى الإباحة التي يُنَظَّرُ لها على أنها مثال الحرية في الشريعة، إنما هي جزء من أمثلة استعباد الإنسان لله تعالى في هذه الأرض. 2 - نبذ هذا المصطلح الوافد والتركيز على مبدأ العبودية لله يُكسِب الإنسان إيماناً عظيما يجعله مستبصراً لحقيقة الثواب والعقاب التي تنطلق منها أركان العبادة الثلاث: الحب والخوف والرجاء والتي تضمنها قوله تعالى من سورة الإسراء {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}. 3 - حين يتجرد الإنسان من الاغترار بالحرية إلى الشعور بالاستعباد لله تعالى في كل حركاته وسكناته يكون أقرب إلى الامتثال لأمر الله تعالى لعباده بأن يكونوا ربانيين كما جاء في سورة آل عمران: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} قال الرازي في تعريف الربانيين: " أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله" تفسير الرازي 4/ 274, وقال ابن عاشور: " كونوا منسوبين للرب، وهو الله تعالى، لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه. ومعناه أن يكونوا مخلصين لله دو ن غيره. تفسير التحرير والتنوير 3/ 140. 4 - كما أن عودة المسلم لاستشعار استعباده لله تعالى يجعله أكثر تعلقاً واستسلاما للنصوص الشرعية على عكس من تشرب مبدأ الحرية فإنه مع الوقت ودون أن يشعر يصيبه استكبار على النصوص وعدم رضوخ لها، وهذا ما رأيناه وللأسف في كل من تحمس للقول باشتمال الشريعة على الحرية، ومع كثرة تأكيد هؤلاء على كونها منضبطة بضوابط الشرع إلا أن سحر المصطلح وبهرجه يُفقد الكثير من الناس صوابهم، حين يجدون أن هذه الحرية لا تتفق حسب أفهامهم مع الكثير من النصوص فيلجؤون إلى إعلاء الحرية على النص كما هو حاصل الآن، وقد أمرنا الله تعالى: أن نجعل النص حاكما على تصرفاتنا وأذواقنا وإراداتنا. ولكن: ألا يُمكن القول: إنه لا تضارب بين الاستعباد لله تعالى والقول باشتمال الشريعة على الحرية؟ ويُقال: إن الحرية التي تنادي بها الشريعة هي جزء من استعباد الإنسان لله تعالى.

والجواب أنه لا يُمكن ذلك إذ إننا حين نزعم اشتمال الشريعة على الحرية لا بد أن نحدد مكان هذه الحرية، أي مكان التخيير المحض الخالي من أي عقوبة أو زجر في كل الخيارات، وهذا ما لا يوجد في الشريعة على الإطلاق حتى في المباحات إذ إنه ما من مباح إلا وتحف به ضوابط دقيقة تجعل فاعله على خطر الوقوع في المحظور عند تخطيها، وكأنه يسير على جسر ضيق قصير قريب البداية والنهاية ولا يمكن الجنوح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال. خذ مثالاً لذلك أكل الطيبات: أليس مباحا دون نزاع، منصوصاً على إباحته بالدليل القطعي ثبوتا ودلالة؟ ومع ذلك فإن شروط استمرار إباحته ماثلة دائماً بحيث لا يكاد يفلت، أحدٌ من وشك الخروج منها، فكل الطيبات يشترط في حلها، عدم الإسراف وعدم التبذير, وعدم التذرع بها إلى المحرم كأن يُتَّخذ وسيلة للخيلاء والكبر وكسر قلوب الناس،،إضافة إلى ما يختص به كل طيب من شروط للحل، كتذكية الأنعام وذكر اسم الله على الصيد وسقي الشجر من طاهر وكذلك المال الذي يملكه الإنسان وهو بحكم الشريعة مسلط عليه كما يقول الفقهاء، لكن الحقيقة الشرعية أن تسليط الإنسان على المال إنما هو تسليط إئتمان على مال هو في يد فلان من الناس لكنه في حقيقة الأمر مال الله تعالى ومجعول في يد هذا الفرد لمنفعة الأمة لحكمة إلهية في إعمار الكون وتسخير الناس بعضهم لبعض، ولهذا عندما يؤول ملك المال ظاهراً إلى السفيه فإن الخطاب القرآني يُصَرِّح بنسبة المال للأمة، لأن صيرورة المال في يد السفيه تحول دون انتفاع الأمة به على الوجه اللائق، يقول تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} لكن حين يرشُد هذا السفيه فإن الآية التالية تعود إلى نسبة المال إليه نسبة اختصاص وائتمان يقول عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ثم تمنع الشريعة هذا الراشد من التصرف بالمال أي تصرف لا يحقق للمجتمع مصلحة وإن كان يحقق لصاحبة نماء آمناً، فهو ممنوع من كل صور الإنماء الذاتي للمال وهو الربا بجميع أنواعه والحيل إليه، كما أنه ممنوع من الوصية فيه بأكثر من الثلث وممنوع من حرمان ورثته منه أو اختصاص بعضهم بالوصية دون الآخر، وممنوع من الإسراف فيه والتبذير ومكلف فيه من الزكاة ومندوب إليه الصدقة منه .. إلى غير ذلك مما يؤكد أن المباحات محفوفة أيضا بالكثير من التكاليف التي تمنع من إطلاق لقب مصطلح الحرية على الشريعة بسبب تضمنها لها. لكن الواقع والتاريخ يُشيران إلى أن هذه المباحات التي جعلها الله تعالى فُسحة للمسلم بل والعبادات التي أوجبها الله أو ندبه إليها يقع حظرها على المسلم أو على الإنسان بشكل عام من الطغاة والطواغيت الذين تُبتلى بهم الأمم كثيرا في كل زمان ومكان. فيحرمون الإنسان من حقه الشرعي في الارتزاق والعمل، وحقه بل واجبه في اللباس الشرعي والصلاة مع الجماعة، كما يحاصرونه في زكاته وصدقاته وأمره بالمعروف ونهية عن المنكر، ويُسلطون عليه الحرام والمنكر حتى تصبح الموبقات جزءا من حياة المسلم لانفكاك له منها. ولا شك أن المجتمع حين يقع تحت سلطة مثل هذه الحكومات يبقى مبتلى بأبشع أنواع الاستعباد، ومطاوعة حاكم يفرض الحرام ويمنع الحلال هي من اتخاذه ربا بنص القرآن الكريم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] لكن البديل عن استعباد الحكام أو العبودية لهم يجب أن لا يكون الهوى، وهو ما تقتضيه المطالبة بالحرية حالاً أو مآلا. أما حالاً، فكمطالبة دعاة الليبرالية والعلمانية بها، فاستبعاد هؤلاء لسلطة الشريعة إنما هو تسليم لسلطة النفس والهوى مباشرة أو بوسيط من الدساتير البشرية والقوانين الوضعية. أما مآلا، فهو ما تؤول إليه عاجلا أو آجلا مطالبات الإسلاميين بالحرية. فالحرية باعتبارها اليوم مصطلحا فلسفيا لا يمكن أن نغرسه في بقعة ما من العالم إلا وذهبت جذوره إلى الأعماق تبحث عن منابتها الأصلية.

سيادة الشريعة .. (الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية)

سيادة الشريعة .. (الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية) عبد الرحيم بن صمايل السلمي الإثنين 25 ذي الحجة 1432هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن من أعظم محكمات الإيمان التسليم والخضوع (علماً وعملاً) لشريعة الإسلام في المنشط والمكره، والرضا والغضب، وعدم تقديم أي أمر من الأمور على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ومعنى ذلك أنه لا يقدم على الشريعة أي أمر من الأمور مهما رآه صاحبه أمراً حسناً سواءً كان عقلاً، أو حرية، أو أمة أو غير ذلك. والإقرار بهيمنة الشريعة وحاكميتها وتقديمها والقبول بها قولاً وعملاً دون أي شرط أو استثناء هو قاعدة الإيمان وأصله كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ومع وضوح هذه الحقيقة الشرعية وانعقاد الإجماع عليها فقد حاولت التيارات العلمانية والتنويرية الانتقاص من ذلك بجعل السيادة للبشر، وعدم القبول بالشريعة حاكمة بالفعل في حياة الناس إلا بشرط التصويت عليها لتنال الشرعية في التحكيم، ويرون التفريق بين الإيمان بالشريعة اعتقاداً قلبياً، وتحكيمها واقعاً عملياً، وهذا هو الفصل العلماني الشهير بين الدين القلبي الإيماني، والدين العملي الحاكم والمهيمن على حياة الناس، وهي فكرة خارجة عن النسق الإسلامي ومخالفة لإجماع المسلمين ولم تعرف إلا بعد أزمنة الاستعمار على يد العلمانيين. ولا يتعارض - حسب التصور العلماني - الاجتماع بين الاعتقاد الشخصي بالحلال والحرام، والتشريع المبدل لأحكام الشريعة، لأن الأول اختيار شخصي، والثاني حق من حقوق الأمة، وعندما تختار الأمة الشريعة فإن شرعية تطبيقها وتحكيمها لم يأت من كونها ربانية الأمر والنهي، وإنما لكونها تحققت فيها السيادة المعتبرة، وهي سيادة الأمة. وهذا التصور في غاية التناقض فما هي فائدة اعتقاد الحلال والحرام إذا أقرّ بشرعية تبديله في حال حصول ذلك من الأمة؟ هذا اعتقاد لا قيمة له لأنه معارض باعتقاد آخر وهو شرعية التبديل إذا تم من خلال الأمة!!. مفهوم السيادة السيادة في اللغة والاصطلاح مرجعها واحد فهي مأخوذة من السيد وهو المتصرف المطلق، وصاحب الأمر والنهي والذي تعود إليه كافة السلطات الثلاثة، ومنها سلطة التشريع، وقد ظهرت في الفكر الغربي لدى المدرسة القانونية الفرنسية المعبرة عن العقد الاجتماعي كما يراه جان جاك روسو، والسيادة هي المعبرة عن الإرادة العامة عند روسو، وهي السلطة العليا التي لا توجد فوقها ولا تحكمها ولا تهيمن عليها أي سلطة مهما كانت. و"سيادة الأمة" في الفكر السياسي المعاصر هو التعبير القانوني للنظام الديمقراطي، فهو الوجه القانوني والمبرر العقلاني لاستحقاق السلطات، وهو يعطي الأمة أو الشعب السلطة العليا في التشريع، فلا قانون إلا ما أقرته الأمة، وما اتفقت عليه الأمة فهو القانون الشرعي الذي يجب الإذعان له لأنه نابع من سيادة الأمة واستحقاقها للتشريع المطلق. وعليه فلو أحلت الأمة حراماً أو حرمت حلالاً فهذا ما يجب القبول به، ولا يجوز الخروج عن سيادتها، وبهذا تكون الأمة هي صاحبة التشريع والحاكمية لامتلاكها السيادة المطلقة، وبغض النظر عن نوع الاختيار الذي تختاره الأمة، ففكرة السيادة تجعل المرجعية العليا للأمة وليس للإسلام والشريعة الربانية.

وبهذا يتبين أن سيادة الأمة تجاوزت اختيار الأفراد للحكم كآلية من خلال الانتخاب إلى أن أصبحت السلطة العليا التي بيدها السيادة المطلقة ومنها تشريع القوانين، وهذا هو جوهر الفلسفة الديمقراطية التي كان يرفضها بعض التنويريين قديماً لأنها تعطي حق التشريع لغير الله تعالى. ومن الخداع والمغالطة تسمية اختيار الناس لمن يحكمهم من خلال الانتخابات "سيادة"، وتقديمها على الشريعة، ثم حكاية كلام من يبيحها على أنه يرى "السيادة للأمة"!!، لأنه يمكن أن يتم اختيار من يحكمهم مع كون الشريعة هي صاحبة السيادة والهيمنة والحاكمية، فالأول عمل إجرائي تنظيمي مجرد له صور مختلفة منها الصحيح ومنها الزائف، أما منازعة سيادة الشريعة وحاكميتها فهو مناقض لأصل الإيمان. كما أن من المغالطة قول القائل "سيادة الأمة بمرجعية الشريعة"، فالسيادة هي المرجعية العليا للسلطات الثلاثة (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، فكيف تكون سيادة بمرجعية وهي ذاتها المرجعية؟! وبهذا يتميز من يجعل المرجعية للشريعة ممن يجعل المرجعية للأمة. ومن يجعل السيادة للأمة لا يمانع من الإيمان القلبي والنظري بأحكام الشريعة، ولكنها لا تكون نافذة إلا من خلال مرجعية الأمة، وهو يرى أن من حق الأمة أن تختار ما تشاء، فهذا حقها وهذه حريتها، وعليه فلو اختارت الأمة إباحة المحرمات الظاهرة، وعدم الالتزام بالواجبات الظاهرة فهو حق مشروع لها لأنها صاحبة السيادة، وهذا التأسيس لاستحقاق الأمة السيادة المطلقة هو الحكم بالطاغوت لأنه استحلال للمحرمات الظاهرة، وترك الواجبات الظاهرة حتى لو لم يفعلها، وهذا هو الحكم بغير ما انزل الله، واستحلال القوانين الوضعية، وهي الإشكالية الكبرى بين الإسلام والعلمانية في العصر الحديث. يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري (وهو أحد كبار القانونيين العرب، وغير محسوب على التيار السلفي): "روح التشريع الإسلامي يفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في كل المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم ثم إجماع الأمة" (فقه الخلافة وتطورها ص 70) سيادة الشريعة وهيمنتها أصل الإسلام تأمل قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] فلو قارنا بين هذه الآية وفكرة تقديم سيادة الأمة على تحكيم الشريعة فإننا سنجد أن دعوى سيادة الأمة المقابلة للشريعة هي المعبر عنها في قوله {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وقوله عنهم {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وهذا يدل على أن من قدم أهواء الناس على شريعة رب العالمين فقد عرض إيمانه للتلف وإسلامه للبطلان. فالمناقض لأصل الإسلام أن تكون الشريعة مرهونة بأهواء الناس قبولاً أو رداً، وتكون آراء الناس هي الحاكمة بشرعية النظام الذي يحكمهم، ويقضي بينهم. وحاكمية الشريعة والقبول بالإسلام والتسليم له لا يجوز ان تكون مرتهنة لأحد بل وجوب العمل بها متقدم على كافة الحقوق الفطرية والإنسانية، وحاجة الإنسان إليها أكبر من حاجته إلى الطعام والشراب والهواء.

وحقيقة الإسلام الاستسلام، والقبول، والتسليم لخبر الله وأمره، ومن جعل تحكيم شريعة الله مشروط بالأمة فهو كمن جعل تصديق خبره مشروط بالأمة، وهذا التعليق يدل على عدم التسليم والتصديق للأمر والخبر. يقول أبو حامد الغزالي في المستصفى: "وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم". فالغزالي هنا لا يتحدث عن اعتقاد وجوب الواجبات وتحريم المحرمات بل يتحدث عن "نفوذ الحكم" وهو "تطبيق" و "تحكيم" الشريعة، وهذا أمر متقرر عند كافة علماء الإسلام بكل طوائفهم وفرقهم. يقول ابن تيمية: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً ومرتدا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله - على أحد القولين - "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله" (الفتاوى 3/ 267)، والنصوص في هذا كثيرة جدا. وقد أجمع العلماء على كفر من سوغ وأجاز الخروج على الشرع، ومن قواعد الإسلام الكبرى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، واتفق العلماء على أنه لا طاعة للوالدين إذا كان في ذلك مخالفة لشريعة الله فكيف يقال بجواز أن يختار الناس ما يحكمون به ولو مخالفاً للشرع حتى ولو كان ذلك أمراً مفترضاً، فالافتراض هو تجويز الشيء إذا وجد وليس بالضرورة أن يوجد. وقد أجمع علماء الإسلام على أن الشورى لا تكون إلا في المباحات، أما الواجبات والمحرمات فلا شورى ولا اختيار فيها، وهذا هو مقتضى العبودية كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: من الآية36]. فكيف تجعل الشريعة كلها بكل واجباتها ومحرماتها لا تحكم حتى تجاز من قبل الأمة، وإذا لم تجز فلا يجوز تطبيقها وتحكيمها؟! يقول ابن كثير: "والآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول". سيادة الأمة بين العلمانيين والتنويريين

لم يعد هناك فرق جوهري بين الفكر العلماني والتنويري حول الموقف من سيادة الشريعة، فالأمر المحوري بينهما أن السيادة ترجع للأمة وليست للشريعة، وهي السلطة العليا التي تعود إليها جميع السلطات الثلاث، وبهذا فهي تملك حق التشريع، والجهة المخولة في إصدار القوانين سواءً وافقت الشرع أم خالفته، وهذا يشمل التشريعات الإدارية التنظيمية كما يشمل التشريعات القضائية التي تشمل التشريعات الجنائية والشخصية والمالية وكافة أنواع التشريعات التي تخص الحكم بين الناس، كما تشمل السياسات العامة التي تعود إليها كافة أنشطة الدولة .. وهذه التشريعات صاحب السلطة والسيادة فيها هو الله جل جلاله، وإعطاء الأمة حق التشريع فيها هو الحكم بغير ما انزل الله، وهو التحاكم إلى الطاغوت، لأن الحكم لله تعالى، وتحقيقه من العبادة لله تعالى، يقول تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: من الآية40]، ويقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: من الآية59]، وهذه النصوص هي في الحكم بين الناس، وليس في العقائد الإيمانية القلبية، وهي في التطبيق للشريعة وليس في اعتقاد الشريعة. وقد كان الخلاف مع التنويريين أول الأمر حول آليات الديمقراطية ومدى موافقتها للمقاصد الشرعية، ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى المطابقة التامة للعلمانيين في جعل السيادة للأمة وهي الجهة العليا التي تعطي الشرعية للشريعة أو غيرها، وبهذا لم يعد هناك فرق بينهم وبين العلمانيين إلا في الاسم، وهذه نتيجة طبيعية لمن يجعل المفاهيم الوضعية حاكمة على الشريعة ثم يقوم بتحريف الشريعة لتتوافق معها، وهذا مخالف للمنهج الإسلامي الذي يجعل الشريعة هي الحاكمة، ثم يحكم من خلالها على المفاهيم الوضعية، كما أنها نتيجة طبيعية لمن جعل زاده الثقافي دراسات العلمانيين العرب، بل يروجها ويبيعها وينصح بها باسم الانفتاح!! وقد هالني تمدح بعضهم وافتخاره بالانتقال الجديد في الخطاب التنويري من الكلام حول آليات الديمقراطية إلى الجدل حول سيادة الشريعة، وظنه أنهم أحدثوا نقلة في الخطاب السلفي حسب زعمه، وما درى أنها انتكاسة فكرية، وسقوط منهجي، وتحول خطير نحو العلمنة!! فأي فخر للانتقال إلى الأسوأ، وأي مدح في الحط من سيادة الشريعة؟!! وهذه المنهجية المنحرفة هي التي جعلت التنويريين ينطلقون من منطلق علماني في اغلب المفاهيم السياسية الجديدة كمفهوم المواطنة، والحرية، والطائفية وغيرها، ففي هذه المفاهيم وغيرها يتم شرحها بما يتطابق مع الفكر العلماني تماما، فالمواطنة هي التعامل مع المكونات المجتمعية على أساس وطني مصلحي وليس على أساس ديني، والحرية هي عدم المنع للاختيارات الشخصية للأفراد ولو كانت محرمات ظاهرة، ويحق للفرد أن يعبر عن رأيه ومعتقده ويدعو إليه ولو كان كفرا صريحا (حرية المنافقين)، والطائفية هي التعامل مع التيارات الفكرية والفرق المخالفة للسنة من منطلق عقدي، وهذه المفاهيم المنحرفة يجمعها استبعاد المنطلق الديني، وتحجيم المنهج الإسلامي في التعامل الاجتماعي، وجعله اختيارا خاصا لا يتحرك في الحياة ويحكمها، وأخص مكونات الفكر الليبرالي العلماني نزع الإلزام في الشريعة الربانية، ولهذا فأخصر تعريف لليبرالية (منع المنع)، فماذا أبقى هذا التيار للفكر العلماني والليبرالي؟! الأمة بين اختيار الحاكم والسيادة المطلقة: يصر بعض التنويريين ممن لم يحدد خياره العلماني بعد على الخلط بين السيادة للأمة المتضمنة لحق التشريع المطلق كما قدمناه، وبين رفض الاستبداد والتغلب والتوريث، فيجعل من يرفض إرجاع تحكيم الشريعة إلى موافقة الأمة، وعدم استحقاقها للهيمنة على المجتمع إلا بعد إجازتها من الأمة .. يجعل ذلك في صف الاستبداد والتغلب والتوريث، وهذه مغالطة لان من يجعل اختيار الحاكم حق للأمة يجعل -أيضا- الحاكم والأمة التي اختارته تحت سيادة الشريعة وحكمها، فالحاكم وكيل ونائب عن الأمة في إقامة الدين وتحكيم الشريعة في الناس، ومعيار تحقيقه لمقتضى الوكالة هو التزامه بحكم الشرع في شؤونهم العامة والخاصة، وإذا لم يفعل ذلك يجب عزله وفسخ حكمه، وهذه قضية في غاية الوضوح في المنهج الإسلامي، وهي الفارق المنهجي بين دور الأمة في المنهج الإسلامي والمنهج العلماني.

فوز حركة النهضة والمفاهيم الإسلامية

فوز حركة النهضة والمفاهيم الإسلامية علوي بن عبد القادر السَّقَّاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية 13 ذو الحجة 1432 هربَ طاغيةُ تونس، وسقطَ ديكتاتورُ مصر، وهلكَ طاغوتُ ليبيا، وسيتبعهم نصيريُّ سوريا بإذن الله، وفرح المسلمون بذلك، وحُقَّ لهم أن يفرحوا، كيف لا يفرح المسلم بزوال الطغيان؟! كيف لا يفرح المؤمن بزوال الظلم والاستعباد؟! من لم يفرح بذلك فليشكَّ في دينه أو عقله. وبعيداً عن الخوض في تداعيات هذه الثورات، فالمؤمَّل أن يكون هذا السقوط في صالح المسلمين إن شاء الله، فرفعُ الظلم والاستعباد الذي وصل في بعض هذه الدول إلى التضييق في العبادات، وإظهار الكفر البواح، لا شك أن فيه خيرًا كبيرًا للإسلام والمسلمين، بعد أن ظلَّ هذا الأمر عقوداً من الزمن حتى يئس كثيرون من تغييره {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. ثم رأينا بعد ذلك الهروبِ والسقوطِ والهلاكِ ظهورَ واجهاتٍ إسلامية، لم يكن لها أن ترى النور في ظلِّ الأنظمة السابقة، كالجماعات السلفية والإخوان المسلمين في مصر، وحزب النهضة في تونس، وفئامٌ من الإسلاميين في ليبيا، ولا شك أن هذا أيضاً مما يُفرح المسلمين الصادقين ويبهجهم، ويغيظ الله به قلوب الكافرين والمنافقين والعلمانيين.

والمتأمل لأوضاع المسلمين في فترة ما قبل سقوط هذه الأنظمة، وما آلت إليه الأوضاع الآن - رغم ما يكتنفها من مخاوف - لا يسعه إلا أن يتفاءل بأن أوضاع المسلمين في هذه البلدان ستكون إلى الأفضل -والله أعلم-، وليست الخشية الآن من صعود نظام كسابقه، فهذا زمن قد ولَّى، والشعوب لن تقبل به وسترفضه كرفض الشعب التركي لمصطفى أتاتورك جديد، بعد أن تنعمت بحكم أردوغان وحزبه، بل الخشية من ضياع المبادئ والثوابت والمسلَّمات، وتغيير المفاهيم، ففي العقود الماضية وتحت حكم الاستعباد والظلم، والكفر أحياناً، كان المسلمون -وعلى رأسهم العلماء والدعاة- يدعون الناس إلى عقيدة صافية ومنهج واضح، ويأمَلُون ويؤمِّلُون الشعوب بحكم إسلامي نظيف، منبعه الكتاب والسنة على فهم سلف هذه الأمة، تحكمه النصوص، ولا يهمل العقل ولا يغفل الواقع، وأعداء الإسلام يعرفون جيداً أنه لو حصل هذا فقد قامت قيامتهم، وقربت نهايتهم، إسلامٌ: شعارُه الحاكميةُ لله، ودثارُه الولاء والبراء، وذروةُ سنامه الجهاد في سبيل الله، إلا أنَّ الأمر الآن بخلاف ذلك إذ أصبحت الرايات تُرفع للعدل، والحرية والمساواة والتنمية، وليس اعتباطاً أن يكون اسم الحزب الحاكم في تركيا الآن هو (حزب العدالة والتنمية)، والحزب الفائز والذي سيحكم تونس قريباً حزب النهضة، شعاره والمكتوب تحت عنوانه: حرية -عدالة- تنمية (¬1)، فالخشية إذن في ضياع المفاهيم ونسيانها مع وصول هؤلاء للحكم، أمَّا مسألة فرح المسلم بفوز حزبٍ إسلاميٍ سُنِّي- ولو شَابَهُ تخليطٌ وضلالٌ - على نظام لا يعترف بشريعة الله، فهذا أمر لا نُزَايد عليه، وهو من الولاء والبراء الذي أمرنا الله به، وقد حكم عقوداً من الزمن خلفاءُ مسلمون لهم على المسلمين طاعة، وهم أهل بدع وأهواء، فلا شك أن فوز حزب (العدالة والتنمية) في تركيا على الحكم العلماني العسكري السابق مما يفرح المؤمن الصادق -رغم توجهاته الليبرالية-، ولا شك أن فوز (حركة النهضة) في تونس على اليساريين والعلمانيين كذلك، لكن هذا لا يمنعنا من الحديث عن حركة النهضة وزعيمها ووضعهما في ميزان النقد الشرعي، حفاظاً على المبادئ والمفاهيم الإسلامية الأصيلة، فحزب النهضة وإن كان يدعو إلى الإسلام وتطبيق شرائعه، وله جهود في ذلك يشكر عليها؛ إلا أنه حزب عقلاني يشوبه ما يشوب دعاة لبرلة الإسلام وأسلمة الليبرالية، وهذا الحكم ليس نابعاً من تصريحاتٍ حديثةٍ يمكن أن تُفسَّر على أنها تصريحات مرحلية للفوز في الانتخابات، بل هو مبني على مبادئ من صميم منهج الحزب، والذي كتبه في بياناته ووثائقه، وما صرَّح به رئيسه الأستاذ راشد الغنوشي، بل إنه صرَّح مؤخراً في مقابلة له في قناة (حَنِبَعَل) (¬2) ¬

(¬1) كما أنه ليس اعتباطاً أن تكون الوثيقة الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي والصادرة في مارس 2006 والتي جعلت من تشجيع الديمقراطية والحرية في الوطن العربي، الدعامة الأولى، وجاء فيها ما نصه: ((إن الدعامة الأولى والركيزة الأساسية هي: تشجيع الحرية والعدالة وكرامة الإنسان والعمل على إنهاء الطغيان لتشجيع الديمقراطيات)) انظر تقرير مؤسسة راند لعام 2007 بعنوان: تكوين شبكات من المسلمين المعتدلين. (¬2) يقال إن هذه التسمية نسبة إلى قائد قرطاجي عاش قبل الميلاد ..

التونسية أنَّ ما يقول به الحزب الآن، هو ما كتبه قادة الحزب وهم في السجن والمنفى، وبين يدي الآن وأنا أكتب هذه الوريقات أكثر من عشرين كتاباً وبحثاً ومشاركة في ندوات ومؤتمرات وحوارات له، كتبها كلها وهو في المنفى، فلا يصحُّ أن يقال بعد ذلك إن هذه تصريحات مرحلية، بل صرَّح هو نفسه أن مثل هذا يعد نفاقاً، وأن كل ما يقوله الآن بعد فوز حزبه في الانتخابات كان يقوله اعتقاداً وقناعة، وأنه مسطورٌ في كتبه، وقد صدق، وهذا مما يميز الأستاذ الغنوشي، فهو صادق الكلمة، صريح في أقواله، جريء في عرض قناعاته، لا يتلون كما يتلون بعض السياسيين من الإسلاميين وغيرهم، والحق يقال إنَّ الرجل عقلية فذة، ومفكرٌ عميق لا يرده شيءٌ عن نقد أي فكر، ولو كان ممن هو محل إعجابه والثناء عليه، كالخميني والترابي وأضرابهما (¬1)، والرجل لديه وعي إسلامي جيد، وإنصافٌ في كثيرٍ من أقواله، وله أيضاً شطحٌ وشططٌ، وعقلنةٌ، وبُعدٌ عن المنهج الحق، وهو متأثرٌ تأثراً بالغاً بالديمقراطية الغربية مع نقده لكثير من تصرفات الغرب ومنهجيته، ومتأثرٌ بالثورة الإيرانية على يد الخميني، وبالحركة السودانية بقيادة الترابي، وبالمودودي مؤسس الجماعة الإسلامية بباكستان، وبالفكر العقلاني المعتزلي، وبالمنهج المميع المتساهل والذي يسمونه (الوسطي المعتدل)، وأنا أنصح المتمكن من العلم الشرعي الذي له اهتمام بالسياسة الشرعية أن يقرأ كتبه ويستفيد منها، وخاصة كتابه: (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ففيه خلاصة قناعاته، وموقف الحركة من مسائل السياسة الشرعية. نشأ الأستاذ الغنوشي ناصريًّا في مصر (¬2) ثم يسارياً في سوريا (¬3)، ثم تحول بعد ذلك إلى الإسلاميين، وترك القوميين، والذي جعله يتحول هو اكتشافه تعارض القومية مع أصول الإسلام، وأنه كان منخدعاً بها لدرجة أن عمره الإسلامي بدأ في ليلة 15/ 6/1966م حتى إنه اغتسل ووحَّد الله في تلك الليلة - على حدِّ تعبيره (¬4)، وهذا كله لا إشكال فيه، بل هو منقبة له، ودليل على فطرته الإسلامية السليمة، لكن الإشكال هو أن الفكر القومي ظل مؤثراً عليه إلى يومنا هذا، حتى إنه صرح في مراجعاته على قناة الحوار بأنه- وبعد هذه السنين الطويلة- لا يعتبر اتجاهه الإسلامي نقيضاً لاتجاهه القومي، بل هو امتداد له. ثم أنشأ بعد ذلك حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حالياً)، وتاريخه طويلٌ مليء بالمعاناة والنضال والسجن والاعتقال والاضطهاد والصبر والمصابرة، مما نسأل الله عز وجل أن يأجُره عليه. ¬

(¬1) ولست هنا في مقام ذكر الانحرافات الهائلة لكل منهما فهذا له محله وقد أُفردت فيه مؤلفات، لكن المراد ذكر تأثره بهما. (¬2) ذكر في مراجعاته مع عزام التميمي على قناة الحوار وقد صدرت في خمس حلقات وهي موجودة على اليوتيوب بعنوان: (مراجعات مع الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية): أن الناصرية كانت تملأ قلبه وفكره وبرر تأثره وتأثر من حوله بالفكر الناصري بسبب تغطية الفكر الناصري للنقص الذي كانوا يشعرون به. (¬3) ذكر في مراجعاته أنه انخرط في سوريا بالحزب الناصري وأنضم للاتحاد الاشتراكي. (¬4) ذكر هذا أيضًا في مراجعاته.

والذي يهمنا هنا هو فكره ومنهجه، ومنهج حركة النهضة التي وصلت إلى الحكم في تونس بعد سنين من الاضطهاد، هل هي الحركة التي يرجو المسلم الموحِّد من فوزها أن تطبق شرع الله، وترفع ظلم العباد لأنفسهم ولغيرهم، وهل هذا التمكين هو التمكين المرجو في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؟ وهل ينطبق على الحركة قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}؟ حركة النهضة التي اختلف فيها الدعاة اليوم بين مؤيد ومعارض، هي حزب يرفع راية الإسلام، وهو الحزب الوحيد المؤهل الآن لحكم تونس التي قضت عقوداً في العلمنة والإلحاد، لكن هذا لا يمنعنا أن ننقده، ونبين جوانب النقص فيه، وقد جعلت ذلك اختصاراً في ثلاثة محاور. وقبل سرد هذه المحاور من المهم أن يعلم القارئ أن الحركة -كرئيسها الغنوشي- تقلبت خلال هذه السنين، وانتقلت من حال إلى حال، حيث كان للإخوان المسلمين أثرٌ عليها في بداية النشأة، ثم انتقلت الحركة إلى التوجه العقلاني، وأصبحت تعتبر جماعة الإخوان المسلمين جماعة سلفية تقليدية!!، وإليك جدولاً أعده عبد اللطيف الهرماسي قارن فيه بين منهج الحركة وتوجهاتها في السبعينات ومنهجها في الثمانينات، استلَّه من بيانات الحركة وتصريحات زعيمها، نشره مركز دراسات الوحدة العربية، ومما جاء فيه: 1 - الموقف من تطبيق الشريعة في السبعينات: - تنفيذ أحكام الله وإقامة الحدود في المرحلة الثانية من الدعوة: مرحلة قيام المجتمع المسلم، التي تلي مرحلة الدعوة والبناء. في الثمانينات: - تأجيل المسألة إلى أن يتم إعداد الرأي العام. - تعطيل الحدود حتى تزول أسباب الجريمة، وتتوفر شروط التطبيق. 2 - الموقف من تعدد الزوجات في السبعينات: - تعدد الزوجات مباح وجائز بصريح النص المحكم الذي لا شبهة فيه، ولا يجوز للحاكم المسلم أن يمنعه مطلقاً. في الثمانينات: - إن حركة الاتجاه ما كانت تهدف، ولا هي تهدف الآن إلى مراجعة منع تعدد الزوجات. وهي لا تعتبر التعدد أصلاً من أصول الدين، ولا تعتبر أن حل مشكلات الأسرة يتوقف على السماح بالتعدد. 3 - الموقف من الاختلاط وتعليم المرأة وعملها في السبعينات: -الاختلاط سبيل للفجور، وحق المرأة في التعليم محدود فيما يكفل قيامها بوظيفتها الطبيعية: شؤون المنزل ورعاية الأطفال، واشتغالها لا يجوز إلا عند شدة الحاجة، وشرط أن تكون المهنة شريفة، والمرأة دون عائل. في الثمانينات: - اعتبار أن وجود المرأة في المؤسسة غدا أمراً واقعاً لابد من مواجهته بروح جريئة، واعتبار الممانعة في تعليم البنت تصوراً بدائيًّا ليس له أساس من الدين. 4 - الموقف من الديمقراطية في السبعينات: - الإسلام يتضمن كل ما نحتاج إليه لإدارة المجتمع. - كل محاولة لإدخال مفاهيم مثل الديمقراطية والاشتراكية هي تعبير عن شعور داخلي بالهزيمة. - الحرية والديمقراطية والمساواة، ليست سوى أصنام حديثة أو وسائل تخدير واستعباد. - رفض كل النظم البشرية، والقول بمفهوم الحاكمية. في الثمانينات: -العلاقة مع الله تمر بالشعب ثم بالحاكم الملتزم بتطبيق البرنامج الذي اختاره الشعب. - نحن لا نعارض قيام حركة سياسية، وإن اختلفت معنا اختلافاً جذرياً. - الحاكمية للشعب وحاكمية الله تمر عبر الشعب.] (¬1) ا. هـ ¬

(¬1) عبد اللطيف الهرماسي، (الحركات الإسلامية والديمقراطية) (ص304)، مركز دراسات الوحدة العربية.

والحديث عن حركة النهضة لا ينفك عن الحديث عن رئيسها ومنظِّرها الغنوشي، لذلك فما يُنسب له يُنسب لها، أمَّا المحاور الثلاثة فهي: المحور الأول: الاتجاه العقلاني في الحركة والتأثر بالفكر القومي اليساري وهذه شهادة رئيس الحركة في انتقالها إلى العقلانية مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، يقول الغنوشي: (لقد نما النقد داخل الحركة، وكان للعقلانية دورٌ مهم في ذلك، بالإضافة إلى ضغوط الواقع والشعور بعزلة الحركة نتيجة للانكسارات التي أحدثتها في علاقة الفرد مع وسطه، حتى غدا التوتر والعزلة سمتين لأغلب العاملين من أبناء الحركة في علاقتهم بمجتمعهم، ... فلم تنته السبعينات إلا وقد تخلى أغلبية العاملين في الحركة عن الخوض في تلك القضايا، كما انقطع أغلبهم عن حركات الرفع، وبعضهم عن القبض في الصلاة (¬1)، وانقطعوا جملة عن الخوض في مسألة التوسل والتعرض للصوفية (¬2)، بل قطعت الجماعة خطوة أبعد، فعملت على تخفيف التوتر مع المشايخ والصوفية، وأخذت في تنظيم لقاءات مع هؤلاء وأولئك، قاطعة بذلك مع التدين السلفي الوارد علينا من المشرق في صيغة كتابات للشيخ ناصر الدين الألباني وجابر الجزائري. كما أنه قد نما بتأثير التدين العقلاني وتنامي دور الجناح الطلابي وحجمه في قاعدة الحركة ومؤسساتها مع نهاية السبعينات، وهو جناح اضطره موقعه في مهب المعارك الأيدولوجية والسياسية في الجماعة إلى تقديم الإسلام لا كدعوة بل كرؤية أيدولوجية عالمية) (¬3). أمَّا تأثر الحركة بالفكر القومي والناصري فهذا واضح في كثير من تصريحات الغنوشي، وقد أوضح ذلك بشكل جلي فؤاد السعيد في أطروحة له بعنوان: (إعادة كتابة الناصرية إسلاميًّا - قراءة في فكر راشد الغنوشي) نشرها عبد الحليم قنديل، ختم الدراسة بقوله: (إن أطروحات الغنوشي والحركة الإسلامية التونسية قد لا ترضي القوميين بشكل كامل-وهو أمر غير وارد، وإلا تطابقت المواقف، ولم تعد هناك قضية لتناقش بين الطرفين- ولكنها بلا شك الأطروحات الإسلامية الأكثر قرباً من الفكر القومي الناصري، سواءً على مستوى منهج التفكير أو على مستوى الموقف من الاجتهاد والتجديد الإسلامي أو بالنسبة لفهم القضية الاجتماعية أو العلاقة بين الإسلام والعروبة، وهي خطوة كبيرة على طريق التقارب السياسي، بل والتطابق الفكري) (¬4). المحور الثاني: الخلل العقدي والمنهجي في الحركة هذا المنهج العقلاني والفلسفي في الحركة أورثها خللاً منهجيًّا وعقديًّا في كثير من الأمور، فمن ذلك: 1 - خلل في الموقف من الثورة الإيرانية، والإمامية الاثني عشرية: ¬

(¬1) مسألة رفع الأيدي أثناء التكبير في الصلاة والقبض باليمنى على اليسرى، من صفة الصلاة التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) والاهتمام بها واجب، أما الانشغال بها بما هو أوجب منها، أو عقد الولاء والبراء عليها فمذموم ومن ضعف الفقه في الدين، وكذا الاستهانة بها وجعلها من القشور كما يُفهم من كلام الغنوشي -عفا الله عنه-. (¬2) وهذا الانقطاع لا مبرر له إلا الاستهانة بأمور البدع وخطر المبتدعة وهذا من أثر المنهج العقلاني الذي تبنته الحركة. (¬3) راشد الغنوشي، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، ص 35، دار القلم 1409هـ، وانظر: بحوث ندوة (الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي) نشره مركز دراسات الوحدة العربية عام 1987م. (¬4) فؤاد السعيد، (عن الناصرية والإسلام) ص369، تحرير: عبد الحليم قنديل.

تحدث الغنوشي عن أثر الثورة الإيرانية في الحركة ومن ذلك: (التفاعل العميق مع الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات على نحو اختلف نوعاً ما عن تفاعل الحركات الإسلامية السلفية البحتة، فلقد بلغ الحماس هنا لهذه الثورة أوجاً لم ير مثله لدى أية حركة إسلامية أو غير إسلامية في البلاد، وكان لهذا التفاعل أثره الكبير في تجذير الفكر السياسي والحركة للجماعة في اتجاه القطيعة، مع ما قد يكون فيه من تجاوز لمقتضيات المصلحة) (¬1). ويقول عن الاتجاه الإسلامي إنه: (تجاوز البعد الطائفي في التعامل مع الثورة الإسلامية في إيران) (¬2). ومن أقواله عن التيار الشيعي: (وقد تعاظم شأن هذا التيار في إثر الانتصار الباهر الذي حققته الثورة الإسلامية في إيران ضد النظام البهلوي، وكان الخطاب الإيراني الثوري التعبوي الحامل أنَّات المستضعفين، وآلام القرون، وأشواق الاستشهاد، من خلال كتابات عدد من العلماء المجاهدين الرواد الذين نظروا إلى الفكر الشيعي، وحاولوا نفض غبار القرون عنه وتقديمه رؤية إسلامية عالمية وناطقاً رسميًّا وحيداً باسم الإسلام، وكتابات الشهيد الصدر والمطهري -وشريعتي على رأسها- قد أطلقت موجة عاتية من الفكر الثوري الشيعي اجتاحت عدداً كبيراً من مثقفي العالم ومثقفي السنة، وفي غمرة الحماس لانتصارات الثورة كانت أفكار هؤلاء الرواد، بل حتى التراث الشيعي قبل أن ينفض عنه الغبار، تجد صدى متعاظماً، وكانت انتصارات الثورة تقوم مقام كاسحات الثلوج أمام الفكر الشيعي تفتح في وجهه الطريق فيتقدم دون مقاومة تذكر) (¬3). ويقول مخاطباً السنة والشيعة معاً، وأنه لا أحد من الطرفين يحتكر الحقيقة!: (فهل من فَيْأة إلى الرشد تحرر العقول من فكرة احتكار الحقيقة وادعاء كل طرف لا بمجرد أنه أهدى سبيلاً (¬4)، بل إن سبيل الإسلام هو سبيله ولا شيء غير ذلك، وهو نهج خاطئ علميًّا مضر سياسيًّا، ولا شك في أنه على الطرف الآخر من هذا النهج تقف الدعوة إلى تكفير الشيعة وتجاوز ما استقر عليه أهل السنة من أن الشيعة الإمامية والزيدية: هم من أهل القبلة، مع تسجيل مآخذ عليهم) (¬5). وتحدث في مراجعاته على قناة الحوار عن تركيز الحركة على البعد الاجتماعي، بدلاً عن البعد العقائدي، على خلاف السائد لدى الحركات الإسلامية في ذلك الوقت، وأنهم أخذوا عن الحركات اليسارية واستفادوا منها، وكيف أنه كان منخدعاً بفكر سيد قطب الذي تعلموا منه أن الخلافات عقدية حتى ظهرت الثورة الخمينية، فتعلموا منها أن الصراعات بين الأمم أغلبها ليس عقديًّا وتأثروا بها وعرفوا -حسب تعبيره- خطأ فكر سيد قطب وصوابية منهج الخميني. ثم تحدث في الحوار ذاته عن تفسير قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} وكيف أن الخميني أشعل معناها في صدورهم، فأبرز بُعداً جديدً للصراع في الإسلام وهو صراع المصالح! الصراع بين المستضعفين والمستكبرين! بينما كان سيد قطب يركز فقط على آيات المائدة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {الظَّالِمُونَ} {الْفَاسِقُونَ} فجاء الخميني ليبين أن الصراع في العالم ليس صراعاً مبنيًّا على العقائد فحسب، وإنما هناك صراع مصالح أيضاً. ¬

(¬1) المصدر السابق ص36 (¬2) المصدر السابق ص42 (¬3) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص21 (¬4) ما أضل السُنِّي إن كان لا يرى أنه أهدى سبيلاً من الرافضي. (¬5) المصدر السابق ص152

والشاهد هنا ليس هو نفي وجود صراع مصالح، فهذا لا ينكره عاقل، بل الشاهد هو تأثره بالفكر الخميني بعد أن كان متأثراً بفكر سيد قطب، بل أكَّد في تراجعاته أنه لا يوجد سبب حقيقي للتصادم بين الإسلام والغرب سوى المصالح!! 2 - إعجابه بالحركة السودانية على يد الترابي، واعتباره أن من المؤثرات على حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حالياً): (التفاعل مع التجربة السودانية، وهي محاولة من داخل الحركة الإسلامية السنية لتجاوز الرؤية المعاصرة للسلفية، وإقامة نوع آخر من العلاقة بين السلفية الأصولية وبين الواقع الحضاري المعاصر، فقد كان للتجربة السودانية تأثير فعَّال في تطوير الجماعة الإسلامية بتونس على المستوى الأصولي والاجتماعي، وعلى المستوى الطلابي) (¬1). بل من شدة إعجابه بالترابي نعته بالمجدد، فقال عنه: (ولا شك أن الريادة بين الحركات الإسلامية المعاصرة في تحرير المرأة ومشاركتها تظل للحركة الإسلامية السودانية بتأصيلات مؤسسها المجدد الشيخ الترابي ... ) (¬2). 3 - الجهاد عنده هو جهاد الدفع، وقد صرَّح بذلك أكثر من مرة، آخرها في مقابلة معه في برنامج (الصراحة راحة) في قناة (حنبعل) التونسية. 4 - اعتراف الحركة بكل التشكلات الحزبية بما فيها العلمانية والشيوعية (¬3). 5 - شارك بكلمة في المؤتمر القومي الإسلامي الأول عام 1415هـ - 1994م، وحث فيها على أن تشارك النساء في لجان المتابعة، ورشح أحد النصارى لعضوية لجنة التنسيق، ودعم حزب الله. 6 - الردة عن الإسلام جريمة سياسية يعاقب عليها الحاكم تعزيرًا لا حدًّا، وليست قضية مرتبطة بحرية العقيدة، وقتال أبي بكر للمرتدين كان سياسة لا دينًا (¬4). المحور الثالث: الخلل في السياسة الشرعية 1 - ترديد عبارة أن الشرعية والسلطة للجماهير وللشعب، ومن أقواله: (إن أول ما يتعين تأكيده في هذا الصدد هو أن حركتنا هي حركة إسلامية سياسية، ذات طموحات تغييرية تنموية شاملة، تسعى إلى تأصيلها بما يتلاءم وقيم الأمة الحضارية، وتجتهد في تحقيقها استناداً على الشرعية الجماهيرية. فهي بهذا المعنى ليست حركة دينية تجزئ نظرتها للإسلام، وتحتكر الحديث باسمه، وتستمد شرعيتها من سلطة غيبية متعالية تفرض التسلط والاستبداد باسمها، وتصادر حريات المخالفين العامة والخاصة من أجل السيادة) (¬5). ويقول: (إن رفض (حركة الاتجاه الإسلامي) اعتبار نفسها دينية بهذا المعنى وتأكيدها في مقابل ذلك على طابعها السياسي بالمفهوم الإسلامي - يجعل حقها في الممارسة السياسية واضحاً ومشروعاً لا يتوقف على أن يحدده أو ينظمه طرف سياسي ما، وإنما يفرضه واقعها الجماهيري، وينظمه القانون، وعلى رأس هرمه (الدستور) الحالي للبلاد، رغم ما لنا عليه من مآخذ) (¬6). وفي سؤال وجِّه إليه: (إذن أنتم تعملون ضمن إطار المجتمع المدني، في استمدادكم للشرعية، ولا تتوجهون إلى هرم السلطة، ولا تنظرون لأنفسكم أنكم فوق المجتمع. أجاب: التوجه إلى هرم السلطة مبدأ عندنا، والإسلام بوصفه مشروعًا سياسيًّا، لا يختلف عن غيره من المشاريع الأخرى، من حيث إنه لا شرعية له، إلا ما يستمدها من قبول الجماهير. ¬

(¬1) راشد الغنوشي، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس ص36 (¬2) راشد الغنوشي، المرأة في القرآن الكريم، ص128. (¬3) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص305 (¬4) المصدر السابق، ص43 (¬5) المصدر السابق ص55 (¬6) المصدر السابق ص55

فالمشروع الإسلامي، لا يستمد مشروعيته في حكم الناس، إلا برضاهم، والدولة الإسلامية بالتالي، هي دولة مدنية كسائر المدنيات الأخرى، ليس لها من شرعية، إلا ما تستمده من شعبها، وشعبها هو صاحب السيادة عليها، والاستخلاف في الأرض ليس للدولة وإنما للأمة. واستخلاف الدولة متأت من الأمة. فليس في الإسلام سلطة دينية ثيوقراطية، بل هناك سلطة مدنية تقوم بتنفيذ القانون الإسلامي بوكالة عن الأمة ... وللأمة في أي وقت شاءت سحب وكالتها) (¬1). 2 - يخلط الغنوشي بين إجماع علماء المسلمين، وبين إجماع الرأي العام أو الشعب، وقد تكرر هذا في كثير من تصريحاته ومن ذلك قوله: (إن الإجماع الذي عُدَّ في شريعة الإسلام مصدراً من مصادر الشريعة إلى الكتاب والسنة، هذا الإجماع هو دعوة صريحة إلى الاعتراف بالرأي العام، على اختلاف اتجاهاته وميوله الأصلية الثابتة ورعايته عند التشريع، وهذا العنصر البشري الذي دخل على الشريعة جزء منها ليس غريباً عنها، بل هو رشح من هديها ما ظلت الأمة متطهرة كادحة في طريق الله، فلا عجب عندئذ أن تنظر بنور الله، وأن تغدو رؤاها جزءاً من النبوة، فالحسن ما رأته حسناً) (¬2). فالأمة عنده: الرأي العام أو الشعب، بل إنه يصرح بأن {أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} هم الأمة والشعب، وذلك بقوله: (ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن {أُولِي الْأَمْرِ} ليسوا علماء الشريعة ضرورة، بل طائفة منهم ومن غيرهم ممن هم مطاعون في قومهم وأصنافهم، مثل زعماء الأحزاب والنقابات وغيرهم، ممن يحوزون على تمثيلية الأمة) (¬3)، ولا يلزم عنده أن يكون هؤلاء مسلمين، (أما غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية، وهم الذين رضوا بإعطاء ولاءهم كاملاً للدولة الإسلامية، واعترفوا واحترموا هويتها الإسلامية، فلا مانع من أن توكل إليهم الوظائف في أجهزة الدولة، وأن يكون لهم تمثيل في المؤسسة الشورية، وسيكونون قطعاً أقلية في حكم إسلامي يقوم على أكثرية إسلامية. وإن اشتراط أن يكون أولو الأمر من المسلمين - منكم - يمكن أن يحمل على أنه شرط تغليب، يقتضي أن تكون أغلبية أولي الأمر من المسلمين؛ لضمان عدم تحول الدولة عن أهدافها) (¬4) (المهم هنا التأكيد على أن الهيئة الشورية في الدولة الإسلامية يمكن أن تضم أقلية أو أقليات غير إسلامية، وأن اشتراط الإسلامية إنما هو لأغلب أعضائها ولرئيس الدولة خاصة) (¬5). ¬

(¬1) علي العميم، العلمانية والممانعة الإسلامية، ص24، دار الساقي (¬2) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص21 (¬3) المصدر السابق، ص129، وهذا خلاف ما أجمع عليه علماء التفسير من أن المقصود من {أولي الأمر منكم} هم العلماء والأمراء من المسلمين. (¬4) المصدر السابق، ص130 (¬5) المصدر السابق، ص131

3 - الغنوشي لا يرى شرعية أي دولة جاءت بدون اختيار الشعب عن طريق الانتخاب وصناديق الاقتراع، ولو حكمت بشرع الله، فيقول: (لا شرعية في نظام إسلامي جدير بهذا الوصف غير تلك التي تتأسس على نظام واضح وصارم من الشورى، قائم على مبايعة صحيحة تعبر عن إرادة الأمة، شعب الدولة، وذلك عبر انتخابات تتوفر على كل شرائط الصدق. لا شرعية في نظام إسلامي تستمد من مجرد وراثة أو من استخلاف أو من انقلاب أو من أي صورة من صور التسلط السافر أو الخفي عبر تزييف الانتخابات أو الاستقواء بقوى خارجية أو ادعاء وصاية إلهية على الأمة أو عصمة أو بالاستناد إلى شرعية تاريخية. إلخ. لا ثيوقراطية في الإسلام بل حكم مدني من كل وجه، الأمة، شعب الدولة مصدر كل سلطاته، وطريقه الوحيد البيعة العامة، التي لا تغني عنها البيعة الخاصة، إذ هي مجرد ترشيح) (¬1)، وهذا جعله- غفر الله له- يتطاول على أمير المؤمنين وخالهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ويسيء الأدب معه -وهذا من أثر إعجابه بالثورة الإيرانية- حيث قال عنه: (الوالي المنشق معاوية بن أبي سفيان، وقد غلبت عليه- غفر الله له- شهوة الملك ومواريث عصبيته القبلية، فلم يكتف بأن انتزع الأمر من أهله عنوة وكيداً، بل مضى لا يلوي على شيء حتى صمم على توريثه - كما يورث المتاع - لابنه الفاسق وعشيرته، فجمع في قصة مشهورة ثلة من المرشحين للخلافة، فقام خطيبه معلناً: الخليفة هذا- مشيراً إلى معاوية- وخليفته ذا، مشيراً إلى يزيد، فمن أبى ذلك فليس له غير هذا. مشيراً إلى سيفه، فقال له معاوية: اجلس، فأنت خطيب القوم). ومنذئذ بدا مسلسل الشر والفساد، مؤبِّداً الدكتاتورية وحكم الفرد على اختلاف في الصورة) (¬2)، فإذا كانت هذه نظرته لخلافة معاوية رضي الله عنه، فكيف هي مع الدولة الأموية وخلافة عمر بن عبد العزيز، وخلافة الدولة العباسية وأخيراً الخلافة العثمانية؟! فعلى هذا التصور فكلها أنظمة غير شرعية!!. بل إنه على هذا النهج تكون خلافة عمر بن الخطاب خلافة غير شرعية حيث ورَّثه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، وكذا عثمان حيث جعله عمر بن الخطاب رضي الله عنهما واحداً من ستة ولم يجعل للشعب خياراً في غيرهم. 4 - الغنوشي لا يرى طريقاً للحكم إلا عبر الديمقراطية، مهما كلف الحركة من تنازلات، وهو يدعو إلى تبنيها تبنياً كاملاً، والديمقراطية عنده تعني إشراك كافة الشعب في الحكم مسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم دون تمييز، ومن أقواله في ذلك: (حركة النهضة: تعتبر أبرز وأقدم ممثلي الحراك الإسلامي في تونس والأسبق إلى التبني الكامل للخيار الديمقراطي، والمطالبة بتعددية لا تستثني تياراً سياسيًّا مهما كانت خلفيته الأيدولوجية، وما توسل إليها بطرق الإقناع، جاء في البيان التأسيسي لهذه الحركة أنها ترفض مبدأ الانفراد بالسلطة الأحادية؛ لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان، وتعطيل لطاقات الشعب، ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية، والتعاون في ذلك مع كل القوى الوطنية، وحجتهم أن المذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها اليهود والنصارى لهي من المرونة بحيث تستوعب داخل إطارها الشيوعيين والعلمانيين؛ إذ لم يكونوا أكفر من اليهود والنصارى) (¬3). ¬

(¬1) المصدر السابق، ص176 (¬2) المصدر السابق، ص175 (¬3) المصدر السابق، ص284

وهو يُعَدُّ رائداً لدى الحركات الإسلامية في تبني الديمقراطية الغربية تبنياً كاملاً، وهذا شهد به عددٌ من الكتاب القوميين وغيرهم، ومن هؤلاء حيدر إبراهيم بقوله: (فقد بدأت الحركة بعد عام 1984م تعلن صراحة وبوضوح قبولها لكل شروط اللعبة الديمقراطية، وما يترتب عليها من نتائج، ويكتب بورغا: "وللمرة الأولى -حسب معلوماتنا- يتخذ مناضلوا الإسلام السياسي في العالم العربي موقفاً صريحاً مع الديمقراطية التي يطالبون بها ويدافعون -رغم الاختلافات الأيدولوجية- عن حق التعبير والتنظيم بالنسبة لجميع الأحزاب الموجودة حتى إذا كانت هذه الأحزاب تمثل النقيض الأقصى لهم مثل الشيوعيين، ويصل بهم الأمر إلى القول بأنهم على استعداد لاعتبار سلطة الشيوعيين شرعية إذا كانت تلك رغبة الشعب الذي يدلي برأيه بطريقة ديمقراطية. وقد كان كتاب الغنوشي الأخير: (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)، كما أسلفنا جهداً فكريًّا لتَبْيِئةِ وتوطينِ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في فكر الحركات الإسلامية، ثم في المجتمعات والدول الإسلامية) (¬1)، (فحركة النهضة أصبحت تمثل تياراً عصريًّا متنامياً داخل الساحة الإسلامية العربية، وخلال ربع قرن من النضال تمكنت حركة النهضة من أسلمة الحداثة، فأكبر إنجاز للحركة الإسلامية التونسية، هو في نقلها الإسلام إلى عالم الحداثة، ونقل الحداثة إلى عالم الإسلام، وتجسيد العلاقة بين هذين العالمين اللذين ظُنَّ أصلاً أنهما لا يتصلان) (¬2). 5 - مفهوم الحرية يتوسع عند الغنوشي حتى يصبح أولى أولويات الحركة وسابق لتطبيق الشريعة: (مسألة الحرية - في تصورنا - ليست مسألة ثانوية، بل هي منطلق أساسي، لكل عملية نهضوية، فنحن لا نتعامل معها على أنها مسألة ظرفية، أو نريد بها استغلالاً آنياً لواقع معين، وإنما هي مبدأ وقيمة لا نتنازل أبداً عنها) (¬3)، وفي مراجعاته عبر قناة حوار يقول: (إن الحركة لا تعتبر أن مشكلة البلد عدم تطبيق الشريعة، وإنما هو غياب الحرية، وإن مشروع الحركة لا يتجاوز المشروع الوطني العام: مشروع الحريات والديمقراطية، بل مطالبها كلها تدور ولا تزال في الساحة التي تتلخص في حرية التعبير وحرية التجمعات وتكوين الجماعات). 6 - يقول الغنوشي عن ولاية المرأة الولايات العامة: (ليس هناك في الإسلام ما يقطع بمنع المرأة الولايات العامة قضاء أو إمارة) (¬4)، بل صرَّح بحقها في رئاسة الدولة (¬5)، وهذه إمامة عظمى انعقد الإجماع على عدم جوازها، قال ابن حزم رحمه الله: (وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة) (¬6). هذا غيضٌ من فيض يجعلك تعرف كِبَر الهوة التي بين منهج هذه الحركة والمنهج الإسلامي الصحيح، وليعذرني القارئ فقد أكثرتُ عليه من النقل لكن ليعرف مدى الغفلة التي يعيشها كثيرٌ من الدعاة اليوم الذين لا يفرقون بين الفرح بفوز حزب إسلامي وبين جعله الفجر المنتظر، والفرج القادم الذي سيعيد للأمة الإسلامية مجدها ورفعتها. ¬

(¬1) حيدر إبراهيم علي، التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية، ص247، مركز دراسات الوحدة العربية (¬2) الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية، ص859، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، 2000م (¬3) علي العميم، العلمانية والممانعة الإسلامية، ص21، دار الساقي (¬4) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص134 (¬5) راشد الغنوشي، المرأة في القرآن الكريم، ص113 (¬6) ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، (4/ 89).

ولو أن حركة النهضة وزعيمها جعلوا ذلك ضرورة تقتضيها المرحلة، أو أنه من باب تحقيق أرجح المصلحتين ودفع أفسد المفسدتين، لأمكن النظر في عذرهم، أمَّا أن يُجعل ذلك هو الدين وهو الإسلام الذي يرتضيه ربُّ العباد لعباده فهذا هو الظلم بعينه للشريعة، وما كان الهدف من هذه الوريقات انتقاص الحركة أو زعيمها، وهي أحوج ما تكون اليوم للمؤازرة والتثبيت على ما عندها من الحق، والتوجيه والإرشاد إلى مواطن الخلل والضلال، ولكنَّ هذه الوريقات المستهدف بها من التبست عليهم الأمور فخلطوا بين الفرح بفوز حزب إسلامي وبين صحة مساره وتوجهه. وختاماً، هذه خلاصات لما سبق، أجملها في عشر نقاط: 1 - حركة النهضة حركة (ليبرو إسلامية) متأثرة بالطرح العلماني، وهي إحدى شبكات ما يسمى بالإسلام المعتدل الذي أوصى تقرير راند بدعم أمثاله، ووصولها للحكم في تونس ليس هو الفجر الصادق المرتقب. 2 - الفرح بفوز حركة النهضة ونصرتها من مقتضيات الولاء للمسلم، والتخوف من مستقبل ذلك له ما يبرره، خشية أن يكون ضرر عرض الأحزاب الإسلامية للإسلام عرضًا مشوهًا باسم الإسلام، أكبر من ضرر الأحزاب العلمانية نفسها. 3 - الغرب لا يخشى كثيراً من وصول أمثال حركة النهضة للحكم، بل قد يدعمها ليقطع الطريق على حَمَلَة الإسلام النقي من الشوائب ومن ينعتهم بالمتشددين أو المتطرفين. 4 - الإسلامُ منهجُ حياة، وهو صالح بكليَّتِه في كل زمان ومكان، والسياسةُ جزءٌ منه، أمَّا الزعم بأنه لا يصلح في زماننا هذا -زمان الديمقراطيات- إلا ما يسمى بالإسلام السياسي، فهو زعم باطل، ووصول بعض من يتبنى ذلك اليوم للحكم ليس دليلاً على صحته. 5 - ليس كلُّ من تمكَّنَ من الحكم بعد اضطهادٍ وظلمٍ يكون تمكينُه من جنس ما يدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، حتى يأتي بشروط التمكين فيطبق شرع الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. 6 - حسنُ النية وسلامةُ المقصد لا يعني بالضرورة صواب العمل والمنهج، وإخواننا هؤلاء نحسبهم صادقين -والله حسيبهم-، وقد قدموا تضحياتٍ كبيرة، ولكنهم يحتاجون لإعادة توجيه بوصلتهم إلى الاتجاه الصحيح. 7 - التأصيل الشرعي يقي مصارع الضلال، والدين الصحيح لا يقوم إلا على علم شرعي صحيح. 8 - تثبيت المفاهيم والمبادئ في زمن الضياع والتفلت من أوجب الواجبات على العلماء والدعاة وطلاب العلم، وشدة الخوف وشدة الفرح كلاهما من مظنات فتنة الناس عن حقائق دينها. 9 - التفاؤل بتحسُّنِ أوضاع المسلمين بعد الثورات العربية مطلوب، وعلى دعاة الإسلام اقتناص الفرص والاستفادة منها. 10 - لعل الله يريد خيراً ببعض الناس؛ الذين لو جاءهم الإسلام بتشريعاته، وبصرامته لربما نفروا من أوامره ونواهيه، فقد مضت عقودٌ ودولهم تحت الاستعمار، ثم عقودٌ وهي تحت الاستعباد، عاشت خلالهما الشعوب- في ظلمٍ، وجهلٍ، وفقرٍ، وطمسٍ للمفاهيم وتغييرٍ للحقائق، وتبديلٍ لشرع الله، فانتقالها من هذه الحال إلى حال أخرى توافق شرع الله يحتاج إلى مُددٍ من الزمن، فلعل في هذا حكمة وتدرجاً إلهيًا للشعوب يهيئون من خلاله لمرحلة انتقالية على وِفقِ شرع الله، فبقدر ما يفرح المسلم بسقوط تلك الأنظمة، وبقدر ما يأسف من عدم وجود البديل الشرعي المناسب للوصول إلى السلطة، بقدر ما يستبشر خيراً لمستقبل واعد، إن شاء الله. {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم

نداء إلى أهل ليبيا

نداء إلى أهل ليبيا بعد مقتل القذافي وسقوط نظامه رابطة علماء المسلمين 23 ذو القعدة1432هـ الحمد لله معز المؤمنين، وناصر أوليائه المتقين، ومذل الطغاة ومهلك المستكبرين، الحمد لله الذي قال في كتابه الكريم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص:5] وقال: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) [محمد:7]. والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد: فنحمد الله تعالى على ما منّ به من هلاك عدو الله القذافي وانتهاء القتال, وزوال حكم الظلم والعدوان, (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 45] ونسأل الله تعالى أن يعامله بما يستحق، ونبارك للأمة الإسلامية عامة وإخواننا في ليبيا خاصة على هذا الانتصار العظيم، وإن هذا الانجاز العظيم بعد الجهاد الطويل والصبر النادر والتضحيات الضخمة ليعطي الأمل والتفاؤل بانتصار بقية الشعوب التي تجاهد لرفع الظلم، فلا يأس ولا قنوط من رحمة الله (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [الشعراء:227]، وهذه النهاية المفرحة - كنهاية من سبقه من الظالمين- هي رسالة لكل حاكم ظالم باغ، وإنذار لكل من لا يطبق دين الله، وإن هذه الأخبار المفرحة تزيدنا تفاؤلا بنصر الله مهما طال الزمن ومهما عظمت المصائب وتكالبت المحن (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) [الروم:60] وتزيدنا يقيننا بأن (العاقبة للمتقين) [هود:49]، وهي رسالة للمتشائمين واليائسين، فأين الظالمون الذين كانوا قبل عدة أشهر يسومون شعوبهم سوء العذاب .. (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) [مريم: 98]. إن رابطة علماء المسلمين مع هذه الأحداث ومع ما يتوقع من مستقبلٍ للأوضاع والأحوال في ليبيا ومن منطلق الواجب الشرعي بالنصح للمسلمين تتوجه إلى أهل ليبيا -قادة ومسؤولين, ومقاتلين, وعامة- داعية لهم أن يراعوا أموراً ومسائل شرعية مهمة وهي: أولاً: إن المحافظة على النصر -الذي تحقق بفضل الله تعالى- واجب محتم, وهذا لا يكون إلا بالتواضع لله تعالى, وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً مطأطئاً رأسه تواضعاً لله تعالى, ومن ثم فإننا نوصي إخواننا بحمد الله والثناء عليه وشكره على ما أنعم به مع التوبة إلى الله, وكثرة الاستغفار, ومراقبة الله في السر والعلن (وما بكم من نعمة فمن الله) [النحل: 53]، (وإن تشكروا يرضه لكم) [الزمر: 7] (لئن شكرتم لأزيدنكم) [إبراهيم:7]. ثانياً: الحرص على الوحدة واجتماع الكلمة, وخاصة بين القبائل, والمناطق والمدن, والقرى, والحذر من الاختلاف والفرقة والعصبيات الجاهلية, التي يدعو إليه الشيطان, فإنها تؤدي إلى الخسارة والبوار, وقطف الأعداء لثمرة الجهاد, قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران: 103]، وقال: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) [الأنفال: 46] , وقال صلى الله عليه وسلم لماّ بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا, وتطاوعا ولا تختلفا) [متفق عليه]. ثالثاً: الحذر من إعطاء الفرصة للأعداء، الذين يطمعون في السيطرة على البلاد، والتحكم في نظامها، والاستئثار بخيراتها، وأهم من ذلك صدهم للمسلمين عن دينهم الذي هو مصدر عزتهم وقوتهم سعادتهم في الدنيا والآخرة.

رابعاً: من أعظم ما يحقق الاجتماع والاستقرار ويدرأ الفرقة، صرف النظر عن الدماء التي أريقت بين القبائل في هذه الحرب، وعن مطالبة أحد لأحد بشيء منها، وذلك بالعفو المتبادل بين القبائل وأهل القرى والمدن، وعلى أهل ليبيا أن يقتدوا في ذلك بمواقف الصحابة رضي الله عنهم حين جرت الفتنة فيعفو إلاّ عمن ثبت إجرامه من بقايا رؤوس الحكومة السابقة، فللأمة محاكمة هؤلاء ومحاسبتهم ومعاقبتهم كل بما يستحقه، ومما يحقق الاستقرار أيضاً دعوة المسؤولين في ليبيا الناس للعودة إلى القرى التي فرّ عنها أهلها, والتعاون على البناء والإصلاح حتى تستقر الأحوال وتهدأ النفوس. خامساً: وبعدما تقدم نوصي حكومة ليبيا القادمة وعموم الشعب الليبي بالتمسك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعاون على ما يحقق الانتماء للإسلام، ومن أهم ما يُنَبَّه إليه في هذا المقام؛ محافظة المرأة المسلمة على آدابها الإسلامية، في خلقها ولباسها، والحذر من الانسياق مع الدعوات التغريبية، التي تستهدف إخراج المرأة المسلمة عن حدوها الشرعية، والزج بها في تقليد المرأة الغربية. كما نوصي في هذا المقام عموم المسلمين أن يسندوا إخوانهم في ليبيا، ويمدوهم بكل ما يمكن مما يعينهم في أمر دينهم ودنياهم، ولا سيما في ظروفهم الحاضرة، وأن يكونوا لهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [متفق عليه] , وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان وشبك بين أصابعه) [رواه البخاري ومسلم]. نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق للجميع، وأن يجنب جميع بلاد المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يول عليهم من يقيم فيهم دين الله، ويحكم فيهم شرعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقتطفات من مقال الخيط الناظم في كتاب الله

مقتطفات من مقال الخيط الناظم في كتاب الله إبراهيم بن عمر السكران 22 ذو القعدة 1432هـ الحمدلله وبعد،، هذه ليست ورقة بحثية، ولا مقالة منظمة، ولا حتى خاطرة أدبية، كلا، ليست شيئاً من ذلك كله، وإنما هي (همٌ نفسي شخصي) قررت أن أبوح به لأحبائي وإخواني، فهذه التي بين يديك هي أشبه بورقة "اعتراف" تطوى في سجلات الحزانى .. اقرأها ثم امحها من جهازك إن شئت .. هذا الإحباط النفسي الذي يجرفني ليس وليد هذه الأيام، وإنما استولى علي منذ سنوات، لكن نفوذه مازال يتعاظم في داخلي .. صحيح أنني أحياناً كثيرة أنسى في اكتظاظ مهام الحياة اليومية هذه القضية، لكن كلما خيّم الليل، وحانت ساعة الإخلاد إلى الفراش، ووضعت رأسي على الوسادة، وأخذت أسترجع شريط اليوم ينبعث لهيب الألم من جديد .. ويضطرم جمر الإحباط حياً جذعاً .. ثمة قضية كبرى وأولوية قصوى يجب أن أقوم بها ومع ذلك لازالت ساعات يومي تتصرم دون تنفيذ هذه المهمة .. لماذا تذهب السنون تلو السنون ولازلت أفشل في التنفيذ؟ لماذا تكون المهمة أمام عيني في غاية الوضوح ومع ذلك أفلس في القيام بها؟ ويزداد الألم حين أتأمل في كثير من الناس من حولي فلا أرى فيهم إلا بعداً عن هذا القضية، إلا من رحم الله .. مجالس اجتماعية احضرها تذهب كلها بعيداً عن "الأولوية القصوى" .. وأتصفح منتديات انترنتية وصفحات تواصل اجتماعي (فيسبوك وتويتر) تمتلئ بآلاف التعليقات يومياً .. وأكثرها منهمك في أمور بعيدة عن "الأولوية القصوى" إلا من رحم الله .. وأطالع كتباً فكرية تقذف بها دور النشر وتفرشها أمامك معارض الكتب وغالبها معصوب العينين عن "الأولوية القصوى". فإذا أعدت كل مساء استحضار واقعي اليومي، وواقع كثير من الناس من حولي؛ تنفست الحسرات وأخذت أتجرع مرارتها .. وأتساءل: لِم؟ لِم هذا كله؟ متى تنتهي هذه المأساة؟ دعني ألخص لك كل الحكاية .. في كل مرةٍ أتأمل فيها القرآن أشعر أنني لازلت بعيداً عن جوهر مراد الله .. مركز القرآن الذي تدور حوله قضاياه لازلت أشعر بالمسافة الكبيرة بيني وبينها .. يذكر الله في القرآن أموراً كثيرة .. يذكر تعالى ذاته المقدسة بأوصاف الجلال الإلهية، ويذكر الله في القرآن مشاهد القيامة من جنة ونار ومحشر ونحوها، ويذكر أخبار الأنبياء وأخبار الطغاة وأخبار الصالحين وأخبار الأمم سيما بنو اسرائيل وتصرفاتهم، ويذكر تشريعات عملية في العبادات والمعاملات، الخ وفي كل هذه القضايا ثمة خيط ناظم يربط كل هذه القضايا .. تتعدد الموضوعات في القرآن لكن هذا الخيط الناظم هو هو .. هذه القضية التي يدور حولها القرآن ويربط كل شيء بها هي "عمارة النفوس بالله". ومن أعجب مواضع القرآن في ربط النفوس بالله وعمارتها بربها، ولا أظن أن ثمة دلالة أكثر من ذلك على هذا الأمر: (صلاة الخوف حال الحرب)، هذه الشعيرة تسكب عندها عبرات المتدبرين وقد تكفل القرآن ذاته بشرح صفتها، وجاءت في السنة على سبعة أوجه معروفة تفاصيلها في كتب الفقه .. بالله عليك تخيل المسلم وقد لبس لأمة الحرب، وصار على خط المواجهة، والعدو يتربص، والنفوس مضطربة قلقة، والأزيز يمخر الأجواء، والدم تحت الأرجل .. ومع ذلك لم يقل الله دعوا الصلاة حتى تنتهوا، بل لم يقل دعوا "صلاة الجماعة"! وإنما شرح لهم كيف يصلوا جماعة في هذه اللحظات العصيبة (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء، 102]. .

هل تعرف في الدنيا كلها شاهد على حب وتعظيم الله جل وعلا للارتباط بالله واستمرار مناجاته أكثر من ذلك .. بل هل يوجد رجل فيه شئ من الورع وخوف الله يهمل صلاة الجماعة وهو في حال الأمن والرفاهية وعصر وسائل الراحة؛ وهو يرى ربه تعالى يطلب من المقاتلين صلاة الجماعة ويشرح لهم تفاصيل صفتها بدقة، وهم تحت احتمالات القصف والإغارة؟! هل تستيقظ نفوس افترشت سجاداتها في غرفها ومكاتبها تصلي "آحاداً" لتتأمل كيف يطلب الله صلاة "الجماعة" بين السيوف والسهام والدروع والخنادق .. ؟! أترى الله يأمر المقاتل الخائف المخاطر بصلاة الجماعة، ويشرح له صفتها في كتابه، ويعذر المضطجعين تحت الفضائيات، والمتربعين فوق مكاتب الشركات؟! هل تأتي شريعة الله الموافقة للعقول بمثل ذلك؟! ومن اللطيف أن الآية التي أعقبت الآية السابقة تكلمت عن حال إتمام الصلاة، حسناً .. نحن عرفنا الآن من الآية السابقة صفة الصلاة لحظة احتدام الصفين، فما هو التوجيه الذي سيقدمه القرآن بعد الانقضاء من الصلاة؟ يقول تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء، 103] ياسبحان ربي .. الآن انتهى المقاتل من صلاة الجماعة، فيرشده القرآن لاستمرار ذكر الله .. هل انتهى الأمر هاهنا؟ لا، لم ينته الأمر بعد، فقد واصلت الآية الحديث عن انتهاء حالة الخوف، وبدء حالة الاطمئنان، ويتصل الكلام مرةً أخرى لربط النفوس بالله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [النساء، 103]. . ربما لو جلست مجلساً وسألت من فيه ما هو تعريف "الصحبة الصالحة"؟ لربما طافت بك التعريفات في صفات دنيوية، وخصوصاً بعد غلبة المنظور الغربي لمفهوم (تطوير الذات) فصارت تسري في مفاصل هذه الكتب المعايير المادية في النظرة للحياة والنجاح .. لكن متدبر القرآن يجد في سورة الكهف تعريفاً مدهشاً للصحبة الصالحة، يقول الله -تبارك وتعالى- لنبيه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) [الكهف، 28] سألتك بالذي خلقك هل تجد اليوم في خطاباتنا الفكرية والنهضوية من يعرّف الشخصية المتميزة بهذا التعريف؟! انظر كيف تحدد سورة الكهف "خاصية" الشخص المتميز .. إنه الذي "يدعوا ربه بالغداة والعشي" .. واخجلاه من زمانٍ صرنا نستحي فيه من حقائق القرآن! ولما كلف الله موسى -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، طلب موسى من الله أن يجعل له وزيراً يعينه على مهمة الرسالة وهو أخوه هارون، لكن ما هو المقصود الأبعد من هذا التعاون والتعاضد بين الأخوين؟ شاهد كيف يشرح موسى وظيفة الاستعانة بأخيه هارون في سورة طه: (واجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) [طه، 29 - 34] أظنك لاحظت هذا الحضور العجيب لـ (ذكر الله) في بنية الرسالة، موسى يقول لربه اجعل معي هارون كي نسبحك ونذكرك كثيرا! من أجل التسبيح والذكر! هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا، بل إن الله تعالى يرسل موسى وهارون إلى فرعون ويوصيهما مرةً أخرى بلهج اللسان بذكر الله، فيقول الله في نفس السورة، سورة طه، بعد الموضع السابق بآيات معدودة: (ذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) [طه، 42]

موسى يريد توزير أخيه ليتعاونا على تسبيح الله وذكره، وربهما يرسلهما ويقول لا تنيا أي لا تفترا ولا تضعفا ولا تكسلا عن ذكري .. لاحظ المهمة الجسيمة التي سيتحملانها وهي مواجهة أعتى نظام مستبد في التاريخ بما يستفز كبرياءه، ومع ذلك يقول الله لهما "ولا تنيا في ذكري" .. لو قدّم اليوم بعض الدعاة نصيحة للثوار على الحكومات العربية الفاسدة بأن يكثروا من (ذكر الله) لعدّ كثير من المستغربين ذلك دروشة وسذاجة! برغم أن موسى يجعل ذكر الله مظلةّ لمهمته الكبرى، والله جل جلاله يؤكد عليهما بأن لا يفترا عن الذكر .. فما أكثر الشواهد المعاصرة على غُربة مفاهيم القرآن، وبعد كثير من شباب المسلمين عنها إلا من وفق الله. .. وقد انعكست هذه الهدايات القرآنية على تعاليم سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- فنبهت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على انكباب القلوب على الله جل وعلا، وأظن من أكثرها لفتاً للانتباه الحديث الشهير الذي رواه البخاري ومسلم عن السبعة اللذين يفوزون بظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم (ورجل قلبه معلق في المساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه) [البخاري660، مسلم1031]. شاهد كيف يربي النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفوس أصحابه التعلق بالمسجد، وقارنه ببعض المنتسبين للدعوة الذي صاروا يعلقون الناس بما هو خارج المسجد! قارن الخطاب النبوي بمنتسبين للدعوة صاروا من الزاهدين في سكينة المساجد، المولعين بصخب الدنيا .. وهذا المعنى الذي تواردت عليه معاني القرآن -كما رأينا نماذجه سابقاً- هو خاصة التوحيد الذي دارت عليه عبارات متألهي السلف وربانييهم، وما أحسن قول أبي العباس ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن الخليلين -محمد وإبراهيم- هما أكمل خاصة الخاصة توحيداً .. ، وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية، وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلاً) [ابن تيمية، منهاج السنة، 5/ 355]. يا الله .. ما أجمل هذا المعنى .. اللهم لا تجعل في قلبي وقلوب إخواني شيء لغيرك أصلاً .. لقد جبلت النفوس البشرية على التعلق بالدنيا، والغفلة عن الآخرة، لذلك جاءت آيات القرآن فجعلت الأصل في الخطاب الدعوي ربط الناس بالآخرة، والتبع هو التأكيد على أهمية إعداد القوة، هذه نزعة ظاهرة في القرآن والسنة ووصايا السلف .. ولكن للأسف جاءتنا خطابات دعوية مادية أرهقتها مواجهة التغريب فانكسرت وتشربت ثقافة الخصم ذاته، وصارت منهمكة في تذكير الناس بالدنيا، وجعلت التبع هو الآخرة .. خطابات لم تعد تستحي أن تقول مشكلة المسلمين في نقص دنياهم لا نقص دينهم! ولكن لا يزال -ولله الحمد- من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا. إن الدعاة إلى الله الذي يحاولون دوماً توظيف الأحداث للتذكير بالله هؤلاء أعلم الناس بحقائق كتاب الله، وإن أولئك المفتونين الذين يسخرون من ربط الأحداث بالله، ويسمون ذلك (المبالغة في تديين الحياة العامة) تشويهاً لهذا الدور النبيل؛ هؤلاء هم أجهل الناس بدين الله الذي وضحه في كتابه ببيان هو في غاية البيان .. وإذا تشبع قلب متدبر القرآن بهذه الحقيقة الكبرى الناظمة للآلئ القرآن أثمرت له في نفسه عجائب الإيمان .. وأصبح لا يساكن قلبه غير الله جل جلاله .. وبرأ قلبه من الحول والقوة إلا بالله سبحانه .. وصار ينزل حاجاته بالله .. واصبح يشعر برياح القوة والإمداد الإلهي كما نقل الإمام ابن تيمية (ولهذا قال بعض السلف "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله") [الفتاوى، 10/ 33].

فلا يلتفت القلب للأسباب في طلب الرزق، أو البحث عن مسكن، أو البحث عن وظيفة، أو طلب العلم، أو طلب الإيمان، أو طلب الصحة والعافية، أو طلب الإفراج من اعتقال، أو طلب نجاح ثورة .. بل يصعد القلب إلى الله، ويجتهد في عمل القلب، ويقتصد في الأسباب بالقدر الشرعي .. لم أعد أشك أن أقوى الثورات هي ثورة توكل مناضلوها على الله .. وأضعف الثورات هي ثورة تعلقت قلوب مناضليها بالبيت الأبيض .. حتى لو كانت الحسابات المادية تعطي خلاف ذلك، فأهل الإيمان لهم معايير صادقة زكاها القرآن .. والله يقول في ثلاث مواضع من كتابه في الأعراف والقصص وهود: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). وهل يشك من قارن بين مطالب القرآن، والكتب الفكرية المعاصرة التي تتحدث عن النهضة والتقدم؛ أننا لا زلنا بعيدين عن النهضة والحضارة بحجم بعد هذه الكتب الفكرية النهضوية عن أهداف وغايات ومطالب القرآن .. بالله عليك هل رأيت كتاباً فكرياً نهضوياً ينطلق في نظريته للنهضة من (آيات التمكين والاستخلاف)؟ على أية حال .. لقد بيّن الله لنا مراده في القرآن غاية البيان، وأوضح لنا مطالبه الكبرى في كتابه بصنوف البينات، والعُمْر يركض على شفير القبر، فما أقرب الساعة التي سيسألنا الله جميعاً عن تحقيق مراده، وسيكون السؤال حينها على (أساس القرآن) يقول الله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ) [المؤمنون، 66] ويقول سبحانه (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون، 105] ويقول أيضاً (أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ) [الجاثية، 31] فتأمل كيف ستنظم الحياة المستقبلية على أساس القرآن .. ولينظر كلٌ منا ما هو أساس حياته؟! والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

عضوية المرأة للشورى .. تأصيل وتنزيل!

عضوية المرأة للشورى .. تأصيل وتنزيل! عبدالعزيز الطريفي 2 ذو القعدة 1432هـ بسم الله الرحمن الرحيم جرِّد الحجة من قائلها، ومن كثرة القائلين وقلّتهم بها، ومن ضغط الواقع وهوى النفس، واخلُ بها والله ثالثكما، تعرف الحق من الباطل. لن يُنصَف الحقُّ إلا إذا كان القلب خالياً عند الكتابة من كل أحدٍ إلا من خالقه سبحانه، وكم من الأشخاص يجتمعون في ذهن الكاتب والقائل عند تقييده للحق فيُصارعونه ليَفكوا قيده، فيضيع الحق، ويضيع معه العدل والإنصاف. يَظنُّ كثيرٌ من الناس أن الفتنة هي الإثارة والهرج، ويُغفلون عن أن أخطر أنواع الفتنة قلب الحقائق والمفاهيم والسكوت عن ذلك قال تعالى: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور} ومن يجيء بالحق ويُظهر أمر الله فهو دارىء للفتنة، ومطالبته بالسكوت درءاً للفتنة هو الفتنة. تناقلت وسائل الإعلام كلاماً منسوباً لعدد من العلماء بجواز عمل المرأة في مجلس الشورى ومجالس البلديات، يحكون الجواز بإطلاق، ويُقيدون ذلك بـ (الضوابط الشرعية) دون أن يذكروا واحداً منها، ومَن الضابطُ لها، وما وجوه الضبْط في زمنٍ كثُرت فيه آراء الشذوذ، والإعلام يحكي إذا اشتهى الشذوذ إجماعاً، وإذا كره الإجماع حكاه شذوذاً، وهذا من الفتنة التي حُذرنا منها. يُروى في المسند من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم: ((إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ، كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ)). وكلما ارتفع الشيء زاد الراؤون له وكُلما دنا قلّوا، ولذا شبّه النبي العالِم بالنجم في السماء لأن أثره ينبسط على عموم الأرض ويهتدي به كلُّ من يراه، وإن من أخطر الأحوال أن تتحوّل هداية العالم من هداية أمة إلى هداية فردٍ أو أفراد في الأرض، ويتيه عامة أهل الأرض به. والعالم الصادق إن حُجبت عنه العقول كما تَحْجب السحبُ النجمَ عن الأعين بقيَ مكانه، فلا يبحث عن الأعين ليظهر لها حيث تتجه، وإلا فهو فاقدٌ لهويته من نجم إلى شهاب يُضيء لحظة ليُمتِع الرائي له ثم ينتهي. إن صناعة رأيٍ سائدٍ وتسفيه غيره سنّة قديمة يملكها من أخذ بأزمة المؤثرات على العقول، وهي مجتمعة اليوم في الإعلام، حتى إن القاريء يظن أن الأمة مجتمعة بين ألواح الصحف، بينما هم جُمِعوا كما تُجمع أحصنة الشطرنج بيدٍ واحدة على لوحٍ واحدٍ، حتى لا يكاد يجد الإنسان محلاً لحرف يضعه في خلاف ما يرون ولا يملك إلا كتابة رأيه منفرداً ويرمي به كالغريب فإن كتب قيل له: (عَبْر الطرق المأذون بها)، والطرق المأذون بها مغلقه، وقد قال فرعون للسحرة لما آمنوا بموسى: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} وأين من يقبل إذنهم لو استأذنوا للإيمان، وإن آمنوا بلا استئذان عُوقبوا على عدم الاستئذان! وأما الحديث عن عمل المرأة في الشورى فينبغي تأمل هذه المقدمة قبل الحديث فيه وهي: أن الحكم على شيءٍ ما يَنبغي أن لا ينحصر على ذاته متجرداً من لوازمه، وأشباهه، والقرائن المحتفة به، فإذا انحصر على ذاته، فهذا مضاد لأصل العقل الصحيح، فإن الأشياء عقلاً تتشابه في نفسها وتختلف حُكماً للوازم وقرائن ونظائر تجعل العقل يحترز في موضعٍ ويُحجم في آخر، وكلاهما يُشبه الآخر لقرائن اقتضت ذلك، والمسير على خطٍ واحد في المتشابهات من خصال البهائم التي لا تحكم إلا على ما في حدقة العين وما خرج عنها فلا يعنيها بشيء، فتهرب الطيور من الإنسان ومن تمثاله فالصورة واحدة، وهذه النظرة ليست نظرة عقل صحيح فضلاً عن فقيه بصير.

وحينما يُستفتى عالمٌ في حكم حد سكينٍ لذبح أُضحية هل تُجزيء في قطع الوريد والودجين وهو يعلم أن السائل يسأل عن حد السكين ولكنه يقتل بعقبها، فإجابتة بالجواز ليس من مواضع الأمانة لو كانت في مال الإنسان فكيف في دينه. ونحن اليوم في زمن متناقض، فالنظر إلى استشارة المرأة بضوابطها الشرعية متجرداً عن أي قرينة تحتف بذلك قصورٌ، فما يحتاج إلى ضبط وحدٍّ أشياء منها: الاختلاط، وولاية المرأة وبرزوها في المحافل الداخلية والخارجية، وسترها وحجابها، وغير ذلك، فهل الجهات الرقابية والضابطة في الحياة اليوم تُشَدِّد في ذلك أم تتراخى؟! حتى نجعل ضوابط شورى المرأة وبلدياتها قابلة للتنفيذ، أم هي كلّ يومٍ تفكُّ قيداً من قيودها، واستمرار العالِم يمد فتواه بضوابطها، وهو يرى تلك الضوابط بعينها يزداد جزرها انكماشاً في الحياة من القصور في السياسة الشرعية وفقه المقاصد، فالجهات الرقابية التي تُطبِّق الضوابط الشرعية لعضوات مجلس الشورى هي من يُطبق ضوابط ابتعاث ثلاثين ألف امرأة في جو مختلط بل وتشجع على سفورهن، وكذلك في المستشفيات واختلاط بعض الشركات فما هو الورع الذي يحمل على ضوابط بضعة نساء في الشورى ويُهدر آلاف منهن، والله يقول: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} والاعتبار رد الشيء إلى نظيره ثم يصدر العالم بحُكم على ما بين عينيه فيضبط الشاهد على الغائب، والله أمر بإحكام الحُكم الحاضر على الغائب المعلوم كثيراً في القرآن بقوله {أفلم ينظروا} {أولم يروا} وغير ذلك كثير، إشارة إلى ضعف حكم من صدر برأيٍ على مُشَاهَد دون نظائره. هذا كله مع التسليم بإقرار الجهات المنفّذة بتلك الضوابط السابقة، والمُشكل أيضاً أن تلك الضوابط المذكورة لم يُشَر إلى شيء منها. إن وجود نصٍ عند عالمٍ في مسألةٍ لا يسوغ أن يرمي النصَ على كل طالبٍ له، بل ينبغي على العالم سبر الحال ومعرفة الأشباه والقرائن، وإلا ففتواه تفريط، وقد سأل رجل أحمد بن حنبل قال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي؟ قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر بن الخطاب أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته، قال: حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه. وهذا أمر متقرر في كلام العلماء في ضوابط الفتوى وأهلية المفتي. وإن حال المجتمع وأحوال المرأة في المجتمع لا تحتاج إلى نظر طويل حتى تُنزل النصوص عليها فعُرى الضوابط المعقودة تُنقض، وما لم يُعقد لا يُفكر بضبطه. والفتوى لا يجوز أن تنطلق من النص فقط دون النظر إلى محل تنزيلها، والحال عند التنزيل وبعده، وإلا لم يكن ثمة حاجة إلى وجود عالمٍ يسبر وينظر ويحرر. وأما بشأن التفصيل في عمل المرأة في مجلس الشورى فعلى ما يلي: أولاً: أصل استشارة المرأة في ذاته ليس من المباحث في التحليل والتحريم لكونه يقع في الزمن الأول بداهة ولو لم يُنقل، ولكن الحاجة في الكلام على صفته وموضوعه ووقته ونوعه ومكان أخذه، وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وغيرهم، في قضايا مخصوصة وفي أحوال معينة ومن نساء قريبات معروفات فالنبي استشار زوجته أم سلمة وعمر استشار بنته حفصة. ثانياً: لم يَنْصب النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء ولا أمراء الإسلام في القرون المفضلة امرأة للشورى في قضايا الأمة مع كثرة الحوادث ومرور القرون والحروب والفتن، مع أن أول مجلس للشورى كان في خلافة عمر كما روى البخاري قال ابن عباس: كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً أو شباناً.

ثالثاً: استشارة المرأة فيما يتعلق بشأنها كما استشار عمر حفصة جائز، من غير تَنْصيب في قضايا العامة ولا الرجال، وأن تكون الاستشارة من الحاكم أو نائبه، بالسبل التي تُجيز الشريعة التواصل بها، وأما نصبها يتلقى منها الناس الرأي وتَسْتضيف وتُستضاف للرأي العام فهذا لا يجوز في قول فقيه، وهذا يُنزّل على عضويتها في مجالس الشورى والبلديات. وأما استشارتها في أمور العامة العارضة للاستئناس من غير تَنْصيب لتلك القضايا على الوجه والصفة المشروعة كالزوج من زوجته والأب من ابنته، والبعيد من البعيدة بضوابطه وصوره المحدودة، فهذا جائز، لأن النبي إنما شكى لزوجته أم سلمة عدم أخذ الناس بقوله فأشارت عليه لا بإنشاء رأيٍ وإنما كيف يستجيب الناس لرأيه السابق الذي أخذه وقضى الأمر فيه، ولم تكن بارزة للناس ففي البخاري: قال عمر: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك، أخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك)). رابعاً: إن نصب امرأة للشورى لقضايا العامة وفي جميع الشئون يلزم من ذلك محظورات شرعية من أظهرها: 1 - أن في هذا نوع ولاية عامة بهذا العموم، خاصة في نظام يأخذ بالتصويت الغالب وتُحسم الأمور به مهما كان نوع القائلين به، وقد قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء} وهذا في قوامة الرجل على زوجته فكيف بالقوامة العامة، والله لم يجعل للمرأة ولاية على زوجها لحِكمة يُدركها المتأمل لخصائص الجنسين، ومن أظهر الحكم رقة الطبع والضعف الفطري في الشدائد، قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}، أي يضعُف فطرة عن المحاججة في النزاع هيبة وخجلاً، وهذا أمر يُعرف فطرة ولو كابرت فيه بعض النفوس فيُنكرونه عناداً باللسان ويُثبتونه عملاً فالنظام الغربي بجميع تشريعاته ومع أن النساء في الدول أكثر من الرجال عدداً ويُطلقون مساواة الجنسين من جميع الوجوه إلا أن نصيب النساء من الولايات واقعاً لا يُساوي 5%، يجرون على الفطرة ولو أنكروها {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً}. والضعف لا تختص المرأة به، فلو وُجد في رجلٍ كذلك لما جاز توليته، فروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً, وإني أحب لك ما أحب لنفسي, لا تتأمرن على اثنين, ولا تتولين مال يتيم)). فلا يُناسب تولي رقيق الطبع شأن العامة فيضعف رأيه تبعاً لرقته وضعفه خاصة في الاستشارة والرأي في فتنة حرب وأزمة اقتصاد فيضعف أو يبكي فتضعف هيبة الدولة أو يصدر قرار بعاطفة لا بعقل. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يُفلح قوم ولو أمرهم امرأة)) وقد نص على الإجماع على هذا الحديث ابن حزم والجويني وابن تيمية وغيرهم، وقد فهم أبو بكرة وهو صحابي جليل أن معنى الحديث على جميع الولايات ولو قيادة صُلح بين فئتين.

2 - أن الاستشارة العامة يلزم معها المخالطة بلا ريب، وذلك أن الاستشارة لا بد أن تصدر عن سبر للموضوع المستشار به، ويلزم من ذلك من سفر داخلي وخارجي ولقاءات خاصة وعامة قدراً لا يُحصى، وإذا كانت المسئولة عن تعليم النساء في البلاد وهي على نساءٍ، ينشر الإعلام لها أسفاراً داخلية وخارجية مع رجال، هذا وهي على شأن نسائي خاص، فلم يتم ضبطه شرعاً، فكيف يُضبط ما هو أعم منه، واختلاط المرأة بالرجال في العمل والتعليم محرم باتفاق المذاهب. وإنما جعلت شهادة الرجل بشهادة إمرأتين لأنها لا تختلط بميادين الرجال فما لم تُخالطه تنساه لو رأته مرة، بخلاف حال الرجل. خامساً: أما الاحتجاج باستشارة النبي لأم سلمة على تنصيبها للشورى فقياسٌ مع الفارق، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما استشار زوجته في استجابة الناس له لا في أصل رأيه ثم إنها في خدرها وأعطته رأيها لنفسه، ولم ينصبها لعموم المسلمين، ففي البخاري قال عمر: ((دخل النبي على أم سلمة)) أي وهي في خيمتها وخيمته، ولو صح التعميم لكان كل فعل يفعله النبي مع أزواجه جاز أن يفعله الرجال مع النساء، ولجاز أن يُصنع مضمار سباق للرجال والنساء لأن النبي سابق عائشة، وقد كان النبي في حَضَرٍ ونساؤه في حَضَره أكثر، وهو في حال إقامته أكثر من حال سفره، ولم يُعرف عنه أنه نصب امرأة للشورى والله قد أنزل عليه: {وشاورهم في الأمر} يعني أصحاب الأمر العام فوقع منه ذلك على الرجال، وأما قضايا الأعيان العارضة من أزواجه وشبههم فهذا يقع ولا بأس، والآية نزلت وأقرب الناس إليه أزواجه وكل يومٍ عند واحدة منهن. ثم إن أم سلمة وأمهات المؤمنين على شيء من الحجاب وتشديد الله عليهن حتى إنه يحرم عليهن بروز أشخاصهن بلا حاجةٍ، أكثر من غيرهن، وأَخْذُ حالٍ وَقَعَتْ من النبي مع زوجة له، ثم قطع الواقعة عن سياقها وصفة المستشار والمستشير وإنزالها على كل صورة، ومع كل أحدٍ، ليس من موارد الاستنباط الصحيح، وهو كقطع عرجون نخلٍ وغرسه في الأرض ليُنبت نخلاً لأنه مقطوعٌ من نخل، وكيف يُنبت وقد نُزع من سياقه، وغُرس في غير أصله. وأما استشارة عمر لحفصه فهي ابنته فقال: ((كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس الجيش أكثر من هذا)). وأما ما جاء عن عمر أنه يستشير النساء بإطلاق، فرواه البيهقي بإسناد لا يصح، فمحمد بن سيرين لم يُدرك عمربن الخطاب. سادساً: من قرأ ما نُشر في وسائل الإعلام من مقالات وفتاوى وجد أن تعليل تنصيب المرأة في الشورى والبلديات (إنصافاً للمرأة) (ومنعاً لتهميشها) والمعروف عقلاً وشرعاً أن الاستشارة تُبنى لمصلحة المستشير والعامة وليس لمصلحة المستشار ولا يجوز أن تُبنى مصلحة الشورى لدفع تهميش المستشار، فالاستشارة العامة ليست لجلب مصلحة فرد أو جنس، وهذا يكون في الحقوق الخاصة وليس في الأمور العامة، وهذا يدل على أن النّفَسَ في تنصيب عضوة شورى نُظر إليه من جهة غرس مباديء فكرية ورمزية مجردة. سابعاً: أن السياسة العقلية في الاستجابة لضغوظٍ خارجية تجزم أن من الخطأ أن تستجيب لضغطٍ أو إكراهٍ ممن ترى أن قائمة ضغوطه لا تنتهي إلا بانتهاء شرعتك، فالغرب لن يوقف ناقوس إزعاجه للتنازلات، وإنما هو يبدأ مع كل دولة بحسب سقفها الحالي، فالضغوط التي تُمارس على مصر والشام في السياسة والأخلاق هي على ذات المقدار على هذه البلاد ولكن تختلف حُدود السقف بينها.

فالعقيدة والشريعة المنزّلة ليس ملْكاً لنا، فالضغط الذي نراه اليوم قد يزول في ساعة، وأما الشريعة التي نرميها فلن تعود في قرن أو قرنين فدفع الشيء أولى من رفعه، والدول التي استجابت لضغوطِ تعري المرأة وحريتها في اللباس تعرت في عام أو عامين ولو أرادت العودة فلن تستتر كما كانت عليه في مائة عام. يجب على كل مسئولٍ أن يستشعر أن قضايا الفكر والتشريعات والنُظم تختلف عن الممارسات الفردية في قدر الاستجابة للضغوط، فالمسئول مؤتمن على الفكر والتشريع أمام كل جيل يأتي بعده، أن يُسلِّمه له تاماً فالله يقول: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} فشهادته صلى الله عليه وسلم على كل الأجيال في ضبط تشريعهم، وأما الأفعال والانقياد فكل نفس بما كسبت رهينة، لأن أفعالهم وقتية وعينية. يجب على كل مسئولٍ تحمّل ضغط البداية، فهو هو نفس ضغط النهاية، ودفع الحجر الأول من رأس هرم الشريعة = هو نفس دفع آخر حجر من أوسطه وآخره بذات القوة؛ فحافظ على الحجر الأول وأنت عزيز، قبل أن يزول آخر حجر وأنت ذليل، فلو استحللنا الزنا فسيكون الضغط على اللواط بنفس المقدار الذي نراه اليوم على الاختلاط والخلوة والحجاب، فهم يعلمون أن بحث الزنا وحليّته لا يستقيم في بلد يمنع الاختلاط، فيبدئون من أعلا الهرم، وهكذا تقول سياسة الهدم، وسيخلو موضع أول حجر فينتقل نظرهم إلى ما تحته .. وهكذا، فإن كنت على قناعة بزوال ما تحته مهما تسلسل فاستجب للإزالة الأولى، وإلا فلا تظلم جيلًا يأتي بعدك عبَّدت الطريق إليه بإزالة حجر سابق لينهزم فيُزيل اللاحق وهكذا كُلُّ جيل. والشريعة واحدة والأجيال متعددة كلٌ يُسْقط حجراً منها بحجة أنه تنازل عن شيء ليحفظ أشياء، حتى تزول الشريعة الواحدة بأيدي أجيال متعددة، ولكن العالم كالنجم يرعى الشريعة اليوم لزمنه وأزمنة غيره، وأما المصالح الفردية والزمنية فلا يراها مُسوغاً لنقض دستور أمة، وأما قضايا الأفراد والتماس الرخص لهم والتيسير عليهم في أفعالهم فهو أرحم الخلق بهم. ونقض النظم الثابتة المُحكمة العامة يلزم معه التسلسل، وتاريخ الغرب في داخله شاهدٌ أنه بدأ بشيء وانتهى بشيء مع تسلسل الأجيال. والله قد بين أنهم في حال قدرتهم لن تنتهي مطالبهم إلا بالانسلاخ التام من الإسلام: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}. إن الغرب حينما يطلب منا انصاف المرأة، لديه مفهوم غير ما يُصوَّر لنا، وكثيراً ما تُثير منظمات وسياسات (وهي تُبيح زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة) على مسئولينا حقوق المرأة فيخجلون، وليتهم قالوا: ميِّزوا الأنثى من الذكر لنا حتى نُنصفها منه. {واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. قيّض الله لهذه البلاد عيناً حارسة في الدين والدنيا وألّف بين الحاكم والمحكوم على الخير والهدى، وإنْ أُريدُ إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.

الأسد، هل يوشك على السقوط؟

الأسد، هل يوشك على السقوط؟ خالد مصطفى 2/ 11/1432 هـ جاء إعلان الجيش السوري الحر المنشق عن نظام بشار الأسد, عن إطلاق حملة عسكرية لتخليص البلاد من حكم الأسد وحزبه؛ ليشير إلى دخول الثورة السورية إلى مرحلة جديدة لاتكتفي فقط بالمظاهرات السلمية التي تعم المدن مطالبة بإسقاط النظام وإنما ترسي قواعد أخرى لحماية المتظاهرين العزّل الذين اكتفى العالم بمشاهدتهم وهم يتساقطون قتلى وجرحى بنيران جيش بشار الأسد العلوي. . ولا يعني إطلاق الجيش السوري الحر لدعوته أن الثورة السورية ستتخلى تماما عن سلميتها وإنما ستمزج بين هذا وذاك وهو ما يتناسب تماما مع الحصار الإعلامي المفروض على المشهد السوري جراء قمع السلطات السورية ومنعها لأجهزة الإعلام العربية والأجنبية وعدم وضوح الرؤية بشأن الكثير من الممارسات الوحشية التي يقوم بها جيش بشار ضد الشعب السوري المطالب بحريته .. لا توجد قواعد ثابتة تتحرك من خلالها الثورات على الأنظمة المستبدة التي تنتقل من مرحلة القتل السري الصامت إلى مرحلة القتل العلني الفاجر ضاربة عرض الحائط بجميع القوانين والأعراف الدولية والحقوقية .. والسلمية التي يتمسك بها البعض في مواجهة هذه الأنظمة يمكن أن تسير جنبا بجنب مع المواجهة العسكرية خصوصا إذا كان النظام لا يأنف عن ارتكاب المجازر دون رادع, وفي حالة النظام السوري فإن القتل ينطلق من عقيدة علوية وبعثية وليس مجرد حفاظ على نظام من الانهيار لمصالح ما , وهو ما يظهر خلال اللقطات التي تبثها مواقع الثوار عن جرائم تعذيب النظام للمعتقلين والمعارضين والتلذذ الذي يبدو على وجوه رجال الأمن وهم يمارسون هذه الأفعال الانشقاقات المتوالية في الجيش والعمليات التي يقوم بها رجال الجيش السوري الحر لها عدة فوائد من أهمها رفع الروح المعنوية للمتظاهرين وردع رجال بشار وإشغالهم عن الجرائم التي يرتكبونها ضد المدنيين, كما أنها رسالة للخارج تؤكد عدم استقرار النظام وعدم سيطرته التامة على الجيش وهو ما كان يعتمد عليه النظام في بداية الثورة لإقناع الخارج بأن الأوضاع تحت السيطرة وأن المعارضين فئة قليلة سيسهل القضاء عليها مع مرور الوقت .. أما أن استخدام السلاح ضد النظام سيعطيه الحجة في استخدام المزيد من العنف فيرد عليه أن النظام لا يحتاج إلى مبرر أو حجة لاستخدام المزيد من العنف فهو يفبرك الأحداث ويستغل الشبيحة والعملاء لإظهار المتظاهرين على أنهم مجموعة من الخارجين عن القانون, كما أنه وفي غياب الإعلام المحايد لا يجد صعوبة في وضع الأسلحة في أيدي المدنيين بعد قتلهم وتصويرهم على أنهم من "المجموعات المسلحة التي تقاتل النظام الشريف" .. العزلة الدولية تزداد على نظام بشار يوما بعد يوم واستمرار المظاهرات طوال هذه الشهور أربك حسابات النظام كما أربك حسابات المقربين منه مثل إيران والتي بدأت تشعر بحرج موقفها وأرسلت بعض الرسائل التي تدين ممارسات نظام الأسد بل تعدى ذلك لفتح خطوط اتصال مع المعارضة خوفا من أن تخسر "الجلد والسقط" إذا انهار نظام بشار .. الغرب ما زال ينتظر المزيد من نجاح الثوار لكي يتخذ خطوات أكثر تأثيرا وهي عادته مع جميع الثورات العربية فهو يركبها دائما ولا يدعمها ولا يهمه حقوق مواطن عربي بقدر ما يهمه الحفاظ على مصالحه بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم بل الأنظمة المستبدة قد تكون الأقرب إليه لأنها تنفذ له ما يريد رغم إرادة شعوبها ولكنه لا يستطيع في كل الأحوال الرهان على الجواد الخاسر وعندما تستمع إلى كلمة "ارحل" لأحد الحكام من الغرب تعلم أن هذا الجواد أصبح خاسرا وعليه أن يغادر الحلبة .. يوشك نظام بشار على الانهيار أكثر من أي وقت مضى واستمرار الانشقاقات في الجيش وتزايد أعداد المتظاهرين وتراجع لهجة الدول الموالية للنظام السوري وسعيها لإيجاد حلول مع المعارضة واعترافها بقوة الأزمة وضرورة طرح مقترحات للخروج منها كل هذا يشير إلى صحة هذا التوقع, ولعل ما قيل عن انقلاب كان يخطط له نائب رئيس الأركان قبل أن يتم تصفيته والإعلان عن وفاته لاحقا بأزمة قلبية ليأتي في سياق قرب انهيار الدائرة المغلقة على بشار ووصول اليأس لها وشعورها بقرب النهاية, وهو ما ينبغي أن يركز عليه الجيش السوري الحر في تخطيطه المستقبلي؛ فالوصول إلى هذه الدائرة واختراقها سيساعد كثيرا في سرعة انهيار النظام.

الانتفاضات التي حيرت الغرب

الانتفاضات التي حيرت الغرب جعفر شيخ إدريس 26 رمضان 1432هـ تُرى كيف ستكون سياسة الغرب مع العالم العربي بعد هذه الانتفاضات التي عمَّت كثيراً من بلاده، والتي أيَّد أهدافَها آخرون لم تحدث انتفاضات مثلها في بلادهم؟ إن الهدف الأعلى للغرب واضح، وهو: تحقيق كل ما يدخل تحت مسمى المصالح القومية: من اقتصاد، وسياسة، وإستراتيجيات، وأمن، وقوى مادية وناعمة للغرب ولا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا الهدف لن يتغير وستسعى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة كما سعت من قبل لتحقيق ما تستطيع منه بحسب الوسائل المتاحة في كل مرحلة تاريخية، كانت الوسيلة المفضَّلة هي التعامل مع حكام أفراد مستبدين يمكن إغراؤهم وكسبهم بكل أنواع الإغراءات، هذا النوع من الحكام كان مفضَّلاً لأن التعامل معه سهل لا تعقيد فيه، ولأنه يمكن أن تُبرَم معه كل أنواع الاتفاقات السرية التي يعلم الغرب ويعلم الحكام أن الشعوب سترفضها لو أنها اطلعت عليها، إنَّ كل هذا يتنافى مع الديمقراطية التي يفضلها الغرب لحكم نفسه، ولكن من قال: إن في الديمقراطية مبدأً خُلُقياً يُلزِم البلد الديمقراطي بأن يحب لغيره ما أحب لنفسه؟ إن الديمقراطية هي حكم الشعب، أو هي في الواقع حكم أكثرية نوابه في المجالس التشريعية، أو هي حكم المسؤولين الذين أعطاهم الدستور سلطات يقضون فيها بما يرونه في مصلحة شعوبهم، لكنَّ النواب والمسؤولين- وربما كثير من أفراد الشعب - قد يقولون: نعم، إن الديمقراطية هي النظام المفضَّل لنا في بلادنا، ولكنها ليست هي التي تحقق مصالحنا إذا ما تبنَّاها غيرنا ولا سيما في العالم العربي، هكذا كان يقول بعض قادة الفكر السياسي الغربي في تسويغ ما يعدُّه العرب كيلاً بمكيالين. لكن مشكلة الغرب أن هذه الحجة لم تعد - حتى بين الغربيين -حجة مقبولة يمكن التصريح بها والدفاع عنها، بل إن مساندة الحكام الدكتاتوريين صارت أمراً محرجاً للساسة الغربيين حتى في داخل بلادهم؛ ولذلك أرادوا أن يخرجوا من هذا الحرج باللجوء إلى وسائل، منها: كثرة الحديث عن الديمقراطية، والقول بأنها ليست مسألة خاصة بالثقافة الغربية؛ وإنما هي حاجة إنسانية صالحة لكل أمة في كل مكان، ومنها إقناع أبواقهم بأن يقوموا بإصلاحات تأخذ شكل الديمقراطية الغربية: انتخابات، مجالس تشريعية، أحزاب، صحف، وغير ذلك، لكن سرعان ما تبيَّن للناس في داخل البلاد التي يحكمها المتعاونون مع الغرب، وفي الغرب نفسه أن كل هذه أشكال زائفة للديمقراطية المعروفة في الغرب. ثم تبيَّن للغرب كما تبيَّن للمواطنين في البلاد العربية أن النُّظم التي كانت تحكمهم ليست ديمقراطيات زائفة فحسب؛ وإنما هي نظم فاسدة أيضاً، والناس قد يصبرون على الحاكم المستبد أكثر من صبرهم على الحاكم الذي يرونه ينهب أموالهم ويظلمهم، وأكثرَ من صبرهم على الحاكم الكذاب الذي يخون الأمانة ويعقد اتفاقات سرية مع الأعداء. إن معرفة الغرب بهذه الحقائق هي التي جعلته يسارع إلى تأييد ثورات الشباب واعتبار أهدافها من الأمور التي كان يدعو إليها، بل التي يعدُّها جزءاً من حضارته وثقافته ونُظُمه السياسية، كيف يعترض الغرب على ثورات تطالب بالحرية والديمقراطية والشفافية والمساءلة وتكوين الأحزاب وغير ذلك؟

لكن الغرب رغم هذا التأييد الظاهر الذي كان لا بد منه يظل حائراً إزاء هذه الأوضاع الجديدة في العالم العربي: ما السياسات الجديدة التي ستؤدي إليها الحريات التي طالب بها المتظاهرون إذا صارت أمراً واقعاً؟ كيف يمكننا أن نتعاون مع برلمانات مكونة من أحزاب شتى لكل منها تأثير مهما كان ضئيلاً على سياسة البلاد؟ كيف سنتعامل مع حكومات قد لا تستطيع أن تجعل اتفاقاتنا معها باقية في حيز الكتمان في ظل المطالبة بالشفافية؟ ثم السؤال الأكبر: كيف سنتصرف وكيف ستتصرف إسرائيل مع أوضاع سيكون للتيارات الإسلامية فيها قوة وتأثير لا ريب فيه؟ لقد أظهرت هذه التظاهرات أن التيارات الإسلامية تزحف على كثير من الأراضي التي كانت تحتلها التيارات العَلمانية، إننا في الغرب لا نتصور أن تنطلق تظاهرات سياسية في القرن العشرين من أماكن للعبادة، لا نتصور - مثلاً - أن تنطلق تظاهرات سياسية من الكنائس بعد أداء القداس يوم الأحد، لكن هذا هو الذي حدث في العالم العربي في كل التظاهرات، لقد انطلقت كلها من المساجد وعقب صلاة الجمعة، بل إن أعداداً هائلة من المتظاهرين كانت تؤدي صلاة الجماعة في الميادين التي يطالبون فيها بالتغيير السياسي، والسلفيون الذين كانوا بعيدين عن السياسية قرروا الآن الدخول في حلبتها بشكل أو آخر، وهو أمر مقلق؛ لأنه سيزيد من قوة ما نسميه بالإسلام السياسي. ماذا يفعل الغرب؟ هل يؤيد ما تطالب به ثورات الشباب من انتقال إلى نُظُم سياسية ديمقراطية؟ لكن هذا يثير مشكلات: أوَّلها: أن الديمقراطية - كما يفهمها الغرب - مرتبطة ارتباطاً لا فكاك له بالعلمانية، إن الديمقراطية نظام يعطي السلطة التشريعية العليا للبشر؛ سواء كانوا أكثرية المواطنين أو أكثرية ممثليهم، لكن هذا في ما يبدو ليس هو الذي سيحدث في العالم العربي، كيف تكون السلطة العليا للبشر في بلد كمصر ينص دستورها على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؟ إنه نص أقل ما يعنيه أن كل قانون مخالف لدين الإسلام سيكون قانوناً غير دستوري. ثانيتها: أنه حتى لو افترضنا أن الديمقراطية صارت كما هو الحال في الغرب ديمقراطية عَلمانية، فإن أغلبية الشعب العربي الذى سيكون القرار في يده ليس شعباً متعاطفاً مع إسرائيل، كما أن أغلبية الشعب الإسرائيلي ليست متعاطفة مع العرب، وهذا يعني أن الدولة العربية الديمقراطية لن يكون من السهل عليها أن تنتهج السياسات التي يفضلها الغرب في العلاقة بين العرب وإسرائيل. ثالثتها: أن الغرب حضارة وثقافة، وإن مما يخدم مصالحه أن تنتشر هذه الحضارة وأن تتبناها أكثر شعوب العالم؛ ولذلك تراهم يكثرون في هذه الأيام من الحديث عن كسب العقول والقلوب، ويحاولون جاهدين أن يُبرزوا كل مكوِّن من مكونات ثقافتهم على أنه ليس أمراً ثقافياً خاصاً بالغرب؛ وإنما هو قيمة إنسانية صالحة، بل لازمة للبشر كلهم، وهم يرون أنه بالرغم من أن الشعوب الإسلامية قد تأثرت تأثراً كبيراً كما تأثر غيرها بالثقافة والقيم الغربية؛ إلا أنها ظلت أكثر أمة مستعصية على الانفتاح الكامل لكل قيم لا تتناسب مع دينهم، ويستشهدون على ذلك بصمود المسلمين في وجه الزحف الأيديولوجي الشيوعي. لكن إذا كانت الانتفاضات الشبابية قد أخذت بعض السمات الدينية، فهذا يعني أنه سيكون للصوت الديني أثر قوي في الدولة الديمقراطية. نكرر السؤال إذن: ماذا يفعل الغرب؟

أولاً: سيستمر في دعوته إلى الديمقراطية وتأييدها لكنه سيحاول سَوق حكوماتها ما أمكن إلى الطرق التي تؤيد مصالحه، فهم الآن يؤيدون رحيل القذافي؛ لأن هذا أصبح مطلباً شعبياً عامّاً لا قِبَل لأحد بمعارضته، لكن هذا لا يعني الوقوف مع الثوار بمعنى تمكينهم من أن يكونوا هم الحكام الذين يخلُفُون القذافي، وقد حذر بعضهم فعلاً من عدم التعجل في تأييد الثوار قبل معرفة حقيقتهم، هذا بالرغم من أن قادة الثورة المعترف بهم حتى الآن يصرحون بأن الدولة التي يريدونها هي دولة مدنية (أي غير دينية)، وأنها ستكون دولة تعددية، إلى آخر الأوصاف التي يرضى عنها الغرب. وسيفعلون الشيء نفسه بالنسبة لتونس، ومما يساعدهم على ذلك: أنه رغم قوة التيار الإسلامي هنالك؛ إلا أنه ليس في قوة التيارات الإسلامية المصرية، وأن التيارات العَلمانية لها تاريخ طويل في البلاد. ثانياً: سيستمرون في سياستهم المؤيدة للجماعات والأحزاب والاتجاهات العَلمانية أو الأبعد فالأبعد منها عن التوجه الإسلامي، ودعمها بالمال والدعاية والتدخل لتمكينها من التأثير السياسي والثقافي. ثالثاً: سيلجؤون إلى الضغوط الاقتصادية والسياسية لفرض السياسات التي يريدونها كما يفعلون ذلك الآن مع بعض البلاد التي لم تخضع لهم الخضوع الذي يريدونه. رابعاً: ماذا سيحدث إذا لم ينجح هذا كله؟ إن الغرب لن يتنازل بالطبع عن أهدافه الكبرى، وإذا رأى أنه لا خيار له إلا بين ديمقراطية لا تحقق أهدافه، ونظم استبدادية يأمل أن تحققها فلن يتردد في اللجوء إلى الخيار الثاني، وسيجد أن لديه وسائل كثيرة لإفشال الديمقراطيات التي لا يريدها وتيئيس المواطنين منها وجعلهم يقبلون غيرها؟ ولكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

تمثيل الأنبياء كفر وتمثيل الصحابة وغيرهم من سادات الأمة حرام

تمثيل الأنبياء كفر وتمثيل الصحابة وغيرهم من سادات الأمة حرام عبد الرحمن بن ناصر البراك 15 رمضان 1432هـ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فإن من فتن العصر التي هي مدد من ظلام الغرب: فتنةَ التمثيل، وهو تمثيل الإنسان والحيوان في الهيئات والحركات والأصوات، وهو عند الكفار من ضروب اللهو واللعب والسخرية، كما أنه وسيلة لغرس أفكار وأخلاق، وتشويه أخلاق وأفكار، وترويج عادات، وتغيير عادات، وتعظيم من يعظمونه من الساقطين والساقطات، وأبطال الحروب التي انتصروا فيها، وذلك بتقمص أشخاصهم، والتسمي بأسمائهم، والظهور بهيئاتهم؛ لباسا ومركبا وحركة وصورة وصوتا، وذلك كله ضمن مسلسلات يقوم بحلقاتها عدد من الرجال والنساء، كلٌّ يقوم بالدور الذي يناسبه من القصة، وقد يكون المسلسل يحكي قصة واقعية، ويمثَّل فيه أشخاص معينون، وقد يحكي المسلسل قصة خيالية يمثَّل فيها أنواع من الناس على اختلاف طبقاتهم ومناصبهم وعاداتهم وحرفهم وعلاقات بعضهم ببعض، كل ذلك بالهيئات والحركات والأصوات المناسبة لحال الممثَّلين. ومعلوم أن الكفار لا يقفون فيما يعملون ويشتهون عند حد إلا فيما يخرجون به على النظام، وليس لهم من شريعة الله ما يمنعهم من ارتكاب القبائح القولية والفعلية، وقد صار هذا الفن ـ كما يسمونه ـ أداة كبرى لكثير من الأغراض المادية والمعنوية، فهو وسيلة كسب ودعاية وشهرة وتجارة رائجة تجبى بها الملايين من جيوب الجمهور، ويقام لهذا الفن مؤسسات وشركات، وقد كان قديما في بداياته يعرض داخل الصالات، ثم في دور السينما، ثم صار أهم مادة للتلفزة، فطفحت به القنوات. ومعلوم أن من أهم ما يُقصد لشد أنظار جماهير المشاهدين: المرأة، فكان وجودها عنصرا أساسيا في هذه المسلسلات. وقد كان السبب الأول لدخول التمثيل فنا وحرفة للبلاد العربية والإسلامية على أيدي النصارى المحتلين لأكثر بلدان المسلمين، وذلك بفتح دور العرض السينمائي، ونشرها، واختيار الأفلام المثيرة الجنسية وغيرها، والمشتملة على تصوير حياة الغرب أنها الحياة الراقية والمتقدمة، وتشويه صورة حياة المسلمين، فتقبل كثير من جهلة المسلمين وفساقهم هذا الفساد، وأعان عليه من في البلاد الإسلامية من نصارى العرب وغيرهم. ثم تطور أمر التمثيل فنشأ في الأمة من يدعو إلى أسلمة التمثيل، وذلك بتمثيل الشخصيات الإسلامية التاريخية من خلفاء وأمراء ووزراء وقادة وعلماء، وتمثيل أحوالهم، وما جرى منهم وعليهم من حوادث التاريخ، سلما وحربا، وقد تحقق لهم ذلك، فصدرت أفلام في سير الخلفاء الراشدين وملوك المسلمين، وعن شخصيات شهيرة من العلماء الربانيين. وتختلف أغراض المصدِّرين لتلك الأفلام والمسلسلات، فإما الإشادة وإبراز المحاسن ـ زعموا ـ إن كانوا من الموالين، وإما الطعن وإظهار المساوئ إن كانوا من المعادين، ويعولون في ذلك على ما كتب في التاريخ، وفي التاريخ ما هو كذب، وما زيد فيه ونقص، وغير عن حقيقته. والغالب أن الذين يقومون بكتابة هذه المسلسلات وإخراجها وتمثيلها ليسوا ممن يتحرون الصدق، ولا التحقيق في المرويات، بل هم من أهل الأهواء الذين من أهم أغراضهم غرسَ مذاهبهم وترويجَها في الأمة. ومع ذلك فإن هذه الأفلام والمسلسلات الإسلامية ـ كما تسمى ـ لا تنفك عن الأغراض العامة من اللهو والتأثير على المشاهدين أيَّ تأثير، والكسب المادي، مع ما يدخل فيها من منكرات قولية أو فعلية، بشبهات التأويل والتسهيل بالترخصات.

وما يدعيه دعاة التمثيل الإسلامي من ضوابط، غايتها أن تخفف من المحاذير التي يذكرها المانعون، وكم من باب من مداخل الشر فُتح بحجة وضع ضوابط وشروط، ثم كان ذلك سببا في فتح هذا الباب واقتحامه دون وفاء بتلك الضوابط حينا، بل ولا اعتبار لها أحيانا، فما تلك الضوابط إلا شبهاتٌ للتسويغ، ودفعٌ لحجة المانعين! وبسبب ذلك صار حكم التمثيل قضية فقهية تتجاذب فيها أنظار الفقهاء بين التحريم مطلقا، والتفصيل. ومن مسائل التفصيل تمثيل الصحابة رضي الله عنهم، وهي التي نقصد إليها في هذا المقام؛ فقد أجمع أهل الفتوى في هذا العصر ـ إلا من شذ ـ على تحريم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم، فضلا عن الأنبياء، وكل ما يذكره المسوغون لتمثيل الصحابة يلزمهم أن يقولوه في الأنبياء، مع إضافة ضوابط أخرى. وكل ما يذكرونه من مصالح تمثيل الصحابة يتحقق بذكر أخبارهم على ما جرت به العادة في سياق الأخبار، وإذا دعت الحاجة إلى مزيد الإيضاح كان ذلك بتمثيل الفعل لا بتمثيل الفاعل، والعادة أن ذلك يكون قليلا، مثل ما تكفي فيه الإشارة باليد. وأما ما ذكروه من تمثل الملائكة لإبراهيم ولوط ومريم، وتمثل جبريل بصورة دحية، أو رجل غريب وكما في حديث الثلاثة؛ الأبرص والأقرع والأعمى، وتمثل الملك لهم؛ فكل ذلك مختص بالملائكة لا يقاس عليه؛ لأنهم غير متعبدين بشريعتنا، وهم يفعلونه بإذن الله، وقد جعل الله لهم القدرة على ذلك. وبعد؛ فإذا ضربنا صفحا عن حجج المانعين لتمثيل الصحابة، وما ذكروه من المفاسد، وأعرضنا عن شبهات المجوزين؛ فإنه يبقى أن تمثيل الصحابة افتيات عليهم، وعدوان على حقهم، والواقع شاهد بأنهم لا يرضون بتمثيلهم، وتقمص شخصياتهم. فنقول للمجوزين: أفترضون أن تمثل أشخاصكم بهيئاتكم، وتمثل حركاتكم، وأصواتكم؟! بدهي أنكم لا ترضون ذلك، لما ترونه من الكذب عليكم، والإزراء بكم، واتخاذكم لهوا ولعبا، ولهذا؛ فإن العقلاء والعظماء لا يرضون بتمثيلهم. ومن هذا المنطلق نقول بتحريم تمثيل الصحابة، بل والتابعين، وسائر علماء المسلمين، مع اعتبار تفاوت منازلهم، مما يقتضي التفاوت في تحريم تمثيلهم. والمتدبر لموضوع تمثيل الصحابة بتجرد يقطع بأن مفاسده ترجح على ما يُدعى فيه من المصالح، وهذا من مقتضِيات التحريم في الشريعة، بل هذا شأن أغلب المحرمات، والمترخصون في تمثيل الصحابة؛ إما أن يقولوا: إنه جائز فقط، فيجروا الناس، ويجرئونهم على باب من المشتبهات على الأقل؛ لأنه ـ واللهِ ـ ليس من الحلال البين، فيكون بابه على الأقل من باب سد الذرائع. وإن زعموا أن تمثيل الصحابة مستحب؛ فقد تضمن قولهم أنه من الدين، وهو محدث، فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». ومن قال: الأصل في تمثيل الصحابة الإباحة، فلم يراع اعتبار رضاهم، مع القطع بأنهم لا يرضون ذلك، كما هو شأن سائر العقلاء؛ لما في التمثيل من السخرية والإزراء، قُصد ذلك أو لم يُقصد. بل نقول: الأصل في تمثيل الصحابة التحريم؛ للزوم المفاسد العامة والخاصة له، فلا ينفك عنها، وما يدعى من المصالح لا تدانيها. وكل ما يذكر في تمثيل الصحابة من المصالح والمفاسد يقال مثله في تمثيل علماء الأمة وخيارها، فيجب تجويز الجميع، أو تحريم الجميع، وإذا كان الجميع مطبقين على تحريم تمثيل الأنبياء؛ لعلو قدرهم، وهيبة مقامهم، ومنافاة تمثيلهم لذلك، فهذا يقتضي أن تمثيل الأنبياء كفر، لأنه يتضمن الاستهزاء بهم، وقد قال تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، ومن أطلق تحريم تمثيل الأنبياء، واقتصر على ذلك فقد أجمل، ولم يحرر حكمه، فيجب التنبه لذلك.

ولهذا كان من مقاصد الكفار وأعمالهم التي يرفضها جميع المسلمين إصدار أفلام عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لما يعلم الجميع ـ المسلمون والكفار ـ ما في تمثيله عليه الصلاة والسلام من الإزراء والتنقص، واتخاذ سيرته وشخصه لهوا ولعبا. وفي ضوء ما تقدم نقرر: أن ما أعلن في بداية شهر رمضان لهذا العام 1432هـ من إصدار مسلسل عن الحسن والحسين ومعاوية رضي الله عنهم، وعرض إحدى القنوات الفضائية له أن ذلك حرام، يشترك في إثمه كل من له أثر في صناعة المسلسل وترويجه؛ من كاتب ومخرج وممثل ومموِّل وناشر، وأولى منهم بالإثم صاحب فكرة المسلسل، وهكذا من يقره وهو قادر على منعه، فعلى الجميع أن يتقوا الله، ويتوبوا إليه. وقد ذكر تقرير عن الخمس الحلقات الأولى من هذا المسلسل نشر في الشبكة أنه مُثِّل في المسلسل بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم بصورة لا تليق ببناته وأهل بيته عليه الصلاة والسلام، ومُثِّلت فيه زوجة الحسين رضي الله عنه، فلم يخل المسلسل من عنصر المرأة، فيحسن الرجوع إلى هذا التقرير، للوقوف على مساوئ هذا المسلسل. وبعد؛ فهناك معنى ينبغي التنبه له، وهو أن صناعة المسلمين لهذه المسلسلات والأفلام مما يهواه الكفار، ويعجبون بعناية المسلمين به، وهم لا يحبون الخير للمسلمين، قال تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.

عندما تصبح السماحة وثنا!

عندما تصبح السماحة وثناً! علي جابر الفيفي الثلاثاء16 رمضان1432هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد فإن من أعظم منن الله على هذه الأمة أن أكمل لها سبحانه دينها، فلم يقبض رسوله إلا بعد أن اكتمل الدين، وتمت النعمة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فليس لكائن من كان أن يضيف لهذا الدين مسألة حتى وإن استحسنها، ورأى المصلحة فيها، ما لم يكن له عليها ظهير من الشرع، وليس له أن يرفض ويستقبح بعقله شيئًا جاء في كتاب الله أو سنة نبيه الأمر به، أو الحث عليه، أو حتى إباحته والسكوت عنه، فالدين محكم البناء، مغلق الأبواب، لا يوغل فيه عالم إلا بدليل منه، فمن حاول فتح باب من أبواب هذا الدين بمفتاح ليس من صنع الدين ذاته ضل الصراط المستقيم .. ومفاتيح هذا الدين أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس .. فقد أجمعت الأمة على المفاتيح الثلاثة الأول، وخالف النزر في المفتاح الرابع خلافًا غير معتبر. فمن أراد أن يقول شيئا عن مسألة دينية فقال كلامًا لم تفض إليه هذه المفاتيح كلها أو بعضها فقد أتى بالنقص؛ لأن أي زيادة تضاف إلى البناء الكامل ما هي إلا انتقاص منه. البعض في هذا الزمن أضاف إلى أصول الاستدلال العظمى أصلًا أنتجه محض الهوى، وساعد في بلورته سلطة الجماهير ألا وهو "السماحة" .. وهي تعني أنه إذا تعارضت الأقوال فينظر أيها قرب من اليسر الذي يفرضه الهوى لا الشرع، فإنه الصواب وما عداه رهبانية، وآصار وأغلال .. ومعلوم أن لكل مذهب أصولًا استدلالية، مرتبة ترتيبًا تنازليًّا، فلا ينتقل الإمام أحمد مثلًا إلى قول الصحابي وثمة حديث حسن في الباب، ولا ينتقل الإمام مالك إلى عمل أهل المدينة حتى يتأكد من خلو الأصول السابقة له من نصوص تفيده في المسألة المنظورة. أصحابنا في هذا الزمن يقدمون السماحة على صريح الكتاب والسنة، فقد رتبوا أصولهم، ثم جعلوا سماحتهم المزعومة هي أم الأصول، التي تحتكم إليها القضايا، وتقف عند بابها المسائل الشرعية مطرقة، تنتظر الإذن لها بالدخول إلى ساحة العمل! فإذا قالت السماحة: إن الغلظة على الكافر والمنافق غير مناسبة في هذا العصر، فهذا يقتضي أن نلغي الحديث عن هذه الغلظة، وإذا أوحت إليهم شياطين سماحتهم بأن الجهاد باب من الدين ينطوي على إشكاليات قد يلج أصحاب العيون الزرقاء من خلالها للطعن في سماحة الدين، فلا بأس والحالة هذه أن نوهم هذا الآخر بأن ديننا خال من أي فكرة جهادية، وبأنه دين ابتسامة، وضحكة ومرح وفرح .. لا غير. ولأن الدين متين ومهيمن، ففي كل جزئية منه تجد آثار جزئيات أخرى منه، فقد باتوا محاطين بإشكاليات دينية لا حصر لها: فإن أرادوا الحديث عن الزواج في الإسلام، وكونه رحمة وسكينة ولباس، لم يكن لهم بد من فتح ملف الخلافات الزوجية، والتي يأتي النشوز في أعلى قائمتها، فيصابون بخجل عندما يتذكرون أنهم سيتطرقون للضرب غير المبرح كحل شرعي من حلول النشوز! ويشعرون بدوار لما يتذكرون مسألة استئمار البكر في الزواج، أو وجوب طاعة الزوجة لزوجها وقوامته عليها .. وإذا أرادوا فتح ملف معاملة الكافر، وأخذوا يُزَوِّرون في أنفسهم آيات وأحاديث الإقساط، وجواز أن يتزوج المسلم من الكتابية، تذكروا أحاديث الإلجاء إلى أضيق الطرقات، وآيات الإغلاظ ونصوص الجهاد، فأخذتهم حمى كحمى تهامة .. وتركوا ذلك الملف مفتوحا ثم انقلبوا على أعقابهم ينكصون!

فكلما همُّوا بالحديث عن باب من أبواب الشرع اصطدموا بعزائمه، وارتطموا بمحكماته، فاستخذوا استخذاء مخجلًا؛ لأن الواقع والآخر والظروف والعقل واللحمة الوطنية .. وغيرها من التابوهات، ستنظر إليهم بحزم، وتقرر أن تخلع عن أكتافهم بشوت السماحة .. فما الحل إذن؟ وما المخرج لمعاشر السمائحيين؟ الحل تنوع بتنوع المنازع النفسية والبيئية، وتشكل وفق الأهواء والمطامع، فصاروا إلى ثلاث فئات (تقبل الزيادة): دعاة القدر المشترك، ودعاة مدربين، ودعاة ثائرين: أما دعاة القدر المشترك فقد اتجهوا إلى خولقة الدين (تحويله إلى مجموعة أخلاق لطيفة)، فتراهم يدورون حول معاني الابتسامة، والتواضع، والبر، واللطف في التعامل، وكل ما من شأنه أن يتيح لسماحتهم المشوهة أن ترتع فيه دون رقيب أو حسيب .. فركزوا على القدر المشترك بين الأديان والملل والنحل وغضوا الطرف عن القدر المميز، الذي يتميز به الإسلام كدين مستقل! فلا دين ولا حتى لا دين إلا وهو يستحسن الابتسامة والمصافحة وإلقاء التحية والهدوء .. الخ، فلم نسمع عن ملحد يندد بالترتيب، ويدعو إلى الفوضى، ولم تظهر جماعة أو حزب يرون ضرورة استخدام القاموس الشتائمي لتغيير الفرد والمجتمع .. ومع هذا فأصحابنا السمائحيون يدورون حول هذه المعاني، وكأن عناصر شريرة من كوكب القبح قررت أن تغزوا كوكبنا اللطيف، فهم يعززون معاني اتفقت الفطر والعقول- بل والأهواء ناهيك عن الأديان- على استحسانها .. فتعلقوا بالقدر المشترك .. هروبًا من تبعات القدر المميز. وأما الدعاة المدربون، فقد قرروا التخلي عن محكمات العلم إلى متشابه الإبداع والتميز والنجاح، والتغلب على ضغوط الحياة، فلم تعد تسمع منهم الأمر بالتقوى والورع، واستعاضوا عن ذلك بالتنبيه على الضرر الناجم عن السهر، وأهمية الإكثار من شرب السوائل، والاسترخاء .. فلم تعد تدري هل صاحبك عالم عكف على قراءة (فتح الباري) و (فتاوى ابن تيمية) .. أم ممارس معتمد اطلع على القبعات الست والرجال من المريخ والنساء من الزهرة!! وأما الدعاة الثائرون فهم أولئك الذين لا همَّ لهم إلا الحديث عن الحرية والمساواة والحقوق، سمحوا للمنافق أن يسبَّ نبيهم باسم الحرية، وشكَّكوا في أحكام المرتد عن دينه؛ لأن الدين سمح، ونادوا بخروج المرأة؛ لأن ذلك حق، والحقوق تنتزع .. فتلاشى ابن تيمية من ألسنتهم، واستعاضوا عنه بمارتن لوثر .. وغاب صلاح الدين عن أطروحاتهم، ليظهر مكانه تشي غيفارا .. جعلوا من حريتهم طوطمًا، ثم ظلوا عليها عاكفين .. فلما شعروا أن الدين بهيمنته سيقف كالسد المنيع ضد تلك الترهات المنهزمة .. أتوا بأكفر كلمة قالتها العرب: الحرية أهم من الدين. أما إذا قدر الله ووضعت هذه الطوائف الثلاث على محك لا مهرب لهم منه إلا بالحديث عن تفاصيل دينية محرجة بالنسبة لهم، فلا حل إلا ركوب الأسنة، وخوض تجربة سمائحية فريدة، يكون العزف على وتر الخلاف هو اللحن السائد فيها، فلم يكن الخلاف الفقهي دليلًا في عصر من عصور الفقه أو لدى مدرسة فقهية قبل بزوغ هؤلاء السمائحيين، فأي مسألة عثروا فيها على خلاف مهما كان بعيدًا عن حظ النظر، جعلوا يقلبونها بملعقة السماحة، ليوقظون أضعف قول من قبره، وينفضون عن أكفانه تراب السنين البائدة، ثم يقدمونه للجماهير الشبابية على أنه السماحة الدينية، واليسر الشرعي. ولا شك أن هذا نوع من الزيغ يستوجب أشد أنواع العقوبة، فإن العبث بدين الله، وتلبيس الدين على الناس من أشد الزيغ، والذي عاقب الله عليه بالمسخ .. فقد أهلك الله المشركين المعاندين لأنبيائهم على مرِّ العصور الغابرة بالصيحة والرجفة والخسف والإغراق، بينما اختص المبدلين لشرعه، والعابثين بدينه بالمسخ، وإن كانوا أصحاب أنبياء، ومقتدين في الجملة .. فإن أصحاب السبت الذين مسخهم الله قردة خاسئين لم يكفروا بنبيهم، ولم يردوا دين الله، وإنما تحايلوا على الدين من أجل أن يملؤوا بطونهم .. ومازال مسلسل التحايل، ولبس الحق بالباطل مطردًا .. مذ زمن الحريصين على حوتهم .. إلى زمن الحريصين على بشوتهم .. فها أنت قد رأيت هذا الجزء المهم من الدين، أعني سماحته الحقيقية ويسره ورحمته يتحول بفضل هذه الجهود غير المشكورة إلى وثن يعبد من دون الله، فصنعوا من السماحة سلة عظيمة ثم حشروا الدين فيها .. وكذبوا على الله، فما هو بالدين الذي أكمله .. وكذبوا على رسول الله، فما بذلك الله أرسله .. وادعوا أخيرًا الغيارى على الدين، من علماء مازالوا هم الأكثرية، ودعاة مازال الصدق لهم مزية، ومثقفين مازالوا ينافحون عن الهوية إلى التصدي لهؤلاء المبدلين .. ولا تغرهم آية في ألسنهم أتوا بها لينقضوا سورة من صدورنا .. فلا يجوز أن نجامل بكلامنا من سعى - بعلم أو جهل - لتبديل ديننا .. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

البيان الثالث بشأن مجازر النظام السوري ضد شعبه

البيان الثالث بشأن مجازر النظام السوري ضد شعبه مجموعة علماء ودعاة سعوديين الأحد 14رمضان1432هـ الحمد لله القائل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: فإن ما يمارسه النظام السوري البعثي الظالم من مذابح ومجازر وحشية ضد إخواننا في سوريا، بشكل ما كنا نظن أننا سنشاهد له مثيلاً في هذا العصر .. في ظل تردد دولي واضح، فهم منه النظام السوري إقراراً ضمنياً لممارساته الهمجية، ولم تسلم منه بيوت الله مابين منعٍ للصلاة وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، ولم يحترم مكانة هذا الشهر الكريم، وهذا شأن من قال الله فيهم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] وإلحاقاً بالبيان الأول الذي صدر بتاريخ 5/ 5/1432هـ, والبيان الثاني الصادر بتاريخ 12/ 08/1432هـ, والذي أكدنا فيه الاستنكار الشديد للممارسات التي يقوم بها هذا النظام البعثي الظالم, كما نؤكد على التواطؤ الحاقد من دولة إيران الرافضية, يدعمه في ذلك حزبهم المسمى (حزب الله) , وقد تضمن البيانان قضايا أخرى ونحن إذ نؤكد على ما ذكر فإننا بداية نثمن لخادم الحرمين الشريفين خطابه التاريخي ووقفته مع الشعب السوري المظلوم، وهو ما تقتضيه مكانة هذه البلاد في نفوس المسلمين, كما نأمل أن يتبع ذلك خطوات أخرى, ومن ذلك أن تقوم حكومة المملكة باستقبال الجرحى والمصابين في مستشفيات المملكة, لعدم توفر المستشفيات بسبب قتل النظام السوري لمن يذهب إلى المستشفيات الحكومية هناك، وكذلك القيام بحملة إغاثية للمحتاجين والمنكوبين. كما نشكر الجهود التي قامت بها تركيا, والفعاليات البرلمانية والشعبية في الكويت والبحرين؛ وكل الجهود هنا وهناك من عدد من إخواننا الذين يحدوهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير واللفظ لمسلم]. ونحن في هذا الصدد نوجه هذا النداء العاجل والذي يتلخص فيما يلي: 1 - إن الواجب الشرعي يحتم على أهل العلم والإيمان وأهل الرجولة والمروءة والنخوة من العلماء والدعاة والخطباء وأعضاء هيئات الفتوى والمجامع الفقهية والروابط والاتحادات الإسلامية؛ أن يجهروا بالحق ونصرة هؤلاء المظلومين .. ويبينوا الحكم الشرعي بوضوح وبلا مواربة؛ لهذه الممارسات الوحشية والإجرامية، التي هي من أعظم الفساد في الأرض .. وأن يسعوا لعقد مؤتمرات شعبية لمناصرة إخواننا المنكوبين في بلاد الشام. 2 - نناشد جميع أصحاب الضمائر الحية في سائر بلدان العالم من البرلمانيين والمثقفين والإعلاميين وكافة هيئات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية والمدنية؛ أن يقوموا بدورهم في نصرة هذا الشعب المنكوب، وأن يتداعوا لممارسة كافة الإجراءات والتدابير لكف هذه العصابة الحاكمة في سوريا عن هذه الممارسات الوحشية- التي تذكرنا بجرائم التتار والنازيين والفاشيين-التي يتعرض لها هذا الشعب الأعزل إلا من إيمانه. 3 - ندعو الحكومات العربية والإسلامية-وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي- إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية، وإيقاف كافة أنواع الدعم الاقتصادي عن نظام الحكم المجرم في سوريا، والعمل على محاصرته وعزله سياسياً واقتصادياً؛ حتى يكف عن هذه الممارسات الوحشية.

4 - ندعو الناشطين في مجال حقوق الإنسان؛ مؤسساتٍ وأفراداً، أن يتخذوا كافة الإجراءات الكفيلة بملاحقة هذا النظام المجرم بكافة الوسائل القانونية المتاحة، ولدى كافة الهيئات الدولية المهتمة بهذا الشأن. 5 - نناشد أفراد القوات المسلحة، وأجهزة الأمن في سوريا إلى الانحياز إلى شعبهم وممارسة واجبهم في حماية إخوانهم ومواطنيهم، وعدم الانصياع لأوامر السلطة الحاكمة مهما كلف الأمر .. فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليعلموا أنه لا يجوز للمسلم استبقاء نفسه بإتلاف نفس أخيه مهما كانت الظروف والضغوط. 6 - نناشد حكومات الدول الإسلامية والمنظمات الإغاثية، أن تبادر لتقديم كل أنواع المساعدات الإغاثية والطبية للشعب السوري، وبذل الوسع في إيصالها بكل الوسائل المتاحة. 7 - ندعو إخواننا في سوريا إلى الصبر والثبات، والحرص على الاجتماع ونبذ الخلاف، وليعلموا أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا. وقد أحسن إخواننا أيما إحسان حين سموا جمعة ماضية (الله معنا) فهم وإن خذلهم كل من في الأرض, فالله معهم وكل من في الأرض تحت ملكه وتصرفه فثقوا بربكم واعتصموا بحبله, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. 8 - نناشد إخواننا المسلمين في كل مكان بالدعاء وخصوصاً في هذه الأيام الفاضلة ونخص بذلك أئمة المساجد على القنوت لإخواننا في سوريا في الصلوات الخمس تأسياً بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأحوال، وكذلك في الوتر في صلاة التراويح. نسأل الله أن يفرج عن إخواننا في سوريا الكرب وأن يعجل لهم الفرج .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الموقعون على البيان: 1. فضيلة الشيخ/ أ. د. عبدالله بن حمود التويجري، أستاذ السنة وعلومها 2. فضيلة الشيخ/ أ. د. ناصر بن سليمان العمر، المشرف العام على مؤسسة ديوان المسلم 3. فضيلة الشيخ/ د. أحمد بن عبدالله الزهراني، عميد كلية القرآن بالجامعة الإسلامية سابقاً 4. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن سعيد القحطاني، أستاذ بجامعة أم القرى 5. فضيلة الشيخ/ أحمد بن عبدالله آل شيبان العسيري، مستشار تربوي 6. فضيلة الشيخ/ أ. د. سعد بن عبدالله الحميِّد، جامعة الملك سعود 7. فضيلة الشيخ/ أ. د. علي بن سعيد الغامدي، أستاذ الفقه بجامعة الإمام والمدرس بالحرم النبوي سابقاً والمحامي 8. فضيلة الشيخ/ أحمد بن حسن بن محمد آل عبدالله، رئيس قسم التوعية الإسلامية بإدارة التربية والتعليم بعسير سابقاً 9. فضيلة الشيخ/ عبدالله بن حمد الجلالي، الداعية الإسلامي 10. فضيلة الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالرحمن العجلان، مدير المعهد العلمي بمكةسابقًا 11. فضيلة الشيخ/ د. عبدالعزيز بن عبدالمحسن التركي، محامي ومستشار شرعي 12. فضيلة الشيخ/ أ. د. عبدالرحمن جميل قصاص، عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى 13. فضيلة الشيخ/ د. خالد بن عبدالله الشمراني، أستاذ الفقه المشارك بجامعة أم القرى 14. فضيلة الشيخ/ د. محمد عبدالله الخضيري، جامعة القصيم 15. فضيلة الشيخ/ د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي، رئيس مركز التأصيل للدراسات والبحوث 16. فضيلة الشيخ/ د. خالد بن عبدالرحمن العجيمي، أستاذ جامعي سابق 17. فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، المشرف العام على موقع المختصر 18. فضيلة الشيخ/د. عبدالله بن ناصر الصبيح، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 19. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن عبدالعزيز الخضيري، أستاذ مساعد جامعة الملك سعود

20. فضيلة الشيخ/ د. محمدبن عبدالله الهبدان، عضو رابطة علماء المسلمين 21. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن عبدالله الدويش، المشرف على موقع المربي 22. فضيلة الشيخ/ بدر بن ابراهيم الراجحي، القاضي بالمحكمة العامة بمكة 23. فضيلة الشيخ/ العباس بن أحمد عبدالفتاح الحازمي، مدير المعهد العلمي في صبياء سابقاً 24. فضيلة الشيخ/ د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف، أستاذ مشارك بجامعة الإمام 25. فضيلة الشيخ/ د. إبراهيم بن عبدالله الحماد، أستاذ مشارك في جامعة الإمام 26. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن عبدالعزيز بن ناصر الماجد، محامي ورجل أعمال 27. فضيلة الشيخ/ حمود بن ظافر الشهري، مشرف تربوي 28. فضيلة الشيخ/ د. مسفر بن عبد الله البواردي، عضو المجلس البلدي بمدينة الرياض 29. فضيلة الشيخ/ د. عبد اللطيف بن عبدالله الوابل، جامعة الملك سعود 30. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن صالح العلي، أكاديمي ـ الأحساء 31. فضيلة الشيخ/ د. ناصر بن محمد الأحمد، الداعية الإسلامي 32. فضيلة الشيخ/ د. إبراهيم بن محمد أبكر عباس، استشاري طب أطفال 33. فضيلة الشيخ/ د. موفق بن عبدالله بن كدسة، استاذ مساعد في جامعة الملك عبدالعزيز 34. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن سليمان البراك، جامعة أم القرى 35. فضيلة الشيخ/ د. عبد العزيز بن عبد الله المبدل، جامعة الملك سعود 36. فضيلة الشيخ/ د. عبدالله بن عمر الدميجي، عضو هيئة التدريس بجامعة ام القرى 37. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن عبد العزيز اللاحم، جامعة المجمعة 38. فضيلة الشيخ/ محمود بن إبراهيم الزهراني، عضو لجنة إصلاح ذات البين 39. فضيلة الشيخ/ علي بن إبراهيم المحيش، رئيس كتابة عدل الأحساء المتقاعد 40. فضيلة الشيخ/ د. عبدالله بن عبدالعزيز الزايدي، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام 41. فضيلة الشيخ/ د. أحمد السعيد، أستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود 42. فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن خضران الزهراني، كاتب عدل بمكة المكرمة 43. فضيلة الشيخ/ علي يحيى القرفي، تعليم عسير 44. فضيلة الشيخ/ د. عبدالله بن عبدالرحمن الوطبان، وزارة التربية والتعليم 45. فضيلة الشيخ/ عبدالله بن ناصر السليمان، المفتش القضائي بوزارة العدل 46. فضيلة الشيخ/ مبارك بن يوسف الخاطر، قاضي محكمة دوس 47. فضيلة الشيخ/ د. خالد بن إبراهيم الدويش، أستاذ في جامعة الملك سعود 48. فضيلة الشيخ/ د. محسن بن حسين العواجي، أستاذ جامعي سابق ومحامي 49. فضيلة الشيخ/ د. محمد الحضيف، أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود سابقاً 50. فضيلة الشيخ/ د. حسن بن صالح الحميد، جامعة القصيم

"تمثيل الصحابة" مرة أخرى!

"تمثيل الصحابة" مرة أخرى! أحمد الزهراني السبت13رمضان1432هـ كتبت مقالاً قبل أيّام عدّة عنونته بـ "تمثيل الصحابة: امتهان الصحابة" ذكرت فيه ما هو محل اتفاق المجامع الفقهية العلمية وهو أنّ تمثيل الصحابة لا يجوز لأنّ فيه امتهان لمنزلتهم. كنت قاسيا "أقلّ" من اللازم بحق من أفتى بجواز ذلك، وغضب مني البعض وطالبني البعض بالمناقشة العلمية لحجج المجيزين، والحقيقة أنّي لا أرى هذه المسألة من مواطن الخلاف السائغ، بل أراها نازلة دهياء أن أصبح البعض يجادل في تحريم المساس بمكانة الصحابة بأيّ طريق. واليوم لن أدخل في نقاش تفصيلي بل أريد أن أذكّر بعض الغافلين بأمور: الأوّل: تلك الشخصيات الّتي أفتت بالجواز ليست محل اتفاق الأمّة، حتى يغضب البعض من المساس بهم، بل بعضهم انتقلوا من الظلمة إلى النور بسبب خوضهم في هذه المسائل وشذوذهم بها فعرفهم النّاس وتناقلت فضائيات الهز والرقص فتاواهم لأنّها داعم رئيس لمجون دعار الفضاء. والعجب لا ينقطع ممّن لا يهتز له شعرة من تناول مسائل تتعلق بمنزلة الصحابة بحجة الخلاف ثم هو يثور غضبا لشخوص لا قيمة لهم ولا وزن في جنب صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الثاني: هؤلاء الّذين تسابقوا للقول بالجواز هم ممّن يرفعون عقيرتهم مطالبين بالفتوى الجماعية والبعد عن الفتوى الفردية في نوازل الأمّة ومسائلها الكبار، وفي مسألتنا هذه كانوا أحرص ما يكون على الانفراد في مقابل فتاوى جماعية على أكثر من مستوى وفي كافة أقطار الإسلام ومن أكبر المجامع العلمية والفقهية، يا للعجب. الثالث: أحد المفتين بالجواز مشهور بالحفظ، وقد أزعجنا أنصار شذوذاته كلما أنكرنا شيئا منها استطالوا علينا بأنّه الحافظ الألمعي الذي يحفظ آلاف الأبيات والمنظومات والنصوص ووو .. أقول: لديّ قرص صلب يحفظ أكثر منه، والحفظ ميزة شخصية تُشكر لصاحبها لكن لا علاقة لها بالفقه والعلم والتسديد في الفتوى. العلم والفقه كما قال ابن مسعود ليس بكثرة الحفظ وإنّما هو نور يقذفه الله في القلب، وقد علمنا أئمة السنة والفقه والشريعة الّذين اتفقت كلمة الأمة على فضلهم وما أعطاهم الله من البصير اتفقوا على تحريم تمثيل الصحابة فبهم يوزن العلم والصواب إن كان ولا بد لا بكثرة المحفوظ! رابعاً: من المهم تذكير الجميع أنّ صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسوا مجرد أشخاص تاريخيين تُعرض حياتهم، بل لهم خصائص لا يشاركهم فيها أحد: منها أنّهم حملة الدين ونقلته وامتهانهم والتقليل من شأنهم همز وغمز في ما يحملون. أنّ حياتهم وأقوالهم إنّما هي تطبيق للشريعة أو أقوال شرعية مُحتج بها وكذلك أفعالهم، فأيّ حركة أو قول أو فعل يدرج في القصة محل التمثيل ستصبح دينا وسنة خاصة كبارهم وفقهاؤهم. فمن أين لفريق التمثيل الحصول على كل تلك الدقائق التفصيلية إلاّ بالكذب عليهم، وكم من أمر هو مباح في حقنا كان بعض الصحابة يراه جرما ويبتعد عنه فكيف نكذب عليهم بأمور لا يمكن الحصول عليها إلاّ برجم من الغيب. ومنها أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هم حماه وحريمه، فالتساهل في تمثيلهم يعني الوصول إلى القول بجواز تمثيل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا أراه يقول بذلك إلاّ زنديق. فتسويغ تمثيل الصحابة هو في حقيقة الأمر اختراق خطير يفضي بلا ريب إلى تمثيله وتجسيده نعوذ بالله.

وهؤلاء الذين أفتوى بجواز تمثيل الصحابة رضي الله عنهم وبعدم جواز تمثيل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن لهم أن يأتوا بفرق واحد مؤثر يفرقون به بين تمثيل الصحابة وتمثيل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكل حجّة يحتجون بها على تجويز تمثيلهم هي حجة لمن يريد تمثيل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلا فرق. خامساً: رحم الله الإمام مالك، النجم الفقيه المستنير بنور الله، عندما هم المهدي أن يعيد الكعبة على ما بناها ابن الزبير مثلما سمعه من عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستشار الإمام مالك بن أنس في ذلك، قال له: «إني أكره أن يتخذها الملوك لعبة»، - يعني يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم - فهذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأيا آخر، فمنع مالك مما هو حق في نفسه درءا لمفسدة أعظم. ولو كان لدى فقهاء الفن المعاصر الذين أجازوا تمثيل حياة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر معشار ما عند مالك من الفقه لقالوا كما قال مالك، فلو كان في تمثيل الصحابة ما فيه من مصلحة موهومة خيّلها لهم هوامير الفن الهابط وملاك قنوات السخرية بالسنة والشريعة، لكان ما في فتح الباب لتمثيلهم من مفسدة اتخاذهم لعبة بيد أهل الفن والطرب والمال مانعا لهم من الإفتاء بالجواز، كلّما عنّ لمجرم أن يزوّر أو يمرّر ما يريد أنتج عملاً فنيا لواحد من الصحابة ثمّ كذب كما يحلو له واستخف كما يحلو له، ونصبح لا هم لنا إلاّ تصحيح أخطاء الفنانين والفنانات والمخرجين والمخرجات الأحياء منهم والأموات. أخيراً أقول: والله إنّنا لسنا عاجزين عن النقاش الفقهي، لكن يحز في أنفسنا أن تتحوّل ثوابتنا وقيمنا العظمى لعبة بيد "أصدقاء الضّوء"، وإلاّ فإنّ تمثيل الصحابة يصدق فيه ما كان ابن حزم يردّده في القياس: «القياس كله باطل، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل» ونحن نقول: لو كان التمثيل حقا لكان تجسيد الصحابة وتمثيلهم منه عين الباطل.

التحذير من شهوات الفكر المهلكة

التحذير من شهوات الفكر المهلكة علي بن عمر النهدي الخميس11 رمضان1432هـ الحمد لله الذي {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد التواب وعلى كل من زجر النفس عن غيها وثاب. أما بعد: قال الحسن البصري رحمه الله: والله ما جالس القرآن أحدٌ إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. انتهى. وصدق رحمه الله، ومصداق قوله مسطور في الكتاب, في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}. [فصلت:44]، وقوله جل وعز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين}. [يونس:57]. فبيّن جل وعلا أن القرآن هدى وشفاء لصنف، وعمى وخسارة لصنف آخر, فخصَّ جلَّ في علاه المؤمنين بالانتفاع بهذا الكتاب العظيم, ونصَّ على أن الذين لا يؤمنون به يزيدهم خسارة وهو عليهم عمى, والإيمان وعدمه هنا ليس هو مطلق الإيمان, الذي يتصف به كل من انتسب إلى الإسلام, بل هو إيمان حقيقي من جنس إيمان المتقين، كما صرَّح بذلك ربنا عز وجل في أول سورة البقرة فقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. ثم بيَّن جلَّ وعزَّ صفتهم بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3، 4]. فهذا هو الإيمان المشروط للانتفاع بالقرآن, وهو قول وعمل, ففيه التصديق والإقرار بالغيب وأمور الآخرة, والعمل متمثلًا في الإنفاق وإقامة الصلاة, وهما لا يقعان من مؤمن إلا بنية وإرادة، منشأهما المحبة، وهي أصل عمل القلب. وأما من آمن إيمانًا مجملًا كالذي يولد بين أبوين مسلمين، ولم يتعرف على حقائق الإيمان, أو يكون حديث عهد بالإسلام، ولَمَّا يحقق الإيمان المشروط للانتفاع بالقرآن, فأمثال هؤلاء لو شُكِّكوا لشكُّوا؛ لعدم وجود ما يدرأ الريب عنهم, من علم القلب ومعرفته ومحبته ويقينه بدينه, فهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة, وإن ابتلوا بمن يُورِد عليهم شبهات توجب ريبهم, فإن لم يُنعم الله عليهم بما يزيل الريب, وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق دون أن يعلموا, فليحذر المسلم من السير خلف شهواته الفكرية, وإطلاق العنان لعقله الضعيف, ليبحر فيما ليس له به علم, متتبعًا الشبهات والمتشابهات مما يحسبه دلائل عقلية, وحقائق قطعية, وما هي إلا سراب يحسبه الظمآن ماء, وهو خلي عما يعصمه منها.

فهذا الصنف بعيد كل البعد عن الانتفاع بالهدي القرآني, والنور الرباني؛ لخلوه من الإيمان المعين على فهم القرآن، والازدياد به إيمانًا على إيمانه, ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون الإيمان قبل تعلم القرآن، ولهذا ثبت الإيمان في قلوبهم، فرضي الله عنهم ورضوا عنه, فعَنْ جُنْدُبٍ البجلي رضي الله عنه قَالَ: ((كُنَّا مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتْيَانًا حَزَاوِرَةَ فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَنَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الإِيمَانِ)). [أخرجه ابن ماجه في سننه والطبراني في الكبير بسند صحيح] فالمقصود بتعلم الإيمان: أي اليقين بما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, والاعتصام بذلك, والقطع بأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل أبدًا, وعدم معارضة هذا الأصل بغيره كائنًا ما كان, والجزم بأن علوم الأولين والآخرين العقلية النافعة لا يمكن أن تغادر القرآن طرفة عين أو أقل من ذلك, فإذا تحقق ذلك, يصبح المؤمن مهيأً لتعلم القرآن، وفهم ما فيه من معان تحيا بها القلوب السليمة، التي ليس بينها وبين الحق سوى إدراكه. وهذا اليقين لا يمكن تحصيله إلا بتحصيل أسبابه, مثل سؤال الله تعالى الهداية الخاصة, ومباشرة أهل الإيمان والاقتداء بهم في الأقوال والأعمال, ثم حفظ العقل وجعله في حرز عن مصادر التلقي الفاسدة, فأعظم الخلل ينشأ - وهذا من أصول الضلال - من الاعتداد بالنفس, والتغرير بالعقل في قراءات مفسدة لفطرته السليمة, وللعقل شهواته فينغمس فيها حتى تنتكس الفطرة، وتتبدل اليقينيات عند المرء, فإذا اعتقد ما ليس بيقين على أنه يقين قطعي وهو مظنون, حينئذ تكثر الإشكالات بين هذا اليقين المظنون مع اليقين الحقيقي, فيسلُّ الشيطان سكين الشبهات والمتشابهات؛ لذبح اليقين الحقيقي عند هذا المسكين وتلك المسكينة الغرقاء في شهواتهم العقلية, المغلفة بأسماء شيطانية, كحرية الفكر, أو الانفتاح على الثقافات, أوالجراءة في النقد. فهنا يأتي دور الإيمان الصادق, فمن كان ضعيف الإيمان أو حديث الإسلام, فلن يصمد أمام شهوة عقله, ولا أمام حيل الشيطان وألاعيبه الماكرة, وأما من تعلم الإيمان وتيقن بدين الإسلام, وعافاه الله من شهوات العقول في تتبع الشبهات والمتشابهات، فهذا الجدير بالنجاة من هذه المهالك. ولهذا شدَّد السلف الصالح على ترك الأهواء ومجادلة أهلها؛ لعلمهم بأن هذه الأهواء بحار لا سواحل لها, فنهوا رحمهم الله, عن تتبع المتشابهات, ونهوا عن إجابة أصحاب الشبهات ومناظرتهم, فكانوا يردون الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زاهق, دون الاسترسال في تفنيد الشبهات وتقصي الرد عليها؛ لئلا يكون ذلك وسيلة لنشرها وبثها بين الناس, فما أعقلهم رحمهم الله, فقد علموا بأن العقول تتفاوت والأفهام لا تتساوى, فربما أجابوا عن شبهة بإيقاظ أخرى, أو قاموا بدحضها عن إنسان دون إنسان, فوقفوا عند الأصل القرآني برد الشبهات والمتشابهات بالمحكمات, واستدلوا على من ينازع فيها ويجادل بأنه زائغ أو شاك, ولا دواء لهما إلا لطف الله تعالى بهما, فالهوى ليس له دواء. عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، قَالَ: (إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ بَحَثُوا، وَنَقَّرُوا حَتَّى تَاهُوا). ويقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: (يُلَبِّسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يَطْلُبُونَ مَنْ يُعَرِّفُهُمْ). وقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: (مِنَ الْمَسَائِلِ مَسَائِلُ لَا يَجُوزُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا، وَلَا لِلْمَسْئُولِ أَنْ يُجِيبَ فِيهَا)

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (لَوْ أَدْرَكَ هَؤُلَاءِ الْأَرَائِيُّونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَزَلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ يَسْأَلُونَكَ يَسْأَلُونَكَ). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، حَتَّى قُبِضَ ... مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ). نقل هذه الآثار الذهبية ابن بطة رحمه الله ثم قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَانْتَهُوا عَنِ السُّؤَالِ، وَالتَّنْقِيرِ، وَالْبَحْثِ عَمَّا يُشَكِّكُ الْيَقِينَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ، وَلَا مِنْ شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَقْتَدُوا بِالزَّائِغِينَ، وَلَا تَثِقْ نُفُوسُكُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِ الْمُتَنَطِّعِينَ الَّذِينَ اتَّهَمُوا أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَرُدُّوا مَا جَاءُوا بِهِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَكَّمُوا آرَاءَهُمْ، وَأَهْوَاءَهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى مَا اسْتَحْسَنُوهُ دُونَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). انتهى [الإبانة الكبرى - بابُ تَرْكِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُغْنِي وَالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ عَمَّا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ قَوْمٍ يَتَعَمَّقُونَ فِي الْمَسَائِلِ وَيَتَعَمَّدُونَ إِدْخَالَ الشُّكُوكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ] فلا يعجب من يقرأ لـ (مايلز) أو (سارتر) وغيرهما من تشديد السلف الصالح في ترك القراءة لهما وأمثالهما, بل ليزداد عجبًا بأن كلام السلف التحذيري كله يدور حول النهي عن الأخذ عما يسمى بالآرائيين من المسلمين, وأما الكافرون فالأمر محسوم, بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}. [النور:140]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68]. فكيف بالله العظيم يجترئ المسلم أو المسلمة على معارضة آيات الله البينات, بآراء مستقاة من أفكار (مايلز) و (سارتر) وأشباههما!؟ ولا عجب عند من علم أن أسَّ هذا الضلال, هو أن كل من يعتقد عقيدة مستندًا فيها إلى العقل, ويزعم أن دلالة العقل عليها يقينية, فهو يحيل أن يجيء يقين بخلافها, فيضطر إلى جحد إحدى اليقينين؛ ليسلم له الآخر, فالحكم حينئذ للهوى أو للإيمان!!. يقول المعلمي رحمه الله: (وقد عرَّفتك أن كل معتقد عقيدة مُستَدلَلُها إلى العقل يزعم أنها يقينية, ومعنى ذلك أنه لو لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشافهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يخالف تلك العقيدة لكذَّبه والعياذ بالله ... مع أن هؤلاء .. إذا سمعوا آية من القرآن لم يفهموا معناها لم يترددوا في تصديقها, وكذلك إذا كان ظاهرها مخالفًا لعقيدتهم, فإنهم يصدِّقونها بعد تأويلها على ما يوافق عقيدتهم, ولكن لو فرضنا أن آية جاءت قطعية الدلالة على خلاف قولهم, فما ندري ماذا يصنعون). انتهى [رفع الاشتباه: ص48 - 49] لهذا تعرف سبب تعظيم أمر الاعتقاد بين السلف وأتباعهم, وأن الخلل إذا تطرق للاعتقاد فسد دين المرء, أو كاد، إذا لم يتداركه الله بلطفه وكرمه.

فعلى المسلم والمسلمة معرفة خطر الاسترسال خلف الشهوات الفكرية, واللوثات العقلية, والحرص على تحصين العقل بالإيمان، ثم بتعلم القرآن وأحكامه, ومباشرة أهله وخاصته ممن يتبعونه حق اتباعه, ويقيمون حروفه وحدوده, فإنَّ كون المرء على الإسلام منَّة عظيمة ونعمة جليلة, لا يجوز لصاحبه جهل حقيقة هذه النعمة, فالمسلم والمسلمة يجب عليهما أن يعلما بأنهما من أهل الجنة مآلًا ما داما على الإسلام الخالص, وعدوهما اللدود إبليس اللعين يسعى بشتى الطرق والوسائل ليخرجهما من الجنة، ما دامت أرواحهما في أجسادهما, كما أخرج أبويهما عليهما السلام, فعليهما أن يقطعا الطريق على اللعين الرجيم, بمعرفة حقيقة المنة بجعلهما على دين الإسلام بفضله وكرمه, لا بذكائهما أو جهدهما, فالذي عليهما الحفاظ على هذه النعمة وتكمليها بأن ينجيا أنفسهما من الدخول في النار بترك المنكرات وأداء الواجبات، كما قد ضمنا النجاة من الخلود فيها إن ماتا على الإسلام الخالص. (فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس, فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه, وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة. فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلَّى الراعي بين الذئب وبينها. وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟ قيل: لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق, ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانًا مع ضعفها, فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب, ودعاها فلبت دعوته, وأجابت أمره, ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة, وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل, ودخلت في محل الذئاب، الذي من دخله كان صيدًا لهم, فهل الذنب كل الذنب إلا للشاة, فكيف والراعي يُحذّرها ويُخوّفها ويُنذرها وقد أراها مصارع الشاء التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب!). [ابن القيم- شفاء العليل: ص100] عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: أَتَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دِينَهَا فِي يَوْمٍ؟ قَالَ: (لَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ، حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ) [الإبانة الكبرى لابن بطة: ص173 - 174] والله أعلم، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

مسلسل الحسن والحسين ومعاوية - رؤية فنية شرعية

مسلسل الحسن والحسين ومعاوية - رؤية فنية شرعية مركز التأصيل للدراسات والبحوث الخميس11 رمضان 1432هـ تعد المسلسلات التاريخية من أنجح الأعمال التي تعرض على الشاشة الصغيرة (التلفزيون) والكبيرة (السينما) ونجاحها يتجاوز مسلسلات الدراما (المشاكل) الأخرى، هذه الحقيقة الفنية نثبتها بأربعة أعمال تلفزيونية اثنان من عالمنا العربي واثنان من مركز وقبلة السينما والتلفزيون (هوليود) في عالمنا العربي يعد مسلسل (باب الحارة) من أكثر مسلسلات الدراما نجاحا فهو من الأعمال النادرة التي بلغت خمسة أجزاء، وأعيد عرضه على عشرات القنوات الفضائية العربية طوال السنة وفي أوقات مختلفة، ووصل تأثيره أوساط سياسية عربية ويهودية، وأشيع بأن هناك جهات أجنبية سعت لشراء المسلسل وعرضه على قنواتها، وهناك منتجات تجارية اشتقت من المسلسل، وزار استوديوهات التصوير مئات الآلاف من المعجبين، المثال الثاني مسلسل (الملك فاروق) هو أيضا عرض مرارا وتكرارا على قنواتنا العربية، وقد حصل للمسلسلين أخبار وجدل أشغلت الناس والأوساط الفنية والثقافية وكثر الحديث والنقل عنهما والاقتباس منهما، وهنا حالة أخرى عجيبة يعرض في رمضان أحيانا ثلاث مسلسلات تاريخية متشابهة في القصة والزمان والمكان والأحداث ومع هذا تنجح الثلاثة كلها. في (هوليود) هناك آليات احترافية مختلفة يعرف من خلالها مدى نجاح العمل الفني، منها آلية الجوائز التي تقدم للأعمال الفنية (السينما: جوائز أوسكار - التلفزيون: جوائز إيمي - الغناء: جوائز غرامي - المسرح: جوائز توني) تقام حفلات الجوائز هذه سنويا بعضها يقام منذ 80 سنة ويكرم فيها أفضل الأعمال والعاملين خلال السنة، وتعتبر الأعمال الدرامية أهم العروض التلفزيونية والسينمائية ومن أشهر الدرامي العمل التاريخي فقد رشح لجائزة (إيمي 2011) - أهم جائزة في أمريكا خاصة بالتلفزيون- ستة أعمال عن فئة أفضل مسلسل درامي ثلاثة منها مسلسلات تاريخية، أحدها (مادمان) - أخر عرض أكتوبر2010 موسم رابع- فاز في الثلاث سنوات الأخيرة بجائزة (إيمي) عن فئة أفضل مسلسل درامي وفاز ورشح عن فئات التمثيل والكتابة والإنتاج والماكياج وغيرها مرات عديدة، فاز العمل بجائزة (جولدن جلوب) - إحدى أهم ثلاث جوائز في أمريكا والعالم تكرم العمل السينمائي والتلفزيوني- عن فئة أفضل مسلسل درامي ثلاث سنوات متتالية قطعها عام 2011 عمل تاريخي جديد (بورد ووك امباير) انتهى عرض موسمه الأول في ديسمبر 2010، فاز العمل بجائزة (جولدن جلوب) عن فئة أفضل مسلسل درامي وممثل دراما، وأيضا رشح للفوز بجائزة (إيمي2011) كواحد من ستة أفضل أعمال درامية في أمريكا - ثلاث منها مسلسلات تاريخية- ومتوقع أن يحصد العديد من جوائز (إيمي) في حفلها 63 موقفا سلسلة فوز (مادمان) المتتالية هذه السنة، وهناك ترشيحات وفوز للمسلسلين على مستوى الجائزتين وجوائز أخرى متعددة. وكلا العملين يعرضان على قنوات كيبل (المدفوعة) ومع هذا حصلا على كل هذا النجاح. المقصود أن نفهم أهداف المحادين للشريعة (ملاك القنوات الفضائية) عند عرضهم مسلسل (الحسن والحسين ومعاوية) فهم لم يكن دافعهم خدمة الإسلام وتقريب صورة من تاريخه لعموم المسلمين لأن هؤلاء الشياطين قنواتهم ليل نهار تحاد الله ورسوله والمؤمنين وتفسد أولئك المسلمين فلا يظن غافل أن الشرع والسنة والدعوة كانت يوما في حسابات هؤلاء كل ما في الأمر أن الأرقام تثبت أن المسلسل التاريخي يرفع نسبة المشاهدين والإعلانات.

وهذه الزاوية لو تأملها من أفتى بجواز العمل لكان فيها كفاية لقلبه وعقله أن يرجع عن القول بالجواز ويربأ بالفقيه أن يكون مطية للذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا كما أن فقهاء آخرين اختاروا أن يكونوا مطية للظالم والمفسد، فالمفتي بالجواز هنا استخدمه ملاك القنوات لرفع نسب المشاهدين للفحش والفسق كما أن عالم السلطان استخدمه الحاكم ليثبت شرعيته ويبيض اسمه بعد سرقته وإفساده في الأرض. وفرق بين من كان مطية للخائض في أمور الصحابة ومن كان مطية للخائض في أمور عموم المسلمين. موضوع المسلسل: منهج أهل السنة والجماعة هو ذكر فضائل الصحابة الواردة في السنة والسير والكف عن الخوض فيما شجر بينهم وليس من منهجهم عرض تفاصيل الخلاف على عموم المسلمين، وقد اختار عمر رضي الله عنه عدم التحدث عن واقعة السقيفة وهي حالة واحدة والإشكال فيها ضعيف وبعيد ومع هذا لم يحدث بها الحجيج وهو أفصح وأعلم، ويُقدر على إزالة أي إشكال يقع بعد الخطاب إما بسؤاله أو بسؤال آلاف الصحابة معه، فكيف بمن يريد أن يعرض تفصيلات الخلاف بينهم حول أمور كثيرة سالت فيها الدماء ويشاهد كل هذا ملايين من المسلمين ومع قلة العارفين بمنهج أهل السنة في هذه الوقائع، وانقطاع الحلقات وعدم تتابعها في توضيح الأمور وقد يفوت مشاهدون بعض الحلقات، المجيز هنا يفتح بصنيعه هذا أبواب الشك والتنقص وإيغار الصدور وسوء الظن في الصحابة، ثم يظن المجيز أنه يحسن بذلك لعموم المسلمين فهذا التصور عبث وقلة إدراك، ولهذا يقول الطحاوي في عقيدته (ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير) من ظن أنه بهذا العمل الدرامي سيحل كثيرا من الجدل بين عموم المسلمين اليوم على تلك القضايا فهو واهم ... هو فقط سيوسع دائرة الجدل ويدخل فيه أناسا من عموم أهل السنة كانت عقائدهم صافية نقية. ولو أن المسلم جهل من الناحية التاريخية ما وقع بين الصحابة لما ضره ذلك في دينه عرض الخلاف بين الصحابة بهذه الصورة وعلى عموم المسلمين يراه الجاهل والأعجمي وضعيف الفهم فيه من الفساد والإفساد لعقائد عوام المسلمين الشيء الكثير فان الواجب تربية الناس على حب الصحابة وذكر فضلهم وأي شيء وقع بينهم بعد ذلك هم فيه بين الأجرين أو أجر ومغفرة ولا يعرض خلافهم هكذا على الملأ فهذا مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة وإشاعة تفاصيله من صنيع أهل البدع، وبهذا تعرف سبب تحذير السلف من مخالطة أهل البدع فقد أضعفت حب الصحابة في قلوب قوم فأصبحوا لا يرون في تقمص الكافر والفاسق شخصية خير البشر بعد الأنبياء تنقص لهم، فرحم الله بعض السلف إذ يقول لمبتدع أراد حواره (ولا نصف كلمة)، وإذا عرفت أن بعض أولئك المجيزين لا يرى فرق بين رأي السلف ورأي الرازي زاد يقينك بفقه السلف عندما حذروا من مخالطة أهل البدع. وإن من صنيع الرافضة - في تشييع أهل السنة - أن يبدؤوا بإثارة الخلاف بين الصحابة على طريقة السؤال وطلب المعرفة ومنه ينطلقون إلى التشكيك في دينهم انتهاء بالرفض وهي سلسلة البدء فيها بلا شك ينتهي بالطعن أو السب أو التكفير. قد يحتج بعض الأفاضل أن المسلسل فيه دعوة للشيعة وهي حجة خاطئة، فهل تعتقد أن الشيعة ينتظرون منك أن تعرفهم بتاريخهم فإن مفاتيح عقولهم في جيوب أشياخهم، ثم على فرض بأن هناك عدد من الشيعة سيتأثر بهذا العمل كم عدد أولئك بالنسبة للسنة الذين سيحصل عندهم استفهامات وتشويش سيحدثه المسلسل ولن يوضحها بشكل كاف وقد بدأنا نسمع من بعض من رُبِّيَ على تعظيم الصحابة أسئلة وشكوك عرفوها بعد هذا المسلسل.

وقد عرض بن كثير رواية فيها اتهام للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه بتزوير مكتوب له بإمرة الحج قال بعد ردها وإبطالها (ولكن هذه نزعة شيعية) ومن نماذج إشكاليات المسلسل أنهم مثلوا كلاما على لسان البغاة في عثمان رضي الله عنه فيه طعن في دينه وسب له وكذا مثلوا كلامهم في علي رضي الله عنه، كيف تطيب نفس ذاك الفقيه المجيز إسماع عموم المسلمين الذين لا يعرفون إلا حب الصحابة وفضلهم وسوف يعيشون ويموتون وهم لم يسمعوا مثل ذاك الكلام، كيف يسمعهم الطعن وهم لم يعرفوا إلا التعظيم والحب هذا من قلة الوعي، كيف تطيب نفسه بإجازة تمثيل تلك الأقوال وقد رفض ذاك المفتي مسلسل يمثل فيه أقوالا يقال في إمام دعوته وجماعته المعاصرة وهو أقل بكثير مما قيل في عثمان رضي الله عنه نعوذ بالله من الخذلان. من أكثر ما يستدل به المجيز أنه لا يوجد دليل من كتاب أو سنة يدل على تحريم تمثيل الصحابة وهو غلط ففي القران والسنة عشرات الأدلة تدل على علو قدر الصحابة على عموم المسلمين ووجوب تفضيلهم وحبهم والتمثيل محاولة تجسيد فيه نوع قلة احترام وهو مناقض لتلك النصوص، والقول بأن كل مسألة بحاجة إلى نص يمنعها جهل وقلة علم، فأدلة الأحكام متعددة ولو طردنا القول بالحاجة إلى نص في التحريم لسقط كثير من الشريعة. حوار مع المجيزين للمسلسل: عرف أرسطو التمثيل أنه (محاكاة للطبيعة) وعرفه بعضهم أنه (الكذبة الصادقة) وعرفته موسوعة ويكيبيديا (هو تقمص الشخصيات الدرامية ومحاولة محاكتها على أرض الواقع وتجسيد ملامح وصفات تلك الشخصيات وأبعادها المتباينة في الرواية أو المسرحية المكتوبة) وهو تعريف ناقص لكنه يدل على معنى التمثيل الحقيقي: التقمص والتجسيد أو كما في عبارة أرسطو المحاكاة، ومن ظن أنه يستطيع فعل ذاك مع الصحابة فهو مزر بنفسه وبحاجة إلى أن يعرف منزلة نفسه وخاصة أن الحسن شبيه بالنبي الأكرم، فمن أين سيأتون بشبيهه، والممثلون معروفون بفسادهم وانحرافهم. هنا حالة تشتهر في عالم السينما والتلفزيون الغربي وهي رفض عدد من الممثلين تقديم أدوار شخصيات وأحداث عظيمة في تاريخهم بسبب اعترافهم أنهم أقل من تجسيد تلك الشخصيات أو خشيتهم من تقديم الشخصية بصورة ناقصة. العمل الفني يتكون من عناصر عديدة ومختلفة أهمها النص والأداء أما النص فذكروا أن المشايخ نظروا فيه أما العمل النهائي لا يعرف إن شاهده المشايخ أم لا؟! أداء الممثل في الأعمال الفنية أهم عند رواد الفن من كاتب النص وهو المقصود الأعظم من كتابة النص فقد يكون النص قويا ومؤثرا لكن يفسده أداء الممثل السيئ وقد يكون ضعيفا وركيكا ولكن يحييه الممثل المبدع وكثير من الجوائز والنقاد في (هوليود) يعتبرون الممثل محور العمل الفني، وهم أشهر من الكتاب لنصوص الأفلام والمسلسلات وأكثر تأثيرا، وذكر بعض من أجاز العمل أنهم لم يشاهدوه، وعليه فإن اعتماد المفتي بالجواز على النص وحده دون تقييم أداء الممثلين هو جهل فني وتقصير في الاجتهاد يرد قول المجيز ويضعفه، ولا يجوز له أن يفتي في نازلة لم يستوعب جوانبها فهذا من التجرؤ على الفتيا، ومن أعظم أولئك المفتين جهلا بالفن وحقيقته الذي يقول أن الممثل مجرد أداة إلكترونية محكوم بالنص ومقيد به، هذا أراح الناس من النظر في فتواه، وهذا ما يبين النظرة المقاصدية للمجامع العلمية التي يوجد بها مئات العلماء عندما أفتت بالتحريم، وتعجل من أفتى بالإباحة وأثر ضغوط الواقع والتفاعل الخاطئ معه

بعض من أجاز مسلسل (الحسن والحسين ومعاوية) قال أنه لا يجوز تمثيل الكفر أو الطعن في الصحابة ويجوز حكايته، والأول كثير في المسلسل، فكيف أجاز العمل؟؟ وهو يؤكد شكوك المحرم بأن هذه الأعمال حتى على طريقة المجيز لن يلتزم بها المنتجون وملاك الفضائيات ولابد أن يتجاوزوه بعد أن يستخدموه وفي هذا المسلسل تجاوزوه وهم يستخدموه!!! من مؤكدات تحريم العمل أداء الممثلين في المسلسل فقد كان أداؤهم في غاية الكذب على الصحابة الكرام بمحاولة تجسيد الشخصية بصورة لا يعرف كيف اهتدوا إليها ولا يمكن بحال معرفتها، ثم هم في تجسيدها جسدوها بصورة مؤلمة لكل محب معظم للصحب وهي في غاية سوء الأدب الذي يتفق المجيز والمحرم على أنه حرام ويعاقب صاحبه عليه، فهذا أداء غضوب محتقن موقفه منطلق من ذلك، وذلك أداء بسيط لطيف يمكن استغلاله، وذاك أداء خفيف فارغ يذهب في أي اتجاه، وذاك أداء داهية يستطيع تحريك الناس لرغباته، وذاك أداء شاب متحمس مندفع، وذاك أداء شاك حائر، وذاك أداء مخدوع غافل، وذاك أداء تخويني شاك في صدق غيره، وذاك أداء يتحزب للقبائل وتحركه لا الشرع، وذاك شاب يصادق اليهود ويتأثر بهم، وذاك أداء ملك يعيش حياة الملوك وترفها وأداء أخر في المدينة يأكل الملح مع الفقراء، هذا التخرص في التقمص وما فيه من سوء الأدب هو في الحلقات الخمس الأولى فقط وهي في الخلاف بين الصحابة والبغاة كيف إذا بدأت قصة الخلاف بين الصحابة أنفسهم فإنك سترى شرا مستطيرا - والعياذ بالله - وكثير من الممثلين أداؤهم في المسلسل عند من عرف حقيقة التمثيل ومقاصد الشرع موجب للتعزير، والحجر على من أصر إجازة أدائهم ومما يجب ملاحظته أنه يعرض قبل المسلسل في بعض القنوات أقذر وأفسق وأفسد مسلسل اجتماعي نسائي أخلاقي على مستوى كل القنوات العربية، فأين الفوائد المزعومة من حالة كهذه فتوى المجيز متناقضة وغير متسقة وهو دليل على تساقط القول وضعفه، فهم منعوا تمثيل أشخاص بعض الصحابة وأجازوا تمثيل أصواتهم وهو تحكم بلا دليل إلا إن كان دليلهم الاحترام والتعظيم للصحب فإن هذا يكون لكل الصحابة - رضوان الله عليهم - ولا يكون لصورة دون الصوت، وإجازة تمثيل الصوت دون الصورة دليل للمحرم أن المجيز يجد إشكالا في تمثيل الصحب فمنع بعضه وأجاز بعضه بقصد الاحترام والتعظيم وهو موافقة للمحرم في علة التحريم على المجيز أن يطردها في كل الصحب رضوان الله عليهم وفي كل أنواع التمثيل. ومن الضعف في فتواه أنه أجاز تمثيل الصحابة ولم يرى فيه تنقص وقلة احترام، ومنعه عن أمهات المؤمنين وبناته صلى الله عليه وسلم لأنه قد يؤدي إلى سوء الظن أو التنقص، وتناسى المفتي أن أبا بكر رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير الأمهات عائشة رضي الله عنها، فمنعه في الصحب أوجب من منعه في الأمهات. من الضعف في فتوى المجيز أن معياره في الصحابي الذي يُمثل والذي لا يُمثل غير منضبط، فإن كان معيار المنع من تمثيل العشرة فقد مُثل بعضهم في المسلسل وهناك كثير من الصحابة بشروا بالجنة فهل يدخلون في العشرة عند بعض المجيزين؟ وهل يدخل فيهم من رضي الله عنهم من أهل الشجرة؟ وإن كان ضابطهم الخلفاء الراشدين فإن الحسن خليفة عقدت له البيعة وقد أجازوا تمثيله وحتى ينتظم قولهم كان عليهم أن يفتوا بجواز تمثيل صوته دون صورته كما مثلوا عثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين

من أفتى بالجواز نظر في مصلحة الدعوة والإرشاد والتعليم وبلا شك أن الأنبياء أقرب في تحقيق هذه المصلحة وأكثر تأثيرا، وعليه فإنه يلزمه حتى ينتظم اجتهاده أن يفتي بجواز تمثيل الأنبياء .. هذا اللازم يبين لك بشاعة القول بالجواز وشذوذه، وعدم التزام المجيز هذا اللازم لأن فيه سوء أدب والتعليم فيه سيكون ناقص هذا التعليل لا يختلف عنه في منع تمثيل الصحابة، ليس لأنهم من نفس المنزلة والعياذ بالله بل لأن لهم منزلة الصحبة ولأنهم صورة للمجتمع القرآني الذي يجب أن يبقى معظما محترما، وقد جاء الأمر بتخصيصهم بمزيد احترام وتقدير وأدب. ثم أي مصلحة دعوة وإرشاد وتعليم هذه التي سيتلقاه المشاهد وهو قبل لحظات شاهد نفس الممثل على قناة أخرى في أحضان فتاة يشرب الخمر ويقامر، الناس اليوم يحسبون لمدرسيهم الغلط والزلة حتى يخرجوا من سلطة تعليمهم فكيف بمن يريهم الكبائر والفسق كل يوم على الشاشات كيف سوف يتعلموا منه الإيمان والسنة. وقد أدت دور زينب بنت علي رضي الله عنه امرأة في كامل زينتها وماكياجها وكذا زوجة الحسين-رضي الله عنه-، والأولى مثلت أدوار قذرة في مسلسلات أخرى. يجيب المجيز على اعتراض المحرم - أن الإباحة فيها فتح باب للحاقدين على الصحب- بقوله أن الباب مفتوح منذ زمن والمجيز دخل فيه لضبطه وتنقيته. ومن الأمور العجيبة أن كثيرا من المسلسلات التي مُثل فيها الصحابة كانت ترسخ فضلهم وترشد إلى حسن أخلاقهم مع ما فيها من إشكالات سبق بيانها بينما مسلسل المجيز (الحسن والحسن ومعاوية) كسر هذا الباب وفتح كل نقد واعتراض على الصحب الكرام، فمن هو الذي فتح الباب في مثالب الصحابة ومن أعجب ما يحتج به بعض من أجاز تمثيلهم أن الناس أبدعوا في التمثيل وبلغوا منازل عالية فيه ونحن نتناقش في حكم تمثيل الصحابة؟! يا سيدي الفقيه الناس اليوم أبدعت في تمثيل أمور اتفقت الأنبياء - وليس الفقهاء فقط - على تحريمها هل ينقض إبداعهم قولك إذا امتنعت عن تمثيل تلك الأمور أو ينقض فعلك إجازتك إذا قصرت في إبداعك كما هو حال مسلسلك (الحسن والحسين ومعاوية) المجيز هنا أحد اثنين: صاحب جهل بالعمل الفني وعنده شبهة وتأويل وفي هؤلاء أئمة في الدين وأصحاب علم وفقه ولا يليق بطالب العلم أن يكون عمدته ودليل كل نقاشاته من أجاز فيهم فلان وفلان فهذا تقليد لا يليق بطالب العلم خاصة أن المجامع الفقيهة الكبرى في العالم الإسلام بكافة مذاهبهم على التحريم، ومن فعل ذلك فهو دليل ضعف حجة وعلم. والثاني: صاحب ارتزاق على موائد القنوات وملاكها كما أن هناك مرتزق على أبواب الظلمة والمفسدين. هناك حالة يعيشها بعض فقهائنا المعاصرين وهي السعي لإثبات أن الشريعة تستطيع التعايش والتكيف والاندماج مع أي زمن وواقع وهو معنى فيه حق لكن للأسف ينطلق من هذا المقصد الشريف إلى تطويع الشريعة لذاك الواقع فتشعر أنه لا فرق بين فتواه وبين ذاك الواقع كأنهم خرجوا من مشكاة واحدة فاستوى عنده في المنتج والنهاية فلو أعفانا من اجتهاده لكان الأمر سيان بفتواه وبدونها، وهؤلاء يضيعون على أصحاب العقول الصحيحة والمنطلقات الشرعية الاستمتاع بإبداع الفقيه الذي اشتهر به الفقه الإسلامي هذا من جهة ومن جهة أخرى أضافوا دليلا جديدا إلى أدلة الأحكام وهو التعايش مع (الواقع) والتماهي معه والإغراب في الإفتاء إلى درجة الشذوذ.

بيان الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح

بيان الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح حول أحداث سوريا الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فقد تابعت الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح ما يجري على أرض سوريا من أحداث دامية، وتصرفات مؤسفة يقوم بها النظام السوري الطائفي ضدّ الشعب السوري بأسره. وقد أصدرت الهيئة الشرعية البيان التالي: أولًا: تعتبر الهيئة ما يتعرض له إخواننا في سوريا على يد الحزب البعثي النصيري الحاكم من سفك للدماء وانتهاك للأعراض وإحراق للمساجد والبيوت من جرائم الحرب المحرمة في جميع الشرائع الإلهية والوضعية على حد سواء. ثانيا: تطالب الهيئة الحكومة السورية الممثلة في بشار الأسد وحزبه الحاكم بإيقاف المجازر والاعتداءات الظالمة، والإفراج عن المسجونين، وفك الحصار عن المدن، والاستجابة لمطالب الشعب السوري بتنحيه عن الحكم هو وحزبه. ثالثًا: تناشد الهيئة علماء سوريا أن يوحدوا كلمتهم وينبذوا خلافاتهم ويوجهوا الشعب السوري لما يصلح حاله ومآله؛ حتى لا يستغل هذه المطالبة بالحقوق من لا يفي بها لو تولى قيادة الشعب، كما حدث ويحدث في بعض الدول من سرقة المكتسبات التي تدفع الشعوبُ المسلمة ثمنها غاليًا. رابعًا: على العلماء الموظفين لدى السلطة السورية أن يتقوا الله في أنفسهم وأهليهم من أفراد الشعب السوري وأن يحفظوا دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وألا يسكتوا عن هذا الظلم فضلًا عن الوقوف مع الظالم الباغي، فلعل هذا الموقف أن يكفر ما سبق من تخاذل أو تقصير، وأن يختموا حياتهم بالنصرة لإخوانهم فذلك خير لهم في الدنيا والآخرة. خامسًا: تدعو الهيئة عموم المسلمين إلى مد يد العون إلى إخوانهم في سوريا، وتخفيف معاناتهم ببذل المال والغذاء والكساء والدواء، والدعاء لهم بصلاح حالهم وتفريج كربتهم. سادسًا: تدعو الهيئة جميع المؤسسات الإسلامية؛ الدولية العالمية والمحلية إلى الوقوف مع الشعب السوري المظلوم، ومطالبة الحكم الطائفي النصيري بالتنحي حفظًا للدماء والأعراض، ووفاءً بحقوق الأخوة، وحماية للضعفاء والشيوخ والنساء والأطفال، وتعترض الهيئة على تصريحات أمين عام الجامعة العربية الصادرة بشأن الأوضاع في سوريا. سابعًا: تفتي الهيئة الشرعية الجيش والأمن السوري بمختلف شعبه وأقسامه بحرمة سفك دماء المتظاهرين المطالبين بالحقوق المشروعة والحريات المسلوبة، ولتعلم كل الجيوش العربية والإسلامية أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يعد الإكراه عذرًا شرعيًا في استباحة قتل الأنفس المعصومة. ثامنًا: تطالب الهيئة الإعلاميين الشرفاء بفضح التدخل الإيراني المباشر أو عن طريق عملائه، كالحزب المسمى بـ «حزب الله» وكشف مخططاته. تاسعًا: تدعو الهيئة جموع الشعب السوري إلى الالتفاف حول العلماء الربانيين والصدور عن كلمتهم، والبعد عما يغضب الله، أو رفع شعارات جاهلية قد تكون سببًا لتأخر النصر أو حرمانه. وأخيرًا: تدعو الهيئة أهلنا في سوريا إلى الصبر والتفاؤل، وتبشرهم بالنصر؛ فإن النصر مع الصبر قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. نسأل الله أن يمن على سوريا وسائر بلاد المسلمين بالأمن والإيمان والسلامة والعافية، والحمد لله رب العالمين. رئيس الهيئة الشرعية: أ. د. علي السالوس النائب الأول: أ. د. طلعت عفيفي النائب الثاني: أ. د. محمد عبد المقصود النائب الثالث: فضيلة الشيخ محمد حسان الأمين العام للهيئة الشرعية: د. محمد يسري إبراهيم

الحياد الأجوف

الحياد الأجوف حسن بن علي البار الأحد30 شعبان1432هـ لا يجد المتابع صعوبة ليُدرك حجم الاختلاف، وتعدد الرؤى، وكثرة الأطروحات في واقعنا المعاصر، بصورة هي من سمات هذا العصر، ومن المؤثرات الكبيرة على أهله. بالطبع هذه الأطروحات الكثيرة متباينة وواسعة المدى من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ولكل مقالة منها منتصرون ومنظِّرون، وهؤلاء من لا أريد الحديث عنهم هنا. وإنما أريد أن يكون حديثي عن الجمهور المشاهد الذي تُلقى هذه الأفكار على رأسه في حرب لم يكد يشهد لها التاريخ مثالاً في الضراوة والتتابع!! هذا المستمع والمتابع كيف يصنع مع هذه الحرب، ومع أي قوم يصطف؟ ولأجل هذا الصنف من الناس أسوق عدداً من التنبيهات: 1 - من الأمور ما لا يجوز أن تكون موضعاً للجدل وتداول الرأي عند المسلم، وهي محكمات الشريعة، وقطعيات الأدلة، وهي كثيرة مشهورة يعرفها أهلها، وكثيراً ما تلتبس على مَن سواهم. وهذا النوع من الأمور -إذا وقع فيها الخلاف- الغالب فيها أن المخطئ فيها غير معذور، وأنه أعرض عن الحق أو أنه سلك في تحصيله الطرق غير الموصلة إليه، مع وضوحه، وقُرب مأخذه. ومع أن الحق من صفته دائماً أنه واضحٌ وقريب إلا أنه في هذا النوع أوضح، ومضيِّعُه حينئذ يكون ألوم. 2 - مرجع الأمور الدقيقة في كل فنٍ إلى علماء ذلك الفن، ولا يمكن أن يكونوا على اختلاف مشاربهم، وتنوُّع مداركهم، وتوزُّع أماكنهم، وصعوبة أو استحالة اجتماعهم على هوى واحد= لا يمكن أن يكونوا جميعاً مخطئين، فإن خالفتهم برأيك في أمر، ثم رأيت جماعتهم على رأي واحد غيرِ رأيك؛ فاتهم رأيك ولا تتهمهم، فإن الهوى يُعمي ويُصم، ورأيك أقرب إلى الهوى من رأيهم، وأبعد عن العلمية من دقيق مناهجهم. 3 - من المسائل المطروحة للنقاش ما ليس من المسائل القطعية، ولكن الحق فيها ظاهر، والرأي الآخر فيها له وجهه إلا أنه أبعد عن الظهور، وأقل تحقيقاً للمصلحة الشرعية، فمن المتصور أن يكون من الناس من يجتهد فيؤديه اجتهاده إلى ذلك الرأي، ومن الطبيعي حينئذ أن يكون القائل بهذا والمقتنع به أقل من القائل بالرأي الآخر، ما لم يقتض ذلك أمرٌ من الأمور .. ولكن أن يتحزب مجموعات، ويتنادوا بصوابية الرأي المهجور، ثم إذا نظرت وجدته مؤدياً إلى موافقة طريقة الحضارة الغربية (الغالبة) في التفكير والنظر إلى المسائل، في الوقت الذي يأباه أكثر أهل العلم الراسخين، فهناك اعلم أن ذلك من التداعي للهوى لا للعلم، وأنه من باب تقييم المصالح والمحاسن برأي (الآخر) ثم دفع المفاسد والقبائح (التي يراها الآخر كذلك) عن النفس!! 4 - طائفةٌ من الناس تُعرض عن كل ذلك اشتغالاً بدين أو دنيا .. وهذا ممدوحٌ من جهة الاشتغال بما ينفع عما لا ينفع، ومن جهة عدد من النصوص الشرعية الآمرة بالإعراض عن الشبهات، وعن اللغو .. ولكن هؤلاء الناس لا يجوز أن يكونوا مجموع الأمة، لأنهم مع تباعدهم عن العراك الفكري إيجابيه وسلبيه إلا أنهم ليسوا بمعزل عن التعرُّض لسهامه، أو تعرُّض أهليهم لذلك. وكم في الناس من منغلق على نفسه، مناوئ للصالح والطالح من الأطروحات مَن انفتحت عليه فجأة فغرق في شبرٍ منها، وخُطف بالكلية إلى الضفة الأخرى. وهؤلاء الناس كذلك لا يندفع بهم فرضُ الكفاية عن الأمة في مدافعة الباطل، والمجاهدة بالقرآن. قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيراً، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها. وهذا مقتضى استخلاف هذه الأمة بالشهادة على العالمين.

5 - وطائفة أخرى لزمت الحياد، ووقفت وسطاً بين شتى المذاهب، يوماً يمانون، ويوماً عدنانيون. يسمع من ذا وذا ويُعجبه رأيُ ذا، وأصالة ذاك، وحُجة هذا، أو بريق مقولة الآخر .. وهكذا. يظن ذلك من الثقافة، ويؤزه على الاستمرار على هذا النهج مقولات من نحو: عدم احتكار الحقيقة، وأنه لا حق مُطلق، وحرية كل طرف في التعبير عن آرائه، واحتمال صوابية تلكم المقولات ... وما إلى ذلك من هذه الدعاوى الفضفاضة. وحين ينظر هؤلاء الإخوة إلى الآخر بهذه النظرة، ويطالبوننا بها؛ فياليتهم يُطالبون الآخر بها كذلك. فهذان طرفان لكلٍ منهما طريقةٌ ومذهب، فما مذهبُك أنت؟ وما هي طريقتك؟. إن الحياد بين الكفر والإيمان، والتردد بين صوابية أهل الإسلام أو أهل الكتاب، التردد الأعمى بين معسكر الشرق ومعسكر الغرب، الليبرالية والسلفية، العلمانية والإسلامية، الديمقراطية والشرعية، الشيعة والسنة، البدعة والاتباع، الظالم والمظلوم .. الخ هذه الثنائيات= ليس بصواب، ولا هو دليل عمقٍ فكري، ولا يمتلك صاحبه اليقين الراسخ بحقائق الأمور. فهو يتمظهر بالثقافة والحياد، والحياد بعد ظهور الحق= توسُّطٌ بين الحق والباطل، وهو مذموم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))، وفي التنزيل الحكيم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] فأمر بالحياد والإصلاح حتى تظهر مخالفةُ العدل والصواب؛ وحينها يجيء الأمر بالانحياز إلى الحق وأهله، ونُصرتهم على من ناوأهم. 6 - لبعض الناس في نصرة الحق طريقةٌ عجيبة، فهم أبداً مع المنتصر، ولديهم قدرةٌ عجيبة على أن يُبصروا النقطة السوداء في الثوب الأبيض، متى ما كان ذلك يحقق لهم رضا من يُريدون رضاه، وهم كذلك يُبصرون النقطة البيضاء في الثوب الأسود، ويدَّعون أن هذا مقتضى الإنصاف .. فاحذر من هذه المسالك، فإنها لا تزيد أصحابها إلا قُبحاً!! وهو نوعٌ من التأكُّل بالمبادئ، والعياذ بالله. 7 - الشيطان الأخرس أضعف وأقل شراً من الشيطان الناطق، وبعض الخُرس عن الحق يسكتون دهراً ثُم ينطقون فُجراً، وحينئذ يحسُن أن تقول: ليته سكت .. 8 - أهل العلم والعدل، والمعرفة العميقة بالذات وبالآخر من أهل الدين الحق لا يزيدهم مخالفة المخالف لهم، وهُزؤه بمبادئهم إلا إيماناً وتثبيتاً. {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] انظر كيف جعل في نفس الأمر الذي فيه الفتنة على الكافرين زيادةً في إيمان المؤمنين، واطمئناناً لمن كان منصفاً ممن نزل عليهم الكتاب من قبله. إن أهل الإنصاف المزعوم، والتوسُّط في غير محله = مداهنون؛ يظنون أن أسلوب المجاملة والتملُّق نافعٌ في كل حين، وهو دليل ضعفٍ في شخصياتهم، وضمور في يقينهم. وهذا الداء قد استشرى في هذا الزمان، ووصل إلى فئام كثيرةٍ من الناس؛ فتفقد نفسك يا أخي، فلعلك تُخلِّصها من بعض رواسب هذا المرض العُضال، سلَّمك الله من كل شر. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون .. اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.

هل واحد من بينكم يعرف معنى الشام؟!

هلْ واحدٌ منْ بينكمْ يعرفُ معنى الشَّام؟! طالب بن عبد الله آل طالب السبت29شعبان1432هـ 1 - كانت الطائرةُ تهبطُ بنا تدريجيًا سماءَ دمشق .. وكنتُ منصرفًا بكلِّ حواسّي لمتابعة المنظرِ الذي تطلُّ عليه النافذة .. لا أدركُ منه سوى ما يمنحهُ النظرُ الكليل .. هذه الأرضُ المباركةُ .. فكحّلْ عينَك أيّها العاشق .. يحتضنُها من الشمال الجبلُ الأشمُّ قاسيون .. وعلى جانبيها جنّتان .. أرضٌ درجَ عليها الأنبياء .. وسَرى بليلها الضياء .. وكان بها عزّ الإسلامِ .. ومدفنُ العظام العظام .. تكادُ تجدُ تحت كل صخرة أثرًا من ذكرى .. وحكايةً من غرام .. لم يبلغ بي الشوقُ لزيارةِ أرضٍ كما فعلَ بي مع الشام .. ولم أروِ منها نظري بعدُ .. وقد كرّرتُ زيارتها مرّاتٍ ومرات .. أعْلنوا من غرفةِ القيادة: مرحبًا بكم في مطارِ دمشقَ .. وقد وفوا لدمشق فلمْ يخطِفوا اسمَ المطار لكبيرٍ ولا صغير .. وللمكانِ قداسةٌ وذكرى لا يحسنُ أن تنتهكها أسماءُ الذوات .. 2 - كان بي شوقٌ لرؤية القلعةِ التي سُجن بها شيخُ الإسلام .. وزيارة مرابعِ الحنابلة الكرام .. والصلاةِ بالجامع الأموي .. والتبضّعِ من سوق الحَميديّة .. ورشفِ قطراتٍ من برَدى .. والوقوفِ على قاسيون .. كان صوتُ ابن تيمية الحرّاني يسْري في خلَدي وهو يُقرّر "أنه قد جاء في فضل الشام وأهله أحاديثُ صحيحة .. ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره .. وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره". وكانَ عليُّ الطنطاويُ يتسامى في بيانٍ عجيب: "دمشق .. وهل توصف دمشق .. هل تُصوّر الجنةُ لمن لم يرها .. كيف أصفُها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود .. من يكتبُ عنها وهي من جنات الخلد الباقية .. بقلمٍ من أقلام الأرض فانٍ .. دمشق التي تعانقها الغوطةُ .. الأم الرؤومُ الساهرة أبدًا. تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة وقهقهة الجداول المنتشية من رحيق بردى .. الراكضة دائما نحو مطلع الشمس .. " وكانَ نزارُ بن توفيق يُنشدُ في حزنٍ كبير: "مسقطُ رأسي في دمشقَ الشام هل واحدٌ من بينكمْ يعرف أينَ الشام؟ هل واحدٌ من بينكم أدمن سكنى الشام؟ رواه ماءُ الشام كواهُ عشق الشام تأكّدوا يا سادتي لن تجدوا في كل أسواق الورود وردةً كالشام وفي دكاكينِ الحُلَى جميعها .. لؤلؤةً كالشام لن تجدوا مدينةً حزينةَ العينين مثلَ الشام" وكنتُ في مقتبلِ حياتي حفيًّا بثقافةٍ يأسرُها فقهُ عالمٍ وجمالُ أديبٍ وإبداعُ شاعر .. لا تؤاخذُ كلّ طرفٍ بما يريده الآخرون .. ففعلت بي تلك النقولُ الأفاعيلُ .. وشقَّ بي ذلك التكوينُ .. وأدركتُ أنَّ لنفسي من هوى الشام زمانًا لا يزدادُ إلاّ مدة .. ونظرًا لا يرتدُّ إلاّ أكثرَ حدة .. وحقائق لا تستطيع وصفَها دقائقُ السطور .. 3 - خرجنا من المطار .. وفاجأتني الصورُ التي لم تكن وقتئذ موجودةً ببلدي .. تدعو بالبقاء للرئيسِ المعظم .. وتهتفُ باسمه المجيد .. وتزعم أنّه سيكون القائدَ للأبد .. البناياتُ والطرقات .. الأنفاقُ والجسور .. المدارسُ والدور .. ما الأمر .. سألتُ السائقَ .. فأجابني: صدِّقني يا بُنيّ الصورُ حين تخرج من القلوب تسكنُ الجدران .. لم يكنْ بعد ذلك البيانِ بيان .. حانت مني التفاتة للخلف .. وإذا صورة السيد الرئيس على الزجاجة الخلفية لسيارة صاحبنا .. عدت لسؤاله من جديد وأجاب على الفور: لنتذكر لعنه في كل حين .. أخذتنا فترةُ صمت .. وتلفّتنا بكل اتجاه .. ثم قال بعد تنهيدة طويلة "مغلوبون على أمرنا يا سيدي .. والله مغلوبون".

4 - لمْ يستغرق الأمر طويلاً لأتبيّن حقيقة قول نزار: لن تجدوا مدينة حزينة العينين مثل الشام .. وقد رأيتها بعد طُهر الأمويين ملطّخة بأدران البعث .. لا تكاد تقضي لك بها شأنًا إلاّ بدفع رشوة .. يحاصر بها الكبراء حريات المساكين .. وبردى يغالبُ سلسالاً من الماء تراه يجري مرة ويختفي مرات .. وبنايات قديمة جدًا ومركبات .. ومظاهر من فوضى وشتات .. ذات يومٍ وأنا أتجوّل بسوق الحميدية .. وعلى حين غفلةٍ مني .. خطف صبيٌ محفظتي .. ولم يكن بها سوى ما يعادلُ ألف ليرة .. أدركه العسكري الذي استنجدت به وبعضُ المارة فأمْسكوه .. وحين أعادوها لي قررت مسامحَته .. إلاّ أنهم أشعروني بأهمية الأمر .. وطلبوا منّي التوجه معهم لمخفرِ الشرطة .. ضاعتْ عليّ فرصةُ الاستجمام ذاك اليوم .. ولم يزلْ رئيسُ المخفر - وهو ينفث دخانه باتجاهي - يؤكّد لي حرصه على أمنِ السائحين .. ويستعرض قدراته في استنطاق السارق الصغير باستخدام عصا كهربائية كانت معه حتى اعترف .. ثم استمرّ يتحدث بإشارات كثيرة مفهومة وغير مفهومة كلفتني أخيرًا حين أدركت مغزاها ألفي ليرة .. وددت أنها كانت بيد الصبيّ الجائع وليس الشرطيِّ الشبعان .. وقررت بعدها ألا أمنعَ محفظتي أبدًا من يد أي سارقٍ بالشام .. وحزنت حزنًا كبيرًا .. هربتُ من حزني ذاك إلى حي الميدان .. وزرتُ العالم النبيلَ عبد القادر الأرناؤوط أسأله عن صحة حديث ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)) فقال لي: "نعم هو حديث صحيح، ولا يزال بالشام خير كثير" وكان فعلاً حين أعدتُ النظر خيرٌ كثير .. 5 - كان منظرُ قاسيون من بعيد يحيّي على الزيارة .. وله مغناطيسٌ يجذب إليه الأرواح .. من قاسيون أطلُّ يا وطني فأرى دمشقَ تعانقُ السُّحُبا تراه وقد ارتفعت في سفحه الأحياءُ حتى تكاد تبلغ منتصَفه .. وهو شامخٌ كـ"قاسيون" لا تستطيع أن تجد له وصيفًا فتقاربَه به .. لم يعط الدنيّة لمستبدّ .. أو يضع رأسَه لطاغوت .. وقالوا في سبب تسميته أنه قسا على المشركين فلم ينحتوا منه صنمًا .. هو المَعلم الأثيرُ هناك .. يُشرفك على دمشق وغوطتيها .. ويوقفك على صورةٍ متحركة لا تفترُ من زحام الأسواق وضجيج المركبات .. ويرحلُ بك في الذكرى .. لتنعم بمشاهد لا يستطيعُ وصفَها البيان .. فيها وعْظ الأرواحِ سابقٌ لقرار العيون .. وحديثُ الهوى متقدمٌ على جميل اللحون .. ومزيجٌ من غرام قديم وذكرياتٍ وشجون .. 6 - وحين عرفتُ عن دمشقَ الإجمال على ظهر قاسيون .. ذهبت أبحثُ عن التفاصيلِ في زواياها .. الصالحيةُ ودمشق القديمة .. والمكتبةُ الظاهرية وقبر صلاح الدين .. وباب توما .. ومقبرة بابِ الصغير .. والجامع الأموي، وقد كان تحتَ كلّ ساريةٍ فيه حلقة علم .. والبناياتُ المعمّرة الهازئةُ بقصر أعمار الآدميين وغرورِهم .. ودروب طويلة تسير فيها القدم فتتعب .. ولا تتعب الروح .. ثم وردتُ بيتَ صديقي الشاميِّ ضيفًا وهم أهل ودّ وضيافة فرأيت عجبًا .. الفسحةُ السماويةُ في بطن الدار .. لا يسترها سقفٌ .. ينفذ لها الهواء .. وتتوسطها نافورةُ ماء .. لا تكاد تخطئها البيوتُ الشاميّة .. ونقوشٌ معروفة اللون والأشكال تكسو الأرائكَ والجلسات .. وفاكهةُ المشمش أولُ غرامٍ يعانق في الضيافة شفاهك .. والماء الذي لن تشرب مثله .. حتى لو حملته معك لبلدك .. يفقد عذوبتَه بمغادرة الديار .. وأحاديثُ ماتعة تغلب فيها طريقةُ الكلام الفكرة .. ويذهب معها الخيالُ في سكرة .. ويتخللها كما يقول الشاعر نزار: حزنٌ كبير ..

7 - وفي يوم قائظٍ من أيام آب اللهاب .. خرجتُ إلى الزبداني .. وصلتُ إلى نبعِ بردى .. شربتُ من عذب مائه حتى ارتويت .. وتجوّلتُ بمركب له مجاديف في بحيرتِه الصغيرة .. ثم انصرفتُ إلى مزرعةٍ قريبة تؤجر للراغبين .. جلستُ في عريش قد هيّؤوه .. والسواقي الباردةُ إلى جواري تدلُّ مياه بردى على أشجار الثمار المختلفة .. وأقبلت فتاتان صغيرتان اسم واحدةٍ منهما ميسون .. تعملان مع أهلهما في خدمة المزرعة .. وهما المسؤولتان عن واجبِ الضيافة .. رأيتهما تغسلان الآنيةَ من الساقي .. ثم تسيران إلى تلك الأشجارِ فتقطفان من ثمارها ما تطوله يداهما الصغيرتان .. حتى استتمَّ لهما سبعةُ أنواع أو ثمانية .. من أشهاها الكمّثرى وثلاثةُ أنواع العنب .. ثم ترشّان عليها ماء باردًا له لون بردى وطعمُه .. وتقدمانها لي .. ولا والله ما ذقتُ شيئًا أشهى أو هكذا يُخيّل لي .. وكأني أستعيدُ رشفَ بردى في تشكيلاته الجديدة .. وما ذقت طعمَ الماءِ إلاّ استخفّني إلى بردى و"الطفلتين" حنينُ 8 - ولم أزلْ بعدُ في كل رحلاتي التي وصلتُ بها سِدني بـ"كندا" .. والبرازيلَ بأمريكا .. لم أزلْ أجد من أهل الشامِ علماء وصالحين تفرّقوا في الديار .. وتركوا لذّة العيش بأوطانهم مطرودين وملاحقين .. مُنيةُ الواحدِ منهم أن يروي ظَماه من بردى .. أو يعفّر جبهتَه بتراب الشام .. وفي كلمات أستاذ الحنين الشاميِّ الزركلي خير مثال عليهم .. وهو يترنم بهذه الأبياتِ .. يلفظ معها آخر أنفاسه على ضفاف النيل: العينُ بعد فراقها الوطنا لا ساكنًا ألفتْ ولا سكنا ريانةٌ بالدمع أقلقها أنْ لا تحسَّ كرًى ولا وَسَنا يا موطنًا عبث الزمانُ به من ذا الذي أغرى بك الزمنا عطفوا عليك فأوسعوك أذًى وهمُ يُسمّون الأذى مننا وحنَّوا عليك فجرّدوا قضبًا مسنونةً وتقدموا بقنا يا طائرًا غنّى على غصن والنيلُ يسقي ذلك الغصنا زدني وهجْ ما شئتَ من شجني إنْ كنتَ مثلي تعرفُ الشجنا أذكرتني ما لستُ ناسيَه ولربّ ذكرى جدّدت حزنا أذكرتني بردى وواديَه والطيرَ آحادًا به وثُنى وأحبةً أسررتُ من كلفي وهواي فيهم لاعجًا كمنا كم ذا أغالبُه ويغلبني دمع ٌإذا كفكفتُه هتَنا لي ذكرياتٌ في ربوعِهمُ هنَّ الحياةُ تألّقًا وسنا ليت الذين أحبّهم علموا وهمُ هنالك ما لقيتُ هنا وهكذا كان شأنُ الثلاثةِ الرفاق .. فأمّا ابن تيمية فقد حُبس بالقلعة .. وما كانوا يضطرون أحدًا للرحيل .. وبقي قبرُه عند التكيّة السليمانية .. يقول الأستاذ زهير أحمد ظاظا: في شتاء عام (1996م) كنت أتجوّل في دمشق بالقرب من التكية السليمانية فاستوقفني سائح أوروبي يسألني بالعربية: هل يمكن أن تساعدني؟ فقلت له: على الرحب والسعة وفي ماذا أساعدك؟ فأخرج خريطة للمواقع الأثرية في مدينة دمشق وقال لي: أنا أبحث عن قبر ابن تيمية وحسب الخريطة يجب أن يكون هنا .. وأشار إلى مكان بالقرب من مشفى الغرباء بجانب كلية طب الأسنان القديمة ... ثم زرت قبر ابن تيمية فرأيت شاهدةَ القبر مكسّرة متناثرة حول القبر ولم يبق منها إلاّ كلمة (تيمية) والتقطت مجموعة صور للقبر ومعه قبر تلميذه ابن كثير .. أه .. وأمّا الطنطاوي فقد كتب الله له بمقبرةِ العدل مكانًا .. غريبًا هناك إلى جوار الكعبة في البلد الحرام قضى وهو يقول: "حرم الله الجنة من حرمني رؤية قاسيون" وأمّا نزارُ فقد فاضت روحه بعيدًا طريدًا .. ثم حنّوا على جسده .. فقبلوا دفنه إلى جوار والده تحت شجرة زيتون بالشام ..

9 - هذه هي الشامُ .. بستانُ الروح .. والفخرُ بها للمادح لا الممدوح .. نغار من الطيور التي تحومُ سماءها .. لا يُطلب منها تقديم ولاءٍ ولا اصطناعُ ودّ .. ونغتاظُ من الأيدي التي لم تزل تهدمُ من مجدها صروحًا لا تستردّ .. ونؤمل في صبحٍ يَطوي الليلَ الخانق .. وتتنفسُ له الأزهار .. وتشرق به شمس الهناء والخلاص .. ويا ساكني الشام كلِّها .. من حلب المتنبي وحمص ابن الوليد .. إلى اللاذقيةِ وحماة النواعير .. ومن أذرعات إلى جسرِ الشغور .. استلهموا مجدكم من تلك الزوايا .. وخذوا عزمكمْ من تلك الطرقات .. وجُدّوا في سبيل تطردون بها الأسدَ .. وذوي الأنياب حوله .. وتنهون حكم الغاب .. واغسلوا عن دمشق -أرجوكم- قذى علق بثيابها .. وامسحوا غبارًا استطال على لمّتها .. واكتبوا لكم في سفر الخلود ثورة .. يترحم لها القادمون على شهدائكم .. ويكبرون بها مسعاكم .. وتضجّ لها مساجد الدنيا بالتكبير .. ثورة يبردُ لها رفات الأمواتِ في أرضكم .. وتعودُ من أجلها الطيورُ المهاجرة .. وتطلبون بها الثأرَ ممن ظلمكم .. ثورة تبترون بها اليد التي تساهم في تضييق أرزاقكم لتتبعوها .. وتقطعون بها الوتينَ الذي يتاجرُ بعداء إسرائيل وهو لم يَنلها برصاصة .. أراضيكم كلُّها شام .. وما لرقاعٍ من أرض الله فخرٌ أثيلٌ بمجد الإسلام كفخركم .. رسول الله زار أرضكم .. وما زار العراق ولا مصر ولا اليمن .. ولكم في قلوب العالمين مقامٌ عليٌّ ومؤتمن .. وكثير من الصحابة دخلوا الشام منهم: أبو عبيدة، وسعيد بن زيد، ومؤذن رسول الله بلال، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وسيف الله: خالد بن الوليد، وابن عم رسول الله: الفضل بن عباس .. قال الوليد بن مسلم: "دخلت الشامَ عشرةُ آلاف عينٍ رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومئات الكتب التي نقرؤها ابتدأت سطورها في دواوينكم .. الطبراني وابن عساكر .. وابن الصلاح والذهبي .. والنووي وابن كثير .. وابن رجب وابن القيم .. والمزّي وابن قدامة .. وسواهم كثير .. درّسوا بحلقاتكم .. وكتبوا بمدادكم .. وتنفّسوا هواكم .. ولولا دمشق ما كانوا وما كانت الأندلس .. ولا زهت ببني العباس بغداد .. ولا كانت فتوح الإسلام العظام .. 10 - وفي ارتباط أرضِ الشام بالحرية وبعثِ العزم يقول العالمُ ابن تيمية: "ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء .. وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمينَ على غزو التتار .. وأمري لهم بلزوم دمشق .. ونهيي لهم عن الفرار". والطنطاويُّ الخبير بها وبأهلها يقول: "وأهل الشام كالماء .. لهم في الرضا رقته وسيلانه .. وفي الغضب شدّته وطغيانه .. بل ربما كان لهم من البركان فورانه وثورانه". ونزار القباني يفخرُ بدمشقَ وهو لا ينفكّ عن حزنهِ فيقول: يا دمشقُ البسي دموعي سوارًا وتمنّيْ فكلُّ شيء يهونُ وضعي طَرحَةَ العروس لأجلي إنَّ مَهْرَ المُناضلات ثمينُ رضيَ اللهُ والرسولُ عن الشام فنصرٌ آتٍ وفتحٌ مبينُ استردّت أيامَها بكِ بدرٌ واستعادت شبابَها حطينُ بك عَزّتْ قريشُ بعد هوان وتلاقتْ قبائلٌ وبطونُ صَدَقَ السيفُ وعدََهُ يا بلادي فالسياساتُ كلُّها أَفيُونُ صدق السيفُ حاكمًا وحكيمًا وحدَه السيفُ يا دمشقُ اليقينُ علّمينا فقهَ العروبةِ يا شامُ فأنتِ البيانُ والتبيينُ علّمينا الأفعالَ قد ذَبَحَتْنا أحرفُ الجرّ والكلام العجينُ علّمينا قراءةَ البرق والرعد فنصفُ اللغاتِ وحلٌ وطينُ أوقدي النارَ فالحديثُ طويلٌ وطويلٌ لمن نحبُّ الحنينُ واركبي الشمسَ يا دمشقُ حصانًا ولك اللهُ حارسٌ وأمينُ ومرّت الأيامُ .. ومضى الرفاقُ الثلاثة .. وبقيت الشامُ .. تنقل صورَها الشاشاتُ .. وتتابع ثورتَها الأقلام .. وعشاقٌ بعيدون هناك في كل أنحاء العالم يردّون صدى الصوتِ الذي ينادي برفعِ الظلم .. ويحرّكون أقدامهم في دروبِ الحريّة .. يعتقدون أن ليس ثمَّ بلدٌ أولى بالثورة من بلادهم .. ويمدون أيديهم نحو السماء يصيحون: يا ربّ .. يا ربّ .. يا ربّ .. ومطعمهم ثمارُ الشام .. ومشربهم مياهُ الشام .. وملبسهم غرامُ الشام .. وغُذّوا بالشام .. فعسى أن يُستجابَ لهم ..

رسالة من رابطة علماء المسلمين إلى الشعب التونسي

رسالة من رابطة علماء المسلمين إلى الشعب التونسي رابطة علماء المسلمين السبت29شعبان1432هـ الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء خاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: فإن رابطة علماء المسلمين تهنئ شعبنا المسلم في تونس بحلول شهر رمضان المبارك، ونسأل الله -تعالى- أن يكون هذا الشهر العظيم فرصة كبيرة لتجديد الدين في أرض الزيتونة والقيروان، وقد سرنا كثيراً عودة الناس إلى المساجد واعتزازهم بعقيدتهم وهويتهم بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع، وسرنا عودة المدارس والكتاتيب القرآنية، ونحوها من المظاهر التي تدل على أصالة الشعب التونسي، وسلامة فطرته. لكن التيار (اللائكي) الإقصائي الذي فرض قبضته الحديدية السياسية والفكرية على تونس لعدة عقود ساءته تلك الصحوة الشعبية، بعد أن تبين له أن ذلك النموذج الحداثي المعادي للدين الذي كان يتشدق به، قد ظهر بناؤه هزيلاً هشاً، وليست له جذور حقيقية في النسيج الاجتماعي التونسي، وإنما كان يستمد قوته وبقاءه من العصى الأمنية الغليظة التي فرضت خياراتها السياسة والفكرية بلغة القهر والاستبداد والقمع الشمولي. وصدق المولى - جل وعلا -: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17] وبالرغم من سقوط رأس النظام، إلا أن كثيراً من صناع المشروع العلماني وحماته لازالوا في دائرة القرار، ولهذا تعاملوا بتشنج وتوتر مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورة، خشية أن تذهب مكتسباتهم السابقة أدراج الرياح، فسعوا لخطف ثمرات الثورة المباركة بوسائل متعددة، من أهمها: أولاً: استفزاز الشعب التونسي المسلم بالهجوم على ثوابت الشريعة الإسلامية، والاستهزاء بالمقدسات العقدية، من أجل خلخلة كيان المجتمع، وقطع طريقه نحو الكرامة والحرية. وفي هذا السياق موَّلت وزارة الثقافة من أموال الشعب إنتاج فيلم سينمائي يكفي ما حمله عنوانه من تطاول: (لا الله .. لا سيدي)، ذلك العنوان الذي تجاوز حدود الأدب واللياقة الأخلاقية في التطاول على الذات الإلهية، والترويج لثقافة الإلحاد، والتمرد على المقدسات، بحجة الحرية والإبداع. وتزامن مع ذلك جرأة غير مسبوقة من بعض الأكاديميين وبقايا اليسار لإنكار السنة المشرفة، والقدح في مقام النبوة، والتطاول على أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها، وعلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، مثل تحريم الخمر، والدعوة إلى الشذوذ الجنسي، ونحوها. ثانياً: تشويه صورة الدعاة والمصلحين، وتقديم صورة نمطية جائرة تصفهم بالتشدد، وتسعى لإلصاق التهم الملفقة بهم دون حجة أو برهان، كتهمة قتل القسيس البولوني، والاعتداء على الكنيس اليهودي، ونحوها من الأحداث التي تبين فيها للخاص والعام كذب تلك الدعاوي، وحجم التحريض والتزوير الذي يتعرض له الدعاة الصادقون. من أجل ذلك كله فإننا نخاطب الشعب التونسي المسلم بمحبة وإشفاق، ونذكره بالأمور الآتية:

أولاً: إن التطاول على الذات الإلهية وعلى مقام النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أعظم الموبقات وقد توعد الله - عز وجل من يتجرأ على ذلك باللعنة والعذاب في الدنيا والآخرة، قال الله -عز وجل - في محكم التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 5، 6] ولدينا يقين بأن الله - عز وجل - كتب على أولئك المتطاولين الذلة والصغار في الدنيا والآخرة- ان لم يتوبوا ويرجعوا إلى الله - رغم محاولة بعض وسائل الإعلام تلميعهم وتزيين صورتهم أمام الرأي العام، وصدق المولى - جلَّ وعلا - إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] ثانياً: الحرية التي تتطلع لها الشعوب العربية ومنها الشعب التونسي المسلم هي الحرية المسؤولة التي تستنقذه من آسار القهر وقيود الاستبداد، وتراعي كرامة الأمة، وتقدر عقيدتها وهويتها وجذورها التاريخية. وليست الحرية التي تختزل في تحقيق أهداف مشبوهة تستهين بكرامة الشعب، وتناقض هويته، وتتطاول على عقيدته، وتجرحه في أعز ما يؤمن به، ثم تستقوي بالأجنبي لفرضها بالقوة؛ والأمة لن تقبل بذلك النمط من الحرية، و (لن تنحي يدها) مطلقاً عن الدفاع عن نبيها صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام - رضي الله عنهم أجمعين-، بل يجب أن يتنحى أولئك القوم المحادون لله ورسوله عن المقدسات والثوابت، ويدركوا أن الشعب التونسي الأبي لن يرضى الدنيَّة في دينه بعد اليوم. ثالثاً: من حق الشعب التونسي المسلم أن يغضب لله - تعالى -، وأن يغار على دينه، وأن يذب عن مقدساته، ويصون حرماته، امتثالاً لقول الحق - تبارك تعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. وقوله - عز وجل -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. وغضب الشعب التونسي بكافة شرائحه الاجتماعية إزاء تلك الانتهاكات الصارخة دليل بيِّن على جذوره الإسلامية العميقة التي لم تغيبها عقود العلمنة والتغريب، وقد سرنا أن عموم الشعب وخاصة الشباب ممَّن لا تظهر على بعضهم سيما التدين تمعرت وجوهم غضباً لله - تعالى-، وغيرة على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكد أن الذب عن الدين ليس مهمة العلماء أو أئمة المساجد فحسب؛ بل هو مسؤولية عظيمة في رقاب جميع المسلمين (رجالا ونساء) ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ونؤكد ها هنا أن مواجهة الاعتداء على حرمات الأمة ليست مسؤولية الشعب التونسي وحده، وإنما هي مسؤولية جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ممن يواجهون المد العلماني في كل البلاد التي قامت بها الثورات الشعبية وغيرها من بلاد المسلمين، والسعيد كل السعادة من يستعمله الله - تعالى - في طاعته وينصر به الدين. رابعاً: من واجب وزارة الشؤون الدينية في تونس أن تنزع لباس السليبة واللامبالاة، وتمارس مسؤولياتها الشرعية بجد، وتقف مع الشعب في صف واحد ضد من يسعى لتسفيهه، والاستهانة به، وتحطيم مقدساته والتطاول على حرماته.

خامساً: نحسب أن الشعب التونسي الغيور على دينه قادر بعون الله - تعالى - على أن يقدم أنموذجاً راقياً في الاحتجاج السلمي، والإنكار بحكمة وروية، والتعبير عن رأيه بهدوء وتوازن، مترفعاً عن اللجاج واللغط وسفساف الأمور، ونائياً بخطابه الإسلامي وبرامجه الدعوية عن المناكفات الحزبية والصراعات الشخصية، فمقدسات الأمة أجلّ من ذلك كله وأسمى، وينبغي أن يظل الشعب التونسي المسلم معتصماً بقول الحق - جلَّ شأنه -: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، وقوله - تبارك وتعالى - {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. كما نحسب أن الشعب التونسي المسلم يدرك أبعاد ومرامي تلك الفقاعات الإعلامية المصطنعة، ولذا فهي دعوة لضبط النفس، والتحكم بردود الأفعال، وأن يكون واعيا لمحاولات الاستدراج التي تتقصد استفزاز الشباب ودفعه إلى العنف وإسقاطه في شَرَك الفوضى والاحتراب الداخلي؛ من أجل أن يكون ذلك مسوغاً أمام الرأي العام المحلي والدولي للتراجع عن استحقاقات المرحلة التاريخية التي تمر بها البلاد. ولاشك أن التشنج في المواقف، والتسرع في ردود الأفعال لن ينصر حقاً ولن يدفع باطلاً، بل قد يجر إلى مفاسد أعظم، والنظر في مآلات الأفعال والأقوال علامة من علامات الوعي والنضج؛ فالشريعة المطهرة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، ولهذا نوصي الشباب وعامة الشعب بالرجوع إلى علمائهم الربانيين، والتشاور مع شيوخهم الثقات، والتواصل مع علماء الأمة والتعبير عن آرائهم برؤية شرعية ملتزمة هدي الكتاب والسنة. سادساً: نوصي إخواننا في تونس من جميع الاتجاهات الإسلامية بتقوى الله - عز وجل - والاعتصام بحبله المتين، والسعي الحثيث لتحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون والتكامل، وإحياء فقه النصيحة والتواصي بالحق، والبعد عن الاختلاف والتنازع والتشرذم، امتثالاً لقول الحق - جل وعلا -: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) متفق عليه , وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «الخلاف شر» رواه البخاري فالمرحلة التاريخية التي تمر بها البلاد تتطلب صدقاً مع الله - تعالى -، وتجرداً من الأهواء، وأفقاً واسعاً يتجاوز المكاسب الحزبية والتطلعات الشخصية؛ فالمعركة التي حمي وطيسها لا تستهدف فصيلاً أو تياراً بعينه، وإنما تستهدف الإسلام نفسه، وها أنتم ترون كيف تواطأت الاتجاهات اللائكية في الداخل والخارج لتحقيق ذلك، فعليكم بالاجتماع والائتلاف وإياكم والفرقة والاختلاف. سابعا: لن يحل مشكلات الأمة إلا بالسعي الجاد الحكيم لتحكيم كتاب الله وسنة رسوله وتطبيق شرعه وفق منهج أهل السنة والجماعة، وذلك بروية وحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. أخيراً: نذكر إخواننا في تونس المسلمة ونحن في مطلع هذا الشهر الكريم بضرورة الأوبة الصادقة إلى دين الله، والمسارعة إلى التطهر من أدران الذنوب كبيرها وصغيرها، واستثمار هذه الأيام المباركة بتطهير النفوس من رين المعاصي ورجس الآثام. ونوصي إخواننا الأئمة والدعاة باغتنام إقبال الناس على الطاعات وتذكيرهم بالله -عز وجل- والرفق بهم، واللين في دعوتهم، وسعة الصدر في تصحيح أحوالهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه باليسر والسماحة في تبليغ الدين، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى رضي الله عنهما أوصاهما قائلاً: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) رواه مسلم، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه الزكية بقوله: ((إن الله لم يبعثني معنفاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً)) رواه مسلم. نسأل الله - تعالى - أن يجعل لأشقائنا في تونس الحبيبة نصيباً وافراً من التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن ينصر هذا الدين، وأن يرد عن أهله شر الأشرار وكيد الفجار. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم رابطة علماء المسلمين الخميس 27/شعبان/1432هـ الموقعون: الأمين الحاج محمد أحمد رئيس الرابطة، السودان د. عبدالرحمن المحمود، نائب رئيس الرابطة، السعودية محمد سيديا (النووي)، نائب رئيس الرابطة، موريتانيا أ. د ناصر بن سليمان العمر، أمين عام الرابطة، السعودية د. عبد العزيز التركي، مساعد أمين الرابطة، السعودية د. عبدالمحسن زبن المطيري، مساعد أمين الرابطة، الكويت

حمى الضنك الفكري

حمى الضنك الفكري بدر بن سليمان العامر الخميس 27شعبان1432هـ قد لا يصدق أولئك الآباء المبتعدون عن واقع الشباب وخاصة في عالمهم الافتراضي أي مرحلة فكرية وصل إليها أبناؤهم، ربما لا يدري أحدهم أن ولده الذي إذا رآه خارجا إلى الصلاة مشى معه إلى المسجد، يصلي ويركع ويقرأ القرآن، ولكنه في نفس الوقت يدخل عالم النت ليعلن أنه يتبع مذهب "اللا أدرية"، أو مذهب "الشكاك"، أو مذهب "الإلحاد الصريح"، فكم رأينا شبابا من أبناء هذه البلاد، يتسمون بمحمد، وعلي، وسعود، وعبد الله وهم في حقيقتهم أصبحوا لقمة سائغة لدعاة الإلحاد، والانقلاب على الدين وأهله، يتحدثون في قضايا أفنى العلماء أوقاتهم في جدالها من قضايا الفلسفة وأفكارها ومناهجها، فتجد من لحن كلامهم، ومن تغريداتهم، ومقالاتهم التي يكتبون ضنكا فكريا يحيطهم من كل جانب، وشكاً في مسلمات الدين والعقيدة، وإنكاراً للخالق سبحانه وتعالى، وسبب ذلك فكرة تمر على البال ينفخ فيها الشيطان، أو شبهة يقرؤها في ميادين الإلحاد التي تحاول خلخلة الإيمان، وزرع الشك والريبة في عقول أبناء المسلمين. إن قضية الإلحاد ليست قضية فكرية مجردة عن سياق الشخص الاجتماعي، بل هي حركة "نفاق" جديدة، يتعاطى الشاب مع محيطه الذي يعيش فيه على أنه مسلم، يتصرف بتصرفات المسلمين، ويسير على سلوكهم وطريقتهم، بينما يحمل في طياته حقدا وغلا على دينهم ونسقهم وثقافتهم، يتظاهر أمامهم بالديانة وهو في حقيقته يحمل فكرة تتجاوز نطاق الأديان كلها، حين ينكر الخالق وسر الخليقة، ويبشر بالأفكار العدمية التي تنزع أي قيمة للحياة، فتسلب من الشخص الطمأنينة النفسية، والاتساق الاجتماعي، والولاء للجماعة، قد انشغل فكره في الأسئلة الكبرى التي لم يستطع أن يجد لها جوابا، وقد ألهاه هذا كله عن بناء ذاته ومستقبله، ولربما أدى به هذا إلى ممارسة كل سلوك بلا ضوابط أخلاقية أو دينية أو اجتماعية بسبب المفاصلة بينه وبين كل هذا. إن التساؤل حول القضايا الكبرى أمر يقع لأي إنسان، بل إن دفعه سماه النبي صلى الله عليه وسلم صريح الإيمان، فإن الشيطان يأتي للإنسان المسلم فيسأله من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول: من خلق الله، فحين اشتكى الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: أوجدتم هذا؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان، كما جاء في صحيح البخاري، أي أن دفعكم لهذا الوسواس الشيطاني هو صريح الإيمان، فإن علق بذهن الفرد سؤال حول الإيمان والخلق والوجود، فإنه يتوجه إلى العارفين بالأمور، الذين كتبوا وألفوا ليستفيد منهم، وهذا أمر لا شيء فيه، إنما الإشكالية حين يتبنى الشباب هذه الأفكار باعتبارها مذاهب يدعون لها، وينافحون عنها، ويجادلون حولها عبر معرفات مجهولة كثيرة، ومعروفة قليلة، بل انتقل هذا إلى نقاش مجالس تقام حوله الحوارات الطويلة، وهذا أمر خطير على الديانة والمجتمع ومستقبل البلد وأمنه. إن جزءا مهما من توجه الشباب إلى مثل هذه الأفكار هو الضعف الشديد في طبيعة الخطاب الديني الذي ينصرف عن مناقشة هذه القضايا من خلال الأدلة العقلية والعلمية والنقلية، والذي يدلل على قضايا الإيمان من خلال توافق النص الديني مع القضايا العقلية القطعية، وبيان العلاقة بين الدين والعلم باعتبارها علاقة اتساق وتكامل، وتجلية خطاب القرآن على أنه خطاب يخاطب العقل كما يخاطب العاطفة، وأن مسائله الكبرى قد قامت على الإقناع العقلي، وليست هي قضايا تسليمية بلا برهان، فالقرآن مليء جدا بالحوارات العقلية التي أقنعت المخاطبين بتوافقه مع مقررات العقل البشري، والتي توصل إلى حقيقة سر الوجود، وعظمة الخالق، وترسيخ الإيمان في النفوس.

إن طغيان الخطاب الوعظي وغياب الخطاب العقلي الذي يركز على "دلائل النبوة" العقلية، أدى إلى تسطيح الخطاب الديني، الأمر الذي لا يتوافق مع العقلية الشبابية الجديدة، والتي انفتحت على مختلف الثقافات والأفكار، وأسهمت التقنية الحديثة في الوصول إلى الأفكار المحظورة، وهذا الواقع الجديد يحتاج إلى تجديد الخطاب، والقراءة في السنن الكونية، والكشوف العلمية، وترقية الأسلوب الشفاهي والخطاب الدعوي ليكون متوافقا مع مرحلة الحياة البشرية، وهو جزء من حركة التجديد الذي تحتاجه الشريعة بناء على متغيرات الزمان والمكان. إننا لو قارنا الخطاب الديني والذي يحضر من خلال القنوات الفضائية، أو من خلال ما تقذف به المكتبات من إصدارات مع الخطاب الوعظي سنلحظ بلا شك طغيان الخطاب البسيط على الخطاب المقنع، والذي يخاطب عقل الإنسان ووجدانه فيرسخ فيه معالم الإيمان، ويحفظ عليه دينه واستقراره، مع وجود محاولات جيدة على قلتها تعتني بكشف شبهات الإلحاد، وإقناع العقول بصحة مقررات الشريعة، وإثبات الخالق للكون من خلال الأدلة العقلية، ومع ذلك هناك ندرة في الدراسات الجادة حول هذه القضايا وخاصة الرسائل العلمية التي تخرج من الأقسام الشريعة والتي عليها مسؤولية كبيرة في الاهتمام بهذا الجانب الخطير والكبير. إن هذا الواقع الجديد، والذي يترحل ليصبح ظاهرة يحتاج إلى إعادة النظر في مناهجنا العلمية، سواء الرسمية أو الدروس التي تعقد في المساجد والمحاضرات العامة، فالمسؤولية تقتضي أن نعرض الإسلام والإيمان على أنه قادر على حل مشكلات الفكر الإنساني، وقد كان العلماء المسلمون في التاريخ يهتمون بهذه القضايا حتى برز أئمة كبار كالغزالي وابن تيمية وابن رشد وغيرهم من بعض المهتمين من المعاصرين ممن دحض وأسس وناقش وقعد القواعد، ولكنها جهود لا تكفي بسبب تطور مسالك العلوم، واكتشاف الكشوفات الجديدة والتي تحتاج إلى عقلية اجتهادية جديدة، تصوغ قيم الإيمان بقوالب تتوافق مع طبيعة العقول المعاصرة. إن المحزن حين ينشغل الكثير بصراعات هامشية، يتقاتلون على مسائل لا تنصر حقا ولا تخذل باطلا، تبذل جهود كبيرة بالليل والنهار على قضايا لا يعرفها إلا خاصة الخاصة من أهل العلم، وتنشغل العقول وتغرق بمناقشة قضايا خلافية أو ظنية دائرة بين راجح ومرجوح، وتهلك همم الشباب وتشغل بأمور لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بينما تتقاصر عقول هؤلاء عن مناقشة مثل هذه القضايا الكبرى التي تمس أصل الديانة والإيمان، وتمس أس الحياة الاجتماعية، والضحية في نهاية المطاف هم أبناؤنا الذين صنعنا منهم لقمة سائغة لكل مغرض يريد أن ينقلهم عن درب الهداية والدين إلى درب الضنك والضلال والإلحاد والريبة بسبب الإعراض عن مرادات الله ورسوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]

وجوه سلفية

وجوه سلفية لطف الله خوجه 23شعبان1432هـ التنوير هدف التنوير: النهوض بالأمة. وسيلتاه: إبطال الاستبداد، وجمع الأمة. فالعائق أمام الهدف: - الاستبداد السياسي؛ بمعنى التفرد بالحكم وتوارثه، ينتج ضعف الأداء السياسي، وتقديم مطامح النخبة على مصالح الأمة. - تفرق الأمة سنة وشيعة وغير ذلك، يدخل الأمة في متاهات التناحر والضعف واستغلال القوى الغربية. العلاج: إزالة العائقين. بطريق: - نشر الديقراطية؛ القاضية على الحكم الفردي الوراثي، المانعة من الاستبداد وتوابعه، التي ترجع إلى الأمة دورها في اختيار الحاكم وأسلوب الحكم. - إضعاف المؤسسة الدينية؛ لدورها في ترسيخ الاستبداد السياسي، بفتاواها المرسخة لطاعة ولي الأمر ومنع مخالفته أو الخروج عليه، بأي نوع ولو بالمظاهرة السلمية. ودورها في إضعاف الأمة بموقفها السلبي من الفرق الإسلامية، بإخراجها من حضن الأمة بدعوى التبديع. كل ما سبق من: هدف، ووسيلة وعلاج. يندرج ويجتمع تحت مفهوم واحد هو: الحرية. نهوض الأمة وإبطال الاستبداد وجمع الأمة كل ذلك يتحقق من طريق الحرية. أساس المشكلة الجمعية هو: الاضطهاد للمعتقد، وللرأي. والاضطهاد يقع في صورة: التدخل في النيات، والتفتيش في القلوب، والحكم بالضلالة والتبديع، وتكميم الأفواه، والحبس وتوابعه. كلها تعالج بالحرية. في التنوير مفاهيم أساسية: الحرية، النهضة، الامة الواحدة، الديقراطية، منع الاستبداد السياسي والديني. في تقويم فكرة التنوير نرى التنوع؟. فالهدف النهضوي متفق عليه؛ فلا يوجد على الأرض معارض لنهضة الأمة إلا معادي. واعتبار الاستبداد السياسي والتفرق الديني عائقا أمام الهدف، غير متفق عليه بإطلاق؛ بل في صورة دون أخرى. متفق عليه إذا أدى ذلك فعليا إلى اضطهاد وتخلف، ليس إن لم يؤد إلى ذلك، وهو متصور. ذلك؛ لأن التاريخ احتوى على دول ذات حكم استبدادي فردي وراثي أورث نهضة حقيقية. وذات صبغة دينية واحدة - سنية أو غيرها - وكانت قوة عظمى نهضوية. ودول ديمقراطية لم تحقق إلا الاضطهاد وتوابعه كالتخلف، كحال كثير من الديقراطيات الحديثة، وأخرى فردية استبدادية، ذات توجه فكري أوحد، احتلت مركزا في القوى المتقدمة العظمى. إذن ليس التخلف والاضطهاد مع الحكم الفردي أو المذهبي الواحد كقاعدة مضطردة. وعليه فيسقط ما فرضه التنويري عائقا مطلقا (= الاستبداد السياسي، الاختلاف الفرقي) نعم لو فرضه في حال دون حال فقد صدق. لو أخذنا الوجه المتفق عليه؛ في حال حكم استبدادي وفرقة فرقية كانت سببا مؤكدا ثابتا في عرقلة النهضة، وهو الوجه السلبي للحكم والتفرقة: كذلك، فالمعالجة التنويرية للعائقَيْن فيها نزاع وعدم اتفاق كلي. فأهل التنوير يطرحون الديمقراطية حلا أصيلا منسجما مع الشريعة، لا بل يؤكدون أن الإسلام دعا إليه، وأن طريقة تولي الخلفاء الراشدون للخلافة ما كانت إلا بطريق الانتخاب الديمقراطي. خطأ فاحش يضعف اليقين ويفقد الثقة بالمشروع التنويري كليا، وينظر إليه مشروعا تحريفيا لمبادئ الدين المنزل؛ إذ الفرق بين النظامين الإسلامي والديمقراطي من الظهور، بحيث يجعل منهما شرعة ومنهاجا مختلفين كليا، فكيف يتخطى التنويري هذا الظهور، فيزعم ألا اختلاف، إلا أن يظن في الآخرين نقصا في الفهم، وعاهة مانعة من التمييز، تتيح تمرير هذا التضليل الصريح؟.

ربما كان أحسن لمشروعه، أن يقر بما هو كالشمس في ظهوره من التباين ما بين المنهجين، وفي استعمال مبدأ: "الضرورة تبيح المحظورة". مندوحة عن ذلك التحريف. فقد أجاز علماء الإسلام الدخول في الديمقراطيات القائمة بإعمال هذا المبدأ واستندت إليه، وربما يجيزون حتى إنشاءها وابتداءها إذا لم يكن ثمة سبيل لردع الظالم إلا من طريقها، باستعمال مبدأ: "ارتكاب أدنى الضررين". كل هذه المخارج الشرعية غفل عنها التنويري، مصرا على شرعنة الديقراطية، لأحد سببين: - إما لأنه جاهل بالطرق الشرعية لحل المشكلات المعاصرة. - أو أن استغراقه في مشاريع التنوير، وإعجابه المتنامي لكل ما هو غربي، عطل عقله عن الرجوع إلى مصادر الشريعة، وأنساه قاعدة كبرى لا تغيب عن بال القرآني المهتدي بالنور الإلهي: أن من لم يحكم بما أنزل الله حكم بغيره، وهو كفر، والديمقراطية لا شك أنها ليس حكم الله، بل حكم الشعب. أما المشروع التنويري لإضعاف أو المؤسسة الدينية الرسمية أو المستقلة على حد سواء، فتلك الخطوة المستكرهة، والتنكر لأفضال من جعل للتنوريين قيمة ولو في نفوسهم. فهؤلاء التنورييون هم ذوو ماض وخلفية إسلامية لا تخفى، نشؤوا على أيدي العلماء، وبما عندهم من علم نالوا الفهم والإدراك، ومن دونهم ما كانت لهم همة في شيء يذكر، إلا أن يشاء الله، غير أنهم في كل الأحوال لم يدخلوا في الوعي بحال الأمة وأسباب الوهن والضعف وتسلط العدو إلا بالتلمذة على أيديهم بالعلوم الشرعية والدعوية والثقافية. وبعد أن قوي عودهم - أو هكذا ظنوا- ارتدوا على أساتذتهم بسوء الأدب، والطعن في صحة دينهم، واتهامهم بالممالئة للسلطان، وفي أقل أحوالهم أنهم مغفلون لا يدركون ما يدركه أهل التنوير من أمر الواقع. الخطأ في هذا، وسم جميع العلماء بوسم واحد، والغفلة التامة عما لكثير منهم من أدوار حية في معالجة القضايا العامة، منها المعلن، ومنها غير المعلن. والخطأ في هذا، مطالبة كل عالم بعينه أن يكون مثالا للتضحية والإنكار العلني في القضايا التي يحددها أهل التنوير خاصة، وإلا فهو وغيره من أسباب تردي الأمة!!. لا ينظرون إليهم من زاوية أخرى؛ زاوية الرأي الآخر، فربما يرى رأيا غير ما يراه أهل التنوير، اتسعت صدورهم لكل الآراء، حتى رأي الضالين والمغضوب عليهم إلا الذين أنعم الله عليهم. لهذه المشكلة حل يسير، هو: أن يعمل أهل التنوير في خدمة قضية التنوير دون همز أو لمز في مواقف الذين أفنوا أعمارهم في تعلم علوم الشريعة وتعليمها، ويكونوا كأحد الأعلام الذي قال كلمة أخذ ماءها من حكمة إلهية: "نعذر العلماء إذا قصروا في معرفة أمور الواقع، والأمة بعضها يكمل بعضا". هذا كلام من يفهم مكانة العلماء، ويقدر شيبتهم في الإسلام على القرآن والسنة، لا يغالي فيهم، ولا ينفي حقهم ومكانتهم، تكلم به مدركا أحوال الأمة وما تحتاجه للنهضة، علم أن من ذلك: عدم إهدار جهود ومكانة أساتذة الدين. تكلم به، وأكثر هؤلاء التنوريين لم يناهزوا الحلم إلا توّاً؟!. أما صنيع التنويري فهو مستكره، يريد إسقاط من يحمل القرآن والسنة بفهم السلف رأسا، كهول التنوير يقصد ذلك قصدا، والشباب منهم لا يدركون جناية ما يمارسون، حماستهم اللاواعية تقودهم بغرور وعمى إلا قليلا منهم، لم يصطبغوا بصبغة التنوير كليا.

من الأمور التي يستعملها أهل التنوير لإسقاط العلماء، اتهامهم بممالئة السلطة، والذي لا ريب في أن مواقف العلماء من السلطة متنوعة مختلفة، لا يصح جمعهم في بوتقة واحدة، غير أن أكثرهم لهم رأي في طريقة التغيير والإصلاح، لا يتفق في مجملها مع طريقة التنوريين، الذين ينطلقون من غير ضوابط واضحة، سوى مجرد التغيير، فهم يؤيدون تغيير السلطة دون دراسة العواقب والنتائج، بل ويفرضون نتائج إيجابية ابتداء عن طريق التخمين والظن لا أكثر، وهذا بدا جليا في تناولهم للثورات العربية، والأيام تكشف أن كل عملية تغيير غير محسوبة، تحمل معها آثارا أسوأ مما كان، فبحسب تاريخ الثورات، لم تأت ثورة بالجديد الأحسن، إنما الأسوأ، فهل ستكون الثورات العربية استثناءا في التاريخ؟. مضى حتى اليوم أكثر من نصف عام لم تحقق ثورة أهدافها مع تعاظم التضحيات ودخول بعضها في حرب أهلية طاحنة، هذه النتائج تثبت حدس العلماء. لا يلزم عن الموقف الرافض لتغيير السلطة عن طريق المظاهرات، ممالئة ووقوفا كاملا مع السلطة، كما لا يلزم عن الموافقة نفاق أو تلاعب بالدين، ويمكن أن يفسر في نطاق الاجتهاد المحض، لكن التنويري يضيق باجتهادات العلماء الذين تعلم على أيديهم، ولا يضيق بالمخالف للسنة أو الملة. هذا، وإن وجود ممالئين باعوا دينهم بعرض من الدنيا حقيقة لا ينكرها أحد، لكن الحذر من تهمة أحد بشخصه أو تعميمه على الجميع. الإصلاح هم لازم لكل مخلص صادق، ليس التنويري وحده، حيث إن كثيرا من الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والدينية، تعتورها آفات لا يصح السكوت عنها، والساكت عن الحق شيطان أخرس، لكن الطريق ليس بالإسقاط الكلي للآخر فيما تميز به من موقف، كلا، بل هذا يستفاد منه في تأصيلاته، وهذا في مبادراته، وهكذا تجتمع القلوب والجهود. الخطأ في مبدأ: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29] كما هو في قوم ليست لديهم أية مبادرة ولا شيء من التأصيل، سوى الرصد والنقد للعلماء. قضية أخرى من مبررات الإسقاط: موقف العلماء - خاصة منهم أساتذة العقيدة - من جنوح الفرق كالشيعة، بالتحذير من تقارب يلغي الهوية السنية، ويوقع تحت الهيمنة الشيعية، فالفروق العقدية الأصلية راسخة بيّنة، فلا اجتماع حقيقي إلا بتحول كلي تجاه الآخر. هذا الموقف الراسخ لم يرق للتنوريين، ولا يزال الجميع يذكر المناوشات حول التحليل العقدي، إبان بداية ثورة حزب الله في لبنان في 2006، فقد مارس التنويري تهكما وسخرية بالعقدي وتحليلاته للخلاف الشيعي السني، ثم ما لبثت الأيام كشفا عن صحة رأي العقدي في الشيعة وحزب الله، عام واحد فحسب كان كفيلا، لكن ذلك لم يردع التنويري - بعضهم تنبه لهذا - فراح يزيد ويمعن في العناد، وهو في زيادة من هذا منذ بدا، حتى كان هذا العام؛ حيث تعرضت بعض دول الخليج لتهديد حقيقي من رعاياها من الشيعة، خطر لم يسع الليبرالي والسياسي إلا أن يقر به ويسعى في كفه، وهو أبعد ما يكون عن طريقة التحليل العقدي، غير أن التنويري إما ساكت، والسكوت في هذا الحال انحياز، أو يتكلم بالمنطق ذاته الذي درج عليه .. لم يعتبر مما كان!!. صحة موقف العلماء وأهل الاختصاص العقدي في هذا كان ينبغي - أدبا - أن يسجل ويقر به، لكن ذلك لم يتلطف به تنويري؟!!. أخيرا: فإن مما يوقف على جنوح طريقة التنوير، المظاهرة الواضحة منهم لأطروحات الليبراليين، في قضايا الحريات الفكرية والثقافية، والمرأة، والفرق المخالفة، بل يكاد التوافق بينهم يأخد مداه البعيد، حتى إنك لتعجز عن التفريق بينهم في ألسنتهم ومنطقهم، حتى لتقول: سبحان ربي!، هذه وجوه سلفية، بثياب ليبرالية، تزعم أنها تنويرية إصلاحية.

البيان الثاني بشأن الأحداث في سوريا

البيان الثاني بشأن الأحداث في سوريا مجموعة من العلماء والدعاة الخميس 13 شعبان 1432هـ الحمد لله والصلاة والسلام على إمام المرسلين وآله وصحبه الغر الميامين, أما بعد: فإن ما يتعرض له الشعب السوري على يد نظامه من التنكيل والإرهاب بالضرب والسجن والتعذيب والقتل والتمثيل بالأحياء والأموات، وإحراق المساجد والبيوت ونهب الأموال وانتهاك الأعراض، بل وقتل الجنود الذين يمتنعون عن قتل المدنيين الأبرياء .. كل ذلك بلا ذنب إلا أنهم طالبوا سلميا ببعض حقوقهم المشروعة من الحرية والكرامة ورفع المظالم. إن هذا لمن أعظم الظلم الذي يجب الجهر بإنكاره. قال الله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]، وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ... )) رواه مسلم، ومن أشنع وأقبح الإثم والعدوان الذي حرّم الله معاونة أهله، بل أوجب مقاومته ورفعه. قال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وهو إجرام لم تعهده الشعوب من حكامها الظلمة، بل ولا من أعدائها المعتدين عليها. فكيف يسع أحداً السكوت على ذلك وقد حرّم الله ما دونه على نفسه وجعله بين الناس محرما!. وإننا إذ نجدد موقفنا السابق بإدانة هذا الإجرام والاعتداء على الشعب السوري من خلال البيان الذي صدر بتاريخ 5/ 5/1432هـ ونؤكد على الأمور التالية: 1. إن النظام السوري الذي ركب متن حزب البعث ليخفي مرجعيته الباطنية، قد جمع بين كفر وحقد الباطنية والرافضة، وجرائم البعث. فهو فاقد للشرعية في دين الله وفي قوانين البشر. 2. إن هذا الحزب الفاسد قد الحق الأذى بكل من لم يكن خادما تابعا له، حتى ولو كان من طائفته. فيجب عدم تعميم جريرة النظام على أبناء الطائفة. كما يجب فضح مَن يقف في صفوف هذا الحزب، مهما كان انتماؤه العرقي والديني. 3. نؤكد على الطبيعة الدموية والإرهابية لهذا النظام منذ نشأته، ونذكر العالم بأن الجديد هو فضح هذا السلوك القمعي وتعريته أمام العالم في وسائل الإعلام الحديثة. 4. الغرب الصليبي والنظام الرافضي الصفوي كلاهما يدعم النظام السوري ويحميه، ونحن نطالب دول الغرب والشرق أن تكفّ عن حماية هذا النظام المستبد المرفوض شعبيا، وأن تتذكر أن مصالحها هي مع الشعب السوري وليس مع النظام المستبد الزائل. ونذكر الأمة بأن النظام الرافضي الإيراني وأذنابه سيتخندقون مع النظام ضد الشعب. لأن علاقتهم به علاقة دين ومبدأ. ولن تتخلى إيران عن النظام السوري حتى يتخلى الغرب عن إسرائيل. 5. إن قضية الشعب السوري قضية عادلة فهي منصورة بإذن الله وفق سنته {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ولا يزال أمرهم في ظهور حتى يتم الله نعمته عليهم إذا صبروا وأحسنوا. أما النظام الطائفي فقد أعذر الله إليه وأمهله فبغى وأسرف، فهذا أوان هوانه بإذن الله {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]. ونحن على يقين أن أحدا لن ينقذه من بأس الله.

6. وعليه فإننا ندعو جميع المترددين والمتفرجين داخل الوطن السوري وخارجه أن ينحازوا إلى الشعب السوري وينصروه فقد أقبل أمره واتّجه، وأن ينفضوا أيديهم من النظام الذي ولّى وأدبر، وهو ساقط من عين الله بما ظلم وكفر وأجرم، وعلى المترددين أن يعتبروا بأنظمة كانت دونه في الظلم كيف أذلهم الله. وشعوبٍ ليست أكثر شجاعة من الشعب السوري كيف انتزعوا حقوقهم. وانطلاقا مما سبق وتأسيسا عليه فإننا نتوجه بندائنا ومناشدتنا - نُصرَةً ونُصحاَ - إلى كل أطراف الشأن السوري. وإلى كل من يهمه أمر هذا الشعب فنقول: 1 - على علماء سوريا في الداخل والخارج مسئولية جسيمة في تأييد مطالب الشعب، وحماية ثورته من الانحراف أو سرقة الأهداف. ونناشد علماء السلطة السورية أن يتقوا الله في أنفسهم ويصدعوا بكلمة الحق. وألا يكونوا عونا للظالمين، فهم أعرف الناس بفساد نظامهم وكفره ومظالمه. 2 - نذكّر الشعب السوري بأهمية الالتفاف حول المخلصين من العلماء والمصلحين. وأن يحذر كل الحذر من استغلال الأعداء لهذه الظروف في تحقيق أهدافه الفاسدة، فلن ينقذ بلاد الشام ويحفظها بعد الله إلا شعبها الصامد. وعلى القادرين من التجار وشيوخ العشائر أن يجاهدوا بأموالهم وجاههم في مصلحة الشعب. 3 - إن الشعوب والهيئات ومؤسسات المجتمع المدني في كل بلد مدعوّة للوقوف مع الشعب السوري ماديا وإعلاميا وحقوقيا. والضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف تعبر عنهم. ونعبّر عن عميق أسفنا ودهشتنا من غياب المنظمات والحكومات العربية والإسلامية وصمتها عن قول كلمة حق في أبشع مجزرة يرتكبها نظام معادٍ لشعبه ولوسطه العربي والإسلامي.! ونحذر من أن هذا الصمت يعطي الذريعة لكراهيتها. 4 - نؤكد دعمنا وشكرنا لموقف تركيا حكومة وشعبا من مأساة إخوانهم في سوريا. ونأمل أن تكون مواقف الحكومة التركية بعد الانتخابات أكثر وضوحا وقوّة وحسما، ونطالب جيران سوريا أن يحذوا حذوها. ونحذر الحكومة اللبنانية أن تتخلى عن واجبها تحت ضغوط حزب الله والنظام السوري. 5 - نناشدكم أفراد الجيش والأمن أن تكفوا عن قتل الشعب، المطالب بحقوقكم المضحِّي من أجلكم. واعلموا أن انحيازكم للشعب سينقذ الجميع من الظلم. وانظروا كيف كان انحياز الجيش التونسي والمصري للشعب سببا في حقن الدماء واختصار معاناة الناس. وعلى النظام السوري التنحي فورا ومنع كافة الانتهاكات وصور القمع وتزييف الحقائق. وأن يُسَلّم السلطة للشعب الذي قال فيه كلمته. 6 - وأخيرا أيها الشعب السوري المرابط: أبشروا فإن إجماع الناس منعقد على شرف مواجهتكم ومشروعية جهادكم السلمي. ويكفيكم هذا شرفا .. فهنيئا لمن يقتل منكم صابرا محتسبا .. {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] ولا تستطيلوا الطريق فإنكم من النصر قاب قوسين أو أدني، وجاهدوا عدوكم بالصبر، واهزموه باجتماع الكلمة. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]. اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان وانصر إخواننا في بلاد الشام على القوم الظالمين، واجمع كلمتهم على الحق، وسدد رأيهم واحقن دماءهم وارحم موتاهم واشف مرضاهم وفك أسراهم واخذل عدوهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أسماء الموقعين على بيان سوريا 1432هـ 1. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن ناصر السحيباني، عميد كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سابقاً 2. فضيلة الشيخ/ د. عبدالعزيز بن عبدالمحسن التركي، المحامي والمستشار

3. فضيلة الشيخ/ أحمد بن عبدالله آل شيبان العسيري، مستشار تربوي 4. فضيلة الشيخ/ د. أحمد بن عبدالله الزهراني، عميد كلية القرآن بالجامعة الإسلامية سابقاً 5. فضيلة الشيخ/ د. خالد بن عبدالرحمن العجيمي، أستاذ جامعي سابق 6. فضيلة الشيخ/ د. وليد بن عثمان الرشودي، جامعة الملك سعود 7. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن سليمان المسعود. القاضي بالمحكمة الشرعية 8. فضيلة الشيخ/ بدر بن ابراهيم الرجحي، القاضي بالمحكمة العامة بمكة 9. فضيلة الشيخ/ محمد بن عبدالعزيز الخضيري، جامعة الملك سعود 10. فضيلة الشيخ/ عبدالله بن ناصر السليمان، المفتش القضائي بوزارة العدل 11. فضيلة الشيخ/ د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف، أستاذ مشارك بجامعة الإمام 12. فضيلة الشيخ/ د. مسفر بن عبد الله البواردي، عضو المجلس البلدي بمدينة الرياض 13. فضيلة الشيخ/ حمود بن ظافر الشهري/ مشرف تربوي 14. فضيلة الشيخ/ د. ناصر بن محمد الأحمد، الداعية الإسلامي 15. فضيلة الشيخ/ علي ين إبراهيم المحيش، رئيس كتابة عدل الأحساء المتقاعد 16. فضيلة الشيخ/د. ناصر بن يحيى الحنيني، المشرف العام على مركز الفكر المعاصر 17. فضيلة الشيخ/د. عبدالله بن ناصر الصبيح، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 18. فضيلة الشيخ/ د. حسن بن صالح الحميد. جامعة القصيم 19. فضيلة الشيخ/ مبارك بن يوسف الخاطر، قاضي محكمة دوس 20. فضيلة الشيخ/ د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي، رئيس مركز التأصيل للدراسات والبحوث 21. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن سليمان البراك الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى 22. فضيلة الشيخ/ د. عبد الله بن عمر الدميجي، عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى 23. فضيلة الشيخ/ د. محمد بن عبدالله الهبدان عضو رابطة علماء المسلمين. 24. فضيلة الشيخ/ سعد بن علي العمري، عضو دعوة في عسير 25. فضيلة الشيخ/ علي بن يحيى بن عبدالله، مشرف تربوي 26. فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله المبدل، أستاذ مساعد في جامعة الملك سعود 27. فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، المشرف العام على موقع المختصر 28. فضيلة الشيخ/ عبدالله بن علي الغامدي، أمين لجنة الشباب بالطائف سابقاً 29. فضيلة الشيخ/ أحمد بن أحمد ضبعان، الداعية الإسلامي 30. فضيلة الشيخ/ حسين بن محمد شامر، إمام وخطيب جامع الإمام مسلم 31. فضيلة الشيخ/ أحمد بن حربان المالكي، تعليم عسير 32. فضيلة الشيخ/ محمود بن إبراهيم الزهراني، الداعية الإسلامي 33. فضيلة الشيخ/ د. موفق بن عبدالله كدسة، أستاذ مساعد 34. فضيلة الشيخ/ د. عبد اللطيف بن عبد الله الوابل، أستاذ مساعد بجامعة الملك سعود.

البيان الثالث من رابطة علماء المسلمين

البيان الثالث من رابطة علماء المسلمين الواجب على المسلمين نحو القضية السورية الثلاثاء11 شعبان1432هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وآله وصحبه الغر الميامين, أما بعد: ? قال سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ? لا إن ما يتعرض له إخواننا من الشعب السوري الأبي الكريم؛ في خلال الأشهر الماضية لهو ظلم وإجرام وبغي وعدوان، فلقد حصل خلال العقود الماضية حروب متعددة في عدد من دول العالم يحصل فيها الاعتداء والظلم، وتحصل المقاومة من الشعوب، لكن ما يحدث في سوريا فاق ذلك كله، فهو اعتداء من الحزب الحاكم النصيري العلوي على أبرياء لم يحملوا سلاحاً ولم يعتدوا على أحد. لكنهم يطالبون مطالبه سلمية عادلة ببعض حقوقهم المشروعة من الحرية وبعض حقوقهم المنهوبة، سواء أكانت شرعية أو معنوية أو مالية أو شخصية، لكن هذا الحاكم وحزبه المجرم لا يريدان لأحد أن يطالب بأي حق من حقوقه، ولذا فإن هذا الاعتداء السافر الذي تنوع من ضرب وسجن وتعذيب وقتل وتمثيل متعمد حتى للأطفال والنساء والشيوخ وإحراق للمساجد والبيوت ونهب للأموال واغتصاب للأعراض وقتل للجنود الذين يمتنعون عن قتل المدنيين الأبرياء, لهو من أعظم الظلم والقهر والاستبداد والفساد في الأرض, وصدق شيخ الإسلام وعالم الشام ابن تيمية رحمه الله حيث قال (هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين) ... إلخ، ? وإننا إذ ندين هذا الإجرام والاعتداء على الأبرياء من إخواننا وأهلينا وعامة الشعب السوري نوضح أن الحزب الحاكم حزب نصيري علوي بعثي كافر، أسفر عن حقيقته في حقده وفساد معتقده يوم طالب الشعب السوري بأدنى حقوقه الت ي كفلها له الإسلام، ولقد اتضح ظلم هذه الحكومة وإجرامها في حق هذا الشعب الأعزل. ? ومع هذا البلاء العظيم فإننا نذكر إخواننا بوعد الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، ? فالنصر قريب بإذن الله لمن نصر الله، وسعى لر فع الظلم، ومقت الظالمين {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ? ومن منطلق الإخوة الإسلامية التي قال عنها ربنا جل وعلا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وكذلك حرص الإسلام على رفع الظلم أياً كان المظلوم مسلما كان أو كافراً فالإسلام دين العدل والإخاء والكرامة لا يقبل الظلم على المسلم ولا من المسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما .. )) وبناءً على ما سبق فإن رابطة علماء المسلمين تؤكد على الحقائق التالية ?: ? 1. على الحكومة السورية الممثلة في بشار الأسد وحزبه الحاكم إيقاف المجا زر والاعتداءات الظالمة والإفراج عن المسجونين وفك الحصار عن المدن والاستجابة لمطالب الشعب السوري بتنحيه عن الحكم هو وحزبه , فالشعب المسلم هو صاحب الأرض وما فيها من خيرات {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وانطلاقا من الأحكام الشرعية فإن الشعب لا يحكم بالنار والحديد، بل بالشرع والعدل والشورى. ?

2. المؤمل من إخواننا علماء سوريا في الداخل والخارج الحرص على وحدة كلمتهم ونبذ خلافاتهم وتوجيه الشعب السوري وتوعيته بما يصلح حاله ومآله حتى لا يستغل هذه المطالبة بالحقوق من لا يفي بها لو تولى قيادة الشعب كما حدث ويحدث في بعض الدول من سرقة المكتسبات التي تدفع الشعوب المسلمة ثمنها غاليا. ? 3. على الشعب السوري الالتفاف على علمائه ووجهائه وان يقوموا بتنظيم أمورهم وحفظ أمنهم ورعاية أحوال المستضعفين على قدر الاستطاعة وتنظيم اللجان التي تقوم بإغ اثة الأسر المحتاجة والعاجزين. ? 4. الواجب على الشعوب المسلمة في كل بلد الوقوف مع إخوانهم في سوريا وتخفيف معاناتهم ببذل المال والغذاء والكساء والدواء وبالأخص من دول الخليج والدعاء لهم بصلاح حالهم وتفريج كربتهم. ? 5. المؤمل من الهيئات الإسلامية من روابط وجم عيات ومؤتمرات واتحادات أن يقفوا مع الشعب السوري المظلوم ويرفعوا الظلم عنه ويطالبوا الحكومة بالتنحي حفظاً للدماء والأعراض ووفاء بحقوق الأخوة وحماية للضعفاء والشيوخ والنساء والأطفال. ? 6. إن مما يحزن المسلم عدم سماع صوت النصرة لإخواننا في سوريا وغيرها سواء م ن جامعة الدول العربية أو الحكومات العربية والإسلامية وهذا ينذر بخطر عظيم لأن التخلي عن نصرة المظلوم يحدث الفرقة وقد يوقع العذاب بالأمة جميعاً وبتلك الدول الصامتة والمتواطئة سرا أو علانية, كما قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]. فالواجب على الجميع وبالأخص جامعة الدول العربية الإسراع في إيقاف حرب الإبادة وإجبار حكومة سوريا على رفع الظلم. ? 7. المنتظر من دول الجوار لسورية أن يسعوا لتخفيف معاناة إخوانهم النازحين من ظلم حكومة بشار الأسد، فيهيئوا لهم ال أماكن المناسبة من مخيمات وخدمات صحية واجتماعية وغذائية , والحذر من تسليم أحد من أفراد الشعب السوري الذين تطلبهم الحكومة السورية، لأن ذلك إعانة على الظلم والقهر، ونشيد بموقف تركيا وأبناء طرابلس في لبنان لموقفهم باستضافة إخوانهم النازحين من حرب بشار وحزبه. ? 8. على العلماء الموظفين لدى السلطة السورية وبخاصة أهل السنة أن يتقوا الله في أنفسهم وفي أهليهم من أفراد الشعب السوري وأن يحفظوا دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وألا يسكتوا عن هذا الظلم فضلا عن الوقوف مع الظالم الباغي، وأن يستعملوا مالهم من مكانة عند الحكومة بكف شرها عن الشعب السوري، فلعل هذا الموقف أن يكفر ما سبق من تخاذل أو تقصير وان يختموا حياتهم بالنصرة لإخوانهم فذلك خير لهم في الدنيا والآخرة. ? 9. أن الواجب على أفراد الجيش والأمن بمختلف شعبه وأقسامه الكف عن قتل أهليهم وإخوانهم فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وليست لحكومة ظالمة باغية، مصداقا لقوله سبحانه {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} َ [الأعراف:128]

10. الابتلاء والامتحان سنة ربانية قدرها الله على عباده من الأنبياء الذين هم خير خلق الله في كل زمان, وأتباعهم الذين هم صفوة البشر بعد الأنبياء والرسل, وقد يكون في الابتلاء طهارة وتمحيص وتكفير للعباد من تبعة التقصير والخطأ والتخاذل, قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. ? فاعلموا إخواننا في سوريا وفي كل مكان أن الله لا يقدر شراً محضا، بل في مثل هذه الأحداث والمقاومات للح كومات المستبدة خير عظيم ورفع للظلم، وإن من أعظم الظلم محاربة شرع الله وعدم تطبيقه على عباد الله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ولذا فلابد من البعد عما يغضب الله أو رفع شعارات جاهلية قد تكون سببا لتأخر النصر أو حرمانه. ? 11. يجب السعي بكل وسيلة ممكنة وبخاصة في الإعلا م الحر لفضح التدخل الإيراني المباشر أو عن طريق عملائه، كالحزب المسمى بـ (حزب الله) في لبنان, وخطرهم على الأمة المسلمة لا يغيب عن منصف مطلع , علماً أن التجمع الصفوي الرافضي يسعى لدعم الحكومة النصيرية من أجل تحقيق السيطرة على سورية ولبنان، وهم متواطئون مع الغرب واليهود، كما حصل في العراق وغيرها لكل ذي عينين. ? 12. المطلوب من عموم الطائفة العلوية عدم الانقياد لجرائم النظام الباغي والانسياق معه في إبادة الشعب السوري, فان الأيام دول، وهم أقلية في الأمة فليحذروا العواقب، وقد عاملهم أهل السنة بالعدل منذ مئات السنين، ولا عبرة بمن شذ فظلم, ثم إن ظلم حكام سوريا وزمرته واقع على جميع الشعب السوري. ? وفي ختام هذا البيان نَشيد بالموقف التركي الذي استقبل إخواننا النازحين من ظلم حكومتهم، كما نأمل من حكومة تركيا التدخل القوي والعاجل بالضغط على الحكومة السورية لإيقاف المجازر والم داهمات والحصار والتشريد والإبادة. ? فتركيا لها تاريخ سابق لا ينكر في قيادة الأمة ورعاية شئونها، وهي ولله الحمد تمتلك قوة سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة جداً، فعليها المسارعة للنصرة, فتدخلها معين بإذن الله على رفع المعاناة عن الشعب السوري {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] وسنة الله الجارية {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] والنصر قريب بإذن الله {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] وصلى الله وسلم على نبينا محمد واله وصحبه أجمعين. ? صدر من رابطة علماء المسلمين يوم 10/شعبان/1432. ? • رئيس الرابطة: الأمين الحاج. • أمين عام الرابطة: ناصر العمر ?.

نحو تأصيل فكري للممانعة المجتمعية

نحو تأصيل فكري للممانعة المجتمعية محمد بن إبراهيم السعيدي الخميس 28رجب1432هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ومن نهجه إلى يوم الدين أما بعد: نشأة القِيَم: أخلاق الأمم وآدابها ورؤاها وعباداتها وعاداتها وأعرافها والتي يمكن أن نسميها في سائر هذه الورقة قيم الأمة، الأصل فيها: أنها تنشأ من داخل تلك الأمم. ولن يكون هذا عائقاً دون أن تؤثر الأمم في بعضها وتتأثر بحكم الجوار أو المخالطة أو أي شيء آخر، بل ربما يُعد مدى قدرة الأمة على التأثير في غيرها مقياساً متفقا عليه على قوة حضارتها بصرف النظر عن الحكم الشرعي عليها، كما أن مدى قدرتها على التأثر يُعَد مقياسا متفقاً عليه على مدى تعلقها ببنائها الحضاري واستنباط قيمها من داخله بصرف النظر أيضا عن الحكم الشرعي على ذلك البناء. والمفكرون يعدون الأمم التي لا تقبل التأثير الحضاري أمما منغلقة حضاريا غير قابلة للتطور، وذلك أن التطور لا يمكن أن يتم لأمة من الأمم دون أن تأخذ من الأمم الأخرى لأن الحضارة كما يقولون مشترك إنساني لا يمكن أن تبنيه أمة وحدها. وهذا الأمر بقدر ما هو صحيح بإطلاق في جانب الحضارة المتعلق بالمعرفة فهو صحيح إلى حدٍ ما فيما يتعلق بما تعارفنا على تسميته قبل قليل بقيم الأمة والذي يتكون من الأخلاق والآداب والعبادات والعادات والأعراف. وذلك أن القيم للأمة الرائدة يجب أن تتكون في داخله نتيجة تفاعل الإنسان مع دينه وبيئته ولغته وتاريخه ومقدرات أرضه، وهي ما سنتعارف عليه في هذه الورقة بأصول القيم، فيتكون من ذلك التفاعل: كلُ ما يحكمُ الناسَ في تصرفاتهم مع محيطهم وتصوراتهم للكون والحياة. إذاً فكما أن العناصر لقيم الأمة هي: الأخلاق والآداب والتصورات أو الرؤى للكون والحياة وكذلك العبادات والعادات والأعراف، فإن الأصابع التي تنسج هذه العناصر وتقدمها في صورتها النهائية للعالم هي دين الأمة والبيئة التي تعيش فيها ومقدرات أرضها وتاريخها ولغتها، وهي مكونات القيم أو مادتها الخام، والتفاعل المستمر بين البشر وبين هذه المكونات يترتب عليه استمرارٌ في إنتاج القيم الاجتماعية للأمة بشكل متَّسِق وغيرِ متناقض. وحين نلحظ أن شيئاً من قيم الأمة نشأ بعيدا عن هذه الأصول أي نشأ من تفاعل مع دين آخر أوتاريخ آخر أوبيئة أخرى فإن هذا الخلق أو هذه العادة أو هذه الرؤية ستظل ناتئةً مناقضةً لسياقِ المجتمع بأسره بما يحمله من ثقل ثقافي كبير. ومقدارُ معاناةِ هذا القيمة الوافدة من رفضٍ اجتماعي يمكن أن يكون مقياساً لمدى تفاعل المجتمع مع الأصول المكونة لقِيَمِهِ الاجتماعية والتي تَقَدِّم سردُها قبل قليل. وحين نجد أن المجتمع قد استطاع هضم عادة أو خلق تكوَّنا خارج محيطه وغَفَل عن مناقضتها لسياق هيئته الاجتماعية العامة فهذا يعني أن هناك نقطة ضعف في تفاعل المجتمع مع دينه أو تاريخه أو بيئته وسائر الأصول المكونة لقيمه، ومن نقطة الضعف تلك يمكن أن تَفِد إلى المجتمع أشكالٌ مختلفة من القيم الدخيلة سوف تؤدي كثرتها إلى كثرة التناقضات في هيئة المجتمع، الأمر الذي سينفرج حتماً عن صورة لهذا المجتمع ضعيفة الصلة بالأصول المُكَوِّنَةِ لِقِيَمِه، أي: أنها ستُنتِجُ لنا مجتمعاً غير منتمٍ لأصله، وهذا هو الشرط الأول كي تحظى الأمة بقيم رائدة. وقد يتفاعل المجتمع مع بعض أصول قِيَمِه دون بعض, فيتفاعل مع التاريخ أو البيئة أو المقدرات بمعزل عن الدين، وهذا هو سر نشوء أخلاق أو عادات أو تصورات ورؤى غير حميدة بالرغم من كونها وُلدت ونشأت في أحضان هذا المجتمع.

ينتج عن هذا أن نعلم أن الشرط الثاني من شروط وجود قِيَمٍ اجتماعية رائدة أن يكون تفاعل الإنسان لإنتاج سلوك اجتماعي أو عادةٍ أو عرفٍ أو رؤيةٍ خاصةٍ أو عامةٍ مستغرقاً لكامل أصول القيم الاجتماعية لا مع البعض دون الآخر وإلا فإننا سوف نبني بإغفال بعض أصول قيمنا هيئة اجتماعية محطمة. تجربة تاريخية: وهذا الأمر, أي: تَكَوُّنُ القيم نتيجة تفاعل الإنسان مع بعض مكوناتها الأصيلة دون بعض, هو ما حصل بالفعل في العالم الإسلامي عبر قرون عديدة مرت بها القِيَم الاجتماعية في مختلف بلاد المسلمين. فقد نشأت عادات وأعراف ورؤى وتصورات سيئة جداً رغم أنها تكونت من داخل العالم الإسلامي وكان السر في سوئها أنها لم تراع الدين في تكوينها غالباً وفي أحيان أخر لم تراع التاريخ والبيئة واللغة، ومما يؤسف له أن الضعف في محاولات إصلاح هذا الخطأ، بل محاربة حركات أفذاذ العلماء المستمرة للإصلاح, أدت إلى سيادة الصورة المشوهة لقِيَم الأمة في العالم الإسلامي، وأصبح التخلف الفكري والبعد عن العقيدة الصحيحة وسيادة الخرافة والجور والتسلط هي السمة المعرِّفة للمسلمين بل وأصبحت تنسب زوراً للإسلام. وهذه الصورة المشوهة للقيم الاجتماعية الإسلامية هي أكثر العوامل تأثيراً في نجاح الحروب الصليبية الأولى، كما أنها أبرز عوامل نجاح ما يُسمى بالاستعمار في العصور المتأخرة. وبعد الاستعمار الغربي لمعظم بقاع العالم الإسلامي بدأ المسلمون يحتضنون عناصر قِيَمِيَّةً لأممٍ أخرى، أي يحتضنون أخلاقاً وعاداتٍ ورؤى وتصوراتٍ نشأت في بيئات مختلفة عن البيئة الإسلامية، ونتيجة لعدم تفاعل الإنسان المسلم في عصور الاستعمار وما قبل عصور الاستعمار مع كامل أصول قِيَمِه الاجتماعية -الدين والبيئة واللغة والتاريخ ومقدرات الأرض- استطاعت هذه العناصر الدخيلة العيش بسلام في هيئتنا الاجتماعية, الأمر الذي أحدث الكثير من التناقضات بين صورة المجتمع المسلم وبين المكونات المفترضة لهيئته الاجتماعية، حيث ظهرت العناصر الوافدة على السطح وأصبحت تَحكُم علاقات المسلمين ببعضهم وعلاقاتهم بغيرهم ثقافيا واجتماعياً بل وتحكم علاقتهم بالكون الذي يعيشون فيه والحياة التي يحيونها. ومما زاد الأمر سوءً ظهور اجتهادات فقهية تحاول الربط بين هذه العناصر الوافدة من قيم الآخرين وبين الأصول المكونة لقيمنا وأعظمها الدين، وإظهار هذه العناصر كواقع مهيمن لا محيص عنه وإظهار الدين والتاريخ الإسلامي كله على شكل كائن هلامي يمكن أن يتشكل كما تشاء الظروف. والحقيقة التي لا ينبغي أن يغفل عنها مسلم فضلا عن علماء المسلمين: أن الإسلام جاء لتشكيل الواقع وتغييره لا للاستسلام له والسير على وفقه، لكن غياب هذه الحقيقة أو التغافل عنها أدى إلى تهاوي كثيرٍ من أحكام الشريعة الإسلامية أمام سلطة الواقع في العالم الإسلامي، وأصبح مظهر المسلمين لا يعبر عن دينهم ولا تاريخهم بل يعبر عن تناقضات بشعة بين هيئة اجتماعية مستوردة وبين مكونات أصيلة تحاول الظهور بين الفينة والأخرى. من أسباب سوء الواقع القِيَمِي: هذا الواقع السيء المتمثل في تناقض كثيرٍ من قيم المسلمين مع أصولهم بسبب كثرة الدخيل في عاداتهم وعباداتهم وأخلاقهم ورؤاهم وتصوراتهم، وعدم تفاعلهم مع أصولهم في تكوين عناصر قِيَمِهم، هذا الواقع يرسم له المؤرخون لهذا العصر كثيراً من الأسباب التي أدت إليه، فيذكرون منها: هيمنة الاستعمار الغربي وجنوح الأمم المغلوبة إلى تقليد الأمم الغالبة بشكل تلقائي كما يذكرون منها الجهل والاستبداد السياسي وأشياء أخر لا يسعنا تفصيلها الآن.

لكن الذي لا يذكرونه بشكل واضح هو غياب الممانعة المجتمعية أو قُل: ضعف الممانعة المجتمعية. لأن الممانعة المجتمعية لو كُتِب لها الوجود لاستعصت القِيَمُ على كلِ الأسباب التي ذكرها المؤرخون أو لم يذكروها، لكن المؤسف هو أن الممانعة المجتمعية كانت ضعيفة جداً الأمر الذي جعل تلك العوامل تتضافر في تغيير صورة المجتمع المسلم ثقافيا وأخلاقيا بشكل قليل النظير في سرعته. تعريف الممانعة المجتمعية: وهنا يأتي دور تعريف الممانعة المجتمعية لنستكشف كيف كان ضعفها أو انعدامها سبباً في تغير صورة المجتمعات الإسلامية وحصول هذا التناقض الواضح بين حقيقة الإسلام وصورة المجتمع المسلم. فهي: اقتصار المجتمع على دينه وبيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته في إنتاج آدابه وأخلاقه ورؤاه وعباداته وعاداته وأعرافه. ويلزم من هذا الاقتصار: رفض المجتمع تبني كل أدب أو رؤية أو خُلُق أو عبادة أو عادة أو عرف ليس نتاجا لدينه وبيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته. وهل يعني ذلك رفض مطلق التأثر بالآخرين؟ الجواب: أن المجتمع حين يكون متفاعلا مع الأصول المكونة لقيمه بشكلٍ صحيح فإنه سيكون تلقائياً أكثر تفاعلاً مع هذه الأصول في تصفية ما يرد عليه من قيم خارجة عنه, بل إنه سوف يمارس بطريقة تلقائية أيضا ما يشبه أن نسميه توطين القيم الواردة عليه بحيث تدخل في سياق هيئته الاجتماعية بشكل لا يُشير أبدً إلى جذورها التاريخية. أهمية الممانعة: ترجع أهمية الممانعة المجتمعية إلى كونها الوسيلة الأضمن والأقوى لحفظ الهيئة الاجتماعية للأمة من أن تضمحل بعامل استجلاب قِيَمٍ لم تصنعها الأمةُ ولم تُنتِجها بطريق التفاعل بين المجتمع وبين الأصول المكونة لقيمه وهي: دينه وبيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته. وكذلك هي الوسيلة الأضمن لحفظ المجتمع نفسه من أن ينتج قِيَمَاً لم يتفاعل فيها الإنسان مع كامل الأصول التي تبنى عليها القيم. فالأمر الثاني من خلال مراجعة تاريخ الأمة هو سبب للأمر الأول فإن إنتاج قيمٍ غيرِ معروضة على الدين أولاً ثم على جميع أصول القيم المجتمعية التي تقدم ذكرها سوف يُؤَدِّي حتماً إلى رضوخ المجتمع للقِيَم المستوردة، وذلك لأن بناءه القِيَمِي حينذاك يكون قد اختُرِق وبقوة، وهذا ما حدث فعلا في عالمنا الإسلامي. نظرة في تاريخ القيم عند المسلمين: فإننا حين نسبُر تاريخ الأخلاق والأفكار عند المسلمين نجد أن ضعف المجتمع في جانب ما أسميناه في بداية هذه الورقة بِقِيَمِ المجتمع قد بدأت بوادره في الدبيب سريعاً، حيث رأينا إرهاصات التغير الفكري والقِيَمِي مبكراً لدى المسلمين بشكل غير متناسب مع القوة التي بدأ بها الإسلام. وحين نقرأ كتاباً أُلِّفَ في وقت مبكر من تاريخ الإسلام وهو كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (ت324) فإنه ليصيبنا الذهول من كثرة النزاعات العقدية بين المسلمين في وقت مبكر. وإذا انتقلنا سريعاً إلى العصر الحديث وطوالعه نجد أيضا أن القِيَم الاجتماعية الدخيلة قد صبغت المجتمع المسلم بشكل سريع لا يتناسب أبداً مع ما في الإسلام من دعوات متكررة بالالتزام والتمسك. ولم تكن مشكلة المسلمين فقط مع القيم الوافدة، بل أيضا مع القيم التي تشكلت خطأ، أي دون تفاعل كامل وصحيح مع ما أسميناه أصول القيم في المجتمع المسلم.

فتنحية فهم الصحابة الكرام للكتاب والسنة منذ وقت مبكر عن الحكم على القيم والرؤى وغيرها لدى عدد من البيئات الاجتماعية الإسلامية كالبيئة الخارجية والبيئة المتشيعة أدى إلى نشوء الابتداع في الدين، وتوالت البِدَعُ ابتداء من تغير الرؤى والتصورات للدين والكون والحياة على هيئة آراء في القضاء والقدر والحكم والعدل وصفات الباري عز وجل، ودون انتهاء إلى ما تجاوز العقيدة إلى العبادات فلم تنته عند زيادة عبادات في الدين لم يأذن بها الله تعالى بل وصلت بالناس إلى الإشراك بالله تعالى، دون أن يشعروا وذلك بصرف أشياء من العبادة لغير وجهه سبحانه وتعالى، واستمر هذا الوضع في تزايد حتى غلبت تلك البدع في ظهورها وسيطرتها على صحيحَ التصورات والعبادات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله. أدى ذلك إلى رواج الخرافة بين المسلين ثم إلباسها لباس الدين حتى أصبحت الكهانة والعرافة والسحر وهي من المحرمات نصا تسمى بالسيادة ويسمى أصحابها بالأسياد أو أهل الله، ويُعطون عند الناس، وربما عند الكبراء منهم منزلة لا يحصل عليها الكثير من أكابر العلماء. فلم تكن المشكلة آنذاك قِيَمَاً وافدة -وإن كان فيها قدرٌ لا بأس به من الوافدة- بل كانت المشكلة في تكوين قيم ومفاهيم من داخل الأمة ولكن الأمة كونتها بمعزِلٍ عن الأصول المفترضة للقيم في الأمة المسلمة وبخاصة الدين بمصدريه العظيمين الكتاب والسنة. فما الذي حدث أخيراً؟ الذي حدث: أن المجتمع المسلم كان منشغلاً بالقِيم الاجتماعية التي نسجها لنفسه دون إجراء التفاعل الصحيح مع أصوله، أي أنه كان يعيش تناقضاً كبيراً جداً بين قيمه المصطنعة وبين جذوره التي ترفض هذه القيم الأمر الذي أحدث جهلاً وضعفا كبيراً في النفسية المسلمة وهو ما سهل الطريق أمام عادات الغرب وتقاليده ورؤاه لتصبغ المجتمعات المسلمة وتَطبَعَهَا بِطَابَعِهَا. هنالك بدأت عناصر الهيئةِ الغريبةِ السائدةِ في المجتمع الغربي تنتقل بسرعة عجيبة إلى العالم الإسلامي ويتقبلها المجتمع المسلم بشكل ملفت للنظر، فالغرب المستعمر لم يحضر بكامله في بلاد المسلمين وإنما أرسل قليلا من أبنائه على هيئة عسكريين في الغالب وفي أحيان على هيئة علماء ومستشرقين وعمال، ومع كل هذا يظلون قلة قليلة، لا يستطيعون عند حساب المسألة حسابا منطقياً أن يغيروا وجه مجتمعٍ عريقٍ في قِيمه وحضارته بهذه الصورة السريعة، لكن الأمر الذي سهل لقيم الحضارة الغربية الولوج إلى المجتمع المسلم وصبغه بصبغتها كونُ المجتمعِ لم يفعل سوى أن استبدل قِيَماً اجتماعيةً مناقضة لجذوره، مستوردة من الغرب، بقيم أخرى مناقضة لتلك الجذور أيضا لكنه صنعها بنفسه، أي أن ما صنعه المجتمع إنما هو استبدال قيم مناقضة بقيم أخرى لا تقل عنها مناقضة، وربما سَرَّع في هذا الاستبدال أن يكون قد وَجَدَ في القِيَمِ الجديدة من احترام العقل والاستمتاع بالحياة في إطار من العلم والهيمنة مالم يجده في هيئته الأولى التي صنعها بنفسه بعيداً عن أصوله وكانت هيئةً مُعتِمَةً تحكمها الخرافة والجهل. ما الذي حدث حتى تتناقض جذور المجتمع المسلم مع هيئته الاجتماعية بسرعة لا تتناسب مع قوة التشريع الذي أسند إليه، سواء أكان ذلك التناقض بسبب تغيير فكري وأخلاقي من داخل المجتمع كما هو الحال في العصور الأولى والوسطى من تاريخ المسلمين أم باستيراد هيئات اجتماعية غريبة على الأمة لتكون هي الصورة المعبرة عنها. الذي حدث فيما يظهر لي هو ضعف الممانعة المجتمعية في كلا الحالتين.

فالمجتمع تخلى عن مسؤوليته في حفظ أخلاقه وعباداته وعاداته وتصوراته عن طريق عرضها على دينه وتاريخه الخاص به وبيئته التي يتحرك خلالها ومقدراته التي يعيش بها ولغته التي يتحدث بها، تخلى عن مسؤوليته تلك، وقَبِل التمرد على فهم الصحابة للدين من وقت مبكر في تاريخه فبدأت تنشأ القيم والأفكار بمعزل عن الدين وعن خصوصية التاريخ والبيئة حتى وصل الإسلام في بلاده إلى مرحلة الغربة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبا للغرباء)) المجتمع لم يُقَاوِم مظاهرَ الترفِ والاستخفافِ بالمعاصي منذ بواكير الدولة المروانية حيث بدأت هذه البوادر من مأرز الإسلام من مكة والمدينة، ولم يقاوم جاهلية الأدب المتمثلة في نقائض جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم، ولم يقاوم حركة الأدب المتهتك على يد عمر بن أبي ربيعة والعرجي ونصيب والأحوص ولم يقاوم الفتنة بين النزارية واليمانية. ولم يقاوم بدعة الإرجاء والجبر وتكفير الصحابة الكرام والصد عن سبيلهم. كما لم يقاوم بدعتي النصب والتشيع على حد سواء. كل هذه المشكلات التي لا يقرها الإسلام ظهرت جلية في المائة الأولى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكانت مقاومتها تتلخص في فتاوى للعلماء العظماء في ذلك الوقت لكن هذه الفتاوى لم تكن نتائجها تظهر على هيئة استجابة سريعة من المجتمع للوقوف ضد هذه الانحرافات. والسبب في ذلك - في زعمي - هو أن تلك المشكلات كانت إما قليلة الظهور بحكم تباعد الأمكنة بين المسلمين وضعف انتشار حدوث المنكر، وإما قليلة الأثر كبعض البدع العقدية التي تقدم ذكرها. لذلك لم تكن تشغل بال المجتمع المسلم كثيراً وهو ينظر إلى واقعه الذي يطغى فيه الخير وحب السنة وتوقير العلماء. يضاف إلى ذلك: كثرة حديثي الإسلام من الأمم الأخرى وقلة اللذين عاصروا الرسالة من فئام الناس. ولعل الأسوأ من أسباب ضعف الممانعة في بعد الثلث الأول من تاريخ الإسلام: أن المجتمع المسلم قد انشغل عن مقاومة هذه الظواهر بالفتن الأعظم والتي طالت الدماء والتي يَعُدُّها المؤرخون سبباً في نشوء كثير من الأفكار الغريبة عن منهج الصحابة كفتنة القول بالقدر والنصب والتكفير والتي نشأت كردات فعل من بعض من لم يتمثل منهج الصحابة الكرام على ما شجر بينهم من نزاع وما حصل بعد الخلافة الراشدة من ملك عضوض. وعدم السرعة في الاستجابة من المجتمع آنذاك لمحق المنكر في مهده، مهما بررنا له كان هو الغرسة الأولى للانحراف بالأمة الإسلامية عن حقيقة دينها، فقد تطورت بدعة القدر والإرجاء إلى مذاهب أصبحت هي السائدة بين المسلمين كالجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية والماتريدية، وتطورت بدعة التشيع ليخرج منها مذاهب شتى لا حصر لها وكذلك ما كان من أمر التصوف الذي نتج عنه القول بالحلول والاتحاد ووحدة الأديان. ولا شك أن لهذا الضعف في الممانعة في تلك العصور المتقدمة أسبابه المختلفة التي يمكن للمؤرخين دراستها لكن الذي يجب أن نستفيده منها كمرحلة تاريخية هو خطر الركون إلى ظاهر المجتمع الجيد أو إلى الدولة القائمة بشرع الله تعالى لمنع تسرب الخلل في الهيئة المجتمعية بل يجب أن نركز على واجب الأمة في التنبه إلى مسؤوليتها في نفي الخلل عنها وهو ما يسمى بالممانعة المجتمعية. أما عصرنا الحديث فقد كان بُعدُ المجتمعات المسلمة فيه عن تحمل مسؤوليتها في مقاومة تغيير هيئته الاجتماعية أظهر من أن يُستدل عليه، يدل على ذلك نظرةٌ دقيقة في التاريخ الحديث للمجتمعات الإسلامية لتجد أن شيوع القِيَمِ المستوردة فيها لم يستغرق من الزمن ما يمكن أن يتناسب مع عظمة الإسلام الذي تدين به تلك الشعوب.

وليس أمامنا إلا أن نقبل كل الأسباب التي يُقدمها المؤرخون لهذا التدهور السريع ولكن الذي لا ينبغي الغفلة عنه هو أن الممانعة المجتمعية يزداد بؤسهاُ في أكثر الدول الإسلامية استجابة لهذه التغييرات. من هذه الإلماحة التاريخية يمكن أن نُحَمِّل الممانعة المجتمعية مسؤولية الحفاظ على هوية الأمة المسلمة وهو ما ينبغي أن يتعلمه المسلمون، فالحفاظ على القيم ليس مسؤلية الدول وحدها وليس مسؤلية العلماء وحدهم لكنه مسؤولية المجتمع بأسره بجميع أفراده وليس العلماء ورجال الدولة إلا أعضاء في بناء المجتمع. وسوف أتحدث عن كيفية دعم الممانعة المجتمعية والموقع الصحيح فيها للدولة والعلماء بعد أن أجيب عن سؤال مفترض، وهو هل نادى الإسلام بمثل هذه الممانعة المجتمعية؟ قطعاً، المصطلح جديد ولا أعلم أول من أبرزه، كما أنني أظن أن الهدف من إبرازه كان نقد ممانعة المجتمع ضد القيم الوافدة، وهي النبرةُ التي لا نزال نستمع إليها من كثير من الكتاب ومن بعض المحسوبين على طلب العلم الشرعي أيضا، مع تباينٍ كبيرٍ بين مرادهم من الممانعة ومرادِنا منها، لكن ما نقصده بالممانعة وهو ما لخصته في التعريف المقترح لها أجد أن آيات الكتاب العظيم وكثير من التشريعات الإسلامية تصب في صالح الدعوة إليه، أي الدعوة إلى أن يكون المجتمع المسلم منفرداً ببناء قيمه التي تتلخص في آدابه وأخلاقه ورؤاه وعباداته وعاداته وأعرافه. وأن تكون تلك القِيم مستمدة من دينه الذي لا بد أن يكون مصدراً وحاكماً، وكذلك بيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته. ومن ذلك: أولا: ترسيخ مفهوم الخيرية والفضل على جميع الأمم لدى المسلمين وأن مصدر هذه الخيرية إنما هو الالتزام بالدين وتعاليمه وليس له مصدر آخر عِرقي أو إقليمي، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] , قال المفسرون: وسطا, أي: خياراُ وعدولا, فالمجتمع الذي يشعر بخيريته على الأمم جميعها، واعتلائه عليها بمنصب الشهادة عليها يوم القيامة لا يمكن أن يكون مجتمعا متهافتاً إلى ما تنتجه تلك الأمم من قِيم مخالفة لما لديه، وبعكس ذلك حين يغيب الشعور بالخيرية عن مجموع المجتمع فإن الذي يحل محله في ظروف الضعف الساسي والاقتصادي والعسكري هو الشعور بالنقص والهوان أمام تلك الأمم، وهو ما يجعل الرؤوس والصدور والبيوت مُشرَعةً أمام كل تغيير يأتيها من قبل هذه الأمة الغالبة. وكذلك قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110] وهذه الآية ربطت بين التأكيد على خيرية هذه الأمة وبين أسلوب من أساليب الممانعة المجتمعية وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان هذا الأسلوب هو التكليف الذي تحقق الأمة به خَيرِيَّتَها على الأرض بصورة عملية، كما أن الإيمان بالله يحقق خيريتها بصورة اعتقادية. وهذا الشعور بالخيرية نجده أشد ما يكون ضآلة لدى المسلمين في الأوقات التي يكثر فيها تهافتهم على قِيم غيرهم من الأمم التي فضلهم الله تعالى عليها، الأمر الذي يؤكد على هذا الارتباط الوثيق بين شعور الأمة بخيريتها ومناعة قِيَمِها.

ثانياً: إلحاح آيات الكتاب العزيز على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واللافت أن التكليف بهذه الشعيرة لم يأت على هيئة أمرٍ بها في القرآن الكريم، وإنما في معرض سرد صفات المؤمنين سوى آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] وهي عند التأمل لا تخرج عن هذه القاعدة كثيراً إذ هي في سياق صفات المؤمنين أيضا. أما سائر الآيات فهي واضحة في الدلالة على ما بينت، انظر مثلا قوله سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110] وقوله سبحانه {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:114] وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] وقوله سبحانه: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] وهذا الأسلوب القرآني في تقديري والله تعالى أعلم أمكنُ في التعبير عن مكانة هذه الشعيرة إذ إن إيرادها في مساق صفات أهل الإيمان مشعر بأنها من لوازمه. كما أن الموصوف بها ليس فئة من المؤمنين دون فئة بل يستوي في وجوب الاتصاف بها المؤمن الحاكم مع المؤمن المحكوم والرجل والمرأة والصغير والكبير والحر والعبد. بل حتى قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] ليس خاصاً بالحكام دون المحكومين، بل هو وصف لكل مؤمن، وإن كانت الآية تشير بلفظ التمكين إلى أن المسؤلية في جانب الشعائر المذكورة ترتفع بارتفاع القدر الذي آتاه اللهُ العبد من التمكين في هذه الأرض، فليست مسؤولية المحكوم عن هذه الشعيرة بالقدر نفسه الذي للحاكم. وتحميل الأمة عبء هذه الشعيرة لتكون مسؤولية الحفاظ على الدين بما يحمله وما يرشد إليه وما ينتجه تفاعل الإنسان معه من قيم هي مسؤوليتها بأسرها. وهذا عدل إلهي عظيم منه سبحانه وتعالى حيث إن العاقبة الدنيوية للتفريط في منهج الله عز وجل تَطَال الجميع لا تفرق بين حاكم ومحكوم ولا رفيع ووضيع. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام:44] وجميع الآيات التي تُذَكِّر بعاقبة التخلي عن أمر الله نجد الخطاب فيها عاماً للمجتمع بأسره، لأن التقصير حادث من الجميع ولا تُسأل عنه فئة دون أخرى.

إلا أن القائمين بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يثيبهم الله تعالى النجاة من هذا السخط العام وذلك في حال أدائهم لهذا الواجب كما أمروا به وصبرهم على ما يلاقون من تقصير أقوامهم وتخذيلهم إياهم عمَّا يقومون به من موعظة {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165 - 164] ثالثاً: مبدأ التواصي أقرته سورتا البلد والعصر، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] وقال سبحانه {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] والتواصي تكليف أعم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصفته: أن يُثَبِّتَ المؤمنون العاملون بالصالحات والمتراحمون بينهم بعضهم بعضاً على هذه الخصال ويتعاهدون أحوالهم فيما بينهم فيما يُشبه أن يكون عملية مراجعة وتحديث لقوة هذه الخصال في نفس الأمة، وهو ما عبَّر عنه القرآن بالنفع في قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الذاريات55فالتذكير هو الأسلوب الأمثل للتواصي المؤدي إلى النفع، والنفع كما لا يخفى كلمة جامعة يدخل فيها كل ما هو ضد الضُر، أي أن كل ما يكسب المؤمنين زيادة تنأى بهم عمَّا يُلحق الضر بدينهم، من التثبيت عليه وزيادة المنعة في الاستمساك به وبما يصنعه الدين في النفوس من قيم وأخلاق. ونجد أن التواصي جاء في القرآن مختصا بالحق والصبر والمرحمة، ذاك أن الحق هو الدين بعقائده وشرائعه وما يؤدي إليها وما يحفظها، والصبر أهم الأدوات للمحافظة على هذا الحق الذي يتعارض كثيراً مع أهواء النفوس التي تميل بشكل طَبعي إلى الإغراق في اتباع الملذات، فلم يكن من سبيل للتمسك بالحق سوى الصبر. أما المرحمة فهي ضمانة مهمة لتماسك المجتمع المسلم وتضامنه حيث إن الرحمة صفة محركة للمخلوق تدفعه إلى فعل شيء من أجل حفظ إخوانه من الضرر، ومن الضرر ما هو ظاهر يدركه المؤمن وغيره، ومن الضرر ما ليس بظاهر بل هو خفي جداً لا يدركه حق إدراكه سوى المؤمين. وهذا الضرر الخفي الذي يقتصر إدراكه على المؤمنين، هو الضرر الناتج عن عدم التبصر في عواقب التفريط في أوامر الله تعالى أو التهاون في كل ما من شأنه أن يؤدي إلى شيء من هذا التفريط أو التهاون حالاً أو مآلا. الناتج من هذا أن التواصي شعيرة ربانية جاءت لتقوية الممانعة المجتمعية التي يجري الحديث حولها. الرابع: من شواهد مناداة الإسلام بالممانعة المجتمعية: عقيدة الولاء والبراء، وقد يتشنج البعض لدى تسميتها عقيدةً، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر أنها من الظهور بحيث يحتاج تأويلها إلى غير هذين المعنيين -مودة المؤمنين ومباغضة الكافرين- إلى تعسف تأويل كامل القرآن أو أكثره. ومباغضة الكافر لما ينطوي عليه قلبه من عقيدة أهل النار تسوق القلوب المؤمنة إلى مجافاة ما يأتي به من قِيَم, ولا شك أنها طريقة ممتازة لحفظ الهيئة المجتمعية للمسلمين من الاختراق، سواء أكان ذلك اختراقا قِيَمِيَاً أو عسكرياً.

وشواهد التاريخ لعلاقة المسلمين بغيرهم تؤكد على أن الاختراق العسكري لم يتمكن منه أعداء الإسلام إلا بعد مرحلة أولى من تحطيم حاجز البراء من الكافرين لدى المجتمعات الإسلامية المخترقة. والمطلع على سيرة لورنس العرب وقدرته العجيبة على تجييش العرب المسلمين لمصالح بريطانيا آنذاك يدرك أثر غياب عقيدة الولاء والبراء لدى المسلمين فيما حققه ذلك الرجل من نجاحات. الخامس: النهي المتواصل من الرسول صلى الله عليه وسلم عن مشابهة الكافرين بجميع أصنافهم وفي كل شيء قد يوهم التقاءً في الهيئة بين المسلمين وغيرهم، داء ذلك تارة على سبيل النهي عن المشابهة على الإطلاق وتارات أخر على سبيل النهي عن أحوال خاصة من المشابهة. فمن الأول قوله عليه الصلاة والسلام: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داود، وقوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ((ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)) رواه الترمذي. أما الثاني فمنه ما هو في العبادات ومنه ما هو في الهيئات, فكان من العبادات نهيه صلى الله عليه وسلم عن مشابهتهم في أوقات الصلاة فكان وقت طلوع الشمس ووقت غروبها من أوقات النهي لهذه العلة وكذلك نهى عن خلع النعال في الصلاة مخالفة لليهود فيما رواه مسلم عنه صلى الله عليه وسلم ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم وخفافهم)) وأمر هـ صلى الله عليه وسلم بأكلة السحور وبتعجيل الفطر في الصوم مخالفة لهم فيما رواه مسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر) وفيما أخرجه أبو داود قال صلى الله عليه وسلم (لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون). ومن أمره بمخالفتهم في الهيئة ما رواه البخاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) وكذلك ما رواه البخاري ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)) ومن المخالفة في الهيئة: المخالفة في اللباس ففي الصحيحين عن أبي عثمان النهدي، قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان، مع عتبة بن فرقد، ((يا عتبة إنه ليس من كد أبيك، ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم، مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس الحرير، قال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأصبعيه: الوسطى والسبابة وضمهما)) وكذلك مخالفتهم في آنية الطعام ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) والمتتبع لأمثال هذه الأحكام يجدها في السنة كثيرة حتى أصبح جنس المخالفة للكافرين من المتواتر المعنوي في الإسلام، وما ذاك إلا لصيانة المجتمع المسلم. فإن هذه الأمور التي نُهي المسلم فيها عن التشبه بالكافرين بها قد يراها البعض بعيدة عن القِيَم وعن أصولها ولهذا لا يعرف حكمة النهي، مما دفع العض إلى إنكار حكم مخالفة الكفار بالكلية جرياً على البدعة الجديدة في إنكار كل حكم لا يدركون حكمته. والتأمل الدقيق يوصلك إلى أن المبالغة في النهي عن التشبه بالكفار كانت مرادة لتعظيم الحاجز بين المسلمين وبينهم وذاك أن المشابهة في الظواهر والعادات واللباس وغيرها توصل حتماً إلى ضعف الحاجز الحضاري بين الفريقين الأمر الذي سوف يؤدي حتماً إلى زوال الهوية الداخلية بعد انكسار حاجز المخالفة الظاهرية. ومع هذا التأكيد المستمر على المخالفة في العادات والعبادات جاء النص على النهي عن اتباعهم في الأفكار، وهو ما سماه القرآن أهواءً، وجاء النهي فيه شديداً على مثال قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] ومثل ذلك ذلك جاء في سورة الأنعام 150والشورى 15والجاثية18. كل هذه الأمور الخمسة مجتمعة تؤكد على عناية الإسلام بممناعة المجتمع ضد القيم الأجنبية وتأكيده على أن يكون مجموع تلك القيم التي تصنعها الأمة نتيجة ذلك التفاعل الذي قدمناه بين الإنسان المسلم وبين مصادر قِيَمِه. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

هل للمرأة حق في قيادة السيارة؟

هل للمرأة حقٌّ في قيادةِ السَّيَّارة؟ عبد العزيز بن عبد الله السويدان الخميس21رجب1432هـ لئن كُنّا اليوم نَتلقَّى المفاهيمَ التِّقنيّةَ والعلميّةَ من الخارج فلا يَعْني هذا أَنْ نَتلَقَّى معها مَفاهيمَ القِيَمِ والأخلاقِ والسُّلوك .. إنّ جميعَ الأُمم تَعتزُّ بِثقافَتِها ولا تَتخلَّى عنها، حتى الأُممُ الكافِرة لا تَقْبَلُ على نَفْسِها بأنْ تَستَوْرِدَ القِيَمَ والأخلاق مِن غيرِ تُراثِها لأنّ فيهِ إلغاءً لِذاتِها .. فَكيْفَ بالأُمّةِ المسلمة!! نحنُ إن كُنّا مُتأخّرين عن العالم الغربيّ عِلميّاً وتِقَنيّاً لأسبابٍ تاريخيّة وسياسيّة مَعْروفة إلاّ أَنّنا ما زِلْنا وسَنَظَلُّ مُتفوّقين عليهم أخلاقيّا وسلوكيّا وقِيَميّا إنْ نحنُ تَمسّكْنا بدينِنا، فلا يَصِحُّ إذنْ أَنْ نَتلقّى مِمّن هم دُونَنا في هذا الجانبِ ولو تَفوَّقوا علينا في العُلومِ الطّبيعيّة وأَبْهَرُونا بِقُدْرَتِهم على التّصنيع. إنّ مِن القِيَمِ العالميّةِ التي تَرْعَاها وتُجِلُّها المنظّماتُ الدّوليّة والّتي انْخَرَطْنا معهم فيها نحنُ المسلمين بلا تَمييز"مفهوم الحقوق"، وهذهِ الحقوق مُرتبطةٌ بالحُريّات شِبْهِ المطلقة، حُريّةِ الاعتقاد، حُريّةِ التعبير، الحريّة الأخلاقيّة، وتَطوّرَتْ حتّى صارت حقوقاً محميّة، وأصبحنا نسمعُ بِحقِّ المساواةِ بين الجنسيْن، وحقِّ اختيارِ أنواعِ العلاقاتِ من الجِنسيْن، وحقوق المثلييّن (يعني الشّواذّ)، وحَقّ التّأمين الصّحّي، وحقّ التعليم .. إلى آخِرِهِ مِن قائمةِ الحقوقِ التي اسْتَهْوَتْها نُفوسُ كثيرٍ مِن المسلمين دُونَ تَمييز .. لكنْ وَسَطَ هذا الزِّحامِ مِن الحُقُوق نَسِيَ بَعْضُنا أَنْ يَسأل نَفْسَه: ما هو مفهومُ الإسلام للحقوق؟ أقول هذا لأنّ بعضَ النّاس ما زالَ يَقُولُ بِعاطِفَتِهِ"صحيح أنا لا أَرْضَى لامْرَأتي وبناتي أن يَقُدْنَ السّيّارة .. لكنْ أليس من حقّ مَن تريد ذلك ألاّ تُمْنَع؟ " فَأدرَجَ بقولِهِ هذا قِيادةَ المرأةِ للسّيّارةِ ضمن قائمة الحقوق، فقبل التعجُّل في ادّعاءِ أيِّ حقّ ينبغي أن نَتريَّثَ قليلاً ونُعرِّف مصادر اكْتسابِ الحقّ، ليسَ بالمفهومِ الغربيّ وإنّما بِمفهومِ الإسلام الّذي نَنتمي إليهِ وللهِ الحَمد. أوّلاً: الحقّ والشّرع.

الحقُّ خلافُ الباطل، ويُعرّفه الشّرعيّون بأنّه: ما مَنَحهُ الشّرعُ للنّاسِ كافّةً على السّواءِ وأَلْزَمَ كُلّا ًمِنهُم باحْتِرامِهِ وعَدَمِ الاعْتِداءِ على ما هو لِغَيْرِه. وقِيل الحقُّ: هو مَصْلحةٌ ثابِتَةٌ للفَردِ أو المجتمع أو لِكِلَيْهما يُقرِّرُها الشّارِعُ الحكيم. وقيل: هو ما اسْتَحَقّهُ الإنسانُ على وَجْهٍ يُقِرُّهُ الشَّرْعُ ويحْمِيهِ ويُمَكِّنُهُ مِنهُ ويُدافِعُ عَنه. وهناك تعريفاتٌ أُخْرَى مُشابهة .. وتُلاحِظون في جميعِ التعريفاتِ تَكرُّرَ كَلِمةِ الشّرع!! "ما مَنَحهُ الشّرعُ"" يُقرِّرُها الشّارِعُ"" على وَجْهٍ يُقِرُّهُ الشَّرْعُ" دِلالةً على أَنّ الّذي يُقرِّرُ الحقوقَ هو الدِّينُ وَحْدَه لا الفَلْسَفاتِ البشريّة، ولا المنظّماتِ الإنسانيّة، ولا القوانينَ الدّوليّة .. فإنّما هذهِ مصادرُ التّلقِّي عِنْدَ اللّيبرالييّن لا عِندَ مَن رَفعَ رأسَهُ بِشَريعَةِ الإسلام، فأَوْلَى مَن يُعرِّفُ الحقَّ هو الحقُّ تباركَ وتعالى، وأوْلَى مَن يُحِقُّ الحقَّ هو الحقُّ جلّ وعلا {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24] {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال: 7] فدينُ الإسلام هو أنْصَفُ وأعْدَلُ مَن يَهْدي إلى الحقوق، ومن ثَمّ فإنّ الذين يُكرّرون" أنّ للمرأةِ الحقَّ في قيادَةِ السّيّارة " إنّما يُكرِّرونَ عِبارةً لا قِيمةَ لها إلاّ إذا دُعِمَتْ بِدليلٍ شرعيٍّ مَبْنيٍّ على ما يَعْتَبِرُهُ الشّرْعُ حقّاً ولا يَعْتَبِرُهُ شيئاً آخَرَ. لقد اعتنى العُلماء: الأُصُولُيُّونَ منهم الّذين اهْتَمُّوا بِعلْمِ أُصُولِ الفِقه فنَظَرُوا في الأدلّةْ وبَحثُوا في طُرُقِ اسْتِنبَاطِ القواعِدِ الفِقهيّةِ والأحكامِ الشّرعيّة، والفقهاءُ منهم الّذينُ نَظَرُوا وما زالوا يَنظُرون في المسائلِ الفرعيّةِ العينيّة، لقد اِعْتَنى الفريقان ببيانِ الحُقُوقِ مُفْرَدَة، فَتَكَلّمَ الفُقهاءُ عن حَقِّ الشُّفْعَةِ مَثَلاً، وحَقِّ الحَضَانةِ، وحقِّ النَّفَقة، وحقِّ الحياة، وحقِّ الوَرثَة، وحقِّ الولاية، وحَقِّ التَّمَلُّك، وغيرِها مِن الحُقوق .. والأصوليُّون بَحَثُوا في الحَقِّ مِنْ حَيْثُ صاحِبُهُ، فَقَسَّمُوهُ إلى حَقٍّ للهِ، وحَقٍّ للعَبْد، وحَقٍّ مُشْتَركٍ بَيْنَهُما، أمّا حقُّ اللهِ: فهو الذي يَتَعلّقُ بِواجِباتِ العِباد تِجاهَ رّبِّهِم، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأَنْ يَمْتَثِلوا أَوامِرَهُ ويَجْتَنِبوا نَواهِيِهِ بإطْلاق، هذا مِن جِهة، ومنِ جِهةٍ أُخْرَى حَقٌّ مُتعلِّقٌ بالصّالحِ العام للأُمّة مِن حُدود وحُقوق ماليّة عامّة لجميعِ الأُمّة، قال ابن تيمية في تعريفه لهذا النوع من الحقوق (هي التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين) ثُمّ قال (وهي نوعان: أحدها: الحدود.

والثاني: الحقوق المالية) [السياسة الشرعية لابن تيمية]. وأمّا حقُّ العبد فقد بينّا طَرَفاً مِنهُ فِيما يَتعلّقُ بالدُّنيا، ويَبْقَى الحقُّ الّذي أوْجَبَهُ اللهُ على نَفْسِه، فِيما قَالَ صلى الله عليه وسلم كما في صحيحِ مُسلم ((وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) أمّا الحقُّ المشْتَرك فهو الذي لا يَسْقُطُ بِتَنازُلِ العَبْدِ عنه، كَحَدِّ القَذْفِ مَثلاً، فهو حقٌّ للعبدِ دفْعاً للعارِ عنه، وحقٌّ للهِ إخلاءً للعالم مِن الفساد. وقد بَيّنَ العُلماءُ أَنّ ما للعَبْدِ فيهِ اخْتِيار مِمّا هو حُرٌّ في فِعْلِهِ إنّما هو كذلكَ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ اللهُ تعالى لَهُ الخِيارَ لا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُسْتَقِلّاً بالاخْتِيار، كاخْتِيارِهِ لأنْواعِ المتنَاوَلات مِن المأْكُولاتِ والمشْرُوباتِ والملْبُوساتِ وغَيْرِها مِمّا هو حلالٌ له، فلو لم تَكُنْ حلالاً لَما كانَ له حُريّةُ الاخْتيار، فليسَ لأحدٍ أَنْ يُصَنِّفَ حقَّه بِهواه، لأنّ الحقوقَ مِنْحَةٌ مِن اللهِ تباركَ وتَعالى لِعِبادِه لا تثبُتُ إلاّ بدَليلٍ شرعيّ، ولهذا يقول الشاطبي رحمه الله (ما هو حقٌّ للعبدِ إنما ثَبَتَ كَوْنُهُ حَقّاً لهُ بإثْبَاتِ الشّرْعِ ذلكَ له، لا بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقّاً له بحُكْمِ الأصْل) وهو سُبحانَهُ إذا أعْطَى الحُقوق فإنّه يُعْطِيها مُقَيّدةً ولا يُعْطِيها مُطْلَقة، لكي يمُكِّنَ الانسجامَ بينَ الحُقوقِ الفرديّةِ والحُقوقِ العامّةِ بلا تَضارُب، فيَسِيرُ المجْتَمَعُ على أُسُسٍ مَتِينَةٍ مُتَماسِكَة، والّذي يَمْلِكُ التّمييزَ بينَ الحقُوقِ إذا اشْتَبَهَت أو تضاربت هو العالم المجْتَهِد، قال تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] قال المفسِّرون (أولو الأمْرِ هُمُ العُلماء) فتحديدُ الحقوقِ مَرْجِعُها إلى الشَّرْع، والشَّرْعُ له عُلماؤه المتخصِّصونَ الّذين يُمْكِنُهُم الفَتْوَى في كُلِّ ما اسْتَجدّ بعدَ النّظرِ في العِللِ الشّرعيّةِ وما يُحقّقُ مَقاصِدَ الشّريعةِ ويَجْلُبُ المصالِحَ ويَدرأُ المفاسِدَ عن المجتمع، بَعيداً عن ضَغْطِ العاداتِ والتّقاليد التي يُحاوِلُ العَلمانيّون وأتباعُهُم رَدُّ الرّأيَ إليها فيما يَتعلّقُ بِقيادَةِ المرأة فَيَقولون هي مُجرّدُ عادات. ثانياً: الحقّ والنِّظام.

النِّظامُ أو ما يُصْطلَحُ عليهِ عندَ البعضِ بالقانون، هو المصْدَرُ الثاني مِن مصادِرِ الحُقُوقِ بعدَ الشّريعة، ومِن تعريفاتِ النِّظام (هو مجموعةُ المبادئِ والتّشرِيعَاتِ الحَياتيّة والأَعْرَافِ وغَيْرِ ذَلكَ مِن الأُمُورِ التي تَقُوُمُ عليها حَياةُ الفَرْدِ، وحَياةُ المجتمعِ، وحَياةُ الدّولةِ، وبِها تُنَظِّمُ أُمُورَها في السّياسةِ، والاقتصادِ، والاجْتِماعِ، والقَضَاءِ، والعُقُوبَاتِ وغيرِها من الأمور) والنِّظامُ في دُوَلِ الكُفْر يُبْنَى على الفلسفَاتِ والرُّؤى البشريّةِ المحْضة، أمّا النِّظامُ في الدّوْلةِ الإسلاميّةِ التي تحْكُمُها الشّريعة فمَرجِعُهُ الشريعةُ، بل يُعْتَبَرُ امْتِداداً لها، وقد أمَرَت الشّريعة بالعديدِ مِن الواجِبات، ونَدَبَتْ إلى العديدِ مِن المسْتَحبّات، وكَفَلَتْ للنّاسِ العديدَ مِن الحُريّات والكماليّات (كَضمانِ الشّريعةِ للإنسانِ حقَّ التّملُّكِ مثَلاً، فلا يأتي أحدٌ يَمْنَعُهُ مِن ذلك لأنّ الشّريعةَ أباحَتْ للمُسلمِ التّصرُّفَ بِمالِهِ ومِن ذلكَ شِراءُ ما يَحِلّ، أو حقَّ التّنقُّلِ مَثلاً لأنّ الأصْلَ فيها الإباحة، والأدِلّةُ من الشّرعِ على هذا كثيرة) فَكُلُّ ما وَقَعَ تحتَ الواجبات أو المستحبات أو المباحات فهو حقٌّ مِن حقوقِ المسلم لا يَجُوزُ لأحدٍ مَنْعُه مِنه، كما إنّه لا يَصِحُّ أَنْ يَدّعيَ أحدٌ لأحدٍ حقّاً إلاّ بِدليلٍ مِن الشّرعِ أو باسْتنادٍ إلى نُصوصِ نظامٍ إسلاميٍّ مُسْتَمَدٍّ مِن الشّرع، وسِوى ذلك لا يُعَدُّ حقّاً. الحقّ وقيادة المرأة للسيارة إذا كُنّا قد خَلصْنا بأن الحقَّ لا يُكْتَسَبُ إلاّ بالطّريقيْن الّذيْنِ تَقدّمَ ذِكْرُهما، الشّرْعُ والنِّظام، فَلْنَعْرِضْ موضوعَ قِيادَةِ المرأةِ للسّيّارة عليْهِما. أوّلاً نَعْرِضُهُ على الشّرْع من حيثُ أحكامُهُ فنسأل: هل هناكَ دليلٌ على وُجوبِهِ شَرْعاً؟ الجواب كلاّ!! هل هناكَ دليلٌ على اسْتِحْسانِهِ واستحبابه شَرْعاً؟ الجواب كلاّ!! هل هُناكَ دليلٌ على إباحَةِ الشّريعَةِ للمرأةِ حقَّ قِيادَةِ وسيلةِ التّنقُّلِ بِنَفْسِها؟ الجواب نعم لأنّ الأشياء والأفعال التي ليست من أمور العبادة الأصلُ فيها الإباحة، قال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (الأصل في الأشياء عموماً الأفعال والأعيان وكل شيء الأصل فيه الحل) [القواعد الفقهية] فالأصلُ في قِيادَةِ المرأةِ وسيلةَ التّنقُّلِ الإباحة لكنْ بِشَرط، إذا تَوفّر فَلا بأس، وإن لم يَتوفَّرْ فلا يَجُوزُ لها القِيادةُ فَضْلاً عَن أَنْ يَكونَ لها حقٌّ فيها، والشّرْطُ هو أن لا يُؤدّي المباحُ إلى محذورٍ أو مُحرّم، قال ابن القيم (لا يجوز الإتيانُ بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزًا) [إعلام الموقعين] فَكُلُّ مُباحٍ يؤدّي إلى مُحرّم لا يُعدُّ مُباحاً، فالسّفَرُ مَثلاً الأصلُ فيهِ الإباحة لكنْ بِشَرْطِ أَنْ لا يُؤدِّي إلى مُحرّم، فلو سافَرَ إلى بلادٍ فاسِدَةٍ لِغَرَضٍ فاسِدٍ حَرُمَ السَّفَر، وكَذلك البيع أصلُهُ مُباح، لكن إذا باع مُحرّماً، كالخَمْرِ مثلاً، أو باع سلاحاً في زَمنِ الفتنةِ، حَرُمَ البيع .. وهكذا ... ، فهل في قيادةِ المرأةِ للسيّارةِ محذورٌ شرعيّ ينقل الحكم من الإباحةِ إلى التحريم؟

لقد ضَمِنَتِ الشّريعةُ للمرأةِ الخروجَ لِقضاءِ حاجاتِها، فلا تُمْنَعُ مِن ذلك، وضَمِنَت لها حُريّةَ التّنقُّلِ فلا تُمْنَعُ مِن ذلكَ أيضاً إلاّ بسَببٍ شَرْعيّ طارئ كَعَدَمِ وُجودِ المحرَمِ إذا كان التّنقُّلُ سَفراً، أو لِكَوْنِها مُعْتَدّةً، أو لِغَيرِها مِن المحاذيرِ الشّرعيّة، وإذا تَناوَلْنا مسألةَ مُباشَرةِ المرأةِ قِيادَةَ السيّارَةِ بِنَفْسِها وطبّقْنا عليها هذا المبدأَ الشّرْعيّ فإنّه لا يَجوزُ لها ذلك إلاّ مع خُلُوِّ المحذورِ الشّرعيّ، والذي يقدِّرُ المحذور هو عالم الشريعة، والمحاذيرُ في هذه المسألةِ كثيرةٌ، ويَكْفي مِنها ما ذُكِرَ في فَتْوَى كِبارِ العُلماءِ في هذهِ المسألَةِ، كاسْتِمراءِ نَزْعِ الحِجابِ شَيئاً فَشيئاً، وكَذَهابِ الحَياء مع كَثرَةِ المخالطة، وكتَعرُّضِ المرأةِ للسُّفهاءِ من المراهقين وسِفْلَةِ النّاس حينَ الوُقُوفِ عِندَ إشارَاتِ المرور، وحين الوقوف عند محطّاتِ البنزين، وحين الوُقُوف عِندَ نُقَطِ التّفْتيش، وحين الوُقُوف عِندَ رِجَالِ المرُور عِندَ التّحقيِق في مخُالفةٍ أو حادِث، وحين الوُقُوفِ لِتغييرِ إطارِ السّيّارَةِ، أو لِمِلءِ إطَارِ السّيارةِ بالهواء عندَ محلِّ التّصليح، وحين الوُقُوفِ عِندَ خَللٍ يَقَعُ في السّيارةِ في أَثْناءِ الطّريق، عدا عن الازدحام وغيرِها مِن المحاذيرِ التي تُغلِّبُ المفاسِدَ على المصالِحِ بِشَكْلٍ كبير، فإذا انْتَفَت تلكَ المحاذير، كما هو الشّأنُ في الباديةِ والأماكِنِ المعزولَةِ، حلَّ للمرأةِ القِيادَة، فلا أحَدَ يَقولُ بِتَحْريمِ مُجرَّدِ قِيادَةِ المرأة للسّيّارة. إذنْ فالشّرْعُ لا يُبيحُ قِيادَةَ المرأة للسّيّارَةِ في المدينَةِ دَرْءاً لتلكَ المفاسد، فانْتَفَى بذلك حقُّها الشّرعيّ. ثانياً: لو عَرَضْنا موضوع قِيادَةِ المرأة للسّيّارَةِ على المصْدَرِ الثّاني مِن مصادِرِ اكِتِسابِ الحقّ وهو النِّظام، فهل لها حقٌّ نِظاميّ؟ لقد سبق وبيّنا أنّ النِّظامَ المعتبرَ في الدّولةِ المسلمة مَرجِعُهُ الشّرع ويُعْتَبَرُ امْتِداداً له، وما سوى ذلك ليس له اعتبارٌ شرعيّ، وإذا تبيّنَ أَنّ النِّظامَ في المملكةِ أيضاً لا يَسْمَحُ للمرأةِ بِقِيادَةِ السّيّارة، فصار الشّرْعُ والنّظامُ كلاهُما لا يُعْطيانها الحقّ، فَمِنَ أيْنَ اكْتَسَبَتْ حقَّ القِيادَةِ الذي تطالبُ به إذن؟ وكيف تدّعي حقّاً وهميّاً لا حقيقةَ له؟ ولو قُلنا بِصحّةِ هذا الحقِّ الّذي لا أصْلَ له فإنّنا سَنفْتَحُ باباً واسعاً للمطالباتِ الوهميّةِ لا سبيلَ إلى إغلاقه، فللمرأةِ أن تُطالبَ بحقِّها في السُّفور، وللمرأةِ أن تُطالبَ بحقِّها في السَّفَرِ لِوحْدِها دُونَ محرم، وللمرأةِ أَن تُطالب بحقِّها في المشاركة في الألعاب الأولمبية، .. إلى آخره ..

فالشّرعُ إذن لا يُعطيها الحقَّ في القيادة، والنِّظامُ كذلك لا يُعطيها الحقّ في القيادة، فَمِن أينَ لها أن تُطالبَ بهذا الحقّ؟ اللهُمّ إلاّ إن كانت تستنِدُ في هذا الحقّ إلى قِيَمِ الغربييّن والمستغربين وأعرافِهِم، فإنّ قِيَمَ هؤلاءِ وأعرافَهُم لا قيمةَ لها في الإسلام إلاّ كما قال تعالى {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] ف على الّذينَ اسْتُدْرِجُوا إلى مَقالَةِ (مِن حقِّ المرأةِ أَنْ تقود) والّذينَ اشْتَبَهَ عليهِم فَتساءلوا (أليسَ لها الحقُّ في أَنْ تَقود؟) على هؤلاءِ أَنْ يَتَنبّهوا إلى أَنّ الحقوقَ لا تُكْتَسِبُ مِن الأهواءِ ولا مِن العاطِفة ولا مِن الفَلْسَفاتِ الغربيّةِ والشّرقيّة وإنّما تُكْتَسَبُ مِن مَصادِرِها الشّرعيّة والنِّظاميّةِ المعتبرةِ شرعاً، وخِلافُ ذلكَ يُعدُّ تَمرُّداً وخُروجاً على الشّرْعِ مِن جِهة، وخُروجاً على النِّظام مِن جِهَةٍ أُخْرَى. اعتبارات مصاحبة: الخلاف في حكم قيادة المرأة للسيّارة. قد يحتج البعض بآراءِ بعضِ العلماء وطلبةِ العلم المخالفِ لفتوى كبار العلماء في المملكة، سواء كان أولئك المخالفون في داخل المملكة أو خارجها، فالفصل في هذا يعود إلى أمرين: الأول: المكان والبيئة. في معظمِ البلادِ حَوْلَنا يكادُ الاختلاطُ بين الجِنسيْن أن يكونَ عُرفاً اجتماعيّاً مُحترَماً ومحميّاً بالنِّظام، وكذلك سُفورُ النِّساءِ على تفاوت بين بيئةٍ وأخرَى، وبالتالي فإنّ العلماء الّذين يعيشونَ في تلكَ البيئات لا يرون محذوراً في قيادَةِ المرأةِ للسيّارة، لأنّ قياسَ قيادةِ المرأةِ للسيّارة إلى مفسدةِ الاختلاط المتأصّل بين الجنسين، ومفسدةِ اعتيادِ النسّاءِ للسّفور في بلادهم يجعل قيادةَ المرأةِ [الحاصل أصلا عندهم] بالنّسبةِ إلى تلك المنكرات الآنفة الذكر شيئاً عرضيّاً لا يُقدّم ولا يؤخّر، فلا غرابةَ أن يُفتوا بالإباحة، أمّا في بلادنا المحافظة التي تحتضن الحرمين وتستظلّ بالشريعة فالأمر مختلف، فإنّنا ولله الحمد لم نصل إلى ذلك الوضعِ الخطير الذي وصلوا إليه، فالاختلاط والسّفور في بلادنا ما زال محدوداً ومستنكراً، وحياءُ المرأةِ وسترُها في المجتمعِ هو الأصل، فإذا قيل إنّنا البلد الوحيد في العالم الذي لا يُسمح فيها للمرأةِ بالقيادة قلنا نعم لأنّ ذلك من خصوصيّاتِنا ومن تَميُّزِنا الذي نفخر به ونحمد الله تعالى عليه، ولذلك يرى كبار العلماء في بلادنا أنّ قيادة المرأة يؤدّي إلى محاذير عديدة - سبق ذكرها - لا تُوجدُ أصلاً في مجتمعاتِنا، فلماذا نُمهِّدُ لها الطّريق فيحصُل لنا ما حصل في تلك البلاد الأخرى؟ ونرى أثَرَ البيئةِ والمكانِ مطّرداً في مسائلَ أُخْرَى أيضاً، كمسألةِ المظاهراتِ مثلاً، قد يرى العلماءُ في بلادٍ مّا جوازَها للمصلحةِ الرّاجحة منها في تلك البلاد، بينما يرى كبارُ علماءِ المملكة أنّ مفاسدها في بيئتِنا أكبرُ مِن مصالحها لاختلافِ البيئةِ والظروفِ المحيطة أو لِعللٍ أخرى، وقِس على ذلك. الأمر الثاني: المرجعية. إذا لم تنضبط الفتوى أصبحت فوضى، والضابط في الفتوى أن يُعتمد منها ما صدر عن الجهات المخوَّلة بالفُتيا، ومرجعيّةُ الفتوى في المملكة هي هيئة كبار العلماء، فإذا خالف أحدٌ من طلبة العلم فتوى كبار العلماء في مسائل الاجتهاد، كمسألة قيادة المرأة للسيّارة، رجعنا في الرأي الرّاجح إلى كبار العلماء لا إلى صغار طلبةِ العلم. بين الشرع والنظام ذكرنا فيما سبق أنّ النِّظامَ أحد مَصْدَري اكتساب الحقّ، وأنّ هذا ليس على الإطلاق وإنّما بِما يتّفق مع المصدر الأساس الّذي هو الشّرع، فَمنحُ النّظامِ للحقّ مُقيّدٌ بما وافق الشّرع، فلو مضى الزّمان وتبدّل الحال وقُدِّمَ النِّظامُ على الشّرع في أمرٍ ما فإنّ النِّظام حينذاك لا يُعتَبرُ مانحاً لِحقِّ بل مانحاً لما يَعتبرُهُ الشّرعُ باطلاً ومنكراً يستلزم النّصيحة والاحتساب، ولا يُعدُّ مَن اسْتندَ إلى النّظامِ في تلكَ الحال صاحب حقّ. أخيراً، أسأل الله تعالى أن يرينا الحقّ حقّاً ويرزقنا اتّباعَه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه سميع مجيب.

السلفية ... منهج، أم جماعة؟

السلفية ... منهج، أم جماعة؟ فهد بن صالح العجلان الأحد10رجب1432هـ تشهد الساحة الإعلامية هذه الأيام هجوماً عنيفاً ومتلاحقاً ضدَّ السلفية في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، في ظاهرة ملفتة أثارت انتباه المتابعين لبدء حلول موسم الهجوم على السلفية، والحقيقة: أن الهجوم على السلفية متواصل أبداً لا يتوقف صريره، يشتعل في أوقات ويخفت لهبه في أُخَر؛ فليس ثَمَّ موسم للطعن في السلفية؛ لأنه غذاء يومي لكثير من الحانقين والخائفين من الخيار الإسلامي. هل السلفية منهج، أم جماعة وحزب معين؟ أكثرية المشاركين في إشعال الحرائق ضد السلفية لا يميزون بين الأمرين؛ لأن لديهم خصومةً عميقةً مع المنهج الإسلامي عموماً، ومن ثَمَّ فلا أثر لهذا التمييز لديهم لأن النقد متَّجه بشكل أساسي إلى المنهج الإسلامي. السلفية: هي منهجٌ في طريق السير على هدي الإسلام: فحين تتفاوت الأفهام في تفسير الإسلام ومعرفة أحكامه وتحديد المنهجية الصحيحة فيه تأتي السلفية معتمدة على منهج السلف الصالح: من الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فهم خير هذه الأمة، وأزكاها ديناً، وأعلاها مقاماً، وأعمقها فهماً، وأعلمها بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن اجتهد في سلوك طريقهم فهو سلفي أيّاً ما كانت الجماعة التي ينتمي إليها. يرتكز قوام السلفية على احترام هذا الجيل الإسلامي الفريد والاقتداء به، وتربية النفس والأجيال على تقديرهم وبيان فضلهم؛ ليس تنزيهاً لهم عن الخطأ؛ بل استهداء بفهمهم وسيرٌ على خطاهم. تسير السلفية على خطا هؤلاء الأسلاف في ما أجمعوا عليه، وعلى اتِّباع منهجيتهم في التلقي ومصادر الاستدلال وكيفيته، وفي مسالك التعبد والأخلاق؛ فهم أَوْلى الناس بالحق فلن يخرج الحق عن قولهم إن أجمعوا، ولا عن أقوالهم إن اختلفوا. تعظِّم السلفية من شأن النص الشرعي - كتاباً وسُنة صحيحة - وتجعله هو الأصل الذي تعتمده وتستهدي به، لا تردُّ أي نص صحيح لذوق أو هوى أو معقول، ولا تضع أمامه عراقيل القيود والشروط؛ بل تنقاد إليه وتسلِّم له حين يتبين أنه مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالنص هادٍ ودليلٌ تتَّبعه النفوس، وليس تابعاً ومنقاداً يسير خلف ما تريد النفوس والقراءات المختلفة منه. تؤمن السلفية بشمولية الإسلام في العبادات والأخلاق والمعاملات وشوؤن الحياة كلها؛ شمولاً يضم الفرد والمجتمع، الحاكم والمحكوم والحُكْم، والدنيا والآخرة، والمصالح العاجلة والآجلة، في رؤية متكاملة لِمَا يُسعِد المسلم في دينه ودنياه. تشهر السلفية بوضوح تام ضرورة إخلاص العبادة لله - تعالى - وأولوية تطهير النفوس من الخرافات والمعتقدات الفاسدة والبدع المحدثة؛ التي تخالف ما كان عليه الصحابة وتابعوهم. هذه هي الأصول العامة للسلفية؛ فهي منهج ورؤية؛ من التزم بها ودعا إليها واجتهد في تحقيقها فهو سلفي أيّاً ما كان، ومع أي جماعة سياسية سلك. ومن خالف أصولها خرج عن السلفية. إذن: ما معنى أن تكون السلفية منهجاً لا جماعة؟

1 - أنه ليس ثَمَّ ناطق أو ممثل للسلفية يعبِّر عن رأيها ومنهجها؛ بحيث يكون من خالفه فهو مخالف للسلفية ومن وافقه فهو موافق للسلفية، لا يوجد شخص ولا جماعة ولا حزب كذلك؛ فهي منهجية استدلال تحاكم الأفراد والجماعات ولا تحاكَم هي إلى أحد، فليس ثم جماعة تمثل السلفية؛ وإنما يوجد أفراد وجماعات ينتسبون إلى السلفية ويسعون لتحقيق منهج السلف؛ فلا يمكن اختزال السلفية في جماعة محددة ولا في قضايا معيَّنة. وهذا ما يفسر لك التباين الشديد بين الجماعات المنتسبة إلى السلفية في كثير من الوقائع؛ حتى إنك لتجد التعامل مع الأنظمة السياسية المعاصرة يختلف من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال في رؤية بعض الجماعات التي تنتسب إلى السلفية؛ فهذا التنافر التام والاختلاف الجذري يثبت أن السلفية ليست جماعة محددة؛ وإنما منهج ورؤية قد يُحسِن المسلم تطبيقها وقد يسيء فهمها فيقع في الخطأ والانحراف. 2 - أن مجرد الانتساب إلى السلفية لا يكفي لأن يكون الشخص سلفياً، وكون الشخص لا يتسمى بالسلفية لا يخرجه ذلك عن السلفية؛ لأنها ليست جماعة تقتصر على أفرادها المنتسبين إليها؛ يكتفي الشخص بمجرد الانتساب إليها؛ بل هي منهج ورؤية تقوم على اقتناع بضرورة معرفة وتطبيق منهج الصحابة ومن جاء بعدهم من الأئمة والعلماء الكبار. 3 - أن وقوع بعض المنتسبين إلى السلفية في بعض الأخطاء لا يجوز أن يُُنسَب إلى السلفية؛ وإنما تُنسَب الأقوال والأفعال إلى قائلها أو إلى الجماعة التي تقررها، وحينئذٍ فالنقد الإعلامي الذي يوجَّه إلى السلفية بشكل عام هو نقد مأزوم غير موضوعي؛ لأن الناقد يقصد شخصاً معيَّناً أو فئة محددة، ويتكلم بخطاب عام، ثم يكرر في كل مرة اعتذاره أنه لا يقصد الجميع؛ وإنما يقصد بعضهم. وسبب الخلط نشأ لديه من عدم تمييزه من كون السلفية منهجاً لا جماعةً. 4 - أن السلفية لا تعني الاتفاق على المسائل الفقهية الخلافية أو المواقف السياسية المبنية على تقدير المصالح والمفاسد؛ فاتفاقهم على الأصل الكلي والمنهج العام لا يؤدي بالضرورة إلى اتفاقهم في الفروع والتفاصيل، وقد كان السلف الصالح يختلفون كثيراً في المسائل الفقهية وفي تقديرهم للمصالح والمفاسد، ولم يكن هذا سبباً للطعن في أحد منهم ما دام أنه مستمسك بالأصول والمنهج الكلي، بل هذا دليل على ثراء المنهج السلفي وتنوعه. 5 - أن الأخطاء التي يقع فيها الشخص لا تخرجه عن السلفية ما دام أنه ملتزم بها ومستمسك بأصولها ومجتهد في تطبيقها ومراعاتها في الواقع، اللهم إلا أن يخالف أصلاً كليّاً من أصول السُّنة، أو تكثر مخالفته وتطَّرد في عدد من القضايا الجزئية مما يصل لحد الانحراف في الأصل الكلي [انظر: الاعتصام للإمام الشاطبي: 3/ 140.]، مع أهمية التأكيد على أن هذا حكم على الوصف لا العين؛ إذ في الحكم على أعيان الأشخاص من الضوابط ما يقتضي شديد التورع والاحتياط فيه. 6 - وكون السلفية منهجاً لا جماعة يعني بداهة أن المنتسبين للسلفية هم قِطَاع واسع جداً من العالم العربي والإسلامي، بل هم الأصل في عموم المسلمين؛ فالأصل في المسلم أن يتبع الدليل ويسير خلفه بمنهجية فهم الصحابة، ومن شذَّ عنه فهو المخالف؛ فالسلفية هي القاعدة والأصل وليس الاستثناء؛ فمحاولة تقزيمها في جماعة محددة أو اختزالها في قضايا معيَّنة هو جهل من بعض الناس أو أسلوب ماكر من بعض المنحرفين لمآرب لا تخفى.

7 - وكون السلفية منهجاً لا جماعة لا يعني أنه كل الاجتهادات والتفسيرات مقبولة ومعتبرة في المنهج السلفي؛ فالسلفية منهج له أصوله وثَمَّ مساحة واسعة للاجتهاد في محيطه، فسعة منهجه وثراء مقولاته لا تؤدي إلى النسبية المطلقة وغياب الحدود الفاصلة التي تكشف الاجتهادات المقبولة داخل المنهج السلفي والاجتهادات المخالفة له. 8 - إن النقد الموجَّه للسلفية يجب أن يفرَّق فيه بين النقد الموجَّه للجماعات والأفراد المنتسبين للسلفية؛ فهذا نقد مقبول ومعتبَر شريطة أن يكون عادلاً وأن يكون النقد لأفعال السلفيين لا إلى نفس السلفية، والسلفيون هم أَوْلى الناس بضرورة الوعي بأهمية الاستفادة من نصح الناس ونقدهم وتقويمهم؛ حتى لو بدر ممن يحمل مواقف عدائية أو بطريقة خاطئة فيستفاد من نقده ولن يضرَّهم قصدُه. هل سيتوقف الهجوم على السلفية حين تتميز (منهجاً) لا (جماعة)؟ بالتأكيد لا. فإن اعتماد المنهج السلفي على (النص الشرعي) محوراً مركزياً للانطلاق، وارتباطه بـ (السلف الصالح) في فهم هذا النص وتفسيره، يجعله المنهج الصحيح لفهم الإسلام وتطبيقه، وهو ما يجعل النفوس تهفو وتنجذب إليه؛ فالنفوس المسلمة متعطشة إلى الرجوع إلى هويتها ودينها وقيمها بفهمه الصحيح؛ فأكثرية الناس تبحث عمَّا يريده الله وتسأل عن المنهج والمسلَك الذي ينجيها في الآخرة، وليسوا مهمومين بمنهجية (التكيف مع الواقع) و (تبرئة الإسلام من الشبهات) ومحاولة إقناع المسلمين (بصلاحية دينهم لكل زمان ومكان)، فأكثرية المسلمين ليسوا بحاجة إليها كثيراً، وما هي إلا زيادة بصيرة ونور، وهذا (الوضوح) و (العمق) هو ما يجعل (المنهج السلفي) مخيفاً ومرعباً لكثير من المنحرفين والزائغين الذين لن تتوقف مراجل الحَنَق في قلوبهم من الغليان. المنهج السلفي يربي في أتباعه خصائص الشموخ والعزة بالإسلام رسالةً وحضارةً؛ فشتَّان بين من (يقرأ النص ليعرف مرادَه ليسير على هديه) كما هي خاصية المنهج السلفي، وبين من يبحث عن (تحقيق مراده من خلال النص) كما هي خاصية كثير من المناهج العَلمانية والتلفيقية. وشتان بين من (يبحث في النص وهو يعتقد أن ثَمَّ معنى شرعياً محدداً يريده الله)، وبين من يرى (أن الحقائق نسبية، وأنه لا وجود لمن يمتلك الحقيقة المطلقة) كما هي حالة التيه التي تعبث بكثير من أهل هذا العصر. وشتان بين من يضع (منهجاً محدداً وأصولاً واضحة في التعامل مع النص)، وبين من (يتقلب بين المناهج والأفكار بحسب كل واقعة). وشتان بين من (يتخذ الصحابة والتابعين دليلاً بين يديه)، وبين من (يسير خلف فلاسفة وضلال الشرق والغرب). إنه منهج يتسم بالوضوح والاطراد، والتناسق والتماسك، وهو ما يجعل أثره عميقاً في نفوس المستمسكين به، ودورَه فاعلاً في التأثير على المخالفين، وهو أيضاً أقدر المناهج على الدفاع عن أحكام الإسلام؛ لأنه لا يسلِّم للمخالف بباطل يتوصَّلون من خلاله للطعن في الإسلام. إن بعض المنحرفين يوجِّه سهامَه إلى السلفية فينتقدها على أمور هي من صميم الإسلام؛ فهو ينتقد في الظاهر الجماعات السلفية لكنه في الحقيقة يطعن في الإسلام نفسه؛ كمن ينتقدهم في أصل (الحجاب) أو (التوحيد) أو (الحكم الإسلامي) فهو في الحقيقة يطعن في الإسلام نفسه؛ وإن زعم أنه يقصد الجماعات السلفية؛ فمن الخلل ونقص الحكمة أن يتعامل بعض الناس مع ظاهرة النقد هذه وكأنها موجَّهة إلى جماعة محددة؛ فمن المهم أن يستوعب الشخص الأسباب التي تدعو للنقد وحقيقة النقد حتى يدرك من خلالها، هل هو نقد لـ (جماعة) أم طعن في (منهج ورسالة)؟

الحمية الفكرية

الحِمْيَة الفكرية علي بن جابر الفيفي الأحد10رجب 1432هـ ألاحظ إقبالاً وتلهّفاً غريباً لدى الشباب على قراءة الكتب الفكرية، والتي يناقش بعضُها كثيراً من المسلمات الدينية، من أمثال كتب الجابري وعلي الوردي وأركون وغيرهم .. وحجّتهم في ذلك ضرورة التسلّح الفكري، ومعرفة ما عند الآخر .. ولظنّهم أيضاً أنهم سيجدون لدى هؤلاء أشياء لم يجدوها لدى ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم من أعلام الإسلام ومفكريه الأصلاء في القديم والحديث .. وفي ظني أن هذه الموجة هي ظاهرة غير صحيّة أبداً، يجب مكافحتها، وأطر النفس على تجنّبها، لدى فئة وترشيدها لدى فئة أخرى، ليس العمر وحده من يحدد هاتين الفئتين بل مقدار الوعي والطبيعة النفسية كذلك تعتبر محددات مهمة، فهي (أي هذه الموجة والصرعة الفكرية) باب ضلالة، وقد نُهي المسلم عن إلقاء نفسه إلى التهلكة {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ومن أعظم الهَلًكة هَلَكة الدين، يقول ابن تيمية رحمه الله: (من تعرّض للفتن .. وكله الله إلى نفسه) .. فلا يصح أن يعرّض المؤمن نفسه للفتن، ويدخل قلبه في اختبار قدرات عقدية، قد يخرج منه راسبا والعياذ بالله .. بل إن من المطالب العظيمة التي يجب على المؤمن أن يشد يده عليها الحرص على نقاء التصور الديني، وعدم شوبه بغيره، وقد نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب عن قراءة ورقة لديه من التوارة وقد يُلمح في هذا النهي الحرص على نقاء العقيدة وعدم خدشها بما يجرحها .. لا ينبغي تعريض القلب للفتن، ((لقلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غلياناً))، ولا يظننّ ظان أن الضلالة تهجم على الإنسان دفعة واحدة، بل قد تستخدم سياسة النَفَس الطويل للفتك بعقيدة الإنسان، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً .. ))، وسُمّي السير في طريق الشيطان باتّباع (خطوات) الشيطان: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] فهناك عرض للفتن وهناك خطوات، إذن فالضلالة تتوسّل بشعور الإنسان بالأمن من الإضلال فتدلف عليه من هذا الباب متوشّحة جلباب حب الإطلاع، أو العلم بالشيء خير من الجهل به، وما تزال تتجمّع حتى لا يستطيع القلب دفعها فتدفع به هي في وديان الضلال المبين .. كانت الخواطر العقدية السيئة تخطر في قلوب الصحابة، فلم يكونوا يُفصحوا عنها، بل يقول أحدهم لأن أتحوّل إلى فحمة خير لي من أن أقولها، ويقول الآخر لأن أخرّ من السماء أحب إليّ من أن أبوح بها، مع أن الذي سيفصحون عن خواطرهم لديه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لوك الشبه العقدية ليس مما ترضاه فطر أهل الإيمان .. فكيف بالعكوف على كتاب قد جمع فيه مؤلفه أنواع الضلال، مع الاستدلال لها، وردّ ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. ومما يُلحق بكتب أهل الزيغ مقالاتهم التي يكتبونها في المنتديات والصحف وخواطرهم التي ينشرونها في صفحاتهم ومقاطعهم التي ينزلونها في بعض المواقع ..

وقد كان نهج السلف رحمهم الله البعد عن أهل البدع، وعدم تعريض الناس لسماع أقوالهم، بل كانوا يطردونهم من مجالسهم، وكانوا يكبتون الأقوال الشاذة، والبدع المستحدثة بحصرها في أضيق نطاق، ومناقشتها عبر الكتب المتخصصة، وعدم بثها بين الناس، بل كان الفُضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول: (لو سألني أحدهم: أمؤمنٌ أنت؟ ما كلّمته ما عشت)، يقول هذا في زمن انتشار فتنة القول بالإيمان، فتأمل أخي الحبيب كيف كان رحمه الله يقطع دابر الأقوال الشاذة بخنقها في صدور أصحابها، فلم يكن يأمن على نفسه ولا على من حوله من كثرة ترداد مثل هذه الأقوال والتساؤلات .. مع أنها مجرد تساؤلات .. فكيف بكتب تنثر الشبه كنثر الدقل، وتبرهن عليها؟ ولم يكن الفضيل بِدعاً من بقية علماء وسادة السلف عليهم رضوان الله .. بل إن من حرص السلف الصالح على نقاء العقيدة ونقاء التصور، والبعد بالناس عن مواطن الإضلال أمرهم بالسكوت عن شيء من الدين، مما لا تبلغه بعض العقول، قال ابن مسعود: (إنك لن تحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) .. فكان السلف يسكتون عن ذكر بعض صفات الرب سبحانه وتعالى إن كان في مجالسهم عامة الناس الذين لا يدركون مثل هذا الكلام، خشية أن ينكت الشيطان بها في قلوبهم نُكت الشُبه .. ويتحدثون بالكلام المشهور المعروف من أمور الدين .. البعض يرى في كتب ابن تيمية - مثلا - كلاما فلسفيا، وعمقا في رد شبه أهل الكلام مما يشي باطلاع عميق على هذه العلوم، ومن المعروف عنه رحمه الله أنه ضليع في علم الكلام، فقد تبحر فيه، فيكون مثل هذا داعيا لهؤلاء لتعريض أنفسهم لقراءة كتب أهل الانحراف، ولم يعلموا أن ابن تيمية وأمثاله إنما فعلوا ذلك بعد أن تضلّعوا من علوم الوحي، وبعد أن صاروا أئمة في الدين، فقرؤوا ما قرؤوا من كتب أهل الكلام وقد صاروا دهاقنة بصيرين يميزون زيف الأقوال من غيرها، ويخرجون الضلالات من كتب أهل الزيغ بالمناقيش كما يقال، ثم يردون عليها، ويفنّدونها نصحاً للأمة، وليس من قبيل الترف الفكري هذا الذي صرنا بسببه نخاطر بصفائنا .. أصبح البعض يقبل على مثل هذه القراءات، بل يدعو إليها، فإذا ما نُصح في ذلك أتى بكلام يحمل مورّثات قبليّة، وكأن القضية من قضايا النخوة والشهامة؟ من مثل: لسنا صغارا؟ ونحن رجال وهم رجال! ومن أشد الكلمات التي تقال في هذا السياق كلمة صنعها الشيطان في معمله ثم نشرها في الآفاق تقول الكلمة: ليست عقيدتنا من الهشاشة حتى نخاف عليها كل هذا الخوف! وهذا من قبيل الأمن من مكر الله، يُخشى على صاحب مثل هذه العبارات أن يبتليه الله في عقيدته، لأن السماوات والأرض لم تخلق إلا للعقيدة .. ثم يأتي صاحبنا ليعرض عقيدة في أسواق البدع والضلالات .. بحجة تماسكها وبأنها ليست هشة؟ وهذا الشيطان كان من قربه من الله يعبده في معية الملائكة فضلّ ضلالا بعيدا .. فهل كانت عقيدته هشة وهو يعبد الله في السماء؟ أم أن الأمر أبعد من مسألة الهشاشة والتماسك .. إنها قضايا القلوب التي حيّرت وأذهلت وأشابت عباقرة الإسلام، حتى قالوا: ما أمن النفاق إلا منافق!

لا ينبغي نشر ثقافة الأمن من النفاق، مع أن من أعظم ميزات الصحابة رضوان الله عليهم هي ميزة الخوف منه، والحذر الشديد من الوقوع فيه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير الاتهام لنفسه بالنفاق، بل مما يذكر أنه دخل على حذيفة (وهو أمين سر النبي في أسماء المنافقين) فدخل عليه المسجد وهو يقرأ القرآن وقال يا حذيفة لقد مات فلان فهلمّ نصلي عليه، فلم يقم حذيفة وأكمل قراءته، فأعاد عليه عمر فلم يقم حذيفة، فعلم عمر أن حذيفة قد علم أن ذلك الرجل ممن عدّهم النبي في المنافقين، فجاء إليه وعيناه تذرفان وقال: أسألك بالله يا حذيفة .. أعدّني رسول الله منهم؟ فقال حذيفة: لا .. ولن أخبر أحداً بعدك .. فهذا عمر وهو عمر، كان يخشى على نفسه من هذا الكابوس الخطير، كابوس النفاق، بينما نجد بعضنا يوغل في قراءة الكتب التي تنثر بذور النفاق في القلب نثرا خفيا .. فيعرض أحدنا نفسه لأعظم مهلكة، تودي بدينه ودنياه .. زرت في سنة من السنين شخصا أدين الله بأنه على ضلالة، فأهداني كتبا له، فرآها أحد الأحبة معي فطلبني أن أحرقها فأبيت، وأنا أقول في نفسي، لا يعلم هذا ما أنا عليه من معرفة وتحصين فكري!! وهذا كان مني غروراً وعُجبا واعتداداً بما معي من ضحل الثقافة .. وأخذت في قراءة شيء مما في تلك الكتب المشؤومة .. ثم تركتها جانبا وانصرفت لحياتي .. وبعد أسابيع أو أشهر، أمسكت كتابا فقهيا، وفي إحدى الصفحات جاء الكتاب على ذكر الإمام أحمد بن حنبل وبأن قوله في المسألة كذا .. فانقبض قلبي يسيرا، نعم والله أحسست بشيء كالبغض تسلل في قلبي عندما وقعت عيني على اسم الإمام العظيم أحمد بن حنبل! وبعد سطرين، توقفت وبدأت أتأمل ذلك الشعور الغريب على نفسي، ثم تذكرت أني قرأت في تلك الكتب الضالة نقدا لاذعا لهذا الإمام، ومع أني لم أقتنع بشيء من ذلك النقد إلا أن شؤم ذلك الكلام الذي قرأته قد تسلل إلى نفسي دون أن أعي، أو حتى أن أقتنع .. فاستعذت بالله من شر تلك الكتب، وعاهدت نفسي بعدها على أن أخاطر بأي شيء إلا قلبي، وأن أتجرأ على أي شيء إلا عقيدتي .. ومازلت أدعو لذلك الشاب الذي طلب مني إحراق تلك الكتب .. وأعلم فضل عقله على عقلي .. فالحذر الحذر من أي كتاب يُعبث فيه بمسائل العقيدة، فمنطقة القلب والاعتقاد منطقة لا ينبغي التعامل معها إلا بالحذر الشديد، وكم سالت دموع الصالحين خشية من الإضلال في آخر الحياة .. وقد تنشأ في القلب بسبب هذه المطالعات "الدسائس"، هذه الدسائس التي أخبر ابن رجب رحمه الله تعالى أنها من أسباب الإضلال قبل الموت، والتي فسّر بها حديث ابن مسعود الشهير: " .. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار .. فيدخلها!! " والعياذ بالله .. تأمل أخي الصالح كيف أن الله تعالى نهى عن قُربان المعاصي" {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] .. وهي معاصي شهوات، فكيف بنا ونحن نصول ونجول، ونخوض في مستنقعات الشبهات، ألا نخشى من الزيغ بعد الهدى؟ يجب أن نحفظ قلوبنا أعظم من حفظنا لأجسادنا، هذه الأجساد التي نعرّضها للحِمْية الغذائية حتى نحفظها، لا بد أيضا أن نعرض قلوبنا لحمية فكرية، فلا نقرأ أي مقالة، ولا نطّلع على أي كتاب، ولا نستهين بأي شبهة، فقد بكى بعض الضُلاّل من علماء الكلام بكاء حارا عندما سمع عامّيا يقول: لا إله إلا الله .. فقال ذلك العالم: أومن قلبك تقولها؟ قال: نعم؟ قال: أمعتقد بها؟ قال نعم، فبكى ذلك العالم بكاء شديدا وقال: أما أنا فلا أدري ما أعتقد! نعوذ بالله من الزيغ ..

فلا بارك الله في ثقافة تخدش نقاء المعتقد، ولا في اطلاع وتوسّع فكري يؤثر على صفاء القلب، فالماء مهما كان نقيا إذا ما سُخّن بالعذرة حمل شيئا من خصائصها، وإن كانت رائحتها النتنة .. فكيف بقلب فطره الله على الإيمان، ثم هو يقرأ كلاما يناقض الإيمان الحق، ويتردد على شبه قد آلت بالبعض إلى الانحراف التام، أولا يخشى على نفسه من شيء من ذلك؟ وإن للمتأمل دليلا على فساد مثل هذه الاطلاعات، وعدم رضا الرب عنها من واقعه، فبالله عليك هل تجد لذة في قراءة كتاب الله تعالى بعد انتهائك من قراءة كتاب فكريّ، سوّد فيه مؤلفه أوراقه بذكر فلسفات كافرة، وأقوال منحرفة، حتى وإن أتى على نقضها وردّها، فكيف إن جاء بها في سياق التأييد؟ ألا يخشى المؤمن الورع أن يكون في اقتنائه لهذه الكتب، وتربيح ناشيرها ومؤلفيها ركونا للذين ظلموا؟ ألا يخشى أن تمسّه نار الفتنة؟ يقول مصطفى السباعي في كتابه (هكذا علمتني الحياة) ما معناه: أن أي كتاب تقرأه يشقّ في عقلك مسارباً وممرات قد لا تُمحى أبد الدهر فلينظر القارئ ما يقرأ ولمن يقرأ .. أعلم أني أطلت، ولكن القضيّة أعتبرها تستحق شيء من الإطالة، وأتمنى من أهل العلم أن يطرقوا هذا الجانب، ويحذروا من ولع الشباب وانغماس بعضهم في القراءة لأهل الضلالة .. وأختم بقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ .. } [الأنعام: 68] فهذا تحذير لمن نزل على قلبه القرآن الكريم بأن يعرض عن الذين يخوضون في آيات الله تعالى .. أو بعد هذا التحذير من الركون إليهم، والأمر بالإعراض عنهم نستبيح لأنفسنا أن تتضلع من زبالات أفكارهم؟ سؤال أترك إجابته لمن يحب أن يأتي ربه بقلب سليم.

فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الاختلاط بين الرجال والنساء رقم (25146) وتاريخ 3/ 7/1432هـ الحمد لله وحده والسلام على من لا نبي بعده ... وبعد: فقد أطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي/ صالح بن محمد، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (22001419) وتاريخ 28/ 6/1432هـ وقد سأل المستفتي سؤالاً هذا نصفه: (سماحة المفتي العام: في هذه الأيام كثر السؤال عن الاختلاط بين الرجال والنساء وبخاصة في العمل والتعليم، ونريد من سماحتكم التكرم بالإجابة عما ذكر، والله يرعاكم؟). وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن عمل المرأة وتعليمها يجب أن لا يترتب عليه اختلاطها بالرجال؛ بل لابد أن يكون في مكان مستقل لا يعمل فيه إلا النساء؛ لأن الشريعة جاءت بتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء ومنعه والتشديد فيه، كالاختلاط في مجالات التعليم والعمل وكل ما يفضي إلى الاختلاط، قال تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب فذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} [الأحزاب: 53]، وحكم هذه الآية عام للنساء المسلمات إلى يوم القيامة. ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المرأة في بيتها خيراً لها من صلاتها في المسجد، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. عليه فيحرم الاختلاط بين الرجال والنساء فيما ذكر سابقاً، سواء كان ذلك بخلوة أو بدونها، ولا يجوز أن تعمل المرأة مع الرجال، كأن تكون سكرتيرة لمكتب الرجال. أو في الاستقبال لمكان غير خاص بالنساء أو عاملة في خط إنتاج مختلط، أو محاسبة في مركز أو محل تجاري، أو صيدلية أو مطعم يختلط فيه العاملون من الرجال والنساء؛ لما يترتب على ذلك من آثار سيئة على الأسرة والمجتمع. واللجنة: توصي الجميع بتقوى الله سبحانه وتعالى والالتزام بأحكام شرعه رجالاً ونساء طاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،،، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ الشيخ صالح بن فوزان الفوزان الشيخ أحمد بن علي سير المباركي الشيخ عبدالله بن محمد المطلق الشيخ عبدالله بن محمد بن خنين الشيخ محمد بن حسن آل الشيخ الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير

مشاريع الإثارة ... قيادة المرأة أنموذجا

مشاريع الإثارة ... قيادة المرأة أنموذجاً أحمد بن عبد الرحمن الصويان السبت2رجب1432هـ من مخازي الاحتلال الأمريكي المضحكة أن القيادة المركزية في أفغانستان رعت مباراة نسائية في كرة القدم، لتثبت للعالم ميدان الحرية الفسيح الذي حصلت عليه المرأة الأفغانية بعد سقوط حكومة طالبان، في الوقت الذي تعاني فيه المرأة الأفغانية من التجهيل والفقر والاعتداء، فعلاج ذلك كله يبدأ عندهم بكرة القدم! في مشهد آخر لا يقل سذاجة أثناء نقاش الأمم المتحدة لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، أقرت الاتفاقية حق المرأة في الممارسة الآمنة للجنس خارج إطار الزوجية، وحق ممارسة الشذوذ الذي يسمونه بالمثلية، وحق الإجهاض، ونحوها من معالم السقوط المدوِّية، فتحدثت مندوبة الباكستان في الجلسة عن تطلع المرأة الباكستانية إلى الحصول على الماء النقي للشرب الآمن، وليس إلى الزنا والشذوذ! في أفريقيا تبرز مشكلة المرأة الكبرى في أجندة الأمم المتحدة في ختان الإناث، أما مشكلاتها الحقيقية مكافحة الجوع ونقص الدواء والفقر .. فهي قضايا مؤجلة! لا .. بل منسية. تأمل تلك المضحكات، ثم انظر إلى قضية القضايا وأم المشكلات عندنا في السعودية في المنظور العلماني!! هل يا ترى هي محو الأمية؟! أم هي مشاكل التعليم الجامعي؟! أم فرص التعليم العالي؟! أم مشكلة البطالة؟! أم مشكلة الطلاق والعنوسة والتفكك الأسري؟! أم التظالم الاجتماعي؟! .. أم؟ .. أم؟ مع الأسف الشديد ليست هذه مشكلات للمرأة تستحق الاهتمام من قبل أولئك القوم!!، بل هناك أوليات كانت ولا تزال مؤرقة لهم، يتحدثون عنها بمناسبة وبغير مناسبة .. إنها قيادة المرأة للسيارة!!. إنَّ أكبر جناية على المرأة تسطيح قضاياها، وتشويه وعيها، وإشغالها باهتمامات تافهة، أو مشكلات جزئية، لا تبني عقلاً، ولا تنهض بأمة، ولا تؤسس حضارة. إن الفكر الذي لا يسمو بتطلعات المرأة نحو آفاق العطاء والإنجاز والإبداع، لا يستحق الاحترام والتقدير. وإثارة قيادة المرأة في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة يزيد من حدة التوتر والاحتقان الاجتماعي، وليس من مصلحة أحد على الإطلاق تهييج المجتمع، وإثارة بؤر التوتر والفتن فيه، خاصة إذا فرض ذلك على المجتمع بالقوة، وبسياسة الأمر الواقع، وبطريقة مستفزة، وبدعوات سافرة لمظاهرات تُفرض قسراً على الدولة والمجتمع. إن تغيير المجتمع لا يفرض بمغامرة طائشة، أو بعنترية جوفاء، أو بدعوات للتمرد، أو بمماحكات إعلامية، تثير كوامن التحدي والاستقطاب الأيديولوجي، وتمزق الوحدة الفكرية والنسيج الاجتماعي. وهذه العقلية المتشنجة في إدارة هذا الملف تجعل قيادة المرأة تتحول إلى (معركة فكرية واحتراب داخلي!) لمحاولة إثبات الوجود وفرض الرأي وإسقاط الآخر، وأنا أستغرب حقاً لماذا تسعى الأقلية الفكرية لفرض خياراتها بأسلوب أتاتوركي ديكتاتوري وتهكمي على كافة شرائح المجتمع دون اعتبار لرأي الأغلبية وقيمهم! إنَّ روح الممانعة في المجتمع ليست ناتجة عن جهل الناس بحقوق المرأة ومكانتها، أو بانغلاق المؤسسة الدينية وتشددها، أو بتخلف المجتمع وبدائيته، كما يزعم بعضهم. وليست رغبة في تهميش دور المرأة التنموي والحضاري، كما يظن آخرون؛ بل هي ممانعة إيجابية واعية بأبعاد المشروع التغريبي الذي يريد حرق المراحل، والقفز على الواقع، وإسقاط المجتمع في حمأة التقليد والتبعية الثقافية.

ولهذا اسمحوا لي أن أكون صريحاً فأقول: إن قيادة المرأة للسيارة ليست معزولة عن بقية ملفات المرأة في مجتمعنا؛ بل هي حلقة مصطنعة من منظومة مشاريع فكرية؛ تسعى لكسر الحواجز الاجتماعية، وتهيئة بيئة مناسبة، تنطلق من خلالها الحركات النسوية؛ لخلخلة بنية المجتمع وكيانه الأسري. وأحسب أنه من السذاجة أن يستدرج بعض العلماء أو الدعاة للحديث عن الحكم الفقهي بعيداً عن أصوله وقواعده الشرعية، وسياقه الفكري والمجتمعي؛ فالمسألة أعقد من ذلك بكثير، فنحن أمام مشروع فكري، نسوي، تغريبي، يستهدف هوية المجتمع وثقافته، وقيادة المرأة للسيارة أحد مفاتيحه المرحلية الفاعلة!. وإذا تأكد أن وراء الدعوة الجماعية لقيادة المرأة أطرافاً شيعية اختارت اليوم الذي يوافق ذكرى وفاة السيدة زينب - رضي الله عنها وأرضاها -، فهذا يكشف بعداً سياسياً وطائفياً خطيراً يتجاوز الفعل الاجتماعي، ويرمي إلى توظيف المنطلقات الأيديولوجية في إحداث شرخ غائر في كيان المجتمع! إن الممانعين لقيادة المرأة يدركون أن هناك مشكلات حقيقية يفرضها وجود السائق الأجنبي، ويسؤوهم ذلك كثيراً، وأرى أنه من واجبنا جميعاً أن نتعاون لدرء آثاره السلبية، لكن هل قيادة المرأة ستطوي هذا الملف؟ الواقع الخليجي في دول الجوار يكشف لنا غير ذلك، وقيادة المرأة ستفتح أبواباً من المشكلات جديدة، تعمق المشكلة ولا تلغيها. ولو أننا طالبنا وزارة النقل والمواصلات بإنشاء شبكة من القطارات الداخلية والمواصلات العامة بنفس الحدة التي تطالب بقيادة المرأة، لاستطعنا أن نخفف العبء على الرجال والنساء على حدٍّ سواء. ودعونا نكون أكثر هدوءً واتزاناً ونناقش مشكلاتنا بعقلانية ومسؤولية، بعيداً عن الانتقائية والازدواجية في الرأي، تلك الازدواجية التي تجعل بعض دعاة قيادة المرأة بنفسها بدعوى الخوف من الاختلاط بالسائق الأجنبي والاختلاء به، هم أنفسهم دعاة الاختلاط في أماكن العمل، فأي موضوعية تلك التي يتشدقون بها؟! إن قضية قيادة المرأة قضية رأي عام، والاستخفاف بالرأي العام أو تجاوزه لن يحقق هدفاً، بل سيصنع بؤرة ساخنة من بؤر التدافع الاجتماعي، ويثير الاحتقان الشعبي، والقصور في قراءة الواقع الاجتماعي، وفهم المؤثرات الحقيقية فيه، سيدخل الجميع في أزمات تهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع، وما الدعوات المضادة لقيادة المرأة للسيارة (باستخدام القوة) في بعض صفحات الفيس بوك، إلا دليلاً على ما أقول؛ فهل يعي المنادون بيوم (17 يونيو) ذلك؟!

قراءة في الفكر التنويري

قراءة في الفكر التنويري أحمد عبدالله الشهري الأربعاء 28جمادى الآخرة الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،. أما بعد: الحركة الفكرية التنويرية هي في حقيقتها مخرج من مخرجات العولمة العصرية، ومنهجها قائم على المزاوجة بين الأصول الاعتزالية والحضارة الغريية بفكره ومؤثراته، وهذا من باب تقريب الشرائع فيفهمون النصوص الشرعية على سبيل الاستقلال .. فتحمله على أي تفسير تريد، وهذا يعني قبولهم بالمفاهيم الغربية على حساب المفاهيم الشرعية، فعطلوا الشريعة بداعي تقريب الشريعة، وردوا النصوص بداعي قراءة النصوص، فأحيوا عينا سادة، وورثوا أفكارا شاذة. فهم ثمرة تطور تاريخي للمدرسة الاعتزالية والتي تعتمد على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد قال ابن العربي: (العقل مزكي الشرع, ولا يصح أن يأتي الشاهد بتجريح المزكي ولا تكذيبه). فالمدرسة الإصلاحية التنويرية هي في الحقيقية تكرير لأفكار المعتزلة، وهذا ليس بغريب، فمؤسس هذه المدرسة هو جمال الدين الأفغاني وهو- شيعي إيراني - تلقب بالأفغاني لتسهيل مهمة دعوته في البلاد الإسلامية، ثم خلفه تلميذه المخلص محمد عبده وكان متعاونا مع الأنجليز حتى أن اللورد كرومر كان له الدور الأكبر في وصوله للإفتاء، يقول كرومر: (إنني قدمت لمحمد عبده كل تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة , ولكنه عمل شاق فضلا عن العداء الشديد الذي كان يلاقيه من المسلمين المحافظين , كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديوي , ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء , لولا أن الأنجليز أيدوه بقوة)، وقد تبنى المنهج الاستشراقي حتى قال مستر بلنج: (أن محمد عبده لا يثق في انتمائه للشريعة). كما تأثر بهذه المدرسة أيضا محمد الغزالي، وكان له هجوم على السلفيين، فأنكر الخوارق والمعجزات ورد حديث الآحاد، وغيرها. ومن نظر إلى التاريخ القريب وجد ما خلفته المدرسة الإصلاحية في العالم الإسلامي من خراب. كان من نتاجه دهاقنة العلمانية المعاصرة كسعد زغلول وقاسم أمين ومصطفى كامل وغيرهم. إن هذا التراث وهذه السموم من الفكر البابلي والفينيقي والإغريقي والتي تجدها أيضا في كتابات عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد أركون وحسين مروة تصدر من مشكاة مدرسة الفلسفة اليونانية وإحياء مفاهيمها التي ارتبطت بالقرامطة، وهي تنطلق من منطلق واحد وهو: مدرسة العلمانية والفلسفة المادية كأساس لعملية تدمير الأصالة الإسلامية. والناس أسراب طير يتبع بعضهم بعضا، والبيضة تفقس على فكر الحاضنة .. قال أحدهم في أول تجربة طيران له: " نحن تيار نقوم على نقد التيار السلفي وتفكيك بنيته التقليدية ومنظومته التي تعيق مشروعات النهضة والتقدم الحضاري "، هكذا قال!!، وما شعر أنه أهون من تبالة على الحجاج!!، وربما يصدق عليه ما قاله أبو بكر ابن العربي في شيخه حين قال: (شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة , وأراد أن يتقيأهم فما استطاع). إن رفعهم لشعار الإصلاح ماهو في الحقيقة إلا غطاء لتمرير أجندة فكرية تتعارض مع الإصلاح الحقيقي .. وهي مخادعة إبليسية، سنها لهم رائد الإصلاح التنويري في زمانه بقوله {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] إن المشروع الإصلاحي بمفهومه العام مشروع أمة ومنهاج نبوة {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] والمدنية قامت مع الشريعة لا عنها، والإصلاح السياسي جزء من منظومته، وقد عني به السلف خير عناية، فما أهل التنوير في الإصلاح إلا ورقة من كتاب بيد مصلح سلفي.

واليوم، وفي عالم الثورات، تدخل الورقة التنويرية في نسختها الجديدة من غير محرمية بلاد التوحيد، متلفعة بجلباب الإصلاح، وفي حقيبتها خطوة ماكرة لمنابذة الشرع في سنة الاتباع بافتعال هذه الكلية وهي: طرد تسبيب ثلب المنهج السلفي من باب الإصلاح السياسي، على يد ركالة تسوروا محراب الإصلاح ولم يتهذبوا بمنهج السلف، قال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: (ليس ما لا يعرف من العلم , إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن). وإن تعجب فعجب قول أحدهم - ممن خرج من رحم التنوير الخالصي "خالص جلبي" - في قناة فضائية: (لسنا بحزب ولا بجبهة , هي تيار يلتقون في بعض الأفكار ويختلفون في بعض) فيصفون أنفسهم بالتنوير ثم لا يؤمنون بحمولته الفلسفية!! فسمتهم هذا يدل على التناقض التام، وانعدام المنهج الواضح، والقفز على الثوابت، وعور القراءة التاريخية، وتمييع الدين، وإحداث الفرقة في المجتمع المسلم، حتى نجح الشركاء أصحاب المشروع الواحد من الليبرالية والرافضة في توظيف أعيان هذا الفريق لضرب التيار السلفي وخلخلته. فإن كانت الحركة التنويرية قد قامت بشيء من الإيجابية في القرن الماضي - كما قرره محمد قطب- بإزالة التعلق بالخرافة ومحاربة الأفكار الصوفية، فإنهم اليوم يدعمون الخرافة بتحالفهم الواضح مع الرافضة والصوفية، وعدم نقدهم إياهم، وبإثارة الشكوك حول قداسة النص الشرعي ومن يملك حق تفسيره - النص المفتوح -، ومهاجمة المؤسسات الدعوية، وانتقاصهم لأهل العلم وازدرائهم لهم،. وما تنبو عنه أذواق القراء وأفهامهم. وسبيلهم في ذلك إنما يعنيهم إصلاح منهجهم لا منهج مخالفهم، ولو كان عندهم مسكة من عقل ودربة من فهم، ماسلكوا هذا المسلك، والعلماء تقول: (دل على عاقل اختياره , وقالوا الرجل من وفور عقله)، فهذا الاختيار لهذا التعليل: سذاجة في الرأي وفساد في المزاج، فالإنسان بطبعه النقص ويعتريه الخلل، وكل ملة أو نحلة إلا وفي أتباعها مالايوافق عليه، والعبرة بالمنهج وسلامة المقصد، والعصمة للأنبياء، وطلب إصلاحه أعز من بيض النوق. وإنك لتحزن لحال بعض طلبة العلم ممن اتخذ البشت الشرعي ليستر به سوءة الفكر التنويري، فتراه يلهث في طلبهم بالمنافحة عنهم، ويتلمس ودهم في كتاباته بنظره بذات عينهم في همز المنهج السلفي ولمز رموزه، وهو مزلق خطير، وسبيل لخدش الاعتقاد، فهذا عمران بن حطان تزوج ابنة عمه ليردها عن رأي الخوارج فصرفته إلى منهجها. وختم القول لأهل التنوير، نقول كما قال الجويني: (عليكم بدين العجائز). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم , , ,

لماذا يرفض العلماء مشروع قيادة المرأة للسيارة

لماذا يرفض العلماء مشروع قيادة المرأة للسيارة عبدالرحيم بن صمايل السلمي الإثنين 27جمادى الآخرة1432هـ القراءة الصحيحة للحالة السعودية في إشكالية قيادة المرأة للسيارة هو المفتاح لمعرفة المبرر الحقيقي لرفض العلماء والمجتمع المحافظ للمشروع والفكرة، فمشروع قيادة المرأة للسيارة لم يكن نتاج احتياج مجتمعي حقيقي ظهر بصورة طبيعية، بل جاء وفق أجندة ورؤية كلية للتغيير الفكري والاجتماعي في المملكة، فأول من أطلق شرارة الفكرة هم العلمانيون أيام أزمة الخليج 1411، ثم أصبح شعارا لهم؛ فهو مشروع تغريبي منذ البداية ولو كان مشروعاً مجتمعياً لجاءت المطالبة به من عموم الناس الذين لا يعرف عنهم توجهات ليبرالية أو ارتباطات دولية تسعى للتغيير التحرري المنافي للقيم والأخلاق والمناهج الشرعية. أما مشاركة التنويريين والإصلاحيين فلا قيمة لها لأنهم فئة منهزمة تتبع الليبراليين ليس في هذا الموضوع فحسب بل في أكثر من ذلك، فلو طرح - مثلا - مشروع الاختلاط في التعليم، أو الثقافة الملوثة بالفكر الغربي مثل إتاحة كتب وفعاليات التيارات العلمانية الملحدة لوافقوا على ذلك وموقفهم من سلبيات معرض الكتاب وغيره يدل على ذلك. ولو أخذنا نموذج اجتماعي قريب من السعودية (النموذج اليمني) تقود فيه المرأة السيارة - إن احتاجت - وهي في كامل حشمتها دون أي صراع فكري واجتماعي، وأردنا أن نضع أيدينا على سبب عدم الرفض الاجتماعي القوي من علماء اليمن وقبائلها الشديدة المحافظة على الأعراض لوجدنا أن السبب هو أن هذا الموضوع لم يكن نتيجة رؤية كلية تهدف لفرض التغريب على المجتمع اليمني وإنما جاء في سياق اجتماعي طبيعي. إن من ينظر إلى قضية قيادة المرأة للسيارة بشكل جزئي، أو مبتوت الصلة عن خلفياته الفكرية يقع في الخطأ والظلم: الخطأ في تصور القضية، والظلم في القدح في العلماء، لأن الموضوع عبارة عن غطاء قام به دعاة التغريب لفتح أبواب الفتن على المجتمع، وهذه الرسالة وصلت للعلماء والمشايخ ومن ورائهم المجتمع المحافظ، وتسطيح الموضوع أو مناقشته بصورة جزئية ستجعل الحوار حوله كحوار الطرشان، وسيستمر التجاذب حوله والتزاحم عليه دون نتيجة حقيقية فاعلة. ومن حق العلماء والمشايخ أن يفتوا بالتحريم من هذا المنظور، ومن هذه الزاوية، وهي رؤية مقاصدية عميقة تدرك أبعاد المشروع التغريبي في المجتمع، والاستهتار برؤيتهم وفقههم لا يضر إلا صاحبه، فالكل قادر على السخرية والاستهتار بأفكار الآخرين، ولكن النتيجة للحق وأهله بإذن الله تعالى. ولو وجدت الضمانات الأخلاقية والفكرية والعقدية لما كان هناك من يعارض ذلك من أهل العلم، وكان الوضع أمراً طبيعياً لأن الأصل فيه الإباحة، ولكن هذا الأصل طرأت عليه علل مؤثرة في وصف الحكم، وهي علل حقيقية وليست موهومة، ولا أظن أحداً يحترم عقله وعقول المتابعين ينفي وجود الإشكالات الأخلاقية والفكرية، فالمجتمع مخترق من داخلة بفئات منحرفة متربصة وذات نفوذ داخل القرار وخارجه، وداخل البلد وخارجه. ومن حق أي أحد أن يطالب بالحلول للمشكلات الاجتماعية التي نتجت عن الخلل الحكومي في التخطيط لمصالح الناس، وأوقعتهم في فخ السائقين والخادمات، والتي لن تكون قيادة المرأة للسيارة إلا زيادة لها، وليست حلاً سحرياً كما يصوره المتحمسون، ولكن يجب أن يضع الحلول فئات اجتماعية بعيدة عن الخلفيات الفكرية المتغربة لأنها هي من تسعى للمصلحة الوطنية الصحيحة، وهم الأصل والأكثرية في المجتمع.

ونحن نتذكر الحملات الإعلامية الجائرة التي يقودها التغريبيون وأتباعهم على الهيئات والتعليم، والمطالبة بضم الهيئات للدعوة والإرشاد لإزالة صفة القبض والإلزام عنها، ولما تم تشكيل لجان مستقلة بعيدة عن المذهبية التغريبية توصلت بصورة علمية إلى ضرورة إبقائها على حالها النظامي، ودعمها؛ لأنها تختلف عن الشرطة في وجود البعد العلمي والشرعي فيها، وتختلف عن الدعوة في وجود خاصية القبض والإلزام فيها، ولأنها تستند إلى قيمة دينية وأخلاقية شرعية وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعندما يتم بحث المصالح الاجتماعية من أطراف مستقلة عن التغريب الفاسد والتنوير الفاشل، وتراعى فيه منطلقات الشريعة وقيمها فإنها ستصل إلى المصالح الحقيقية للمجتمع. ولا تضيع المصالح والحقوق، وتمرر المشاريع المشبوهة إلا تحت غطاء الصخب، والضجيج، والضغوط الجائرة، والاتهامات، والطعن في النيات والعقليات، والكذب في عرض أفكار أهل العلم والدعوة، والانتقائية غير الواعية، وهذا ما تستعمله المذهبية الليبرالية والتنويرية لتسويق أفكارها ورؤاها وفرضها على المجتمع. ولو وضعت قائمة أولويات المرأة السعودية للمناقشة لكانت قيادة السيارة من آخر القضايا، وهي في الإصلاح المجتمعي أقلها أهمية ولكن الفكر المتحرر حولها لحق مسلوب، وحرية مستلبة، وفضيحة اجتماعية، وعدم ثقة في المرأة .. وغيرها من الأوصاف المتطرفة، ولو سئلت المرأة عن احتياجاتها الواقعية لما كان لهذه القضية أي أهمية على قائمتها، فالقضية قضية فكرية، وصراع تياري وليس حاجة اجتماعية. وإذا كانت هناك حاجة اجتماعية فعليّة فإن السلبية التي تمارسها الحكومة، واكتفاء العلماء بالتحريم لا توجد فيه الكفاية، وإنما الواجب على الحكومة والعلماء وأهل الرأي أن يأخذوا هذه المسألة وغيرها من المشكلات الاجتماعية مأخذ الجد؛ فيقوموا أولاً بالبحث العلمي المحايد عن مدى حاجة المرأة لقيادة السيارة، ثم وضع البيئة الأخلاقية والقيمية المناسبة، وتحديد الضوابط والقوانين المنظمة لها إن كان هناك ثمة حاجة حقيقية، والبحث المتجرد عن كل ما يصلح حال المرأة وإبعادها عن الدنس الأخلاقي، وإيقاف كل من يتخذه مطية لنشر فكره المنحرف، فلا ينبغي أن يكون الصخب والضجيج ورفع الصوت كاف في اعتبار أن هذا الأمر أو ذاك له أهمية أو أولوية، فالبحث المحايد والمتجرد هو من يثبت مدى الحاجة لها، وأفضل الحلول المحقق لمقاصد الشريعة، وأن تلتزم الدولة بواجبها نحو المجتمع بإقامة الدين وسياسة الدنيا به، فالسلبية والهروب منه لا يعالج الإشكال. أما من يثير الصخب بحجة أن هذا حق من الحقوق الطبيعية فالمشكلة معه فكرية وليست متعلقة بالحاجة الاجتماعية الضرورية، فهو غير مقتنع بأن الأصل الشرعي هو قرار المرأة في بيتها، وينطلق من منطلق ليبرالي في ضرورة تعزيز الحرية الفردية، ومطالبه في قضايا المرأة لن تقف عند قيادة المرأة، فهناك الاختلاط في التعليم، والعمل، والحجاب، والمساواة الكاملة بالرجل وغيرها من الأفكار المنحرفة. ولا شك أن من يطالب بقيادة المرأة للسيارة ليسوا كلهم من دعاة التغريب، فمنهم أناس طيبون صادقون انطلت عليهم خديعة الفكر الليبرالي وتوابعه التنويرية، أو ربما تكون لديه رؤية اجتهادية محترمة؛ فالمسألة ليست من مسائل الإجماع القطعي، ولكن ينبغي التفريق بين هاتين الفئتين عند البيان حفاظاً على العدل والصدق، فلا يستوي من ينطلق من منطلق شرعي اجتهادي أو مصلحي - مهما أخطأ - مع من ينطلق من منطلق فكري ليبرالي أو تنويري يعتبر قيادة المرأة المفتاح لمشروعه الفكري في المجتمع.

قيادة المرأة ... حتى تفهم

قيادة المرأة ... حتى تُفهم عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي السبت25جمادى الآخرة1432هـ لا يمكن أن تُفهم مسألةٌ على وجه تبرأ بها الذمة إلا بفهم أُصولها التي تُبنى عليها، فإذا صحت الأصول صحت النتائج، أو على الأقل تقارب الفهم فيها، وهذا في كل مسألة منظورة في الدين والدنيا، كثيرٌ من المسائل تدور في فلك الأذهان، وفي الصحف وفي المنتديات، ويتقاذف الناس الحديث حول فرعٍ ويبحثون عن صحته، والأصل الذي يُبنى عليه مختلٌ وغير مسلّم بينهم، ومن ذلك الحديث عن (قيادة المرأة للسيارة)، والحديث عن هذه القضية متعلق بالآثار واللوازم، وفي غالبها تتصل بـ (الحجاب والسفور والاختلاط والخلوة والتحرش والخروج بلا حاجة مما يفضي إلى توسع في فضولٍ غير محمود)، وكل من يقول بجواز القيادة للمرأة، فلا بد أن يحمل في قلبه أحد الإيمانين التاليين أو كليهما: أولاً: لا يقر بوجود هذه الآثار ويضعف عنده اليقين من وقوعها، ويدعي أنها وهم يُصنع، وهذا الإيمان إما أن يكون رسخ بدراسةٍ، أو هو وهمٌ أيضاً فيُقابل حقيقة غابت عنه بوهم، والحقائق في الأذهان يحول دون استقرارها شيء لا يُعد من الأسباب. ثانياً: لا يقر أن هذه آثار محرمة أصلاً، أو تكون هذه الآثار ضعيفة الأثر في قلبه، إما لغفلة أو تغافل عن حكمها، أو لعدم مبالات بها، أو لكثرة المخالطة لها أو أنه يعيش وهْناً فكرياً، دفعه إليه ضغط الواقع، أو الهروب من الانضمام إلى طائفة المحرمين، لأنه يستحضر بضعة منهم انشغل ذهنه بالبراءة منهم فشغله ذلك عن إبراء ذمته بالمسألة التي يُسأل يوم القيامة عن الفصل فيها بعينها. وبإرجاع المسائل إلى أصل صحيح، يُتفق أو يُختلف عليه، منهج قرآني وعقلي مسلّم، فحينما قال إبراهيم عليه السلام لربه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] لم يُجبه الله سبحانه حتى سأله عن أصل ما يُبني عليه هذا الطلب، والله أعلم به، فقال: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} سؤال عن الإيمان بقدرته سبحانه، قال: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وذلك لأن إجابة طلب إبراهيم تتباين حسب اختلاف الإقرار بالأصل. وكل من يقول إن الحجاب عادة والاختلاط جائز، والعلاقة بين الرجل والمرأة كالعلاقة بين الرجل والرجل سواء، أو تجاوز هذه المدرسة ولم يؤمن بأن الحكم لله في حياة الناس، فهذا لا ينبغي أن تُبحث معه مسألة فرعية وهو لا يؤمن بأصلها الذي نشأ لأجله المنع، والخلاف معه كالخلاف على شجرةٍ هل ما تنبته تمر أو عنب، قبل الاتفاق على أصل الشجرة ماهي، وكل من يهُوْن في قلبه أمر الحجاب والاختلاط والخلوة، فهذا وإن سكت فهو ساكت على موافقة في مسألتنا، ويمنعه من القول الخمول وطلب السلامة، وبهذا نعلم أن المجتمع سُعي في السنوات الماضية إلى إخلال الأصول لديه لتضْعُف اللوازم والآثار في باطنه، وليس من العبث الفكري غير المدروس الترويج للاختلاط ومحاولة تطبيع السفور، وتشريعه بواسطة فقهاء وكُتاب، ومنحهم أموالاً طائلة في الخفاء، لأن الأصل إذا اختل واضطرب اختل الفرع ولان، وعلماء الطبيعة يعرفون الزلازل في جوف الأرض بلين سطحها. من فكّر وسعى إلى ابتعاث النساء إلى الخارج، وقام بتشريع الاختلاط، فهو يعلم يقيناً أنه يُعبّد طريقاً ممتداً سيشق السالكون له باختيارهم عشرات الطرق المتفرعة عنه بداهةً بلا إملاء من أحد، فهو وإن تعب في تأسيس أصل مغفول عن آثاره، لكنه أهون من أن يدوم قروناً يؤسس في فرعٍ واحدٍ يُنقض كل مرة.

ولهذا تمت العناية الكبيرة بتلك الأصول والبحث عن القائمين عليها والمعبدين لها بأي ثمن، وقد قال لي رمز علمي كبير، بعد مقالاتٍ كتبتها وغيري في الاختلاط نقضت أقوال المجيزين له، إن خالداً التويجري هاتفه وقال: نحتاج إلى وقفة منك. ينبغي أن لا يتم الخجل من هذا فنحن في صراعٍ شرعي وفكري لا يُحسنه خالد إلا بغيره، وفي أصول العقائد والأفكار له ذلك، ولغيره أن يُبيّن ويوضح، والعبرة بالحجج، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ. وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، ولكن عند الفصل الأخروي يوم القيامة لا مجال للاعتضاد إلا بالنفس: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3]. وأما هذا المقال فلن يصح فهمه من ذهن حمل أحد الإيمانين السابقين فضلاً عن كليهما، وسأجعل الحديث في نقاط: أولاً: إذا أردنا الحكم على قيادة المرأة للسيارة، فيجب اتساع النظرة لتقع على الشيء ودوافعه وآثاره ومن يدعو إليه، وأن لا ننظر إلى المسألة ونظنها صعود وسير ونزول، ولا يصح أن يُجعل الحديث حولها مسألةً عينية متجردة عن أسباب ولوازم، فيُنظر إليها على أنها أفعال أفراد لازمة لهم كالطعام والشراب واللباس والسكن، والتحاكم إلى أدلة عينية في هذه المسألة تؤيد المنع أو عدمه فضول، فنلتمس مثلاً نصاً ينهى عنها كالنهي عن الأكل بالشمال أو لبس الحرير، أو تشبيه مقاعد السيارات بظهور الإبل والخيل، فنجعل قيادة المرأة قياس أولى أو قياس مشابه للإبل، ونتجاهل أن الشريعة التي أجازت ركوب الإبل حرَّمتها حتى على الرجال في مواضع فضلاً عن النساء، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه الامتنان بركوب الدواب فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13 - 14] هو الذي نهى عن ركوب هذه الدواب حال الخوف وورود المفسدة فقال صلى الله عليه وسلم: ((الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب))، وقال: ((لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكب بليل وحده))، فسفر الواحد على الدابة في الصحراء خطر أوجب النهي ولو كان الراكب رجلاً، وقد جاء النهي في المرأة أن تركب الإبل عند المخاطر والمفاسد وجوازه عند الأمن منها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((توشك الظعينة أن تسافر من مكة الى صنعاء لا تخاف الا الله)) أخرجه البخارى، والظعينة هي المرأة الراكب، ودلالة مفهومه المنع حال الخوف وتحقق المفسدة المخلة بأحد الضروريات الخمس، ولهذا يصح الجمع بين طرفي النقيض تحريم ركوب الإبل على الرجل وجواز السيارة للمرأة. بل إن الجلوس المجرد حتى على الأرض قد يُحذَّر منه عند ورود المفسدة وتحققها، كما في الحديث: ((إياكم والجلوس في الطرقات. فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر))، وهذه قيود الجلوس في الطريق الواحدة فكيف إذا كان الجلوس على سيارة تسير في كل الطرقات تمر بكل أحد.

ثانياً: إن هيبة النقد، والخجل من عدم مسايرة الأمم، عقبة تُعمي الذي يتأثر بها وتحجبه عن التوازن في ضبط ميزان الحقائق، وحينما يقع الغرب في الاستهزاء من منع قيادة المرأة للسيارة، فهذا لأنه لا يمانع من أصل بعيد أبعد من أصل الاختلاط والسفور والخلوة وهو أصل الزنا برضا الطرفين واللواط، ومن منطق عقلي صحيح أن يضحك من كانت أصوله كذلك من هذا المنع، بل حينما لا يستغرب ذلك فهذا خلل عقلي معاكس، بل حينما يرى المنع من الاختلاط والخلوة، وهي أصول أصغر من الزنا يجب أن يستنكر ذلك، لأنه لا يُمكن أن يُدرك شخصٌ يُجيز القتل أن يمنعه أحد من ضرب المقتول ولطمه، وكسر يده فضلاً عن إهانته، لأن الأفكار تتلازم وتتسلسل ويُبنى بعضها على بعض. والعجب من ضعف يقين كثيرٍ من الساسة وبعض المفكرين المسلمين والدعاة حينما يخجلون من طرح الغربيين لقضايا المرأة وحقوقها، ويقومون بالحديث بصورة الاعتذار والخجل والتبرير الواهي، بعيداً عن مناقشتهم في أصولهم المختلة، وهذا ضعف إيمان، ووهن فكر، لا يختلف فيه من تأمله. والمرأة التي تعمل في جو مختلط بالرجال لا يصح أن تستوعب منعها من الالتقاء برجل عارض، لساعة أو ساعتين، وهي تستديم الجلوس معه، ومثلها الرجل الجالس معها. وهكذا مسألة السفور وأنواعه، فقيادة المرأة للسيارة مسألة تتكىء على أركان عديدة لن يراها مستوية من مالت لديه الأركان. وهذه الأصول المؤثرة سلباً وإيجاباً، يتدرج تأثيرها على النفوس بمراتب ترتفع وتنزل بحسب قوة القناعات بتلك الأصول. ثالثاً: وجود الكثرة على رأي أو عمل ليست حجة قاطعة على صحة ذلك القول والفعل، وهذا أصل يؤمن به كل المفكرين وأرباب الشرائع السماوية، فنحن نرى في كل قرن هناك فكر غالب وفكر مغلوب، وعقائد مثلها، متعاكسة الاتجاه، ولو قُدر أن يمتد عمر إنسان في ثلاثة قرون أين الحق بالنسبة له؟! والحق في ذاته واحد، ولكن الناس يتأرجحون بحثاً عنه تحت مؤثرات عقليه وشهوات نفسية لا تُحصى. فالخمر المحرمة تحريماً قطعياً، في القرآن والسنة تُباع في جميع الدول الإسلامية فضلاً عن غيرها، إما بصورة خاصة بسوقٍ معينة أو عامةً، ويُستثنى من هذا بلادنا فقط، والزنا برضا الطرفين لا يُجرِّمه جمهور قوانين الأرض وهو محرم في جميع الشرائع، ومع هذا لا يجوز أن يتغير الحق في ذاته لكثرة فاعليه، ومثله شرب الخمر. رابعاً: قيادة السيارة ليست كرامة وإلا لما ترفع عنها الرؤساء والوزراء والكبراء، بل ربما جعلوا أنفسهم في الخلف كي لا يجاوروا المقود والقائد، والمجتمع بحاجة إلى توعية الرجل بحق أهله عليه لا كيف يزداد تفريطاً، وعند الحديث عن المصالح والمفاسد في قيادة المرأة، فيجب الاعتبار بالمجتمعات الأخرى، والنظر إلى المصالح والمفاسد هل هي حقيقة أو وهمٌ، فالحديث عن تقليص العمالة السائقة وهمٌ، فالسائقون في دول الجوار أكثر من بلادنا مقارنة بنسبة مجموع سكانها، الخدم والسائقون مرتبطون غالباً بالغناء والترف، والله أمرنا بالاعتبار قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137] هذا طلب الاعتبار بخبر سابقين لا يمكن مشاهدتهم، فكيف بحاليين مشاهدين، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

خامساً: يُكثر الإعلام من إتقان ضرب أمثلة ووقائع صحيحة وحكاية نوازل وأزمات، تبرر الحاجة إلى القيادة، وضرب الأمثله للفكرة التي يُهواها الإنسان دائماً ما تجتمع في ذهنه، وتقتنصها النفس من بين آلاف الأمثلة المضادة، فتورث للإنسان حقيقة قطعية وهمية، فكفار قريش ابتلوا بسرد الأمثلة لإقناع النفس بالخطأ، فقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48]، يجب عند تقرير مسألة معينة التفريق بين الأمثلة العارضة والأصول والابتلاء العام. سادساً: كثيراً ما يتحدث كُتاب عن قضايا المرأة بمسوغات شرعية، وتأصيلات علمية، من غيرٍ تمحيص لحقائق تلك الأقوال، وسلامة قول قائليها، فالحديث عن الغيرة على الأعراض كالخلوة مع السائقين، حقٌ في ذاته فالخلوة حرام، ولكن يجب أن لا ننظر إليه كما ينظر أحدنا من ثقب الباب ليحكم على طريق طويل ممتد، فاليد التي أقرت تأنيث بيع الملابس النسائية الداخلية غيرةً على المحارم، هي نفس اليد التي تقف سداً منيعاً أمام تأنيث طب النساء والولادة، وطب التجميل، فتكشف المرأة كل جسدها على فراش العيادة الرجالية، بتصريح نظامي، بينما تثور الغيرة على بيع قطع الألبسه وتؤسس لها حملات إعلامية كبيرة ورسومات كاريكاتيرية، وتقوم قناة سعودية بإظهار فتيات سافرات الوجه وباديات الشعر وبارزات نصف الصدر يتحدثن عن خجلهن من شراء الملابس من رجال، لكن أن يرى آلاف الرجال جسدها السافر جائز ولا حياء ثم، وأما أن يرى لباسها المُلقى على الأرفف فيجب أن يُمنع، القضية إنما هي تحايل لفتح مزيد من الأبواب، يجب أن يتحدث هؤلاء عن حرمة رؤية الأجساد قبل رؤية الأقمشة، إن الدعاوى التي يُصورها كثير من الكتاب بالصورة الشرعية المبتورة، يجب أن نضعها في ميزان الدقة والتمحيص، وأن نتجاوز الحكم على الأفعال والأقوال متجردة عن سياقاتها ونظائرها ولوازمها، لذا لا يمكن أن يتحدث الإعلام عن تحريم الخلوة وخطورتها مجرداً ليحذر الرجال والنساء من جميع صورها كما في المستشفيات وفي الخارج، إلا عندما يكون موصلاً إلى فتح بابٍ آخر كالقيادة. وقد حُدّثت عن مقدم برنامج ومقدمةٍ معه متجاورين في قناة يبينان أهمية قيادة المرأة للسيارة بديلاً عن خطورة الاختلاط بالسائقين الأجانب، وكأنهما إخوة أشقاء. يجب أن نرى من يتحدث عن قضايا صغيره يتحدث بصورة أشد في قضايا من جنسها أكبر منها، وأما أن يعظ كاتب امرأةً متحجبة وسط عاريات أن تغطية الوجه خلافية، فهذا لا يستقيم فهمه إلا إذا نظرت إليه من ثقب باب لا يُريك إلا المتحجبة، وإلا فالمسألة تدَرُّج إلى غايات باطنة. كثيرٌ من التأصيلات الشرعية مدخولة، إذا نظرنا إلى أصحابها، وعند تمحيص لوازم أقوالهم لا نجد وجهاً يستقر عليه قولهم، إلا إذا سوّغنا فصل الأسباب عن مسبباتها، وأصبح الجمع بين المتناقضات ممكناً، وكثيرٌ من الأيدي التي تدعي الطهر، غير صادقة بدعواها عند المحك والنظر حولها، قال الأعمش: أخبرني تميم بن سلمة أن رجلاً شهد عند القاضي شريحٍ وعليه جبّة ضيقة الكمين، فقال شريح: أتتوضأ وعليك جبتك؟ قال: نعم، قال: احسر عن ذراعيك، فحسر عن ذراعيه فلم يبلغ كُمُّ جبته نصف الساعدين من ضيقها، فرد شهادته. وحفظ حق الأمة وفكرها وعرضها أولى باختبار الأيدي وأقلامها عليه من حق فرد واحدٍ منها. والله وحده المحيط بكل شيء علماً.

قيادة المرأة للسيارة .. مناقشة ليبرالية

قيادة المرأة للسيارة .. مناقشة ليبرالية إبراهيم بن محمد الحقيل السبت25جمادى الآخرة1432هـ بداية أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من أن أكون ليبراليا، وأعيذ ذريتي ومن أحب بالله العظيم أن يكونوا ليبراليين، لكنني وجدت نفسي مضطرا في مناقشة قضية قيادة المرأة للسيارة من وجهة ليبرالية؛ لأن أهل الغيرة والحمية الدينية -كتابا وكاتبات- ناقشوا هذا الموضوع من جوانبه الشرعية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ولا أريد تكرار ما ذكروا، أجزل الله تعالى مثوبتهم أجمعين .. وقضية قيادة المرأة للسيارة شأنها شأن المشروعات التغريبية الأخرى يريد الليبراليون فرضها بالقوة، وإسكات السلطة السياسية بالاستقواء بالخارج، وإحراج السلطة الأمنية بفرضها واقعا عبر ممارستها في الميدان بدون إذن، وإحراج المؤسسة الدينية بإبراز اللحى الليبرالية في الفضائيات لإيجاد المسوغات الشرعية لها، والجزم بأنه لا نص في المسألة؛ لتنقلب قنوات العهر والرقص، وصحافة النخاسة الفكرية عند مناقشة هذه القضية إلى سلفية أثرية تبحث عن النص في مظانه، وتظهر قدرا كبيرا من إجلاله وتعظيمه لتضرب به الخصم السلفي، ثم تركل النص بالأقدام بعد انتهاء اللحى المستأجرة من تقرير ما يريدون. ومن البدائه التي لا ينبغي الجدال فيها أن قضية قيادة المرأة للسيارة هي قضية مصالح ومفاسد، وليست قضية نصوص حاسمة قاطعة حتى تختزل المسألة فيها، ولا يقتطعها من سياق المشروع التغريبي في السعودية، فيتكلف في الاستدلال لها أو اجترار أقوال من يجيزها إلا جاهل بالواقع فحقه أن يسكت حتى يعلم، أو صاحب هوى يرجو بقوله فيها جاها أو مالاً، ولا أرى ثالثاً لهذين الاثنين؛ إذ إن إفساد المرأة، والجهود الدائبة لتغريب المجتمع السعودي لا تخطئها عين الأعمش فضلا عن المبصر، والدعوة لقيادة المرأة للسيارة لا تنفك عن هذا المشروع. والسؤال الذي أنطلق منه في مقالتي: ما هو المستند الليبرالي لقضية قيادة المرأة للسيارة؟ يرى الليبراليون والليبراليات أن ذلك حق من حقوقها لا يمنعها منه إلا مستبد ظالم سواء كان ذلك الحق استقلالا، أم كان من باب مساواتها بالرجل .. وهذا المستند مفهوم وواضح ولكن لا بد من سؤال مفاده: من أين تُستمد حقوق الناس -ومنهم المرأة- في الفكر الليبرالي الديمقراطي؟ ويجيب الليبراليون عن ذلك بأن استمداد حقوق الناس يكون من الناس أنفسهم؛ لأن الديمقراطية حكم الشعب للشعب، بمعنى أن ما ارتضاه جماعة الناس حقا كان حقا لهم لا يجوز المساس به ما لم يكن فيه تعد على حقوق الآخرين على قاعدة: لك الحرية أن تفعل ما تشاء بشرط أن لا تتعدى على حريات الآخرين، أو تبدأ حريتك من حيث تنتهي حرية الآخر. وهنا إشكال: ما السبيل إلى معرفة ما يريده الناس حقا لهم مما لا يريدونه؟ ويجيبون عن ذلك: بأن معرفة ذلك تكون عن طريق صناديق الاقتراع لترشيح المجالس التشريعية والبرلمانية التي تشرع للناس ما يريدون، وتمنع ما لا يريدون، أو عن طريق تسجيل قياسات الرأي العام حيال القضية المراد إقرارها أو منعها .. وسواء كان الأمر موكولا للمجالس التشريعية والبرلمانية التي صوت الشعب لاختيارها، أو كان الاقتراع على قضية بعينها، أو تم فيها قياس الرأي العام فإن النهاية تئول إلى أن الناس هم أهل الاختيار .. لو أردنا أن نطبق هذه الآلية الليبرالية الديمقراطية على قيادة المرأة للسيارة في السعودية للوصول إلى كونها حقا من حقوق المرأة أو ليست حقا من حقوقها؛ فإن الشعب السعودي هو صاحب القرار والاختيار في ذلك رجالا ونساء؛ لكون هذا الأمر يتعلق بهم ..

سيطعن الليبرالي في أن السعودية لا يوجد بها مجالس تشريعية ولا برلمانية (مجلس الشورى) منتخبة، وبالتالي لا يمكن إخضاع هذا القضية لمجالس أعضاؤها وصلوا إلى كراسيهم بالتعيين الحكومي، وحينئذ لا مناص لمعرفة الرأي العام السعودي حيال هذه القضية من طرحها للتصويت على غرار الانتخابات البلدية .. يعلم الليبراليون أنه لو طرحت قضية قيادة المرأة للسيارة للتصويت فإن الأصوات الغالبة ستختار المنع، حتى لو اقتصر التصويت على النساء فقط فالأكثرية من النساء ستؤيد المنع أيضا، مهما سخر الليبراليون من وسائل إعلامهم، وأساليب خداعهم وكذبهم للدعاية لهذه القضية وترويجها بين النساء، فلن تكون الأصوات المؤيدة لهم إلا قليلة جداً، وهم في واقع الأمر منذ عشرات السنوات يضخون الفكر الليبرالي والمسخ الأخلاقي بكثافة عبر قنواتهم وصحفهم وما ازدادوا من الناس إلا مقتا وبعداً، وليسوا سوى أقلية منبوذة ليس لها أي قبول عند جمهور الناس، حتى إن كثيرا منهم هاجروا إلى دبي ومصر والبحرين هربا من أسرهم التي نبذتهم اجتماعيا، ويلجئون إلى التحالف مع الطوائف الأخرى، وتحريضها على الدولة والمجتمع، والاستقواء بالمنظمات الدولية والسفارات الأجنبية لمحاولة فرض أجندتهم بالإرهاب الفكري والتسلط السياسي الأجنبي .. وما دام أن الليبراليين ليس لهم امتداد شعبي فلو طرحت قضية قيادة المرأة للسيارة في المجتمع للتصويت لخسروها .. فماذا يفعلون؟ هنا تنقسم الأطروحات الليبرالية إلى أقسام: - فمن الليبراليين من يكابر ويدعي أن الناس معهم لكن سطوة التيار الديني تخيفهم، وكأن الشرعيين قد نصبوا المشانق في الشوارع لكل من لا يؤيد فكرتهم، وهذا الادعاء لا يصر عليه إلا الحمقى منهم، وأصبح موضع تندر وسخرية من الغربيين ومن ليبراليين آخرين لم يهبطوا إلى هذا المستوى من التفكير .. - ومن الليبراليين من يحار في هذه القضية وينقطع عن الجدال إن جوبه بها؛ لأن المقتل الفكري لليبرالية هو في سؤال الليبرالي عن كون الناس إن مورست عليهم الحرية بمفهومها الليبرالي فصوتوا ضدها، أو إن طبق عليهم النظام الديمقراطي فصادروه بالطرق الديمقراطية ذاتها، فهل يعطون ما اختاروا أم يقهرون على ما يريده الليبراليون، وهو ما عبر عنه بعض الليبراليين بالمشكلة التي لا حل لها، وهي التي يصغر فيها الليبرالي أثناء النقاش كصغار إبليس يوم عرفة. وحيال هذه القضية ينقلب كثير من الليبراليين على أس الليبرالية وقلبها النابض وهو الحرية، ويرون فرض ما لا يريده الناس بالقوة بحجة أن الناس لا يدركون مصالحهم، وتكون حثالة الليبراليين بفكرها الآسن وصية على البلاد والعباد، فيصادرون رأي الأكثرية لرأيهم، ويقتلون الحرية باسم الحرية، ويصبحون في استبدادهم أشد من النازيين والفاشيين، وهو ما يمارسه أكثر الليبراليين السعوديين حتى إن أشدهم رجسا قال: لا شك في أن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخاب أو تصويت، بل هي قيم ثقافية واجتماعية يجب أن تتعمق في النفوس قبل التوجه إلى صندوق الاقتراع .. فانتقده ليبرالي آخر بمقالة عنوانها: عندما ينبري المثقف لشرعنة الاستبداد، ولمزه ليبرالي ثالث يرى أنه ما فرض وصايته على الشعب السعودي بهذه الطريقة الفجة إلا لأنه مستشار في بلاط المستبد على حد وصفه.

والحقيقة أن الانقلاب على مبدأ الحرية باسم الحرية هو شعار الثورة الفرنسية وملهمها فولتير الذي قال: لا حرية لأعداء الحرية، ولا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، وحينئذ تتحول الحرية والديمقراطية -وهما أهم قضيتين في الفكر الليبرالي- إلى آلة استبدادية .. وتصبح الحرية والديمقراطية حقيقتين مطلقتين، مع أن الفكر الليبرالي ينفي وجود الحقائق المطلقة، ويجزم بنسبيتها، ويكون الليبرالي الذي يرفض الشرائع الربانية بحجة أنه لا يؤمن بما يؤمن به الديني من حقائق مطلقة قد انقلب على نسبية الحقيقة، وقال بإطلاقها فيما يتعلق بالحرية والديمقراطية. - ومن الليبراليين من يتعامل مع رفض الشعب السعودي لقيادة المرأة للسيارة بحيلة يتذاكى بها على الناس، فيزعم أن هذا الأمر يجب أن يكون محسوما لا جدال فيه؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد، ولا إجبار لأحد، فلا يعتد فيه برأي الأكثرية؛ لأن ممارسة الأقلية له لا تضر بالأكثرية، بمعنى أن من تريد قيادة السيارة تعطى ذلك، ومن لا تريد لا تفعل، ومن تقودها لا تضر الأكثرية الذين لا يريدون هذا الخيار .. ومع أن هذه الحيلة ساذجة من جهة التنظير القانوني والتشريعي الوضعي للمجتمعات فإنها لا تصمد عند النظر والجدال، وما ادعاه الليبرالي أنه قضية مسلمة ليست مسلمة؛ إذ الأضرار في قيادة المرأة للسيارة في مجتمعنا السعودي من النواحي الفكرية والأخلاقية والاقتصادية والأمنية كثيرة، ليس هذا محل عرضها، وقد فصل في هذه المفاسد كثير من أهل العلم والاختصاص، وما يهمني هنا هو عرض بعض النظائر الأوربية لخضوع الأقلية لرغبة الأكثرية ولو بدا أن ما تفعله الأقلية ليس به مساس مباشر بحقوق الأكثرية، واستحضار النماذج الأوربية في هذا الباب هو لأجل أن قبلة الليبراليين السعوديين هي أوربا، وفكرهم الذي يصدرون عنه هو نتاج المفكرين الأوربيين فلننظر هل يتمسكون بلبراليتهم أم ينقلبون عليها؟! فمن الأمثلة الغربية على خضوع الأقلية لرأي الأكثرية: - التعري في الأماكن العامة؛ فجميع القوانين الغربية -على حد علمي- تمنع العري الكامل في الأماكن العامة، وتعاقب عليه؛ لأن الأكثرية في الغرب لا تريد التعري، مع أن المتعري لم يباشر أذية أحد، وممكن أن يقال على المبدأ الليبرالي: إن هذه حرية شخصية، لكن القوانين الغربية ترى في التعري العام حالة يتأذى منها الحياء، أو حالة مخالفة للحياء العام الذي تؤمن به الأكثرية. - ومن ذلك أيضا: أن المرأة في أمريكا تمنع من تعرية صدرها في مكان عام بينما يسمح للرجل بذلك، والمساواة بين الجنسين التي هي من بنيات الفكر الليبرالي تقتضي السماح للمرأة بذلك كما هو للرجل، حتى ثار جدل حول إرضاع المرأة الأمريكية طفلها في الأماكن العامة. - تمنع القوانين الأوربية والأمريكية أن يمسك الرجل أو المرأة بالعضو التناسلي في مكان عام ولو من وراء اللباس، أو أن يعمل أحدهما ما يعد إيحاء جنسياً. كل الأمثلة السابقة تم تقييدها بالحياء، وقد يعبر عن الحياء بالذوق أو الأدب أو يقال: هذا سلوك منفر أو نحو ذلك. والحياء نسبي، وما يخدش الحياء وما لا يخدشه مرجعه إلى العرف العام، وقد تدرج العرف الأوربي في تبذل الرجل والمرأة في اللباس إلى حد مخجل جدا، لكنه لم يصل إلى درجة السماح بالتعري الكامل في الأماكن العامة، وصار الحياء قيداً تقيد به الحرية الشخصية، وتعاقب القوانين على انتهاكه، فمُنعت الأقلية التي تريد التعري من التعري لأجل الأكثرية التي لا تريده، مع أنه باستطاعة الغربيين السماح بالتعري لمن يريده، ومن لا يريده لا يتعرى، ولا يقذف ببصره إلى العراة إن صادفهم في وظيفته أو متجره أو في سوق أو قطار أو نحوه حتى لا يتأذى بمنظرهم .. وإذا أردنا محاكمة قيادة المرأة للسيارة في المجتمع السعودي بطريقة ليبرالية فيجب أن ننظر إلى رأي الأكثرية هل تقبل ذلك أم لا، فإن لم تقبله وجب منع الأقلية من ممارسته، ولا يقال: من تريد أن تقود فلتقد، ومن لا فلا تمنع القيادة من أجلها، وإلا كان ذلك تعديا على حق الأكثرية، مع ما في قيادة المرأة للسيارة في السعودية في هذه المرحلة من أضرار كبيرة على المجتمع السعودي. لكن هنا يركل الليبراليون السعوديون المحكمات الليبرالية القاضية بأخذ رأي الأكثرية، ويصرون على فرض رأي الأقلية التي لا تمثل المجتمع وإنما تمثل الرأي الأجنبي المستورد، ولا يهمهم أن يحدثوا فتنة في الناس، وانشقاقات في صف الوطن الذي طالما تغنوا بالإخلاص له، فإذا جد الجد خانوه.

الاستبدادان

الاستبدادان إبراهيم بن عمر السكران السبت25جمادى الآخرة1432هـ الحمد لله وبعد،، نحن نردد دوماً كلمة " الاستبداد "، ونرميها بكل عبارات الذم والقدح والعيب، لكن هل تساءلنا قبل ذلك: ما هو الاستبداد؟ الاستبداد في معناه العام هو الخضوع لسلطة غير موضوعية، ويزيد الأمر أحياناً إلى محاولة خلق المستندات والحيثيات التي تبرر إكراهات هذه الاستبداد. وبناءً على ذلك فالاستبداد في حقيقته ليس نوعاً واحداً كما يتصور الكثيرون، بل هو على مستويين: استبداد داخلي، واستبداد خارجي، ولكل نوعٍ من نوعي الاستبداد ضحاياه. فضحايا (الاستبداد الداخلي) يغالون في مفهوم طاعة ولاة الأمور فوق القدر الشرعي المأمور به، وينفرون من الاحتساب على الولاة والحكام، ويميلون للتفهم الشرعي لكل أمر يأمر به المسؤولون، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ أوامر المستبد، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد الداخلي بعبارات الانبهار والتفخيم مثل: طويل العمر، وحبيبنا المفدى، وسيدي فلان، ونحو ذلك، وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي) أمام نفوذ المستبد الداخلي. وضحايا (الاستبداد الخارجي) يميلون للتفهم الشرعي قدر الإمكان لثقافة الغرب المنتصر في السياسة والاجتماع والحكم، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ مفاهيم الثقافة الغربية، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد الخارجي بعبارات الانبهار والتفخيم مثل: المعجزة الغربية، الحضارة الغربية، ونحو ذلك، وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي) أمام نفوذ المستبد الخارجي. وتجد ضحايا (المستبد الداخلي) لو قلت لهم أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لأوامر المستبد الداخي؛ لغضبوا عليك، ورأوك جائراً ظالماً في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأنهم لديهم نصوص وهم أقرب للشريعة منك. وهكذا أيضاً: تجد ضحايا (المستبد الخارجي) لو قلت لهم أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لثقافة المستبد الخارجي؛ لغضبوا عليك، ورأوك جائراً ظالماً في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأنهم لديهم نصوص وهم أقرب للشريعة منك. لكن لو تساءلنا: ما هي الآلية الداخلية التي يتم من خلالها تطويع النصوص الشرعية لأفكار المستبد، سواءً المستبد الداخلي أو المستبد الخارجي؟ الواقع أن الأمر يتم على هذه الصورة: تجد كثيراً من النصوص الشرعية تحتمل عدة دلالات نتيجة طبيعة بنيتها اللغوية (وهي قضية دلالية/سيميولوجية)، وعلماء المسلمين يتعاملون مع هذه الاحتمالات الدلالية بـ (منهج علمي) لتحديد الدلالة التي تعبر عن مراد الله، هذا هو المسار الطبيعي للعالم المستقل المتحرر من نوعي الاستبداد، أما الخانع لأحد نوعي الاستبداد فإنه لا يرجِّح بين هذه الاحتمالات الدلالية بمنهج علمي، وإنما ينتقي من هذه الدلالات ما يتوافق مع اتجاه المستبد الذي يخضع له، سواءً كان مستبداً داخياً أو خارجياً، فصار المرجح في الاحتمالات الدلالية للنصوص ليس (المنهج العلمي) وإنما (هوى المستبد) الداخلي أو الخارجي. والخنوع للمستبد الداخلي يكثر عند بعض المنتسبين للسلفية ممن يسميهم السلفيون "أدعياء السلفية"، بينما الخنوع للمستبد الخارجي يكثر عند بعض المنتسبين للثقافة المعاصرة.

ونحن اليوم في عصر (الليبرالية)، ولحظة انتصار وهيمنة (النموذج الليبرالي الغربي)، ولذلك تغزونا مقولاتها المدججة بأقوى وسائل التأثير، وتفرض على تفكيرنا أولوية أسئلتها وإشكالياتها، وتزودنا بقوالب تشكّل تفكيرنا، وتمارس استبداداً عقلياً ونفسياً على كثير من المتطلعين للثقافة المعاصرة، فحين تقرأ كتاباتهم أو تسمع كلامهم لا تخطئ عينك تلك الهزيمة المضمرة بين حروفهم، وتشعر أحياناً أن الكاتب يحاول أن يستقل، لكن ينهار مرة تلو مرة، ويظل تواقاً إلى مشابهة المنتصر في أفكاره، يشعر أنه الأقوى والأصح كلما شابهه. وأحياناً كثيرة يمارس الشخص هذه الهزيمة للمستبد الخارجي دون وعي، نتيجة انتشار مفاهيم المستبد الخارجي وتعملقها في تفاصيل أوعية المعرفة المعاصرة، فيتشربها من خلال الحوارات الفضائية، أو الرواية الحديثة، أو النص السينمائي، أو العمود الصحفي، أو التقرير الإخباري، الخ. دعنا نضرب أمثلة لهذا الاستبداد الخارجي، والخنوع الذي يعيشه الكثيرون لأفكار ومفاهيم وتصورات المستبد الخارجي: تجد بعض الناس صارت أهم قضاياه هي (الموقف من المخالف) وتجد لديه تأزم حقيقي في هذا الموضوع، برغم أنه موضوع عادي جداً خلال التراث الإسلامي، بكل ما فيه من نقد المخالف، وكان العلماء وأئمة السلف ينتقدون المخالف بكل وضوح وحسم، ولو سألته: لماذا صار الموقف من المخالف "أزمة" فقط في هذه اللحظة التأريخية التي انتصر فيها النموذج الليبرالي الذي يشيع روح المغالاة في الحرية؟ لربما كان هذا السؤال بالنسبة له مفتاحاً للتفكير المستقل في هذا الموضوع. وتجد البعض الآخر صار يعتبر أن الحديث عن خطر الرافضة وبيان ضلالهم وتفنيد شبهاتهم (طائفية مذمومة)، حسناً .. لقد كان أهل السنة طوال التاريخ يقولون في الرافضة مالم يقل الدعاة المعاصرون مده ولا نصيفه، فلماذا صار الحديث عن ضلال الرافضة أزمة وطائفية في هذا العصر الذي انتصر فيه النموذج الغربي الليبرالي الذي يمنع المساس بالطوائف؟ أتمنى أن يكون هذا السؤال -أيضاً- مفتاحاً للتفكير خارج استبداد المستبد الخارجي. وتجد بعض الناس يقول لك (انتقد الأشخاص لا الأفكار)، طيب .. ألم يكن السلف يا أخي الكريم ينتقدون الأشخاص والأفكار كلاهما، فلم يكن لدى السلف أصلاً هذا التمييز (انقد الفكرة لا الشخص)!، ألا ترى أننا صرنا خاضعين لسحر النموذج الليبرالي الذي يغلو في حرية الأشخاص ويرفع حساسية الموضوع؟ وبعض الناس صار لديه مشكلة مع (شريعة إنكار المنكر) لأنها تخالف الحرية التي تشربها من النموذج الليبرالي المهيمن، فتراه إذا شاهد أحداً ينكر منكراً قال: هذا إقصاء، أو هذه وصاية، الخ. وعبارة (إقصاء ووصاية) ليست مجرد تعبير أدبي، بقدر ما هي تحمل (ثقافة) تنبض بالليبرالية في داخلها. ومن المقولات الليبرالية التي راجت بين كثير من المنتسبين للثقافة المعاصرة عبارة (تكلم لكن لا تمد يدك) وقريب منها عبارة (تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين)، فإذا سألته: لماذا يجوز أن تتكلم لكن لا يجوز أن تمد يدك؟ قال لك: حرية التعبير متاحة، لكن أن تمد يدك فهذا عدوان. حسناً يا أخي الكريم .. فإذا كان الكلام عدواناً على الله أو رسوله أو الصحابة أو أحد شرائع الإسلام الخ، فهل سيبقى الكلام أهون من اليد؟! مثل هذه المقولات ليست مجرد آراء، بل هي "معايير" تجري في عروقها دماء الليبرالية الغربية، حيث تفرق بين الرأي والفعل، وتميل إلى فتح المجال للرأي إلى نهاية الطريق، بينما تميل إلى ضبط الفعل بالقوانين، وهذا طبعاً نسبي عندهم.

لكن هل هذا التصور موجود عندنا نحن المسلمين؟ لا، طبعاً فنحن المسلمين نعتبر العدوان على الله ورسوله أعظم من العدوان على حق شخصي، لأن الله ورسوله أعظم في نفوسنا من كل أحد، بخلاف هذا الغربي المسكين الذي لا يعظم إلا نفسه، فالرأي المنحرف في ميزان الشريعة قد يكون أخطر من الفعل المنحرف، والعدوان بالرأي على الشريعة، قد يكون أعظم من العدوان بالفعل على المسلمين، وقد وضح هذا ابو العباس ابن تيمية حيث يقول: (والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد .. ، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقتل من كان يحاربه باللسان، مع استبقائه بعض من حاربه باليد .. ، وكذلك الإفساد قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد) [ابن تيمية، الصارم المسلول، 3/ 735، ت الحلواني وزميله]. فتأمل كيف جعل ابن تيمية عدوان الكلمة أضر على الشريعة من عدوان اليد في كثير من الأحيان، ثم قارن ذلك بالعبارة الليبرالية (تكلم لكن لا تمد يدك). وهكذا أيضاً تجد التأزمات الحديثة مع منظومة التشريعات المخالفة لغلو الحرية في الثقافة الليبرالية، مثل: عقوبة المرتد، وأحكام أهل الذمة، وجهاد الطلب، الخ. ومع ذلك كله .. فكلا الشريحتان، أعني ضحايا الاستبداد الداخلي، وضحايا الاستبداد الخارجي؛ يحتاجان من دعاة الإسلام إلى الرفق والهدوء، وأن يوضحوا لضحايا الاستبدادين كيف يخرجون من هذا الخنوع الذي يعيشونه؟ وكيف يتنفسون الاستقلال الحقيقي المتكامل؟ وكيف يتحررون من كافة أشكال الاستبداد؟.بحيث لا يرضى المثقف المسلم بأن يكون رقيقاً لمستبد داخلي يشرعن أوامره الهرقلية، ولا رقيقاً لمستبد خارجي يشرعن ثقافته الليبرالية. وما أكثر ما يكون ضحية الاستبداد غير واعٍ بحاله، يتوهم أنه مستقل وهو يرسف في الأصفاد منذ أزمان .. وأهم وسائل العلاج على الإطلاق: ضخ مفاهيم العزة والكرامة والإباء والشموخ وقيمة المسلم ونحو هذه المنظومة المفاهيمية، بحيث يتأبى من نشأ في مثل هذه الثقافة العزيزة الشامخة أن يخنع وينصاع لمستبد داخلي لا يراك أهلاً لأن تشارك في القرار، ويطلب منك أن تمد معاريضك فقط، أو مستبد خارجي لا يراك أهلاً لأن يكون لك منظومتك التشريعية الخاصة، فيهينك لكي تكون تبعاً له تؤمن بالحرية الليبرالية والديمقراطية وتؤول نصوص الله ورسوله لكي تتوافق مع ثقافته الغربية.

التشغيب على المحكمات والثوابت

التشغيب على المحكمات والثوابت عبدالرحيم بن صمايل السلمي 15جمادى الآخرة1432هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقضية الثوابت والمحكمات من أبرز معالم افتراق المنهج الإسلامي عن المناهج والمذاهب والتيارات الفكرية المعاصرة، فالإسلام قائم على مجموعة من المحكمات الثابتة التي لا تتغير مع تغير المجتمعات وتنوعها، فالتوحيد والإيمان وأصول الأحكام والمنهج الأخلاقي وحاكمية الشريعة على النفس والمجتمع وموارد الإجماع، ودلالة النصوص الصريحة لا تتغير في المنهج الإسلامي بين مجتمع رعوي وزراعي او مجتمع صناعي حديث، يقول تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]، وفي وصف الرسول صلى الله عليه وسلم للفرقة الناجية يقول: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). بينما نجد الفكر العلماني والليبرالي والحداثي قائم على نفي الثوابت والمحكمات وهذه إحدى أهم سمات الفكر الغربي الحديث، وفي هذا السياق ينبغي أن ندرك أن العلمانية والليبرالية تنفي الثوابت والمحكمات من جذورها، فمشروع الثوابت والمحكمات الدينية والأخلاقية يتعارض مع الفكر العلماني والليبرالي من الأساس. وذلك من خلال نظريتين فكريتين صبغت الفكر الغربي في أغلب مراحله المعاصرة، وهما: نظرية التطور ونسبية الحقيقة. فالفكر الغربي يعتمد على التطور والتغير والصيرورة الدائمة التي لا تعرف الثبات، وقد كان للداروينية أثر كبير في ترسخ هذه الفكرة في العقل الغربي، وأصبحت معياراً للحق والصواب والتميز والنماء المعرفي والاجتماعي. ونظرية دارون كانت نظرية علمية في الأحياء أول الأمر، ولكنها تحولت - فيما بعد - إلى نظرية إنسانية عامة في مجال الاجتماع البشري. ومن جهة ثانية فإن من أسس الفكر العلماني والليبرالي المعاصر "نسبية الحقيقة" وانه لا توجد حقائق ثابتة خارج الأذهان؛ فما يراه الفرد حقيقة فان غيره قد لا يوافقه عليها ويراه وهماً، وليس أحدهما أولى بالصواب من الآخر .. وأساس الإشكال أنهم قاسوا الأمور الدينية والأخلاقية على التطور التقني المادي في مجال العلوم الطبيعية، ووجدوا أنهم كلما اكتشفوا أمراً وظنوا أنه نهاية المكتشفات فإذا بالأمر ينقلب باكتشاف معلومة جديدة، أو معطى جديدا يفتح آفاقاً واسعة للتطوير، وبهذا أنغرس في العقل والوجدان الغربي أنه لا وجود للثبات، ولا توجد حقائق نهائية بل هو تطور دائم لا نهاية له، ونسبية اعتبارية قابلة للتغير .. هذا من جهة ومن جهة أخرى فالعلمانية تنظر إلى الدين - أي دين كان - على أنه مجرد عقائد ذاتية قائمة على القناعة الشخصية، وأنه لا دليل عليها؛ فهي تستوي مع الخرافات والأساطير والكهانة والسحر وسائر الجاهليات .. ولهذا يرون أن وجود الثوابت القطعية مدعاة للتعصب الديني , لأن مثبت المحكمات يعتقد أنها يقين ثابت وان مخالفه مخطئ وبالتالي ينشأ التعصب .. وقد نشأ عن نسبية الحقيقة وتغيرها الدائم حزمة من المفاهيم الخاصة في الفكر الليبرالي تنافي قطعية الاعتقاد والأحكام والأخلاق واستعملت مصطلحات براقة لتسويق هذا الفكر الهادم لمقومات العقيدة وثوابتها مثل الحرية والتعددية والانفتاح والتسامح الديني ..

وإذا نظرنا إلى الفكر العلماني العربي المعاصر نجد أنه مجرد ناقل للفكر الغربي في نفيه للثوابت والمحكمات: أحيانا باستعمال نفس الأفكار الصارخة التي تنافي حقيقة الإسلام، وأحيانا بالتشكيك في وجود المحكمات أصلا دون تصريح بالنفي، وأحيانا بتضييقها حتى تصبح مجرد اعتقاد وجود الله والإيمان المجمل بالرسول دون الالتزام بالشريعة والتسليم بحاكميتها لكافة شؤون الحياة والخضوع لأمر الله ورسوله في المنشط والمكره، وأصبحت الثوابت عندهم كإيمان المشركين الذي لا يرفع عنهم سوءة الشرك، كما في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. الحيرة المنهجية: وهنا أود الإشارة إلى قضية مهمة وهي أن هناك من تأثر بالفكر الليبرالي وشعاراته من المنتسبين إلى الفكر الإسلامي وأصبح يردد مفاهيمه السابقة ويحاول أسلمتها، ويمرر من خلال المصطلحات المجملة كثيراً من المفاهيم الليبرالية، فمثلاَ: الحرية تطلق على حرية الحق والباطل، فيمرر حرية الباطل من خلال اللفظة المجملة، والطائفية تطلق على الخروج عن الإسلام والسنة بطائفة معينة والدعوة إليها وجمع الناس عليها، وتطلق كذلك على من يحارب العقائد الضالة والفكر المنحرف، ويضيق على أهله، ويمنعهم من الدعوة إليه، فيتم تمرير المفهوم الثاني بعبارة مجملة، وهكذا أصبحت المصطلحات المجملة وسيلة للمراوغة والتضليل، وتمرير الأفكار المنحرفة. وأخطر ما يؤديه هذا التيار التنويري العصراني انه يوقع المتابع له، والمعجب بأطروحاته فيما يمكن تسميته بالحيرة المنهجية، بمعنى أنه يُشعِر من يتلقى عنه أن كل قضية قابلة لإعادة النظر والمراجعة، وأنه بالإمكان تغيير القول فيها، ويصبح المتلقي لا يعرف ما هو الذي يقبل إعادة النظر والمراجعة وما لا يقبل ذلك، وبالتالي يمارس عملية هدم مبطن لكل ما بناه المتلقي من مفاهيم دون أن يبني له شيئا أكثر من هذا الهدم المنهجي وإمكانية التغيير، ويكون مساحة حرة لعبث التيارات العلمانية، وهذه إحدى البوابات التي يلج منها أتباع هذا التيار إلى حياض العلمنة، وهو يظن أنه يعتمد المرجعية الإسلامية!!. ولهذا فهو يشكك في المحكمات والثوابت بحجة أن البعض ادخل فيها بعض العادات والتقاليد دون أن يحدد المواضع بالتفصيل، ثم يمارس تقليلا لدور الثوابت والمحكمات في حماية عقيدة الأمة وبقاء منهجها واستمرار منهجية أهل السنة والجماعة في الأمة، وهو بهذا يفتح بوابة التأثر بالفكر الليبرالي الغربي ويحطم معنويات الأمة وثباتها على مبادئها بل أصبح البعض يتبنى مشروع التغيير كمنهجية مقابلة لمنهجية ترسيخ الثوابت والمحكمات، والتغيير مفهوم مجمل ومحايد لا يمكن أن يمدح لذاته، فالتغيير المحمود الموافق للشريعة هداية واستقامة، والتغيير المذموم المخالف للشريعة انتكاسة وغواية، وكلها يسمى "تغييراً"!! وهذا التيار وان كان لا ينفي المحكمات لفظياً إلاّ انه يحدث لدى متابعه والمحب له حيرة منهجية مبرمجة تجعل منه فرصة سانحة لتقبل الفكر الليبرالي.

ومن المحكمات الشرعية التي تم نفيها أو التشكيك فيها: البراءة من المشركين وبغضهم، واعتقاد كفرهم في الدنيا والآخرة، والجهاد وأحكامه كالجزية واسترقاق الأسرى، وقتل المرتد وغيرها، وتحكيم الشريعة وهيمنتها على كافة الأنظمة، وإنكار المنكر، ومحاربة البدع والمحدثات، وأولوية العقيدة والإيمان، وتحذير الأمة من التيارات الفكرية، والقواعد العامة لمصادر الاستدلال ومناهجه، والحجاب، ومنع الاختلاط، وقواعد الشريعة الكبرى كقاعدة الضرر يزال، وسد الذرائع، وإثبات الصفات والقدر وغيرها من قضايا الاعتقاد، وتحريم الفواحش، والظلم، وتحريم الاعتداء على المسلم وسلبه حقوقه وحريته الشرعية، وغيرها من المسائل الإجماعية التي لا تقبل الخلاف، ويعد الخلاف فيها شاذا لا قيمة له. وليس المقصود هنا الحديث عن أعيان المسائل المعتبرة من الثوابت، ولكن الغرض الإشارة إلى التشغيب الذي يمارسه الفكر الليبرالي، والحيرة المنهجية والتلون الذي يصنعه التيار التنويري للتشكيك في المحكمات ودعوى أن هذه ثوابت اجتماعية، وليست ثوابت شرعية، وهذا يذكرنا بتصوير الإعلام للحجاب ومنع الاختلاط وغيرها بأنها من العادات والتقاليد، وهو إشارة إلى أنها ليست من الدين، ويمكن تعديلها، وتغييرها. توصية: كل ما تقدم الإشارة إليه تؤكد خطورة محاولات القفز على المحكمات في واقعنا المعاصر، وهي تتفاوت من مجتمع لآخر ففي أحيان يكون التشغيب على حاكمية الشريعة في التقاضي وأحيانا على لزوم الحجاب للمرأة المسلمة، أو معارضة تحريم الربا والزنا وشرب الخمر بحجة حرية العلاقات الشخصية، أو الدعوة للاختلاط، وتسويق الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمرأة مثل السيداو وميثاق حقوق الطفل وغيرها من المواثيق الدولية .. وأمام ذلك كله يتأكد ضرورة تأصيل المحكمات وإقناع الأمة بمخاطر القفز عليها وتجاوزها تحت أي ذريعة، وتربية المجتمع عليها والتحذير من نتائج التشكيك فيها وإزالة الحيرة التي يوقعها الخطاب التنويري في نفوس الشباب إزاء هذه القضية المركزية والجوهرية في المنهج الإسلامي.

بيان من رابطة علماء المسلمين عن الأوضاع في سوريا

بيان من رابطة علماء المسلمين عن الأوضاع في سوريا رابطة علماء المسلمين الإثنين 6جمادى الآخرة 1432هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله قاصم الجبارين، مهلك الظالمين، مدرك الهاربين، نكال المجرمين، الحمد لله صريخ المستصرخين، غياث الملهوفين، معتمد المؤمنين، ناصر المستضعفين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. قال تعالي: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] إن رابطة علماء المسلمين لتستنكر وتدين ما يحصل من قمع وإراقة للدماء وكبت للحريات والتعامل مع المتظاهرين بوحشية لا مثيل لها من النظام البعثي في سوريا الذي طالما أوغل في الشعب السوري بالقهر والجبر والظلم والطائفية طيلة عقود أربعة متوالية. وإن رابطة علماء المسلمين ومن الواجب الملقى عليها تجاه هذه الأحداث لتؤكد على ما يأتي: أولا: لابد أن يعلم أن هذا النظام قد جمع بين ثلاث سوآت (النصيرية - والبعثية - والاشتراكية) وكل منه ناقض للإسلام على حده، وأما إذا اجتمعت كلها فتلك ظلمات بعضها فوق بعض، وكفر بواح. ثانيا: ما حصل من إراقة الدماء وإزهاق الأرواح البريئة كل ذاك يتحمله النظام البعثي، وهي جريمة تضاف إلى رصيد مظلم من جرائم هذا النظام الذي ارتكب في حق هذا الشعب الأعزل جرائم قل نظيرها في التاريخ المعاصر. ثالثا: إن قهر الناس وقتلهم دون مطالبهم مسلك خطير يستوجب غضب الله سبحانه ولعنته على فاعله ويجب ان يكفوا عنه قال تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [سورة النساء:93 الاية]. رابعا: إن مطالب الإصلاح وحرية الناس من التوغل الطائفي المنحرف أو السياسي المستبد هو مطلب مشروع يقره الإسلام، بل وتقره سائر الشرائع. والأنظمة الدولية. خامسا: إنه من العار على الحكومات العربية أن تهب بعض الدول الغربية لنصرة الشعب السوري وتتبني قضيته وتبقى الدول العربية متفرجة لم نسمع لها قرارا ولا بيانا ولا شجبا ولا تنديدا. سادسا: إن من واجب القادرين من الشعب السوري في كل القرى والمدن الأخرى أن ينهضوا جميعا لفك الحصار عن إخوانهم في درعا وتخفيف المعاناة عنهم. سابعا: إن من أعظم الناس أجرا عند الله من قام لسلطان جائر فأمره أو نهاه فقتله فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) رواه الترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجه وإسناده صحيح، فنرجوا من الله للشهداء الذين صدعوا بالحق أمام هذا النظام أن ينالوا من هذا الأجر أوفر نصيب. ثامنا: إن من واجب الأمة أن تهب لنصرة المستضعفين كما هبت لنصرة غزة لأن ما يفعله النظام السوري في حق إخواننا في درعا يفوق في وحشيته ما فعله اليهود في غزة. تاسعا: على أهل العلم والمصلحين والدعاة القيام بواجباتهم الشرعية والعملية في قيادة أمتهم وتسديد مسيرتها، وتوجيهها نحو أعدل السبل وأقوم الطرق، التي بها يصلح حال البلاد والعباد، متحرين في ذلك رضا ربهم، ومراعين فقه واقعهم، دون حيف أو خوف، أو ولاءٍ لشرق أو غرب. عاشرا: نناشد منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، والمؤسسات الأهلية وكل شرفاء الأمة التحرك العاجل لنصرة الأطفال والنساء في درعا وعدم التخاذل والتواطؤ مع النظام السوري المجرم. أخيرا: يجب على كل المسلمين الدعاء لإخوانهم في سوريا بالصبر والثبات وتفريج الكربة والنصر على من أراد بهم شرا فإن ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. نسأل الله تعالى أن يفرج عن إخواننا المكلومين في سوريا وأن يعجل بكشف الغمة عنهم وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز به أهل طاعته ويهدى به أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر والله ولي التوفيق. رئيس الرابطة الأمين العام الأمين الحاج محمد أ. د. ناصر العمر

قصة الغرب و"الآخر"

قصة الغرب و"الآخر" عايض بن سعد الدوسري الإثنين 6جمادى الآخرة 1432هـ قبل سنوات قليلة اجتاحت العالم العربي والإسلامي حمى كلمة " الآخر "، وأصبح من النادر أن تجد مثقفًا أو صحفيًا أو نصف مثقف أو نحو ذلك لا يذكر كلمة " الآخر ". بعض هؤلاء - وليسوا بالقليل - يذكرون كلمة " الآخر " بخشوع وإخبات، ويستطردون في ذكر محاسنه وحقوقه وإيجابياته وما له علينا وماذا يجب علينا تجاهه، وكيف نُحسن صورتنا أمامه، وننظفها من العار والشنار الذي لحقها من قِبَلِنا، حتى أصبحت صورتنا غير نظيفة أمام " الآخر ". وحيثُ إنَّ للآخر قصة يُستحسن أن نعرفها، وكيف نشأ مصطلح " الآخر "؟ ومن المقصود به؟ وما الذي نشأ قبله؟ وفي أي شيءٍ استخدم؟ هذه الأسئلة مهمة حتى لا تُستخدم الألفاظ في غير معانيها، أو تُقتطع من سياقاتها التاريخية، فتفقد قيمتها أو معانيها أو حتى دلالاتها الخطرة. مصطلح " الآخر " مصطلح وُلِدَ في الغرب، وكان وجوده هناك مسبوقًا بوجود مصطلح " الأنا "، لأن الغرب يرى أنه هو " الأنا " وهو مركز الكون والحضارات، وبقية العالم تُسَمَّى " الآخر "، فنشأ ذلك المصطلح كدلالة على الاستعلاء الغربي تجاه الآخرين، وأصبح العالم يُرى من قِبَلِ زاوية " الأنا " الغربية كالآخر! و" الأنا " الغربية هي نقطة البداية وزاوية الرؤية التي تُقيَّم من خلالها جميع الأشياء، وهذه الرؤية تأتي انطلاقًا من تمركز الفكر الغربي على الذات، الذي نشأ عنه اعتقاد الغربيين "بمركزيَّة الغرب"، ومن ثم أنتج استعلاءً على الآخرين، وكانت المدوَّنات الأدبية والفلسفيَّة الغربية سجلاً حافلاً وموثقًا سُجِّلَ فيه بكل دقة ملامح الاستعلاء الغربي على " الآخر "، الذي يتمثل في الحقيقة والواقع في الشرقي أو بعبارة أدق غير الغربي. ومن هذه النظرة الفلسفية أصبحت العلاقات قائمة على عدم المساواة، بل على غيرية تامة إلى درجة العداوة. ويرى كثيرٌ من المراقبين أنَّ هذه الرؤية ليست حديثةً، بل لها جذورها الضاربة في القِدَم. فأرسطو - مثلاً - يرى أن (الآخر) هو الغريب، أما أكثر الفلاسفة المتأخرين فيرون أن (الآخر) هو الشخص غير الطبيعي، أو العدو، أو الشيطان، أو البربري، أو المتوحش، أو الخطر المميت، أو الشر، أو الإرهابي، أو الأجنبي محل الريبة! ومن فلسفة الغرب لمصطلحيّ " الأنا - الآخر " انطلقت الحملات الاستعمارية تحت مسميات مختلفة، فتارة: حملات صليبية، وتارة: حملات ضد البرابرة، والعامل المشترك هو: أن "الآخر" ليست له قيمة مساوية للغربي، فهو بربري أو متوحش بلا قانون أو إيمان، ولذا فإن الحق في أخذ ما في يديه وما تحت رجليه وسرقة ماله وحقوقه حقٌ مشروع. وقد بيٍّن (فرنسوا شاتليه) في كتاب " أيديولوجيا الغزو " أن الغرب قد نظر للشعوب -التي قصد بلادها الأصلية لاستعمارها - بوصفهم وحوش وبرابرة، فقد عرف الغرب -على حد قوله- أنواعاً من المتوحشين وخاض معهم تجربة؛ كمتوحشي أمريكا وكندا، أي السكان الأصليين الهنود. وحينما عَرَّفَت الموسوعة الغربية L ENCYCLOPEDIE ( المتوحش) - في مقال خاصٍ بالتعريف بالمتوحشين- فقالت: إنه من الشعوب البربرية التي تعيش بلا قانون ولا شرطة ولا دين. ثم تُعطي مثالاً على ذلك بأمريكا التي ما تزال مأهولة بأمم الهنود الحمر المتوحشة -على حد وصفها- بدون ملك ولا قانون ولا إيمان! لقد كان هذا كافيًا لأن تقوم الجيوش الغربية بغزو أمريكا الشمالية وإبادة الهنود الحمر إبادة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، مع أنَّ بعض الباحثين يؤكدون على أنَّ شعوب الهنود الحمر في أغلبيتهم من الشعوب المسالمة والطيبة، وأنه من الثابت بلا شك أنها شعوب لها لغتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها.

ولذلك، تجد أن الأعداد الهائلة للهنود الحمر قد اختفت، بسبب الإبادات الجماعية أو بسبب نشر الأمراض بينهم بطريقة مدروسة ومتعمدة وموثقة تاريخيًا. ومع أنه لم يتبق إلا القليل منهم في أمريكا، وطنهم الأصلي، فإنهم اليوم يُعانون الغربة والتهميش والاحتقار، وأنهم هم الغرباء في أمريكا. أما التصوير الغربي وبالأخص الأمريكي للهنود الحمر، كما تبينه عدد من الدراسات، فإنه تصوير قائم على ثنائية التجريم أو الاحتقار، فالمنتجات الثقافية الغربية-الأمريكية؛ كالأفلام والقصص والرسوم المتحركة، تُكرس في المراحل العمرية الأولى صورة الهندي الغبي والمغفل والأحمق، لكن في المراحل العمرية اللاحقة يتحول الهندي الأحمر إلى مجرم حقير مُدنس للأعراض وقاطع للطريقة و"سالخ لفروة الرؤوس"، وحش بلا رحمة ولا قلب ولا يعترف بقانون. يقول الكاتب الغربي " ريزارد كابوتشينسكي" في مقالٍ بعنوان "التلاقي بالغريب" 2006م: (لم يكن الإنسان الأبيض، الأوروبي، يغادر قارّته إلا بهدفٍ واحد: هو الاحتلال. كان يخرج من دياره ليصبح سيّداً على أراضٍ أخرى وللحصول على عبيد أو المتاجرة أو التبشير. غالباً ما كانت تتحوّل رحلاته إلى حمّامات من الدماء، كما جرى لدى اجتياح كريستوف كولومبوس للأميركيّتيْن، تبعها حملة المستعمرين البيض الآتين من القارّة العجوز، ثمّ اجتياح إفريقيا وأستراليا، إلخ). وبناءً على نظرة الغرب لنفسه " كأنا " ونظرته لغيره " كآخر "؛ تشكلت سياسته تجاههم بوصفهم: إما برابرة يجوز احتلال أرضهم وإهدار جميع حقوقهم الإنسانية، لأنهم -كما يقولون- لا يحق لهم ملك الأرض لأنهم بلا قانون ولا إيمان، وإما مجرد عبيد خلقهم الله لخدمة الرجل الأبيض. يقول فرنسوا شاتليه: (ما نعرفه من أفريقيا، ممالك الغرب التي تنظم بنفسها توريد العبيد، لا يُسمح بتصنيف الأفارقة في عداد المتوحشين، ويُقال عن الأفريقي: إنه خُلق ليخدم). ولعل هذه النظرة الدونية هي التي دفعت المجتمع الأبيض في أمريكا " الأنا " إلى النظر إلى إخوانهم السود " الآخر" كعبيد لا قيمة لهم، أو لعل قيمتهم تقترب من قيمة الحيوانات التي تُستخدم في الزراعة ونحوها! يقول " مالكم إكس" مخاطباً الأمريكان السود: (من أنتم سوى عبيد سابقين، أنتم لم تأتوا على " المايفلاور "، أنتم أُتي بكم على سفينة عبيد مقيدين بالسلاسل مثل الخيول والبقر). طبعًا " المايفلاور " MAYFLOWER هي السفينة التي نقلت المهاجرين والحجاج الإنجليز الأوائل من " بلايموث " في إنجلترا إلى شمال فيرجينيا في أمريكا في عام 1620م. ولم تكن العنصرية -والتي شكلت موقف الغرب تجاه " الآخر "- مقتصرة على التجار الجشعين، أو رجال السياسة البرجماتيين، بل كانت -أيضاً- تحظى بدعم فلسفي وتبرير عقلي من أعمدة الفكر الغربيين، والتي وضعت الأسس الأخلاقية لهذه القضية، وقدمت الدعم المنطقي المبرر لموقف " الأنا " من " الآخر ". يقول منتسكو في كتابه الشهير " روح القوانين " مُبينًا حجة من يرى استعباد السود: (إذا كان علي أن أدافع عن حقنا في اتخاذ الزنوج ذوي البشرة السوداء عبيداً، فإنني أقول: إن شعوب أوروبا وقد أفنت سكان أمريكا الأصليين لم يكن أمامها إلا أن تستعبد شعوب إفريقيا، لكي تستخدمها في استصلاح أرجاء أمريكا الشاسعة، وما شعوب إفريقيا إلا جماعات سوداء البشرة من أخمص القدم إلى قمة الرأس، ذات أنوف فطساء إلى درجة يكاد من المستحيل أن ترثي لها، وحاشا لله ذي الحكمة البالغة أن يكون قد أودع روحاً أو على الأخص روحاً طيبة في جسد حالك السواد).

ويؤكد " بندكت أندرسون " أنَّ الأساس الأخلاقي-الليبرالي الذي قدمه الليبرالي الكولومبي " بيدرو فيرمين دو فارجاس " في مطلع القرن التاسع عشر من أجل تبرير استبعاد وإبادة الهنود هو في قوله: (إن كسل الهنود، وغباوتهم، ولا مبالاتهم تجاه الجهود الإنسانية الاعتيادية تدفع المرء إلى الاعتقاد أنهم ينحدرون من عرق منحط). ويؤكدالفيلسوف "رينان" هذا الاعتقاد فيقول: (جنس واحد يلد السادة والأبطال هو الجنس الأوروبي، فإذا نزلت بهذا الجنس النبيل إلى مستوى الحظائر التي يعمل بها الصينيون والزنوج فإنه يثور، إن الحياة التي يتمرد عليها عمالنا يسعد بها صيني أو فلاح من جنس آخر). وبالإضافة إلى المبررات التجارية والسياسية والفلسفية العقلانية، تم إضافة المبرر الديني لتكريس موقف الغرب " الأنا " المجحف من " الآخر "، فبحسب البحوث والدراسات العلمية فإنَّ الغرب -وخصوصاً الأمريكي الأبيض- يرى أن الله كرمه وفضله على خلقه، وأن الله كما منح العبرانيين "اليهود" أرض كنعان والقدس، وطرد منها أهلها الأصليين "الفلسطينيين"، فقد منح أمريكا للأوروبيين المهاجرين إليها، وطرد منها سكانها الأصليين، الهنود. يقول " جون آدمز" في كتاب " أيديولوجيا الغزو": (إن استعمار أمريكا، بداية تحقيق مشروع العناية الإلهية الذي يعني تدفق النور). ويقول فرنسوا شاتليه: (إن تكوين التعابير التي تعني: أمريكا، أمريكي، أمرك. يُشكل الدلائل على هذا التصميم الإلهي. إن أمريكا هي في نفس الوقت كنعان الجديدة، القدس الجديدة، وفيما يخص الأمريكيين، فهم تحت الحماية الإلهية، إن شعباً مختاراً، فقط، هو الذي يستطيع الإقامة في هذا البلد الموهوب بكرم، لقد عاملهم الله مثل العبريين). ومن هذه الرؤية الغربية الضيقة والمتعالية تجاه " الآخر " أصبحت الحضارة الغربية هي المحور والمرتكز للحضارات البشرية، بل لا يوجد حضارة إنسانية غير الحضارة الأوروبية الغربية، وما عداها فقطيع من الشعوب المتوحشة والبربرية أو العبيد. ثم إن " الأنا الغربية " ظهرت في أوروبا بقوة، وانتشرت كالنار في الهشيم، وتبناها ودافع عنها كثير من العلماء والفلاسفة، وهي نظرة -كما سبق- قائمة على " مركزية الحضارة الأوربية " بحيث تستبعد كل ما سواها، فلا حضارة إلا حضارة الغرب. وترى الدراسات والبحوث أنه لأجل أن يُبرر الغربي تفوقه، فقد ذهب العديد من المؤرخين الغربيين إلى ادعاء تأثير جنس بشري مخصوص له خصائص معينة في صناعة التاريخ، إذ لم يتردد البعض في الزعم بأن الجنس الأوروبي هو أفضل الأجناس على الإطلاق، وأنَّ باقي الأجناس الأخرى أقل قدرة في صناعة التاريخ. يقول الفرنسي " جوبينو " في رسالة له حول عدم تساوي الأجناس: (إن الآريين وحدهم هم بناء الحضارة والمحافظون عليها). وكان " جوبينو" لا يعترف بحضارة سوى الحضارة البيضاء، ويؤكد ذلك فيقول: (أن التفاوت العنصري كاف لتفسير مصائر الشعوب). وذهب كل من " جوزيف آرثر " و" هوستن" إلى أن كل الحضارات الأساسية هي من عمل الآريين. وهذه " الأنا " هي التي دَفَعتْ " بلومباخ " إلى تأسيس نظريته الشهيرة التي زعم فيها أن هناك توافقًا بين العبقرية وبين طبيعة العقل الأوربي. ويقول " إفيريت " -أستاذٌ في جامعة هارفارد-: (العرق الأنجلوساكسوني متفوق على نحو لم يسبق له مثيل، ولا يدانيه أحد)! وهذه " الأنا " الغربية -نفسها- هي التي دَفَعت علماء وفلاسفة الغرب إلى تغليف تفوقهم العنصري المزعوم بغلاف البحث العلمي، فالنازيون الألمان يرون أن تفوقهم يُفسر بناءً على عرقهم، وأنهم أفضل العروق وهم السادة، أما الآخرين فهم العبيد!

وحينما سيطرت فكرة " الأنا " على عقل النازية، جعل هتلر يقول بتفوق الألمان بالطبيعة على جميع أجناس البشر، وتقوم فلسفته العنصرية أو " الأنا الألمانية " على فكرة تفوق الجنس "الآري الجرماني" على باقي الأجناس التي أنجبتها الطبيعة، حيث يرى أن الشعب "الآري" فوق الجميع لذلك يجب الحفاظ على نقاوتها. ولذا فقد منع هتلر زواج الألمان من الأجناس الأخرى؛ حتى لا يختلط دمهم النقي بدماء غيرهم الفاسدة. وذهب النازيون إلى أن العروق ليست مختلفة فقط بل متفاوتة، أفضلها وأرقاها وأنقاها العرق الآري، الفرع " النورديكي "، وأدناها وأحطها الأفارقة السود. ويبيّن " ريزارد كابوتشينسكي" أن هذه النظرة العنصرية " للآخر" هي التي دفعت النظام الأبيض الكريه -على حد تعبيره- في جنوب إفريقيا إلى تأسيس علاقاته بالآخرين على مبدأ التمييز العنصري ( apartheid) ، ثم يُفسر هذا التصرف -القائم عدم قدرة على التفاهم مع الآخرين والتطبّع بطباعهم، والرغبة في ببناء الأسوار الضخمة وحفر الخنادق العميقة، للانعزال عن الآخرين- "بأنه فشل للكائن البشري في علاقاته". ثم تتابعت -بعد ذلك- النظريات الغربية لتكريس " الأنا " والبحث عن مسوغات علمية لاستعباد " الآخر " وتبرير شن حروب إبادة وإقصاء في حقه؛ لأن " الآخر " ليس إلا عبدًا لا قيمة له، وتذهب الدراسات إلى أنَّ هذه الأيديولوجية الغربية تُفُسر دواعي الحوادث العنيفة والدموية في التاريخ الغربي، فإبادة الهنود الحمر، والحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، والحروب الأخرى تطبيقٌ عملي لمفهوم الغرب للآخر، ذلك " الآخر" الذي لا ذنبَ له إلا أنه صُنِفَ غربيًا " بالآخر"، مما يعني أنه مجرد عبد أو بربري في نظر الغرب. يقول فرنسوا شاتليه: (كان على النظام -أي الغربي- إنكار إنسانية العبد، إنه لا يَعْرِفُ، بوصفه حيواناً أو آلة أو كافراً، كيف يشارك في دائرة السوق التي هو مع ذلك دولابها الحاسم، يفترض اقتصاد النخاسة عدم تماثل صارم: "إنسان= أبيض =حر"، "دون الإنسان = غير أبيض= عبد"). لقد تم رسم ملامح " الآخر " بوضوح في الذهنيَّة الغربية بناءً على تصورات الرجل الأبيض، فهو الذي حدد المفاهيم ومن ثم رسم العلاقات بدقة مع الآخرين، فالزاوية الوحيدة التي يُنظر للآخرين من خلالها هي زاوية الغربي، وعين الأبيض، وتقييم الأوروبي، وهذا-كما بُيِّنَ سابقاً- مبني على مفاهيم قائمة على المفهوم الغربي " للأنا " القائمة على التناقض بينها وبين " الآخر ". يقول الكاتب الغربي " ريزارد كابوتشينسكي": (لقد تمّ تحديد مفهوم " الآخر " بحسب وجهة نظر الإنسان الأبيض، الإنسان الأوروبي). ويقول فرنسوا شاتليه: (ثمة معيار أبيض وفيما بعد "آري" يكون منقوشاً على سطح الكرة الأرضية، يكون هذا النقش تناقضياً، تناقض بين الأبيض وغير الأبيض). ويذكر فرنسوا شاتليه أنَّ هناك: (تقسيماً كونياً للعمل: للأبيض النظام والحرية والمثابرة، أما الأصفر فهو جسور وضعيف ولكنه عملي، في حين يكون الزنجي شره وموسيقي وكثير النسل وغير مستقر). لقد لخص بعض الغربيين -قديماً وحديثاً- رؤيتهم وموقفهم من "الآخر"، حيث اعتقدوا أنَّ "الآخر" بكل اختصار هو (الجحيم) الذي لا يرغب أحد في الذهاب أو التعرف إليه أو إقامة علاقات وديَّة أو إنسانية معه. وهذه التصورات المغلوطة والمتجنية تجاه الآخرين هي ما دفعت الكاتب " إدوارد ألبى " في مسرحيته (قصة حديقة الحيوان) إلى تكرار عبارة: (إن الجحيم هو الآخر) على لسان أحد شخصياتها. وكذلك " جون بول سارتر " في مسرحيته (الجلسة السرية) حيث قال بكل وضوح: (إن الجحيم هو الغير).

لقد أرجع " ريزارد كابوتشينسكي" التصورات المغلوطة عند الرجل الغربي عن " الآخر " إلى جهل الرجل الأوروبي الأبيض بكلّ ما له علاقة بالشعوب الأخرى وثقافتها، ومنها كوّنوا فكرة خاطئة عنه، مليئة بالغطرسة والاحتقار. إن خلاصة مصطلح " الآخر " -كما قيل سابقًا- أنه مصطلح غربي يدلُّ على السلبية والعدوانية، في مقابل " الأنا) الغربية الدالة على العلوّ والزهو والتغطرس. هذا جزءٌ ضئيلٌ مما في التراث الغربي عن "الآخر"، ويبقى السؤال الذي قد يُطرح هو: ماذا عن الممارسات الغربية المعاصرة تجاه "الآخر"؟ وهل هناك أي تزحزحٍ في المواقف الغربية تخالف ما هو مسطورٌ في التراث التاريخي؟ هذه الأسئلة مُلحةٌ جدًا وتحتاج إلى إجابات علمية رصينة، لأنه يُمكن أن يُقال: إن ما قيل آنفا ليس إلا تعبيرًا عن مرحلة غربية-تاريخية مضت وتصرمت، ولم تَعد تُلقي بظلالها على الذهنيَّة الغربية في الوقت الحاضر، خصوصًا مع شهرة الغرب بمساندة قضايا حقوق الإنسان ودفاعه عن الديمقراطية والحريات. كثيرٌ من المراقبين يؤكدون أنه حتى مع وجود القوانين المدنية الغربية وحقوق الإنسان في العصر الحديث، والتي يُعتقد أنها تُقيد "الغربي" من ممارسة ثُنائية "الأنا- الآخر"، فإنَّ الإنسان "الغربي" يُحاول جاهدًا أن يتفلت من أسرها كثيرًا؛ إما بعدم تطبيقها خارج حدود "بلاد القانون"، أو بالتلاعب بالقوانين داخل حدود "بلاد القانون"، أو أنَّ الإنسان "الغربي" يرى وجوب التمييز بطريقة ما بينه وبين "الآخر"، أو في نهاية المطاف يرى "الغربي" أن هذه القوانين والحقوق هي من ابتكاره ولذا فهو صاحب المنة واليد العليا.

نكوص الهداة

نكوص الهداة سعيد بن محمد آل ثابت السبت 4جمادى الآخرة 1432هـ منذ أن بزغ فجر الهدى، واستقر الدين في قلوب الموحدين، ولامس الإيمان شغاف القلوب، واطمأن في سويدائها، لم تزل هناك فرادى من الحيارى والتائهين الذين بدلوا وغيروا، وضلوا بعد أن هداهم الله - جل وعلا -، وقد تنامى هذا المعدل في زماننا هذا، حتى لقد سارت به ركبان المجالس العلمية وغير العلمية (ولا حتى المهتمة بشؤون الدعوة)، وحين نُطرق السمع لروايات المربين، والدعاة والمصلحين نجد أن هناك عدداً من القصص المزعجة جراء النكوص والانتكاسة - نسأل الله الثبات -، وإن هذا الموضوع لم يُغفله ذوو الاختصاص حيث يُطرح بين الفينة والأخرى بالطرق والمفاهيم والأفكار مختلفة، ولكن لعلي في هذه العجالة أن أحاول إلقاء الضوء على الأسباب خلف هذا السلوك من وجهات عصرية متعلقة بجوانب لعلها تناسب زماننا هذا، ويكمن فيها - بإذن الله- العظة والحذر، وأعلم يقيناً أن الحاجة لكاتب الموضوع أولى من قارئه، ولو كنتُ مخيراً لقدمت سكوتي وصمتي فالقضية جد حساسة لا يأمن فيها الفرد على ذاته، ولكن حسبي تبليغ دين الله، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربما ساهمنا في تثبيت أحدهم فيُشفِّعُه الله فينا يوم العرض والحساب. أشكال الانتكاسة: لاشك أن واقع الانتكاسة واقع مخيف - نعوذ بالله من الخذلان-، وأشكالها كثيرة، هذا إذا علمنا أن معظم المسلمين قد قرروا في أنفسهم هذا الطريق لأسباب عدة كموعظة سريعة، أو مناصحة صادقة، أو فقد قريب أو عزيز، وسرعان ما يعود إلى طريقه السابق لظروف متعددة، وربما يكون عدم احتضانه في بيئة جيدة، أو هو لم يستظل بظلال صحبة معينة ساهمت في كثير من ذلك، ولا غرو أن من الظواهر المقيتة في هذا الشأن حين ترى جماعة من الإعلاميين والكتاب والصحفيين كانوا مهتدين بل وحتى دعاة، وسرعان ما تغيرت الوجهة! كل ذي لب يؤمن أن ذلك نذير خطر، غير أني سأحدد أشكال الانتكاسة في النفر الذين تمتعوا بطريق الهداية فترة من الزمن فعاشوها، وواكبوا أقران لهم هناك في البيئات الصالحة المصلحة، ثم بدلوا الحسنة سيئة. وأبدأ مستعيناً بالله: أشكال الانتكاسة على نوعين: الانتكاسة الفكرية: وهو يصيب فئة من الناس حيث تبدأ معتقداتهم بالاهتزاز أمام صراعات الأفكار التحررية، وهذا له صور عدة فهناك من ارتد عن دين الله، ومنهم من سلك العلمنة وتحييد الدين بعيداً عن النشاط البشري والحياتي، ومنهم من ركب التنوير وسار يهذي به بعيداً عن الحقائق، والفطرة الصحيحة، وبات مفتياً متفرساً في وقائع الأمة التي لو كانت في عهد عمر لجمع لها أهل بدر. وربما يورده للانحراف الكلي عن الدين القويم كما حدث في البعض، وهذا الشكل من الانتكاسة أشد ضررًا من التالي حيث يكون هذا قاضياً على الخير والهدى في قلب الفرد، زاجاً به في متاهات ليس لها نهاية. الانتكاسة السلوكية: وهذا ما يكون عادة ناشئ من هبوط الإيمان، أو خلل في التربية الذاتية والإيمانية، وربما كان له أسباب خارجية، وقد تظهر صوره في الفتور الدعوي، أو كون الملتزم يصبح لا هم له ولا نشاط؛ فينكفئ على نفسه وخاصته، وربما ذهبت آثار السمت والاستقامة ليساير عامة الناس ودهمائهم بعيداً عن المسؤوليات والتبعات. وهذا النوع قد يعود صاحبه، حيث أنه لا يُصيب بالعادة إلا تغيرات سطحية في المفاهيم، وخلل في السلوك فبتوفيق الله ثم بالمناصحة، والعزم قد يعود صاحبه لأنه غالباً ليس مقتنعاً تماماً بما هو عليه. الدوافع والأسباب: أولاً: (الأسباب شخصية)

إهمال المنابع الإيمانية، وضعف الارتباط بها كالمساجد، وحلق الذكر، ومجالس الإيمان، وعادة ما يكون للمتنسك بداية الطريق صلة بهذه المنابع، وهكذا حتى يُصيب البعض شيئاً من التواني والتراخي في ذلك، فيقل عنده منسوب الإيمان، وتضمر لديه المعاني والمشاعر الإيمانية الوهاجة، ويكون على ارتباط هش بالمداومة على الصلوات في المساجد، والعمرة إلى العمرة والحج إلى الحج، وتقليب صفحات المصحف، وتكمن المصيبة حين يعتقد بأنه قد توصل لمرحلة قد لا يحتاج فيها إلى مجالس الرقائق والإيمان التي يزعم أنها للمبتدئين، ومن ثم ينكفئ على ذاته ونفسه، وهنا يبدأ في مناقشة ذاته، ومحاورتها بعيداً عن المنهجية وأهل العلم، حتى يبدأ بالتنازلات، والتقاعس، والأخذ بالمفضول ليسقط، ويستسلم لقيد من قيود الأرض. الانبهار بالجديد، والتهافت على الحضارة الدخيلة، والانفتاح على المدرسة العلمانية والعقلانية، وهذا يساهم في الجرأة على النصوص المقدسة، والتمرد على أهلية الأحكام الشرعية بالنقد والتأويل واتهام المسلمات والثوابت الإسلامية بمصادمة العصرنة، وعدم مجاراتها لظروف الواقع، ومن ثم اتهام الدين بالجمود والرجعية، وهذه فتنة عظيمة سقط من خلالها عدد مخيف لاسيما ممن اتسم بالعقل في حينه والخيرية, ومفاد هذا الدافع باطل حيث الفهم الحقيقي للدين الإسلامي يجعل هناك تصور صائب تجاه المعتقدات والضوابط الشرعية خصوصاً أنها أتت لتحرر البشرية من ربقة الأسياد، والقبيلة، والأهواء والطواغيت. وساعد في ذلك وجود البعض خلف أسوار التقوقع على النفس ثم الانفتاح العولمي السريع عبر قنوات الإعلام الجديد، وربما هذا الأخير أذكى شيئاً من القنابل الموقوتة في البعض تجاه مسلمات دينهم. الاندفاع والاستعجال والحماسة المفرطة، مع فقدان الروية والتأني. وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77]. يقول سيد قطب عن هذه الآية: (إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجد وتقع الواقعة .. بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة؛ فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار .. حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا. فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً ... ).

البعد عن البيئة المعينة، واستبدالها ببيئة هابطة الغايات، والأولويات، وهذا أثره في التطبع على سلوكيات البيئة الثانية، ولقد قال الحق جل وعلا في حقه نبيه -عليه الصلاة والسلام-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف28]، والمتدبر في هذه الآية يجد وصف هؤلاء الدعاة تكمن في الفاعلية، والاستمرارية والإخلاص، وهذا يجسد لنا صفات البيئة المناسبة لاحتضان المصلحين والهداة. قلة العلم، والجهل بأحوال الفتور والشره. وأعني بالعلم هو العلم الشرعي والتربوي الذي يساير الفرد حتى موته، وأخذه من العلماء الراسخين، وطلبة العلم الموثقين، ولا يكن الهوى والانكماش على الذات هو المسير الوحيد للسلوك، وإنا نجد في تعاطي الصحابة والسلف الصالح لهذه القضية نموذجاً حياً يمثل مشهد العلم والتعلم وبذل الوقت والجهد فيه, فهذا جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - بلغه عن رجل من أصحاب رسول الله حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشام وهو عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - فابتاع بعيراً وشد عليه رحله وانطلق يسمع حديث رسول الله-عليه الصلاة والسلام-، وذاك شعبة -رحمه الله-يرحل شهراً كاملاً في طلب حديث سمعه من طريق لم يمر عليه. (للاستزادة أنظر الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي). وفي عصرنا الحاضر قوى علمية جمعت بين العلم وصلاح القلوب وتزكيتها منهم من رحل ومنهم من بقي، ونجدهم والله أعلم بحالهم، أبعد الناس من الوقوع في الشبه وإضلال الخلق، وأقربهم للهدى والإصلاح. وهنا يأتي دور العلم بأحوال النفس ومدى إقبالها وإدبارها، وكيف يسايس المؤمن نفسه حين يعلم منها حالاً تعايشها، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شره، وَلِكُلِّ شره فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَي غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)) (صحيح) انظر حديث رقم: 2152 في صحيح الجامع. وهذا النص يوضح لنا المنهج الواضح في حال الشره والفتور. الإمعية والإتكالية، وإهمال البذل والعطاء والتضحية لدين الله عزوجل، وهذا داء عضال وكل يسير في اتجاه مغاير لكنها تتقاطع في البعد عن تحمل المسؤولية، وعدم الالتزام بالأمر، والمهمة الملقاة على عاتق الأخيار، وبالتالي حين يرى الواحد منا في غيره وحتى ذاته بداية الانسلاخ من المسؤوليات والمهام التي على عاتقه (الدعوية وما في معناها)، فليراجع ذاته، وليحاسب نفسه، وعادة أنها بداية للتخلي عن الوظيفة العظيمة، وهي الدعوة إلى الله، والتي هي بمثابة المثبت الأول على دين الله، وتزكية للعلم والخير الذي يحمله المصلح. الإمعية: هو أن يكون هذا الفرد طيلة عمره تبعاً لجماعته التي يعيش معها دون أن يكون له أثر حتى في نقد الأفكار، والمساهمة في الجزئيات، ولا حتى الإيجابية في بعض المظاهر البسيطة، والإتكالية: هو البقاء تحت أستار جهود الآخرين والهروب عن تحمل المسؤوليات والتبعات، وأرجع لأقول إن من الهوان أن يبقى المؤمن خلف هذه الأستار المشوهة، وأنها طريق لإزهاق روح الهداية، ولا نطالب أن يكون الفرد خطيباً مفوهاً، أو ملقياً بارعاً، أو باحثاً مطالعاً، ولكن كل بحسبه.

الاعتداد بالذات (الكبر)، وهو من أخطر أمراض القلوب وأشدها فتكاً، وخطره وعواقبه ضارة، وكل مساراتها تقف ضد معاني الشريعة (التواضع، لين الجانب، وقبول الحق من الإخوان ولو كان أحدهم وضيع في القوم)، قال الحق جل وعلا: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف146]. وقال أحدهم: تواضعْ تكن كالنجمِ لاحَ لناظر على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيعُ والتاريخ والحاضر مليئة جعبته بمن خلف هذا السلاح الفتاك من قتلى في حديقته الدامية فمن إبليس بداية المسيرة لهذا الداء، ولازال، وأقول إن معظم ما يختال الأغلبية في ضعف تدينهم، وسوء علاقاتهم هو نسبة عظيمة من هذا الداء الكامن في القلوب، - والعياذ بالله - والذي يأتي في قوالب عديدة تُسقط على سلوكيات مبررة بحفظ الهيبة، والوقار، وهي من تلبيس إبليس. الغلو والتنطع والتشدد والتشديد، ولا غرو بعدم الملامة على شخص أقر بذلك على ذاته في الأحكام كابن عمر - رضي الله عنه-، وبعض الزهاد والعلماء من السلف الصالح، ولكن أن يظهر ذلك حتى على إحكامه - ما يعتقده ويتورع به - على غيره، وإن السائل يسأل كيف لهذا أن يكون سبباً للضعف والانتكاس؟ إنا نذكره بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). وأقول إن المصيبة من يعتقد الفظاظة في الأسلوب، وإهمال اللباقة واللياقة في الحديث من الدين، وإن من تمنهج على هذه الطريقة ثم يجد نفسه في خانة الآحاد لا شك أنه سينتقد ما كان عليه، وبشكل آخر يرمي معتقده، وبيئته الدينية بالاتهامات الباطلة، والدين منه براء، وكم عرفنا من كانت له بدايات في سبيل الخير والإصلاح، وكان متزمتاً متنطعاً في الحكم على الناس ومجابهتهم، حتى بلغ السيل الزبى فتقهقر- والعياذ بالله - حتى وجد نفسه بعيداً عن القلوب والأجساد معاً .. فأصبح في قيد من قيود الأرض ليرجع مع من هوى وسقط. الانغماس في الدنيا وتبعاتها، والانهماك في المباحات، واللهو والسفاسف، والغرق في المرابحة والتجارة، وقلة التورع في المعاملات المالية لاسيما التي في دائرة الشبهة، والغرق الشديد في الرفاهية وعادة ذلك في المسكن والمركب والملبس والمأكل، وكل هذا مندرج تحت (إظهار النعمة المكتسبة) أو (عدم ترك الأبناء عالة يتكففون الناس)!. ولقد قال تعالى في ذم اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96].وعن أنس -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر" (رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري). وقد أخبر المصطفى- صلى الله عليه وسلم-أمته كما روى البخاري ومسلم، قال: "فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم". (ودرجات الورع أربع: الدرجة الأولى: درجة العدول عن كل ما تقتضي الفتوى تحريمه.

الدرجة الثانية: الورع عن كل شبهة لا يجب اجتنابها، ولكن يُستحب، ومن هذا قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما يريبك)). الدرجة الثالثة: الورع عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام. الدرجة الرابعة: الورع عن كل ما ليس لله تعالى، وهو ورع الصديقين. والتحقيق فيه أن الورع له أول وغاية، وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان الإنسان أشد تشديداً، كان أسرع جوازاً على الصراط، وأخف ظهراً، وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت دركات النار في حق الظلمة بحسب درجات الحرام، فإن شئت فزد في الاحتياط، وإن شئت فترخص، فلنفسك تحتاط وعليها تترخص). بتصرف "مختصر منهاج القاصدين" ص101,100. التعلق بالذوات والأماكن، وهذا جعل بعض المتعلقين بالرموز حين يبعد هو، أو يذهب ذلك، فإنه يقدم دينه فداءً، ولا نعلم لمن كانت الشعارات الرنانة في دين الله بادئ الأمر، والمحافظة على الواجبات، والبعد عن المنكرات، ولمن كان البذل والعطاء؟ حقاً إنها فتنة وقع فيها البعض، ومقالنا هنا هو ما قاله الصديق أبي بكر-رضي الله عنه- حين اُفتتن بعض الصحابة بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ، - قَالَ: إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي بِالعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ " فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ ... )) حقاً علينا أن نتتلمذ من هذا الموقف الرباني للتعلق بالله، بل والتوسيع على النفس في الضائقات وفقد العلماء والإخوان بذلك لا العكس.

إتباع الهوى، والاستسلام للشهوات، وعادة ما يكون الهوى المتبع ضلال وغي ومخالفته عين الصواب والحق، قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].ومن صور ذلك: شهوة الفرج، ولاسيما النساء عند الرجال وكذا المردان، روى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) , وهذا عادة ما يصيب المرء عن طريق بصره، وربما غوي عن طريق شيء آخر؛ لأن مفاتيحه كثيرة، ومقدماته لا تُحصى قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]، فالمعاين لقوله {وَلاَ تَقْرَبُوا} يجد البلاغة الوصفية في التحذير، حيث يشمل كل المقدمات والطرق المؤدية لهذه الفاحشة، غير أن أعظمها وأشدها إطلاق البصر الذي ينشأ عنه إطلاق الفكر، قال الحق - سبحانه - {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور30]، ونحن لا نفرض قيداً على أبصارنا، ولكن يُجاهد المرء ذاته وليتلذذ بهذه العبادة العظيمة، وقد تواصى السلف الصالح بهذا الأمر، وكانوا على حرص شديد من فتنة النساء والمردان، قال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أبناء الأغنياء فإن لهم صورًا كصور العذارى، فهم أشد فتنة من النساء. وقال بعض التابعين: ما أنا أخوف على الشاب الناسك من سبع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه. (أنظر الكبائرص42، للذهبي - دار الثريا). أقول كم ذهب جراء شهوته صالحين كثر قدموا دنياهم على دينهم، وكانت بدايتها من رمقة بصر أشعلت فتيلة الهوى، وصادفت قلباً خاوياً فتملكته -والعياذ بالله-، وهذا يحصل كثيراً، ويزول والحمد لله بالتوبة والأوبة والرجوع، لا كما يصيب البعض من اليأس والقنوط. حب التصدر، والشهرة والافتتان بالظهور الإعلامي. وهذه فتنة عظيمة ومصيبة جلية، وتأتي على مداخل وطرق شتى قل من يسلم منها إلا من رحمه الله، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَ فِلِدِينِهِ"، وإن الحصيف هو الذي ما يلبث أن يجاهد نفسه في مدافعة ذلك، وفي وقتنا هذا زاد الطين بلة أنه مع تعدد وسائل الإعلام، وزيادة فرص المناصب والوجاهات توجب على الأخيار عدم التراخي والتراجع لسد هذه الثغرات وملأها للمجتمع خيراً ونفعاً، ولكن الرزية أنها أصبحت فتنة عند البعض فحين وصل لذلك الكرسي، أو استلم ذاك المذياع، وربما شوهد عبر الأقمار الصناعية مقدماً أو مشاركاً وربما ضيفاً ... أصبحت غاية له بدلاً من كونها وسيلة لنقل الخير، وقد يبذل القيم والنفيس لديه من أجل أن يقبل الناس صورته، وكلامه، وملبسه، وحتى ربما غير أفكاره وطريقة كلامه استجابة لمطامع البعض، وحتى يصل لما يريدون فيصل هو لما يُريد.

وقد كان السلف الصالح على بلوغ صيتهم ونفعهم ينفرون من الشهرة والتصدر. قال بشر بن الحارث: " ما اتقى الله من أحب الشهرة " سير أعلام النبلاء 11/ 216, وقال الإمام أحمد: " أريد أن أكون في شعب بمكة؛ حتى لا أُعرف، وقد بليت بالشهرة "، ولما بلغ الإمام أحمد أن الناس يدعون له قال: " ليته لا يكون استدراجاً "المرجع السابق 11/ 210 - 211. وقال سيد عفاني - رفع الله منزلته -: (ولما كان المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب، وحب الجاه هو منشأ كل فساد، لذا كان الهرب والخوف من الشهرة من دلائل الإخلاص) (تعطير الأنفاس في الحديث عن الإخلاص). حب المال والاتجار به. وقد قال تعالى عن {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: من الآية15]. وقال سبحانه: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح:11]، بل الطريف أن البعض يسير في هذا الطريق مدعياً أنه سيكون رمزاً في الإنفاق لدين الله، وهو يذكرنا بقول الله -عزوجل-: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [التوبة:75 - 76]. حقاً إنه واقع مشاهد، وحاضر ملموس، بل العجيب أن البعض أخذ في ذلك مأخذاً بعيداً حيث أسرف على نفسه في الملبس والمركب والمسكن، مدعياً بذلك أنه يريد بها نصرة لدين الله حتى يُرى فتتحسن صورة الأخيار في أعين الناس جاعلاً من أبي بكر وعثمان وابن عوف - رضي الله عنهم- أنموذجاً في ذلك، ونحن نذكره بأفعالهم، ومواقفهم وأعطياتهم، فأحدهم قدم ما يملك كله لله، وآخر يجهز جيش العسرة، وكل ذلك قليل من أفعالهم، وأذكر نفسي وأحبتي بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)). الوقوع في حبائل الشبهات العقدية، وإتباع الفتاوى الدخيلة، والخوض في بعض القواعد الفقهية بقياس قبيح، وهذا مفاده هوىً في النفس، وكلمات حق أحياناً يُراد بها باطل، وعادة كما قال العلماء من تتبع الرخص تزندق. الانهزامية النفسية، واحتقار الذات والتهرب من التكاليف والمسؤوليات، وهذا يصيب العاملين، والمجتهدين في ميدان الخير، فإذا شاهد جراحات الأمة في جسدها، وكيف تمر الدعوة وأهلها في هذه المرحلة، فيُصاب بداء اليأس والانهزام، ولم يكن هذا دأب المصلحين، ولا من سار على ذلك. قال عز من قائل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف110]. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحقر أحدكم نفسه قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمر الله عليه فيه مقال، ثم لايقول فيه، فيقول الله - عز وجل- له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى)) رواه ابن ماجه.

الفوضوية والتشتت في إدارة الذات والوقت، والتخطيط الجاد للمستقبل. وقد بين الله تعالى في كثير من آي القرآن الكريم بعضاً من مصير من كان هذا حاله في الدنيا فقال سبحانه: {حتى إذا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]. ويحذر الله من التسويف والتأجيل في الصالحات ويؤكد المولى - تبارك وتعالى- على المبادرة والإسراع فيها، فقال الله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. [المنافقون:10 - 11]. ويقول المصطفى-صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). أخرجه الحاكم. وهناك الكثير من النصوص والدواعم في شأن الترغيب في شأن الإدارة الصحيحة للذات، ومحاولة برمجتها على المبادرة والجادة في الأعمال، وكذلك الترهيب من التقاعس، والفوضى وإهمال معالي الأمور. وإن من ما يجره هذا الداء الضعف الذاتي والذي يولد الضعف الإنتاجي، ومن ثم ينتج الضعف في الإنتاج، والعمل الجماعي، والخلل في الصف، إذا لا يستطيع تحمل التكاليف والبذل سائر اليوم من كانت الهزلية مطيته، والفوضى سمته. الجزع وضعف اليقين، وقلة الصبر في مواجهة البلاء، والخور أمام الرزايا والمحن العامة والخاصة، وهذا قد يكون من باب التمحيص، وتصفية الصف، ولإبراز الوزن الحقيقي للجماعة الإسلامية. قال الحق- جل وعلا -: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]. يقول سيد قطب عند هذه الآية: (إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو التبرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم، ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون!).

ذريعة المتابعات الأمنية، والمضايقات عليه، وهذا يصيب كثيراً بل لقد مس حتى من ليس بقريب من الدعوة والإصلاح، وهذا عادة في الجملة ما يكون وهماً، وربما أحياناً تذرعاً، أو حتى تبريراً لتقاعسه، وأقول لمن يدعي ذلك مهما كان الإنسان وهو يمر بهذه الوقائع -إن صحت- أنها لم ولن تكن وسيلة للتخاذل والاستسلام والخور، وإن كان هناك ثمة أخطاء كنت عليها كالتكفير، والتحريض على الأعمال التخريبية فما في وسعك سوى الرجوع والاستغفار، واستمرارك على طريق الحق، وإن كنت تعاني حقاً فبوسعك الكثير من الأساليب لوقف ذلك، وتغيير الصورة السلبية تجاهك، دون أن يمس دينك شيء، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت10]. قال أحدهم: لقد خفت حتى لو تمر حمامة لقلت عدو أو طليعة معشر فإن قيل خير قلت هذه خديعة وإن قيل شر قلت حق فشمر وقد يُستثنى من اُبتلوا في بعض البلدان بالمضايقات والأسر، والتسلط عليهم وذرياتهم وأموالهم فقد عفا الله عنهم في النطق بالكفر فكيف بغيره، قال سبحانه: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل106]. التقاعس عن التربية الذاتية، أو الجماعية فربما اهتم بأحدها على حساب الآخر، وكل منها يرمم ويكمل جوانب لا يستطيعها الآخر، فالإخلاص والمناجاة، والبكاء من خشية الله، ومجاهدة النفس، والخلوة مع الله والدعاء تتم مع النفس، والتعاون والإخاء، والأخوة الصالحة والإيثار تتم مع الجماعة، وبالتالي فكل له أهميته، ولكن المعضلة الجفاء مع أحدها بحيث تضمر المنابع الذاتية، أو الجماعية، والمطالع في هدي المصطفى -عليه الصلاة والسلام - يقرأ ذلك في سنحات سيرته، وسلفه الصالح، فهناك أوقات مع العامة، وهناك أوقات خاصة، وبفضل الله فقد أسهمت الأعمال الخيرية المؤسسية والمحاضن التربوية في عصرنا في تعويض الجانب الجماعي، ويبقى العناية بالجانب الذاتي، والحفز الداخلية للرقابة الربانية قال الله-جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]

الوقوع في الذنوب والمعاصي والأخطاء المتتابعة، والأخذ على النفس في ذلك بأنها منحرفة باغية لا نفع معها ولا وسيلة لاستنقاذها من وحل المعاصي والموبقات، وهذا حقاً شؤم المعصية لكن على المؤمن أحياناً أن يتعامل مع الله بالرجاء، فربما قتله الخوف أحياناً، فما زال في الجسد روح إذاً لا يزال للإنسان توبة وأوبة، قال الله جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر49]. وفي الحديث القدسي روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((أَذْنَبَ رَجُلٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ رَبُّكُمْ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، قَالَ: ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ رَبُّكُمْ: عَلِمَ عَبْدي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، قَالَ: ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ رَبُّكُمْ: عَلِمَ عَبْدي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ)). أما آثار الذنوب والمعاصي فيلخصه ابن القيم-رحمه الله- في: (أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه وتقطعه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعاً يصعب تداركه والله المستعان) الجواب الكافي ص140. أعمال القلوب، وإهمال العناية بها، ودرء أمراض القلوب وإهمال التنبؤ لها، وهذا هو سر عميق علمه من علمه، وجهله من جهله، إذ هناك دقائق وخفايا حري بنا تعلمها والعمل بها أو دونها، قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (فوا حسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساس بها، فالله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء، والحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه، وأصلح ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية) صيد الخاطر جزء 1 صفحة 63، وقد قال أحدهم: (أجمع العارفون على أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وعبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات)،فالعناية بالخشية والرجاء والمحبة وكل أعمال القلوب مطلب، والبعد عن الكبر والحب التصدر وطلب الرياسة، والعشق والشهوات المضلة، وسائر أمراض القلوب مهم، بل ومن ضرورات الثبات، وزيادة الإيمان، ومعرفة الواحد الديان. يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: (صلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (رواه البخاري ومسلم) , أي إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان).قواعد الأحكام (1/ 167).

قلة تذكر الآخرة، وعرصات القيامة والاستعداد للموت، ولو تمعن كل منا في موقف من مواقف الآخرة من حين تبدأ بالموت وسكراته، وحتى الاستقرار الأخير في الدراين لأعد للسؤال جواباً، ولأمعن النظر، وأوجد الحل، وبحث الطريق، وأيقن بقرب الرحيل. ولقد أحسن من قال: واذكر الموت تجد راحة في ادكار الموتِ تقصير اللأملْ روى أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: " اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه ". رواه أحمد والترمذي والحاكم بسند صحيح. إن في زيارة المؤمن للمقابر، وإتيانه إليها، وتدبر آيات الآخرة، والنظر في أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في البعث والنشور، والصراط والحساب، تزيد من إيمانه، وتوثق جنانه بالخالق، وتستجيب أركانه لداعي الحق، وباعث الإيمان. ضمور الإخلاص. ختمت به وهو أعظم ما يُمكن أن يُلتزم به، وأسمى ما أمر به الله العبد، قال الله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. وحسبي أني لست بأهل للحديث عن هذا المعنى الرباني، الذي يجعل من سكنات وحركات المؤمن عبادة خالصة للحق سبحانه، وأيم الله لقد فاز من اعتنى بقلبه، ولازم طلب الخلوص من الشرك، والإخلاص هو منشأ المحبة والخوف والرجاء، والصدق والتوكل وكل خير ينبض به قلب المؤمن. صح عن مسلم في الحديث القدسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "، وإن من لم يكن الإخلاص مطيته نفد به الوقود وخلص الزاد في طيات الطريق، وكل عمل مهما كبر صغر فيه الإخلاص فهو صغير، وكل عمل مهما صغر ولكن كبر فيه الإخلاص فهو كبير، ورحم الله ابن المبارك حين قال: (رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية)، وقال أحدهم: أخلص تتخلص. وسُئل سهل بن عبد الله التستري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب. صفة الصفوة (4/ 65). ثانياً: (الأسباب المجتمعية [الخارجية]) سيادة الباطل، واستفحال الباطل وأهله، وهو جزء من الانهزامية النفسية.

ضغط بيئة الأسرة وهم الزوجة والأقرباء، والبيئة المجاورة كالصديق ونحوه، وربما كان منشؤه الغيرة، أو حتى التعتيم الإعلامي السيئ للمصلحين، فيستسلم لهذا الضغوطات ويكون أسيراً لها، وربما اُستخدمت تجاهه أصنافاً من الوسائل في سبيل تخليه من قيمه، ولا أدل من قصة مصعب بن عمير- رضي الله عنه- حين أرادت أمه أن ينكص من الإسلام وبذلت حتى روحها في سبيل ذلك، ولذا فإن من جاهد نفسه، وواظب على دعوتهم والبعد عن مصادمتهم، وبحث سبل الهداية لهم بعيداً عن الانهزامية والتخاذل سيجد نتائج ريما إيجابية صرفة، قال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه132]، وحتى الأصدقاء والزملاء ربما لا يضطر أن يواصل معهم الغدوة والروحة إذا لم يحترموا رأيه، ويقدروا شخصه، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبوداود والترمذي. ونعلم من البعض وهو لازال في بداياته قد شرع في دعوة أصدقائه وخلانه قبل أن ينقذ نفسه بدءاً من بعض العوالق الباقية، فانتكس قبل أن يهدي واحداً منهم، وأحدهم ظل في مجتمع أقربائه المليء ب (الكيد للمصلحين والأخيار) مسامراً، ومؤاكلاً ومشارباً، وهو يخبرني بذلك حتى بلغ الحد أن أصبحوا يمارسون المعاصي علانية وهو موجود، ويهزؤون به، ووصل بالأمر أنه أبدا لهم انزعاجه فأخرجوه بكل استهتار وهم في مجلس واحد دون حتى الأخذ بخاطره فيما بعد. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على القلب من وقع الحسام المهند ولو بقي من مضار المكث مع أصحاب المعصية، ومجالستهم التطبع على أخلاقهم لكفت، ولذا حذر الله من ذلك فقال سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. التضييق على أهل الحق، وإقصاؤهم من بعض المهام والوظائف، بل يعيش بعض الأخيار الغربة في أماكن العمل، والمجتمع، وهذا لا يختلف مع سابقه، وبالتالي فإن البعض تنازل عن مبادئه جراء السلامة من هذه المكائد، والوصول لمطامع الدنيا. النفوذ الصحافي الليبرالي والهجمات الشرسة على الشريحة الملتزمة، وربما ساهم في التفلت من شعائر الهداية، وقد أصبحت بعض المصطلحات الرائجة اسماً لاصقاً لمن ظهرت عليه سيما الهداية مثل (وهابي- إرهابي- رجعي- سلفي، أتباع التيار ديني ... )، وإن كان البعض من الملتزمين قد يوافق على بعضها، لكن غياب مفهومها من غيرهم قد يسهم في تضرمه منها، وإبدال صورته الإسلامية بأخرى تجعله (وسطياً) كما زعموا. ثالثاً: (الأسباب الخاصة بالمربين) الاستعجال في التصدير، والحكم على الأشخاص قبل التبين. بل ربما المباهاة بهم ورفعهم على أكتاف غيرهم ومثل ما قال الأول (تزبب قبل أن يتحصرم)، وهذا عادة يُنشء الاكتفاء المبكر على الذات، والشروع في العطاء قبل الأخذ، ونقد الآخرين واستنقاصهم. الضعف العلمي والتربوي وانتقاله عبر الأجيال، واعتقاد بعضهم الكمال العلمي والتربوي.

سوء الاهتمام بالفرد، وعدم الصبر عليه. وإن الاهتمام لابد وأن يشمل الجوانب التي تجب على المربي تجاه من معه من متابعة، وتقويم، والعناية العلمية والدعوية، والسلوكية، والاجتماعية، وبحث الخطط العملية في ذلك، واستشرافها من ذوي الاختصاص والخبرة. والعمل على صقل مواهب الفرد، وتوفير القنوات المناسبة لإبرازها وترقيتها، فالمنبر للملقي، والورقة للكاتب، والإعلام للصحفي والمذيع، والبحث والقراءة للمؤلف والناقد، وكافة المهارات والمواهب. ضعف البصيرة بالواقع، وسوء مجاراة برامجه للواقع المعاصر، فنجد البعض لازال عطاؤه منذ سنين عديدة هو ذات العطاء، وذات المادة والمحتوى، وذات الوسيلة، وربما أسقط التهم وضعف الفائدية في الجديد والمفيد. أقول إنا في عصر العولمة، عصر الفيس بوك والتويتر، عصر البرودباند والأجهزة الذكية، عصر الفكر والثقافة فلابد أن تجاري البرامج والعطاءات هذه المفاصل، ولا يُستغنى عن الأصل والمبدأ، مع توظيف الحديث، والإفادة من الجديد. قلة الفهم والوعي بالتربية لاسيما بالطرق المناسبة للتعامل مع من أصابه الفتور، أو من انتكس. الانهزامية النفسية أمام بعض الفتن والمآزق. فرض السيطرة والتحكم المركزي، والاستعباد السلوكي والعلمي للفرد. امتهان شخصية المتربي وإهمال الحاجات النفسية والعاطفية كالحاجة للحب والتقدير وإعطاء الثقة في النفس، والبعد عن إشباعها والعناية بها، والعكس صحيح في وجود التدليل والسكوت عن الأخطاء وإرجاء عمل الحلول لها بهدف تحبيبه وعدم مجابهته مبكراً، وكل ذلك يُفضي إلى تدهور إيمان المتربي، وسقوطه - والعياذ بالله-، ولاغرو أن يسجل المربي الأول في ذلك رقماً سابقاً، عن عثمان- رضي الله عنه- قال: إنا والله قد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به، عسى ألا يكون أحدهم رآه قط. رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر. وموقفه عليه الصلاة والسلام مع أخي أنس الصغير حين سأله عن طائره النغير، ومع جابر حين سأله عن زوجه، بل كان النبي -عليه الصلاة والسلام- سائلاً وعالماً بأحوال أصحابه، وهذا قائد إلى القرب منهم والشعور بحاجاتهم. سقوط بعض القدوات ورجال العامة فيما كانوا يدعون لنبذه ومعاداته، بل أصبح التمييع في بعض المسلمات، والانفتاح غير المنضبط هوية البعض، وهذا وإن كان لا يمثل ظاهرة، وربما كان بعضهم لا يقصد به تراخياً وتنازلاً أقصد القدوات إلا أن بعض المتأخرين أسقطوا ذلك على مسايرة الواقع، والفهم للعصر الحاضر، وحين تبحث عن عشرة أحاديث صحيحة في جعبة بعضهم مقارنة بأولئك فلا تكاد تجد نصفها. أقول والحديث هنا عن المربي، لزوماً ألا ينبري لمهنة التربية والتي هي حرفة العظماء لإخراج العظماء إلا من انطبقت عليه ملامح وخصال المربي، وليست مهنة عادية، بل هي من أعظم المهن حيث أنها تقوم على أعظم الخلق، يقول محمد قطب، وهو يتحدث عن المربي: (ولكنا هنا ونحن نتحدث عن المربي، نشير إلى هذه البديهية، وهي أن من يعجز عن القيادة لا يصلح للتربية، ولو كان في ذاته شخصاً طيباً مشتملاً على كل جميل من الخصال .. وليس كل إنسان طيب الخصال قادراً على القيادة ولا الزعامة، ولا مطالباً بها كذلك! فهي أصلاً موهبة لدنية، تصقلها التجارب وتزيدها مضاء وقدرة، ولكنها لا تنشئها حيث لا تكون!).منهج التربية الإسلام (2/ 48). (معينات على تجاوز المرحلة) مع معرفة الأسباب يظهر لنا العلاج بفعل خلافها، وقد وردت بعض الحلول حيال ذكر الدافع، ويُزاد على ذلك ما يلي:

الدعاء، والابتهال إلى الله بالمعونة والثبات، وما أعظم ما أورثته النصوص في ذلك. {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] , وقد كان يكثر عليه الصلاة والسلام في سجوده: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) رواه الترمذي. الحرص على البيئة العلمية التربوية الجادة، ومواكبة ذلك في كل مكان زمان حتى الموت، والبحث عن صاحب سنة يعينك وتعينه، وتدارسه ويدارسك. ففي الترمذي عن حنظلة - رضي الله عنه- وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي بكر وهو يبكي فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيراً. قال: فو الله إنا لكذلك انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيراً، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، ونأخذ من هذا الحديث كيف هو حال المؤمن حين يقترب من مصدر قوته، وهم العلماء أصحاب الهدى، وكيف به إذا انشغل بالدنيا. تربية النفس ومجاهدتها وتزكيتها، وأطرها على الحق أطراً، (قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته) مختصر منهاج القاصدين ص403، وهذا يمثل أحد جوانب التزكية عند أفضل الأمة إيماناً، (وقال أنس - رضي الله عنه -: سمعت عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ودخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك. وقال البختري بن حارثة: دخلت على عابد بين يديه نار قد أججها وهو يعاتي نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات). المرجع السابق. ووسائل ذلك كثيرة منها تدبر القرآن الكريم والعمل بما فيه، ومعايشة مجالس الإيمان والوعظ وترقيق القلب، سواء بالقراءة أو بمجالسة الوعاظ والمصلحين، وحضور مجالس الزاهدين والورعين. الدوام على الطاعة والعمل الصالح، وهو هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما تروي أمنا عائشة- رضي الله عنها - فتقول:" كان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يداوم عليه صاحبه".رواه البخاري، وهنا لفته جميلة وهي المداومة، لأنها كالزاد للمسافر ليسده في طريقه، وأما الانقطاع عن الطاعات، وإهمالها فذلك منفذ خطير على قلب العبد، وسلوكه. تتبع قصص السلف، ومعرفة آثارهم وأقوالهم. الاستشارة والتأني في القراءة لاسيما عند الإطلاع على الحضارات، ونيل الثقافات الأخرى. الولوج في المشاريع والأعمال الدعوية، والتي من خلالها يشرع الفرد في العمل، وربط العلم به، وتنمي عنده الانتماء لما يؤمن به، ويصعب اهتزاز وارتجاف المبادئ والقناعات التي يعتقدها. (الخاتمة) إن حرص المؤمن على أغلى ما يكنزه، وحفاظه على دينه الذي يمثل مهجته وحياته كلها، وبذله الغالي والرخيص في نمائه وزيادته، وعدم المساس به، أو التعدي عليه بأي شكل من الأشكال؛ ليمثل خلاصة موضوعنا، ومسكه الأخير .. وليس ما عرجنا عليه بالحديث المستفيض الذي يقف مع كل نقطة ليشرحها، ويصف مظاهرها وعلاجها، ولكن حسبي أني صورت شيئاً من الداء والدواء لنفسي أولاً، ثم لمن أراد من المؤمنين. يصف الواقع، وينير الطريق، ويبين الحقيقة - بإذن الله-.فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .. وفي الختام أقول ما كان من حق وهدى فالله منه الخير والتقى، وإن زلل فنفسي وشيطاني والهوى، وأقول كما قال الأول: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ غيره به ... ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ..

ملوك الأرض أهل الرفض

ملوك الأرض أهل الرفض د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي 28جمادى الأولى1432هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: (ملوك الأرض، أهل الرفض) مصطلح أطلقه الحافظ، المحدث، الفقيه، المؤرخ، عماد الدين ابن كثير الدمشقي - رحمه الله - الذي تضلع من علوم الشريعة، واستقرأ التاريخ سطراً، سطراً، وكتبه منذ (البداية) إلى (النهاية)، بروح إيمانية، مبصرة، واعية، ونَفَسٍ شجي، معبِّر. أطلقه الحافظ ابن كثير، وهو يتأوه على ما نزل بالمسلمين من خطوب، ومحن، إبان استيلاء الروافض على الممالك الإسلامية، فقال: (وكل هذا في ذمة ملوك الأرض، أهل الرفض، الذين استحوذوا على البلاد، وأظهروا فيها الفساد. قبحهم الله). [البداية والنهاية: 11/ 267] فقد حل القرن الرابع الهجري، ودويلات الرفض تجثم على الأقاليم الإسلامية، وتنشر الرعب، والخراب، والكفر، والفسوق، والبدعة، في أكنافها: 1 - القرامطة: في الأحساء، والبحرين، يقطعون الطريق على الحجيج، ويقتلونهم في المسجد الحرام، ويلقون جثثهم في بئر زمزم، ويسرقون الحجر الأسود، ويعيثون في البصرة، وسواد العراق فساداً. وقد دام طغيانهم ما بين (278 حتى 466) هـ. 2 - العبيديون: أبناء عبيد بن ميمون بن ديصان القداح، لا نسل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ورضي عنها، وبرأها من أولئك الأدعياء الأنجاس. وقد حكموا بلاد المغرب، ومصر، ثم أجزاء من فلسطين، والشام، وساموا المسلمين سوء العذاب، لفترة امتدت من (297 حتى 567) هـ، ونشروا البدعة، والشرك. وكانوا اثني عشر مستخلفاً، لا خليفة، كما قال السيوطي - رحمه الله - في تاريخ الخلفاء. ووصفها مؤرخ الإسلام، الذهبي - رحمه الله - بالدولة العبيدية الخبيثة. 3 - البويهيون: الأعاجم الذين سيطروا على دار الخلافة، في بغداد، وسيروا خلفاء بني العباس وفق ما يشتهون، واغتالوا منهم من يشاؤون، في الفترة ما بين (320 حتى 440) هـ. قبحهم الله. 4 - الحمدانيون: في حلب، وأعمالها، والموصل، في الفترة من (317 حتى 394) هـ 5 - الصليحيون: في اليمن، في الفترة من (429 حتى 569) هـ. قال ابن كثير - رحمه الله -: (وقد امتلأت البلاد رفضاً، وسباً للصحابة من بني بويه، وبني حمدان، والفاطميين. وكل ملوك البلاد؛ مصراً، وشاماً، وعراقاً، وخراسان، وغير ذلك من البلاد، كانوا رفضاً، وكذلك الحجاز، وغيره، وغالب بلاد المغرب. فكثر السب، والتكفير منهم للصحابة) [البداية والنهاية: 11/ 233] وهاهو الزمان قد استدار، ودول الرفض الظاهرة، والخفية، تتداعى لإحكام القبضة على بلاد الإسلام، وصنع تحالف طائفي خبيث: 1 - رافضة الخليج في الأحساء والبحرين، يثيرون القلاقل والفتن، ويطمحون إلى تشييع الخليج، وفرسنته. 2 - الحاكم بأمره القذافي العبيدي، الذي مجَّد الدولة العبيدية، ونسب مصر والمغرب عليها، قبل بضع سنوات، أسفر عن وجهه الكالح، وبطشه الجامح، فعاث يميناً، وعاث شمالاً، كما الدجال الأكبر. أخزاه الله. 3 - الخمينيون في إيران يزاولون دور البويهيين، وقد تمكنوا من السيطرة على بغداد، وأهلكوا الحرث والنسل، بتواطئهم مع المستعمر الغربي. 4 - النصيرية في سوريا الجريحة، يعيدون مآسي الحمدانيين، والدروز المؤلهين للحاكم بأمره العبيدي، ويسفكون دماء أهل السنة، ويمكنون الحاقدين من حزب اللات، وشيعة إيران من بلاد الشام، وفسطاط المسلمين. 5 - الجارودية في اليمن، المتسترين بالمذهب الزيدي، يتربصون بأهل السنة الدوائر، ويهيئون الطريق للفرس، الروافض، فعادة دولة الصليحيين.

ما أشبه الليلة بالبارحة! هاهم ملوك الرفض يتنمرون على شعوبهم، ويسلبون خيراتهم، وينشرون الشبهات، والشهوات، والبدع، والمنكرات، ويمكنون لأعداء الملة. وهذا حالهم من قبل، فقد وصف الحافظ، المؤرخ، ابن كثير - رحمه الله - أسلافهم، بوصف دقيق، منطبق على سلالتهم، فقال: (وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء، وأكثرهم مالا، وكانوا من أعتى الخلفاء، وأجبرهم، وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة. ظهرت في دولتهم البدع، والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء، والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية، والدرزية، والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام، بكماله، حتى أخذوا القدس، ونابلس، وعجلون، والغور، وبلاد غزة، وعسقلان، وكرك الشوبك، وطبرية، وبانياس، وصور، وعكا، وصيدا، وبيروت، وصفد، وطرابلس، وإنطاكية، وجميع ما، والى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد، والرها، ورأس العين، وبلاد شتى غير ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقًا، وأممًا، لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء، والولدان، مما لا يحد، ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام. وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد، ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق، ولكن الله سلم) [البداية والنهاية: 12: 267] والصورة منطبقة تماماً! مع استبدال النصارى باليهود. فهؤلاء الروافض الباطنية، الذين يحكمون بلاد الشام، لم يطلقوا رصاصة واحدة، منذ نحو أربعة عقود، نحو إسرائيل! بينما يفرغون رشاشاتهم، وقاذفات دباباتهم في نحور الأبرياء العزَّل من أهل الشام، ويحاصرونهم في بلداتهم، وقراهم، بمرأى، ومسمع من العالم أجمع! وهاهي قنوات الرفض الفضائية، التي ملأت الجو صراخاً، وعويلاً، بسبب فساد خطتهم في البحرين، لا تتحول إلى شيطان أخرس، بل إلى شيطان ناطق، تدافع عن طاغية النصيرية، الذي أهلك نحو ألف إنسان للحفاظ على كرسيه، وتنفذ طائفته، في حين لم يسقط في البحرين سوى بضعة عشر شخصاً، نصفهم من رجال الأمن! وهاهي الشعوب السنية، تنتفض على جلاديها، وتقدم المهج، والأرواح، للتخلص من نير ملوك الرفض، البغيض، فعسى الله أن يقيض لهم يداً من الحق حاصدة، تريح الناس من شرهم، وطغيانهم، وعسى الله أن يأتي بالفتح، أو أمر من عنده. وعسى أن نحاكي ابن كثير ـ رحمه الله - حين حكى نهايتهم، فقال: (وحين زالت أيامهم، وانتقض إبرامهم، أعاد الله عز وجل، هذه البلاد كلها، إلى المسلمين، بحوله، وقوته، وجوده، ورحمته. وقد قال الشاعر المعروف عرقلة: وغدا الشرقُ يحسد الغر ... بَ للقومِ فمصرٌ تزهو على بغدادِ لا كفرعونَ والعزيز ومن كا ... ن بها كالخطيبِ والاستادِ ما حووها إلا بعزمٍ وحزمٍ ... وصليلِ الفولاذِ في الأكبادِ قال أبو شامة: يعني بالاستاد: كأنه نور الاخشيدي، وقوله آل علي: يعني الفاطميين على زعمهم، ولم يكونوا فاطميين، وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيدًا، وكان يهوديًا، حدادًا بسلمية) [البداية والنهاية: 12: 267] رحم الله ابن كثير، وفك أسر دمشق، وبلاد الشام، وسائر بلاد الإسلام، من تسلط الرافضة اللئام.

بيان بشأن جرائم النظام السوري ضد إخواننا في سوريا

بيان بشأن جرائم النظام السوري ضد إخواننا في سوريا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القائل: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير}، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فقد شهد العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة أحداثاً جساماً ومتلاحقة تجري على أرضه، من اشتعال الثورات وقيام الانتفاضات من قبل بعض الشعوب المقهورة التي رزحت تحت ظلم الأنظمة الحاكمة العميلة عقوداً من الزمان، وقد قوبلت هذه المطالبات الشعبية بشتى أنواع القمع الهمجي والقتل الوحشي من قبل هذه الأنظمة الغاشمة، والتي من آخرها ما تشهده الساحة الآن من جرائم مروعة يرتكبها النظام السوري ضد شعبه المسلم الأعزل، والذي طالب بحقه المشروع والمسلوب على مدى سنين عجاف عاشها تحت الظلم والضيم في ظل هذا النظام الذي ما فتئ يمارس أبشع أنواع التنكيل والقتل والاعتقال لأفراد شعبه رجالاً ونساء وأطفالاً. وإن مما أوجبه الله على أهل العلم وأخذ عليهم فيه الميثاق هو أن يبينوا الحق للناس ولا يكتموه. وتأسيساً على ما سبق فإننا نود توضيح الأمور الآتية: أولاً: نذكر في هذا المقام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الشام بالبركة في قوله: " اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا " رواه الترمذي، وبما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في فضل الشام ومنه ما ورد في الصحيحين عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة "، قال: " وهم بالشام "، وفي الصحيحين -أيضاً- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أخبر " أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام " فالشام حاضرة الإسلام وخيارها الوحيد الإسلام. ثانياً: إن ما يطالب به الشعب السوري المسلم في بلاد الشام من الحصول على الحقوق المكفولة له ورفع الظلم والقهر عنه الذي تجرع ويلاته ردحاً من الزمان؛ لهو حق مشروع كفله الشرع المطهر بل والنظم الحديثة. ثالثاً: ما يمارسه النظام الغاشم في سوريا من قتل وتشريد واعتقال وترويع ضد أفراد شعبه؛ لهو جريمة تستوجب الوقوف من كافة الدول لمنع هذا الإبادة البشعة، وذلك حسب الأوامر الإلهية في نصرة المسلم لأخيه المسلم فهو لا يسلمه ولا يخذله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حسب الأعراف البشرية من مواثيق دولية تقضي بالأخذ على يده ليكف عدوانه. رابعاً: مما يتوجب على رجال الأمن وأفراد الجيش في سوريا الوقوف مع أبناء شعبهم وحمايتهم من عدوان هذا الطاغية، وعدم الانصياع لما يأمر به من ممارسات إجرامية في حق هذا الشعب المغلوب. خامساً: الواجب على المسلمين مؤازرة إخوانهم فيما يمرون به من فتنة عظيمة ومحنة عصيبة، وتقديم يد العون لهم ومساعدتهم بكافة صور الدعم، كلٌ بحسبه، والتضرع إلى الله تعالى بالدعاء لهم بأن يكشف كربتهم، ويحقن دماءهم ويحمي أعراضهم وأموالهم.

سادساً: نوصي إخواننا في بلاد الشام المسلم أن يلجؤوا إلى الله تعالى في محنتهم هذه، وأن يصبروا على ما أصابهم ويحتسبوا ما عند الله، فهم مجاهدون في سبيله، وأن يعين بعضهم بعضاً، وأن يبتعدوا عن كل أشكال العدوان والتخريب لممتلكات إخوانهم من أفراد الشعب، ويلتفوا حول علمائهم الصادقين؛ ليصدروا عن أمرهم ويسترشدوا برأيهم؛ فعلماء كل بلد هم أعلم بحالهم والأنسب لهم، فالرجوع إليهم ضرورة يقتضيها الشرع والمنطق السليم، وليكونوا في جهادهم مخلصين ولنبيهم صلى الله عليه وسلم متبعين. كما نسأله سبحانه أن يعجل لهم الفرج ويولي عليهم خيارهم ويكف عنهم بأس الذين كفروا، إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجمعة 25/ 5/1432هـ الموقعون: 1. د. محمد بن ناصر السحيباني 2. أ. د. ناصر بن سليمان العمر 3. سعد بن ناصر الغنام 4. عيسى بن درزي المبلع 5. د. ناصر بن محمد الأحمد 6. أحمد عبدالله الزهراني 7. د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف 8. محمود إبراهيم الزهراني 9. د. وليد بن عثمان الرشودي 10. د. سعد بن عبدالله الحميد 11. عبدالعزيز بن عبدالرحمن العجلان 12. د. خالد بن محمد الماجد 13. أ. د. سليمان بن حمد العودة 14. سعد بن علي العمري 15. علي بن إبراهيم المحيش 16. إبراهيم بن محمد بن أبكر عباس 17. حسن بن صالح الحميد 18. د. علي بن سعيد الغامدي 19. د. محمد بن عبد الله الخضيري 20. خالد بن عبدالرحمن العجيمي 21. د. عبدالله بن عبدالعزيز الزايدي 22. د. محسن بن حسين العواجي 23. عبد الله بن صالح القرعاوي 24. عبد الله بن فهد السلوم 25. عثمان بن علي الهبدان 26. د. موفق بن عبدالله كدسه 27. د. خالد بن عبدالله الشمراني 28. د. محمد بن صامل السلمي 29. حسين بن محمد الحبشي 30. د. عبدالله بن عبدالرحمن الوطبان 31. د. ناصر بن يحيى الحنيني 32. د. محمد بن عبدالله الهبدان 33. د. محمد بن عبدالعزيز اللاحم 34. مبارك بن يوسف الخاطر 35. د. محمد بن صالح العلي 36. د. عبدالله بن ناصر الصبيح 37. د. عبدالرحمن بن صالح المحمود 38. حمود بن ظافر الشهري 39. فهد بن سليمان القاضي 40. إبراهيم الحماد 41. د. محمد سعيد القحطاني 42. عبدالله بن علي الغامدي 43. بدر بن إبراهيم الراجحي 44. عثمان بن عبدالرحمن العثيم 45. محمد بن سليمان المسعود

المخزون السياسي في الشريعة

المخزون السياسي في الشريعة سلطان بن عبدالرحمن العميري 22جمادى الأولى1432هـ من المبادئ المستقرة لدى كل المسلمين: أن الله تعالى أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة بحيث أنه لم يبق شيء يحتاجه المسلمون في الجانب التشريعي إلا وقد بُين لهم على أكمل وجه فالشريعة الإسلامية كاملة في جميع جوانبها وتامة في سائر أنظمتها فالكمال ضارب فيما يتعلق بالعبادات من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها ومتحقق فيما يتعلق بالمعاملات من البيع والشراء وأنواع العقود وحاصل فيما يتعلق بالأنكحة والمواريث وسائر المعاملات الاجتماعية. والمجال السياسي من المجالات التي شملها الكمال والتمام في الشريعة الإسلامية؛ إذ هو ليس مختلفا في طبيعته عن سائر المجالات الحياتية الأخرى. ومن المستبعد عقلا أن يتعهد الإسلام بالتشريع والتوجيه في مجالات البيع والشراء والربا والرهن والإشهاد وأحكام النكاح والطلاق وأحكام الذبح ونحوها ثم لا يشرع في المجال السياسي ولا يقدم رؤية شرعية تنضبط بها علاقات الناس فيما بينهم وتُحفظ بها حقوقهم والمراد بالكمال في الدين هو أن الإسلام وما تضمنه من نصوص ومبادئ كافٍ في هداية الأمة ووصولها إلى الرشد في عباداتها وعلاقتها بالله تعالى وفي معاملاتها وسياسيتها وأنظمتها في سائر عصورها ويشرح الطاهر عاشور معنى الكمال في الشريعة فيقول:"إكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد التي لا يسع المسلمين جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي، كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافيا في هدي الأمة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون" (التحرير والتنوير4/ 103) والمقتضى العقلي لثبوت الكمال في الدين هو أن الأمة إذا أعطت النصوص الشرعية حقها من النظر والبحث فإنها لن تحتاج إلى غيرها من الأمم في إقامة دينها ودنياها وستجد في المخزون الشرعي ما يحقق لها الكفاية في بناء النظم وحفظ الحقوق وضبط شؤون الحياة مما يتحقق بها الغنى التشريعي عن كل المنهاج والأنظمة المستوردة من الأمم الأخرى وها هو ابن القيم يشرح هذا المعنى فيقول: "وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبنى على حرف واحد وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها" (إعلام الموقعين 4/ 375) وزيادة على ذلك فإنه لا يمكن لأمة من الأمم أن تصل إلى إحداث قوانين وأنظمة تشريعية تكون أفضل مما يمكن أن تُوصِلَ إليه نصوص الإسلام لو أعطيت حقها وهذه ضمانة شرعية بأن أمة الإسلام ستكون أعلى الأمم قدرا ... وأنضجها سلوكا ... وأحكمها نظاما وتشريعا ... وأعلاها سياسة وأن كل الأمم ستكون تابعة لها إن استثمرت المخزون الذي جاءت به الشريعة وهذا لا ينفي أن تتفوق بعض الأمم على أمة الإسلام إذا فرطت في استثمار المخزون الشرعي لديها.

وليس معنى التقرير السابق منع الأمة من الاستفادة من تجارب ومنجزات الأمم الأخرى وإنما معناه: أن استفادتها لا تكون عن احتياج وفقر في مرجعيتها وموروثها التشريعي ولا نضوب في مخزونها الديني وإنما يجيء الاحتياج ويصبح ضرورة واقعية حين تفرط الأمة في إعطاء النصوص الشرعية حقها وتفرط في دينها وتنصرف عن تحليل الموروث الشرعي والمعرفي التي تضمنته النصوص. ضخامة المخزون السياسي الشرعي: المادة السياسية في الإسلام مادة ضخمة ثرية بحيث إنها تستطيع أن تلبي حاجات الأمة الإسلامية على مر عصورها فقد اهتمت الشريعة اهتماما واسعا بالمجالات المرتبطة بحياة الناس ومعيشتهم وسعت إلى بناء الأحكام وتأسيس المبادئ التي تحقق لهم السعادة وتضبط لهم العلاقات المختلفة وقدمت في ذلك نصوصا كثيرة وقد توصل بعض علماء الإسلام إلى أن آيات الأحكام غير محصورة في عدد معين من القرآن وأن استنباط الحكم الشرعي خاضع لقوة القريحة وعمق التفكير ومنهم من حصرها في عدد معين وأوصلها إلى ثمان مئة آية وأما أحاديث الأحكام فقد أوصلها بعضهم إلى أربعة آلاف حديث من غير المكرر وبعضهم زاد على ذلك وبعض نقص عن هذا العدد. وكذلك هو الحال في المجال السياسي فإن اهتمام الشريعة به لا يقل عن غيره من المجالات ولأجل هذا فإن مصادر الشريعة من نصوص القرآن والسنة - أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتصرفاته- احتوت على قدر كبير من النصوص المتضمنة للمبادئ والأحكام التشريعية التفصيلية وهي تمثل ثروة هامة يمكن من خلالها تقديم رؤية ناضجة يسعد بها الإنسان في حياته السياسية. وقد قام الإسلام بعمليات استصلاحية للنظم الفاسد في الجاهلية كنظام البيع ونظام الزواج وغيرهما وأتى بنظم بديلة عنها ومن المستبعد عقلا أن يقوم الإسلام بذلك ثم لا يقوم باستصلاح النظام السياسي ولا يقدم فيه بديلا يسعد الناس به وهو نظام مماثل لتلك الأنظمة في الطبيعة والحكم فضلا عن أنه من أكثر الأنظمة فسادا في الجاهلية وأعمقها تأثيرا في حياة الناس. تجربة الخلافة الراشدة: ويزيد من ضخامة الموروث السياسي وحيويته ويوسع من مخزونه ويقوي من قدرته على مواجهة المتغيرات وتلبية المتطلبات: تجربة الخلافة الراشد فهذه التجربة داخلة في صميم الموروث السياسي الشرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضفى عليها الشرعية وزكاها ووصفها بأنها خلافة نبوة وأمر بإتباعها وجعلها سنة متبعة فقد قال صلى الله عليه وسلم:"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ... " (المسند 18430) وقال صلى الله عليه وسلم:"أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (الترمذي2600). فنحن مأمورون من قِبَلِ الشرع بإتباع السنن التي كان عليها الخلفاء الراشدون سواء كانت السنن السياسية أو العبادية المحضة وذلك أن لفظ السنة عام يشمل كل ما كانوا عليه وسياق النصوص يؤكد على أن المعنى الأولي للسنة فيها هي السنة السياسية؛ لأن سياقها جاء في معرض الأمر بطاعة ولي الأمر والنهي عن مخالفته

فمرحلة الخلافة الراشد تعد صورة زاهية في العقل الجمعي الإسلامي ونموذجا ملهما للأجيال المتطلعة للرقي السياسي ووقودا مفيدا في استنهاض الهمم الراكدة وهو النموذج الأكثر دقة ... والأجمل صورة ... والأروع منظرا ... والأبهى حلة ... والأقوى جاذبية ... والأشد بنيانا ... والأنقى منبعا ... والأبلغ تأثيرا. وتبرز قيمة تجربة الخلاقة الراشد بالنسبة لأجيال الأمة اللاحقة بأمرين اثنين: الأول: أنها تجربة بشرية فهي تشترك مع عموم الأمة بأنه لم تكن صادرة من المعصوم صلى الله عليه وسلم وإنما هي نموذج قائم على التطبيق البشري للتشريعات السياسية الإسلامية وهذا الحال يقربها من أجيال الأمة ويفتح الباب لتشوف الأمة إلى الإصلاح السياسي ويجعل ذلك أمر قريبا ومطلبا ممكنا ويسد المنافذ السلبية التي تصور الحكم السياسي الإسلامي بأنه غير متاح للتجربة البشرية. الثاني: إنها تجربة غزيرة التطبيقات فقد شهدت مرحلة الخلافة الراشدة مشاهد سياسية جديدة وتغيرات كبيرة في طبيعة المجتمعات الداخلة تحت نطاق الحكم السياسي وتنوعات واسعة في العلاقات بين طبقات تلك المجتمعات واختلافات ظاهرة في ثقافتهم وأديانهم وتصوراتهم وسلوكياتهم وتعددات كبيرة في عرقياتهم وبلدانهم. وهذه الغزارة ساعدت على توسيع المادة السياسية في تلك التجربة وعلى استيعابها لكثير من الإشكاليات فإذا أراد الباحث المعاصر أن يتحقق من تلك الغزارة فإنه سيجد شاهد ذلك في كمية القضايا السياسية التي ثارت في ذلك الزمن وسيقف فيها على أجوبة وحلول لكثير من القضايا التي هي محل بحث ومثار جدل في عصرنا. ومن أمثلة القضايا التي نجد لها حلا في تلك التجربة: طبيعة العلاقة بين الحكام والمحكوم وتحديد الدوائر التي يسمح فيها للحاكم بالتحرك ودور الأمة والشعب في الشأن السياسي والموقف من التعددية السياسية والدينية وحكم إنشاء الأحزاب والمجالس النيابية والموقف من الترجيح بالأكثرية وتحديد مفهوم المواطنة وضوابطها وإيضاحا تاما لقضية الحقوق والأموال العامة وغيرها من القضايا. فإذا اجتمعت هذه المادة الغزيرة مع الموروث الشرعي المعصوم فستكَوِنُ مخزونا شرعيا وسياسيا ضخما تستطيع الأمة من خلالها أن تبني مشروعا سياسيا ناضجا يخرجها مما هي فيه من الانحطاط السياسي ويرتفع بها إلى مستويات عالية من الرقي. أنواع الموروث السياسي: ينقسم الموروث السياسي الذي تتناقله الأمة عن العهد النبوي والعهد الراشدي إلى قسمين: القسم الأول: الموروث الذي يحمل الطابع التشريعي وهذا النوع يأخذ أوصاف الأحكام العبادية الأخرى كأحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج من حيث وجوب الالتزام به ولزوم الاستمساك بصفته وحدوده وضوابطه. فالتشريع السياسي في الإسلام ليس مجرد قضايا كلية فقط كالأمر بالعدل والمساواة والشورى وإنما يتضمن قضايا تفصيلية تتعلق ببعض شؤون السياسية ومتعلقاتها الجزئية. وهذا الأمر ليس غريبا في التشريع فقد الشريعة جاءت في باب المعاملات بأصول كلية ومقاصد عامة تضبط الجزئيات الداخلة في نطاقها كالنهي عن الجهالة والغرر والربا ومع ذلك فقد جاءت بأحكام تفصيلية ملزمة تتحقق بها تلك المقاصد وتزيد من تأكيدها كالحال في شروط البيع وأنواع المبيعات وضوابط الإقراض والعقود ونحوها. وكذلك هو الحال في المجال السياسي فهو لا يختلف عن غيره من المجالات الحياتية فالمادة التشريعية فيه ليست كلية فقط تشترك فيها كل المجتمعات وإنما فيها قدر كبير من المواد التفصيلية الملزمة.

ومما يدل على ذلك: أن مبدأ الحرية ليس مطلقا في الإسلام كما هو الحال في كل الأنظمة الأخرى وإنما هو مقيد بقيود تفصيلية تتوافق مع أصول الإسلام وأحكامه وقد حددت النصوص الشرعية تلك القيود وهذا نوع من التشريع التفصيلي الملزم في المجال السياسي. وكذلك هو الحال في مبدأ المساواة فإن هذا المبدأ ليس مطلقا وإنما لا بد فيه من اعتبار الضوابط التي دلت عليها نصوص الشريعة ومقاصدها وهذا نوع من التشريع التفصيلي. بل إن طبيعة العقد الذي بين الحاكم والمحكومين يأخذ في بعض تفاصيله الطابع التشريعي؛ لأنه عقد وكالة وهو من العقود التي جاءت الشريعة فيه بأحكام تفصيلية ملزمة. وكذلك بينت الشريعة الأحكام التفصيلية المتعلقة بحكم الجمعة والجماعات والجهاد مع الحكام وضوابط الطاعة له والخروج عليه. وقد ضيف بعض الإسلاميين دائرة الجانب التشريعي في المجال السياسي وتوصل إلى أن الإسلام لم يأت فيه إلا بأصول كلية ومبادئ عامة فقط كالأمر بالعدل والمساواة والحرية والشورى. ونحن إذا رجعنا إلى الموروث السياسي في الشريعة نجد أنه احتوى على مادة تشريعية تفصيلية كبيرة تساعد على انتظام المجال السياسي مع الأنظمة الأخرى التي جاءت بها الشريعة فهي لم تترك كل ضوابط الحرية لتجارب الناس يقيدونها كيف شاؤا على حسب تجاربهم وإنما أقامت ضوابط عديدة تجعل الحرية المتاحة منسجمة مع المجالات الأخرى ومتوافقة معها. القسم الثاني: الموروث الذي يحمل الطابع الإجرائي وهو عبارة عن الأمور التي دخلت في الخطاب السياسي لأجل مصلحة تنفيذ الحكم الشرعي وانضباطه لا لأجل الإلزام به فهي أمور لم يرع فيها الجانب التشريعي وإنما روعي فيه الجانب التنفيذي. ويدخل في هذا النوع القضايا المتعلقة بالشكل التطبيقي للدولة والآليات التنفيذية والتراتيب والوسائل التي تتحقق بواسطتها الأحكام التشريعية والمقاصد الكلية. فشكل الدولة وآليات التنفيذ فيها ليست أمورا توقيفية ملزمة وإنما هي مصالح مرسلة راجعة إلى مراعاة الموارنة بين المصالح والمفاسد وهي أمور متروكة لقدرات الأمة ومهاراتها على التطوير والتجديد والبحث على المناسب والمفيد. وليس معنى هذا إغلاق باب الاستفادة من الأمور الإجرائية التي كانت في العهد النبوي والراشدي وإنما غاية ما يدل عليه كشف طبيعته وبيان منزلته فقط. وعدم التمييز بين هذين النوعين - التشريعي والإجرائي- يعد أحد أهم الأسباب التي أدت إلى كثير من الالتباس والاضطراب في تحرير الخطاب السياسي في الإسلام وأضحت كثير من القضايا مثار جدل ومحل اختلاف نتيجة تلك الرؤية الملتبسة التي لم تستطع أن تميز بين طبيعة الأنواع الداخلة في الموروث السياسي وهذه الإشكالية كان لها حضور مؤثر منذ زمن بعيد في الفكر الإسلامي وقد ذكر ابن القيم طرفا من الخلاف فيها ثم وصفها بوصف بليغ يكشف عن مدى خطورتها وأثرها فقال:"وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك ومعترك صعب " (الطرق الحكمية 13). ويتطلب الإنقاذ السياسي قدرا كبيرا من إدراك الفوارق المؤثرة بين النوعين - التشريعي والإجرائي- ومهارة فائقة في الموازنة بينها والبلوغ إلى هذا التمييز يعد أحد المرتكزات الأساسية للوصول إلى النموذج السياسي الملهم ومتى ما بقيت الصورة في حالة الالتباس فإنه ستتحول بعض القضايا التشريعية إلى أمور مصلحية غير لازمة وتغدو بعض القضايا الإجرائية المصلحية أمورا تشريعية ملزمة وهنا يقع الخلط والاختلاط والتضارب في الرؤية الإسلامية السياسية. المكتسبات الرفيعة:

الانطلاق في الإنقاذ السياسي للعالم العربي والإسلامي من المخزون السياسي الشرعي يحقق مكاسب عالية الجودة ورفيعة المستوى وبالغة القدر وعميقة التأثير والمكاسب التي يمكن استخلاصها متعددة الفروع ولكنها ترجع إلى ثلاثة مكاسب رئيسة. المكتسب الأول: الظفر بالقوة الدافعة: تحتاج المشاريع التي تقصد إلى التغيير الجذري في البنى المجتمعية إلى مادة روحية عالية التأثير وقوية الإشعاع حتى تتمكن من أداء وظيفتها على المستوى المطلوب ومتى ما فقدت تلك المشاريع المادة الروحية فإنها ستتحول إلى قوالب جامدة قليلة التأثير أو عديمته وقد شهد التاريخ نماذج تؤكد هذه النتيجة فإن أنظمة الشيوعية لم تتجذر في المجتمع؛ لأنها ألغت كل القوى الروحية الدافعة للعمل والداعية للاقتناع بالتنظيمات فكان مصيرها الفشل الذريع. والحالة في هذا الارتباط حالة طردية، فكلما ازدادت المادة الروحية جمالا وقوة وعلوا وحيوية ازداد تأثيرها وفعاليتها في النفوس ودفعتها إلى العمل والامتثال للقيم والمبادئ. وهنا تبرز خاصية الإسلام في صياغة أنظمته المجتمعية فهو لم يقدمها جافة فارغة وإنما شبعها بالروح الدينية الدافعة التي تحقق القناعات الذاتية لدى أفراد المجتمع وتسيره نحو امتثال قوانينها وتشريعاتها بقوة داخلية لا خارجية ... جاء الإسلام بتلك الروح التي تحمل كينونة خاصة تخاطب الوجدان الإنساني وتمتاز بالحيوية والنشاط والإيحاء بالحقائق الكبرى وتخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذها. إن المنطلق الديني الذي يختزنه الموروث الشرعي السياسي هو المنطلق الذي قلب أحوال العرب في الجاهلية وانتزع منهم رواسب الظلم والجهل والبغي والاستبداد وحولهم إلى نماذج مختلفة في تصوراتها وسلوكها وعلاقاتها. إن الروح التي استطاعت فعل ذلك تستطيع أن تؤثر في المجال السياسي لدينا فتخرج لنا النموذج الملهم .. النموذج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فالقوة في المخزون السياسي ليست منحصرة في الجانب المعرفي والقيمي فقط بل تتعدى ذلك إلى الجانب الروحي فهو يمتلك طاقة روحية عالية تسيطر على القلوب والأرواح وتدفعها نحو الامتثال والإصلاح وتدعوا الأمة إلى أن تقول كلمة الحق وتنصح للحاكم وتحاسبه وتقومه إذا اعوج ولا تخاف في الله لومة لائم. فالانطلاق من عدل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أبلغ في التأثير في نفوس الناس من الانطلاق من النظام الديمقراطي والابتداء من حفظ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين للأموال العامة أعمق في الأثر من الابتداء من النظام الديمقراطي. إن إبراز هذه النماذج العالية في الموروث الشرعي يحقق الضمانات القوية في المحافظة على الحقوق والأموال العامة لما يمتلكه من القوة الروحية مما لا يوجد في غيره من الأنظمة. وقد أثار عدد من المفكرين العرب سؤالا عن مقدار الضمانات التي يمتلكها النظام الديمقراطي للمحافظة على مقدرات الشعوب وعلى امتثال العدل في الممارسات الفعلية وتوصل د/ راشد الغنوشي إلى أن المبادئ الديمقراطية لم تستطع "كبح جماح الفئات القوية الضاغطة عن التحكم والإفساد وتسخير السلطة لإفراغ جملة الضمانات التي قدمتها الديمقراطية من محتوياتها" (الحريات العامة2/ 10). وأكد على أن النماذج الغربية للديمقراطية تمارس استبدادا ناعما وفداحة كبيرة في النهب المنظم لأموال الناس وقال:"رغم أهمية الآليات الديمقراطية ومبادئها ... فإنها لئن وضعت حدا لكثير من ضروب العنف السافرة كالتي كانت عليها الأنظمة الديكتاتورية فإنها لم تضع حدا بل لم تخفف إن لم تكن فاقمت من ضروب العنف الخفية" (السابق 2/ 11).

وكل هذا يؤكد لنا خطورة الفراغ الروحي الذي يعاني منه النظام الديمقراطي ويؤكد أهمية البعد الديني والروحي الذي تشبع به المخرون السياسي في الشريعة وضرورة استحضاره في الإصلاح. ومتى ما ابتعدنا عن الخطاب الشرعي المشبع بالروح الدينية وذهبنا نعتمد على الأنظمة الفارغة من تلك الروح وغدونا نظهر للناس ونبشرهم بأنظمة مفتقرة إلى تأسيس شرعي في أصلها ومحتاجة إلى الامتداد التاريخي الديني نكون في الحقيقة قد تخلينا عن نقطة القوة في الإصلاح السياسي ومنبع الاقتداء وشرط النجاح. إننا بحاجة ملحة في هذا العصر الذي شُوه فيه الخطاب السياسي في الإسلام وغيبت فيه كثير من معالمه وصوره وأقيمت في طريق الوصول إليه عقبات وعقبات نحن في حاجة أن نعود إلى الروح الدافعة التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم في الوجود ونسعى إلى التشبع منها وبثها في الواقع مرة أخرى. المكتسب الثاني: الوقوف على النموذج الملهم: إن التوجه نحو المخزون السياسي الشرعي - سواء النبوي منه أو الراشدي- والحرص على استيعابه وجمع كل مفرداته وتطبيقاتها المشرقة وإعمال النظر في نصوصه والبحث في كنوزه والتنقيب عن أصوله سيوصل إلى النموذج الصافي من كل ما يكدر صفوه. وبذلك تتحقق الركيزة الأولى من الركائز التي يقوم عليها الإصلاح السياسي في المجتمع المسلم فكما أن التجديد في مجالات البيع والشراء والمعاملات لا يبدأ من الاعتماد على النماذج الخارجية وإنما يتطلب أولا إبراز النموذج التشريعي الكامل وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم تحاكم إليه النماذج والتجارب الأخرى ليحصل بينها التلاحق والتبادل ... فكذلك الحال في المجال السياسي فإن الخطوة الأولى في مشروع تجديده وإنقاذه لا تكون بالانطلاق من النموذج الديمقراطي أو غيره وإنما تبتدئ أولا من إبراز النموذج السياسي الذي قدمته الإسلام وتحديد معالمه ومبادئه وتفصيلاته التشريعية والإجرائية ثم بعد ذلك يتم التوجه نحو تجارب الأمم الأخرى ليحصل بينها وبين ما قدمته الشريعة من تلاحق وتبادل. والوصول إلى النموذج الملهم يحقق لنا من جهة أخرى الشروط التي يجب توفرها في المشاريع المتعلقة بمصير الأمة فإن هذا النوع من المشاريع يجب أن يكون متصفا بوضوح المنطلق وسلامة المأخذ وقوة الأدلة وانضباط المصطلحات ووضوح المقدمات وجلاء المآلات لأنها لا تقبل أنصاف الحلول ولا الضبابية ولا الإجمال؛ إذ هي متعلقة بمصير الأمة ومن أكبر من يحق لنا تلك الشروط: هو أن نقف على النموذج البنوي والراشدي في المجال السياسي بصورته الحقيقية وبإدراك ناضج واعٍ مستوعب لحدوده ومعالمه وضوابطه. وفائدة أخرى نكتسبها من الوقوف على النموذج الكامل وهي إبراز النموذج العادل الذي أسعد الناس وحافظ على حقوقهم من أقوى ما يكشف زيف الأنظمة المستبدة الظالمة, ومن أصلب ما يرفع الستر عن خوائها الداخلي ويقلل من مشروعيتها فتلك النماذج الكاملة تمثل كابوسا مخيفا للمستبدين وغصة في حلوقهم وشهادة تاريخية على إفلاسهم وقد ذكر ابن كثير في تاريخه أن الحجاج وسيده عبدالملك بن مروان كانا ينهيان عن ذكر سيرة عمر بن الخطاب ويقولان:"إنها مرارة للأمراء ومفسدة للرعية" (البداية 9/ 66) وهذا الحال يدعونا على مراجعة صادقة لمنطلقاتنا الإصلاحية السياسية وغيرها, ويدفعنا إلى الإلحاح بالسؤال: هل من الأفضل أن تعلق الأمة بالنماذج الكاملة التي تمثل البعد الشرعي وتحقق الامتداد التاريخي لها, أم تعلقها بالنموذج الديمقراطي الذي يعاني من انفصام نكد بين النظرية والتطبيق ويتألم من تشويهات تطبيقية عديدة على أكثر من صعيد وفي أكثر من بلد.

المكتسب الثالث: تحقيق التوازن الإصلاحي: الانطلاق من المادة السياسية في الإسلام تعد ضمانة من أقوى الضمانات لإدراك التوازن في العملية الإصلاحية فالذهنية المنطلقة من ذلك الموروث تكون عادة متوجهة نحو الشمول والاستيعاب وسالمة من الاختزال والضيق في المجال الإصلاحي لأن الإسلام عقد ترابطا شديدا ومعقدا بين أنظمته فكل مجال منها متداخل مع غيره تداخلا كبيرا ومنسجما معه انسجاما عاليا بحيث تُكَوِّن في النهاية لحمة واحدة تمثل التصور الإسلامي للكون والحياة. وقد ألمح عبدالوهاب خلاف إلى هذا التداخل حين قال:"العقيدة لها أثرها في إحسان العبادة والعقيدة والعبادة لهما أثرهما في تكوين الأخلاق والأخلاق لها أثرها في حراسة التشريع والتشريع له أثره في حماية الدولة ورفعتها والدولة لها دورها في الحفاظ على العقائد والعبادات والأخلاق والتشريعات فكل هذه الأمور يؤثر بعضها في بعض ولا يستغني بعضها عن بعض فلا بد من العناية بها جميعا إذا أردنا أن نقيم حياة متكاملة متوازنة كما أمر الله " (علم أصول الفقه 37). وهذا الكلام يؤكد على أن عربة الإصلاح لا تسير على عجلة واحد وإنما لا بد فيها من عجلات متعددة حتى يمكنها أن تسير باتزان وفي طريق مستقيم وتحقيق الاتزان وإقامة ذلك الترابط الذي يقيم الحياة كما أمر الله يقوم أول ما يقوم على إدراك الموروث الشرعي والانطلاق منه في مسيرة الإصلاح. ولا نعني بالتوازن الإصلاحي هنا: إلغاء التخصص في مجال من المجالات ولا نعني به أيضا المنع من كثرة الاهتمام به دون غيره ولا نعني به المطالبة بالمساواة بين كل المجالات في كل الأحوال في الدعوة والاهتمام كل هذه المعاني غير مقصودة وإنما نعني به إعطاء كل مجال ما يتطلبه من إصلاح مع عدم التحقير والتقليل- بالقول أو بالممارسة - من الجمالات الأخرى. ومتى ما افتقد المشروع الإصلاحي التوازن فإنه يظل في حالة من السلبية والعدمية وهذا ما وقع فيه الفكر العربي المعاصر فلو قمنا بعملية تحليلية للمشاريع الإصلاحية التي قدمت في الفكر العربي المعاصر فإنا نجدها تعاني من الاختزال الشديد في تصور فكرة الإصلاح نتيجة افتقادها للتوازن المنضبط فبعض تلك المشاريع تصور أن الإنقاذ الحقيقي يكون بالإصلاح الثقافي والفكري دون غيره, وبعضها يتصور أن الإنقاذ الحقيقي يكون بالإصلاح السياسي دون غيره, وبعضها يحدد مجالات أخرى مختلفة وبقليل من سعة الأفق والهدوء في المعالجة يتبين لنا أن الركيزة الأولى في الإصلاح هي في التوازن بين كل تلك المجالات وإعطاء كل مجال ما يستحقه من جهد وبحث وتأصيل. الخطوات العملية لاستثمار المخزون السياسي: تضمن الموروث السياسي في الشريعة إشارة هامة إلى العودة الحميدة للنظام السياسي الرشيد ووعدا صادقا به فقد قال صلى الله عليه وسلم:"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " (المسند 18430) فهذا الخبر يفتح الآمال أمام الأمة لتسعد بجمال الأنظمة الإسلامية ولكن من المستحيل عقلا أن ترجع الخلافة الراشدة بنفسها من غير جهد أو عناء ومن المستبعد عقلا أن تقوم خلافة النبوة في الواقع مع جهل الناس بها وبمعالمها وبتفاصيلها وبقلة وعي الناس بها.

وهذا كله يستدعي من الأمة حرصا شديدا على معرفة معالم الخطاب السياسي في الإسلام وتحديدا واضحا لمبادئه وأقسامه ومحتوياته واهتماما واسعا بمفرداته وملامحه وغوصا عميقا في بحار واستخراج كنوره. وأحسب أن استثمار الخطاب السياسي في الشريعة يقوم على ثلاث خطوات: الخطوة الأولى: الجمع والتصنيف: ما زال المخزون السياسي مبعثرا في المصادر الإسلامية ولم يحظ بمشروع يجمع شتاته ويؤلف بين متفرقه فهو مبعثر في القرآن وكتب السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات وكتب الحديث الأخرى وكذلك هو مفرق في كتب التاريخ والتراجم فهو يحتاج إلى قدر كبير من البحث والتنقيب ليجمع في مكان واحد كما فعل الفقهاء في نصوص الأحكام ويتبع ذلك القيام بتمييز الصحيح من الضعيف منها ثم يعقب ذلك تبويبها وتقيمها على الأبواب والمسائل. والمتابع للكتب المؤلفة في فقه السياسة يجد عزوفا ظاهرا عن الاستناد إلى المخزون الشرعي في السياسة واعتمادا كبيرا على الاجتهاد والتخريج والاستنباط الشخصي وقد قام الدكتور/حاكم المطيري بعملية استقرائية استطاع من خلالها الكشف عن قدر كبير من ضخامة الموروث السياسي في الشريعة ولو قمنا بالمقارنة بين ما جمعه وبين ما في كتب فقه السياسة سواء المتقدمة منها ككتاب المارودي وأبي يعلى أو المتأخرة والمعاصرة فإن سنجد بينها فارقا شاسعا في كمية المخزون السياسية التي تم استحضاره واستثماره في بناء التصورات السياسية وهذا الحال يكشف لنا أحد الإشكاليات المنهجية في تلك المؤلفات. الخطوة الثانية: الدراسة والتحليل: لا يكفي في استجلاء الصورة الحقيقية للخطاب السياسي في الإسلام مجرد جمع المادة السياسية فيه فقط بل تحتاج مع ذلك إلى دراسات علمية معمقة تعتمد على مهارات التحليل المنهجي البليغة وتستند إلى آليات البحث الفقهي المتقن حتى يمكننا التوصل إلى حقيقة ما كان عليه الخطاب السياسي في المرحلة الكاملة ويمكننا التمييز بوضوح بين الجانب التشريعي منه والجانب الإجرائي ويمكننا أيضا تحديد الضوابط التشريعية بشكل واضح وجلي. ومما يساعد على إنجاز تلك الدراسة المعمقة للمخزون السياسي: التخلص من الخطاب الفردي والتوجه نحو الرؤية الجماعية فمن المهم أن يتحول البحث السياسي ليكون بحثا مؤسسيا يحمل رؤية جماعية وذلك عن طريق عقد الندوات وإقامة المؤتمرات وحلقات النقاش وتبني المراكز البحثية لهذا الموضوع فقد غدت المنهجية الجماعية ضرورة واقعية نتيجة تعقد الواقع وتشابك القضايا السياسية في واقعنا المعاصر وازدياد ترابطها وتداخلها مما يستدعي ضرورة التخلص من الرؤية الفردية والانتقال إلى الرؤية الجماعية. الخطوة الثالثة: الدعوة والتوعية: تحتاج المشاريع التي تقصد إلى التغيير الجذري إلى قدر كبير من الدعوة الجماهيرية وتتطلب جرعة عالية من تنمية حس الوعي الحقوقي بها وبأهميتها وفائدتها فلا يكفي في الإصلاح السياسي أن يكون هما خاصا بالنخبة أو فكرا محدودا في الدائرة المثقفة وإنما لا بد أن ينتقل إلى الجماهير ليكون رأيا عاما وهما مشتركا بين كل الفئات. والمخزون السياسي في الإسلام يمتلك قوة عالية من التأثير ورؤية واضحة توصل إلى درجة عالية من الوعي الحقوقي يمكن من خلالها تكوين القوة الضاغطة على الواقع لتغييره وتبديله. وفي ختام هذه الجولة في المخزون السياسي وبعد اكتشاف ضخامته وأهميته وجودة مكتسباته يبدو أن سؤالا ملحا غدا يلوح في الأفق وهو: من المسئول عن تغييب المخزون السياسي الشرعي وعن خفوت أثره في الواقع المعاصر؟!

حجاب الفقراء

حجاب الفقراء عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف 14 جمادى الأولى 1432هـ كتب الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - مقالاً ماتعاً وطريفاً عن الحجاب استهلَّه بهذه الديباجة: «ليطمئن السيدات، فليس الكلام عن حجاب النساء، ولكن عن حجاب الأمراء، وإن كان الصنفان يتشابهان في أمور كثيرة: - في الحروف (امرأة - أمراء) كلها من (أ، م، ر)، وأثقل القول على النفس فِعْل الأمر. وفي أنَّا إن خضعنا للنساء طَغَيْن طغيان الأمراء، وإن لِنَّا للأمراء (تدلَّلوا) دلال النساء. وفي الحجاب الذي يغري ولا يغطي، ويُطمِع ولا يطعم، يلبس النساء العديد من الثياب ولكنها ثياب لا تستر جسداً، ويتخذ الأمراء الواسع من الأبواب ولكنها لا تُدخِل أحداً. والحجاب عند الصنفين زينة وفخر، ولو تعرَّى الأمراء عن الشارات والزينات والأبواب والحجاب لخسروا أغلب هيبة الحكم ... » (¬1). وقد أشار الشوكاني - رحمه الله - إلى هذه البَهرَجة والتهويل في إيوانات السلاطين، وأن رسولاً قدم من بلاد نائية إلى أحد خلفاء بني العباس، وعاين هذه التهاويل والعجائب، فامتلأ قلبه مهابة وروعة، وتعاورته أسباب التعظيم والانبهار من كل حدب وصوب، فما إن وقعت عين هذا البائس على الخليفة حتى قال: أهذا الله؟ فقالوا: لا. بل هذا خليفة الله. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً (¬2). وبيَّن صدِّيق حسن القنوجي - رحمه الله - أن إيوانات السلاطين التيمورية بالهند على هذا المنوال، وأن الرِّعدة تعتري أجسام الأقوياء، ويلحقهم الذهول والاندهاش إثر معاينة التزويقات والزينات (¬3). ولئن كانت هذه الأبهة والتهويل ترسِّخ تأليهاً وتعظيماً للسلاطين، وتثبيتاً للوثنية السياسية، فإن الغلو في القبور بإسراجها والبناء عليها يجلب وثنية الأضرحة وعبادتها، وقد أوضح الشوكاني ذلك بقوله: «لا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زيَّنه الشيطان للناس: من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بُنيَت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستورَ الرائعة، والسرجَ المتلألئةَ، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية» (¬4). ومهما يكن الحجاب للمرأة والأمير، فإن للفقراء (الصوفية) حظاً وافراً من هذا الحجاب؛ ولا سيما أن الفقراء لهم صِلات حميمة بالأمراء وأصحاب النفوذ في القديم والحديث، ومن ذلك أن صوفياً وعظ أحد الأمراء الظَّلَمة فأعطاه شيئاً فقبله، فقال الظالم: كلنا صيَّادون، وإنما الشباك تختلف (¬5)، بل ربما أفضى بهم الحال إلى تأييد الأعداء والمستعمرين. وقد وصف ابن تيمية الصوفية قائلاً: «بل أكثرهم يكرهون متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم مِنْ أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله، بل يعاونون أعداءه ويدَّعون محبته» (¬6). ومن ذلك أن صوفية داغستان جاهرت بتأييدها للزعيم الشيوعي «لينين»، وصوفية العراق باركت الاحتلال الأمريكي للعراق، وصوفية مصر تقيم المظاهرات لأجل تأييد حسني مبارك (¬7). ¬

(¬1) فكر ومباحث، ص122 = بتصرف يسير. (¬2) ينظر: فتاوى صديق حسن، ص107، والمنتظم لابن الجوزي: 13/ 174. (¬3) ينظر: فتاوى صديق حسن، ص108. (¬4) شرح الصدور بتحريم رفع القبور، ص17. (¬5) ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي، ص207. (¬6) منهاج السنة: 5/ 329. (¬7) انظر تفصيل ذلك في كتاب التصوف للمقدي، ص81 - 93.

كما أن للصوفية ولعاً بالنساء؛ حتى استحلَّ بعضهم مؤاخاة النساء والخلوة بهنَّ (¬1). والقوم تحرِّكهم العاطفة والسماع، ويؤثرون التواجد والرقص كالنساء، ويعشقون الأصوات الحسنة والصور الجميلة (¬2). وسأكتفي بمثالين على حُجُب الصوفية: أولاهما: أن أبا الحسن الباهلي (تلميذ أبي الحسن الأشعري) كان يحتجب عن الرجال، فكان تلاميذه كالباقلاني وابن فورك يحضرون درسه، وقد أرخى الستر كي لا يروه! ولما سألوه عن ذلك، أجاب: إنهم يرون السُّوقة (وهم أهل الغفلة) فيروني بالعين التي يرون أولئك بها (¬3). وهذا أنموذج لفساد الورع والتعبُّد المتنطَِّع، وإلا فقد كان سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - يعاين الكفرة كفرعون هذه الأمة أبي جهل وغيره من أئمة الكفر، ويغشى أسواق قريش، ويطوف بالكعبة وحولها ستون وثلاثمائة صنم. وثانيهما: ما ادَّعاه أبو حامد الغزالي في إحيائه حيث قال: «مقصود الرياضة تفريغ القلب، وليس ذلك إلا بالخلوة في مكان مظلم، فإن لم يكن مكان مظلم فيلفُّ رأسه في جبَّة، أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال حضرة الربوبية». وقد تعقَّب ابن الجوزي هذا الصنيع فقال: «انظر إلى هذه الترتيبات، والعَجَب كيف تصدر من فقيه عالم! ومن أين له أن الذي يسمعه نداء الحق، وأن الذي يشاهده جلال الربوبية، وما يؤمِّنه أن يكون ما يجده من الوساوس والخيالات: الماليخويا (¬4)، وقد يسلم الإنسان في مثل هذه الحالة من الوساوس؛ إلا أنه إذا تغشى بثوبه وغمض عينيه تخايل هذه الأشياء .. نعوذ بالله من هذه الوساوس والخيالات الفاسدة» (¬5). وخيالات وأوهام الغزالي - عفا الله عنه - تعكس نكوصه عن نوازل عصره، وتنصُّله عن الالتفات إليها، فإن «الإحياء» ألَّفه زمن الحروب الصليبية الأولى .. ومع ذلك فالغزالي غارق في خلواته، متيَّم بالتدثر. فلم يُقِم لهذه الحروب وزناً ولا أثراً. ثم إن هذه الأحوال لا تحقق علماً نافعاً، ولا عملاً صالحاً، وإنما هي أوهام وسلوب لا حقيقة لها في الأعيان. وما أجمل ما حكاه ابن تيمية قائلاً: «غاية كلام الغزالي في السلوك ينتهي إلى التعطيل؛ ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة وسلوك وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك فتسير خلفه منزلاً من منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء» (¬6). والناظر إلى أحوال الصوفية وسلوكهم، يجد أن كثرة التنقلات هو دأبهم، وأن تفسُّخ العزائم ونقض الهمم غالب عليهم مع كثرة دعاويهم المثالية الجامحة .. فقد تشددوا في العبادة ثم أعقب ذلك التحلل والفجور، وتنطعوا في دقائق الورع ثم انهمكوا في أكل أموال الناس بالباطل كما هو مبسوط في موضعه، وكذا الحجاب والاستتار، فقد آل الأمر بمتأخريهم إلى التجرُّد من الثياب وكشف العورات كما في مجاذيبهم؛ فمنهم من أطربه السماع، فمزق الثياب، وخرج عارياً إلى الصحراء (¬7)، ومنهم «شعبان المجذوب كان عرياناً لا يلبس إلا قطعة جلد يغطي قُبُله ودُبُره فقط .. وكانت الخلائق تعدُّ رؤيته عيداً» (¬8)! ومن بوائق زنادقة الصوفية أن «الفاجر» التلمساني يجيز نكاح المحارم، ويقول: الجميع عندنا حلال - يعني نكاح الأم والأجنبية - ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم (¬9). ¬

(¬1) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص421، ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 11/ 405، 505، 537. 32/ 248. (¬2) انظر الاستقامة: 1/ 305 - 319. (¬3) انظر: طبقات السبكي: 3/ 369. (¬4) مرض عقلي يورث فساداً في التفكير، وخللاً في التصورات. (¬5) تلبيس إبليس، ص323 = باختصار. (¬6) النبوات: 1/ 387. (¬7) رؤية شرعية في الطبقات الكبرى للشعراني لأكرم عصبان، ص219. (¬8) المرجع السابق، ص244. (¬9) انظر: الجواب الصحيح: 3/ 201.

وهكذا جعل هذا الزنديق المأفون لزومَ الشرع المنزَّل حجاباً. إن الحجاب حقيقة هو الإعراض عن محبة الله - تعالى - وقصده وعبادته، وتنكُّب سبيل السُّنة والاتباع. كما شرحه ابن القيم قائلاً: «إذا دعى الله عبده إلى معرفته ومحبته وشكره، فأبى العبد إلا إعراضاً وكفراً، قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصدَّه عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدلٌ منه فيه، وتكون عقوبته بالختم والطبع والصدِّ عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار، كما قال - تعالى -: {كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} ثُمَّ إنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16] فحجابه عنهم إضلال لهم وصد عن رؤيتهم وكمال معرفته، كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدِّها عن الإيمان» إلى أن قال: «وقوله - تعالى -: {وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الإسراء: 54]، والمعنى: جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجاباً يحول بينهم وبين فهمه وتدبُّره والإيمان به «فالحجاب يمنع رؤية الحق» (¬1). «فنسأل الله - تعالى - علماً نافعاً فهو الأصل؛ فمتى حصل أوجب معرفة المعبود - عز وجل - وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق الإخلاص، وأصل الأصول العلم. وأنفع العلوم النظر في سير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 81]» (¬2). ¬

(¬1) شفاء العليل، ص 185، 201 = باختصار. (¬2) صيد الخاطر لابن الجوزي، ص 83.

للذين يسألون أين المشروع السلفي؟

للذين يسألون أين المشروع السلفي؟ محمد بن إبراهيم السعيدي السبت 5 جمادى الأولى1432هـ أين المشروع السلفي؟ أين المشروع السلفي؟ أين المشروع السلفي؟ سؤال غريب تكرر عليَّ من كل صوب، حتى أثار فيَّ الدهشة بشكل لم أتصوره من نفسي حيال هذا الموضوع تحديدًا، فقد طرحه عدد من كتَّاب المقالات في بلادنا، وفي البلاد العربية، في سياقٍ من الانتقاص للتوجه السلفي الذي يسمونه من باب الخطأ الشائع تيارًا، فيزعمون أن الأحداث الأخيرة في البلاد العربية كشفت- بما لا يدع مجالًا لشكهم- ما يُعانيه السلفيون من فراغ في جانب المشروع السياسي، وأنهم لذلك تخبَّطوا في هذه الأحداث خبط عشواء، فلم يستقم لهم رأي، ولم تستبن لهم طريقة، وقد أثَّر هذا السؤال وما ورد عليه من إجابات على كثيرٍ من السلفيين، فأمَّنُوا على ما ورد فيه، وفحصوا الأرض بأرجلهم يبحثون فيها عن مشروع لهم لم تلده الأيام بعد. ما أثار دهشتي هو إصرار هؤلاء على الانتقاص من السلفية؛ لكونها - في نظرهم - لا تملك مشروعًا سياسيًّا، دون أن يُكلِّفوا أنفسهم مراجعة الواقع من حولهم ليقولوا لنا قبل أن يغمزوا في السلفية: أين المشروع الإخواني؟ وأين المشروع التبليغي؟ وأين المشروع التنويري؟ وأين المشروع الليبرالي؟ وأين المشروع الماركسي والاشتراكي وهلم جرًّا؟ أين هذه المشاريع؟ لو تأملوا الواقع بإنصاف لأيقنوا: أنه لا يوجد في هذه الأزمة خاصة أي مشروع لكل تلك الجماعات, أسلاميةً كانت أم غير إسلامية. فلماذا هذه الهجمة وهذا الانتقاص والاستخفاف على التيار السلفي وله، وبه؟ من يقرأ هذه التساؤلات وما كُتِب وراءها من نقد للسلفية، وتهويل لمظهر الفراغ الذي لحقها جرَّاء الأحداث الأخيرة، يعتقد أن الإخوان قد كوَّنوا دولتهم بشعارها الذي نشأت عليه: الإسلام هو الحل، وأن التنويريين قد اكتسحوا الانتخابات البرلمانية في أكثر الدول العربية، وأن الليبراليين قد نعموا بالحرية التي أرادوها وأسعدوا بها من حولهم، وأن اليساريين قد فرغوا من لمِّ شتاتهم الذي أحدثه سقوط الماركسية السوفيتية. لم يسألوا أنفسهم: هل هذه الثورات التي حدثت صنعتها هذه التوجهات الفكرية الناعية على السلفيين ما هم فيه من فراغ مزعوم أم صنعها غيرهم؟ الجواب: بل صنعها غيرهم، بدليل أن أحدًا لم يدَّعِ لنفسه حتى اليوم أنه هو من صنعها. ثم هل نجح أيٌّ من هذه التوجهات أن يحل بديلًا عن أي نظام من الأنظمة التي سقطت أو التي سوف تسقط؟ الجواب: أيضا لا, لم يستطع أيُّ توجه أن يحل محل الأنظمة الساقطة، بل لم يستطع أن يُقدم أحدٌ منهم نفسه بديلًا، ولعلي أخص بالحديث الإخوان المسلمين فإنهم أعرق الحركات المعاصرة في العمل السياسي، كما أن نجاحهم لو تمَّ وفق مشروعهم الأصيل لكان ذلك مكسبًا لكل التوجهات الإسلامية والسلفية منها على وجه الخصوص، وذلك لأن الكثير من رجالاتهم العاملين في المقدمة سلفيون من حيث الانتماء العقدي والفقهي، حتى هم حين قدَّموا أنفسهم للعمل السياسي في تونس ومصر أجَّلُوا مطالبهم العتيقة من أجل ذريعة السياسة، فلم يعودوا يرفعون شعار الإسلام هو الحل، كما كانوا يفعلون حين كانوا حركة محظورة، بل إن المتأمل في مشروعهم المطروح بعد الثورتين التونسية والمصرية يحسب أن هذا التأجيل تخلٍ عن تراث الإخوان الذي استشهد من أجله حسن البنا وحسن الهضيبي وسيد قطب وعبد القادر عودة وغيرهم، والذي ضاعت في سبيله أعمار زكية بين جنبات السجون العسكرية، ذلك التراث الذي يوجزه لنا رسم السيفين المتقاطعين يحملان مصحفًا.

مشروع الحزب السياسي لإخوان اليوم أقرب ما يكون إلى مشروع أي حزب علماني يعلن عن مبادئ الحق والحرية والعدالة والمساواة، لا كبير فرق بينهم وبينهم. هل هذا هو المشروع الإخواني الذي طالما سمعناهم يرددونه ملخصا في: الله غايتنا، الإسلام طريقنا، الجهاد سبيلنا، والأبيات التي قالها سيد قطب رحمه الله رحمة واسعة وتقبله في الشهداء: أخي أنت حرٌّ وراء السدود ... أخي أنت حرٌّ بتلك القيود إذا كنت بالله مستعصمًا ... فماذا يُضيرك كيد العبيد إنَّ ما نقرأ عنه اليوم في تونس ومصر ليس هو المشروع الإخواني، بل هو مشروع حزب يتبنى فكرة العلمانية الجزئية التي نادى بها المسيري يرحمه الله، ولا قد ينحصر اختلافه عن أي حزب ليبرالي في أن القائمين عليه لهم تاريخ مشرف في الحركة الإسلامية في كل من تونس ومصر، أما أن يُقال: إن ما نقرأه اليوم هو مشروع الإخوان المسلمين فكلا. بالنسبة لي: لا أعيب على الإخوة الذين تبنوا هذا الطرح السياسي ميلهم إلى أخف الضررين، وأهون المفسدتين، ومحاولة الإصلاح بتقديم التنازلات من قبيل الانحناء للريح، ومحاولة الإصلاح قدر المستطاع, لا أعيب عليهم ذلك، فقد يكون ما فعلوه شيئًا من الحكمة، لكن العيب كل العيب هو أن يُصوروا هذه التنازلات وهذا الارتخاء على أنه هو المنهج الإسلامي في الحكم، ويستدل عليه أحدهم من الكتاب والسنة على أنه مطلب القرآن، وأنه الإسلام الذي ناضلوا منذ الأربعينات الميلادية من أجله. إذاً ليس من المطابقة للواقع القول: إن ما يُقدمه الإخوان الآن في تونس ومصر هو المشروع الإخواني (الإسلام هو الحل)، وكذلك ما يقوم به الإصلاحيون اليمنيون اليوم من المطالبة بإسقاط النظام، ضمن لقاء مشترك يجمعهم مع أعداء المشروع الإسلامي، ليس من المطابقة للواقع أن يقال إنه هو المشروع الإصلاحي، كل ذلك إنما هو نشاط سياسي لا يختلف فيه هؤلاء عن غيرهم من الأعداء التقليديين لأطروحاتهم، بدليل أن الجميع الآن لا فرق بينهم في أدوات النضال ولا مصطلحاته وأولوياته. أعود لتأكيد أني لا أنعى عليهم عملهم السياسي، بل آمل أن يحقق الله على أيديهم الكثير من الخير، لكنني لا أسلِّم لهم بأن ما يقومون به هو المشروع الإسلامي الذي عرفناهم به قديمًا، إذًا فالإخوان دخلوا السياسة بعد الثورات، ولكن ليس بمشروعهم، بل بمشروع مستعار. نعم مشروع مستعار يشبه إلى حد كبير المشروع الذي دخل به النورسيون في تركيا حلبة النزاع السياسي، وفازوا بسدة الرئاسة من خلاله، لكن الأتراك أعلنوا أن هذا ليس هو مشروعهم الحقيقي حين وصفوا حزبهم صراحة بالعلمانية، وأقروا أنهم لا يستطيعون العمل في هذه الظروف ببرنامجهم الذي يعبِّر عنهم. فعلى التسليم جدلا بأن السلفيين لا يملكون مشروعًا سياسيًّا، لا يحقُّ لأحد أن ينعى عليهم ذلك ما دام الواقع أثبت أن من لديهم مشروعًا سياسيًّا لم يستطيعوا التقدم به إلى الحلبة، وأخذوا بدلًا عنه ثوبًا مستعارًا من خصومهم الذين ينازعونهم في مشروعية وجودهم. أما لماذا اضطربت مواقف السلفيين، فسؤال ينبئ عن عدم معرفة صحيحة بطبيعة التكوين السلفي, فالسلفيون ليسوا جماعة تخضع لقيادة فكرية أو حركية حتى تتوحد مواقفها تبعًا لهذه القيادة أو تلك، بل هم أصحاب مدرسة دعوية، ومنهج استدلالي يذهبون إليه في العقيدة والفقه والأخلاق, وحين تأتي النوازل يعرضونها على طريقتهم في الاستدلال، وتختلف رؤاهم حولها بشكل طبعي، تبعًا لاختلافهم في فهم النصوص أو تنزيلها على الواقع، وتبعًا لرؤية كل منهم للمصلحة والمفسدة وطرق تقديرها.

لذلك نجد أن من السلفيين من هم أعضاء في جماعات سياسية، كالإخوان والنهضة والإصلاح، ومنهم من لا ينتمي إلى جماعة سياسية، وله انتماءات مذهبية أو فكرية أخرى يرى أن مواقفها لا تتعارض مع ما يوصل إليه المنهج السلفي في الاستدلال. من يعرف ذلك عن السلفيين لن يستغرب اختلاف مواقفهم في هذه الأحداث، بل ربما يجد الغرابة فيما لو اتحدت مواقفهم، فهذه طبيعة البشر حينما لا تجمعهم قيادة فكرية أو سياسية يدينون لها بالتسليم، لا بد أن يختلفوا، وليس ذلك في المواقف الحاسمة وحسب، بل حتى المواقف التافهة قلَّما تجد بين أصحاب المصلحة الواحدة اتفاقًا بشأنها، ما لم يجتمعوا على صوت واحد يسلِّموا له، ويقفوا عند رأيه. هناك معضلة أخرى يشترك فيها السلفيون مع غيرهم، وهي أن فرصة الحديث في كل أمر جليل متاحة للجميع, ويجد الكثيرون ممن ليسوا أهلًا للفتوى من أنفسهم الجرأة على الإقدام على إبداء آرائهم في النوازل الخطيرة، وصبغ هذه الآراء بصبغة الفتوى، أي أنها فيما يرون هي حكم الله تعالى في المسألة دون أن يؤدوا ما عليهم من واجب شرعي، وهو استفراغ الوسع في الاجتهاد في هذه النازلة، باستخدام كل ما يعرفه علماء أصول الفقه من أدوات الاجتهاد. وأقول: إن هذه بلوى عامة لدى السلفيين وغيرهم، لكنَّها قد تبدوا أكثر جلاء عند السلفيين؛ لكونهم لا يخضعون - كما قدمت - لقيادات علمية تجمع شتات آرائهم في مثل هذه المواقف، وتحدد من له أهلية الكلام ممن يجب أن يلتزم الصمت. أما غير السلفيين فإنهم وإن كانوا يرجعون إلى قيادات تجمع شتات فكرهم، إلا أن سيطرة التوجهات الحزبية على هذه القيادات تحول دون استشرافهم للنصوص الشرعية الاستشراف اللائق بها، ولذلك تأتي اجتهاداتهم في النوازل مطلية بطلاء الهوى المحض الذي يُخفي ما يشاء من النصوص ويبدي ما يشاء منها. وفيما يتعلق بالمشروع السياسي، أين المشروع السياسي السلفي؟ في ظل هذه الحركات الشعبية بدأ الكثيرون من السلفيين الشباب يشعرون بسحر السياسة وتحركاتها، ولم يجدوا عند علمائهم سوى أحاديث الطاعة لولي الأمر، والتي يختلفون أيضًا في طُرق تنزيلها على الواقع، فأحسوا بصدق القول بأن السلفية تفتقر إلى مشروع سياسي يتناسب مع مطالب العصر. وللجواب لابد أن نعلم أن مصطلح المشروع مصطلح لا يزال غير محرر عند أكثر من يتحدثون عنه، لاسيما كتَّاب الصحافة والإعلاميين، الذين هم أكثر الناس جدلًا بشأنه، وعندي أن المراد به في العرف الفكري المعاصر: مجموعة المبادئ والوسائل والغايات التي تتبناها جماعة ما؛ لتحقيق رؤيتها للنهضة والإصلاح في مجتمعها، وحين نتأمل الفكر السلفي ممثلًا في الإنتاج الغزير لأبرز رموزه، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، نجد أنه يرشد إلى مشروع متكامل للنهضة والإصلاح في الأمة، لكن الإصلاح السياسي في هذا المشروع يأخذ مكان الثمرة التي تنتج بعد الاشتغال بالإصلاح الديني للأمة بكل مكوناتها، والقادة والقائمون على الشأن السياسي جزءٌ غير منفصل عنها.

فليست السياسة هي مشروع السلفيين للنهضة والإصلاح بل هي جزء من هذا المشروع، ولهذا نجد أن التغيير السياسي ليس أوليًّا في برنامجهم إلا في جانب النصيحة لأئمة المسلمين، كما في حديث: (الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وهو الحديث الذي يؤكد على الفكرة التي يتبناها السلفيون من عدم الفصل في مشروعهم بين الحكام والمحكومين، وتتضمن النصيحة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابت لعموم الأمة كأحد مظاهر خيريتها الثابتة في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}. [آل عمران:110] أما التخطيط والترتيب من أجل الوصول إلى سدة الحكم، فهذا في حال عدم ثبوت الكفر البواح من الحاكم، شأن فردي لا يتدخل المشروع السلفي فيه كثيرًا, بل يغلب عليه أنه كسائر تصرفات العباد تنتابه الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون واجبًا، وقد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مستحبًّا، وقد يكون مباحًا,، فللسلفيين حكم فقهي مستفاد من نصوص الشرع، أو من الأدلة الأخرى المستفادة حجيتها من النص الشرعي على كل من يصنع ترتيبًا كهذا، أو يُشارك فيه، سواء أكان فردًا أم جماعة؛ لأن السلفيين هم- كما قدمت- أصحاب منهج استدلالي في الاعتقاد والفقه، ولهذا فهم يحكمون على التصرفات البشرية بما يرونه مناسبًا لها من الأحكام التكليفية. وقد يخرج من السلفيين من يأخذ طريقه في العمل السياسي، فعمله إذ ذاك لا يكون حجة على المنهج السلفي، أو عورة عليه، كما يقول بعض من يريد الإساءة للسلفية، بل إن سلفية هذا الناشط لا تعصمه من أن يحكم إخوانه من علماء المدرسة السلفية على تصرفاته بأحد الأحكام التي يرون أنها تُلائم ما قام به من عمل، حسب ما لديهم من طرق في استنباط الأحكام. وللسلفيين بمجموعهم نظرة دقيقة جدًّا، وفريدة لا نظير لها، فيما يحكمون عليه بالوجوب أو الندب من المشاريع السياسية، وبالتالي تجد أن هذه المشاريع قليلة الوجود في التاريخ الحديث، بل ربما نادرة، أو قل: إن الذاكرة الحديثة المدونة لن تسعفنا إلا بأمثلة قليلة منها: مثال الدولة السعودية بأطوارها الثلاثة، وأمثلة جميع الثورات الإسلامية المسلحة، والحركات غير المسلحة ضد الاستعمار الصليبي والماركسي قديمه وحديثه. أما الحكم بالإباحة فالغالب على السلفيين عدم الاعتراض على النشاط السياسي الذي يقوم به إخوانهم من أبناء الحركات الإسلامية ضمن حدود النظام داخل الأنظمة التي تدَّعي الديمقراطية، وتسمح لمواطنيها بالتعددية السياسية، أقول الغالب؛ لأن من السلفيين من لا يرون المشاركة ضمن أنظمة لا تحتكم لشرع الله تعالى على اعتبار أن ذلك تعبير عن الرضى بحكم الطاغوت. أما الكراهة والتحريم فيحكم السلفيون بهما على كل تحرك سياسي ضمن نظام لا يسمح بالمشاركة السياسية، ويكون بقاؤه رغم ما فيه من استبداد محققًا لقدرٍ من مقاصد الشريعة سوف يكون تحقيقها في خطر حين حدوث الصدام بين هذا النظام، وبين الحركات السياسية الإسلامية, وهي خلاصة الحكمة التي يرونها في الأحاديث الموجبة لطاعة الولاة، وتحريم الخروج عليهم، والتي يلتزمونها بشدة؛ لكونها قاطعة في دلالتها، قطعية في ثبوتها.

قلت قبل قليل: إن المشروع السياسي لا يتدخل كثيرًا فيما إذا لم يكن من الحاكم كفر بواح، وأقول هنا: إنه إذا وُجِد الكفر البواح, أو حين يكون النظام من الظلم بحيث لا يمكن حالًا أو مآلًا أن تتحقق على يديه مقاصد الشريعة، فإنهم لا يحرمون العمل ضده, ولكنهم يتحرزون أشد التحرز في أخذ عُدَد التمكن والاستطاعة؛ لأن العمل دون تمكن ودون استطاعة خطير الأثر من حيث المآلات القريبة والبعيدة, كما أن نظامًا من هذا النوع يعسر تحت رايته, بل ربما يستحيل تطبيق المادة الأولى والأهم من المشروع السلفي، وهي تديين المجتمع وتعبيده لله سبحانه وتعالى, فإذا استحال في ظل نظام ما التحرك السلفي لإعادة المجتمع إلى مفاهيم الإسلام وقيمه، استحال بالتالي ما يترتب على هذه العودة وهو الإصلاح السياسي، وهنا يكون التغيير السياسي بشتى طُرقه متاحًا ومباحًا، ما لم يغلب على الظن إفضاء محاولات التغيير إلى شر هو أعظم مما يمكن من الخير. أين الثورات الشعبية الحالية من هذا كله: لا السلفيون ولا غيرهم كانوا وراء قيام هذه الثورات الشعبية، وقد كانت كما يقول الكثيرون مفاجِئَةً للجميع حتى من أيدوها فور حدوثها، ومن شاركوا فيها, وكان السلفيون حين قامت هذه الثورات مشغولين حقًّا بمشروعهم الدعوي العلمي بشكل يبعث إعجاب محبيهم، وسخط شانئيهم، فلهم قنوات فضائية عديدة تستقطب جمهورًا عريضًا في الوطن العربي كله، رغم محدودية مواردها، وبساطة قدراتها الإعلامية, ويُشرفون على مواقع إلكترونية ذات تخصصات مختلفة تغطي أكثر احتياجات المستهلكين لخدمات الإنترنت، من موسوعات علمية إلكترونية، ومنتديات تخصصية، ومنتديات أخرى حرة وغرف بالتوك متخصصة في العقائد، وأخرى في الاستشارات, وصحف تعد من أكثر مواقع الإنترنت زيارة وتأثيراً, كما يقومون على الكثير من المساجد التي استطاعوا أن يُعيدوا لها رسالتها الدينية والاجتماعية, ناهيك عن الجهود التطوعية التي وصلوا بها إلى قلوب الأرامل والأيتام والمعوزين في جميع الأقطار, والعجيب في جهودهم أنها سريعة التأثير عظيمة البركة، فلا يُحصى عدد من تحصن بسببهم من بدعة الرفض, أو أنقذه الله تعالى بعلمهم من شرك القبورية, أو أعاذه الله بإخلاصهم من شرك العلمنة، أو فخ التحرر والليبرالية, كما لا يُحصى عدد ما أبطلوه من الخرافات المتوارثة، والخزعبلات الرائجة, هذا إضافة إلى من أدخله الله بفضل جهدهم في دين الإسلام، وأخرجه من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان. حقًّا لقد كان السلفيون يسيرون بالمجتمعات العربية بهدوء وتؤدة إلى طريق النجاح والنجاة، مكتسحين كل ما يقابلهم من عقبات بحكمة المؤمنين المخلصين لربهم فيما يقولون ويفعلون. شهد بنجاح السلفيين في مصر بعض المعتاشين على رواج الخرافات، وشيوع الشركيات من نصابي الموالد، وسدنة المقابر، وسماسرة إيران حين عقدوا مؤتمرًا شارك فيه بعض الأزهريين لمناقشة الخطر السلفي على المسلمين والعالم، وانتهى المؤتمرون إلى أن السلفيين أخطر على الإسلام من الصهاينة، وأنه إن لم يقف مدهم فسوف يُعاني العالم من وجودهم أمر العذاب. كان هذا المؤتمر أنموذجًا لضريبة النجاح التي يدفعها السلفيون, وشهادةُ تفوق يرفعها من يشعر على وجوده بالخطر، حين يدهمه صاحب الحق ويدمغه. قامت هذه الثورات، وهذا الحال من النجاح هو ما يَعيشه السلفيون فماذا فعلوا؟ لم يختلف منهج السلفيين وطريقتهم, فقد نظروا إلى هذه الثورات نظرة فقهية، كما هي قاعدتهم التي قدَّمت بيانها، وحقًّا قد اختلفوا في حُكمها الشرعي نظرًا لاختلافهم في تنزيل الدليل، واختلافهم أيضًا في تقدير المآلات، ومنهم من شارك فيها، ومنهم من توقَّف، ومنهم من أبى.

لكن الجميع: من شارك ومن توقف ومن أبى، لم يستعيروا ثوبًا ليس من ثيابهم، كما فعل غيرهم, بل جُلُّهم محافظ على مبادئه مستمسك بسلفيته، سائر في مشروعه الذي قامت الثورة وهو عليه. نعم إن منهم من رفض الثورة وندم آخراً على رفضها فما المشكلة؟ رجل أو رجال حكموا بخطأ أمر ثم بدا لهم صوابه ما الضير في ذلك, ولماذا نتجاوز بمثل هذا الموقف حدوده، ونجعله دليلًا على تذبذب السلفيين، وعدم قراراهم، أو نجعله شاهدًا على فراغهم، وعدم قدرتهم على تقدير الأمور وجهلهم بالسياسة. هم في كل الأحوال خير من رجل نعرفه، حكَم بصواب أمر، ثم لمَّا بدا خطؤه أطرق إطراق من لا يعنيه الأمر. أنتهي هنا إلى جواب سؤال المقال: أين المشروع السلفي؟ فأقول: المشروع السلفي في إصلاح جميع تركيبات الأمة قائم لم ينقطع، وحين لا يراه بعضهم فليس ذلك لعدم وجوده، بل لجهلهم به, فالتصديق- كما يقول الفلاسفة- ناتج التصور. وحين قامت الثورات وقف السلفيون منها موقف العلماء مع النوازل، أول ما يبحثون فيها عن حكم الله. واختلاف رأيهم ناتج اختلاف معطيات اجتهادهم. توصيات في آخر الحديث: 1 - النظر إلى الذات بعين البصيرة خيرٌ من جلدها، ومما يؤسفني أن كثيرًا من السلفيين بدؤوا بالثانية وتركوا الأولى، مع أنهم لو نظروا إلى أنفسهم نظرة فاحصة لخفت وطأتهم على أنفسهم وأهليهم. 2 - الحملة الجائرة ضد السلفية ولاسيما في مصر بعد انتهاء الثورة وحتى الآن جزء من محاولات القضاء على النفسية السلفية المعتدة بمنهجها, تلك النفس التي كانت وما تزال من أعظم المؤثرات على انتشار دعوتهم؛ لأن النفوس مجبولة على حب الأقوياء والثقة بما عندهم. 3 - المشاركة من السلفيين في العمل السياسي ينبغي أن لا تكون ردة فعلٍ تجعلهم ينصرفون إلى السياسة بكليتهم؛ لأنهم إن فعلوا ذلك سيفقدون مشروعه حقًّا. 4 - ما زال الوقت مبكراً حتى نسمي ما قدمته هذه الثورات نجاحاً، ونحن ننظر مع إشراقة كل يوم إلى غمام جديد يتساقط عن وجه الشمس.

الثبات يا شعب ليبيا

الثبات يا شعب ليبيا راغب السرجاني هل نحن في حلم؟! إن ما نراه في عالمنا العربي في هذه الأيام هو أغرب من الخيال في تصورات الكثيرين .. ولو رجعنا بأذهاننا شهرين أو أكثر قليلاً، وقبل بداية ثورة تونس من المستحيل في عُرْف المعظم أن تحدث مثل هذه الثورات المجيدة في تونس ومصر وليبيا، وأن تصاحبها ثورات أخرى في عدة بلدان عربية في آنٍ واحد. إنني - والله - أرى رحمات ورحمات تنزل من الله الكريم على الأمة العربية في هذه الأيام .. نعم هناك آلام ومعاناة، لكن منذ متى والشعوب تتحرر دون ألم ومعاناة .. إنها سُنَّة ماضية لا خُلْفَ فيها .. نجحت تونس .. ونجحت مصر .. وقريبًا ستنجح ليبيا إن شاء الله .. في قلبي يقين بذلك .. أكاد أرى نصرها .. وأكاد أرى ذلّ القذافي وبطانته .. أيها الشعب الليبي الحبيب .. الثبات الثبات؛ إنما النصر صبر ساعة .. لست وحدك يا شعب ليبيا الأصيل .. بل كلنا نعاني معك, ويعتصر قلوبنا الألم لألمك، والحزن لحزنك، وننتظر نصرك مثلك تمامًا أو أشد .. فأنتم منا ونحن منكم، وطريقنا وطريقك واحد، وأيدينا مرفوعة إلى الله دومًا أن يُنزِل عليك السكينة، وأن يُهلِك عدوَّك وعدو المسلمين. لقد عشنا - يا شعب ليبيا العظيم - في مصر ظروفًا مشابهة لظروفكم، ومنَّ الله علينا بأكثر مما كنا نحلم به، وما زالت أفضاله ورحماته تتنزَّل علينا، وقد أردت في هذا المقال أن أتبادل معكم بعض النصائح من واقع خبرتنا في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر، ومن واقع تجربتنا المشابهة لتجربتكم، وأسأل الله أن يعطيكم أفضل مما أعطانا، فهو الكريم سبحانه لا تنفد خزائنه .. أولاً: اعلم أيها الشعب العظيم أن النصر من عند الله، وأن كل شيء بيده سبحانه، وأن طواغيت الأرض جميعًا لا يعجزون الله، ولكنه يؤخر النصر لحكمة، وإلاّ فإنه يقول للشيء كن فيكون، ونحن لا نحيط بحكمته، ولا نحصي فوائد فعله وتقديره، ولكنه - سبحانه - يُطلِعنا على طرف من حكمته في تأخير النصر؛ حتى تصح عبادتنا وتستقيم له سبحانه .. فمن حكمة تأخير النصر الاختبار للمؤمنين، فلو كان طريق النصر ناعمًا لسار فيه الخلق أجمعون، لكنه شاء - سبحانه - أن يجعله صعبًا عسيرًا طويلاً حتى يتخلف عنه المتخاذلون، فلا يبقى فيه إلا العباد الخالصون المخلصون، وعليهم سينزل نصر الله بإذنه تعالى. ومن حكمة تأخير النصر انتقال فريق من الظالمين إلى معسكر المؤمنين، فيكونون بذلك عونًا لهم بإذن الله، ويستنقذهم الله من عقاب الظالمين، وهذا نراه كل يوم في ليبيا، حيث تتوافد مواكب الخير، ويترك الكثير من جند الظالمين مواقعهم الأولى إلى مواقع أخرى جديدة ما عهدوها قبل ذلك، وهذه رحمة بهم وبالمؤمنين. ومن حكمة تأخير النصر أن الله يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ولعل المُطالِع لنهاية الرئيس حسني مبارك يفهم هذه الحقيقة جيدًا، وقريبا إن شاء الله سترون نهاية فاجعة للقذافي، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون. إنها حِكَم كثيرة من وراء تأخير النصر، لكنه في النهاية يأتي بإذن الله، ولتعلموا أن النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة، بل يأتي عندما يصل الناس إلى حالة من الألم والفزع، يظنون فيها أن النصر لن يأتي، فعندها ينزل برحمة الله .. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

أيها الشعب الليبي العظيم، إن قناعتكم بأن النصر من عند الله هي التي ستكون سببًا في سرعة نصركم بإذن الله، ولو اعتقدتم في أعدادكم أو عُدَّتكم، أو الغرب أو الشرق، فإن النصر سيبتعد، وقد يذهب بالكلية؛ فكونوا على حذرٍ، وراقبوا قلوبكم، وأخلصوا لله، وارفعوا أيديكم له، واعتمدوا عليه، واطلبوا منه؛ فهو كاشف النصر ومزيل الهم، وهو على كل شيء قدير. ثانيًا: أيها الشعب العظيم، وحِّد صفك، واجمع شملك، وكونوا جميعًا يدًا واحدة على الظلم .. لقد حرص الظالمون الذين حكمونا على تقسيمنا شيعًا وقبائل وفِرقًا وجماعات، ودسُّوا بيننا الضغائن، ووضعوا بعضنا عينًا على بعض، وكان هذا سبيلهم في قيادتنا ووسيلتهم في السيطرة علينا .. فإذا أردنا سبيل النجاة، فإن هذا لا يكون إلا بالوحدة، والاعتصام بحبل الله المتين .. يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. فعلى قادة العشائر الليبية، وكذلك على المفكرين والعلماء والدعاة ورءوس القوم، أن يجتمعوا ليل نهار لتنظيم الصفوف الليبية في كيان واحد مواجه لهذا الطاغوت القذافي، ولننبذ أي خلاف، ولنترك كل القضايا الفرعية مهما اختلفت توجهاتنا ومدارسنا ومناهج تفكيرنا، ولنجعل لنا جميعًا هدفًا واحدًا جليًّا واضحًا، وهو إسقاط النظام الفاسد برمته، وبعدها يمكن أن نجلس مرة ثانية لنتفاهم على مستقبل ليبيا وطرق صياغته، أما الآن فلا نشتِّت أنفسنا، ولا نفرِّق جمعنا، بل نقف جميعًا في خندق واحد، وعندها سينزل نصر ربنا إن شاء الله. ثالثًا: الظالمون ضعفاء للغاية! هذه - والله - حقيقة غابت عنا السنوات الطوال .. لقد غادر زين العابدين بن علي تونس في وقت كان العالم كله يظن فيه القوة، ويراه جبارًا من كبار الجبارين في الدنيا. وتنحى حسني مبارك بعد ثمانية عشر يومًا فقط من الثورة المصرية السلمية، ولم تنفعه الأوتاد التي دقّها في أعماق أرض مصر على مدار ثلاثين سنة! إن الظالمين في غاية الضعف! وما المتاريس التي يضعونها حولهم، وعشرات -بل مئات- الآلاف من الجنود التي يحيطون أنفسهم بهم إلا علامة على شدة جبنهم وضعفهم. والسؤال الذي سيقفز إلى الذهن مباشرة: كيف يحكم هؤلاء الضعفاء شعوبًا كبرى لعشرات السنين؟! والجواب أن الشعوب لا تدري مصدر قوتها، ومن ثَمَّ استطاع هذا الطاغوت الضعيف أن يتسلط على شعبٍ لا يعرف مفاتيح قوته .. وما هي مفاتيح القوة للشعب؟ إنها في النقطتين اللتين ذكرناهما في البداية .. قوَّة ارتباط بالله, وقوَّة وحدة في الصف .. لو ارتبط الشعب بصدق بالله، ولو وحَّد صفه وصار يدًا واحدة في مواجهة الظالمين، فعندها ستُزلزل عروش المتكبرين وسيكتشف الأسد -الذي رُبِّي على أنه حمل وديع- أنه من أقوى الأسود، وسيفر الظالم فرار الجرذان، وإن غدًا لناظره لقريب! رابعًا: أحيانًا يشعر الثوار أن قُواهم قد بدأت تخور، وأن عزيمتهم على وشك الانهيار .. تذكروا عندها أن عدوَّكم يعاني من مثل معاناتكم؛ فالله يقول: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104]. فلو صبرتم قليلاً لانهار عدوكم قبل انهياركم، خاصةً أنكم تجاهدون من أجل حق، وهو يقاتل من أجل باطل؛ فأنتم تطلبون رضا الله بوقوفكم في وجه السلطان الجائر، وهو يطلب سخط الله بظلمه الذي زاد على أربعين سنة؛ ولذلك قال الله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]. فهم لا يطمحون في جنة، ولا يبحثون عن غفران، إنما هم قوم فاسقون، عاشوا للظلم والفساد، ويريدون أن يموتوا على نفس الحال، فتعسًا لهم .. !!

خامسًا: انشروا روح الأمل والتفاؤل بين الناس, وعيشوا في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تطمئن قلوبكم، وتبشركم بمستقبل واعد لهذه الأمة, وإياكم والإحباط؛ فإن المحبَطين لا يُغيِّرون، واليائسين لا ينتصرون. وعليكم بنشر أخبار انتصاراتكم ولو كانت جزئية يسيرة, وتناقلوا أخبار معاناة عدوكم, وكذلك أخبار تحلُّل قوتهم وانفصال الأفراد والهيئات عنهم. كما أن عليكم أن تتابعوا لهفة المسلمين عليكم, وتأييدهم لكم, وقَلَّ الآن أن تسمع خطبة جمعة أو درس إلا ويكون في ختامه دعاء لكم, كما أن صورتكم في عيون الغرب صارت عظيمة, ولقد كنتُ في إيطاليا منذ عدة أيام, ورأيت انبهار الشعب الإيطالي بشجاعتكم, ومع أن برلسكوني صديق للقذافي, إلا إن هذا لم يمنع وسائل الإعلام من إبداء استنكارها الشديد لجرائم القذافي البشعة, وهذا كله يصبُّ في النهاية في مصلحتكم, فأبشروا. سادسًا: استلهموا تاريخ أجدادكم الأشاوس, لقد حارب أجدادكم الكرام عدوكم الإيطالي السنوات والسنوات, وقدموا الشهداء والتضحيات، وأذاقوا الجيش الأوربي آلامًا عميقة، ويكفي أن تراجعوا قصة جدكم الشهيد عمر المختار رحمه الله؛ لتروا كيف تحقَّق لكم النصر في النهاية بعد رحلة طويلة من الجهاد والكفاح. لقد رأيتم في تاريخكم أن النصر يأتي مع الصبر, فاقرءوا تاريخكم جيدًا، بل واقرءوا تاريخ كل حركات التحرر في الدنيا, فهذا - لا شكَّ - سينفعكم أشد النفع. وأنصح أيضًا بقراءة متأنية لثورة تونس ثم ثورة مصر؛ فالظروف تتشابه في أمور كثيرة, وجميل جدًّا أن تبدءوا من حيث انتهى الآخرون, وأن تستفيدوا من إيجابياتهم, وتتجنبوا سلبياتهم .. وعمومًا فقراءة التاريخ تضيف إلى أعمارنا أعمارًا، وتضع لنا في طريق المستقبل أنوارًا. سابعًا: اعلموا أن من يقوم بنصف ثورة فهو يحفر قبره بنفسه! فلا بُدَّ لكم - وليس لكم اختيار- من إكمال المسيرة، ولا بد أن تضعوا هدفًا واحدًا واضحًا أمامكم, ولا تكثروا من الأهداف فتتشتتوا, وهذا الهدف الواحد هو إقصاء القذافي عن الحكم, ولا تفكروا في شيء آخر الآن, ولا تكثروا من الرموز التي تريدون إسقاطها, ولا الأحلام التي تريدون تحقيقها؛ حتى لا يأخذكم عدوكم في مسالك متشعبة, أو طرق جانبية. ولعل هذا الدرس كان من أروع الدروس في الثورة المصرية حيث كان هدف إقصاء الرئيس حسني مبارك هدفًا واحدًا واضحًا للثورة, وتهاوت إلى جواره الأهداف الأخرى من الإصلاحات الكبيرة والصغيرة؛ ولذلك لم يستطع النظام أن يضحك على الشعب أو يخدعه، فلم تسكن حركة الثوار أو تهدأ عندما بدأ الرئيس في نزع بعض رموز السلطة من أماكنها، أو القيام ببعض التعديلات والتطويرات, وإنما كانت الرسالة واضحة, وهي أن لنا مطلبًا واحدًا, وبعده يمكن أن نتكلم في بقية الأمور. واعلموا أيها الشعب العظيم أن بقاء القذافي في كرسيه سيعني مجزرة أكبر من التي حدثت عشرات المرات؛ فلا تتركوه في مكانه أبدًا. ثامنًا: احترسوا من الغرب الأوربي والأمريكي ..

إن زعماء هذه الدول الاستعمارية ما يبحثون إلا عن مصلحتهم, ولا يعنيهم في شيء المعاناة التي تعيشونها وقد كانوا هم أشد العون لكل الزعماء الدكتاتوريين في العالم العربي, وما صرحوا بأنهم معكم إلا عندما وجدوا أن ورقة القذافي أو غيره من الزعماء فد صارت محروقة وتالفة, ولو بدا لهم أن القذافي متمكن من الأمور لما قرروا حربه. ويكفي أن تراجعوا تصريحات أوباما المضحكة أثناء الثورة المصرية, فهو مع اختيار الشعب اليوم, ثم مع الرئيس مبارك غدًا, ثم مع الشعب بعد غد, ومرة أخرى مع الرئيس مبارك! هكذا حسب الظروف! والمضحك أن الزعماء الأوربيين كانوا يترنحون خلفه يمينًا ويسارًا, وما جهروا جميعًا بعظمة الثورة المصرية إلا بعد أن سقط النظام ونجحت الثورة!! ولو كان عمر سليمان هو الذي سيطر وحكم لوضعوا أيديهم في يده, فلا تكترثوا بتعليقاتهم، إنما اعتمدوا على ربكم ثم على قوتكم ووحدتكم. كما لا ترعبوا أنفسكم باحتمالية دخول الغرب إلى بلادكم,؛ فالغرب يعاني من فشل في العراق وأفغانستان وفلسطين، ولا أعتقد أنه يمكن أن يدخل عسكريًّا عندكم, خاصة أن الأحداث ساخنة حولكم, من الشرق في مصر, ومن الغرب في تونس, فلا داعي لبث القلق والفزع في صفوف الشعب دون داعٍ مهم. وإياكم إياكم أن تفتحوا أنتم لهم الباب, فلا تقبلوا عونًا عسكريًّا من أوربا أو أمريكا، مهما كان الأمر, وضعوا نصب أعينكم الحكمة العربية القديمة: "ما حكَّ جلدَكَ مثلُ ظُفرِك, فتولَّ أنت جميع أمرك". تاسعًا: دائمًا عيشوا وفي أذهانكم صورة مستقبلكم السعيد إن شاء الله، لو تخلصتم من هذا الطاغية .. إننا الآن في مصر نحقق -بفضل الله- نجاحًا كل يوم، ونكتشف فسادًا في كل لحظة, ولا نستوعب حجم الخير الذي فتحه الله لنا، فعيشوا على هذا الأمل .. إن أموالكم منهوبة، وأفواهكم مكممة, وبلادكم ضعيفة, وحرياتكم مقيدة, وشبابكم عاطل, وكل هذا بسبب نظام فاسد ظالم لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة .. إن مجرد التفكير في المستقبل السعيد عندما تُرفع غُمَّة القذافي ونظامه عنكم، ستعطيكم شحنة هائلة من القوة والثبات. ويكفي أن تطالعوا أخبار مصر يوميًّا؛ لتروا الخير العميم الذي بدأنا نعيشه من أول لحظات خروج طاغيتنا, فاللهم عجِّل فرجكم. عاشرًا: اعلموا - أيها الشعب الليبي الأصيل - أن نجاحكم لن يعود عليكم أنتم وحدكم بالخير, بل سترون الدول هنا وهناك تحذو حذوكم, وتقلد تجربتكم، ولا تستبعدوا وحدة رائعة بين كثير من دول العالم العربي والإسلامي، وهذا كله سيكون نتيجة عملكم وجهادكم وثباتكم، فكونوا أنتم السابقين، وضعوا أمام أعينكم قول الله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] فاللهم اجعل هذه الثورة في ميزان حسناتكم, واجعل كل الثورات التي تحدث بسببها في ميزانكم كذلك. كانت هذه هي النصيحة العاشرة .. فتلك عشرة كاملة! أسأل الله أن ينزل عليكم ثباتًا من عنده, وأن يستعملكم لنصرة دينه, وإحقاق الحق, وإزهاق الباطل, وأن يخلص نياتكم, ويصلح أعمالكم, ويحسن خواتيمكم, ويهلك عدوكم, ويشفي صدوركم وصدور المؤمنين .. إنه ولي ذلك والقادر عليه .. وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

حديث عن المستقبل

حديث عن المستقبل محمد العبدة الخميس 3 جمادى الأولى1432هـ تتسارع الأحداث العالمية في كل يوم، فلا أحد كان يتوقع ما يجري من أحداث في تونس ومصر وقبل هذا لم يتوقع أحد سقوط الإتحاد السوفييتي بهذه السرعة، ولم تطل مدة زهو الغرب بانتصار الليبرالية والرأسمالية، فما لبث صاحب كتاب (نهاية التاريخ) أن تراجع عن هذه الفكرة، ونهاية التاريخ عنده هو استقرار الليبرالية الغربية وأنه لا مرد لها، وسرعان ما أدى اقتصاد (السوق) إلى نتائج غير متوقعة، وبدأت الكوارث الاقتصادية في أوروبا قبل غيرها (اليونان، إيرلندا والبرتغال ... ) وبعد ثورة المعلومات والاتصالات هل يمكننا التحدث عن المستقبل؟ إن أصحاب الدراسات المستقبلية يتكلمون بحذر عندما يطرقون هذا الموضوع، وكانوا في السابق أصحاب جرأة ويتحدثون عن المستقبل البعيد، يقول الخبير العالمي (جون نايسبت): "لا أعتقد أن أي شخص يمكن أن يعرف بالتفصيل ما سوف يحدث بعد خمس سنوات من الآن، إن ذلك يعتمد إلى حد كبير على ما سوف يحدث اليوم، ثم في السنة التي تليها، ثم التي تليها، ويتشكل كل ذلك بملايين المتغيرات" ورغم هذا الحذر في الحديث عن المستقبل، ورغم واقع المسلمين الضعيف إلا أنه لا بد من التطرق إلى هذا الموضوع، فهناك فرص كثيرة للذين يفكرون أن في استطاعتهم إحداث تغييرات لمصلحة الأمة ثم إن هذا الحديث مما يساعد على بناء الحاضر، وهو من باب الإعداد والتخطيط، وليس من باب الرجم بالغيب، فالمستقبل يعني عدم الإذعان للواقع المرير، وعدم الإذعان للشعور المحبط المأساوي، والمسلم لا يفقد نظرته المتفائلة رغم كثرة الشر، وعندما يذكر القرآن الكريم تداول الأيام بين الناس فإنما يبذر في النفس إحساساً عميقاً من اليقظة التاريخية المستقبلية، والكتاب الكريم عندما يقص علينا قصص الأنبياء، فهو لأخذ العبرة وللإعلام بما ستراه هذه الأمة بعد عصر الرسالة، وفي مستقبل الأيام، والأمة الإسلامية أمة غير منقطعة لأنها موصولة بماض عريق من دعوة الأنبياء. بعد نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ذهب مع السيدة خديجة رضي الله عنها، ليقص على ورقة بن نوفل ما جرى له في غار حراء، قال ورقة بعد أن سمع من محمد صلى الله عليه وسلم "هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك" فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أومخرجي هم؟ " قال: "نعم"، ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي. كيف توقع ورقة أن قريش ستخرج محمدا صلى الله عليه وسلم من مكة، لأنه بنى على التجربة السابقة للأنبياء وتحدث عن المستقبل بوثوق وتمكن. وفي غزوة الأحزاب بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بفتح بلاد كسرى وقيصر، مع أن المسلمين في تلك المعركة كانوا في حالة خوف وزلزلة، ولكنه تداول الأيام وانتصار الحق على الباطل، وكأن المبشرات لا تأتي إلا عند اشتداد الأزمات. ومن التخطيط للمستقبل من خلال معرفة الواقع ما رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس"، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل. والغاية من هذا الإحصاء هو أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد معرفة الطاقات والإمكانات الموجودة ليطمئن على ذلك فالتخطيط السليم يبنى على المعلومات الدقيقة.

وعندما كتب ابن خلدون عن علم العمران، ذكر أن من فوائده معرفة الواقع (والمنتظر) وكأن الذي يتقن هذا العلم يمكن له أن يستشرف المستقبل ويتوقع ما تأتي به الأيام، ولعل أهم علامة مميزة لمفكر هي رؤيته المستقبلية لأنه يرى ما لا تستطيع العقول الصغيرة أن تتصوره، وقد يكون ما نتوقعه يحدث ببطء، وقد يكون هناك مفاجآت لأن المتغيرات كثيرة، ولكن كما يقول الجاحظ: "إنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور واستشفافهم ما تجيء به العواقب، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، أما معرفة الأمور عند تكشفها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول والعالمون والجاهلون" لا شك أن الحديث عن المستقبل يشكل تحدياً كبيراً، ولكن محاولة تصوره أفضل من داء الارتجال الذي نعاني منه، فلا إعداد للأمر عدته، ولا أخذ الأهبة والاحتياط للأمر قبل أوانه، ولكنه الارتجال على ضوء الحاضر، وأبسط مثال عل ذلك هو تخطيط المدن في بلادنا فبعد أن تتوسع المدينة توسعاً كبيراً، يتذكر القائمون على إدارتها أنه لا بد من حفر الشوارع وتخريبها لتمديد الكهرباء والماء ... ولا نتكلم عن هدر الطاقات في ميادين التربية والثقافة والاقتصاد، وهدر الطاقات في ميادين العلم والدخول إلى الحضارة التي أساسها عندنا هو الدين. هل كنا بحاجة إلى ذكاء شديد لنتوقع ماذا سيحدث بعد سقوط بغداد؟ وهل من الصعوبة توقع ماذا يريد الغرب عندما يلح على انفصال جنوب السودان؟ ليس بالأمر العسير معرفة هذا، ولكنه عدم التبصر في العواقب. قد تكون صورة الأوضاع في الواقع الحالي قاتمة ولكن لا ينبغي أن يتسرب اليأس إلى نفس المسلم، فاليأس شر سلاح يفتك بالإنسان، ولا ينبغي أن يتوقع المسلم كل يوم شراً، فمستقبل الشعوب لا يُرسم وكأن العالم لن يتغير، فالتقدم والتأخر منوط أيضاً بمشيئة الإنسان التي هي ضمن مشيئة الله {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37] فالعمل اليسير قد يقوم به عدد قليل من البشر، ولكنهم يصنعون مستقبلاً، فالتجار الحضارمة والعمانيين الذين وصلوا إلى جزائر إندونيسيا كان من آثار رحلتهم أن أسلم أهل تلك البلاد والسفن التي كانت تتاجر بالعبيد في إفريقيا وأمريكا، كان من نتائجها أن يوجد اليوم في أمريكا مليونا مسلم من الأمريكيين السود ولهم تأثير في مجرى الأحداث هناك. إن فريضة الحج فرصة نادرة للالتقاء بين المسلمين ولها من الجذب والتأثير ما يفوق أي عمل بشري، وهذا من أسرار هذه الفريضة العظيمة "فقوافل الحجاج في الماضي والحاضر تشق أرجاء العالم الإسلامي في مسيرة لا تتوقف ولا تبالي بالعقبات، فقد كان حجاج بيت الله من الأندلس والسودان والصين والملايو وكأن قوافل الحج كانت أسلحة محاريث تشق الأرض الإسلامية وتقلب تربتها، وتأذن لشمس العقيدة أن تتخللها في عمق، وتبعث فيها الحياة" يملك المسلمون أشياء كثيرة، ولكنها بحاجة لمن يستفيد منها ويستغلها، فالموقع الجغرافي في وسط العالم له تأثيره وميزاته، وخاصة بوجود الأماكن الإستراتيجية كالممرات المائية المعروفة يملك المسلمون ثروة فقهية (قانونية) لا نظير لها في تاريخ البشرية، تبحث في تفاصيل حياة الإنسان، وفيها من المرونة ما يتسع لكل مشكلة طارئة. يقول المستشار القانوني طارق البشري متحدثاً عن هذه الثروة: "إن العبقرية الإسلامية تدهشني في هذا المجال، فأنا حتى اليوم وبعد ما يقرب من نصف قرن في العمل في القضاء أشعر أني ما زلت تلميذاً عند هؤلاء القوم (الفقهاء) "

يعيش العالم تخبطاً فكرياً واقتصادياً واجتماعياً، فمن الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ومن البنيوية إلى التفكيكية، يقول الباحث الأمريكي (دانيال بل) عن الحداثة: "لقد وصلت إلى منتهاها، إلى نهاية الشوط التاريخي، ولم تحقق السعادة للبشر بالرغم من شيوع السلع وتوافرها، مما أدى إلى العودة للبحث عن (الإشباع الروحي) .. "ومذهب التفكيكية في الأدب هو الفوضى الشاملة، لأن المعرفة في نظرها كيان متغير، دائم التحول في دوامة الصيرورة، وأنه من الاستحالة تثبيت معنى واحد للكلمة، بل لها معانٍ تتكاثر وتنتشر بلا حد، وهذا المذهب هو التخريب بعينه لأنه تشكيك في الأفكار واللغة والنص والسياق وفي الاقتصاد وبعد أن هيمنت نظرية (السوق) والرأسمالية المتوحشة، سقطت كثير من الدول في المديونية والإفلاس، وخضع القرار السياسي للقرار الاقتصادي. هل يستطيع المسلمون أمام هذا الاضطراب في الأفكار أن يقدموا شيئاً قوياً للإنسان وللإنسانية في الفكر والسلوك والأعمال الاجتماعية؟ إن واقع المسلمين ينبئنا على أن هناك بعض المبشرات: 1 - فشل الأفكار التي غزت المنطقة: كانت المنطقة العربية في عمومها وكأنها محطة تجارب لأفكار مستوردة، نبتة غريبة أرادوا زرعها في أرض غير أرضها، وإذا صلحت في مكانها فهي لا تصلح في مكان آخر، جربوا الليبرالية والقومية العنصرية والاشتراكية ... وقد فشلت كل هذه الأفكار على أرض الواقع والتطبيق العملي، وكان من نتائجها كوارث كبرى أصابت المنطقة. ومنها كارثة 1967 فيما سمي بحرب الأيام الستة بين إسرائيل والدول العربية المحيطة بها، حيث خسرت هذه الدول صحراء سيناء والضفة الغربية والجولان، وكذلك كارثة 1991 حين استولى العراق على أرض الكويت، وما تبع ذلك من انقسام في العالم العربي، وتدخل الغرب وفرض الحصار على العراق. وهذه الأفكار المستوردة كانت أفكاراً هجينة، فلم تكن الليبرالية العربية هي ليبرالية الغرب، ولا الاشتراكية العربية هي اشتراكية بعض الدول والأحزاب في الغرب، وإنما هي صورة مشوهة مختلطة بالفساد الإداري والنزعات العائلية والقبلية والصراع بين المدينة والريف، عدا عن أنها أفكار هي في الأصل مضادة لعقيدة الأمة وتطلعاتها، وكان البديل هو الإسلام، فالناس يريدون حكاماً لا ينهبون خيرات البلاد، ويريدون حكاماً يعملون لصالح أوطانهم كما حدث في تركيا بعد أن عاشت عقوداً من العلمانية المتطرفة ومصداق ذلك نتائج الانتخابات في أي بلد عربي إذا أجريت بنزاهة وتجرد.

2 - تراجع العولمة: العولمة كفكرة هي في الغالب مبدأ للهيمنة الاقتصادية، ولا بد أيضاً من الهيمنة الثقافية التي تخدم الاقتصادية، وقد بدأت بالشركات الكبرى متعددة الجنسية، وكذلك مؤسسات النقد العالمية في أمريكا، والعولمة الثقافية تحاول فرض (التغريب) على شعوب المنطقة، وهذه العولمة وإن كانت قد فرضت نفسها على الواقع في كثير من المناطق في العالم وهي مستمرة، ولكنها لم تنتشر وتتقوى كما كان يخطط لها أصحابها أو كما يتصورون، والمعارضة لها قوية خاصة من الذين يريدون الحفاظ على البيئة، والمسلمون يمكن أن يستفيدوا من العالمية لا من العولمة فرسالتهم عالمية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] والعالم واسع، والعالم ليس الغرب فقط، العالم مفتوح للدعوة بالحسنى، الشرق الأقصى بكل دوله له مكانته الآن، البلدان التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي أكثر سكانها مسلمون، وهي مجال حيوي لإستراتيجية إسلامية، عندما يحمل المسلم نفسية العالمية وعندما يملك المعرفة والشجاعة، فستكون القارات الخمس من مجاله الدعوي، وسنرى أن هناك جوانب عقدية وسلوكية تفتح للمسلم منافذ للقوة والرزق، وفي العادة فإن المغامر لا يكون من غثاء الناس بل هو الذي يحوّل المكان لخدمته، وإن سنة التدافع تجعل المسلم في المشاركين في موجات التاريخ وأن يقدم نموذج الإنسان الذي تخلص من أمراض الحضارة المعاصرة، وهو النموذج الذي تفتقده البشرية اليوم، حيث تعاني من الرأسمالية المتوحشة كما تعاني من الاتجاهات المادية وتغوّل الدولة على الفرد. 3 - ظاهرة النمو السكاني: من عوامل قوة الدول كثرة سكانها، وكان من مظاهر ضعف الدولة العثمانية في أواخر أيامها قلة السكان وفي الوقت نفسه كان الانفجار السكاني في بريطانيا الذي رافق النزعات الاستعمارية عند الأوروبيين، وكان من نتائجه الهجرة إلى أمريكا وأستراليا وتكوين دول ومستعمرات، وفي العصر الحديث لا شك أن أحد أسباب النمو الكبير في اقتصاد الصين هو كثرة سكانها. وقد يقال أن الكثرة ليست دائماً مؤشراً على القوة، وهذا صحيح، ولكن هذه الكثرة مع التعليم والتدريب العالي وتوفر العدالة الاجتماعية، وزرع الثقة في النفوس كل ذلك سيجعل في الكثرة قوة صالحة. تعاني أوروبا اليوم من النقص من عدد السكان، وتحاول التعويض عن ذلك باحتكار التفوق التكنولوجي والعسكري، ففي عام 2000 للميلاد كان عدد سكان أوروبا 728 مليون وسيصبح هذا العدد 600 مليون عام 2025م، وهذا يعني نقصاً في الأجيال الشابة، المسلمون اليوم هم أكثر من خمس سكان العالم، ونسبة الشباب في هذا العدد الكبير هي المتفوقة على الشعوب الأخرى، وهذا مؤشر لتنمية قوية تعيد للمسلمين دورهم الإيجابي في العالم.

4 - ردة الفعل على المواقف الموتورة من الإسلام: المواقف التي تظهر بين الحين والآخر ضد الإسلام والمسلمين، سواء كانت رسمية أو من جهات مؤسساتية، وسواء كانت ظاهرة مكشوفة أو مخفية، وآخرها محاولة حرق المصحف في أمريكا، هذه المواقف زادت المسلمين حرصاً وتفانياً على دينهم، وجعلتهم ينتبهون إلى شيء لم يحسبوا حسابه، وهذا مما أدى إلى الرجوع إلى هويتهم وثقافتهم وحضارتهم. وإن إصرار طفلة في فرنسا على ارتداء الحجاب وتحديها للسلطات الفرنسية ليعد حدثاً قوياً، وهذا التأييد الأعمى للصهيونية من قبل أمريكا والغرب وهذا الاحتلال لبلاد المسلمين، مما زاد في التحديات التي تصقل شخصية المسلم، وتعيده إلى الواقع الحقيقي لمجرى الأحداث، وليفكر كيف تكون الحلول المناسبة. نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية مقالاً بعنوان (بوش والحرب) ذكرت فيه أن الرئيس الأمريكي كان متأثراً بدوافع دينية تجاه المشرق الإسلامي، وهو يبدأ نهاره بقراءة من كتاب (مختارات دينية) وقد أصبح معلوماً أن أحد أسباب تأييد رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) للحرب على العراق هو الدين. لا يتجرأ إعلامي في الغرب على تفسير الكتب المقدسة لدى البوذي أو اليهودي مثلاً، ولكن كل إعلامي أو سياسي هناك لديه الجرأة على أن يفسر الإسلام، بل ويفسره حسب أهوائه للمسلمين؟! كل هذا مما ساعد على اتضاح الصورة أمام المسلمين ليكونوا على بينة من أمرهم، هذا مع وجود من يرى أن السبيل الصحيح هو الحوار القائم على التفاهم واحترام خصوصيات المسلمين، وهم قلة، وهذا مما دعا وزير الثقافة الفرنسي ليعتذر للشعب التونسي عن تأييد حكومته للديكتاتورية التي كانت تحكم تونس سابقاً. 5 - الإعلام: عندما ظهرت قوة الإعلام في السنوات الأخيرة تخوف بعض الناس من هذا التطور الجديد، وذلك لأن هذا الإعلام إخطبوط كوني يمتص كل شيء، ويجرد ضحاياه من القدرة على التفكير المستقل، والقدرة على النقد والحوار الصادق الجريء، فهو يبث من طرف واحد، وصاحب الثروة الكبيرة يستطيع أن يسخر هذا الإعلام لمصلحته أو مصلحة فئته أو حزبه، ولكن هذه النظرة للإعلام والتخوف منه قد تتغير بعد أن استطاع المسلمون الاستفادة من (الإنترنت) وإنشاء المواقع القوية الجيدة، ومن خلال هذه الشبكة يستطيع كل إنسان أن يبدي رأيه أو يحاور الطرف الآخر، وهكذا ظهرت الحوارات الكثيرة عن الإسلام وتعرف الناس في البلاد العربية على أمور كانوا يجهلونها من خلال بعض القنوات الفضائية، وكانت ممنوعة عنهم بسبب الأنظمة الاستبدادية. 6 - الرجوع إلى التدين وزوال العصر الصناعي: أصاب الغرور كثيراً من علماء أوروبا وفلاسفتها في القرن التاسع عشر، وذلك حين ظنوا أن التقدم العلمي سيحل كل مشاكل الإنسان، واقترن هذا الغرور بالإلحاد والمادية واللأدرية كما نجده عند (فيور باخ) و (ماركس) و (داروين) و (نيتشه). فماركس يعتبر أن الدين له دور سلبي، فهو إلى جانب الرأسمالي الذي يستغل الطبقة العاملة وأن الطبقة الفوقية تستعمل الدين كمخدر تبريري لأعمالها. ولكن العلماء في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين عادوا ليطمئنوا من هذا الغرور، عاد عباقرة الرياضيات والفيزياء من أمثال (ماكس بلانك) و (ألبرت آينشتاين) ليقولوا: إن التعبير عن الحقيقة يزداد صعوبة وأن الاحتمال هو أعلى درجات اليقين، وأن العلم أعرج من دون دين، والدين هو الذي يقرب من الحقيقة.

وفي كتابه الشهير (الموجة الثالثة) تنبأ (توفلر) بزوال الليبرالية الغربية خلال العقدين القادمين، كما زالت الشيوعية، بما أن كلاً من الليبرالية الغربية والشيوعية هي من نتاج القرن التاسع عشر، أي نتاج العصر الصناعي الذي ينتهي اليوم ليحل محله عصر ما بعد الصناعي، عصر توزع جديد للسلطة على مستوى العالم يطال جميع الألوان والأعراق والثقافات. يتساءل الكاتب (دين هامر) في كتابه ( The God Gene) كيف يتمركز الإيمان في نفوس البشر؟ لماذا يكون للروحانية هذه القوة وتلك السيطرة على العالم؟ ويصل في بحثه إلى أن الروحانية أو على الأقل جزء منها تتمركز في حياتنا الوراثية، ولو أطلع المؤلف على القرآن الكريم لعلم أن ما يبحث عنه هو الفطرة التي ذكرها القرآن الكريم، وهو الميثاق الذي جاء في الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ... } [الأعراف: 172] وهذا الذي ذكرناه عن التحولات في الغرب لا يعني أن تقدم المسلمين مرهون بانهيار الغرب، ويجب على المسلمين ألا ينتظروا تدهور الغرب حتى يخططوا للمستقبل، فإن الغرب رغم ابتعاده فعلاً عن الأسس التي قامت عليها حضارته، ورغم ما يكتبه بعض مفكريه الحريصين عليه والذين يشعرون بخطر التراجع عن القيم والأخلاق التي ترسخ الحضارات، ورغم تراجع الحرية التي أعطت الغرب قوته، فإنه يحاول دائماً إصلاح نفسه وتدارك أخطائه، وتدارك الأخطار التي تحيط به. هذه المبشرات لا تعني المستقبل الواعد، لأن المستقبل مرهون بوجود مرتكزات أساسية، سواء كانت موجودة تحتاج إلى تفعيل أكثر، أو أنها لا بد أن توجد، ولا تنفع الآمال دون عمل، ولا ينفع التفاؤل المفرط دون الأخذ بالأسباب. ومن هذه المرتكزات: 1 - الاهتمام بالمؤسسات والجمعيات الأهلية التي تخدم المسلم، وأن تكون هذه المؤسسات تابعة للأمة، لأن المؤسسات الوقفية الخيرية في تاريخ المسلمين هي التي استمرت وأبقت الأمة قوية في العلم والتضامن الاجتماعي حتى لو لم تساعدها الدولة، بل رغم استبداد بعض تلك الدول وانشغالها بالصراعات الداخلية. والملاحظ أن الغرب يهتم كثيراً بهذا النوع من المؤسسات الاجتماعية والثقافية والخيرية، والتي كانت أيضاً من أسباب نهضة، ولكنه يعمل على إلغائها أو تهميشها في العالم الإسلامي. 2 - الاهتمام بالإنسان: فقد استغرق العصر الصناعي مائتي سنة ليبدأ عصر (الكمبيوتر) وأما عصر (الإنترنت) فما يزال في بدايته وعلى المسلمين أن يتهيأوا لهذا القادم، حيث أصبحت المعلومات قيمة كبيرة، وأصبحت الأدمغة البشرية المفكرة هي رأس المال الحقيقي، كانت ثروة الأمم تقاس بما عندها من ذهب أو معادن وغير ذلك من كنوز الأرض، وأما اليوم فإن الثروة هو الإنسان المتعلم المتفوق، والعالم الإسلامي يملك ثروة بشرية متعلمة، ولكنه يعاني من هجرة الأدمغة إلى الغرب بسبب سوء أحواله السياسية والاقتصادية، وفي المجتمع الإسلامي ما تزال العلاقات بين الناس يسودها نوع من التضامن والتعاون، وما تزال الأسرة متماسكة والعلاقات العائلية جيدة بشكل عام.

3 - لا مستقبل إلا بالدين: هذه الأمة أخرجت بالدين (هو الذي اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) وإن القطيعة مع الماضي هي أسوأ ما تبتلى به أمة من الأمم، لأن الماضي هو الجذور المنغرسة في حياتنا الثقافية، ومن الغريب أن أمماً أخرى وبلاداً أخرى عندما عزمت على النهوض بلورت نظامها التعليمي بالتأكيد على الهوية الخاصة بعقائدها وتقاليدها والمثال على ذلك (سنغافورة) وكان التركيز على التاريخ لأن الجهل بتاريخ الأمة يعوق الشعور بأهمية العمل، كما كان التركيز أيضاً على القيم والأخلاق العلماء في الأمة الإسلامية هم القادة، وما أتى المسلمون إلا من قلة العلماء الربانيين، العلماء الذين لا يُيئِسون الناس من المستقبل، ويفقهون أحاديث الفتن ويضعونها موضعها الصحيح وفي سياقها، فهذه الأحاديث "لم يخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلا لأجل أن يكونوا على بصيرة من مقاومة ضرها، واتقاء تفاقم شرها، لا لأجل أن يتعمدوا إثارة تلك الفتن والاصطلاء بنارها" 4 - البعد عن الخوف وعن اقتصاد التبذير: لا نستطيع التحدث عن المستقبل ونحن نعيش ثقافة الخوف وحياة السفه في إنفاق الأموال، فالأخطار الخارجية ليست هي التي تأتي بالدرجة الأولى، المشكلة تكمن في الأخطار الداخلية، "إن أفضل طريقة لمقاومة البرودة الخارجية هي أن يجري الدم في الداخل، الشجاعة تأتي من الداخل، من القلب، نتحدث كثيراً عن الهزائم التي ألحقها بنا الآخرون، وحان الوقت لكي نبدأ الحديث عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها بأنفسنا" ماذا يخاف المسلمون ولماذا يضعون أنفسهم موضع المدافع والمُحاصر، ولماذا يشعرون وكأنهم سينقرضون وهم الآن أكثر من خمس سكان العالم، ولماذا يضخمون من نظرية المؤامرة وتكالب الأعداء حيث يصبح الفرد يائساً من المستقبل ومن النهوض والتقدم. ولماذا لا يكونوا حاضرين في مراكز القرار العالمي، ويحاورون الآخرين من موقع القوة وموقع النديّة، وهم قوة حضارية لها قيمها وسبلها ومناهجها، وهم قوة سياسية واقتصادية. وإذا كان الإسلام سيصبح قوة (جيوسياسية) كما يقول الرئيس الأمريكي السابق (نيكسون): وإذا كان العالم الإسلامي سوف تكون له أهمية كبرى خلال القرن القادم وأنه قوة مستقبلية كما يقول الكاتب الروسي (سولجنستن): إذا كان هكذا فيجب ألا نرضخ لما يجري اليوم، ولا نسلم بغرق المركب، وأمريكا لن تتحول إلى إمبراطورية، لأنه ما من دولة تبتدئ بالتراجع الاقتصادي إلا وتحاول أن تغطي عن ضعفها بتركيز سياستها على التفوق العسكري، وهنا يبدأ التراجع كما يقول المؤرخ الأمريكي (بول كينيدي) إننا نعيش فترة انتقالية كبرى، وعالم الغد لا يحتمل أن تحتكره أية دولة أو كتلة من الكتل. 5 - لا بد أن يثق المسلمون بوعد الله، وأن تتسع الآمال التي هي من فطرة الإنسان، "ولو قصرت الآمال ما تجاوز الإنسان حاجة يومه، وفرق بين الآمال والأماني، فالآمال هي التي تتقيد بالأسباب، والأماني ما تجردت عنها". وإذا كان المطلوب من الإنسان تحقيق الغاية التي خلق لأجلها (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) فالإنسان يستطيع بإذن الله تحقيق المستقبل عندما يحقق الغاية. الأمة الإسلامية نجت من خطرين اجتمعا عليها: الخطر الصليبي والخطر المغولي، وخرجت بعد عشرات السنين أقوى بنياناً، ولو تعرضت أمة أخرى لمثل ما تعرضت له هذه الأمة لاندثرت وأصبحت أحاديث القصاص. الأمة الإسلامية لها وزنها وقيمتها، والله سبحانه وتعالى جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، وهذا يفرض على المسلمين مسؤولية كبيرة لمقاومة الفساد في الأرض، والإصلاح لا يتم في ليلة واحدة، والخير لا يأتي دفعة واحدة، وسنة الله في خلقه التدرُّج، والإسلام يستطيع أي يؤدي دوراً حاسماً لثقافة مضادة لثقافة العولمة، ويستطيع الإسلام مناقشة القضايا الكبرى التي تتحدث عنها البشرية اليوم (الهوية، البيئة، الاستقلال، والعولمة ... ) 6 - الاستفادة من هجرة المسلمين إلى الغرب واستقرارهم فيه وخاصةً الشباب المتعلم الذي حافظ على دينه وخلقه، وإن الانفتاح الإيجابي يستطيع أن يفعل شيئاً كثيراً، والمشاركة السياسية لحماية حقوق المسلمين سيكون لها دور في الحفاظ على الهوية كما أن التعاون مع الأغلبية في القضايا التي تحقق قيم الإسلام وقيم الإنسانية سينهي الخوف الذي تشعر به بعض الشعوب العربية بسب الأخطاء التي ترتكب باسم الإسلام، والذين أسلموا من أهل تلك البلاد يمكن أن يكون لهم دور مهم في بلادهم لصالح الإسلام والمسلمين.

التعامل مع المبتدعة في مقام الدعوة

التعامل مع المبتدعة في مقام الدعوة (1/ 4) مؤسسة الدرر السنية - القسم العلمي 28 ربيع الثاني 1432هـ مقدمة أقسام البدع خطر البدع حكم التعامل مع المبتدع هجر المبتدع أنواع الهجر صفات الهجر ضوابط الهجر أصل التعامل مع المبتدع ضوابط دعوة المبتدع ضوابط مناظرة المبتدع تنبيهات عند دعوة المبتدع مقدمة: دعوة أهل البدع إلى الحق وظيفة العلماء، لا يجوز التساهل فيها، أو التقصير في أدائها، إذ بها تتم حماية الدين وتنقيته من شائبة الباطل. وعلى من تصدى لدعوة أهل البدع أن يعرف: ما هي الأصول والضوابط التي ينبغي التزامها؟ وما هي المحاذير والمزالق التي ينبغي تجنبها؟ وقبل البدء في الموضوع، نعرج بشيء من الإيجاز على تعريف المبتدع، والبدعة، وذكر أنواعها، وخطرها، ثم ذكر حكم المبتدع، وما هو الأصل في التعامل معه؟ البدعة: هي طريقة في الدِّين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه؛ وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات. [((الاعتصام)) (1/ 21).] وهي ليست على درجة واحدة من الشر، بل هي متفاوتة. ويصنف العلماء البدعة من عدة زوايا، فمن حيث مجالها، تنقسم إلى: - بدعة اعتقادية: وهي اعتقاد الشيء على خلاف ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم، كبدعة الخوارج في اعتقادهم تكفير العصاة من المسلمين؛ وكالمجسمة والمشبهة الذين شبهوا الله بخلقه -تعالى الله علواً كبيراً. - وبدعة عملية: وهي التي تكون في المسائل الفقهية القطعية أو الظنية، كالتي تكون في العمل الظاهر، كصلاة تخالف ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الأعمال. وكلها داخلة تحت قوله -صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). [أخرجه مسلم في كتاب الأقضية.] - وبدعية قولية: وهي ما كان فيه تغيير لما جاء في كتاب الله عز وجل، ولما ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأقوال المبتدعة من الفرق المشهورة، مما هو ظاهر المخالفة للكتاب والسنة، وظاهر الفساد والقبح، كأقوال الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة والأشعرية؛ وجميع الفرق المؤولة، التي وضعت لنفسها مناهج مخالفة لمنهج الطائفة الناجية المنصورة، الظاهرة على الحق إلى قيام الساعة. ومنهم من قسمها إلى نوعين: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، والثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني. وتُقسم البدعة بحسب ما يؤول إليها صاحبها إلى: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة. وربما تخلف الحكم على المعين بالبدعة رغم قيامه بها إذا توفر مانع أو انتفى شرط؛ فالحكم على العمل أو القول لا يلزم منه تبديع المعين القائل أو العامل به إلا إذا أقيمت عليه الحجة وتوفرت الشروط وانتفت الموانع. خطر البدع: البدعة أشد من المعصية، ويرجع ضررها إلى وجوه: الأول: أن البدع مفسدة للقلوب، مزاحمة للسُّنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث). [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 281).] فهي تلبس لباس الدِّين، فيظن المنتسب لها أنها حق وأنه مأجور عليها، وبذلك فإنه يعقد عليها الكره والحب والولاء والبراء والثواب والعقاب، فتزاحم السنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة، والأعمال الفاسدة، والخروج عن الشريعة.

الثاني: أنه في مقابل كل بدعة تهدم سنة، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام أيضاً: (من أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشِّرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية). [مجموع الفتاوى (10/ 565).] لذا كان منهج المبتدعة قائما على معارضة نصوص الكتاب والسنة، كما قال شيخ الإسلام. [راجع كلامه في: درء تعارض العقل والنقل (1/ 149).] حكم التعامل مع المبتدع: المبتدع في الأساس شخص يريد الحق ويقصد التقرب وهذا الغالب في أحوال الكثير من أتباع البدع، يقول الله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، [الحديد: 27]. فالمبتدع مريد للحق لكنه ضل طريقه إليه. لذا فإنَّ أهل البدعة قد يظهروا من التنسك أو الأحوال ما يُعبِّر عن اعتقادهم الحق فيما يؤمنون به؛ ومن أجل ذلك فإن المبتدع -ما لم يكن زنديقا- يحكم له بالإسلام ويبقى شأنه وحاله أفضل بكثير ممن قصد الكفر البواح أو الشرك الظاهر. إلا أنه ونظرا لخطورة البدعة على الدِّين نفسه من حيث هو فإن المبتدع (أخطر) شأنا على الدِّين وأهل الإسلام من الكافر والمشرك، لأن البدعة تفسد الإسلام وتحرف الناس عن الحق إلى مزالق لتأويله ما يقسمهم شيعا وأحزابا. وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه عن افتراق اليهود والنصارى وهذه الأمة إلى مدى تأثير الاختلاف في الدين على وقوع كثير من الفرق في النار. لذا كان من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم حازما وصارما مع من أظهروا الغلو أو أحوال وأقوال بعيدة عن سنته، وتوعد من اتخذ هذا المسلك وحذر أمته منه. لا لشيء إلا لكي يظل الحق الذي أنزله الله ناصعا نقيا مما قد يشوبه من أهواء الناس التي وإن لبت رغبة قوم أو ذائقتهم أو وافقت آراءهم العقلية إلا أنها لن توافق قوما آخرين؛ أما الحق الذي أنزله الله تعالى فيوافق العقول السليمة جميعا وذائقة النفوس البشرية كافة ويدور في حدود طاقاتهم وقدراتهم دون تكلف وتنطع. فكم شوهت البدع -رغم نظر أصحابها إليها بالحسن- الإسلام في نظر غير المسلمين فصرفتهم إلى باطل وزهدتهم في الحق!

وإذا كان المبتدع جزءا من الكيان الإسلامي وجسد الأمة فإن حقوق الأخوة الإيمانية التي قررها الإسلام تظل محفوظة له، متمتعا بكافة الحقوق الشرعية التي فرضها الإسلام. إلا أن هنا ملحظا مهما وهي أن من طبيعة المجتمعات أن تتعامل في الجانب المادي من حياتها عند وجود الضرر والأذى من قبل شخص مريض أو مختل أن يباشروا من التدابير ما يعينهم على إزالة الضرر ورفع الأذى أو في أقل الأحوال حصرها وبما لا يخل بحق المريض أو المختل في الرعاية، مع إمكانية تقييد بعض حرياته أو إسقاط بعض حقوقه لمصلحة أكبر؛ هذه الصورة المادية تقابلها صورة معنوية في حال كان الشخص مجرما أو صاحب خلق سيئ حيث يأتي عوضا عن الحجر الصحي والعلاج المادي حَجْرٌ من نوع آخر وعلاجٌ من نوع آخر؛ وهذه السُّنة الاجتماعية لا يغفلها الإسلام في المبتدع، باعتباره شخصا (مختلا) في جانب (الدِّين) ومن ثمَّ فكما أن للجوانب الأخرى تدابيرها لصيانتها في حياة المجتمع يكون الدِّين أحق بهذه التدابير. ومن هنا يأتي الإسلام ليرسم أحكام التعامل مع المبتدع من هذه الزاوية، زاوية أن المقصود من التعامل مع المبتدع أمران: الأول: معالجة (المبتدع) وإخضاعه للتدابير التي من شأنها تحقيق العلاج لأهدافه. الثاني: صيانة (المجتمع) من الآثار التي قد تلحق به (دينيا) من البدعة ذاتها فضلا عن المبتدع. وكما هي حالات المرض، يتفاوت تقييم الإسلام للبدعة وصاحبها ومن ثمَّ يختلف تعامل المجتمع الإسلامي مع المبتدع بحسب البدعة ذاتها وبحسب تأثير المبتدع من جهة أخرى. ومن أولى أحكام التعامل مع المبتدع: 1 - بيان مخالفته للدِّين بالحجة والبرهان والدليل، وهذا ما سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك الشاب الذي أتى يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا!! ومع ذلك الشخص الذي توجه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالقول: اعدل يا محمد! 2 - نصح المبتدع وإظهار الشفقة به، مع بيان عظم ما وقع فيه وعظم الآثار التي ستترتب على بدعته؛ وهذا بالفعل ما قام به عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو يحاور الخوارج ويلزمهم بلازم مذهبهم الذي ذهبوا إليه في شأن الفريقين المتقاتلين من الصحابة. 3 - الوقوف بصرامة إزاء تحول هذه البدعة إلى مذهب يتلقفه الناس ويتخذونه منهجا؛ لذا حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من البناء على القبور واتخاذها مساجد ولعن اليهود والنصارى معرضا بهم كل من يقوم في هذه الأمة بهذه البدعة. كما واجه الرسول عليه الصلاة والسلام النفر الذين تقالوا عبادته في شأنهم لما قد غُفِرَ للرسول عليه الصلاة والسلام بالبيان والتحذير والإنكار الشديد. 4 - وفي جميع الأحوال السابقة يبقى للمرء حقوق الإسلام وعليه واجباته لا يسقط منها شيء، لذا فإنه نادرا ما كان يُقصي الرسول صلى الله عليه وسلم من جاء بأمر منكر في الدِّين، بل احتمل عليه والصلاة والسلام بقاءهم في المجتمع ولكن مع إنكاره عليهم وتحذيره مما صنعوا. فقد كان يعلم الرسول الكريم أن للشيطان مداخله على بعض الصالحين من جهة تشددهم أو فهمهم خطأ للدين أو تعبدهم لله بما يستحسنونه من حال أو هيئة؛ فإذا لم يُحسن إلى هؤلاء تحولوا إلى أعداء؛ كيف وقد صبر على أعدائه من المشركين وأهل الكتاب ومنافقي المدينة. 5 - غير أن هناك وضعا آخر تتحول معه البدعة إلى مهدد حقيقي للدين أو المجتمع وحدته وأمنه واستقراره؛ ما يلزم في هذه الحالة معالجة جادة وصارمة لذلك: أ- إن كانت البدعة مكفرة: أي أن يحدث المرء من العقائد أو الأفعال أو الأقوال ما يوجب تكفيره، فإن كان ذلك صادر منه عن جهل أو تأول، بُيِّن له، وروجع في الأمر، وأقيمت عليه الحجة، واستتيب من قبل ولي الأمر، فإن وجد أن بدعته صادرة عن زندقة وإلحاد منه عُزر، وإن كان بالقتل. وقتل المبتدع الذي تصل بدعته حدَّ الكفر والزندقة التي بحيث ينتقد الدين بها عادة متبعة في دول الإسلام؛ ويدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسبئية حين حرقهم، وكذلك قتل الجعد بن درهم والحلاج وغيرهم. والحاصل: أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب. ب- وإن كانت البدعة مفسقة لكن لها أثرها على وحدة الأمة وأمنها واستقرارها (كبدعة التكفير عند الخوارج)، فلا يُكفَّر صاحبها، لكن مقاتلته فيما لو أفسد في الأرض وحمل السيف واجبة لوأد الفتنة وإخماد ثورتهم، وهذا فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج، حيث لم يبادئهم بقتال ولا حكم بكفرهم ولا بنفاقهم ومع ذلك قاتلهم لما حملوا السيف على المسلمين.

(2/ 4) مؤسسة الدرر السنية - القسم العلمي الأربعاء 6رجب1432هـ الهجر كعلاج للبدعة: ومن بين أهم المعالجات التي شرعها الإسلام في مواجهة بعض الانحرافات -ومن بينها البدعة- هجر أصحابها، وذلك لتضييق دائرة تأثير أصحابها وقصر مفسدتها وإظهار المجتمع في موقف الرافض لها ليستفيق صاحبها من غفلته ويعود إلى رشده. ومن فوائد الهجر التي قصدها الشارع: 1 - بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في البدعة وتحذيرهم منها. 2 - تحجيم انتشار البدعة. 3 - إعطاء ضمانة للسنن من شائبة البدع. 4 - قمع المبتدع وزجره ليضعف عن نشر بدعته. [انظر رسالة (هجر المبتدع)، بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله، إعداد سلمان بن عبد القادر أبوزيد، بتصرف.]. فمعاشرة صاحب البدعة ومخالطته فتولد في صاحب البدعة طمأنينة إلى ما هو عليه، وربما أشعره بقبول المجتمع لبدعته وتزكيته إياها؛ وهذا قد يُغرر بالعامة، إذ أن العامة غالبا في حال جهلهم لا يفرقون بين السنة والبدعة، وربما استحسنوا ما استحسنه المبتدع فوقعوا فيما وقع فيه، فلا بد إذاً من الحجر على المبتدع استصلاحاً للديانة، وأحوال الجماعة، وهو ألزم من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان. وبعد أن نقل الشاطبي -رحمه الله تعالى- بعض الآثار في النهي عن توقير المبتدع، قال: (فإن الإيواء يجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن المشي إليه والتوقير له تعظيمٌ له لأجل بدعته؛ وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا كالضرب والقتل، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به، والعمل بما ينافيه) [(الاعتصام) (1/ 85).]. وعلى كل حال فإن غياب التعامل الصحيح للمبتدع يحيي البدع ويميت السنن، وفي هذا هدم للإسلام بعينه. أنواع الهجر: أنواع الهجر ثلاثة: الأول: الهجر ديانة، أي: الهجر لحق الله تعالى، وهو من عمل أهل التقوى، في هجر السيئة، وهجر فاعلها، مبتدعًا أو عاصيًا. وهذا النوع من الهجر على قسمين: 1 - هجر ترك: بمعنى هجر السيئات، وهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة، قال الله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وقال سبحانه: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) [أخرجه البخاري في الإيمان.]. 2 - هجر تعزير: وهذا من العقوبات الشرعية التبصيرية التي يوقعها المسلم على المبتدعة على وجه التأديب، في دائرة الضوابط الشرعية للهجر حتى يتوب المبتدع ويفيء. وهذا النوع بقسميه من أصول الاعتقاد، والأمر فيه أمر إيجاب في أصل الشرع، ومباحثه في كتب السنن والتوحيد والاعتقاد وغيرها. النوع الثاني: الهجر لاستصلاح أمر دنيوي، أي الهجر لحق العبد، وفيه جاءت أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، رواها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد في الصحيحين وغيرها، وجميعها تفيد أن الشرع لم يرخص بهذا النوع من الهجر بين المسلمين إلا بما دون ثلاث ليال. وليس هو مجال حديثنا.

النوع الثالث: الهجر قضاء، وهو من العقوبات التعزيرية للمعتدين، وهذا يبحثه الفقهاء في باب التعزير. [من رسالة (هجر المبتدع)، مرجع سابق، بتصرف]. وجعل شيخ الإسلام -رحمه الله- أنواع الهجر في الشرع قسمين، فقال: (الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات. والثاني: بمعنى العقوبة عليها. فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، .. فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر) [((مجموع الفتاوى)) (28/ 20)]. صفات الهجر: الأصل في الهجر هو الإعراض عن المبتدع والبراءة منه. ومن مفرداته تركُ: مجالسته، ومجاورته، وتوقيره، ومكالمته، والسلام عليه، والتسمية له، وبسط الوجه له، وسماع كلامه، ومشاورته .. كل ذلك بقصد إصلاحه إذا عُلم تحقق ذلك؛ أما إذا عُلم فساد حاله أكثر أو تضييع مصلحة المسلمين فتقدر الأمور بقدرها. وللهجر الشرعي ضوابط، منها: 1 - لا بد أن يؤدي هذا الهجر إلى الهدف الذي شرع من أجله، وهو الإقلاع عن هذه البدعة، وإلى عدم فعل ما يشبهها من قبله، أو من قبل غيره، أما إذا كان المبتدع لا يزيده الهجر إلا تمادياً في السوء، وركوناً إلى أهل السوء، أو غير ذلك من المفاسد فإنه لا يهجر. فالمؤمن كالطبيب إذا رأى العلاج نافعاً فعله؛ لأن الهجر من باب العلاج، فإن كان الهجر يؤثر خيراً وينفع هُجر، وكان ذلك من باب العلاج لعله يتوب ويرجع عن خطئه إذا رأى من إخوانه أنهم يهجرونه، أما إذا كان الهجر يسبب مزيداً من الشر وكثرة أهل الشر وتعاونهم فإنه لا يهجر، ولكن يديم له النصح والتوجيه وإظهار الكراهة لما عمل، ولا يبين له موافقته على باطله، ولكن يستمر في النصيحة والتوجيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به -يعني الهجر- زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولاغيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ... وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع -كما كثر القدَر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة- وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه) [((مجموع الفتاوى)) (28/ 203)]. ولو أن طالب علم مثلاً ذهب إلى أهله في بادية بعيدة وخاصة التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع فلنهجرهم، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور؛ لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة. [من رسالة (هجر المبتدع)، مرجع سابق، بتصرف.] 2 - الهجر الشرعي عبادة من جنس الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة لا بد من توفر ركنيها: الإخلاص، والمتابعة، أي بأن يكون الهجر خالصاً صواباً، خالصاً لله صواباً وفق السنة، وإن هوى النفس ينقض ركنية الإخلاص، كما أن ركن المتابعة ينقضه عدم موافقة الهجر للمأمور به. 3 - هجر المبتدع ليس عاماً في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع، كما أن ترك الهجر والإعراض عنه بالكلية، تفريط، وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص والإجماع، وإن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها، واختلاف مبتدعها، واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، فلا بد من مراعاة كل هذا.

(3/ 4) مؤسسة الدرر السنية - القسم العلمي الأربعاء 5 شعبان 1432هـ الأصل في التعامل مع المبتدع: الموقف الأصلي العام للسلف من المبتدعة هو هجرهم، وترك مجالستهم ومناظرتهم؛ لأن الأمور الباعثة لهم على الهجر من المصالح الدائمة الغالب وجودها مثل الخوف من انتشار البدعة، أو التأثر بها، أما إن تخلفت هذه المصالح، أو كانت المصلحة في غير ذلك الهجر فإن الحكم هنا دائر مع منفعته، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه كما قال ابن تيمية [الفتاوى 8/ 206] قال ابن عبد البر في فوائد حديث كعب بن مالك في الذين خلفوا: (وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع، وهجرته، وقطع الكلام عنه [التمهيد 4/ 87] وقال البَغْوي: (وفيه -أي حديث كعب بن مالك- دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد) [شرح السنة 1/ 227.]. وقد مضى الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم. ضوابط في دعوة المبتدعة: هناك ضوابط ومعالم للمنهج الشرعي في دعوة المبتدعة، والتعامل مع عامة ذوي المخالفات الشرعية، منها: 1 - لا بد أن تكون دعوة أهل البدع قائمة على أصلين: الإخلاص والمتابعة. وذلك أن الحكم ببدعة ما، واتخاذ موقف من أهلها، مسائل شرعية نحن متعبدون بها، فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى الأخذ بالإخلاص أنه ينبغي ألا يكون الموقف عقاباً، أو تألفاً إزاء أحد من المبتدعة تشهياً ولا تشفياً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله [مجموع الفتاوى 28/ 207].، وقال -رحمه الله-: (إذا كان مبتدعاً يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقاً يخالف الكتاب والسنة ... بُيِّن أمره للناس؛ ليتقوا ضلاله، ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح، وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان؛ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهراً للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص، واستيفاؤه منه؛ فهذا من عمل الشيطان [مجموع الفتاوى 28/ 221]. 2 - ومن المهم عند دعوة أهل البدع معرفة أن البدع ليست بدرجة واحدة، بل تتفاوت بقدر ما ارتبط بها من مفسدة، فمنها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر أو شرك، وقد تكون بعض البدع ذريعة إلى الشرك. فلا بد أن ينزل كل إنسان منزلته، ويدعى بما يناسب حاله، كما قال الشاطبي -رحمه الله-: (كل بدعة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها، فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقاباً من بعض؛ فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوات المطلوب في المفسدة [الاعتصام 1/ 359]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن الطوائف المنتسبة إلى مبتدعين في أصول الدين على درجات: فمنهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة [مجموع الفتاوى 3/ 348].

3 - من المهم عند دعوة أهل البدع معرفة أن من صفات أهل السنة أنهم يعلمون الحق ويرحمون الخلق: والمبتدع من أولئك الخلق الذين يرحمهم أهل السنة مع يقينهم بكونهم على بدعة يستحقون بها العقوبة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون فيه موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، المائدة: 8، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءاً، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق [الرد على البكري 2/ 490]. وقال: (وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القَدَر والحَيْرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاءاً وما أوتوا زكاءاً، وأعطوا فهوماً، وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، الأحقاف: 26) [مجموع الفتاوى 5/ 119]. ويمثل هذا الخلق العالي أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- لما رأى سبعين رأساً من رؤوس الخوارج وقد جُزَّت ونُصِبَتْ على درج دمشق، قال: (سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم؟ كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثم بكى، وقال: إنما بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام) [مسند أحمد 22314]. 4 - ومن المهم عند دعوة أهل البدع معرفة أن المبتدع والفاسق ينقص من موالاتهما بحسب جريرتهما، ولذلك قد يجتمع في المسلم حب وبغض، فيُحَبُّ لما معه من إيمان، ويُبْغَضُ لما اقترفه من بدعة وعصيان، كما قال شيخ الإسلام: (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة) [مجموع الفتاوى 28/ 209]. ضوابط مناظرة أهل البدع: ولا بد أن يُعلم عند دعوة أهل البدع أن مناظرة أهل الأهواء من أخطر أنواع المناظرات، وعليه يحمل أكثر كلام السلف في التحذير من ذلك، فينبغي على من تصدى لدعوتهم ومناظرتهم أن يتسلح بالعلم الشرعي، وذلك لما يترتب عليه من آثار مثل: - ما يمكن أن يقع في قلب من يناظر أهل البدع من شبه أو شكوك. - في مناظرتهم نشر لبدعتهم، وفي الإعراض عنهم إخماد لها. - في مناظرتهم تقوية لهم ورفع لشأنهم. ولذا لا بد عند مناظرة أهل البدع من ضوابط، منها:

1 - ألا تكون المناظرة لأهل البدع عبثاً وتضييعاً للوقت، وإظهاراً للقدرة على قوة الحجة، والتفوق في العلوم، كما كان يحصل كثيراً في مجالس الخلفاء، ولكن لا بد أن تكون في مقام تمييز حق من باطل، وصدع بالسنة وبطريقة السلف في مواجهة الزحف البدعي الظالم فهذا من الجهاد المشروع في سبيل الله باللسان والبيان، وهو قسيم الجهاد في سبيل الله بالسلاح والسنان، ولما كان المجاهد في سبيل الله موعوداً بالنصر بالظفر أو الشهادة فإن المجاهد باللسان لا بد أن يكون كذلك إذا اتقى الله ما استطاع، وكان له من العلم ما يؤهله لخوض غمار معركة المبتدعة بالحجة؛ إذ الحجة في جهاد اللسان تقابل القوة في جهاد الطِّعان، فمن كانت هذه حاله فإنه إذا ناظر المبتدع لم يكن إلا قد قام بواجب الدين عليه، والله تعالى أكرم من أن يضيع من هذه حاله في دينه ونفسه، بل يحميه من البدعة ومن أن يقر ذلك في قلبه، أو أن يكون سبباً مفضياً به إلى الزيغ والبدعة. 2 - ألا تكون المناظرة هدفاً لذاتها بحيث يظن أنها سبيل صحيح لتحصيل العلم، ويحصل بسبب ذلك التوسع والمسامحة في مخالطة المبتدعة فهذا مذموم أيضاً، كما ورد في ترجمة الإمام العلامة المتفنن أبو الوفاء ابن عقيل (ت 513هـ) أنه قال عن نفسه: (وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً) [ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 126، والمنتظم لابن الجوزي 9/ 213، وسير أعلام النبلاء 19/ 447].، قال الذهبي معلقاً: (قلتُ: كانوا ينهونه عن مجالسة المبتدعة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة) [سير أعلام النبلاء 19/ 447]. 3 - وكذا يُذَم البحث والنظر -فضلاً عن الجدال والمناظرة- إذا كان هذا الباحث متشككاً متحيراً متهوِّكاً؛ فهذا يجب عليه أن يطلب الهدى من مظانه لا أن يخرج للبيداء يلتمس السُقيا. قال شيخ الإسلام: (وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يُفسده ذلك المضل، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار؛ فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله، والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة مَنْ لا يقوم بواجبها، أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال، وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى، وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها محمود ومذموم ومفسدة ومصلحة وحق وباطل) [درء تعارض العقل والنقل: ج7/ 172 - 174]. 4 - ومن المناسب أن تُتبع هذه المناظرات في حالة إذاعتها في تلفاز ونحوه ببرامج هادفة يكون المتحدث فيها من أهل السنة ليغسل في برنامجه أوضار المناظرة، ويجيب فيها عن الإشكالات التي قد ذكرت ولم يسع الوقت لنقاشها. 5 - الأصل في المناظرات العلنية ألا يُقدم عليها إلا أن يتضح وجه المصلحة فيها بحيث يكون عظيماً ظاهراً، ويكون خوف الضرر والمفسدة فيها قليلاً؛ بحيث يغلب هذا على الظن. 6 - يجب الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع في الإيغال في بدعته. 7 - ومن المهم أن يراعى ألا يكون المناظر هو سبب تبغيض الحق إلى الطرف المقابل بالبغي عليه بالقول أو الفعل، أو بسوء خلق، أو بضعف حجة، فليست دعوى المدعي أنه من أهل الحق بعذر له في عدم إظهار البراهين، قال الإمام ابن القيم: (ما كل من وجد شيئاً وعلمه وتيقنه أَحْسَنَ أن يستدلَّ عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه، فهذا لون، ووجوده لون) [مدارج السالكين: ج3/ 486].، وقد قال بشر المريسي للإمام الشافعي رحمه الله: (إذا رأيتني أناظر إنساناً وقد علا صوتي عليه فاعلم أني ظالم، وإنما أرفع صوتي عليه لذلك) [مناقب الشافعي، للبيهقي: ج1/ 199].، وعلى كل حال فالأكمل للمناظر أن يكون قاصداً لإيصال الحق إلى الطرف الآخر الذي يناظره متلطفاً في ذلك، فإن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق كما سبق. ومن وسائل المناظرة والمجادلة ما يتلطف به إلى إيصال الحق إلى الخصم شيئاً فشيئاً حتى يتشربه، وقد يفتح الله على قلبه فيتبعه، فيكون لهذا المناظر أجر هداية المبتدع، ولو لم يعلم الناس أو المبتدع نفسه بذلك، ولكن قد علم ذلك وأثبته في صحائفه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.

(4/ 4) مؤسسة الدرر السنية - القسم العلمي تنبيهات عند دعوة المبتدع: وهذه أمور ينبغي أن يُنتبه لها عند قصد دعوة أهل البدع: 1 - ألا يحملنا كراهة البدعة وأهلها على الغلو مع المبتدعة، بل لا بد من العلم ومعرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين وتقدير المصالح والمفاسد أثناء دعوتهم، فقد ظن أناس أن هجر المبتدع حكم شرعي لازم كملازمة المسببات لأسبابها، وهو بمنزلة الحد أو هو كالبراء، والواقع أن هجر المبتدع كغيره من عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل بها حسب الحال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبيناً اختلاف الناس في أخذهم بعقوبة هجر المبتدع: (إن أقواماً جعلوا ذلك عاماً فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به مما لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية؛ فلم يهجروا ما أُمِروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره ... ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً ... ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه) (¬1). 2 - كما أنه لا يجوز اتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها إلا بعد أن يغلب على الظن أنها بدعة، أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل أو الأعمال بدعة فعلاً أو معصية؛ فإن جملة من الخلافات التي تقع بين الناس في المسائل الشرعية يكون سببها قصر النظر في فهم الخلاف المذهبي الفقهي، وفي الوقت ذاته توسيع دائرته ليصبح خلافاً عقدياً أو مخالفات شرعية، أو ربما كانت في أمور دنيوية ليست من الشرع أصلاً (¬2). فينبغي للمسلم أن يعرف مفهوم البدعة وماذا يشمل؟ فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. 3 - كما أنه لا بد من العدل مع المبتدعة حتى يكون ذلك سبباً لاستجابتهم، فإن العدل فضيلة مطلقة؛ لا تقييد في فضله؛ فهو ممدوح في كل زمان، وكل مكان، وكل حال، ممدوح من كل أحد، مع كل أحد، بخلاف كثير من الأخلاق فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد، ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول، وما من أمة أو أهل ملة إلا يرون للعدل مقامه. وبالعدل تحصيل العبودية لله وحده، وبه تُعطى الحقوق، وتُرد المظالم، وبه تأتلف القلوب؛ لأن من أسباب الاختلاف الظلم والبغي والعدوان، وبه يُقبل القول، أو يعذر قائله، وبه تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي، فالخلاف مضيق لآراء الناس ومواقفهم، وعند المضايق يذهب اللب، وإذا ذهب اللب فلا تسأل عن ضياع حقوق المخالف؛ بل ضياع الحق نفسه في أحيان كثيرة، ففي الوقت الذي ندين لله تعالى ببغض المبتدع واستيقان استحقاقه للعقوبة نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف؛ فالعدل منهج شرعي في كل شيء، على أن العدل المحض في كل شيء -كما يقول شيخ الإسلام- متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: ج28/ 213. (¬2) قضايا دعوية .. كيف نتعامل مع المبتدعة؟، لسليمان الخضير، بتصرف. (¬3) مجموع الفتاوى: ج10/ 99.

وأصل هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، [المائدة: 8]، فمن العدل ذكر ما لهم من صواب، وذلك بحسب المقام والحال، واعتبار المصالح والمفاسد؛ والجمع بين ذكر محاسن المبتدع والتحذير منه غير سائغ في كل مقام، وإفراد المحاسن بالذكر مظنة الاغترار، والاقتصار في جميع الأحوال على التحذير وذكر المثالب بخس وإجحاف، ولكن حسب ما يقتضيه المقام. ويتمثل هذا العدل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في حديثه عن الباقلاني الأشعري مثلاً حيث يقول: (مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة، والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة والملحدين، وأهل البدع حتى إنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كُلاَّب والأشعري أجلَّ منه، ولا أحسن كتباً وتصنيفاً) (¬1). وقد ألف شيخ الإسلام كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وهو مخصص للرد على الأشاعرة، وعلى رأسهم أبو عبد الله فخر الدين الرزاي، وقد ذكره في (261) موضعاً لم يصفه فيها بلفظ شائن، ولا عبارة مقذعة، ولا سماه بالمبتدع. 4 - من كان راداً على المبتدعة فليتحلَّ بالصبر وإلا فلا يشق على نفسه وعلى المسلمين، وليكف عن الناس أذى لسانه وبنانه فهو صدقة منه على نفسه، وليس لأحد عذر في أن يرد على الباطل بالباطل، والبدعة بالبدعة أبداً. 5 - لا بد من الحرص على دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم. 6 - الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس، وإعطائهم الأمصال الواقية من تلك البدع وإظهار ضعف حجة المبتدع، والطمع في التأثير على أبناء ملته، وأتباعه على بدعته إذ رجوعهم إلى الحق أيسر من رجوعه إليه. 7 - الحرص على جمع الناس على كلمة سواء، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلاً، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم؛ وليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة. ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل: ج1/ 283.

8 - اغتفار زلة العلماء والدعاة الذين ثبت أن منهجهم هو منهج أهل السنة، ثم وقع منهم هفوة أو زلة أو بدعة متأولة ينبغي نصحهم والتحذير من الخطأ الذي وقعوا فيه، لكن لا ينبغي إسقاطهم بالكلية، وإخراجهم من المنهج لزلة أو هفوة، فإن العصمة ليست لأحد سوى الأنبياء، كما قال ابن القيم: (وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؟! ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته) (¬1)، فإذا كان واجبنا أن نلتمس العذر للمسلم بصفة عامة فينبغي أن يكون لدعاتنا وعلمائنا نصيب أكبر في العذر وإحسان الظن؛ وقد أشار شيخ الإسلام -رحمه الله- إلى الأساس الذي يقوم عليه هذا المنهج وهو الموازنة بين حسنات الرجل وسيئاته، وما له وما عليه، يقول شيخ الإسلام: (إن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قررته في غير هذا الموضع) (¬2) وقال أيضاً: (إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين) (¬3) وقال الشاطبي: (زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليداً له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتداً بهالم يجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين) (¬4). وقال الذهبي: (ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك) (¬5). 9 - لا بد أن نعلم أن عبارات السلف الشديدة في حق المبتدعة خرجت في حق أهل العناد والدعاين إلى البد ع، ومن هذه العبارات ما خرج من أجل الزجر عن الوقوع في البدع والتساهل فيها، أو مع أهلها، قال ابن القيم -رحمه الله-: (كان ابن عباس -رضي الله عنهما- شديداً على القدرية، وكذلك الصحابة) (¬6) ومما يُظهِرُ شدة الصحابة على المبتدعة وتبرئهم منهم قول ابن عمر -رضي الله عنهما- حينما سئل عن القدرية فقال: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني) (¬7). فينبغي على الداعية لأهل البدع أن يعرف متى يستخدم الشدة؟ ومتى يستخدم اللين؟ وما يحقق المصلحة الشرعية وما لا يحققها، فيضع الشدة في مكانها، واللين في مكانه؛ لأن إغفال هذا الأمر مضر، وكما قال المتنبي: ووضعُ الندى في موضع السيف بالعلا ... مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى (¬8). والله الموفق للصواب. ¬

(¬1) مدارج السالكين: ج3/ 522. (¬2) الفتاوى الكبرى: ج6/ 92. (¬3) مجموع الفتاوى: ج10/ 371. (¬4) الموافقات: ج4/ 170. (¬5) سير أعلام النبلاء: ج5/ 271. (¬6) شفاء العليل: ج1/ 29. (¬7) أخرجه مسلم في الإيمان: ج1/ 28 - 102. (¬8) البيت في شرح ديوان المتنبي: ج1/ 266، وفي الصبح المنبي عن حيثية المتنبي: ج1/ 42.

بيان بشأن أحداث البحرين

بيان بشأن أحداث البحرين 18 ربيع الآخر 1432هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فإن رابطة علماء المسلمين تتابع ما يقع في البحرين من أحداث مؤسفة، اعتدى فيها المتظاهرون من الشيعة على أهل السنة من رجال أمن ومقيمين عزل في مملكة البحرين بالضرب والقتل بصورة وحشية، وإننا في رابطة علماء المسلمين إذ نستنكر هذه الأفعال نود بيان الأمور الآتية: 1 - إن أحداث مملكة البحرين لا تشبه ما حصل في مصر وتونس بحال من الأحوال، فإن ما حدث في تلك الشعوب ثورات سلمية تطالب بالحرية والكرامة، واتفق على ذلك جميع الشعب؛ أما ما يحدث في مملكة البحرين فهي فتنة طائفية تستهدف القضاء على الوجود السني فيها حكومة وشعباً، وأغلب الشعب يرفضها. 2 - تدعو الرابطة جميع المسلمين في العالم إلى توخي الدقة في تلقي الأخبار عن أحداث مملكة البحرين وعدم الاعتماد على القنوات الطائفية التابعة لحزب الله في لبنان أو التابعة لإيران؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَل َى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] كما تطالب الرابطة وسائل الإعلام والقنوات الإسلامية تسليط الضوء على حقيقة الأحداث من داخل البحرين، وإن الرابطة ليؤسفها ضعف الأداء الإعلامي الرسمي في كشف الحقائق. 3 - إن رابطة علماء المسلمين قد حذرت في بيان سابق لها من المد الصفوي في مملكة البحرين، وقد كشفت الأحداث حقيقة ما حذرت منه الرابطة من تدخل إيران بشكل سافر في البحرين وبقية دول الخليج. 4 - إن الرابطة استبشرت خيراً بتعاون دول الخليج في إرسالهم لقوات درع الجزيرة -حسب الاتفاق للدفاع عن أي دولة من دول الخليج - لمواجهة هذا المخطط الصفوي الذي يريد أن يجعل من البحرين بوابة ينطلق منها إلى بقية دول الخليج؛ وقد أمر الله بالتعاون على البر والتقوى بقوله، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ودخول قوات درع الجزيرة إلى مملكة البحرين يندرج ضمن هذا الأمر، ولا يعد احتلالاً كما يصوره أنصار المد الصفوي في العالم، كما تدعو الرابطة دول الخليج لتكوين وحدة خليجية تنضم دولهم في سلك واحد لمواجهة مثل هذا العدو الصفوي. 5 - إن رابطة العلماء لتدعو أهل السنة إلى التلاحم وتحذر السنة والقبائل العربية على وجه الخصوص من الهجرة من البحرين فإن في هذا إضعاف لأهل السنة وإضاعة لأرضهم. 6 - تدعو رابطة العلماء حاكم البحرين إلى الحزم في عقوبة كل من يثبت تورطه في الأحداث، وعدم العفو عنهم حتى يرتدع الجاني ويخاف المتربص وحتى يذهب ما في قلوب أهل السنة من الحزن والضيق {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]. 7 - إن الاستقالات الجماعية التي حصلت من الشيعة في شتى أعمالهم ومناصبهم في مملكة البحرين لترشد اللبيب إلى أهمية البعد عن اتخاذهم بطانة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] لذا فإننا ندعو ملك البحرين إلى عدم اتخاذهم مستشارين وتوليتهم بمناصب مؤثرة في أي حكومة ولكم في أهل السنة غنية وكفاية، ولكم في التاريخ عبرة وعظة.

8 - تدعو الرابطة حكومة البحرين وشعبها للرجوع الى الله انطلاقا من قوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ... )، وذلك بتحكيم شرع الله وإزالة أوجه الفساد من خمر ومراقص وغيرها، ورفع الظلم وإقامة العدل؛ فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة. 9 - حثنا النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الفتن على الإكثار من العبادة؛ فقال صلى الله عليه وسلم (العبادة في الهرج - يعني الفتن- كهجرة إلي) [أخرجه مسلم]، والعبادة في خضم هذه الأحداث والفتن تفيد فائدتين عظيمتين؛ أولاها: أنه تستنزل البركات من السماء وتنشرها في الأرض (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، والثانية: أن العبادة سبب للهداية والتوفيق في مثل هذه الفتن التي تختلط فيها الآراء وتزيغ فيها العقول ولا يعرف فيها الحق من الباطل. 10 - نذكر أهل السنة في البحرين بأهمية تلمس أوجه الخير في الحدث ـ وهي كثيرة- ونشرها بين الناس فإن ذلك يرفع من معنوياتهم، وأن يجتنبوا كل ما يثبط الناس ويخذلهم في مواجهة عدوهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر بملك كسرى وقيصر وهم محاصرون في غزوة الخندق. نسأل الله أن يحفظ أهل السنة في البحرين وفي كل مكان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. رئيس الرابطة الأمين العام للرابطة الشيخ الأمين الحاج د. ناصر بن سليمان العمر

البيان الختامي للمؤتمر الأول لرابطة علماء المسلمين

البيان الختامي للمؤتمر الأول لرابطة علماء المسلمين رابطة علماء المسلمين 28 ربيع الأول 1432هـ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فقد انعقد المؤتمر الأول لرابطة علماء المسلمين باسطنبول في الفترة من 27 - 28 ربيع الأول من عام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين من الهجرة يوافقه 2 - 3 مارس من عام ألفين وأحد عشر ميلادية، وحضره أكثر من مائة عالم وداعية من خمس وثلاثين دولة. وكان عنوان المؤتمر: ((العلماء ونهضة الأمة)) وقد عقدت بالمؤتمر خمس جلسات في موضوعه، ألقيت فيها خمس عشرة ورقة، وأقيمت أربع ندوات مصاحبة للمؤتمر حول ما يشهده العالم الإسلامي من تغيرات ومطالبات شعبية بالإصلاح. وانتهى المؤتمرون إلى توجيه هذا البيان إلى الأمة الإسلامية: أولاً: إن صلاح الأمة الإسلامية مرهون بصلاح العلماء والحكام فهم ولاة الأمر وقادة البلاد وقدوة العباد، وإن إحياء الربانية في الأمة فريضة شرعية، وضرورة مجتمعية، وطريق قاصد للإصلاح ومنطلق أصيل لتحقيق النهضة في جميع المجالات. ثانياً: إن تجديد هذا الدين والحفاظ على وحدة المسلمين وتعزيز القيم الإسلامية، ورعاية الحقوق الإنسانية، والحريات المنضبطة بالضوابط الشرعية، وقيادة الأمة وإرشادها في مهماتها وملماتها، منوط بأهل العلم الربانيين. ثالثاً: إن نهضة الأمة المسلمة اليوم تنطلق في بواعثها من كمال دينها وشمول وسعة مفهوم العبادة والعمل الصالح، وعقيدتها الصحيحة وشريعتها السمحة، وخيريتها التي سطرتها كلمات الوحي، وأكدتها صفحات التاريخ والحضارة الإسلامية التليدة. رابعاً: على الأمة الإسلامية اليوم أن تعي حجم التحديات الكبرى التي تواجهها والتي تمنع تقدمها نحو نهضتها وسؤددها؛ فبالعلم والسنة تواجه الجهل والبدعة، وبالتسلح بالفقه والوعي تواجه المكائد والمخططات الداخلية والخارجية، وبالأخذ بالعلوم المعاصرة والاستفادة من التقنية تتحقق التنمية الشاملة ويقضى على التخلف. خامساً: على أهل الحل والعقد في الأمة من العلماء العاملين ومن اتبعهم من الولاة الصالحين التصدي للاستعمار الغربي والاحتلال الأجنبي لبلاد المسلمين وإنهاض الأمة لاسترداد عزتها والمفقود من كرامتها بإحياء فقه الجهاد وإقامته في مواطنه المشروعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقبل ذلك وبعده العودة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية وتعظيمها، قال تعالى ((إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)). سادساً: يطلب من علماء أهل السنة في كل قطر أن تجتمع كلمتهم، وأن يتحد صفهم في إقامة الدين، والاحتساب على الظالمين وإنصاف المظلومين ونصح الحكام، عبر جهات وهيئات شرعية، وروابط دعوية وعلمية مستقلة عن أنظمة الاستبداد والفساد، والتي تسلطت على حريات العباد بالسجن والاعتقال بغير تهمة أو محاكمة. سابعاً: لقد اتجهت الأمة الإسلامية اليوم بكل فئاتها نحو التغيير إلى الأفضل وتحقيق الإصلاح بما لا يجوز تعويقه ولا الإبطاء في إنجازه، وهذه المطالبات السلمية المنضبطة لا تعد خروجا على الشرعية ولا مخالفة للشريعة الإسلامية. ثامناً: يعتبر الظرف الراهن فرصة مواتية لالتحام الأمة بعلمائها، وتحقيق إصلاحات جذرية تشمل الاحتكام إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهما ضمانة تحقيق العدالة الاجتماعية، وضبط مسيرة السياسات التعليمية والإعلامية والاقتصادية في الأمة على حد سواء. تاسعاً: تحيي الرابطة إنجازات الأمة الإسلامية في تونس ومصر وغيرهما من بلاد الإسلام، وتذكر بأن التغيير الحقيقي هو ما يبدأ من القلوب توبة إلى الله، واعتصاماً بهداه، وتهيب بكل القوى السياسية والاجتماعية أن تقوم على تحقيق الصلاح ومحاربة الفساد بكل صوره، واختيار خير من يقوم بالأمانة بدون مزايدة أو شعارات جوفاء، قال تعالى: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين)). عاشراً: تقف الرابطة خلف جهاد الشعب الليبي للتحرر من نظامه الفاسد وقائده الخارج عن الإسلام الباغي على أهله، وتدعوهم للصبر والمصابرة حتى يقطع الله دابره، قال تعالى: ((ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)). حادي عشر: تحذر الرابطة من المد الصفوي والانخداع بشعاراته المضللة في البحرين وغيره. وتدعو أهل السنة حكومة وشعباً إلى إقامة العدل ومحاربة الظلم والاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ثاني عشر: العلماء الصالحون في كل بلد هم مرجعية الأمة في نوازلها وعنهم تصدر الأمة في مواقفها، والأصل ألا يفتئت عليهم أحد. والمناصحة واجب شرعي وعمل مرضي، فعلى أهل اليمن والشام وسائر بلاد الإسلام أن يجتمعوا على فتاوى علمائهم وهيئاتهم الشرعية، وأن يقووا كلمتهم. والله نسأل أن يكتب التوفيق للمسلمين، وأن يلهمهم الصواب والسداد في القول والعمل. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

العلماء .. وقصور الرسالة!

العلماء .. وقصور الرسالة! (الحلقة الأولى) عبد العزيز الطريفي 24 ربيع الأول 1432هـ بسم الله الرحمن الرحيم من أظهر أسباب قصور النتائج الجهل بحقيقة الذوات، وعدم إدراك ميزانها. وحصر منافع الأشياء أو قصرها على بعض وجوهها واستعمالاتها، تعطيل لنتائج تعظم وتحقر بحسب المفقود من قيمتها، وهذه سنة كونية، نراها حتى في مخلوقات الله المادية، فالمعادن وكنوز الأرض كانت بين يدي الإنسان منذ أول الخليقة، فهو لم يصنع الطائرة والتقنيات من عدم، ولكنه حينما جهل حقائق الماديات ووجوه الانتفاع منها أثر هذا على نتائجه من قصور مادي شديد إلى حضارة مادية كبيرة، فمعدن الطائرة والتقنية هو المعدن الذي كان بين كفي الإنسان يشرب به ويأكل وغير ذلك من الاستعمالات، فالمادة هي المادة والإنسان هو الإنسان ولكن العلم بحقائق الذوات قاصر، فقصرت النتائج. وهكذا العالم في كل علم مع معلوماته ورسالته ومواقعها وآثارها في الناس، وكلما توسعت العلوم وتكاثرت تداخلت وتنازعت وزاحم بعضها بعضاً حتى في فروع العلم الواحد، ويجب الإيمان أن كل العلوم في الأرض والسماء متداخلة مهما اختلفت، ولو في أجزاء يسيرة، ويغيب عن الإنسان أكثرها ويعلم القليل جداً (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)، والعلم المطلق لله سبحانه وتعالى وحده. إن العالم ورسالته في الإسلام دخلها الجهل بحقيقتها على عصور طويلة، فأثر ذلك على العالم في ذاته وفي مدى العلم الذي ينبغي أن يأخذه، ويؤديه ويبلغه، ونوع خطابه ورسالته، وسمته وحرفته التي يتقوت منها ويرتزق، وصلته بالناس، وعلاقته بالمادة، والسياسة وارتباطه بها، ومن جهل ذاته لم يؤد رسالته، وأخطر أنواع الجهل جهل الرجل بذاته. لقد جاء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوالى في ضبط الدين والدنيا وتكوين الصلة بينهما، وجاءت نصوص الوحي في أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج كما جاءت في ضبط البيع والشراء والتعامل مع الخلق والبهائم، وسياسة البشر والرؤساء وذوي الهيئات، والمتباينين في الديانة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إمام العلماء وسلطان الله في الأرض، يأمر وينهى كما أُمر ونُهي من ربه تعالى، وكانت صورة العالم السلطان مكتملة في جسد النبوة، فأثمر ذلك الأمان للأمة قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون). ولهذا جاء تفسير السلف من التابعين لولي الأمر في القرآن أنهم العلماء تارة وتارة أنهم الأمراء، فهم يرون ذلك من المترادفات، لأنه في زمانهم لا يكون أمير يصدر عامة الناس عن قوله إلا وهو عالم عارف، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فسر ولاية الأمر بالعلم ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وعطاء والحسن البصري وعكرمة. وقد بقي سلطان الأمر والعلم في جسد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من الأمراء كالخلفاء رضي الله عنهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما توعد). وقد أخذ هذا التركيب ينفك شيئاً فشيئاً، حتى انفصل الأمر عن العلم، وأخذ السلطان يأمر وينهى بسياسة وقصور علم، وانزوى العالم وأخذ يأمر مع قصور في السياسة، فيرى السلطان ما لا يراه العالم، ويعلم العالم ما لا يعلمه السلطان.

وأي اختلال للأمان في الأمة، واضطراب في المجتمعات، فهو بسبب القصور في فهم العالم ورسالته، وانقسام جسد الأمر إلى عالم في جسد، وسلطان في جسد، وانفرد كل واحد منهما بشطر الرسالة، والعملة لا ينفصل أحد وجهيها عن الآخر وتَنْفُق على وجه صحيح في سوق الدين والدنيا. وقد أحدث هذا الانفكاك فساداً في بعض أنواع العلماء وبعض أنواع السلاطين، ليكتمل وجه القصور في دولة الإسلام دولة الدين والدنيا، فيُحابي العالم في علمه ويترخص للسلاطين مظالمهم، وأخذ السلطان يُميْل إليه وجه العالم ليشتري منه الرأي ليكتمل النقص المفقود عنده وهو العلم والتشريع، فيضعُف العالم فيعطي السلطان رغبته ليكتمل له الأمر المفقود وهو نفوذ الجاه والأمر على الناس لقربه من السلطان. وقد كان العلماء العارفون من السلف يُدركون أثر هذا الانفكاك، روى الدارمي في سننه عن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: نشر العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله. وهذا الانفكاك يزداد بقصور السلطان عن تحليه بالعلم، واكتفاؤه بثبوت الطاعة وتحققها، وبقصور العالم عن فهم السياسة ومصالح الناس في الأموال والحقوق، واكتفاؤه ببراءة الذمة لأنه يرى أن ذلك ليس من شأنه. وهذا الانفكاك لا يُلغي أهلية العالم عن إكمال المنفك منه ليصدر قوله عن رأي نافذ ناضج، ولا يُلغي أهلية السلطان عن إكمال المنفك منه ليصدر حكمه وأمره ونهيه عن علم محكم، ولا يُلغي أيضاً السمع والطاعة بالمعروف للآمر عالماً أو سلطاناً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّيء في كثير من الأخبار ضمناً على انفكاك الأمر في الأمة واختلال نظر العامة في فهم وجهته، وهذا يُفهم كثيراً من حثه على السمع والطاعة في المنشط والمكرة بالمعروف مع إخباره بفساد الآمرين، ولذا قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، وهذا الاستثناء في الحديث (إلا أن تروا كفراً بواحاً) إشارة إلى البعد في انفصال العلم عن السلطان بُعداً يستوجب توحيد الكلمة ما لم يبلغ الكفر. والطاعة لولي الأمر إنما جاءت في النصوص قوية في آخر الزمان مع فساد الأمر لأجل بيان ثبوت هذا الاختلال في الأمر، وأن ضبط الموازين والجمع بين هذه المفترقات الدقيقة أمر يفوق إدراك العامة ودهماء الناس، ومخاطبتهم بالعلاج متعذر، لهذا فيُكتفى بأمرهم بالسمع والطاعة بالمعروف، وأما العلماء فيعرفون حقيقة الرسالة التي حملوها، وتوجيه الناس بها كل زمن بحسب علمائه. وإن من وجوه الخطأ أن يُدخل العالم نفسَه في خطاب العامة، فينزوي عن فهم حقيقة رسالته ومهماته، وماذا أنيط به من واجبات تجاه الناس وأحوالهم، ومحاولة إتمام القصور في الأمة وغرس الأمان فيها، وأظهر وجوه قصور العالم التي نراها اليوم:

أولاً: التغافل عن عموم الرسالة، وشمول خطاب الوحي في ضبط الدين والدنيا، وحصر العناية بالأحوال والأفعال والعلوم التعبدية الخالصة مما يُشترط فيها النية لحصول الثواب ورفع العقاب، كالصلاة والصيام والحج والذكر ونحوها، وتصحيح وجوه الخطأ والابتداع فيها، وأمر الناس بذلك وأطرهم عليه، ونهيهم عن الترك، وتغافل العلماء عن ضبط دنيا الناس، والاحتراز لأموالهم وصونها من العبث، وأخذها بالظلم والسلب والاختلاس، وما يتعلق بحقوقهم فيما بينهم، وتعاملاتهم في شأنهم كإصلاح ذات البين، وغشيان نواديهم، قصور في فهم الرسالة، وخطاب الوحي وميثاق الله المأخوذ عليهم، وقد أورث هذا اغتراباً في الأفعال وعزلاً للعالم وسلوكه في باب من أبواب العمل والتكسب، والترفع عن مخالطة العامة بالتكسب بالحرفة والصناعة وعمل اليد، والمتاجرة في الأسواق، بدلاً من ترقب يد من يستميله إليه فيعطيه ويمنعه. ويوسف عليه السلام ولج إلى تصحيح دنيا الناس، لعلمه بها وخبرته السابقة بذلك لذا لما طلب إدارة خزائن الأرض قال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) يرى استحقاقه لذلك بسبب الحفظ وهو الأمانة وكذلك العلم وهو معرفة أمر المال وشأنه وتدبير أمور الناس المالية. وانشغال العالم بالنوع التعبدي الخالص، والتغافل التام عن الآخر أورث انفصالاً في فهم الرسالة، وتهيئةً للأفكار الداخلة على العلم في الإسلام أن الدين والدنيا منفكان عن بعضهما، وأصبح تغافل كثيرٍ من العلماء عن حياة الناس وشأنهم، أرضاً تنبت عليها الأفكار المادية كالعلمانية والليبرالية والشيوعية الاشتراكية لأنها بديلٌ في ضبط دنيا الناس عند فساد دنياهم من ظلم ظالم وقهر قاهر، وربما كان انشغال العالم بشطر رسالته مسوغاً لاستنكار دخول العلماء العارفين في ضبط حياة الناس والعناية بشأنهم، وينتج عنه أن وَجد رموز الفكر العلماني بيئة الإسلام منفكة إلى أصحاب دين وإلى أصحاب دنيا، فاحتاجوا إلى تنزيل الأسماء فحسب، من غير حاجة إلى فصل الأفعال. وأصبح هذا القصور دعوة مؤيدةً لتصنيف العلماء وتحزيبهم، وربما اضطرب العلماء الداخلون في مصالح الناس في معرفة الوجه الصحيح لموقفهم، بسبب عزلتهم عن مسالك غيرهم من العلماء، فيشعرون بالغربة والعزلة، ومع طول عهد يضعف في كثيرٍ منهم التدين، ويبقى الدين والورع ملازماً لكثيرٍ ممن نأى بنفسه، فتضطرب العامة في فهم الطريق الصحيح إلى أي العلماء يسلك وبأيهم يقتدي. والعالم وإن انفك عنه السلطان في الأمر ينبغي أن يُكمل ما نقص من أمر السلطان في الأرض فيكون له عوناً إن غفل أو تغافل أو ظلم ببينة ومكابرة ويكون ذلك بالبيان ومقتضى الحال بالمعروف والحسنى، لا بالمنازعة والمغالبة في كل حال لأن ذلك قد يفضي إلى إضاعة الأمر كله بعد أن ضاع شطره. وإنما تضعف منزلة العالم في الناس إذا انشغل عن دنياهم. ثانياً: الخلط بين زهد العالم في حفظ الماديات لنفسه، وزهده في حفظ الماديات للناس، وكثيراً ما لا يتم التفريق بين المقامين، فزهد العالم في الدنيا لنفسه محمود، وزهد العالم في حفظ أموال الناس والعطاء لهم وصون حقوقهم مذموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لو أراد الدنيا لكان أكثر الناس مالاً وحظاً فيها، ولكن زهد فيها، ومع هذا فكان أكثر الناس حرصاً على العطاء وإغداق المال على الناس، وإصلاح ذات البين والحث على حفظ أموال الناس وتحريم أكلها. ففي الصحيح عن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: أي قوم أسلموا فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر، فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.

وكان ينتصر لحق الضعيف بالبيان للناس إذا أُخذ ماله ولو كان عبداً مملوكاً، فبريرة أمَة مظلومة اشترط أهلها الولاء لهم بعد عتقها لنفسها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط. ومع هذا فكان زاهداً في حق نفسه ينام على حصير يؤثر على جنبه، ويقول له الصحابة: لو اتخذنا لك وطأة؟ فقال: مالي وما للدنيا ما أنا فيها إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها. بل الخوض في مصالحهم بالصلح أفضل من الانشغال بنوافل الصلاة والصيام ففي سنن الترمذي عن أبي الدرداء قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة. وهذا أكثر وقعاً على العامة أن يزهد في المال من يُعطيه، لأنه كان في يده فأوصله لغيره، ويمكنه حبسه لنفسه. والزهد في الحديث عن حفظ أموال الناس والمجتمعات وبيان خطورة التعدي عليها ثلم عظيم في مهمة الرسالة، وكسر لمفاتيح قلوب الناس، التي لا يُدخل إليها إلا بدنياهم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُعطي الناس المال تأليفاً واستمالة لقلوبهم، ويحفظ لهم حظ الدنيا ليبقى حظ الدين، ومقتضى ذلك أن من قصر في حفظ دنياهم وتهاون مع قدرته على ضبطها، فهو مضيع لدينهم، ومن نظر إلى مصارف الزكاة الثمانية في القرآن عرف أن المقصود بدفع المال هو حفظ الدنيا ليُحفظ الدين، فلا دين إلا بدنيا. ثالثاً: حصر التفقه في الدين على أبواب مخصوصة من العلم، ولضعف خوض العالم في دنيا الناس وأفكارهم وصونها ضعُف أخذه للعلم الذي يؤدي إلى تحقيق ما تركه وزهد فيه، فإذا بعُد عملاً وخوضاً في سياسة المجتمعات والدول والحقوق والأفكار المتعلقة بذلك، فهو سيبتعد غالباً عن الخوض في العلوم المؤدية إلى معرفتها ولو كان الجهل بها مضراً بالدين ومسوغاً للتسلل إلى نقض حماه، لهذا يُحسن كثيرٌ من العلماء المعاصرين معرفة الطوائف والفرق السالفة لوجودها في بطون الكتب، ويعرف حجج أهلها ونقضها، ولكنهم ربما يجهلون كثيراً من الطوائف المعاصرة التي هي أشد خطراً من الطوائف السابقة في الناس كالعلمانية والليبرالية والمدارس الفكرية المعاصرة وأثرها على عقائد الناس ودينهم ودنياهم، وإذا ظهر ضعف تفسيرهم لها، وهوان الرد عليها، قويت حجة المخالف ولو كانت ضعيفة لأن حجة العالم أضعف في العرض وإن كانت أقوى في الأصل، والسلاح براميه، فالحاذق العارف يصيب ولو بالسهم، والجاهل يخطيء ولو بالبندقية. يتبع بإذن الله ..

إضاءات في طريق البناء الفكري المتوازن

إضاءات في طريق البناء الفكري المتوازن سلطان العميري 22 ربيع الأول 1432هـ تمثل هزيمة حزيران سنة 67م منعطفاً حاداً في تاريخ الفكر العربي المعاصر, فقد أضحت أطياف عديدة مقتنعة بأن التخلف العربي نابع من الداخل, ومن ثم فالإصلاح والخروج من الأزمة لا بد أن يكون منطلقاً ابتدءا من القواعد الداخلية لا من المعسكرات الخارجية. فقامت نتيجة لتلك القناعة مشاريع فكرية عملاقة متوجهة نحو التراث تبحث في مواده، وتنقب في أرضيته وتحلل في أفكاره وتفكك في مضامينه, وقطعت شوطاً كبيراً في سبيل الظفر بما يمكن أن يكون مخلصاً للأمة العربية مما هي فيه من أزمات, وقد تنوعت تلك المشاريع في مناهجها ومبادئها ومنطلقاتها, وبالتالي في نتائجها ومستخلصاتها. ثم شهد الفكر العربي منعطفا حادا آخر جعل لتلك المشاريع حضوراً مكثفاً في الوسط الثقافي, وانتشاراً واسعاً لدى الأجيال الشبابية, وغدت تمثل المادة الفكرية التي يبنى عليها ما يسمى بالفكر العربي, فأول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذا المصطلح (الفكر العربي) هو تلك المشاريع التي انصبت على التراث الإسلامي بمناهجها المختلفة, مع أن الفكر العربي أوسع منها بكثير! وذلك راجع إلى أن تلك المشاريع نالت نصيباً عالياً من الدعوة، وحظاً وافراً من الترويج، وقدراً كبيراً من الاستدعاء والتجميل والتحسين .. مع خلو الساحة الفكرية من المشاريع المنافسة التي تلبي حاجيات العقول المتسائلة. وهذا النوع من الدعوة عادة ما يؤدي إلى حالة فقدان التوازن في عقلية المتلقي لتلك المشاريع, فهي توصل إلى استغراق عميق في تلقي الأفكار المتضمنة, وتؤول إلى ضعف شديد في الحاسة النقدية لدى المتلقي, وتنتهي إلى خفوت ظاهر في ثوران التساؤلات المشروعة حول منهجية البحث وآليات التحليل المتبعة في تلك المشاريع. فإذا اجتمعت هذه الأحوال النفسية مع ما تعانيه تلك المشاريع نفسها من إشكاليات معرفية وتسربات منهجية طافحة, فإنه سيؤدي بالضرورة إلى إحداث أضرار جسيمة في كيان الفكر العربي المعاصر, ليس أقلها شيوع التقليد, واختفاء النقد والتجديد، وضحالة الحيوية والإبداع, وتحريف الحقائق وتضليل المفاهيم. والأساسات البنائية للمسيرة الفكرية تبنى على الانفصال التام في عقلية القارئ عن تلك المشاريع, وتتطلب الحرص الشديد على التوازن في التعامل معها, وتتطلب أيضا الوعي بالتساؤلات المنهجية التي تحاكم إليها المواد المكونة لها, وتستوجب استحضار الإشكاليات النقدية التي تضفي على ذهنية المتلقي والقارئ الاستقلال وعدم الذوبان في أودية تلك المشاريع. ومن المهم أن نشير إلى أن الخطابات المنصبة على التراث مكونة من مواد معرفية ثلاث, وكل مادة منها تدور حولها تساؤلات نقدية تحتاج إلى أجوبة واضحة ومحددة, وتتطلب فحصاً منهجياً ومعرفياً صارما. أما المادة الأولى: فهي الآليات والمناهج التي تمثل الأرضية والقاعدة الصلبة للعملية النقدية, والغالب عليها أنها مستعارة ومنقولة من الفكر الغربي, وهذه المادة تتطلب الفحص المعرفي من جهات عديدة: 1 - التحقق من إمكانية نقل المناهج الفكرية من محاضنها الأصلية إلى محاضن أخرى مختلفة عنها في الخلفيات والطبيعة والتاريخ. 2 - التحقق من اكتمال بناء تلك المناهج والانتهاء من جميع متطلباتها, والتأكد من أنها في محضنها الأصلي انتهت من طور البناء والتكميل. 3 - التثبت من فهم الناقل لها، واستيعابه لمضمونها، وإدراكه لحقيقتها ولمسارها وتفاصيلها ومستلزماتها. 4 - التحقق من سلامة تطبيق المستعير وتنفيذه لأجندتها على الأرضية الأخرى بشكل يتوافق مع مقتضياتها.

5 - التأكد من صحتها في نفسها واستقامتها، وانضباطها في مقدماتها ومراحلها, والتحقق من المواقف النقدية التي أقيمت حولها في الأرضية الأصلية. وأما المادة الثانية: فهي المادة التراثية, وتعد بمثابة المواد الخام التي تطبق عليها تلك المنهجيات والآليات, وهي تتطلب الفحص المعرفي من عد جهات: 1 - البحث في نوع المصادر والمراجع التي تم الاعتماد عليها في الوصول إلى المادة التراثية, والتأكد من قيمتها العلمية. 2 - التحقق من صحة المادة التراثية وسلامتها من الخطأ والتحريف. 3 - التوصل إلى كيفية التعامل مع المادة التراثية وإجراءات العرض لمحتواها. 4 - التثبت من فهم المادة التراثية بشكل صحيح، والإدراك الصحيح لمضمونها الحقيقي المتوافق مع منظومتها المعرفية. 5 - التأكد من استيعاب جميع الشواهد التراثية التي لها ارتباط وعلاقة بموضوع البحث. وأما المادة الثالثة: فهي النتائج المعرفية التي تم استخلاصها, وهذه المادة تتطلب الفحص من عدة جهات: 1 - مدى اتساق النتيجة مع العقل، واستقامتها مع مبادئه وأصوله الفطرية. 2 - مدى توافق النتيجة مع التاريخ التراثي, واتساقها مع طبيعته ومجرياته ومراحله ومشاهده وتطوراته. 3 - مدى موافقة النتيجة لأصول الشريعة, ومطابقتها لمقتضيات دلالات النصوص الموثوقة. الخطابات المضادة: وقد شهد الفكر العربي في المقابل نمواً ظاهراً لخطابات قامت بالفحص المنهجي لتلك المشاريع، ومارست عمليات نقدية هامة كشفت فيها عن الأخطاء المعرفية التي تشربتها, وأظهرت مواطن الخلل الفكري التي استشرت في جسدها, وأثارت حولها تساؤلات منهجية تضرب في الأعماق, وقامت بمساءلة معرفية جادة للمنهجيات والآليات المتبعة فيها, ومارست عمليات تمحيصية علنية لموادها المعرفية ونتائجها الفكرية. وقد تنوعت تلك الخطابات المضادة, فمنها ما هو متضمن في غيره, سواء كان ذلك الغير مؤلفات بحثية عامة أو مجلات علمية, ومنها ما هو مستقل بنفسه, وهذا النوع منه ما هو خاص بفحص اتجاه أو مشروع محدد, كمثل النقد الذي قام به جورج طرابيشي لمشروع الجابري, أو النقد الذي قام به لنقد مشروع حسن حنفي, وكمثل النقد الذي قام به طيب تيزيني لنقد مشروع الجابري, ومنها ما هو عام يتناول القضايا المنهجية في التعامل مع المشاريع الحداثية بشكل عام. ويبرز التنوع فيها أيضا من جهة أخرى, فقد اشترك في تلك العملية التمحيصية أطياف مختلفة منهم من يدين بدين الإسلام ومنهم من يدين بدين النصرانية, ومنهم الإسلامي ومنهم العلماني, ومنهم من هو بين بين, فكل هؤلاء جمع بينهم النقد الموجه إلى الخطاب الحداثي المسلط على التراث الإسلامي. وإبراز تلك الخطابات وتسليط الأضواء على مضامينها من أقوى ما يحدث التوازن الفكري في التعاطي مع تلك المشاريع العملاقة, ومن أصلب ما يؤدي إلى تنمية الوعي النقدي لدى القارئ بشكل ناضج وقوي. وسنقوم بعرض جملة من تلك الخطابات التي توجهت إلى المشروع الحداثي بالنقد. ولا بد أن ننبه على أن اختيار مؤلف بعينه لا يعني تأييد كل ما جاء فيه من أفكار, ولا يتعرض لاتجاه مؤلفه بمدح أو ذم, وليس القصد من عرضه بيان كل ما تضمنه, ولا عرض لكل أفكاره, ولا مدح لطريقة البحث ومنهجيته ... كل هذه الأمور غير مقصودة .. وإنما المقصود توضيح فكرة الكتاب بشكل مختصر جدا، وإبراز بعض المضامين النقدية التي اشتمل عليها .. حتى يتسنى الاستفادة منه بالقدر المناسب. الكتاب الأول: إشكالية تأصيل الحداثة في الخطاب النقدي العربي المعاصر, ومؤلفه: عبد الغني بارة.

وقام هذا الكتاب بتسليط الأضواء على الصعوبات التي تقف في طريق توضيح مفهوم الحداثة وتأسيسها, واحتوى على مناقشة مطولة لقضية استعارة المناهج الغربية, وبيان الإشكاليات المنهجية والمعرفية التي ترتبط بها, واحتوى أيضا على حشد نصوص كثيرة تضمنت اعترافات عدد من كبار المفكرين العرب بالأزمة المنهجية التي يعشها الخطاب العربي جراء الاقتراض الشديد من الفكري الغربي. وتضمن الكتاب أيضا أوجه نقدية هامة وجهها عدد من المفكرين العرب إلى خطاب الحداثة تتعلق ببنية المناهج والآليات التي تم تفعليها في مشروعهم. الكتاب الثاني: القراءة الجديدة للنص الديني, ومؤلفه: د. عبد المجيد النجار. احتوى هذا الكتاب على مادة شرعية وتاريخية، تم التأصيل من خلالها لطبيعة النص الديني والتأكيد على أنه نص إلهي, وليس مجرد منتج ثقافي, وقرر من خلالها موثوقية النص الديني وسلامته من النقص ودخول الخلل فيه, وأوضح موضوعية النص الديني واستقرار دلالاته ومعانيه ومضامينه الحكمية. وأبان عما في القراءة الجديد التي قام بها الخطاب الحداثي من إشكاليات منهجية ومخالفات دينية وتجاوزات للمبادئ العقلية وقفز على الحقائق التاريخية. الكتاب الثالث: استقبال الآخر, الغرب في النقد العربي المعاصر, ومؤلفه: سعد البازعي. ويقدم هذا الكتاب صورة للنقد العربي المعاصر, ويكشف عن التحديات والمشكلات التي يعاني منها, ويؤكد على أنها أكثر من المنجزات وأوسع منها. واستهل الكتاب بشرح معالم الإشكاليات المنهجية في الخطاب العربي, وكشف عن مقدار التهالك والارتماء في أحضان الفكر الغربي، ودرجة الإعجاب والتقليد التي وصل إليها. ثم أكد على أهمية الخصوصية السياقية للنقد الغربي, وعلى ارتباطها العضوي بالأرضية التي نبتت فيها. وقدم الكتاب مادة نقدية قوية, يمثل الوقوف عليها ترسانة هامة في التعامل مع الخطاب العربي المعاصر .. فقد حشد مواقف عدد من كبار المفكرين العرب الذين وقفوا ضد الاقتراض المحموم من الفكري الغربي, وكشف عن أن عددا من المناهج المستعارة لم تكتمل بعد في موطنها الأصلي, وأبان عن الأغلاط التي وقع فيها المقترضون حين نقلوا المناهج الغربية, سواء في فهمها، أو في نقلها، أو في تصويرها, أو في مقدار وطريقة اقتراضهم, وأوضح أيضا الآثار العلمية التي تنتج عن الاستهلاك للمنتج الغربي. الكتاب الرابع: التيار العلماني الحديث, وموقفه من تفسير القرآن, ومؤلفه: منى الشافعي. يظهر في هذا المؤلف استغراق في العرض، ويظهر فيه خفوت في تحليل مقالات العلمانية وتحرير مواقفهم, وكثرت فيه المباحث الاستطرادية. ومع هذا فقد كشف تشكيك الخطاب العلماني في مصدرية القرآن وثبوته، وأظهر مقدار التحريف الذي مارسه على التفسير، والتجاوزات المنهجية التي وقع فيها. وكشف أيضا عن المراوغة العلمانية في نشر أفكارهم، وشرح طريقتهم وأساليبهم في إضفاء الشرعية عليها, وأبان عن التجاوزات في المادة التراثية التي قام العلمانية بتحليلها، وأوضح الخلل المنهجي الذي وقعوا فيه. وأزال الغطاء عن غياب الموازين، وتحديد المعايير العلمية في التعامل مع المواد التراثية والشرعية. وجمع الكتاب قدراً كبيراً من التناقضات المعرفية التي وقع فيها بعض الخطاب العلماني. الكتاب الخامس: العلمانيون والقرآن الكريم, ومؤلفه: د: أحمد الطعان. ويعد هذا الكتاب موسوعة ضخمة, جمع فيه مؤلفه قدراً كبيراً من تقريرات الخطاب الحداثي ومواقفهم, وحشد فيها جملة كبيرة من نصوصهم ومقالاتهم, وهو يعد خزينة كبيرة تقدم خدمة عالية لمن يقصد الوقوف على حقيقة المشروع الحداثي, ولكن ذلك الجمع على حساب النقد والتمحيص, فقد بدت هذه المهمة خافتة.

وقد كشف الكتاب عن تناقضات عديدة وقع فيها الخطاب الحداثي, وكشف أيضا عن الانتقائية في التعامل مع التراث, وتصفية بعضه لحساب بعض, كما فعل مع الشافعي لحساب الشاطبي. وأشار إلى عمليات التزوير التي مورست في الأحداث التاريخية والفكرية, وأشار إلى شذوذات مورست خرج بها الخطاب الحداثي عن المعقول وعن قطعيات الشريعة, وقام بعملية نقدية احتوت على المقارنة بين المادة التراثية كما هي في المصادر الأصلية وبين حضورها في المنتج الحداثي, وأبان مدى التخليط الكبير الذي وقع. وشرح الطريقة الخاطئة التي مورست في الاقتراض من الفكر الغربي, مما يجلي ظاهرة الاستلاب الفكري الذي يعيشه الخطاب العربي بشكل ظاهر. الكتاب السادس: تجديد المنهج في تقويم التراث, ومؤلفه: د. طه عبد الرحمن. يقوم هذا الكتاب على الجانب البنائي من حيث الأصل, فالمقصد الأصلي له هو اكتشاف الآليات والمناهج التي تشبع بها التراث, ومحاولة تجديدها وتسليط الأضواء عليها، وبيان فاعليتها, وكان من ضروريات العملية البنائية المرور على المشاريع التي تناولت التراث بالدرس لتقييمها وفحصها, وتقديم نظرة فاحصة حولها, انكشف من خلالها جملة من الإشكاليات المنهجية التي تعاني منها تلك المشاريع. وكان التركيز على مشروع الجابري بشكل مكثف, لمبررات عديدة تظهر من خلال قراءة الكتاب. وقام المؤلف بمحاكمة واسعة شملت قطاعات متعددة من مكونات النقد الحداثي, فانطلق من تأكيد جهل الحداثيين بالثراث، ودلل على ذلك, وأبرز الآفات الكبرى التي تشبعت بها مشاريعهم. وقد أولى الآليات المنهجية التي قام عليها النقد الحداثي مزيد اهتمام, وبين أنها لا تتناسب مع طبيعة التراث العربي, وفضلا عن ذلك فإن نقلها لم يسلم من التحريف والتغيير, حيث إن الناقل لها لم يتمتع بالفهم الجيد لها ولم يستوف واجبات الترجمة والنقل, وبين أن الآليات التي اعتمد عليها الجابري لا تمثل نسقا متكاملا حيث إنها تؤدي إلى مقتضيات متناقضة. الكتاب السابع: روح الحداثة, ومؤلفه د: طه عبد الرحمن. أراد المؤلف في هذا الكتاب أن يؤسس لحداثة إسلامية لا تعتمد على المنطلقات الغربية، وإنما تنبع من الأصول الإسلامية, وحاول أن يشرح روح الحداثة التي يرى أنها تمثل القيم الإسلامية بشكل مكثف. ويعد الكتاب في جملته نقداً إجمالياً لظاهرة الاقتراض من الفكر الغربي, وتقييماً منهجياً لحالة الاستهلاك الكبرى التي وقع فيها الخطاب الحداثي. وقد عقد المؤلف فصلاً تناول فيه القراءة الحداثية للنص الديني, وكشف عن خططها واستراتيجياتها, ونقد من خلاله فكرة التأنيس للنص الديني وقطع صلته بالله تعالى, ونقد كذلك عقلنة النص وإزالة الجانب الغيبي منه, ثم تناول فكرة التاريخية التي تعد مرتكزا هامة للقراءة الجديدة بالنقد والتفكيك. وانتهى بعد قراءة مطولة إلى أن الخطاب الحداثي يعاني من فقد القدرة على النقد، حيث إنه لم يكن لديه تصور تام للموضوع, ويعاني أيضا من ضعف التصور للمنهجيات التي نقلها, وكشف عن أنه نقل منهجيات مازالت في طور البناء ولم تكتمل بعد, وأنه نقل أفكاراً عبارة عن وسائل نقدية أشبه بالموجات الفكرية الزائلة منها بالمنجزات العلمية الراسخة.

ولا بد من التنبيه على أن هذا الكتاب والذي قبله يتصف بالصعوبة في العبارة والتعقيد في التركيب, والدقة العالية في الترتيب، والتركيز الشديد في الألفاظ, بحيث يصعب فهمه والاستمرار في قراءته, ولكن يمكن التغلب على هذه الإشكالية بالاطلاع على كتاب "حوارات المستقبل" للمؤلف نفسه, فإن هذا الكتاب يعد كالمدخل لفكر طه عبد الرحمن؛ لأنه عبارة عن حوارات دارت بينه وبين كبار القريبين منه, وقد قرب فيها أفكاره ومصطلحاته بشكل جيد وسهل في نفس الوقت. الكتاب الثامن: الحداثيون العرب في العقود الثلاثة الأخيرة والقرآن الكريم, ومؤلفه: د. الجيلاني مفتاح. قام المؤلف في كتابه برصد تاريخي للخطاب الحداثي العربي, وأوضح مراحله التي مر بها, ومدارسه واتجاهاته، وأبان عن موقف الحداثيين من القرآن وعلومه, وكشف عن منهجهم في فهم القرآن, وجمع عدداً من تطبيقاتهم العقدية والفقهية, وهو في كل ذلك يقدم أوجها نقدية يكشف فيها عن الخلل الغائر في الخطاب الحداثي. وفي تشخيص الممارسات المنهجية الخاطئة لدى الحداثيين العرب كشف عن: المجازفة وغياب الدليل, وانتشار التناقض والتصادم الكثيف, والتمويه والمراوغة, والانتقائية وغياب الاتساق, والقفز على الحقائق التاريخية, فضلا عن المجاوزة الظاهرة لقطعيات النصوص الشرعية. الكتاب التاسع: ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر, ومؤلفه: د. خالد السيف. قام المؤلف برصد تاريخي لظاهرة التأويل، وتتبع لمسيرته التاريخية والجغرافية, وتتبع لنموها في الفكر العربي وتطوراتها وتشكلاتها, وجذورها التي استمدت منها. والكتاب في جملته يعد عرضاً شيقاً لأبرز الأفكار التي قامت عليها القراءة الحداثية للنص الشرعي, إلا أنه يظهر فيه الاستغراق في الشرح والبيان على حساب النقد والتفكيك لكثير من المضامين التي تم عرضها في الكتاب. ويقف القارئ له على بيان جيد للإشكاليات المنهجية التي وقعت فيها القراءة الحداثية, ومنها: ظاهرة الإسقاط المنهجي التي لم يراع فيها التناسب بين طبيعة المناهج المستعارة وبين طبيعة الأرضية المطبقة عليها, ومنها: المبالغة والتجاوزات في ادعاء النتائج, ومنها: نقل مناهج وآليات لم تكتمل بعد ولم يحسم الأمر فيها, ومنها: الكشف عن أثر غياب التدليل على الأفكار والدعاوى, ومنها: مخالفة الأسس النظرية التي قامت عليها القراءة الجديدة للمبادئ الفطرية. الكتاب العاشر: المرايا المحدبة, ومؤلفه: د. عبد العزيز حمودة. يعد هذا الكتاب أول ثلاثية الدكتور عبد العزيز حمودة التي قام فيها بنقد موسع للخطاب الحداثي العربي المعاصر, والكتاب الثاني منها يحمل اسم: المرايا المقعرة, وحمل الثالث اسم: الخروج من التيه, وقد كشف فيها المؤلف عن الإشكاليات المعرفية والمنهجية المتجذرة في بنية الحداثة, وتعد هذه الثلاثية موسوعة ضخمة تحتاج إلى دراسات مطولة تكشف ما تضمنته من قيم نقدية ومبادئ تمحيصية. ولعل من أبرز ما تضمنه كتاب المرايا المحدبة: كشفه عن أساليب الخطاب الحداثي الدعوية حيث يقصد إلى الغموض في العبارات والألفاظ، والتكلف في المصطلحات، والمراوغة المتعمدة, وإظهاره للتناقضات العديدة التي وقع فيها, واكتشافه للانتقالات التي يقوم بها الحداثيون من مشروع إلى مشروع مناقض له من غير أي مبرر, وتبيانه كيف أنهم استعاروا مناهج غربية نقدها الغرب نفسه وتجاوزها بمراحل متقدمة, وحشده للأزمات التي يعيشها الخطاب الحداثي, سواء الأزمة في المصلح نفسه، أو في نقله واستعارته، أو في فهمه واستيعابه.

ويتضمن الكتاب أيضا جمعا للأدلة العقلية الواقعية التي يثبت من خلالها بطلان نظرية التفكيك التي نادى بها عدد من الفلاسفة الحداثيين, ويشتمل الكتاب أيضا على حشد كبير لأقوال عدد من كبار المفكرين العرب أقروا فيها بالمأزق المنهجي الذي وقع فيه الخطاب الحداثي. الكتاب الحادي عشر: القرآن الكريم والقراءة الجديدة, دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون, ومؤلفه: د. الحسن العباقي. يقف الكتاب من أول صفحاته وقفة جادة وصارمة مع المشروع الأركوني, ويواجهه بأسئلة واعتراضات شرعية وتاريخية وعقلية عديدة, يشكف من خلالها القفزات الهائلة التي وقعت من أركون في بناء مشروعه النقدي, وهو كتاب نقدي تساؤلي من أوله إلى آخره, ويكاد يستوعب المواد الثلاث المكونة للمشاريع النقدية. فقد وقف مع أركون في كثير من المضامين المعرفية التي نسبها إلى التراث، وبين كيف أن توصيفه لها لم يكن صحيحا, وخاصة مما ادعى فيه أركون بأنها من اللامفكر فيه. وقام بحصر تعاملات أركون مع القرآن الكريم وقدم حولها تساؤلات منهجية تضرب في العمق, وتكشف مقدار الخلل المنهجي الذي وقع فيه. وحكام النتائج التي توصل إليها إلى العقل والمبادئ الفطرية، وكشف عن مخالفتها الظاهرة لذلك. وأظهر في أثناء الكتاب عددا غير قليل من التناقضات التي وقع فيها أركون, وبين أبعادها على فكره ومشروعه. الكتاب الثاني عشر: الغارة على التراث الإسلامي, ومؤلفه: جمال سلطان. يحتوي هذا المؤلف - مع صغر حجمه - على مادة علمية جيدة تساعد بشكل كبير على انعتاق عقلية القارئ من ذلك الزخم الكبير الذي أحيطت به المشاريع الحداثية، فقد جمع عددا من الاعتبارات التي تؤكد قيمة التراث, وضرورة الصرامة المنهجية في التعامل معه، وسلط الأضواء على الأمور التي تبرز خصوصيات التراث الإسلامي عن غيره, وأشار إلى آثار القفز على هذه الخصوصية، ونبه على غياب الأبجديات المنهجية في الدراسات التراثية المعاصرة، وأولى قضية الإسقاط المنهجي اهتمام خاصة، وضرب أمثلة على التزوير التاريخي في تلك الدراسات في تصوري أن الوقوف على هذه المؤلفات واستخلاص ما اشتملت عليه من رؤى نقدية من أقوى ما يؤسس العقلية النقدية, ومن أصلب ما يحقق التوازن الفكري في التعامل مع المنتج الحداثي. وبلا شك فهناك مؤلفات أخرى تحتاج إلى إبراز وتتطلب تسليط الأضواء عليها, ولعل ذلك يكون في مناسبات أخرى إن شاء الله تعالى.

تهافت الفراعنة

تهافت الفراعنة عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف 22 ربيع الأول 1432هـ «اللهم أنت أمتَّه فاقطع عنا سُنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمدُّ بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله، يرجّل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر، فيهذر حتى تفوته الصلاة، لا من إله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل، ثم قال الحسن: هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط» (¬1). هكذا قال سيد التابعين الحسن البصري -رحمه الله- بعد أن سجد لله شكراً لما بلغه هلاك الحجاج بن يوسف (¬2). ومصارع الطغاة، وزوال سلطانهم، وتهاوى عروشهم من سنين الله تعالى وآياته التي توجب التفكر والاعتبار، وها أنت تعاين أنظمة وحكومات في غاية الجبروت والبطش والاستبداد، ثم يفجؤهم الخطب فإذا هي أنظمة هشّة تتساقط كأوراق الخريف .. فالأمر كله لله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. لكن هؤلاء الفراعنة والطغاة ما كان لهم أن يقارفوا طغيانهم واستبدادهم إلا بوجود جماهير تمنحهم الثقة المطلقة، والاستجابة العمياء، فالشعوب التافهة في كل زمان ومكان هي التي تصنع المستبدين، وتغريهم بالطغيان (¬3). وأما الشعوب التي تربى أبناؤها على الشجاعة والإقدام، فما كان لهم أن يرضوا بالهوان، أو يستكينوا للطغيان، ولسان حالهم يقول: ولا يقيم على خسف يُراد به ... إلا الأذلّان عيرُ الحيّ والوتدُ هذا على الخسف معقول برمُته ... وذا يشجُ فلا يبكي له أحد وفي أحداث تونس ومصر أروع الأمثلة في دور الشعوب عموماً والشباب خصوصاً في مدافعة الفساد ومحاربة الطغيان. يقول الأستاذ محمد الغزالي - رحمه الله -: «وقد راقبنا الثورات التي اشتعلت في أرجاء الشرق ضد الغزاة المغيرين على بلاد الإسلام، فوجدنا جماهير الشباب هم الذين صلوا حرها، وحملوا عبئها، واندفعوا بحماستهم الملتهبة وإقدامهم الرائع يخطّون مصارع الأعداء، ويرسمون لأمتهم صور التضحية والفداء. ولا يزال الشباب من طلاب وعمال وقود الحركات الحرة، وطليعة الثائرين على الفساد والاستبداد، وقبلة المربين والمرشدين (¬4). بل إن عامة هؤلاء الشباب - في تونس ومصر - لا يجمعهم حزب منظّم ولا فكر «مؤدلج» فكان خلوهم من ذلك من أسباب إقدامهم وعفوية موقفهم وصدق مدافعتهم .. وقد أدرك العباسيون هذه الحقيقة أثناء القيام بدولتهم، فبعثوا دعاتهم إلى خراسان حيث القلوب الفارغة والصدور السليمة. فقد حكى ابن الجوزي في حوادث سنة مائة أن محمد بن علي العباسي كان يقول لدعاة الدولة العباسية: «أما الكوفة فهناك شيعة علي وولده، وأما البصرة فعثمانية ترى الكفّ، تقول كن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل، وأما الجزيرة فحرورية، وأما الرقة فمسلمون أحلاف النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا طاعة بني مروان، وأما أهل مكة والمدينة فقد غلب عليها أبو بكر وعمر. ولكن عليكم بخراسان فإن هناك الصدور السليمة والقلوب الفارغة التي لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل» (¬5). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (3/ 404). (¬2) انظر: كتاب المتوارين الذين اختفوا خوفاً من الحجاج لعبد الغني الأزدي (ت 409هـ) (ص 46). (¬3) انظر: من معالم الحق لمحمد الغزالي (ص 239). (¬4) في موكب الدعوة (ص 49). (¬5) المنتظم (7/ 56).

ومهما يكن السيل جارفاً وهادراً، فما دام أن بغيته الإصلاح واجتثاث الفساد، فلابد من البدار في مثل هذه الأحداث قبل فوات الأوان، وكما قيل «الفرصة سريعة الفوت بعيدة العود» وإن على الإسلاميين أن يبذلوا قصارى جهدهم في تصحيح مسار هذه الاحتجاجات وتعديل وجهتها وفق الأحكام الشرعية والمصالح المرعية، فلا يسوغ أن نواري هويتنا الإسلامية في غمرة هذه الأحداث، ولا أن نغيّب الخطاب الشرعي المنزل لأجل أن نجامل واقعاً متردياً أو قوى أجنبية .. كما لا يسوغ لبعض المنتسبين للعلم والدعوة أن يؤثروا الاختفاء، ويصمتوا عن واجب البلاغ المبين، والاحتساب في هذه الوقائع، فليس لهم أن يتنصلوا عن مدافعة الظلم وإقامة العدل والتعارف مع الأحرار على البر والتقوى .. وأسوأ من ذلك أن يتلفّع أولئك باعتزال الفتن ما ظهر منها وما بطن! وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوف الفتنة من أدواء النفاق قديماً وحديثاً، وتلوث به بعض المتديِّنة في الماضي والحاضر .. وهذا ما كشفه ابن تيمية بقوله: «ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة. كما قال تعالى عن المنافقين، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]. وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزوم الروم .. فقال: «يا رسول الله إني رجل لا أصبر على النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر فائذن لي ولا تفتني فأنزل الله فيه {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49] يقول: إن نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه الذي زيّن له ترك الجهاد فتنة عظيمة قد سقط فيها، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه، بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ وهذه حال كثير من المتدينين يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين لله وتكون به كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منها .. » (¬1). ولم يقتصر ابن تيمية على هذا التأصيل بل أتبعه بالتحقيق والتطبيق .. فجاهد في سبيل الله، وأزال المنكرات، وأتلف الشركيات ومحاها .. بل أقام الحدود وعزر .. حتى ثار عليه بعض الذين في قلوبهم مرض، فبيّن خطأهم وأزال لبسهم فسكنوا وسكتوا (¬2). وعند سقوط نظام، وخلو بلادٍ من سلطان، فإن المتعين القيام بالإصلاح حسب المستطاع، ودرء الفساد عن البلاد .. وهذا ما حرره أبو المعالي الجويني (ت 478هـ) حيث قال: «ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد، فهو من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإنما ينهى آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبداداً إذا كان في الزمان وزر قوّام على أهل الإسلام، فإذا خلا الزمان عن السلطان وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان .. وإذا لم يصادف الناس قوّاماً بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عمّا يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عمّ الفساد البلاد والعباد» (¬3). ¬

(¬1) الاستقامة (3/ 287 - 291) = باختصار. (¬2) انظر البداية لابن كثير (14/ 19، 34) (¬3) غياث الأمم في التياث الظلم (ص 386).

فما سطّره الجويني يعدّ أنموذجاً مهماً في التعامل مع النوازل، وتحقيقاً لفقه الأزمات والأحداث الطارئة، ولئن كان نظام الطوارئ في الحكومات القمعية قد خلّف شللاً في الحياة، وخنوعاً وسلبية في المواقف والأحوال، فإن التجارب الرائدة والمبادرات العملية في تكوين اللجان الشعبية والتطوعية ونحوها من أجل إصلاح دنيا الناس ومعاشهم وتوفيراً منهم وقت الأزمات .. إن ذلك أورث تراحماً وتعاوناً واجتماعاً وتآلفاً. وأخيراً: إن أحداث تونس ومصر كشفت عن أزمة في فقه السياسة الشرعية لدى فئام من إخواننا السلفيين، فهناك من هاله تتابع الخطوب وعجلة الأحداث، فآثر الصمت والعي، واستروح إلى السلبية والعجز، متدثراً بالرزانة والوقار ومجانبة الغوغاء والدهماء! ورحم الله الإمام الشعبي إذ يقول: «نعم الشيء الغَوغاء، يسدّون السيل، ويطفئون الحريق، ويشغبون على ولاة السّوء». وأشنع من ذلك أن يدّعي بعضهم أن هذه المظاهرات والاحتجاجات خروج على الإمام! فأين تذهب عقول هؤلاء! فهل ثبتت شرعية هذه الأنظمة العلمانية - التي تجاهر بمنابذة الشرع المنزّل في قونينها وواقعها - حتى يقال بالخروج عليها؟! ورضي الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب القائل: «لابد للناس من إمارة برّة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البّرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء». فانظر - رحمك الله - هل تحسّ بهذه الولاية الفاجرة في نظام تونس ومصر ونظائرها؟! وكما قال ابن تيمية: «وجماع السياسة العادلة في أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل». وهذه الأنظمة المذكورة وأشباهها قائمة على الخيانات والظلم والاستبداد. ثم إن الخروج يكون بالسيف، وهذه المظاهرات والاحتجاجات قد جانبت القوة والسلاح، على عكس هذه الأنظمة البربرية التي لا تفهم إلا السحق والقمع، وأيضاً فإن هذه المظاهرات مطالبة بإقامة العدل وأداء الأمانات إلى أهلها، ومحاسبة اللصوص الكبار .. بل قد يتحقق لهم جملة من هذه المطالب - كما هو واقع مشاهد - وإن اكتنف هذه التجمعات بعض المفاسد والشرور، فإن مصالحها تربو على مفاسدها، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها. وفي التاريخ وقائع متعددة من هذا القبيل، ومن ذلك أن في سنة 308هـ ارتفع الغلاء والمكوس في بغداد، فاضطربت العامة لذلك، وأوقعوا شغباً .. وعندئذ أزيلت المكوس وهبطت الأسعار. والحاصل أن على إخواننا السلفيين أن يراجعوا مواقفهم تجاه الأنظمة وبنظرة شمولية فاحصة، متحرين الفقه والدليل، والدراية بالواقع والحال، فكما يُتقى التهور وقمع السلطان، فكذلك يُتقى الركون للظالمين أو الذبّ عن الخائنين بلسان الحال أو لسان المقال والله المستعان.

نظرة واقعية في أحداث ليبيا

نظرة واقعية في أحداث ليبيا علوي بن عبد القادر السَّقاف 20 ربيع الأول 1432هـ الحمد لله، كاسر الأكاسرة، وقاصم القياصرة، وقاهر الهراقلة، ومهلك الفراعنة، وهازم الأباطرة، أحمده حمد الشاكرين على ما منَّ به على أهل مصر وتونس، ونسأله المزيد من الصلاح والإصلاح لهم ولأهل ليبيا، وهو القائل سبحانه: {لئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُم}. أما بعد: فلا يخفى على أحدٍ حالُ حاكم ليبيا ومحاربته للإسلام، عيانًا بيانًا، جهارًا نهارًا، حتى بات يعرف ذلك الصغير والكبير، والعالم والجاهل، حتى وصفه بعض الزعماء العرب بأنه صنيعة الاستعمار، وقد صدق من وصَفَه بذلك، فها هو يُصرِّح في خطابه الأخير باعتزائه إلى الغرب والقانون الدولي لحرب شعبه وتدميره بيتًا بيتًا، وها هو الغرب يسكت عن جرائم صنيعتهم، ويتفرج على ذبحه للعُزَّلِ من الناس، وهم الذين صمُّوا آذاننا بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد خرسوا وعَمُوا لما تعارضت مبادؤهم تلك مع مصالحهم الاقتصادية في ليبيا، فبئست هذه الازدواجية. ولما كان حال هذا الرجل غير خافٍ على أحد، وأنه ممن أظهر الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان؛ مما جعل هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وفيهم المشايخ العلماء - الشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ صالح اللحيدان وغيرهم - يصدرون بياناً بتكفيره في عام 1402 هـ، جاء فيه: (( ... وفي طليعة هذه الطوائف المنحرفة والموجهة طاغية ليبيا معمر القذافي، ذلك الرجل الذي نذر نفسه لخدمة الشر، وإشاعة الفوضى، وإثارة الشغب، والتشكيك في الإسلام. لقد استعرض المجلس أطوار هذا الرجل، وسرعة استجابته لعناصر الشر والكيد والحسد، حيث صار يهذي في أجهزة إعلامه بما يستحي مِن ذكره مَن له ذوق سليم أو عقل مستقيم, يتضح ذلك في أقواله وأفعاله وتقلباته في جميع ميادين عمله، داخل بلاده وخارجها، وفي مقدمة ذلك تعرُّضه للعقيدة الإسلامية. فلقد أقبر هذا الرجل السنة النبوية، وسخر من الحج إلى بيت الله الحرام، ومن المسلمين الذين يقفون في عرفات، وصدرت بتفنيده فتاوى شرعية من هيئات ومجالس إسلامية عليا، ومع ذلك لا يزال هذا المسكين يتخبط في متاهات من الزيف والضلال تعطي القناعة التامة أنه ضال ملحد. إن مجلس هيئة كبار العلماء وهو يستنكر تمادي هذا الدَّعي على الإسلام والمسلمين ليقرر ويؤكد أنه بإنكاره لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستفتائه بالحج (كذا)، واستهانته ببعض التعاليم الإسلامية، واتجهاته الآثمة الباطلة يعتبر بذلك كافراً وضالا مضلاً)) (انظر كتاب: "الرد الشافي على مفتريات القذافي" (ص 101)، من مطبوعات رابطة العالم الإسلامي). والكل يعلم من حال الرجل أنه لا يزال في ضلاله القديم، وفي استكباره، واستخفافه بالشريعة. لما كان حاله كذلك، لم نرَ أحداً يشكك في حكم الخروج عليه من الناحية الشرعية، فضلاً عن حكم التظاهر السلمي عليه. لكن الحديث ينصب في مثل هذه الحالة على تحقق القدرة على ذلك. وفي مثل هذه النوازل والأزمات تثور عادةً أسئلةٌ كثيرة في أذهان الناس، منها: هل ما فعله الليبيون وهم يعلمون جبروت حاكمهم صوابٌ أم خطأ؟ وهل يستمرون في ثورتهم مع إصراره هو وابنه على سفك الدماء أم يتخلَّوْن ويعودون أدراجهم؟ وغير ذلك من الأسئلة. فأقول وبالله التوفيق:

أولاً: ما قام به الليبيون ابتداءً - ومن قبلهم أهل تونس ومصر- وإن عدَّه البعض خروجاً على الحاكم إلا أنه ليس من باب الخروج الذي يمنع منه الفقهاء والسلف (والذي من صفته أن يكون فيه التقاء مجموعتين بأسلحتهما ويترتب عليه من الاضطراب والفتنة والهرج والمرج ما يقتضي عدم جوازه ابتداءً واستدامة)، ولكن الحالة المعاصرة التي نتحدث عنها لم تكن معروفة من قبل، وجدَّ فيها ما يُغيِّر مناطها عن مناط ما اتفقت كلمة الأئمة على المنع منه، ألا وهي الاحتجاجات السلمية التي قد تؤدي إلى مواجهة مسلحة من طرف واحد وتُفضي إلى ذهاب أرواح كثيرة، وقد تفضي -في المقابل- إلى مفاسد قليلة في مقابل مكاسب كبيرة كما حصل في تونس ومصر، ومسألة إراقة الدماء في أمثال هذه المظاهرات ربما يُقال: إنها مصاحبة أحياناً، ولكنها ليست بلازمةٍ لها على كل حال؛ إذ إنها قد تنفكُّ عنها، وتنجح هذه الثورات دون دماء، ومقاتلة من أيٍ من الجهتين. ولذلك لما رأى السلف أن القيام على حكام الجور والفسق يؤدي إلى مفسدة كبيرة أجمعوا على منع ذلك، كما قال الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (1/ 399): (لكن استقرّ الأمر على ترك ذلك -أي الخروج- لما رأوه قد أفضى إلى أشدّ منه؛ ففي وقعة الحرّة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظةٌ لمن تدبَّر)، أما في وقعة تونس ومصر القريبتين فالأمر على خلاف ذلك، ولم تُفضِيا إلى ما هو أشد من ذلك. ثانياً: أن الحالة في ليبيا تختلف عن الحالة في مصر حيث إن حاكم ليبيا معروف بكبريائه، وجنون عظمته، وحبه لسفك الدماء، وهذا ما رأينا نتيجته منذ الأيام الأولى من اندلاع التظاهرات حتى الآن. كما أنه معروف بسيطرته على الجيش، وكافة الأجهزة الأمنية، إلا أنه قد خذله الشرفاءُ منهم. ثالثاً: الحديث عن ثورة أهل ليبيا على حاكمهم وصوابه من خطئه، قد فات أوانه، بعد أن فرضتْ الأحداث نفسها على أرض الواقع، فليس من المصلحة الخوض فيه الآن، فهو أمرٌ قد مضى وانقضى. على أنه لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان اعتبار أن توقيت الثورة الليبية جاء متزامنًا مع نجاح الثورتين في الجارتين عن اليمين والشمال (تونس ومصر). الأمر الذي سهَّل على الساعين لإسقاط القذافي مهمتهم، ومهَّد لتوحيد الصف، ومنْع -أو تحجيم- الاختلاف في تقدير المصالح والمفاسد. رابعاً: أنه بعد أن قامت المواجهة بين الشعب وهذا المجرم لا يشك عاقل أن تراجع الليبيين عن ثورتهم فيه من المفاسد الشيء الكثير. ومما ينبغي التنبيه عليه حول هذا الأمر: 1 - أنَّ إيقاف المواجهة الآن لن يكون في صالح الشعب حتماً؛ لأن هذا السَّفَّاح سوف ينتقم من شعبه، ويسفك من دماء أبنائه خلال الأشهر القادمة أكثر مما يُتوقع سفكُهُ خلال أيام ثورة الشعب عليه، وتاريخه الأسود يشهد بذلك، فقد قتل أكثر من 1200 سجينٍ ليبيٍّ في حادثة واحدة عام 1996م. 2 - أنَّ هزيمة الشعب الليبي أمام حاكمه وتراجعه عن ثورته تشجع أمثاله ومن على شاكلته لسلوك المسلك نفسه في التصدي لأي مواجهة سلمية قادمة ضد الظلم والطغيان. 3 - وفي المقابل، فإنَّ هزيمة الشعب الليبي أمام حاكمه سوف تثبط من عزيمة وهمة أي شعب آخر يمكن أن يزيح من أمامه الظلم والطغيان. وقد يجعلها آخر ثورات الشعوب ضد من يحكمها بغير شرع الله من أمثال القذافي. 4 - أثبتت تجربتا تونس ومصر لليبيا أن الحاكم مهما كان طغيانه لا يستطيع أن يقف أمام شعب كامل ثائر مقهور مظلوم. 5 - القبلية الليبية عامل مرجح لجعل الكفة في صالح الشعب. وشعب عمر المختار معروف بقوته وصبره وجلَده.

6 - أن النصر إنما هو صبر ساعة، وفي كل يوم تكتسب الثورة قوة وتزداد الانشقاقات في صفِّ النظام الليبي، ويستقيل من نظامه الواحد تلو الآخر، ويتبرأ منه كل شريف منضمًا إلى الشعب في ثورته. 7 - بدأ العالم الغربي محاولةً منه لحفظ ماء وجهه يندد ويدين على استحياء، وفي كل يوم تتعالى صيحات المستنكرين على جرائم هذا الطاغية مما يزيد من الضغوط عليه. لهذه الأسباب وغيرها صار من الواجب على كل ليبيٍّ أن ينحاز إلى شعبه في هذه الثورة ضدَّ هذا السفاح، وأن يعمل ما في مقدوره للتخلص منه. ويجب على قوات الجيش وأجهزة الأمن أن تعلن رفضها له، وتضييقها عليه، وتأييدها للشعب حفاظًا على أمنه وأرواحه وممتلكاته. ومن واجب الحكومات العربية والإسلامية التدخل السريع في وقف شلالات الدم ومجازر الحاكم الليبي، وألا تدع الفرصة لتدخلات أجنبية تفرض أجندتها وسيطرتها على بلد إسلامي بدعوى الحفاظ على الأمن أو بما يحقق مصلحتها. أمَّا إخواننا في ليبيا الشقيقة شعباً العدوة نظاماً، فإننا ننصحهم بالصبر والثبات، وأنه مما يزيد الأمل في نصرتهم سماعنا لكثرة تردادهم لذكر الله من التهليل والتكبير، وصدق اللجأ إلى الله تعالى، وهذا ما لم نكن نسمعه في ثورتي تونس ومصر إلا قليلاً. وأمَّا إخوانهم المسلمون في كافة المعمورة فعليهم الدعاء بالنصر والتأييد لأحيائهم، والمغفرة والرحمة لموتاهم، وأن يقنتوا لهم في صلواتهم؛ فإنها نازلة وأي نازلة. وبعد انكشاف الغمة يُنصح الجميع، ويُذكَّرون بوجوب التحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد أن ظلت كثيرٌ من دول المسلمين تتخبط لعشرات السنين وراء الأوهام المستوردة، فلم تُسعدها الدكتاتوريات، ولا الديمقراطيات، لا الشرق ولا الغرب، فلا يجوز ولا يسوغ بعد هذه التضحيات أن يوسَّد أمر المسلمين ثانية إلى غير أهله، أو إلى من يغصب الأمة دينها، وخيراتها من غير الأمناء. و ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين)) رواه البخاري ومسلم. نسأل الله أن يكشف عن المسلمين الغمة، وأن يجعل في هذه الأحداث عبرة وعظة للأمة، وأن يُهلك مَن بهلاكه صلاح المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

بيان حول أحداث ليبيا

بيان حول أحداث ليبيا رابطة علماء المسلمين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن رابطة علماء المسلمين تتابع الأحداث الجارية على أرض ليبيا، وإنها لتأسف على دماء المسلمين التي تهدر، وأرواحهم التي تزهق، بسبب الظلم ووأد الحرية، وإن الرابطة وهي تتابع تلك الأحداث ومن واقع الواجب الملقى عليها تؤكد على ما يأتي: أولًا: إن المطالبة بتحقيق العدل ورفع الظلم مقصد شرعي، وإن المناداة بتحقيق التنمية ومحاربة التخلف حق إنساني، وإن الإلحاح على شُوريَّة الحكم في البلاد واختيار الشعب من يمثله بصدق أساسٌ من أسس الاستقرار، ولا تمثل تلك المطالبات خروجًا أو مخالفة شرعية، بل ذلك من جنس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثانيًا: إن حاكم ليبيا قد حكم عليه العلماء بالردة قبل أكثر من ثلاثين سنة، وعليه فتكون ولايته غير شرعية، ولا يجوز طاعته، وعند القدرة يجوز الخروج عليه، وحكم القصاص واجب لمن قتل مسلما فكيف بمن طاش في دماء المسلمين وقتل منهم المئات، فالواجب على المسلمين دفعه بكل سبيل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم". الفتاوى الكبرى (4/ 608). ثالثًا: على رجال الجيش الأمناء أن يقوموا بواجبهم الذي تحملوه بحماية أمتهم، ويصدروا الأوامر بمنع استخدام القوة ضد العزل الشرفاء، وألا يلوثوا أيديهم بدماء الأبرياء، فإن حرمة الدماء عند الله عظيمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا». رابعًا: على أهل العلم والمصلحين والدعاة القيام بواجباتهم الشرعية والعملية في قيادة أمتهم وتسديد مسيرتها، وتوجيهها نحو أعدل السبل وأقوم الطرق، التي بها يصلح حال البلاد والعباد، متحرين في ذلك رضا ربهم، ومراعين فقه واقعهم، دون حيف أو خوف، أو مراعاة لشرق أو غرب، وندعو الأئمة للدعاء في الصلوات لإخوانهم. خامسًا: إلى الشعب الليبي العريق، إننا نقف معكم، وخلف مطالبكم، ونرفض كلَّ ظلمٍ واقع عليكم، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بسلمية تلك المطالبات، والحفاظ على الممتلكات، حتى تقطعوا كل طريق على المتربصين بكم، ونذكركم بالتمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، وجمع القلوب والائتلاف، والبعد عن الفرقة وأسباب الاختلاف مع لزوم الصبر والثبات والفزع إلى الدعاء حتى يفرج الله تعالى الغُمَّة، ويكشف الكربة، والحرص على إصلاح النوايا فإن هذه النفوس أنفس من أن تزهق لغير الله. سادسًا: إن الشعب الليبي شعب مسلم أبيٌّ يأنف من الظلم، ويتأبى على الضيم، ولا يصلح بحال أن يكون محكومًا إلا بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تحقيق ما ينشده من حرية وعدالة وتنمية. سابعًا: على الجهات الخيرية الإسلامية، المحلية والدولية القيام بواجبها نحو إغاثة الشعب الليبي المسلم، وعلى وسائل الإعلام العربية القيام بدورها في نقل وتصوير هذه المأساة الإنسانية ببشاعتها؛ ليقف العالم على خطورة ما يجري على أرض ليبيا وليقوم كل بواجبه. وأخيرًا نذكر بقول الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، نسأل الله تعالى أن يلطف بعباده في ليبيا، وأن يرزقهم الثبات، ويربط على قلوبهم، وأن يعجل برفع الظلم عنهم، والحمد لله رب العالمين.

بيان العلماء والدعاة في أحداث مصر وتونس

بيان العلماء والدعاة في أحداث مصر وتونس 17 ربيع الأول 1432هـ الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام نبينا محمد وعلى آله وصحبه أهل الفضل والإنعام. أما بعد. فقد رأى العالم كيف سقط طاغوت مصر الذي بدل الشريعة، وأذل شعبه، وتسبب في جعله من أفقر شعوب الأرض، وسخر أجهزة الدولة لخدمة وحماية شخصه، وحول أمن الدولة لإرهاب الشعب، وأعان اليهود على المسلمين في غزة بغلق معبر رفح، وملاحقة الأنفاق ودفنها، وبناء الجدار الفولاذي بوصاية كاملة من المخابرات اليهودية والأمريكية، وأشد منه ولاءً لليهود وعَداءً للإسلام والمسلمين طاغوتُ تونس، الذي خنق الشعب التونسي المسلم، ونهب أمواله، وصادر حقوقه، وسامه سوء العذاب، وفتن المسلمين عن دينهم، وحارب مظاهر الإسلام، وفتح أبواب الفاحشة والفساد والمجون، ومنع الحجاب، وأقام دور البغاء بإشراف رسمي مباشر من وزارة الداخلية، فأحل الحرام، وحرم الحلال، وفعل ما لم تفعله دول الكفر، كل ذلك سعياً منه في إخراج جيل تونسي ممسوخ من الإسلام، وهذا العمل الذي تبناه طاغوت تونس لهو أشد فتكاً بالمجتمع التونسي من القتل بالسلاح؛ كما قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة 191)، وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة 217). أما السجون والتعذيب والفساد المالي والإداري والسياسي في تونس ومصر فباب لو فتحناه لم نستطع إغلاقه. ثم هرب الطاغيتان، على أشد حال من الذل، وهذه سنة الله تعالى في الظالمين، قال الله تعالى: { .. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (السجدة22)، وقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ .. } (إبراهيم42). وسقوطهما ليس حدثاً مختصاً بأهل مصر وتونس بل هو نعمة كبرى من الله تعالى على المسلمين جميعاً، فالحمد لله حمداً كثيراً. وتأسيساً على ما سبق، وانطلاقاً مما أوجبه الله تعالى على أهل العلم من بيان الحق والنصح للخلق، فإننا نذكر أنفسنا وإخواننا المسلمين بالآتي:

أولاً: وجوب شكر نعمة الله تعالى علينا، وذلك بالعودة إلى الإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج41)، وقال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس98)، والعودة إلى دين الله تعالى وتحكيم شرعه ليس مختصاً بالجانب السياسي فقط بل يعم جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والصحية والقضائية والأمنية مع إقامة ذكر الله تعالى، وإظهار شعائره، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحكم الله تعالى فيه الخير والعدل والصلاح للعباد والبلاد، وهو الذي يحفظ للناس كرامتها وحريتها وحقوقها قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة50)، وقال تعالى: {إنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف40)، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة44)، وهذه وصيتنا لكل حكام الدول الإسلامية التي لم تحكم بالشريعة، وأن يتذكروا وقوفهم بين يدي الله تعالى. ثانياً: لقد ذمت الشريعةُ الاستبدادَ بالرأي سواء أكان ذلك صادراً من حاكم أو وزير أو مدير، وأمَر الله تعالى بالشورى، وجعلها من أهم صفات المؤمنين، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الشورى38)، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ .. } (آل عمران159) وليس الفرق بين الشورى الربانية، وبين الديمقراطية الوضعية في طريقة الانتخابات أو استطلاع الرأي العام، وإنما الفرق في المنطلق العقدي؛ فالديمقراطية الوضعية تجعل الحاكم في كل شيء هو الشعب؛ فيصوتون حتى على المحرمات في الإسلام كإقامة دور البغاء، والسماح بالشذوذ، والخمر، والربا، أو منع الأذان، والحجاب، ونحو ذلك. أما الشورى في الإسلام فالحكم فيها لله وحده، فما أوجبه الشرع أو نهى عنه فلا يملك أحدٌ تغييره، وإنما البحث والتصويت في كل ما كان داخلاً في دائرة المباح في جميع مناحي الحياة. ثالثاً: لقد أمر الله تعالى بالاجتماع ونهى عن التنازع والبغي، لكنه اشترط أن يكون الاجتماع على الكتاب والسنة، قال الله تعالى:" وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الأنفال46)، وقال تعالى:" وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ .. " (103آل عمران)، وحبل الله هو القرآن الكريم. فنوصي إخواننا وأحبتنا في مصر وتونس أن تجتمع كلمتهم على من يتبنى تحكيم الشريعة، أما الأحزاب المعاندة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كالشيوعية والعلمانية، فإنه لا يجوز ترشيحها، ولا الانخراط فيها. رابعاً: العودة إلى القرآن الكريم من خلال إنشاء حلقات تحفيظ القرآن الكريم وتعليمه، وإقامة الدورات والدروس العلمية، في العقيدة والتفسير والحديث والفقه، وإدخال العلوم الشرعية في مناهج التعليم، وإعادة الجامعات الإسلامية إلى عزها ومجدها.

خامساً: القيام بدعوة الرسل وهي دعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تكون عبادته بما شرع، والتحذير من الشرك، ومن مظاهره المنتشرة في كثير من البلاد العربية والإسلامية: شرك القبور، فمن صرف نوعاً من أنواع العبادة لغير الله؛ كالدعاء، أوالاستغاثة، أوالذبح لغير الله فقد أشرك، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ .. } (النحل36)، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن18). والتحذير من مظاهر الابتداع في الدين، فمن عبد الله بغير ما شرع فقد وقع في البدعة، قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. سادساً: إقامة شعائر الإسلام وعلى رأسها عمود الإسلام "الصلاة" جماعة في المساجد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم آخذ شعلا من نار، فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد" متفق عليه. سابعاً: إلى أخواتنا المؤمنات في تونس على وجه الخصوص لقد أمركن الله تعالى بالجلباب، ونهاكن عنه ابن علي، وقد أزاحه الله تعالى عن تونس، فلا عذر للمؤمنة في تركه، وأنت من نساء المؤمنين اللاتي أمرهن الله تعالى في قوله:} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب59). ثامناً: من سنة الله في الأمم والأفراد أنها إذا أصرت على معصية الله أخذها بذنوبها، ومن هذه الذنوب التي طغت: الظلم، والاستبداد، وعدم تحكيم الشريعة، وتمكين البطانة المفسدة، ونهب خيرات المسلمين، والفساد المالي، والإداري، والربا، والإعلام الماجن، وترك الصلاة، ومظاهر البدع المخالفة لعقيدة التوحيد، والسكوت عن المنكرات، فلنبادر جميعاً بالتوبة الصادقة, والإقبال على طاعة الرحمن قال الله تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ .. } (العنكبوت 40)، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (الأنعام 44)، وقد يؤخر الله العقوبة ابتلاءً واستدراجاً قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (القلم45). تاسعاً: الواجب محاكمة هؤلاء الطواغيت وأعوانهم في الظلم محاكمةً شرعية. عاشراً: أن يكون القضاء الشرعي مستقلاً، ولا سلطان عليه إلا الكتاب والسنة، وعدم استثناء أحد من المثول أمام القضاء رئيساً كان أو إعلامياً، وسواء أكان الاستثناء بطريقة مباشرة أو ملتفة؛ كوضع أنظمة ولوائح مآلها إلى تقييد أو منع دعاوى الحسبة، أو وضع حصانة تقيد مقاضاة المسؤولين أو الإعلاميين، أو إرهاب المدعي ومحاصرته بطريقة غير مباشرة.

حادي عشر: قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} (هود116)، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (الأعراف165)، فكانت النجاة لمن كان ينهى عن السوء والفساد، والمراد بالسوء والفساد هو ما اعتبره الشرع سوء وفساداً؛ من ترك الفرائض والواجبات وارتكاب الموبقات والمحرمات، فالواجب محاربة السوءِ والفسادِ بجميع أنواعه؛ الفسادِ المالي، والإداري، والقضائي، والإعلامي، والأمني، والخلقي، وغيرها وأن تضع الدولة جهازاً لمحاربة الفساد وهو الذي سماه الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في قول الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران104)، وقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .. } (آل عمران110). ثاني عشر: الحذر من استرضاءِ أعداء الإسلام، وتقديمِ التنازلات لهم، والانهزاميةِ النفسية أمامهم، قال الله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (هود113)، وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء75). ثالث عشر: الأجهزة الأمنية إنما هي لحماية الناس، وحفظ حقوقهم وحرياتهم التي كفلها لهم الإسلام، لا أن تكون أداة للحاكم في ظلم الشعب، وإرهابه، وسلب حقوقه. والخطاب هنا يتجه إلى جميع حكام الدول العربية والإسلامية، وننتظر منهم عاجلاً إيقاف عجلة الفساد، وأن لا يحول أحدٌ من الحجَّاب بينهم وبين القيام بواجبات الإمامة وحاجة الناس. نسأل الله تعالى أن يحفظ تونس ومصر وجميع بلاد المسلمين بحفظه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الموقعون: العلامة: عبدالله بن محمد الغنيمان - أستاذ العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سابقاً. الشيخ: د. عبدالله بن حمود التويجري - أستاذ الحديث وعلومه في السعودية. الشيخ: د. عبدالمجيد بن عزيز الزنداني - رئيس جامعة الإيمان باليمن. الشيخ: سليمان عثمان أبو نارو - أمير جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة بالسودان. الشيخ: داعي الإسلام بن سالم الشهال - مؤسس التيار السلفي بلبنان. الشيخ: عبد الآخر حماد الغنيمي - داعية إسلامي بمصر. الشيخ: د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف - أستاذ العقيدة المشارك في جامعة الإمام بالرياض. الشيخ: عصام بن محمد بن إسحاق العباسي - باحث شرعي في مملكة البحرين الشيخ: د. محمد بن موسى العامر - عضو هيئة علماء اليمن. الشيخ: د. عبدالغني بن أحمد التميمي - رئيس هيئة علماء فلسطين في الخارج. الشيخ: أ. د. محمد بن تركي التركي أستاذ الحديث بجامعة الملك سعود بالرياض. الشيخ: زهير بن مصطفى الشاويش - مؤسس المكتب الإسلامي في بيروت. الشيخ: بدر بن ناصر الشبيب - الأمين العام للحركة السلفية بالكويت. الشيخ: د. وجدي غنيم - داعية إسلامي.

الشيخ: د. شوكت كرانسكي - داعية إسلامي في كسوفا. الشيخ: محمد بن عبد الله الحويط داعية إسلامي في ألمانيا. الشيخ: د. عبد الله بن محمد الحاشدي - أستاذ جامعي بجامعة الإيمان باليمن. الشيخ: مرصاد موتشاى - داعية إسلامي في جمهورية الجبل الأسود. الشيخ: د. حامد بن حمد العلي - أستاذ الحديث في الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة الكويت. الشيخ: د. عبدالرحمن بن عمير النعيمي - عضو هيئة التدريس بجامعة قطر. الشيخ: أ. د. عبد العزيز مختار إبراهيم - أستاذ الحديث وعلومه بجامعة تبوك. الشيخ: د. علي بن سعيد الغامدي - أستاذ الفقه بالمسجد النبوي والجامعة الإسلامية بالمدينة. الشيخ: خالد بن أحمد زعرور - مؤسس وقف إحياء السنة بلبنان. الشيخ: د. وليد بن عثمان الرشودي - عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود. الشيخ: د. طارق بن محمد الطواري - أستاذ الحديث في الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة الكويت الشيخ: ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي - باحث شرعي بالطايف. الشيخ: د. عدنان محمد أمامة - داعية إسلامي بلبنان. الشيخ: د. محسن بن حسين العواجي - عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. الشيخ: عبد الوهاب الحميقاني - داعية إسلامي باليمن. الشيخ: د. يوسف بن عبدالله الأحمد - عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام بالرياض. الشيخ: حسن قاري الحسيني - داعية إسلامي بالبحرين. الشيخ: د. خالد بن عبدالله الشمراني - أستاذ الفقه المشارك بجامعة أم القرى الشيخ: د. محمد بن سليمان البراك - عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. الشيخ: د. حمد بن إبراهيم الحيدري - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض. الشيخ: فهد بن سليمان القاضي - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: عبد الله بن ناصر السليمان - مفتش قضائي بالرياض. الشيخ: د. محمد بن عبد الله الهبدان - المشرف العام على مؤسسة نور الإسلام العالمية بالرياض. الشيخ: د. عبدالرحمن بن جميل قصاص - الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. الشيخ: سعد بن ناصر الغنام - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: محمد الصادق مغلس - قاضي في وزارة العدل وعضو هيئة علماء اليمن. الشيخ: عبد الله بن علي الغامدي - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: عارف بن أحمد الصبري - عضو لجنة تقنين الشريعة في مجلس النواب باليمن. الشيخ: إبراهيم بن محمد الحقيل - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: د. مهران ماهر عثمان - داعية إسلامي بالسودان. الشيخ: عبدالمحسن بن محمد الأحمد - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: د. محمد عبدالكريم - رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم بالسودان. الشيخ: قاسم بن علي العصيمي - داعية إسلامي باليمن. الشيخ: د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي - أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى بمكة الكرمة. الشيخ: عبد الرحمن بن محمد الهرفي - عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية بالسعودية. الشيخ: د. ناصر بن يحيى الحنيني - المشرف العام على مركز الفكر المعاصر بالسعودية. الشيخ: عادل بن حسن بن يوسف الحمد - داعية إسلامي بالبحرين. الشيخ: حمد بن عبدالله الجمعة - باحث شرعي في الرياض. الشيخ: د. عبدالله بن عمر الدميجي - عميد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى سابقاً الشيخ: حسين بن محمد الحبشي - باحث شرعي بالسعودية. الشيخ: د. رياض بن محمد المسيميري - أستاذ التفسير المشارك بجامعة الإمام بالرياض. الشيخ: مراد بن أحمد القدسي - عضو هيئة علماء اليمن وعضو رابطة علماء المسلمين. الشيخ: د. ستر بن ثواب الجعيد - رئيس قسم القضاء بجامعة أم القرى سابقاً بمكة المكرمة. الشيخ: سلطان بن عثمان البصيري - القاضي بالمدينة النبوية.

الشيخ: د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي - أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض. الشيخ: د. إبراهيم بن علي الحذيفي - عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. الشيخ: د. خالد بن محمد الماجد - أستاذ الفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام بالرياض. الشيخ: د. عبد الله بن ناصر الصبيح - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض. الشيخ: ناصر بن محمد الأحمد - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: د. سليمان بن صالح الجربوع - عضو رابطة الفقه الإسلامي بالسعودية. الشيخ: بدر بن إبراهيم الراجحي - القاضي بالمحكمة العامة بمكة المكرمة. الشيخ: د. عبدالعزيز بن محمد الوهيبي - المشرف العام على مجلة مؤتمر الأمة. الشيخ: جمال بن إبراهيم الناجم - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: محمد بن عبدالله الحصم - داعية إسلامي بالكويت. الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله الوهيبي - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: محمد بن عبدالعزيز اللاحم - أستاذ العقيدة بوزارة التربية والتعليم. الشيخ: عبدالله بن علي الربع - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: أحمد بن عبدالله الراجحي - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: محمد بن علي عبد الله الغيلي - عضو هيئة علماء اليمن. الشيخ: د. عبدالرحمن بن محمد الفارس - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: الشيخ: د. عبد الملك التاج - رئيس قسم الأصول بجامعة الإيمان وعضو هيئة علماء اليمن. مسفر بن عبدالله البواردي - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: عبدالعزيز بن صالح العقل - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: د. صالح بن عبدالله الهذلول - عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم. الشيخ: عبدالله بن عمر السحيباني - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: د. عبدالرحمن بن صالح المزيني - المشرف العام على موقع رياض الإسلام. الشيخ: د. سعيد بن ناصر الغامدي - أستاذ العقيدة المشارك بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة. الشيخ: د. عيسى بن عواض العضياني - مدير التوجيه والإرشاد بإسكان وزارة الدفاع بالمدينة النبوية. الشيخ: محمد بن على الآنسي - خطيب مسجد الشهداء وداعية إسلامي باليمن. الشيخ: غازي جبر الرياشي - عضو هيئة علماء اليمن. الشيخ: د. محمد بن عبدالعزيز الخضيري - أستاذ القرآن وعلومه المساعد بجامعة الملك سعود بالرياض. الشيخ: عبدالمحسن بن مريسي الحارثي - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: عبدالله بن فهد السويلم - باحث شرعي بالسعودية. الشيخ: د. محمد بشر القباطي - داعية إسلامي باليمن. الشيخ: د. سليمان بن محمد العثيم - داعية إسلامي بالسعودية. الشيخ: حسين بن عبدالرحمن الغامدي - داعية إسلامي بالسعودية.

بيان حول أحداث البحرين

بيان حول أحداث البحرين مجموعة من المشايخ 15 ربيع الأول 1432هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد: فإن العالم اليوم يتابع المتغيرات المتسارعة في تونس ومصر وما حصل فيهما - بتوفيق من الله - من سقوط ذريع لرموز الظلم والطغيان، ثم ما تبع ذلك من خروج متظاهرين في مملكة البحرين على نسق من سبقهم في تونس ومصر مطالبين بالإصلاح وبعضهم نادى بإسقاط النظام كما شوهد في وسائل الإعلام، ولنا مع هذه المظاهرات في مملكة البحرين وقفات: 1 - نذكر ملك البحرين وكافة ملوك وقادة العالم الإسلامي أن صلاح البلاد والعباد يكون بإقامة حكم الله فيهم وتطبيق الشريعة عليهم ورد التنازع لحكم الله ورسوله عملا بقول الله جل في علاه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) وسياسة الناس بالشريعة هو الخير المطلق والسعادة التامة للراعي والرعية وهو أهم وظائف الإمامة ونوصيكم وفقكم الله بما أوصى به الحسن البصري عمر بن عبد العزيز رحمهما الله حيث قال: (إن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة لكل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، وهو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، وهو كالعبد الذي ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، وهو الذي لا يحكم في عباد الله بحكم الجاهلية ولا يسلك بهم سبيل الظالمين، ولا يسلط المستكبرين على المستضعفين، فهو وصي اليتامى وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم). 2 - النصيحة واجبة على كل مسلم عملا بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة هذه الأمة وسبب خيريتها كما قال الله جل في علاه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تكون إلا بالطرق المشروعة والإقتداء الحق بالسنة حتى لا تخرج عن دائرة البر والخير إلى دائرة الإحداث والشر. 3 - إن المتابع للمظاهرات في البحرين يجد أنها تخرج عن دائرة المطالبة بالحقوق، إلى دائرة تنفيذ مخططات مشبوهة وأجندات ظاهرة، تمثل طليعةً لمدٍ صفوي مجوسي يحلم بالاستيلاء على الخليج العربي وتكوين هلال فارسي طالما نادوا به وسعوا لتحقيقه، ومصداق ذلك أنه بمراجعة مراكز الإحصاء العالمية يتبين أن مملكة البحرين من أقل بلدان العالم بطالة مع قلة مواردها المادية وأن جملة كبيرة من المتظاهرين هم أصحاب وظائف وأعمال، ودعاوى المطالبة بإطلاق الحريات المزعومة؛ مقصودها الحقيقي؛ تغيير هوية الحكم وتمكين المد الصفوي منه لا قدر الله، فعلى العقلاء أن يبصروا هذا الخطر وأن لا يكونوا عونا لهذا المد الصفوي في المنطقة وليأخذوا العبرة من العراق الذي سلب أمنه واستقلاله وخيراته.

4 - أن المطالبة بالإصلاح والدعوة لذلك، يكون مقبولا وناجحاً كما هو الحال في ثورتي تونس ومصر حين يتجرد من أي إملاءات خارجية، وحين يتبناه غالب الشعب، لا طائفة من طوائفه. 5 - ننصح إخواننا في البحرين؛ بأن لا ينخدعوا بمثل هذه الفتنة، وألا يشاركوا في هذه المظاهرات التي تخدم المد الصفوي والذي سيقوض أركان دولتهم ويهز وحدتهم وأن يعلموا أن الخروج في مثل هذه المظاهرات محرم شرعا؛ نظرا لظهور مقاصدها الخبيثة، ولما هو مقرر شرعاً من أن الوسائل لها أحكام المقاصد، وبالتالي فلا يجوز المشاركة فيها ولا الوقوف في صف من يدعوا لها أو ينظمها وليعلم أنه شريك في الأثم معه نسأل الله يحفظ إخواننا في البحرين بحفظه وأن يقينا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن ... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الموقعون: 1 - د. سعد الحميد جامعة الملك سعود 2 - د. محمد القحطاني جامعة أم القرى سابقا 3 - د. خالد الشمراني جامعة أم القرى 4 - د. أحمد الزهراني الجامعة الإسلامية سابقا 5 - د. محمد الخضيري جامعة القصيم 6 - د. ناصر الحنيني جامعة الإمام محمد بن سعود 7 - د. خالد العجيمي جامعة الإمام محمد بن سعود سابقا 8 - الشيخ / أحمد الحمدان وزارة الشؤون الإسلامية 9 - الشيخ / حمود التويجري داعية مكة المكرمة 10 - د. عبدالله الدميجي جامعة أم القرى 11 - د. يوسف الأحمد جامعة الإمام محمد بن سعود 12 - الشيخ / فهد القاضي داعية الرياض 13 - د. وليد الرشودي جامعة الملك سعود

توحيد القلوب أولى من الحكم على صدام

توحيد القلوب أولى من الحكم على صدَّام علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف 18 ذو الحجة 1427هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله فقد كنت عزمت على ألاَّ أكتب في هذا الموضوع شيئاً وقد كتب فيه كثيرون، وكلما كتب أو تكلم عالمٌ أو طالبُ علمٍ زادت الهوة واتسع الخلاف -مع الأسف- ما بين مؤيدٍ لهذا أو معارضٍ لذاك، وهذا من القصور في النظر وضيق الأفق، فالمسألة لا تعدو أن تكون مسألة اجتهادية في تحقيق المناط لمسألة شرعية، إذ الكل متفق على الأصول الشرعية التي تحكم هذا الباب وإنما اختلافهم في تنزيل هذا الحكم على شخص معين لاختلاف أنظارهم في بعض أحوال هذا المعين والواقع الفعلي لأيامه الأخيرة، إنما الأمر الذي يجب ألا يُختلف فيه هو أن توحيد الصف وائتلاف الكلمة أولى بكثير من الحكم على صدَّام: هل مات مسلماً أم كافراً؟ أمَّا أن تكون هذه المسألة سبباً في الطعن في العلماء وطلاب العلم والدعاة، وسبباً للفرقة والاختلاف فهذا مما يكرهه الله ورسوله، ولا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة شعاراً يفاضلون بها بين العلماء، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (20/ 207): ((مسائل الاجتهاد من عَمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان؛ فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا؛ قلَّد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم)) فكان ينبغي على من خاض في هذه المسألة إن ظهر له رجحان أحد القولين أن يأخذ به دون أن ينكر على غيره، وإلا قلَّد من يثق فيه من العلماء وانتهى الأمر. أمَّا تسويد الصفحات والوجوه بالردود على هذا أو ذاك دون أخذ العبر والدروس من إعدامه، وما لابس ذلك من ظروف زمانية ومكانية وغير ذلك فهو من الحرمان، أو قل من قلة التوفيق لملاحظة حكمة الله، وسنته في خلقه. إنَّ صدَّام حسين كان يعلن انتماءه لحزب البعث العربي الاشتراكي -الكافر- بل إنه أحد دعائمه، وقد حارب الله ورسوله أيام حكمه وقتل من العلماء والمصلحين والأبرياء ما الله به عليم، وكان يحكم شعبه بغير ما أنزل الله، وجرَّ على شعبه وعلى الأمة الإسلامية الويلات والدمار، وكان يتحدث باسم البعث لا باسم الله، ثم نُقل عنه بالتواتر من أهل العراق أنه قد تغير في نهاية حكمه للعراق وربما صحب هذا الزعم شيءٌ من المبالغة، وقد وُجد في زمن المتناقضات من يرفع شعار الإسلام ويحاربه في آن واحد!، فإذا لاحظت ذلك كُلَّه ثُم أضفت إليه أن العلماء نصُّوا على أن من كان مرتكباً ناقضاً من نواقض الإسلام ولكنه ينطق بالشهادتين على وجه العادة فهو كافر حتى يتبرأ من هذا الناقض = علِمتَ مأخذ من حكم بكفر صدَّام وعدم الترحم عليه من العلماء.

وأما الفريق الآخر فقد لحظوا أن صدَّاماً بعد سقوط بغداد وهروبه ظهرت منه قرائن تدل على نوع تغير عنده: فقد قُبض عليه في مكان يدل على أنه كان يقرأ القرآن ويصلي فيه وحده أو مع نفرٍ قليلٍ من حرسه، وهذا ينفي عنه أنه كان يفعل ذلك على وجه العادة أو الخداع للشعب حيث لا شعب ولا دولة، وكذا ما نَقل عنه الأعداء والأصدقاء عن حاله في السجن من كثرة صلاته وقراءته للقرآن حيث لا يراه إلا الله عزَّ وجل وأعداؤه وهذا نقلٌ ثابتٌ لا يتطرق إليه الشك، وفي هذه الأثناء لا يُعرف عن الرجل أنه كان يدعو لمبادئ حزب البعث الكفرية مما قد يشير إلى أنه أقلع عنها، فمن كان يرى من أهل العلم أنه لابد من التبرؤ مما كان يعلنه من الكفر رأى أنه ما زال على كفره، ومن كان يرى أن الإقلاع عن الكفر وعدم الوقوع فيه مع قرائن أخرى تدل على إسلامه حكم بإسلامه ولو لم يتبرأ صراحة، فالمسألة اجتهادية. ومن القرائن التي تدل على تغير صدَّام في أيامه الأخيرة، آخرُ وصية كتبها قبل إعدامه ففيها الكثير من التوجه إلى الله، والاستشهاد بالآيات، ولم يذكر حزب البعث ولا لمرة واحدة إلا إشادته بثورة 1968م التي مكنته من مسك زمام الحكم في العراق. وعندما سيق إلى المشنقة ولم يبق بينه وبين الموت إلا لحظات لم يتوجه إلى حزب البعث، ولم يذكره، بل ذكر الله وتوجه إليه، ونطق بالشهادتين في ظروف يعرفها من استمع إليها وشاهدها، ومثل هذا التشهد في مثل هذا الظرف يصعب أن يكون على وجه العادة، ولو قالها خوفاً من المشنقة لقلنا لمن كفره: أشققت عن قلبه؟ فكيف وقد قالها أمام من ساءهم نطقُه بها، وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة))، فالذي يغلب على الظن -والعلم عند الله- أن الرجل مات مسلماً تُرجى له الرحمة، وليس كلُّ من مات مسلماً يجب الترحم عليه، ورحمة الله واسعة ((وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل الجنة فيدخلها)) وأمَّا ما يذكره بعضهم من أن الحكم على صدَّام بإسلام يقتضي أنه كلما نطق مرتدٌ محاربٌ للإسلام بالشهادتين عند موته حكمنا بإسلامه، فجوابه: هل من كان حاله الكفر المحض عملاً واعتقاداً يثبِّته الله ويوفقه للنطق بالشهادتين عند وفاته وهو باقٍ على كفره؟ قال البغوي في تفسيره: ((قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني قبل الموت، {وَفِي الآخِرَةِ} يعني في القبر. هذا قول أكثر أهل التفسير. وقيل: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} عند السؤال في القبر، {وَفِي الآخِرَةِ} عند البعث، والأول أصح.)) أ. هـ ولو سلمنا أنَّ ذلك جائزٌ عقلاً، أليس هناك فرقٌ بين من كان يصرح بالكفر حتى إذا ما أدركه الموت نطق بالشهادتين وبين من أظهر الإسلام قبل وفاته بزمن ولم يصرح بكفر ثم نطق بالشهادتين عند وفاته؟ أليس هذا من تثبيت الله له؟ وإني لأعجب من حماس بعض الناس لتكفير صدَّام، كما أعجب من حماس آخرين للترحم عليه والغلو في التعاطف معه حتى عدُّوه شهيداً! وهو لم يقاتل في سبيل الله يوماً واحداً في حياته، ناسين جرائمه وقتله لعلماء المسلمين، فما أضعف العقول! وأيَّاً كان الأمر فالمسألة اجتهادية، وتوحيد القلوب أولى من اختلافها في الحكم عليه. والله أعلم.

الرد على من زعم جواز التبرك بالآثار النبوية المكانية

الرد على من زعم جواز التبرك بالآثار النبوية المكانية علوي بن عبد القادر السَّقَّاف الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين أما بعد: فقد أرسل لي أحد الفضلاء - جزاه الله خيراً - نسخة من كتاب للشيخ الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ بعنوان ((الآثار النبوية في المدينة المنورة وجوب المحافظة عليها وجواز التبرك بها)) مكتوب عليه: (وقف لله تعالى 1427هـ)، فشدني عنوانه وبخاصة قوله (وجواز التبرك بها)، فقرأته على عجل، وشدني أكثر تفسيره للآثار النبوية: بالآثار النبوية المكانية، فعدت له ثانية بعد أيام لأسجل هذه الملاحظات والوقفات مع الكتاب، ولو فسح الله في الوقت والعمر فسأفرد لهذا الموضوع كتاباً مستقلاً. يقع الكتاب في خمسٍ وسبعين صفحة من الحجم المتوسط بدأه الشيخ بتقسيم الآثار إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: آثار تاريخية كأنواع المباني والأواني والنقود القديمة وهذا جعله الشيخ من اهتمام دارسي التاريخ والحضارة. الصنف الثاني: آثار خرافية كالقبور والأضرحة. وهذا استنكره المؤلف ودعا لمحاربته - جزاه اللهُ خيراً - الصنف الثالث: آثار إسلامية نبوية وهذه يرى وجوب المحافظة عليها وجواز التبرك بها كما هو صريح عنوان الكتاب. وذكر للمحافظة على هذا الصنف أربع فوائد: الاعتبار بها، والتبرك بها، وأنها تساعد على دراسة السيرة النبوية، وأنها زينة للمدينة. وهذه الورقات تناقش المؤلف في دعواه جواز التبرك بهذا الصنف من الآثار - وليس معنى هذا أني أوافقه فيما عدا ذلك - فدعوى الشيخ إذن: وجوب المحافظة على هذه الآثار من أجل التبرك بها. هذا، وقد استدل المؤلف - عفا الله عنه - على دعواه تلك بأدلة، لا تنهض للدلالة على تلك الدعوى بحال، ولذا أرى لزاماً بيان سرِّ الخلط الذي وقع بسببه الشيخ ومن سبقه، ذلكم هو عدم التفريق بين التبرك والتعبد، أو قل بين التبرك من جهة، وبين الاقتداء والذي منه شدة الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، وكذا عدم التفريق بين آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي هي جزءٌ منه كنخامته، وشعره، أو ما لامس جسده الشريف الطاهر كماء وضوئه، وملابسه، ورمانة منبره التي كان يمسك بها أثناء الخطبة، عدم التفريق بين هذه الآثار وبين الأماكن التي جلس عليها أو صلى فيها، أو مرَّ بها. أمَّا آثاره صلى الله عليه وسلم سواءً كانت جزءاً منه ثم انفصلت عنه، أو خارجةً عنه لكنها لامست جسده الطاهر، فهذه هي التي كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بها دون توسع، وربما استمر الأمر على ذلك سنوات معدودات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت الآثار وانقرض تبعًا لذلك هذا التبرك، أما تلك الأماكن التي جلس عليها أو صلى فيها ثم بمرور الزمن اندرس منها ما لامس جسده الشريف وبقيت البقعة المكانية كما هي، فهذه هي التي وقع فيها الخلط عند المؤلف كما هو الحال عند غيره، ولذا عدَّها بعضُ الخلف مما يُتبرك به.

والتبرك معناه: طلب البركة، وهي زيادة الخير، ويكون بالأعمال كالصلاة والصيام والصدقة وكل أمر شرعه الله ففيه بركة الأجر والثواب، ويكون بالذوات وآثارها، وقد تقدم أن ما كان بذات النبي صلى الله عليه وسلم وما لامسها أنه جائز، والشيخ في كتابه هذا إنما يعني التبرك بالذوات سواءً لامست جسده أم لا، ولذا ذكر جواز التبرك بالمكان في الصفحات: (25،24،23،16)، وجواز التبرك بالمواضع والآثار ذكره صفحة (17)، والتبرك بالمسح على رمانة المنبر ذكره صفحة: (13 و 25)، ومما يدل على أنَّ الشيخ - عفا الله عنه - يخلط بين هذين المعنيين ما قاله عن قول عتبان رضي الله عنه لما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته: ((فأتخذه مصلى)) - وسيأتي الكلام عنه -، قال عنه تارة (ص15): ((ومعنى قول عتبان هذا: لأتبرك بالصلاة في المكان الذي ستصلي فيه)) وقال (ص23): ((أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عتبان على التبرك بالمكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم)) فهو تارة يجعل التبرك بالصلاة وتارة يجعله بالمكان. وقد استدل الشيخ على صحة دعواه بستة أدلة: الأول: حديث عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى ففعل عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين. الثاني: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأنه كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عندها. والحديث في الصحيحين. الثالث: تحري الصحابة رضي الله عنهم الصلاة عند أسطوانة عائشة رضي الله عنها. وهو حديث منكر سيأتي الكلام عنه. الرابع: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأنه كان يأتي مسجد الفتح ويدعو عنده، وسيأتي الكلام عنه. الخامس: ما ورد من تتبع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما للأماكن النبوية تبركاً بها. السادس: ما نُقل عن بعض أئمة السلف، كمالك وأحمد والبخاري. وقبل الإجابة على هذه الأدلة أو الشبهات، لابد من التأكيد على أنَّ جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى الذي ذكره المؤلف، ليس مما قال به أحدٌ من سلف الأمة، بل ولا قال به أحدٌ من الأئمة الكبار عند سبر أقوالهم ومدلولاتها، وليس هو من باب ما يسوغ فيه الاجتهاد، ولذا فإن الرد على هذه الشبهات لا يتعلق بتصحيح حديث اختلف المحدثون فيه، ولا بتوثيق رجل اختلف علماء الجرح والتعديل في شأنه، ولا هو بمأخذ في دلالة لفظة، حمالة أوجه، وإنما هو في تصور الدلالة وانطباقها على الواقع، الأمر الذي غاب عن الشيخ - غفر الله له -، وأنا على يقين تام بأنه لو تأملها، لرجع عن قوله، كيف لا؟! وهو المعروف بدفاعه عن السنة، وذوده عن حياضها في مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. والرد على ما ذكره واستدل به الشيخ سيكون إن شاء الله على وجهين: مجمل، ومفصل: فأما المجمل، فيقال:

لو كان الأمر كما قال الشيخ - عفا الله عنه - (ص14) ((التبرك بما يسمى (الآثار النبوية المكانية) أي الأماكن التي وُجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو صلى فيها أو سكن بها أو مكث بها ولو لبرهة)) أ. هـ، لو كان المشروع من التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم يبلغ هذا الحد، لكان حجم المنقول من ذلكم التبرك من أفعال الصحابة أكثر من أن يحصر وبما يغني الشيخ عن عناء تتبع الوارد في هذا الباب، ذلك أن عدد ما نَزَله النبي صلى الله عليه وسلم من الأماكن يفوق العد والحصر، وما وطئته قدماه الشريفتان يتجاوز التعداد، ومع ذلك فلم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم تبركوا بالمكان الذي نزله، أو أنهم تتبَّعوا مواطئ أقدامه صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا بعد وفاته، كتبركهم بآثاره صلى الله عليه وسلم كشعره ووضوئه ونخامته، دع عنك أن يتتابعوا عليه، فلما تركوه وهم من هم حرصاً على الخير وحباً للنبي صلى الله عليه وسلم كان فيه أبلغ دليل على عدم مشروعية مثل هذا الصنيع بل وبدعيته وخروجه عن الهدي الأول. فدعوى التبرك بما مكث به ولو لبرهة: دعوة للتبرك بغار حراء، وشعاب مكة، وجبال مكة والمدينة وسهولهما، وما لا حصر له من الأماكن. أمَّا الجواب المفصل فيقال: = أمَّا حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه فقد أورده بتمامه (ص14) ثم قال: ((والدلالة من هذا الحديث واضحة في قول عتبان رضي الله عنه "فأتخذه مصلى" وفي إقرار النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى قول عتبان هذا: لأتبرك بالصلاة في المكان الذي ستصلي فيه، قال الحافظ ابن حجر: وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو وطئها، قال ويستفاد منه أن من دعي من الصالحين ليتبرك به أنه يجيب إذا أمن الفتنة. وقد علق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على هذه الفقرة بقوله: هذا فيه نظر، والصواب أن مثل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فيه من البركة وغيره لا يُقاس عليه لما بينهما من الفرق العظيم .... ثم قال المؤلف: يفهم من كلامه هذا - أي ابن باز - الإقرار بدلالة حديث عتبان على مشروعية التبرك بالمكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو المقصود)) اهـ. فأنت ترى هنا أن الدعوى أكبر من الدليل، فالدعوى هي وجوب المحافظة على آثار النبي صلى الله عليه وسلم المكانية من أجل التبرك بها حيث إنَّ من فوائد المحافظة عليها - كما ذكر في الفائدة الثانية - التبرك بها، فالشيخ - عفا الله عنه - يوجب المحافظة على هذه الآثار حتى نتمكن من التبرك بها، وأين في حديث عتبان، أو من كلام ابن حجر، أو حتى من كلام ابن باز المحافظة على هذه الآثار؟!، غاية ما في الحديث أن عتبان رضي الله عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته كي يتخذه مصلى هذا أوّلاً. ثم بعد ذلك نأتي لمناقشة ما إذا كان ذلك للتبرك أم لا؟ فالحديث يحتمل احتمالات عدة ذكرها العلماء: منها: ما نقله المؤلف عن ابن حجر. ومنها: مالم ينقله المؤلف من قول ابن حجر في الصفحة نفسها: ((ويحتمل أن يكون عتبان إنما طلب بذلك الوقوف على جهة القبلة بالقطع)) (هامش فتح الباري) (1/ 522) وقد كان رضي الله عنه ضريراً.

والاحتمال الثالث: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (17/ 468) حيث قال: ((فإنه قصد أن يبني مسجداً وأحب أن يكون أول من يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأن يبنيه في الموضع الذي صلى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد)) وقال في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/ 754): ((ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبني مسجده في موضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس به، وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته، لكن هذا أصلُ قصدِه بناء مسجد فأحب أن يكون موضعاً يصلي له فيه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رسم المسجد)) أ. هـ. فأهل بيت عتبان رضي الله عنه لم يُنقل عنهم أنهم فعلوا ذلك، ولا أحدٌ من الصحابة تبعه في ذلك وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما طلبه عتبان مع أنَّ فيهم من هو أفضل وأحرص على الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم منه كأبي بكر وعمر وغيرهما، بل لم يُنقل عنهم حرصهم على التنفُّل في محرابه صلى الله عليه وسلم. ثم إن هذا ينسحب أيضاً على النساء، فنساؤه في بيوته صلى الله عليه وسلم لم يُنقل عنهن أنهن كنَّ يفعلن ذلك، أم أنَّ التبرك خاص بالرجال دون النساء؟!. كلُّ ما في الأمر أن عِتبان كلَّ بصرُه، وفعل فعلاً كان يرى عليه فيه غضاضة، وهو صلاته في بيته، فأراد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على فعله، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم إكرامه ومواساته، وهو الرؤوف الرحيم بصحابته وبالمؤمنين صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر المؤلف (ص23) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه إلى بيت عتبان رضي الله عنه وفي (ص14) قال: ((وليس مع المانعين سوى حديث موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه)) أ. هـ يعني حديث المعرور بن سويد والذي فيه إنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على من قصد الصلاة في مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم - وسيأتي - فهذا فقه عمر رضي الله عنه، وهو الذي ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه كما ذكر المؤلف، فمن أولى بالاتباع؟! وأياً كان الأمر فلا يُعرف أن الصحابة رضي الله عنهم أو من أتى بعدهم، حافظوا على مصلى عتبان رضي الله عنه ليتبركوا به، إلا ما رواه ابن سعد في الطبقات (3/ 550) عن الواقدي أنه قال: (فذلك البيت - يعني بيت عتبان - يصلي فيه الناس بالمدينة إلى اليوم) والواقدي متروك كذاب. = أمَّا الدليل الثاني وهو أثر سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فقد قال المؤلف - عفا الله عنه - (ص17): ((وثبت عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه كان يتحرى المكان الذي كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المنبر والقبلة: ففي الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك المكان. وفي رواية في الصحيح أيضاً قال يزيد كان سلمة يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها)) أ. هـ

فأين في أثر سلمة رضي الله عنه التبرك بالأسطوانة أو بالمصلى خلفها، غاية ما فيه تحريه الصلاة عندها اقتداء بتحري النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من جنس الصلاة خلف مقام إبراهيم أو في مسجد قباء مع أن الصلاة عندهما أوكد من الصلاة عند الأسطوانة لما ثبت من فعله وقوله وترتيب الأجر على ذلك، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من السلف أن الصلاة خلف المقام أو في مسجد قباء، كانت للتبرك بالمكان بل هو اقتداءٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم طلباً للأجر لا لبركة المكان، ثم لو كان ذلك للتبرك فأين سلمة وسائر الصحابة رضي الله عنهم من محرابه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما سبق الحديث عنه من أنَّ الشيخ يخلط بين التبرك والتعبد والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك علق شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى) (17/ 467) على حديث سلمة رضي الله عنه بقوله: ((وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة قال لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة)) أ. هـ فهي متابعةٌ قصداً للأجر وليست تبركاً بالمكان، ويتأكد هذا التخريج بأنَّ سلمة رضي الله عنه وغيره من الصحابة كذلك، ما كانوا يتحرون كلَّ بقعةٍ صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يتحرون ما كان يتحراه صلى الله عليه وسلم، ومذهب الشيخ أن كل مكان مكث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولو لبرهة فهو محلٌ للتبرك وهو على خلاف مذهب سلمة المستدل بفعله، ثم أين في الأثر إشارة إلى التبرك المزعوم؟! غاية ما فيه تحريه الصلاة حيث تحرَّاها النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سلمنا جدلاً أن التحري كان للتبرك فهو تبركٌ بما لامس جسده الشريف في ذلك الوقت، وليس تبركاً بالبقعة ذاتها، فلو أراد أحدٌ اليوم أن يصلي خلف الأسطوانة تأسياً فله ذلك، أما تبركاً فلا، أيتبرك بالفرش الأعجمية أم بأنواع الرخام المصنوع في الشرق أو الغرب؟! فليس ثمة ما مسَّ جسده الطاهر صلوات الله وسلامه عليه. ومن الغرائب أن الشيخَ يعدُّ هذا الأثر من قسم المرفوع حتى يعارض به أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول (ص27): ((فهذا أثر موقوف على عمر رضي الله عنه فكيف يناهض حديثين مرفوعين مقطوعاً بهما رواهما البخاري ومسلم، وهما: حديث عتبان، وحديث سلمة بن الأكوع المتفق عليه)) ولا أدري ما وجه كون حديث سلمة رضي الله عنه مرفوعاً وهو من فعله واجتهاده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟! = أمَّا ثالث أدلته وهو تحري الصحابة الصلاة عند أسطوانة عائشة رضي الله عنها فقد أورد فيه حديثاً منكراً، ولو صح فليس فيه دليل على التبرك، فقد قال - عفا الله عنه - (ص21): ((وأسطوانة عائشة كانت تسمى أسطوانة المهاجرين حيث كانوا يجتمعون عندها، وكان الصحابة يتحرون الصلاة عندها، ذكر ذلك الحافظ في الفتح، ... ثم قال: روى الطبراني في الأوسط عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في المسجد لبقعة قِبَل هذه الأسطوانة، لو يعلم الناس ما صلُّوا فيها إلا أن تُطَيَّر لهم فيها قرعة ... الخ الحديث)).أ. هـ والحديث رواه الطبراني في (الأوسط) (1/ 475) من طريق عتيق بن يعقوب قال حدثنا عبد الله ومحمد ابنا المنذر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومحمد بن المنذر هو الزبيري يروي عن هشام أحاديث موضوعة ومنكرة، وعبد الله أخوه لا تُعرف له ترجمة. انظر: (السلسلة الضعيفة) للألباني (2390)

والحديث - لو صح - ليس فيه دليل أنهم كانوا يتحرُّون الصلاة عند الأسطوانة تبركاً بل اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الصحابة رضي الله عنهم يبتدرون السواري وهي الأسطوانات - وقد كانت من خشب - للصلاة عندها وجعلها سترة لهم، وهذا معروف مشهور. ثم إن الغريب من الشيخ أنه لم يكتفِ بأسطوانة عائشة المزعومة بل زاد عليها وقال (ص20): ((ومن الأماكن النبوية في الروضة الشريفة الأسطوانات الأخرى، وهي: أسطوانة السرير، وأسطوانة الحرس، وأسطوانة الوفود، وأسطوانة التوبة، وأسطوانة التهجد)) ولا أدري أيريد من الناس الذهاب إلى هذه الأسطوانات ليلتمسوا البركة عندها؟! مع العلم أن أياً من هذه الأسطوانات لم يرد فيها حديث خلا أسطوانة التوبة - والتي تيب عندها على أبي لبابة رضي الله عنه - فقد ورد فيها حديث إسناده ضعيف، انظر: صحيح ابن خزيمة (رقم2236) وضعيف ابن ماجه (رقم350). = أمَّا دليله الرابع، فهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقد قال الشيخ (ص23): ((وثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يأتي مسجد الفتح الذي على الجبل، يتحرى الساعة التي دعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب ويتحرى المكان أيضاً ويقول: ولم ينزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت تلك الساعة فدعوت الله فيه بين الصلاتين يوم الأربعاء إلا عرفت الإجابة)) وقال في موضع آخر (ص59): بعد أن ذكر الحديث ((يقصد رضي الله عنه أنه يتوخى الزمان والمكان أي يدعو في تلك الساعة في ذلك المكان الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح، بدليل رواية البخاري في الأدب المفرد ولفظه: .. - ثم ذكر اللفظ المتقدم آنفاً -)) أ. هـ وحديث جابر هذا رواه الإمام أحمد في (المسند) (22/ 425 بتحقيق الأرنؤوط) والبزار في مسنده ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (19/ 200) من طريق أبي عامر العَقَدي عن كثير بن زيد بلفظ: ((إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة))، وفي إحدى روايات البزار أنه: ((يدعو في تلك الساعة في مسجد قباء)) ذكرها المؤلف نفسه (ص59)، ورواه ابن سعد في الطبقات (2/ 73) وابن الغطريف في جزئه (ص107) ومن طريقه عبد الغني المقدسي في الترغيب في الدعاء (ص49) من طريق عبيد الله بن عبد المجيد عن كثير بن زيد بلفظ: ((إلا توخيت تلك الساعة من ذلك اليوم فدعوت فعرفت الإجابة)) ورواه البخاري في الأدب المفرد (2/ 167 مع الشرح) من طريق سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد بلفظ: ((إلا توخيت تلك الساعة فدعوت الله فيه))، وأصح هذه الروايات إسناداً رواية أحمد فأبو عامر أوثق من عبيد الله ومن سفيان لذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 142): رواه أحمد والبزار وغيرهما وإسناد أحمد جيد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 12): رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات، وكثير بن زيد نفسُه فيه كلام انظر: (السنن والأحكام) (4/ 300) للضياء المقدسي و (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/ 816) لابن تيمية، والحديث ضعف إسناده الأرنؤوط في تخريجه للمسند من أجل كثير بن زيد، وحسَّنه الألباني في (صحيح الأدب المفرد) (1/ 256) و (صحيح الترغيب والترهيب) (2/ 24) باللفظين معاً، وأنكر ابن تيمية أن يكون جابر رضي الله عنه كان يتحرى المكان فقال في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 816) ((ولم يُنقل عن جابر رضي الله عنه أنه تحرى الدعاء في المكان بل في الزمان)).

= أمَّا تتبع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما للأماكن النبوية فقال المصنف (ص17): ((وقد بوب البخاري في صحيحه فقال: "باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم " وذكر فيه أحاديث فيها تتبع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لهذه المواضع والتبرك بها، ومثله سالم ابنه كان يتحرى هذه المواضع، ويُفهم من تبويب البخاري وذكره لهذه المواضع أنه يرى مشروعية التبرك بذلك)) وفي (ص23) قال: ((ولذلك لم ينقل أن عمر أنكر على ابنه عبد الله شدة تتبعه للأماكن النبوية وتبركه بها، بل لم يرد عن أي أحدٍ من الصحابة أنه أنكر عليه ذلك، فهم وإن لم يُنقل عنهم أنهم كانوا يفعلون ذلك مثله لكن عدم إنكارهم يدل على مشروعية فعله رضي الله عنه)) أ. هـ والعجب لا ينقضي من صنيع المؤلف هذا! فقد زعم أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعل ذلك تبركاً وليس فيما أورده ما يشير إلى ذلك، ثم زعم أن البخاري من تبويبه هذا يُفهم منه أنه يرى مشروعية التبرك، فبنى خطأً على خطأ، والبخاري بريء من ذلك، ثم زعم أن عمر رضي الله عنه لم ينكر على ابنه وسيأتي أنه أنكر على ما هو أشد من ذلك، فماذا يريد الشيخ من كل ذلك؟! وهاكم نص الحديث كما أورده البخاري، ولنفتش سوياً عما زعمه المؤلف من تبرك ابن عمر رضي الله عنهما بهذه الأماكن، قال البخاري: ((حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال: حدثنا فضيل بن سليمان قال: حدثنا موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة. وحدثني نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة وسألت سالماً فلا أعلمه إلا وافق نافعاً في الأمكنة كلها إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء)) أ. هـ، فأين في الحديث أن ابن عمر كان يتبرك بهذه الأماكن حتى يرتب عليها المؤلف كلامه السابق؟! وكذا تبويب البخاري: ((باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم)) أين فيه مشروعية التبرك بهذه المساجد والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهذا يؤكد ما ذكرته من أنَّ مبنى خطأ المؤلف هو الخلط بين ما كان يفعله الصحابة اقتداءً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا يفعلونه تبركاً.

أما زعمه أن عمر رضي الله عنه لم ينكر على ابنه عبد الله فجوابه: أنه أنكر على جمع من الصحابة فعلوا فعل ابن عمر رضي الله عنهم، فعن المعرور بن سويد الأسدي قال: ((وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما انصرف إلى المدينة، وانصرفت معه، صلى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} و {لإيلاف قريش}، ثم رأى أناساً يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهبون هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم بأشباه هذه يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبيعاً، ومن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله، فليصل فيها، ولا يتعمدنَْها)). رواه الطحاوي في (مشكل الآثار) (12/ 544) واللفظ له، وابن أبي شيبة في (المصنف) (2/ 376) وهذا الأثر صحح إسناده ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (1/ 281) والألباني في (تخريج فضائل الشام) (ص49) وقال في (الثمر المستطاب) (1/ 472): وهذا إسناد صحيح على شرط الستة. والحديث صريح في إنكار عمر رضي الله عنه على من فعل ذلك وهذا الإنكار كان أمام جمعٍ من الصحابة، ولا أدري كيف خفي هذا على الشيخ؟ بل لم يخف عليه، فقد سبقت الإشارة إلى أنه قال (ص14): ((وليس مع المانعين سوى حديث موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه)) فهو - غفر الله له - يعرف حديث عمر الذي أنكر فيه على من فَعَلَ فِعْلَ ابنه عبد الله ثم يقول ولم يُنقل عن عمر أنه أنكر على ابنه! ومن نظر في سيرة عمر رضي الله عنه يجدها مُطَّرِدَةً في إنكار مثل هذا الصنيع حتى أنه أمر بقطع الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها لما بلغه أنَّ ناساً يأتونها ويصلون عندها. كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 375) وقال ابن حجر في الفتح: ((ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر رضي الله عنه بلغه أن قوماً يأتون شجرة فيصلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت)) أما على رأي الشيخ فإنه تجب المحافظة على الشجرة، ويجوز التبرك عندها كذلك! قال ابن تيمية كما في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/ 756): ((كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجاً وعماراً ومسافرين ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم))، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز «الذي عدَّه المؤلف ممن يجيزون التبرك بالمكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق نقله عنه: ((والحق أن عمر رضي الله عنه أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء، سد الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه رضي الله عنهما، وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر، وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك، لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها فإن التأسي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع، كما دل عليه فعل عمر، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلو والشرك كما فعل أهل الكتاب والله أعلم)) (هامش فتح الباري) (1/ 569). ثم إنَّ عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما كان من شدة تتبعه للنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يقضي حاجته حيث قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك عنه في مسند الإمام أحمد (10/ 294 رقم 6151 بتحقيق الأرنؤوط) وصحيح البخاري (2/ 519 رقم 1668)، فهل كان ذلك منه تبركاً؟!

= أمَّا استشهاده بأقوالٍ لأئمة السلف كمالك وأحمد والبخاري فقد قال - عفا الله عنه - (ص25): ((ومشروعية التبرك بالأماكن النبوية هو مذهب البخاري كما ذكرنا - يعني تبويبه في كتاب الصلاة، باب: المساجد التي على طريق المدينة وسبق الرد عليه - ومذهب البغوي، والنووي، وابن حجر، بل هو مذهب الإمام أحمد «وقد استدل الإمام على ذلك بأن الصحابة كانوا يتبركون برمانة المنبر، يتبركون بالموضع الذي مسته يد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب مالك، فقد روى أبو نعيم في الحلية أن هارون الرشيد أراد أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتخذه من جوهر وذهب وفضة فقال له مالك: لا أرى أن تُحرم الناس من أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وسبق كلامه في استحباب صلاة النافلة في مكان مصلاه صلى الله عليه وسلم من مسجده)) أ. هـ. يعني بذلك ما ذكره (ص20) أن مالكاً سئل أي المواضع أحب إليك الصلاة فيه؟ قال: أما النافلة فموضع مصلاه، وأما المكتوبة فأول الصفوف. والذي يهمنا هنا هو النقل عن الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والبخاري، وبغض النظر عن صحة أسانيد هذه الأقوال فأين هي مما يدعو إليه المؤلف من المحافظة على آثار النبي صلى الله عليه وسلم المكانية للتبرك بها؟! فكلام الإمام أحمد عن رمانة منبره صلى الله عليه وسلم وكلام الإمام مالك عن نقض المنبر هو عمَّا مسته يد النبي صلى الله عليه وسلم لا عن آثاره المكانية، فأين هو المنبر اليوم وأين رمانته؟! أمَّا ما نقله عن الإمام مالك وأنه يرى أفضلية صلاة النافلة في موضع مصلاه فهذا على سبيل الاقتداء لا التبرك، وقد قال ابن وضاح القرطبي في البدع والنهي عنها (ص108): ((وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ماعدا قباءً وأحداً -يعني شهداء أحد)) وقال ابن بطال في شرح البخاري (3/ 159) ((روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يعجبني ذلك إلا مسجد قباء))، أما الإمام أحمد فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 754): ((وأما أحمد فرخَّص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيداً، مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم)) يعني حتى ما جاء فيه الأثر كمسجد قباء يشدد فيه أحمد إذا اتخذ عيداً، فماذا بعد ذلك؟! ومن عجائب الشيخ في هذا الكتاب أنه يدعو إلى التبرك الآن بشرب ماء الآبار التي سقط فيها خاتم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً، قال - عفا الله عنه - (ص13): ((ومنه - أي التبرك - قصدُ الآبار النبوية التي نُقل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تفل فيها أو صبَّ وضوءه فيها، أو سقط شيء من متعلقاته فيها، كبئر أرِيس التي سقط فيها خاتمه بقصد التبرك بالشرب منها، فهذا أمر مشروع لأنه متفرع من مسألة التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق في الحكم بينه وبين وضوئه صلى الله عليه وسلم الذي كان الصحابة يتسابقون إلى التبرك به)) أ. هـ، وهذا لا أعرف أحداً سبق الشيخ إليه، وقوله: ((لا فرق في الحكم بينه وبين وضوئه))، غير صحيح فالصحابة رضي الله عنهم فَرَّقوا بينهما فكانوا يتبركون بوضوئه ولم يُنقل عنهم أنهم كانوا يشربون من ماء بئر أرِيس تبركاً بعد سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيه من يد عثمان رضي الله عنه كما في الصحيحين. والخلاصة: أنَّ التبركَ بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسيَّة كبطنه وشعره ونخامته وكذا ما لامس جسده الطاهر الشريف كوضوئه وملابسه؛ صحيحٌ، قد فعله الصحابة ومِن بعدهم بعض التابعين ثم عفا الفعل كما عفا الأثر، وما قَصَدَه النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة أو الدعاء عنده من الأماكن كمسجد قباء ومقام إبراهيم فقصده للصلاة أو الدعاء اقتداءً به، سنةٌ مستحبة، أمَّا التبرك بها فبدعةٌ منكرة، وأمَّا ما لم يقصده من الأماكن فالصحيح عدم قصد الصلاة عنده إلا إذا وافق ذلك وقت صلاة، أمَّا وجوب المحافظة على الآثار النبوية المكانية لغرض التبرك عندها فلم يقل به أحدٌ من العلماء لا من السلف ولا من الخلف، وفتحه فتح باب شرٍ وفتنة. والله أعلم وصلى الله على نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين

وقفات مع موضوع المسعى الجديد

وقفات مع موضوع المسعى الجديد بقلم المشرف على موقع الدرر السنية الشيخ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف [email protected] 16/4/1429 هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: بادئ ذي بدء أود التنويه إلى أن هذه الوقفات ليست فتوى بصحة السعي في المسعى الجديد أو بطلانه، ولا هي بحث علمي يسرد الأدلة ويناقشها، ولكنها توصيف للحال وتكييف للمشكلة وتوضيح للموقف الذي ينبغي أن يتخذه المسلم إزاءها. الوقفة الأولى: أن هذه القضية معضلة وليست بالهينة، ونازلة من النوازل التي ما ينبغي أن يفتي فيها متوسطو طلبة العلم فضلاً عن صغارهم، وما ينبغي أن يُترك من هب ودب من الإعلاميين وغيرهم يخوضون فيها بجهل أوهوى أو لأطماع شخصية. الوقفة الثانية: أنها قضية تمس ركناً من أركان الإسلام، وعبادة من أشرف العبادات (الحج والعمرة)، فعلى المسلم ألاَّ يستخف بها ويبحث عن أيسر الفتاوى فيها، بل عليه أن يتحرى أصوبها وأحوطها ولا يغتر بكثرة المفتين والمؤيدين، لكن عليه أن ينظر في أقوال أكثرهم علماً وورعاً، وأحرصهم على اتباع السنة. الوقفة الثالثة: على طالب الحق ألا يغتر بما تتناقله وسائل الإعلام من مجلات وصحف وإنترنت وغيرها فهذه ليست مصادر لتلقي العلم إلا ما كان منها منقولاً عن الثقات الأثبات. الوقفة الرابعة: أصل الخلاف في المسألة قضيتان: الأولى: هل نحن مقيدون في السعي بين الصفا والمروة بعرضهما أم يجوز الخروج عنهما بما يقاربهما أو يحاذيهما؟ والثانية: كم عرض الصفا والمروة وهل يتسعان فتشملهما التوسعة الجديدة أم لا؟ لذلك انقسم المتكلمون في هذه المسألة إلى ثلاث فئات: الأولى: ترى جواز السعي خارج عرض جبلي الصفا والمروة. والثانية: ترى أنه لابد من السعي بين الجبلين عرضاً وطولاً ولكنهم يرون أن عرضهما يتسع ليشمل المسعى الجديد وزيادة، وهاتان الفئتان تجوِّزان السعي في المسعى الجديد. والثالثة: ترى أنه لابد من السعي بين الجبلين عرضاً وطولاً وأن المسعى الجديد خارج عرض الجبلين من جهة الشرق المقابلة للكعبة من الجهة الأخرى، وبالتالي فهم لا يجيزون السعي في المسعى الجديد. الوقفة الخامسة: أن غالبية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية إضافة إلى علماء كبار ليسوا فيها، هم من الفئة الثالثة. وحجتهم أنه ثبت تاريخياً أن عرض المسعى ستة وثلاثون ذراعاً تقريباً أي ما يعادل 20 متراً وهو عرض المسعى الحالي بعد آخر توسعة حصلت له عام 1375هـ، وأن الجدار القائم وضع بفتوى من سماحة مفتي المملكة آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم بعد أن كلف لجنة عاينت الموقع وحددت عرض الصفا وبناء على هذه الفتوى تمت التوسعة المذكورة آنفاً، وهذا أقوى دليل لدى المانعين. الوقفة السادسة: أنه صدرت خلال الأشهر الماضية فتاوى لبعض العلماء وبحوث علمية لبعض طلبة العلم ودراسات تاريخية وجغرافية وجيولوجية وتقارير هندسية لمنطقة المسعى وتم توثيق شهادة عدد من كبار السن من أهالي مكة لدى المحكمة بمكة يشهدون أن المسعى ممتد إلى التوسعة الجديدة، وهذا أقوى أدلة المجيزين، وقد قرأت هذه الفتاوى والبحوث، وتناقشت مع عدد ممن لديهم الصور والخرائط والتقارير الجغرافية والجيولوجية واطلعت على شهادة الشهود. الوقفة السابعة: أن وسائل الإعلام نقلت لنا تأييد عدد كبير من علماء ومفتي العالم الإسلامي لبناء التوسعة الجديدة وأغلبهم علق ذلك بالمصلحة والتوسعة على الحجاج والمعتمرين، وهذا فيه دلالة على أحد أمرين: إما أن يكون هذا المؤيِّد لم يحط علماً بالقضية ويظن -ثقة- أن المسعى الجديد لا يخرج عن عرض الصفا، أو أنه ممن لا يرون بأساً بالسعي خارج الصفا تيسيراً على الناس. الوقفة الثامنة:

أن علماء الشيعة كبارهم وصغارهم مختلفون كذلك فمنهم المجيز ومنهم المانع، وإنما ذكرتهم -مع أنه لا يُعتد بفقههم- لما لهم من ثقل سياسي وحضور كثيف في الحج والعمرة وقد يكون له تأثير في مسار القضية. الوقفة التاسعة: إن أعمال التوسعة للمسعى حتى كتابة هذه السطور تسير على قدم وساق، ليل نهار، وما هي إلا أشهر ويصبح المسعيان الجديد والقديم -بعد إعادة بنائه- جاهزين للاستخدام وتتحول القضية من نقاش علمي نظري إلى تطبيق عملي وسيسأل الناس نحج أم لا نحج؟ نعتمر أم لا نعتمر؟ نسعى أم لا نسعى؟ وكيف نسعى؟ الوقفة العاشرة: وهي بيت القصيد، ما موقف المسلم من كل ما يجري؟ وما العمل الآن؟ وما المتوقع أن يحصل في الأشهر القليلة القادمة؟ وما الذي سيسفر عنه هذا الخلاف القائم اليوم؟ وهذه كلها أسئلة تحتاج إلى إجابة: أولاً: من الناحية الشرعية فلن يعدو الأمر ثلاث احتمالات: 1 - أن يقتنع المانعون بأدلة المجيزين ويصدروا فتوى بالجواز (ولو بالأغلبية) 2 - أن يقتنع المجيزون بأدلة المانعين ويتراجعوا عن أقوالهم (ولو بالأغلبية) وأعني بهم العلماء وبعض طلبة العلم الذين كتبوا بحوثاً علمية في الموضوع أما أصحاب الإشادة والتهنئة والتبريك فليسوا من أهل هذه المسائل في قبيل ولا دبير. 3 - أن يبقى كلٌ على رأيه. وإن تراجع بعض هؤلاء وبعض هؤلاء بما لا يؤثر في رفع الخلاف. ثانياً: من الناحية العملية فلن يعدو الأمر ثلاثة احتمالات أيضاً وهي تبع للناحية الشرعية: 1 - في حال اقتناع المانعين بأدلة المجيزين فالأمر واضح، وسيمضي المشروع كما خُطط له وسيسعى الناس في المسعى الجديد (إلا قليل منهم ولا حكم لهم) 2 - في حال اقتناع المجيزين بأدلة المانعين فالأمر أيضاً واضح وسيكون السعي في المسعى القديم بعد أن يكون قد تم تجديده آنذاك، أما مبنى المسعى الجديد فستكون له وظيفة أخرى يحددها المسئولون عن إدارة المسجد الحرام. 3 - الحالة الثالثة وهي بقاء كلٍّ من الفريقين -أو أغلبهم- على رأيه، فها هنا لا يخلو الأمر من حالين: الحال الأول: أن يمضي الأمر بما يوافق رأي المانعين فيؤول الأمر إلى ما ذُكر قبل قليل وهو: حال اقتناع المجيزين بأدلة المانعين الحال الثانية: أن يمضي الأمر بما يوافق رأي المجيزين وهنا لا يخلو من حالين أيضاً: الأول: أن يكون المسعى الجديد في اتجاه واحد من الصفا إلى المروة والقديم في اتجاه واحد أيضاً من المروة إلى الصفا -وهذا هو ما صُمم له حسب اطلاعي على المخططات- وهنا لا بد أن يكون للعلماء المانعين وقفة مع الحدث وفتوى تتناسب مع هذه النازلة ومع الوضع القائم. الثاني: أن يكون كلٌّ من المسعيين القديم والجديد باتجاهين، فيكون السعي في مبنى المسعى الجديد من باب الاختيار لا الإجبار، وهنا سيقلد الساعون من يثقون في فتواه وسيتبع بعضهم الأيسر له دون النظر في الحكم كما هو الحال في السعي في الطابق العلوي. وعليه فالخوض في هذا الآن ليس مجدياً وفيه تضييع للأوقات، كما أنه ليس من الحكمة التسرع في إطلاق الأحكام واتخاذ موقف قد يندم عليه المرء مستقبلاً. الوقفة الحادية عشرة: ما العمل الآن وقد تم هدم المسعى القديم ولا يوجد إلا المسعى الجديد ومن العلماء من يفتي بجواز وإجزاء السعي فيه ومنهم من يفتي ببطلانه؟ والجواب أنه مادام الأمر كذلك فلا يخلو الأمر من حالات ثلاث: 1 - أن يكون المرء مقتنعاً بقول المانعين فلا يسعه خلافه ولا يجزئه السعي. 2 - أن يكون المرء مقتنعاً شرعاً لا هوىً بقول المجيزين فيقلدهم وكلٌّ يتحمل مسئولية فتواه. 3 - أن يكون متردداً ولم يظهر له رجحان أحد القولين فهذا الأولى في حقه الأخذ بالأحوط وبما عليه الأكثر علماً واتباعاً للسنة.

بقي أمرٌ آخر، وهو: هل هذا الاختلاف من الأمور الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف ولا إنكار في مسائل الاجتهاد أم هو من المسائل التوقيفية المنصوص عليها؟ وهذا محله الوقفة الأخيرة. الوقفة الأخيرة: هذه المسألة المعضلة، والنازلة المجلجلة، من حيث النظر إلى النصوص الشرعية فهي مسألة توقيفية وليست اجتهادية فالسعي بين الصفا والمروة طولاً وعرضاً يكاد يكون محل اتفاق بين العلماء ولو خالف البعض فيه، ومن حيث توصيف الحال وهل المسعى الجديد يقع ضمن الصفا والمروة أم خارجهما؟ فمحل نظر وبحث واجتهاد وعليه يدور الخلاف. وبالنظر إلى أدلة الفريقين تبين أن أقوى دليل لدى المانعين كما سبق ذكره شهود العيان عند بدء أول توسعة للمسعى بين عامي 1374هـ و 1378هـ وأقوى دليل لدى المجيزين شهود كبار السن الموجودين الآن، وهذه المسألة تحتاج إلى بسط ليس هذا محله، ولكن لا بأس في الاختصار لتتضح الصورة: (1) أما شهود العيان فكان ذلك عام 1374هـ حيث شُكلت لجنة لمعاينة موضع المسعى ورفعت تقريرها لسماحة مفتي المملكة آن ذاك الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والذي بناء عليه أصدر فتواه قائلاً: (تأملت قرار الهيئة المنتدبة من لدن سمو وزير الداخلية، وهم فضيلة الأخ الشيخ عبدالملك بن إبراهيم وفضيلة الشيخ عبدالله بن دهيش وفضيلة الشيخ علوي المالكي حول حدود موضع السعي مما يلي الصفا المتضمن أنه لا بأس بالسعي في بعض دار آل الشيبي والأغوات المهدومتين هذه الأيام توسعة، وذلك البعض الذي يسوغ السعي فيه هو ما دفعه الميل الموجود في دار آل الشيبي إلى المسعى فقط وهو الأقل، دون ما دفعه هذا الميل إلى جهة بطن الوادي مما يلي باب الصفا وهو الأكثر؛ فإنه لا يسوغ السعي فيه، فبعد الوقوف على هذا الموضع في عدة رجال من الثقات رأيت هذا القرار صحيحًا، وأفتيت بمقتضاه) (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 5/ 132) والجدير بالذكر هنا أن اللجنة كما في تقريرها اصطحبت معها مهندساً وفنياً وقالت في نهاية التقرير: (هذا ما تقرر متفقاً عليه بعد بذلنا الوسع، سائلين من الله تعالى السداد والتوفيق) ثم وقع الجميع، وهذا يعني أن قرارهم هذا كان إجماعاً منهم كما أنهم بذلوا فيه وسعهم وطاقتهم. وفي يوم الثلاثاء الموافق 10/ 2/1378هـ شُكلت لجنة أخرى من عدد من المشايخ وأعيان أهالي مكة وهم: الشيخ عبدالملك بن إبراهيم، والشيخ عبدالله بن جاسر، والشيخ عبدالله بن دهيش، والسيد علوي المالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، وبحضور صالح قزاز وعبدالله ابن سعيد مندوبي محمد بن لادن لمعاينة مساحة الصفا والمروة، واستبدال الدرج بمزلقان، ونهاية أرض المسعى ومما جاء في تقرير اللجنة: (وبالنظر لكون الصفا شرعًا هو الصخرات الملساء التي تقع في سفح جبل أبي قبيس، ولكون الصخرات المذكورة لا تزال موجودة للآن وبادية للعيان، ولكون العقود الثلاثة القديمة لم تستوعب كامل الصخرات عرضًا. فقد رأت اللجنة أنه لا مانع شرعًا من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا. وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة ... ) (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 5/ 141) وجاء في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (5/ 138): (من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم أيده الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد:

فبناء على أمركم الكريم المبلغ إلينا من الشيخ يوسف ياسين في العام الماضي حول تنبيه الابن عبدالعزيز على وضع الصفا ومراجعة ابن لادن لجلالتكم في ذلك، وحيث قد وعدت جلالتكم بالنظر في موضوع الصفا ففي هذا العام بمكة المكرمة بحثنا ذلك، وتقرر لدي ولدى المشايخ: الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ علوي عباس المالكي، والأخ الشيخ عبدالملك بن إبراهيم، والشيخ عبدالله بن دهيش، والشيخ عبدالله بن جاسر، والشيخ عبدالعزيز ابن رشيد: على أن المحل المحجور بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا، ماعدا فسحة الأرض الواقعة على يمين النازل من الصفا فإننا لم نتحقق أنها من الصفا، أما باقي المحجور بالأخشاب فهو داخل في مسمى الصفا، ومن وقف عليه فقد وقف على الصفا كما هو مشاهد، ونرى أن ما كان مسامتاً للجدار القديم الموجود حتى ينتهي إلى صبة الأسمنت التي قد وضع فيها أصياخ الحديد هو منتهى محل الوقوف من اليمين للنازل من الصفا. أما إذا نزل الساعي من الصفا فإن الذي نراه أن جميع ما أدخلته هذه العمارة الجديدة فإنه يشمله اسم المسعى، لأنه داخل في مسمى ما بين الصفا والمروة، ويصدق على من سعى في ذلك أنه سعى بين الصفا والمروة. هذا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد باللينبغي حضور كلاً من المشائخ: الأخ الشيخ عبدالملك، والشيخ علوي المالكي، والشيخ عبدالله بن جاسر والشيخ عبدالله بن دهيش، حتى يحصل تطبيق ما قرر هنا، وبالله التوفيق) وعندما أرادت الدولة السعودية عام 1393هـ توسعة المسعى أصدرت هيئة كبار العلماء وقتها فتوى بجواز السعي فوق سقف المسعى نظراً لأن المسعى قد استوعب مابين الصفا والمروة طولاً وعرضاً وجاء في الفتوى: (وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة، بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة، وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضاً) وكل هذا يعني أن حدود نهاية الصفا قد تم تحديدها منذ ذلك الوقت وبناء عليه تم بناء الجدار الواصل من الصفا إلى المروة لذلك كان يفتي العلماء بعد ذلك ببطلان من سعى خارج هذا الجدار. (2) وأما شهود الحال فقد وُثقت شهادة سبعة من كبار السن من أهالي مكة بالمحكمة العامة بمكة المكرمة وصدر بها صك شرعي بتاريخ 24/ 12/1427هـ جاءت شهاداتهم على النحو التالي: 1 - فوزان بن سلطان بن راجح العبدلي الشريف من مواليد عام 1349هـ، قرر قائلاً: إنني أذكر أن جبل المروة يمتد شمالاً متصلاً بجبل قعيقعان وأما من الجهة الشرقية فلا أتذكر وأما موضوع الصفا فإنني أتوقف. 2 - عويد بن عياد بن عايد الكحيلي المطرفي، من مواليد عام 1353هـ، قرر قائلاً: إن جبل المروة كان يمتد شرقاً من موقعه الحالي بما لا يقل عن ثمانية وثلاثين متراً، وأما الصفا فإنه يمتد شرقاً بأكثر من ذلك بكثير. 3 - عبد العزيز بن عبدالله بن عبدالقادر شيبي، من مواليد عام 1349هـ، قرر قائلاً: إن جبل المروة يمتد شرقاً وغرباً وشمالاً ولا أتذكر تحديد ذلك بالمتر، وأما الصفا فإنه يمتد شرقاً بمسافة طويلة حتى يقرب من القشاشية بما لا يزيد عن خمسين متراً. 4 - حسني بن صالح بن محمد سابق، من مواليد عام 1357هـ، قرر قائلاً: إن جبل المروة يمتد غرباً ويمتد شرقاً بما لا يقل عن اثنين وثلاثين متراً. وكنا نشاهد البيوت على الجبل ولما أزيلت البيوت ظهر الجبل وتم تكسيره في المشروع، وأما جبل الصفا فإنه يمتد من جهة الشرق بأكثر من خمسة وثلاثين أو أربعين متراً.

5 - محمد بن عمر ابن عبدالله زبير، من مواليد عام 1351هـ، قرر قائلاً: إن المروة لا علم لي بها وأما الصفا فالذي كنت أشاهده أن الذي يسعى كان ينزل من الصفا ويدخل في برحة عن يمينه، وهذه البرحة يعتبرونها من شارع القشاشية ثم يعود إلى امتداد المسعى بما يدل على أن المسعى في تلك الأماكن أوسع. 6 - درويش بن صديق بن درويش جستنيه، من مواليد عام 1357هـ، قرر قائلاً: إن بيتنا سابقاً كان في الجهة الشرقية من نهاية السعي في المروة وكان يقع على الصخور المرتفعة التي هي جزء من جبل المروة، وقد أزيل جزء كبير من هذا الجبل بما في ذلك المنطقة التي كان عليها بيتنا وذلك أثناء التوسعة التي تمت في عام 1375هـ، وهذا يعني امتداد جبل المروة شرقاً في حدود من خمسة وثلاثين إلى أربعين متراً شرق المسعى الحالي، وأما الصفا فإنها كانت منطقة جبلية امتداداً متصلاً بجبل أبي قبيس ويعتبر جزءاً منه وكنت أصعد من منطقة السعي في الصفا إلى منطقة أجياد خلف الجبل. 7 - محمد بن حسين بن محمد سعيد جستنيه، من مواليد عام 1361هـ، قرر قائلاً إن جبل المروة كان يمتد من الجهة الشرقية والظاهر أنه يمتد إلى المدعى وأما جبل الصفا فإنه يمتد شرقاً أيضاً أكثر من امتداد جبل المروة. والملاحظ على هذه الشهادات أنها غير متطابقة فمنهم من لا يذكر الامتداد، ومنهم من أثبت الامتداد ولا يذكر المسافة، والذين أثبتوها على خلاف كم هي؟ ولم يتفق اثنان على قول واحد، وإن كان الغالبية يرون -حسب ذاكرتهم- أن هناك زيادة على الموجود حالياً. وخلاصة الأمر أن دليل المانعين القوي هو شهود العيان قبل البدء في أول توسعة عام 1375هـ ودليل المجيزين القوي هو شهادة الشهود بعد ذلك بـ 54 عاماً، ولكلٍ منهما أدلة أخرى لا ترفع الخلاف، من ذلك نقل المانعين لأقوال عدد من العلماء وخاصة علماء الشافعية والتي منها ما ذكره النووي في (المجموع) (8/ 76): (قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي فلو مر ورواء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف، قال أبو علي البندنيجي في كتابه (الجامع): موضع السعي بطن الوادي، قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئاً يسيراً أجزأه وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجزئه) انتهى. ومن ذلك أيضاً قول الرملي الشافعي كما في (نهاية المحتاج شرح المنهاج) (3/ 383): (إن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيراً لم يضر كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه). فقول الشافعي: (إن التوى شيئاً يسيراً أجزأه) مفهومه: لو التوى كثيراً لم يجزئه فكيف بالعشرين متراً وهي زيادة المسعى الجديد؟! وغيرها من الأقوال الموجودة في مظانها من كتب الفقه وذكرها عدٌد ممن كتب في هذا الموضوع بتوسع وليس هنا محل التفصيل فيها. لذلك ختمت اللجنة -التي تمت الإشارة إليها وفيها عددٌ من علماء وأعيان الحجاز ونجد- تقريرها بقولها: (وحيث أن الحال ما ذكر بعاليه، ونظراً إلى أنه في أوقات الزحمة عندما ينصرف بعض الجهال من أهل البوادي ونحوهم من الصفا قاصداً المروة يلتوي كثيراً حتى يسقط في الشارع العام فيخرج من حد الطول من ناحية باب الصفا والعرض معاً ويخالف المقصود من البينية بين الصفا والمروة. وحيث أن الأصل في السعي عدم وجود بناء وأن البناء حادث قديما وحديثا. وأن مكان السعي تعبدي، وأن الالتواء اليسير لا يضر، لأن التحديد المذكور بعاليه العرض تقريبي، بخلاف الالتواء الكثير كما تقدمت الإشارة إليه في كلامهم فإننا نقرر ما يلي: ......... )

كما استشهد المانعون بذرع عددٍ من المؤرخين عرض المسعى كالأزرقي والفاكهي وغيرهما وقد نصوا أنه خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف ذراع، أي ما لا يزيد عن عشرين متراً وهو عرض المسعى القديم. أما المجيزون فمن أدلتهم الأخرى أن الصفا والمروة كانا أكبر مما هما عليه الآن، وأن الفقهاء لم يحددوا عرض المسعى، وأن المؤرخين اختلفوا فيه وأن لديهم دراسة جيولوجية وخريطة تم إعدادها قبل عشرين عاماً توضح امتداد جبل الصفا إلى جبل أبي قبيس، الخ. ولكن يبقى كما سبق ذكره أن أقوى أدلة لدى الطرفين: شهود العيان عام 1375هـ وشهود الحال الآن. وبعد: فعلى المسلم أن يتحرى الصواب ولا يتعصب لرأي أو شخص، فالمسألة لها ما بعدها سنين عديدة وعليه أن يحذر من أن يأخذه الحماس والعاطفة والتعصب لرأي دون آخر، وليتذكر الوقوف بين يدي الله تعالى وألا يجعل ما يتوهم أنه مصلحة أو تيسير على الناس هو الفيصل في القضية، كما لا يضيق على الناس ما يسَّره الله وأباحه لهم. وأختم بكلام للشيخ محمد بن إبراهيم يتناسب مع هذا المقام حيث قال كما في مجموع فتاويه (5/ 146): (إنه يتعين ترك الصفا والمروة على ما هما عليه أولاً، ويسعنا ما وسع من قبلنا في ذلك، ولو فتحت أبواب الاقتراحات في المشاعر لأدى ذلك إلى أن تكون في المستقبل مسرحاً للآراء، وميداناً للاجتهادات، ونافذة يولج منها لتغيير المشاعر وأحكام الحج، فيحصل بذلك فساد كبير. ... ولا ينبغي أن يلتفت إلى أماني بعض المستصعبين لبعض أعمال الحج واقتراحاتهم، بل ينبغي أن يعمل حول ذلك البيانات الشرعية بالدلائل القطعية المشتملة على مزيد البحث والترغيب في الطاعة والتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في المعتقدات والأعمال، وتعظيم شعائر الله ومزيد احترامها) وما أحوج طلاب العلم اليوم لكلام قاله الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله لطلابه يوصيهم قائلاً: (أوصيكم بالثبات في جميع أموركم فإنه من أعظم ما انتفعت به، فإني أخذت على نفسي أن لا أغير رأياً رأيته في أمر علمي أو عملي حتى يثبت لي خطؤه كما ثبت لي صوابه فانتفعت بذلك كثيراً) اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

في الأحداث عبرة - رؤية منهجية

في الأحداث عبرة - رؤية منهجية فالح بن محمد الصغير 13 ربيع الأول 1432هـ حديثنا اليوم يفرضه الواقع ليقرأ قراءة تأملية لاستنباط ما يمكن استنباطه من تلك الأحداث التي قدرها الله سبحانه وتعالى علينا في هذه الأزمنة وبخاصة مع تطور عالم الإتصال ليعيش الحدث كل من يحيا على وجه الكرة الأرضية بيسر وسهولة، مما جعل كثيرا من المعطيات تأخذ حقها بوضوح فيستطيع المتأمل الوقوف عند بعضها فلعل بارقة تظهر تمثل معلما من معالم المسيرة في هذه الحياة على كافة المستويات. ونظرة سريعة في واقع العالم العربي والإسلامي نجد أن أحداثا متسارعة ومتلاحقة فعلى سبيل المثال:- الوضع في تونس وما آل إليه وضع الحاكم والشعب، وكذا الوضع في السودان وما جرى من استفتاء في الجنوب نحو الإنفصال، وقبله في وبعده المنازعات في دار فور، وكذلك الوضع في مصر وما آل إليه الآن، ولا يخفى وضع الصومال وما فيه من تناحر الطوائف والقبائل وغيرها. أما العراق وأفغانستان فلا زالت الأرض محتقنة لا يعلم مدى احتقانها إلا الله سبحانه، وثمة أحداث تمثل قلاقل من هنا وهناك، كأحداث الإرهاب المتكررة في مناطق مختلفة ونالت بلادنا نصيب منها، والنزاعات في لبنان وتدخل قوى وأطراف أخرى في الشأن اللبناني، ناهيك عن المواقف الطائفية بمنازعها المبدئية والسياسية، وحدث بملئ فيك عن الأزمات الاقتصادية وما آلت إليه، وبخاصة في البلدان متوسطة الدخل تلك التي أوجعتها هذه الأزمات. أما المشكلات الاجتماعية المتنوعة، والتي تشكل أزمات مجتمعية متتابعة فأخذت أشكالا أكثر بروزا مع تعمق الأحداث السياسية والاقتصادية. في ظل هذه الأحداث تبرز أسئلة للمتأملين، أسئلة منهجية، وأسئلة في قضايا جزئية، أسئلة في المواقف، وأسئلة تنحو منحى البحث عن العلاج. ما سبب هذه الأحداث؟ ما أبعادها؟ ومن المحرك لها؟ وهل هي عفوية أو خطط لها؟ ومن المسؤول؟ وما موقف الأفراد؟ والمؤسسات المدنية؟ والدول؟ ... الخ وترد افتراضات وحتميات، وإستنتاجات قد تكون في دائرة (اللامعقول) في النظرة الأولية عند المتلقي. وفي كل الأحداث يذهب ضحايا، ويعلو أشخاص، وتبرز مشكلات ويدخل المحللون في دوامة أخرى، وهكذا دواليك. لست أزعم أن لدي إجابة على هذه الأطروحات فهي تحتاج إلى مراكز علمية، وبيوت خبرة، تحمل أفقا واسعا، ونظرة شمولية وتنويعا في التخصص، وعمقا في ربط الأحداث، وقدرة على الاستيعاب، وتأنيا في المعالجة، وهذا بلا شك ينفي النظرة الفردية، ويطرد الانفعال تجاه حدث ما، وبكبح جماح الاستعجال. ويبعد النزعة تجاه العمومية في الطرح لمجرد الاستباق وهذا لا يعني: الإهمال، وعدم المشاركة، والمناقشة والتأمل، وطرح الأفكار الهادفة إلى الإثراء أظن أنها معادلات صعبة بصعوبة تلك المواقف، ولكنها بتلك النظرة الشمولية الواسعة المتأنية المتعمقة من تلك المراكز والبيوت تتجلى، والمهم: أن تتجلى فيها المواقف السلمية والرؤى المقاربة الصواب، وبهذا يُتحرى النجاة، وتتجاوز الصعاب. من هنا أطرح هذه التأملات فلعلها تصب في دائرة المشاركة الإيجابية. وذلك من خلال الاستنتاجات الآتية: - أولها: أظن أن من الخير أن نجدد ما نتيقنه ونعتقده من أن مدبر هذا الكون هو الله سبحانه وتعالى، وبيده مقادير كل شيء، يقول تعالى نفسه جل وعلا:] يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [، وقال عليه الصلاة والسلام:) يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء (, فما من حدث يقع إلا وقد قدره سبحانه وتعالى، ولا يرفعه إلا هو سبحانه وتعالى] ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها [. وهذا يفرض علينا: -

1 - الإيمان بذلك لنربط الأحداث بالخالق جل وعلا. 2 - أن ما يتلمس ما هو إلا أسباب يتحرى فيها الصواب للخروج من المآزق. 3 - أن هذه الأحداث تقع لأغراض: - إما ابتلاءً، أو عقوبة، أو ابدالاً لقوم بدل قوم، أو انتقالا لمرحلة تاريخية معينة، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر. 4 - أن الكون متحرك وتكون حركته إيجابية إذا إقتفى الناس السنن الشرعية والسنن الكونية والقدرية التي وضعها الله سبحانه. 5 - أن نتلمس الوقوف مع المواقف الإيجابية وهذا لا يكون إلا وفق هذه السنن. 6 - أن حركة الناس لا تكون إيجابية مثمرة إذا خالفت منهج الله سبحانه في هذه الأرض، وإن أمهلهم فترة من الزمن ليبقى وقتا للمراجعة فيستدركوا أمرهم. 7 - أن نعلم أن تلك الأقدار لا تعني -في منهج الله تعالى - السلبية والابتعاد والتنحي في زوايا ينوح فيها الأفراد، والمؤسسات على أنفسهم بل تفرض الإيجابية في التفكير والتخطيط والمشاركة والعمل، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى عمارة الكون غاية من الغايات التي خلق الإنسان من أجلها،] قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون [. 8 - إدراك أن هذه - الابتلاءات أو العقوبات، أو التغيير أيا كانت حكمة وقوعها - تتطلب الرجوع الصادق إلى الله تعالى، أفرادًا أو مؤسسات ودولاً، هذا الرجوع الذي يتمثل بتجديد الاعتقاد به سبحانه، والعمل بشرعه في جميع مناحي الحياة، والتواصي بذلك، والتعاون عليه، وإدراك أن السلامة والنجاة، والرقي والتقدم، مرهون بتنفيذ أوامر الله جل وعلا، والانتهاء عن نواهيه، والوقوف عند حدوده، فمن المعلوم أن حركة الكون إيجابًا وسلبًا مرهونة بحركة الإنسان، وكلها بتقدير الله جل وعلا، والدلالة على ذلك صريحة وواضحة في كتاب الله] لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ. أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [[الأعراف،96 - 99]. وإدراكنا أن هذه الأحداث هي منذر واضح من الفقه الحي الذي يجب أن يسود ثقافتنا وتعاملنا لئلا تزل الألسن وتنزلق الأقدام. لعل تلك منطلقات يمكن إبرازها لاستدعاء المواقف الصائبة لئلا نغرق في النظرات البشرية البحتة القاصرة فننحرف أو نضل. الثاني: هذه الأحداث ليست بدعا في التاريخ القديم والحديث فقد مر مثلها وأشد وأخف، ولذا كما نستدعي عند دراستنا لتلك الأحداث الكبرى الأدلة الشرعية، والسنن الإلهية، نستدعي أيضا المواقف التاريخية، فلا يبقى سردا للتغني به وأمجاده، أو النوح وضرب الخدود والصدور لموت فلان أو علان، أو لمرور مرحلة تاريخية صعبة. أزعم أن هذا من أوجب ما يمكن استدعاؤه على تلك المراكز العلمية، وبيوت الخبرة بل على المفكرين والعقلاء الذين يحترمون كلمتهم ويقدرون آراءهم قبل غيرهم. ولماذا يكون كذلك؟ لأن سنن الله تعالى في الكون واحدة لا تتغير، وإنما الذي يتغير الحدث نفسه، وإن كانت الحقيقة متقاربة. فما مر من أحداث في تونس - مثلاً - فقد سبق مثله في التاريخ القريب والبعيد. هذا يفرض أن لا يقع الشعب التونسي فيما وقع فيه غيره من الشعوب فيستغله المتربصون فعادت لتبدأ من الصفر، وهذا يستدعي من عقلاء البلد وحكماؤه أن يتأملوا ذلك جيدا.

وما يجري في السودان فقد سبق مثله في التاريخ القريب من تقسيم الشام، وهذا يحتم على عقلاء السودان وأهل الحل والعقد فيه أن يتأملوا الموقف ومآلاته. وما ينشط من طوائف من هنا وهناك فقد نشطت مثيلاتها فدراسة عوامل ذلك وفق تلك السنن تفرض على العقلاء الوعي التام، وعدم التساهل والتغاضي، وما تنتشر من أفكار مخالفة للدين -وإن حاول أصحابها أن يُلَبِّسوها لباسه - فهم أول من يدرك أن الآخرين يعلمون منهجهم وطريقة تفكيرهم وكثيرا من سلوكياتهم، أقول في التاريخ القريب مر مثل ذلك وما فكرة القومية العربية عنا ببعيد ولم تفلح في إنقاذ الأمة العربية. وقل مثل ذلك في المشكلات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية. وهمسة هنا لأهل الدعوة أن يعو جيدا هذا المنطلق فالمسألة ليست عواطف, ولا مواقف للتسابق، ولا أمجادا شخصية، أو تشبعًا بما لم يعط. فالمرحلة ليست كسابقتها وفي التاريخ عبرة. (فليتأمل). الثالث: يجتمع في تلك الأحداث الأقدار الكونية، والأقدار الشرعية، وللإسلام منهج في التعامل معهما يجمعها الإيمان بما وقع ومن ثم حسن التعامل معها وفق المنهج الشرعي، وما تقتضيه قواعد المصالح والمفاسد، من منظور أهل الحل والعقد، والعقلاء والحكماء، وأهل التخصص، والخبرة. ولعل من ما يندرج في ذلك:- عدم تفسير الظواهر بالمنظار الأولي وإن كان يتوافق مع العواطف، أو الرغبات الكامنة في النفوس، فلا شك أن مثل هذه الأحداث بقدر الله تعالى، لكن الله جل وعلا علمنا الربط بين الأسباب ومسبباتها، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى:] إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [. وعليه فلن تتغير المجتمعات إلى الأحسن، أو ترقى رقيا يطغى على المصالح الذاتية، والحزبية, ما لم يتغير الناس نحو التعامل مع سنن الله الشرعية، فالله جل وعلا أمر بعبادته، وبحسن الاعتقاد تجاهه، وبمكارم الأخلاق، وضرورة التعامل الاقتصادي وفق شرعه، ومعالجة المشكلات الاجتماعية من منظور الكتاب والسنة، والمناهج التربوية من منطلق مفردات التأصيل الشرعي .. أزعم أنه إذا لم يتغير الناس وفق هذه السنن لن تتبدل أحوالهم نحو الأصلح والأمثل لمجرد ذهاب شخص وإتيان آخر، وإن تغنى من تغنى بذلك. وفي الوقت نفسه ما لم تتجه الأنظمة نحو القيم العليا، والعدل، وإعطاء الحقوق، وتجنب الظلم والاعتداء على حقوق الناس وأموالهم، والنظر إلى المصالح العليا على حساب المصالح الخاصة والذاتية والفردية والحزبية. ما لم يكن كذلك فالمعادلة واحدة، والنتيجة واحدة، من استمرار السلبيات, وتفاقم المشكلات. الرابع: هذه الأحداث تجلّي عظم المسؤولية على أهلها، واستجلاب النصوص المعظمة لذلك، وكلما كبرت الأعمال زادت المسؤولية، فلنتأمل قوله تعالى:] إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [وقوله عليه الصلاة والسلام (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وغيرها من النصوص. هذا يحتم على أهل المسؤوليات استشعار عظم المسؤولية وما تقتضيه هذه المسؤولية من أعمال يجب أن يقوموا بها، ابتداء بمسؤولية الفرد عن نفسه، وانتهاء بمسؤوليات الولاة والعلماء لأنها أعظم المسؤوليات. في هذا الشعور - أعني الشعور بالمسؤولية - تتولد القيم العليا السابقة ومن أعظمها: شدة الحرص على هذه القيم، وإيجاد السبل للقيام بها، وأحياؤها في النفوس، وتمثلها في الواقع، فالحاكم، والوزير، والمدير، والعالم، والقاضي، والموظف، والمؤتمن على الأموال، والداعية، والمعلم, ورب الأسرة (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته).

إن واقع كثير من هؤلاء لا يتعدى نظره لهذه الأحداث سوى علامات التعجب والإستغراب لما يقع خلاف السياق عند غيره في الظاهر .. لكن أن ننتقل إلى سلوك واضح بعد تقويم عملي فهذا قد لا يدخل دائرة تفكيره .. فإذا أردنا العبرة الحقة فلينتقل السياق إلى التصور الصحيح، والعمل السليم المبني على الشعور بالمسؤولية، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في مسيرة دعوته كلها. ابتداء من وصفه بالأمين قبل البعثة إلى أن أشهد الناس في حجة الوداع على قيامه بالتبليغ .. ولكل من هؤلاء وأولئك مجال عظيم في سيرته لتلقي ما يعنيه. وهذا يحتم على كل مسؤول أيا كان نوع المسؤولية القيام بها بمقتضى الأمانة وعظمها، ومن هنا تسد كل ثغرة يمكن أن يلج منها كل مفسد ومخرب، وعدو متربص، وحاسد وحاقد، كما يسد فيها باب الظلم والتعدي، والتجاوز. الخامس: أظنه لم يعد خافيا أن للأعداء أيد متنوعة تهدف إلى العبث في ديار المسلمين مستهدفة ما يجعلها في المرتبات المتأخرة، والتابعة لغيرها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتربويا، كما تكون بحاجة مستمرة لهؤلاء الأعداء, وعالة عليهم حتى في أدق حاجياتهم من المآكل والمشارب، والألبسة, والمراكب .. الخ وهذا يحتم علينا -في جميع المستويات -أمور منها:- 1 - تجديد الوعي بما ذكره الله سبحانه وتعالى من عداوة الشيطان لبني آدم, والعمل الجاد لمحاربته. 2 - تجديد الوعي بما ذكره الله سبحانه وتعالى من تربص أعداء الإسلام والمسلمين بالمسلمين وإن بدت نواجذهم بالضحك، ويتبع ذلك دراسة أحوالهم وخططهم وحيلهم ضد الإسلام وأهله ودياره. 3 - إعادة النظر في مناهجنا الحياتية وسائر أحوالنا المختلفة وترتيب الأولويات للقضايا والأعمال على مستوى الأفراد والمؤسسات. 4 - وهذا لا يعني عدم التعامل مع الأعداء بل يجب أن يتعامل معهم وفق المنهج الشرعي القائم على الحسنى، لكن هذه الحسنى تفرض ذلك الوعي المنشود. 5 - ترك المناقشات والمماحكاة التي لا تؤدي إلى نتائج إيجابية مثل (قضية المؤامرة) إقرارا لها أو نفيا لها فالإقرار المطلق لكل شيء مرفوض عقيدة، والنفي المطلق مثله، ويبقى حسن الوعي للأمور العملية هكذا أحسب كما جاء في تعاليم القرآن الكريم. 6 - تربية الأمة - من أهل التربية كل فيما يخصه - على حقائق القرآن الكريم الخاصة بالتعامل مع الآخرين أيا كانوا لندرك تلك القيم العليا التي تحفظ الأمة من الشرور والآثام، وتسد الثغرات التي ينفذ منها الأعداء والحساد، كما تحفظها من الاستعجال، وردود الأفعال، واقتراف المحرمات والمنكرات. السادس: لا شك أن مبدأ الإصلاح: مبدأ إسلامي منطلق من القرآن الكريم والسنة النبوية، بل إنه مهمة الأنبياء والمرسلين، ومن ذلك: إصلاح الأفراد -أيا كانت مواقعهم وأحوالهم - والمؤسسات، والوزارات، لكن مما ينبغي تذكّره هنا: 1 - أن للإصلاح منهجا يقوم عليه، ذكره الله في القرآن الكريم وفصلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية، وطبقه عمليا عليه الصلاة والسلام في سيرته, وكتب فيه الأئمة والعلماء كتابات مستفيضة قديما وحديثا، وعليه ينبغي بل يتأكد على أهل العلم إبراز ذلك المنهج بوضوح، وله تفصيلات ليس هذا مقامها فهو العاصم بإذن الله من الزلل والإنحراف والغلو والشطط. 2 - من أهم المهمات في الإصلاح وضوح الغاية والهدف، فلا تكفي الشعارات البراقة ولا العمومات، ولا الدعاوى غير الواقعية، وهذا الوضوح ينفي الفردية والأنانية، والمصالح الذاتية، والارتقاء على كتف الإصلاح إلى مآرب أخرى، والغاية حددها الله سبحانه بـ (البلاغ) وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (اللهم هل بلغت فاشهد).

3 - حسن الغاية لا يبرر الوسيلة، وهذه قاعدة راسخة من أعظم القواعد في الإصلاح، تعني أنه لا يجوز الوصول إلى الغاية الشريفة بوسائل محرمة مهما كان حسن الغاية، وشرفها، وعظمها، وبذلك يجب تحكيم الشرع في هذه الوسائل ومن ذلك: الإنتحار وحرق الأجساد والأنفس، والتعدي على الممتلكات، والتخريب والدمار، ولقد مر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الضيق والشدة والكرب في مكة وفي المدينة مالم يمر مثله على كثيرين مما لا يعلمه إلا الله تعالى لكنه عليه الصلاة والسلام لم يتجاوز المشروع إلى الممنوع، بل رسم منهجا يجب أن يقتفيه أهل الإصلاح عنوانه (العمل والصبر) مهما كانت الأحوال ومهما بلغت من الضيق والشدة. وبلا شك أن هذا المنهج ينفي ردود الأفعال السلبية، والعواطف غير المرشدة، كما ينفي الجمود وعدم التحرك للإصلاح والقعود والكسل. 4 - ولكي يبلغ الإصلاح المبلغ المطلوب ويوصل إلى غايته يجب أن يتمسك بآدابه حتى لا ينفرط الزمام، وتتسع الفجوات لدخول الأعداء والمتربصين، وتلك - وأيم الله - مهمة عظيمة - أعني مهمة المصلحين - لكن لا يبلغ شرفها إلا من اتسم بتلك الآداب، وأخلص فيها القصد، وتحرر من الذاتية والحزبية. السابع: الظلم عاقبته وخيمة، والظلم ظلمات ونتيجته حتمية في الدنيا والآخرة، تأملوا قوله تعالى:] ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [وقوله صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم فإن دعوته مستجابة) وقوله أيضا: (الظلم ظلمات). وعند التأمل في بعض ما جرى من أحداث نجده نتيجة للظلم، فالدوائر تدور على الظالمين ولو بعد حين. ومن هنا يتحتم العمل بتحري العدل في كل شيء حتى على مستوى الأسرة الصغيرة، فكثير من الإنحراف والبغي والعدوان والقتل والتدمير سببه الظلم. وبالظلم تحصل كثير من الآفات المجتمعية، والأمراض الفتاكة والجوع والبطالة، والقهر، ومن ثم السرقة، والمخدرات، والاعتداء على الأعراض، وسلب الأموال، كلها نتائج مؤهلة للظلم. وهذا يستوجب الوعي بذلك في مختلف الأحوال، لكي يبتعد الجميع عن الظلم، ليس في الأموال فحسب وإنما في سائر الحقوق. ولا شك أن ضد الظلم: العدل، وهو المنشود في كل مسؤولية. الثامن: في مثل هذه الأحوال التي تدور بين اليأس - كما في حال العراق، والصومال، والسودان (الآن) ولبنان -وبين التطلع إلى الأفضل كما يراه البعض في حال تونس، يرد سؤال وهو: أننا نردد وجوب الاتحاد بين الدول وتوحيد الكلمة، فنلقي باللائمة والواجب إما على الدول، وإما على المجتمعات وإما على الحكام .. وهكذا دواليك، لكن ما الواجب على الفرد المسلم في سائر المجتمعات؟ وهو سؤال في غاية الأهمية ينحى فيه المجيبون مناح عدة منها:- العودة إلى الإجابة العمومية وهنا يبقى الإشكال نفسه، ومنها: الإنتقال إلى عمومية أخرى كالإتيان ببعض البشارات العامة وطلب الفأل دون تفقيط عملي. ومنها: اليأس والقنوط أنه لا مخلص أبدا ومن ثم القعود والكسل وعدم العمل. ومنها: أن هذه الأحداث لا تخص الأفراد مطلقا بل هي واجب على الحكومات ومن ثم يقع الفرد في توتر مستمر، ويتواصل التوتر إلى الأسرة والشارع ويقع ما يقع من المفاسد العظمى .. ومنها: الإجابة بدور الفرد إلى أن يحمل ما لا يحتمل فيباشر التغيير العام، فيقع فريسة للأحزاب والمنظمات والمتربصين ونتيجة ذلك: القتل والتدمير والرجوع إلى الوراء، ولذلك أرى أنه يتحتم على العلماء والعقلاء وأهل الرأي والفكر والدعوة أن يفقطوا دور الفرد بشفافية ووضوح ويوصلوه إلى الأفراد لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، وأشارك هنا في ذكر النقاط الآتية:- 1 - أن من دور الفرد: الإعداد العلمي والتربوي له ولمن تحت يده كل بحسبه.

2 - الشعور بكل قضية بحسبها فليست كل القضايا في ميزان واحد، فقضية السودان ليست كقضية لبنان، والصومال غير مصر، وأحوال السياسة غير الاقتصاد، وهكذا، فينبغي أخذ كل قضية بمعطياتها، ومعرفة ما هو المشترك بينها وغير المشترك. 3 - الدعاء لكل المسلمين حكامهم وعلمائهم ومفكريهم وقادتهم، وهو من أهم الواجبات الفردية والجماعية، وهذا منطلق من معرفة أن هذا الكون بقدر الله، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. 4 - عدم قياس مجتمعك على أي مجتمع آخر فلكل ظروفه وأحواله التي تجعل النظر والأحكام مختلفة، فتستوجب الرجوع إلى علماء البلد وعقلائه وحكمائه ليرسموا المنهاج العملي لأهله. 5 - عدم الوصاية على الآخرين، فمما يسمع ويقرأ أنه على أهل البلد الفلاني أن يعملوا كذا وكذا، مثل دخولهم في حكومة فلان أو عدم دخولهم، أو مناهضتهم لهم أو عدم ذلك .. وهكذا مما يربي في النفوس الاحتقان والتوتر والفرقة والتناحر .. وربما يكون لبعض الأفراد صلة معينة مع من يوجد في تلك البلدان فيصل إلى أن يملي عليه .. وهذا من الآفات للفرقة، ولعل بديل ذلك إرجاع أي أمر إلى علماء البلد نفسه وحكمائه وأهل الحل والعقد فيه لئلا تتسع دائرة المشكلات فتصعب الحلول، وأزعم أن هذا مما أسهم في تعقيد مشكلة العراق وأفغانستان والصومال وغيرها. 6 - الإسهام بما يطلب من الفرد فعند طلب المساعدة المادية، أو الفكرية، أو الرأي أو غيرها يسهم بما يستطيع من خلال القنوات الواضحة. 7 - التأكيد على أن الواجبات متفاوتة فهناك واجب وأوجب، وواجب ومستحب، وما يسمى اليوم (فقه الأولويات) فيتنبه الفرد إلى ألا يقفز إلى المستحب وهو لم يعمل الواجب، ومن الواجبات القيام بمهامك الواجبة عليك ثم التي تليها. وهذا من الفقه الأكبر الذي يعصم من وقوع الفرد في قواصم كثيرة. 8 - ضبط اللسان لئلا يزل، فزلته قد تسري إلى آفاق بعيدة من حيث لا يشعر الفرد، ولهذا جاءت الآثار الكثيرة بأهمية: ضبط المشاعر، وأهمية العبادة في الفتن، وعدم الوقوع فيها، والصبر، والدعاء. وما يرى من التناقض بين مقالات بعض الأفراد مع أنفسهم كان بهذا السبب (فليتأمل). 9 - البعد عن مواطن الفتن والشبهات والشهوات التي يكون الفرد مسهما فيها بتأجيج الفتن فيقع في المحظور، مثل الخوض في بعض القضايا الشرعية الكبرى وهو لا يحسنها، ومما سمعته في هذه الأحداث: تجويز الانتحار، والسمة بالبطولية لهؤلاء ونحو ذلك، وهي زلة ليست بالسهلة. ومن ذلك: إلقاء المعلومات والجزم فيها ولو لم تكن من مصدر موثوق ومن ثم تداول هذه المعلومات حتى تصبح حقائق وهي ليست كذلك أصلا. 10 - المبادرة بالأعمال الخيرية والتطوعية وبخاصة عند الحاجة إليها كما يكون ذلك في بعض الأزمات. * * * أحسب أن هذه من مهمات الأفراد سواء تلك التي توجب عملا ما أو تنفيه, والنفي المؤكد كالواجب المؤكد. التاسع: تعيش المجتمعات والمؤسسات بل والأفراد بين خطين متوازيين هما خط البناء والتنمية، وخط معالجة المشكلات، وللبناء والتنمية خططها الخمسية والعشرية، وكذا مراجعة نظمها وأحوالها ومعالجة مشكلاتها. ومن المهم: إدراك أن الأصل هو العمل بخط البناء، وفي ذات الأمر تعالج المشكلات الواقعة من خلال قنواتها الطبيعية. وعند التأمل هنا: نجد أن كثيرا من تفاقم المشكلات لعدم وجود استراتيجية (عملية) للعمل بالخطين، أو لإهمال احدهما، أو لضعف الإخلاص في التخطيط والأداء، وكلها آفات تستوجب من أهل الحل والعقد النظر فيها، وما تفاقم مشكلات المخدرات، والبطالة، والسرقة، والفقر، والإعتداء .. وسائر الجرائم إلا بسبب إحدى إهمال تلك الخطوط أو بعضها.

أعتقد أننا بحاجة للنظر الجاد في سائر المجتمعات العربية والإسلامية بجد وعزم ونية صادقة للعمل بهذين الخطين. إن الواجب في هذا المعلم كبير على أهل الحل والعقد والحكمة والرأي بمختلف التخصصات والمسؤوليات مما يستوجب المبادرة والجدية. العاشر: وأختم بالعودة إلى النفوس البشرية، وضرورة تعاملها بالقيم العليا، فأزعم أننا كبارا وصغارا ذكورا وإناثا، بحاجة إلى تجديد غرس تلك القيم: فالإخلاص، والصدق، والشفافية، وحسن الأداء، ومحاولة الإتقان، والعمل، والعدل، وإعطاء الحقوق، والأمانة، ومعالجة المشكلات، وصد المناوئين، وسد الأبواب التي ينفذ منها الحقد والحسد والتعدي والظلم والاعتداء والإخلال بالأمن والغش والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، كلها مقررات أساسية للبناء والتنمية، وهذه المقررات هي جزء من العودة إلى شرع الله تعالى ودينه وتعاليمه التي يجب أن تكون المصدر الأساس للانطلاقة إلى الإصلاح والبناء والتنمية والسير بحرية نحو التقدم والمنافسة ومعالجة المشكلات الكبرى والصغرى. * * * أعود لأقول: تلك خواطر متفرقة لا يجمعها سوى ما جرى ويجري من أحداث تهز المشاعر لأخذ العبرة والدرس، وهي إسهام فردي أرجو أن يصب في باب المنهجية السلمية للتعامل مع هذه المشكلات وأمثالها، وهي لا تعدو إلا أن تحمل تذكيرًا لمن يهمهم الأمر، كما أحسب أنها نقطة إيجابية في هذا الباب، وتفاؤل يحمل نقاطا عملية عند اجتماعها قد يتكون منها منهاج عملي يسهم في الإصلاح المنشود. فإن لم تكن هذا ولا ذاك فلعلها تفيد في براءة الذمة، ومشاركة الآخرين خواطرهم. وأختم ذلك كله بالنداء لقادة الفكر والرأي والعلم والحكمة والدعوة والمسؤولية بأن لا تحملوا الرجل العامي أكثر مما يتحمل في عملية البناء والمعالجة، فالمسؤولية تكبر بكبر همّة أصحابها في العلم والعمل والمسؤولية, وأنتم أهل لها وعلى مستواها. أعانكم الله. سدد الله الخطى وحقق الآمال

غدا سأحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

غداً سأحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ناصر العلي جامعة أم القرى 11 ربيع الأول 1432هـ وُلِد الهُدى فالكائنات ضياءُ * وفَمُ الزمانِ تبسُّمٌ وسناءُ يا خيرَ من جاء الوجودَ تحيةً * من مُرْسَلِين إلى الهدى بك جاؤوا يومٌ يَتِيهُ على الزمان صباحُهُ * ومساؤه بِمُحمَّدٍ وضَّاءُ سألت نفسي سؤالاً: لماذا لا أحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أيعقل أن كل المحتفلين به على خطأ؟! لماذا لا نعلن حُبَّنا للرسول صلى الله عليه وسلم مثلهم؟! ونثبت لهم أننا نحبه. فهم يتهموننا أننا لا نحبه!! أستغفر الله .. معاذ الله .. أن يتهم مسلمٌ مسلماً أنه لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم؟! فكَّرت وقدَّرت .. ثم قرَّرت أن أحتفل رغم كون الفكرة لم تَحْظَ بقناعتي حتى الآن، لكني سأحتفل. ولماذا لا أحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ دعونا نحتفل! فقد يكون الحق والصواب مع المحتفلين؟ لديَّ عقلٌ وإدراك، وقد درست الشريعة وعرفت بعضاً من أحكامها، ولا أدعي إحاطتي بعلومها. ولكن بما لدي من بصيص علم - ولاسيما القواعد الكلية والمبادئ العامة للشريعة - سأجرب أن أحتفل. يا تُرى كيف سيكون احتفالي؟! سأحاول وأنا أحتفل بالمولد ألَّا أرتكب منكرًا وألَّا أغشى زُوْرًا. غداً هو يوم الثاني عشر من ربيع الأول، وسأبدأ فيه احتفالي أولاً بقراءة كتب السيرة النبوية والشمائل المحمدية صلى الله عليه وسلم. ولكني لن أتغنى بقصيدة البُرْدَة للبُوْصِيْري, فقد درستُ العقيدة وعلمت بأن فيها ما يناقض التوحيد والعقيدة والعياذ بالله. حسنًا .. سأبدأ بقراءة كتاب "الرحيق المختوم" لكني لما قرأته تفاجأت إذ وجدت مكتوباً فيه: ((ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بشِعْبِ بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول)). قلت في نفسي: المشهور المعروف عند الناس أنه وُلِد صلى الله عليه وسلم في يوم الثاني عشر من ربيع الأول؟! فعرَّجْت على كتبٍ أخرى في السيرة كالإمام ابن كثير الشافعي وغيره، فإذا بها تذكر اختلافاتٍ شتى في تاريخ مولده: أكانت ولادته صباحاً أم مساءً؟ أكانت في ربيع الأول أم ربيع الآخر أم في صفر أم في رمضان؟ وبكلٍّ قيل، بل اختلفوا في تحديد عام ولادته؟. اختلف علماء السير والتاريخ في تحديد سنة ولادته وشهر ميلاده ويومه وساعته. ولما علمتُ أن عمر رضي الله عنه أرَّخ بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بإقرارٍ من الصحابة، ولم يؤرِّخْ بمولده صلى الله عليه وسلم، أدركتُ أن الصحابة رضي الله عنه لم يكونوا يعلمون جزماً يوم ولادته، بل لم يكونوا يرون أنّ ضبط تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم له أهميةٌ يترتَّب عليها حكمٌ شرعي. فقلت: إذن لماذا أحتفل في الثاني عشر ولا يوجد سند تاريخي يؤيده!! فتضعضعت قناعتي. ولكني سأستمر في القراءة والبحث والاحتفال. إن كتب السير والتاريخ بل وكتب الحديث الشريف أجمعت على أن ولادته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الإثنين، وكان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يصومه شكراً لله؛ ولمَّا سئل عن ذلك؟ قال «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ» رواه مسلم. ولم أجد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرَّى صيام الثاني عشر من ربيع الأول مرةً في السنة، بل كان يصوم كل إثنين بمناسبة ولادته وبعثته فيه. لكنَّ كثيرًا من المحتفلين بالمولد في كل عام مرة أو أكثر! ربما لا يحرصون على صوم يوم الإثنين من كلِّ أسبوع! أليس هذا قلباً للحقائق؟! ?أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ?.

ثم إن صاحب المولد صلى الله عليه وسلم لم يُضِفْ إلى الصيامِ احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد من تجمعاتٍ ومدائحَ وذبائحَ وحلوى وحمص وأذكارٍ وصلواتٍ عليه صلى الله عليه وسلم بألفاظٍ غريبةٍ ومحدثة. ثم سألت نفسي: أفلا يكفي الأمةَ ما كفى نبيَّها، ألسنا نحب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ ?وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ?. ومن عجيب ما قرأت ورأيت في بعض البلدان العربية والإسلامية أنهم يحتفلون بالمولد بإقامة حفلات غنائية أو إنشادية تصحبها دفوف ومعازف موسيقية. فقلت في نفسي: أليس المصطفى صلى الله عليه وسلم قال «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف». رواه البخاري تعليقا ووصله غيره، وهو صحيح. لقد رأيتهم يتراقصون ويتمايلون ويتواثبون، لقد كانوا رجالا ونساء، أيعقل هذا؟!.تساءلت أيرضى أحدهم أن يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الحال؟! يا راقصا أو زاحفا لتَعَبّدٍ ** ما كان هذا من صنيع محمد ما كان يرقص بالدفوف عبادة ** أو كان يزحف للقبور بمسجد ثم أعدت السؤال على نفسي مرة أخرى: لماذا لا أحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة أخرى؟ بلا معازف، ولا رقص، ولا بردة. سأفرح بيوم ميلاده صلى الله عليه وسلم، وسأحتفل - كما احتفل صاحب المولد صلى الله عليه وسلم - كل إثنينٍ بصيامه كل أسبوع قدر استطاعتي. حسنا .. أمسكت بكتاب آخر عن الشمائل المحمدية وبدأت أقرأ فيه، فاليوم هو الثاني عشر من ربيع الأول. لكن عقلي شرد سابحا في تفكير عميق: يا ترى هل سأقتصر على قراءة كتب السير والشمائل المحمدية في هذا اليوم السنوي فقط؟! يا ألله! هل حبي وكثرة ذكري للنبي صلى الله عليه وسلم فقط في هذا اليوم؟! .. ألست أحبه وأذكره كل يوم؟! أيُّ معنىً لتخصيص يومٍ واحدٍ في السنة نتذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. هل نسيناه حتى نتذكره؟! هل يجوز ألَّا نفرح به صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة في السنة؟ هل هذه الطريقة فيها توقير للمصطفى صلى الله عليه وسلم أم أنها إجحاف بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل أصبحت محبة النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في السنة؟! وهو القائل: «البخيلُ مَنْ ذُكِرتُ عنده ولم يُصَلِّ عليَّ». فبالله عليكم! أي بخل تصفون به من يقول نخصص للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً واحداً أو يومين أو ثلاثًا أو عشرًا أو عددًا محدودًا في السنة نحتفل به صلى الله عليه وسلم ونقرأ سيرته، ونصلي عليه صلى الله عليه وسلم؟ أليس هذا بُخلاً وإجحافًا في حقِّ نبينا الهادي صلى الله عليه وسلم؟!. يجب على الأمة المسلمة أن تجعل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نصب أعينها في كل حين، وأن تتعلم من سيرته وسنته وآدابه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ينبغي أن نذكر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاتنا، وإذا سمعنا الأذان، وإذا دخلنا المسجد، ونذكره في أوقات كثيرة، بل يكون ذكره صلى الله عليه وسلم برؤية من يمتثل سنته صلى الله عليه وسلم. فمثلاً إذا رأيتَ شاباً مؤمناً يتمثل في مظهره سنة صلى الله عليه وسلم معفياً لحيته، مقصراً ثوبه، مستاكاً بأراكه، فإنك سرعان ما تتذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا رأيت القرآن تذكرت النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي جاءنا بهذا القرآن، فمتى يغفل المؤمن عن ذكرى النبي صلى الله عليه وسلم!! فيجب علينا أن تكون محبته صلى الله عليه وسلم تملك شغاف قلوبنا، وكل أمر من أمورنا نزنها بميزانه، ونطبقه على سنته صلى الله عليه وسلم، فيكون تذكرنا له في الحقيقة في كل وقت، وفي كل عمل.

فإذا رأيت امرأة في الطريق أو على الشاشة أتذكر أنه صلى الله عليه وسلم أمرني أن أغض بصري، فأغضه. وإذا أردتُ أن أخيط ثوباً عند خياطٍ أتذكر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إسباله، فأقصره. وإذا تعاملت مع الجمهور أتذكر نبيي صلى الله عليه وسلم المبسام، فأبتسم في وجوههم. وفي البيت وبين أهلي أتذكر حبيبنا صلى الله عليه وسلم كيف كان خيرنا لأهله. وهكذا يا حبيب رسول الله في كل أمر من الأمور نحن ملزمون باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً?. ثم كرَّةً بعد مرَّة أسائل نفسي: لماذا لا أحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقبل أن أجيب، جال بخاطري سؤال وأنا أفكر في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: هل نحن لمّا نحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم نبتغي بذلك أجراً وثواباً وقربى من الله أو أننا نحتفل لمجرد العادات وأكل الحلوى والرز بالحمص والتلهي بالألحان الشجية المطربة؟ أظن في الناس خيراً، إنهم ينشدون بفعلهم هذا الأجر من الله تعالى. عندئذ تذكرت حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» رواه الشيخان. وقوله: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» متفق عليه. نعم تذكرت هذين الحديثين، وتذكرت ما قرره العلماء من أن جميع العبادات توقيفية، أي لا نعبد الله ولا نتقرب إليه إلا بما أمرنا به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: «ما تركتُ شيئاً يُقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به» رواه الطبراني. فالقاعدة في العبادات أن نتعبد الله بما شرع لا بالبدع، حتى لو بدا العمل حسنا، فهو مردود على صاحبه. وسمعت أرباب الموالد يقولون: إن المولد بدعة حسنة. لكني قرأت حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يردده ويفتتح به خطبه، يقول: «أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» رواه النسائي وغيره. قال: "كل بدعة ضلالة". وتذكرتُ قول إمام دار هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو عالم المدينة في عصره الإمام مالك بن أنس رحمه الله، قال: ((من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة)). هذا شيء خطير جداً، ما الدليل على ذلك يا إمام؟ قال الإمام مالك: ((اقرؤا إن شئتم قول الله تعالى:?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً? فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليومَ ديناً)). متى قال الإمام مالك هذا الكلام؟ قاله في القرن الثاني من الهجرة، أحدِ القرون المفضلةِ المشهودِ لها بالخيرية! فما بالكم بالقرن الخامس عشر؟! هذا كلامٌ يُكتب بماء الذهب، لكننا عن أقوال الأئمة الذين نزعم أننا نقتدي بهم غافلون. تذكرت كل هذه المعاني فخفت والله أن أكون مبتدعا في احتفالي. خفت أن ينطبق فيَّ قول الله تعالى? قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً?. وخشيت أن يصدق فيَّ قول ابن مسعود رضي الله عنه ((كم من مريد للخير لا يصيبه!!)). فقررت أن أترك الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم. لكني واصلت قراءة سيرة المصطفى العطرة صلى الله عليه وسلم.

وعدت واتهمت نفسي بالقصور في العلم، وطفقت أبحث عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة الأربعة (أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) عليهم رحمة الله، فهالني أنني لم أجد حديثاً واحداً لا صحيحًا ولا ضعيفًا بل ولا موضوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل بمولد نبيٍّ من الأنبياء، ولم أجد أثراً واحداً لا صحيحًا ولا ضعيفًا بل ولا موضوعًا عن صحابيٍّ واحدٍ أنه احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، بل لم أجد إماماً واحداً من الأئمة الأربعة فعل ذلك. فقلت يا سبحان الله! أمرٌ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام رضي الله عنهم ولا إمامٌ من الأئمة الأربعة المتبوعين، وأفعله أنا، لا والله. ومع ذلك أكملت قراءتي وأنهيت قراءة الغزوات وفتح مكة، وها أنا ذا قاربت من نهاية كتاب السيرة الذي بين يدي. إنها اللحظات الأخيرة الحرجة في حياته صلى الله عليه وسلم, إنها الساعة التي أظلم فيها كل شيء، ساعة وفاته صلى الله عليه وسلم. إنها الداهية العظمى والمصيبة الكبرى التي قال لنا فيها صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتِهِ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ». حقًّا إنه يوم الخسران الأكبر، يوم أن انقطع الوحي الشريف، وانقطعت السماء عن الأرض. يقول أنسرضي الله عنه: ((لما كان اليومُ الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أضاء منها كلُّ شيء، فلمّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلَّ شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيديَ حتى أنكرنا قلوبنا)) رواه الترمذي بسند صحيح. لقد فاضت روحه الشريفة صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في الثاني عشر من ربيع الأول في السنة الحاديةَ عشرةَ للهجرة. هنا لم تختلف كتب السير في تحديد يومِ وفاته كما اختلفت في تحديد يوم ولادته. ربطتُ بين المناسبتين، مناسبة الوفاة المجزوم بها مع مناسبة الولادة المظنون بها في شهر واحد وفي يوم واحد. فصرختُ: يا إلهي!! كيف لي أن أحتفل بيوم وفاته صلى الله عليه وسلم؟! كيف لعقلٍ أن يجمع بين فرح وسرور وحزن وألم في نفس الوقت؟! يا إلهي!! أيجوز لأحد يُحِبُّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتفل بموته صلى الله عليه وسلم؟! بل لو دعا إنسانٌ إلى جعل يوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم حزن لكانت شبهته أقوى من شبهة المحتفلين بذلك اليوم، لماذا؟ لأن الأحزان غَلَّابةٌ على الأفراح، فلو قُدِّر أنه توفي والد أحد الزوجين في ليلة عرسهما، لعُدَّ احتفالهم تلك الليلة ضربا من الجنون. وهكذا لو مات ولدك يوم العيد، لانقلب فرح العيد حُزْنًا ومأتماً وعزاءً. إن أعداء المسلمين سيضحكون علينا: فإن نحن ابتهجنا وفَرِحْنَا بولادته صلى الله عليه وسلم قالوا: انظروا إلى المسلمين إنهم يفرحون بوفاة نبيهم! وإن نحن حَزِنَّا وصَنَعْنا مأتماً لوفاته صلى الله عليه وسلم قالوا: انظروا إلى المسلمين إنهم يحزنون لولادة نبيهم. فماذا نفعل؟ الأمر يسير، إننا لسنا بحاجة إلى احتفاء أو عزاء، إنما اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا لا غرابة أن كان العُبَيْديون الرافضة هم أول من أحدث بدعة المولد. فهل هؤلاء أهل للاقتداء والائتساء؟!. إلى هنا وسأستريح قليلا عن قراءة السيرة بعدما تبينت لي الأمور، وانكشفت لي الحقائق. هل سأحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، لن أحتفل بالمولد بعد اليوم. إن احتفالي الحقيقي هو أن أسير على خطاه صلى الله عليه وسلم، وأن أحيي سنته، وأن أدافع عنها, وأن أُحِبَّه وأحبَّ آلَ بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين. اللهم إنا نُشهدك يا الله بأننا نحب عبدَك ونبيَّك سيدَنا محمداً صلى الله عليه وسلم، اللهم ارزقنا بمحبتنا له شفاعةً تنجينا بها من عذاب أليم، وتُدخِلُنا بها جنتك ياربَّ العالمين. وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

بيان من الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات بشأن الأحداث

بيان من الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات بشأن الأحداث 4 ربيع الأول 1432هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده، وبعد؛ فإن الأمة المصرية تمر اليوم بمرحلة بالغة الخطورة، تستوجب أن يقوم العلماء والدعاة وأصحاب الرأي والحكماء بواجبهم نحو مناصحة أمتهم. والموقعون على هذا البيان يتوجهون إلى مختلف طوائف الأمة بما يلي: أولاً: إن المخرج الوحيد من هذه الأزمة هو الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والتعاون على البر والتقوى، وترك التعاون على الإثم والعدوان. ثانيًا: إن الأمة لن تسمح بالمساس بالمادة الدستورية التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة، واحترام مرجعية الشريعة الإسلامية وأنها المصدر الرئيس للتشريع، وذلك لأنها صمام الأمن والأمان والسلام لجميع أفراد الوطن مع التأكيد على ضرورة إلغاء قانون الطوارئ وكل ما يشير إليه. ثالثًا: لقد اتجهت الأمة اليوم بكل طوائفها نحو التغيير والإصلاح بما لا يجوز تعويقه، ولا الإبطاء في إنجازه، وإن إقامة العدل وتحقيق التنمية وإصلاح الحكم ومؤسساته -هو اختيار الشعب الذي يمثل الاستقرار المنشود. وهذه المطالبات السلمية المنضبطة لا تعد خروجًا على الشرعية، أو مخالفة للشريعة الإسلامية. رابعًا: إن تحقيق الأمن والسلام والتكافل والتراحم بين فئات المجتمع مرهون بإجابة مطالب الشباب المشروعة، وإعطاء الضمانات الكفيلة بتأمين جموع المتظاهرين، واتخاذ الإجراءات التي تكشف عن صدق النوايا، والتي يمكن إعادة بناء جسر الثقة والمصداقية الذي انهار بسبب ما وقع من أخطاء ونقض للعهود. خامسًا: تؤكد قوى المجتمع على حفظ مكتسباتها وتطالب بالوقوف خلف مطالب الشباب، وإنجاز التغيير في الاتجاه الصحيح، دون انزلاق مع توجهات منحرفة، أو شعارات مضللة، وتنبه إلى أن هذه المطالب تتفق مع جميع الشرائع السماوية والمواثيق الدولية فضلاً عن إجماع الأمة. سادسًا: يناشد الجميع المسئولين عن البلاد بحقن الدماء وحفظ الأرواح وضبط الأمن، وسرعة اتخاذ الإجراءات لمحاسبة الفاسدين دون إبطاء تحقيقًا لمصالح البلاد والعباد. سابعًا: يحتسب الموقِّعون على هذا البيان المقتولين من أهل الإيمان بسبب الاعتداء عليهم -شهداء عند الله تعالى، ويستحق أهلهم تعويضًا عما لحقهم من الخسائر والأضرار في الأنفس والممتلكات. ثامنًا: على جموع المتظاهرين أن يعملوا على حفظ مطالباتهم بسلوك الطرق السلمية في التعبير والمطالبة، والبعد عن كل ما يعرِّض هذا الجمع للأخطار، وكل ما يؤدي إلى الإضرار بالوطن والمواطنين، ويوجد ذرائع البطش والتنكيل. تاسعًا: يشيد الموقعون على هذا البيان بالموقف الوطني المشرف للجيش المصري ورسالته في حفظ أمن الوطن والمواطنين. عاشرًا: ندعو جموع الشعب المصري إلى إشاعة الرحمة والرفق، والعفو والصفح، عن كل من أساء أو اعتدى بشرط تحقق المطالب، ونجاح المقاصد، قال -تعالى-: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين) (الشورى:40). حفظ الله مصرنا آمنة مطمئنة، وحمى شبابها ورجالها، وولّى عليها خيارها، وجعل ولايتها فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، برحمته إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، والحمد لله رب العالمين. القاهرة، ليلة السبت الموافق: 2/ 3/1432هـ- 5/ 2/2011م. الموقعون على البيان: 1 - أ. د. نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية سابقًا. 2 - أ. د. عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعتي الأزهر وأم القرى.

3 - أ. د. علي أحمد السالوس أستاذ الفقه والأصول والنائب الأول لرئيس مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا. 4 - أ. د. مروان شاهين أستاذ الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر. 5 - أ. د. الخشوعي الخشوعي محمد وكيل كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقًا. 6 - د. يحيى إسماعيل أستاذ الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقًا. 7 - د. عبد المنعم البري الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر. 8 - أ. د. عمر عبد العزيز الأستاذ بكلية الدعوة جامعة الأزهر. 9 - أ. د. محمد عبد المقصود داعية إسلامي. 10 - د. محمد إسماعيل المقدم داعية إسلامي. 11 - فضيلة الشيخ مصطفى محمد داعية إسلامي. 12 - د. سعيد عبد العظيم داعية إسلامي. 13 - د. ياسر برهامي داعية إسلامي. 14 - د. محمد يسري إبراهيم المستشار بجامعة المدينة العالمية. 15 - د. صفوت حجازي داعية إسلامي. 16 - د. محمد عبد السلام داعية إسلامي. 17 - د. أحمد النقيب داعية إسلامي. 18 - فضيلة الشيخ خالد صقر داعية إسلامي. 19 - د. عطية عدلان عطية الأستاذ بجامعة المدينة. 20 - د. أحمد فريد داعية إسلامي. 21 - فضيلة الشيخ أحمد هليل داعية إسلامي. 22 - د. هشام عقدة داعية إسلامي. 23 - د. هشام برغش داعية إسلامي. 24 - د. محمد رجب داعية إسلامي. 25 - فضيلة الشيخ نشأت أحمد داعية إسلامي. 26 - د. ياسر الفقي المدرس المساعد بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر. 27 - د. وليد الجوهري داعية إسلامي. 28 - د. مدحت عبد الباري داعية إسلامي.

نظرة شرعية في الأحداث الراهنة

نظرة شرعية في الأحداث الراهنة علوي بن عبدالقادر السقاف 2 ربيع الأول 1432هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد: فإن الأمة العربية تمر هذه الأيام بأحداث عصيبة وعسيرة؛ تنبئ عن تغيرٍ كبيرٍ ربما طال بعضًا من الأنظمة التي جثمت على صدور شعوبها عقوداً من الزمن، ويتابع الناس أحداث تونس ومصر بكل اهتمام وشغف، وقلوبهم معلقة بآمال المستقبل المجهول، وما يدري المرء هل ستلحق دولٌ أخرى بأختيها أم لا؟ وفي خضم هذه الأحداث تدور أسئلةٌ كثيرةٌ في أذهان كثيرٍ من الشباب، ويجري نقاشٌ عريضٌ عبر مجالسهم، ونواديهم، وعبر التقنيات الحديثة من مجموعات بريدية، ومواقع اجتماعية، كالموقع الشهير (الفيسبوك) وغيره، ويتساءلون عن مشروعية الاحتجاجات الجماعية وجدواها، وهل هي صورة من صور الخروج على الحاكم؟ وما الموقف الصحيح منها؟ ولماذا لا نرى بعض الرموز الدعوية تشارك فيها وتقود المسيرة؟ وهل هذا خطأ منهم أو صواب؟ وهل سيجني ثمرتها الإسلاميون أم سيقطفها غيرهم؟ وغيرها من الإشكالات والاستفسارات التي يبحثون لها عن إجابات؛ وللأسف لا يجدون! فأقول وبالله أستعين: أما الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بشرع الله، وقد أقام في المسلمين الصلاة، ولم يروا منه كفراً بواحاً، فمنهج أهل السنة والجماعة واضح في تحريمه، ولو جار أو ظلم، لحديث: ((ما أقاموا فيكم الصلاة)) رواه مسلم، ولحديث: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان)) رواه الشيخان، وقد كان هناك خلاف بين السلف في حكم الخروج على الحاكم الجائر، ثم استقر أمرهم على ما سبق، نص على ذلك القاضي عياض والنووي كما في شرحه لمسلم (11/ 433)، وابن تيمية في منهاج السنة (4/ 529)، وابن حجر في تهذيب التهذيب (1/ 399)، وغيرهم، وهو الحق إن شاء الله، وكأنه إجماع منهم. وأما من نحَّى شريعة الله ولم يحكم بها، وأظهر الكفر البواح؛ فقد أجاز العلماء الخروج عليه بشرط القدرة حتى لا تُسفك دماءٌ معصومة، وتزهق أرواحٌ بريئة، قال الإمام ابن باز رحمه الله: (لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين، أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان. والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شرٌ أكبر منه) (مجموع فتاوى ابن باز) (8/ 206) وأعني بالخروج هنا: الخروج بالقوة بحيث يتقاتل الطرفان، ويحمل كلٌّ منهما السلاح في وجه الآخر. وقد عانت الأمة الإسلامية كثيراً من حركات الخروج هذه، حيث ذهبت فيها أرواحٌ كثيرة دون طائل، لكن تسمية المطالبات بالحقوق الدينية والدنيوية - ولو كانت جماعية - خروجاً فيه نظر، وقياس الوفيات التي قد تحدث فيها سواء بسب الازدحام والاختناق أو بسبب الاعتداء عليهم؛ قياس ذلك على الدماء التي تُسفك عند الخروج المسلَّح قياسٌ مع الفارق، فشتان بين هذا وبين الهرج والمرج الذي يحصل عند الخروج بالسيف كما حصل في ثورة ابن الأشعث وغيرها.

والتاريخ الإسلامي حافلٌ بمثل هذا النوع من الخروج بكل أسفٍ، لكن هذا النوع من المطالبات الجماعية السلمية حديثة على العالم الإسلامي، ولا يُعرف لها مثيل في تاريخ المسلمين، والمستجدات العصرية في وسائل التغيير والتعبير لا ينبغي إغفالها وإهمالها، طالما لم يرد نصٌّ بإلغائها وإبطالها، ولعلَّها لا تخرج عن نطاق "المصالح المرسلة"، وقاعدة: "الوسائل لها أحكام المقاصد". ووجود بعض المفاسد عند استخدام مثل هذه الوسائل، ليس قاطعاً على حرمتها، فإن هذه المفاسد قد تسوغ مقابل دفع مفاسد أعظم منها: عملاً بقاعدة: "جواز ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما"، فشريعة الله قائمة على مراعاة مصالح العباد. والمهم الآن هو القول بأن مطالبة الإنسان بحقوقه الدينية والدنيوية مطالبة مشروعة في أصلها، ما لم يُرتكب فيها محرم كإتلاف الأموال وإزهاق الأنفس، وخاصة إذا كان هذا الحاكم مستبداً ظالماً ناهباً لخيرات الأمة، يسجن ويقتل منهم المئات بل الآلاف. وتتأكد هذه المشروعية إذا كان -مع منعهم من حقوقهم الدنيوية- يمنعهم من حقوقهم الدينية، ويجاهر بمحاربة الدين صباح مساء ويعلن أن نظامه نظامٌ علماني، ويفضل القانون الوضعي على شريعة رب العالمين. لكن لمَّا كانت هذه المطالبات الجماعية يشترك فيها عامة الناس، المثقفون منهم والغوغائيون، وقد تحصل فيها فوضى وشغب، ومنكرات عديدة: كتبرجٍ سافرٍ من بعض النساء -هداهن الله- واختلاطٍ مشين، واحتكاكٍ بالرجال بسبب الزحام، وصوت موسيقى في بعض هذه التجمعات، ورفع راياتٍ عُميَّةٍ وشعاراتٍ جاهلية، وربما شارك بعضَها أصحابُ أحزابٍ علمانية وأتباع دياناتٍ أخرى، إلى غير ذلك؛ فإن مشاركة العلماء وطلاب العلم الكبار ورموز الدعوة وقادتها، قد تتعذر حينئذٍ، ولا تلزمهم، ويكفي منهم التأييد العام بالبيانات والكلمات والخطب مع توجيه العامة نحو ما يحفظ على البلاد أمنها وممتلكاتها، وعدم ارتكاب محظورات في أثناء هذه المطالبات. كما أن سكوتهم فضلاً عن معارضتهم لها، قد يفقد ثقة الناس فيهم، ويتسبب في انفضاضهم عنهم، وربما يتجهون إلى أصحاب الدعوات الباطلة؛ لأنهم سيرون أنهم هم وحدهم الذين وقفوا معهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة. ولا شك أن غياب العلماء والدعاة حضوراً أو توجيهاً وانزواءهم في الزوايا فيه مفسدة ومن يثني الأصاغرَ عن مرادٍ ..... إذا جلس الأكابرُ في الزوايا وقد يستشكل بعض الناس مشروعية هذه المطالبة مع ما قد يحصل معها من فوضى وشغب، وربما تُسفك بسببها دماء، ولا شك أن هذه مفاسد لكنها قد تُحتمل مقابل المصالح العظيمة التي تحصل من تغيير أحوال الشعوب الدينية والدنيوية إلى حال أحسن، وهنا تتفاوت أنظار العلماء وتختلف اجتهاداتهم في تقدير المصلحة وتوقع لمن تكون الغلبة، وعلماء كل بلد أعرف بحاله، مع التأكيد على عدم جواز ارتكاب أي من هذه المفاسد، وأن تكون المطالب سلمية بالشروط والأحوال المذكورة آنفاً. وتظل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد الدقيقة، التي تختلف في توصيفها الأنظار، ويتردد المرء فيها ويحار، فلا ينبغي أن تكون سبباً للفرقة وإلقاء التهم وإساءة الظن. وينبغي أن يُعلم أن ما يصح أو يصلح أن يقال في بلد لا يصح ولا يصلح أن يقال في بلد آخر، إذا كانت مفسدة المطالبة فيه أعظم من السكوت عنها.

فمثلاً بلدٌ كاليمن، أهله مسلَّحون، وفيه قبائل متناحرة، وتنظيمات بدعيَّة مسلحة لها (أجندات) خاصة، ومطالبات انفصالية في أجزاء منه، وفوضى عارمة، قد لا يكون من المصلحة قيام ثورات فيه، لمظنة وقوع هرج ومرْج وفساد عريض، وقد يستثمر مثل هذه الثورات أصحاب الفرق الضالة المنظمة المسلحة المدعومة من الخارج في حين أن أهل السنة فيه مختلفون متناحرون، وقل مثل ذلك في بلد نسبة أهل السنة فيه أقل من أهل البدع ولو ظهرت فيه مثل هذه الثورات لكان أهل البدع أقرب للوصول إلى السلطة من أهل السنة، فلا شك أنه في مثل هذه الحالات التي يغلب على الظن أن تؤدي المطالبات الجماعية فيها إلى وضع وحالٍ أسوأ مما هو عليه = أنها لا تجوز، لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وجاءت لتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من كتبه وفتاويه، وخلاصة الأمر أن هذه المطالبات الجماعية تختلف من بلد إلى آخر، والحكم عليها خاضعٌ للنظر في المصالح والمفاسد، وهي بهذا تُعد من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين. وهنا يتساءل بعض الناس، ما الموقف الصحيح مما يجري على الساحة اليوم؟ والجواب: لا شك أن زوال طاغية محارب لدين الله مما يثلج صدور المؤمنين لاسيما إذا لم يُتيقن مجيء من هو أسوأ منه، لأن الفرح إنما يكون بزواله ولا أحدَ يعلم الغيب، ولا بمن سيأتي بعده. وقد فرح المسلمون بموت الحجاج بن يوسف الثقفي، ونقلت لنا كتب التاريخ سجود الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز شكراً لله على موته، ولما أُخبر إبراهيم النخعي بموته بكى من الفرح، ولما بُشِّر طاووس بموته فرح وتلا قول الله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وما كانوا يدرون من يحكمهم بعده. وفي عالمنا المعاصر فرح المسلمون والعلماء بزوال الاستعمار، وحُقَّ لهم ذلك، بل شارك بعض العلماء في الثورات التي أخرجته من بلدان المسلمين رغم أنه خَلَفَهم بعد ذلك في بعض الدول من هو أسوأ منه، فهذا الفرح والدعاء بزوال كل محارب للدين هو أقل ما يجب على العبد المسلم المعظِّم لشرع الله؛ إذْ رفعُ الظلم وإقامةُ العدل مقصودٌ لذاته في الشريعة الإسلامية، وفي الفِطَر السوية، والعقول السليمة. أما المشاركة فقد سبق القول أنها تخضع للمصالح والمفاسد يقدرها علماء كل بلد. والقول بأن تأييد ذهاب أمثال هؤلاء فيه إعانة على من سيأتي بعدهم من أهل السوء، قولٌ صحيح، لكن هاهنا ثلاثة أمور ينبغي التفطن لها: أولاً: أن زوال أمثال هؤلاء مقصود لذاته كما سبق بيانه. ثانياً: أن بقاءهم متيقن في استمرار الفساد في حين مجيء غيرهم مظنة أن يكون أفضل منه، وزوال مفسدة متيقنة أولى من بقائها خشية من مفسدة مظنونة، وإنما يُمنع من زوال المفسدة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أعظم منها كما سبق بيانه. ثالثاً: أنه مما لاشك فيه أن الأمة إذا تخلصت من أمثال هؤلاء أنها ستعيش عقب ذلك فترة من الزمن تستعيد فيها حقوقها الدينية والدنيوية لأن كل من سيأتي بعدهم أياً كان سيحسب لمثل هذه المواقف ألف حساب، وهذا وحده مصلحة غالبة الظن. ويتساءل آخرون: لماذا لا يستثمر الإسلاميون هذه الأوضاع؟ والجواب: إن كان المقصود بالاستثمار المشاركة في السلطة فلا أظن أنهم في حالٍ تمكنهم من ذلك (والمراد بالإسلاميين هنا أعداء الديمقراطية). أما إن كان المقصود المشاركة في اختيار الأصلح أو الأقل سوءًا فهذا ممكن مع كثير من الحرج. لكن واجب الوقت الآن هو استثمار الحدث بالقرب من الناس وتوجيههم، وتسجيل مواقف تدفع بدعوتهم إلى الأمام بعد هدوء العاصفة. وختاماً: فإنَّ على عامة المسلمين في مثل هذه الأوضاع الاسترشاد بالعلماء الربانين والدعاة الموثوقين، والصدور عن رأيهم فيما يشكل عليهم، وعلى العلماء والدعاة تقدير المصالح والمفاسد وفق المنهج الشرعي، مع التحلي بالرويَّة والأناة والحلم في مثل هذه المواقف، وألا يتسرعوا في اتخاذ المواقف إقداماً أو إحجاماً، وأن يجعلوا أمرهم شورى بينهم. أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يولي على المسلمين خيارهم، ويدفع عنهم شرارهم، وأن يوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الثورة على الظلم والعلمانية

الثورة على الظلم والعلمانية د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي 2 ربيع الأول 1432هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن المظاهرات التي نشاهدها هذه الأيام في تونس ومصر والأردن واليمن وغيرها ذات دلالات عميقة، فالمجتمعات الإسلامية سئمت من الأنظمة الظالمة التي تتحاكم إلى غير شريعة الله، وتحمي مصالح القوى الاستعمارية، وتوظف إمكانيات البلاد والعباد لأغراض ذاتية فئوية متعدية على حقوق الشعوب الدينية والدنيوية. إنها ثورة ضد المذاهب والأيديولوجيات المستوردة التي فشلت فشلاً ذريعاً في تعاملها مع الشعوب، فشلت في المحافظة على هوية الأمة وتعبيد الناس لله تعالى، وتحريرهم من الاستبداد والتبعية للغرب، وأخفقت في تطوير وتنمية بلدانهم. لقد فتح الشباب والفتيات الجدد أعينهم على مجتمع يمتلك كل عناصر النهوض والتميز، ويحوي إمكانيات هائلة للخروج من البؤس الحضاري والتراجع التنموي؛ ولعل من أبرز مقومات النهضة الكامنة في الأمة: الدين الصحيح، والتاريخ العريق، والثروات الطبيعية الثرية (النفط، والمياه، والزراعة ... )، والكثرة السكانية وخاصة الشباب، فالأمة الإسلامية المعاصرة أمة شابة فتية، ومع كل هذه المقومات الواعدة إلا أن هذه الشعوب متراجعة ومتأخرة في كافة المجالات، فالتغريب وضياع الهوية والاستبداد وغياب الحريات الشرعية والفقر والبطالة وسرقة الأموال العامة وتحطيم معنوياتها هي من أبرز معالم الواقع المعاش. إن من حق هذه الشعوب - التي يزيد في كل يوم شعورها بالقهر والظلم في دينها ودنياها - أن تنال استقلالها من الفاسدين، والطواغيت الذين يحكمون بغير الشريعة، ويوظفون إمكانيات البلاد في إفساد المجتمع في دينه وأخلاقه، ويسرقون حقوقه وثرواته. هذه المظاهرات التي نراها في العالم الإسلامي اليوم تؤكد حقيقة فكرية مهمة وهي فشل التيارات الفكرية العلمانية التي توصلت إلى الحكم بعد خروج الاستعمار المباشر من البلاد الإسلامية، لقد فشلت هذه التيارات الفكرية عندما أقصت الشريعة الإسلامية عن الحكم، وألزمت الأمة بقوانين ومناهج تناقض دينها وهويتها، وعندما استولت زمرة من الفاسدين على الحكم واحتكروا السلطة، ونفذوا أجندة الدول الاستعمارية، وساروا ببلادهم على خلاف مصالحها الحقيقية، ونهبوا ثروات الشعوب، وجوعوا وأفقروا وأذلوا وأهانوا وحطموا واحتقروا وسرقوا شعوبهم: خدمة لأعدائهم، وتحقيقاً لشهواتهم الخاصة. إن الراصد لنتائج وكيفيات ومآلات التيارات الفكرية العلمانية التي استولت على حكم البلاد العربية والإسلامية يتعجب من صبر هذه الشعوب المظلومة عليهم كل هذه المدة، وبعد كل هذه الفترة والمدة التي ابتليت بهم الأمة ما هي النتائج؟: الحكم بغير الشريعة، تنفيذ رغبات المستعمرين، سرقة أموال الدولة، إفساد أخلاق الناس، مطاردة العلماء والدعاة وكل من يطالب بالنهوض والحريات المشروعة التي تنمي البلاد وتعطي المجتمع الثقة بنفسه وإمكانياته، إخراج أعداد هائلة من الزنادقة والملحدين وأعداء الدين، وأعداد كثيفة مثلها من الراقصات والفاسدات، في الوقت الذي غابت فيه التنمية الحقيقية للمجتمع، والتطوير المفيد لإمكاناته. هذه الثورات هي ثورة على العلمانية والمشروع التغريبي والفاسدين والمستبدين الظلمة، والسارقين لأقوات الفقراء، والناهبين لحقوقهم، والمحتقرين لشعوبهم، والخونة الذين ينسقون مع الأعداء ضد مصالح أهليهم وبلدانهم. هذه الثورة تدل على أن الظلم بلغ مداه، وهذا ما جعل الغرب المستعمر يدعو حلفاءه إلى ضرورة التغيير، وهي حيلة غربية للتخفيف من الاحتقان، والالتفاف على استحقاقات الإصلاح الحقيقية، وإيهام الناس ومخادعتهم بالإصلاح. إن من الواجب على العلماء والمثقفين وقادة الفكر والرأي أن يشاركوا في توجيه هذه الشعوب، وضبط بوصلة هذه الثورات العفوية الناتجة عن احتياجات حقيقية حتى لا يتم اختطافها من سارقي الإنجازات والمتربصين بالأمجاد الذاتية على حساب الحقوق المشروعة للمجتمع. ويجب أن تكون المطالب واضحة وبينة وهي الرجوع الحقيقي إلى الإسلام والتطبيق الصحيح له في الحكم والأخلاق والحقوق والحريات والشورى والتوزيع العادل للثروات والمحافظة على مقدرات البلاد وإمكانياتها وثرواتها، وتطويرها بما يحقق الأهداف المجتمعية الصحيحة، وتنمية المجتمع دينياً ودنيوياً، والعودة إلى الهوية الإسلامية للمجتمع وتاريخه العريق، وعدم السماح بتطبيق التجارب المخالفة لدينه وحضارته، فالأمة لم تعد حقلاً للتجارب الشرقية والغربية بل يجب أن تكون لها خصوصيتها الإسلامية والتاريخية والأخلاقية التي تميز نهضتها وتنميتها وتطورها وحضارتها بخصائصها الذاتية.

على هامش أحداث تونس

على هامش أحداث تونس أحمد بن صالح الزهراني 27 صفر 1432هـ لا يمكن لمن يريد أن يسطّر مقالًا في هذه الأيّام أن يعاند رغبة جامحة في التعليق على الحدث الأكبر في هذه الأيّام، أعني سقوط جلاّد من جلاّدي الغرب الّذين نصّبهم على البلاد الإسلامية حارسًا لها من أيّ صوت حُر، خاصّة إن كان صوتًا إسلاميًا مَهما كان بعده عن روح الدّين الحقيقي .. لديَّ أربع مسائل أحبُّ لفت النَّظر إليها: الأولى: تونس اليوم تعيش أيّام فتنة حقيقيَّة نسأل الله أن يقيهم شرَّها، وأن يمكِّن فيها لمن في تمكينه رفعة البلاد وخير العباد، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلّم- الّتي لا عصمة لأمّة محمّد -صلى الله عليه وسلّم- إلاّ بها. في أيّام الفتن يكثر المتكلّمون، ويطيب للبعض أن يساير الجموع وألاّ يقول إلاّ ما يرضيهم، لكن واجب أهل العلم والعقلاء أن يقولوا الحقيقة، وأن يبيّنوا للنّاس حدود ما أنزل الله على رسوله. واحد من أهمّ ما تمّ التدّليس بشأنه منهج الإسلام في مثل هذه الظروف؛ إذ طلع علينا بعض المنسوبين للدّعوة يصرّح بأنّ الخروج على الحكّام الظّلمة جائز بل واجب، وأنّ القول بتحريم الخروج هو قول وعّاظ السّلاطين وعلماء الحكام. وهذا والله الظّلم بعينه، وقائل هذا الكلام جاهل بحقيقة نفسه قبل أن يكون جاهلًا بحقيقة السنّة؛ فإنّ السنّة مضت واستفاضت بتحريم الخروج بالسلاح والقوة على السّلطان، لا أريد أن أفيض بذكر النصوص الشرعيّة الدّالّة على ذلك؛ فمصادر السنة وأقوال الأئمّة كثيرة جدًا لا تسمح بأيّ تأويل أو تنصّل، وبعض أقوال الأئمّة كانت في عصر واحد من أكثر الطغاة والسّفاكين للدماء، ألا وهو الحجّاج بن يوسف الثقفي، وبعضها كان في أيّام يزيد بن معاوية، لكن تأمّل معي هذا الحديث الّذي يصف فيه النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- الحالة بين الحاكم والمحكوم بأبلغ وصف، قال عليه الصلاة والسّلام: «شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» .. أرأيت أكثر من ذلك، ترى ما الّذي يجعل شعبًا يبغض حاكمه ويلعنه؟ وأيّ حاكم هذا الّذي بلغ منه الأمر أن يبغض شعبه ويلعنه، وأيّ معاملة سيعامله بها وهو يبغضه ويلعنه؟ تستطيع أن تفرض ما تشاء من الأسباب والصّور، فكلّ ذلك يدخل فيه، ومع هذا تأمّل جواب النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لمّا قال له الصّحابة: «يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة»، والحديث في صحيح مسلم وهناك غيره كثير. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكان الحسن البصري يقول: إن الحَجّاج عذاب الله؛ فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)» .. وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم» انتهى. وهؤلاء الأئمّة الذين ذكرهم شيخ الإسلام ومن على دينهم من علماء العصر الحديث لا ينهون عن القتال والخروج حبًّا أو حرصًا على ولاة الجور -لا كثّرهم الله- وإنّما خشية على الناس أن يكونوا وقودًا للحرب، خاصّة وهم لا قوة لهم .. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ كثيرًا من الانقلابات والخروجات لم تأتِ بحكومات خير ممّن سبقها، بل هي مثلها إن لم تكن أسوأ منها، فتذهب دماء النّاس وأعراضهم وأموالهم بلا فائدة. لكن ليس معنى ذلك أنّه لا يجوز سعي النّاس في خلع الحاكم بالطرق السلميّة كالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فأفضل الجهاد كما قال النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كلمة حق عند سلطان جائر. والشّاهد أنّه لا يجوز استغلال ما حصل في تونس لتهييج النّاس وحثّهم على الفتنة والشغب، خاصة من أقوام يعيشون في الخارج في الدّعة والراحة، ويطلقون الصيحات التثويريّة التي لا تراعي اختلاف الظروف بين بلد وآخر، وبين حاكم وآخر، وبين مطالبات حقيقيّة سببها الجوع والفقر، وبين أخرى دافعها الترف والحريات الموهومة. الثانية: أنّني وإن قرّرت مذهب السنّة في الخروج على الحكّام، فإنّي أحبّ لفت النّظر إلى ملحظ مهمّ لا نملك معه إلاّ أن نردّد: سبحان الله! فقد ظلّت تونس محجوبة عن الشّمس عقودًا طويلة منذ طاغيتها الأوّل بورقيبة حتّى خلفه زين العابدين بن علي ففعل في شعبه الأفاعيل، وأسوأ ذلك معاداته للتديّن بكل أشكاله وصوره .. والآن مزّقه الله كلّ ممزّق، ورأى العالم كلّه من شرقه إلى غربه كيف أسقط الله الطاغية بأدنى الأسباب .. عجيب هذا التقدير الرباني .. لم تحرك جيوش أمريكا ولا أوروبا، ولا عملت أجهزة استخبارات، ولم تدفع الملايين لرشوة القادة والعسكر، ولم يتم استنفار طبع الخيانة لدى طائفة من المارقين .. كانت انتفاضة عفوية طبيعية قدّرها الله تقديرًا .. وإذا جاءت هذه الأحداث قدرية سبّبها مسبّب الأسباب على أيدي من لم يفكر في شرع ولا شريعة، فمن العبث ما قرأناه للبعض من الاستماتة لتأصيل مذهب السّلف في الخروج على الحكّام الظّلمة وتوصيفه للحالة التونسيّة؛ لأنّ القدر في تونس حلّ وحكَم وفصَل، والتأصيل الشرعي لمسألة الخروج في مثل هذه الظروف ليس له محل، وإنّما المطلوب تأصيل الحالة الراهنة والمطالبة بوضع مريح للدّعوة الإسلامية. وشيء آخر هو أنّ زين العابدين وأمثاله لا يجوز أن يُدخل في نطاق مسألة الخروج على حكام الجور؛ لأنّ الأمر فيه أكبر من ذلك بكثير .. فحكومة تونس ونظامها لم تجُر في حقوق الدنيا فقط، بل كانت محارِبة لله ورسوله، وكثير من الشّعائر الإسلامية كان المسلم يستطيع أن يظهرها في أوروبا، ولكنه لا يستطيع أن يظهرها في تونس، حتّى الصّلاة يُضايق في أدائها، فلا ينبغي أن يشكّ عاقل عن أنّ مثلها لا يدخل في مسألة الخروج، أمّا مسألة الفتنة وتقدير المصالح فهذه لها مجال آخر. الثّالثة: يا لها من عبرة .. بعض حكّام العرب يشعر بأمان وطمأنينة كبيرة؛ لأنّه يركن إلى ركن شديد -أعني أمريكا والغرب- أو تغرّه قوّته الداخلية ومنصبه وزبانيته من حوله .. لكن حين يأتي تقدير اللّطيف والخبير يتمّ الأمر بألطف الأسباب، ويرى الحاكم بأمّ عينيه أنّ الرّكن الّذي آوى إليه لم يغن عنه شيئًا، كما رأينا زين العابدين يتسوّل مدرجًا تهبط عليه طائرته قبل أن تسقط بمن فيها ..

وحين أكتب هذا الكلام لا أنظر إلى من يرأس الحكومات العربية فقط، وإنّما أنظر إلى ثلة من المتنفّذين فيها الّذين وصل ببعضهم الحال إلى قريب من حال زين العابدين، سواء من الوزراء أو الأمراء أو المدراء أو قادة الجيوش وذوي المناصب .. فبعض هؤلاء حالهم ليس ببعيد من حال زين العابدين، فما إن يُمكّن للواحد منهم في منصب كبير أو صغير حتّى يبدأ بالظّلم والاستبداد، بعضهم يقفل المساجد، وبعضهم يحارب القرآن، وبعضهم يحارب الحجاب، وبعضهم يحارب أيّ منشط دعوي، وبعضهم يروّج للتغريب والانحطاط الخلقي، ويشيع الفاحشة وأسبابها، ويعلي من شأن الفسقة والمارقين، ويحطّ من شأن العلماء وأهل الشريعة. كلّ ذلك بدعوى محاربة الرجعيّة والظلامية والصعود بمن معه إلى الرقي والعالم الأوّل. ولكنّ الله تعالى يُري هؤلاء آيات في الآفاق؛ فكلّ هؤلاء ليسوا أغنى من زين العابدين، ولا أكثر قوّة وبوليسيّة منه، ولا أشدّ بطشًا، ومع هذا رأينا كيف أذلّه الله لمن سحقهم وأهانهم، وبدأ يسترحمهم أن يبقى، وأن يعطوه فرصة أخرى، ولكنّ الشّعب قال له بكل قوّة: لا .. وأقول أنا لبعض أشباهه الذين نعايشهم: وما هي من الظّالمين ببعيد. الرّابعة والأخيرة: لأهل العلم والدّعاة أن يعوا جيّدًا أنّ المذهب السّلفي يجب أن يبقى نزيهًا بعيدًا عن توظيفه في خدمة الطّغاة وجلاوزتهم، بمعنى أنّه لا يجوز في مثل هذه الظّروف أن يكون الصّوت الوحيد الّذي يجيّر لصالح الظّلمة هو صوت العلماء السلفيّين، نعم أنا أعي جيّدًا حرص الكثيرين على السنّة، وأن لا يتمّ تهميشها في زحمة المتكلمين ورغبات الثائرين، وأعلم كذلك شفقة أهل العلم على النّاس أن يتاجر بهم طلاّب السلّطة وزعماء الأحزاب الذين يستغلون حماس الجماهير لزحزحة أعدائهم، ثمّ يكونون أوّل النّاكثين لوعودهم إذا تمكّنوا .. أعي ذلك جيدًا. والمطلوب موقف وسط، كلّ نظام حاكم يهمّش العلماء وأهل الشّريعة، ويقصيهم وقت رخائه، فيضرب بفتاويهم وأقوالهم عرض الحائط لا يجوز أن يوظّف الحكم الشّرعي بأيّ طريقة ليقوّيه، ويدفع عنه سخط الجماهير، خاصّة ونحن نعلم أنّ هذه الجماهير الّتي نشأت على عينه وربّاها هو على احتقار العلماء، وعدم الأخذ بأقوالهم، ولا نصائحهم لن تحترم أقوال هؤلاء العلماء حين يرون فيها ترسًا يتترّس به الظّالم والمستبدّ لظلمه واستبداده. يجب أن تكون فتاوى أهل السنّة لمن يطيعهم من أهل العلم والدين؛ حتّى لا يشاركوا في الفتنة، ولا تنغمس أيديهم في دم أو مال حرام، أمّا الجماهير الثائرة فليتحمّل ثورتها من ألجأها إلى ذلك تجويعًا وظلمًا وقهرًا وتهميشًا، وليتحمّل ذلك من ربّاها على تنحية الشريعة وإقصاء الدّين؛ فهذه الجماهير الّتي تعوّدت إبّان رخائها في الإعلام الرّسمي والتعامل الحكومي على تهميش أهل العلم لن تأبه لهم، ولا لأقوالهم إبّان شدّتها وعسرها .. وساعتها يحقّ لأهل العلم أن يقولوا لكلّ حاكم ونظام حارب الدين والعلم الشرعي والفضيلة وأقصاها عن حياة النّاس: يداك أوكتا وفوك نفخ.

التسربات الفكرية

التسربات الفكرية فهد بن صالح العجلان 23 صفر 1432هـ لا تمرّ ساعة دون أن يدخل (محمد) إلى أحد المواقع الالكترونية ليناقش عدداً من أصحاب الطوائف والتوجهات المختلفة في مسائل وقضايا كثيرة، ثمّ بعد أشهرٍ من الجدل والحوار المستمرّ يظهر (محمد) برؤى وأفكار منحرفة يظنّها ضرورية وأساسيّة للدفاع عن أحكام الشريعة وتصحيح صورة الإسلام والسنة. ولقد أصاب أخونا (عبد الرحمن) قريباً مما أصاب (محمد) غير أنّه كان أقلّ انهماكاً في هذه المعمعة فكان دوره يقتصر على المتابعة والقراءة مع بعض الحوارات الهامشية، فما دارت الأيام حتى كان قلب (عبد الرحمن) يحتضن كثيراً من الإشكاليات والشبهات التي كانت تمرّ على عينيه الساخطتين فما لبثت أن سكنت قلبه بعد ذلك. (عبد الرحمن) و (محمد) نموذجان لظاهرتين منتشرتين في واقعنا المعاصر، ظاهرة الشخص الغيور الذي يدخل في نقاش الشبهات دفعاً لها وتحذيراً منها وظاهرة القارئ المطّلع على هذه الحوارات فضولاً وثقافة ثم ما يلبثا بعد هذا إلا قليلاً حتى ينقلب بعضهم على عقبيه أو يكون قد تأثّر - كثيراً- وتشرّب عدداً من الأصول والمقدمات الفاسدة. سأقف مع سبب واحد يفسّر واقع هذه المشكلة، وسأدع بقية الأسباب المؤثّرة لمقام آخر، فلن أتحدّث عن ضعف جانب العبادة والاتصال بالله، أو عن إشكالية تهاون المسلم في تحريك دفعات الشبهات على قلبه من دون أن يشدّ حبل قلبه بالله، ولا عن سبب العجب والثقة والاتكال على النفس الذي يضعف افتقار العبد إلى مولاه، ولا عن ضعف التأصيل الشرعي، ولا عن التفرّد والاستقلال الموهوم الذي يجعل أمثال هؤلاء يأنفون عن سؤال أهل العلم والرجوع إليهم، بل لربّما ظنّ- لعظم الوهم الذي يسكنه- أنه يخوض غماراً لا ينقذ الإسلام ولا يحفظ أصول الدين إلا رأيه وفكره. السبب الذي أريده يتعلّق بواقعة (التسليم بالمقدمات والأصول الفاسدة) فيدخل المحاور والقارئ لهذه الحوارات، وفي غمارمعمعة قضاياها وأمواج إشكالاتها يتخذ لنفسه عدداً من الأصول والقضايا الثابتة يدافع عنها ويجيب عن الشبهات بناءً عليها، وقد غفل عن أن هذه الأصول والقضايا لم تأته من قراءة تدبّرية لكتاب الله ولا من جلوس طويل على صحيح السنة ولا من دراسة بحثية لكتب الفقه وإنما جزم بها من خلال هذه الحوارات وحسم أمرها بعد إلزام من هنا أو ورطة هناك. هي مشكلة قديمة، كثيراً ما يبتلى بها من يقرر أصوله ومحكماته من خلال هذه الحوارات، وقد كانت سبباً ظاهراً لبذور الانحراف العقدي الذي مزّق أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قديم، فرأس المنحرفين (الجهم بن صفوان) لم يقرر عقيدته في نفي أسماء الله وصفاته إلا بعد نقاشٍ مع فرقة وثنية أحرجته بأنه لا يستطيع أن يحسّ خالقه ولا يشمه ولا يسمع صوته فهو إذنغير موجود، فحيّرته هذه الشبهة ومكث أياماً يبحث عن جواب مريحٍ لها، ثم خرج إليهم فأجابهم بأن وجود الله مثل وجود الروح التي في جسد الإنسان، يقرّ الإنسان بوجودها لكنّه لا يراها ولا يسمع صوتها، ومن خلال هذا الدليل الذي قرّره ليتخلّص من ورطته مع الوثنيين بنى تصوّره عن الله فنفى عنه الصفات التي أخبرنا بها عن نفسه. (انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل 93) وقد بذلت الفرق الكلامية جهداً عظيماً في سبيل إقناع الملاحدة بوجود الله فجاؤوا بالدليل العقلي الشهير (دليل حدوث الأعراض والأجسام) وجعلوا إثبات الله لا يقوم إلا به، فحطموا وعبثوا بسببه بكثير من النصوص والأصول الشرعية.

لاحظ أنّهم لم يكن يرونها أصولاً فاسدة، أبداً، بل كانت عندهم دليلاً شرعياً وأصلاً ضرورياً لحفظ الإسلام وصدّ هجمات أعدائه، فزادهم ثقة وتمسكاً بهذه الأصول ورفضاً لأي قاعدة أو دليل يخالفها لأنه سيكون مضراً بالإسلام حسب رأيهم. وإذا أردنا أن نتخفّف من عرض الإشكالات القديمة ونأتي لواقع إشكالاتنا المعاصرة فسنجد ذات المشكلة حاضرة لم تتغيّر، فمجموعة من الفضلاء يدخلون في حوارات وصدامات فكرية مختلفة وعلى أصعدة متعددة، يضطر بسبب هذه الحوارات لتبني عدداً من القضايا والمقدمات التي يراها مرتكزات أساسية للدفاع عن نصوص الشريعة وحفظ أحكامها، ويدعمها بعدد من الأدلة الشرعية، لكنه قد التقط هذه القواعد من هذه الحوارات ثمبحث بعد ذلك عن أدلتها في الشريعة، ولم يستخرجها من قراءة لنصوص الشريعة أو فحص لكلام الفقهاء. مثلاً: يخوض حواراً مع الغربيين دفاعاً عن بناء المساجد وحق المسلمين في العبادة، ويقوم بجهود مشكورة في إحراج الغربيين بما في موقفهم من تحيّز ضد المسلمين، فيقولون له: (إنّكم لا تسمحون ببناء الكنائس في بلادكم؟) فيجيب مباشرة بأنّ هذا غير صحيح وأن حرية العبادة مكفولة في بلادنا، وإذا كان أحسن حالاً قال: عدم بناء الكنائس خاص بجزيرة العرب بسبب خاصيتها الدينية أو بسبب انتفاء وجود نصراني فيها. فلم يكن بحث بناء الكنائس هنا معتمداً على نصوص الشريعة ولا آراء الفقهاء - وإن جاء ذلك فيما بعد- وإنما جاء لضرورة التخلّص من هذا الإلزام المحرج، فلحاجته لجواب مريح قرر مثل هذه القاعدة مع أن بإمكانه أن يقرر بسهولة أنّ حديثه مع الغربي هو مطالبة له لأن يكون صادقاً مع مبادئه وقيمه، فبما أنكم تقررون الحياد مع الأديان فيجب أن تكونوا كذلك أو تعترفوا بأنكم غير صادقين، وأما موضوع الكنائس في بلادنا فهي متعلقة بأصولنا وقيمنا. وينتفض آخر: غيرة ودفاعاً عن الانتهاكات التي تلحق ببعض الدعاة والمصلحين بناءً على (حرية الرأي) وأنّه حق مكفول للجميع ما دام لم يقع منه عدوان على أحد، ومع مواصلة الحوار والسجال يضطرّ لأن يجعل حرية الرأي في الشريعة مكفولة لأي أحد، فلا عقوبة ولا منع في الشريعة للرأي، وإنما يكون ممنوعاً ما كان اعتداءً على الناس، وأما الرأي المجرّد فهو حق مصان ولا إشكال فيه، ويسوق لذلك بعض النصوص، وهي رؤية علمانية صريحة لا وجود لها في أي تراث فقهي بتاتاً، لكنها ذات المشكلة والمرض القديم، يريد الشخص أن يدافع عن الإسلام فيعتقد بأصل فاسد يرى أنّه لا يمكن تحقيق مقصود الشريعة إلا من خلال هذا الأصل الفاسد. ويعيب شخص ثالث على النصارى تغييبهم للعقل وتعطيلهم له ويسوق لهم شواهد من ذلك في معتقدات الخلاص والتثليث وغيرها فيلزمونه ويقولون: (لديكم أيضاً في الإسلام مخالفة للعقل وسنذكر لك أمثلة) فيذكر لهم بارتياح أنّ الإسلام (يقدّم العقل على النقل) فلا وجه لإشكالكم، وقد ظنّ أنه قدّم جواباً رائعاً لهذه الشبهة، وما درى أنّ أراد أن يصلح خدشاً فهدم قصراً! فتخلّص بهذا الجواب من إحراجهم له لكنّه ادخل على عقله وقلبه فيروساً خطيراً ما دخل عقل احد إلا وعبث بدينه ويقينه. ورابع: يخوض غمار الدفاع عن أحكام الإسلام في المرأة، فيبذل - مشكوراً- غاية جهده في البرهنة والعقلنة لتلك الأحكام لأنه يستشعر أنّ أي ضعف في الدفاع عن هذه الإيرادات المثارة سيكون سبباً للتشكيك في الإسلام ذاته، ثم يخرج من هذه الحوارات بآراء من مثل المساواة المرأة للرجل في الشهادة وجواز توليّها للولايات العامة مطلقاً وبما شاء من القواعد التي يشعر بحاجته لها لدفع الصائلين على الشريعة!

يزيد المشكلة تعقيداً أنّ الشخص في معمعة هذا الحوار لا يشعر بمثل هذه القواعد والمقدمات الفاسدة من أين دخلت عليه، فيحسب أنّه تلقاها من معين الفقه وما يدري أنه إنما غرفها من مستنقع آخر. إذن ما هو الحلّ؟ هل نترك الدفاع عن قضايا الإسلام ودفع الشبهات؟ لا، أبداً، ليس الحلّ بأن نترك الدفاع عن قضايا الإسلام ولا أن نضعف عنه أو نهوّن من أي نشاطٍ فيه، فهذا باب من أبواب الجهاد في سبيل الله، وإنما المطلوب - تحديداً - أن يتحصّن الشخص بالعلم الشرعي أولاً فلا يخوض غمار هذه السجالات من لم يكن عالماً بدينه، ثمّ أن لا يعتمد على نفسه في تقرير القواعد والأصول والأحكام، بل يجب أن يراجع كلام العلماء وتقريرات المتقدمين ويستشير أهل العلم المعاصرين، لأن المقصود ليس أي جواب عن الشبهة، بل لا بدّ أن يكون الجواب صحيحاً ومستقيماً، وإلا وقع الشخص في مشكلتين: تسرّب الأفكار المنحرفة إليه، وعدم قدرته على الإقناع والبرهنة ما دام أنّه قد وقف على أرضٍ زلقة فأقوى عامل يقوّي المحاور أن يكون مستقيماً على الحق لم يخلط معه شيء من الباطل لأنّه (من المعلوم أن كل مبطل أنكر على خصمه شيئاً من الباطل قد شاركه في بعضه أو نظيره فإنه لا يتمكن من دحض حجته لأن خصمه تسلط عليه بمثل ما تسلط هو به عليه) (مختصر الصواعق المرسلة 80) ثبّت الله قلوبنا على دينه، ورزقنا اليقين، وصرف عنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

عفوا يا شيخ سلمان، إنه رسول الله!

عفواً يا شيخ سلمان، إنه رسول الله! علوي بن عبد القادر السَّقَّاف 15 صفر 1429هـ الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة داعيةٌ معروف، له جهودُ في الدعوة إلى الله تعالى لا تنكر، يُسَرُّ المؤمن والداعية بكثيرٍ منها، وله أطروحاتٌ يخالفه فيها كثير ممن يحبونه بصدق ويريدون له الخير -فصديقك من صَدَقك لا من صدَّقك- وفي بعضها وخاصة السنوات الأخيرة خروج عن المألوف عنه قبل سنوات مضت، وبعض هذه الأطروحات لا يجوز السكوت عنها لما فيها من المخالفة الواضحة للهدي النبوي، والناظر إلى أخطائه هذه يجدها منتظمةً في مسارٍ معيَّن، للشيخ فيه تأويل لا يُوافَق عليه، وواجب الأخوة في الله، والنصح لعامة المؤمنين وخاصتهم تقتضي بأن يُذَكَّر الشيخ، لعله يقف وقفةَ مراجعةٍ وتأمُّلٍ في دلالاتِ الشريعة ومآلاتِ الأمور، وألا يستمر في إعراضه عن نصح الناصحين ونقد المحبين له؛ لأن هذا قد يُفضي به إلى مزيدٍ من الابتعادِ والإغرابِ في الاجتهاد؛ لكونه بشراً ضعيفاً محتاجاً لعون الله ونصح إخوانه. من هذه الأطروحات التي لا يجوز السكوتُ عنها مقالة نشرها الشيخ في موقع الإسلام اليوم قبل عام بعنوان ((بين الولاء الإسلامي والفطري)) والتي رد عليه فيها عددٌ من المشايخ الفضلاء، ومنها ما طرحه مؤخراً حول الحدث الأخير المتعلِّق بالرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم التي قام بها حفنة من الكفرة أعداء الله ورسوله في الدانمرك في سبع عشرة صحيفة دانمركية متحدين بذلك مشاعر المسلمين ومسيئين ومستهترين بأعظم مَن له على المسلمين حقٌ ألا وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حيث نشرت وسائل الإعلام الدانمركية خبراً مفاده أن مجموعةً من المسلمين في الدانمرك خططوا لاغتيال أحدِ رسامي الرسوم المسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستبعد الشيخ سلمان -وفقه الله- وقوع هذا التخطيط لقتل الرسَّام، وقدَّر أن الموضوع مجرَّدَ مؤامرةٍ من الحكومة الدانمركية، ولكنه عاد ليقول: ((إذا وُجد في هذه الأيام مَن يفكرون بهذه الطريقة فهم يسيئون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفس القدر الذي أساء به أصحاب الرسوم، أياً كانت المنطلقات والعواطف التي انطلقوا منها)) قال هذا في برنامج الحياة كلمة على قناة الـ ( mbc) الفضائية يشاهده ويسمعه آلاف المسلمين، ثم نُشر ذلك في موقع الإسلام اليوم بتاريخ 9/ 2/1429هـ فيا سبحان الله!! كيف يكون قاتل المسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أساء إليه كمن رسم رسوماً يستهزئ فيها به عليه الصلاة والسلام؟ لقد كان بإمكان الشيخ العودة -حفظه الله- أن يبدي وجهة نظره في محاولة قتل من أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغير هذا الأسلوب الذي تقشعر منه جلود الذين آمنوا، والعجيب منه أنه يردف ذلك بقوله: ((أياً كانت المنطلقات والعواطف التي انطلقوا منها)) وهذا يعني أنه لو انطلق أحدُ هؤلاء من نصوص الشرع وأخذ بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إهدار دم سابِّهِ والمستهزئ به، وبما أجمع عليه علماءُ المسلمين - كما نقل ذلك عنهم ابن المنذر والقاضي عياض وغيرهما- يكون فعله هذا كفعل من أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل لو قدَّرنا أنَّ أحدهم فعل ذلك من باب العاطفة وحبه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم شيئاً عن هذه النصوص؛ أيكون فعله كفعل من أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل لو سَلَّمنا أن هذا خطأ كما يراه الشيخ سلمان، ومفسدته أعظم من مصلحته، أيكون خطؤه هذا كخطأ وجريمة من أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! لا شك أن هذه زلة من الشيخ سلمان لكن لعلها زلة لسان، ولعله أراد أن يقول بأن كلاًّ من هؤلاء وهؤلاء مسيء، وعلى كل حال ما يزال هناك فرصة للشيخ يوضح فيها مراده بهذا التصريح، ولولا أنه ذكره أمام آلاف المشاهدين لساررته به. ولا ينسى كثير من المسلمين موقف الشيخ ومن كان معه ودورهم المؤثّر سلباً في إفشال المقاطعة الشعبية العارمة قبل نحو عامين عند نشر الرسوم للمرة الأولى مما جرأهم على إعادة الكرة مرة أخرى غير آبهين بمشاعر مليار مسلم مادام فيهم من يسعى إلى وأدها في مهدها. وأخيراً، أسأل الله تعالى أن يقي الشيخ سلمان عواقب ومغبة هذه الطريق الوعرة، وأن يهدينا وإياه إلى الحق وأن يلهمنا رشدنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

رابطة علماء أهل السنة تهنئ شعب تونس

رابطة علماء أهل السنة تهنئ شعب تونس 12 صفر 1432هـ الحمد لله الذي قشع الغمة عن تونس وأهلها, ودك عرش الطغيان، وأذل أهل البغي والعدوان، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَىِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا) سنن أبي داود: (4/ 213) أما بعد فإن رابطة علماء أهل السنة ترفع تحية احترام وتقدير وإعزاز لشعب تونس الأبي، الذي أصبح علامة بارزة في رفض الظلم ومقاومة الطغيان ورد العدوان وطلب الحرية التي جاء الإسلام بها وتحت ظلالها الشرعية نمت حضارة القيروان والزيتونة ورباط المنستير. إن المصائب التي مارسها النظام البائد بدأت منذ أن حارب هويتكم وعارض قيم دينكم وصادر شريعة خالقكم وسعى لغرس هوية مستعارة وقيم ونظم مستوردة، مخالفة لأمر الله ومضادة لشريعته التي رضيها لنا وجعلها مناط عزتنا وموئل نهضتننا وكرامتنا. ولم يتوقف هذا البغي العلماني الغاشم المدعوم من أعداء الإسلام عند هذا الحد من الطغيان حتى ضايق الناس في معيشتها ولاحقها متربصا بها الدوائر ملحقا بعلمائها ودعاتها وكل معارض له أنواع الأذى وأصناف الضرر، حتى غدا أولئك تحت طائلة السجن والتحقيق والتشريد وبذلك عاش شعب تونس حياة صعبة عرفها أحرار المسلمين والمنصفين من غيرهم، وأسهموا بما يقدرون عليه في رفع الظلم ودفعه، على تفاوت في ذلك تفاعلا وفاعلية. ولكن عقلية الاستبداد تجعل المستبد في حالة سكر بالسلطة المطلقة، فيتصور أنه قادر على ممارسة طغيانه مادام مدعوما أو مسكوتا عنه من الغرب، غير آبه بشعبه المضطهد المنتهك الحقوق، ولكن شعب تونس الحر أثبت أن نظرية الاستبداد تتهاوى أمام صدق العزيمة وعلو الهمة ووحدة الهدف، وأعطى درسا للواقع والتاريخ تخفق به قلوب المستضعفين في دينهم أو دنياهم وترجف منه قلوب الظالمين. وإننا إذ نهنيء شعب تونس على إنجازه التاريخي هذا ونشاركه البهجة باندحار الطغيان نلفت نظره إلى الحذر من سرقة إنجازه بأيد أخرى ظاهرها مختلف عن العهدين البائدين وحقيقتها ذات الحقيقة، ونذكره بأننا قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وأن الانتقام ليس من أخلاق الإسلام. نسأل الله أن يوفق أهل تونس لكل خير ورشد وصلاح وفلاح في الدنيا والآخرة. وإن الرابطة تناشد خادم الحرمين الشريفين بطرد هذا الطاغية من أرض الوحي ومهبط الرسالة وتطهيرها منه؛ لأنه كان من أكابر أعداء الوحي والرسالة. وإننا ننادي الطغاة في مشارق الأرض ومغاربها أن يتعظوا بما حدث لهذا الطاغية، وليسارعوا بالعودة إلى الحق، ولا يغرنهم ما تحت أيديهم من القوة الباطلة ولا ما حولهم من الأعوان والجنود، فإن أمر الله إذا أتى فلا راد له. وإنه من توفيق الله عز وجل ومن المبشرات للرابطة أن يكون سقوط هذا الطاغية يوم الجمعة المبارك 10 صفر 1432 هـ الموافق 13 يناير 2011 وهو يوم الإعلان عن تأسيس رابطة علماء أهل السنة في مدينة استنبول حاضرة الخلافة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أمين عام رابطة علماء أهل السنة / دكتور: صفوت حجازي رئيس رابطة علماء أهل السنة / دكتور: أحمد الريسوني

بيان رابطة علماء المسلمين بشأن أحداث تونس

بيان رابطة علماء المسلمين بشأن أحداث تونس 11 صفر 1432هـ الحمد لله الذي أمر بالعدل، وبه أقام السموات والأرض قال تعالى {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90]، وجعل القسط نظام الملك وقانون الحكم في الدنيا والآخرة قال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الذي قال «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به» وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فلقد تابع العلماء الأحداث المؤسفة، والاعتداءات الغاشمة على الشعب التونسي المسلم، والتي تقع عليه لا من أعدائه، وإنما من قادته وحكومته، وإن رابطة علماء المسلمين ومن واقع الواجب الملقى عليها تستنكر الظلم والاستبداد أياً كان نوعه والحرب على دين الله وعلى المسلمين في تونس, وترفع مناشدتها لعلماء وعقلاء وحكماء وسياسي شعب تونس المناضل لضبط الأمور والحيلولة دون إشاعة الفوضى والانفلات الأمني وتفويت الفرصة على أعداء الإسلام في استثمار هذه الانتفاضة العظيمة. وإن إقامة العدل هو مطلب الشعب التونسي وما أحسن قول مفسر تونس الشهير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماء الأمم، وسجَّلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية ومصرية وهندية .. ». وإن التاريخ سوف يكتب أن السبب الرئيس لمثل هذه الاضطرابات والقلاقل هو الظلم السياسي الناشئ عن الانحراف عن دين الله عز وجل، واستدبار شريعته، ومحاربة أوليائه، والصد عن سبيله. كما تطالب رابطة علماء المسلمين المخلصين من أبناء الشعب التونسي من العلماء والمفكرين والمصلحين الالتزام بالإسلام العظيم ومبادئه وتطبيق الشريعة الإسلامية حتى يسود الإحسان المأمور به مع العدل في قوله تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90]، وتؤكد الرابطة على أهمية قيام الحكم الذي يعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية على قاعدة الشورى التي طريقها الحوار بين الأمة ممثلة -في أهل الحل والعقد منها- وبين حكَّامها، وقد قال الله تعالى آمرًا نبيه المعصوم صلى الله عليه وسلم {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159] وأثنى على أئمة المسلمين وسيَر الراشدين في الشورى بقوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38]. كما تدعو رابطة علماء المسلمين العلماء والدعاة للقيام بواجباتهم الشرعية والعملية في قيادة هذه الأمم المظلومة والشعوب المضطهدة، وليجددوا في الأمة سيرة العلماء والحكام المجاهدين، ولتبقى الراية في توجيه الأمة إسلامية نقية. وعلى المؤسسات الإسلامية والعالمية، والمنظمات الدولية أن تقوم بواجبها تجاه الدفاع عن حقوق هؤلاء المظلومين ومطالبة الحكومات بإيقاف هذه المجازر، والاستجابة للمطالب المشروعة لهذه الشعوب المغاربية. ووسائل الإعلام الإسلامية والعالمية عليها أن تبرز هذه المآسي، وأن تظهر هذه المخازي، حتى يتنادى القاصي والداني بإيقافها، وتحقيق العدل الذي على أساسه تقوم الدول ولو كانت كافرة، ونفي ومحاربة الظلم الذي يهدم الدول ولو كانت مسلمة. وتوصي رابطة علماء المسلمين الأمة في الشمال الإفريقي بالانضباط بمشروعية الوسائل للتعبير عن المطالب العادلة؛ إذ الغاية وإن شرُفت لا تبرر الوسيلة إذا نزلت، وتحقيق العدالة لا يكون بارتكاب المحرَّمات وإتلاف الممتلكات الخاصة أو العامة، وعلى الجميع التأني والتثبت والبعد عن الفتن، وسد الثغور التي قد ينفذ منها من يريد التشويه أو التشويش على تلك المطالب العادلة أو استغلال هذه الظروف من لصوص الأموال والأعراض والدماء فينطلقوا لتحقيق أغراضهم العدائية أو الانتقامية، ولا يتأتَّى هذا إلا بصبر وشجاعة وثبات وتؤدة ومرابطة على الحق. وعلى العلماء والدعاة والوجهاء وأهل الحل والعقد والمسئولين في البلد أن يتنادوا إلى انتخاب حكومة عادلة تطبق شريعة الإسلام , وتعطي الشعب حقوقه. وقى الله بلاد المسلمين عامة والأمة في الشمال الإفريقي خاصة الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجعل عواقب هذه الأمور إلى خير. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

من تجديد الفقه إلى تجديد الفقيه

من تجديد الفقه إلى تجديد الفقيه ياسر بن ماطر المطرفي 6 صفر 1432هـ مدخل مفاهيمي: عادةً ما تسيطر على الوسط الفكري مجموعة من المفاهيم التي تظل ممسكة بزمام البحث في تلك الأوساط على اختلاف مرجعياتها، ويظل الجدل الفكري متمركزاً حولها بشكل أو بآخر، وكلما كانت تلك المفاهيم مستندة إلى مرجعية تمتلك عوامل البقاء كلما بقيت فاعليتها واستمرارها؛ كما هو الحال في مرجعية الإسلام؛ ولذلك فإن الدعوات الفكرية الحداثية التي تسعى إلى إحداث قطيعة معرفية (أو ما يسمى «القطيعة الإبستمولوجية» (¬1) مع المفاهيم الإسلامية المحْكَمة، لا يمكنها أن تنجح في سعيها؛ لأن بقاء هذه المفاهيم مرتهَن ببقاء الإسلام نفسه؛ ولذلك فإن هذه الدعوة بالقطيعة مستلهَمَة من التجربة الغربية التي أحدث فيها الفكر الغربي - كما يقول دعاة القطيعة - مجموعة من القطائع الإبستمولوجية في تاريخه، كالقطيعة بين اليونان والرومان والعصور الوسطى، ثم القطيعة بين العصور الوسطى وعصور الحداثة وهكذا، بداية على يد غاليلو وديكارت، ثم نيوتن وكانط ثم آينشتاين وباشلار. وإننا لو سلمنا بأن تلك المحاولات كانت تمثل قطيعة حقيقية مع المراحل التاريخية السابقة في هذا الفكر؛ فإن محاولة نقل هذه التجربة إلى واقع الفكر الإسلامي هي محاولة استنبات في أرض غير صالحة لذلك، وسبب ذلك: أن كثيراً من تلك المفاهيم التي صنعها الفكر الغربي هي مفاهيم بشرية خاضعة للبيئة التي نشأت فيها، والظرف التاريخي الذي ولدت فيه، بينما مفاهيم الإسلام المُحْكَمة هي مفاهيم إلهيةُ المصدرِ، مطلقةُ الزمانِ والمكانِ؛ فلا يمكن أن يحدث في الواقع الإسلامي قطيعة مع مفاهيم التوحيد، والإيمان، والحق، والعدل ... ونحوها. أما المفاهيم البشرية الزائفة فلقد جاء الإسلام بالدعوة إلى تخليص الناس منها وإحداث القطيعة التامة بينهم وبينها؛ فهو - سبحانه - ينهى عن الخرافة والشرك فيقول عن ذلك: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} ٍ المائدة.72 ويحذر من مفهوم الغلو فيقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْحَقَ}: النساء171. ويريد - سبحانه - أن يحرر العقل الإنساني من مفهوم تبعية الآباء والأجداد فيقول: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} البقرة:170 ويتحدث - سبحانه - عن مفهوم الفساد ويصحح طريقة النظر إليه فيقول: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} البقرة: 11 - 12 ¬

(¬1) القطيعة الإبستيمولوجية: مصطلح فلسفي أسسه العالم الفرنسي غاستون باشلار، ويذهب فيه إلى أن حركة تاريخ الفكر تمر بمجموعة مراحل انتقالية كل مرحلة تحدث قطيعة وانفصالاً مع مفاهيم وبنية تفكير المرحلة السابقة. وهي فكرة ليست محل اتفاق تام في الحقل الفلسفي الغربي، لكن عدداً من المفكرين العرب: كمحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهاشم صالح، يدعون لتطبيق هذه الفكرة في واقع الفكر الإسلامي.

وبناءً على ذلك فنحن بحاجة دائمة إلى دعوة الإنسان لتحرير عقله من تلك المفاهيم الزائفة، وإلى إحداث نوع من الوعي بالمفاهيم الإسلامية المحْكَمة، وبثِّ الروح من جديد في هذه المفاهيم. وأحد تلك المفاهيم الخصبة الأصيلة في الفكر الإسلامي، هو مفهوم (التجديد)، وهو من المفاهيم التي أحدثت كثيراً من الجدل في الوسط الفكري في القديم والجديد، وقد يكون من أسباب ذلك الإجمال الذي يكتنف لفظ (التجديد)، وهذا ما جعله عُرْضة لأن تختلف المناهج في معالجته تبعاً لاختلاف فكر أصحابها، حتى تمكَّن بعض دارسيه من استخدامه لتغيير معالم الدين بدعوى تجديده؛ لكن هذا المفهوم يحفزنا نحو تجديد الرؤية في الموضوعات التي نتطرق إليها تجديداً ملتزماً بمحكمات الشريعة ومبادئها، وهذا ما يجعلنا مطالَبين على نحو دائم بتجديد طريقة تناولنا لكثير من القضايا التي تشغل هذا الواقع المتجدد. وليس المقصود هنا البحث في هذا المفهوم، وإنما تسليط الضوء على جانب من جوانبه فهو يُستخدَم على مستويات عديدة وفي مجالات مختلفة، يعنينا منها في هذا المقال التجديد على الصعيد الفقهي؛ أي: (تجديد الفقه)، والمقصود من الحديث حول هذا المفهوم محاولة نقل مركزية الحديث من حقل تجديد الفقه إلى حقل تجديد الفقيه؛ وهو حامل هذا الفقه. وموجب هذا النقل أن مَنْ يتابع المعالجات المُحْكمة التي طُرحت لنقاش هذا الموضوع يرى اقتصارها على جانب واحدٍ من جوانبه؛ وهو جانب تجديد العلم نفسه، في حين أن ثمة جوانب أخرى ربما لا تَقِل أهمية عن سابقتها غاب الحديث عنها أو كاد، ومنها الحديث عن تجديد (الفقيه)؛ أي: إعادة النظر في وسائل إعداده وتأهيله. وإن عملية نقل مركز الحديث نحو تجديد الفقيه لا تعني القطيعة مع مفهوم تجديد الفقه، ولكنها تعني بشكل أساسي توسيع مساحة البحث في جوانب أخرى مهمة في هذا الموضوع. لماذا تجديد الفقيه؟ في وقت تعقدت فيه مسائل الفقه الواقعية نظراً لتعقُّد الواقع وتشابكه وتداخله، أصبح من الضروري إعادة هيكلة المحاضن التربوية والعلمية التي تصنع الفقيه؛ فلم تَعُد إشكالية هذا الموضوع تنحصر في جانب العلم نفسه وتجديد أساليبه وموضوعاته؛ بل تجاوزت ذلك إلى الفقيه الجديد ونمط تنميته وتطويره. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «وربَّ حامل فقه وليس بفقيه» (¬1) إلى التفريق بين الفقه نفسه وبين حامله؛ وهو ما يعني أن حَمْل الفقه لا يُلبِس صاحبَه لقب (الفقيه). لقد أصبح كافياً في وعي كثيرين أنه حتى يتسمى الدارس باسم (الفقيه)، وحتى يباشر الحديث حول القضايا الفقهية، لا بد أن يضبط جملة الفروع الفقهية من بعض الكتب المختصرة، ويستحضر أدلتها، ويعرف الراجح فيها وبذلك يحظى بأن يكون واحداً من الفقهاء، وبسبب هذا النمط من التفكير قلَّت العناية بالبرامج التدريبية العملية لتمنية الفقيه وتطويره. يقول الطاهر بن عاشور في وصف هذه الحال: «وكان معنى العلم عندهم: هو سعة المحفوظات - سواء من علوم الشريعة أم من علوم العربية - فلا يعتبَر العالم عالماً ما لم يكن كثير الحفظ، وليس العلم عندهم إلا الحفظ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهَد في العالِم؛ ومن المعلوم أن الذكاء والنباهة لا يشاهَد لأحد» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي. (¬2) أليس الصبح بقريب، ابن عاشور، (ص: 46).

إنه لم يعد كافياً حتى يكون المتعلم فقيهاً فاعلاً في واقعه أن يكتفي بما ترسمه بعض كتب التراث من شروط لمواصفات الفقيه؛ لأن ثمة معارف جديدة تتطلب من فقيه اليوم قَدْراً من الدراية والإحاطة لا نجد الحديث عنها بالقدر الكافي في صورة الفقيه القديمة، وإن السعي لاستنساخ ذلك دون محاولة تطويره أو معرفة الفوارق بين الحاجات العلمية التي كان يتطلبها واقعه وبين حاجات واقعنا العلمية، يعني مزيداً من خلق المشكلات في حياة المتلقين؛ بل ربما أدى ذلك إلى إضعاف هيبة الفقه الإسلامية، وتعرُّضها لكثير من النقد والتشكيك بسبب عدم تأهيل حامليه التأهيلَ المناسب لهذه المرحلة الجديدة، ولقد كانت هذه المشكلة - وهي ضعف تأهيل الفقيه - إحدى أسباب تقليل المتكلمين من شأن الفقه وجعلهم أغلبَ فروعه من باب الظنون وليست من باب اليقين؛ وذلك بسبب ضعف استعداد الفقهاء الذين قدَّموا لهم الفقه في تلك المرحلة. يقول ابن تيمية في ذلك: «إنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء، استطال عليهم أولئك المتكلمون، حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم، لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم» (¬1). إن ما قاله ابن تيمية من استطالة المتكلمين على الفقهاء في ذاك الزمن، ربما قد يتكرر في هذا الزمن لكن بصورة أخرى وهي صورة التشكيك الفكري التغريبي في أحكام الفقه الإسلامية، وإن من أهم سبل مدافعته: التأهيل المناسب للفقيه الجديد الذي يستوعب مقالات هذا الفكر حتى يُحسِن مدافعته، «ومن لم يعرف أسباب المقالات - وإن كانت باطلة - لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم» (¬2). وإن حالة الضعف الفقهي في كتب متأخري الفقهاء هي التي جعلت شيخ الشاطبي يوصيه بعدم الانشغال بكتب الفقه المتأخرة في زمانه والاكتفاء بما كتبه المتقدمون في الفقه؛ حيث يقول: «وأما ما ذكرتُ لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فلم يكن ذلك مني - بحمد الله - محضَ رأيٍ؛ ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين: كابن بشير (ت بعد 526هـ)، وابن شاس (ت 610هـ)، وابن الحاجب (ت 646هـ)، ومن بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع لكنها محض النصيحة» (¬3). لكن الونشريسي كشف عن تلك العبارة الخشنة التي أبهمها الشاطبي، فقال بعد ذكر كلامه: (والعبارة الخشنة التي أشار إليها كان - رحمه الله - ينقلها عن شيخه أبي العباس أحمد القباب (ت حوالي 779هـ)، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن الحاج وابن شاس: فسَّدوا الفقه) (¬4)؛ أي: أفسدوا الفقه. وحتى يتضح عمق الحاجة لإعادة صناعة الفقيه الجديد فَلْنبتعد قليلاً عن حالنا اليوم وَلْنتأمل حجم التعقيدات الواقعية المستقبلية في ذهن المتعلم الذي نريد تأهيله ليكون فقيهاً لأمته بعد ثلاثين سنة؛ هل الطرق المنهجية المتداولة اليوم في الساحة العلمية كافية لتأهيل هذا الفقيه ليكون الرجل المناسب لتلك المرحلة؛ أم أننا بحاجة لآليات عملية جديدة تساعد في تأهيل الفقيه الجديد لتعقيدات المستقبل المنتظرة؟ أتصور أن هذا التساؤل هو من جنس التساؤلات الكبيرة التي من غير المنطقي أن يتلخص جوابها في مقال مختصر كهذا، وحَسْبُ هذا المقال أن يضع مجموعة من الرؤى التي يمكن أن تساهم في توضيح هذه القضية. تجديد الفقيه مسؤولية مَنْ؟ ¬

(¬1) الاستقامة، ابن تيمية، (1/ 56). (¬2) الاستغاثة في الرد على البكري، ابن تيمية، (1/ 244). (¬3) فتاوى الإمام الشاطبي، (ص: 120 - 122). (¬4) المعيار المعرِب والجامع المغرِب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، (11/ 142).

يحيلنا الحديث عن مسؤولية تجديد الفقيه وتأهيله إلى الحديث عن واقع العمل المؤسسي في الوسط التعليمي الشرعي؛ فإن الراصد لحركة التعليم خارج إطار الجامعات والكليات يجد أنها تفتقد كثيراً لنظام مؤسسي مبنيٍّ على رسم إستراتيجيات تعليمية بعيدة المدى، وربما يصدق في واقعنا - وإلى حد كبير - ما قاله مالك بن نبي: «لم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرضه من تبعات إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بَعْدُ خصوصاً بين مثقفيه» (¬1). فبينما نلاحظ توجُّها منظَّماً نحو تخريج النجوم والرموز في الفن والرياضة والإعلام، لا نجد جهداً يوازيه في تأهيل وتخريج وتطوير أصحاب التخصصات الشرعية، وإن الذي يتابع سِيَر كثيرٍ من فقهاء اليوم يجد أن الذي صنعهم في الغالب هو جهدهم الذاتي - بعد عون الله سبحانه - ولم تصنعهم مؤسسات تعليمية معيَّنة. وإن ما سيُطرح من رؤى وأفكار حول هذا الموضوع - سواء في هذا المقال أو غيره - ربما تُفهَم على أنها دعوات مثالية، وهذا صحيح إذا ما نظرنا إليها على المستوى الفردي وليس المؤسسي؛ أما على صعيد المؤسسات فهي ليست كذلك، كما أن التطبيق العملي كفيل بأن يُهذِّب هذه المثالية حتى تتناسب مع الواقع العلمي. تجديد ملكات الفقيه: إن الدراسة الفقهية اليوم تتسم بالتقرير المدرسي من خلال دراسة الكتب المذهبية المعتمَدة، ويغيب فيها الدرس الذي يعتني بالتدريب الفقهي أثناء عملية التأهيل الفقهية، والذي يتدرب فيه المتفقه على مجموعة من المهارات الفقهية لتبني له عدداً من الملَكات العلمية؛ فالفقيه الجديد يتطلب في إعداده وتكوينه جملةً من المهارات التي تساعده في تحقيق رسالته بالشكل المطلوب في هذا الزمن، ومن المهارات التي ينبغي أن يُدَرَّب عليها الفقيه الجديد: أولاً: بناء مَلَكَة التفكير الفقهي: التفقه في أصله عملية فكرية؛ لأنه راجع في أصل معناه إلى (الفهم)؛ فهو نوع من ممارسة التفهم في نصوص الشرعية، وعملية التفكير هذه لا تتأتَّى من خلال التلقين المجرد للفروع الفقهية، وإنما من خلال توجيه الدرس الفقهي إلى حَلْقات علمية خاصة تهتم بتطوير عقلية المتفقه الجديد وتمرينها حتى تكتسب القدرة العالية على معالجة المسائل وإدراكها. وحتى لا يجاهد المتفقه الجديد في غير ميدانه، ولا يستنبت عقليته في أرض غير صالحة؛ فمن المهم أن تكون عملية التمرين والتطوير في ميدانها المناسب، ومن تلك الميادين التي تساعد على تقوية تفكير الفقيه ما يلي: 1 - بناء الملَكة التي تعتمد على إرجاع فروع الشريعة إلى كليَّاتها العامة: وذلك حتى يُعرفَ مدى اطراد التشريع الإسلامي، ويتمكن الفقيه من إرجاع الفروع بعضها إلى بعض، وإظهارها على وجه متماسك مطَّرد.0 والمتأمل في واقع التعليم الفقهي اليوم يجد أن الغالب عليه تقرير آحاد المسائل الفقهية بعيداً عن الاهتمام بربط هذه المسائل بمثيلاتها وما يعضدها من كليات الشريعة وأصولها الكبرى. يقول ابن رشد منبهاً إلى هذا المعنى: «رأينا أن نذكر في هذا الكتاب (كتاب الصرف) سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب؛ فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد ... وبهذه الرتبة يسمى فقيهاً لا بحفظ مسائل الفقه؛ لو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر» (¬2). ¬

(¬1) مذكرات شاهد على القرن، مالك بن نبي، (ص 236). (¬2) بداية المجتهد، ابن رشد، (1/ 664).

وبسبب فَقْدِ هذه الملَكة أصبح من غير المستغرَب أن يُقرِّر بعض الفقهاء مسألة في بابٍ على وجهٍ، ثم يقرر في نظيرها تقريراً مخالفاً لها في باب آخر وكلاهما يرجعان إلى تأصيل واحد. يقول ابن تيمية عن حال بعض متبعي الأثر ممن قلَّت معرفته بطريقة التعامل مع القياس الصحيح: «وتجد المستن الذي يشاركه في القياس قد يقول ذلك القياس في مواضع، مع استشعاره التناقض تارة، وبدون استشعاره تارة؛ وهو الأغلب» (¬1).أما الجويني فيقول أثناء بيانه لأصول مذهب الشافعي: «ومن أراد أخذ المذهب (أي: الشافعي) مِنْ حفظ الصور: اضطرب عليه أمثال هذه الفصول، ومن تلقَّاه من معرفة الأصول: استهان عليه أن يدرك هذه الفصول». وفي نهاية الأمر فإن «نقل الفقه إن لم يعرف الناقلُ مأخذَ الفقيه، وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيراً» (¬2). 2 - بناء الملَكَة التي تراعى فيها الأحكام اللازمة عندما تتحول إلى أحكام عارضة؛ أي: عندما يتحول الحكم الواجب إلى حرام، والحرام إلى واجب أو مباح؛ بحسب العوارض التي تَعرِض لهذه الأحكام وَفْقاً لفقه الضرورة أو المشقة أو الحاجة: إن من يتأمل الفقه يجد أنه في الغالب يعطي المتفقه الأحكام اللازمة؛ لكنه في كثير من الأبواب قد لا يعطيه الأحكام العارضة، فهو يقرر الحكم بناءً على الأصل؛ لكن هذا الأصل قد يحتف به مجموعة من الأمور الواقعية التي قد تغيِّر من طبيعة النظر في المسألة؛ وحينئذٍ فإن طريقة التعامل معها محكومة بمجموعة من المعايير ليست من اهتمام كتب الفقه وإنما مجال بحثها: إما علم القواعد الفقهية: كقاعدة المشقة والضرورة والعرف ونحو ذلك. أو علم أصول الفقه في مبحث عوارض الأهلية، ومبحث الأسباب والشروط والموانع. إن كثيراً من المتفقهة يمكنه أن يضبط قاعدة المشقة أو قاعدة الضرورة والحاجة من جهة التنظير الكلي العام لكنه قد لا يُحسِن تنزيلها على الواقع، وحينها ربما قد يحصل منه إفراط أو تفريط في التطبيق، وسبب ذلك: أنه لم يتدريب على ذلك في الدرس الفقهي، وهذا ما يؤدي به إلى ضعف الملكة في هذا الباب، كما أن التدريب على هذه المَلَكة وإن لم يُمَكِّن المتفقه من تنزيل بعض أحكامها على الواقع، فليس أقلَّ من أن يساعده على تَفهُّم بعض فتاوى العلماء التي ذهبت إلى القول بجواز مسألة هي في أصلها حرام بناءً على قاعدة الضرورة أو المشقة أو الحاجة أو العكس، وهذا التفهم من شأنه أن يساهم أيضاً في معالجة واحد من أهم أسباب الفرقة والتناحر التي يشهدها الوسط الشرعي. يقول ابن تيمية في ذلك: «فإن كثيراً من الناس يستشعر سوء الفعل، ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها ثواب الحسنة ما يربو على ذلك؛ بحيث يصير المحظور مندرجاً في المحبوب، أو يصير مباحاً إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة ... » ثم تحدث عن الصورة الثانية وقال: «فهذا القسم كثر في دول الملوك؛ إذ هو واقع فيهم وفي كثير من أمرائهم، وقضاتهم، وعلمائهم، وعبَّادهم؛ أعني: أهل زمانهم، وبسببه نشأت الفتن بين الأمة» (¬3). ¬

(¬1) الفتاوى، ابن تيمية، (4/ 46). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/ 541). (¬3) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (35/ 28).

كما أن التدريب على هذا النوع من التفقه يُعيْن على إعادة حالة التوازن بين من جَعَل الحُكم العارض الذي فرضته بعض الظروف حكماً لازماً في جميع الأزمنة؛ لأن الخطأ في ذلك ربما يتسبب في الجناية على بعض أحكام الشريعة، وإلى هذا نبَّه ابن القيم عندما بيَّن خطأ بعض المتفقهة في فهم بعض تصرفات عمر - رضي الله عنه - فقال: «والمقصود: أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذر وأجر» (¬1). 3 - بناء الملَكة التي تُحسِن التوازن بين اعتبار المدلول اللفظي للنص وبين تفعيل مقصوده: إن الدرس الفقهي اليوم يتحدث عن المقاصد وأهميتها حديثاً نظرياً، وهذا أمر إيجابي لا بد من تكثيفه؛ لكن هذا الدرس في المقابل لا يعتني بالتدريب الفعلي لتطبيق فقه المقاصد، والإشكال الحقيقي في هذا الموضوع يكمن في أن من يحسنون التنظير والضبط لموضوع المقاصد كثيراً ما يحصل بينهم نزاع أثناء التطبيق؛ وذلك لأن الدخول في التفاصيل هو الذي يبين دقة الفهم وعمق الإشكال، والطاهر بن عاشور أشار إلى هذا المعنى وبيَّن أن المفاصل الكبرى في باب المقاصد والمصالح والمفاسد، مقام سهل؛ لكن المشكلة تتعقد عندما تأتي التفاصيل والتطبيقات، فقال: «فأصول المصالح والمفاسد قد لا تكاد تخفى على أهل العقول المستقيمة؛ فمقام الشريعة في اجتلاب صالحها ودرء فاسدها مقام سهل، والامتثال إليه فيها هين. واتفاق علماء الشرائع في شأنها يسير، فأما دقائق المصالح والمفاسد وآثارها ووسائل تحصيلها وانخرامها فذاك المقام المرتبك؛ وفيه تتفاوت مدارك العقلاء اهتداءً وغفلةً وقبولاً وإعراضاً» (¬2). وهذا النوع من البحث المقاصدي التفصيلي هو البحث الأخطر في باب المقاصد. يقول ابن عاشور في موطن آخر من كتابه: «وفي إثبات هذا النوع من العلل (وهو ما كانت علته خفية) خطر على التفقه في الدين؛ فمِن أجل إلغائه وتوقِّيه مالت الظاهرية إلى الأخذ بالظواهر ونفوا القياس، ومن الاهتمام به تفننت أساليب الخلاف بين الفقهاء» (¬3). وإن تدريب المتفقه من زمن مبكر على محاولة التطبيق والتدريب على استعمال المقاصد في حقول التعليم الخاصة وتحت الإشراف العلمي المتزن، سيعين على تجنُّب كثير من مشكلات التفعيل المقاصدي التي نشهدها اليوم؛ فإنه على الرغم من الضعف التأصيلي لفقه المقاصد عند بعض من يمارسه إلا أن مشكلات التفعيل المقاصدي لا تنحصر في ذلك، بل من مشكلاته أيضاً: عدم امتلاك كثيرٍ ممن يمارس التفعيل المقاصدي لملَكة هذا التعامل التي تحتاج إلى قَدْر من الخبرة والنضوج حتى يمتلك الفقيه ناصيتها، وابن تيمية أشار إلى أهمية هذا النوع من الإدراك وأنه يتطلب خبرة طويلة وممارسة عملية فقال: «العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلِّ العلوم، وإنما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشريعة ومقاصدها وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد» (¬4). ¬

(¬1) الطرق الحكمية، ابن القيم، (1/ 47). (¬2) مقاصد الشريعة، ابن عاشور، (ص 258). (¬3) مقاصد الشريعة، ابن عاشور، (ص 151). (¬4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (20/ 583).

4 - ويتبع ذلك بناء الملَكة التي تُحسِن التعامل مع فقه المصالح والمفاسد: وإن بناءَ هذه الملَكة سيساعد كثيراً في التعامل مع كثيرٍ من الوقائع المشكِلة، وسيساعد أيضاً - وبشكل كبير - على تجاوز كثيرٍ من الخلافات العلمية التي تحصل بناءً على عدم الاستيعاب الكافي لهذه القضية. يقول ابن تيمية: «وهذا باب التعارض باب واسع جداً، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجِّحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم العمل بالحسنات، وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء ... فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل؛ قد يكون الواجب في بعضها ... العفو عن الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط: مثل أن يكون نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر» (¬1). وهذه المهارات والمَلَكات الفقهية لا تؤخذ بمجرد التقرير النظري ما لم يكن معها ممارسة عملية تدريبية. قال رجل لإياس بن معاوية: علمني القضاء. فقال: «إن القضاء لا يُعَلَّم، إنما القضاء الفهم، ولكن قل: علمني من العلم» (¬2). إن المهارات التي نتحدث عنها هي من جنس مهارة القضاء، هي بحاجة إلى تطبيقات عملية من خلال إقامة دورات علمية متخصصة، أو إجراء حلقات حوارية تتبنى سياسة التدريب الفقهي، سياسةً عملية تنتقل من مجرد التجريد النظري لفقه المقاصد والمصالح والقواعد والضرورة إلى حلقات وبرامج تطبيقية تجمع عدداً من قضايا الواقع التي يلامسها المتفقه ولا يُحسِن التعامل معها ثم تُطرَح على طاولة النقاش والمباحثة العلمية. وإن كثيراً من الحلْقات التي اهتمت بجانب المسائل الواقعية اعتمدت على أسلوب جمع بعض مسائل النوازل وتقرير الكلام فيها بعيداً عن الحوار والنقاش الذي يُرسِّخ في ذهن المتعلم مأخذ المسألة، ومواطن الخطأ والصواب أثناء عملية التطبيق، وإن أسلوب التقرير المجرد سيحوِّل هذه المسائل النوازل بعد زمن إلى متن فقهي جديد يحفظه الفقهاء الجدد دون وعي كبير بطريقة النظر وأسلوب المعالجة. ثانياً: بناء ملَكة الاعتدال الفقهي: إن نفسية الشخص التي تربى عليها، كثيراً ما تؤثر على طبيعة تعامله مع القضايا العلمية والواقعية، ومن المهم إحداث نوع من التوازن في التعامل مع طبيعة تكوين الإنسان وشخصيته؛ ولذلك يقول ابن تيمية عن جانب من كمالات الشيخين - رضي الله عنهما -: «كان من كمال أبي بكر أن يولِّي الشديد ويستعين به ليعتدل أمره، ويخلط الشديد باللين، فإن مجرد اللين يُفسِد، ومجرد الشدة تُفسِد؛ فكان يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك ... وأما عمر فكان شديداً في نفسه؛ فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة الثقفي» (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (20/ 57). (¬2) تهذيب الكمال، المزي، (3/ 435). (¬3) منهاج السنة، (6/ 138).

وإن نفسية الفقيه ليست بمعزل عن هذا الكلام؛ فقد تؤثِّر نفسية الفقيه في اختياراته الفقهية، وفي طريقة عرضه للمسائل والخلاف الفقهي، وفي هذا المعنى يقول ابن حزم: «إن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه، متباينون في ذلك تبايناً شديداً متفاوتاً جداً: فمنهم رقيق القلب، يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس ... ومنهم معتدل في كل ذلك يميل إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب، يميل إلى شدة الإنكار، ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء» (¬1). وفي ظل هذا التنوع الكبير في نفسيات المتلقين فإن واحداً من أهم عوامل بناء الاعتدال الفقهي وضبط عملية التوازن، هو أن يتعلم المتفقه الجديد مرتبة الخلاف في المسائل التي يتلقاها؛ وهذا من خلال معرفة ضوابط الخلاف السائغ وغير السائغ بين العلماء، وكيفية التعامل مع كل نوع من هذه الخلافات من حيث القائلُ، والقولُ، وطريقةُ المناقشة؛ لا يتعلمه من الجهة النظرية فحسب، بل يتعلمه من الناحية التطبيقية، فيُعْرَض عليه كثير من المسائل ليطبِّق عليها تلك الضوابط؛ لأن بناء النفسية المعتدلة في الأداء الفقهي يحتاج إلى تدريب وممارسة من خلال عقد حوارات علمية تعليمية يتدرب فيها المتفقه على أسلوب النقاش والحوار، وعندما يتدرب على ممارسة الحوار والنقاش في مكان علمي هادئ، سيتمكن من تطوير نفسه في التعامل مع أقوال الآخرين. لقد نجح خطابنا الفقهي في تربية المتفقه على لغة الراجح ولغة البحث عن الدليل؛ لكن هذا الجانب - على أهميته - لا يكفي وحدَه؛ بل لا بد أن يتربى وعي المتفقه - بالإضافة إلى القول الذي يختاره ويدين اللهَ به - على معرفة كيفية التعامل مع الأقوال الأخرى التي لا يعتقد رجحانَها، وهذا يعني أن ينضم إلى لغة الراجح والمرجوح لغةُ الخلاف السائغ وغير السائغ، وإن هذا التدريب سيجنِّب المتفقه التعصب لهذا الراجح الذي يعتقده؛ ليس من جهة الالتزام به وإنما من جهة عدم اعتداده بالأقوال الفقهية المعتبَرة الأخرى لمجرد أنها ليست راجحة. وإن إدراك هذا الجانب مهم في تكوين الفقيه. يقول ابن تيمية عن حال غالب الفقهاء وعدم تمييزهم بين درجات المسائل وهو ما يفقدهم الاعتدال في تقرير حكمها: «وأما الخائض فيه (أي: الفقه) فغالبهم إنما يعرف أحدهم مذهب إمامه، وقد يعلمه جملة، لا يميز بين المسائل القطعية المنصوصة والمجمَع عليها، وبين مفاريده، أو ما شاع فيه الاجتهاد؛ فتجده يفتي بمسائل النصوص والإجماع من جنس فتياه بمسائل الاجتهاد والنزاع ... لكن هؤلاء ليسوا في الحقيقة فقهاء في الدين، بل هم نَقَلَة لكلام بعض العلماء ومذهبه» (¬2). تفعيل مهارة البحث الفقهي: عندما لا يتسلح الفقيه بقدر كافٍ من الملَكة البحثية فمن الممكن أن يؤثر ذلك على صناعته الفقهية، وكثيرٌ من المتعلمين لا يملك إلا قدراً متواضعاً من معرفة المصادر العلمية، ومناهجها، وكيفية التعامل معها، وهذا يتطلب حلقات تعليمية لا تكتفي بمجرد سرد المصادر وبيان طرق وأساليب البحث؛ بل تنتقل إلى داخل أروقة المكتبات العامة، لتُعَرِّف المتفقهةَ الجدد بمصادر العلوم، ومن ثَّم تكليفهم ببحوث عملية داخل هذه المكتبات، وتقيم عدداً من المناقشات العلمية حول بعض البحوث المعاصرة ومعرفة مَواطن التميُّز المنهجي فيها ومواطن الضعف. ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، (4/ 138). (¬2) الاستقامة: 1/ 60.

كما أن من جوانب البحث المهمة تفعيل دور البحث التاريخي في العلوم؛ فمن المهم أن يُدرَّب المتفقه الجديد على استكشاف الجانب التاريخي للعلوم والمسائل؛ فقد يدرس المتعلم علم الفقه أو غيره؛ لكنه لا يملك دراية كافية بالتطور التاريخي لهذا العلم ومسائله؛ مع أن هذه المعرفة التاريخية لها أثرها الكبير في فتح ذهنية المتفقه إلى إشكالات العلم، وتفريعاته، وأساليب بنائه. وإن بناء هذه المنهجية البحثية عند المتفقه ستقوده للوصول إلى الصواب الذي يبحث عنه، فإن «من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه» (¬1). تنمية مهارة التواصل الفقهي مع الجماهير: تواصل الفقيه مع الناس من خلال الكتابة أو الحديث المباشر بحاجة إلى مهارات لا بد من امتلاكها، ومن خلالها يمكن أن يوصل الفقيه رسالته للآخرين على أكمل وجه، ومن الزوايا المهمة في هذا الجانب ما يلي: 1 - في الوقت الذي كثرت فيه الشُُّّبه والتشكيك في الأحكام الشرعية فنحن بحاجة إلى لغة الحديث التي تعتمد أسلوب الإقناع بالأحكام إلى جانب التقرير العلمي المجرد، والتي تُبين محاسن التشريع الإسلامي وفلسفته في تقرير أحكامه، بل تتعدى ذلك إلى مقارنته مع أحكام الشرائع الأخرى حتى تظهر سماحة هذا الدين وتميُّزه عن غيره من الديانات. يقول ابن تيمية: «وإنما ننبه على عِظَم المصلحة في ذلك بياناً لحكمة الشرع؛ لأن القلوب إلى ما فهمت حكمته أسرع انقياداً، والنفوس إلى ما تطَّلع على مصلحته أعطش أكباداً» (¬2). وربما كان من أخصر الطرق للإقناع - أو حتى الإحراج لمن لا يريد ذلك - أن يستعمل الخطابُ لغة الأرقام والإحصائيات في تأييد بعض الأحكام الشرعية، أو أن يذكر بعض التجارب التي حصلت في بلاد أخرى حول بعض القضايا الشرعية. 2 - ونحن بحاجة في لغة الفقيه الجديد إلى لغة تراعي في حديثها البعد العالمي، وإن مراعاة هذا البعد يعني أن الفقيه لا يكفيه اعتماده على الرصيد الشعبي الذي يجده بين بني قومه، بل لا بد من حديث يستند إلى الأساس العلمي أكثر من استناده إلى الأساس الذاتي الذي يرجع لشخص الفقيه، ويُلْمح ابن تيمية إلى قريب من هذا المعنى؛ حيث يقول: «الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون بما اختص بعلمه المجيب؛ إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به» (¬3). ومن أجل هذا النوع من العالمية فإننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في الأسلوب الذي يعتمد على (اجتماع الجيوش) والذي يجمع صحيح الاستدلال مع ضعيفه من باب تضافر الأدلة، ولنقدِّر له أحواله الخاصة، ولنقتصر في الاستدلال على الاستدلالات الصحيحة، مع استبعاد ما لم يكن كذلك حتى لا يُشَغب عليها. ¬

(¬1) الفتاوى: 13/ 367. (¬2) الصارم: 3/ 905. (¬3) الفتاوى: 4/ 168.

3 - ونحن بحاجة كذلك إلى اللغة التي لا تستغرق في مشكلات البيئة التي يعيش فيها المتحدث؛ بل تتجاوزها إلى مراعاة المشكلات التي يعاني منها المسلمون في بلدان أخرى إسلامية وغير إسلامية، وإن تسميتنا لفقه بعض هذه البلدان بـ (فقه الأقليات) ربما أشعرتنا أحياناً بجعل هذا الفقه على هامش الاهتمام والعناية، لكن الواقع اليوم يثبت أن مسائل هذه الأطراف لم تعد تعني (أقلية) في قطر معيَّن، بل إنها تعني في بلدان أخرى (أكثرية) لكنها محكومة بنظام غير إسلامي ويتعرض أهلها للمشكلات نفسها التي تتعرض لها الأقليات في بلدان أخرى، ثم إننا عندما نغض الطرف عن مقارنتهم بغيرهم فإنهم لم يعودوا (أقلية) بل أصبحت الأرقام تتحدث عنهم بلغة الملايين، ثم إن هذه الأقلية أصبحت مندمجة بصورة غير مباشرة مع الآخرين، فأصبحتَ لا تكاد تستمع لبرنامج مباشر يتلقى فيه الفقيه أسئلة من هنا أو هناك إلا وتجد عدداً من المشاركات التي تأتي من تلك البلدان؛ لتسأل وتستفسر عن مشكلاتها، بل ربما تستشكل بعضَ الأجوبة التي لا تراعي أحوالها. تجديد معارف الفقيه: الفقيه الجديد ينبغي أن يُدْخَل في إعداده وتكوينه مجموعة من المعارف التي تطلبتها التحولات الكبيرة التي يشهدها واقعه، وقبل أن أدخل في دائرة هذه المعارف فإننا لا نريد أن نحوِّل الفقيه الجديد إلى رجل أسطورة تجتمع فيه كافة التخصصات والمعارف، بل كل الذي نريده أن ننظر إلى تلك المعارف بقدر من الاعتدال بين دعوات تدعو أن يكون الفقيه موسوعي المعرفة، وبين دعوات أخرى تريد أن تهمِّش الفقيه حتى تُفقدَه دورَه الإصلاحي بحجة عدم إدراكه لما يتحدث عنه. إن هذه المعارف ستساعد الفقيه على استيعاب عمق المسائل المطروحة عليه؛ فيُميِّز بين تلك المسائل التي يحتاج إلى تحويلها إلى المتخصصين في مجالها، وبين تلك المسائل التي يمكن للفقيه بما يملكه من معارف ضرورية أن يتحدث حولها. كما أن المقصود من إدراك هذه المعارف، هو إدراك القَدْر الأساسي الذي لا يسعه جهله، وليس المراد المعرفة الشاملة التي يحتاجها المتخصصون. فعندما يتحدث الفقيه عن مسألة الربا، ويُبيِّن شيئاً من آثارها، فلا بد أن يكون على دراية بالقدر الأساسي من المعرفة بنظام الاقتصاد الدولي الحديث ونحو ذلك من معارف الاقتصاد الأساسية. كما أن الواقع المعاصر أصبح يفرض على فقيه اليوم - وبشكل متزايد - واجبات أكبر من واجبات الفقيه السابق؛ فإن كثيراً من الناس مهما تحدثنا معهم عن اختلاف التخصصات، واختلاف الأدوار، فلا يزال عند شريحة كبيرة منهم نوع من التمسك بالتوجيه الذي يتلقاه من الفقيه، ومن أكبر أسباب ذلك البعد الديني الذي يحتاجه السائل في حل بعض هذه المشكلات، ومن ثَمَّ فلم يعد بوسع الفقيه اليوم أن يتجنب التوجيه الاجتماعي الرشيد وهو يجيب المستفتي - مثلاً - حول مسألة الطلاق أو اللعان؛ لأن كثيراً من الناس اليوم عندما يسألون قد لا يطلبون من الفقيه فقط بيان الحكم الشرعي للطلاق الذي هو داخل دائرة اختصاصه، بل إنهم يسألونه ليرشدهم كذلك كيف يواجهون مشكلاتهم التي تقودهم إلى الطلاق؟ وهذه وظيفة أخرى ليست داخلة تحت دائرة اختصاصه، وهذا يعني أنه قد أضيف له دور آخر غير دور الإفتاء المجرد. وإن السائل الذي يأتي ليسأل حول بعض المسائل التي تتعلق بالوسوسة في أداء العبادات تتطلب من الفقيه أن يدرك بعض أساسيات التعامل مع مرض الوسوسة ويمكنه بعد ذلك أن يوجه السائل إلى متخصص في هذا المجال. فهل سنضيف لمعارف الفقيه الجديد قدراً - ولو متواضعاً - من بعض الأسس التربوية والنفسية في التعامل مع مشكلات الحياة، كالمشكلات الزوجية وغيرها؛ من التي كثيراً ما تتردد على ألسنة الناس؟

وفي جانب آخر من المعارف فإن حديث الفقيه حديث يراد منه إحداث التغيير في المجتمع؛ وهذا يعني أن يدخل في بناء الفقيه الجديد معارف ضرورية في سُنن التغيير في المجتمع، فليس من دور الفقيه أن يُبيِّن الحكم للناس دون مراعاةٍ لأبعاد هذا الحكم، أو النظر في إمكانية تطبيقه على أرض الواقع. يقول ابن تيمية في هذا المعنى: «فالعالِم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخَّر الله - سبحانه - إنزالَ آياتٍ، وبيان أحكام إلى وقت تمكُّن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها ... ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فَعَل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] (¬1)، وفي سير الأنبياء ثروة عظيمة من سنن التغيير في المجتمعات استفادت منها مجموعة من الدراسات الإسلامية التي كتبت في (علم الاجتماع). أنني أُدرك إدراكاً تامّاً أن هذه الرؤى التي تقدمت إنما هي بحاجة إلى مزيد من المراجعة والتنقيح، والحديث حولها بحاجة كذلك إلى مجموعة من الورش العملية التي تخرِّج الرؤى حول هذا الموضوع أكثر نضجاً وواقعية، ولعل هذه الأسطر أن تثير مجموعة من التساؤلات حول هذا الموضوع الكبير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. ¬

(¬1) الفتاوى: 20/ 58 - 65.

المدخل الفقهي للمشروع التغريبي

المدخل الفقهي للمشروع التغريبي د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي 29 محرم 1432هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: منذ انتهاء حقبة الاستعمار العسكري المباشر على بلاد المسلمين تم تسليم المجتمعات الإسلامية لنخب فكرية علمانية تسعى إلى صبغ هذه المجتمعات بالصبغة الغربية في مجال السياسة والاقتصاد والأسرة والتعليم وغيرها من المجالات الاجتماعية. هذه الحقيقة العلمية والتاريخية لم تعد تخفى على المتابع، وليست من قبيل الأوهام أو عقدة المؤامرة كما يردده كُتاب المشروع التغريبي الذين آلمهم كشف المشروع وفضحه أمام المجتمع وتوعية الأمة بمخاطره، وخصوصا بعض المجتمعات التي نشط فيها المشروع التغريبي في فترة متأخرة بعد أن قوي التدين وانتشر العلم وظهرت الدعوة الإسلامية ظهوراً كبيراً وأقبل الناس عليها واستفادوا من منتجاتها النافعة. وطبيعة المشروع التغريبي أنه مشروع خفي لا يظهر مقاصده وغاياته للناس مباشرة لأنه يعلم الموقف الطبيعي للمجتمع الإسلامي من فكره ومنهجه ونتائج مشروعه النهائية التي تتعارض تعارضاً جذرياً مع أصول الإسلام وحقائقه الكبرى، وهذا التخفي هو حال المنافقين الذي وضحه القرآن الكريم. وأمام هذه الإشكالية المعيقة لتقدم المشروع فلا بد من اعتماد مداخل خفية على المجتمع تنقلهم بشكل تدريجي إلى الغايات دون الحاجة إلى مصادمة له لأن الخاسر الوحيد في حال الصدامات هو المشروع الدخيل والوافد الذي لا ينبع من تراث الأمة وهويتها واحتياجاتها الحقيقية. وقد تعددت المداخل الخفية التغريبية على المجتمع الإسلامي وهي بشكل عام تعود إلى نوعين .. مدخل فكري منهجي، ومدخل عملي تنفيذي، فمن النوع الأول: استخدام الشهوات للتغيير الفكري والاجتماعي، وخاصة شهوة المال والجاه والنساء، واحتواء الاتجاه العصراني وما يسمى بالتنوير الإسلامي وتوجيه نتائج منظومته الفكرية لتصب في وعاء المشروع وإنائه، وتغطية المشروع ببعض المفاهيم الشرعية والمسائل الفقهية واستخدامها كمطية للتوصل إلى أهدافهم، والتركيز على المرأة، وإضعاف التدين وهيبة الشريعة في النفوس، ومن النوع الثاني: التغيير النظامي والقانوني وخاصة السياسات العامة، والتأثير الإعلامي، والتنسيق مع الجهات الأجنبية الرسمية وغير الرسمية، ونحوها من الوسائل العملية. وفي هذه الخاطرة الوجيزة سيكون التنبيه على المدخل الفقهي للمشروع التغريبي. الخلاف مع المشروع التغريبي ليس خلافاً في مسائل فقهية، أو في النظر في الأدلة، ومناقشة الراجح والمرجوح، وأقوال العلماء، بل الخلاف معهم في أصول الدين، والرضا بحاكمية الشريعة الإسلامية وهيمنتها على كل أجزاء الحياة والمجتمع؛ فالمشروع التغريبي يريد أن يفرض على الأمة منهجاً فكرياً، ونمطا اجتماعيا، وسلوكا أخلاقيا مستندا الى الفكر الغربي. والنظرة التجزيئية للمشروع التغريبي، أو حصر الخلاف معه في الخلاف الفقهي المجرد نقص في التصور الكلي للمشروع، فهو مشروع شمولي يعتمد على تغيير اجتماعي وسلوكي قائم على أساس فكري علماني، فهو ليس مشروع اختلاط أو حفلات غنائية أو غير ذلك مما يعد من المعاصي إذا أُخِذ بمعزل عن الرؤية الفكرية الكلية التي ينطلق منها.

وبهذه الرؤية الكلية يتضح أن القضية قضية عقدية مهمة يجب الإلمام بها، وعدم تقزيمها والاستخفاف بها، فصاحب المعصية الممارس لها أيا كانت معصيته إذا كانت دون الشرك والكفر معدود من أبناء المجتمع الإسلامي، وهو في خندق واحد مع بقية المسلمين المعظمين للشريعة في مواجهة هذا المشروع، وهو أحد المستهدفين به، وخلافنا العقدي ليس مع هذه الفئة من إخواننا، ولكن الخلاف مع من يتبنى الفكر الغربي منهجا للحياة، ويرى أن النموذج الاجتماعي والفكري الغربي هو الأهدى سبيلاً، والأصلح للأمة الإسلامية المعاصرة. ومن خداع الفكر التغريبي للأمة أن يحول نظرها عن الرؤية الكلية لمشروعه ويفتتها إلى مسائل جزئية يدعي فيها الخلاف الفقهي الذي ينبغي فيه الإعذار، ويصور المسألة وكأنها اختلاف بين العلماء في مسألة فقهية. ويجد هذا الفكر الدخيل من الفقهاء الذين وقعت في نفوسهم الهزيمة أمام ضغط الواقع ما يمكن أن يحتج به، فالفتاوى الشاذة المخالفة للإجماع، والفتاوى المغفلة من أقوى الأدوات والآليات التي يستعملها الفكر التغريبي في واقعنا المعاصر. وقد جاء في الأثر: " ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والأئمة المضلين"، وهذا الأثر ذو معنى عميق، وهو قاعدة علمية في المداخل الفكرية التي يستغلها الزنادقة في كل عصر لهدم الدين، وزلات العلماء تكثر في أزمان الهزيمة النفسية والفكرية؛ لأن أصحابها يبحثون عن مخرج يتعايش مع الواقع الصعب حسب ظنهم، ولهذا ينبغي أن ينتبه لهذا المنفذ الدعاة والمصلحون ويحسنوا سده على الأمة. فزلة العالم، وأفعال الأئمة المضلين في ذاتها ليست أكثر من الذنوب المعتادة، ومع ذلك جاء التعبير في الأثر بأن مآلها ونتيجتها " هدم الدين"، لأنها مدخل موصل لهدم الدين. ومن غرائب ألوان الهزيمة الفكرية التي يفتح بها بعض المنتسبين إلى العلم أبواب الشر على الأمة أن يفتي في مسألة متغافلا عن مناط الواقع، ثم تُستغل فتواه، ويُروج لها لنشر الفساد والانحراف، وسواء قصد هذا أم لم يقصده فهي بوابة مشرعة للطاعنين في الدين والمفسدين للمجتمع. فمثلا من يُسأل عن الغناء فيفتي بجوازه، وهو يريد الغناء الذي يذكره العلماء قديما من تحسين الصوت، أو على قول من يبيح بعض المعازف، والناس لا تعرف إلاّ الكليبات الراقصة المثيرة للشهوات وهي التي تُمارس في الواقع، والتي لو أفتى أحد بجوازها تحديدا لكان كافراً خارجاً عن دائرة الإسلام، أما ما يتحدث عنه فلا يعرفه الناس، ولا يرونه، وليس هو محل الأسئلة المعاصرة. ومن هذه الفتاوى الغريبة من يفتي بممارسة الفتاة للرياضة في المدارس بصورة محتشمة وهو يشاهد المطالبات والصراع المحتدم على رياضة الفتاة لتأهيلها للأولمبياد، وجعل الرياضة النسائية مشروعا متكاملا كما هو الحال في الرياضة للشباب، ففي مثل هذه الحالة؛ فإن من الغفلة الاستدلال بمسابقة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو محاولة التأكيد على الفوائد الطبية للرياضة، فالمناط متعلق بأمر آخر، ولا يُخدع بهذا إلاّ متغافل أو مغفل لا يمتلك الوعي الكافي لمعالجة الأمور. وهذه الفتاوى المغفلة تُعد بوابة مشرعة للفكر التغريبي في تغيير صبغة المجتمع الإسلامي تدريجيا حتى يصبح مجتمعا شهوانيا يسهل تحويله فكريا الى الفكر الغربي الجاهلي. ليس الغاية من هذا الإيراد اتهام من زل من العلماء بأنه تغريبي أو غيرها من التهم معاذ الله، ولكن الغاية هو الانتباه للتغطية الفقهية التي تنتج عن هذه الفتاوى المغفلة التي لا تراعي مآلات الخطاب، ونهايات الأقوال. وأمام هذه التغطية التغريبية للمشروع الفكري والاجتماعي فإنه من الواجب العمل على مواجهة هذا المدخل من جهتين:

الأولى: الكشف عن حقيقة التعامل التغريبي مع المسائل الفقهية وخصوصا مع كثرة من يترخص من دعاة التيسير والتعايش، وربط الجزئيات بالأهداف الكبرى لهذا المشروع، وتوضيح خداعه ومناوراته الفقهية. الثانية: التبيين لخطأ من وقع في مخالفة للإجماع، أو أفتى في أمر خارج مناطه مما يسهل عملية التوظيف التغريبي لها، ومناقشة الأدلة التفصيلية والرد عليها، ورد الأمور إلى صورتها الكلية التي يريدها الفكر التغريبي. فالمشروع التغريبي لا ينتظر فتوى شرعية، أو مسألة فقهية، ولكنه يوظف كل ما من شأنه التأثير على المجتمع المسلم الذي لا يقبل أمرا من الأمور إلا بعد معرفة حكم الله تعالى فيه. وهناك حالة مرتبطة بهذا الموضوع تحتاج إلى تأمل وتحليل وهي حالة الاحتقان في مجتمعنا من بعض المسائل المعدودة من المسائل الفقهية، والمثير للاستغراب أن ذلك ليس في كل المسائل الفقهية، والمحاولات التفسيرية لهذه الحالة كثيرة، فالبعض يرى أن السبب أحادية الرأي، أو عدم معرفة آداب الخلاف، بينما التفسير الأقرب أن هذه المسائل جاءت في سياقات معينة أوجبت التعامل معها وفق سياقها، ويدل لذلك عدم التعامل مع نظائرها التي لم يتم توظيفها لغايات فكرية خرجت بها عن كونها مسائل جزئية إلى رؤى فكرية أصولية شاملة. ولا يكاد توجد مسألة من المسائل الفقهية التي حاول التغريبيون توظيفها إلا وهي معدودة عند العلماء من المسائل الشاذة المخالفة للإجماع والنصوص الصريحة ومقاصد الشريعة والقواعد الكبرى، حتى لو قال بها بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، ففي مرحلة ما بعد الاستعمار ظهر فقهاء ومفتون جاءوا بآراء غريبة ليس لهم فيها دليل واضح، ولا عالم مقتدى، مثل إباحة الربا، وشرعية القوانين الوضعية، وجواز الانضمام لجيش كافر يقاتل المسلمين بحجة الحاجة الوظيفية!!، وغيرها من الفتاوى الغريبة، خاصة ذات الارتباط بضغوط الواقع، والاستسلام له، والتعايش معه، وتبريره.

بيان حول تمثيل شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجميع

بيان حول تمثيل شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي 27 محرم 1432هـ فإن المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته العشرين المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23 محرم 1432هـ التي يوافقها: 25ــ29 ديسمبر 2010م لاحظ استمرار بعض شركات الإنتاج السينمائي في إعداد أفلام ومسلسلات فيها تمثيل أشخاص الأنبياء والصحابة فأصدر البيان التالي: تأكيداً لقرار المجمع في دورته الثامنة المنعقدة عام 1405هـ الصادر في هذا الشأن، المتضمن تحريم تصوير النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل والأنبياء عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم، ووجوب منع ذلك. ونظراً لاستمرار بعض شركات الإنتاج السينمائي في إخراج أفلام ومسلسلات تمثل أشخاص الأنبياء والصحابة، فإن المجمع يؤكد على قراره السابق في تحريم إنتاج هذه الأفلام والمسلسلات، وترويجها والدعاية لها واقتنائها ومشاهدتها والإسهام فيها وعرضها في القنوات، لأن ذلك قد يكون مدعاة إلى انتقاصهم والحط من قدرهم وكرامتهم، وذريعة إلى السخرية منهم، والاستهزاء بهم. ولا مبرر لمن يدعي أن في تلك المسلسلات التمثيلية والأفلام السينمائية التعرف عليهم وعلى سيرتهم؛ لأن كتاب الله قد كفى وشفى في ذلك قال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) يوسف (3) وقال تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) يوسف (111) ويذكِّر المجمع بقرار هيئة كبار العلماء، وفتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، وفتوى مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، وغيرها من الهيئات والمجامع الإسلامية في أقطار العالم التي أجمعت على تحريم تمثيل أشخاص الأنبياء والرسل عليهم السلام مما لا يدع مجالاً للاجتهادات الفردية، كما يذكِّر بما صدر عن الرابطة في 16/ 11/1431هـ. ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الله تعالى فضل الأنبياء والرسل على غيرهم من العالمين، كما قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) الأنعام (83 - 86) ففي قوله (وكلاً فضلنا على العالمين) تفضيل الأنبياء على سائر الخلق، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خير الأنبياء وأفضلهم، كما قال عن نفسه: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع " رواه مسلم. وهذا التفضيل الإلهي للأنبياء الكرام ـ وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ـ يقتضي توقيرهم واحترامهم، فمن ألحق بهم أيّ نوع من أنواع الأذى فقد باء بالخيبة والخسران في الدنيا والآخرة، قال تعالى ـ في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) الأحزاب (57). فجعل أذى الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى الله تعالى، وحكم على مؤذيه بالطرد والإبعاد عن رحمته، والعذاب المهين له. وقد قرّر أهل العلم أن أذية الرسول صلى الله عليه وسلم تحصل بكل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال.

وتمثيل أنبياء الله يفتح أبواب التشكيك في أحوالهم والكذب عليهم، إذ لا يمكن أن يطابق حال الممثلين حال الأنبياء في أحوالهم وتصرفاتهم وما كانوا عليه ـ عليهم السلام ـ من سمت وهيئة وهدي، وقد يؤدي هؤلاء الممثلون أدواراً غير مناسبة ـ سابقاً أو لاحقاً ـ ينطبع في ذهن المتلقي اتصاف ذلك النبي بصفات تلك الشخصيات التي مثلها ذلك الممثل. فعلى الأمة أن تقوم بواجبها الشرعي في الذبّ عن الأنبياء والمحافظة على مكانتهم، والوقوف ضد من يتعرض لهم بشيء من الأذى. والصحابة الكرام رضوان الله عليهم شرفهم الله بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واختصهم بها دون غيرهم من الناس، ولكرامتهم عند الله اثنى الله عليهم بقوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) الفتح (29). ولا يمكن للممثلين مطابقة ما كان عليه الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من سمت وهدي. والذين يقومون بإعداد السيناريو في تمثيل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ينقلون الغث والسمين، ويحرصون على نقل ما يساعدهم في حبكة المسلسل أو الفيلم وإثارة المشاهد، وربما زادوا عليها أشياء يتخيلونها وأحداثاً يستنتجونها، والواقع بخلاف ذلك. وقد يتضمن ذلك أن يمثل بعض الممثلين دور الكفار ممن حارب الصحابة أو عذب ضعفاءهم، ويتكلمون بكلمات كفرية كالحلف باللات والعزى، أو ذم النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، مما لا يجوز التلفظ به ولا إقراره. وما يقال من أن تمثيل الأنبياء عليهم السلام والصحابة الكرام فيه مصلحة للدعوة إلى الإسلام، وإظهار لمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب غير صحيح. ولو فرض أن فيه مصلحة فإنها لا تعتبر أيضاً، لأنه يعارضها مفسدة أعظم منها، وهي ما سبق ذكره مما قد يكون ذريعة لانتقاص الأنبياء والصحابة والحط من قدرهم. ومن القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن المصلحة المتوهمة لا تعتبر، ومن قواعدها أيضاً: أن المصلحة إذا عارضتها مفسدة مساوية لها لا تعتبر؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فكيف إذا كانت المفسدة أعظم من المصلحة وأرجح، كما هو الشأن في تمثيل الأنبياء والصحابة. ثم إن الدعوة إلى الإسلام وإظهار مكارم الأخلاق تكون بالوسائل المشروعة التي أثبتت نجاحها على مدار تاريخ الأمة الإسلامية. ووسائل الإعلام مدعوة إلى الإسهام في نشر سير الأنبياء والرسل عليهم السلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم دون تمثيل شخصياتهم، وهي مدعوة إلى امتثال التوجيهات الإلهية والنبوية في القيام بالمسؤوليات المتضمنة توعية الجماهير؛ لكي تتمسك بدينها وتحترم سلفها. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين

شيوخ بني أمية "طبعة جديدة"!

شيوخ بني أمية "طبعة جديدة"! عبد العزيز العبد اللطيف 26 محرم 1432هـ سئل عبد الله بن المبارك عن الملوك؟ فقال: الزهاد, قيل: فمن السّفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه, (صفة الصفوة لابن الجوزي 4/ 139)، ولما أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز- رحمه الله - فجاء إليه جماعة من شيوخ بني أمية فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه إذا ولّى الله على الناس إماماً تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عن السيئات. قال ابن تيمية: "كثير من أتباع بني أمية - أو أكثرهم - كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب, وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام, بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء, والله أمرهم بذلك .. " (المنهاج 4/ 541) هذه الطاعة العمياء كانت مضرب المثل, فيقال "طاعة شامية"! بل إن الخصوم قد أدركوا ذلك, حتى قال داعي الدولة العباسية "أما أهل الشام فلا يعرفون إلا طاعة بني مروان" (المنتظم لابن الجوزي 7/ 56). وها هو الحجاج المبير قد استعبدته هذه الطاعة, ثم هو يحاصر عبد الله بن الزبير- رضي الله عنهما - في البلد الحرام, ويصيح قائلاً: يا أهل الشام الله الله في الطاعة! (البداية لابن كثير 8/ 329) , وكان الحجاج - ومعه سيّده عبد الملك بن مروان - يقولان: "ننهى عن ذكر عمر الفاروق - رضي الله عنه - فإنه مرارة للأمراء مفسدة للرعية"! (البداية 9/ 66). ومن خطب الحجاج: "اسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك". (أخرجه أبو داود 4643) واستمر الحجاج على إدمان الطاعة العمياء حتى هلك, فقد جاء في وصيته أنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك عليها يحيى, وعليها يموت, وعليها يبعث!! (البداية 9/ 139) هذه الوثنية السياسية لم يسكت عنها سلف الأمة, فما كان لقمع السطوة الحاكم أن يمنعهم من تبليغ رسالات الله تعالى, فإن الإمام الزهري - رحمه الله - لما سأله الوليد بن عبد الملك عن حديث "إن الله إذا استرعى عبداً الخلافة كتب له الحسنات, ولم يكتب عليه السيئات" , فقال: هذا كذب , ثم تلا قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ص26, فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا. (فتح الباري 13/ 113) وكان الحسن البصري - رحمه الله - يقول: سيأتي أمراء يدعون الناس إلى مخالفة السنة فتطيعهم الرعية خوفاً على دنياهم, فعندها سلبهم الله الإيمان، وأورثهم الفقر ونزع منهم الصبر, ولم يأجرهم عليه. وقال الشعبي: "إذا أطاع الناس سلطانهم فيما يبتدع لهم أخرج الله من قلوبهم الإيمان وأسكنها الرعب". وقال يونس بن عبيد: "إذا خالف السلطان السنة, وقالت الرعية قد أمرنا بطاعته أسكن الله قلوبهم الشك وأورثهم التطاعن" (الإبانة الصغرى لابن بطة صـ55) وإن كان هؤلاء الشيوخ قد أضحوا أثراً بعد عين إلا أن داءهم قد استفحل في السنوات الأخيرة, فهناك نماذج أكثر نفاقاً وتملقاً من شيوخ بني أمية, بل صار العقلاء يترحمون على شيوخ بني أمية لما رأوا أفراخهم وورثتهم, وكان الشعبي يقول: " يأتي على الناس زمان يصلّون (يدعون) للحجاج! " فهذا الصنف مصابٌ بالوله للأمراء والهيام بالحكام! فلا يزال لسانه رطباً بذكرهم, ويستهلّ حديثه بتعظيم إمام الزمان, ويختمه بالتسليم والإذعان للسلطان!

ومن المفارقات أن الروافض قد تململوا وضجروا من وثنية أصل "الإمامة" عندهم, فأحدثوا تبديلاً وتمرّداً على ما أصّلوه كما صنع الخميني في "ولاية الفقيه", وفي المقابل فإن بعض متسننة هذه العصر قد اعتراهم هذا النَفَس الرافضي المتهافت من حيث لا يشعرون, فتراهم يقررون بلسان الحال أو المقال أن الإمامة مقصودة لذاتها, وأن للإمام "المنتهى" أو قريباً من ذلك! وقد قرر المحققون من أهل العلم أن مقصود جميع الولايات أن يكون الدين كله لله عز وجل, وإصلاح دين الناس , فالولاة إنما ن ُ صبوا من أجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو محرر في الأحكام السلطانية للماوردي صـ5, والحسبة والسياسة الشرعية لابن تيمية بمجموع الفتاوى 28/ 61 , 262 والطرق الحكمية لابن القيم صـ217. وقال الطيبي في شرحه لحديث "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" "في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته, وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه" (فتح الباري 13/ 13) ثم إن متسننةً قد خلعوا لقب "الإمام" و"أمير المؤمنين" ونحوهما على حكام يجاهرون بالعلمنة في السّراء والضراء والمنشط والمكره وينابذون الشرع المنزّل بل والمؤول, حتى أفتى بعضهم - في هذه الأيام - بقتل أحد المرشحين في الانتخابات, لأن في ذلك منازعة وافتياتاً على الإمام الأعظم, والذي قد أَذِن بمسرحية الانتخابات وأقرّها! إنها بلاهة صلعاء وتزلف مقيت, وشماتة بأهل السنة والجماعة ولئن كان قمع الحكام واستبدادهم قد خلّف مهانة وخوراً عند قوم, كما أورث تملقاً ومداهنة ع ند آخرين, فلن تخلو الأرض من قائم لله بحجة من الذين يبلغون رسالات الله ولا يخشون أحداً إلا الله, ولئن عجز الكثير عن الصدع بالحق فلا أقل أن يسكتوا عن التلبيس وتزويق الباطل وتلميع الطاغوت. ولئن كان بعضهم يتدثّر بلبوس خوف الفتنة .. فلا يُسوّغ ذلك أن تُضفى الشرعية الإسلامية على أنظمة علمانية صارخة في نظمها وموادها, وإنما جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها, فكما يتعيّن مجانبة التزلف الرخيص والإفك المبين وقلب الحقائق, فكذا تراعى قواعد المصالح والمفاسد, فلا يصلح التهور والمصادمة لهذه الأنظمة دون فقه لتلك القواعد والأصول. والتحذير من التهوّر والطيش لا يبرر تقديس الحكام ومداهنتهم, وإن نقد الأنظمة والحكام ومحاسبتهم لا ينفك عن محاسبة أنفسنا وتقويمها, إذ هما أمران متلازمان, فكما تكونوا يُولّى عليكم, فظهور المعاصي وتنوّع الكوارث والبلايا ملازمٌ لظلم الحكام وبطشهم وكما قال ابن القيم: "قد جعل الله سبحانه أعمال البَرّ والفاجر مقضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لابد منه .. فجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين, وتعديّ القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون أن استُرحِموا, ولا يعطفون إن استُعطِفوا, وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم, فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يُظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها, فتارة بولاة جائرين .. " (زاد المعاد باختصار 4/ 463, 464) والحاصل أنه لابد من مدافعة هذا الفساد العريض لدى الراعي والرعية على وفق ما جاء به الشرع المنزّل كما قال عبد القادر الجيلاني: "نازعت أقدار الحق بالحق للحق". ونقول في الختام كما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وأهلك من كان في هلاكه صلاح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. (أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 469)

مستقبل السودان بعد الانفصال

مستقبل السودان بعد الانفصال مدثر أحمد إسماعيل 22/ محرم 1342هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. بدأت عجلة الأزمة تتسارع، ويقترب توقيت الاستفتاء على فصل جنوب السودان أو بقائه متحداً، والحقيقة المرَّة التي يعلمها كبار الساسة في السودان أنّ عملية الاستفتاء ما هو إلا تحصيل حاصل (¬1). فالجنوب فعلياً منفصلٌ عن حكومة الشمال قبل الاستفتاء وما تملك حكومة الشمال في أرض الجنوب من قطمير لا سياسياً ولا أمنياً ولا عسكرياً ناهيك عن المحافظة على البقية الباقية من تراث المسلمين إن جازت التسمية لما بقي من لون إسلامي أو عروبي بالتراث؟ كما يعلم كبار الساسة وللأسف الشديد أن الوضع في السودان لن يستقر بمجرد انفصال الجنوب، وإنما ستكون هناك بؤر توتر مستمرة بين الشمال والجنوب، وأن تقرير المصير في جنوب السودان لن يكون آخر تقرير مصير في السودان فهناك دارفور التي يتصاعد فيها الآن الحديث عن العمل المسلح لإسقاط النظام، كما يتصاعد تدريجيا الحديث عن تقرير المصير، وليس دارفور وحدها بل هناك أيضا منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق اللتين تقول بعض القيادات الجنوبية أنَّهما سيلحقان عاجلاً أم آجلاً بالجنوب، باعتبارهما جزءاً من نضاله على حد تعبيرهم (¬2). وكم هي الحقائق المرَّة التي يتغافل عنها كبار الساسة ولا يتعاملون حيالها بما يمليه عليهم دينهم إن كانوا بما في دينهم يعلمون أو يعملون!! فهل يا ترى غاب عن علمهم أنَّ عملية الانفصال سوف تواجهها مجموعة معقدة من التحديات؟ (¬3) أهمها على سبيل المثال وليس الحصر: الوجود الإسرائيلي القوي ضمن اللعبة. فإسرائيل عملت منذ فترة ليست بالقصيرة على استمالة زعماء التمرد في الجنوب ودعمهم وتسليحهم وتدريب العصابات التي يتزعمونها, كما عملت جاهدةً على استمالة حركات التمرد والانفصال في دارفور. ¬

(¬1) لا يخفي على كل ذي بصر وبصيرة المكر الكبَّار والمؤامرة الظاهرة التي تقودها أمريكا وإسرائيل لتفتيت العالم الإسلامي بما يسمى الشرق الأوسط الجديد، بدءاً بالعراق - كما قرر الكونجرس الأميركي تقسيمه - إلى مناطق ثلاث، كردية في الشمال، وسُنية في الوسط، وشيعية في الجنوب. وهو ما يجري الآن بالنسبة إلى السودان وتقسيمه إلى شمال عربي إسلامي، وجنوب نصراني، وغرب عرقي وشرق قبلي. والخطر زاحف إلى بعض مناطق الخليج العربي لتقسيمه طائفياً ومذهبياً إلى سُنة وشيعة، والخطر يهدد المغرب العربي كله وتقسيمه إلى عرب وبربر! (¬2) عبد العزيز الحلو عضو في المكتب السياسي للحركة الشعبية، حذر في حوار مع «الشرق الأوسط»، من أن مصير شمال السودان قد يكون مثل يوغسلافيا حال انفصال الجنوب. (صحيفة الشرق الأوسط - الاثنين 11 جمادى الثاني 1431هـ - 24 مايو 2010 - العدد 11500). (¬3) انفصال الجنوب لن يكون في صالح دولة شمال السودان، بل سيكون وبالاً عليها وعلى كل دول الجوار مثل أوغندا وكينيا وإثيوبيا. وقد صرح السياسي البارز في جنوب السودان، لام أكول، للبي بي سي أنه يعتقد أن الاستقلال عن الشمال سيكون بمثابة كارثة بالنسبة للجنوب. وأضاف أكول "في الوقت الراهن .. وفي ظل وجود الأعمال العدائية في الجنوب والنزاعات بين القبائل، والنزاعات حتى ضمن القبيلة الواحدة، فإن أي دعوة للانفصال ستكون دعوة لصوملة جنوب السودان، وفي الجانب المتعلق بدول الجوار. بينما يُعارض رئيس (تشاد) غير العربي، إدريس ديبي، أيَّ انفصال ٍكهذا باعتباره "كارثة"، ليعلن قائلا: "إنني أقولها بصوت مرتفع: أنا ضد هذا الانفصال؛ لأن انفصال الجنوب السوداني سيفتت السودان ويجعله سابقة سلبية في القارة الإفريقية.

يقول آفي ديختر وزير الأمن الصهيوني في محاضرة ألقاها في 4 سبتمبر 2008 في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي: (يتساءل البعض في إسرائيل: لماذا نهتم بالسودان ونعطيه هذا القدر من الأهمية؟ ولماذا التدخل في شئونه الداخلية في الجنوب سابقًا وفي الغرب (دارفور) حالياً طالما أن السودان لا يجاورنا جغرافيا، وطالما أن مشاركته في إسرائيل معدومة أو هامشية وارتباطه بقضية فلسطين حتى نهاية الثمانينات ارتباطا واهيا وهشا؟ وحتى لا نطيل في الإجابة يتعين أن نسجل هنا عدة نقاط محورية تكفي لتقديم إجابات على هذه التساؤلات: * السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه كان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول عربية رئيسة مثل مصر والعراق والسعودية. * لا يجب أن يسمح لهذا البلد رغم بعده عنا أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي لأن موارده إن استمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب. * لا بدَّ أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة رغم أنها تعد بالتعددية الاثنية والطائفية. وراح ديختر يورد المعطيات عن وقائع الدور الإسرائيلي في إشعال الصراع في جنوب السودان انطلاقاً من مرتكزات قد أقيمت في إثيوبيا وفي أوغندا وكينيا وزائير سابقاً، الكونغو الديمقراطية حالياً. وقال: (إن جميع رؤساء الحكومات في إسرائيل من بنجوريون وليفي أشكول وجولدا مائير وإسحاق رابين ومناحم بيجين ثم شامير وشارون وأولمرت تبنوا الخط الاستراتيجي في التعاطي مع السودان الذي يرتكز على تفجير بؤرة أزمات مزمنة ومستعصية في الجنوب وفي أعقاب ذلك في دارفور). * ما أقدمنا عليه من جهود على مدى ثلاثة عقود يجب أن لا يتوقف لأن تلك الجهود تضع نصب أعينها أن السودان ضعيف ومجزأ وهش أفضل من السودان قوي وموحد وفاعل. * من واجبنا الأدبي والأخلاقي أن ندعم تطلعات وطموحات سكان الجنوب ودارفور. حركتنا في دارفور لم تعد قاصرة على الجانب الرسمي وعلى نشاط أجهزة معينة. المجتمع الإسرائيلي بمنظماته المدنية وقواه وحركاته وامتداداتها في الخارج تقوم بواجبها لصالح سكان دارفور. * الموقف الذي أعبر عنه بصفتي وزيراً إزاء ما يدور في دارفور من فظائع وعمليات إبادة ومذابح جماعية هو موقف شخصي وشعبىي ورسمي. * من هنا نحن متواجدين في دارفور لوقف الفظائع وفي ذات الوقت لتأكيد خطنا الإستراتيجي من أن دارفور كجنوب السودان من حقه أن يتمتع بالاستقلال وإدارة شؤونه بنفسه ووضع حد لنظام السيطرة المفروض عنوة من قبل حكومة الخرطوم. * لحسن الطالع أن العالم يتفق معنا من أنه لا بد من التدخل في دارفور سياسياً واجتماعياً وعسكرياً. الدور الأمريكي في دارفور دور مؤثر وفعال ومن الطبيعي أن يسهم أيضا في تفعيل الدور الإسرائيلي ويسانده. * صانعوا القرار في إسرائيل كانوا من أوائل المبادرين إلى وضع خطة للتدخل الإسرائيلي في دارفور 2003 والفضل يعود إلى رئيس الوزراء السابق إرييل شارون، في كلمة ألقاها خلال اجتماع الحكومة في عام 2003 (حان الوقت للتدخل في غرب السودان وبنفس الآلية والوسائل وبنفس أهداف تدخلنا في جنوب السودان). * وعندما سئل ديختر: ما هي نظرته إلى مستقبل السودان على خلفية أزماته المستعصية في الجنوب وفي الغرب والاضطراب السياسي وعدم الاستقرار في الشمال وفي مركز القرار الخرطوم؟ - هذا السؤال طرحه نائب وزير الدفاع السابق جنرال الاحتياط إفرايم سنيه رد ديختر على هذا السؤال: (هناك قوى دولية تتزعمها الولايات المتحدة مصرة على التدخل المكثف في السودان لصالح خيارات تتعلق بضرورة أن يستقل جنوب السودان وكذلك إقليم دارفور على غرار استقلال إقليم كوسوفو).

* السودان في ظل أوضاعه المتردية والصراعات المحتدمة في جنوبه وغربه وحتى في شرقه غير قادر على التأثير بعمق في بيئته العربية والأفريقية؛ لأنه متورط ومشتبك في صراعات ستنتهي إن عاجلاً أو آجلاً بتقسيمه إلى عدة كيانات ودول، مثل يوغوسلافيا التي انقسمت إلى عدة دول: البوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو ومقدونيا وصربيا، ويبقى السؤال عالقا متى؟) (¬1) بعد هذه النقولات الهامة والخطرة يأتي سؤال هام: هل سيعقب الانفصال ازدهار ورخاء كما يتمنَّى ويمنِّي البعض ويكون بين الشمال والجنوب التعايش وحسن الجوار أم سيكون الأمر عكس ذلك؟ والإجابة عليه تكون من خلال التتبع والاستقراء للاتفاقية والمخاض العسير الذي لا زالت تمر به مع استصحاب النقولات السابقة. فالاستقرار والازدهار في السودان الشمالي بعد إعلان الانفصال قد يكون سراباً بقيعة، حسبته الإنقاذ ماءً حتى إذا جاءته لم تجده شيئاً! إنَّ عملية انفصال الجنوب ليست بمثل هذه البساطة التي توحي بها أحاديث البعض، كما أنَّ آثارها لن تتوقف عند جنوب السودان أو شماله بل سوف تشمل وتؤثر على دوائر أكثر اتساعاً بكثير، وستبدأ الحلقة الثانية من مسلسل السودان الجديد (¬2). لذا فإنَّ الواجب المحتم على الغيورين والحادبين أن ينظروا النظر العميق وبأقصى درجةٍ من الوضوح والموضوعية في مآلات هذا الوضع الحرج والخطر في آنٍ واحد، ومن ثمَّ تحديد خطوات عملية لمواجهة هذا المستقبل وإدارة الصراع مع الخصوم بمنهجيةٍ سياسيةٍ إسلاميةٍ شرعية. وقد أحسن الطيب زين العابدين في سرد المآلات والمخاطر والمحاذير الناجمة عن انفصال الجنوب وهذه نبذ ومقتطفات مما كتبه (¬3): التحديات الأمنية: هناك ستة تحديات أمنية متوقعة يُخشى منها على استقرار السودان في الشمال والجنوب إذا ما وقع الانفصال بين الإقليمين: 1 - حرب بين الشمال والجنوب بسبب الاختلاف على ترسيم الحدود في منطقة أبيي أو غيرها من حدود 1956م التي لم تحسم بعد، أو تنفيذ قانون الاستفتاء حول تبعية أبيي أو القبول بنتيجته، أو عدم الاتفاق على حل قضايا ما بعد الانفصال التي نصَّ عليها قانون الاستفتاء: الجنسية، العملة، الخدمة العامة، الوحدات المدمجة، والأمن الوطني والمخابرات، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، الأصول والديون، حقول النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره، العقود والبيئة في حقول النفط، المياه، الملكية، أي مسائل أخرى يتفق عليها الطرفان. اهـ. واحتمالية هذه الحرب كبيرة فقد كشفت تقارير الدوائر الغربية مؤخرا أن سنوات الهدنة الخمس الماضية تم استغلالها بشكل ملفت للانتباه في تسليح الجنوب وتأهيل ما يسمى الجيش الجنوبي والذي لم يدمج حتى الآن في الجيش المركزي للدولة حيث وصل الأمر إلى إنشاء قوات جوية وبحرية وبرية وقواعد عسكرية بلغت تكاليفها بحدود 2,5 مليار بدعوى تحديث قوات الجنوب, ناهيك عن مساعدة دول الجوار الأفريقي في الدعم العسكري للمتمردين مثل إثيوبيا وأوغندا وغيرها من خلال سفن الأسلحة المحملة للمتردين في جنوب السودان والتي تم اختطافها قبالة السواحل الصومالية. ¬

(¬1) انظر الموقع الإلكتروني لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية / مقال السودان في عيون صهيونية /إعداد محمد سيف الدولة - 17/ 5/2009م (¬2) السودان الجديد باختصار يعني تفكيك النموذج الإسلامي العربي، وإعادة تشكيل السودان وفق (أفريقانية الهوية وعلمانية الدولة). (¬3) تداعيات انفصال جنوب السودان مقال منشور في موقع الجزيرة نت.

كما أن تقاسم أموال النفط حسب اتفاقية نيفاشا بين الشمال والجنوب أتاح لحكومة جنوب السودان مبلغاً شهرياً يتراوح بين 160 - 240 مليون دولار من نصيبها في بيع النفط السوداني وهذا كله ينفق على الاستعدادات العسكرية والتسليح ولا ينفق منه شيْ على التنمية أو تحديث البنية التحتية بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تقدم دعماً تبلغ قيمته مليار دولار سنوياً للحركة الانفصالية بحجة صرفها على إنشاء البنية التحتية كمساعدة إنسانية. ويرى الطيب زين العابدين أنَّ قرار هيئة التحكيم الدولية في لاهاي ليس مرضياً عنه من كلا المجموعتين الأساسيتين في المنطقة: دينكا نقوك، والمسيرية؛ فالمجموعة الأولى تظن أن حقول البترول في هجليج قد أُخذت منها بغير حق، والثانية تعتبر أن الحدود الشمالية التي ضُمَّت إلى أبيي قد توغلت كثيراً في مناطقهم وحرمتهم من الأراضي ذات المياه الوفيرة التي يعتمدون عليها في سقي بهائمهم وقطعانهم زمن الخريف. وفي ذات الوقت فإن إضافة المنطقة الشمالية لا يخلو من مشكلة بالنسبة للدينكا؛ لأنه يعطي المسيرية الذين يعيشون في تلك المواقع حسب تفسير الحكومة حق التصويت في الاستفتاء حول تبعية المنطقة لبحر الغزال أو إلى جنوب كردفان، فهم يخشون من تصويت المسيرية لصالح الانضمام إلى كردفان. ولكن الحركة الشعبية لا تقر بهذا الحق للمسيرية على أساس أنهم رُحَّل ولا يقيمون في المنطقة بصورة دائمة فلا ينطبق عليهم ما نصت عليه اتفاقية السلام الشامل. تحديد من سيصوت في الاستفتاء بجانب "أعضاء مجتمع دينكا نقوك" ما زال عالقاً، وأحيل البت فيه إلى مفوضية الاستفتاء التي ستحدد معايير الإقامة التي تؤهل صاحبها لحق التصويت في الاستفتاء. وقد يبدأ تمردٌ مسلحٌ جديد في كلٍّ من جنوب كردفان والنيل الأزرق بسبب عدم الرضى عن تنفيذ الاتفاقية التي تخصهما وستقوده عناصر الحركة الشعبية التي جاءت إلى السلطة في الولايتين بقوة السلاح، وربما تدعم الحركة مثل هذا التمرد خاصة إذا كان الانفصال متوتراً ومضطرباً بين طرفي الاتفاقية. 2 - أن تسري عدوى الانفصال من الجنوب إلى حركات التمرد في دارفور إذا لم تُحل المشكلة قبل الاستفتاء، وإذا لم تشارك الحركات المسلحة وأهل دارفور بصورة كاملة في انتخابات أبريل/نيسان 2010م. 3 - وربما يندلع عنفٌ قبلي في الجنوب أكثر مما هو واقع حالياً، وستتهم الحركة الشعبية كما فعلت في الماضي، المؤتمر الوطني بدعم ذلك العنف ومن ثمَّ تجد العذر لدعم أي تمردٍ يقع في الشمال خاصة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. 4 - ومن المرجَّح أن يزداد الانفلات الأمني والنهب المسلح في مناطق التوتر (دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق) بسبب الاضطراب السياسي وانتشار السلاح والفقر وازدياد العطالة، خاصةً في أوساط الشباب والخريجين. 5 - وفي حالة الاضطراب السياسي والانفلات الأمني سيكون السودان أكثر عرضةً للتدخلات الخارجية من دول الجوار (تشاد، ارتريا، ليبيا) وربما من قبل القوات الدولية في السودان التي ستكلَّف بحماية المدنيين ولو ضد القوات المسلحة السودانية. التحديات السياسية: من المؤكد أن انفصال الجنوب سيؤدي إلى تداعياتٍ سياسيةٍ في الشمال، خاصةً إذا ما كان انفصالاً متوتراً صحبته عمليات عسكرية أو انفلات أمني، وأهم تلك التداعيات المحتملة هي:

1 - زيادة وتيرة الاضطرابات السياسية في أقاليم السودان الشمالية مطالبةً بالمزيد من الحكم اللامركزي ومن اقتسام الثروة مع المركز واحتجاجاً على معالجة الحكومة لبعض القضايا، مثل تنفيذ اتفاقية الشرق أو توطين المتأثرين بسد مروي أو إنشاء خزان كجبار أو غيرها، وربما تشتط بعض الجماعات لتطالب بتقرير المصير أو الانفصال كليةً عن السودان مثل ما فعل الجنوب. ولعل مناطق التوتر الأولى في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وربما شرق السودان تأتي في مقدمة من قد يرفع مثل تلك المطالب من خلال آلية المشورة الشعبية التي قد تُستغل سياسياً ضد الحكومة المركزية؛ كما أن ضعف الموقف الاقتصادي للبلاد المتوقع بعد خروج عائدات بترول الجنوب من موازنة الدولة، وتأثر تلك المناطق بالوضع الاقتصادي الجديد سيشجع على مثل تلك الاضطرابات. 2 - سيزداد الاستقطاب السياسي بين الحكومة والمعارضة، وستحمِّل المعارضة الشمالية حزب المؤتمر الوطني الحاكم مسئولية انفصال الجنوب واشتعال الاضطرابات في مناطق أخرى، ومن ثمَّ فإنه غير جديرٍ بالاستمرار في الحكم حتى ولو فاز في الانتخابات القادمة لأن استمراره يعني المزيد من التفكيك والانشقاقات، وربما تستغل المعارضة الاضطرابات السياسية لمحاولة تغيير السلطة في الخرطوم خاصةً إذا ما بقيت خارج الحكم عن طريق انتفاضة شعبية ظلت ترددها لسنوات عديدة. 3 - ازدياد الضغوط الدولية على السودان في مجالات التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، ورعاية حقوق الإنسان، وتحقيق بنود اتفاقيات السلام، وغيرها، وذلك بقصد الضغط على الحكومة حتى تستجيب لمطالب أهل دارفور وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق أو يتغير النظام. التحديات الاقتصادية: لعل أهم هذه التحديات هي: 1 - خروج نصيب حكومة السودان من عائدات بترول الجنوب والتي تساوي حالياً حوالي 80% من كل عائدات البترول (تبلغ عائدات البترول بصورة عامة حوالي 60% من موازنة الدولة الاتحادية، وأن الانفصال يعني خروج أكثر من نصف هذه النسبة من الموازنة العامة بعد 2011م)، وهذا نقصٌ كبير سيتسبب في كثيرٍ من المشاكل الاقتصادية لشمال السودان. 2 - إذا وقعت عقب الانفصال نزاعات عسكرية، أو انفلاتات أمنية، واضطرابات سياسية، فإن الوضع الاقتصادي سيكون في حالةٍ متردية، وفي تلك الحالة سيتوقف ضخ الأموال من أجل الاستثمار في البلاد. 3 - لن تستطيع الحكومة مقابلة تعهداتها الداخلية في اتفاقيات السلام تجاه تعمير وتأهيل وتنمية مناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، وسيجر عليها ذلك بعض المشكلات والاحتقانات السياسية أو النزاعات المكشوفة، وقد لا تتمكن الدولة من الوفاء بمستحقاتها تجاه الديون الخارجية مما يشكل عليها بعض الضغوط. 4 - إزاء مثل هذه الأوضاع المتقلبة قد تضطر الدولة لزيادة الضرائب والرسوم الجمركية دون أن تزيد الأجور بنفس النسبة، وهذا يعني زيادة العبء المعيشي على الطبقات المتوسطة والضعيفة التي ظلت تعاني لسنواتٍ من الضائقة المعيشية، ولم تتحسن أحوالها حتى بعد تدفق عائدات البترول، وسيصب ذلك في اتجاه زيادة الاضطرابات السياسية. العلمانيون بعد الانفصال: هنالك مثلٌ سودانيٌّ شائعٌ يقول (إذا وقع الثور كثرت سكاكينه). فالعلمانيون ترتفع أصواتهم لوضع الترتيبات لاستمرار العمل السياسي في الشمال بعد انفصال الجنوب لتطبيق رؤية السودان الجديد. فإسقاط حكومة البشير, إلغاء الشريعة الإسلامية، بسط الحريات العامة الانفتاح على الغرب، كبت الإسلاميين وكتم أنفاسهم.

هذه بعض أهدافهم التي يؤمِّلونها ويجتهدون في تحقيقها، فالأحزاب العلمانية في السودان بمختلف لافتاتهم السياسية يسعون للهيمنة على المجتمع، وجره إلى التعاسة والشقاء، ومحاولة مسخ دين هذا البلد وعقائده وأخلاقه، بل وحتى عاداته الاجتماعية، تحت شعار السودان الجديد، وبقيادة الحركة الشعبية. وقد بدأت خطواتهم في تحقيق ذلك وقطعوا أشواطا، فمن ضمن خطواتهم: 1) استغلال التباينات العرقية أو الدينية - وتوظيفها لزعزعة أمن البلاد: ومن أكبر الدلائل على هذا: (تصريح قيادات الحركة الشعبية في جبال النوبة والنيل الأزرق، وهم يعلنون في مؤتمر صحفي بقاء الحركة الشعبية بالشمال لتغيير الخرطوم ويرون أنَّ انتهاء بنود الاتفاقية لا يعني عدم وجود صراع بين المركز والهامش، لوجود التهميش بدارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق .... وأن التعدد موجود وقال بعضهم (لن يستطيع أحد إلغاء التعدد في السودان) (¬1)، وأن مشروع السودان الجديد وُجد ليبقى في الشمال في حالتي الوحدة أو الانفصال. وهددوا وتوعدوا بأنَّ عدم الالتزام بذلك سيؤدي لوجود نفس عوامل انفصال الجنوب في مناطق بالشمال من بينها جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق والشرق .... ) (¬2) 2) تحطيم الشعائر الدينية والمظاهر الإسلامية، واستبدال قيم الإسلام وأخلاقياته بقيم غربية: فيتعرضون لأحكام الشريعة الإسلامية نقداً، ويتعرضون للعلماء طعناً في مناهجهم وتنقصاً لجهودهم أو حطاً لقدرهم، وتكون عندهم جراءة على الشرع، في وسائلهم وخطبهم وأحاديثهم وكلماتهم. 3) تحريك الوضع الاجتماعي: من خلال اللعب بورقة المرأة، بوصف المرأة مؤثراً قوياً في هز المجتمع. وخير شاهد على هذا ضجيجهم الذي ملؤا به سمع العالم وبصره في قصة فتاة الفيديو المجلودة، ومن قبلُ الصحفية التي استجارت ببطاقة الأمم المتحدة. 4) استغلال الأحداث والأزمات: خاصة الأزمات السياسية، والاقتصادية، والتحرك في أوساط القوى المعارضة والمعادية، تمهيداً للهيمنة الكاملة التي يتمنون حصولها فيما بعد لهم، ولا أدل على ذلك من استغلالهم أزمة انفصال جنوب السودان وما بعد الاستفتاء؛ ليفرضوا علمانية الدولة ويطالبوا بدستورٍ علمانيٍّ ملحد، تشهد عليهم تصريحاتهم في الصحف ووسائل الإعلام وفي سبيل ذلك يكونون الجمعيات، وينظمون المسيرات، ويصدرون النشرات، ويعقدون المؤتمرات، ويتحالفون مع الأعداء الخارجيين، كاليهود والنصارى وهذا كله معروفٌ مشهود. ففي آخر تصريحٍ لقيادات الحركة الشعبية في الشمال، شددوا على أنهم سيواصلون نشاطهم في الشمال بمشروع السودان الجديد حتى في حالة انفصال الجنوب، وشددوا على أن «التعدد سيكون أساس الدولة الجديدة في الشمال»، ودعوا الحركات المسلحة للعمل من أجل التغيير من الداخل. وقالوا إنَّ (الانفصال لا يعني نهاية الاتفاقية وأنَّ كافة الأحزاب سترتب أوضاعها في حالة الانفصال باعتبار أن هناك خارطة سياسية جديدة.) (¬3) وقد ردت الحركة الشعبية على إعلان الرئيس عمر البشير بأنَّ الشمال سيكون دولة إسلامية وعربية، حيث قال نائب رئيس الحركة الشعبية (إن مستقبل الحركة في الشمال يماثل مستقبل أي حزب آخر) (¬4) 5) العمل على نشر الانحلال والفساد وإشاعة الفواحش والشهوات. السودان والشيعة الرافضة: ¬

(¬1) تصريح عبد العزيز الحلو. (¬2) الجزيرة نت, سودانيز أون لاين, الصحف السودانية يوم الجمعة 24/ 12/2010م. (¬3) الجزيرة نت, سودانيز أون لاين, الصحف السودانية يوم الجمعة 24/ 12/2010م. (¬4) المصدر السابق.

إنَّ من التحديات التي تواجهنا في السودان بعد انفصال الجنوب، تمدد الشيعة الرافضة، والتي تغذيها وتدعمها دولة إيران والتي استغلت التعاطف السوداني الرسمي مع الثورة الإيرانية، ومساندة إيران لحكومة الإنقاذ السودانية، وتعمق العلاقات بين البلدين كان له دورٌ كبير في انتشار المذهب الشيعي في السودان، وساعد عليه وجود تعاطف سوداني طبيعي بحكم انتشار التصوف في السودان المعروف عنه الحب الشديد لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وتزايد هذا النفوذ الشيعي مؤخراً نتيجة التعاطف الشعبي السوداني مع "حزب الله" الشيعي إبان العدوان "الإسرائيلي" الأخير على لبنان صيف 2007، مما رفع أسهم حسن نصر الله زعيم "حزب الله" دون النظر أيضاً إلى عقيدته ومذهبه ورأيه في أهل السنة والجماعة. ويؤكد خبراء سودانيون أن الشيعة دخلوا للسودان عبر العلاقات السياسية بين الحكومة وإيران، إضافةً لانتشار التصوف الذي يعلي من شأن آل البيت وحب آل النبي صلى عليه وسلم، والذي يستغله الشيعة في نشر أفكارهم، وأن بعض الصحفيين والكتاب السودانيين العلمانيين والليبراليين استغلوا القضية لتأييد الشيعة بدعوى "حرية الرأي" ومحاربة ما يسمونه "الهوس الديني والإرهاب والظلاميين"، وأنهم يوظفون ذلك في حربهم ضد الإسلام السياسي والسلفي بغطاء حرية الرأي للشيعة. وبشكلٍ عام، التواجد الشيعي في السودان، بدأ في الظهور عبر زوايا وحسينياتٍ معروفة، ولديهم مراكز تعليمية ومنظمات للمرأة، ولديهم انتشار في المناطق المشهورة بالتصوف، وكان أبرز نشاطٍ للشيعة في السودان ظهورهم علناً للمرة الأولى في تجمعاتٍ ضمت مئات الأشخاص في ضاحية جنوب العاصمة الخرطوم، واحتفلوا بذكرى مولد الإمام المهدي، أحد أبرز الأئمة الشيعة. وقال مشاركون في الاحتفال لجريدة "الشرق الأوسط" اللندنية إن الاحتفال الذي أقيم يوم الجمعة حضره المئات من معتنقي المذهب الشيعي في السودان، جاءوا من مختلف أنحاء البلاد. وشارك في الاحتفال الذي أقيم في استراحةٍ في ضاحية جبل أولياء، نحو 40 كيلومترا جنوب العاصمة الخرطوم، ممثلون للشيعة من مختلف المواقع في السودان، خصوصا من كردفان، والنيل الأبيض وأم ضوبان، وسط، ونهر النيل، شمال. ومن بين المشاركين طلابٌ في الجامعات والمراحل الثانوية، وأساتذة جامعات، وسياسيون، وصحافيون، وطلاب يدرسون في الحوزات الدينية في مدينة قم بإيران. وتقول تقارير غير مؤكدة (إن للشيعة في السودان نحو 15 حسينية، أغلب هذا العدد في العاصمة الخرطوم، وأشهرها حسينية في الخرطوم شرق قلب العاصمة، ينظم فيها منتدى دوري يتناول الأمور الخاصة بالمذهب الشيعي، فيما تشير التقارير إلى أن عملها أقرب إلى السرية، "ليس تخوفا من السلطات السودانية، حيث تغمض عينيها حيال نشاطها، ولكن تخوفاً من الجماعات السلفية") (¬1). وحسب التقارير فإن هذه الحسينيات تلحق بها مكتبات مقروءة وصوتية، وعبرها يتم الحصول على بعثات دراسية في إيران. الواجب المحتم على كل مسلم: 1) ضرورة الكشف عن العلمانيين: ¬

(¬1) موقع شبكة الإعلام العربية. moheet.com.

إن الله كشف المنافقين، وأنزل سوراً عديدةً، منها التوبة، حتى كانت تسمى "المقشقشة" ما تركت أحداً إلا ذكرته منهم، حتى بينتهم وفضحتهم، وكانت تسمى "الفاضحة" أيضاً، فنريد من أهل الإسلام - علماء الإسلام وطلبة العلم والدعاة - أن يترسموا ويستلهموا منهج هذه السورة في فضح العلمانيين، وكشفهم، وبيان عوراتهم، خاصةً وأن كثيراً من العامة ينخدعون بهم، وهذه مصيبة، أن تسير الأمة خلف ركابهم مخدوعة؛ لأنهم يستخدمون ألفاظاً إسلامية، وقد يستشهد أحدهم بآيةٍ أو حديث، أو كتابٍ لأهل العلم، وقد ينقل قاعدةً فقهية، وقد يتكلم، وقد يصلي أحياناً، وهذا الفضح لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يكون من خلال التشويش والتهويش والغضب والانفعال والصراخ أبداً، يجب أن يكون من خلال الوثائق والحقائق والمعلومات الدامغة التي تجعل حتى عدوك لا يملك إلا أن يوافقك على ما تقول. 2/ على أمّة السودان حكاماً ومحكومين أن ينتبهوا لهذه الأخطار المحيطة بهم في الداخل والخارج والتي تهددهم في دنياهم آخرتهم. 3/ نداء نوجهه إلى كل صفوف العمل الإسلامي أن يؤجلوا خلافاتهم في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بالعباد والبلاد وليفرغوا طاقاتهم ويركزوا جهودهم لمواجهة هذه التحديات. والوقوف أمام المخطط الأميركي الصهيوني لتفتيت بلاد المسلمين، بدايةً بالعراق -وكما قرر الكونجرس الأميركي بجلسته أخيراً - إلى مناطق ثلاث، كردية في الشمال، وسُنية في الوسط، وشيعية في الجنوب. وهو ما يجري الآن بالنسبة إلى السودان وتقسيمه إلى شمالٍ عربيٍّ إسلامي، وجنوبٍ زنجيٍّ مسيحي، وغربٍ عرقيٍّ وشرق قبليٍّ. والخطر مازال قائماً على بعض مناطق الخليج العربي وتقسيمه طائفياً ومذهبياً إلى سُنةٍ وشيعة، أو عرقياً، والأمم المتحدة بالمرصاد تتلقى توجيهات الدول الكبرى باسم حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، والخطر يهدد المغرب العربي كله وتقسيمه إلى عرب وبربر. البدار البدار بالتوبة النصوح: يقول سيدنا علي رضي الله عنه (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة). وقال الحسن البصري (بلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر). لقد صدق فينا قول رب العزة (ومن أعرض عن ذكري، فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى). وصدق رسول الله صلى الله عليه في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والحاكم عن ابن عمر مرفوعا: (كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم شديداً). فنحن أمةٌ خفرنا العهد مع الله فسلط علينا عدونا من كل جهة، وتداعت علينا الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها. لقد ذقنا مرارة بعدنا عن كتاب الله، وتجرعنا آلام تنكبنا لطريق الله، وحصدنا ما زرعنا من التساهل والتلاعب بدين الله. لقد آن لنا أن نرجع إلى الله، ونفر إليه فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه. وحال البلاد والعباد ليس لها من دون الله كاشفة. عليكم عباد الله أن تتوبوا إلى ربكم توبةً نصوحاً، وأن تحولوا مما يكره ربكم إلى ما يحب، لعل الله أن يتحول لكم مما تكرهون إلى ما تحبون، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة التحريم آية: 8]. وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [سورة هود آية: 3]. أسأل الله تعالى وأتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يجعل في قلوب المؤمنين الحماس والرغبة الصادقة في العمل الجاد لما يرضيه، وفي الجهاد الصادق في سبيله، وفي قول كلمة الحق، وفي الدعوة إلى الله تعالى، وفي جمع الكلمة، وفي بذل النصيحة، وفي محاولة رد كيد الكائدين، سواء كانوا من العدو الداخلي المستتر، أم من العدو الخارجي المعلن، وأسأله تعالى أن يكلل العاملين بالنجاح، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاص؛ إنه على كل شيء قدير.

حلقات التحفيظ .. توقف وعودة

حلقات التحفيظ .. توقف وعودة أحمد بن عبد العزيز الحمدان 22 محرم 1431هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد. فإن من أعظم ما يجب صرف الهمم إليه في تربية الأبناء: تعليمهم كتاب الله تعالى، الذي جعل الله نجاة الأمة وعزتها ورفعتها منوطة بتعلمه وتعليمه والاعتصام به، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} *الزخرف: 44* أي: إن القرآن العظيم لفخر لك وللمؤمنين به ومنقبة جليلة لكم، ونعمة لا يقدر قدرها إلاّ العاملون العاقلون، وهو ذكر لكم يذكركم بخيري الدنيا والآخرة، وسوف تسألون عنه، هل أديتم حقه حتى انتفعتم وارتفعتم به، أم جعلتموه وراء ظهوركم كما صنعت الأمم السابقة بكتبها؟ فـ ((القرآن حجة لك أو عليك)) وأمة الإسلام إنما أعزها الله تعالى بكتابه، فمتى تأخرت عنه مقتها الله وأخرها، ومتى اعتصمت به وفقها وقدمها، قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين))، فلا عزة ولا رفعة لنا إلاّ باعتصامنا بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فنحن أمة أعزها الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقد دلّ القرآن على أن الناس فيهم كريم يرفعه الله بالقرآن، ولئيم يهينه الله بهجره القرآن. ولقد جرب أبناء المسلمين بعد أن استخربت ديارهم مناهج عدة، فما جنوا من شوكها إلا الحنظل، وآن لهم أن يوقنوا أنهم لن ينهضوا من كبوتها، ولن تصلح أحوالهم، ولن ينالوا عزتهم، ولن ينالوا موعود ربهم بالخيرية إلا باعتصامهم بالقرآن العظيم؛ إيماناً وتعلماً وتعليماً وعملاً وصبراً. ومن عظيم النماذج التي ضربها سلفنا الصالح في التضحية في باب تعليم القرآن الكريم: التابعي أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله، الذي جلس للناس يعلمهم القرآن من خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه إلى زمن الحجاج بن يوسف، وكان بين تولي الأول وهلاك الآخر اثنتان وسبعون سنة، وكان إذا سئل عما أجلسه للناس مجلسه هذا معلماً؟ قال: سمعت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)). وكان أبو عبد الرحمن يقول: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. قال السيوطي رحمه الله: تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشأون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها. وقال ابن خلدون رحمه الله: تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، بسبب آيات القرآن، ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي بني عليه ما يحصل بعد من الملكات. ومن الأمثلة المشرفة الواقعة الآن أنه نشرت الصحف المحلية في 10/ 1/1432هـ إعلان مدير (المركز الوطني للقياس والتقويم) الأمير الدكتور فيصل المشاري نتائج اختبارات القدرات التي أجراها المركز لطلاب المرحلة الثانوية على مستوى المملكة فحصدت (مدارس تحفيظ القرآن الكريم الحكومية والأهلية للبنين والبنات) التي تعد قطرة في بحر آلاف المدارس المراكز الأولى في التخصصات النظرية لثلاث سنوات متتالية.

وقد ظهر عند كل أمة، أن الأمة تفكر بلغتها، وأعظم تأسيس للعقل المفكر: أن يكون مدركاً لما يقرأ، ومعلوم أنه كلما كان الإنسان متمكناً من حفظ وإتقان كتاب الله كلما كان محباً للقراءة، متمكناً من فهم وإدراك ما يقرأ، الكل بالكل والحصة بالحصة؛ لذلك كان الغالب على هذه الفئة أنها أينما توجهت في التخصصات المختلفة تبذ غيرها إدراكاً وإبداعاً. وإن الأمة في عمومها يوم أن جعلت مناهلها غير هذا المنهل العذب الصافي، والمصدر اللجَب الكافي، ورضيت المناهل التي كدرها وطء الرعاء، ونزح الدلاء، وجدناها كلما أرادت أن تخطوا إلى الأمام خطوة من خطوات رجعت إلى الوراء خطوات في خطوة: ((إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)). وإن بني يعرب لما ترك جمهورهم تعليم أبنائهم مصدر عزتهم وقوتهم ورفعتهم، متوهمين أنهم بذلك يخطون خطوة نحو عالم الغرب الأول، وجدناهم من تدهور إلى تدهور أشدّ منه. وإنّ الحدث الذي مرّ بنا منذ السابع عشر من شهر شوال من العام 1431هـ وانتهى - بإذن الله تعالى- بعد مرور خمسة وثمانين يوماً عجافاً، توقفت فيها حلقات تحفيظ القرآن الكريم في منطقة مكة المكرمة، وانصرف ستة آلاف معلم للقرآن، و185 ألف طالب ينتظرون ويترقبون عودة الحلقات إلى أن يسر الله تعالى عودتها. إنّ هذا الحدث يحمل في طياته منحاً في محن، وعبراً بيّنات تجود بها تأملات، أحببت أن أضع بعضها بين يدي القارئ الكريم، علّها تكون سبباً في انقداح غيرها من العبر في عقول المتأملين، ونفتح الباب لتلقي دروسنا من هذه الحادثة، ونسعى لنستفيد منها في مستقبل أيّامنا، ولا يغرّ بطيب العيش إنسان، وإلاّ فإنّنا سنظل نتلقى الصفعات تلو الركلات، ونحن لم نستطع أن نضع وسيلة لتلافيها، وسنظل نرى من ينام بين كل ركلة وركلة، وبين كلّ صفعة وأختها. وأولى هذه العبر: أنّ كتاب الله تعالى محفوظ بحفظ الله، {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} *الحجر: 9*، فهذا وعد متحقق جزماً ويقيناً، والله لا يخلف الميعاد، ومن رحمة الله بنا أنّه لم يكل حفظ كتابه إلينا، وكتاب الله ليس بحاجة إلى دفاعنا عنه، بل نحن بحاجة إلى تمسكنا به؛ لذلك نحن لا نخاف على كتاب الله تعالى، وإنّما نخاف من ذنوبنا أن تكون سبباً في حرماننا منه، وفصلنا عنه. ثانيها: ضعف دعمنا الشعبي للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم كان من أسباب وقوف هذه الجمعيات عاجزة عن جعل عمل معلميها وظيفة رسمية، يتقاضى عليها المعلم راتباً يعيش به حياة كريمة، ويترقى من مرتبة إلى مرتبة، ويكون كغيره من الموظفين الذين يجدون مرتباً بعد تقاعدهم يستطيع كلّ منهم أن يعيش به عيشة كريمة، وينال الحقوق التي كفلتها الدولة للموظفين والعمال حين ينطبق عليه نظامهم، لا أن يكون كريشة في مهب ريح. ثالثها: ظهر أنّنا لا نملك خطة بديلة في حال الطوارئ، فما إن أقفلت الحلقات حتى وجدنا الناس بين صمت مخيّم على أجوائهم، وصدمة ملأت نفوسهم، وتحيّر شوّش تفكيرهم، وبدأت عمليات الإسقاط تتوالى، كلٌّ يريد تبرئة نفسه، ورمي لوم التقاعس على غيره، وتناسى أنّه مطالب بالعمل كما أنّ غيره مطالب بالعمل، وإن كانت درجات المطالبة تتفاوت، ونوع العمل يختلف، إلاّ أنّه على كلّ حال مطالب بالعمل من أجل كتاب الله عزّ وجلّ، وتقصير المقصّر ليس عذراً لمقصّر آخر، ولا حجّة يتذرع بها؛ لينجو من المسؤولية الملقاة على عاتقه، وما كان كلّ ذلك ليقع لولا أنّنا مقصّرون في وضع خطط للطوارئ.

وأتذكر أنّه في زمن سيطرة الاتحاد السوفيتي على بلدان المسلمين في وسط آسيا (الجمهوريات الإسلامية)، كانت تأتينا أنباء من بعض من كان يزور تلك الديار ذات الجدار الحديدي، أنّ المساجد عُطّلت، وأصبحت قراءة القرآن وكتب الدين تعد جريمة يعاقب عليها القانون الشيوعي، وأنّ النّاس أبعدوا عن دينهم، ومنعوا من كتاب ربهم قسراً، ومع ذلك كانوا يدخلون الأقبية يتعلمون فيها القرآن، وكنت أسمعه كضرب من الأساطير. وفي حجّ عام 1416هـ كنت والشيخ طلال بن أحمد العقيل، والدكتور رضوان بن حسن الرضوان مع سماحة شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، في زيارته المعتادة التي كان يقوم بها كل عام قبل وبعد الحجّ؛ ليلتقي حجاج الخارج في المطار، وزرنا حجاج دولة من الدول الإسلامية التي خرجت للتو من نير السيطرة السوفيتية، وكانوا قد نزلوا من طائرتهم، ينتظرون إنهاء إجراءات جوازاتهم، وكان جمهورهم من كبار السن الذين شابت لحاهم، فطلب الشيخ مترجماً، فوجدنا أحد المطوفين الذين يتكلمون لغتهم لكنه لا يجيدها، وبدأ الشيخ حديثه معهم في بيان توحيد الربوبية الذي ولج منه إلى تقرير الألوهية، ولم يرعنا إلا صوت شاب يركض من بعيد، وينادي بصوته: أنا أترجم .. أنا أترجم، فأعطاه مكبر الصوت، وبدأ يترجم ويتكلم بطلاقة، ورأينا المستمعين يبدو عليهم التأثر أكثر، وبعد أن فرغ الشيخ، أقبل على الشيخ يسأل: من الشيخ؟ فرد الشيخ مبتسماً: محمد بن عثيمين. وإذا بالشاب ينظر إلى الشيخ باندهاش، ويقول بصوت عال: الشيخ محمد؟! قال: نعم. قال: ابن صالح؟! قال: نعم. قال: ابن عثيمين؟! قال الشيخ: نعم. وإذا بالشاب يضم الشيخ ويقبل رأسه ويبكي، ثم قال للشيخ: يا شيخ، أتأذن لي أن أبلغهم، من أنت؟ قال الشيخ: نعم. وكان الشيخ ونحن معه في دهشة من أمره، فأخذ الشاب مكبر الصوت وحدثهم بكلام لم نفهم منه إلاّ اسم الشيخ، ولقد كان منظراً مؤثراً تأثرنا به جميعاً، حين رأينا الشاب يخبرهم وهو فرح متأثر، وما إن ختم كلامه حتى رأينا أصوات بكاء الحجاج، واللحي قد خضبت بالدموع، وقاموا يصطفون أمام الشيخ، وهذا زاد من دهشتنا، فالتفت الشاب إلى الشيخ، وقال: يا شيخ، هؤلاء كلهم طلابك، لقد كانوا يقرؤون القرآن، ويتفقهون على كتبك وبرامجك الإذاعية في الأقبية تحت الأرض، يا شيخ كلهم يعرفونك، ولكنهم لم يروك، وقد بكوا فرحاً برؤياك، وهم يستأذنونك في السلام عليك، ثم سلموا على الشيخ، وانصرفنا. لقد تمكن هؤلاء الناس في الأقبية تحت نير الحكم الشيوعي أن يواصلوا حفظ كتاب الله، ويتفقهوا بما يمكنهم الوصول إليه من كتب العلماء، ولم يقولوا: لم لم يفعل فلان كذا؟ ولم لم يقل فلان كذا؟ بل عملوا هذه الخطة التي دامت أكثر من سبعين سنة، فحفظ الله تعالى لهم دينهم بها، فما بالنا نحن تعطل فينا كلّ شيء بأدنى هزة؟! رابع هذه العبر: رأينا سنّة الله تعالى في الشامتين من بعض المتلبرلين، الذين طبلوا وزمروا فرحاً بالخبر، حتى أنّ أحدهم كتب في موقع من مواقعهم: هذه خطوة جريئة إلى الأمام، قطعت الصلة بمصدر من مصادر الخرافة والرجعية في هذا الزمن. ويا لها من كلمة {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} *مريم: 89 - 90*. وقام بعضهم بكيل التهم ضد إخواننا الذين علّمونا وعلموا كبار مشايخنا القرآن الكريم، فمنهم من اتهمه بالإرهاب، ومنهم من اتهمه بانحراف في العقيدة ... إلخ.

ولا يجد المؤمن أمراً يخفف عنا صدمة بعض كلماتهم إلا يقيننا بأنّ هذه سنّة المجرمين مع الأنبياء والصالحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} *الذاريات: 52، 53*. وعن ربيعة بن عباد رضي الله عنه، قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمر في فجاج ذي المجاز، قبل أن يهاجر، وهو يدعو الناس إلى الإسلام، يتبع الناس، يدعوهم إلى الله في منازلهم، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، إلا إنهم يتبعونه، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا. فلم يزل يرددها مراراً، وخلفه رجل أحول وضيء الوجه، ذو غديرتين، يتبعه، يقول: يا أيها الناس، لا تقبلوا منه، إنه غوي، صابئ، كاذب، لا يفتنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم. ويرمي عقبيه بالحجارة حتى أدمى عقبيه. قلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وهو يذكر النبوة. قلت: ومن هذا الأحول، الذي يمشي خلفه يكذبه؟ قال: هذا عمه أبو لهب. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه، وهو على أثره، ونحن نتبعه، ونحن غلمان). خامس عبرة: أنّ الإغراق في الترفه، وجعله هدفاً لا يحيد المرء عنه، يحول بينه وبين كثير من أعمال الخير والاحتساب، ولقد ظهر ذلك جليّاً في عزوف السعوديين عن الجلوس إلى طلاب التحفيظ، ونيل شرف تعليمهم كتاب الله تعالى، ولقد أخبرني بعض مسؤولي الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم عن عزوف السعوديين عن التشرف بهذه المهنة، وأنّ الجمعية تعطيه راتب المعلم غير السعودي الحافظ المجاز، وهو لا يحفظ إلا ثلث القرآن، وغير مجاز، ومع ذلك يشترط المسجد الذي يريد أن يكون فيه، ويوافقونه على طلبه، ثم لا يلبث - بعد مدة قد لا تطول- أن يتركنا فجأة، ويوقعنا في حرج البحث عمن يسد مكانه، وها هم من بين أكثر من ألف معلم لم يجدوا إلاّ أقل من ثلاثين وافقوا موافقة مبدئية، ولا شكّ أنّ هذا خلل كبير لابدّ من إيجاد حلّ له. سادس عبرة: كثرت الدندنة حول (مخرجات التعليم وسوق العمل)، ومع أنّ هذا سوق عمل كبير جداً، إلا أنا لم نر من أشار إليه أدنى إشارة، بل جلّ ما نقرؤه تحريض ضد أن تهتم الجامعات بهذا النوع من التخصص، وإذا كانت جمعيات منطقة مكة المكرمة فقط تحتاج إلى أكثر من ستة آلاف معلم ومعلمة لتعليم القرآن - غير الحلقات التي لم تجد معلمين إلى الآن - فأين من سودوا صفحات زواياهم بالمنادات للمواءمة بين مخرجات التعليم وسوق العمل؟ لقد أقاموا الدنيا وما أقعدوها من أجل 168 عمل كاشيرة، بحجة أنها تنهي بطالة النساء، فأين هم من 3000 وظيفة معلمة، تنهي -حسب رأيهم - بطالة آلاف النساء. سابعها: الكلمة أمانة، وقد رأينا جميعاً كثيراً ممن خاض في هذه المسألة بدون علم، أو بهوى، وتكلم بكلام، أسأل الله أن يوفقه للتوبة منه، فيه من المجازفات شيء كثير، ولو أنّه تذكر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} *ق: 18*، وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُون} *الصافات: 24*، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)). وهذا يجعلنا نتنبه إلى أنّ ليس كل ما يقال يمكن تصديقه، فكم من بريء اتهموه، وكم من متهم برؤوه، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} *النساء: 112*.

ثامنها: سلاح المؤمن: دعاؤه ربّه أن يسهل له أمره، وتملقه وإلحاحه عليه، ورفعه خاضعاً يديه، هو من أعظم ما يدخره العبد للملمات، هذا السلاح الذي يستحي الله جلّ جلاله أن يرد يدي صاحبه صفراً، كذلك يغضب ممن يلقيه جانباً ويجعله آخر اهتماماته، ولقد رأينا أننا لم نعط هذا السلاح حقّه في هذه الفترة التي توقفت فيها الحلقات، وغفل بعضنا عن قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} *غافر: 60*، وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} *النمل:62*. قال الماوردي رحمه الله: وإنما خص إجابة المضطر لأمرين: أحدهما: لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع. الثاني: لأن إجابته أعم وأعظم؛ لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى. وإني لأدعو الله والأمرُ ضيق ... عليّ فما ينفك أن يتفرجا وربّ أخ سُدت عليه وجوهه ... أصاب لها لما دعا الله مخرجا مع أنّ كثيراً منّا رأى نماذج تثلج الصدر في التواصي بالدعاء، وتحري مواطن الإجابة، حتى في خارج بلادنا، فقد أخبر إمام مسجد معروف، قال: اتصل بي رجل تركي كان يعمل في جدة، وسألني: يا شيخ ماذا حصل عندكم، فقد سمعت إمام مسجدنا في تركيا يقنت لعودة الحلقات في مكة المكرمة؟! تاسعها: ما تزال مجالس بعضنا لا تتجاوز البكاء عند وقوع ما لا نرضاه، ولا تنطلق إلى فعل ما يرضي الله، بل قد يقع بعضهم في تجاوزات شرعية، يحاول بها سد خلل ضعفه، وستر عجزه وخوره، ولا يسعى لفعل شيء موجب يكون من ورائه ما يخدم الإسلام والمسلمين، متواكلاً في ذلك على من يسعى لرمي عبء المسؤولية عليه، متذرعاً بأنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً. وهذه بلية ابتلي بها بعضنا، فلابدّ من إنكارها؛ بتوجيه من يكثر منها إلى أن يكون فاعلاً لا بكّاءً لوّاماً فقط. عاشرها: ظهور عظمة كتاب الله تعالى في نفوس المسلمين حيث اهتزت مشاعرهم، وهالهم ما وقع، وهذا أمر مهم حريّ بالعاقل أن لا يهمل استثماره؛ لصالح كتاب الله تعالى. العبرة الحادية عشرة: لنتذكر جيداً أنّ هذا الأمر لم يكن ليصيبنا إلاّ بتفريط منّا في جنب الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} *الشورى: 30*، ولنعلم أنّه لم ينزل بلاء من السماء إلاّ بذنب، ولا يكشف إلاّ بتوبة، فلنبادر إلى التوبة النّصوح؛ ليرفع البلاء، ويعمّ الرخاء، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} *نوح:10 - 12*

الثانية عشرة: أنّ المملكة العربية السعوديّة مع تكالب أعدائها، والضغوط التي تمارسها القوى العظمى الدوليّة عليها، وانحسار أداء الجهات الدعوية والإغاثية عمّا كانت عليه خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وظهور بعض النماذج غير الموفقة التي كانت وما زالت تستعدي علينا غيرنا، وتسعى لتشويه صورتنا؛ بالنّفخ في كلّ خطأ يقع، وتشويه كلّ خير يظهر، بل وبنشر الفساد من خلال بعض وسائل الإعلام، مع كل ذلك وغيره ما زالت أمامنا فسحة لتصحيح الوضع؛ لأنّ مقومات التصحيح موجودة، والمسلمون قاطبة تشرئب أعناقهم لكلّ حدث يقع في قبلة المسلمين، ويتألمون أشدّ الألم لكلّ ما يرونه خروجاً عن النّهج الذي قامت عليه هذه البلاد، ويشتدّ نكيرهم علينا، ولا يحقّ لنا أن نلومهم؛ لأنّ ما يؤملونه فينا ومنّا أفضل ممّا نحن عليه، وأكبر ممّا نظنّه مرض لنا، فهم لم يعرفونا ويحبونا لأنسابنا وجاهنا، ولا عقاراتنا وأرصدتنا، ولا لإبلنا وأغنامنا، ولا لمنتدياتنا وأفلامنا، وإنّما لأنّنا البلد الوحيدة التي ينادي حكامها ليل نهار أنّهم يطبقون الشريعة، ويحمون الملّة، ويخدمون الحرمين الشريفين، وينصرون قضايا المسلمين، أحبونا لما رأوا النّماذج المسلمة المشرقة منّا التي قادت الخير في كلّ موطئ قدم تطؤه، أحبونا لجائزة الملك عبد العزيز، والأمير نايف وسلمان ومحمد بن فهد للقرآن والسنة، فإذا خرجنا أمامهم بغير هذه الصورة، فلا نلم أنفسنا إذا تغير حبهم إلى كره، وإعجابهم إلى احتقار، وتعلقهم إلى نفور، قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} *آل عمران:182*، والعرب تقول: يداك أوكتا وفوك نفخ. الثالثة عشرة: ظهرت قيمة حلقات تحفيظ القرآن، ومعلمي التحفيظ، وتجلت في النّفوس لما حُرم أبناؤنا منها 85 يوماً، وظهر لكثير من الآباء والأمهات أنّ أبناءهم والحلقات؛ كحبّ قمح في سنبله، لا يصلح إلاّ فيه، وإن أخرج منه قبل اشتداده لم ينتفع به. وهذه حادثة من مئات غيرها لامرأة كان ابنها ذو السنوات الست في حلقة تحفيظ، وكانت أمّه تأتي به كلّ يوم عند باب المسجد، ثم تنتظره، فإذا خرج أخذته إلى بيتها، وبعد أن توقفت الحلقات، اتصلت بمشرف الحلقات تطلب منه أن يوافق على انضمام ابنها إلى الحلقة التي بقيت، فأخبرها أنّ هذه حلقة مؤقتة لطلاب الثانوية والجامعة، يقوم عليها أحد الطلاب تطوعاً بانتظار أن يعود معلمهم إليهم، ولا أستطيع إلحاق ابنك بهم لفارق السنّ، وأرى أن تعلميه في بيتك قصار السور، يقول المشرف: فهالتني إجابتها، حيث قالت: يا أستاذ، أنا حافظة وعندي إجازة في القرآن الكريم، لكن ولدي يحترم معلمه ويستجيب له أكثر مني، وينتفع به. قال: حينها ظهرت أمامي الخيرية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وأنها تقتضي المنزلة العالية والهيبة لمن جلس يعلم الناس القرآن؛ لأنها مرتبطة بعظيم، وهو كتاب الله تعالى. قال: فاعتذرت منها، وطلبت منها أن تصبر لحين عودة الحلقات، فظلت تردد: يا رب، يا رب، يا رب، وتبكي، وأنهت المكالمة. الرابعة عشرة: المحن تكون سبباً في صقل أفذاذ الرجال، فما أحوجنا إلى اهتبال هذه الفرصة ليتحمل شبابنا مسؤولياتهم، في زمن أصبح التواكل وعدم الاهتمام سمة بعض الشباب، ولكنّه قد ينتفض إذا رأى أنّه في وجه العاصفة. قال أحد المعلمين: لما جاء خبر إبعادنا عن الحلقات، جمعت الشباب الذين أعلمهم، ونظرت إليهم نظرة تحفيز، ووضعت يدي على أكتافهم، وقلت لهم: هذا زمنكم ... إني قد مضى زمني. فكان ذلك الموقف سبباً في تأثر الطلاب تأثراً عميقاً، وتقدم أحد الشباب وهو يسكن في بلدة تبعد عن الحلقة 70 كيلو، ولسان حاله يقول: أنا لها. وقام بالمهمة خلفاً لمعلمه. فكم نحن بحاجة إلى صناعة الرجال الذين يحملون المسؤولية ويواصلون الطريق على مائدة القرآن. العبرة الخامسة عشرة: تعودنا أنّه كلّما وقعت مسألة من مسائل ما يسمى بـ (حقوق الإنسان)، ضجّت بعض الهيئات والجمعيات الخارجية، مدّعية أنّ حقوق الإنسان تنتهك، ونحو ذلك من (شجب واستنكار)، أمّا في هذا الحدث فقد مرّ وكأنّ الأمر لا يعنيهم، ونحن لا نريد تدخلهم في جليل ولا حقير، ولا قنطار ولا قطمير، ولكنّا نظهر المكاييل المختلفة التي يعاملون بها الناس، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} *المطففين:1 - 3* ولا أشك أنّ العبر في هذا الحدث أضعاف ما ذكرتُ، ولم يكن القصد من المقال الحصر، ولكنه محاولة لفتح باب التأمل، واستخراج العبر، وإضافتها. والله تعالى أعلم.

ولا تهنوا

ولا تهنوا د. سليمان بن صالح الجربوع 22 محرم 1432هـ بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله لا يخفى على أحد الفتن التي تحدث كل يوم في أمتنا الإسلامية من انتهاك لحرمتها وتدنيسٍ لمقدساتها واستهزاء بها، ومن ناحية أخرى فقد بدأ الوهن ينتشر في قلوب كثير من الناس وفقدوا الثقة في استعادة مجد تلك الأمة بل ربما فقدوا الثقة في ربهم هل تخلى عنهم أم لا يستطيع نصرهم؟! واستبد بهم اليأس من إمكانية التغيير من وضع الهزيمة إلى نصر. أريد في هذه الأسطر أن أوضح للقارئ أن مرحلة الضعف التي تمر بها الأمة الآن ليست أولَ مرحلةِ ضعفٍ تمر بها، وليس أولَ انهزامٍ تراه الأمة على مر تاريخها وعصورها، ولكنها دائما ما حاول أعداؤها القضاءَ عليها فإذا بها تقوم من جديد، قال أحد المستشرقين على فترة ضعف المسلمين أيام الغزو التتاري والصليبي:" كانت المقولة في بداية القرن الثاني عشر الميلادي متى سيموت جيش محمد، وما إن قارب القرن على الانتهاء حتى تبددت المقولة أي شيء سيوقف جيش محمد"؟ وأريد أيضا أن أوضح أن الإسلام لا يهزم قط وإنما تهزم أجيال؛ لأنها ليست جديرة بالنصر ولا بالتمكين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .... [المائدة: 54]. وقال أيضا: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .... [التوبة: 39]. وهاك بعض مراحل الضعف التي ألمت بالأمة على مدى عصورها لترى أن كل هذه المراحل لم تزدها إلا قوة إلى قوتها وكانت كالأسد في براثنه. 1. في بداية البعثة واجه المسلمون محنا وضعفا وانهزاما كثيرا وعظيما ولكنَّ روحَهُمْ كانت تطَّلع إلى النصر حتى جاء بعد عشر سنين ـ بهجرتهم إلى المدينة ـ قضوها بين آلام التعذيب والمقاطعة المالية والمعنوية التي دامت ثلاث سنوات، ومع كل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم ويقول لهم ـ وهذا ما نود أن نقوله للناس اليوم مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم ـ)) ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل الله به الكفر (( .... [قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح]. 2. وعندما طلب منه أصحابه النصرة خاطبهم بقوله صلى الله عليه وسلم:)) .... والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون (( .... [رواه البخاري].

3. في غزوة أحد انقلب نصرنا أمام أعيننا إلى هزيمة كادت نهايتها أن تكون بمقتل رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سلم، فسبب الهزيمة مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس قوة الأعداء ـ، وكانت في السنة الثانية للهجرة يوم السبت، ولكن ونحن مثخنون بجراح الانهزام نودينا من فوق سبع سماوات بقوله تعالى:)) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (( .... [آل عمران: 139]. حتى ونحن في حال انهزامنا وانكسارنا نحن الأعلون بنص كتاب الله؛ لأننا ونحن منهزمون لا نزال الطائفة الوحيدة على وجه البسيطة وربوعها تقول لا إله إلا الله. ومع تلك الجراحات التي أصابت المسلمين يوم السبت يؤمروا بأن يخرجوا يوم الأحد لملاقاة المشركين في حمراء الأسد، بل زيادة في العزة لا يخرج إلا من خرج بالأمس معهم، وتحقق ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلما رأى أبو سفيان هذا تراجع عن مهاجمة المدينة وقفل راجعا إلى مكة المكرمة. 4. وعندما أحيط المسلمون بعشرة آلاف مقاتل من جُلِّ قبائل العرب واليهود، بل أحيط من خارج المدينة ومن داخلها ـ أرى أن التاريخ يعيد نفسه من جديد ـ، وانظر إلى الموقف ساعتها، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .... [الأحزاب: 10 - 11]. في تحالف الأشرار وقتئذ ـ كما هو الحال الآن ـ انقسم الناس إلى أقسام: قسم المنافقين ـ يمثلهم في الوقت الحاضر المنافقين والضعفاء والعملاء ـ قالوا: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} .... [الأحزاب: 12 - 13]. وقسم المؤمنين الثابتين الواثقين بنصر لله ـ يمثلهم في عصرنا المتفائلين العاملين في الدعوة بروح تحمل حلاوة النصر واستنشاق رياحه من قريب ـ: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} .... [الأحزاب: 22 - 23]. وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الذي مثل أقصى حالات الشموخ في زمن الانكسار والثقة بنصر الله والتفاؤل وأجمل معاني الأمل، إذ لما استعصت الصخرة على أصحابه استدعوه فكسرها على ثلاث ضربات، كل ضربة يخرج منها برقة ويبشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه مع الضربة الأولى فتح الله لي اليمن، والضربة الثانية فتح الله لي الشام والمغرب، والضربة الثالثة فتح الله لي المشرق .... [رواه ابن إسحاق في السيرة والنسائي]، والمنافقون والمرجفون يثبطون الهمم ويحبطون الآمال: " يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ".

5. ومات القائد والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكانت المصيبة العظمى في تاريخ الأمة، وهام الصحابة على وجوههم، ولكن أبو بكر فهم الأمر فهما عميقا لذلك صار أكمل الأمة إيمانا:" من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت "، ما كان قوله هذا إلا لإيضاح أن هذا الإسلام ليس مرتبطا بأحد، وإلا لانتهى بموته صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مرتبط بالله فقط، ورتل الآية التي أنزلها الله يوم أحد يوم أُعْلِنَ موتُهُ صلى الله عليه وسلم فاتنبه لذلك الصحابة فبين الله لهم أن محمدا بشرٌ يجري عليه شئون الكون مجريها، وأن الجهاد يكون لله والنصر بيد لله ليس بيد أحد من مخلوقاته: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .... [آل عمران: 144]. 6. وتكالب الأعداء مرة أخرى على هذه الأمة من خلال فئات ثلاث: الفئة الأولى: مانعو الزكاة وأصر أبو بكر على محاربتهم. والفئة الثانية: حروب الردة وحاربهم أبو بكر حتى قضى عليهم. والفئة الثالثة: الروم على حدود الدولة وأنفذ لهم أبو بكر جيش أسامة، وعندما دخل عليه الفاروق بأمر من أصحابه بأن يكف عن إرسال جيش أسامة لحاجة المدينة لمن يحميها قال رضي الله عنه قولته المشهورة:" والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جَرَتْ بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشا وجّهه رسول الله ولا حللت لواءً عقده، والله لو لم يكن في القرى غيري لأنفذته، أو أطيعه حيا وأعصيه ميتًا؟! " لأنه كان واثقا في نصر الله لهذه الأمة مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما رأى المثبطون أن الأمة ضعيفة عن مواجهة كل هذا الكم من الهجمات، لذلك مات رضي الله عنه بعدها بسنتين وجيوشه تغزو في اليرموك. 7. وفي بدايات القرن الرابع الهجري دخل القرموطي كما يروي لنا ابنُ كثير بيت الله الحرام يوم التروية، ووقف هو وجنوده في ساحته يفتكون بالحجيج وبكل من تعلق بأستار الكعبة، وما فتئ يقول: أنا اللهُ أنا الذي أحي أنا الذي أميت، أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ واقتلع ـ عليه من الله ما يستحق ـ الحجر الأسود وأخذه معه إلى خراسان، حتى عاد إلى مكانه بعد ثلاث وعشرين سنة. هل هزم الإسلام؟ هل وقف الطواف طيلة هذه المدة؟ لأن الإسلام ليس مرتبطا بمدينة ما وإنما هو مرتبط بالله لا غير. 8. وفي عام اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل الصليبيون بيت المقدس، ويصور دخولهم وما فعلوه ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: " استحوذ الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل ـ أي: مليون ـ فقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا. قال ابن الجوزي وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورا من فضة زنته أربعون رطلا بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هازعين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة

والسلطان ... " ولكن لم ينجدهم أحد. وتصور كتب الغربيين الموقف من شدة سفك جنودهم لدماء المسلمين أن خيولهم غاصت في هذا الدماء. وصار المسجد الأقصى مشتى لخنازيرهم، وظل هكذا المسجد أسيرا لا تقام فيه الصلاة ولا يرفع فيه الآذان ثنتين وتسعين سنة ـ عمر اليهود في المسجد الأقصى واحد وستون سنة والصلاة تقام فيه والآذان يرفع فيه ـ حتى قيض الله لفتحه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله. فتأمل كم جيلًا مر وعاش ومات ولم يرَ المسجد الأقصى حرا في أيدي المسلمين؛ لأنها أجيال لم تستحق النصر، ولكن جيل صلاح الدين جيل يستحق أن يتوج بطلا للملحمة الإسلامية لذلك فتح الله على يديه القدس، وسيقيض الله لهذه الأمة من هو مثل صلاح الدين لإعادة مجدها من جديد، ولكنكم قوم تستعجلون. 8 - وفي القرن السابع الهجري بدأ التتار التحرش بالدولة الإسلامية فسفك أعراض المؤمنات في بخارى وسمرقند وترمذ وغيرها من البلاد، بل كانت النساء يربطن من أثدائهن ويشددن منها، وقتل خلق كثير وغدر وفجر وبقر بطون الحوامل واستباحت بيضة الإسلام. ثم كانت الفجيعة الكبرى والحدث الضخم وهو دخوله بغداد، معتقدا ـ كما يعتقد أحفاده اليوم ـ أنه بالقضاء على بغداد دار الخلافة وقَتْلِ الخليفة يكون قد قضى على الإسلام. ولكن أريد أن أنقل لك بالنص تصوير ابن كثير لهذا الموقف:" وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنشاب من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حظاياه وكانت مولدة تسمى عرفة جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعا شديدا " وقد أحصى ابن كثير عدد القتلى الذين قتلهم التتار في بغداد فقط من بين ثمانمائة ألف قتيل إلى ألف ألف قتيل إلى قول بعضهم أنهم ألفا ألف قتيل، حتى ذكر أن الناس في دمشق قد مرضوا بسبب تعفن الجثث في بغداد مما أفسد الهواء، بل كان الرجل " يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويُؤسر من يختارون من بناته وجواريه ". وبل كان التتاري إذا مر على المسلم في بغداد ولم يكن حاملا سيفه يقول للمسلم انتظر هنا حتى آتي بسيفي وأقتلك فينتظره المسلم المغلوب على أمره.

وقد أعمل السيف فيها أربعين يوما، وجرت أنهار بغداد مرة باللون الأسود لكثرة ما أغرق فيها من الكتب، ومرة باللون الأحمر لكثرة قتل المسلمين. يقول ابن كثير: " ولما انقضى أمد الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول ـ جمع تل ـ، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوباءُ والفناءُ والطعنُ والطاعونُ فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديدُ فتفانوا ولحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا في البلى تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ". وانطلقوا بعد ذلك إلى الديار الشامية ـ كما يخطط أحفادهم اليوم الذين لم يقرؤوا تاريخنا ـ يأسرون ويقتلون ويفتكون بالمسلمين وأحرقوا أسوار قلعة دمشق ودكوها دكا، وساندوا النصارى على المسلمين في دمشق فظل النصارى يشربون الخمر في المساجد ويسكبونها على عتبات المساجد. وبعد هذا الانهزام والانكسار الذي مرت به الأمة الإسلامية بعده بسنتين في عين جالوت ينتصر المسلمون عليهم بقيادة الملك المظفر قطز، ويهزمونهم شر هزيمة، بل بدأ التتاريون في الهروب من الديار الشامية " فتتبعهم المسلمون ـ كما يقول ابن كثير ـ: " من دمشق يقتلون ويأسرون وينهبون الأموال فيهم، ويستفكون الأسارى من أيديهم قهرا ولله الحمد والمنن على جبره الإسلام ومعاملته إياهم بلطفه الحسن. وجاءت بذلك البشارة السارة فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة وفرح المؤمنون يومئذ بنصر لله فرحا شديدا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدا، وكبت أعداء الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون، ونصر الله دينه ونبيه ولو كره الكافرون ". 9. وفي سنة ستة عشر وستمائة دخل الصليبيون دمياط وقتلوا أهلها وظلوا يفجرون بالنساء في المساجد ويفتضون العذارى، وأخذوا نسخة من القرآن وأرسلوها إلى الجزائر. وبعد سنتين استنجد الملك الكامل بأخيه الأشرف فنجد وحاصروا الصليبيين في دمياط حتى اضطروهم على الصلح وطردوا شر طردة وقتل منهم عشرة آلاف كافر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 10 - وفي عام سبع وستين وتسعمائة وألف قام اليهود بضرب مصر وسوريا فدكوا الأراضي المصرية وضربوا المطارات المصرية، وحتى ضربوا الطائرات على الأرض قبل أن تقلع، وتاه الجنود في الصحراء وضلت أمة قيل أنها سترمي اليهود ومن ورائهم في البحر. وفي عام ثلاث وسبعين أي بعدها بست سنين ـ بما تبقى منها من إيمان ـ انتصر المسلمون وعبروا خط بارليف واستردت الأمة كرامتها لتعلم الدرس: {إِنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبْتَ أَقْدَامَكُمْ}. 11 - وعندما تدخل شارون المسجد الأقصى عام 2000 وظن أنه بهذا الصنيع يهزم المسلمين هزيمة روحية انطلقت انتفاضة لم تكن في حماس والفتح فقط، وإنما ـ بحسب تعبير بعض الجرائد الإسرائيلية ـ امتدت لتشمل عناصر لم تشملها من قبل.

وفي الختام لن تنتصر هذه الأمة إلا عندما تؤتى صبر نوح على قومه فقد دعاهم عشرة قرون ولم ييأس ويستعجل النصر حتى أتاه بعد عشرة قرون ـ عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى الآن خمسة عشر قرنا ـ وظل يدعو بين قومه سرا وجهارا، يدعو بالصوت والقدوة حتى إذا استغشوا ثيابهم دعاهم بالإشارة ـ عليه السلام ـ ثم يؤمر ببناء السفينة فيسخر قومه منه فيسخر منهم، وفي نهاية هذه القصة قال تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .... [هود: 49]. وحاول أن تتأمل ختام هذه الملحمة. وتؤتى يقين موسى بنصر ربها في أشد وأصعب الأوقات، فانظر إلى موقفه مع السحرة وقد جمعوا له سبعين ألف ساحر إذ قال لهم بعزة المؤمن الواثق بنصر الله:"فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ" قمة الاستهزاء بمكرهم وألاعيبهم، حتى إذا ألقوا: " فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ " فكانت النتيجة:" وَيُحِقُّ اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ " .... [هود: 80 - 82]. ولما لحقه فرعون فصار فأحاطه من الخلف وأحاطه البحر من الأمام وظن قومه أنهم هالكون على يد فرعون لا محالة، كان موسى يردد:" قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " فكانت النتيجة:" فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ " .... [الشعراء: 62 - 63]. وتؤتى ابتسامة محمد صلى الله عليه وسلم وشموخه وثقته بنصر ربه له وهو في الغار مع صاحبه وقريش كلها تطلبه حيا أو ميتا:" ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .... [متفق عليه]. اعلم أخي الكريم أنه لن يهزم قوم نزل فيهم:" وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " .... [آل عمران: 139]. والحمد لله رب العالمين.

هوس التفسير السياسي

هوس التفسير السياسي بقلم: فهد العجلان 11محرم 1432هـ تتملكني الدهشة والإعجاب كلما نظرت في بعض المواقف الصارمة لأئمة السلف من الأحكام الفقهية المتعلقة بالتعامل مع (السلطة السياسية). ولو فتح الشخص صفحة ذلك التاريخ لانهالت على ناظريه عشرات القصص والأخبار في إنكار الدخول على السلاطين، أو تولي القضاء لهم، وإسقاط الرواية عمَّن وجدوه مترخصاً في ذلك، إلى مواقف أشد حسماً وصرامة كمثل ما روي أن (خلفاً البزار) رفض الرواية عن شيخه (الكسائي) بسبب أنه سمعه مرة يقول: سيدي الرشيد، فقال: (إن إنساناً مقدار الدنيا عنده أن يجعل من إجلالها هذا الإجلال لحري أن لا يؤخذ عنه شيء من العلم) (¬1). وأتساءل مع القارئ الكريم: ما سبب هذه الصرامة المنهجية التي سلكها أولئك الأئمة؟ يحلو لكثير من الناس أن يبحث لها عن مبررات وأعذار؛ لأن ثَمَّ قناعة في التفكير الفقهي المعاصر بعدم رجحان مثل هذه المواقف بناءً على قاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد، وهي آراء قابلة في تفاصيلها للاجتهاد والأخذ والرد. غير أن ما يدهش المتابع حقاً أن هذا الموقف في جملته قد كان صيانة ربانية وعناية إلهية لهذه الشريعة من حيث لا نشعر؛ لأن (التفسير السياسي) هو أعظم قوس جائرة سُدِّدت إلى جسد التراث الإسلامي؛ فكل الدراسات الفكرية المعاصرة التي أخذت تنبش في تاريخ الإسلام وتراثه كانت تعتمد بشكل رئيس على تأثير السياسة على النصوص الشرعية وطرائق الاستدلال والاجتهاد، وأن الأحكام والنصوص لم يكن مردُّها إلى التشريع والديانة بقدر ما هي متأثرة بواقعها الذي صاغته السياسة. وحين يعرف المتابع حقيقة ما كان عليه العلماء في ذلك الزمن، وبُعدَهم عن السلطة، وتحاشيهم عنها، وتحفُّظهم من مجرد الدخول عليها أو تولي القضاء لديها، فإنه سيجد أن مثل هذا الاتهام ضرب من الهجاء والشتيمة لا أساس له من البحث العلمي. يغطي التفسير السياسي مساحة واسعة في حركة خلايا العقل العَلماني المعاصر، ولو تعطل هذا التفسير لتوقفت حركة تلك القراءات عن البحث في تراث الفقهاء ونصوص السَّنة؛ فلا يقرأ الباحث منهم أي حكم أو ينظر في أي نص إلا ويفتش عن أثر السياسة في الموضوع، وبطريقة كسولة جداً لا تتعدى ربط أي نص شرعي بأقرب حدث سياسي، وتعليق أي حكم بأدنى سلطان (فما من شيء في هذا التاريخ إلا وهو مبصوم بخاتم السياسة: الفكر، والفقه، والاجتماع، والاقتصاد، واللغة، والفن، والجغرافيا، والسيكولوجيا، بل النص الشرعي ذاته) (¬2). فكلها مصبوغة بالسياسة، ولم يبقَ ما هو خارج عن تأثير السياسة إلا شيء واحد، وهو ما يكتبه مثل هذا المؤلف، والبحوث والأفكار التي يقررها فهي بلا شك بعيدة عن تأثير السياسة التي تبصم على كل شيء. ومع أن التفسير السياسي هو أكبر الأدوات التفسيرية التي يعتمدها هؤلاء في قراءتهم للتراث، وهو أكثرها شيوعاً وحضوراً؛ إلا أنه في الوقت نفسه أضعف نقطة وأهش زاوية يعتمدون عليها؛ فنشر نماذج وأمثلة للتفسير السياسي على السطح كافٍ لكشف المستوى الموضوعي والعلمي لتلك الدراسات، وأن هذا التفسير يعبر عن حالة مَرَضيَّة أكثر من تعبيره عن روح علمية. فأحدهم يقرر تأثير السياسة على الشافعي؛ لأنه: (الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختاراً راضياً) (¬3). ولشدة ضغط المرض السياسي خفي عليه معرفة مولد الشافعي الذي يعرفه الجميع وهو (سنة 150هـ)؛ أي: بعد زوال الدولة الأموية بثماني عشرة سنة. ¬

(¬1) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح: 2/ 133. (¬2) السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، لعبد الجواد ياسين، ص 168. (¬3) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، نصر حامد أبو زيد، ص 16.

وباحث آخر يفسر الظاهرية التي كان عليها (ابن حزم) بأنها موقف سياسي اتخذه ابن حزم لأجل أن الدولة الأموية بالأندلس تحتاج لمشروع يناهض المشروع الثقافي لخصميها (العباسي) و (العبيدي) فجاءت بابن حزم: (لينطق باسمها ويحمل مشروعها الثقافي) (¬1). وقد أعماه التفسير السياسي عن إدراك الحقيقة التاريخية الواضحة من أن الدولة الأموية بالأندلس قامت سنة (138 هـ)؛ أي: قبل مولد ابن حزم بما يقارب قرنين ونصف من الزمان؛ إذ ولد سنة (384 هـ)، وسقطت الدولة سنة (422 هـ) وابن حزم ما يزال في عز شبابه (ت 456هـ). ومؤلِّف ثالث يتهم كعب الأحبار بأنه يروي الأخبار تملُّقاً لعبد الملك بن مروان (¬2) مع أن كعباً قد توفي عام 34 هـ قبل أن يتولى عبد الملك الخلافة بما يزيد عن ثلاثين سنة، وهي فضيحة يستحي منها أي باحث لم يبتلى بمرض التفسير السياسي. وقد كنا نحسب مصطلح (إجماع أهل المدينة) عند المالكية دليلاً وأصلاً شرعياً، لكننا لم ننتبه لكونه سلاحاً سياسيّاً وعصياناً للسلطة كما تفطَّن أحدهم حين قال: (فلو أراد إمام دار الهجرة التقرب إلى السلطة السياسية لوجد الطريق إلى ذلك سهلاً، بإسقاط هذا الأصل الذي انفرد به دون غيره، والذي يكفي لندرك بعده أن نرى فيه محاولة لإضفاء الشرعية على إجماع أولئك الذين قاوموا طويلاً سلطتي دمشق وبغداد) (¬3). وخذ من الأمثلة والقراءات العقلانية التي تحكم على الحديث إذا ورد في فضل أحدٍ بأنه من وضع أنصاره، وإذا ورد في ذم أحد بأنه من وضع أعدائه، وأي نص له علاقة بالواقع فهو من صياغة الواقع له. ومع ذلك، فالهوس بالتفسير السياسي لم يكن من إبداعهم وابتكارهم، بل نقلته تلك الدراسات المعاصرة من المدرسة الاستشراقية التي غرستها في أدمغة تلاميذها المقلدة فما عادوا يبصرون جيداً من دونها، وقد أحسن العلاَّمة (المعلمي) وصف بعض أسباب الخلل لديهم من أنهم: (إ نما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منها) (¬4)؛ فهؤلاء الناس يعرفون الدواعي لتأثير السياسة من جهة قوة السلطان ورغبة الناس في التملق إليهم لكنهم لا يعرفون الموانع التي تحول دون تأثير السياسة كمثل ما عليه العلماء من الديانة والعدالة، ونفرتهم من الكذب، وما جرى من صيانة للعلم بالرواية والتدوين والجرح والتعديل مما يجعل تأثير السياسة فيها مستحيلاً. فحقيقة الأمر أن كثيراً من القوم إنما يعبرون عما يجدونه في نفوسهم، فإذا شاهدوا تأثير السياسة على تغيير قناعاتهم ومذاهبهم ظنوا أن غيرهم لن يكون أحسن حالاً منهم، مع كثافة جهلٍ تحول دون فهمهم لحال التراث والشريعة التي يريدون تقديم تفسير لها، للحد الذي يقرر فيه أحدهم: (لقد كان القائمون بجمع الروايات (النصوص) من المحدثين هم أنفسهم الفقهاء الذين يمارسون اللحظة ذاتها، عملية التدوين النصي وعملية التنظير الفقهي وفي ظل هذا الوضع لا يؤمَن من التداخل والقلب بين التشريع والتفسير) (¬5)، فهو يتصور أن الفقهاء لم يكونوا يفرقون بين أقوالهم وبين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيمكن للفقيه أن تختلط عليه فيجعل قوله هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر، فهذا التصور الظريف في فهم تاريخ المسلمين يفسر لك سر تضخم هذا الوهم في رؤوسهم. ¬

(¬1) تكوين العقل العربي، لمحمد عابد الجابري، ص 309. (¬2) السلطة في الإسلام، لعبد الجواد ياسين، ص 274. (¬3) الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، لعبد المجيد الصغير، ص 235. (¬4) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، لعبد الرحمن المعلمي: 1/ 27. (¬5) السلطة في الإسلام، لعبد الجواد ياسين، ص 321.

هذا (التفسير السياسي) لا يقوم على أي إثبات أو برهنة علمية، فطريقتهم تقوم على ربط أي حكم أو نص شرعي بالسياسة من دون أي دلائل قاطعة، وإنما لأنه يشك - أو يريد أن يشك بالأصح - يبدأ في البحث عن أي مؤثر سياسي من دون أي يقدم على ذلك أي برهنة، وهذه الطريقة في إنكار الحقائق والطعن في الشرائع بمحض الأوهام ليست مبتكرة لهم فهي طريقة قديمة في التعامل مع محكمات الشريعة، فهذا أحد المبتدعة القدامى يدعي أن الزنادقة قد دسوا على أهل الحديث اثنا عشر ألف حديث من حيث لا يشعرون (لاحظ ضخامة العدد)، وهو ما دفع الإمام الدارمي إلى الجواب عنه متهكماً: (دونك أيها المعارض فأوجدنا عشرة أحاديث دلسوها على أهل العلم ... أو جرب أنت فدلس عليهم عشرة حتى تراهم كيف يردونها في نحرك) (¬1). هل معنى هذا أن السياسة لا تؤثر ولا تستغل الأحكام الشرعية؟ أبداً، بل لها تأثير ولا شك في ذلك، لكن تأثيرهم لم يمسَّ أصل الشريعة ولا نصوصها ولا مذاهب الفقهاء وأصولهم؛ فالتأثير يكمن في استغلال بعض النصوص والمواقف، وربما في تقديم بعض الفقهاء لأهوائهم وشهواتهم إرضاءً للسياسة لكن ذلك لا يضر إلا من فعل، أما نصوص الشريعة وأصول الاستدلال وقواعد الفقه فقد كانت في منعة أي منعة، عن التأثر بذلك، وكل محاولة تُثبِت خلاف ذلك فإنها ما زالت عاجزة عن إقامة أي إثبات علمي سوى الاعتماد على الشك والخرص على طريقة أحدهم حين يحلل أحداث التاريخ منطلقاً من (يبدو) و (أظن) و (لا يُسْتبعَد)، ثم بعد ذلك (فتحصل يقيناً) (¬2). ¬

(¬1) نقض عثمان بن سعيد، ص 401. (¬2) أشير هنا وأشيد برسالة لطيفة بعنوان (التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي المعاصر) للأستاذ الباحث: سلطان العميري، وهي من إصدارات مركز التأصيل للدراسات والبحوث، فهي جديرة بالقراءة والاطلاع.

مقاصد المحتسبين

مقاصد المحتسبين فهد العجلان 6 محرم 1432هـ بين يديّ عشرات الإيرادات والشبهات التي توضع باستمرار أمام ناظري المحتسبين (الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر)، تأتي بمقصّها على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتأخذ من أطرافها وجوانبها وأعاليها حتى تنزل بها إلى الموضع المناسب الذي لا ينالها فيه تهكّمات وتذمّرات المنحرفين والعلمانيين، كما تقوم هذه الإيرادات بدور قاتم السلبية في الضغط على صدور المحتسبين ليصبحوا أقل غيرة وأخفّ حماسة وأضعف يقيناً. سأستعرض هذه الإيرادات سريعاً، وسأنثرها جميعاً على الطاولة، وسأحاكّمها إلى المقاصد التي أرادتها الشريعة من شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلنتدبّر نصوص القرآن والسنة لنعرف مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ثمّ نسلّط هذه الإضاءة على تلك الإيرادات لنكشف عوارها وخللها: أول سؤال هنا: في كيفية معرفة مقاصد الشريعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في أي باب آخر؟ قد ذكر المختصون عدداً من الوسائل والطرق الكاشفة عن مقاصد التشريع، أهمها وأوضحها هي ذات الأوامر والنواهي الصريحة في النصوص الشرعية، فكلّ نصّ شرعي جاء بأمر أو نهي فهو مما يريده الله ويقصده. إذاً؛ فالمقصد الأول للاحتساب هو الامتثال لمراد الشريعة في وجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانتهاء عن نهيها في ترك هذه الشعيرة. نقرأ في كتاب الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} *آل عمران: 104* وهو من صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها القرآن: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} *الأعراف:157* ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)). فالمسلم حين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قد حقق المقصد والغاية والمعنى الذي يريده الله منه ويريده منه النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قمت بأداء الصلاة الفريضة جماعة، أو أدّيت فريضة الحجّ، أو صمت مع المسلمين شهر رمضان، فإنّك تقوم بذلك امتثالاً وطاعة وعبودية لله، ولا تطلب من وراء ذلك مصلحة ولا سمعة ولا غاية دنيوية، ولو اعترض عليك أحد: (بأنّ هذه العبادات لا تقدّم لك شيئاً مادياً ملموساً) لرفعت يدك حمداً لله أن لم يحرمك الهداية كما حرم هذا المسكين. كما أنّ من يقوم بهذه العبادات لن يلتفت إلى ضاحك أو عابث أو مثبّط أو حتّى مؤذٍ ومعتدٍ لأنّه يرى أنّ طاعة الله لا تقبل المفاضلة مع حظوظ النفس وأهوائها. كذلك المحتسب، فهو حين ينصح ويذكّر بالله يقوم بعبادةٍ كالصلاة والزكاة، لا يبحث من ورائها عن غاية دنيوية ولا مصلحة عاجلة، ولا يفتّ في عضده ساخر أو عابث أو مثبّط لأن شأن العبادات ومرضاة الله أعظم. حين يتجلّى هذا المعنى العظيم في قلب المسلم، فيرى أن (الأمر بالمعروف) و (النهي عن المنكر) عبادة يحبّها الله ويقصدها ويريد من عباده القيام بها، حين يتصلب هذا الأصل تتفتّت معه أشكال الاعتراضات والإيرادات: فحين يعترض معترض بأن (كلّ شخص مسؤول عن نفسه ولن يضرّ إلا نفسه) أو يطلب (بأن لا تتدخّل في خصوصيات الآخرين) أو إذا حسن حاله قال (أصلح حالك ولا عليك منهم). فهو إنسان قد غاب عنه مقصد الشريعة تماماً، لأن من أمرني بالصلاة هو من أمرني بهذه الشعيرة. وإذا قال قائل: (لا فائدة من هذا الإنكار؛ فسواء نصحت أم لم تنصح فالمنكر لم ولن يتغيّر!)

فهو إنسان لم يستوعب بعد أن المسلم لن يبحث عن فائدة أعظم من امتثال أمر الله، والقيام بما يريد الله. ولو قال قائل: (هم يعرفون أنه حرام وربّما يكونوا أعلم منك به فلا معنى لإنكاره) فقد غاب عنه أن هذه الشعيرة ليست موجهة إلى تعليم الناس ما جهلوه فقط، بل التعليم جزء من هذه الشعيرة وليس هو كلّ الشعيرة. وسنجد في القرآن من مقاصد هذه الشعيرة: تحصيل المعاني الشريفة التي ألبسها الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكرين. فقد وصف الله هذه الأمة بالخيرية لقيامها بهذه الشعيرة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} *آل عمران:110* ووصفها بالفلاح بسبب ذلك: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} *آل عمران: 104*. وجعله من صفات المؤمنين، ورتّب لهم الرحمة بسببه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} *التوبة:71* كما ذمّ الله التاركين لهذه الشعيرة المفرّطين فيها فقال سبحانه: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} *المائدة:63*، وعابهم فقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} *المائدة:79* فالفلاح والخيرية والرحمة وغيرها من المعاني العظيمة هي ثمرة من ثمار القيام بهذه الشعيرة، وإهمالها سبب للعيب والذم والهلاك. إذن؛ فمن غير المتوقّع ممن فهم هذه المقاصد وكان مستحضراً لها أن يكون اعتراض بعضهم (بأنّ طبيعة الاحتساب تجعلك إنساناً غير مقبول لدى قطاع كبير من الناس، وربّما ينفرون منك ويستثقلون مجالسك، فالسكوت والمداراة والدخول في الموضوعات المشتركة يجعلك أكثر جاذبية وأقدر على التواصل والتعايش) لن تكون هذه إلا ممازحة ثقيلة الاعتبار لأنّ مقامه عند الله لا يدانيه شيء، وهو يستحضر أن استجلاب رضا الناس هبة ربانية لطالما حُرم منها من داهنهم، ووهبها الله لمن كان صادقاً معهم ولو خالفوه (من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس). لا يشكّ أحد أن المحتسب يضحّي بقدر واضح من سمعته ومكانته وتقدير الناس له من جرّاء هذا الأمر، فمن يدخل في مكان تصدع فيه أصوات الموسيقى فيقوم ناصحاً لهم أو من يحضر في مجالس تلاك فيها أعراض الناس فينصحهم وينكر حديثهم ... فربما يكون في محلّ امتعاضهم وتذمّرهم من وجوده لكنّ هذا ثمن لا بدّ أن يقدّم لتحصيل المقامات العالية. وأما حين يكون المحتسب لديه سلطة تجعله حائلاً بين بعض الناس وشهواتهم - كالقائمين على جهاز الحسبة - أو حين يلتهب غيرة على انتهاكات من لديهم سطوة الإعلام فإنه سيناله من التشويه والإسقاط والتبشيع ما لا يقدره له إلا الله. ومن مقاصد الاحتساب في الشريعة: تغيير المنكر وإزالته وتطهير المجتمعات المسلمة منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فالأمر بالمعروف في مقصود الشريعة يراد به (الدعوة إليه وتثبيته والإلزام به)، والنهي عن المنكر في مقصود الشريعة يراد به (إنكاره ومنعه وإزالته).

فحين يحاول بعضهم تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع (سحب وصف الإلزام والمنع) فيكون من باب النصيحة والتعبير عن الرأي من دون أي فرض أو إلزام فيقول: (ينصح الإنسان ويبين له المنكر لكن من دون فرض وصاية عليه) فهو رأي بعيد عن المعنى الشرعي لهذه الشريعة. هي محاولة تلفيقية لتقريب مفهوم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من المفهوم العلماني، لأنّ العلمانية لا تعارض من تعبير الإنسان عن رأيه فيُظهر ما يراه معروفاً وُينكر ما يراه منكراً، لكن من المرفوض والمستهجن تماماً أن يكون ثمّ فرض أو إكراه لأحد على أن يفعل أمراً أو يترك شيئاً بناءً على أن ذلك حكم الشريعة، لأن ذلك من قبيل انتهاك الحريات وفرض الوصاية على الآخرين. ليس هذا التلفيق جديداً، فقد اعتادت ذاكرتنا الفكرية المعاصرة أن كلّ حكم شرعي يواجه بمعارضة ورفض علمانية لا بدّ أن يقوم من الإسلاميين من يتطوّع لمحاولة تقديمها بصورة تكون مقبولة لديهم، من خلال التقليم والتقزيم للمفهوم الشرعي حتى يبدو مقبولاً. إذن؛ فحين تنهى الشريعة عن أمر، فلا يكفي أن يكون التعامل معه فقط بالنصيحة وإبداء الرأي من دون أن يكون ثمّ تدخل قانوني ونظامي من الدولة للإلزام به، فكلّ المحرمات في الشريعة تدخل في ضمن نطاق الممنوع نظاماً، لا يجوز انتهاكه ومن فعل فهو معرّض للعقاب. يعترض البعض على هذا الكلام (أن كثيراً من المحرمات في الشريعة لم تحدد الشريعة لها عقاباً معيناً مما يعني أنّه لا يلزم معاقبته ولا منعه). وهنا خطأ فاحش، فعدم وجود عقاب محدد لا يعني أن الفعل يكون مشتهراً لا يمنع منه الإنسان، فيكفي أن الشريعة حرّمته حتى يكون ممنوعاً نظاماً، وحين يكون ممنوعاً نظاماً فلا بدّ من عقاب لمن ينتهك النظام والقانون. هذه مقدمات بدهية، [فالمحرم لا بدّ أن يكون ممنوعاً] و [الممنوع لا بدّ أن يجازى من ينتهكه] وقد يسقط عنه العقاب، لكن لا يمكن إسقاط العقوبة مطلقاً عنه، لأنّ إسقاطها مطلقاً يعني أنّك تمنع الناس من شيء وتبيح لهم في نفس الوقت أن يفعلوه مراراً وتكراراً من دون أن تفعل شيئاً، وهذا يؤدّي تلقائياً إلى أن لا يكون ممنوعاً، وحينها يكون مثل المباح مثلاً بمثل، وهذا منافٍ تماماً ومناقض لمقصود الشريعة من جعله منكراً. مثال يوضّح المقصود: فحين تحرّم الدولة نظاماً أن يقطع الإشارة وهي حمراء، فلا بدّ أن يكون ثمّ نظام وقانون يمنع مثل هذا الأمر، وحين يقع الشخص في المخالفة فلا بدّ من مجازاته، وقد تسقط عنه العقوبة لأي سبب كان لكن لا يمكن أن تمنع الدولة شيئاً من دون أي جزاء، لأن معنى هذا أن يقطع الإنسان الإشارة مرة وعشرين وألف من دون أي جزاء، وهذا يجعل قطع الإشارة كمثل أي شيء غير ممنوع فلا قيمة لكونه ممنوعاً، وحين لا يكون ممنوعاً فيكون إذن من قبيل المباحات تماماً. كذلك الأمر في بقية الأحكام الشرعية (فالخمر حرام، والربا حرام، والطعن في الشريعة حرام، ونشر البدع حرام ... ) فلا بدّ أن تكون ممنوعة نظاماً، وأن يكون ثمّ جزاء لمن يخالف، وحين يشرحها الإنسان على أنّها محرمات فقط في الشريعة لكنها في الواقع والنظام ليست محرّمة فهو تصوّر علماني للشريعة الإسلامية، يتصوّر أن في الإمكان أن يكون (ثمّ محرّم في الشريعة) وليس هو (محرّم في النظام والقانون) وهذه هي فلسفة العلمانية في عزل الدين عن الدولة. وإذا عرف هذا الأصل زالت كافّة الإشكاليات التي تثار على طبيعة عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يقوم ببعض الواجب في منع المنكر وإقامة المعروف.

فقائل: (أن الأمر والنهي في الشريعة لا يحتاج لسلطة وإنما هو واجب اجتماعي يقوم به الناس) فهو بهذا يسقط صفة القوّة والإلزام التي تتّصف بها هذه الشعيرة لتكون قريبة من المفهوم العلماني. وينفي آخر (صلاحية الدولة للتدخّل في مثل هذه القضايا لأنّ هذا ليس من اختصاصها) وهذا مبني على اعتقاد أن الدولة تكون محايدة في قضايا الدين كما هي الرؤية العلمانية. والمقصد الرابع لهذه الشعيرة: الإعذار إلى الله، كما ذكر الله ذلك في المناظرة التي جرت بين الفئة التي سكتت عن جريمة أصحاب السبت مع الفئة التي أمرت ونهت {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} *الأعراف:164*. فمن مقاصد هذه الشعيرة ومعانيها أن يقوم المسلم بالواجب حتى يبرأ ويعذر أمام الله. ليس المطلوب أن يتغيّر المنكر ويزول، أبداً ليس هذا هو المقصود الوحيد، إن حصل فبها ونعمت وإلا فقد حصل الإعذار، فحين يعترض شخص متندراً (بأنّ هذا المنكر لن يزول وأن خلفه مؤسسات ونظم وقوى ... ) فهو لا يدري ما مقصود الشريعة من هذا الاحتساب؟ فالحديث المتكرر من بعض الناس من أنّ (هذا المنكر منتشر وظاهر وكلّ الناس تفعله فلا حاجة لإنكاره) كلام من لا يعي ماذا يريد المحتسب من هذه الشعيرة. نعم، لو كان المحتسب يعلم يقيناً أو غلب على ظنّه أن الشخص الذي وقع في الخطأ لن يقلع أبداً عن فعله ولن يستفيد بتاتاً من نصيحته فقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ هذا يكون سبباً لسقوط وجوب الأمر والنهي خلافاً للرأي الآخر - وقد حكاه بعضهم قولاً للعلماء - ممن يرون أن الوجوب لا يسقط بسبب هذا. [انظر الآداب الشرعية: 1/ 155] لكن لاحظ أن الخلاف هنا في سقوط (الوجوب) وليس في سقوط (الأمر والنهي) فهو مشروع على كلّ حال وربّما يقول بعضهم هو جائز، لكنهم في النهاية لا يمكن أن يكون حالهم حال من يتعامل مع المحتسب في هذه القضايا على أنه (قليل بصر وضعيف فقه وغير مدرك للمقاصد الشرعية) بل وربّما تحمّس قليلاً فقال (هم سبب زيادة المنكرات)! على أنّ الحديث عن عدم تأثير الأمر والنهي حديث تثبيطي بعيد عن الواقع، فللقيام بهذه الشعيرة دور عظيم التأثير في إصلاح الأوضاع وتعديل السلوك وتقويم الانحرافات بما لا يخفى، لكن هذه الروح الكسولة تبثّ فيروساً قاتلاً لإحساس أي شخص يريد أن يقوم بأداء هذا الواجب، بحيث أنه سيتقاعس حتى عن المنكرات التي يجزم هو بإمكانية تغييرها أو يغلب على ظنه، ومع ذلك فلن يفعل شيئاً، لأن الضعف قد سرى في روحه وسكن قلبه فما عاد يفكّر في أي إصلاح، بخلاف أصحاب العزائم والهمم فإنهم كثيراً ما يصلح الله على أيديهم من الأمور المستعصية ما لم يكونوا يحتسبون، ولو التفتوا لهذه الدعوات لما قام آمر ولا ناهٍ. على أنّ الإصلاح ليس بالضرورة أن يكون لجميع الناس ولكافة المجتمع، يكفي أن يتحقق الإصلاح ولو على بعض الأفراد، فإصلاح بعض الناس أو بعض السلوك هو مقصد ومطلب شرعي. يا أخي: افترض عدم وجود أي إصلاح ولا تأثير، يكفي أن تبقى المفاهيم والمعاني الشرعية ثابتة في النفوس، يكفي أن يعرفوا أن الخمر حرام والربا حرام والموسيقى حرام والتبرج حرام ولو كانت هذه المحرمات ضاربة بأطنابها في المجتمع، يكفي أن تكون الأحكام ثابتة لم تنسى ولم تمت، وبقاء الأحكام كفيل بإصلاح الأمور ولو بعد حين.

فالكلمات التي تملأ فضاء الناس من قبيل (الحملة ضدّ هذا المشروع فاشلة) و (إنكار هذا المنكر خاسر) و (ستخسرون) و (ستفشلون) .. كلام من لا يعرف ما هو الفشل والنجاح في معادلة هذه الشعيرة، الفشل والخسارة في عدم تحقيق مقصد الشريعة، القيام بها نجاح بحدّ ذاته يكفي في نجاحه أن تبقى المفاهيم صحيحة، فلو أن شخصاً صلى في مسجدٍ ما عشر سنوات، وقام فيه الليالي الطويلة، ثم هدم هذا المسجد وسوّي بالأرض هل يكون هذا الرجل فاشلاً خاسراً؟ أبداً، ولا من قام ونصح وبيّن ثمّ ثبت المنكر واستقرّ لا يكون فاشلاً ولا خاسراً. هذا الربا منتشر في كل المجتمعات الإسلامية لكن الجميع يقول هو حرام، وقل مثلها في الخمور والتبرج وغيرها. وهل وقف هذا التثبيط عند هذا الحدّ؟ لا، فالضعف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرض يصيب النفوس فتظهر كثير من الأعراض على فكره وسلوكه من حيث لا يشعر، وتتشكّل في صور عديدة ليست إلا عرض لهذا المرض، فمرّة يقول: (هذا المنكر قادم قادم) ويتحدّث بلغة الفاهم العارف بالمحيط السياسي والمتغيرات الدولية، وما أدري ما قيمة كونه قادم أو غير قادم في الأمر والنهي، يا أخي لو كان قائماً بجذوره لوجب إنكاره ولما ساغ السكوت عنه، فكيف تزول هذه الشعيرة مع شيء لمجرّد أنه سيقدم؟ والمشكلة الأكبر: أنّ هذه المنكرات القادمة كثيرة جداً، وإذا أبيد الحسّ الشعبي الرافض والممانع لأي سلوك أو فكر يخالف أصوله وقيمه فمعناه أننا سنكون مستعدين نفسياً للقبول بكافة المنكرات والانحرافات التي يخطّط لها، ليس فقط مجرد تخطيط، بل الأمر وصل إلى حدّ التنفيذ ومتابعة الدول ومعاقبة المتخلّف كما هي قرارات الهيئات والمؤتمرات الدولية التي تريد فرض أجندتها الفكرية في إشاعة الفاحشة وتطبيع العلاقات المحرّمة على كافة الدول، فمع هذه النفسية الهزيلة لا يمكن للمجتمعات المسلمة أن ترفض أي شيء من هذه المؤتمرات والقرارات، وما عليهم سوى أن يقرروا حتى تكون قراراتهم موضع التنفيذ لدينا لأننا أصحاب حكمة ونظر في عواقب الأمور! ومرّة يقول (الناس لديهم تحديات كبيرة تمسّ هوية المسلم وتعرّض أصوله للذوبان ... ) ويواصل في الحديث حتى يهوّن من أي منكر غيره، وكأن وجود منكر كبير يكون سبباًَ لترك ما دونه من المنكرات؟ وآخر يستغرب: (لا يصحّ المطالبة بجميع الأحكام الشرعية وإنما تكون المطالبة بالحدّ الذي يمكن أن يكون مقبولاً وممكن التحقيق) ولا مشكلة أن يكون هذا جزء من التنوع في الإنكار، فينكر بعضنا المنكر بكلّيته، ويطالب بعضنا بالتخفيف منه، لكن الإشكالية الحقيقية أن تكون هذه المطالبة الجزئية هي الأصل والحكم الشرعي وما عداه فهو غير واعٍ ومحطّ استخفاف وعيب؟ إلى غير ذلك من التبريرات التي ليته جعلها خطاً له ومنهجاً خاصاً به، لكنّه يريد فرضها على بقية الإخوان المحتسبين الغيورين الذين فيهم عزيمة وقوّة واستعداد للتضحية والبذل فيفتّ في عضدهم بمثل هذه الأشكال التبريرية التي ليست إلا أعراض للضعف الذي يصيب الإنسان. إن مفهوم (الإعذار) يعني أن الله تعالى يريد من عباده أن يشيعوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون ظاهراً بينهم حتى ولو لم يكن ثمّ نتيجة أو ثمرة لذلك، فالمقصود أن تعذر وتبرئ ذمتك وتظهر براءتك وإنكارك، حينها فأي دعوى أو قول ينافي هذا الأصل فهو معارض لمقصد الشريعة.

فمن يكرر القول دائماً وأبداً بأنه (لا يجوز أن يترتب على المنكر منكر أعظم منه) كلام صحيح لكن تكراره وإعادته بمناسبة وغير مناسبة لا يعدو أن يكون تثبيطاً وتخذيلاً، فهذا شرط استثنائي لا يصحّ أن يكون هو الأصل في تقرير هذه الشعيرة، فالأصل أن تأمر وتنهي وتنصح وتذكّر وفي حالة وجود مثل هذا الأمر يتوقّف الإنسان، لا أن يكون هذا هو الأصل والقاعدة المستمرة. على أنّ هذا الأصل يجب أن يبقى استثنائياً ويجب أن يكون صادقاً ودقيقاً فلا بدّ أن يكون ثم منكر فعلا يترتب على هذا الإنكار وقد تأكّد الإنسان من وجوده، ولا يصح أن يكون مثل هذا الكلام إيراداً ثابتاً يتحرّك في كلّ قضية. والمؤلم حقاً أن هذا الكلام يشاع في وقت ضعف القيام بهذه الشعيرة، وانتشار التفريط الكبير فيها بين أوساط الناس، فبدلاً من أن يشدّ عزم الناس للقيام بها وإحياء معالمها، يزيد المشكلة ويعمّق الخطأ بمثل هذه التبريرات الباهتة. قولوا لي بربّكم: لو جاء شخص فتحدّث عن الصدقة بهذه الطريقة: (الشخص قبل أن يتصدّق عليه أن يتأكد أن يضع صدقته، فقد يترتب على صدقتك منكرات مفاسد وجرائم، فحرام عليك أن تتصدّق في هذه الحالة وأنت آثم ومفرّط حينها) وإذا سمع أحداً يتحدث عن الصدقة جاءه تحفّظ على دعوته للصدقة بأنّ الصدقة ليست مقبولة دوماً، بل قد تكون وبالاً على صاحبها، ولا يكفي أن يتصدّق الإنسان حتى ينال رضا الله والجزاء الحسن .. إلخ. لا شكّ أنّ تصرّف مقيت ومستهجن، لكنه هو ذات الأسلوب الذي يمارس مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويطالب بعضهم فيقول: (الحكمة والعقل أن نقبل ببعض المخالفات الشرعيّة لأنّ مجيئها حتمي الوجود، فلنقبل بها أول الأمر مع وضع الضوابط خير من رفضها مطلقاً فتأتيك بصورة أعظم من دون ضوابط). يبدو شكلها جميلاً حقاً، أن تأتي بالمنكر بنسبة 40% مثلاً هذا اليوم، خير من أن يأتيك بعد أسبوع أو شهر أو سنة بنسبة 90%، فهذه الحسبة الرياضية رائعة جداً، لكن هذا التفكير الرياضي غير قادر على إيجاد مثال واحد فقط على هذه النظرية، سيتحدث طويلاً لكنه لن يتمكن من أن يذكر واقعة ارتكب فيها المنكر استعجالاً فحفظ بسبب ذلك من قدوم المنكر الأشنع ببركة الاستعجال في تقديمه، فالذي يحصل أن مثل هذا التفكير يضعف جانب مواجهة المنكر ونصح أصحابه ويخفف من حرارة المجتمع من وجوده حتى يمرّ مرور الكرام، وأما نسبة التخفيف فهي خيالية تجريدية تعيش في ذهن صاحبه ولا قيمة لها في الواقع، بل الواقع يقول إن المعارضة والممانعة والرفض هو الذي يخفف المنكر القادم، وهو الذي يجعل ثم ضوابط واحتياطات له، لأنّ أكبر عامل يحسب أمره هو عامل الرفض الشعبي وموقف الناس ونفرتهم، فحين لا يكون ثم أي رفض فلا معنى لأن يخفّ حضور هذا المنكر. البنوك الإسلامية لم تنشأ إلا من جراء الرفض العلمي الكبير للبنوك الربوية، فعاشت البنوك الربوية فترة ثم نهضت البنوك الإسلامية، ولو أن المشايخ في ذلك الوقت قالوا: (نأخذ بجواز الربا ونبحث عن تأويل أو قول مرجوح هنا أو هناك ونضع بعض القيود خير من ارتكاب الناس للحرام) لما قامت البنوك الإسلامية أبداً، وقل مثل هذا في الإعلام الإسلامي وغيره. ويبالغ بعضهم فيضع الشروط والقيود التي يجب أن يلتزم بها المسلم قبل أن يأمر أو ينهي أو ينصح فيضعون من الشرائط ما تؤدّي إلى (إجهاض) هذه الشعيرة وإماتتها في النفوس.

فيشترط بعضهم أن (لا تكون المسألة خلافية) لأنّه لا (إنكار في مسائل الخلاف) مع أنّ مسائل الخلاف إن كان ثمّ نصّ شرعي فيها فإنها تعامل كغيرها من المسائل، وقد اتفق الفقهاء على أنّ القاضي إذا حكم بحكم فخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أنه يجب نقض قوله إجماعاً كما حكاه جمع من العلماء، فإذا كان في حكم القاضي فكيف بغيره؟ وهذا القول يؤدّي في نهايته إلى تصفية هذه الشعيرة من الوجود، لأن معنى هذا الكلام أن لا ينصح ولا ينهى إلا من كان عالماً بجميع مذاهب الفقهاء وأقوالهم حتى لا ينهي عن شيء فيه خلاف، وكم عدد هؤلاء الناس في المجتمع؟ ثمّ معنى هذا أن الإنسان لا يراعي وجود آية في كتاب الله أو حديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يراعي وجود خلاف أو عدم خلاف، فالمتبع حينها لكلام العلماء لا لنصوص الشريعة. ومعنى هذا أيضاً أن (المنكر) ليس هو ما أنكرته الشريعة و (المعروف) ليس هو ما أمرت به الشريعة، بل المنكر هو ما أجمع العلماء على إنكاره، والمعروف هو ما أجمع العلماء على اعتباره، فأصبح وصف الشريعة غير حاسم في الموضوع. ولشناعة هذا اللازم قال الفقيه الظاهري ابن حزم: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما أجمعت عليه الأمة فقط، ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقاً بإجماع الأمة) [الإحكام في أصول الأحكام:1/ 291] وإذا علمنا إضافة إلى ذلك: أن المسائل الخلافية واسعة جداً، خاصة إذا أدخلنا فيها خلافات المعاصرين فلا يوجد إذن ما يجوز إنكاره إلا المحرمات الضرورية التي من أنكرها فقد كفر، كالزنا والخمر ونحوها، وأما عامّة نصوص السنة فلا اعتبار لها ولا قيمة؟ لأجل ذلك كان الاحتجاج بالخلاف شبهة ميتة وقول ساقط كما قال ابن عبد البرّ: (الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُه من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله) [جامع بيان العلم وفضله:1/ 115] فالصحيح أنّ هذه القاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) بعيدة جداً عن هذا التداول لها في الساحة الفكريّة، فهي قاعدة في القضايا التي لا نصوص فيها، ومن جهة أخرى إنما تكون مع الشخص الذي يتبع قولاً فقهياً باجتهاد منه أو باتباع لعالم يراه، وليس المقصود أنّ هذه المسائل لا ينكر فيها مطلقاً، وإنما إذا كان شخص ما قد اتبع عالماً واستفتاه فلا ينكر عليه لأنّه معذور. فتطبيق هذه المسألة بهذه الطريقة يؤدّي إلى إبادة الحسّ الاحتسابي في النفوس فلا يأمر أحد ولا ينهى، وتفعل المحرمات وتشاع ويبحث عن أي قول فقهي فيها، وكلّ هذا منافٍ لمقصد الشريعة من (الإبراء) و (الإعذار). لا مشكلة كبيرة لديّ مع الشخص الذي يتخذ لنفسه منهجاً في عدم الإنكار في مسائل الخلاف بناءً على فهمه لهذه القاعدة أو توسيعه لمفهوم الخلاف المعتبر، فهذا في النهاية اختياره واجتهاده وإن كنت أراه مخطئاً، لكن الخلل الأكبر أن يعتقدها قاعدة كلّية يحاكم الناس إليها، ويلاحق إخوانه بها ويضعف من نشاطهم وحماسهم، وقد كان كافيه أن يعرف أن هذه القاعدة هي محلّ خلاف أيضاً، وبالتالي فلا يجوز له أن ينكر بها على الآخرين لأنّه يعتقد بالصوابية المطلقة لقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف).

خامس هذه المقاصد القرآنية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: النجاة من العقاب الدنيوي، فوجود الناصحين الغيورين ضمان في الدنيا من عقاب الله، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} *هود:117* فكون الإنسان صالحاً في نفسه لا يكفي للنجاة من الهلاك؛ فالعقوبة إذا نزلت لم تقتصر على الظالمين فقط {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} *الأنفال:25* وفي الصحيحين لما قام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يقول: (ويل للعرب من شر قد اقترب) فقالت له أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أنهلك وفينا الصالحون؟) قال: (نعم إذا كثر الخبث). إذا عرفت هذا، أدركت سر هذا التلازم بين (الإيمان بوجود العقوبات الإلهية) وبين (احترام شعيرة الاحتساب) فكلّ من لا يبالي بهذه الشعيرة تجد لديه إشكال عميق مع العقوبات، فالتفسير المادي للحوادث يؤدّي به إلى إنكار وجود عقوبات إلهية على المعاصي والذنوب، سواءً أنكرها بلسانه أو بحاله، وأما من يؤمن بوجود عقوبات إلهية على المعاصي والذنوب فهو يسلّم بخطر هذه المعاصي وضرورة الاحتساب عليها. ومن المقاصد الشرعية لها أيضاً: بيان الأحكام الشرعية، فإظهار الأحكام الشرعية، وإخبار الناس بما يريد الله ويريده النبي صلى الله عليه وسلم منهم، هذا مقصد بحدّ ذاته وغاية شريفة وعمل عظيم، ولو لم يحصل عمل وقد أخذ الله الميثاق الغليظ على أهل العلم بالبيان {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} *آل عمران:187* فالعلم بالشريعة بحدّ ذاته بركة ونور وخير، وهو سبب للعمل بها وإشاعة تطبيقها، لأجل ذلك جاءت النصوص الشرعية في الحث على العلم والتعلم والثناء على العلماء، وحين ينتشر الخطأ ويعمّ الانحراف ويسكت العلماء عن البيان بدعوى (فساد الزمان) و (عدم إمكانية التغيير) و (أنّ الفساد قادم لا محالة) أو (مجاملة لأحدٍ من الناس) فإن معنى هذا أن تسود الغربة لكثير من أحكام الشريعة. كثيراً ما يقول بعض الناس (تخوضون معارك خاسرة مع الموسيقى-الربا-الاختلاط-البدع- .. ) وهي شائعة ظاهرة، وهب أنّ أكثر الناس لم يعملوا بهذه الأحكام، بل هبهم كلّهم تركوها، يكفي أن تبقى مفاهيم الشريعة ظاهرة بيّنة واضحة يعرفها الصغير والكبير، فهذا مقصد شرعي عظيم، وهو ضمانة لعودة الناس إلى الالتزام بها يوماً ما عاجلاً أو آجلاً، ولئن شاع مثلاً سماع الموسيقى في زماننا في أمكنة كثيرة فصار الشخص يسمعها دائماً وأبداً إلا أنّه مع هذا الظهور الكبير لها، ومع وجود أقوال وفتاوى كثيرة تبحث لها عن مخرج شرعي إلا أنك لو سألت أي أحد من الناس عن حكمها لقال لك مباشرة: هي حرام، وربما ساق لك بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من بركة البيان والتعليم الذي ينظر في أهمية بيان الحكم الشرعي أولاً وأخيراً بغضّ النظر عن تطبيق الناس أو التزامهم، قارن هذا بمن ينظر في هذا الموضوع فيرى انتشار المخالفة وابتلاء الناس فيرى أنه (لا بدّ من البحث عن رأي يوسّع على الناس ما ضاق عليهم حتى لا يقعوا في الحرج ولا يكون هذا سبباً لمزيد من انحرافهم) فيسكت عن القول بالتحريم وربما أفتاهم بالجواز أو حكى لهم القولين جميعاً، تأمل كيف سيعود الأمر في النهاية على الحكم الشرعي فينسى أو يغيب لا بسبب أن الشخص لا يرى الحكم أو يضعف أدلته بل بسبب مراعاته لحال الناس التي بسببها أضعف أصل الحكم الشرعي، وما ذاك إلا لغفلة المسلم عن مقصد البيان وضرورته.

ولو نظر المسلم في موضوع البدعة ومدى شناعتها وتحذير الشريعة منها لوجد أن من خطورة البدعة أنها تأتي بمفاهيم وأصول جديدة محلّ أصول الشريعة، فتأتي البدعة لتدفن السنّة، حتى تشيع وتنتشر في الناس فتكون هي الأصل والسائد والواقع بسبب غياب الآمرين والناهين الذي يظهرون الأحكام، وهنا ظهرت عظمة الذين قاموا بمقاومتها وإظهار السنن فيها كيف استطاعوا أن يبينوا أحكام الشريعة ويظهروها بعد أن عاشت مدفونة بسبب ضعف البيان والتعليم. فحين يتحذلق بعض الناس فيقول: (إذا جاء الأمر وتعود المجتمع عليه فستخفّ المعارضة والممانعة كما خفّت وضعفت في أمور أخرى، وبالتالي فالنفرة التي تجدونها هي بسبب عدم الاعتياد لا غير). نعم، صدق ولا شك، فالشيء إذا تعوّدت النفوس عليه فستألفه وتعتاده ولا تجد نحوه النفرة والاستنكار الكبير، فمن يتعوّد على رؤية الخمور ومشاهدة المناظر الإباحية والمعاملات الربوية لن يجد في نفسه تلك النفرة التي يجدها من كان بعيداً عن هذه المحرمات. فهذا الوصف صحيح، لكنه وصف لا علاقة له بالموضوع، فسواء اعتادت النفوس أم لم تعتد، العبرة بكونه منكراً أو معروفاً بما هو متقرر في الشريعة، بل ومثل هذا الكلام يستدعي منه المزيد من الحرص على هذه الشعيرة - لو كان صادقاً- حتى لا تعتاد النفوس على المنكرات وتألفها لا أن يطالب ويحرص على تطبيعها في المجتمع حتى تخفّ حرارة الغيرة والاستنكار، فلئلا يكون الاعتياد أو عدم الاعتياد هو الحاكم والمؤثر على تحديد المعروف والمنكر يجب البيان والتعليم والإشهار للأحكام الشرعية حتى يكون المعيار هو النص لا الواقع والدليل لا العادة والإلف. فهذه أبرز مقاصد الشريعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " الامتثال لأمر الله"، و"الظفر بالصفات الحسنة"، و"البراءة من الصفات الذميمة"، و"صيانة المجتمعات من المنكرات"، و"بيان ما يريد الله وما لا يريد"، و"الإعذار إلى الله"، و"النجاة في الدنيا والآخرة" يجزم المسلم من مجموعها أنّ الله تعالى يريد "إشاعة" هذه الصفة وترسيخها وتعظيمها في النفوس وأن تكون أصلاً وقاعدة ومنهجاً شاملاً للمجتمع المسلم، وأي رأي أو اجتهاد في هذه الشعيرة يجب أن يستحضر هذه المقاصد، ولا إشكال في وجود قدر من التباين والاختلاف والاجتهاد في تحقيق مناط هذه الشعيرة، شريطة أن يكون هذا تنوعاً في القيام بهذه الشعيرة لا تهويناً من جهود الآخرين ولا تثبيطاً لعزائمهم أو استخفافاً بدورهم، وليس المقصود بأي حال من الأحوال أن لا يكون ثمّ خطأ أو انحراف في أفعال بعض المحتسبين أو طرائقهم أو الدعوة لعدم التعرّض لها، كلا؛ فالإنكار عليهم جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وثائق ويكيليكس .. صيد ثمين أم طعم مثير؟!

وثائق ويكيليكس .. صيد ثمين أم طعم مثير؟! مصطفى عبدالجواد 1 محرم 1432هـ لا شك أن عملية تسريب مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية عبر موقع "ويكيليكس" تُعد الأضخم على مر التاريخ، فلم يحدث أن تعرضت دولة من قبل لتسريب هذا الكم من وثائقها السرية إلى وسائل الإعلام، لتصبح مداولات دبلوماسييها وتقديراتهم وآرائها الخاصة متاحة لعشرات الملايين عبر الانترنت، لكن تقدير الخطورة والأهمية التي تحملها هذه الوثائق يبقى أمراً غير محسوماً حتى الآن، فالبعض يراها مجرد "ثرثرة" لا تحمل جديداً، بينما يرى آخرون أن مصداقية أمريكا تعرضت لضربة عنيفة، وأن الكثيرين من ساسة العالم سوف يترددون كثيراً قبل الإفصاح عن مواقفهم الخاصة في حضرة المسئولين الأمريكيين، خشية أن يفاجئوا بها في اليوم التالي منشورة عبر العالم. ورغم أن الطريقة التي وصلت بها هذه الوثائق إلى القائمين على موقع "ويكيليكس" مازالت مجهولة حتى الآن، إلا أن تقارير صحفية أشارت لتورط مجند بالجيش الأمريكي يدعي برادلي ماننج في الأمر، مستغلاً عمله في قسم تحليل المعلومات بالمخابرات العسكرية الأمريكية، ما منحه صلاحية الدخول لقواعد المعلومات الموصوفة بالسرية، والتي تتضمن ملايين الوثائق الخاصة بمختلف الوزارات والوكالات الفيدرالية، لكن صلاحيات ماننج، بحكم كونه مجنداً صغيراً، اقتصرت على قواعد المعلومات الأقل سرية وخطورة والمصنفة تحت بند "سري"، بينما لم تطل يده الوثائق الأكثر خطورة المنصفة تحت فئة "سري للغاية". تحت الحزام وبالفعل فإن ما جرى نشره حتى الآن من تلك الوثائق يخلو من أي معلومات أو وثائق خطيرة، فمعظم الوثائق الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية عبارة عن مراسلات روتينية بين مقر الوزارة بواشنطن والدبلوماسيين الأمريكيين عبر العالم، لكنها لا تخلو مع ذلك من تقديرات وتقييمات و"همز ولمز" قد يغضب مسئولي الدول التي يعمل فيها هؤلاء الدبلوماسيون، كما أنها - وهذا هو الأشد خطراً وإحراجاً لواشنطن - تتضمن مواقف غير معلنة أفضى بها ساسة هذه الدول إلى مسئولين ودبلوماسيين أمريكيين في جلسات خاصة، ومن ثم فإن الإفصاح عنها يضع قائليها وناقليها في حرج بالغ. وقد حاولت الولايات المتحدة استباق هذا الحرج والتقليل من وطأته بإجراء سلسلة اتصالات مع مسئولي الدول الواردة في تلك الوثائق، لإطلاعهم مسبقاً على فحواها قبل أن يتم نشرها على "ويكيليكس"، إلا أن ذلك لم يقلل من حجم الغضب في دولة مثل روسيا، التي تضمنت الوثائق انتقادات واتهامات عنيفة بحق رئيسها دميتري ميدفيديف ورئيس وزرائها فلاديمير بوتين، خاصة الأخير الذي اتهمته إحدى الوثائق بإقامة علاقة وثيقة مع المافيا وتربحه والدائرة المقربة منه مليارات الدولارات جراء ذلك. أما تركيا فقد تضمنت إحدى الوثائق مزاعم بحصول رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان على أموال بطريقة غير مشروعة وامتلاكه حسابات سرية في بنوك سويسرا، إضافة لمزاعم أخرى حول مساعدة مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق، وتزويد إيران بمعدات لبرنامجها النووي. ولم تقتصر القائمة على روسيا وتركيا، وإنما امتدت لتشمل دول عدة، مثل فرنسا وإيطاليا وباكستان وأفغانستان، إضافة إلى معظم الدول العربية. من المستفيد؟

وكان لافتاً فيما سرب من وثائق حتى الآن خلوها من أي مواقف أو معلومات تضر بإسرائيل، بل إن ما تضمنته الوثائق يصب بشكل مباشر في مصلحة إسرائيل، سواء من جهة تشويه صورة تركيا ورئيس وزرائها أردوغان، عدو إسرائيل الجديد، عبر وصمه بالفساد وإظهاره بمظهر المتواطئ مع إيران، كما أن الوثائق تحاول الإيحاء بوجود إجماع غير معلن من جانب دول الجوار العربي على ضرورة قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، وذلك على عكس ما يصرح به قادة هذه الدول في العلن، ولا شك أن ضرب إيران يشكل مطلباً إسرائيلياً ملحاً، كي تبقى تل أبيب متفردة بامتلاك السلاح النووي في المنطقة. هذه الملاحظة دفعت الرئيس التركي عبد الله جول، ومعه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي تعد بلاده أحد أشد المتضررين من نشر الوثائق، للاستنتاج بأن ما يحدث ليس تسريباً وإنما عملية منظمة ومنسقة تمر عبر "مصفاة" لتحقيق أهداف محددة سلفاً، أما وزير الداخلية التركي فقد كان أكثر تحديداً واتهم إسرائيل صراحة بالوقوف وراء تسريبات ويكيليكس، منطلقاً من نظرية بوليسية تدعو للبحث عن "من المستفيد؟ ومن الخاسر؟ " لفك لغز أي قضية، وبهذا المنطق خلص الوزير التركي إلى كون إسرائيل هي المستفيد لخلو الوثائق من أي إدانة تمسها، في حين أن أكبر الخاسرين هم خصوم إسرائيل، سواء تركيا أو إيران، وبالتالي فإن الفائدة الإسرائيلية مزدوجة. تسريب منظم وإذا ما اعتمدنا نظرية التسريب المتعمد للوثائق، فإن هناك عدة سيناريوهات لذلك: الأول: يتهم جهات في الاستخبارات الأمريكية بالوقوف وراء ذلك بهدف تضييق الخناق على إيران، وإيصال رسالة للعالم بأن إجهاض برنامج طهران النووي، ولو عبر القوة العسكرية، يعد هدفاً مشتركاً ليس فقط بين إسرائيل والولايات المتحدة، وإنما تتفق عليه دول الجوار العربي، وإن كانت تقول في العلن عكس ذلك، كذلك فإن التسريبات تبالغ كثيراً في إظهار طبيعة العلاقة بين إيران وتركيا، ما قد يجعل أنقرة أكثر حذراً في المستقبل تجاه أي تعاون مع طهران. ويرى أنصار هذا السيناريو أن دفع هذه الوثائق، التي أشبه ما تكون بمداولات داخلية، إلى العلن ربما يساعد في دفع الرأي العام الأمريكي لمساندة مواقف بعينها، حسبما يخطط مسربو الوثائق، أي أنهم يريدون مساندة الرأي العام لتمرير وجهة نظرهم على حساب تيارات أخرى داخل الإدارة الأمريكية، كذلك فإن إطلاع الأمريكيين على المخاوف والتحذيرات الواردة في الوثائق سوف يبرر للإدارة الأمريكية اتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه بعض حلفائها، متذرعة في ذلك بإرضاء الرأي العام، وهو ما ينطبق بشكل خاص على الأوضاع في باكستان وأفغانستان. أما ثاني السيناريوهات فيتهم التيارات اليمينية ومناصري إسرائيل بالوقوف وراء التسريبات، أولا: لإحراج الرئيس أوباما وتصويره بمظهر العاجز حتى عن حماية وثائق إدارته، فما بالك بأمن الولايات المتحدة ومواطنيها؟، وثانيا: لدفع أوباما لتبني سياسات أكثر شدة تجاه إيران وصولاً إلى وضع الخيار العسكري على الطاولة، كذلك فإن الوثائق تستهدف كشف حجم المشكلات والإخفاقات التي تعاني منها إدارة أوباما في مجال إدارة السياسة الخارجية، وعجزها عن اتخاذ مواقف رادعة تحفظ مصالح أمريكا، مع الخصوم والحلفاء على حد سواء. تحالف ثلاثي ويذهب السيناريو الثالث إلى وقوف تحالف من المخابرات الأمريكية والهندية والإسرائيلية وراء الوثائق المسرَّبة، فالأمريكية والإسرائيلية تريدان تكثيف الضغوط على إيران، وعزلها عن جيرانها العرب عبر زرع الشكوك بينهما، إضافة لردع تركيا عن تعزيز علاقتها مع طهران، أما المخابرات الهندية فإن ما تضمنته الوثائق عن برنامج باكستان النووي يعد صيداً ثميناً، إذ أنها تحذر من إمكانية سيطرة المتشددين الإسلاميين على منشآت إسلام آباد النووية، أو نجاح تنظيم القاعدة في اختراق العاملين في تلك المنشآت بما يمكنه من امتلاك سلاح نووي، وهو ما يعزز وجهة نظر نيودلهي القائلة بأن باكستان غير جديرة بامتلاك سلاح نووي، وأنه يجب تجريدها من ذلك أو على الأقل وضع منشآتها النووية تحت إدارة دولية. ورغم أنه لا يمكن القطع بمدى صحة أي من تلك السيناريوهات، إلا أن ما يتم تسريبه من وثائق يؤكد يوماً بعد آخر أن ما يحدث ليس عملاً عبثياً أو مجرد فشل أمني أدى لتسريب الوثائق، وإنما هي عملية منظمة يقف وراءها أشخاص أو جهات تدرك قيمة ما تتضمنه الوثائق من وقائع ومعلومات وتقوم بنشره بشكل منهجي ومبرمج، أي أن ما تصوره البعض "صيد ثمين" عبر الإطلاع على وثائق الخارجية الأمريكية والبنتاجون ومعرفة خفايا ما يدور في الدهاليز، ربما يكون "طعم مثير" لاصطياد فريسة أهم وأخطر مما تضمنته الوثائق من مواقف قد تضر بدبلوماسية واشنطن ومصداقيتها على المدى القريب.

الانقلاب على المنهج .. الأسباب والعلاج

الانقلاب على المنهج .. الأسباب والعلاج إبراهيم بن محمد الحقيل 25 ذو الحجة 1431هـ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ((يا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على طَاعَتِكَ)) ((يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على دِينِكَ)) ((اللهم إني أعوذ بك من الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)) ((اللهم إني أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللهم إني أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ في ديني ودنياي وأهلي ومالي)). لا يعرف العبد قيمة هذه الأدعية المأثورة وأهميتها إلا حين يرى كثرة الانتكاس في الناس، وتقلب قلوبهم، وتغير مناهجهم، وانتقالهم من فكر إلى فكر، ومن منهج إلى آخر، بل من الاستسلام لله تعالى ولشريعته إلى التمرد عليه وعلى شريعته. لقد رأينا وسمعنا لأناس كانوا من أهل الخير والصلاح والعلم والدعوة والاحتساب والجهاد، أضحوا من أهل الردة والزندقة والإلحاد! ورأينا دعاة رزقهم الله تعالى من تحصيل العلم وقوة الحجة وحدة العقل وروعة البيان ما حشد جمهور الأمة خلفهم، وشرقت محاضراتهم في الأرض وغربت، ثم خلعوا جلودهم ولبسوا جلودا غيرها، واقتحموا ميادين من كانوا قبل ينتقدونهم، وقبلوا منهم استضافتهم في صحفهم وفضائياتهم، ولم يكن ذلك بالمجان أو لتبليغ الدعوة فحسب ... ولكل تنازل ثمنه! ورأينا من استسهلوا إباحة المحرمات، وإسقاط الواجبات .. ومنهم من قضوا شطر حياتهم في حراسة الفضيلة ثم انقلبوا يبيحون ما يروج للرذيلة ويقضي على الفضيلة. وسمعنا عمن بكت الجموع لحسن أصواتهم بالقرآن، ولبكائهم في قراءتهم ودعائهم فارقوا المحاريب إلى غيرها! ورأينا من خضعوا لضغط الواقع الاقتصادي فتساهلوا في أنواع من المعاملات المحرمة، ووظفتهم قلاع الربا في لجانها لتسبغ الشرعية على كثير من تجاوزاتها! ورأينا من خضعوا لضغط الواقع السياسي، ومتطلبات الجاه والإعلام فحولوا قطعيات الشريعة إلى ظنيات، ثم أتوا عليها بالمسح والتحوير والتدوير لإضعاف الولاء والبراء، وإعلاء شأن الروابط الجاهلية، وتفتيت الرابطة الإيمانية، وتسويق آثام الحضارة المعاصرة. كل أولئك وقع ولا يزال يقع، وهو مرشح للازدياد، وما كان أحد يظن قبل عقدين أن شيئا من هذا سيحدث، وهو ينبئ عن ضعف النفس البشرية التي قد تتبدل قناعاتها بين لحظة وأخرى، فلا حول ولا قوة للعبد إلا بالله العزيز الحكيم. ولقد حاولت أن أتلمس أسباب انقلاب القلوب، وتبدل القناعات، وانتكاس المفاهيم عند المبدلين فوجدت أن منها ما يعود إلى ذات المنقلب، ومنها ما يعود إلى المجتمع .. القسم الأول: أسباب تعود لذات المنقلب: السبب الأول: مشارطة الله تعالى في دينه، وقلَّ من الناس من يسلم من ذلك لكنهم لا يشعرون به، ولا يبين لهم إلا عند الابتلاء، ولو تأملنا أشهر حديث في النية الذي لا يكاد يوجد باب من أبواب الشريعة إلا دخله، بل كان أساساً فيه حتى عده بعضهم نصف الشريعة لوجدنا معنى المشارطة فيه: ((فَمَنْ كانت هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ وَمَنْ كانت هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليه.)) (¬1) ومشارطة العبد لله تعالى في التزام دينه، والأخذ بعزائم شريعته قد تكون لغاية واحدة، وقد تكون لغايات عدة، وقد تكون لغاية صحيحة، كما قد تكون لغاية غير صحيحة، لكن أصل المشارطة غير صحيح. ¬

(¬1) رواه من حديث عمر رضي الله عنه: البخاري (54) ومسلم (1907).

فمن المشارطة على غاية غير صحيحة التزام الشريعة لغاية دنيوية كطلب رئاسة دينية، فإذا لم تحصل بدّل حاله لنيلها بطريق أخرى، أو إذا حصلت له رئاسة دنيوية تخلى عن شيء من الدين لأجلها. وقد يصبر صبراً طويلاً على الدين لما يرجو من عاقبته الدنيوية، كما وقع لرويم البغدادي الزاهد (ت:303) قال جعفر الخلدي: من أراد أن يستكتم سراً فليفعل كما فعل رويم كتم حب الدنيا أربعين سنة، فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكانت بينهما مودة أكيدة، فجذبه إليه وجعله وكيلاً على بابه، فترك لُبْس التصوف، وَلَبِس الخز والقصب والديبقى وأكل الطيبات وبنى الدور وإذا هو كان يكتم حب الدنيا ما لم يجدها، فلما وجدها أظهر ما كان يكتم من حبها. (¬1) نقل حادثته هذه شيخ الإسلام ابن تيمية وعلق عليها بقوله: هذا مع أنه رحمه الله كان له من العبادات ما هو معروف، وكان فقيهاً على مذهب داود. (¬2) وكم رأينا في زمننا هذا من أشخاص بدلوا حالهم بعد الجاه والمال أو في سبيل طلبهما؟! ومن المشارطة على غاية صحيحة طلب العز والنصر والتمكين للأمة؛ فبعض الناس يلتحق بركب الأخيار ويلتزم حدود الشريعة، وينافح عن الدين بيده وقلمه ولسانه، ولكنه لا يجعل غايته من ذلك تحقيق العبودية لله تعالى، وطلب مرضاته، أو لربما اشترك في قلبه مع هذه الغاية غايات أخر، كمن يجعل التزامه بالمنهج الصحيح سلماً لعز الأمة ورفعتها وتمكينها، كونه يوقن بهذه الحقيقة المقررة في الكتاب والسنة. وقد يرى كثير من الناس أن هذه غاية نبيلة ومطلوبة ومرغوب فيها، لكن يفوت عليهم أن تحقيق العبودية لله تعالى يجب أن يكون غاية لا يزحمها شيء البتة، ويكفي في سوء هذا المنهج أن أصحابه حولوا دين الله تعالى إلى وسيلة لتحقيق غاية أخرى وهي عز الأمة وتمكينها ونصرها، فإذا فات هذا المطلوب غيروا الوسيلة لتحقيقه. ومن راجع الخطاب الدعوي قبل عقدين فسيرى تكثيفاً في المبشرات بقرب نصر الأمة وعزها والتمكين لها، وأنها تعيش مرحلة مخاض، وأن نصر الله تعالى قريب، وأن اشتداد الظلمة يعقبه الفجر، وأن بعد العسر يسراً، فلما لم يقع ذلك كما قرروه في أذهانهم في زمن معين انسلخوا من منهجهم، وانقلبوا على من بقي عليه بالتنقيص والثلب؛ ليثبتوا للناس أن تحولهم عنه كان صحيحاً .. وليتهم لما فعلوا ذلك كفوا أقلامهم وألسنتهم عن منهج الأمس ومن ثبت عليه، ولم يصطفوا مع المنافقين في حربهم عليه. ¬

(¬1) المنتظم: 13/ 163. (¬2) الاستقامة: 2/ 91.

ومن جعل المنهج الحق وسيلة لغاية أخرى فحري أن يفارق الحق إلى الباطل إذا لم تتحقق الغاية أو استبطأها. والواجب على المسلم أن يربي نفسه، وعلى الدعاة أن يربوا أتباعهم على جعل الحق هو الغاية، ولا يكون وسيلة لأي شيء آخر، ولنا عبرة في أنبياء الله تعالى الذين لم يُمَكَّن لبعضهم في الأرض، بل قتلهم أعداؤهم، وآخرون لم يتبعهم إلا قليل من الناس فهذا نبي الله تعالى نوح عليه السلام يخبر الله عنه فيقول {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النبي وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ ليس معه.)) (¬1) السبب الثاني: الجهل بسنة الله تعالى في معاملته لعباده، فيرى المتمسك بالدين أن نصوص النصر والعز والتمكين، وكون العاقبة للمتقين تتناوله وإخوانه، وأنهم الموعودون بذلك، مع ما فيهم من نقص وخلل في تحقيق شروطه، وأيضاً ما يعتريهم من استعجال في وقوعه، واستبطاء لتحقيقه؛ فيكيفون وعد الله تعالى لعباده بالنصر والتمكين على ما في أذهانهم، ويخضعون سنن الله تعالى في خلقه لمطلوبهم وعجلتهم. والعجلة طبع في الإنسان لا يكاد ينفك عنه {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن تمكين الله تعالى لدينه قال: ((وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)) (¬2) فهو استعجال في طلب النصر، وتحقق سنن الله تعالى في عباده، ومن هنا ندرك الحكمة من كثرة التأكيد على أن وعد الله تعالى حق وقرنه بالأمر بالصبر والإخبار أن العاقبة للمتقين؛ لأن النفس البشرية جزوعة ملولة كثيرة السخط والتذمر، نزاعة للكسل والدعة والهوى، فلا بد من اليقين مع الصبر لتحقق الوعد {فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [الرُّوم:60] وتكرر هذا الأمر في آيتين أخريين، وأمة بني إسرائيل عذبت عذاباً أليماً طويلاً على يد فرعون وجنده، ومع ذلك كانت وصية موسى لهم هي الصبر {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] وليس من الصبر في شيء تغيير المنهج الصحيح والانقلاب عليه استبطاء للنصر والتمكين. فالواجب على المؤمنين عموماً وأهل الدعوة خصوصاً أن يجعلوا مشاعرهم وسلوكهم وتصوراتهم تجاه الأمة وقضاياها، وما يحصل لها من الألم والذل والهوان على أيدي أعدائها، وما يُرغب فيه من نصرها وعزها والتمكين لها .. خاضعة للنصوص لا أن نخضع النصوص لرغباتنا وأهوائنا، فإن سنن الله تعالى لا تتبدل. ولو نظرنا إلى أشهر قضية للمسلمين مع أعدائهم في عصرنا، وأكثرها تناولاً في كتاباتهم وخطبهم ومحاضراتهم ومجالسهم هي قضية احتلال اليهود بمعونة النصارى لبيت المقدس قبل ستة عقود، وهي القضية التي عجز المسلمون عن نجدة إخوانهم فيها، فأدى ذلك إلى يأس كثير من الناس حتى ممن ينتسبون للعلم والدعوة من حلها، فركبوا مراكب التطبيع مع اليهود، أو على الأقل سكتوا عن هذه القضية لمللهم من تناولها. ¬

(¬1) رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري (5378) ومسلم (220). (¬2) رواه من حديث خباب رضي الله عنه: البخاري (3416).

ولو أنعمنا النظر في التاريخ لوجدنا أن الصليبيين احتلوا بيت المقدس زهاء تسعين سنة، وعطلت الصلاة في المسجد الأقصى، ورفع الصليبيون عليه صلبانهم، واتخذوه اصطبلات لخيولهم، وحظائر لخنازيرهم، وربما داخل كثيراً من القلوب آنذاك يأس من عودته للمسلمين، لكنه عاد بعد تسعين سنة من البناء والدعوة والجهاد، وكثير من الذين شاركوا في إعادة بناء صفوف الأمة آنذاك، ودعوة الناس إلى أن يعودوا إلى دينهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وكانوا فاعلين في تحقق النصر العظيم الذي توج على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى بطرد الصليبيين منه .. كثير منهم لم يذوقوا حلاوة هذا النصر، واخترمتهم المنايا قبل إدراكه، ومنهم الملك العادل نور الدين، وليس صلاح الدين إلا ثمرة من ثمراته. إن كثيراً من المتحمسين لدين الله تعالى يزعجهم حال الأمة وضعفها، وانتهاك الملأ منها للحرمات، وتعطيل الشرائع، والصد عن دين الله تعالى، فلا يتحلون بالصبر والحكمة في مواجهة هذا الواقع الأليم، ولا يصدرون عن العلماء الربانيين، بل منهم من يطعنون فيهم متهمين إياهم بالمداهنة والجبن والضعف، ويظنون أنهم أقدر من العلماء على مواجهة الملأ من أقوامهم، وأن الناس ينصرونهم، فيعرضون أنفسهم لما لا يطيقون من البلاء، فيؤدي ذلك بهم إلى الانتكاس، والانقلاب على المنهج الصحيح. والله تعالى رحيم بعباده، عليم بقدرتهم وطاقتهم، فلم يكلفهم ما لا يطيقون {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وتغيير المنكر كان فيه تدرج من اليد إلى اللسان إلى القلب حسب القدرة، وأباح الله تعالى النطق بكلمة الكفر لدفع البلاء، ولحماية المؤمن نفسه من الافتتان، مع أن كلمة الكفر أسوأ شيء يقال وهي سبب للعذاب. وقد روى حذيفة وهو أعلم الصحابة بالفتن وأسباب النجاة منها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لاَ ينبغي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُ)) (¬1) والمؤمن مطالب بإصلاح نفسه، ثم تعدية هذا الصلاح إلى غيره، فإذا كان سعيه في إصلاح غيره يعود على نفسه بالفساد كف عن ذلك .. وهذا يتصور وقوعه حال الفتن، وغلبة الأهواء، وقوة أهل الفساد، وتمكنهم من البلاد والعباد؛ ولذا جاء الأمر بالعزلة حال غربة الدين، وكثرة الفتن؛ للحفاظ على النفس من التردي والتبديل والانقلاب، وعلى هذه الأحوال تحمل الأحاديث والآثار، ومنها: ¬

(¬1) رواه أحمد: 5/ 405، والترمذي وقال: حسن غريب (2254) وابن ماجه (4016)

1 - حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عن الْمُنْكَرِ حتى إذا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كل ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ)) (¬1) 2 - حديث عَبْدَ الله بن عَمْرٍو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كَيْفَ أنت إذ بَقِيتَ في حُثَالَةٍ مِنَ الناس؟ قال: قلت: يا رَسُولَ الله، كَيْفَ ذلك؟ قال: إذا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ الراوي بين أَصَابِعِهِ يَصِفُ ذَاكَ- قال: قلت: ما أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يا رَسُولَ الله؟ قال: اتَّقِ الله عز وجل، وَخُذْ ما تَعْرِفُ، وَدَعْ ما تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهِمْ)) (¬2) 3 - قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنَّ أول ما تُغْلَبُونَ عليه من الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ الْجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكُمْ، فَأَيُّ قَلْبٍ لم يَعْرِفْ الْمَعْرُوفَ وَلاَ يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ نُكِّسَ فَجُعِلَ أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ) (¬3) 4 - حديث سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ قال: قال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: (آمُرُ أَمِيرِي بِالْمَعْرُوفِ؟ قال: إنْ خِفْت أَنْ يَقْتُلَك فَلاَ تُؤَنِّبْ الإِمَامَ فَإِنْ كُنْت َلاَ بُدَّ فَاعِلاً فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ (¬4) 5 - قول حذيفة رضي الله عنه قال: (إني لأشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله») (¬5) 6 - قول ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إنكم في زمن الناطق فيه خير من الصامت، والقائم فيه خير من القاعد، وسيأتي عليكم زمان الصامت فيه خير من الناطق، والقاعد فيه خير من القائم، فقال له رجل: كيف يكون أمر من عمل به اليوم كان هدى، ومن عمل به بعد اليوم كان ضلالة؟ فقال: اعتبر ذلك برجلين من القوم يعملون بالمعاصي، فصمت أحدهما فسلم، وقال الآخر: إنكم تفعلون وتفعلون فأخذوه فذهبوا به إلى سلطانهم، فلم يزالوا به حتى عمل مثل عملهم) (¬6) 7 - كان الأحنف رحمه الله تعالى جالساً عند معاوية رضي الله عنه فقال: (يا أبا بحر، ألا تتكلم؟ قال: إني أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت) (¬7) 8 - قال مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله تعالى: (لئن لم يكن لي دين حتى أقوم إلى رجل معه مئة ألف سيف أرمي إليه كلمة فيقتلني إن ديني إذاً لضيق) (¬8) قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى بعد أن ساق جملة من الآثار: (أجمع المسلمون على أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكره بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً لكنها كلها مقيدة بالاستطاعة) (¬9) ¬

(¬1) رواه أبو داود (4341) والترمذي وقال: حسن غريب (3058) وابن ماجه (4014) وصححه ابن حبان (385). (¬2) رواه أحمد: 2/ 162وأبو داود (4342) وابن ماجه (3957) وصححه ابن حبان (5951) (¬3) رواه ابن أبي شيبة: 7/ 504 (¬4) رواه ابن أبي شيبة: 7/ 504 (¬5) رواه ابن أبي شيبة: 7/ 470. (¬6) رواه ابن عبد البر في التمهيد: 24/ 314. (¬7) رواه ابن سعد في الطبقات: 7/ 95. (¬8) رواه ابن عبد البر في التمهيد: 23/ 283. (¬9) التمهيد: 23/ 281 - 282 ..

والناس في هذا الباب طرفان ووسط؛ فطائفة اتكئوا على نصوص الرخصة لتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوغوا المنكرات بأنواع الحيل، وعدوا النهي عن المنكر نوعاً من الخروج المذموم، وهؤلاء هم مرجئة العصر، ولا فرق بينهم وبين العلمانيين إلا أن هؤلاء يتمسحون بالشريعة، وينطقون بالكتاب والسنة، وإلا فهم في النهاية يلتقون مع المشروع العلماني التغريبي. وطائفة أخرى أخذوا بنصوص العزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يفطنوا لقدراتهم، وظنوا أنهم يقوون على البلاء، لكنهم لما ابتلوا افتتنوا فغيروا مناهجهم، وانقلبوا على إخوانهم، وكانوا طرائق قدداً. وأهل الوسط هم الذين عملوا بنصوص العزيمة في مواطنها، وأخذوا بنصوص الرخصة في مواضعها، وفروا من الفتن، ولم يعرضوا أنفسهم لما لا طاقة لها به من البلاء، فسلم لهم دينهم، ودرءوا من الشر ما استطاعوا، ولا زالوا ثابتين، ثبتنا الله تعالى وإياهم على الحق المبين. والمؤمن إذا عجز عن النهي عن المنكر مباشرة لجأ إلى الأمر بالمعروف، فإن أمره بالمعروف نهي عن المنكر بطريق غير مباشر. والانفتاح الذي أصيبت به بلادنا وإن أدى إلى تسرب منكرات كثيرة، وتسبب في تطاول المنافقين على الشريعة وحملتها ومؤسسات تبليغها؛ فإن فيه خيراً من جهة تنشيط الإنكار باللسان وبالقلم؛ فإن دعاوى حرية الرأي التي يتكئ المنافق عليها في تسويق المنكر يستطيع المحتسب أن يتكئ عليها في النهي عن المنكر، وذم أهله، وفضيحة المسوقين له. السبب الثالث: عدم العناية بعلم الباطن والسلوك، وإهمال تزكية النفس بالأعمال الصالحة، وربما كان للمنقلب معاص في السر أهملها، فكان ضعيفاً في مواجهة المنكر وأهله، خائراً في مقابلة الابتلاء بالصبر والثبات، فانهار في الابتلاء وانقلب على منهجه، وقل أن نجد عالماً من علماء السلف إلا وله كتابة في الزهد أو الرقاق أو تزكية النفس، سواء كانت مفردة أم ضمن مصنف، وهم وإن كانوا يكتبون لغيرهم فإنهم أول من ينتفع بما يكتبون. والمؤمن إذا اعتنى بصلاح باطنه، وسعى في زيادة إيمانه، وعمل على رسوخ يقينه، وأرى الله تعالى من نفسه اجتهاداً وجِدَّاً في ذلك أعانه الله تعالى وسدده ووفقه لما أراد، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، قال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] وقال تعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] أي: والذين قصدوا الهداية وفقهم الله تعالى لها فهداهم إليها وثبتهم عليها وزادهم منها. (¬1) السبب الرابع: تأصل فساد القلب بالشبهات أو بالشهوات، فقد يبتلى العبد بشبهة لا يصرفها عن نفسه بالمحكم من الشريعة، ولا يستعيذ بالله تعالى من شرها، ولا يلجأ إلى العلماء الراسخين في دحضها، فتتمكن من قلبه، وتعمل عملها فيه، فينقلب بسببها عن منهجه، وبسبب الشبهة في الدين انتكس عدد من الأذكياء المشاهير قديما وحديثا. وقد يرد على القلب شهوة تفسده سواء كانت شهوة معصية يلتمس لها الإباحة بعسف النصوص وتحريف معانيها، فيستسيغ ذلك في كل ما يعرض له من شهوة، حتى يكون ديدنه تحريف الشريعة، واتباع المتشابه منها، واستخراج شواذ الفقه، فيردى بسبب شهوته. وأحياناً يكون تحريفه للشريعة لأجل غيره من ذوي الجاه أو المال أو الإعلام؛ لينال حظوة عندهم، فشهوته تكون في حظوته عندهم، ولا ينال ذلك إلا باتباع شهواتهم في إباحة ما حرم الله تعالى عليهم، أو إسقاط بعض الواجبات عنهم. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 4/ 178.

أو يكون فيه شهوة بغي وانتصار للنفس، تظهر حال مساجلته لأقرانه، فينتصر لنفسه بمخالفة منهجهم ولو كان حقاً؛ لمجرد أنه يريد مناكفتهم فيه، والانتقام منهم، وهو في واقع الأمر لا ينتقم إلا من نفسه، والانتصار للنفس سبب للذل وضعف الانتصار للحق. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والقلب يتوارده جيشان من الباطل: جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغا إليها وركن إليها تشربها وامتلأ بها، فنضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه، وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات، أو كما قال، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك. (¬1) ففساد القلب وزيغه إنما يكون بسبب شبهة أو شهوة يستسلم لها العبد فيسلب التوفيق، ويحيق به الخذلان، ويعاقب على تقصيره في تحصين قلبه، واستسلامه لوارد الشبهة أو الشهوة، وقد قال الله تعالى في المنافقين {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} [البقرة:10] وقال سبحانه في اليهود {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [الصَّف:5] وقال عز وجل في المؤمنين الذين دافعوا وارد الشبهات والشهوات {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، وكما لا يمكن للإنسان أن يصعد سلماً ثم يجد نفسه في القبو، فلا يمكن أن يترقى في الإيمان واليقين، ويجاهد في صلاح قلبه ثم يجد نفسه زائغاً منحرفاً عن الحق مفارقاً أهله؛ فإن عدل الله تعالى وحكمته ورحمته تأبى ذلك، قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق، قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم، قال: إنه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق. (¬2) السبب الرابع: الانفصام بين الظاهر والباطن، ثم اليأس من رحمة الله تعالى، وذلك بأن يكون العبد مقيماً على معصية لم يستطع الانتهاء عنها مع محولاته المكرورة، ولا سيما إذا كان ذلك مما يتعلق بالشهوات، فيقذف الشيطان في قلبه أنه منافق؛ إذ كيف يقيم على هذه المعصية، ويخفيها عن مشايخه وأقرانه، ويظهر أمامهم بمظهر أهل الاستقامة والتقوى، ولا يزال هذا الصراع في قلبه إلى أن ييأس من الإقلاع عن معصيته، ويرى أنه لا يمكن أن يصاحب الأخيار وهو على هذا الحال، فيتنصل منهم شيئاً بعد شيء، ويتخذ رفقة أخرى لا ضير أن يبوح لهم بسره، ويظهر معصيته أمامهم، ويظن أنه ارتاح من تأنيب ضميره. ولو علم المسكين أن تأنيب قلبه له الذي يجده وهو مع الأخيار خير له من مفارقتهم، فهو دليل على حياة قلبه، وعلى بقاء النفس اللوامة، أما مفارقته لهم، وإظهاره لمعصيته، وانقلاب حاله فهو إماتة للنفس اللوامة، وتسليم قياده للنفس الأمارة بالسوء. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة: 1/ 140. (¬2) رواه المروزي في الورع (5) وينظر جامع العلوم والحكم: 95.

السبب الخامس: منافسة الأقران، فقد يكون له قرين في مثل استقامته أو علمه لكنه تقدم عليه بالحظوة عند الناس أو بمنصب ديني أو بالشهرة أو يفتح الله تعالى له بابا من العلم أو الرزق لا يفتحه لقرينه، فيحسده على ذلك، ويركب الصعب والذلول للحاق به ولو تنازل عن بعض مبادئه أو أكثرها .. وينحصر همه في أن يصله أو يتعداه، ويعظم ذلك إذا كان قرينه أقل منه علماً أو دعوة، أو كان أحد تلاميذه، أو اهتدى عليه فيغار منه، وأعرف شخصا كذلك، إذ ما زال يتقرب لذوي الجاه بالوشاية في قرين أصغر منه لحسده إياه على ما آتاه الله تعالى من العلم حتى فاقه، ومنافسة الأقران في حظوظ الدنيا تؤدي إلى ذل النفس وانحطاطها، وبيعها الدين وتسخيرها الفقه لخدمة الخلق؛ لطلب نصرتهم وعزهم، يقول ابن عاشور رحمه الله تعالى: الحاجة إلى الناصر لا تكون إلا من العجز عن الانتصار للنفس. (¬1) السبب السادس: أن يكون للشخص أتباع يظن أنهم ينصرونه ولا يتخلون عنه، فلا يقع ما ظنه منهم فينتقم منهم -من حيث يشعر أو لا يشعر- بمخالفة منهجهم ولو كان صواباً، وكل نبي حمل أعباء الدعوة وحده، وتحمل ما يناله منها وحده، ولم ينتظروا نصرة من غير الله تعالى، وهم قدوة الدعاة إلى الله تعالى. أسباب تتعلق بالمجتمع (مجتمع العلماء والدعاة): السبب الأول: صد الطاقات الواعدة، والمواهب الصاعدة، وإهمالها وعدم العناية بها، مع أنها ترى أنها أميز من غيرها من الأقران، والواجب على التابع أن لا يؤثر ذلك فيه لكن بعض الأتباع ضعيف، فعند إهمال المتبوع له -عالم أو داعية أو مرب- يفارق التابع مجلس متبوعه ودرسه، وربما انقلب عليهم بالحط والثلب، وحينها يجد من يتلقفه من أهل الشر، فيرفعه ويعتني به ويستخدمه معول هدم للحق، وأذكر أن فتى يافعاً نبيهاً صار بينه وبين مشايخ بلدته جفوة واختلاف فيمم شطره لبعض مشاهير الشعراء من النصارى، فاعتنى به عناية فائقة لما رأى من نبوغه وعبقريته، وظل يتعاهده ويواصله بالمراسلة مع أن هذا الفتى في العشرينيات، والنصراني في الثمانينيات. وحدثني بعض أهل العلم والأدب عمن عاصر عبد الله القصيمي -العالم السلفي الذي انقلب إلى ملحد- أن من أسباب صدوده عن أهل العلم، وثورته على الدين وأهله أنه لما قدم من مصر كان يعتمر العقال، ويعتني بمظهره اعتناء زاد على المألوف، فكأن بعض أهل العلم استوحشوا ذلك منه فجفوه، وكان دُعي إلى وليمة لبعض أهل العلم، فلم يأبهوا به ولم يقدموه، فحمل ذلك في نفسه وفارقهم. وفي مقابل ذلك نرى جلدا من أتباع الباطل في تكثير أتباعهم، والدفاع عنهم، واستماتتهم في نشر باطلهم، وكان لي قريب في المرحلة المتوسطة وكان كتب قصيدة فيها شيء من تمرد ونشرها في بعض الصحف، فاطلع عليها سفير سبعيني، فأرسل له رسالة خاصة يثني عليه بها. ورأيت شاباً انتحل مذهب الحداثيين في التمرد، فجاوز المعهود في قوله، فأُخذ به، فوقف معه الحداثيون وسائر المنحرفين وقوفاً عجيباً، ودافعوا عنه باستماتة حتى ألغوا ما يستحق من العقاب. وفي مقابل ذلك فإن كثيراً ممن ابتلوا وهم على الحق لم يلتفت لهم أحد، فربما ضعف بعضهم بسبب ذلك، وانقلب على منهجه السابق. ¬

(¬1) تفسير التحرير والتنوير: 15/ 239.

وتفسير خذلان أهل الحق لأتباعهم، ونصرة أهل الباطل لأفراخهم أن أهل الباطل في مجتمعات المسلمين هم الأقلية، وأهل الحق هم الأكثرية، ومن السنن البشرية أن الأقلية دائمة التكتل، وتسعى في تكثير الأتباع، وتكون معتادة على أجواء التوتر، وتتقن التعامل مع الأزمات، بينما الأكثرية تكون في حالة أمن واسترخاء، ولم تعتد على أجواء التوتر، ولا تحس بفقد بعض أفرادها لكثرتهم. كما أن الحكومات قد تعودت من الأقليات على أنواع من التمرد فلا تستنكره منهم مهما كان عظيماً، بخلاف الأكثرية التي يستكثر منها ما هو صغير. السبب الثاني: الانفصام بين العلم والعمل: فأحياناً يقع الطالب على مخالفة وقع فيها شيخه -وهو يراه مثله الأعلى- فيسقط من عينه، ويجني على نفسه بإسقاط المنهج الذي ينتهجه شيخه، ويبحث له عن منهج آخر، وقد حُدثت عن بعض أهل العلم ممن هام في بعض المبتدعة، فتعصب له أن بداية ذلك: رحلته لشيخ يأخذ عنه، فرأى في بيته ما يكره أن يراه من شيخه، فنفر منه وتحول إلى شيخ مبتدع كان قد سمع به، فرآه على حال من الزهد لم يره في شيخه الأول، فكان ذلك فتنة له؛ فلزمه وهام به، وركب شيئاً من بدعته. ولو أنه أحسن لسأل شيخه عما كره فلعله معذور فيه، أو متأول، أو غير ذلك. ولو وفق للهدى لفرق بين علم الرجل وسمته؛ فليس كل زاهد في الدنيا يصيب السنة، وليس كل مخطئ في سلوكه يهجر لخطئه ولو كان من علماء السنة، والحق يعرف بالأدلة من الشريعة، ولا يعرف الحق بالرجال، كما أن الباطل يعرف بطلانه بالأدلة، ولا يحيله زهد صاحبه إلى حق. السبب الثالث: ضعف الفقه في علاج خطأ من أخطأ من أهل العلم والصلاح، أو فعل خلاف ما هو أولى أو ما لا يليق بأمثاله، أو أتى بقول شاذ، فيكون حقه التعنيف والتقريع والسخرية في كثير من الأحيان مما يجعله يصر ويكابر ويدافع عن موقفه ولو كان خطأ، وهنا يتسلل الشيطان إلى قلبه، ويركبه أهل السوء والنفاق؛ لتنفيره من أهل استقامة والصلاح، أو يحرج فيجتنبهم فيجد في الطرف الآخر من يحسن استقباله وتسليته. وأعرف واحداً من النابهين في العلم خالف في مسائل ولم يكن من أهل البلد الذي عاش طيلة عمره فيه، فكأن بعض الحاسدين له اقتنصوا مخالفته فشنعوا عليه وضايقوه حتى فارقهم ورحل عن بلادهم، فتلقفه آخرون، وأحسنوا احتواءه، ووضعوه في مقامه اللائق به علمياً، وسخروا قوته العلمية في تشريع كثير من الرخص على وفق منهجهم، ونقد المنهج السابق بحجة التشدد. ولا شك في أنه يلام في ذلك، لكن النفس البشرية تضعف أمام المضايقات، وتستعبد لإحسان الآخرين ولو كانوا مخالفين في المنهج الصحيح.

ولو تأملنا السنة النبوية لوجدناها مليئة بحفظ مكانة الشخص ولو أخطأ، وعدم الإسراف في الإنكار عليه بتنقيصه والإزراء به، وفرق بين التعرض لشخصه بالهمز واللمز والتعرض لقوله بالتخطئة والنقد، وكثير من الناقدين لا يفرقون بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام الحد على الشارب فسبه بعض القوم قال صلى الله عليه وسلم رداً عليهم: ((لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ، وفي رواية: لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ على أَخِيكُمْ)) (¬1) وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إنزال الناس منازلهم (¬2)، ووضعهم في المقام اللائق بهم، وقال في سعد بن معاذ رضي الله عنه: قوموا إلى سيدكم، (¬3) وأنزل سيد قريش أبا سفيان منزلته فقال في الفتح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. (¬4) فالنابهون والمميزون وذوو الشأن ليسوا كغيرهم، وينبغي إعطاؤهم حقهم من التوقير والاحترام والاهتمام؛ لأن في تأليفهم خدمة للدعوة وإعزاز للدين بهم. ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أنه كان يعامل كل أحد بحسب إيمانه وقوته في الحق: فهجر الثلاثة المخلفين؛ لما ظهر من صدقهم في عدم اختلاق الأعذار؛ وذلك لتربيتهم، وظهر صدق توبة كعب رضي الله عنه في رفضه لعرض ملك غسان .. فلا تكون هذه المعاملة قاعدة ثابتة، ولا تصلح مع كل أحد. ولم يول خالد بن الوليد رضي الله عنه في أول إسلامه مع شهرته في القيادة، وجعله جنديا تحت قادة هو أولى بالقيادة منهم من الجهة العسكرية، وما أرى ذلك -والله أعلم- إلا تربية له؛ ليكون إسلامه لله تعالى ولا حظ فيه لشيء من الدنيا والهوى ... فلما صح ذلك من خالد رضي الله عنه ولم يتضعضع أنزله النبي عليه الصلاة والسلام منزلته اللائقة به وولاه وقال: سيف من سيوف الله (¬5)، ولما أخطأ تبرأ من خطئه (وقال اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد) (¬6) لكنه لم يهدره ولم يعزله. وهكذا فعل الصديق رضي الله عنه، فلما تولى عمر خشي أن يفتن الناس به فعزله ولم يهدر منزلته بل أمر أبا عبيدة أن يستشيره في الحرب. وأعطى المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، والأنصار أسلموا ولم يريدوا من الدنيا شيئا، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أسلموا ما كان عنده شيء، بل خاطروا بدنياهم لأجله، وهذا من أبين الأدلة على تمكن الإيمان من قلوبهم، فعاملهم بحسب إيمانهم. والمخطئون في معاملة من أخطأ من النابهين على طرفين: فطرف يداهنهم في دين الله تعالى لإرضائهم، ويوافقهم في بعض باطلهم بزعم أن يقبلوا الحق الذي عنده، وهي طريقة من يظنون أنهم من أهل التيسير، وهم في الحقيقة أهل التمييع والمداهنة في دين الله تعالى مع الكفار والمنافقين والمنحرفين، ولما ساومت قريش رسول الله على دينه أنزل الله تعالى سورة الكافرون؛ ليعلم الناس أنه لا مساومة على دين الله تعالى، وحسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فقال: ((فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، والله أني لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ على الذي بعثني الله له حتى يُظْهِرَهُ الله له أو تَنْفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ)) (¬7) يعني: رقبته الشريفة. ¬

(¬1) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري (6395 - 6399). (¬2) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنها عند أبي داود (4842). (¬3) رواه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: البخاري (2878) ومسلم (1768). (¬4) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: مسلم (1780). (¬5) رواه من حديث أنس رضي الله عنه: البخاري (4014). (¬6) رواه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري (4084). (¬7) رواه من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أحمد: 4/ 323.

وطرف آخر يجفوهم ولا يأبه بهم، وإذا أخطئوا عنف عليهم وتجاوز في انتقاده لهم، فتخسرهم الأمة بسبب هذه المواقف التي يمكن اجتنابها. وينتج عن خروجهم من صف الدعوة مفاسد أهمها: 1 - ربما خسارتهم لدينهم، كمن ألحدوا أو انتهجوا مناهج الشك، أو صححوا أديان الكفار، نسأل الله تعالى العافية 2 - خسارة الأمة لطاقات نابهة. 3 - استخدام أعداء الإسلام لهم، وتجييشهم ضد الدعوة والدعاة من أوجه: أ - الاستفادة مما لديهم من معلومات شرعية للطعن في الشريعة أو للاستدلال على ما يريدون من انحراف الناس، وقد رأينا بعد موجات الارتداد والانقلاب أن كثيرا من وسائل الإعلام التي تدعو الناس إلى الفساد والثورة على الدين صارت تعرض من النصوص والأقوال ما يؤيد شبهاتها، وكل هذا إنما يؤخذ من هؤلاء المنقلبين على أعقابهم سواء كان مباشرة وبأقلامهم أم بواسطة. ب - محاولة إقناع المترددين بهؤلاء الذين سبقوهم إلى الانحراف، وخاصة أنهم يصفونهم بالجراءة والشجاعة والتحرر من التقليد، ويلقون في أنفسهم بأنهم رواد وطلائع للتغيير وللنهضة المنتظرة. ت - الصد عن دين الله تعالى، كأنهم يقولون لمن يريد الاستقامة على دين الله تعالى والانتظام في سلك الصالحين: هؤلاء جربوا الطريق قبلك. ث - كشف عورات المسلمين، بذكر ما رأوا على الصالحين والدعاة والعلماء من هفوات وزلات لا يسلم منها بشر، وتضخيمها والكذب عليها. ومن ذلك اتهام الجمعيات الخيرية أو حلقات التحفيظ أو المراكز الصيفية ونحوها. ج - بث الشبهات في دين الله تعالى، فكثير منهم حضروا مجالس العلماء والدعاة، ويعرض فيها بعض المسائل الخلافية والمشكلة، أو التي يثيرها الخصوم فيتلقفها فإذا انقلب صار يشغب بها على العلم والعلماء والدعوة والدعاة، وقد أخذها منهم. السبب الرابع: اختيار أضعف ما عند الخصوم من أصحاب الفرق الضالة أو التيارات الفكرية المنحرفة والرد عليه، والإلقاء في روع الأتباع أن الشبهة انتهت وأن حجة الخصم سخيفة أو ضعيفة وهي في واقع الأمر ليست كذلك، فمع الانفتاح الإعلامي والثقافي صار الشاب يطلع على ما عند الآخرين، وإذا هو ليس ضعيفا كما صوره شيخه، بل فيه قوة، ويحتاج في رده إلى حجة، فينحرف بسبب ضعف جواب شيخه، أو يجد شبهات أخرى لم يتعرض لها شيخه. أسباب التثبيت على الحق: من رحمة الله تعالى بعباده أنه لما ابتلى أهل الحق بفتنة أعدائهم لهم، وتسلطهم عليهم، وانقلاب بعض إخوانهم على مناهجهم فإنه سبحانه بين أسباب الثبات على الحق ليحافظ عليها من أراد الثبات، ومن تلكم الأسباب: 1 - قراءة القرآن بتدبر، ففيه قصص الثابتين على الحق للاقتداء بهم، وقصص الناكصين للحذر من سلوك مسلكهم قال الله تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102] وقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].

2 - نصرة الدين بشتى أنواع النصرة بلسانه أو قلمه أو يده والدفع عن الإسلام؛ فإن فاته شرف الجهاد في سبيل الله تعالى بيده فلا يفوته شرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه من الجهاد، وخير وسيلة للدفاع هي الهجوم، ومن كان ناصرا لدين الله تعالى فإنه يستحيي أن ينقلب عليه، والله تعالى وعد من نصر دينه بالنصر، والمنصور يثبت على الحق ولا ينقلب عليه، قال الله تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. 3 - الدعاء بالثبات؛ فله أثر عجيب في ذلك، ذلك أن القلوب بيد الله تعالى، قال الله تعالى {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:250] وقال تعالى {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [آل عمران:147] وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)) 4 - الاستعاذة بالله تعالى من الكفر والنفاق؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله تعالى من الكفر وهو معصوم منه (¬1)،وإذا خرج من منزله تعوذ من الزلل والضلال والظلم والجهل (¬2).وكان يتعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور (¬3)، قال الترمذي في معناه: (إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى المَعْصِيَةِ، إِنَّمَا يَعْنِي الرُّجُوعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرِّ.) (¬4) 5 - فعل المأمورات، واجتناب المحظورات؛ فإن الشيطان يزين للعاصي تسويغ معصيته بالدين، قال الله تعالى في العاصين من بني إسرائيل {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]. ¬

(¬1) كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند أحمد: 34/ 17 ط: الرسالة، وصححه ابن خزيمة (747) وابن حبان (1028). (¬2) كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها عند أبي داود (5094)، وصححه ابن خزيمة (747) وابن حبان (1028). (¬3) كما في حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه عند الترمذي، وقال: حسن صحيح (3439). (¬4) جامع الترمذي، ط: شاكر5/ 498.

مع السعي الجاد في طاعة الله تعالى، وكثرة عبادته؛ فأهل الكهف لما سعوا إلى طاعة ربهم، وهربوا من شرك قومهم أعانهم الله تعالى على ما أرادوا، وثبتهم عليه، وقص الله تعالى علينا خبرهم لنتأسى بهم في الثبات {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] والصحابة لما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحديبية طائعين لله تعالى ثبتهم الله تعالى على إيمانهم قال الله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. مع مجاهدة النفس على الإيمان والطاعة، والبعد عن المحرمات {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فوعد الله تعالى بهدايتهم متى ما جاهدوا أنفسهم، وخصهم بمعيته لأنهم محسنون. 6 - قراءة سير السلف من الثابتين على الحق {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] [هود:120] ولذلك قص النبي عليه الصلاة والسلام على خباب رضي الله عنه سير الثابتين قبلهم لما شكوا إليه ما يلقون من الأذى. ومنه قصة الساحر والغلام والكاهن، وقول الغلام لما خدت الأخاديد (يا أمه اصبري فإنك على الحق) (¬1). 7 - تعاهد القلب وملئه بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله عليه الصلاة والسلام فإن ذلك يدفع للثبات والتضحية، فالوالد من فرط محبته لولده يفديه بحياته، والعشيق يفدي معشوقته. ومحبة الله تعالى أكبر وأسمى من محبة الولد والمعشوقة؛ لما لله تعالى من أفضال كثيرة على العبد، ولحاجة العبد الدائمة إلى العبودية لله تعالى. 8 - كراهية الكفر وأهله واستحضار عاقبتهم دائما؛ كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)) (¬2) 9 - التواصي بالحق وبالصبر؛ فإن الله تعالى استثني من الخسران من تواصوا بهما، قال تعالى {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] وقال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] وكذلك الصلاة والمحافظه عليها كما في الآيات الأخرى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى .. 10 - كثرة ذكر الله تعالى {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد:28] وطمأنينتها سبب لثباتها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]. 11 - لزوم التقوى؛ فبها ينال العبد برهاناً ونوراً وفرقاناً يعرف به الحق من الباطل فلا يلتبس عليه كما قال تعالى {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة:282] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28] فمن علمه الله تعالى، ورزقه فرقاناً، وجعل له نوراً فلن يزيغ أو يضل أو يضعف. ¬

(¬1) رواه من حديث صهيب رضي الله عنه مسلم (3005). (¬2) رواه البخاري (21) ومسلم (43).

المسلمون إرهابيون .. عدا %99.6 منهم!!

المسلمون إرهابيون .. عدا %99.6 منهم!! سعيد حارب 24 ذو الحجة 1431هـ عنوان المقال ليس من عندي، لكنه خلاصة تقرير نشرته الشرطة الأوروبية «يوروبول» وتناقلته «بعض» وسائل الإعلام، وجاء ليصدم كثيرا من المتابعين والمراقبين في الغرب الذين كانوا يتوقعون أن يلقي التقرير بالتهمة على المسلمين، كما حاول كثير من وسائل الإعلام أن يصور جميع المسلمين، أو الغالبية العظمى منهم، كإرهابيين، فجاء هذا التقرير الصادر عن أعلى مؤسسة أمنية أوروبية ليفاجئ معظم الغربيين بل كثيرا من المسلمين، فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر والأنظار تتجه إلى المسلمين باعتبارهم مصدر الإرهاب في العالم، ولم تبق وسيلة إعلامية أو مركز دراسات متخصص إلا وبحث هذه القضية التي أصبحت من القضايا المسلّمة عند كثير منهم، فهذا التقرير الصادر عن الفترة من 2006 وحتى 2009 الذي نشر على موقع ( loonwatch.com) اختار هذا العنوان «الساخر» ليعبر عن حالة الرعب التي ترسمها صور الإعلام وبعض السياسيين في الغرب، وقد جاء في التقرير أن مروجي «رهاب الإسلام» (الإسلاموفوبيا) يعملون من أجل نشر ادعائهم بأن «ليس كل المسلمين إرهابيين، ولكن كل الإرهابيين (تقريبا) مسلمون». ورغم أن هذه الفكرة أخذت تصبح بديهية في بعض الدوائر، فإنها ببساطة ليست صحيحة، وقد استند التقرير إلى سجلات الـ «أف. بي. آي» (مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي) الذي بين أن %6 فقط من الهجمات الإرهابية داخل الولايات المتحدة من 1980 إلى 2005 نفذت بأيدي إسلاميين متطرفين، أما الـ%94 الباقية من الهجمات فقد نفذتها مجموعات أخرى، فـ%42 نفذتها مجموعات من أميركا اللاتينية، و%24 نفذتها مجموعات يسارية، و%7 نفذها يهود متطرفون، و%5 نفذها شيوعيون، و%16 نفذتها جميع المجموعات الأخرى، وفي الواقع فإن نسبة ضخمة من الهجمات الإرهابية في أوروبا (%99.6) نفذتها مجموعات غير إسلامية. وبلغت نسبة الهجمات التي نفذتها مجموعات انفصالية لا صلة لها بالإسلام إطلاقا %84.8. وبلغت حصة المجموعات اليسارية من الهجمات الإرهابية 16 من مرة نسبة هجمات المجموعات الإسلامية، في حين إن نسبة %0.4 فقط من الهجمات الإرهابية خلال سنوات 2006 - 2008 يمكن أن تنسب إلى مجموعات إسلامية، وكمثال على ذلك، فإنه في عام 2006 وقعت 498 عمليه إرهابية كان منها 424 عملية قامت بها مجموعات انفصالية، و55 عملية قامت بها مجموعات يسارية، بينما لم توجه التهمة «الإسلامية» بصفة رسمية إلا لعملية واحدة!! وفي عام 2007 وقعت في أوروبا 583 عملية إرهابية كان من بينها أربع عمليات فقط وجهت لها صفة «الإسلامية» بصفة رسمية حيث وقعت اثنتان منها في بريطانيا وواحدة في الدنمارك وواحدة في ألمانيا، بينما كان هناك 532 عملية قامت بها مجموعات انفصالية، و21 عملية قامت بها مجموعات يسارية، وهكذا يمضي التقرير ليحدد طبيعة العمليات التي وقعت في أوروبا وتوصف بالإرهابية، ليتبين أن العمليات التي وصفت بـ «الإسلامية» لا تتجاوز %0.

4 من مجمل العمليات التي توصف بالإرهابية في أوروبا!! فما السر في هذه «الضجة» حول الإرهاب «الإسلامي» بينما يتجاهل الجميع مئات العمليات الإرهابية التي يقوم بها الانفصاليون واليساريون وغيرهم؟ يجيب التقرير: «التصور ليس هو الواقع، ونتيجة لنفوذ ودعاية التيار اليميني، هناك أناس يعتقدون خطأ أن (الإرهاب الإسلامي) هو أكبر تهديد للعالم الغربي، حتى إن هناك اعتقادا شائعا بأن (الإرهاب الإسلامي) يشكل تهديدا وجوديا، أي أن بقاء العالم الغربي بحد ذاته مطروح في الميزان، هناك تهويل وتركيز متعمدان عندما يتعلق الأمر بأعمال يرتكبها مسلمون، ما يروج لفكرة أن جميع الإرهابيين (تقريبا) هم مسلمون». بقي أن نسأل: هل من العدالة والإنصاف أن يتهم المسلمون جميعا بالإرهاب لأن عددا محدودا منهم يمارس ذلك؟ ولماذا كلما انفجر إطار سيارة في مكان ما من العالم تلفت الناس حولهم يبحثون عن أي مسلم حتى يلصقوا التهمة به، بحيث أصبح كل مسلم -خاصة إذا كان عربيا- موضع اشتباه في مطارات العالم ومحطات القطارات ومواقف السيارات، حتى أصبح بعض الطيارين يرفض الإقلاع بالطائرة لأن أحد ركابها مسلم؟!! لقد مضت السنوات العشر الأخيرة وموضوع «الإرهاب الإسلامي» يتصدر عناوين الكتب ووسائل الإعلام وأفلام السينما وتقارير المراكز وخطب السياسيين، بل أصبح الشماعة التي تعلق عليها كل الممارسات الخاطئة من كبت للحريات وغياب للديمقراطية وانتهاك لحقوق الإنسان واحتلال للدول، فكل ذلك مبرر باسم الحرب على الإرهاب، هذه الحرب «الوهمية» التي لم تقض على الإرهاب بل زادته انتشارا وسعيرا؛ لأن الإسلام لم ولن يكون سببا للإرهاب، بل هو أهم الحلول للقضاء على الإرهاب، إن أحدا لا يمكن أن يتجاهل هذه الظاهرة التي تعود في جذورها إلى أسباب كثيرة لم تعمل الدول على حلها ومعالجتها، بل سلطت وسائل الإعلام لـ «تضخيمها»، بل جعلتها «صناعة» يقتات عليها البعض من الإعلاميين والباحثين، وتتصدر عناوين الأخبار والصحف، بحيث يصبح خبر إلقاء القبض على متهم بالإرهاب في قرية من القرى العربية خبرا عاجلا على شاشات التلفزيون وصفحات الإنترنت، ويتصدر نشرات الأخبار، بينما يتراجع خبر إقرار الكنيست الإسرائيلي ليهودية الدولة ليصبح الخبر الثالث في نشرة الأخبار أو ضمن العناوين الفرعية للصحف وصفحات الإنترنت!! ويصبح اكتشاف مجموعة إرهابية أهم من اكتشاف طبي!! وإذا كان هذا متصورا في وسائل الإعلام الغربية، فما السر في «انجرار» بعض وسائل الإعلام العربية لهذا الطريق، إلا إذا كنت تقوم بدور في تضخيم هذه الظاهرة لتحقيق مصالح أخرى؟ فتضخيمها لا يخدم المجتمعات، بل يجعلها أسيرة الخوف والرعب، ويعطل تنميتها، ويجعل الشعوب تضحي بحريتها وحقوقها في سبيل مواجهة الإرهاب، فهل هذا هو المطلوب؟!!

بيان آل البيت النبوي من أهل الحرمين الشريفين في الدفاع عن الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين وإعلان حقيقة مذهبهم قديما وحديثا في تعظيم وإجلال الأزواج والأصحاب

بيان آل البيت النبوي من أهل الحرمين الشريفين في الدفاع عن الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين وإعلان حقيقة مذهبهم قديما وحديثا في تعظيم وإجلال الأزواج والأصحاب ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القائل: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانا) والقائل: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد القائل: (لا تسبوا أصحابي) وعلى آله المعظمين لجنابه الشريف الحافظين لحرمة أصحابه وزوجاته أمهات المؤمنين وعلى جميع أصحابه أحفظ الناس للوصية النبوية في الآل المطهّرين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين … وبعد: فإن مما عظمت به المصيبة وجلّ به الخطب أن يسمع المسلمون من حين لآخر تطاولًا على أحد سادة هذه الأمة وأئمة الهدى, من بعض الموتورين والمرجفين من أهل الباطل والضلالة ودعاة الفتنة، والذين يتبرأ من فعلهم كل علماء المسلمين وعقلائهم .. ومن أقبح ذلك التطاول الذي يُروِّجُ له بعضُ أهلِ الباطل: إفكُهم ووقيعتُهم في أم المؤمنين الصديقة عائشة بنت أبي بكر الصديق (رضي الله عنها وعن أبيها) التي برأها الله تعالى من فوق سبع سموات، وجعل براءتها قرآنًا يتلى ويتعبد به إلى قيام الساعة. فكانت تلك البراءةُ والفضيلةُ والطهارةُ نورًا ساطعًا في وضيء سيرتها الكريمة يبقى ما بقي القرآن يتلى. فهذا كلام الله سبحانه وتعالى فاضحٌ ذلك الإفكَ والبهتان والتزييف, كاشفٌ فسادَ وضلال وجرم من تجرَّأ على مقامها المنيف رافعٌ قدرَها, مقرِّرٌ طهرَها, مبرئٌ عِرْضَها, يذبُّ عن جنابها الشريف. قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ {، وقال تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ {، وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ {، وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {. ولا ينكر طهارتها وبراءتها بعد هذا الوحي الإلهي المنزَّل؛ إلا من خذلته الضلالة وأعماه الهوى, وانحرف عن الصراط المستقيم، فلا يخرج عن باطل التأويل إلا إلى تكذيب التنزيل ولا من الضلال المبين إلا إلى الكفر برب العالمين.

وجميع ما ذكر هو مما أجمعت عليه أمة الإسلام ومنهم آل البيت فإن آل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حافظون لحقها ولحق باقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأخيار البررة, لما لهم من الشرف الرفيع والقدر الكبير والفضل المشهور، معتقدين أن الطاعن في أي واحد منهم آثمٌ معتدٍ مأزور، فحق الصحب الكرام (رضي الله عنهم أجمعين) واجب على جميع المسلمين، وفضلهم ومحبتهم ومعرفة مكانتهم أمرٌ لازمٌ على جميع المؤمنين. ولم يكن في يوم من الأيام حِفْظُ حق أمهات المؤمنين ومعرفةُ حق الصحب الأكرمين سببًا لتجاهل حق قرابات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريته المطهرين، بدءًا بالصحب الكرام, إلى الأئمة الأعلام من أمة الإسلام, فكلهم عاملون بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آل بيته, مكرمون لهم, عارفون لهم مكانتهم, يرون لهم في الحب حقًّا لا يشاركهم فيه غيرهم، وأخبارهم في ذلك مبسوطة طويلة في محلِّها, ومصنفاتهم شاهدة على صدقها. فهي محبة صادقة ألفت بين قلوب الآل والأصحاب لا غلو فيها ولا جفاء, تمثل منهج الاعتدال والوسطيَّة بالمحبة المتبادلة بين القرابة والصحابة، ومن زعم غير ذلك فقد افترى إثمًا وبهتانًا عظيمًا. ونحن إذ نخرج هذا البيان ونسطره فإنما نقوم بذلك قولًا للحق وردًّا على الباطل, ودفاعًا عن أمنا أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق (رضي الله عنها وعن أبيها) فلئن كان حقها على كل مسلم عظيمًا, فحقها علينا آل البيت أعظم, فذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوجاته أمهات المؤمنين أهل بيت واحد, وفيهم جميعًا قال النبي عليه الصلاة والسلام في تعليمه لأمته الصلاة عليه كما في الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قولوا اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ومع الحق الكبير لأم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) على آل البيت بكونها واحدةً من سادة البيت النبوي (كما سبق) , فيزداد حقُّها عليهم عظمًا, بصلة قربى بين آل البيت الحسنيين والحسينيين وآل أبي بكر الصديق من جهة المصاهرة والولادة: فقسمٌ كبير من ذرية سيدنا الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) من أشراف الحجاز وأشراف المخلاف السليماني وبعض من في العراق ومصر وغيرها من البلاد الإسلاميَّة والسواد الأعظم منهم لهم صلةُ نسبٍ من أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)؛ لأن جدهم عبد الله الرضا بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي رضي الله عنهم أمه هي أم سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر, وأم طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق, كما هو منصوص عليه في كتب الأنساب المعتمدة. ومثلهم في ذلك ذريةُ سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما): فبنو جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي رضي الله عنهم في مختلف البلاد ممن يفخرون بولادةٍ من جدِّهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه كذلك؛ فأم جعفر الصادق هي فروة بنت القاسم الفقيه بن محمد بن أبي بكر, وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر, ولهذا كان جعفر الصادق يعتزُّ بهذه الولادة فيقول (فيما يُروى عنه): ولدني أبو بكر مرتين.

فحق لنا آل البيت من هذه البطون والأصول المعروفة وغيرهم من آل البيت أن نكون أولى بأمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها من غيرنا وأن يكون واجب الدفاع عنها أوجبَ علينا منه على غيرنا وأن نكون أقوى سدٍّ وأمنع حصنٍ لجنابها الشريف من تعدي ووقيعة المفسدين ومن تطاول وإساءة المفترين. فإن لها رضي الله عنها من خصائص التفضيل بعدما جاءت بطهارتها آيُ التنزيل عَلَمًا شامخًا ومجدًا باذخًا, ما علاه كبيرُ أحدٍ من السادة الأخيار, ولا حازه أكثرُ ذوي الأقدار، فكثير من فضائلها (رضي الله عنها) قد ثبتت بالأسانيد الصحيحة, وتزيَّنَت بعاطر سيرتها دواوين الإسلام, وتوثَّقت بعروتها كتب الحديث المعتبرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم. ومن ذلك ما أخرجه البخاري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعث عمار بن ياسر وابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما للبصرة فقدما الكوفة فصعدا المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن وكان عمار يقول عن عائشة حينها: (والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة). وغير ذلك من فضائلها الجليلة ومناقبها الكريمة, وإنما قصدنا لنغترف هذا الخبر خاصة من بحر فضائلها وأن نقتبس جذوةً من شمس مناقبها لحكمة لطيفة, منها أنه خبرُ عمار بن ياسر في محضر الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين, وأنه خبرٌ قاله عمار (رضي الله عنه) المبعوث من علي (رضي الله عنه) - سيد آل البيت - أيام خلافته وخلافة من قبله من الخلفاء الراشدين, وأنه بيانٌ لفضلها ومكانتها في الدنيا والآخرة. وإن أمَّة الإسلام كلها (وفي مقدمتهم آل البيت) قد أجمعوا على أن أم المؤمنين الصديقة عائشة بنت أبي بكر الصديق (رضي الله عنها وعن أبيها) سيدةٌ من سيدات هذه الأمَّة, اختارها الله تعالى لنبيه, فهي زوجته في الدنيا والآخرة, واعتقدوا لها واجبَ التعظيم والإجلال والتوقير, لمكانتها من قلب رسول الله وحبّه, ولإيمانها وتعبّدها وتألّهها, ولفقهها وعلمها, ولرَفْعِ الله تعالى قدرَها بتبريئها في قرآن يُتلى إلى قيام الساعة. ومما يشهد لحفظ آل البيت حقَّ أمهم عائشة الصديقة (رضي الله عنها) ورعايتهم غايةَ الرعاية لواجبها الخاصِّ عليهم: قصصٌ جليلةٌ وأخبارٌ كثيرة, أرّخها التاريخ ووعاها الرواة. ومنها خبر لأحد أكابر سلالة سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله وأهل بيته وأمته الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو السيد الحسن الملقب بالداعي الكبير بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما مؤسِّس دولة آل البيت العلويين بطبرستان ونواحيها سنة 250هـ فقد سطَّر موقفًا من مواقف الكرم والوفاء والإيمان في الذبِّ والدفاع عن عرض وجناب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك فيما رواه اللالكائي وغيره عن أبي السائب عتبة بن عبد الله الهمداني قال: (كنت يومًا بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة، وكان بحضرته رجل، فذكر عائشة بذِكرٍ قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا! فقال: معاذ الله! هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم}، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث (حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم) فهو كافر فاضربوا عنقه فضربوا عنقه وأنا حاضر).

وروى اللالكائي أيضًا عن أخيه محمد بن زيد الداعي الصغير الذي تولى أمر طبرستان من بعده أنه قدم عليه رجل من العراق، فذكر عائشة بسوء وفُحش, فقام إليه فقتله. والخلاصة أن منهج آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو معرفة حق أصحاب رسول صلى الله عليه وآله وسلم وزوجاته أمهات المؤمنين، والاعتراف بفضلهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار لهم، ونشر محاسنهم ومناقبهم، والتذكير بمواقفهم الجليلة في خدمة الدين. فهذا هو المنهج الحق الذي كان عليه أكابر أئمة أهل البيت والعترة المطهرة في القرون المفضَّلة, ومقالاتهم في ذلك ساطعة البرهان واضحة البيان. بل لقد نقل محمد الباقر بن علي زين العابدين إجماعَ آل البيت على تعظيم الشيخين أجلّ تعظيم, فقد رُوي عنه أنه كان يقول: أجمع بنو فاطمة على أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن ما يكون من القول. وهكذا كان أهل البيت حقًّا في كل زمان ومكان: أهلَ اعتدالٍ ووسطيَّة, ودعاةً لاجتماع الكلمة على الدين والسنة. وهم من أشدّ الناس نبذًا لأسباب الاختلاف وبغضًا لدواعي الفتنة، حريصون على القيام بالحق وللحق, منكرون للباطل الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومنه الوقيعة في سلف هذه الأمة ورعيلها المبارك الأول, الذين جاء تعديلهم وتزكيتهم والثناء عليهم في كتاب الله العزيز، فقال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا {. وقال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {، والذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). وما نقرِّره هنا هو منهج آل البيت في أطهر البقاع المقدَّسة على وجه الأرض في الحرمين الشريفين ونواحيهما، وهو نهج أسلافنا من قبل ومن بعد، مشايخَ وأعيانًا, وقبائلَ وأفرادًا. ولا نقول في ختام هذا البيان إلا: الله الله في كتاب الله أن يُتعرض له ولأهله أو يهان. والله الله في حق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ومقامه الكريم أن يناله أحدٌ بالتنقّص والبهتان. والله الله في آل البيت النبوي من أن تُضيّعَ مكانتهم ووصيةُ جدهم فيهم بالمودة والإحسان. والله الله في زوجاته أمهات المؤمنين اللاتي ذكر الله تعالى فضلهن وطهارتهن في آي القرآن. والله الله في أصحابه الذين جاء في الوحيين مقامهم العظيم بجليل المناقب والرضوان. والله الله في أئمة الإسلام وقدوة الهدى من أن يُنالوا بسوء من أهل الفتنة والعصيان. والله الله في أمَّة الإسلام من إثارة الفتن والنزاعات الطائفيَّة والمذهبيَّة فيها, بما لا يُرضي الله تعالى ولا ينتفع به إلا أعداءُ أمتنا من أهل الكفر والطغيان. والله الله في كل مسلم ومسلمة في مشارق الأرض ومغاربها, فلهم حقوق أخوة الإيمان. هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. ... كتبه من آل البيت: 1 - الشريف هزاع بن شاكر العبدلي رئيس اللجنة الخاصة لضبط وتوثيق أنساب الأشراف بالمملكة العربية السعودية شيخ الأشراف العبادلة ذوي حمود 2 - د/ الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العوني عضو مجلس الشورى السعودي والأستاذ المشارك في علوم السنة والحديث النبوي بجامعة أم القرى

3 - الفريق م الشريف طلال بن محسن العنقاوي من كبار الأشراف العناقوة 4 - الشريف أحمد بن محمد بن حسن بشير المعافا قاضي محكمة التمييز بمكة المكرمة سابقاً عضو مجلس منطقة جازان 5 - الشريف فوزان بن سلطان بن راجح آل عون العبدلي ناظر وقف الشريف زيد بن فواز عضو اللجنة الخاصة لضبط وتوثيق أنساب الأشراف بالمملكة العربية السعودية. 6 - الشريف شرف بن عبد الله بن جساس البركاتي شيخ الأشراف البراكيت ذوي حسين 7 - الشريف محمد بن عبد الله بن عبد الكريم بن بديوي الهجاري شيخ قرية الأشراف بينبع 8 - الشريف ناصر بن علي بن شحاذ آل راضي الحسيني ناظر وقف الشريف ناصر بن علي بن حسين آل راضي سابقًا بالمدينة المنورة من كبار أشراف بني حسين بالمدينة المنورة 9 - الشريف منصور بن ناصر آل شهيل الحسيني ناظر وقف الأشراف بني حسين بالمدينة المنورة من كبار الأشراف بني حسين بالمدينة المنورة 10 - الشريف حميد بن حمود آل نامي شيخ الأشراف ببدر 11 - الشريف محمد بن عبد الله بن علي آل عون العبدلي شيخ الأشراف العبادلة ذوي ناصر آل عون 12 - الشريف عبد الله بن فراج بن عبد المعين آل عون العبدلي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بالكلية المتوسطة بمكة المكرمة سابقًا والكاتب الصحفي والمفكر الإسلامي، ومن كبار الأشراف العبادلة ذوي هزاع آل عون 13 - الشريف محمد بن حسين بن زيد آل عون العبدلي من كبار الأشراف بالطائف 14 - الشريف إبراهيم بن حسن بن علي الذروي شيخ قبائل الحسيني والنجوع عضو المجلس البلدي في محافظة صبيا. 15 - الشريف ممدوح بن نامي بن شاهين الشدقمي الحسيني ناظر وقف الأشراف الشداقمة من كبار الأشراف بني حسين بالمدينة المنورة 16 - الشريف ناصر بن عبد الكريم البركاتي القاضي بديوان المظالم بمنطقة مكة المكرمة. 17 - الشريف محمد بن الحسين بن ناصر خواجي رئيس كتابة العدل الثانية بجازان عضو مجلس الأوقاف الفرعي في منطقة جازان. 18 - د/ الشريف سامي بن محسن العنقاوي مدير مركز أبحاث الحج بجامعة أم القرى سابقًا وأستاذ العمارة والحضارة الإسلاميَّة 19 - د/ الشريف حسن بن علي بن عون الحارثي الأستاذ المشارك بقسم التاريخ بجامعة أم القرى 20 - د/ الشريف عدنان بن محمد بن فايز الحارثي عميد شئون المكتبات بجامعة أم القرى عضو المجلس العلمي في موسوعة الحرمين بمؤسسة الفرقان 21 - د/ الشريف نامي بن عوض الفعر رئيس قسم التربية الإسلامية بتعليم جدة عضو لجنة تطوير جمعيات تحفيظ القرآن الكريم الخيرية بمنطقة مكة 22 - د/حسن محمد البركاتي رئيس المجلس البلدي في الليث 23 - د/محمد أحمد النعيري موجه تربية إسلامية في إدارة تعليم الليث. 24 - أ/ الشريف عصام بن ناهض الهجاري المحاضر بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة طيبة عضو اللجنة الخاصة لضبط وتوثيق أنساب الأشراف بالمملكة العربية السعودية 25 - أ/ الشريف وائل بن سلطان بن عبد الكريم الحارثي المحاضر بقسم أصول الفقه بجامعة أم القرى الباحث في الشريعة والفكر الإسلامي 26 - الشريف محمد بن حسين الصمداني مشرف عام موقع آل البيت حول العالم وباحث في الشريعة والتاريخ والأنساب 27 - الشريف شاكر بن ناصر بن مستور الفعر العبدلي تربوي وباحث في الشريعة والتاريخ والأنساب ومشرف في موقع آل البيت حول العالم 28 - الشريف علي بن محمد بن أحمد أبو الخير المعافا المشرف العام على موقع الأشراف السليمانيين بالمخلاف السليماني وباحث في الشريعة والتاريخ والأنساب 29 - محمد أبو بكر الصعب إمام وخطيب جامع الوسقة الكبير بمحافظة الليث. 30 - الشريف خالد بن عبد المعين آل مهنا الحارثي باحث في الدكتوراه في الحديث وعلومه بجامعة أم القرى 31 - الشريف يحيى بن محمد الطالبي الخيراتي باحث في الماجستير في التربية الإسلامية بجامعة أم القرى إمام وخطيب جامع سعد بن معاذ بمكة المكرمة 32 - الشريف خالد بن خلف بن سند الجودي باحث في الماجستير في الحديث وعلومه بجامعة أم القرى.

فقه التيسير: الواجهة الخلفية للعصرانية

فقه التيسير: الواجهة الخلفية للعصرانية أحمد بن صالح الزهراني 7 ذو الحجة 1431هـ لاشكّ أنّ العصرانيّة أو الليبرالية الإسلامية أو العلمانية في ثوبها الجديد تتفق على أسلوب خطير في حربها للقيم الشرعية، ألا وهو الحرب من داخل صفوف الخصم، بمعنى استنبات أو دعم وإبراز عيّنات في صفوف الإسلاميين تبقى منتسبة للصف الإسلامي من حيث الاسم والمظهر، لكنّها من حيث الحقيقة والمضمون لا يُعلم لها وجه من قفا؛ فهي تتحدث عن الإسلام وللإسلام كثيراً، لكنّه كلام وحديث يصبّ في جعبة الخصم، وهذه العينات متفاوتة في السمات والخصائص، والتخصصات كذلك، لكنّ أشدّهم عبثاً ونكاية في الشريعة هم الشرعيّون، أعني من كانت بدايته وشهرته في العلم الشرعي تلقّياً وأداءً وإفتاء. ولهذا ظهرت في وقتنا مناهج جديدةٌ للتفقّه والإفتاء عجيبةٌ غريبةٌ، روّجها أدعياء دخلاء على الفقه بمعناه الصّحيح، الفقه الّذي جاء عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وتابعيهم بإحسان، وعليه تفقّه الأئمّة الأربعة، الفقه القائم على الكتاب والسنّة، والتأمّل فيهما في ضوء منهج السّلف الصّالح، لا بمنهجٍ منفلتٍ، يتلمّس الثغرات، ويبحث عن هفوات الأئمّة، وأخطاء الفقهاء ليصيّرها مذاهب فقهيةً، وآراء علميةً يتصدّر بها مجالس الفقه والإفتاء، ويزعم التّجديد في الفقه والشّريعة، «وقد قيل: إنّما يفسد النّاس نصف متكلّمٍ، ونصف فقيهٍ، ونصف نحويّ، ونصف طبيبٍ، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللّسان، وهذا يفسد الأبدان». وهذا الأمر ندر من يتكلّم فيه، ويبيّن دخنه وزغله، بل يُتّهم من يتكلّم فيه أنّه حاسدٌ، وأنه منفّرٌ، وأنّه ضدّ أيّ عملٍ ناجح، وأنّه مثاليٌّ لا واقعيّ، ويُقال له: إنّ الأمة بحاجةٍ لكلّ جهدٍ، وإنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- أمر كلّ النّاس بتبليغ الدّين .. إلى آخر هذه التلبيسات الّتي روّجها بعض من لا يستطيع الحياة والعمل إلاّ تحت أجواء السكوت عن الباطل، والمجاملة في الحق، والله المستعان. قال السّخاوي ـ رحمه الله ـ في ذكره الأماكن التي يجوز فيها ذكر المرء بما يكره: «ويلتحق بذلك المتساهل في الفتوى، أو التّصنيف، أو الأحكام، أو الشهادات، أو النّقل، أو الوعظ، حيث يذكر الأكاذيب وما لا أصل له على رؤوس العوام». التساهل في الفتوى له عند صاحبه مسوّغات عديدة، ولعلّ أسوأها وأشدّها خطراً ما يسمّى عند أصحابه (فقه التيسير) أو الفقه المتسامح، ومصدر خطورته أنّه تجاوز مرحلة خطأ المسلك الفردي، بل أصبح منهجاً ومقصداً بذاته، ثمّ أصبح بعد ذلك واجهة خلفيّة شرعية ومرجعاً علمياً لكل الدعوات العلمانية والعصرانية والليبرالية وغيرها من تشكّلات النفاق المعاصر.

وأصبحت الجرأة على الفتوى المخالفة للنّصوص سمة بارزة لرموز هذا المنهج، مدّعين بذلك التّيسير على النّاس، حتى أبطلوا شرائع، وأحدثوا في دين الله أمراً جللاً، استغلّه أفراخ العصرانيين ومدّعو الاستنارة في تقنين التّفلّت من الدّين، وتشريعه؛ ليكون فقهاً عصرياً يناسب المرحلة الراهنة، وهي - للأسف- هرطقة تتلبس بلباس المصلحة، وتتّخذ من المنهج التّيسيري مركباً تركبه، ووطاءً تطؤه، فيفضي ذلك إلى تحريف الشّريعة. قال ابن القيّم في سبب تحريف شريعة النصارى: «وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بافر كسيس أن قوماً من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها من الشام، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصّحيح، فدعوهم إلى العمل بالتوراة، وتحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان وإقامة السبت، وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة، فشقّ ذلك على الأمم، واستثقلوه، فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحبّبوهم إلى دين المسيح، ويدخلوا فيه، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم، وأكل ذبائحهم، والانحطاط في أهوائهم، والتخلّق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم» [هداية الحيارى ص (266 ـ 267)] .. ولهؤلاء (التيسيريّين) طرق شتّى في تطبيق هذا المنهج منها: 1 ـ التّوسّع في قاعدة الضّرورات. فيسوّغون مخالفة النّصوص الشّرعيّة بكلّ ما يعتبرونه ضرورة، وإن كان ليس كذلك، ولو لم تنطبق على الحالة شروط الضّرورة المعتبرة عند الفقهاء والعلماء الّذين بيّنوا متى يمكن اعتبار الحال ضرورة يُسوّغ معها الاستثناء من النّص. كمن يفتي بجواز سفر المرأة إلى ديار الكفر للدّراسة للضّرورة، فأين هي الضّرورة المسوّغة لمخالفة النّهي عن سفر المرأة بلا محرم وإقامتها في بلاد الكفّار؟! 2 ـ التّوسّع في القول بالمصلحة. وهذه من بدع العصر الحاضر؛ إذ كان القول بالمصلحة والتّوسّع فيها مسوّغاً ليس فقط للقول على الله بلا علم وتشريع ما لم يأذن به الله، بل كان باباً يلج منه كلّ من أراد التّصدّر للفتوى، ولهذا دخل في القول في مسائل الشّرع بعض من لا يفقه؛ إذ تصوّر هؤلاء أنّه بمجرّد علمه ونظره في المصالح يستطيع الاجتهاد في مسائل شرعيّة، مستدلاً بأقوال من مثل مقالة ابن القيّم «حيثما وجدت المصلحة فثمّ دين الله»، ونسي أو جهل هؤلاء أنّ هذا يسوغ في حالة فقدان النص العام أو الخاص، والحاجة إلى الاجتهاد في المصلحة، والموازنة، أمّا الولوج إلى الكلام في المسائل الشّرعيّة دون علم بما في النّصوص والآثار خصوصاً من الأحكام فيها وفي مثلها؛ فهذا في الحقيقة تقديمٌ بين يدي الله ورسوله، والله تعالى نهى عنه، وقد تقدّم الكلام فيه عند الكلام في الاستصلاح فيما مر. 3 ـ تتبّع الرّخص والأقوال الضّعيفة والشّاذّة. فإذا ضاق بهؤلاء الأمر لجؤوا إلى التّفتيش عن الأقوال والمذاهب الشّاذّة والضّعيفة المخالفة للنّصوص فأفتوا بها مع علمهم بمخالفتها للنّصوص؛ وحجّتهم في هذا أنّ لهم سلفاً في قولهم، وهذا ليس بسائغ في الحقيقة، بل إذا جاء النّص فبراءة إلى الله وإلى رسوله من كلّ قول يخالف الكتاب والسّنّة ولو قال به من قال، فكيف إذا كان القول محكوماً عليه بالشّذوذ والضّعف. 4 ـ التّلاعب بالألفاظ الشّرعيّة. كلّنا يعلم أنّ دلالات الألفاظ في اللّغة أوسع منها في الشّرع، لأنّ الاصطلاح الشّرعي استخدم اللفظ العربي وقيّده، فيأتي الواحد من هؤلاء ليأخذ دلالة اللفظ بكلّ سعته اللغويّة، ممّا يعني إدخال عناصر جديدة لم يشملها الاصطلاح الشّرعي.

فلفظ الحجاب مثلاً يمكن أن يشمل كل ما تحتجب به المرأة، مهما كان لونه أو صفته المهم أنّه حجاب للجسم، فيتوسّع بعض المفتين ليسوّغوا للمرأة أيّ نوع من الألبسة الّتي تستر الجسم، وهذا خطأ بلا ريب. بل الحجاب الشّرعي هو الّذي فعله وطبّقه نساء المؤمنين عندما نزلت آية الحجاب، فهو الحجاب الّذي فيه من الشّروط ما يجعله يحقّق الحكمة من مشروعية الحجاب، وهو بُعد المرأة عن الشّبهة وإثارة الفتنة ولفت النّظر. فإذا توسّعنا كما توسّع فقهاء التّيسير قلنا بمشروعيّة الحجاب الأحمر المزركش بالأصفر اللافت للنّظر الّذي جمّل المرأة وزاد من لفت الأنظار إليها. أقول: إنّ هذا المنهج بملامحه البيّنة هو منهج بعيد عن السنّة، والكلام فيه من أصعب الأمور لدقّة مسائل الفقه، بخلاف قضايا العقيدة الكبرى. قال العلاّمة الشّاطبي ـ رحمه الله ـ: «جاء في بعض روايات الحديث [أي حديث الافتراق]: «أعظمها فتنةً الّذين يقيسون الأمور برأيهم، فيحلّون الحرام ويحرّمون الحلال» [أخرجه الطبراني في الكبير (18/ 50 ـ 51) (ح90)، والحاكم (3/ 547) و (4/ 430)، وهو منكر لا أصل له، وحديث الافتراق مشهور صحيح] فجعل أعظم تلك الفرق فتنةً على الأمّة أهل القياس، ولا كلّ قياسٍ، بل القياس على غير أصلٍ، فإنّ أهل القياس متّفقون على أنّه على غير أصلٍ لا يصحّ، وإنّما يكون على أصلٍ من كتابٍ أو سنّةٍ صحيحةٍ أو إجماعٍ معتبر، فإذا لم يكن للقياس أصلٌ ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الّذي لا يصحّ أن يوضع في الدّين، فإنه يؤدّي إلى مخالفة الشّرع، وأن يصير الحلال بالشّرع حراماً بذلك القياس، والحرام حلالاً، فإنّ الرّأي من حيث هو رأيٌ لا ينضبط إلى قانونٍ شرعيّ إذا لم يكن له أصلٌ شرعيّ، فإنّ العقول تستحسن ما لا يُستحسن شرعاً، وتستقبح ما لا يُستقبح شرعاً، وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصلٍ فتنةً على النّاس. ثم أخبر في الحديث أنّ المعلّمين لهذا القياس أضرّ على النّاس من سائر أهل الفرق، وأشدّ فتنةً، وبيانه أنّ مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردّها واستفاضت، وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصّة والعامّة، بخلاف الفتيا، فإنّ أدلّتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلاّ الأفراد، ولا يميّز ضعيفها من قويّها إلاّ الخاصّة، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممّن يخالفها كثيرٌ». قلت: صدق رحمه الله، ولذلك فإنّ من أصعب الأمور اليوم أن تبيّن للعامة بل لكثير من طلاب العلم زيف دعوة بعض فقهاء الرّخص من المشهورين الآن، والسبب دقّة المآخذ عليهم ممّا لا يحسنه ولا يعيه أكثر النّاس. ثم قال الشاطبي: «وقد جاء مثل معناه محفوظاً من حديث ابن مسعودٍ أنّه قال: «ليس عام إلاّ والّذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: عامٌ أمطر من عامٍ، ولاعامٌ أخصب من عامٍ، ولا أميرٌ خيرٌ من أميرٍ، ولكن: ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدّث قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فيُهدم الإسلام ويُثلم». وهذا الذي في حديث ابن مسعودٍ موجودٌ في الحديث الصّحيح، حيث قال عليه الصّلاة والسّلام: «ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جهّالٌ يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلّون ويضلّون» [متفق عليه]. وقد تقدّم في ذمّ الرأي آثارٌ مشهورةٌ عن الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتابعين تبيّن فيها أنّ الأخذ بالرّأي يحلّ الحرام ويحرّم الحلال.

ومعلومٌ أنّ هذه الآثار الذامّة للرّأي لا يمكن أن يكون المقصود بها ذمّ الاجتهاد على الأصول في نازلةٍ لم توجدْ في كتابٍ ولا سنةٍ ولا إجماعٍ، ممّن يعرف الأشباه والنّظائر، ويفهم معاني الأحكام، فيقيس قياس تشبيهٍ وتعليلٍ، قياساً لم يعارضْه ما هو أوْلى منه، فإنّ هذا ليس فيه تحليلٌ وتحريمٌ ولا العكس، وإنّما القياس الهادم ما عارض الكتاب والسنّة، أو ما عليه سلف الأمّة، أو معانيها المعتبرة. ثم إنّ مخالفة هذه الأصول على قسمين: أحدهما: أن يخالف أصلاً مخالفةً ظاهرةً من غير استمساكٍ بأصلٍ آخر، فهذا لا يقع من مفتٍ مشهورٍ، إلاّ إذا كان الأصل لم يبلغْه، كما وقع لكثيرٍ من الأئمة، حيث لم يبلغهم بعض السّنن، فخالفوها خطأً، وأمّا الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلمٌ خلافاً ظاهراً من غير معارضةٍ بأصلٍ آخر، فضلاً عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا. والثّاني: أن يخالف الأصل بنوعٍ من التّأويل هو فيه مخطئٌ، بأن يضع الاسم على غير موضعه، أو على بعض مواضعه، أو يراعي فيه مجرّد اللّفظ دون اعتبار المقصود، أو غير ذلك من أنواع التّأويل. والدّليل على أنّ هذا هو المراد بالحديث وما في معناه؛ أنّ تحليل الشّيء إذا كان مشهوراً فحرّمه بغير تأويلٍ، أو التّحريم مشهوراً فحلّله بغير تأويلٍ كان كفراً وعناداً، ومثل هذا لا تتّخذه الأمّة رأساً قط، إلاّ أن تكون الأمّة قد كفرت، والأمّة لا تكفر أبداً. وإذا كانّ التّحليل أو التّحريم غير مشهورٍ فخالفه مخالفٌ لم يبلغْه دليله، فمثل هذا لم يزل موجوداً من لدن زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إنّما يكون في آحاد المسائل، فلا تضلّ الأمّة، ولا ينهدم الإسلام، ولا يُقال لهذا: إنّه محدثٌ عند قبض العلماء. فظهر أنّ المراد إنّما هو استحلال المحرمات الظاهرة أو المعلومة عنده بنوع تأويلٍ، وهذا بيّنٌ في المبتدعة الّذين تركوا معظم الكتاب، والّذي تضافرت عليه أدلّته، وتواطأت على معناه شواهده، وأخذوا في اتّباع بعض المتشابهات وترك أمّ الكتاب. فإذاً هذا ـ كما قال الله تعالى ـ زيغٌ وميلٌ عن الصّراط المستقيم، فإن تقدّموا [أي تصدّروا] أئمةً يفتون ويُقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدّهماء، ظناً أنّهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدّين، وهم يضلّون بغير علم، ولا شيء أعظم على الإنسان من داهيةٍ تقع به من حيث لا يحتسب، فإنّه لو علم طريقها لتوقّاها ما استطاع، فإذا جاءته على غرةٍ فهي أدهى وأعظم على من وقعت به، وهو ظاهرٌ، فكذلك البدعة؛ إذا جاءت العامّيّ من طريق الفتيا؛ لأنّه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم، فيضلّ من حيث يطلب الهداية». [الاعتصام ص534] وذكر ـ رحمه الله ـ أيضاً قصّةً طريفة تطابق ما هو مشهورٌ عن بعض من يُشار لهم بالفتوى في عصرنا هذا من متتبّعي سقطات ورخص الفقهاء بدعوى التيسير، قال ـ رحمه الله ـ: «ذكروا عن محمّد بن يحيى بن لبابة ـ أخ الشيخ ابن لبابة المشهور ـ فإنّه عزل عن قضاء ألبيرة، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه، وسجّل بسخطته القاضي حبيب بن زيادة، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته، وأن لا يفتي أحداً.

ثم إنّ النّاصر [أي: الأمير] احتاج إلى شراء مجشر [حوض لا يستقى فيه لجشره أو لوسخه وقذره، المعجم الوسيط (ص124)] من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النّهر، فشكا إلى القاضي ابن بقيّ ضرورته إليه لمقابلته منزهه، وتأذيه برؤيتهم أوان تطلّعه من علاليه، فقال له ابن بقيّ: لا حيلة عندي فيه، وهو أولى أن يُحاط بحرمة الحبس، فقال له: تكلّمْ مع الفقهاء فيه وعرّفهم رغبتي، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه، فلعلّهم أن يجدوا لي في ذلك رخصةً، فتكلّم ابن بقيّ معهم فلم يجدوا إليه سبيلاً، فغضب النّاصر عليهم وأمر الوزراء بالتّوجيه فيهم إلى القصر، وتوبيخهم، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمةٌ، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر، فدفع إلى النّاصر بعضاً من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنّهم حجّروا عليه واسعاً، ولو كان حاضراً لأفتاه بجواز المعاوضة، وتقلّد حقاً وناظر أصحابه فيها، فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمّد بن لبابة إلى الشّورى على حالته الأولى، ثمّ أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة، فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم، وعرّفهم القاضي ابن بقيّ بالمسألة الّتي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة. فقال جميعهم بقولهم الأوّل من المنع من تغيير الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت، فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أمّا قول إمامنا مالك بن أنسٍ فالّذي قاله أصحابنا الفقهاء، وأمّا أهل العراق فإنّهم لا يجيزون الحبس أصلاً، وهم علماء أعلامٌ يقتدي بهم أكثر الأمّة، وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به، فما ينبغي أن يردّ عنه، وله في السّنّة فسحة، وأنا أقول بقول أهل العراق، وأتقلّد ذلك رأياً. فقال له الفقهاء: سبحان الله! تترك قول مالكٍ الّذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمّة آبائه؟ فقال لهم محمّد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم! ألم تنزلْ بأحدٍ منكم ملمّة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالكٍ في خاصّة أنفسكم، وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟ قالوا: بلى! قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخُذوا به مأخذكم، وتعلّقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلّهم قدوة، فسكتوا، فقال للقاضي: أنْهِ إلى أمير المؤمنين فتياي. فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يُؤخذ له بفُتيا محمّد بن لبابة، وينفذ ذلك، ويعوّض المرضى من هذا المجشر بأملاكٍ ثمينةٍ عجيبةٍ، وكانت عظيمة القدر جداً، تزيد أضعافاً على المجشر، ثم جيء بكتابٍ من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطّة الوثائق ليكون هو المتولّي لعقد هذه المعاوضة، فهنئ بالولاية، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا، فلم يزل ابن لبابة يتقلّد خطة الوثائق والشّورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة». قال الشاطبي: «فتأمّلوا كيف اتّباع الهوى، وأولى أن ينتهي بصاحبه، فشأن مثل هذا لا يحلّ أصلاً من وجهين: ... الثاني: أنّه إن سلّمنا فلا يصحّ للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالمحبّة والإمارة أو قضاء الحاجة، إنّما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعاً، وهذا متّفقٌ عليه بين العلماء، فكلّ من اعتمد على تقليد قولٍ غير محقّق، أو رجّح بغير معنى فقد خلع الرّبقة، واستند إلى غير شرعٍ، عافانا الله من ذلك بفضله. فهذه الطّريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى، كما أنّ تحكيم العقل على الدّين مطلقاً محدثٌ». [الاعتصام (ص450)].

قلت: تأمّل ـ بارك الله فيك ـ ما في وصف الشاطبي لهذا الصّنيع باتباع الهوى، وهو صنيع ـ والله ـ بهذا الوصف حقيق، وكم في عصرنا هذا من نماذج وصور لهذا المفتي، فأصبح كثير من المتكلمين في مسائل الفقه غاية مرامه أن يحكي أقوال الفقهاء، حتى الشاذّ منها، ثم يميع قضيّة الفتوى ويدع للسائل الحرية في اختيار ما يهواه قلبه دون تنبيه إلى الكتاب والسنة وما يفيدانه في هذه المسألة محل السؤال، وهذا يفعله إمّا لجهله بالقول الحق الذي دلّ عليه النص، وإمّا لأنّه من المبتدعة الّذين لا يرفعون بالسنّة والاتّباع رأساً نسأل الله العافية. وهو ما يعبّر عنه الآن بالتّيسير، فأصبح قضاء حوائج الناس كبارهم وصغارهم مقصداً بارزاً أمام من يريد الفتوى من فقهاء منهج (التّسليك) المسمى: بالتيسير، وفي هذا اعتراف ضمني منهم أنّ الكتاب والسنة جاءا بالعسر والمشقة على الناس، وهذا خلاف منهج أهل السنة في الفتوى؛ فالتيسير الحقيقي هو تطلّب دلالات النّصوص الشرعية، والرّخصة التي جاء بها النص الشرعي، لا التملّص من النصوص بحجة التيسير على الناس، فضلاً عن أصحاب الجاه كما فعل هذا المفتي الذي حكى عنه الشاطبي، ولو تأمّلنا ما فعله ابن لبابة مع الأمير لعرفنا أنّه يحدث الآن لكن لصالح وجهاء آخرين كالأمراء وأصحاب القنوات الفضائية والأثرياء من ملاّك الشركات، وكذلك بعض الأنظمة الحاكمة والوزراء، كل هؤلاء أصبحوا لا يعدمون فقيهاً أو جهة معينة مهمتها (تبليع) النّاس ما لا يُبلع من الأقوال الشاذة والفتاوى المخالفة للنصوص بل الإجماع أحياناً فقط؛ لأنّ شخصاً في أعماق التاريخ قال بقول يخالفه هو معذور فيه؛ لأنّه لم يبلغه نصّ أو لعله مخالف لهواه، فيكون هذا حجّة على كتاب الله وسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وأقوال المئات من أئمّة العلم والدين على مر العصور. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

الحسابات الجارية - حقيقتها وتكييفها

الحسابات الجارية - حقيقتها وتكييفها د. حسين بن معلوي الشهراني 2ذي الحجة1431هـ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: هذا بحث مختصر في موضوع مهم من موضوعات القضايا المالية المعاصرة، وبالتحديد المعاملات المصرفية المعاصرة، وعنوانه: (الحسابات الجارية: حقيقتها وتكييفها)، وقد وضعت لهذا البحث خطة تتكون من مقدمة وخمسة مباحث، وكانت المباحث كالتالي: المبحث الأول: حقيقة الحسابات الجارية. المبحث الثاني: أهمية الحسابات الجارية. المبحث الثالث: تكييفها الفقهي. المبحث الرابع: الإشكالات الواردة على التكييف المختار. المبحث الخامس: الأحكام والآثار المترتبة على التكييف المختار. المبحث الأول: حقيقة الحساب الجاري (¬1): الحساب الجاري هو أحد العمليات المصرفية المعاصرة، وتندرج في عرف المصارف تحت مسمى الوديعة النقدية الصرفية، وسيأتي بيان أهميته _إن شاء الله تعالى_، والمراد هنا تعريفه وبيان حقيقته. والناظر في كتب الباحثين المعاصرين الذين كتبوا في هذه المسائل، سواء أكانت من الناحية الشرعية أم القانونية، أم الاقتصادية البحتة، يلحظ اختلاف المسميات التي أطلقوها على الحساب الجاري مع اتحاد المسمى، ومن تلك التسميات: (1) الحساب الجاري. (2) الحساب تحت الطلب. (3) الوديعة الجارية. (4) الوديعة المتحركة. (5) الودائع تحت الطلب. (6) ودائع الحساب الجاري. (7) الودائع الواجبة للدفع عند الطلب. (8) ودائع بدون تفويض بالاستثمار، وهذه تسمية بنك دبي الإسلامي (تأسس عام 1395هـ). ومن المسميات السابقة يظهر أن بعضها استخدم عبارة الحساب، وبعضها الآخر استخدم عبارة الوديعة، مع تعدد الوصف على كلٍ، فبعضها يصفها بالجارية أو تحت الطلب أو المتحركة. والاختلاف في هذه الإطلاقات هو من باب التنوع لا التضاد، إلا أن بعضها نظر إلى ذات المبلغ الذي تم التعاقد عليه بين المصرف والعميل فأطلق لفظ الوديعة، والقسم الآخر نظر إلى المعاملة والقائمة التي تقيد بها المعاملات المتبادلة بين الطرفين فاختار لفظ الحساب. والحقيقة أن الوديعة المصرفية أو المبالغ أو النقود التي يعهد بها الشخص إلى المصرف هي التي تنشئ الحساب الجاري، وليست هي الحساب الجاري ذاته. وقد يقال: إن من التجوّز تعريف الحساب الجاري بأنه النقود أو المبالغ، كمن أطلق لفظ السفتجة على النقود المقرضة، وهي في الأصل ورقة يكتب فيها الدين. والذي يظهر أن البحث منصب على حكم المال أو النقود التي يعهد بها صاحبها إلى المصرف، ويتعاقد عليها، وليس البحث في الحساب أو القائمة التي تقيّد فيها المعاملات بين الطرفين. ولأن عنوان البحث المطروح هو: الحسابات الجارية، وحتى أتجنب الحكم المبكر على المسألة؛ فإني سوف أستعمل هذا الإطلاق في هذا البحث فيما يأتي من المباحث، والله الموفق. تعريف الحساب الجاري: ¬

(¬1) الحساب في اللغة مأخوذ من الفعل حسب، والحاء والسين والياء أصول أربعة، أحدها: العدّ، وثانيها: الكفاية. والحسابُ والحِسابة: عدك الشيء، وحسب الشيء يحسبه بالضم حسباً وحساباً وحسابة: عدّه. ونقل ابن منظور عن الأزهري قوله: وإنما سمي الحساب في المعاملات حساباً؛ لأنه يُعلم به ما فيه كفاية ليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان. ينظر: معجم مقاييس اللغة ص 244، لسان العرب 3/ 161 وأما لفظ (الجاري) فقد قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (ص 195): "الجيم والراء والياء أصل واحد، وهو انسياق الشيء، يقال: جرى الماء يجري جرية وجرياً وجرياناً. وفي المعجم الوسيط ص171: "والحساب الجاري (في الاقتصاد) اتفاق بين شخصين بينهما معاملات مستمرة. (مج) " ..

عرف الحساب الجاري: بأنه القائمة التي تقيَّد بها المعاملات المتبادلة بين العميل والبنك (¬1). وعرفت ودائع الحساب الجاري: بأنها "المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بشرط أن يردها عليهم البنك كلما أرادوا" (¬2). أو "هي النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى البنك على أن يتعهد الأخير بردها أو برد مبلغ مساوٍ لها لدى الطلب أو بالشروط المتفق عليها" (¬3). أو "هي المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بقصد أن تكون حاضرة التداول، والسحب عليها لحظة الحاجة بحيث ترد بمجرد الطلب، ودون توقف على أي إخطار سابق من أي نوع" (¬4). والتعاريف السابقة في مجملها متقاربة، وبعضها اهتم بتعريف المعاملة أو المعاقدة التي تكون بين الطرفين (المصرف والعميل)، وبعضها الآخر عرف انطلاقاً من المال الذي يتم عليه العقد بين الطرفين. ويمكن القول - كما سبق - بأن الوديعة المصرفية أو المال الموضوع لدى المصرف هو الذي ينشئ الحساب الجاري؛ فالحساب الجاري عبارة عن قائمة تقيد بها المعاملات المصرفية المتبادلة بين العميل والمصرف؛ ويقوم صاحب المال بفتح هذا الحساب في المصرف لوضع ماله فيه، بغرض حفظها وصونها ثم طلبها عند الحاجة إليها، أو لأغراض التعامل اليومي والتجاري، دون الاضطرار إلى حمل النقود (¬5). وقد يسلم المصرف للعميل دفتر شيكات، يسمح له بموجبه - وبحسب إجراءات معروفة - بالسحب متى شاء من حسابه، بحيث لا تزيد المبالغ عن مقدار المال الذي تم تسليمه للمصرف عالياً، وقد يدفع صاحب المال للمصرف مصاريف يسيرة مقابل الاحتفاظ بالحساب الجاري على هذا النحو. وبهذا يتبين أن الحسابات الجارية أو تحت الطلب هي حسابات ليس هدفها الاستثمار وإنما هي حسابات لغرض حفظ هذه الأموال وصيانتها من السرقة أو الهلاك، أو لغرض تسهيل التعامل التجاري والمعاملات المصرفية الأخرى التي تقدمها هذه المصارف لعملائها؛ لذا فإن هذه الحسابات ليس لها أي علاقة بالمضاربة أو المشاركة، ولا تستحق أي عائد أو ربح في المصارف الإسلامية، بل إنه قد يتقاضى المصرف عليها أجراً أو عمالة في مقابل ما يمنحه لأصحابها من امتيازات (¬6). وإنما سمي الحساب الجاري بهذا الاسم؛ لأن طبيعته تجعله في حركة مستمرة من زيادة بالإيداع أو نقصان بسبب ما يطرأ عليه من قيود بالحسب والإيداع فتغير من حاله بحيث لا يبقى على صفة واحدة (¬7). وتختلف طرق المصارف في التعامل مع الحسابات الجارية، ويمكن حصرها في أربعة طرق (¬8): الأول: ألا يتقاضى المصرف أية أجور مقابل خدمة فتح الحساب وما يتعبه من خدمات؛ كإصدار الشيكات، وبطاقة السحب الآلي، وغيرها. الثاني: أن يتقاضى المصرف أجوراً مقابل خدمة فتح الحساب الجاري، وما يتبعه من خدمات. ¬

(¬1) الودائع المصرفية، د. حسين كامل فهمي، (مجلة مجمع الفقه الإسلامي، 9/ 1/689). (¬2) أحكام الودائع المصرفية، محمد تقي العثماني (مجلة المجمع 9/ 1/792). (¬3) المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية والقانون، د. غريب الجمال (ص36). (¬4) الودائع المصرفية النقدية، واستثمارها في الإسلام، د. حسن عبد الله الأمين (ص209). (¬5) ينظر: المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، د. عبد الرزاق الهيتي (ص258، 259). (¬6) ينظر: المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق (ص245). (¬7) ينظر: بنوك تجارية بدون ربا، د. محمد بن عبد الله الشيباني (ص74). (¬8) ينظر: الحسابات والودائع المصرفية، د. محمد علي القري (مجلة المجمع 9/ 1/720، 721)، الربا والمعاملات المصرفية ... ، د. عمر المترك (ص346)، البنوك الإسلامية، عائشة الشرقاوي المالقي (ص228)، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، للهيتي (ص245).

الثالث: أن يتقاضى المصرف أجوراً مقابل ما سبق إذا نقص رصيد العميل في الحساب عن مبلغ محدد. الرابع: أن يمنح المصرف فوائد للعميل مقابل وجود المبلغ في الحساب، وبعضها يشترط مبلغاً معيناً لأجل منح الفوائد، وهذا هو المعمول به في البنوك الربوية. المبحث الثاني: أهمية الحسابات الجارية: تتضح أهمية الحسابات الجارية في المنافع التي يحصل عليها طرفا العقد، وهما المصرف والعميل من فتح هذه الحسابات والتعامل بها، وفيما يلي ذكر لأهم المنافع والفوائد التي يحصل عليها كل منهما: أولاً: المنافع التي تعود على المصرف (¬1). 1 - استثمار الأموال الموجودة في الحسابات الجارية دون أن يشترك عملاؤه - أصحاب هذه الأموال - في الأرباح التي تدرها هذه الاستثمارات. ويتبين هذا إذا علمنا أن أموال الحسابات الجارية تعد أهم موارد المصرف، وتمثل ما قد يزيد في غالب الأحوال على 90% من مجمل الموارد، ونادراً ما تقل عن 20% (¬2)، وبهذا يستفيد منها المصرف في توفير السيولة والوفاء باحتياجاته واحتياجات عملائه (¬3). 2 - فتح حساب جارٍ لأحد العملاء يؤدي غالباً إلى أن هذا العميل يحتاج إلى خدمات مصرفية أخرى - يستفيد منها المصرف، وطبعي أن يلجأ العميل إلى المصرف الذي به حسابه الجاري. 3 - فتح الحسابات الجارية يزيد من قدرة المصرف على توسيع الائتمان أو ما يسمى (بخلق الودائع) واستثمارها، حيث يزيد الرصيد النقدي لهذا المصرف، وبالتالي يزيد ربحه من جراء استثمار هذه المبالغ. 4 - الأجور التي تتقاضاها بعض المصارف مقابل الخدمات التي تقدمها للعملاء؛ كفتح الحساب، وإصدار الشيكات، وبطاقات السحب الآلي وغيرها. 5 - يستفيد المصرف من الحسابات الجارية التي تفتحها لديه المصارف الأخرى التي تعامل معها - وهي تمثل قرابة 10% من مجموع الخصوم - في عمليات المقاصّة في الشيكات المحررة من قبل عملاء المصارف الأخرى، وفي عملية الحوالات التي يقومون بها من المصارف الأخرى، ولا سيما التحويلات من بلد إلى آخر، وغير ذلك من الأعمال المصرفية التي تستدعي وجود رصيد كاف لدى المصرف. ثانياً: المنافع التي تعود على العميل (صاحب الحساب الجاري) (¬4) 1 - حفظ أمواله من المخاطر المختلفة؛ كالسرقة أو الضياع، وهذا يتبين أكثر كلما كانت الأموال كثيرة؛ بحيث يشق حفظها في المنزل أو في المحل التجاري، ولذا يلاحظ في الشركات التجارية الكبرى والمصانع الكبيرة التي تكثر فيها عمليات البيع والتحصيل أن موظف الخزينة لا يستبق لديه أية مبالغ نقدية في الخزينة، بل عليه أن يودعها في المصرف يومياً. 2 - إضافة إلى ميزة حفظ المال فإنه يكون مضموناً على المصرف، ولصاحبه حرية التصرف فيه متى شاء. 3 - الانتفاع من الخدمات التي يقدمها المصرف لصاحب الحساب الجاري غالباً بدون مقابل، ومن ذلك: أ- الحصول على دفتر الشيكات مما يسهل على صاحب الحساب الوفاء بالتزاماته واحتياجاته المختلفة دون الحاجة إلى حمل النقود وعدها ومراجعتها مع الأمن من ضياعها وسرقتها وبخاصة في المبالغ الكبيرة. ب- الحصول على بطاقة السحب الآلي، والتي يمكنه بواسطتها: ¬

(¬1) ينظر: بنوك الودائع، كمال الدين صدقي (ص104)، الودائع المصرفية النقدية، حسن الأمين (ص211). (¬2) ينظر: الحسابات والودائع المصرفية، د. محمد علي القري (مجلة المجمع 9/ 1/720). (¬3) ينظر: النظام المصرفي الإسلامي، د. محمد أحمد سراج (ص87). (¬4) ينظر: بنوك الودائع، كمال الدين صدقي (ص105)، الحسابات والودائع المصرفية، د. محمد علي القري (مجلة المجمع 9/ 1/724)، الودائع المصرفية النقدية، حسن الأمين (ص216)، الربا والمعاملات المصرفية (ص349)، الترشيد الشرعي للبنوك القائمة، جهاد عبد الله أبو عويمر (ص164 - 166).

- سحب ما يحتاجه من أموال في أي زمان ومكان. ت- تسديد قيمة مشترياته عن طريق أجهزة نقاط البيع بواسطة الشبكة الإلكترونية. ث- تسديد فواتير الخدمات العامة؛ كفواتير الكهرباء والهاتف والماء ونحوها. ج- الاستعلام عن رصيده في حسابه الجاري، وطلب كشف لحسابه. ح- التحويلات والإيداعات المصرفية. 4 - يعد فتح الحساب الجاري المصرفي أسهل وأيسر طريقة لعمل حسابات نظامية دقيقة عن أي نوع من أنواع النشاط الذي يقوم به العميل؛ كأن يعرف ربحه بالفرق بين رصيد أول السنة ورصيد آخر السنة. 5 - توثيق الحسابات وضبطها، بحيث يحصل العميل في نهاية كل شهر أو أقل أو أكثر - على كشف مفصل يتضمن جميع المدفوعات وتواريخها ومبالغها والمدفوعة إليهم، وكذلك الحال في الأموال التي يتلقاها من الآخرين مثل أثمان السلع التي يبيع أو موارده من الإيجارات والأرباح ... إلخ، وهذا يغنيه عن موظف متخصص في المحاسبة. 6 - تمكين العميل من إثباته وتوثيقه لمدفوعاته للآخرين، سواء عن طريق الشبكات تكفي عن الإيصالات؛ لأن المستفيد من الشيك يوقع على ظهر الشيك عند تحصيله من المصرف، أم عن طريق بطاقة السحب الآلي في تسديد فواتير الخدمات. 7 - الحصول على الخدمة المصرفية عن طريق الهاتف - بواسطة البطاقة - بحيث يستطيع صاحب الحساب الجاري تحريك معاملاته المصرفية والتجارية عن طريق الهاتف مما يوفر عليه وقتاً طويلاً في التنقل وإجراء هذه المعاملات. 8 - سهولة وسرعة تحصيل النقود المحولة إلى المصرف من جهات حكومية أو غير حكومية؛ كتحويل الرواتب الشهرية مثلاً. 9 - الأسعار المميزة للخدمات الأخرى التي يقدمها المصرف، والتي تتعلق غالباً بالحوالات والصرف الأجنبي ورسوم فتح الاعتمادات وبطاقات الائتمان وخطابات الضمان. 10 - شهادة المصرف بملاءة العميل (صاحب الحساب) وأكثر ما يحتاج لهذا التجار ورجال الأعمال الذين يحتاجون إلى شهادة تثبت ملاءتهم يقدمونها إلى الجهات الحكومية أو الخاصة بحيث يتمكنون بموجبها من الدخول في المناقصات والمزايدات أو عقود المقاولة أو التوريد وغيرها. 11 - استخدام الأموال في الحساب الجاري كرهن، وذلك بأن يتفق العميل مع مصرفه على حجز مبلغ من المال في حسابه الجاري لا يسمح له أن يسحبه أو يحرر الشيكات مقابله؛ ليكون رهناً لضمان وفائه بالتزاماته الواجبة أو التي مآلها إلى الوجوب للمصرف أو لمؤسسة أخرى، مثل حالات فتح الاعتماد المستندي للاستيراد، أو إصدار البطاقة الائتمانية، أو كفالة جهة أخرى من قبل ذلك العميل. 12 - يعد كشف الحساب للعميل مستنداً قوياً لما جاء فيه من أرقام، ويستفيد من هذا الموظفون الملزمون بتقديم تقارير سنوية عن التغييرات الطارئة في ثرواتهم طبقاً لأنظمة الكسب غير المشروع في بعض الدول. إضافة إلى ما سبق فإن الحساب الجاري يستفيد منه الطرفان في تيسير واختصار كثير من العمليات التي تحصل بينهما؛ إذ إن تسوية كل عملية من العمليات المتتابعة يسبب كثيراً من التعقيد، بينما يمكن بواسطة الحساب الجاري تجميع العمليات كلها وإخضاعها لنظام واحد، وكذلك فإن من فوائد الحسابات الجارية عدم تعطيل رؤوس الأموال؛ لأنه إذا استحق على أحد طرفيه دين فإنه لا يدفعه نقداً ومباشرة، بل يستغله ويقيد في حساب الدائن ما يقابله. ومن فوائدها كذلك أنها تقوم بوظيفة نقدية مهمة؛ إذ إنها تمثل وسائل دفع في المجال الاقتصادي والتجاري، وأداة وفاء لتسوية الديون عن طريق نقل ملكيتها من شخص لآخر باستعمال الشيكات والتحويل المصرفي والمقاصة.

وبهذا يتبين أن أموال الحسابات الجارية هي مما يمثل قطب الرحى بالنسبة لموارد البنوك ومحور نشاطاتها في المجال الاقتصادي والتجاري وفي ميادين أنشطتها الأخرى. المبحث الثالث: التكييف (التخريج) الفقهي للحسابات الجارية: اختلفت آراء الفقهاء والباحثين المعاصرين في التكييف الفقهي للحسابات، ومما يلي عرض للخلاف: أولاً: الأقوال في المسألة: القول الأول: إنها قرض؛ فالمودع هو المقرض، والمصرف هو المقترض. وهذا قول أكثر الفقهاء والباحثين المعاصرين (¬1)، وهو رأي مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ونص عليه بالقرار رقم 86 (3/ 9) في دورته التاسعة المنعقدة في أبي ظبي 1 - 5 ذي القعدة 1415هـ، وفيما يلي نص القرار: "إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 - 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 نيسان (أبريل) 1995م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع الودائع المصرفية (حسابات المصارف)، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: أولاً: الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية)، سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المستلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها وهو ملزم شرعاً بالرد عند الطلب، ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك (المقترض) مليئاً (¬2). القول الثاني: إنها وديعة بالمعنى الفقهي، وقال به بعض الباحثين المعاصرين (¬3)، وبه أخذ بنك دبي الإسلامي (¬4). ¬

(¬1) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/ 1/730، 777، 802، 838، 883، 888، 890، 906)، حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي، د. علي السالوس (ص52، 55) بحوث في المعاملات المصرفية، د. رفيق يونس المصري (ص203)، موقف الشريعة الإسلامية من المصارف المعاصرة، د. عبد الله العبادي (ص198، 199)، المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية والقانون، د. غريب الجمال (ص59)، الشامل في معاملات وعمليات المصارف الإسلامية، د. محمود عبد الكريم الرشيد (ص159، 160)، الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، د. عمر المترك (ص346)، النظام المصرفي الإسلامي، د. محمد أحمد سراج (ص93)، الودائع المصرفية، أحمد بن حسن الحسني، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، د. محمد عثمان شبير (ص222). (¬2) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، الدورات 1 - 10، القرارات 1 - 97، (ص196)، مجلة المجمع، العدد التاسع، الجزء الأول (ص931). (¬3) وممن قال بهذا القول: الدكتور: حسن عبد الله الأمين في كتابه (الودائع المصرفية النقدية ص233)، والدكتور عيسى عبده (مستشار سابق لبنك دبي الإسلامي) في كتابه العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية المعاصرة (ص113)، نقلاً عن: د. رفيق المصري في كتابه (بحوث في المعاملات المصرفية) (ص193)، والدكتور عبد الرزاق الهيتي في كتابه (المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق) (ص261)، والدكتور أحمد عبيد الكبيسي في بحثه المقدم لمجمع الفقه الإسلامي (مجلة المجمع 9/ 1/755). (¬4) نصت المادة 53 من النظام الأساسي للبنك الذي تأسس عام 1395 - 1975م على أن البنك يقبل نوعين من الودائع: 1 - ودائع بدون تفويض بالاستثمار: وتأخذ صورة الحسابات الجارية ودفاتر الادخار المعمول بها في النظم المصرفية المعاصرة، وهذه تأخذ حكم "الوديعة" المعتمدة في الشريعة الإسلامية. ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية، د. رفيق المصري (ص190) ..

ومال إليه الدكتور حسين كامل فهمي، ورأى ضرورة إعادة النظر في التكييف الفقهي المعمول به حالياً بالنسبة للحسابات الجارية في البنوك الإسلامية ليصبح: وديعة (بمفهومها الشرعي) لدى كل من البنك الإسلامي، والبنك المركزي في نفس الوقت، مع الإذن للبنك المركزي فقط باستخدامها (¬1). القول الثالث: إنها تدخل تحت عقد الإجارة. أي أن الإجارة واقعة على النقود، وأن ما يدفعه المصرف لصاحب النقود هو أجر لاستعمال هذه النقود، وهذا القول نقله بعض الباحثين ولم ينسبه لأحد، وانتقد بأنه قول من أراد أن يستحل فوائد الربا من البنوك (¬2). وهناك قولان آخران، يغلب عليهما أنهما من أقوال القانونيين؛ فأكتفي بإيرادهما فقط: الأول: إنها وديعة شاذة أو ناقصة، أي: وديعة مع الإذن بالاستعمال. الثاني: إنه عقد ذو طبيعة خاصة، أو إنه ليس من العقود المسماة. أدلة الأقوال: أدلة القول الأول: 1 - إن المال في الحساب الجاري عبارة عن نقود يضعها صاحب الحساب وهو يعلم أن المصرف يتصرف فيها، ويخلطها بالأموال التي لديه بمجرد استلامها وإدخال بياناتها بالحاسب، ثم يستثمرها، وقد دفعها إليه راضياً بذلك فكان إذناً بالتصرف؛ فهذه الأموال في حقيقتها قرض وليست وديعة (¬3). 2 - أن المصرف يملك المال في الحساب الجاري، ويتصرف فيه فيكون قرضاً، وليس إيداعاً، إذ في عقد الإيداع لا يملك الوديع الوديعة، وليس له أن يتصرف فيها، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني، وتسميتها وديعة إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة لعدم توفر حقيقة الوديعة فيها (¬4). 3 - أن المصرف يعد ضامناً لأموال الحساب الجاري برد مثلها، ولو كانت هذه الأموال وديعة بالمعنى الحقيقي لما ضمنها المصرف، والمديونية والضمان ينافيان الأمانة، بل لو شرط رب الوديعة على الوديع ضمان الوديعة لم يصح الشرط؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، وكذلك لو قال الوديع: أنا ضامن للوديعة لم يضمن ما تلف بغير تعد أو تفريط؛ لأن ضمان الأمانات غير صحيح، وهذا على خلاف المعمول به في المصارف قول على أن مال الحساب الجاري قرض وليس وديعة (¬5). 4 - من المعلوم أن المصرف لا يأخذ أموال الحسابات الجارية كأمانة يحتفظ بعيها لترد إلى أصحابها، وإنما يستهلكها ويستثمرها في أعماله، ومن عرف أعمال البنوك علم أنها تستهلك نسبة كبيرة من هذه الحسابات، وتلتزم برد مثلها، وهذا واضح في أموال الحسابات الجارية التي تدفع بعض المصارف عليها فوائد ربوية، فما كان المصرف ليدفع هذه الفوائد مقابل الاحتفاظ بالأمانات وردها إلى أصحابها فقط (¬6). أدلة القول الثاني: (1) أن أموال الحساب الجاري عبارة عن مبالغ توضع لدى المصرف ويسحب منها في الوقت الذي يختاره المودع، وذلك كل ما يطلب في الوديعة الحقيقية، ولا توجد أي شائبة في ذلك (¬7). ¬

(¬1) ينظر: مجلة المجمع 9/ 1/694، 700. (¬2) ينظر: حكم ودائع البنوك، للسالوس (ص51)، الحسابات الجارية، د. مسعود الثبيتي (مجلة المجمع ص835). (¬3) ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية (ص201). (¬4) ينظر: حكم ودائع البنوك (ص61)، النظام المصرفي الإسلامي، د. محمد سراج (ص93)، مجلة المجمع (ص730). (¬5) ينظر: الودائع المصرفية، للحسني (ص105)، حكم ودائع البنوك (ص52)، النظام المصرفي الإسلامي (ص88)، الربا والمعاملات المصرفية، للمترك (ص347)، مجلة المجمع (ص883). (¬6) ينظر: حكم ودائع البنوك (ص52)، بحوث في المصارف الإسلامية (ص201). (¬7) ينظر: الودائع المصرفية، للأمين (ص233).

ونوقش هذا الاستدلال بعدم التسليم؛ وذلك لأن الوديعة وإن كان المقصود ردها عند الطلب، إلا أنه يقصد بها أيضاً عدم التصرف فيها، وأموال الحسابات الجارية يتصرف فيها المصرف بمجرد استلامها ثم يرد بدلها، وهذا ينطبق على القرض بمعناه الشرعي لا على الوديعة (¬1). (2) أن المصرف لا يتسلم هذه الوديعة على أنها قرض، بدليل أنه يتقاضى أجرة (عمولة) على حفظ الوديعة تحت الطلب، بعكس الوديعة لأجل التي يدفع هو عليها فائدة (¬2). ونوقش بأن الأجور التي يأخذها المصرف من صاحب الحساب الجاري لا يُسلم على أنها في مقابل الحفظ، بل هي في مقابل الخدمات التي يقدمها المصرف لصاحب الحساب؛ كإصدار دفتر الشيكات، وبطاقة السحب الآلي، وكشوف الحساب وغيرها من الخدمات، مع أن الواقع أن أغلب المصارف لا تأخذ أجوراً في مقابل فتح الحساب. (3) أن المصرف يتعامل بحذر شديد عند استعمال أموال الحسابات الجارية والتصرف فيها، ثم يبادر بردها فوراً عند طلبها مما يدل على أنها وديعة (¬3). نوقش بأن هذا التصرف من المصرف لا يغير من حقيقة العقد، والواقع أن المصرف يتصرف في مال الحساب الجاري بخلاف ما ذُكر حيث يقوم بخلطها بماله ومال العملاء الآخرين بمجرد استلامها، ثم يتصرف فيها كما لو كانت ملكه. وأما كونه يبادر بردها عند طلبها فهذا لا ينفي كونها قرضاً؛ لأن المقرض له طلب بدل القرض في الحال مطلقا (¬4)؛ لأن القرض يثبت في الذمة حالاً فكان له طلبه كسائر الديون الحالة، ولأنه سبب يوجب رد المثل أو القيمة فكان حالاً (¬5). وكذلك فإن المبادرة بردها عند طلبها فيه حفاظ على سمعة المصرف، وتحفيز للتعامل معه، وفي هذا التعامل فوائد ترجع إلى المصرف، كما هو معلوم. (4) أن المودع عندما يدفع المال في الحساب الجاري للمصرف لا يقصد أبداً أن يقرض المصرف، ولا أن يشاركه في الأرباح العائدة للمصرف من استغلال لمال المودع ومال غيره، وإنما مقصوده - أي المودع - حفظ ماله ثم طلبه عند الحاجة إليه وهذا مقتضى عقد الوديعة؛ فلا يسمى فعله إقراضاً (¬6). نوقش بأن كون المودع لا يقصد إقراض المصرف لا يؤثر في حقيقة العقد؛ لأن عامة المتعاملين مع المصارف لا يدركون الفرق بين معنى القرض ومعنى الوديعة، ولا يستحضرون الفروق بينهما، فهم لا تهمهم المصطلحات بقدر ما تهمهم النتائج والغايات، والحاصل أن المتعاملين مع المصارف بوضع أموالهم في الحسابات الجارية يريدون حفظ أموالهم مع ضمانها من المصرف، وهذا في حقيقته قرض لا وديعة، ومن المعلوم كذلك أن المصرف لا يقبل حفظ هذه الأموال إلا لأجل التصرف فيها، وهذا هو معنى القرض، والقاعدة أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني (¬7). الترجيح: الذي يترجح - والعلم عند الله تعالى - أن الأموال التي يضعها أصحابها في حساب جارٍ لدى المصرف الأقرب أنها قرض وليست وديعة، وذلك للأسباب الآتية: 1 - أن تعريف القرض وأحكامه متمشية مع هذه المسألة؛ فقد عرف القرض بأنه "عبارة عن دفع مال إلى الغير؛ لينتفع به ويرد بدله" (¬8)، ومال الحساب الجاري يدفعه صاحبه إلى المصرف، لينتفع به ويرد بدله. ¬

(¬1) ينظر: المنفعة في القرض (ص304). (¬2) ينظر: الودائع المصرفية (ص233). (¬3) ينظر: الودائع المصرفية (ص234). (¬4) ينظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (12/ 332)، كشاف القناع (3/ 314). (¬5) ينظر: كشاف القناع (3/ 314). (¬6) ينظر: الودائع المصرفية (ص233، 234). (¬7) ينظر: مجلة المجمع (ص795). (¬8) الإنصاف (12/ 323).

2 - أن صاحب الحساب الجاري يعلم أن المصرف الذي يتلقى ماله لن يحتفظ له بهذا المال ساكناً مستقراً في صناديقه ليعيده بعينه عند الطلب، بل إنه سوف يختلط بغيره من الأموال وبأموال المصرف، كما أن المصرف سوف يستعمل هذه الأموال في أعماله واستثماراته، وهذا يعني أن المصرف لن يعيد عين المال، بل يعيد مثله عند الطلب، وهذه الأموال في حقيقتها قروض لا ودائع (¬1). 3 - أن صاحب المال إذا وضعه في حساب جارٍ لا يقصد مجرد الحفظ فقط، بل يريد الحفظ والضمان معاً، بدليل أنه لا يقوم على الإيداع ما لم يكن المال مضموناً، وكذلك المصرف لا يقبل هذه الأموال لحفظها فقط، بل للانتفاع بها مع ضمانها، وهذه حقيقة القرض. 4 - في القرض يضمن المقترض، وفي الوديعة يضمن المودع - ما لم يكن المودع مفرطاً - وكل منهما ضامن لأنه مالك، وعلى هذا فالوديعة في العرف المصرفي القائم قرض في الشرع الإسلامي (¬2) 5 - أن القاعدة الفقهية المشهورة نصت على أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وتسمية هذا العقد بين صاحب المال والمصرف وديعة لا يغير من حقيقة العقد وأنه قرض، وإنما سمي وديعة أو إيداعاً لأسباب منها (¬3): أ- أن هذه الكلمة استعملت بمعناها اللغوي؛ فإنها فعيلة من "ودع يدع: بمعنى أنها متروكة عند المودع، وهو المصرف هنا بغض النظر عن كونها أمانة أو مضمونة. ب- لأن تأريخها بدأت بشكل ودائع وتطورت خلال تجارب المصارف واتساع أعمالها إلى قروض؛ فظلت محتفظة من الناحية اللفظية باسم الودائع، وإن فقدت المضمون الفقهي لهذا المصطلح، وعليه فاستخدام لفظ "ودائع" بدلاً من "قروض" إنما كان صحيحاً في مرحلة تأريخية من مراحل التطور المصرفي، حيث كان الناس يودعون نقودهم عند الصائغ أو الصيرفي مقابل أجر يتقاضاه، لكن عندما بدأ هؤلاء الصيارفة باستغلال هذه الأموال وبإقراضها إلى غيرهم أو استغلالها، لم تعد هذه العمليات ودائع، وكان ينبغي منذ ذلك الوقت هجر هذه التسمية وتركها لعمليات أخرى؛ (كإيداع الأشياء الثمينة) والانتقال إلى التسمية الحقيقية قروض. وإذا أغفلت البنوك الروية هذا فحري بالمصارف الإسلامية أن تتنبه لهذا، وألا تقلد البنوك الربوية في هذه التسمية وغيرها، سواء كان ذلك في المقاصد والمعاني، أم في الألفاظ والمباني. المبحث الرابع: الإشكالات الواردة على تخريجها قرضاً: على القول الراجح بأن الأقرب في أموال الحساب الجاري تخريجها أنها قرض لا وديعة، قد يرد من الإشكالات ما يلي: الإشكال الأول: إن الأصل في مشروعية القرض هو الإرفاق، وأدلة مشروعيته تؤكد هذا، ولذا عرفه بعض الفقهاء بأنه: دفع مال إرفاقاً لمن ينتفع به ويرد بدله (¬4). ومن المعلوم أن الذين يدفعون أموالهم إلى المصارف - على شكل حسابات جارية - لا يقصدون الرفق بالمصارف والإحسان إليها، والمصارف ليست فقيرة أو محتاجة حتى تقرض، وإنما يريدون نفع أنفسهم بحفظ أموالهم ثم طلبها عند الحاجة. الجواب: يمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن القرض - وإن كان الأصل في مشروعيته هو الإرفاق - قد يخرج عن هذا الأصل؛ فليس في جميع حالاته من باب الإرفاق، وليس الإرفاق شرطاً في صحته؛ بمعنى أن الإرفاق صفة غالبة على القرض لا مقيدة له، ويدل على هذا ما يلي: ¬

(¬1) ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية (ص201، 202). (¬2) ينظر: المرجع نفسه (ص203). (¬3) ينظر: أحكام الودائع المصرفية، محمد تقي العثماني (مجلة المجمع 9/ 1/794)، الربا والمعاملات المصرفية .. ، د. عمر المترك (ص348)، مجلة المجمع 9/ 1/782 بحوث في المصارف الإسلامية (ص204). (¬4) كشاف القناع (3/ 312).

1 - ما ثبت في الصحيح من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير _رضي الله تعالى عنه_ قال: " ... وإنما كان دينه - أي الزبير رضي الله تعالى عنه - الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه؛ فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة .. قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف قال: وكان للزبير أربع نسوة، ورفع الثلث فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف". وفي بعض النسخ: "فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف" (¬1) وجه الدلالة من الحديث: أن الزبير - رضي الله تعالى عنه - كان قد قبل تلك الأموال على أنها قرض مضمون لا وديعة مع عدم حاجته إليها، بل كان - رضي الله تعالى عنه - من أكثر الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - مالاً؛ فدل على أنه لا يشترط في القرض قصد الإرفاق بالمقترض، ولا أن كونه فقيراً أو محتاجاً. قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "قوله: "لا، ولكنه سلف" أي ما كان يقبض من أحد وديعة إلا إن رضي صاحبها أن يجعلها في ذمته، وكان غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع؛ فيُظن به التقصير في حفظه؛ فرأى أن يجعله مضموناً فيكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته. زاد ابن بطال: وليطيب له ربح ذلك المال" (¬2). وقال ابن حجر: "وفيه مبالغة الزبير في الإحسان لأصدقائه؛ لأنه رضي أن يحفظ لهم ودائعهم في غيبتهم، ويقوم بوصاياهم على أولادهم بعد موتهم، ولم يكتف بذلك حتى احتاط لأموالهم وديعة أو وصية بأن كان يتوصل إلى تصييرها في ذمته مع عدم احتياجه إليها غالباً، وإنما ينقلها من اليد للذمة مبالغة في حفظها لهم" (¬3). 2 - مسألة السفتجة (¬4)، وهي قرض لم يقصد به الإرفاق، ومع ذلك فهي جائزة على الصحيح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض؛ فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه، وإنما نهى عما يضرهم ويفسدهم، وقد أغناهم الله عنه، والله أعلم" (¬5). 3 - ما ذكره العلماء من أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد آخر ليربح خطر الطريق، قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها" (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله حيّاً وميتاً مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ وولاة الأمر، حديث رقم 3129، (الفتح 6/ 273) ط دار السلام. (¬2) فتح الباري (6/ 277). (¬3) المرجع نفسه (6/ 282). وعقب المصنف على قول ابن بطال المتقدم بقوله: "وفي قول ابن بطال المتقدم: "كان يفعل ذلك ليطيب له رب ذلك المال" نظر؛ لأنه يتوقف على ثبوت أنه كان يتصرف فيه بالتجارة، وأن كثرة ماله إنما زادت بالتجارة، والذي يظهر خلاف ذلك". أقول: ولو استعمله في التجارة لطاب له ذلك؛ لأنه يصبح مالكاً للمال فيجوز له التصرف فيه. (¬4) السفتجة في الأصل كلمة فارسية معرّبة، أصلها (سفتة) وهي ورقة أو رقعة أو كتاب أو صك يكتبه الشخص لنائبه أو مدينه في بلد آخر يُلزمه فيه بدفع مبلغ من المال لشخص أقرضه مثله، وسميت هذه المعاملة سفتجة لما فيها من إحكام الأمر وتوثيقه وتجنب العناء والخطر. (معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء، د. نزيه حماد ص190) وينظر: مجموع الفتاوى 19/ 455،456، والمغني (6/ 436). (¬5) مجموع الفتاوى (19/ 456). (¬6) المغني (6/ 437).

ومن المعلوم أن الغاية من إقراض مال اليتيم الرفق باليتيم لا بالمقترض، ومصلحة اليتيم لا مصلحة المقترض، والمراد والمقصود الإيداع والحفظ غير أن الوديعة لا تضمن؛ ففضل الإقراض لغني أمين حتى يحفظ المال لصالح اليتيم لا لصالح الغني (¬1). وبهذا يتبين أنه لا يشترط في القرض أن يكون إرفاقاً من غني لمحتاج، وإن كان الأصل فيه كذلك. الإشكال الثاني: إن اعتبار مال الحساب الجاري قرض يترتب عليه بعض الصعوبات في إخضاع استعمالها وسيلة دفع وأداة وفاء من الناحية الشرعية، ومن ذلك (¬2): 1 - أنه لا يجوز لصاحب الحساب الجاري أن يشتري بضاعة مؤجلة - أي سلماً - ويكتب لصاحب البضاعة شيكاً بالثمن على المصرف؛ لأنه يؤدي إلى بيع الكالئ بالكالئ؛ فيبطل الشراء. 2 - أنه لا يجوز لصاحب الحساب الجاري أن يهب شيئاً من مال حسابه الجاري لشخص ثالث؛ لأنه من هبة الدائن للدين الذي يملكه في ذمة شخص آخر؛ فالهبة باطلة عند من يرى من الفقهاء أن قبض الموهوب له المال الموهوب شرط في صحة الهبة. ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بفرعيه بأن ما ذُكِر غير مسلّم، وبيان ذلك أن صاحب الحساب الجاري إذا اشترى بضاعة مؤجلة (سلماً) وكتب لصاحب البضاعة شيكاً فقبله كان ذلك بمنزلة تسليمه الثمن نقداً، وذلك أن العرف المصرفي مضى على صرف الشيك فوراً إذا كان مستوفياً لشروطه، وكذلك الحال بالنسبة للهبة؛ فإذا وهب إنسان ماله في حسابه الجاري إلى غير مدينه - المصرف - وحرر شيكاً للموهوب له ورضي به فقد تم القبض (¬3)، وقد سبق أن القرض يثبت في الذمة حالاً، وأن للمقرِض المطالبة ببدله في الحال كسائر الديون الحالّة (¬4). الإشكال الثالث: استخدام مال الحساب الجاري كرهن أو ضمان. عند الجمهور أن المرهون يجب أن يكون عيناً متقومة يجوز بيعها؛ فلا يجوز رهن الدين (¬5)، وبناء على هذا فلا يجوز استخدام مال الحساب الجاري كرهن أو ضمان؛ لأنه دين لصاحب الحساب في ذمة المصرف. قال الدكتور الصديق الضرير - أثابه الله تعالى -: "لا أتصور رهن وديعة حسابية من صاحب الوديعة؛ لأن هذا مقرض والمقرض يخرج المال عن ملكه، ويكون في يد المقترض فلا محل لرهنه" (¬6). الإشكال الرابع: من المعلوم أن صاحب الحساب الجاري يمكنه أن يسحب من المال الذي في الحساب في أي وقت، بل قد يسحب جميع المال في وقت واحد، والمال المسحوب ليس هو عين ماله الذي أقرضه للمصرف، فإذا ما سحب جزءاً من المال مثلاً؛ فهل المال الذي يسحبه من الحساب هو استرجاع للمال الذي أقرضه للمصرف أو لجزء منه، أم أنه قرض جديد اقترضه هو من المصرف بعقد آخر؟ هذه المسألة تحتاج إلى نظر لما يترتب عليها من ثمرات، وهي مطروحة هنا للمناقشة. الإشكال الخامس: إذا أدخل شخص مالاً جديداً في حسابه الجاري؛ فهل هذا المال عقد قرض جديد بينه وبين المصرف، أو هو ملحق بالعقد الأول؟ الإشكال السادس: إذا أدخل شخص مبلغاً من المال في حساب شخص آخر؛ فهل هذا المبلغ يعد قرضاً للمصرف، أم أن المصرف وسيلة للوفاء فقط؟ وإذا قلنا إنه قرض من صاحب الحساب؛ فهل يمكن أن يتم القرض إذا كان صاحب الحساب لا يعلم بدخول المال في حسابه؟ ¬

(¬1) ينظر: حكم ودائع البنوك .. ، د. علي السالوس (ص60). (¬2) ينظر: الودائع المصرفية، للأمين (ص237، 238)، المصارف الإسلامية، للهيتي (ص263). (¬3) ينظر: الودائع المصرفية، للحسني (ص105)، دراسة شرعية لأهم العقود المالية المستحدثة، د. محمد مصطفى أبوه الشنقيطي (1/ 282). (¬4) ينظر: ص من هذا البحث. (¬5) ينظر: بدائع الصنائع (5/ 195)، بداية المجتهد (2/ 329)، الغاية والتقريب (ص29)، المنثور في القواعد (3/ 139)، المغني (6/ 455)، كشاف القناع (3/ 321). (¬6) مجلة المجمع (المناقشات) 9/ 1/901.

المبحث الخامس: الأحكام والآثار المترتبة على تكييف الحسابات الجارية بأنها قرض. الخلاف السابق في تكييف الحسابات الجارية يترتب آثار وثمرات عملية مهمة، تدل على أهمية الموضوع وأهمية صرحه والبحث فيه، ومن ذلك: أولاً: أحكام المنافع العائدة من فتح الحساب الجاري: إذا دفع صاحب المال نقوده إلى المصرف فإن الأخير تلقائياً يفتح لصاحب المال حساباً جارياً، تتم عن طريقه المعاملات التي تكون بين الطرفين، ويترتب على فتح الحساب الجاري منافع منها ما يرجع إلى المصرف (المقترض)، ومنها ما يرجع إلى صاحب الحساب (المقرِض)، ومنها ما يرجع إليهما. (أ) المنافع العائدة إلى المصرف (المقترض): 1 - استثمار أموال الحساب الجاري: من المعلوم أن المصرف بمجرد استلام المال من العميل يقوم بخلطه مباشرة بالأموال الموجودة لديه، وبناءً على أن هذه الأموال هي في الواقع قروض؛ فإن للمصرف حق التصرف فيها بموجب هذا العقد، بناء على أن عقد القرض ينقل الملكية إلى المقترض؛ إذ إن المقصود من القرض استهلاكه والانتفاع به، وبالتالي فإن المنافع العائدة من استثمار هذا القرض هي للمصرف دون أن يكون للمقرض منها شيء (¬1). ويترتب على هذا أن للمصرف الاستفادة من مجموع الأموال التي آلت إلى ملكيته من مجموع الحسابات الجارية في توليد الائتمان أو ما يسمى بـ (خلق الودائع)، وهذا ناتج عن طبيعة عمله واستثماره لمجموع القروض. 2 - أخذ عمولة (¬2) مقابل الخدمات التي يقدمها لصاحب الحساب: يترتب على فتح الحساب الجاري أن يقدم المصرف بعض الخدمات أو الأعمال في نطاق المعاملة بينهما؛ كإصدار دفتر الشيكات، وبطاقة السحب الآلي، وكشف بالأعمال التي قام بها صاحب الحساب، وغيرها من الخدمات، ومن المصارف ما يأخذ مقابلاً لهذه الخدمات، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لا مانع من أخذ مقابل لهذه الخدمات على أنها أجرة لما يقدمه المصرف من أعمال. (ب) المنافع العائدة على صاحب الحساب الجاري (المقرِض): 1 - منفعة حفظ ماله وضمانه: الغرض الأساسي من تعامل غالب الناس مع المصارف عن طريق الحسابات الجارية أنهم يريدون حفظ أموالهم وضمانها بإقراضها للمصرف، ومن ثم استرجاعها أو بعضها عند الحاجة إليها، وقد تقدم فيما سبق بحثه أن إقراض الشخص ماله لآخر بقصد الحفظ يجوز ولا إشكال فيه، كما في قصة الزبير _رضي الله تعالى عنه_. وأما مسألة قصد أن يكون المال مضموناً فإن الضمان أثر من الآثار المترتبة على عقد القرض ساء قصده المقرض أم لم يقصده، والله أعلم. 2 - الحصول على الخدمات التي يقدمها المصرف؛ كدفتر الشيكات وبطاقة السحب الآلي وغيرها: البحث هنا في مسألة الاستفادة من هذه الخدمات إذا كانت بدون مقابل؛ حيث سبق أنها إذا كانت بمقابل فإنها تأخذ حكم الإجارة، ولا يظهر في هذا إشكال. وأما إذا كانت بدون مقابل، فهل يجوز الاستفادة منها؟ جرى الخلاف في هذه المسألة على قولين (¬3): القول الأول: إنه يجوز لصاحب الحساب الجاري الانتفاع بدفتر الشيكات وبطاقة السحب الآلي بدون مقابل (¬4). ¬

(¬1) ينظر: المنفعة في القرض، عبد الله العمراني (رسالة ماجستير غير منشورة) (ص311). (¬2) العمولة اصطلاح متداول في المصارف، ويقصد به ما يأخذه المصرف نظير عمل من أعماله، ويقابله في الاصطلاح الفقهي أجرة أو جعالة، ويلاحظ أن لفظة عمولة غير صحيحة لغة، ولم يرد هذا الاشتقاق في القواميس، والصحيح (عمالة) بضم العين أو كسرها، ومعناها: رزق العامل. ينظر: دراسة شرعية لأهم العقود المالية المستحدثة 2/ 256 (الهامش). (¬3) ينظر: المنفعة في القرض (ص315). (¬4) ينظر: مجلة المجمع 9/ 1/734،735 (بحث د. محمد القره داغي)، الربا والمعاملات المصرفية، د. عمر المترك (ص349).

القول الثاني: إنه يكره له الانتفاع بهذه الخدمات بدون مقابل (¬1). أدلة القول الأول: الدليل الأول: إن هذه المنافع والخدمات مشتركة يستفيد منها الطرفان - المقرض والمقترض - وربما تكون مصلحة المصرف فيها غالبة بل أساسية، وذلك أنه بإصدار الشيكات وبطاقات السحب الآلي يخفض من نسبة التكاليف وعدد الموظفين الذين يحتاجهم في القيام بأعماله مثل تحرير أوامر السحب النقدي وتنفيذها، وتحرير المستندات التي يسحب بها العميل بعض ماله أو كله، واستخدام الشيك يوفر عليه كل ذلك. وكذلك فإن المصرف بإصداره لهذه الشيكات والبطاقات يقلل من استخدام العملاء المباشر للنقود الورقية، مما يوفر لديه سيولة نقدية ورقية يستفيد منها باستثمارها وبتسيير عملياته المصرفية، إضافة إلى أنه يحافظ على هذه النقود من السرقة والتزوير، وذلك بتقليص تداولها، كما أنه يقلل من عناء عدها ونقلها وحفظها. الدليل الثاني: إن هذه المنافع والخدمات هي وسيلة لوفاء المصرف للقروض التي يقترضها، وليست منفعة منفصلة عن القرض؛ حيث إنه مطالب بسداد القروض لكل مقرض متى طلب ذلك. دليل القول الثاني: إن المنافع التي يحصل عليها صاحب الحساب الجاري بدون مقابل ذات صلة قوية بسداد الدين والوفاء به؛ فتكون مكروهة، وأقل ما يقال فيها إنها شبهة، وقد تكون ذريعة إلى الوقوع في الحرام. ونوقش بأن هذه المنفعة مشتركة بين الطرفين، بل إن منفعة المقترض (المصرف) أظهر، وقد أجاز بعض العلماء المنفعة في القرض إذا كانت مشتركة للطرفين، كما في مسألة السفتجة (¬2)، والله تعالى أعلم. 3 - الانتفاع بالأسعار المميزة لبعض الخدمات: قد تعطي بعض المصارف لعملائها أو لبعضهم أسعاراً مميزة لبعض الخدمات؛ كالسكن في الفنادق، أو شراء بعض السلع، ونحو ذلك؛ فإذا كانت هذه المنفعة للعميل دون غيره، ولم يكن للمصرف منفعة في بذلها سوى القرض؛ فإنه يتوجه القول بتحريمها؛ لأنها منفعة للمقرض لا يقابلها عوض سوى القرض، وهي وإن لم تكن مشروطة إلا أنها واقعة قبل الوفاء بسبب القرض. ومثل ذلك أن تنص تعليمات المصرف وأنظمته على نسبة معينة من الربح - قد تحددها إدارة المصرف - في نهاية كل دورة مالية، أو جوائز بالقرعة، أو أولوية في الحصول على قرض من المصرف؛ فإن هذه المزايا لا تخلو من شبهة الربا، وخاصة إذا كانت معانة مسبقاً على أساس ثابت مؤكد (¬3)، وجوائز المقرضين إذا كانت معروفة تكون كأنها مشروطة؛ فلا تجوز مطلقاً (¬4). 4 - الانتفاع بشهادة المصرف بملاءة صاحب الحساب: الذي يظهر أن هذه الشهادة من المصرف هي إخبار عن حال العميل وواقعه من خلال تعامله مع المصرف عن طريق الحساب الجاري بصفته - أي المصرف - المصدر لهذه المعلومات؛ فالذي يظهر أنه لا مانع من انتفاع صاحب الحساب بهذه الشهادة، والله تعالى أعلم. 5 - الانتفاع بتنظيم الحسابات وضبطها: هذه المنفعة هي منفعة آلية تأتي تبعاً لإجراءات المصرف في ضبط حساباته وتنظيمها وتوثيقها، بدليل أن هذه قد لا تكون حاضرة أحياناً قبل أن يطلبها العميل كما في الكشف المختصر للحساب؛ فالذي يظهر أنه لا مانع من الانتفاع بهذه الخدمة بدون مقابل. 6 - الانتفاع بأخذ الفوائد المشروطة أو ما في حكمها: يحرم أخذ هذه الفوائد، سواء أكانت مشروطة أم معروفة؛ إذ المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، والمعروف بين التجار كالمشروط فيما بينهم، وعليه فهذه الفوائد زيادة مشروطة أو في حكم المشروطة في بدل القرض للمقرض فهي ربا محرم دلت الأدلة على تحريمها (¬5). ثانياً: من الآثار المترتبة على تكييف الحسابات الجارية بأنها قروض: يترتب على القول بتكييف الحسابات الجارية على أنها قروض بعض الآثار والثمرات، من أهمها: 1 - أن ضمان تلك المبالغ في الحسابات الجارية هي على المصرف كذلك (المقترض) (¬6)، ويمثله المؤسسون والمساهمون؛ لأنها مملوكة له، والقاعدة الفقهية المشهورة أن (الخراج بالضمان)، وأن (الغنم بالغرم). 2 - إذا أفلس المصرف فليس للمودع أن يدخل في التفليس على أنه مالك للوديعة وتكون له الأولوية، بل على أساس أنه دائن عادي يخضع لقسمة غرمائه (¬7). هذا ما تيسر جمعه وتحريره، إن كان من صواب فمن الله _تعالى_ هو الموفق له، وإن يكن من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأنا راجع عنه، وأستغفر الله. ¬

(¬1) ينظر: تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي، سعود بن محمد الربيعة (ص1/ 199)، نقلاً عن عبد الله العمراني في رسالته المنفعة في القرض (ص315). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى 29/ 456. (¬3) ينظر: المصارف الإسلامية، د. رفيق يونس المصري (ص18). (¬4) مجلة المجمع 9/ 1/900 (مناقشة د. الصديق الضرير). (¬5) ينظر: الحسابات الجارية، د. مسعود الثبيتي (مجلة المجمع 9/ 1/839،841)، المنفعة في القرض (ص321). (¬6) ينظر: مجلة المجمع (9/ 1/782، 803، 883)، وينظر نص القرار. (¬7) ينظر: الربا والمعاملات المصرفية، للمترك (ص347).

المدخل المنهجي في التعامل مع جيل الصحابة

المدخل المنهجي في التعامل مع جيل الصحابة (رؤية بنائية) سلطان العميري 1ذي الحجة1431هـ يمثل الصحابة رضي الله عنهم الجيل الأول من دعوة الإسلام، ويكونون اللبنة الأولى التي قام عليها الدين الختام للأديان. وبالتالي فهم بالضرورة يتمتعون بالخواص التي تتمتع بها الأجيال الأولى من الدعوات العملاقة وتتصف بها اللبنات الأساسية فيها. فالمستقرئ لمسيرة التاريخ السحيق لنشوء الدعوات الدينية يجد أن النماذج الأولى التي انبنت عليها تتصف بخواص لا توجد في غيرها من الأجيال اللاحقة، ويؤكد المفكر المصري: إبراهيم مدكور هذه الملاحظة فيقول عن الدعوات الدينية: " تقوم إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفانوا فيها بأرواحهم" (في الأخلاق والاجتماع 26). ومن أبين تلك الخواص خاصيتان: الأولى: الصدق الإيماني، فالجيل الأول عادة يكون أصدق الأجيال في الأخذ بمبادئ الدعوة وأعمق إيمانا بأصولها وأشد تفانيا في الأخذ بقيمها، والثانية: العمق الإدراكي، فالجيل الأول عادة يكون أوسع الأجيال إدراكا لحقيقة الدعوة وأعمق تصورا لأحكامها وأكثر خبرة بتفاصيلها. ومستند تلك الخواص يرجع إلى أن الجيل الأول يعيش حالة الانبثاق الأولى للدعوة ويشعر بلذة الإحساس بحالة الانتقال إليها، ويعايش مؤسس الدعوة ومرشدها الأول، ويشاهد اللحظات الأولى من ولادتها وبنائها، ويبصر تطوراتها وأحوالها وملابساتها، ويعاني من مصاعب تأسيسها وويلات نشرها ومتاعب الدعوة إليها وإقناع الناس بها, وبالتالي سيكون ولاؤه لها في غاية الشدة، وحبه إياها في نهاية المحبة، وإدراكه لحقيقتها في منتهي الوضوح. وإذا كان هذا الأمر عاما تشترك فيه كل الأجيال الأولى من كل دعوة، فإن الصحابة رضي الله عنهم يفوقون غيرهم في تلك الخواص، فهم أصدق جيل عرف في التاريخ في التمسك بمبادئ دعوته، وهم أعلم جيل عرف في التاريخ في الإدراك لأصول ما آمن به، فليس في الأمة المحمدية ولا في غيرها من الأمم مثل الصحابة في الصدق الإيماني وفي العمق الإدراكي، وفقد حازوا قصبات السبق وارتقوا أعلى المعالي، وفي تأكيد هذا التفوق يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (البخاري3650)، والخيرية هنا مطلقة تشمل كل خيرة، الخيرة الدينية والخيرة العلمية. وفي تصوير حال الصحابة في الخيرية يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه:" كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" ويؤكد عبدالله بن مسعود ذلك الوصف فيقول: " إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير القلوب، فاصطفاه لنفسه، واستخلصه، وانبعث بالرسالة، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء لنبيه صلى الله عليه وسلم، يقاتلون على دينه". وهذا التوصيف متعلق بمجمل جيل الصحابة، وليس المراد منه التوصل إلى القول بعصمة الصحابة من الوقوع في المعاصي والذنوب، فهم ليسوا معصومين من ذلك، وليس المراد التوصل إلى القول بعصمتهم من الوقوع في الخطأ العلمي، وإنما غاية المراد بذلك القول بأن الصحابة لم يقع منهم ما يخرم القيم الإسلامية الكبرى ولا ما يتناقض أصوله الظاهرة، ولم يقع من أحدهم ما يعد خطأ منهجيا في الاستدلال، بل أكثر الأقوال التي خالف فيه أحدهم الكتاب والسنة راجعة إلى عدم علمه بالنص الشرعي لا إلى طريقته الاستدلالية، وأقلها راجع إلى خطئه الجزئي في فهم النص المعين.

المؤكدات الشرعية: وهذا ما يفسر لنا كثرة الثناءات الشرعية التي جاءت في حق الصحابة رضي الله عنهم، فالقاري للقرآن الكريم وللسنة النبوية، تستوقفه عشرات النصوص التي تضمنت مدح الصحابة والإعلاء من شأنهم، وقد جاءت في سياقات مختلفة ومشاهد متنوعة: فالقرآن تارة يمتدح الصحابة على مواقفهم المشهودة مع النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِين وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَام إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان} [الأنفال:9 - 12] وتارة ينوه على جهادهم وبذلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة:89]. وتارة يصرح برضى الله عنهم ويظهر ما في قلوبهم من الرضى عن الله، كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة:100]، وكما في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. وتارة يخبر بصدقهم ويلفت الأنظار إلى تضحيتهم وبذلهم، كما في وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الحشر:8 - 9].

وتارة يشير إلى أن لهم أمثالا مضروبة في كتب الأمم السابقة - كالتوراة والإنجيل-، كما في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]. وتارة يصرح بتحقق توبة الله عليهم ونزول رحمته بهم، كما في قوله تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيم} [التوبة:117]. وتارة يعلن النبي صلى الله عليه وسلم بأن صحابته أمنة لأمته وحفاظ لها، وأنهم لأمته كالنجوم للسماء، كما في قوله: " النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتي السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون " (مسلم 2531). والتزكيات البليغة للصحابة في نصوص الشريعة مستفيضة بدرجة عالية، وكلها تؤكد على مدى العمق الإيماني الذي كان الصحابة يتمتعون به وعلى الصلابة الدينية التي اتصفوا بها وعلى العمق الإدراكي التي توصلوا إليه. ومن المستبعد عقلا أن تأتي تلك الثناءات في حق أقوام مصابون بالضعف في التمسك بقيم الإسلام أو يتصفون بالليونة في الأخذ بتعاليم دينهم وقيمه، أو يعانون من السطحية الإدراكية لحقيقته، فهل من المقبول عقلا أن يكثر الله تعالى من الثناء على الصحابة في القرآن وهو يعلم أنهم غير صادقين في دينهم أو غير صارمين في التمسك به أو غير مدركين لحقيقة أصوله؟! وهل من المقبول عقلا أن يثني الله عليهم بذلك الثناء وهو يعلم أنهم سينقلبون على تعاليم دينه وسيتخلون عن قيمه وأصوله بعد موت رسوله ويعودون إلى قيم الجاهلية؟!! إن إمكان حدوث ذلك من أكبر القوادح في بيان القرآن، ومن أفتك الخروقات التي تنخر في هدايته وإرشاده للخلق، ومن أعظم ما يصرف الناس عن قبول أحكامه والرجوع إليه. بل إمكان حدوث ذلك سيفتح الباب أمام الباطنية القديمة والمعاصرة الذين أولوا المعاني الكبرى في القرآن، كالصلاة والزكاة والصيام والحج بمعاني مختلفة تماما عن المراد منها وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيقولون: إذا جاز أن تكون تلك الثناءات الكثيرة التي جاءت في القرآن على الصحابة ليست تأكيدا على إيمانهم ولا على صلابة تدينهم ولا على عمقهم علمهم، وأنها جاءت في حق أناس سينقلبون على ما أظهروه بعد موت نبيهم، فإنه يجوز لنا أن نؤل المعاني المستفيضة على غير ظاهرها. الدلائل العقلية والحالية: ويدلل على صحة تفوق الصحابة في خواص الأجيال الأولى دلائل عديدة من العقل والواقع، ومن تلك الدلائل: الدليل الأول: الارتباط الروحي والمعاشي بالنبي صلى الله عليه وسلم:

فالتاريخ يكشف لنا بصورة قاطعة مدى ارتباط الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياتهم، فقد كانوا محيطين به لا يفارقونه في حضر أو سفر ويلازمونه في المسجد وفي البستان ويلتقون به في كل يوم لا يغيب عنهم ولا يغيبون عنه، وهذا الارتباط من أقوى الأدلة العقلية والواقعية التي تدل على منزلة الصحابة في فهم الدين وعلى عمق إيمانهم بقيمه وأصوله وشرائعه وعلى صلابة تدينهم وتمسكهم به؛ لأن الله تعالى اختار لخاتم أديانه وأكملها وأوسعها أكمل الخلق في المؤهلات المستوجبة لتبليغ الدين العظيم وغرسه في قلوب الناس ومشاعرهم، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالدين وبلغة العرب وهو أفصح الناس في البيان وهو أنصح الناس للناس وأحرصهم على الهداية، وهذه الأوصاف الثلاث متوفرة فيه في غاية الكمال. وفي شرح هذه الكمالات وغيرها يقول ابن تيمية: " معلوم للمؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره وأنصح من غيره للأمة وأفصح من غيره عبارة وبيانا، بل هو أعلم الخلق بذلك، وأنصح الخلق للأمة، وأفصحهم، فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة. ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان. والرسول هو الغاية في كمال العلم والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين والغاية في قدرته على البلاغ المبين" (الفتاوى 5/ 31). وفضلا عن ذلك ما وهبه الله من الكمالات التي اتصف بها والمواهب الإلهية التي تفيض عليه جراء اتصاله بالوحي الرباني، وهذا الأحوال تستوجب على المحيطين به الاستغراق في التفاني في محبته، والتعلق به والاندماج في التأسي بما بنصائحه وتوجيهاته، وقد وصف عروة بن مسعود يوم كان مشركا حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له فقال: " والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم" (مسند الإمام أحمد 18928). وهذا التأثير يعد من الكرامات الإلهية التي اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم, وقد اعترف به القاضي والداني، وفي توصيفه يقول حسن البنا: " تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه لم يرى التاريخ مثله في وقت من أوقاته ولا صفحة من صفحاته، وما رأت الدنيا جماعة من الجماعات سارت على هدى نبيها واتبعت سنة قائدها كتلك الجماعة المؤمنة المخلصة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "، ويقول ول ديورانت - وهو من أصحاب الانطباعات غير الجيدة عن الإسلام ونبيه - ومع هذا يقر بالعظمة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: " إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر قلنا إن محمدا كان م أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله " (قصة الحضارة 13/ 47). ويسجل مستشرق آخر تأكيده على القوة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول هارث: " إن اختياري لمحمد ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات ربما أدهش كثيرا من القراء ... ولكن في اعتقادي أن محمدا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والسياسي (قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل 145).

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتلك تلك القوة التأثيرية نتيجة الكمالات والمواهب الإلهية التي حلت به فإنه من المستبعد عقلا وذوقا ومنطقا ألا يستطيع أن يؤثر في من عاش معه ولازمه في حياته وأسفاره وحروبه، ولا يستطيع أن يغرس فيهم قيم الدين وأصوله والتقبل لشرائعه وينتزع من نفوسهم مبادئ الجاهلية. فالمنسجم مع العقل السليم والمتوافق مع المنهجيات التحليلية المنضبطة أن يكون تأثيره فيهم أبلغ تأثير وتغييره فيهم أعمق تغيير. ومن المستبعد عقلا وذوقا ومنطقا أن يكون المؤمن الصادق الذي ارتبط ارتباطا معاشيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمع خطبه وتوجيهاته مباشرة وشاهد سيرته بالعيان وعاشها بالإبصار ضعيف التمسك بدينه وقيمه، ومن المستبعد في العقل السليم أن يكون من عاش مع النبي صلى الله عليه سلم وعرف طريقة حديثه وكيفية بيانه ضعيف الإدراك لحقيقة ما جاء به من الدين مع ذلك الكمال في الفصاحة والنصح والبيان، فكيف يستقيم في العقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة العالية من الكمال وفي القمة المرتفعة من التأثير والبلاغة والفصاحة ثم مع ذلك لا يؤثر في من ارتبط به ولازمه وعاش معه سنوات عديدة. فإن من عايش شخصا كاملا كالنبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يتأثر به غاية التأثر ويتشرب مبادئه غاية التشرب، وتفتح عليه مغاليق العلم، فإذا كانت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في المستمعين لها وتحدث أثر بالغا في المطلعين عليها عن طريق القراءة، فكيف بمن عاش معه وسافر معه وأكل وشرب معه وحارب معه وصلى خلفه واستمع إلى قراءة القرآن منه مباشرة وجالسه وصادقه؟!! ألا يدل العقل السليم على أنه أولى بالتأثر من غير؟!! وقد حلّقَ أبو الحسن الندوي بقرائه وارتفع بأذواقهم في وصف تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابة فقال: "الرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ... ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة. ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم. ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في سبيل المرضاة، وحنيناً إلى الجنة، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس. يطيعون الرسل في المنشط والمكره. وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً. قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين. وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة. فهان عليهم التخلي عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم. ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه. وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها ..... لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء: كان غريباً في سرعته وكان غريباً في عمقه وكان غريباً في سعته وشموله. وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم" (ماذا خر العالم بانحطاط المسلمين 102 - 104) وهذا كله يجعل من المستبعد عقلا وواقعا أن يوجد أحد أصدق من الصحابة في التمسك بالإسلام أو يوجد أحد أعلم من الصحابة في إدراك حقيقة دين الإسلام ومعرفة أحكامه وتفاصيله. الدليل الثاني: الحال السلوكي:

لعل من الأمور الملفتة في التاريخ أن مجمل تاريخ الصحابة نقل إلينا بشكل مفصل، بحيث إنا نستطيع من خلاله أن نتعرف على تفاصيل حياتهم ونقف على جزيئات أحوالهم، وهذا يسهل لنا مهمة التدليل على تفوقهم على غيرهم من الأجيال في صدق الإيمان بقيم الدين وعمق الإدراك لأحكامه ومقاصده، فالناظر في أحوال الصحابة وما كانوا عليه من العبادة والذكر والجهاد وقوة الإيمان والحب للرسول صلى الله عليه وسلم والبذل في دينه والخضوع لأوامره والاجتهاد في طاعته، والحرص على تعلم دينه يدرك بسهولة أنه من المستبعد عقلا أن يكون أولئك القوم ضعفاء في الإيمان بمبادئ دينهم ومن المستبعد عقلا أن ينقلبوا على قيمه أو يتخلوا عن أصوله وشرائعه، ومن المستبعد عقلا أن يكونوا جهالا بمقاصده وأحكامه. وقد نبه على قيمة هذا الدليل الخطيب البغدادي، وأكد على أنه دليل قائم بنفسه حتى ولو لم ترد النصوص الشرعية بفضائل الصحابة حيث يقول: " على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤن من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء" (الكفاية 49). وهذا الدليل اعتمده العقلاء والعظماء في الحكم على الناس، وجعلوه طريقا يحصلون به العلم بحالهم ويبنون عليه مواقفهم من الآخرين، وممن اعتمد عليه: هرقل -ملك الروم- فإنه لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابه، استدعى من كان في بلاده من العرب، وسألهم أسئلة عديدة تتعلق بسلوك النبي وأحواله، فلما أجابوه بالصدق، اعترف بنبوته وصدقه في دعوته وقال: " لوددت أني أخلص إليه ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين "، فقد استفاد هذا العاقل اللبيب علما جازما باطلاعه على أحوال النبي من غير أن يلقاه، ولا شك أن النبي أعلى قدرا من الصحابة ومن كل الخلق، ولكن غاية ما نريد الوصول إليه أنا نستطيع بالعقل أن نصل إلى العلم الجازم بعمق إيمان الصحابة بمبادئ دينهم وقيمه وقوة علمهم بالاعتماد على المسلك السلوكي لديهم. ونحن إذا التزمنا بالعملية الصحيحة في الاستدلال - كما التزم بها ذلك اللبيب - نستطيع أن نقول بأنه من المستبعد في العقل أن الصحابة أكثرهم أو كلهم ارتدوا عن دينهم أو أنهم تخلوا عن قيمه، ونجزم بأنه من المستبعد في العقل أن يتراجعوا عن الفداءات التي قدموها بمجرد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يضعفوا عن التمسك بأصول الإسلام وشرائعه، ومن المستبعد عقلا أن تكون مبادئ الجاهلية هي المؤثر الأول والأخير فيهم كما صور ذلك الجابري في كتابه العقل السياسي العربي. الدليل الثالث: التفوق في المؤهلات: العارف بحال الصحابة والمدرك لطبيعة علاقتهم بشأة دعوة الإسلام وملابستها الحالية والزمانية سيصل إلى أن لديهم مؤهلات تجعلهم يتفوقون على غيرهم في معرفة حقيقة الإسلام ويتبوؤن مكانة عالية في ملكة الفهم والاجتهاد والغوص في أعماقه، وقد سلط ابن تيمية الأضواء على خصائص الصحابة في المؤهلات المعرفية فقال: " وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك" (الفتاوى 19/ 200).

وتوقف الشاطبي عند تلك المؤهلات كثيرا وأخذ يبين مستنداتها وموجبات الالتزام بها في كتاب المنهجي (الموافقات)، فقد أقام هذا الكتاب على أسس علمية عديدة منها: اعتبار فهم الصحابة لزوم الأخذ به وتقديمه على غيره في التصورات الشرعية؛ لأجل أنه سعى إلى شرح ما يختص بهم من أوصاف، وفي ذلك يقول: " وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه؛ فلا إشكال في صحته أيضًا ... وإن لم يجمعوا عليه؛ فهل يكون بيانهم حجة، أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين: أحدهما: معرفتهم باللسان العربي؛ فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة. والثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب" (4/ 127). مستلزمات عملية: بعد الانتهاء من عرض المؤكدات الشرعية على تفوقات الصحابة وتفسير الدلائل العقلية والحالية على ذلك، فإن المنهجية العلمية الصلبة تستوجب على المتمسك بها في بناء تصوراته ومفاهيمه الدينية والتاريخية أمورا عملية عديدة، ومن تلك الأمور: الأمر الأول: لزوم الرجوع إلى فهم الصحابة وإلى ما كانوا عليه من حالة دينية وسلوكية، فالمنهجية العملية البناءة تؤكد على المشاريع الإصلاحية الحرص على استجلاء الصورة الحقيقة التي تمثل ما كان عليه الصحابة، وتدعوا إلى السعي في جمع كل ما نقل عنهم من آثار صحيحة، وتحث على محاولة الكشف عن الأسس العلمية التي أقاموا عليها فهمهم للنصوص الشرعية، وبنوا عليها استنباطاتهم العلمية؛ لأنه يستطيع بذلك أن يقف على النموذج الكامل لتطبيق الإسلام، وبالتالي يتفوق في عمليته الإصلاحية، وهذه النتيجة صدع بها الإمام مالك منذ زمن مبكر في مقولته الشهيرة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها "، وقبل ذلك صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة يحقق النجاة من الخطأ، وذلك حين سئل عن الفرقة الناجية فقال: " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي "، وهذا يؤكد على أن الصحابة يمثلون النموذج الكامل في الحالة الدينية والعلمية الشرعية. الأمر الثاني: الاحتياط الشديد في نسبة الخروقات القيمية والأصولية إلى الصحابة، فالمنهجية العملية الصلبة تستوجب على الباحثين الحذر الشديد في نسبة أي أمر ينافي الصدق الإيماني التي تمتع به الصحابة أو يناقض الصلابة الدينية عندهم أو يقدح في العمق الإدراكي لديهم، وليس المراد بهذا التوصل إلى القول بعصمة الصحابة من الوقوع في المعاصي والذنوب، فهم ليسوا معصومين، وإنما المراد نسبة الأخطاء المتعلقة بأصول الإسلام وبقيمه الكبرى الواضحة. وكما أن المنهجيات الناضجة تطالب بالاحتياط الشديد في نسبة أقوال لا تتوافق مع أحوال بعض المفكرين ولا تتماشى مع الظروف المحيطة بهم، ولا تنسجم مع العقلية التي يفكر بها، فكذلك هو الحال فيما يتعلق بالصحابة لابد أن تراعى جميع التفوقات التي امتازوا بها عن غيرهم. إزهاقات تفوقات الصحابة: مع ظهور الدلائل على تفوق جنس الصحابة على غيرهم في الحالة الدينية والعملية والسلوكية، إلا أنا نشهد مناقضات عديدة لتلك التفوقات ونقف على إزهاقات ظاهرة للدلالات البينة. ومن أول ما نشهده من ذلك: المواقف التي يمارسها الفكر الشيعي الإمامي، فإن مواقفه من الصحابة تتنافى مع الدلالات الشرعية والعقلية، وتزهق الخواص الإيمانية والسلوكية لديهم.

ولكن ذلك ليس مستغربا من الحالة الشيعة الإمامية، فإن المتابع للتاريخ يدرك بسهولة أن الفكر الشيعي يعاني من عقدة " قابلية الانخراط في الخرافة "، فهو من أكثر المذاهب تداولا للأفكار التي تتناقض مع العقل، ومن أكثر المذاهب التي يربى فيها أتباعه على التعالي عن مقتضيات العقل السليم، حتى أن بعض من مارس العملية الفلسفية منهم لم يستطع أن يتخلص من آثار " القابلية للانخراط في الخرافة "، ومن الأمثلة البارزة على ذلك: الحالة التي مارسها محمد باقر الصدر، فقد بلغ قدرا كبيرا في الفلسفة العقلية، ولكنه ما زال يعتقد أن المهدي دخل السرداب منذ سنة 260 للهجرة، وأنه باق إلى الآن، وأنه سيخرج في الزمن القادم، وغير ذلك من المسلمات الإمامية. ولكن الغريب حقا أن يمارس تلك الإزهاقات كبار المفكرين العرب، ووجه الغرابة في ذلك: أن الخطاب العربي نادى بأصوات مرتفعة بالعقلانية العلمية، وشن حملة شعواء على من خالف العقل، وأقام حربا ضروسا على من لم يلتزم بمقتضى الدلالات العقلية في ممارساته التحليلية وبناءاته المعرفية. ولكننا إذا رجعنا إلى تحليلات كثير منهم لمواقف الصحابة نجد أنهم لم يلتزموا بالمنهجية الصلبة، ولم يسيروا على مقتضيات العملية التحليلية الناضجة، بل وقعوا في مزاولات عديدة لا تتماشى مع العملية النقدية الصحيحة. وسنضرب أمثلة على ما ذكره الجابري في كتابه " العقل العربي السياسي " ليتبين لنا صدق ما ذكرنا: المثل الأول: حين حلل الجابري الطريقة التي استعملها الصحابة في تحديد الخليفة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة جعل القبيلة هي المؤثر الأول والأخير من منطلقاتهم، حيث يقول: " المرجعية التي حكمت الكيفية التي جرت بها الأمور عند بيعة أبي بكر خليفة للنبي، أو الكيفية التي قرنت بها مجريات ذلك البيعة لم تكن العقيدة ولا الغنيمة، وإنما الكلمة الأولى والأخيرة منطلق القبيلة، لقد حاول الأنصار الانفراد بالأمر دون المهاجرين، ولكن التناقضات القبلية الداخلية مزقت وحدتهم، وأضعفت موقفهم، فصار الأمر إلى المهاجرين" (العقل السياسي140)، بل إنه صور حال الأنصار بأن لديهم إرادة باستباق المهاجرين في اتخاذ قرر تحديد الخليفة (العقل السياسي132). وقد تكرر هذا التفخيم لدور القبيلة عند محمد أركون، فإنه زعم بأنا نجهل الكثير عن حالة السقيفة، ثم أكد بأن المؤثر الأكبر واللاعب البارز فيها هي العنصرية القبلية، وأن الصحابة أخذوا يتصارعون في تحديد الخليفة بناءً على انتماءاتهم القبلية (تاريخية الفكر الإسلامي 282). ونحن إذا طالعنا هذا التحليل نجد فيه من الوهلة الأولى تجريدا للصحابة من القيم الإسلامية المحورية، وانتهاكا للخصوصية التربوية للصحابة، وتعاليا على الصلابة الدينية لديهم، وخرقا للقوة التأثرية لدى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أبرز القيم التي جاء الإسلام بتقريرها: محاربة الجاهلية وانتزاعها من قلوب الناس، وإزالة التأثيرات القبلية في تصرفاتهم الحياتية والدينية، فمن المستبعد عقلا أن يتخلى الصحابة عن تلك القيم بمجرد موت النبي صلى الله عليه وسلم ويكون للقبيلة التأثير الأكبر في قضية من أكبر القضايا الشرعية لديهم.

ثم إن لو حاكمنا ذلك التحليل إلى المعروف من عادات العرب في المنازعات القبلية لا نجده متوافقا معها، ولا منسجما مع مجرياتها، فمن المعلوم أن الاختلافات المتعلقة بالقبيلة عند العرب من أصعب الاختلافات ولا تكاد تنتهي إلا بعد مفاوضات طويلة ومعقدة، وغالبا لا تنتهي إلا بإسالة الدماء وإزهاق الأرواح، ولكن الحوار الذي دار بين الصحابة في سقيفة بني ساعدة انتهى بشكل انسيابي وفي زمن قياسي، فهل من المقبول عقلا أن يحصل ذلك بينهم - وهم عرب أقحاح - لو كان المحرك الأول والأخير فيهم هو المحرك القبلي فقط؟! أليس هذا خارجا عما هو معروف من عادات العرب ومتنافر عما هو الغالب لديهم؟!. والذي أوقع الجابري في مثل هذه المخالفة غفلته عن الخصوصية النوعية لجيل الصحابة ونوعية المصادر التي اعتمد عليها في معرفة ما دار بين الصحابة كما سيأتي التنبيه عليه. المثل الثاني: توصل الجابري إلى أن عليا رضي الله عنه دفع ثمن موقفه من بيعة أبي بكر، وذكر أن:" المصادر تسكت تماما عن علي ابن أبي طالب زمن أبي بكر، وكأنه لا وجود له" (العقل السياسي143)، وهذا التحليل فضلا عن أنه مخالف للدلالات العقلية التي تؤكد على صعوبة تصور أن يقع مثل هذا الفعل من أبي بكر ومن كبار الصحابة، ولا يصح لنا أن ننسب إلى أبي بكر مثل هذا التصرف السطحي إلا بأدلة قوية، وهذا ما لم يقدمه الجابري في تحليله السابق. ومع ذلك فهو أيضا مخالف لما هو منقول في كتب الحديث والتاريخ من سيرة علي رضي الله عنه في هذه المدة، فقد ذكر ابن كثير أن عليا ممن خرج مع أبي بكر إلى ذي القصة لما ارتد أهلها، وذكر أن أبا بكر جعل عليا أحد القادة الذين يحمون مداخل المدينة مع طلحة والزبير وعبد الله ابن مسعود (البداية والنهاية 6/ 334). وجاء أن أبا بكر العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال وعلي ابن أبي طالب يمشي إلى جنبه، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته وهو يقول أوه بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي وعلي يضحك" (المسند 40, وإسناده صحيح). ثم إن فترة خلافة أبي بكر اتسمت بالقصر وبوقوع أحداث كبيرة سيطرة على المؤرخين فلم يهتموا بنقل الأحداث الفردية، ومن يطالع تاريخ خلافة أبي بكر يجد أن كثيرا من كبار الصحابة لم يكن له ذكر كعثمان بن عفان وغيره. وبناء على هذه الدلائل فضلا عما تم تقديمه من أدلة عقلية على نزاهة الصحاب من حدوث مثل تلك التصرفات يتبين أن الجابري لم يوفق في تحليله ولم يسلك الطريقة الصحيحة في تبين الأمور واكتشافها على حقيقتها المطابقة للتاريخ. المثل الثالث: صور الجابري للقاري العربي حالة الشورى التي كانت بعد موت عمر رضي الله عنه على أنه ثمة صراعا محتدما بين علي وعثمان، وأنهما استصحبوا الصراع الجاهلي بين قبائلهم، حيث يقول: " وقائع الشورى تؤكد أن الصراع كان بالفعل شديدا بين علي وأنصاره وعثمان وأهله، أي بين بني هاشم وبني أمية، غنه الصراع نفسه الذي كان قائما بينهما في الجاهلية، الذي غطى عنه الإسلام لمدة من الزمن ليبعث بأقوى مما كان عليه" (العقل السياسي 146).

وابتداءً نحن لا ننكر أن ثمة خلافا في وجهات النظر حصل بين الصحابة رضي الله عنهم في تحديد الخليفة بعد عمر، وهو من جنس الخلاف الذي حصل بينهم في خلافة أبي بكر، ولكن التعاطي الذي مارسه الجابري مع قضية الشورى، يتعارض على طول الخط مع الأدلة العقلية والحالية التي تؤكد على أن حدوث هذه الصراعات القبلية مستبعدة في العقل، ولا يكاد المدرك لتلك الأدلة أن يتقبل التحليل الذي مارسه الجابري عن الصحابة في الشورى، ويصعب عليه جدا أن يأخذ به، فعلي وعثمان من كبار الصحابة الذين ارتبطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتباطا روحيا ومعاشيا كبيرا، فمن المستبعد عقلا أن يتخلوا عن القيم الذي غرست في أنفسهم لأجل الخلافة، ومن المستبعد عقلا أن يرجعوا إلى الحالية الجاهلية التي حاربها الإسلام بشكل مكثف، وهذا الاستبعاد لا يصح أن ننتقل عنه إلا بأدلة قوية جدا، وهذا ما لم يقدمه الجابري في تحليله السابق. ثم إن السؤال يعود هنا مرة أخرى، هل من المعروف من عادات العرب أن تنتهي المنازعات القبلية بينهم بمثل الصورة التي كانت بين الصحابة، فقد انتهت مهمة الشورى في ثلاثة أيام فقط، وعين عثمان ابن عفان خليفة للمسلمين، ولم يعترض علي ولا أحد من بني هاشم، ولم يقيموا كتلا سياسية معارضة، بل يذكر التاريخ أن عليا كان على وفاق تام مع عثمان، وكذلك هو الحال في كل بني هاشم. وقد أكدت روايات عديدة على أن الرأي العام في آخر أيام عمر بن الخطاب كان متوجها إلى بيعة عثمان بن عفان، فقد سأل عمر حذيفة بن اليمان في الحج فقال: من ترى قومك مؤمرين من بعدي؟ قال حذيفة: رأيت الناس قد أسندوا أمرهم إلى عثمان بن عفان" (تاريخ المدينة ابن شبة3/ 392، بسند صحيح)،وقال خارجة بن مضرب: "حججتُ مع عمر فلم يكونوا يشكُون أن الخلافة من بعده لعثمان" (المصنف, ابن أبي شيبة38230, بسند صحيح). ثم ما صوره الجابري من خلافات سياسية بين بني هاشم وبين أمية في عهد كبار الصحابة غير صحيح، فإنه لم يكن بينهم شيئا من مخلفات الجاهلية، وكان كثيرا من ولاة النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية، وقد تزوج منهم وهم تزوجوا من بني هاشم، وهذا كله يدل على أن الإسلام اقتلع مخلفات الجاهلية من نفوسهم وهذا الدلائل فضلا عما سبق تقديمه من الأدلة العقلية والحالية كلها تدل على خلاف ما توصل إليه الجابري حين صور أن الصحابة تخلوا عن قيم الإسلام ورجعوا إلى مبادئ الجاهلية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. المثل الرابع: أن الجابري عول كثيرا على المصادر المشكوك فيها في تحليل الحوادث الواقعة في جيل الصحابة، فقد اعتمد كثيرا على كتاب " الإمامة والسياسة", وتكرر ذكره في كتابه "العقل السياسي" أكثر من خمس وثلاثين مرة، واعتمد عليه وحده في أكثر من عشرين مرة، وكان أحد ما اعتمد عليه في نقل تفاصيل ما حدث بين الصحابة يوم السقفية. وهذا الاعتماد من الجابري مخالف للمنهجية العملية الصلبة التي تستوجبها حالة جيل الصحابة، فهذا الجيل قامت الأدلة العقلية والحالية على تفوقه الإيماني والعلمي وعلى صلابته في التمسك بالقيم الإسلامية، وهذه الحالة تحتم الاحتياط الشديد في نسبة أي موقف يخالف ذلك، فهل من الاحتياط الشديد أن نعتمد على كتاب مشكوك في نسبته، وهل من الالتزام بالمنهجية العملية التحليلية أن نبادر إلى إزهاق تفوقات الصحابة بالاعتماد على مثل كتاب الإمامة والسياسة، المنسوب إلى ابن قتيبة. والغريب حقا أن الجابري نفسه متوجس من صحة نسبة ذلك الكتاب ابن قتيبة، فإنه قال عنه: " لعل أقدم كتاب وصلنا في هذا الموضوع -الإمامة- هو كتاب الإمامة والسياسة، المنسوب إلى المؤرخ الكبير والمؤلف السني الواسع الإطلاع أبي محمد عبدالله ابن قتيبة الدينوري، وعلى الرغم من الشكوك التي تحوم حول صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة، وعلى الرغم من الهنات والأخطاء التي سجلها عليه الباحثون المختصون، فإنه يبقى مع ذلك أول محاولة سنية في الكلام في الإمامة " (تكوين العقل العربي108). فهل يجوز في المنهجيات العلمية الصارمة التي تراعي الأحوال المحيطة بالقضية ولا تغفل عن الاحتياط الشديدة التي توجبها الأدلة المحيطة بها أن نعتمد على مثل كتاب الإمامة والسياسة؟!

إيقاف القنوات الإسلامية ... الأسباب والحلول

إيقاف القنوات الإسلامية ... الأسباب والحلول د. مالك الأحمد 17ذي القعدة1431هـ لم يكن إيقاف بعض القنوات الإسلامية مفاجئاً للمراقب الإعلامي .. كانت المفاجأة بكثرة القنوات التي أوقفت والأخرى التي أنذرت في وقت واحد البداية كانت مع قناة الرحمة والتي يديرها ويقدم الكثير من برامجها الشيخ محمود حسان قبل 6 أشهر .. كان الإيقاف بطلب من هيئة مراقبة البث السمعي البصري الفرنسية بدعوى اللاسامية وتعرضها لليهود .. وسبق لهذه الهيئة إيقاف قناة المنار (الشيعية) لنفس الأسباب عندما كانت تبث على قمر أوروبي (مازالت تبث على النيل سات!!) القناة عاودت البث باسم جديد "نسائم الرحمة" حتى تعرضت - مع أخواتها - للإغلاق للمرة الثانية .. من المهم استحضار وثيقة البث الفضائي العربية, والتي أقرها وزراء الإعلام قبل سنتين وتضمنت بعض البنود الإيجابية, والكثير من البنود السلبية, وتحفظت عليها قطر ولبنان: من البنود الإيجابية: عدم التأثير سلباً على السلم الاجتماعي, والوحدة الوطنية, والنظام العام, والآداب العامة، والامتناع عن التحريض على الكراهية, أو التمييز القائم على أساس الأصل العرقي, أو اللون, أو الجنس, أو الدين، وحماية الأطفال والناشئة في كل ما يمكن أن يمس بنموهم البدني والذهني والأخلاقي, أو يحرضهم على فساد الأخلاق، والامتناع عن بث كل ما يسيء إلى الذات الإلهية, والأديان السماوية, والرسل, والمذاهب, والرموز الدينية الخاصة بكل فئة ... وهي بنود ممتازة لكن يعيبها عدم التطبيق على الواقع. من البنود الأخرى: الامتناع عن بث كل شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب ... الالتزام بالموضوعية والأمانة, واحترام كرامة الدول والشعوب وسيادتها الوطنية, وعدم تناول قادتها أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح .... وهي عبارات مطاطة يسهل تطبيقها على القنوات التي لا تعجب الجهة المنظمة للبث لأنها هي التي تمتلك حق التفسير .. الوثيقة أعطت الجهات المنظمة للبث (وزارات الإعلام، مدن الإنتاج، شركات الأقمار الصناعية) الأدوات اللازمة للضبط وإيقاع العقاب. من المهم استحضار التطورات السياسية في المنطقة والتي - لا شك - أثرت على موضوع القنوات الإسلامية هناك تقارب مصري إيراني عراقي .. بمعنى آخر هناك مصالح متبادلة تتطلب من الجهتين السنية والشيعية مراعاة مصالح الطرف الآخر .. هذه المراعاة والمجاملة (المبنية على المصالح وليس المبادئ, حيث أن لمصر موقف صريح وواضح من نشر التشيع في مصر, وجهوده على الأراضي المصرية) .. تطلبت أمرين: الأول: السماح لعدد كبير من القنوات الشيعية العراقية والكويتية (أكثر من 20 قناة) , وأيضاً تتبع القنوات السلفية التي تحاور - وليست تهاجم الفكر الشيعي- وبطريقة لطيفة محببة (قناة صفا على سبيل المثال) البعد الثاني في القضية: هو الأثر الملموس للقنوات الإسلامية (بالذات السلفية) على الجمهور المصري وما أثمره من حركة تدين واسعة، لا شك أنها تزعج الفئات العلمانية سواء التي في السلطة, أو المسيطرة على الإعلام حتى لو كان تدين هذه الفئات مسالم ولا يحمل أي توجه عنف أو مواجهة. لا ننسى أهل الشهوات من أصحاب الأفلام المسمومة, والذين مافتئوا يستفزون المسئولين, ويحرضون على القنوات الإسلامية بدعاوى باطلة كيدية, مستغلين حضورهم الإعلامي القوي ومواقع النفوذ التي يمتلكونها هنا وهناك

إن نجاح القنوات الإسلامية أقض مضاجع البعض, وجعلهم يسارعون للتحرك رغم أن العملية (وهي السماح لهذه القنوات بالبث) نوع من التوازن مع القنوات الأخرى المنفلتة - وهي بالمئات - سواءاً الحكومية أو الخاصة, وهذه القنوات لم تحصل على تراخيص بصفتها قنوات دينية (تمنع النيل سات القنوات الدينية) بل بصفتها اجتماعية ثقافية منوعة, ومع ذلك تم السماح لبعض القنوات النصرانية (بعد ضغوط متوالية من الكنيسة القبطية) والتي تجاهر بنصرانيتها وبعدها الديني بلا مواربة كما لا ننسى الضغوط الأمريكية على المنطقة حيث فشل إعلامها العربي (قناة الحرة) (خصوصاً أن بعض القنوات الإسلامية تؤيد مقاومة الاحتلال الأمريكي سواء في العراق أو أفغانستان)، وهذه الضغوط ليست مباشرة بقدر ما هي ملاحظات لأصحاب القرار للانتباه (والحر تكفيه الإشارة كما يقولون). مبررات الإغلاق التي ذكرت من الجهات الرسمية (وزارة الإعلام، النيل سات) لم تكن مقنعة, وليست منطقية ابتداءاً .. "لتنقية الفضاء العربي من دعاوى الفتنة والجهل والتطرف والانحراف ". ... " تستهدف في مجملها الحفاظ على قيم المجتمع المصري والعربي ". ... "سعت بعض هذه القنوات إلى التكسب من خلال نشر طب بديل, مبني على الدجل والشعوذة تحت ساتر الدين والتشبث بالرسول صلى الله عليه وسلم ". ... " نشر هذه الخرافات, وخداع المتلقي المصري والعربي بوصفات تعتمد على الدجل والخرافة, فضلاً عن الترويج للمنشطات الجنسية, وطرق العلاج بالحجامة " أما ما ذكر من شروط لإعادة البث والذي يتضمن التدخل في محتوى القنوات (لم يتم التأكد من صحة هذه المطالبات) فلا أظن عاقلاً - فضلاً عن مسئول عن قطاع إعلامي - يؤمن بها, بل ويطالب القنوات الإسلامية الالتزام بها!! .. " لا تتعدى مساحة البرامج الإسلامية في القناة أكثر من 50% من خريطة القناة. أن لا تكون هناك برامج للفتوى الشرعية مهما كان ضيف البرنامج. تخصيص مساحة كافية لإذاعة أفلام, أو أغنيات, أو مسرحيات. إشراك عناصر نسائية صوتاً وصورة في الخريطة البرامجية الجديدة ... " أما في جانب الحلول - في نظري - بالنسبة للقنوات الإسلامية (جميعها) فالمطلوب التالي: مراقبة المحتوى بدقة, والتأكد من عدم مخالفة وثيقة الشروط (بشكل عام) أي شروط التعاقد مع جهة البث. أيضاً الحكمة في معالجة بعض القضايا المعاصرة ذات العلاقة بالطوائف, أو اليهود, أو النصارى, ولا يعني هذا إغلاق هذه الملفات بقدر ما هو التعامل معها بذكاء وروية مراقبة الإعلانات التجارية والتي لا يخلو بعضها من مبالغة وأحياناً كذب (رأيت بعض اً منها في بعض القنوات) وهي وإ ن كانت قليلة فالأولى عدم عرضها, ويعوض الله خيراً منها الاستعداد الفني للانطلاق من خلال أقمار أخرى, والفضاء اليوم فيه من التنافس الشيء الكثير .. هناك أقمار آسيوية تغطي المنطقة العربية وهي - في ظني - أقل حساسية من العربية والأوروبية أيضاً الاستعداد الفني الكامل للبث من خلال الانترنت خصوصاً مع توفر سرعات اتصال معقولة لدى الكثير من الأسر وبسعر معقول، علماً بأن الدراسات والبحوث تشير إلى حلول البث التلفزيوني من خلال الانترنت محل البث عبر الستالايت خلال بضع سنوات (5 - 10 سنوات). التنسيق والتعاون بين القنوات الإسلامية بحيث يسد البعض مكان الآخر, ولا يتم التفرد بهذه القنوات بشكل فردي (أكلت يوم أكل الثور الأبيض!!) وهذا في الجانب الفني وأيضاً المحتوى، والبعد عن التنافس السلبي. الاقتراح الأخير: لابد من وجود مقرات ومكاتب واستوديوهات في أماكن مناسبة (خارج العالم العربي) تكون رديفة وبديل في حال إغلاق الاستوديوهات والمقرات الإدارية, والانتقال السلس والسريع للبث من خلال أقمار أخرى غير مسيسة من خلال قاعدة فنية جاهزة ..

لماذا فشلت الليبرالية العربية ... ؟

لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ... ؟ عائض الدوسري 15ذي القعدة1431هـ في البدء قالت .. "كيركبا تريك" المستشارة في إدارة الرئيس "ريغان" وممثلة أمريكا في الأمم المتحدة، تؤكد أن الديمقراطية مجرد لعبة لتحقيق مصالح الغرب، وأن قيم الغرب وسياساته خاضعة للعبة المعايير المزدوجة .. تقول: (إنه ينبغي علينا عدم تشجيع الديمقراطية في وقت تكون فيه الحكومة المؤيدة من قبلنا تصارع أعداءها من أجل البقاء، وإن الإصلاحات المقترحة بعد ذلك لا بد أن يكون منها إحداث التغيير، وليس إقامة ديمقراطية). تساؤل عقلي مشروع يطوف في أذهان بعض الإسلاميين والعلمانيين العرب: لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة؟ وجواب هذا التساؤل معلق على جواب تساؤل آخر: فهل يوجد أصلاً ليبرالية عربية حقيقية؟! هنا جوهر المشكلة لأن بعض الإسلاميين وخصومهم يخلطون بين العلمانية وبين الليبرالية، فلا يلزم من كون الإنسان علمانياً أن يكون ليبرالياً، إذ العلمانية موقف أيديولوجي فكري من الدين أو النص أو المقدس، فالعلماني قد يكون ديكتاتورياً -وهذا الغالب- وقد يتحالف مع الشيطان، ومع الديكتاتور، ومع أي جهة كانت، ما دامت تساعده في إدارة رحى معركته ضد الدين أو ضد المتدينين. لذا فلا وجود موضوعي لليبرالية عربية، ولا أدل على ذلك من غياب ممارسة حقيقية للتسامح واحترام المخالف، وغياب أي مشروع إصلاحي مدني حقيقي، ينفع المواطن العربي في عالمنا العربي المتألم! إن سلوك العلماني العربي جعل "الليبرالية" كلمة مكروهة مشوهة تحتقرها الجماهير الصارخة بآلامها، لأنها تشاهد بأم أعينها خيانة النخب العلمانية العربية لهمومها وآمالها، ولا تجد من هذه النخب إلا تحالفاً وتبريراً للدكتاتور، مع أن هذه النخب المتخمة بالعلمنة تصيح صباح مساء قائلة: قدسوا الحرية كي لا يدوسكم الطغاة! وهم كل يوم بل كل لحظة يدوسون هموم الشعوب، ويتحالفون مع الشيطان الأصغر والأكبر، كي يتمكنوا من أغراضهم الخاصة، ونزواتهم الشخصية. العقلاء -يا سادة- مع اختلافهم وتباين توجهاتهم فإنهم قد يحترمون من يخالفهم إذا رأوه صادقاً مع نفسه ومبادئه. إن الليبرالي الذي يؤمن بمبادئه ويمارسها حقيقة، ويدافع عن كرامة الناس وحقوقهم، ويتسامح مع خصومه، ويتقبلهم، يضع له خصومه حساباً لأنهم يعلمون أنه مؤمن حقيقة بقضيته. ومن يتأمل الصحابي الكريم "عمرو بن العاص" الذي يقول عن الروم .. ما ورد في صحيح مسلم ما قد يبيّن بعض طباع هؤلاء الناس، مع إنصافهم وعدم غمط حقهم. فقد روى مسلم عن المستورد القرشي أنه قال عند "عمرو بن العاص" رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تقوم الساعة والروم أكثر الناس ". فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة. وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة. وأوشكهم كرة بعد فرة. وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة وجميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك). فتأملوا كلام هذا الصحابي العظيم رضي الله عنه، وكيف أنصفهم وشهد لهم بما هم أهله، مع كفرهم وعداوتهم، وتأملوا في المقابل المثقف العلماني العربي فستجدونه -في أكثر الأحيان- متسلطاً دكتاتوراً محارباً للدين في أصوله وتفاصيله، لا يهمه مسكين أو يتيم، بل سليط اللسان بذيء الألفاظ، إذا خاصم فجر، عنده كل القابلية لأن يطعن في أعراض خصومه بالبهتان، تجده يمارس أشد أنواع الإقصاء، فهو دغمائي، سادي -كما يعبرون- ليس عنده أي قابلية لأن يتسامح. وما أجمل ما صوره النصراني العلماني (رفيق حبيب) لهذه النخبة حينما قال:

(الانبهار بالغرب أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب، ولكن لدى وكلاء الغرب كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة، إن وكلاء الغرب يشكون من عدم إتاحة الفرصة كاملة لحرية البحث ويؤكدون أن حضارتنا وتراثنا قيود على البحث العلمي، والحقيقة أن هذه الشكوى تنبع من قضية على جانب كبير من الخطورة، لأن تطبيق العلم الغربي في سياق حضارتنا يمثل تعديا على كل مقدسات الأمة ولذلك فانه يواجه من مجموع الأمة ومن هنا يشكو وكلاء الغرب بسبب إن حرية البحث العلمي مقيدة والحقيقة أن التعدي على مقدسات الأمة مقيد). العلماني يريد أن يمارس حريته -عبثه- مع المقدس لأنه يرى أن لا مقدس إلا هو، الدين لا قداسة له، هو متغير ومتحول، وغير ثابت، لكن الديكتاتور عند العلماني العربي ثابت غير متحول، ولذا فهو يلعق حذاء الدكتاتور ويسبح بحمده، يغرد بسرد إنجازاته، إنه يعبده ويتخذه آلهة، ولا ينبس بكليمة صغيرة من أجل ضمير الشعب المطحون تحت قهر الفقر والذل! العلماني العربي قوي شجاع حينما يتكلم عن الله سبحانه، وعن دينه، يدعي بطولة رخيصة، فإذا ثارت الجماهير المؤمنة صارخة متألمة من أجل ربها وحبيبها نبيها ودينها، صاح العلماني العربي: أين الحرية؟ أين التسامح؟ أين قبول الرأي الأخر؟! يا له من شجاع وجريء على دين الله، ويا له من جبان ورعديد ومنافق حينما يتحدث عن الديكتاتور! إن الجماهير مقتت من يطنطن بالحرية وتراه لا يمارس حريته إلا حينما يتحدث عن الله ودينه، لكنه لا يتحدث بهذه الحرية حينما سرقت اللقمة الصغيرة من أفواه ملايين الشعوب، ولم يتحدث عن الأيتام، عن الفساد، عن مشاريع حقيقية ينتفع بها الإنسان. إن ما تروجه العلمانية الغربية والأمريكية، والتي تتشدق بالحرية والديمقراطية هذه الأيام وقبلها هي أبعد ما تكون عن تطبيقها وممارستها في العالم العربي والإسلام، لأنها تعتقد أننا غير قابلين لمثل هذه القيم، ومهما تشدقوا فثقوا أن ديمقراطيتهم لا تباع ولا تستبدل، إن الديمقراطية مجرد فزاعة للأنظمة وللحكومات، وجزرة للشعوب اللاهثة. ولذا نتفهم وجهة نظر الخبير الفرنسي بشؤون الإسلام السياسي "أوليفيه روا" حينما يتحدث عن خيارات الغرب تجاه الحرية والديمقراطية في العالم العربي البائس؛ حينما تتعرض مصالحه للخطر، فهنا يضحي بقيمه وتعاليمه المقدسة، في سبيل الحفاظ على مصالحه .. يقول: (عندما يكون على الغرب الاختيار بين العلمانية والديمقراطية، فهو يختار العلمانية دائماً، وعندما تكون العلمانية في كفة والديمقراطية في كفة كما في الجزائر وتركيا فالغرب يختار دائماً العلمانية لا الديمقراطية، الغرب يفضل قيام نظام تسلطي دكتاتوري على وصول الإسلاميين إلى السلطة). وقد أكد هذه الحقيقة ودون مواربة أو خجل (أدوارد ما نسفليد - وجاك سنايدر) عندما تحدثا عن فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وحزب الرفاة في تركيا وضرورة ضربهما .. يقولان: (في كلتا الحالتين، كان لا بد من انتهاك المسار الديمقراطي، وذلك لإيقاف ما أسفرت عنه العملية الديمقراطية نفسها، فقد عبر كثير من المراقبين والحكومات عن ارتياحهما لهذا، مبررين ذلك بأنه من الأفضل وجود حكومة " فاشية " نستطيع التعامل معها، بدلاً من حكومة إسلامية لا نستطيع التعامل معها).

ولذا يقرر الغرب أنه من الخطأ الاستراتيجي دعم أعظم القيم الغربية "الديمقراطية والحرية" قيمةً في بلدان تتقاطع مصالحها مع تلك القيم، وهذه الحقيقة يقررها المفكر الغربي "روبرت كانمان" في كتاب ألفه لهذا الغرض اسماه ب " الديمقراطية والمعايير المزدوجة " ومما قاله في هذا الكتاب: (إن الجميع - في الغرب - يتفق على أنه من الخطر دعم الديمقراطية بجميع صورها في العالم الإسلامي). وإذا كان العلماني العربي يدرك ذلك سياسياً، فهو لا يجد غضاضة في وضع يده في يد أعداء دينه ووطنه، والصياح دائماً بالحرية التي تعني له: أنه يجب أن يلعن الدين ويشتم الله بدون أن يضايقه أحد، وهو يعلم أن الغرب لن ُيصدر أقدس قيمه "الحرية" لحفنة من البشر يراهم دون قيمة البشر! وحينما نتجه للمرأة وما أدراك ما المرأة؟! تجده يتحدث عن المرأة .. عفواً .. ليست المرأة الإنسان، ليست المرأة الأم .. ليست المرأة اليتيمة .. ليست المرأة الفقيرة .. إنه يتحدث عن المرأة الصغيرة الجميلة، إنه يريد أن لا يتعطل نصف المجتمع في البيوت لصناعة الجيل القادم رجلاً ونساءً، إنه يريد أن يعمل نصف المجتمع قريباً منه وتحت ناظريه، ليخلو البيت! ألم يقل كبيرهم العلماني المشهور "بوعلي ياسين": (الرجل المثقف -العلماني- في مجتمعنا يدعو إلى المساواة ويطالب المرأة بأن تكون ندا للرجل ولكنه نادرا ما يتزوج هذه المرأة المتساوية معه أو الند له، إنه يقبلها صديقة ورفيقة وزميلة لكنه يخافها ويبتعد عنها كزوجة .. إنه يريدها غرّة، ولذلك تراه يركض وراء المراهقات). إن الليبرالي الغربي -المؤمن بكرامة أمته- قدم نفسه وحياته قبل كلماته في الصحف المستأجرة، مات هو يخدم قضيته، ضحى من أجلها، مات وهو صارخ بها، لأنه يعتقد أن الكرامة ملك للإنسان في بلاده يجب الحصول عليها، وهي حريته وليبراليته، ولذا وقف ضد الدكتاتور، ومات تحت جنازير دباباته، وقتل برصاصه، لكنه عاد وفي كل مرة حتى بناء حلمه على أرض الحقيقة. في أمريكا حينما ضربت في صباح عجيب، في ضحى 11 سبتمبر، توحدت العقول والقلوب، وتوحد اليمين مع اليسار، وتوحدت الديمقراطية مع الجمهورية، وتوحد الشمال مع الجنوب، وتوحد العلماني والليبرالي مع الزعيم الراديكالي الأصولي الإنجليكاني! لقد تناسوا كل خلافاتهم وتوحدوا في وجه العدو الخارجي، لقد قرر زعيمهم "بوش" الإنجليكاني الجديد أن يتحفظ على بعض حقوق الليبرالية في وقت الأزمة، فأقروا له وأخبتوا، طاعة وحباً كرامة، لقد صارت أمريكا -يا سادة- كقطعة معدنٍ صلبة في زمن الضربة. لكن -ويا أسفي على لكن- تجد العكس عندنا، دهمنا العدو بخيله ورجله، بصحفه وقنواته، سدد سهامه للنيل من بلادنا وشعبنا وقيادتنا وتقسيم وطننا، طعن في عقيدتنا، وتهجم على عقولنا، وسخر من كرامتنا، وداس على عزتنا .. فماذا فعلنا؟ شُتت الجهود، وتفرقنا، وتمزقنا، وصار العلماني يرحب بالفاتح الجديد ويرحب به، ويهدد من خلاله قائلاً: [غيروا بأنفسكم أحسن من يجيكم من يغيركم بالعصى]! لقد ابتزوا في الفتنة، وشطروا البلاد، وجعلوا منبر الكلمة منبراً للطعن في ضمير الأمة، وتشتيت كلمتها، وطعن في علمائها، لقد ابتغوا الفتنة وقلبوا الأمور، واستأجروا كل مريض وصاحب سوابق، لقد مزقوا عقل الوطن وضميره وانتماءه. ثم خرجت خارجة من شباب الوطن تضرب بره وفاجره، ولا تتحاشى مؤمنه، كفرت بطاعة الإمام، وقتل أهل الإسلام والأوثان، فبكى الوطن، واشتكى الدين إلى الله، وسكبت العبرات على عقول تاهت ووجوهٍ شاهت.

قفز الليبرالي في منبر الكلمة وفرح بهذا الخنجر الذي طعن خاصرة الوطن والإيمان، فاستثمره لصالحه، وظفه لخدمت أجندته الخاصة، فمال على كل ما هو إسلامي فعاث به ضرباً باليمين وضرباً بالشمال .. وإلى الله المشتكى. فبدل أن تتوحد الجهود وتتراص الأقدام، وتجتمع القلوب في أزمنة الفتنة، صارت فتنة فوق فتنة!! فكان العلماني العربي مفلساً ليس عنده أدنى ذرة لأن يضحي لأجل مبدأ، أو دين، أو وطن، بل عنده كل الاستعداد لأن يضع نفسه ويده مع أعداء أمته ودينه ووطنه، عنده استعداد للدفاع عن إسرائيل، وتبرير جرائم الأمريكان في كل مكان، وتحويل فضيحة سجن أبوغريب إلى حديثة الزهور، مع أن الليبرالي الأمريكي لا يزال صارخاً يدين جرائم بلاده! مفارقة غريبة .. قد يفسرها فهم كثير من العلمانيين أن الحرية هي الجنس، أو المزيد من الجنس، والفوضوية، وعدم المسؤولية، والعبث بأي شيء. لهذا السبب كره الناس هؤلاء، ورفضوهم .. وهكذ1 فشلوا، وسوف يفشلون دائماً. لقد أعجبني ما قاله الدكتور (برهان غليون) أستاذ كبير في جامعة السوربون، علماني يساري التوجه، ولكنه منصف وباحث جاد وحيادي: (ليس صحيحا أن الذي يعيق الأنظمة العربية مثلا عن تحقيق الديمقراطية هو خوفها من الإسلاميين، بل هي لم ترفع شعار الديمقراطية إلا لمواجهتهم وبسببهم، إن تفجر الأزمة - كما هي اليوم - لتبدو وكأنها مواجهة أهلية شاملة، لم تحصل إلا بسبب طفوح الكيل من الغش والخداع والكذب والتلاعب بعقول الشعب، واحتقار ذكائه ومخيلته، إن ما نسميه بالمجتمع " المدني " ومنظماته هو اليوم نهب لأجهزة المخابرات وضحية لها. إن الحركات الإسلامية لم تتوسع إلا لأن السلطات القائمة رفضت أي تشغيل للقنوات السياسية الطبيعية، وحاولت منع المجتمع من التنفس والحياة، وهذه الحركات تشكل آخر تعبير سياسي عن روح الثورة والتمرد الكامنة في شعب اغتصب حقه في المشاركة والحياة منذ عقود). ثم يعتب الدكتور غليون على النخب العلمانية في معاونتها للطغاة في القضاء على المتدينين، بحجة العمل للديمقراطية وتنظيف الساحة منهم، وأن الحكام في الجزائر قتلوا مالا يقل عن (30) ألف إسلامي بحجة تنظيف الساحة منهم!!! يقول الدكتور غليون بالحرف الواحد: (من هم الإسلاميون، غير إخواننا وأبنائنا وبناتنا؟ أليسوا هم أنفسهم القوى التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات الكبرى المادية والمعنوية، الخارجية والداخلية التي تعمل لتدميرنا؟؟). وأخيراً ... هل يفهم العلماني العربي ما يقوله "صاموئيل هنتنغتون" الخبير في وزارة الخارجية الأمريكية: (إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست الإسلاميين المتطرفين، وإنما الإسلام ككل، فالإسلام بكل طوائفه وفي مختلف دوله عبارة عن حضارة كاملة تشتمل الدين والدنيا، وكل مظاهر الحياة اليومية، ولذا قلت إن الإسلام ونظام الدول الغربية لن يلتقيا، إن المسلمين يعلنون في وجه كل غربي إن دينهم هو الأحسن وأن عاداتهم وتقاليدهم هي الأفضل، كلهم يقول ذلك المتطرف والمعتدل).

البقعة التنويرية

البُقْعَة التَّنْويريَّة سليمان بن ناصر السالم 13 ذي القعدة 1431هـ البُقْعَة صارتْ تَتَّسِعُ شيئا فشيئا لكلِّ من له خصومة أو موقف مع التيار السائد، ليست المسألةُ أن تنطلق وفقَ قواعدَ محددة ومنهج متبلورٍ وأدوارٍ واضحة؛ المهم أن يكون لك تحفظ على شيءٍ قائم على السَّطح، بعدها ستُمنح بطاقة الشرف وتذكرة الدخول لعالم الأنوار في جَذْر مكافحةِ الظُّلم ومقاومة الاستبداد؛ إنها البقعة التي رسمها أحدهم وأدخلَ في قُطْرِها كوادرَ علمية ذات اليمين وذات الشمال، وحشر في جوفها أقلاما متباينة بشكل حاد ومشاريع شتى…؛ كانت أَشْبَه بصافرةِ إنذارٍ دَوَّتْ في بعضِ دولِ العالمِ الثالثِ فإذا بالطبيب والمهندس والمزارع بجوارِ الجندي جنبا إلى جنب في أرض المعركة .. ! كانت أمانيَ أملاها الخيال الرحب والنفس المتطلعة نحو التغيير .. لكن هل لها رصيد من الواقع؟ شَغَلونا بالحديثِ عن الإصلاحِ السياسي ومناهضةِ الفساد المالي، فلما قلنا لهم: سَمُّوا لنا رجالَكَم .. ، ذكروا فلانا وفلانا من الأفاضِل .. أسماءٌ لا يُعتبرُ الإصلاحُ السياسي من صَلْبِ اهتماماتها، يا تُرى هل هو تَخَلٍ عن المشروع؟ أم أن المسألةَ لا تعدو أن تكونَ استكثارا للرِّفاقِ لمجابِهَةِ التيارِ الجارِف؛ رأوا أيديَهم خاليةً من الأوراقِ الرَّابِحة، فأدخلوها في جيوبِ الآخرين يبحثون عن أيِّ رهانٍ يضعهم في الواجِهة؛ كنت أتمنى أن يكون الخطاب التنويري واضحَ المعالم والرسوم، لكنه ويا لأسفي الشديد ليس كذلك، كل ما هُنالِك أن تُبديَ تحفظاتٍ شديدةٍ وليونةً في التعامل مع النَصِّ الشرعي في أي مجال شِئت، بعدها ستجد نفسك عضوا في نادي الأنوار .. ! لا أعلم لمَ وُضِعَتْ السِّياجاتِ الوَهْميَّة بين التيارات الإسلامية، يا تُرى هل صارَ مُبرر إثبات الوجود والتجميع المرقَّع أهمَّ من مبرِّرِ وحدةِ الكلمة والصف؟! الغلو في مكافحة الغلو: يسأل التنويريون: لم لا تكافحون الغلوَّ والتشدد؟ هل ثمَّ موضوعٌ تناوله الخطابُ الشرعي خلال العقدِ الماضي أكثرَ مما تناول شبهات الجهاديين ومسائل التكفير حتى بات وصف: [الغلو في مكافحة الغلو] ملائما لبعضِ حالات الخطاب .. ! ما لم يفهمه هؤلاء -تطبيقيا على الأقل- أن الشريعة نبذتْ الغلوَّ والتفلُّتَ على حدٍ سواء، فالمكتبات السلفية والمحافل المحلية والرسائل العلمية والندوات المختلفة كلها تصب في صالح مكافحة الغلو، لكن السؤال الملقى في قارعة الطريق، من يقف في وجه مطبوعات محسوبة على التنوير تخلخل الثوابت الشرعية ككتاب يتضمن قصر الصلوات الخمس إلى ثلاث، ومن ينتزع المناديل المبللة من أكف نادبي أساطين الانحراف ويصرخ في أحداقهم المحمرَّة: لملموا عواطفكم المتناثرة بحزام الدين، فهؤلاء خصوم الشريعة من المهد إلى اللحد كيف يُندبون؟! هي الأعينُ نفسُها جمدتْ عن السيلان إثرَ وفاةِ العُلَمَاءِ الربانيين .. ؟ ثمَّ يسألون بكل براءة: من يقف في وجه الغلو؟ يقفُ في وجهِ الغلوِّ القادرون على تمييزه، وهنا -ربما- مَوضِع الإشكال، فليس من القادرين على تمييزه من يفاخرون بالأخذ بسند عالٍ عن رموز القراءة الجديدة للنص، أحدهم أراد الوقوف في وجهِ الغلو، فاستدرك على أحد العلماء ثم انتهى إلى القول أن شتم النبي صلى الله عليه وسلم مما تتسع له الحرية في حياته واستدل بآيات منها (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذُن) .. ! من المؤكد أن هذا بمعزل عن معرفة الغلو من عدمه ..

هل مجردُ كثرةِ الحديثِ عن الغلوِّ مفخرةٌ بحدِّ ذاته، إذن فاز بهذه المنقبة لفيفٌ من الصحفيين الليبراليين الذين وضعوا الكلمات التالية: [الغلو، التطرف، آيدلوجيا] فَوَاصِلَ بين الجَمَلِ، وهم أكثر الناس شتما وتقريعا لما يرونه غلوا، لأنهم يكتسبون شرعية بقائهم من وجوده على الساحة، يؤمل بعض هؤلاء أن تصير كتاباتهم التبريرية أقراصا منومة وحقن بنج تضخ في الشرايين حتى تبتر الأعضاء في المشرحة التنويرية دون مقاومة؛ فقط سنُبَدِّلُ نظامَ حكمك، ونتيح المجال لأهل الابتداع وأقطاب الانحراف أن يسيحوا في أرضك، ونعيد ترتيب أولويات الإصلاح لا كما رسمها القرآن بل وفق إيقاع العصر ومتطلباته، لن نفعل غير هذا، فلم الغضب والممانعة؟ نحن وإياك خطان متوازيان؛ أنت تلاحق المنكرات اليومية: البِدَع، والاختلاط، والغناء، والجزئيات الصغيرة .. ، ونحن نوطن كل هذه الأشياء بقرار حكومي .. فأي داع للغضب؟! خصومة مفتعلة: عبثا يحاول التنويريون أن يُظهِروا عدم قدرة الخطاب الشرعي على معالجة مشكلات العصر الجديدة، ودأبوا على وصم رجالات الخطاب القائم بالتعلق في ركب السلطة والولاء التام للحاكم وهذه هي أس المعادلة وحرف المسألة، فلتكون متسقا مع ذاتك، صاحب أطروحات مُقْنعة لغيرك؛ تحدث بإسهاب عن نقائص الآخرين، لا بقصد معالجتها بل لإسقاطها، وإلا فما الداعي لظهور خطاب جديد، وأوضِّحُ الصورةَ في مثال واقعي: النُّشَطاء السياسيون الذين دأبوا على نقد السلطة لم يمسَّهم النقدُ الجذري إلا بعد ولوجِهِم مغاراتٍ مظلمةٍ من إسقاطِ الحديثِ المتواترِ إذا كان متضمنا طاعةَ السلطان، والسخريةِ بفقه السلف، ونبز المعاصرين من علماء الشريعة بأحطِّ الأوصاف، ولو أنهم وقفوا على حدود نقد الظلم، والمطالبة بالحقوق، وتساوي الفرص، لاعتبرناهم مكمِّلين للنقص الطبيعي في أي خطاب، أعلم جيدا أن الوقوف من أجل الإصلاح السياسي قيمة شرعية معتبرة، لكني موقنٌ أيضا أنَّ هذه الوظيفةَ محفوفةٌ بالمخاطرِ فلا يصمد لها إلا القليلُ، لذا كثيرون يطيب لهم أن يرفعوا الشعار دون تحريك حجر في طاولة الإصلاح، ليغنموا من المناضلين بطولتهم، ومن القاعدين سلامتهم. نِتاج التَّنوير: استطاع أمشاجٌ من هذه الفئة أن يتواصلوا مع بعض الشباب الصَّاعد، لما يتوافر عليه الشاب من ولعٍ بالجديد، ورغبةٍ في ركوب الموجات، فضلا عن شحن روحه المتوثبة بمعاني النضال والمقاومة؛ لم تكن التنظيرات الجميلة التي أُتْحِفْنا بها حول حِفظِ عقولِ الشباب من الانحراف الفكري والسلوكي مقاربةً لهذا النتاج البشري، ولا أدري هل يعلم هؤلاء أدعياء محاربةِ التشدُّدِ والغلو أيَّ جريرةٍ سيحملون وهم يوهِّنون في نفوس الجيل الجديد المعاني الشرعية المعتبرة، ويشحنونهم ضد العلماء الذين قضوا أعمارهم في دراسة الشريعة. من المسؤولُ عن لِدَاتي الذين أعرفهم لم يقوَوا على إكمال (الملخص الفقهي) يتحدثون بشيءٍ من الفخامةِ عن التيسير الفقهي، وحاجةِ العصر، ومقاصدِ الشريعة، ثم يهمسون في تعالٍ: نحتاجُ إلى إعادة النظر في فقهِ السلف .. !، من الذي قال لهذا الفتى الغَض: كم نحن بحاجة إلى تنويري مثلك يخرجنا من غياهبِ الظلام ويخلِّصُنا من عصورِ الانحطاطِ وسلطةِ الرجعيين، فهناك أيها الأسد المغوار تغمرنا نشوةُ التحرير ونعلن انتصارنا على جحافل الليل القاتم وسننقلب في غمضة عين إلى مناضلين أحرار .. ! أيَّ نشوةٍ تَهُزُّه حيال هذا الطرح .. ؟

لمَّا أَجَلْتُ نظرةً عجلى في (الفيس بوك) خَطَر بِبالي أنه لا داعيَ لثني الرَّكَبِ عند العُلَماء، وتضييعِ العُمُرِ بِحِفْظِ النُّصوصِ وَفَهْمِهَا، ومِنْ ثَمَّ جَرْدُ المُطَوَّلات، المسألةُ أسهلُ بكثير: فقط افتحْ حسابا هناك .. ، بعد ذلك تَمَتَّعْ بِقَدرٍ من الصفاقة، وفيضٍ من الوقاحَةِ، واجعلْ لحومَ الأكابرِ مضغةً في فَمِك، ولا تنسَ بأن تُرَدِّدَ أنَّ شطرا طويلا من عُمُرِكَ -الذي لم يتجاوزْ الثلاثين بعدُ-: خُدِعْتَ بالسَّلَفية، وأنَّ الدعوةَ الوهابيةَ سلبياتُها أكبرُ من إيجابياتِها، وفي خِضَمِّ ذلك الانتِشاء بالتنظير؛ اكتبْ مَقَالا بِعُنوان: (رحلتي من السَّلَفيةِ الضَّيقةِ إلى الإسلامِ الأرحب)، حاولْ أن تورد فيه اسمي مارتن لوثر وكالفِنْ، وطعِّمِ المقالَ بنقولٍ عن الأئمة: ابن حزم وابن تيمية … بعد هذا ستلقى من يُبَجِّلُك ويراك مظلوما في عصرك، وأن لديك من الأفكارِ ما يَسْتَحِقُّ الإشادَةَ والقِرَاءَةَ، سَتَلقى مَن يَظُنَّك أبو حامد الغزالي الذي غَرِقَ في بحر متلاطمٍ من الفَلسَفَة، لن يَعْلَموا أنَّ قُصَارى قِراءاتِك لم تتجاوزْ رواياتِ علاء الأسواني، وإحدى روايات دان براون، ثم وَجَدتَّ الطريق قصيرا نحو التَّصَدُّرِ والتَّنظيرِ .. ما معنى أن تُطلق العباراتُ المفتوحةُ مصحوبةً بتأوهات، من نوع: الحريةِ، الفكرة الجديدة، امتداح القلق الفكري والحيرة، …؟ .. وإذا ما استُوقِفَ أحدُهم فَزِعَ من التطرف الذي يغرق فيه المجتمع، تساءلت كثيراً، كيف استطاع أن يكون دقيقا في تعبيره، متقعرا في استخراج نوايا المحتسبين، ثم إذا جاء الحديث عن المشاريع النهضوية المترجمة رأيت عباراتٍ مجملة، وحديثا فارغا حول النظر للكأس الفارغ والملآن، ونسبية الحقيقة .. ، كان أضرابُ هذا الفتى قبلَ سنين عندما يقع في ذنبٍ يستشعرُ التقصير ويستغفر الله الكريم، الآن جاء من يقول له: إن جميع ما تشتهي أن تفعله لا يعدو أن يكون قولا شرعيا معتبرا، طبعا ما لم يصل لحدِّ الإلحاد…!، كان يُقالُ له: الاستقامةُ هي التمسكُ بالهدي المحمدي ظاهرا وباطنا فاستقم كما أمرتَ، فجاء من يقول له: فاستقم كما أردتَ، ومالم تردْه فأنت في النهاية موافق لبعضِ الأقوال الفقهية، لا أدري من أين جاءت قاعدة [خذ بالأيسر -مطلقا! - ما دمنا في عصر العولمة]، ولا أعلمُ أن من وسائل الدعوة الصحيحة تقليمَ بعضِ الأوامرِ الشرعيةِ التي تتعارضُ مع رغبةِ المدعوين أثناء تكالب الفتن. أخيرا بقي أن أقول: "حين يتحدث من لا تود عن فوائد التنفس لا تمتْ مختنقا" فلسنا في مقام تنزيه مجمل الخطاب عن الزلل أو التقصير، ومن الخطأِ المخالفِ للشرعِ والعقلِ أن يَسْتَخِفَّنا الذين لا يوقنون عن تَتِمَّة مَكامِنِ النَّقْص، فمن الذكاءِ الفرحُ بأيِّ ابتداراتٍ أمينة تسعى لسدِّ هذه الثغرة أو تلك، وتستبطن تمديد الخطاب الشرعي لا تحديده، وتعظيم النص لا تقزيمه، إننا على اعتراف تامٍ بوجود أخطاء تستلزم التصويب والتقويم، لكن رَاعَنا من أراد إزالة الذبابة الصغيرةَ بالفأس الحاد، فَنَزَعَ الفَسَائِلَ واقتلع الجذور، فحاجتنا الماسَّة للنقد لا تلغي عقولنا ومداركَنا الشرعية لقبولِ أيِّ نقد…، ومن المهمِّ لمسألةِ معالجة الأخطاء هذه أن تفردَ لها الأحاديثُ الخاصة، وتُعْقَدُ لها وُرَشُ العمل، لكني أردت هنا الإشارة الخاطفة لئلا يُظَنَّ أن الدافعَ وراء المقال العزوفُ عن المعالجة، وادعاءُ الكمال.

قراءة بين سطور كرة الثلج التنويرية

قراءة بين سطور كرة الثلج التنويرية عبد الرحيم التميمي 11ذي القعدة1431هـ يحتاج المتابع للحراك الفكري المحلي في السعودية إلى نفس طويل ومتابعة دقيقة للتحولات الفكرية للعديد من الأشخاص والتيارات، ليحصل على رؤية أقرب للصواب في التشخيص, فلو قال قائل إن غالبية التيارات الفاعلة في الوسط السعودي لا تكشف عن أجندتها بشكل صريح لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو مذهبية, لما أبعد النجعة، إلا أن طبيعة الأحداث وتجددها وتنوعها يسهم ولاشك في إزالة تلك الغلالة التي كانت تلقي بظلالها على مصداقية الخطاب الإعلامي لذلك التيار أو تلك الجهة. "التيار التنويري" الذي برز إعلامياً بعد 11 سبتمبر وفي وسط حلقة محكمة من السباع الضارية حول المائدة السلفية, ظهر له وللوهلة الأولى أن بإمكانه استثمار تلك الأجواء المشحونة في "نقد الفكر السلفي وتفكيك بنيته التقليدية"، وأن الأولوية الإصلاحية التنويرية تقتضي وضع الجسد السلفي على المشرحة قبل الاستبداد, وصرح بشكل واضح لا مداورة فيه أنه امتداد لمدرسة "الإسلام المستنير" ورموزها الفكرية، كمحمد عمارة ومحمد سليم العوا وفهمي هويدي, مع العلم بأن هؤلاء المفكرين لا يزعمون ابتداء انتسابهم للسلفية, وليس ثمة عالم سلفي معاصر يعتبرهم سلفيين كذلك. طوال تسع سنوات من الضجيج الإعلامي عبر الفضائيات وشبكة المعلومات لم يفلح التيار في تقديم "مؤلفات فكرية رصينة" تسوق لأفكاره بوضوح, ولم ينجح كذلك في استيلاد الرمز الفكري أو الشرعي أو الدعوي "صاحب الكايرزما"، الذي بإمكانه أن يستقطب الأتباع. ويمكن أن نقارن هنا بين شخصية سلفية برزت في الساحة حديثاً، كإبراهيم السكران ومدى ثقلها في الساحة الفكرية حتى لدى المناوئين لفكره، وبين عجز التيار التنويري عن إفراز أنموذج مقارب أو مواز له وانجذاب الكثيرين إلى أطروحاته وإن اختلفوا معها, وأنا هنا أتحدث من باب التحليل للواقع ولا أبحث في أسباب بروز هذا وخفوت ذاك. غياب الرمز التنويري "صاحب الكاريزما"، أفرز محاولة الالتصاق ببعض الرموز العلمية والفكرية التي لا ترتبط معه إلا في خلافها مع التيار السلفي السائد في المجال السياسي أو الفقهي, ومحاولة تشكيل مجموعة غير متجانسة كتيار إصلاحي ناهض وهذا ضرب من التسويق الثقافي الساذج, فهل ثمة مراقب موضوعي يمكن أن يجعل الشيخ "حاتم العوني"، عضو مجلس الشورى السعودي، مع الدكتور حاكم المطيري، صاحب كتابي "الحرية أو الطوفان" و"تجريد الطغيان" ... ضمن تيار إصلاحي واحد!! الحقيقة أنه ليس ثمة إطار مشترك يستحق الذكر هنا سوى خلاف هاتين الشخصيتين العلميتين مع التيار السلفي السائد في مجموعة من المسائل والقضايا التي لا يربطها رابط. ثمة عامل آخر أسهم في بروز النبرة الجديدة للتنويريين، الادعاء بأنهم جزء من التيار السلفي، إذ يعتبرون أنفسهم أبناء المدرسة السلفية، وفي تقديري أن هذا ضرب من "التقية الفكرية" التي يمارسها بعض هؤلاء بقصد تجنيد أكبر عدد من الأتباع بين الشباب السلفي أو قطع "تذكرة قبول" في الوسط السلفي، سيما وهم يضربون على وتر بعض الأخطاء الموجودة فعلا، ولكنهم يوظفونها للتسويق لرؤيتهم الخاصة في الإصلاح, وليس في كلامي هنا طعناً في النيات، وإنما هو ربط منطقي لعاملين: الأول: أن التنويريين أعلنوا أجندتهم واضحة جلية قبل سنوات، وأنهم امتداد لمدرسة فكرية مصرية عقلانية لها رموزها وتراثها, ولم يعلنوا قط تراجعهم أو تحفظهم على تلك الأجندة. الثاني: أن رؤيتهم لمفاهيم "الحرية" و"الديمقراطية" و"النهضة"، تتعارض مع أصول المنهج السلفي وقواعده. المتأمل لذلك الضجيج التنويري على الشبكة العنكبوتية حول الحرية والنهضة ومناوءة الاستبداد وطبيعة الأفراد المتأثرين به، يجد غلبة الحماس وحداثة التجربة وضعف التأصيل وكثرة الحديث وقلة الفاعلية في الميدان, ومعضلة الاستبداد العربي تقاصرت دون حلها همم رجال كبار ونخب عريقة وتيارات عريضة، فضلاً عن تلك "الارستقراطية الفكرية" التي يرفل فيها المشروع التنويري, فأصغر أفران الاستبداد كافية لإذابة كرة الثلج التنويرية خلال ثواني معدودة, وليس الحديث هنا عن الأشخاص، فهذا "سقوط أخلاقي" لا يرتضيه المرء لنفسه, وإنما الحديث عن أصل الفكرة والمشروع. الحقيقة أني أنظر بإجلال واحترام وتقدير للنخب السلفية التي تحرص على مد جسور التواصل مع الإخوة التنويريين، ومحاولة احتواء خطابهم الثائر, ولكن هذا لا يمنع أن يقوم بعض التلاميذ من تجلية ما يظنه صواباً تجاه خط فكري، يسهم ولو بحسن نية في إحداث ثقوب في السفينة السلفية, يبقى أن أختم بالقول إن ما كتبته موجه بالدرجة لعموم الشباب السلفي، وهم الدائرة الواسعة من المجتمع المحلي, فكاتب المقال لم يرد بمقاله الرد التفصيلي على هذا الشخص أو ذاك, وإنما تقديم قراءة شخصية لما يسمى بتيار "التنوير الإسلامي".

ازدواجية ليبرالية: فضائح ملا وقس وحاخام .. وزلة شيخ

ازدواجية ليبرالية: فضائح ملا وقس وحاخام .. وزلة شيخ أمير سعيد 11ذي القعدة1431هـ لقد ضرب لنا الليبراليون العرب أوضح الأمثلة في "الستر" على فضائح الآخرين ودللوا بجلاء عن إيمانهم بوجوب هذه "الفضيلة العظيمة" فيما يتعلق بالطوائف وأصحاب الديانات الأخرى إلى حد لم يعد يوجد في أمتنا من يباريهم في ذلك؛ فقصب السبق لهم وهم أصحاب المثال العصري الرائد في ذلك. وإذا كان المخطئ من غير سوادنا الأعظم، أو كان على ملة تخالفنا فله الأعذار مجتمعة ولا بأس من صرف الشواهد على الظنيات ووهب الأخطاء لفيض الإحسان! لك "الستر" إن لم تكن سنياً؛ فإن كنتَ "فسنجهل فوق جهل الجاهلينا"، ولو كان خطؤك زلة فتوى أو خطأ تعبير أو عبارة محتملة أو هفوة أو ذنب عابر .. هذا ما يبرهن عليه تعاطي صحافتنا العربية ومواقعنا الإلكترونية وإعلامنا المرئي مع كل صغيرة تصدر من عالم مسلم وأخرى كبيرة تصدر من حاخام أو قس أو حتى "آية" من آيات الفرس التي كان لنا فيها عبرة. الداعية الشيعي الفار إلى حضن بريطانيا الدافئ لم يتناوله الإعلام الخائن عندنا على أنه مهرطق مسيء للدين الإسلامي ومقدساته إلا لماماً، ولم تلاحقه صحافتنا العربية كما لاحقت صاحب الرسوم المسيئة مع تشابههما في الجرم والخطيئة إلا قليلاً، وتجاهلت معظم القنوات المتلفزة تتبع أسباب هذه الإساءة وجذورها، والمعلن منها والمستور. والليبراليون الذين يهرعون إلى أبواقهم عندما يزل عالم أو شيخ في فتوى أو في غالب الأحيان عندما يقلبون كلامه فيفهمون منه ما تريد قلوبهم المريضة، ويتلاطمون على رفض حكم الدين وتسلط "رجال الدين"، عميت أعينهم عن قراءة فتوى أصدرها خامنئي في يونيو ربط فيها منصب ولاية الفقيه في إيران بحكم الرسول وبصلاحيات أئمة الشيعة، و"ضرورة التسليم لأوامره ونواهيه"، وتأكيدات أحمد جنتي سكرتير مجلس صيانة الدستور الإيراني أن "الله حول إليه مهمة الحفاظ على الثورة الإيرانية وديمومتها"، والذي ادعى في الشهر ذاته أنه يقابل "الإمام الغائب" في خلوة! لكنهم اليوم يطبلون له بسبب فتوى "زوجة النبي صلى الله عليه وسلم" ـ على حد وصفه ـ ويزمرون بلا فهم أو تفكير أو مسحة عقل. والذين صدعوا رؤوسنا بمحاربة ما يشتم منه على بعد آلاف الكيلومترات رائحة التكفير من علمائنا السنة، زكمت أنوفهم فلم تشم رائحة ما قاله محمد تقي مصباح يزدي الأب الروحي للرئيس الإيراني نجاد، وهو بدرجة " آية الله" الحوزوية صراحة في يونيو الماضي عن أن "من ينكر ولاية الفقيه متعمدا فهو مرتد."، بعد أن ارتمى مقبلاً حذاء مرشد الثورة علي خامنئي ـ بحسب مواقع إيرانية ـ ولم ينبسوا ببنت شفة عن هذا المعتقد الإقصائي التكفيري وأتباعه في عالمنا العربي والإسلامي، وهو لم "يتورط" في تكفير آحاد من ملاك فضائيات إباحية، بل شطب بممحاته التكفيرية أكثر من مليار ونصف المليار مسلم من ديانة الإسلام لا يؤمنون بخرافة "ولاية الفقيه" بل كل المسلمين على مر العصور، لا بل حتى السواد الأعظم من الشيعة قبل قرون ثلاثة لم يكن فيها الشيعة يعرفون إلا ولاية الإمام وليس ولاية الفقيه ..

وعلى ذكر الإباحية وفضائياتها، هل حفلت وسائل إعلامنا التي أقامت مناحة على روح ميكي ماوس وفاضت بكل قبيح على علماء السنة بأي حديث أو مقال أو تلميح أو تصريح عن فضيحة أكبر وكلاء السيستاني والمعتمد الرئيسي للمرجعية ومسؤول هيئة الحج والعمرة في محافظة ميسان العراقية مناف الناجي الذي تحول من ممثل المرجعية إلى ممثل إباحي، وأثارت مقاطعه المرئية موجات عنيفة بين الشيعة أنفسهم في محافظته ـ لم تغطها تلك الوسائل وإنما اكتفت بتغطية الوكيل نفسه!! ـ تسبب بعضها في مقتل نساء كن ضحاياه وهدفاً لانتقام أهلهن بعد ذلك، قتلاً دفاعاً عن الشرف. وهؤلاء الذين طاروا بمعلومات غير دقيقة عن "أجور" الدعاة التي نشرتها فوربس العربية المشبوهة والتي أغلقت مجلتها فيما بعد، وأظهر ليبراليونا لوعتهم على أموال المسلمين الضائعة الذاهبة إلى "جيوب الدعاة" (وهي أجور في أبسط الأحوال وليست اختلاسات أو سرقات)، مروا على خبر اتهام إمام المركز "الإسلامي" في مدينة ديربورن بولاية ميتشيغان حسن القزويني في يوليو الماضي بالاستيلاء على مبلغ من المال يقدر بـ350 ألف دولار جُمع عن طريق تبرعات أبناء الجالية العربية وتم تحويلها إلى مؤسسة والد القزويني في ولاية كاليفورنيا، وتجاهلوا عن عمد أخبار التدفقات المالية الذاهبة إلى بريطانيا لشراء قصور وفلل ومساكن فخمة لـ"آيات" وزوجاتهم وأبناء، لاسيما أولئك الذي يخادعون بسطاء طائفتهم بزهدهم المصطنع في العراق وإيران. والذين قعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبل الخير، يجهدون لتصيد أي هفوة أو ذنب عابر لشيخ سني أو عالم أو داعية ولا يجدون غالباً فيعمدون إلى التأليف والاختلاق، أخطأت قعداتهم رؤية بابا الفاتيكان محاصراً في لندن خلال زيارته لها بفضائح القساوسة الجنسية التي أضحت تلاحقه أينما ذهب كقرين لا يفارقه في كل مكان، كونها باتت ملفاً زاخراً لا تنقضي مفاجآته وأحداثه في بلدان أوروبا والأمريكتين، وسلوك لصيق بقطاع عريض من الكهنة لا مجرد حادثة ولا حتى ظاهرة هنا أو هناك. وهم مرت عليهم منذ عام كامل، أنباء أكبر فضيحة فساد وغسيل أموال قذرة في الولايات المتحدة "أبطالها" خمسة حاخامات يهود من "إسرائيل" وسوريا إضافة إلى عشرات المعاونين، في نيويورك ونيوجيرسي، لتبييض أموال تجارة أعضاء بشرية، واختلاسات وسرقات بعشرات الملايين من الدولارات، ولم نسمع لهم ركزاً طوال تلك الفترة كلها، كما لم نسمع لهم في الشهر نفسه عن ابتزاز الحاخام يسرائيل رند الذي أرسل إحدى الداعرات لأمين الكنيس الكبير بالقدس الحاخام نفتالي هيرشطيك من أجل تسجيل موقف عليه في مسعى للإطاحة به من موقعه بالكنيس والحلول محله، وأرسل من ثم صوره المشينة للكنيس الذي اضطر إلى عزله، وإذا كانت تلك الفضائح سقطت في صحافتنا وإعلامنا بالتقادم؛ فكيف فاتهم أيضاً فضيحة "الداعية" اليهودي الذي ذكرت معاريف قصته هذا الأسبوع واصفة إياه بـ"الأبشع في تاريخ جرائم الاغتصاب"، وأوضحت أن التحقيق يجري معه بعد أن اغتصب جميع أولاده (بنين وبنات) الأربعة العشر على مدى عدة سنوات، ومزق جلد أحد أولاده ومنع أطفاله من الأكل وكسر أسنان بعضهم!! والأحدث هو ما نقلته يديعوت أحرونوت أوائل أكتوبر عن مقال أكاديمي كتبه الحاخام اري شفات الخبير فيما يقال إنه "الشريعة اليهودية" ينص فيه على أن "الشريعة اليهودية تسمح للنساء اليهوديات بممارسة الجنس مع العدو من أجل الحصول على معلومات استخباراتية مهمة لأمن إسرائيل"، ويقدم نصائحه لأتباعه بالقول "من الأفضل إعطاء هذه المهمات لنساء فاسقات".، وكلها معطيات يمررها القوم عندنا دون ضجيج انتظاراً لسمعة شيخ ضعيف ينهشونها وموقف يتخذه يسلقونه عليه بألسنة حداد. هذا؛ فإن صدرت فتوى شاذة هنا أو لم ترُق لبعضهم، أو اتخذ شيخ أو عالم سنة موقف لا يرضيهم، أقاموا اللطميات وعقدوا المؤتمرات وحذروا وأهابوا وطالبوا .. ثم حرضوا على تكميم الأفواه الصادقة إلا أفواههم، وأبدوا ـ في لوعة مصطنعة بغيضة ـ حدبهم على الدين وشكله وسماحته .. فسحقاً لناصية ليبرالية كاذبة خاطئة، لا ترى عيناها إلا القذة في عيون خصومها وتتعامى عن الخشبة في عيون الحلفاء!! المصدر: موقع المسلم

تلطف ولا تدهن

تلطف ولا تدهن د. ناصر العمر 11ذي القعدة1431هـ الحمد لله وكفى وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه الكرام النجبا، وبعد فبعض الدعاة وطلاب العلم وغيرهم قد يخرجهم التلطف من حيز المدارة إلى حيز المداهنة، فبدل أن يكون ناصحا أمينا، يسعى لمدارة الناس ليصلحهم، يسلك مسلك المداهنة ليكسب ودهم على حساب دين الله، وفرق بين الملاطفة والمدارة والمداهنة. قال ابن القيم رحمه الله: "المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المدارى يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق، وقد ضُرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطها برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ويقطع مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها، ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت. والمداهن قال لصاحبها لا بأس عليك منها وهذه لا شيء فاسترها عن العيوب بخرقة، ثم اله عنها فلا تزال مدتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها" (¬1). وقد أصاب رحمه الله كبد الحقيقة وأنت واجد عند بعض المداهنين العزوف عن دعوة الحق مداهنة وذلك باسم التلطف، فكم من المهمات يُتغافل عنها رغبة في عدم تعكير الأجواء، وقد دأب أرباب الضلال إلى السعي للظفر بمداهنة أهل الحق ولم ينقطع طمعهم في ذلك حتى من النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]، والله سبحانه يوجه خطابه الحاسم لنبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. فعلى الداعية ألا يتنازل عن الدين ثم يخادع نفسه بأنه يسلك مسلك التلطف والحكمة، بل تلك هي المداهنة المذمومة والركون المذموم للباطل، وإن كان لديه مشروع إصلاح واضح لا مجرد تعايش في ود ووئام مع الباطل وأهله، إن على الداعية أن يحمل الدين وينشره في قالب لطيف حسن ولا يصح الخلط بين اللطف في الدعوة وبين التنازل عن ثوابت الدين أو التنازل عن دعوة الناس تلطيفاً لأجواء الحياة. ولابد أن نعي في مثل هذا المقام أنه كما يوجد من يداهن السلطان فهناك من يداهن الجمهور ويسعى لإرضائهم ولا يتكلم إلا بما يطلبه المستمعون حفاظا على التفافهم حوله، وسعيا في زيادة حبهم له لا طمعاً في نقلهم عمّا هم فيه، وهذا شأنه كشأن الأول فالمداهنة محرمة أيا كان المداهَن، وليس التلطف حينها من التلطف الممدوح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس" (¬2). ¬

(¬1) الروح، 1/ 231. (¬2) الترمذي، 4/ 609، (2414)، وصححه الألباني.

وهناك بعض العاملين في حقل الدعوة قد دخل عليهم الشيطان وبلغ منهم مبلغاً أعظم وذلك من باب التلطف بالناس وتحسين صورة الإسلام في نظر غير المسلمين، فبدؤوا يؤولون أخباره ويبدلون أحكامه تلطفا بالآخرين، وتحبيبا لهم في الدين -زعموا- وهذا الذي ضل به السابقون. يقول ابن القيم رحمه الله: "ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوهم في النصرانية فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى عبادة الصور التي لا ظل لها" (¬1). وأما الذين يداهنون من أجل المكاسب الدنيوية فما أكثرهم في سائر الأزمان فكيف الشأن الآن. يذكر بعض أهل الأخبار أنه لما نصب معاوية رضي الله تعالى عنه ابنه يزيدا لبعض الولايات أقعده في قبة حمراء وجعل الناس يسلمون على معاوية رضي الله عنه ثم يسلمون على يزيد حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال يا أمير المؤمنين: أعلم إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها! والأحنف بن قيس رضي الله عنه في المجلس ساكت. فقال معاوية رضي الله عنه: مالك لا تقول يا أبا بحر؟ فقال: أخاف الله تعالى إن كذبت، وأخافكم إن صدقت! فقال: جزاك الله خيرا عما تقول، ثم أمر له بعطاء، فلما خرج الأحنف لقيه ذلك الرجل بالباب فقال له: يا أبا بحر إني لأعلم أن هذا فيه وفيه، ولكنهم استوثقوا من الأموال بالأبواب والأقفال فلسنا نطمع في إخراجها إلا بما سمعت. فقال له الأحنف: يا هذا أمسك فإن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها. والمقصود لاطف الناس ودارهم ولكن لإيصالهم إلى ما يحبه الله ويرضاه، وإلاّ فلا تدهن فتغش ولم تكره! وارض الله ولو بسخط الناس يكتب لك رضاه .. واحذر سخطه فيحل عليك غضبه ومن يحلل عليه غضبه فقد هوى، أعاذني الله وإياك من ذلك ومن اتباع الهوى. ¬

(¬1) أغاثة اللهفان، 2/ 270.

الأخطاء التاريخية والمنهجية في مؤلفات محمد أركون ومحمد عابد الجابري

الأخطاء التاريخية والمنهجية في مؤلفات محمد أركون ومحمد عابد الجابري -دراسة نقدية تحليلية هادفة- الدكتور خالد كبير علال -حاصل على دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر- مقدمة الدرر السنية: هذه دراسة جادة عن الأخطاء التاريخية والمنهجية في مؤلفات محمد أركون ومحمد عابد الجابري أعدها الدكتور خالد كبير علال، وهو حاصل على دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر، ننشرها بعد اللغط والغبش والضبابية التي كتب بها بعض الليبراليين والإعلاميين عن هذين الرجلين بعد رحيلهما ليظهرا على حقيقتهما وليعلم الجميع أن الموقف الصحيح منهما ليس فقط من المفكرين السعوديين المتشددين -زعموا! - بل هو موقف كل مفكر مسلم عرف المنهج الصحيح ولم يتأثر بالاعتزال العقلاني الجديد. ونحن إذ ننشر هذه الدراسة المطوَّلة ونشيد بها لا يعني بالضرورة أننا نتفق مع كل ما فيها، مع أننا ننصح كل مهتم بفكر الرجلين -الجابري وأركون- وما يُثار حولهما هذه الأيام أن يقرأ هذه الدراسة. والله ولي التوفيق

تقرير مصير السودان ... لا مصير الجنوب

تقرير مصير السودان ... لا مصير الجنوب طلعت رميح 8ذي القعدة1431هـ يُظهِر تفحُّص العنوان الذي اختاره الساسة والإعلاميون لمتابعة تطورات وأحداث السودان، أن زاوية النظر في كل المتابعات قد تحددت سلفاً، وأن العنوان قد جرى تحديده بعناية لتعميق حالة الخداع لدى المتلقين وحرف الأنظار عن المخاطر التي تحيط بهذا البلد. إن العنوان الذي جرى اختياره والإلحاح عليه في كل تصريحات الساسة والتغطيات الإعلامية هو (تقرير مصير الجنوب)، أو (أن الاستفتاء المزمع انعقاده في 9 يناير 2011م، سيقرر مصير الجنوب بين الوحدة والانفصال) ... إلخ، بينما الاستفتاء سيجري لتقرير مصير السودان كله بأيدي بعض المواطنين السودانيين في الجنوب، دون غيرهم من مواطني الجنوب ومن باقي مواطني السودان؛ إذ السودان سينقسم دولة وجغرافيا ومجتمعاً، ولأن هذا الفصل للجنوب سيكون بمثابة المفجر البادىء لحالة انفجار شاملة للمجتمع والدولة السودانية، وسيكون بداية لأعمال تفجير مشابهة في إفريقيا وفي الدول الإسلامية الأخرى. إن العنوان الذي جرى اختياره للحدث وكافة مترتباته، هو: تقرير مصير الجنوب، وكأن الجنوب محتل ومستعمَر من بلد آخر، تنطبق عليه قواعد حق تقرير المصير التي استقرت خلال المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية بشأن الدول المستعمَرة، بينما الجنوب ليس إلا جزءاً من «دولة» مرَّ على استقلالها موحَّدة ومنضوية تحت راية الأمم المتحدة ما يزيد على نصف قرن. وهو عنوان يُظهِر تقرير المصير هذا وكأنه يجري في فراغ، وليس فعلاً انفصالياً وتقسيماً لدولة ومجتمع متكامل، لن تتأثر جراءه أوضاع الجنوب فحَسب؛ بل ستتغير من خلاله أحوال السودان في الأعم الأغلب؛ ذلك أن انفصال الجنوب ليس فعلاً ينتج عنه تأسيس دولة جديدة، بل هو طلقة البداية، لإطلاق عملية تفكيك للسودان كله، وقد ظهرت أُولَى المؤشرات بالفعل من خلال المطالبة بجعله حقاً ينطبق على بقية أقاليم السودان؛ إذ أعلنت حركة العدل والمساواة الانفصالية في دارفور، عن بدء سعيها لنيل حق تقرير المصير لكلٍّ من إقليمي (دارفور وكردفان)، وهو ما يعني نهاية السودان الحالي فعلياً. وفي اتجاه آخر، لا تبدو كلمات الرئيس التشادي (إدريس دبي) بأن انفصال جنوب السودان سيكون بمثابة كارثة لكل إفريقيا، مجرد كلمات مجاملة للرافضين للانفصال، بل هي وصفٌ لمخاطر هذا التقسيم للسودان على قارة تعيش حالة واسعة من التفكك في مجتمعاتها وتعاني دولها من ضعف المشروعية وضعف القدرات على الحفاظ على تماسك المجتمعات واستقرارها. وعلى الجانب العربي والإسلامي يبدو واضحاً أن فعل تقسيم السودان سيكون السابقة التي ينتظرها كثير من الانفصاليين في الدول العربية والإسلامية؛ إذ قطع مخطط تقسيم وتفكيك كثير من الدول والمجتمعات شوطاً كبيراً بالفعل. وسؤال اللحظة الآن هو: هل الحكم والمجتمع السوداني، سيُقبِل على إتمام المخطط المرسوم للسودان بالتقسيم والتبدد (والحال نفسه بالنسبة للدول الإسلامية الأخرى)؟ أم أن اتضاح المخاطر على نحو لا يقبل الجدل، صار دافعاً للأخذ بخطط أخرى لمواجهة هذا الخطر؟ وكيف سيتحرك السودان في مواجهة تركيز الضغوط المكثفة عليه في الفترة الراهنة لإنجاز هدف تفتيته؟ وما هي الخيارات المتاحة للخروج من المأزق؟

أولاً: إن المرحلة التي يمر بها السودان مرحلة خيار مصيري. والخيار المصيري هو ذاك الوضع الذي تواجه فيه دولة أو مجتمع تحدياً أو تحديات يترتب على طريقة التعامل معها حدوث تغييرات في هوية المجتمع والدولة والحدود الجغرافية ومناطق السيادة الأساسية ... إلخ. وفي مثل تلك الحال تتعلق النتائج بطبيعة الاستجابة لهذا التحدي؛ فهناك دول ومجتمعات قررت الرفض والمواجهة وانتصرت على التحدي، وهناك دول ومجتمعات أخرى قابلته بالضعف والتردد، فتحولت من حال موحدة إلى حالٍ أخرى. فمثلاً لقد واجهت الولايات المتحدة تحدي انقسامها بين شمالٍ وجنوبٍ في بداية تشكُّلها، ونجحت عبر الحرب الأهلية في توحيد ولاياتها والقضاء على المحاولة الانفصالية. والشعب الفلسطيني كذلك واجه تحدي تغيير الهوية والاستيلاء على أرضه وطرد السكان واختار المقاومة، وهو لا يزال على مدار قرن من الزمان يرفض الاستسلام للتحدي المفروض عليه؛ وذلك على الرغم من نجاح القوى الغربية في إجلاء بعضٍ من السكان وتغيير هوية مساحة كبيرة من فلسطين وإعلان دولة الصهاينة. وهكذا الحال في أفغانستان والعراق؛ إذ يواصل الشعبان (الأفغاني والعراقي) تحديَ الاحتلال الذي فُرِض على بلديهما عبر الغزو الأمريكي المباشر. وفي مقابل ذلك فإن ثمة مجتمعات أخرى واجهت تحديات مشابهة بالاستكانة والخنوع وعدم مواجهة الخطر فانتهت وتغيرت أوضاعها، كما هو حال حضارة الهنود الحمر، وكذلك عملية تقسيم إندونيسيا بظهور دولة (تيمور الشرقية) النصرانية داخل جغرافيتها ومجتمعها، وإثيوبيا التي تحقَّق تقسيمُها بظهور دولة إريتريا ... إلخ. والآن يدخل السودان حالة من حالات الخيارات المصيرية؛ فإذا قَبِل التحدي المفروض عليه انتهى إلى وضع آخر، وإذا واجه التحدي يكون قد حسم خياره، وعاد إلى حالة المواجهة. ففي مواجهة التحدي المصيري يكون عامل الإرادة هو العامل المحدِّد لتطورات الأحداث؛ فماذا لو رفض السودان هذا التحدي؟ ثانياً: في الوضع الراهن يبدو المجتمع والدولة السودانية في وضع حرج؛ إذ يبدو أن السودان مقيَّد بضرورة إنفاذ اتفاق نيفاشا الذي تعهد نظام الحكم بمقتضاه بإعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير، وهو يدرك أن عدم إنفاذ الاتفاق سيجلب عليه ضغوطاً أشد مما يعانيه، وقد يصل الأمر حدّاً أكثر من اشتعال الحرب الأهلية؛ إذ ثمة سيناريوهات تتحدث عن احتمال إعلان الجنوب انفصالَه من طرف واحد بالاستفتاء أو غيره، وطَلَبِ دعم عسكري من عدة دول وهو ما قد ينجم عنه تعرُّض السودان إلى هجوم عسكري أمريكي بريطاني صهيوني، بشكل غير مباشر على رأي بعض المحللين ومباشر عند بعضهم الآخر.

وفي الجانب الآخر، فإن مخاطر انفصال الجنوب وإنفاذ الاتفاقية باتت تظهر على نحو مجسَّد، وهو ما ذهب بكل الحجج والمبررات التي جرى تداولها كثيراً خلال مرحلة إقرار اتفاق نيفاشا كأساس لقبول تقسيم السودان. وكان ثمة تصور أن توقيع الاتفاق سيوقف الضغوط الغربية على السودان، لكن ما حصل أنها تكثفت؛ إذ لم تكتفِ الولايات المتحدة باستمرار حصارها السياسي والاقتصادي للسودان، ولا باستمرار إدراجه على قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل دفعت المحكمةَ الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن الدولي، لتشويه سمعة الرئيس السوداني عمر البشير ومطاردته باتهامات الإبادة والتطهير العرقي. وكان متصوراً أنَّ توقيع هذا الاتفاق سيمنح السودان (مجتمعاً ودولة) مدة خمس سنوات من الهدوء والاستقرار، لكن تحركت الشياطين الأمريكية والصهيونية والغربية وحركة الجنوب الانفصالية لتفتح معركة في إقليم دارفور بهدف إنهاك المجتمع والدولة وإدارتهما بأزمة أشد خطراً حتى يأتي موعد انفصال الجنوب، فتكون في حالة من الضعف والاستسلام. وكان متصوراً أن طمأنة الجنوبيين إلى مستقبلهم وإدماجهم في الحكم وإعطائهم نصيباً من الثروة النفطية أكبر من وزن الجنوب السكاني، قد يوقف دورهم التخريبي في الحياة السياسية، فحدث العكس وصاروا ناصرين في كل مواقفهم وتحركاتهم للغرب وضغوطه ومؤامراته على السودان من جهة، وداعمين لكل الحركات الانفصالية والتفتيتية في عموم السودان. وكان ثمة تقدير بأن مدة السنوات الخمس كافية لتغيير التوجهات الانفصالية بين النخب الجنوبية فظهر العكس؛ إذ صار الشغل الشاغل لتلك النخب هو تعميق حالة الانفصال على الصعيدين (الرسمي والشعبي) وكسب أنصار جدد لها في الإقليم وعلى الصعيد الدولي. وكان ثمة رؤية أن الأمور إذا وصلت حدَّ الاستفتاء والانفصال، فإن الشمال سيكسب الراحة والبناء المستقر، في ما بقي من جغرافيةِ السودان ومجتمعِه، فتأكد الآن أن الانفصال سيأتي بدولة معادية على الحدود، تماثل الكيان الصهيوني في دوره وأهدافه؛ سواء في المذابح التي ستجري للمسلمين في الجنوب أو في الدور التفكيكي للسودان الباقي. باختصار: لقد ظهر أن الانفصال سيكون كارثة، وأن الحرب التي توقفت لخمس سنوات في الجنوب اشتعلت في دارفور، وأن القادم المخطَّط له: أن تصبح دولة الجنوب نقطة انطلاق لإشعال الحرائق في كل أنحاء السودان. ثالثاً: هل يجابه السودان هذا التحدي، ويقف الآن موقف الرافض والمقاوم؟ أم يستسلم لقَدَره فيتفكك انطلاقاً من الجنوب؟ في التقدير العام، يمكن القول بأن الرؤية العقلانية توجب الآن إعادة تقدير الموقف، والخروج سريعاً جداً من حالة التردد الراهنة. وفي ذلك يبدو الحساب والتقدير الإستراتيجي للبيئة الدولية والإقليمية والداخلية، قد تغير لمصلحة السودان الآن على خلاف الأوضاع التي أدت إلى توقيع الاتفاق. ففي أثناء توقيع الاتفاق عام 2005م لم يكن العنصر الحاسم في الضغط على الحكم في السودان للتوقيع على اتفاق جائر هو عامل القوة العسكرية للمتمردين، بل على العكس من ذلك؛ إذ كان الجيش السوداني قد شارف على إنجاز مهمة تطهير أرض الجنوب من حالة التمرد. وكان الضغط الدولي والإقليمي وحاجة الحكم للاستقرار والتنمية هي العوامل الحاسمة، حتى يمكننا القول بأن العنصر الإستراتيجي الحاسم لم يكن للتمرد نفسه وقوَّته دور فيه.

وكانت الولايات المتحدة في حالة الخيلاء بقوَّتها العسكرية، فغزت أفغانستان والعراق واحتلتهما، وصارت تهدد سوريا وليبيا والسودان بطبيعة الحال؛ حتى إن أطرافاً إقليمية نقلت للسودان وقائع محددة عن حشدٍ لقواتٍ على حدوده واستعدادها للعدوان عليه. وفي ذلك لم يكن الموقف الأوروبي ملحَقاً بالموقف الأمريكي فقط، بل أظهر استعداداً لفعل عدوان «منفرد» ضد السودان. وفي تلك المرحلة لم يكن للأطراف الدولية الأخرى عوامل قوة وتأثير في مواجهة القرارات الأمريكية. وفي الوضع الإقليمي لم يكن التأثير الأمريكي قوياً فقط في ضغطه على قرارات دول الإقليم، بل كان الوضع الإقليمي نفسه في حالة تعبئة ضد الحكم في السودان؛ إذ كانت العلاقات السودانية مع مختلف الدول في وضع كان الأسوأ فعلياً. أما الأوضاع الداخلية السودانية، فكانت في وضع الخطر، بسبب انتقالية الحكم في السودان بعد انشقاق الحركة الإسلامية الحاكمة وخروج الترابي من الحكم وتشكيله حزب المؤتمر الشعبي المعارض لحزب المؤتمر الوطني الذي مثَّل الحكم في الحركة السياسية. وكذا لأن أطراف المعادلة السياسية في مركز الحكم (أو الأحزاب الشمالية حسب وصف كثير من المحللين) كانت في بداية العودة لمباشرة حقوقها السياسية بعد مرحلة كانت قد تحالفت فيها مع حركة التمرد الانفصالية في الجنوب. وعلى الصعيد الاقتصادي والتنموي كان السودان في بداية الخروج من حالة الارتباك الاقتصادي التي كان يعيشها بفعل الحصار الدولي عليه، إلى حالة التنمية، استناداً إلى عائدات البترول. في ظل تلك المعطيات، قَبِل الحكم في السودان التوقيع على اتفاقية نيفاشا، وَفْقَ آمالٍ تبددت جميعها بفعل استمرار الضغط الأمريكي والغربي، وعمق الفكرة الانفصالية داخل النخب الجنوبية، وحالة الاضطراب في داخل مركز الدولة. رابعاً: مرت مرحلة إنفاذ اتفاقية نيفاشا بحالة صراع عميقة، كان الوصف الأدق لها: أن الغرب صار يصارع الحكم داخل السودان باستخدام الشريك الجنوبي في الحكم، مع تكثيف عوامل الضغط من الخارج. وتمثلت عوامل الضغط والإرباك من الخارج باستخدام وسائل القوة الناعمة من خلال الإبقاء على العقوبات وفتح ملف دارفور في مجلس الأمن الدولي وفتح معركة ضد الرئيس البشير، أو ضد موقع الرئاسة المهيمن في النظام السياسي السوداني؛ إذ الرئيس هو رئيس الحزب الحاكم ورئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحه، وهو رمز الوطن السوداني، فإذا جُرِّم أو أطيح به، تحققت خطوة في تفكيك هذا البلد. وفي الضغط من الداخل جرى تعظيم قوة حركات التمرد في دارفور وتضخيمها، والتدخل في لعبة الأطراف الداخلية لحشدها في مواجهة الحكم. وتحويل معركة المحكمة الجنائية الدولية إلى معركة داخلية في السودان. وكان الأمر الأشد بروزاً هو التحول بالعلاقات السياسية مع السلطات الجنوبية إلى طابع العلاقات بين الدول، والتشديد على الاستعداد للاعتراف الدولي بدولة الجنوب فور انفصالها. وكان المشهد الختامي في تلك المرحلة من الصراع هو مشهد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؛ حيث مارست خلاله الولايات المتحدة والغرب أكثف الضغوط على الحكم في السودان، وإن كان الحرص بادياً على اتمام الانتخابات لأهداف عديدة أهمها: إنجاز الخطوة الأخيرة لما قبل استفتاء الانفصال، وتثبيت تمثيل الحركة الانفصالية لأبناء الجنوب.

خامساً: لقد تغير الوضع الآن لمصلحة السودان، إذا قارناه بما كان عليه وقت توقيع اتفاقية نيفاشا؛ فالولايات المتحدة والغرب لم تعد لهم درجة الهيمنة ذاتها على القرار الدولي - على الأقل - بسبب الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الغربي، كما أن الولايات المتحدة قد تعمقت حالة تدهورِ أوضاعها السياسية والعسكرية بسبب تورطها في حربَي أفغانستان والعراق، وفي عشرات الأزمات المتفاعلة في المنطقة والعالم، ومعظمها صراعات تهدد باندلاع حروب. كما أن دولاً أخرى ظهرت بتأثيرها على ساحة القرار الدولي، وهو ما يضعف القدرة الأمريكية والغربية والصهيونية عن حالة التصرف الانفرادي السابقة. أما في الوضع الإقليمي، فقد تغيرت أوضاع الحكم في السودان ولم يعد على حالة الحصار السابقة؛ فإريتريا تغيرت مواقفها من السودان وانقلبت من عداءٍ للحكم في السودان إلى موقف الداعم، وإثيوبيا في حالة اشتباك في الصومال وفي الداخل ومع إريتريا، وكذا أوغندا باتت تشعر بتهديد بعد التفجيرات في داخلها، وتشاد صارت حليفاً للسودان بفعل تبادل طرد الحركات المتمردة من كِلا البلدين وكان كلاهما مصدر تعزيز لحركات التمرد ضد الآخر. والعلاقات المصرية مختلفة عن أوضاع ما بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك في العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا). وأما على الصعيد الداخلي في السودان فقد تغيرت الأوضاع الاقتصادية خلال السنوات الخمس وتحسنت أوضاع تسليح الجيش السوداني بعد دخول السودان مجال إنتاج الأسلحه. والأوضاع في دارفور تغيرت على الأرض فعلياً لمصلحة الحكم في السودان، بسبب قطع الدعم التشادي عن المتمردين وطردهم من الأراضي التشادية، ولإجراء انتخابات تشريعية عينت ممثلين لأهالي دارفور في مؤسسات الحكومة، وهو ما نزع الشرعية عن حركات التمرد، وبسبب توقيع بعض الاتفاقيات مع بعض الحركات أيضاً، وهو ما أدى إلى عزل الأخريات وأضعف نفوذها ودورها. والأهم من ذلك أن الوضع الشعبي صار رافضاً بشكل كبير لقضية التقسيم، وتفكيك السودان، ويشعر بالخطر الجدي على مستقبل السودان. لقد تغير كثير من المعطيات التي فرضت التوقيع على اتفاقية نيفاشا، وإن كان طرف الحركة الشعبية الانفصالية قد حصل بالمقابل على دعم تسليحي بفعل موارد النفط، كما حققت الانتخابات لها شرعية في الحكم وتمثيلَ مواطني الجنوب، إلا أن الأوضاع في الجنوب شهدت تنامياً في حالات الصراع القبلي والسياسي ضد هذه الحركة، وصلت حدَّ الأعمال العسكرية على نحو مؤثر. سادساً: إذا أقر الحكم والقوى الرئيسة التي تمثل عصب المجتمع وتشكِّل العقل الجمعي للقرار الإستراتيجي في مواجهة التحدي كما تشي بعض مؤشرات الحركة في الآونة الأخيرة، فإن الأمر يتطلب عملاً عاجلاً، لتحقيق أوسع حالة إجماع داخلي ممكنة ضد انفصال الجنوب، باعتباره خطراً داهماً على السودان كله، على أن يشمل التحرك قوى جنوبية وشمالية، تحت شعارات إنقاذ السودان ومنع الجنوب من الانزلاق إلى فتنة تدمِّره وترتكب فيها المذابح. ولذلك يبدو أنه من المهم، أن يجري إطلاق حركات شعبية خارج الأطر التقليدية، تتحرك لبلورة مواقف شعبية واضحة رافضة للانفصال، مع بقاء الحكم (إعلامياً وسياسياً) في موقع الضابط لإيقاع وحدة البلاد إعمالاً لمهامه الدستورية. كما يتطلب الأمر تحركاً مكثفاً لتعبئة المواقف الإقليمية وحشدها ضد الحركة الانفصالية، وإخراج المواقف الرسمية من حالة «الكلام المكتوم» إلى حالة الرفض السياسي والإعلامي المباشر. ولتحقيق حالة من توفير الجهد والقوة وتوجيه القدر الأعظم منها للضغط على الطرف الأخطر في المرحلة الحالية، ينبغي حسم معركة دارفور بأسرع ما يمكن عبر صياغات تضع خطر انفصال الجنوب أولوية. وكذا ينبغي وضع خطة إعلامية مكثفة، لإنهاء الفجوة المعرفية لدى الرأي العام العربي والإسلامي والدولي حول قضايا دارفور والجنوب، والتحول نحو هجوم إعلامي مضاد لتحركات الإعلام الغربي على الأقل في الساحة العربية. والقصد أن ثمة ضرورة لخطة تحرُّك عاجلٍ، ينتقل بالسودان من الموقف الدفاعي الذي ساد لمرحلة طويلة مضت إلى الموقف الهجومي؛ فلم يعد هناك وقت.

بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية في الدفاع عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها 2 ذو القعدة 1431هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية على ما تناقلته وسائل الإعلام من القذف والسب والطعن في عرض زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مكذباً للكتاب والسنة المطهرة وإحقاقاً للحق ودفعاً عن عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي هو عرض النبي صلى الله عليه وسلم. كتبت اللجنة البيان الآتي: إن من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وجوب محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم والترضي عنهم فهم الذين صحبوا خاتم الأنبياء والمرسلين وهم الذين عايشوا نزول الوحي وهم الذين مدحهم الله في كتابه وأثنى عليهم المصطفى عليه الصلاة والسلام في سنته وكفى بذلك منقبة وفضيلة: قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100) وقال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح: 18) وقال تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ? وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29). وثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري ومسلم أنه قال: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (لاتسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) متفق عليه. والأحاديث في تزكيتهم وذكر فضائلهم جماعة وأفراداً كثيرة جداً. ومن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة كذلك وجوب محبة آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفة حقهم وتنزيلهم المنزلة اللائقة بهم فهم وصية رسول الله كما ثبت بذلك الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم (أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً) وقد روى البخاري ومسلم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال (والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي) وقال رضي الله عنه كذلك كما في صحيح البخاري ارقبوا محمداً في أهل بيته. ولا شك أن أزواجه وذريته عليه الصلاة والسلام من أهل بيته ويدل لذلك قوله تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ? إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا *وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى? ? وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ? إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب 32 - 33).

ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن المرء لا يبرأ من النفاق إلا بسلامة المعتقد في الصحابة وآل البيت يقول الطحاوي (ومن أحسن القول في أصحاب النبي وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق) وقال (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان). وبهذا يتبين أن سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو التعرض لعرضه عليه الصلاة والسلام بقذف أزواجه جرم عظيم وخصوصاً الصديقة بنت الصديق وهي المبرأة من فوق سبع سماوات وكانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكانت أفقه نساء الأمة على الإطلاق فكان الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها. ومناقبها رضي الله عنها كثيرة مشهورة فقد وردت أحاديث صحيحة بخصائص انفردت بها عن سواها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن ومنها: 1ـ مجيء الملك بصورتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير قبل زواجها به صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه. 2ـ ومن مناقبها رضي الله عنها أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرح بمحبتها لما سئل عن أحب الناس إليه فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة قلت فمن الرجال قال أبوها. قال الحافظ الذهبي رحمه الله (وهذا خبر ثابت وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيبا وقد قال لو كنت متخذا خليلاً من هذه الأمة لا تخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً). 3ـ ومن مناقبها رضي الله عنها نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام فقد روى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت عائشة فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني. فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال يا أم سلمة لا توئذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها. قال الحافظ الذهبي رحمه الله (وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها). 4ـ ومن مناقبها رضي الله عنها أن جبريل عليه السلام أرسل إليها سلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام فقلت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى مالا أرى تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي وفيه فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها.

5ـ ومن مناقبها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتخييرها عند نزول آية التخيير وقرن ذلك بإرشادها إلى استشارة أبويها في ذلك الشأن لعلمه أن أبويها لا يأمرانها بفراقه فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بقراقه قالت ثم قال إن الله جل ثناؤه قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا *وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب 28 - 29). قالت فقلت أفي هذا استأمر أبوي؟ فإني اريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت. 6ـ ومن مناقبها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يمرض في بيتها فكانت وفاته صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها في يومها وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا وأول ساعة من الآخرة ودفن في بيتها فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة قالت فلما كان يومي سكن وعند مسلم عنها أيضاً قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد يقول أين أنا اليوم أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة قالت فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري وروى البخاري أيضاً عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه يقول أين أنا غداً أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة حتى مات عندها قالت عائشة فمات في اليوم الذي يدور علي فيه في بيتي فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري وخالط ريقه ريقي ثم قالت دخل عبدالرحمن ابن ابي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له (اعطني هذا السواك يا عبدالرحمن فأعطانيه فقضمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستند إلى صدري) وفي رواية أخرى بزيادة (فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة) 7ـ ومن مناقبها رضي الله عنها إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها من أصحاب الجنة فقد روى الحاكم بإسناده إلى (عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال اما إنك منهن؟ قالت فخيل إلي آن ذاك أنه لم يتزوج بكراً غيري) وروى البخاري عن القاسم ابن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وفي هذا فضيلة عظيمة لعائشة رضي الله عنها حيث قطع لها بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف. 8ـ ومن مناقبها رضي الله عنها ما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ففي هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة.

9ـ ومن مناقبها رضي الله عنها نزول آيات من كتاب الله بسببها فمنها ما هو في شأنها خاصة ومنها ما هو على الأمة عامة فأما الآيات الخاصة بها والتي تدل على عظم شأنها ورفعة مكانتها شهادة الباري جل وعلا لها بالبراءة مما رميت به من الإفك والبهتان وهو قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ? لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ? بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ? لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ? وَالَّذِي تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور: 11) إلى قوله تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ? وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ? أُولَ?ئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ? لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (النور: 26). وقد قال بعض المحققين فيها أيضاً (ومن خصائصها أن الله سبحانه وتعالى برأها مما رماها به أهل الإفك وأنزل في عذرها وبراءتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة وشهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها من الإفك كان خيراً لها ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شراً لها ولا خافضاً من شأنها بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء فيالها من منقبة ما أجلها). وبهذا وغيره يتبين فضلها ومنزلتها رضي الله عنها وأرضاها وأن قذفها بما هي بريئة منه تكذيب لصريح القرآن والسنة يخرج صاحبه من الملة كما أجمع على ذلك العلماء قاطبة ونقل هذا الإجماع عدد من أهل العلم. فالواجب على كل مسلم محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والترضي عنهم أجمعين وتوقيرهم ونشر محاسنهم والذب عن أعراضهم والإمساك عما شجر بينهم فهم بشر غير معصومين ولكن نحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتأدب معهم بأدب القرآن فنقول {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10) هدى الله الجميع لصراطه المستقيم واتباع سيد المرسلين وصحابته الغر الميامين والحمد لله رب العالمين. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو / أحمد بن علي سير المباركي عضو/ صالح بن فوزان الفوزان عضو / محمد بن حسن آل الشيخ عضو/ عبدالله بن محمد الخنين عضو / عبدالله بن محمد المطلق عضو/ عبدالكريم بن عبدالله الخضير الرئيس / عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ

فلسفة عمل المرأة

فلسفة عمل المرأة د. لطف الله خوجه 26شوال1431هـ في هذه القضية وقع تضليل كبير .. ؟؟!!!! المناصرون لعمل المرأة تخطوا حواجز المنطق والحكمة، متسلحين بالقرار السياسي .. فجعلوا من عمل المرأة واقعا غير قابل للنقاش؟!!. وقبل الدخول في تفاصيل الفلسفة المتعلقة بعمل المرأة، نود الإشارة إلى ما يقطع الجدل مع منطقي رائده الحقيقة، لا متلهف للتسلق: العمل المنتقد هو ما كان قائما على مبدأ مساواة المرأة بالرجل، في الكم (=مدة العمل)، أو الكيف (= نوع العمل)، مع رفع الحجاب (= عمل مختلط). وليس العمل الخالي من كل هذه المحذورات، وهو: الملائم للأنوثة، في بيئة نسائية، وكونه استثناءا؛ أي لا يقدم على عملها الأصل (=عمل البيت). فليكن هذا منا على بال. فالمرفوض ليس مبدأ العمل، إنما مبدأ المساواة في العمل .. والثاني هو الساري حاليا، يجري على قدم وساق، وانظر في كافة أنواع عمل المرأة المستحدثة: كاشيرات، مضيفات، خادمات، موظفات إلخ .. تجده يحقق مبدأ المساواة، لا مجرد العمل. وهنا النقطة الحرجة .. جملة التيار الإسلامي، بمختلف توجهاته وشخصياته كانت تقاوم، لكن ذلك اليوم تغير .. فمنها التي انضمت لحملة المساواة، تنصر بعلم أو بدونه .. ربما السبب تغير الرأي في مسائل: كالعمل المختلط. ومنها التي لا تزال على موقفها، لكنها باتت صامتة، مستسلمة، أو تهمس همسا لا يسمن ولا يغني من جوع. ولأنه في العادة، كثرة الكلام تورث القضية لغطا وجدلا لا ينتهي، وتمنح فرصة للمناورة غير المنطقية، فيعسر على القراء إدراك ما في الكلام من خطأ وزلل، ويبعث على الملل، لكن مع ربح السفسطائين للقضية، وضياع صوت الحقيقة .. لأجل ذلك، لن أدخل في سرد الدلائل على فساد مبدأ المساواة في عمل المرأة، إنما بتقديم بتفصيل بسيط التركيب، يكشف أبعاد القضية، ويعطي الناظر سلما يرقى عليه ليرى المسألة من فوق، لا من زاوية دون زاوية، لا تتيح له سوى معرفة جزء من الحقيقة. كل ما في القضية: أن العمل عملان: عمل داخل البيت، وعمل خارج البيت. والعامل اثنان: رجل، وامرأة. فالقسمة العقلية أربعة صور: الأولى: تعمل هي في البيت، وهو خارج البيت. وهذا هو الذي عليه البشر منذ آدم حتى قيام الثورة الصناعية في أوربا، فهو السائد، ووجود استثناءات هنا وهناك لا يبطل سيادة هذه الصورة. هذه الصورة لا عيب فيها، ولا نقص .. بل هو المنطقي، بالنظر إلى مؤهلات المرأة (= أمومة، تدبير المنزل، تربية، حضانة .. هذه من أعمال البيت)، والرجل (= السعي في المعاش .. وهو من عمل الخارج). فإن كان في هذا شك، فلننظر في الصور الأخرى: الثانية: تعمل هي خارج البيت، وهو داخله. وهذه عكس، والمجتمع أو العالم إن تقبل عملها خارجه، فالجميع إلى اليوم لم يتقبل العكس؛ عمله في البيت .. لذا لا تكاد تجد دعوة - موازية - لعمل الرجل في البيت، مقابل الدعوة لعملها خارجه، لا من الرجال ولا حتى النساء، حتى المرأة التي تدعو - وبحرارة - إلى عملها في الخارج، لا تطرح عمله داخله في المقابل .. نوال السعداوي مثلا، متطرفة جدا في تناول مسائل المرأة، كان طرحها في البديل لخروج المرأة: إنشاء محاضن، ومطاعم، مغاسل عامة. إن هذه الصورة مرفوضة، جملة وتفصيلا؛ لأنه لا يمكن تجزئة قضية لا تتعاطى إلا كلية، فمن نادى بعملها خارجا، وتغافل عن البديل، وسكت عن المناداة أن يكون البديل رجلا، فهو لا يعي من القضية سوى جزءا .. وليس غرضه حل مشكلة، بل توليدها لجهل أو غرض. من المضحك أن يكون البديل: خادمة. فهذا هو الانقلاب على الفكرة؛ إذ كيف ينادى إلى خروجها للعمل، تحررا من رق البيت، ثم يكون البديل: أن تلج إلى بيت غير بيتها لتعمل فيه؟ ..

تخرج من بيتها، لتعمل في بيت غيره: إذن النتيجة: هي تعمل في البيت. ألم يكن بقاؤها في بيتها خير وأحسن تأويلا؟!!. فبطلت هذه الصورة. الثالثة: أن يعملا سويا في البيت. ولا أحد يدعو إلى هذا؛ لأن معناه ترك الخارج كليا .. وهذا لم يقل به أحد، لا مناصرين، ولا متحررين. فبطلت هذه الصورة أيضا. الرابعة: أن يعملا سويا خارج البيت. وهذا ما دعت إليه نوال السعداوي وغيرها، وهو مضمون فكرة عمل المرأة، لكن بمفهوم: أن تعمل خارج بيتها، ولو كان عملها الآخر في بيت آخر، المهم خروجها .. فالخروج هو المطلوب لذاته، والعمل وسيلة لذلك. لكن هذه الصورة هي الواقعة، وهي الكارثة؛ لأنه يعطل المرأة من عمل البيت، فيبقى نصف العمل فارغا لا قائم به، والخادمة بالقطع لن تقوم به؛ إذ عملها ليس مجرد خدمة، وقيام بشئون التدبير، كلا، بل أرقى من ذلك .. المرأة في بيتها حلقة وصل بين جميع الساكنين، فهي التي تدبر أمورهم وشئونهم كلها، وهي التي تفعل ذلك بالحب والشوق والصداقة، مندفعة بدافع الأمومة والزوجية .. وهذا ما يبني في البيت سكنا، كحقيقته الموصوف به في القرآن: {والله جعل من بيوتكم سكنا}. والمرأة هي سكن أيضا: {ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليه وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. فسكن البيت لا يتحقق إلا بسكن المرأة؛ أي سكونها في البيت؛ أي عملها فيه .. والخادمة أجنبية لا تحقق سكنا بالقطع. هذه الصورة كذلك باطلة، والتجربة شاهدة، فكل الأنظمة التي أخذت بها، جنت من وراء ذلك: - ازدياد نسب العنوسة. - ازدياد نسب الطلاق. - اختلال نظام الأسرة. - نشوء أجيال محرومة من الأمومة. - فساد الأعراض. كله هذه وغيرها، عليها دلائل، بحثها وسردها في مقام آخر. ما يعنينا: أن القسمة الأربعة لم يثبت منها منطقيا وعقليا وخلقيا إلا صورة واحدة ناجحة، هي: عملها داخله، وعمله خارجه. هذه هي الفطرة، وهذا ما يعيد للأسرة نظامها، ويقضي على العنوسة، والطلاق، ويبني أسرا صحيحة ناجحة، إذا طبقت الشروط. أقف هنا، بعد أن بينت تفاصيل الصور الأربعة، ولكم أن تتأملوا .. شكرا لكم.

(ميبي) مشروع هيمني أمريكي في الوطن العربي

(ميبي) مشروع هيمني أمريكي في الوطن العربي الطّاهر المعز 20شوال1431هـ ميبي ( MEPI) هي الأحرف الأولى ل"ميدل إيست بارتنرشيب إنيشيتيف"، أي "مبادرة الشراكة للشرق الأوسط"، ويعنى بالشرق الأوسط، الدول العربية إضافة للكيان الصٌهيوني، وما أسماه المشروع "الأراضي الفلسطينية"، أي الأراضي المحتلٌة عام 1967. ميبي، هو مكتب ظهر للوجود عام 2002، صلب إدارة شؤون الشرق الأوسط، بوزارة الخارجية الأمريكية، وله مكتبان إقليميان (منذ 2004)، أحدهما في تونس والثاني في أبي ضبي (الإمارات)، وله مكاتب فرعية في كل سفارة أمريكية في البلدان المستهدفة. يغطٌي مكتب تونس المغرب العربي ومصر ولبنان وفلسطين المحتلٌة، أما مكتب أبو ضبي فيغطٌي الخليج وبقية بلدان المشرق، وميزانية كل منهما حوالي 2 مليون دولار سنويٌا، تحتسب ضمن "المساعدات الإقتصادية الثنائية التي تقدمها الولايات المتحدة سنويا لدول المنطقة، "لدعم البرامج والمشاريع التي تساعد على بناء التغيير الديمقراطي". يعرٌف الموقع الرٌسمي ل"ميبي"، هذا المشروع كما يلي: " هي مبادرة رئاسية، تمثٌل تفاعل حكومة الولايات المتحدة مع أصوات التغيير في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. يموٌلها الكنغرس، لتوفير الموارد والخبرات، بهدف تعزيز الإصلاح في جميع أنحاء المنطقة. بشراكة مع منظمات غير حكومية، دولية ومحلية، ومؤسسات اقتصادية، وجامعات ومعاهد عليا، وأحيانا حكومات." وورد في مكان آخر من الموقع: "هو حلقة لتطوير ودعم مشروع الشرق الأوسط الكبير، وبقيٌة البرامج الإصلاحية. وهو جزء من السياسة الخارجية الأمريكية، للتعامل المباشر مع الإصلاحيين ونشطاء المجتمع المدني، وشركاء المبادرة، والمشاركين في برامجها، واعتماد الإرشادات والمعلومات الصٌادرة عنهم. يساهم (ميبي) في تنظيم المؤتمرات وتسهيل تبادل الزيارات وإعداد الندوات ودورات التكوين الداعمة للإصلاح. بواسطة مجموعة من المنظمات غير الربحية، التي تدعمها وزارة الخارجية الأمريكية". أما الأهداف المعلنة فهي أربعة: أولا: دعم الديمقراطية (تدعيم الأحزاب والإصلاح البرلماني، تعليم أسس القيادة والإصلاح.)، ثانيا: الإصلاح الإقتصادي وتطبيق التزامات اتفاقية التجارة الحرة (تقوية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، التسويق، التعريف بمبادئ منظمة التجارة العالمية)، ثالثا: إصلاح التعليم (تعليم الإنكليزية، الإصلاح الرقمي، الشراكة مع الجامعات الأمريكية)، رابعا: تمكين المرأة، وتدريبها على القيادة (خصوصا المقاولات وربات العمل)، تكوين القيادات النسائية الشابة في الأحزاب والمنظمات، التعريف بفرص التعليم في أمريكا، وحرية المرأة. وكل محور من هذه المحاور الأربعة يتضمن بدوره بابا خاصٌا ب"تمكين المرأة". من جملة العناوين التي تم تناولها (وتمويلها) عام 2008، نجد: تدريب باعثي المشاريع، قادة المجتمع المدني يتبادلون الخبرات، قواعد تكوين الأحزاب السياسية، التدريب على مخاطبة الجمهور. من أهم البرامج أيضا "المركز الدولي للمشروعات الخاصة" (أي القطاع الخاص)، ومهمته تمويل مشروعات لحاملي الأسهم، وتطوير وتنفيذ السياسات الإقتصادية "الحرة" (اللبرالية)، ودعم التجارة الحرة، حسب شروط منظمة التجارة العالمية، التي تحضى بحيٌز كبير في برامج تكوين النساء، وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسٌطة، وهناك دعاية متكرٌرة ل"منتدى المستقبل"، الذي يروج لللبرالية والتطبيع مع الكيان الصهيوني والإمبريالية، والذي ينعقد في البلدان العربية، بحضور أثرياء العالم، دولا ومؤسسات.

أوردنا هذه المقتطفات الطويلة من الموقع الإلكتروني الرسمي، حتى يتجلٌى بكل وضوح الهدف الحقيقي، المعلن لهذا البرنامج الأمريكي الذي يدعو له عديد المعارضين اللبراليين العرب، وعدد من قادة المنظمات والجمعيات العربية، منها الفلسطينية في غزة ونابلس ورام الله. وحتى بعض المحسوبين على اليسار العربي، الذين لا يرون حرجا في التعاطي مع البرامج الحكومية الأمريكية (والأروبية) والمشاركة النشيطة بها والدعاية لها، مقابل بعض التمويل، وبعض السٌفريات. أمٌا المنظمات "غير الرٌبحية" التي تدعمها وزارة الخارجية الأمريكية، لتنفيذ هذه البرامج، فنجد من ضمنها: مكتب الدراسات الإستراتيجية للشرق الأوسط وأيركس وفريدوم هاوس وجامعة نيويورك والمركز الدولي للمشروعات الخاصٌة، ومؤسٌسة ييستر ويو آس آد، وهذه الأخيرة هي مؤسٌسة رسمية، حكومية أمريكية. كلمة حق يراد بها باطل تنطلق الإمبريالية الأمريكية من الغياب الفعلي للديمقراطية، ومن قمع واضطهاد المرأة، وانعدام الشفافية في الوطن العربي (وغيره) لتجعل منها ثغرة تستغلها للتدخل باسم حقوق الإنسان، وباسم الدفاع عن الديمقراطية والمرأة الخ. لكن الأنظمة القائمة تحضى جلٌها (وربما جميعها) بمساندة الولايات المتحدة، فجميعها مطبٌع علاقاته مع الكيان الصهيوني، سرٌا أو علنا، وكلها معادية لأي نفس مقاوم للإحتلال في فلسطين أو العراق، وصفٌقت للإعتداء الصهيوني على لبنان عام 2006، ولم تحرٌك ساكنا خلال القصف المكثٌف على غزٌة، كما لا يسمح نظام عربي واحد بالإحتجاجات الجماهيرية ضد العدوان والمجازر. إن اهتمام أمريكا منصبٌ على خلق تيٌار مساند لها، في اوساط المقاولين والصحفيين والمثقفين والطلبة والشباب والنسوة، وقادة الأحزاب والمنظمات غير الحكومية. لخلق جيل من الأنتليجنسيا المشبعة بالقيم الإيديولوجية اللبرالية السائدة في الولايات المتحدة، وخلق تيٌار بديل للقيم الشعبية السٌائدة في الوطن العربي، وبديل لمعاداة الصٌهيونية والحلف الأطلسي والإمبريالية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص، وقلب الموازنة تدريجيا لتأسيس تيٌار يدافع عن القطاع الخاص، واللبرالية والسياسات الإمبريالية والإحتلال، لدى الشباب والنسوة والمثقفين والصحفيين. وتعلم الولايات المتحدة، علم اليقين أن الأنظمة العربية غير شعبية، ولذلك تظهر للرأي العام المحلٌي أنها غير راضية على وضعية حقوق الإنسان (من خلال التقرير السنوي لوزارة الخارجية وكذلك تقرير هيومن رايتس واتش)، ويلتقي سفراء وممثلو الحكومة الأمريكية بأطراف المعارضة، بما فيها الإخوان المسلمون وبعض قوى اليسار، للإستماع إليهم والإستفادة من نقدهم للسلطة، كي يعدٌلوا برامجهم، ويعدوا العدٌة، "لتجاوز التحديات في مجال نشر الديمقراطية والإزدهار الإقتصادي وتحسين جودة التعليم ودعم مشاركة المرأة في المجتمع"، ويقول "ستيفن فورد"، السفير الأمريكي السابق في الجزائر (قبل انتقاله إلى بغداد في حزيران 2008):" من واجب السفراء أن يكونوا على اتصال مع مواطني البلد المضيف، وهذا ما فعلته، نحن بحاجة للحديث مع الأحزاب السياسية، مع رجال الأعمال ورجال الثقافة، لنتفهٌم حاجيات الجزائريين. وهدفنا من كل هذا هو مساعدة السلطات الجزائرية على تحضير الجزائر والشباب الجزائري للإندماج في الإقتصاد العالمي والحصول على مرتبات عالية". لقد ركٌز البرنامج كثيرا على الجزائر (وفلسطين)، خاصٌة أثناء محاولات امريكا تركيز قواعد عسكرية لإيواء "أفريكوم"، ورفضت الجزائر ذلك، رغم مشاركتها في بقية برامج الحلف الأطلسي، في المتوسط.

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة عام 2008، دعم برنامج "ميبي" (وقنصلية أمريكا بالقدس)، ماديا وسياسيا، منظمة "غير حكومية" في غزة، اسمها "صوت المجتمع"، لتنظيم ورشات عمل وحلقات تكوينية، لتثقيف الناس، وتكوين ناشطات شابات حول "تعزيز امكانات المراة للمشاركة في المسار الديمقراطي. وخلق آليات عمل لتحريم العنف ضد النساء وجرائم الشرف والإلتزام بالمعاهدات الدولية. رغم الجو المشحون بالعدائية والعنف الذي يسيطر على غزة" (من موقع ميبي). كأن الإحتلال غير موجود ولا يمنع الغذاء والدواء ودخول وخروج المرضى والعمٌال والطٌلبة. وكأن العنف ليس نتيجة للإحتلال وإنما يبدو أنه من شيم الفلسطيني. والمشكل الوحيد لنساء غزة (ورجالها) هو تطبيق "المعاهدات الدولية" في مجال الحريات الفردية، وكأن الحصول على الغذاء والدواء والعمل ليس من الحقوق الأساسية للبشر، وكأن الفلسطينيين تحرٌروا، واستعادوا أرضهم وتخلصوا من المشاكل الناجمة عن الإحتلال. أما مدير "صوت المجتمع" فقد انبرى يكيل المدائح لقنصلية أمريكا بالقدس ولبرنامج "ميبي"، وكأن أمريكا بريئة من جرائم الإحتلال الصهيوني، وليست مسؤولة عن إدامة الإحتلال، ومساندة الكيان الصهيوني ايديولوجيا وماليا وعسكريا ودبلوماسيا. في نابلس خصٌص برنامج ميبي جائزة لمنظمة حقوقية، تأسست ب"فرمان" (مرسوم سلطاني في العهد العثماني) من ياسر عرفات، مباشرة بعد أوسلو، ولا زالت تحظى بمساندة سلطة الحكم الذاتي الإداري في رام الله، وقدمت على أنها "منظمة حقوقية غير حكومية"، وهللت مديرتها لهذا الإعتراف العظيم من قبل الأسياد الأمريكان فبالغت في المديح والدعوات الصٌالحة ورجت دوام النعمة والجاه، ونابلس كانت معقلا لمقاومة الإحتلال، قبل انفلات "قوات الأمن الفلسطينية" الممولة والمسلٌحة والمدرٌبة أمريكيا، لاعتقال والتنكيل بكل من يشتبه بمقاومته للإحتلال. كما حصل شاب فلسطيني آخر على جائزة الصحفي الشاب، مما يمكٌنه من منحة دراسية في الولايات المتحدة، نتمنى أن تثير فيه الرغبة لمقارنة ما فعله الأروبيون البيض بالسٌكان الأصليين في أمريكا، بما فعله الصهاينة في فلسطين. تحت عنوان "قادة المجتمع المدني يتبادلون الخبرات"، نظٌم برنامج "ميبي"، من 9 إلى 11 يونيو/حزيران 2008، لقاء في الأردن جمع 250 من رجال (ونساء) الأعمال ومحامين وقادة "المجتمع المدني"، بهدف "توسيع شبكة علاقاتهم الشخصية والمهنية، واكتساب خبرات أكبر"، بإشراف خبراء، استدعتهم وزارة الخارجية الأمريكية،، كما شاركت نساء شابات، تعملن في مجال الأعمال، والقانون، في برنامج تدريبي بأمريكا، على قيادة قطاع الأعمال والمجتمع المدني. وشارك في البرنامجين شبان وشابات من الجزائر والمغرب وتونس والبحرين ومصر والعراق المحتل والأردن والكويت ولبنان وعمان وقطر والسعودية والإمارات واليمن و"الأراضي الفلسطينية"، إلى جانب صهاينة جاؤوا من فلسطين المحتلة.

في إطار "تمكين النساء" و"التدريب على الديمقراطية"، خصٌص البرنامج منحة ل44 "قائدة سياسيٌة" من مختلف البلدان العربية، لمتابعة الحملة الإنتخابية الرئاسية، لمدة أسبوعين، في النصف الثاني من اكتوبر 2008، وناقشن مع الرئيس بوش " أهمٌية دعم الديمقراطية والإصلاحات لمجابهة التحدٌيات تجاه الشرق الأوسط" (أمٌا الإحتلال والهيمنة الإمبريالية والحكومات الكمبرادورية، فليست من التحديات الجديرة بالإهتمام). وقال لهن "جيمس غلاسمان"، وكيل وزارة الخارجية ". ستشهدن التاريخ أثناء صياغته، وستتاح لكن فرصة مراقبة الديمقراطية، وهي في عنفوان نشاطها، عندما يمارس الأمريكيون حقوقهم." ولم تشارك نساء الكيان الصٌهيوني في هذه التظاهرة، لأنهن لسن بحاجة "للتدريب على الديمقراطية"، فالصهيونية، حسب المفهوم الإستعماري، هي مشروع حضاري في قلب المشرق العربي المتعجرف. خاتمة، معركة على الجبهة الإيديولوجية؟ دأبت الإدارات الأمريكية المختلفة على تكوين لجان للبحث والتفكير، في مواضيع ذات أهمية استراتيجية (أو تكتيكية)، بالنسبة لعلاقات أمريكا بمختلف مناطق العالم، ومصالحها الإستراتيجية. وقد تبقى نتائج أعمال تلك اللجان في الرٌفوف، أو لا تستغلها مصالح الدولة أو الإحتكارات، في الحين، بل تلجأ إلى تلك البحوث والدراسات عندما تنضج الظروف وتقتضي مصالحها أو مخطٌطاتها ذلك، مع تعديلها عند الضرورة، حسب مقتضيات المرحلة، أو ميزان القوى، أو المتغيٌرات على الساحة الخ. برنامج "ميبي"، هو عبارة عن فرع من "مشروع الشرق الأوسط الكبير" (كما جاء حرفيٌا في موقعه الإلكتروني)، يعنى بالجانب الإيديولوجي، وتخريب المجتمعات العربية من الداخل، وتكوين "نخب" (خصوصا من الشباب)، تتدرب على قيادة المؤسسات والأحزاب والمنظمات "غير الحكومية"، ووسائل الإعلام، متسلٌحة بأفكار تتنكٌر للتراث التقدٌمي للإنسانية، وللجوانب النٌيٌرة من حضارتنا وثقافتنا وتاريخنا. فتجعل من التطبيع قيمة حضارية، وتحول السلام إلى رضوخ لإرادة الإستعمار، وتتشبٌه بالمحتل والمستعمر والمهيمن، وتجعله مثلها الأعلى، وتساند تدخٌلاته، حتى العسكرية منها، أي الإيمان بعدم قدرة الشعوب على تقرير مصيرها، والقناعة بأن الإمبريالية هي الوحيدة القادرة على تقرير مصيرنا، وأن مثلها وقيمها الإستعمارية هي أرقى ما وصلت له الإنسانية، أي الإقرار بالعجز وبالهزيمة، دون محاولة النهوض لمقاومة الإحتلال والإستغلال والإضطهاد. إن من أهم الإنجازات التي حقٌقتها الإمبريالية، نجاحها في إنتاج خطاب يفصل بينها وبين الأنظمة العربية القائمة، ويقدم الإمبريالية كمدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحليف للشعوب المضطهَدَة. وبعد احتلال العراق، ظهرت في مصر وسوريا وتونس وفلسطين وغيرها، أشكال من التحالفات السياسية للمعارضة، تهلٌل للتٌدخٌل الإمبريالي في البلاد العربية، بدعوى استحالة التغيير، بالإعتماد على قدرات الفئات الشعبية والكادحة، واستنجدت بسفراء أمريكا وأروبا، ووزراء خارجيتها لمحاولة الوصول إلى الحكم، وامتدح العديد من "معارضينا"، حتى بعض من كانوا محسوبين على اليسار، ما حصل في أوكرانيا وجورجيا، من "ثورات" برتقالية ملوٌنة، من إعداد المخابرات الأمريكية. فالخلفيٌة الإيديولوجية لمشروع الشرق الأوسط الكبير، وبالتالي "ميبي"، هي تلك النظرية التي بناها "فرنسيس فوكوياما" قبل حوالي 20 سنة، ومفادها ان الديمقراطية البرجوازية (اللبرالية)، هي قمٌة ما يمكن أن يبلغه العقل الإنساني، في المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية، ولذا وجب فرضها على باقي الشعوب، بدهاء ولين، إن أمكن، وبقوٌة السٌلاح إن وجدت مقاومة وممانعة. وهاهي أمريكا تجرٌب الحلٌين معا، في مختلف المناطق. * كل الإستشهادات الواردة بين معقٌفين " " مأخوذة من الموقع الرسمي ل ميبي: mepi.state.gov أو من النشرة الإلكترونية لوزارة الخارجية الأمريكية: Usinfo.state.gov

القلق الفكري

القلق الفكري أحمد بن عبد الرحمن الصويان 10شوال1431هـ من الظواهر التي لا تكاد تخطئها العين في ساحتنا الدعوية: بروز أفراد يحملون فكراً (إسلامياً)، لكنه فكر قلق غير متوازن يزداد جنوحاً وتفلُّتاً؛ كلما زادت الموضوعات التي يعالجونها. والطريف أن بعضهم يفتعل حولها أحياناً معارك جانبية، ويغرق في منازلات عنترية، ويُشعِرون أنفسهم ومَنْ حولهم بأنهم يحملون لواء التجديد الفكري والإصلاح المنهجي، ثم تراهم يجتهدون في تكبير الصغار، واصطناع الرموز! أهم ما يميز هؤلاء: أنهم يطرحون خطوطاً عريضة بعناوين كبيرة، تشوبها الضبابية وعدم الوضوح، لا تخلو غالباً من تباين وتناقض. وحقيقة الحال أن كثيراً من هؤلاء لا يدرون ما يريدون، ولا إلى أين يسيرون؟ بل إن غاية ما عندهم: الانقلاب على الذات، ومحاولة التفلت من تبعات البيئة الدعوية التي نشؤوا وترعرعوا فيها. من أهم أسباب هذا القلق والاضطراب: أولاً: ضعف البناء الشرعي والفكري: وهو ما يؤدي إلى خللٍ وقصور في فهم النصوص والأحكام الشرعية، واضطرابٍ في أخذها والاستدلال بها، بل أبعد من ذلك؛ حيث نرى في أرائهم أحياناً أن بعض الأفكار المعاصرة وقيم الفكر الغربي ومصطلحاته هي الأصل الذي يُحتَكَم إليه، والمعيار الذي توزن به الاجتهادات. وقد لا يتجرؤون على رد النصوص الشرعية التي تخالفها، لكنهم قد يتكلفون الحيدة عنها، أو التأويل والتعسف في فهمها والاستدلال بها. وصنيع هؤلاء مما حذرنا منه المولى - جل وعلا - في قوله: {كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 2 - 3]، وهو مخالف لأمر الله ـ عز وجل ـ بالتسليم التام للنصوص الشرعية، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 63]. وضعف العلم الشرعي أحد الأسباب الرئيسة لتطاول بعض هؤلاء المتفيهقين، ثم انحرافهم عن جادة الصواب؛ وهذا أحد مقتضيات قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقَ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (¬1). وأحسب أن بعض هؤلاء ممن يتطلع إلى الوصول إلى الحق ويحرص عليه، لكن الأمر كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (كم من مريد للخير لن يصيبه) (¬2)؛ ولهذا فإن الواجب أن يستوفي الباحث الشروط العلمية للوصول إلى الحق؛ ليسلم بإذن الله - تعالى - من الشطط والانحراف. ثانياً: الانفتاح غير الواعي على مصادر فكرية ومعرفية جديدة عليهم (مثل كتابات الجابري وحسن حنفي والعروي ... ونحوهم): وجعل كتابات هؤلاء ندّاً لكتابات أئمة الإسلام الأثبات المجمَع على إمامتهم. فتنشأ عندهم حيرة مردُّها إلى الشبهات المثارة، ثم تتوالد لديهم بعض الأسئلة والمشكلات الفكرية والمنهجية التي لم يحسنوا الإجابة عنها أو التعامل معها. ¬

(¬1) أخرجه: البخاري في كتاب العلم، رقم (34)، ومسلم في كتاب العلم، رقم (2673). (¬2) أخرجه الدارمي في سننه: (1/ 68 - 69)، ولهذا الأثر طرق كثيرة، صحح بعضها الهيثمي في مجمع الزوائد: (1/ 181).

ومع كثرة الحديث عن ذم الانغلاق، والدعوة إلى الانفتاح، سقط بعض هؤلاء في معتركات صعبة، وراحوا يتقحمون فيها، ويكثرون التنقل بين الأهواء (¬1)، ويخوضون في قضايا فكرية معقدة بآليات هشة هزيلة، وهذا في تقديري سبَّب لبعضهم صدمة معرفية حادة أدت إلى التذبذب والانهزام، وإلى تبنِّي آراء نبتت من خليط غير متجانس من الأفكار والاجتهادات العلمية والعملية. وصدق العلاَّمة محمد الخضر حسين؛ إذ قال: (الآراء الفاسدة والشُّبه المغوية، تربي في النفوس الضعيفة أذواقاً سقيمة) (¬2). ثالثاً: من أعظم ما يعصم الإنسان من فتنة الشهوات، وسطوة الشبهات: سلامة التدين، وعمق الصلة بالله، عز وجل. وكثير من أدواء النفوس إنما تنمو وتترعرع عند ضعف الإيمان، وقصور التربية. ومن أكثر أدواء النفس خفاءً وخطورة: العُجب والاعتداد بالرأي؛ فهو باب عريض من أبواب الفساد والسقوط؛ ولهذا قال النبي: «ثلاثٌ مهلكات: شحٌّ مُطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه» (¬3). فإذا اجتمع الهوى والعُجب في النفس ازداد هلاكُ الإنسان، ومن دقائق الملاحظة التي تدل على النباهة وعمق البصيرة قول عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى -: (لا أعلم في المصلين شراً من العُجْب) (¬4). وبعض الناس إذا قرأ كتاباً أو كتابين، وكتب مقالة أو مقالتين، استعلى بنفسه، وطار بها عجباً، وظن أنَّه أصبح مفكراً من كبار المجددين المبدعين، ولا يزال التيه يسيطر على عقله وفكره حتى يؤدي به إلى ازدراء مَنْ حوله، والتقليلِ من شأنهم، والاستخفاف بهم، بل التطاول عليهم إذا خالفوه! ومما يحسن التنبيه عليه في هذا السياق: أن المستعلي برأيه إذا أخطأ في مسألة استنكف استنكافاً شديداً عن الاعتراف بالخطأ، والرجوع إلى جادة الصواب، وقد يدفعه استعلاؤه إلى مزيد من التعصب والاستمساك بالخطأ، ظناً منه أنَّ سبيل الرفعة إنما يكون بالتعالي والتعاظم! رابعاً: ومن أدواء النفوس أيضاً: التطلع إلى الصدارة، والبروز نحو الأضواء، والمسارعة إلى التزيُّن أمام الناس: وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم، خطورة ذلك بذكر مَثَل واضح جَلِي، فقال: «ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه» (¬5). وهذه هي الشهوة الخفية التي كان يخافها شداد بن أوس - رضي الله عنه - على أصحابه (¬6). وكثير ممن يقع في هذا الداء لا يسلم من أحد أمرين: أحدهما: القدح في سلامة القصد، وحُسْن النية، وكفى بهذا إثماً وفساداً. الثاني: التشبع بما لم يعطَ. لكن ما علاقة هذا بالقلق الفكري؟ الحقيقة أن وهج الأضواء، وبريق الإعلام، يدفع بعض الناس أحياناً إلى التعالم، وإلى الرغبة في التميز، وقد لا يتحقق ذلك - عند ضعف البضاعة - إلا بالإغراب، والحرص على تتبع الأغلوطات، ومخالفة العلماء والتيار السائد ليس بسبب الاجتهاد العلمي، ولكن المخالفة لمجرد المخالفة. خامساً: قصور العلماء والدعاة في الحوار مع هؤلاء الشباب، والتهاون في استيعابهم: وهو ما أوجد قطيعة فكرية وفجوة تربوية معهم، وزاد من حدَّتها أن بعض العلماء والدعاة ربما احتدَّ أحياناً في تسفيه أفكارهم أو التقليل من شأنهم، فأدى ذلك إلى استفزازهم، وتعصبهم، ومقابلتهم لغيرهم بالعزة في الرأي والمعاندة، والإعراض عن نقد الآخرين، والاستفادة من آرائهم. ¬

(¬1) قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: (من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل)، رواه: اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (1/ 128)، والآجري في الشريعة (ص56). وعبد الله ابن الإمام أحمد في السنة (1/ 138). (¬2) رسائل الإصلاح: (1/ 99). (¬3) أخرجه: البزار، كما في كشف الأستار عن زوائد البزار، رقم (80)، وحسنه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة، رقم (1802). (¬4) سير أعلام النبلاء: (8/ 407). (¬5) أخرجه: الترمذي، رقم (2376)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي. (¬6) قال شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ: (يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية) وفسر أبو داود الشهوة الخفية بحب الرياسة، انظر: شرح حديث أبي ذر لابن تيمية (ص25).

محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة - رؤية تأصيلية

محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة - رؤية تأصيلية سلطان العميري 10شوال1431هـ من أظهر الأمور الدينية: أن المهمة الأولى لدعوة الرسل والهدف المركزي فيها هو تعبيد الناس لله تعالى، وغرس التعلق به في كل حياتهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]. فمقصد بعثة الرسل وأساس دعوتهم ومنتهى أعمالهم وغاية جهادهم وقطب الرحى في حياتهم والفكرة التي حولها يدندنون، ومنها يقصدون وإليها يرجعون، وفيها يبذلون هي: عبادة الله وحده، وغرس فكرة العبودية في عقول الناس وقلوبهم، وإنكار عبادة كل ما سواه من الأوثان وغيرها. والذي يحاول أن يدقق النظر قليلا في طريقة القرآن في شرحه لمهمة الرسل يجد أنه اختار لفظ " العبادة " ومفهوم " العبودية " ليجعله مرتكز دعوة الرسل؛ وسبب ذلك: هو أن هذا اللفظ وذلك المفهوم يتضمن معاني لا يتضمنها غيره من المفاهيم، وله وظيفة لا يؤديها مفهوم آخر كما يؤديها هو، فمفهوم العبودية يتضمن معنى الحب والخوف والرجاء والإجلال والذل، فأصل معنى العبادة يرجع إلى الذل والخضوع، وهي عبارة عما يجمع غاية الحب مع غاية الخضوع للمعبود، يقول ابن تيمية: (العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له) (10/ 153)، ويقول منبهاً على العلاقة بين الحب والذل في مفهوم العبادة: (من خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله) (10/ 153). ولأجل هذا أكثر القرآن في بيان دعوة الرسل من ذكر اسم الله واسم الإله؛ لأن هذا الاسم يؤدي إلى نفس المضمون التي تتضمنه العبودية (فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا وإكراما). وهذا يؤكد على أن المعْلَم الذي أبرزه القرآن ليكون أساس دعوة الرسل ومحور رسالتهم هو مفهوم العبودية، الذي يتضمن معنى الحب والرجاء والخوف لله تعالى، وهذا يجعل العلاقة بين الله وبين خلقه قائمة على معاني روحية متدفقة، تنبع من داخل الأعماق وتفيض على جميع جوانب الحياة، فهي علاقة أعمق وأدق من كل المعاني الأخرى التي تزاحمها، ولهذا لهج القرآن بذكر أوصاف الله تعالى وأسمائه، التي تقتضي تعلق قلوب العباد به سبحانه بالحب والرجاء والخوف والإجلال والتعظيم، فهذه المعاني الروحية الجملية هي التي جعلها القرآن محور دعوة الرسل، وهي التي سعى القرآن إلى تجذيرها في عقول الناس، وبذل كل السبل في ذلك.

فلم يراع القرآن حين أراد أن يبين مهمة الرسل في تعليق القلوب بالله تعالى معنى الهروب من استبداد الخلق للخلق كأساس، ولم يجعل مهمة الرسل المركزية بيان منزلة الحرية أو بيان حاكمية الله تعالى على الخلق، فالعباد لا يتعلقون بالله لأنه حاكم عليهم فقط، ولا يتعلقون به لأنهم أحرار ليسوا عبيدا لأحد فقط، وإنما يتعلقون به سبحانه لأنه هو الذي يستحق الحب والإجلال والذل له والخوف والرجاء منه، يتعلقون به لأنه خالقهم ورازقهم ومحسن إليهم ورحيم بهم فهو أهلٌ لأن يتعلق به، يتعلقون به لأنه متصف بالكمال من كل وجه، فهذه هي المعاني التي كانت محور دعوة الرسل وأساس منطلقهم في الرسالة، فالمنطلق الأصلي في تعلق الناس بربهم هو أنهم أدركوا كماله واستحقاقه للعبودية لا أنهم تحصلوا على الحرية وانتصروا على الاستبداد. ونحن إذا رجعنا إلى القرآن والسنة نجد أن الشريعة أكثرت من تفعيل مبدأ العبودية في بيان العلاقة بين الله وخلقه، وكانت تستعمل الألفاظ وتبرز المعاني التي تتضمن العلاقة الروحية الرفيعة بين الله وبين خلقه، وتشيع بين المسلمين الألفاظ التي تغرس محبة الله ومخافته ومراقبته وتعظيمه، ولم تستعمل الألفاظ الأخرى التي لا تؤدي إلى تلك المعاني الشريفة كلفظ الحاكمية مثلاً. والذي يرجع إلى نصوص الشريعة ويقرأها قراءة تأمل وتدبر، ويحاول أن يستخلص الأهداف الأصلية لدعوة الرسل سيخلص بسهولة إلى أن المرتكز الصلب في دعوتهم هو الحب الإلهي والرضا الرباني، وسيجد أن حجر الزاوية في الإسلام هو التعلق بالله تعالى والارتباط به بمفهوم العبادة دون غيره من المفاهيم. وسيدرك أن هذا المعنى هو الغاية من الرسالات وهو المقدم على كل غاية، وسيكتشف أنه الهدف الذي ينبغي أن يكون بارزا ظاهرا للعيان، ولا يجوز لأي غرض آخر أن يزاحمه في المحورية والمركزية، وفي بيان اهتمام القرآن بمفهوم العبودية يقول ابن القيم: (غالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد -توحيد الخبر وتوحيد الإرادة- بل نقول قولاً كلياً: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) (المدارج 3/ 449)، فالقرآن كله مشتغل بالله تعالى، حتى يتعلق الناس به وينصرفوا عن كل ما سواه. فالقرآن لما أراد أن يبين الغاية من خلق الناس أبرز مفهوم العبودية للعيان، فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات:56].

ولما ذكر القرآن مناظرات الرسل لأقوامهم بين أن كل رسول يبدأ أول ما يبدأ في دعوته لقومه بالدعوة إلى العبودية لله، فقال عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الأعراف:59]، وقال عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُون} [الأعراف:65]، وقال عن صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وقال عن شعيب: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [الأعراف:85] , وواضح من طريقة شعيب في دعوته أنه جعل الدعوة إلى العبودية محوراً أساسياً ثم بعد ذلك بين لوازم هذه العبودية. ولما أراد القرآن أن يبرز صفات المؤمنين أظهر الصفات المتعلقة بمفهوم العبودية المتضمنة للحب والخوف والرجاء، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون **الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون **أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال:2 - 4]، ونبه على أن هذه هي أوصاف المؤمنين سواء كانوا في حالة الاستضعاف أو في حالة القوة، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [الحج:41]، والمراد بالمعروف هنا: هو كل ما هو عبادة لله تعالى، والمراد بالمنكر: كل ما هو معصية له سبحانه، وقد كرر القرآن كثيرا الصفات التي يتحلى بها المؤمنون، فذكر قيام الليل والجهاد في سيبل الله والخوف من القيام بين يديه. بل إن الوصف الذي اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه هو وصف العبودية، كما قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) وقال: ((ولكن قولوا: عبد الله ورسوله)) ولم يكن يصف نفسه بالحرية ولا الثورة على استبداد الكفار، وما أكثره وأغلظه في زمنه! وحين ذكر القرآن نعيم المؤمنين في الجنة كان يعلقهم بالله تعالى مباشرة، فغاية نعيم أهل الجنة هو النظر إلى وجهه الكريم، ولما ذكر أصول الأعمال التي تؤدي إلى دخول الجنة كانت كلها راجعة إلى العبودية لله تعالى، ولم يذكر منها الحصول على الحرية أو الثورة على الاستبداد.

وكذلك لما ذكر تعذيب الكفار، وأصول الأعمال الموجبة لدخول النار لم يجعل المناط المؤثر فيها إلا فقدان معنى العبودية لله تعالى وترك أفعال الطاعة كما قال سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر **قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين** وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين **وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين **وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين **حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} [المدَّثر:41 - 47]، ولم يجعل من أصول ما يوجب دخول النار الخضوع للاستبداد ولا ترك الحرية، ولا فقدان الحاكمية، نعم نبه القرآن على أن بعض - لا كل - من بقي على الكفر ولم يدخل في الإسلام حتى دخل النار كان نتيجة تقليده لرؤساء قومه، ولكن الشريعة لم تجعل المناط المؤثر إلا ترك العبودية لا غيره. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحث أصحابه على الأعمال الصالحة وعلى المزيد من العبودية لله تعالى يعلقهم بربهم وبالمعاني القلبية المتدفقة، فكان يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا وكذا، ولم يقل يوما ما: من كان حرا أبيا فليفعل كذا، أو من كان متحرراً من استبداد البشر فليقل كذا، مما يدل على أن الهدف المركزي الذي يسعى إلى غرسه في قلوب الصحابة هو العبودية لله، والتعلق به بالحب والخوف والرجاء. وحين بين النبي صلى الله عليه وسلم أمر الدين، وبين مبانيه الكبرى ولخص أصوله لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، لم يذكر إلا ما يدل على أن الغرض الأصلي للدين هو العبودية لله تعالى ومراقبته في السر والعلن، فهذا هو المعنى الذي تتمحور عليه كل الرسالات، وهو ما وصى الله به كل الرسل، كما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب} [الشورى:13]. ومن لطيف استعمالات الشريعة أنها لما أرادت التنفير من التعلقات الأخرى المزاحمة للتعلق بالله تعالى استعلمت لفظ (العبودية) كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين} [يس:60] , وكما قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [يونس:18] , وكما قال سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار .... ))، كل هذا حتى يتشرب الناس مفهوم العبودية المتضمن للحب والخوف والرجاء لله تعالى، وينفرون من تعليق هذه المعاني بغيره سبحانه. ومن لطيف طريقة القرآن في بناء العبودية لله تعالى أنها لم تجعل الأصل في منطلق الدعوة إلى عبودية الله تعالى إلا بيان الكمالات التي اتصف بها الله تعالى والتي توجب تعلق القلوب به، ثم كملت ذلك ببيان الخلل في التعلقات الأخرى.

فهذه الاستعمالات وغيرها كثير في القرآن والسنة كلها تصب في معنى واحد، وهو أن المرتكز الذي تقوم عليه دعوة الرسل هو تعليق الناس بالله بمفهوم العبودية، وأن كل الأغراض الأخرى التي جاءت الشريعة لتحقيقها إنما هي تابعة لهذا الغرض الأصلي، فالهدف الذي يتربع على رأس الهرم في دعوة الرسل هو مفهوم العبادة. وليس المراد من الكلام السابق اختزال دعوة الرسل في الدعوة إلى العبودية فقط، ولا اختزال مفهوم العبودية في العبادات المحضة، فلا شك أن الشريعة جاءت بالدعوة إلى أغراض أخرى تتعلق بحياة الناس وأحوالهم، فمن أغراض الشريعة ترتيب دنيا الناس، وإزالة الظلم عن المظلومين، والدعوة إلى العدل، وتقنين معاش البشر، ولكن كل تلك الأغراض متأخرة عن غرض العبودية ومنخفضة عنه في المرتبة ولا يصح أن تزاحمه أو تساويه، فلفظ العبادة يتضمن معاني ويستلزم أخرى، ومن ضروريات التأصيل الشرعي أن نفرق بين المعاني المتضمنة فنجعلها الأساس وبين المعاني المتضمنة ونجعلها التابع. ... ... ... ومع وضوح هذا الأمر وتجليه في الظهور إلا أنه لم يسلم من المضايقات، فقد غدونا نسمع من هنا وهناك دعوات تزاحم مفهوم العبودية ومرتكز لدعوة الرسل، وقد توالت أصوات عديدة في السعي إلى ذلك، ومن تلك المزاحمات: الأولى: مزاحمة مفهوم العبادة بالدعوة إلى فكرة الحاكمية، فقد ظهرت في أوائل عصرنا الحديث دعوة تقصد إلى إرجاع مفهوم العبودية إلى معنى السلطة والحاكمية، وتجعل جوهر دعوة الرسل يعود إلى تكريس فكرة الحاكمية، ويعد أبو الأعلى المودودي هو أول من أظهر هذه الفكرة وسعى إلى بنائها، وفي هذا المعنى يقول: (خلاصة القول: أن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة، سواء أكان يعتقدها الناس من حيث حكمها على هذا العالم حكم معينين على قوانين الطبيعة، ومن حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان، وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن الكريم أساسا لما يأتي به من البراهين والحجج على إنكار ألوهية غير الله، وإثبات الألوهية لله تعالى) (المصطلحات الأربعة 23). وجعل ألوهية الله تعالى كلها ترجع إلى مفهوم الحاكمية على الخلق، وبالتالي فمفهوم العبودية يرجع إلى الحاكمية، وجعل العبادات إنما شرعت لتكون طريقا لتحقيق الحاكمية. وقد تبنى سيد قطب هذه الفكرة أيضا، وفي هذا يقول: (الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية ... وهي الحاكمية ... إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا) (معالم في الطريق9)، ويقول عن الذين خاطبهم القرآن: (كانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله بها معناه: نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى الله) (معالم في الطريق9). بل إنه يقول: (لا إله إلا الله - كما يدركها العربي العارف بمدلول لغته - لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد لأن السلطان كله لله) (معالم في الطريق31)، وقد أطال سيد جدا في إرجاع مفهوم العبودية ومعنى لا إله إلا الله إلى الحاكمية. ونحن إذا رجعنا إلى لغة العرب نجد أن الأمر مختلف تماما عما ذكروه، فالمعنى الذي يتضمنه مفهوم العبودية يرجع إلى الذل والتعظيم والحب، ولفظ الإله في اللغة يعني: من تألهه القلوب وتحبه وتعظمه، فكل تلك المعاني معاني زائدة على فكرة الحاكمية، بل إنه لا يتضمنها.

وكذلك إذا رجعنا إلى الدلالات السابقة التي استعملتها الشريعة في بيان دعوة الرسل نجد أنها أبرزت معاني التأله والحب والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال في العلاقة بين الله وبين خلقه، فهي معاني إيجابية تنطلق إلى تعليق القلوب بالله تعالى أولا وقبل كل شيء، فكيف يصح مع هذا أن تقتصر العلاقة على الحاكمية فقط، فالحاكمية هي أحد المعاني التي تدخل في العبودية ولكن ليست أساسها، وقد اجتهد عدد من المفكرين المعاصرين في بيان الخلل المنهجي الذي وقع فيه أبو الأعلى المودودي وسيد قطب في تفسير مفهوم العبودية، وفي شرحهم لمحور دعوة الرسل، ومن أقوى من بين ذلك الخلل: أبو الحسن الندوي في كتابه (التفسير السياسي للإسلام)، ووحيد الدين خان في كتابه (خطأ في التفسير). الثانية: مزاحمة مفهوم العبودية بالدعوة إلى الحرية والثورة على الاستبداد، فقد غدونا نسمع في المجالس ونقرأ في المنتديات أن الرسل إنما جاءت لتحرر الإنسان من الاستبداد، ونقرأ أن مفهوم التوحيد والعبادة يرجع إلى مفهوم الحرية، أو أن مفهوم الحرية معنى أصلي في التوحيد، ونسمع أن الإنسان لا يكون كامل التوحيد حتى يتخلص من كل أنواع الاستبداد، ونقرأ أن جوهر جهاد الأنبياء يرجع إلى الانقلاب على الظلمة، بل سمعنا من يقول إن عبودية الاستبداد تفوق عبودية الوثن، ووجدنا من يقول إن الفكرة المحورية في الأديان هي الانتصار للمستضعفين. ولما اطلع بعض الباحثين على هذه العبارات وغيرها أخذ يقول إن أصحابها يقصدون اختزال دعوة الرسل في الدعوة إلى الحرية، وأنهم يقللون من أهمية الشرك بالله في العبادة، وأنهم يؤخرون منزلته عن الحرية. وإذا اعتبرنا أحوال كثير من عقلاء المشتغلين بالدعوة إلى الحرية والمختصين في شأن الإنكار على الاستبداد لا نرى ذلك الوصف منطبقا عليهم، بل هو توصيف مخالف للحقيقة، فهم لم يقصدوا إلى اختزال مفهوم التوحيد في الحرية ولم يقصدوا إلى التقليل من خطورة الشرك في العبادة. ومكمن الخطأ في نظري راجع إلى معنى آخر، وهو أن تلك العبارات يدل ظاهرها على مزاحمة مفهوم العبادة بمفهوم الحرية، ويدل على مساواة لوازم العبودية لله تعالى بالمعاني المتضمنة فيها، ونحن إذا توجهنا بالتحليل إلى تلك الأفكار، وحاكمناها إلى نصوص الشريعة، فإنا نقف في النصوص على أن المحور الأساسي الذي سعى الإسلام لغرسه في قلوب الناس هو مفهوم العبودية، ولم يركز على مفهوم الاستبداد أو الحرية كمحور ومرتكز لدعوة الرسل، نعم هناك إشارات إلى هذا المفهوم، ولكنها لا تعدوا أن تكون مجرد إشارات لا تنقله وتؤهله لأن يكون مزاحما لمفهوم العبودية، أو يكون عنصرا أساسيا فيها بحيث إذا انخرم يقع الخلل في مفهوم العبادة!، وإنما هو مثله مثل أي طاعة أخرى. فمما لا شك فيه أن كل الطاعات تدخل في مفهوم العبودية، وكل المعاصي تدخل في مفهوم الشرك من جهة أنها نتيجة الخضوع للهوى والنفس والشيطان، ففعل الزنى - مثلا - يمكن أن نجعله من الشرك، وأنه نتيجة الخضوع لاستبداد الهوى, ولكن هذا لا يبرر لنا أن نجعل الدعوة إلى ترك الزنى محورا أساسيا في دعوة الرسل، وإنما هو تابع للمحور.

ثم إنا لو عقدنا مقارنة بين لفظ (العبادة) ومفهوم (العبودية) وبين لفظ (الحرية) ومفهوم (تحرير الإنسان من الاستبداد) لوجدنا أن مفهوم العبودية يتضمن معاني لا توجد في مفهوم الحرية، فهو يحمل معنى الحب والذل والخوف والرجاء والإجلال، وهذه المعاني لا يتضمنها لفظ الحرية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يصح شرعا ولا عقلا ولا ذوقا أن نزاحم به لفظ العبادة الذي يتضمن معاني روحية عميقة بلفظ آخر مادي جاف، ولا أن نرفعه لنساويه به، وإنما يجب علينا أن نجعل مرتكز دعوة الرسل قائم على مفهوم العبودية لله، ونجعل المعاني الأخرى اللازمة له والناتجة عنه ومنها الحرية تابعة له لا مزاحمة ولا مساوية. وهذا لا يعني أنا نمنع من استعمال لفظ الحرية في التعبير عن المعاني الشرعية بإطلاق، ولكن غاية ما يعني أنه لا يصح أن نجعله مساويا للفظ الشرعي في المعنى ولا في الدلالة المتضمنة. ثم إنا لو طالعنا النصوص الشرعية لوجدناها تدل على أنه لا علاقة بين العبودية كمالا ونقصا وبين الحرية كمالا ونقصا، فقد يكون الإنسان كامل الدين مع أنه ناقص الحرية، فقد كان عدد من الصحابة من الرقيق والعبيد، ولا يصح أن نصفهم بنقص الدين لأنهم عبيد، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بالجنة وهو حي يعيش على الأرض، بل إن الشريعة أقرت نظام الرق والعبودية، وهو من أسوأ ما يضاد الحرية، ومع هذا لم تعد الشريعة هذا النظام مناقضا لأصل مفهوم العبودية لله تعالى ولا لكماله، ولو كان كذلك لسعت إلى محاربته كما سعت إلى محاربة عبادة الأوثان، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرقيق ليسلم بين يديه لم يكن يقول له إنك عبد مسلوب الحرية أو ناقصها، فلا تقبل منك عبودية الله أو لا يمكن أن تكون كامل العبودية، ولم يكن يحرضه على الثورة على سيده، بل كان يقبل منه إعلانه لتوحيده. وهذه الدلالة من أظهر الدلالات وأقواها على أن الحرية لا يجوز لها أن تزاحم العبودية، وإنما هي متأخرة عنها بمراحل كبيرة، وكذلك يدل على أن الحرية ليست معنى أساسيا في التوحيد والعبادة؛ إذ لو كانت كذلك لما رضي النبي صلى الله عليه وسلم بوجود نظام يكرسها، ولابد لنا أن نؤكد على أن الدلالة في هذا الدليل راجعة إلى إقرار الشريعة لنظام الرق لا في إلزام السيد بالعدل مع عبده، فإن المطالبة بالعدل معه وبترك ظلمه لا يرفع عنه كونه مسلوب الحرية التي تميز بها العبد الذي ليس برقيق. ودلت النصوص الشرعية على أنه إذا تعارض حفظ الدين مع ما ينقص حرية الناس ويوقع عليه الاستبداد، دلت على أنه يجب تقديم ما يحفظ الدين للناس، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيار أئمتكم من تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون، عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك، قال: لا ما أقاموا لكم الصلاة)) (مسلم 1855). وهذا المعنى - وهو أن مفهوم الحرية والثورة على الاستبداد لا يصح أن يزاحم مفهوم العبودية وأنه ليس معنى أساسيا في نفيها- هو ما فهمه العلماء والفقهاء والمحدثون الذين ثاروا على الاستبداد وعلى الظلم والبغي وأكل أموال الناس بغير حق، فإنهم لما ثاروا على دولة بني أمية لأجل ما حصل منهم من استبداد، لم يقل أحد منهم الحرية أو الثورة على الاستبداد هو أساس دعوة الرسل ولم يجعل أحد منهم الدعوة إلى الحرية هو جوهر التوحيد، ولم يقل أحد منهم إن الحرية من أصول المعاني العبادية، أو أن من لم يثر على الاستبداد توحيده ناقض وعبوديته مخرومة، كل ذلك لم يحصل منهم، وإنما قدروا الانحراف قدره وأنزلوه منزلته.

ونحن هنا لا نريد أن نقلل من أهمية الدعوة إلى محاربة الاستبداد ولا إلى إزالة الشرعية عن مشروع المطالبة بحقوق الأمة المسلوبة، فالدعوة إلى ذلك عمل شرعي واجب على عموم الأمة. بل إن محاربة الاستبداد والمطالبة بحقوق الأمة يكون في كثير من الأحوال أولى وأوجب شرعا من الدعوة إلى محاربة بعض البدع التي لا تقدح في أصل الدين. وإن الإنسان الحريص على الاكتمال في مشروع الإسلام الكبير يسعد حين يرى من يقوم بهذا الواجب الكفائي، تأصيلا وبيانا وتطبيقا، فلا يشك عاقل فضلا عن عارف بنصوص الشريعة أن هذا عمل جليل فاضل، ولا يشك عارف بالواقع في أن ما سلب من حقوق الأمة شيء كبير جدا، يوجب علينا مساندة من تكلف بالعمل فيه ومعاونته، ولكن هذا كله لا يبرر لنا أن نرفع من قدر الثورة على الاستبداد حتى نجعلها مزاحمة لمقصود العبودية لله تعالى، ولا يبرر لنا أن نجعل المعنى الأبرز في دعوة الرسل هو الثورة على الاستبداد، ولا يبرر لنا أن نجعل جوهر العبادة راجع إلى الحرية، ولا يبرر لنا أن نجعل كمال الدين مرتبط بكمال الحرية. فمهما كان الخطأ الذي يتضمنه الاستبداد ومهما كانت الجريمة التي يتضمنها السطو على حقوق الناس، فهذا لا يبرر لنا أن نرفعها فوق القدر الذي تستحقه في الشريعة، أفرأيتم لو أن مجتمعا ما شاعت فيه فاحشة الزنى شيوعا كبيرا، فهل هذا الشيوع يبرر لمن أدرك خطورة هذه الفاحشة وأراد إصلاح ذلك الفساد أن يجعل محاربة الزنى محورا أساسيا في دعوة الرسل؟! ويصور للناس أن الرسل إنما جاءت حتى تمنع الزنى؟! ويستدل على ذلك بقصة لوط عليه السلام، أو أن مجتمعا شاع فيه الربا، فهل يحق لمن أراد أن يصلح هذا الخلل أن يجعل محاربة الربا محورا أساسيا في دعوة الرسل؟! ويصور للناس أن الرسل إنما جاءت حتى تمنع الربا؟!! ويستدل على ذلك بقصة شعيب عليه السلام. وحين نقدم هذه الرؤية النقدية لا نريد أن ننكر على المختصين في مجال الحرية كثرة ذكرهم للظلم والاستبداد، ولا كثرة إلحاحهم على بيان خطورة السطو على حقوق الأمة، ولا نريد أن نلزمهم بالدعوة إلى التوحيد والعبادة أو بكثرة ذكره كما يفعلون مع الحرية، فإنا لو ألزمناهم بذلك لوجب علينا إلزام المشتغلين بالنحو والمشتغلين بالبلاغة والمشتغلين بأصول الفقه؛ أن يكثروا من الدعوة إلى التوحيد وبيان معانيه كما يكثر النحاة من ذكر الاسم والفعل والحرف، وكما يكثر البلاغيون من ذكر الاستعارة والتشبيه، وكما يكثر الأصوليون من الواجب والمندوب والقياس والنسخ، وهذا ما لم يقل به أحد. فليس محل النقد إذن اللهج بمبدأ الحرية ولا كثرة الاشتغال به ولا التخصص فيه، وإنما ينحصر محل النقد في استعمال العبارات التي تجعل الدعوة إلى الحرية والثورة على الاستبداد محورا أساسيا في دعوة الرسل، ويدخل في النقد استعمال العبارات التي توحي باختزال مهمة الرسل في الدعوة إلى الحرية حتى قال بعض الكتاب: (إن عبودية الاستبداد تفوق عبودية الوثن). فهي دعوة إلى التوازن في الطرح وتقدير كل شيء قدره بميزان الشرع.

الفتوى وتغيير المجتمعات

الفتوى وتغيير المجتمعات محمد بن شاكر الشريف 9شوال1431هـ يراد بالفتوى الإخبار بالحكم الشرعي أو بيانه في الواقعة المرادة، والفتوى تقوم بمهمة تأسيس العقائد والمعارف، كما تقوم بمهمة تغييرها وتعديلها، ولها من التقدير والتبجيل عند مجموع الأمة المسلمة ما يعطيها المكانة العالية والقمة السامقة التي لا يكاد يدانيها شيء في ذلك. ومنصب الفتوى منصب عظيم لمن قام بحقه إذ المفتي مخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بما يحبه ويرضاه أو بما يكرهه ويبغضه، ومن كان متفقها في الدين فهو ممن أراد الله به خيرا كما قال الرسول الأمين: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" كما أن المفتين الفقهاء هم سادة الأمة الذين يرجع الناس إليهم ويفزعون إليهم في الملمات، حتى يطلق عليهم بعض أهل العلم لقب "الموقعون عن رب العالمين" من أجل ذلك اعتمدها الصلحاء وأهل الخير لتصحيح العقائد ومقاومة الانحراف السلوكي والفكري، واستعانوا بها في تحقيق مرادهم من أقصر طريق. وفي الجانب المقابل اعتمدها أهل السلطان في تدعيم سلطانهم، من أجل ذلك قربوا إليهم من أهل العلم والفتوى من يرون تعلقه بالدنيا وأعطوهم من حطامها الفاني الذي مهما كثر فلن يدوم وأعطاهم أولئك في مقابل ذلك الفتاوى التي تؤيد مسالكهم والتي يتحصنون بها في مواجهة معارضيهم ومنتقديهم، كما اعتمدها أهل الأهواء في التلبيس على العامة لنشر بدعهم وضلالاتهم. كما اعتمد عليها أعداء الأمة والملة لاختراق المجتمعات وتغيير القناعات وإفساد العقائد والتصورات والسلوكيات، وقد ساعدت التقنيات الحديثة والتطور الهائل في وسائل الاتصال لإحداث طفرة غير مسبوقة في هذا المجال، فما أن تصدر فتوى في جانب من المعمورة إلا ونجد صداها يتردد بين جنباتها الأخرى. وفي ظل مجتمعات مسلمة تتقيد بالأحكام الشرعية وترى في ذلك حياتها وحيويتها، تكون الفتوى الشرعية من أكبر العوامل التي تسهم في تغيير المجتمعات ونقلها من طور إلى طور. عندما تكون الفتوى متقيدة ومنضبطة بالنصوص الشرعية والقواعد الفقهية والمنهج الصحيح في الفهم والاستنباط، يكون التغير منطقيا متفاعلا مع الواقع ويتم ذلك في سلاسة من غير طفرات، لا يشعر الناس معه بقطيعة مع ما كان سائدا، بل يراه متماشيا معه حتى وإن خالفه؛ لأن كليهما صادر عن المرجعية نفسها ومن خلال المنهج نفسه. وعندما تكون الفتوى انتقائية هوجاء لا هدف لها سوى تغيير المفاهيم، أو التناغم مع مؤثرات دخيلة، وليس استجابة لواقع ببيان حكمه، يكون التغيير حادا يشعر الناس معه بقطيعة فكرية ووجدانية مع ما كان سائدا، وربما يظهر بجانبه خطاب التبديع أو التفسيق لما كان سائدا، وربما التكفير (في الفتاوى الغالية)، وتكون الفتوى في هذه الحالة هي المنشئة للواقع، بحيث تقحمه في حياة الناس إقحاما، ويكون من نتيجة ذلك تتذبذب القناعات عند كثير من الناس ليس بالتشكك فقط فيما كان سائدا، بل ربما بالاقتناع بالجديد المغاير والدفاع عنه ومحاولة الاستدلال له بالعقل والنقل ودعوة الناس له، فينتج من ذلك فساد عريض في الحياة العلمية والعملية، ويكثر الحديث والجدل حول هذه المواضيع حتى يصرف الناس عن الأمور الهامة والتي تؤثر في دنياهم وأخراهم.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، ومع ضغط المجتمع الغربي المباين للإسلام، وضعف كثير من الأنظمة في مواجهة الضغوط، انفلت زمام الثبات على المعلوم المستقر من مذاهب أهل العلم، واتسع الخرق على الراتق في الفتاوى المخالفة لما عليه جماهير المسلمين ولما استقر عليه العمل قرونا متطاولة، وبدأت تظهر المقولات الفاسدة من غير أن تجد لها رادعا قويا يردعها، وكان الرد في كثير من أمره يحدث على استحياء، بل في غالب الأحيان نجد من يقبلها ويروج لها- حتى ينجو هؤلاء من وصمة الإرهاب التي اتخذها الصليبيون سيفا مصلتا على رقاب المسلمين- وقدمهم الإعلام وأبرزوهم وأسبغت عليهم الألقاب والهالات حتى طغت صورهم وأسماؤهم، وتوارى خلفها العلماء الربانيون وفي الطرف المقابل أُهمل كثير من الثقات من أهل العلم المشهود لهم على طول العالم الإسلامي وعرضه بالعلم والتقوى والإخلاص لدينهم والحرص على مجتمعهم، فلم يُرجع إليهم ولم يُؤخذ بقولهم، بل حجم دور بعضهم وتطاول كثير من الرويبضات على الرموز الشامخة منهم. ففي الجانب السياسي نجد كثيرا من المعاهدات المبرمة بين بعض الدول الإسلامية وبين الدول الغربية لم يؤخذ رأي الفقهاء فيها ولم يشتركوا في صياغتها، بل ولا يعلمون على وجه التفصيل ما اشتملت عليه من التزامات، ودورهم فيها لا يتجاوز إعلان شرعيتها بعد توقيعها ليس لموافقتها للأحكام الشرعية، وإنما تحسينا للظن بمن وقعها، رغم ما قد يقع فيها من طوام. ودخل كثير ممن لا يحسن الفهم والاستنباط في الفتوى، وظن أن وضعه الذي هو فيه يعطيه الحق في الإفتاء، فنجد كثيرا ممن يعملون في الإعلام: في الصحافة أو في الإذاعة المسموعة أو الإذاعة المرئية، من يدلي برأيه في المسائل الخطيرة التي لا يَحْسُن الكلام فيها إلا من الراسخين في العلم بل نجد من أهل الفن كالأغاني أو الرقص أو التمثيل من يتكلم في ذلك بما يبين صواب مسلكه مدعيا بعض الكلمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، كقولهم: الإسلام لا يحارب الفن، أو الإسلام لا يقف في سبيل الإبداع، أو الإسلام يرفض التشدد والتنطع ويرتبون على ذلك حل أنواع الفنون المختلفة كالأغاني والموسيقى والتمثيل والرقص والرسم والنحت ولو لذوات الأرواح بدعوى أن تحريم ذلك كان في أول الإسلام. هناك ممن ينتسبون إلى العلم من يتعامل مع الفتوى الشرعية وكأنها من ممتلكاته الخاصة، التي يحق له أن يعطي منها ما شاء لمن يشاء، وكأنه ليس مقيدا بنصوص شرعية، أو محكوما بقواعد أصولية في استنباط الأحكام الشرعية، نجد هذا المسلك في كل أو جُل ما يتعلق بمعاملة الكفار والمشركين، الذين تم الاستعاضة عنهم بلفظ "الآخر"، وما يتعلق بأهل الذمة- ساكني دار الإسلام من غير المسلمين- الذين تم الاستعاضة عنهم بلفظ "الإخوة أو شركاء الوطن".

إن الأحكام الشرعية ليست من كيس أحد، ولا يحق لأي مسلم مهما كانت منزلته العلمية ولو كان شيخ إسلام، أو وجاهته الدنيوية ولو كان أميرا أو رئيسا أو ملكا، أن يدخل أية تعديلات على الأحكام الشرعية، بل محاولة إدخال هذه التعديلات تقدح في دين من يحاولها، إذ عبودية المسلم لربه والإذعان لسلطانه، تقتضى قبول كل ما شرعه والتسليم له، وهو ما سجله ربنا تبارك وتعالى في قوله: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون"، وقوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" ومنذ أن شنت أمريكا وحلفاؤها الحرب على الإسلام تحت ذريعة محاربة الإرهاب، لم تنقطع الفتاوى المناقضة للدين تحت مسميات متعددة تستخدم في غير مواضعها، كالتسامح والوحدة الوطنية وحقوق الإنسان وغير ذلك من المسميات. والحقيقة أن وظيفة المفتي ومكانته ودوره تقتضي منه التحرز فيما يفتي به ولا يتابع هواه وألا يستدرج من قبل بعض المغرضين أو يستغفل من قبل بعض الساسة أو أصحاب السلطان فيقع في الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مسارعة في مرضاتهم وتحقيقا للمكانة لديهم. نماذج من الفتاوى التغيرية: فوجيء المسلمون بالعديد من الفتاوى التي لا فائدة من ورائها سوى تغريب المجتمعات وإفسادها، والتي تمثل استجابة لضغوطات المؤسسات أو الهيئات أو التوجهات المناوئة للإسلام: 1 - صدمتنا الفتوى الموقع عليها من عدد من ينظر إليهم على أنهم من العلماء التي تقول إنه يجوز للمسلم الأمريكي أو البريطاني ونحوه العامل في جيش بلاده أن يقاتل معهم إذا حدثت مواجهة عسكرية بين بلده وبين بلد إسلامي ولو أدى ذلك لقتل إخوانه من المسلمين وذلك إثباتا لولائه لبلده، فقدموا الولاء للوطن ولو كان دار كفر على الولاء لله ورسوله والمؤمنين. 2 - فوجئنا بمن يفتي لدولة نصرانية علمانية بأنه يحق لها أن تسن قانونا يمنع على المسلمات التقيد بلباسهن الشرعي، وأن على المسلمات الرضوخ للقوانين التي تتدخل في حقوقهن الشرعية بالمنع، وأن من لا يروق لها ذلك فعليها أن تهاجر من بلدها الذي هو موطنها وموطن آبائها وأجدادها، وليس لها وطن غيره. 3 - استقرت الفتوى عقودا طويلة على أن فوائد البنوك ربا جلي وصدر بذلك فتاوى من عدد من المجامع الفقهية، حتى ظهر من يتبجح ويقول بحل الفوائد وأنها ليست من الربا ويقول عن البنوك الربوية إنها أكثر التزاما بالشرع من البنوك الإسلامية مجرئا بذلك المسلمين على أكل الحرام، ومثبتا للبنوك على نهجها الخاطئ ووأد أية بادرة لتوبة البنوك ورجوعها عن الربا. 4 - وجدنا من يفتي بجواز أن ترضع المرأة الموظفة زميلها في العمل حتى يكون محرما لها للنجاة من عوار مشكلات الاختلاط، ولو طولب هذا المفتي أن يبين لنا قول شراح الحديث في شرح الحديث الذي يستدل به لكفه ذلك عن كثير من قوله في هذه المسألة. 5 - ثم وجدنا من يقول بجواز فك السحر بالسحر. 6 - ووجدنا بعد ذلك من يتطوع بالإفتاء بحل الاختلاط ويجهد نفسه في البحث والتنقيب عما يمكن أن يستدل به لرأيه حتى جاء من ذلك بما يتعجب منه غاية التعجب. 7 - ومنذ وقت قريب وجدنا من يقول بحل الأغاني حتى ما كان منها مصحوبا بالآلات، ويخطأ جمهور أهل العلم القائل بعكس ذلك. فهذه عينة من الفتاوى التي لو عمل بها جرفت المجتمع بعيدا عن دائرة السداد وأدخلته في دوائر متعددة من الانحراف.

مجتمع تزيغ فيه العقائد حيث الذهاب للسحرة والاستعانة بهم، وتضيع فيه معاني الولاء والبراء حيث يقدم الولاء للتراب على الولاء للعقيدة، ويتعيش من المال الحرام حيث يشيع التعامل بالربا، وتفسد الأخلاق حيث يشيع الاختلاط، وتضيع معاني الرجولة حيث الاستماع للأغاني المصحوبة بآلات الطرب، وغير ذلك مما يترتب على تلك الفتاوى، فلو تصورنا المجتمع وقد وصل إلى تلك الحالة جراء تلك الفتاوى بعد علينا تصور أن ذلك المجتمع ينتمي إلى المنظومة الإسلامية علاج ذلك: الفتاوى التغيرية تحتاج إلى علاج ناجع يكف ضررها عن الملة والأمة، علاج تشارك فيه أكثر من جهة: 1 - جهة المستفتين: وذلك بنشر الوعي بينهم حيث لا يستفتون إلا من يُوثق في دينه وأمانته وعلمه، ولا يكتفون في ذلك بمجرد ظهوره في فضائية، أو بقدرته الوعظية، فالفتوى غير الوعظ وغير الترغيب والترهيب، والفتوى أمرها خطير ولو كانت في أمر يظن الناس أنه سهل، وقد كان يتهيب من الإقدام عليها كثير من أهل العلم فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول" فلا ينبغي للمستفتي أن يسأل إلا ثقة ولا يقبل منه قولا إلا أن يبين له دليله إن كان يفهم الدليل، أو يبين له عمن أخذه من أهل العلم، وعلى المستفتي أن يعلم أن أغلب من يفتي مهما بلغ علمه فليس مجتهدا مطلقا وإنما هو تابع لمذهب من المذاهب المعروفة، ومن ثم فليس له إلا أن ينقل عن المذهب، ولو أن المستفتي طلب من المفتي أن ينقل له نص إمامه أو نص المذهب لمنع المفتي من كثير من الفتاوى التي يطلقها بغير زمام ولا خطام قد يقول المفتي: ما قلته هو نص الحديث النبوي، ورغم إقرارنا أن الحديث الصحيح حجة بنفسه ولا يحتاج في ذلك أن يكون قال به قائل، لكننا قد لا نثق في تطبيق المفتي للحديث على الواقعة المعروضة، لذا نطلب منه أن يخبرنا مَن من أهل العلم قبله فهم من الحديث الفهم الذي يقول به. 2 - جهة المفتين: حيث يعلم المفتي الخطورة التي وضع نفسه فيها بارتقائه ذاك المرتقى الصعب، كما جاء في الحديث: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" قال المناوي: "لأن المفتي مبين عن الله حكمه فإذا أفتى على جهل أو بغير ما علمه أو تهاون في تحريره أو استنباطه فقد تسبب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكام الجبار" وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} (يوسف: 59) قال الزمخشري: كفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفتر على الله تعالى"، وقال ابن المنكدر: "المفتي يدخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يفعل فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر". 3 - جهة الولاية: حيث إن ولاة أمر المسلمين مكلفون بالحفاظ على دين المسلمين كما هم مكلفون بالحفاظ على دنياهم، لذا فإن من واجب ولاة الأمر الحجر على المفتين الذين يفسدون بفتاواهم الدين، وذلك كالمفتين الذين يفتون بالأقوال الشاذة ويتتبعون زلات العلماء، أو الذين يعلمون الناس الحيل حتى يتفلتوا من الأحكام الشرعية، أو الذين يفتون وهم غير مؤهلين للفتيا، ورحم الله ربيعة شيخ مالك حينما قال: لَبعض من يفتي هنا أحق بالسجن من السراق، ورحم الله الحنفية عندما أفتوا بالحجر على المفتي الماجن (الماجن: من لديه الآلة الفقهية لكن تنقصه الأمانة العلمية، فيفتي الناس بما يحبون ويدلهم على الحيل)، وقالوا: هو أحق بالحجر من الذي يمارس الطب وليس بطبيب، فإذا كان من يتطبب وليس هو بطبيب يفسد الأبدان، فإن من يفتي وليس هو بمفت حقيقة يفسد الأديان. نسأل الله تعالى من فضله أن يحمي مجتمعاتنا من زلل الفتوى وخطلها وأن يوفق أهل العلم لقول الحق والثبات عليه، وألا يضعفوا أمام الواقع فيكون دورهم البحث عن مخارج له لا قيادته وتغ ييره ليكون موافقا لشرع الله تعالى. المصدر: مجلة البيان

دراسة علمية شرعية

دراسة علمية شرعية مجموعة من الباحثين الشرعيين 5 شوال 1431هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد: طالعتنا الصحف يوم الاثنين الرابع من شهر شوال لعام 1431هـ بإدانة من عدد قليل من الفعاليات الشيعية لما يقوم به المدعو ياسر الحبيب وصهره مجتبى الشيرازي من كفريات في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وطالعتنا الصحف بعدد من المباركات والتشكرات من عدد من الكتاب السعوديين لأولئك. وقد قرأنا جميع ما نقل عنهم فلم نجد فيه ما يحملنا على شكرهم أو الزعم بأن ما صدر عنهم يصب في خانة الوحدة الوطنية والسعي إليها, وذلك للأمور التالية: أولاً: موقف ياسر الحبيب ليس موقفاً معزولاً عن التراث المعتمد عند مراجع الشيعة, فكتبهم المعتمدة في مذهبهم تقول في عائشة الأقوال الخبيثة نفسها التي تفوه بها ياسر الحبيب وصهره الشيرازي، ومن قبلهم محمد العاملي مؤلف كتاب "خيانة عائشة". ومن هذه الكتب "الكافي" للكليني, و "الأنوار النعمانية", و "من لا يحضره الفقيه", و "بحار الأنوار", و "تفسير القمي" و "مشارق أنوار اليقين" و "البرهان في تفسير القرآن" و "الهداية الكبرى" وغيرها من المصادر القديمة. وأيضاً توجد هذه العقيدة في المراجع المعاصرة كـ "مصباح الفقاهة" و "حق اليقين في معرفة أصول الدين"، وكتاب (خيانة عائشة) للعاملي, وغيرها. ومع هذا فإن هؤلاء المثقفين الشيعة ينصّون بأن ما يقوله ياسر الحبيب لا يمت للمذهب بصلة، وهذا ما يجعلنا نشعر بأن ما صدر عنهم هو نوع من أنواع الاستغفال, إذ كيف تُجمع مصادر الشيعة على هذه العقيدة العفنة ثم يقول هؤلاء: إنها لا تمت للمذهب بصلة. لذلك فإن المنتظر منهم أن يتبرأوا من القول أياً كان قائله، والرد على هذه المصادر، والنقد الصريح لما فيها والبراءة منها كما تبرأوا من الحبيب وصهره. ولذلك فبراءة هؤلاء المثقفين من ياسر الحبيب ليست كافية في تبرئة الشيعة من هذا المعتقد الخبيث ما لم تتم البراءة من القول نفسه وممن قاله أياً كان، كل ذلك فضلاً عن قلة عدد المتبرئين إذا ما قورن بعدد من أعلن غضبه حينما صدرت بعض التصريحات ضد السيستاني. ثانياً: كل ما قرأناه ليس فيه حديث عن تبرئة عائشة رضي الله عنها من الكفر أو الفسق, وكل ما وجدناه إنما هو البراءة من ياسر الحبيب ومن صهره ومن قولهم هذا. ولم يأت عنهم نص على براءة عائشة رضي الله عنها مما ينسبه هؤلاء إليها. ولم يتحدث أحد من هؤلاء عن طهارتها وعفتها إلا بطريق التلميح، كاستنكارهم لأن يتعرض أحد للحديث عن عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم تجويزهم إيذاءه صلى الله عليه وآله وسلم, والحقيقة أن المسألة أكبر من ذلك. ثالثا: الشيعة الاثني عشرية يؤمنون بالمرجعية, وكل فرد منهم له مرجعه العظيم، كما يسمونهم, ولهذا فإن أي بيان من طلبة علم ومثقفين لا يعبر في نظر الشيعة عن المذهب. وفي كل ما قرأناه لم نقرأ نقلا من أحد هؤلاء المثقفين عن أحد هؤلاء المراجع, وكلهم -أي المراجع- مع الأسف لا يوجد بينهم سعودي واحد. رابعاً: المصرّحون بالطعن على عائشة رضي الله عنها، منهم من يحمل لقب آية الله وهو مجتبى الشيرازي، وهذا اللقب لا يحمله أحد ممن تبرأ من ياسر الحبيب, ولا يخفى أن التدرج اللقبي له وزنه الكبير لدى الشيعة. خامساً: لا شك أن ما يتفوه به ياسر الحبيب ومن لف لفه تكذيب للقرآن الكريم الذي برأ عائشة رضي الله عنها وحكم على متهميها بالنفاق. لهذا فإن مجرد استنكار قول ياسر الحبيب غير كاف في إدانته بل المطلوب النص على حكم مكذب القرآن أو آية منه عند الشيعة وتطبيقه على ياسر الحبيب.

سادساً: قرأنا ما صدر عن المجمع العالمي لأهل البيت في أواخر شهر رمضان من استنكار لما يدلي به ياسر الحبيب من تصريحات، فلاحظنا أنه يعتمد على التلبيس على الأمة واستغلال جهلها بمصادر الشيعة لتمرير بعض المغالطات, من ذلك عدم ذكرهم لاسم عائشة رضي الله عنها ولا وصفها رضي الله عنها بأم المؤمنين, وهذا الوصف اكتسبته رضي الله عنها بقطعي القرآن (وأزواجه أمهاتهم) , كما أن البيان ينفي نسبة الطعن فيها إلى المذهب الشيعي بل ينسبها إلى الاستعمار, وهذا تلبيس عظيم لما قدمناه من عراقة هذه العقيدة في مصادر التشيع, وكذلك تأكيد البيان أن سبب صدوره هو منطلقات مصلحية وليس غضبة لأم المؤمنين وللقرآن الكريم الذي ثبتت فيه براءتها رضي الله عنها. كما أن البيان ينسب لأئمة الشيعة بشكل إجمالي تحريم التطاول على عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل البيان نصاً واحداً يحرم قذف عائشة رضي الله عنها أو تكفيرها أو تفسيقها. سابعاً: استشهدوا بالخميني في مقام المدح له على تصدّيه لسلمان رشدي مع أن عقيدة الخميني في أم المؤمنين رضي الله عنها هي خلاف ما حاولوا إيهام الناس به، حيث وصفها في كتابه المسمى (كتاب الطهارة) بأنها أخبث من الكلاب والخنازير! وأخيرا فإننا على يقين بأن كثيراً ممن سيقرأ ما كتبناه، سيصنفونه من باب ترسيخ العداوة والحقد والانفصام بين مكونات الوطن, والحقيقة أن ما نقوله يصب في خدمة التوافق والتعايش على أسس صحيحة ومتينة، وليس على أسس هشة وموهومة, ولو سكت هؤلاء المثقفون الشيعة عن البراءة أصلاً لما طالبهم أحد بها, أما وقد بادروا من تلقاء أنفسهم، فمن حقنا أن نطالبهم ببناء براءتهم هذه على أسس متينة قوية لها صفة الديمومة والبقاء, لا على أسس هشة تتغير بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة. دراسة علمية شرعية كتبها ودققها: - د/ محمد بن إبراهيم السعيدي (عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى). - د/ خالد بن محمد الغيث (عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة). - الشيخ توفيق مصيري (عضو الهيئة العالمية للسنة النبوية) .. - الشيخ خالد بن أحمد الزهراني (عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق والمذاهب بالجامعة الإسلامية). - د فاروق الشمري (كاتب ومفكر إسلامي). - د/ محمد بن سليمان البراك (أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى). - الشيخ عبدالله بن سليمان الشايع (عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض). - الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الحمد (رئيس قسم التوعية بإدارة الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني). - الشيخ عبدالله بن محمد الزقيل (كاتب ومفكر إسلامي). - د/ عبدالعزيز بن عبدالله المبدل (الأستاذ بكلية التربية بجامعة الملك سعود). - د/ عبدالرحمن بن جميل القصاص (أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى). - د إبراهيم بن علي الحذيفي (أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى). - الشيخ خالد بن إبراهيم الصقعبي (المستشار الأسري). - د/ صالح بن عبدالله الملحم (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالأحساء). - الشيخ جازع بن عبدالعزيز الدوسري (نائب مكتب الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني بالمدينة السكنية). - د/ عبدالله بن محمد الحكمي (عضو متقاعد بهيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض). - الشيخ منذر النابلسي (الأمين العام بلجنة الدفاع عن عقيدة أهل السنة بفلسطين). - د/ محمد بن إبراهيم النعيم (عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل بالإحساء). - الشيخ عبدالله حيدري (باحث إيراني). - الشيخ صالح بن محمد الحمودي (الداعية الإسلامي المعروف). - الشيخ عمر بن عبدالعزيز بالطيور (القاضي بديوان المظالم بجدة). - د/ إبراهيم عباس (استشاري). - الشيخ تركي بن علي اللطيف (باحث في شؤون الفرق).

بين (مقاصد الشريعة) و (مقاصد النفوس)!

بين (مقاصد الشريعة) و (مقاصد النفوس)! فهد بن صالح العجلان (نحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعية) و (لا بد من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدث عن هذه القضية). وعبارات أخرى مختلفة، ستسمعها - ولا بد - عند أي رؤية منحرفة تتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية؛ فعامة الانحراف المعاصر حين يتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية الجزئية فإنه لا بد - في سياق تجاوزه لأي حكم وإنكاره له - أن يرفع لافتة (المقاصد الشرعية) كتصريح شرعي للمارسات غير الشرعية. المقاصد الشرعية التي كتب فيها فقهاء الإسلام بدءاً من الجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي تختلف اختلافاً تاماً عن هذه المقاصد التي يُشِيع كثير من الناس الحديث فيها؛ فالمقاصد عند فقهاء الإسلام قواعد كلية مستخرَجة من استقراء كلي لكافة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصح أن يُردَّ بها أيُّ حكم أو نص جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترِجم المقاصدَ التي تريدها (نفوسهم) وتميل إليها (اختياراتهم) ويسعون من خلالها لرد جملة من النصوص والأحكام غير المرغوب فيها. من أهم قواعد المقاصد الشرعية أن لا يُردَّ بها أي حكم جزئي، فإذا ثبت نص شرعي أو حكم فقهي فلا يجوز أن يُنقَض ويُتجاوَز بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصدية؛ فهذا باطل لا علاقة له بعلم المقاصد (فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكماً شرعياً ليس بحق في نفسه) (¬1). وإذا كانت المقاصد الشرعية تقوم على ضرورة اعتبار (الكليات) فإنها تقوم على اعتبار الجزئيات كذلك (كما أن من أخذ بالجزئي مُعرِضَاً عن كليِّه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي مُعرِضَاً عن جزئيِّه) (¬2). فالمقاصد الشرعية تعتمد على تفاصيل الأحكام الجزئية، تقوم عليها، ولا تنكرها، بل حتى ولو وُجِد تعارض بين قاعدة مقاصدية وحكم جزئي تفصيلي فإن المنهج الصحيح في ذلك ليس إنكار الجزئي بل (إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع في النظر بينهما) (¬3). فإذا وصل الأمر إلى حصول تعارض بين (الكليات) و (الفروع) فهذا يستدعي الجمع بينهما لأهمية كلٍّ من الكليات والفروع التفصيلية، وهو شيء لا يفهمه (مقاصديو النفوس)؛ حيث ينكرون النصوص والأحكام الشرعية ثم يبحثون بعد هذا عن الطريقة المقاصدية المناسبة لرفض مثل هذه الأحكام! لقد كان الشاطبي مدركاً غاية الإدراك خطورة استعمال المقاصد من غير المؤهلين، ولأجله منعهم من موافقاته وجعلهم في حرج من قراءته أو الاستفادة منه: (لا يُسمَح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظرَ مفيدٍ أو مستفيدٍ حتى يكون ريَّان من علم الشريعة؛ أصولها وفروعها، معقولها ومنقولها) (¬4). كما أطال الحديث عن ضرورة العناية بالجزئيات، وأن المقاصد لا تقوم إلا عليها، وهذا كله لإدراكه أن طبيعة المقاصد وما فيها من كليات عامة يستدعي دخولَ غير المؤهلين واستغلالَ بعض المنحرفين، وهو ما يؤدي إلى تعطيل الشريعة، وهذا ما دعا بعض المنحرفين الذين يفهمون حقيقة المقاصد الشرعية أن يسمي المقاصد بأنها (تبرير) للأحكام الشرعية ليس إلا، وقد صدق؛ فالمقاصد ليست إلا بحثاًَ عن (فلسفة) لقواعد وعلل للشريعة من خلال الأحكام والنصوص، فإذا وُجِد نص مخالف فإن المقاصد تعدَّل في (الفلسفة) حتى تدخل هذا الحكم لا أن تلغيه لمخالفته للمقاصد. ¬

(¬1) الموافقات للشاطبي: 2/ 556. (¬2) الموافقات: 3/ 8. (¬3) الموافقات: 3/ 9. (¬4) الموافقات: 1/ 78.

إن دعوتهم للأخذ بالمقاصد لإسقاط بعض الأحكام الشرعية يؤدي إلى نسف الشريعة بكاملها، وتعطيل كافة أحكامها، وإسقاط قطعياتها وضرورياتها، وليس عسيراً على أي أحد أن ينفي أي حكم شرعي ويربط ذلك بمقاصد عُليَا، وقد مارس المعاصرون في ذلك من ألوان العدوان على الأحكام الشرعية ما لا يحصيه إلا الله؛ فـ (الحدود الشرعية) منافية لمقصد الشريعة في الرحمة وإشاعة الأمن و (حد الردة) منافٍ لمقصد الشريعة في التسامح والحرية و (الحجاب) منافٍ لتكريم المرأة و (كل فتوى بتحريم أي حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج و (الحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم) يتعارض مع مقصد إرساله رحمة للعالمين و (حرمة الربا) أو (منع المحرمات) يؤدي إلى حصول حرج ومشقة تنافي مقصد الشريعة. ولأجل ذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية بصيراً بأمر عموميات المقاصد حين قال: (فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر) (¬1). فهذه المقاصد الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي يشترك فيها عامة الناس، فاختصاص الشريعة إنما يكون بتفصيل هذه المقاصد وشرحها وتقييدها فإذا ألغى الإنسان الاعتبار بها لم يكن قد أخذ من الشريعة بشيء. وهكذا تغيب أحكام الشريعة الجزئية، بسبب مخالفتها لمقاصد (النفوس) - كما يسميها بعض الفضلاء - فهي مقاصد لما تريده نفوسهم وأهواؤهم وما يتوافق مع شهواتهم جعلوها قواعد كلية تحاكَم إليها النصوص والأحكام الفقهية، وتلك (النفوس) تكاد تُحصَر مقاصدها في الجانب الدنيوي المحض، وهو ما يختلف تماماً عن المقاصد الشرعية المستفادة من نصوص الكتاب والسُّنة التي تدلك على أن (الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية) (¬2). بل إن المصالح الدنيوية تابعة للمصالح الأخروية؛ فـ (المصالح المجتلَبة شرعاً والمفاسد المستدفَعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية) (¬3). وإذا كانت إشاعة علم المقاصد الشرعية ضروريةً في مرحلةٍ ما لشيوع التعصب والجهل والتضييق على الناس، فإن المبالغة في تقرير المقاصد الشرعية وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عند عامة الناس - وقد اختلف الحال - سيكون على حساب تعظيم النص الشرعي والانقياد له، وسيكون سبباً لظهور مقاصد النفوس لتُشِيع عبثَها وانحرافَها بدعوى (مقاصد الشريعة). المصدر: مجلة البيان ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية: 5/ 130. (¬2) الموافقات: 2/ 350. (¬3) الموافقات: 2/ 351.

بـ اسم سبتمبر

بـ اسم سبتمبر د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان 4شوال 1431هـ تحل الذكرى السابعة لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول، ويبقى ذلك الثلاثاء من أكثر الأيام إثارة للجدل، ولا تزال الآراء والتحليلات ووجهات النظر حول ما جرى مستمرة ومتباينة. الحدث كان قاسياً على المجتمع الأمريكي، إلا أن ردة الفعل على ذلك الحدث كانت أقسى على الكثير من المجتمعات والدول والشعوب. هل كانت تلك الأحداث تستحق - من أجلها - أن تُسحق شعوبٌ بأكملها؟ هل كانت تلك الأحداث تستحق أن تحتل أفغانستان والعراق؟ ومن يدري ما القادم على خارطة الشرق الأوسط الجديد! وفقاً للفوضى الخلاقة التي وعدت بها وزيرة الخارجية الأمريكية "كونداليزا رايس"!! أما أعلن الرئيس الأمريكي "جورج بوش" بعد الهجمات بأنه سيقود حرباً (صليبية) تمتد لعشر سنوات تطال 60 دولة؟! هل حقاً كانت أحداث سبتمبر تستحق كل ما جرى باسمها؟ هل حقاً ما زال هناك ما يبرر أحداث القتل اليومية التي تطال المدنيين سواء في أفغانستان أو العراق؟ هل حقاً كانت تلك الحروب انتقاماً لضحايا سبتمبر؟ هل حقاً ما يقال بأن هجمات سبتمبر وما نتج عنها من تداعيات خطيرة كانت وراءها أيادٍ صهيونية خبيثة أرادت من هذا الحدث الذي هزَّ العالم أن توقف المدَّ الإسلامي وتشوِّه صورة الإسلام والمسلمين وتتخذ من هذه الهجمات ذريعة للهيمنة على العالم الإسلامي واستلاب خيراته؟ لعل كثيراً من الشواهد على هذه المقولة ستظهر وستُكشَف لنا بعد ذهاب الحكومة الأمريكية الحالية. هل كانت أحداث سبتمبر إعادة سيناريو لما جرى في ميناء بيرل هاربور عام 1941هـ، لتلقي أمريكا بعدها قنابلها الذرية على مدينة هيروشيما في السادس من أغسطس سنة 1945م وتدمر 90% من المدينة وتقتل ما يزيد على 80.000 شخص، وتجرح 90.000 آخرين، وتكمل الدمار بعد ثلاثة أيام بقنبلة أخرى على مدينة ناجازاكي، قتل على أثرها أكثر من 75.000 شخص. لقد كانت الإمبراطورية اليابانية تحتضر - في ذلك الحين - ولم يكن الأمر يستدعي قنبلتين نوويتين لإرغام اليابان على الاستسلام، ولكنه الطغيان والعلو وإرادة فرض السيطرة على العالم. هل حقاً تسود الأمم بالموت؟ هل حقاً تنتصر الأمم بنشر الفتنة بين الشعوب؟ هل حقاً يكتب المجد والتاريخ للقتلة وتجار الموت؟ نحسب أن جماجم الضحايا الذين قتلوا باسم سبتمبر لو جمعت فسوف تبني أبراجاً أعلى من أبراج مركز التجارة العالمي. تعالوا وابحثوا في سيرة رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، ونقبوا في تاريخ أمتنا الطويل، لن تروا إلا العدل والسماحة والرحمة والوفاء، ليس في التجارة وليس في العلاقات السياسية والدبلوماسية فحسب بل حتى في الحروب وفي ساحات القتال, لا والله ما عرف التاريخ الإنساني أرحم ولا أعدل ولا أكرم من المقاتل المسلم, ولم يكن قتالهم لأجل السيطرة على الشعوب وإذلالها, وظلمها واستلاب خيراتها, وإنما كان لإعلاء كلمة الله, وإقامة العدل في الأرض, وتحرير العباد من عبادة الطواغيت وسائر المخلوقات إلى عبادة رب الأرض والسماوات, وإخراجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. لقد فتح الفاتحون القلوب قبل الحصون، لقد كانت أخلاقهم تسبق خيولهم، لقد صنعوا الحياة والحضارة، كيف لا! وهم من أدركوا تعاليم الإسلام الخالدة.

قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الممتحنة/ 8) فأمر بالبر بهم, والإحسان إليهم, وهو أمر فوق العدل معهم, الذي هو واجب حتى مع الكفار المحاربين, كما قال ربنا عزوجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. (المائدة/8) وقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة/190) فأمرنا الله بقتال من يقاتلوننا, ونهانا عن ظلمهم والعدوان عليهم وترك العدل معهم حتى في حال مقاتلتهم كالتمثيل بجثثهم أو قتل من لا شأن له بالقتال من نسائهم وأطفالهم وشيوخهم وعبَّادهم. أما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: " اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ... " أخرجه مسلم. فاغزوا باسم سبتمبر .. أو باسم ما تشاءون .. ولكنا لن نغزو إلا باسم الله .. إنا نريد أن ننقذ الناس، إن ديننا هو دين الرحمة للعالمين، لن تهلك خير الأمم، لن يقضي على دين الله طاغوت أو مستكبر، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة النور/55). وستمضي هذه الرسالة، وسيمتد نورها بجهاد الحجة والبرهان وجهاد السيف والسنان، قال صلى الله عليه وسلم: " لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام وَذُلاًّ يُذِلُّ الله به الْكُفْرَ " أخرجه أحمد والحاكم. وقال صلى الله عليه وسلم:" بَشِّرْ هذه الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ في الأرض فَمَنْ عَمِلَ منهم عمل الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لم يَكُنْ له في الآخِرَةِ نَصِيبٌ " أخرجه احمد والحاكم وصححه الألباني. قال تعالى: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف/21).

على هامش حجب المواقع وإيقاف القنوات

على هامش حجب المواقع وإيقاف القنوات عبد الوهاب آل غظيف 28 رمضان 1431هـ سلسة من الإجراءت التي تصنف في دائرة التضييق تم إيقاعها مؤخرا بعدد من رجالات العلم والدعوة، تمثلت في حجب مواقع، وإيقاف قنوات، وخدمات تواصلية كرسائل الجوال وغير ذلك، وربما نسمع مزيدا في قابل الأيام، وقد كانت مثارا لكثير من الأسئلة، وكثير من التعليقات التي تمحورت حول هوية هذه الإجراءات وهل كانت بدافع من الغيرة على الدين وصيانة الفتوى (فأينها عن عبث الليبراليين بالدين؟) وما علاقتها بموقف المشايخ أنفسهم من الحريات والحجر على الآراء، وكذلك التنبؤ بمآلاتها بعد صدور الآلية التطبيقية للتوجيه الملكي من قبل سماحة المفتي بعد العيد كما وعدنا، في أشياء أخر كانت حديث الناس بعد هذه الوقائع. وبين يدي وقفة متواضعة: لأمهد بما هو ذكرى للمؤمنين، محذراً من التعلق بالماديات والأسباب بعيدا عن مسببها سبحانه، فليس شيء من العقبات المادية كفيلا بأن يفت في عضد أهل الحق أو يخذلهم عن الحق الذي معهم أو يعيق همتهم في الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، فإن مما يحمده الرب ويحبه أن يغالب عباده المشاق ويتحملون الأذى في سبيل الدعوة إليه، ولقد كلفهم سبحانه بذلك ووعدهم في كتابه وعلى لسان رسوله بمضاعفة الثواب، ولم يطلب منهم ولا كلفهم أن يسيطروا على الناس أو يضمنوا قبولهم الدعوة وأخذهم بها، ولذا كانت هذه المعوقات المادية كلها بأمر الله الكوني وتحت تدبيره، ليرى من أوليائه صدق الإيمان والثبات على الحق وقوة التمسك به والثقة بالله وليرى منهم اطراح التعويل على الماديات وعدم الركون إليها هذا الحديث الناظر بعين الإيجابية لواقعِ مقدرٍ، يجري في نسق واحد مع الحديث الإيجابي في الجهة الأخرى، الجهة التي تكون فيها الحصانة لأهل الحق كما هي لأهل الباطل، التي يساوى فيها بين الحق والباطل في ضمانات التعبير، جهة الحرية الوضعية التي يبررها أصحابها بقولهم: إنه (لا خوف على الحق منها، لأنها ستكون مجالا للتدافع وفي النهاية لن يسبق الباطلُ فيها الحقَ)، حسنا .. نفس الكلام يردده المناوئون للحرية الوضعية حال فرضها، وهو - كسابقه المسلي حال القمع - ينظر بعين الإيجابية للواقع الذي تختلط فيه الأفكار، وكما لا يحتمل الكلام الأول أي قدر من تبرير أو تشريع حالة القمع، فكذلك الثاني لا يحتمل تبريرا للحرية الوضعية ولا تشريعا لها، هو كلام متجه لوصف الحسن من الحالتين فحسب، ولا يعني أنه لا توجد حالة ثالثة أفضل منهما، تكون هي المشروعة والمبررة، يطرح فيها ما لا يحتمله الشرع من رأي، ويكفل فيها حق التعبير لكل رأي لا يخالف الشرع، تمييزا للحق عن الباطل، ودفعا للباطل عن الحق. (انخرط البعض في تدبيج مواعظ الحريات) التي تنطوي على قدر لا بأس به من لوم المشايخ وتأنيبهم كونهم لم يطالبوا بالحريات ولم يكفلوها في خطابهم الدعوي، بل ساغ فيه قمع الآراء المخالفة لهم، فكان ما يتجرعونه الآن نتيجة لهذا الخطاب، ونتيجة لمطالباتهم بالحجر على الآراء، وصاحب ذلك اللوم روح من الثقة دفعتهم إلى التلويح بالحل السحري الذي يملكونه وهو الكفيل بإنهاء أزمة المشايخ، والمتمثل في ضمان الحرية، لا حرية التعبير بالحق فحسب، بل (الحرية للجميع) كما كتبوها في تعويذاتهم. ونحو الوقوف على حقيقة الدعوى بطرفيها (أن خطاب المشايخ هو سبب ما حصل لهم وأن الحل يكمن في الحرية) لا بد لنا من تمييز موقف هؤلاء إلى مستويين: الأول: المطالب بضمان الحرية للجميع في الخطاب الدعوي وتبديل الموقف من الحرية. الثاني: المطالب بضمان حرية الاختلاف الفقهي، ويعزوا ما حدث إلى المطالبة بالحجر على الأقوال الشاذة.

وفي إطار المستوى الأول نقول: إننا لا زلنا نسمع منهم أنه لا وجود للحرية المطلقة، وأن التزاحم يدفع باتجاه تحديد الحريات، عليه فلا اعتراض على مبدأ التحديد، وإذا جئنا للمعيار الذي تحدد الحريات على ضوءه فهو عند المشايخ يكون في الشريعة فما تحتمله الشريعة من رأي فهو مكفول، وما يصادمها فباطل مردود، فإذا كنتم لا توافقون على هذا المعيار وتفترضون معيار آخر يحد الحريات فأنتم في النهاية تحدون الحرية، فليس نصبكم عقبة الحرية كفيلا بإلغاء التحديد الشرعي إلا إذا كان كفيلا بإلغاء تحديدكم، وأنتم تقرون أنها ليست مطلقة! أما أن تروا الحل يكمن في تنازل المشايخ عن تحديدهم للحرية مقابل أخذهم بتحديدكم فإنهم يقولون لكم: لا فرق عندنا بين منع المحقين، وبين حصانة المبطلين، فكلاهما يضران بالمبدأ الشرعي الذي نراه حقا، فحالكم في زعمكم أن الحل في حريتكم كحال المستجير من الرمضاء بالنار، وليس الحل في أن يكون الحق الذي دلت عليه الشريعة مكفولا بإزاء الباطل الذي مع أهل الضلال، ليستويا في الميزان كبديل عن قمع الحق وإسكاته، من دون أن يكون الحل في الحق المهيمن على غيره والحاكم عليه ومن يتحدث عن (الحق الذي لا يضره الباطل)، وعن (التدافع بين الحق والباطل)، وعن (الرأي الذي يدفع برأي) لا مكان لحديثه هنا، إذ كل هذه المقررات لم تكن كفيلة بإتاحة الأحكام الجاهلية الأخرى لتنافس الحكم بالإسلام داخل الدولة المسلمة، ولا تكفل توفير بيئة للكفار للدعوة إلى عقائدهم والصدع بشعائرهم من داخل المجتمع المسلم بزعم التدافع، وإن كنا نرددها ونمتثلها حال التعاطي مع الدول الأخرى التي لا تحكم بالإسلام، ومع الكفار الذين ينشرون عقائدهم من بلادهم، فهي عبارات جميلة تتجه لمحاسن واقع معين مفروض والتعاطي معه لا تحتمل تشريع هذا الواقع ولا تبريره كما سلفت الإشارة بذلك أما في إطار المستوى الثاني: فإني لا أعرف أحدا من المشايخ صادر الخلاف الفقهي أو قال بعدم احترامه، ودعوتهم للحجر على أصحاب الفتاوى الشاذة لا يمكن جعلها مصادرة للخلاف الفقهي، لما يلي: أنها متوجهة إلى الأقوال الشاذة والمفردات المرجوحة، التي استقر أمر الناس على خلافها من الآراء الأشهر أو الأقرب للدليل التي إن لم تكن حقا فليست بباطل قطعا، والتعبير بما يخالف هذه الآراء أحدث بلبلة وشوش على الناس، ولربما عاد بضعف هيبة الشريعة في نفوسهم، فسوغوا المنع هنا فقط، فآل إلى كونه منعاً ضيقاً لا منعاً للخلاف الفقهي كما يطلقون، قابل مسوغوه بين مصلحة الفرد في التعبير عن رأيه، ومصلحة الجماعة في توحيد العمل على الأرجح بعيدا عما يشوش عليهم، فقدموا مصلحة الجماعة، وهذا من جنس التنظيم الذي يقر به أرباب الحرية حال التزاحم، وليس في معنى ما وقع على المشايخ من مصادرة تعبيرهم مطلقا ومنعهم عن قول الحق إلا بإذن. ولعلي أختم - بعد هذه الوقفة المتواضعة - بتلخيص يتمثل في: أن ما ادعاه البعض من كون المشايخ تجرعوا ما نادوا به غير دقيق، فإن ما نادوا به من حجر - وأنا هنا أبرره لا أوافقه - لا يحتمل منع الخلاف المعتبر السائغ اجتماعيا (كيف وهم يختلفون في آرائهم الفقهية ويشهرون هذا الاختلاف؟) فضلاً عن أن يحتمل المنع من قول الحق كما هو الذي وقع عليهم. كما أن ما يزعمه البعض من كون الحل يكمن في تشريع الحرية وضمانها بدل مناوئتها وإبطالها، هو زعم متهافت، لا يعدوا أن يكون استغلالا للأزمة، لتمرير المبدأ المخالف في تحديد الحرية تحت ستار الحل، والحل ممكن بالتحديد الشرعي للحرية الذي يتمثله المشايخ. والله أعلم

أبشركم .. مسلسل القعقاع حقق أكثر نسبة مشاهدة!

أبشركم .. مسلسل القعقاع حقق أكثر نسبة مشاهدة! أحمد بن صالح الزهراني 18رمضان1431هـ أصبح بعض من أشربوا في قلوبهم الإعلام والأضواء مصبوغين بصبغة البيئات الّتي يعيشون فيها، وأصبحت المعاني الشرعية والأصول الدينية في مرتبة متأخرة .. هذا لا نقوله عن عامة، وإنّما نقوله عن منتسبين للعلم وأكثر من ذلك أن يكونوا متزيّين بزيّ الديّن والتمسّك. هذا الزّيّ الّذي أصبح في عصرنا بضاعة رائجة وسلعة ثمينة يُماكس صاحبها بما أراد، وسبحان الله العظيم، لاحظت شيئا في الدين يختلف عن كلّ السّلع الّتي يتاجر بها أصحابها .. فكل السلع تصبح باهضة الثمن وتُقابل بالكثير كلّما غلا ثمنها وزادت نفاسة عند أصحابها .. إلاّ الدّين، فكلّما رخص وابتُذل وهان على صاحبه كلّما جلب له المزيد والمزيد من حظوظ الدنيا .. ولهذا كان عند السّلف من أشدّ النّاس هوانا من باع دينه أو ابتاع به .. هذ استطراد قد لا يكون له علاقة بالموضوع وإنّما جاء على ذكر التزيّي بالدين .. أقول إنّ بعض النّاس للأسف استبدل المعايير الإعلامية وألفاظ الإعلاميين بالمعاني والألفاظ الشّرعيّة .. وهذا أمر طبيعي فإنّ جرَبَ هذه القنوات الهابطة الّتي يتعاملون معها يعدي أشدّ مما يعدي جرب البعير الأجرب، ولهذا كان وصية السّلف بالمباعدة من أهل الأهواء والأفكار المنحرفة وأهل الفسوق في محلّها متجاوبة مع النص القرآني. اليوم اطلعت على مقابلة مع الدكتور علي الصلابي متحدثا عن مسلسل القعقاع بن عمرو التميمي الذي هو ممن شارك بوضع مادته التاريخية كما فهمت من اللقاء .. وكان الدكتور منتشياً بأنّ المسلسل (حقّق أكبر مشاهدة للمسلسلات التاريخية) .. لا أخفيكم سراً .. ذهبت لأحد المواقع وبحثت عن مقاطع من هذا المسلسل إذ ساورني الشك بعد هذه الفرحة العامرة من الدكتور أن يكون المسلسل خاليا من المنكرات .. ووجدت ما يندى له جبين من بقي معظما لحرمات الله من وجود النساء والموسيقى .. إضافة إلى الاعتداء على حرمة الصحابة بتمثيلهم من قبل فساق الممثلين وقيل إنّ بعضهم نصارى .. والعجيب أنّ الدكتور لما ذُكر له اعتراض البعض بوجود المخالفات الشّرعية عزف مباشرة مقطوعة المصالح والاختلاف وغير ذلك من شنشنة المتفلتين من أحكام الله .. ولا أريد أن أفوّت أنّ في بعض المقاطع نطقا مضحكا للغة يزدريه متعلم مبتدئ فضلاً عن أن تكون تلك لغة بني تميم .. ومما لاحظته - وصادف ذلك قراءتي لبعض النقد للمسلسل قبلاً - الإصرار على مدح قبيلة بني تميم وأنّها لا تذلّ ولا تخضع وغير ذلك من الألفاظ الّتي أشعرتني بصدق ما ذكر من أنّ اختيار شخصية القعقاع محورا للمسلسل جاء عمداً استجلابا لأموال حكام قطر .. عموما ليس هذا مهما عندي .. وإنّما يهمني انتشاء الدكتور الصلابي بكثرة المشاهدين وتهاونه في أحكام الشريعة هو ومن معه من فقهاء فقه المعجنات! بالله عليكم تأملوا معي ما رواه ربيع بن عتاب قال: كنت أمشي مع زياد ابن جرير فسمع رجلاً يحلف بالأمانة، قال: فنظرت إليه وهو يبكي، قلت: ما يبكيك؟ فقال: أما سمعت هذا يحلف بالأمانة؟! فلئن تُحكّ أحشائي حتى تدمى أحبّ إليّ من أحلف بالأمانة». انتهى من حلية الأولياء. أرأيت كيف هي منزلة حرمات الله عند من يعظّمها؟ ترى هل تأثر الدكتور الصلابي ومن معه من منظر السافرات في المسلسل؟ هل اهتزّ فؤاد أحدهم من منظر بعضهم وهو يمسك بجسد امرأة لا تحلّ له وهي تكلمه بغنج ودلال؟ ألم ينزعج من أصوات المعازف الّتي توعّد الله مستحلّها بالهلاك؟ ألم تبكي عيونهم من بقاء النساء بلا محارم في اختلاط وخلوة وتلامس غير مأمون مع رجال لا يحلون لهم؟ ألم تهتزّ مشاعرهم أن يمثل دور الصحابة المجاهرون بالفسق من ممثلين وممثلات؟ ألم يفكر هو ومن معه كم حكما شرعيا أعرضوا عنه وأهملوه واستخفوا به بذريعة الخلاف والمصالح؟ ألم يعنّ لهم كم بابا فتحوه لأعداء الله ليقعوا في صحابة رسول الله بدعوى تمثيل أدوارهم في عصر لا ضوابط فيه ولا قوانين؟ لقد كان الغرب وفساق الشرق يتهيبون الصحابة عندما كان أهل الدين يتهيبونهم .. فالآن وقد فتحتم الباب لمن يمثل هذا وذاك فغدا سيمثل كل إنسان ما شاء بدعوى العرض التاريخي والتثقيف .. وستصبح شخصيّات الصحابة لعبة بيد فسقة المنتجين والمخرجين وقنوات أبعد ما تكون عن الدين والفضيلة .. كم بابا من الخير تركه السلف وتحرجوا منه خوفا من أن يُتخذ طريقا للمخالفين وأعداء الملة .. فهل أنتم خير منهم وأكثر غيرة على الدين وأكثر حرصاً على نشر الإسلام .. بالله عليكم لا تلبسوا على الناس ولا تخلطوا أهواءكم بمصالح الشريعة .. وفلتات ألسنتكم تعرب عمّا تكنّه صدوركم .. أكثر مشاهدة .. أصبحت فتنة الفتن لهؤلاء المتهوكين الذين جعلوا دين الله لعبة بيد رؤوس الفتنة ودعاة الضلالة من ملاك الفضائيات ومروجيها .. لا يهم كم شريعة سقطت وكم حرمة انتهكت .. المهم تحصيل أكبر نسبة مشاهدة .. والله المستعان ..

حتى لا يتهاوى القدوات

حَتّى لا يَتَهاوَى القٌدَواَت د. حمزة بن فايع الفتحي 9 رمضان 1431هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن والاه وبعد فإن من الإشعاعات الإيمانية التي ينشرها الله في حياة الأمة المسلمة، بزوغ أنوار تشرق في العلم، والعمل التربية والسمت الحسن، ربما تعلم الناس من هديهم وأخلاقهم أكثر من محاضراتهم ودروسهم، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاتحة الاقتداء، وعنوان الائتساء، من حين ما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الاحزاب: 21]. وجعل الله تعالى منهج الاقتداء بين الناس سنة متوارثة، ينقلها جيل إلى جيل، فقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الانعام: 90]. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]. ولم يحك الله تعالى عشرات القصص القرآني والأخبار التاريخية إلا لمزيد القدوة والاعتبار. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]. ومن هذا المنهاج النبوي، ومن المدرسة المحمدية يبزغ علماء وصالحون، ومربون وعباد ينفع الله بعلومهم وأعمالهم وتعبق أخلاقهم ومواقفهم، ويصبحون حديث الناس حسناً وحباً وأقتداء، بسبب صدقهم وعلمهم، وجمال دينهم وإخباتهم. ومن ثم يصبح لهم قبول عارم، وشعبية هائلة، وصيت زاحف، ومع ظهور وسائل الإعلام المتدفقة، صاروا نجوماً يُهتدى بها، ومنارات يُستضاء بذكرها وفتاويها. وهذا مكسب باهر للدعوة الإسلامية، خليق بنا أن نحافظ عليه، وأن نعزز جذوره وقوائمه، لأن التربية بالقدوة أفق تأثير باذخ، وسبيل نصر قادم، ورب كلمة، أو وقفة، أو سلوك لعالم رباني، تبلغ ما بلغ الليل والنهار، ولا يزال الناس يتحدثون عن قدوات ربانية كأبي حنيفة وأحمد والشافعي والأوزاعي والثوري وابن المبارك، ... وابن باز والألباني وابن عثيمين وغيرهم لم تنقض مباهجهم، ولا جفت مكارمهم، رحمهم الله تعالى .. لكن من الملحوظ في هذا الزمان الصعب المتغير، وتعاظم الفتن، وقلة الناصحين، وغياب المنهجية الدعوية المتكاملة، يبدو في الآفاق تناقص في الأخيار، وتهاوِ في القدوات، وخلط في المفاهيم واستفراد الأفاضل المؤثرين، مما يعنى تغيراً في المنهج، وتجديداً في السلوك، ومراجعة في الفتاوى، واستسلاماً للضغوطات، التي تتفق والمنهج الإسلامي القويم. ولذا أحببت أن أنبّه هنا على خطورة تهاوي القدوات ونقص الفضلاء، كي لا نندب حظنا، ولنحافظ على مكاسبنا، ولنحقق مبدأ (التواصى بالحق)، والتواصى بالصبر، ولتبقى المسألة الدعوية الطاهرة، مصونة عن نقد فادح، أو ثلب ذامٍ وجارح. إن تهاوي بعض القدوات السابقة، والأسماء اللامعة، التي انتفعت بها الأمة، أمر مرير، مكدر للدعوة وأهلها، وفرصة للمنافقين أن يتشدقوا وينتقموا ... ! أما بالنسبة لأسباب التهاوي والتغير فهي كالتالي: 1) الاتكال على الشهرة: قال تعالى: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3].

وهذا نوع من تغير النية، وتكدر مزاهرها، حيث يبلغ العالم مبلغاً عظيماً، وينزل منزلاً كريماً، فيشعر بنشوة روحية، تجعله يعجب بما يحقق وينجز!! فينقطع عن خيراته السابقة، ويعيش على أركان الشهرة الجديدة، التي جعلت منه أحد نجوم الفضائيات، فيبدأ يختط طرقاً جديدة، ويصدر فتاوى غريبة، ومواقف غير سديدة، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: (أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أًعرف، قد بليت بالشهرة إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً) وجاء عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله (ما صدقَ اللهَ عبُد أحبَّ الشهرة) حيث يدرك هؤلاء العلماء مخاطرها، وآثارها اللهيبة على العالم القدوة ومجده الديني، وإخلاصه الخصيب. 2) اعتقاد الراحة التامة: قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. لا يمكن لعقلاء العلماء والفقهاء، أن يستريحوا من عناء الرحلة ومشاق البذل والتوجيه، لأنهم في جهاد دائم، وفي جلاد مستميت، لا سيما والأمة ضعيفة، ولازالت محتاجة إلى علمهم وتوجيهاتهم، فاعتقاد الراحة بعد طول المدة، وبدو الإنجازات، مفض إلى الاستضعاف والسكون، والظهور بوجه جديد، وطرح مغاير، لا سيما والفتن خطافة، والتيارات زاحفة والله المستعان، قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]. 3) الركون إلى الدنيا: قال تعالى: {فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل: 36]. كثيراً ما تكون مفاتن الدنيا مزلة أقدام العلماء والصلحاء إلا من عصمة الله تعالى. ولهذا صح قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) يفتح على بعضهم الوان المال، وبروق التجارة، وكثرة المباحات والمرفهات، فيميل إليها ميلاً، تضر سمعته، وتعكر درسه ومنهاجه، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر منافقي أمتي قراؤها)) 4) ولوج الشبهات: قال تعالى: {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51]. الشبهات أمور دائرة بين الحل والحرمة، تخفى على كثير من الناس، لكن يمهرها حذاق أهل العلم، ومن مهرها، قد يتساهل في التباعد عنها، فيقارفها بحجة الشيوع والغلبة، أو ما يسمى عموم البلوى، أو أنه سيمحوها بغلبة حسناته!! ويجره ذلك إلى استطابة المكروهات، ومن ثم التورط في بليات عظمى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث النعمان بن بشير رضى الله عنهما: (وبينهما أمور متشبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع ويروى عن عمر رضى الله عنه: (من أقام نفسه مقام التهم فلا يلومن من من أساء به الظن) 5) التأكل بالماضي: قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]. ينتج عن الارتياح التام، العيش على مباهج حياة الشباب، من صدق، وصدع، وجد وعطاء سابق، إلى عدم مضاعفة الجهد، والشعور بكثرة الأعباء، وأنه يحتاج إلى مزيد الراحة ومزيد التأمل والابتكار لأحوال تأثيرية جديدة! وهذا قد يكون مزلقاً شيطانياً، وحيلة نفسية تؤدي بصاحبها، وتورثه الكسل وتلبسه التراخي والإهمال. 6) الاغترار بالظالمين: قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113].

وهذا شكل من الركون إلى الدنيا، والإعجاب ببعض الظلمة والفساق، ممن لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، لكن يرجو منهم شفاعة، أو نيل وجاهة، أو بلوغ مكانة! فيدنو منهم ويصانعهم، وقد يزين له الشيطان صلاحهم، وإمكانية هدايتهم فيقع في مفاتنهم وشهواتهم، فيضرب في الدين خبط عشواء، وتتساقط كلمته وهيبته في الناس قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] قال الحسن رحمة الله في معناها: (لو تصانعهم في دينك فيصانعون في دينهم) وجاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)) 7) استسهال الفتن: قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]. الفتن كلمة جامعة لكل مناكد الحياة ومخاطرها وشهواتها، ومفسداتها، وهي تبدأ مع الداعية الصالح، بمشتبهاتها وصغارها، من النظرة واللمسة والمخالطة والإعجاب إلى أن تقع منه موقعاً شديداً، يصعب معه التخلص منها، ما لم ينفر منها، ويجدد الإيمان، ويديم الاستغفار، وقد جاء في الحديث الصحيح: ((تعرض الفتن عرض الحصير عوداً عوداً فأيَّ قلبٍ أُشربها نُكِت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكته بيضاء .. )) 8) إهمال التجديد الإيماني: قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. صح قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الإيمانَ ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجِّدد الإيمانَ في قلوبكم)) فتجديد الإيمان ضرورة حياتية ودعوية لابد لنا منها لاستكمال الحياة، وعيشها بهناء، وللسلامة من الفتن والأرزاء، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: (والله إني إلى الآن لأجدّد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاماً جيداً) 9) نسيان المجاهدة: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. ليس ثمة معيار أعظم من المجاهدة والمحاسبه في زمن الفتن والتخبط والأهواء لأنه درء للباطل وترسيخ للثبات على الحق، وتعميق للإيمان، وإغاظة للمنافقين. فالمؤمن وهو يلتهب بمسيل الفتن والإغراء، لابد له من جهاد نفسي، ومراغمة لما يرى ويسمع، ليسلم له الدين، ويصان الجوهر، ولا تكدر المحاسن، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} قيل معناها إتيان الأوامر، وترك الزواجر، صوناً للنفس، وطاعة لله تعالى. 10) قلة التواصى: قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. هذا منهج رباني، أهملناه كثيراً في الإطار الدعوي والعلمي، ولعل من أسباب الإهمال تمنع بعض الدعاة الكبراء من الإصغاء، واعتقاد مطلق الوصاية والتوجيه! وهذا خطأ منهجي لأن العلماء مهما سموا وعظموا، لايزالون في محيط البشرية، التي يعتريها السوء والغفلة والانخداع، فلابد من مناصحتهم وتحقيق مبدأ التواصي معهم، لئلا يجتاحهم العجب والخيلاء، ويستغلوا أو يستزلوا من قبل أعداء الدعوة، وزمر المنتفعين، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم في مسلم: (الدين النصيحة) وفي سنن أبي داود كرر ذلك ثلاثا. 11) تقصير الخاصة: قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9].

ونقصد بهم أحباء الشيخ وتلاميذه وخريجيه، ومن لهم به حظوة، ومعرفة، ويدركون مداخله ومخارجه، وله عليهم الحب والمتابعة، والنصح والتذكر، والإعانة والتسديد، فهولاء هجرهم لشيخهم في زمان الفتن، وعدم نُصْحه وتسديده، قد يؤدي إلى حضور غيرهم، وشعوره بالعزلة، فينبرى إليه غيرهم ممن لا يريد بالشيخ خيراً، وبالدعوة فضلاً وسمعة، فيوقعه في مزالق غير محمودة، ويمرر به أفكاراً مشبوهة، وفتاوى مستغربة. 12) تغيير المساق: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]. من كان يُعرف بالحزم بات للين أقرب! وحامل الجد حامل هزليات الآن، وصاحب الإنكار باتَ رهنَ العقار، والخطيب المفوة، صار فضائياً مموهاً! فقلَّ العمل، وضعف التأثير، وسادت الدنيا، وفترت الجماهير، وقلَّت القدوات، وشحَّت المراجع، وأصبحنا نخوض مع الخائضين، والله المستعان. قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. جاء عن عمر رضى الله عنه أنه قال: (استقاموا والله لله، ولم يروغوا روغانَ الثعالب) 13) مكر المتربصين: قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]. ومكر المتربصين من أعداء الدعوة، لا ينتهى عند يوم وليلة، أو حادثة أو حادثتين بل تخطيط مستمر، وتربص دائم، وتدبير طويل {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] يبدأ أول ما يبدأ بالرصد والمتابعة ثم الإهداء والاغراء!، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النحل: 36]. وقد عرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألوان الملك والشرف والمال والسيادة، لتعيقه عن هدفه، أو تخفف شدته وقناعته، فأبى واختار الحزم معهم، لعلمه بخطورة ذلك على الدعوة والنفس والأتباع. وقد كان هذا من منة الله تعالى عليه، أن ثبته وصانه عن مكرهم وإغراءاتهم قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الاسراء: 73 - 74]. وهذا في نظرنا من أعظم أسباب تغير القدوات، وعدم إدراكهم بمكر المتربصين، الذي لا ينصب على مجرد الحرب والقمع والاضطهاد، بل يتلون ويأخذ شكلاً دنيوياً وإغرائياً ليتم لهم مسخ الإسلام وإشاعة الفساد والفحشاء من خلال وعاء كبير يسمى (سياسة الاحتواء) ثم إذا أسقطهم، ألقى بهم لنكبات الدهر، وإلى سلة الإهمال. كما قبل: ... وقضى حاجتهَ منهم وغشاهم فُضولُ ... عنهم استغنى كما استغنى عن النعل البخيلُ. ... وهذا مقصد وسياسة لكثير من المتربصين من المنافقين والشهواينين الذين يرون في الإسلام ودعاته، عقبة كأداء أمام مشاريعهم التخريبية والتغريبية، لأنهم، بتعليم الغرب- يدركون أن تحول المجتمعات المسلمة لا يكون إلا عبر عقول داخلية، وجلود عربية، وليست من الخارج، كما صنع في مصر حيث استفيد من الشيخ محمد عبده، ورفاعة طهطاوي، والكواكبي وغيرهم لتمرير بعض المشاريع الفاسدة، وإلى تلبس لباس العلم والفهم والتنوير .. والعلماء القدوات، ورقة رابحة إذا بُدلِّت، وتلوعب بأفكارها ومشاريعها، ولا حول وقوة إلا بالله. (اللهم ثبتنا على دينك، واحفظ علماءنا وخيارنا من كل غائلة وسوء) آمين. 14) الاجتهاد غير المضبوط:

وهو الآتي في سياق غريب يقفو العجائب، ويحمل الشواذ ويتتبع الرخص، ويستظل بمظلة الذوبان والانهزام، ويخرج عن إرادة الأمة المسلمة، فضلاً عن جمهرة العلماء الراسخين، وقد قال الامام أحمد رحمه الله للميموني: (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام) وقال الناظم: ونزه النفس فلا تشذَّا كذا الترخص ورعاً ونبذاً. ويقصد هنا الاجتهادات التي تكون في دائرة الشذوذ والأخطاء، ولا يدعمها النظر الشرعي، ويحفها شئ من الاندفاع أو الاغترار أحياناً!! وقد يجعلها صاحبها في إطار التجديد الفقهي، والتفاعل المجتمعي الذي تفرضه المرحلة .. ومن الأمثله هنا: تجويز هجرة الفلسطينيين من أراضيهم لشدة العنت عليهم، وبشبه ذلك منع مقاومة الاحتلال الأمريكى في العراق وأفغانستان بحجة حقن الدماء، ووجود حاكم من الاحتلال، أو ظهور فضلاء الدعاة في قنوات خليعة ذات بعد فكري واستراتيجي هادم، أو الظهور في قنوات صهيونية، وهو الشائع مؤخراً، وتناسي أنه صورة للتطبيع الذي هو من آخر الأوراق البا! قية في أيدي الأمة، وخرقه يعني انكسار الحاجز النفسي لدى الشعوب العربية تجاه الصهيونية الغاصبة. (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) (التوبة:95). (15) امتهان القيمة العلمية يعمد بعض الفضلاء إلى امتهان ونسيان المجد العلمي، والقيمة الفقهية والدعوية الشريفة، التي بوّأه الله تعالى فيقارف أخطاء، ويلم بشبهات، وينزلق في مباحات، ترفع عنها عوام المسلمين!! وهو لايرى فيها غضاضة، فيراه بعض الناس، وتنشر ذلك وسائل الاعلام!! فيفقد شيئا من شعبيته ولموعه، أو ربما طلَع علينا بتعليق حماسي، أو اجهاد جديد، يسوِّغ مثل ذلك! وينسى أن العلماء والقدوات، والدعاه الربانيين لهم (وضع خاص)، ومنزلة رفيعة، ما ينبغى لهم نسيانها أو استسهالها، حتى مما يتعلق بالمروءه، التي منها أشياء لا تلامس المحرمات! ولكنها مروءة، يهتم بها المشاهدون والمتاب! عون ولذلك قال أبو عمروالأوزاعي رحمه الله. (كنا نضحك ونمزح، فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا إلا التبسم) فالعالم المقتدى به محل نظر الناس ورصدهم، وكل أقواله وحركاته محفوظة متبوعة، فيجب عليه صون ذلك، لأنه يحظى بوسام علمي وذاتي!! مهما أظهر تواضعه، وعزفه على بشريته! فإنه ركن الدين ومنارته، ويسوغ لغيره ما لا يسوغ له! فكل تساهل وهفوة تشوه الوسام العلمي، وقيمته، كالنكته السوداء تتعاظم مع مرور الأيام، والله المستعان .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

نظرة في الاتجاه العقلاني المعاصر ومظاهره

نظرة في الاتجاه العقلاني المعاصر ومظاهره د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف 23شعبان1431هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه. وبعد: فإن رصد وكشف المذاهب المنحرفة عن الصراط المستقيم من الأمور المهمة التي ينبغي الاهتمام الجاد بدراستها، وبإعطائها حقها من المتابعة والبحث، تحقيقاً لقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]. وكما قال عمر الفاروق - رضي الله عنه -: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وقد كان حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني". وإن المذهب - أو الاتجاه العقلاني المعاصر (¬1) إزاء النصوص الشرعية، من أخطر المذاهب وأشدها تضليلاً، وأكثرها تحريفاً لشرائع الإسلام الصحيح، حيث أن هذا المسلك قد انتحله عدد غير قليل من المفكرين والمثقفين، كما أنه يتضمن التلبيس والاشتباه على الكثير من المسلمين، ومن ثم فلا يستغرب أن يقوم أعداءٌ للإسلام بالكيد لهذا الدين وأهله من خلال هذا المسلك العقلي (المتحرر) والذي يرفع شعار الإسلام. إن هؤلاء العقلانيين قد جعلوا عقولهم حاكمةً على النصوص الشرعية، لقد جعلوا تلك العقول مع قصرها، ومحدودية إدراكها، وتفاوت أنواعها، وكثرة خطئها حاكمةً وقاضيةً على النصوص الشرعية الصحيحة المتلقاة من وحي معصوم من عند الله - عز وجل - {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]. وكما أنهم حكموا عقولهم على "السمع" فإنهم أيضاً جعلوا مقتضيات العصر الحديث ومستجداته ومتغيراته حاكماً - آخر - على الوحي، فهم يسعون إلى إنزال الشرع على وفق مقتضيات العصر الحاضر، ومن ثم فنجد الكثير من المحرمات شرعاً تكون سائغة عندهم ويتهاون في شأنها بدعوى تغير الزمان، وأن "الدين" ينبغي أن يكون مواكباً لتلك المتغيرات - أو الأخرى: الانحرافات - "ومباركًا" لها أحياناً كما سأذكره إن شاء الله. وفي الجملة فإن هذا المسلك العقلاني امتداد لفرقة المعتزلة المعروفة، والتي ظهرت في القرون الأولى، حيث أن هناك قواسم مشتركة بين المعتزلة الأوائل وبين أفراخهم من العقلانيين المعاصرين من حيث مصدر تلقى العقيدة، ومنهج الاستدلال، وبعض الأفكار والصفات المشتركة بين أسلاف المعتزلة وبين خلفهم من المعاصرين، ومن هذه القواسم المشتركة التي تجمع بين المعتزلة الأوائل وبين المتأخرين جعل العقل نداً للوحي، بل قد يقدمون العقل على النص الصحيح، كما نجد اتفاقاً بينهما في التبعية للمذاهب والفلسفات الأجنبية، واستباحة الخوض في الأمور الغيبية، والاستهانة بأحكام الله وشرعه، والجرأة على إثارة الشبهات والآراء الشاذة باسم التسامح الديني وحرية الفكر، كما يتفقون على مقت أهل السنة والتهوين من شأنهم، فالمعتزلة الأولى كانوا يرمون السلف الصالح بأنهم حشوية ومجسمة ونحو ذلك، وهؤلاء المعاصرون يلقبون أهل السنة بالأصوليين أو المتشددين المتزمتين وربما اتهموهم بالتشنج والحرفية وضيق الأفق (¬2). وتتمثل آراء هذا المسلك العقلاني في مظاهر فكرية متعددة نذكر منها ما يلي: ¬

(¬1) هذا الاتجاه قد يسمى مدرسة إصلاحية وأحياناً يعرف ب (عصرنة الإسلام) وربما سماه أصحابه تطويراً وتجديداً. (¬2) انظر مجلة كلية أصول الدين العدد الثالث بجامعة الإمام محمد بن سعود / الرياض، مقال "المدرسة العقلية الحديثة وصلتها بالقديمة" للشيخ ناصر العقل ص 247 - 265.

1 - مدح المعتزلة الأوائل وتبجيلهم والثناء الحسن والكثير عليهم، وممن يفعل ذلك على سبيل المثال، أحمد أمين، وزهدي جار الله، وزكي نجيب محمود. 2 - تمييع عقيدة الولاء والبراء بل (مسخ) هذه العقيدة وإسقاط هذا الأصل الأصيل من العقيدة الصحيحة، وذلك عن طريق ما يسمى بوحدة الأديان وزمالتها، أو الدعوة إلى القومية، أو الإنسانية (العالمية)، أو الدعوة إلى التقارب مع الرافضة، فمثلاً جمال الدين الفارسي (الأفغاني) دعا لوحدة الأديان (¬1). وكذا تلميذه محمد عبده (¬2). كما نادى محمد عمار ة بالقومية ووحدة الأديان (¬3) وكذا معروف الدواليبي دعا للقومية (¬4) والعالمية (¬5). 3 - تعطيل الجهاد في سبيل الله، وتضييق دائرته، وقصره على ما يسمى بـ (الدفاع) فقط بدعوى الرد على فرية المستشرقين الزاعمين أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف (¬6) كما أنهم حرفوا ما يتبع الجهاد من أحكام شرعية، فمثلاً من هؤلاء من ينكر الجزية أو يتأولها على غير معناها الصحيح، ومنهم من يبطل تقسيم الدور إلى دار إسلام ودار كفر, وهناك من يمنع الرق (يتلمس) المعاذير لدين الله - عز وجل -! وكأن دين الله - تعالى - في محل اتهام ويحتاج إلى تبرئة من تلك الدعاوى (¬7). 4 - إنكار حد الردة بدعوى حرية الفكر والرأي و (الانفتاح الفكري)! (¬8) 5 - استباحة الاختلاط بين الرجال والنساء، وتهوين الحجاب الشرعي والتساهل في شأنه، وإباحة بعض أنواع الربا، وصوره كربا الفضل، والغير المضاعف (¬9). 6 - عدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد بدعوى أنه لا يفيد العلم. 7 - إنكار بعض المعجزات النبوية وكرمات الصالحين وبعض الغيبيات، أو تأويلها تأويلاً يأباه النص كموقفهم من نزول المسيح عيسى - عليه السلام - والملائكة والجن، والطير الأبابيل، وظهور الدجال في آخر الزمان (¬10). كما أن في هؤلاء من يدعو إلى فتح باب الحوار - وعلى مصرعيه - مع الأطراف الأخرى من أصحاب الاتجاهات المنحرفة كالعلمانية أو اليساريين أو الرافضة أو النصارى ونحوهم، وكل ذلك بدعوى إثراء الفكر، وأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وقد ظهر في بعض تلك الملتقيات محاولات متكلفة للتقريب بين أفكار متباينة، والسعي إلى الالتقاء في منتصف الطريق عن طريق بعض التنازلات والمداهنات. في الختام أوصي نفسي وإخواني من أهل الإسلام الأصيل أن يتمسكوا - وبعلم وبصيرة - بعقيدة السلف الصالح، وأن يتفقهوا في دين الله - عز وجل - وأن نسعى ونتواصى لترسيخ الولاء والانتماء لمنهج أهل السنة والجماعة مهما كانوا وأياً كانوا، كما أنه يتعين علينا فقه واقعنا الحاضر، وأن ندرك بوعي وحذر وبعد نظر حقيقة هذا الاتجاه العقلاني، فنرصد كتبهم ومؤتمراتهم ومجلاتهم، ثم نكشفها أمام المسلمين، ونحذر من ضلالهم وزيفهم، وعلينا واجب النصيحة تجاه من انخدع بهذا المسلك (المتحرر) من ضوابط الشريعة، وأن نناقشهم طلباً للحق، وندعو لهم بالهداية والاستقامة، فأهل السنة - كما هو معلوم يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وأسال الله - عز وجل - أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (¬11). ¬

(¬1) انظر كتاب دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام لمصطفى غزال. (¬2) انظر كتاب الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين رحمه الله. (¬3) انظر كتابه الإسلام والوحدة القومية. (¬4) انظر كتاب فكرة القومية العربية لصالح العبود. (¬5) انظر كتابه نظرات إسلامية في الاشتراكية الثورية. (¬6) انظر المقدمة الرائعة التي كتبها سيد قطب في أول كتابه "خصائص التصور الإسلامي". (¬7) لقد تحدث د/ علي العلياني في كتابه "أهمية الجهاد" عن تلك الدعاوى ونقدها بشيء من التفصيل والبيان. (¬8) انظر كتاب دراسات في السيرة لمحمد سرور زين العابدين وكتاب تنبيه الأنام لمخالفة شلتوت الإسلام للشيخ عبد الله بن يابس - رحمه الله - حيث نقدا هذه الفكرة الخاطئة. (¬9) انظر كتاب العصريون معتزلة اليوم ليوسف كمال. (¬10) انظر كتاب منهج العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي، وكتاب دراسات في السيرة النبوية لمحمد سرور زين العابدين. (¬11) من باب الفائدة لك - أخي القارئ - فإليك بعض الكتب الجيدة التي تحدثت عن هذا المنهج العقلاني على سبيل العرض والنقد - المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم / ومفهوم تجديد الدين لبسطامي محمد سعيد / ومنهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي / ودراسات في السيرة النبوية لمحمد زين العابدين / والولاء والبراء لمحمد القحطاني / وأهمية الجهاد لعلي العلياني / والعصريون لمحمد حسين رحمه الله / ومذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب / والفكر الإسلامي المعاصر لغازي التوبة / والمستشرقون ومن تابعهم وموقفهم من ثبات الشريعة لعابد السفياني / وغزو من الداخل لجمال سلطان.

الإرجاء الفكري

الإرجاء الفكري بدر بن سعيد الغامدي 23شعبان1431هـ لَمَّا ظهر الإرجاء (¬1) في عهد السلف، وقف له أهل العلم الراسخون، العالمون بالدليلِ وحقيقةِ القول، وما عداهم لم يكن له موقف مشهود. تشهد بذلك التراجم والمصنفات التي وصلت إلينا؛ فإنه متى ما تخلل النقص في أحد هذين الأصلين: (العلم بالدليل ومقاصد الشريعة) و (حقيقة القول المخالِف) ترى تخبُّطاً وخلطاً عجيباً: إما جنايةً على الإسلام وتصويراً له على غير ما أراده الله، أو رِفعَةً من قَدْرِ المقالة المخالفة بالتسامح واللين معها مع شناعتها، ومن يمتاز بهذين الأصلين قليل اليوم؛ فإنك ترى من لديه علم بالشرع يصل إلى حدِّ الإحاطة، ولكنه ضعيف في سبر أغوار أقوال المخالفين؛ فلا يستطيع معرفة حقائقها وكشفَ عوار مكنوناتها، وإما أن تجدَ من أُشرِب هذه المقالات على قلَّة بضاعته في العلم الشرعي، فيظهر لك التخليط في كلامه. وهذا الأخير من جنس بعض رجال أهل الكلام الذين حَسُنَت نيَّتُهم، وساء عملهم، بسبب قلة علمهم بالأدلة الشرعية مع علمهم العميق بأصول علم الكلام، فأرادوا الدفاع عن الدين ولكنَّ قلَّة البضاعة الشرعية لم تُسعِفهم، وفريق منهم تسرَّبت إليه بعض شُبَه القوم، فلم يستطع أن يدفعها، فصار ينضح بها فؤادُه وينمِّقها لسانه، و (كلُّ إناء بما فيه ينضح). يقول الإمام النخعي: لَفِتنَتُهم عندي أخوَف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة (¬2)، وصدق - رحمه الله - لأن القعود عن التكليف ترغبه النفس، بعكس تَنَطُّع الخوارج الأزارقة، ونحن نعاني اليوم من تفلُّتٍ من الأوامر، وتقحُّمٍ في المناهي، مع مصيبة أعمُّ وأطمُّ، وهي: تبرير هذا وتسويغه ممن اختل عندهم أحد الأصلين السابقين، وهم منتسبون مع هذا إلى الإسلاميين. وبرز لنا إرجاء فكري، يحاول مد حبل الوصال مع الطائفتين، على غرار ما فعل الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام بين الفلسفة والإسلام؛ فأراد هؤلاء المحدَثُون: تخفيفَ شناعة بعض المقالات وتهوينها من جهة، ونبذَ التشدد والغلو (بزعمهم) من جهة؛ لينتج لنا حينها - بناءً على رأيهم -: الإسلام الوسطي. ونحن اليوم في مواجهة سيل من الأفكار الهدامة، يقف النص الشرعي سدّاً أمامها، ومتى ما عُدِمَ النص اجتاح السيل الفكر البشري فأصبحت البشرية حينها أثراً بعد عين، وعدنا كما كنا في ظلمات بعضها فوق بعض. وهذا لا يكون مع وجود الوحي المنزَّل؛ ولكن الوحي لا يسير على الأرض، بل يحمله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 32]. والإرجاء الفكري هو نوع من الخنوع والضعف أمام هذه المقالات، وصاحبُه عبدٌ لغير مُنْزِل الوحي، أسير لظنونٍ وتخرصاتٍ تكون تارة باسم (المصلحة)، وتارة باسم (المجادلة بالحسنى)، وتارة أخرى باسم (عدم التشدد والغلو) ... إلى آخِر هذه القيود والأغلال، التي هي حق أُرِيد بها باطل. والإرجاء الفكري اليوم لا يصرِّح بمقالات الإرجاء القديم، ولكنَّ أفكارَ ذاك القديم تعشِّش في فكر هذا الحديث، والمحصلة واحدة كما سبق، وهي: (التفلت من الأومر، والتقحم في النواهي) (¬3)، وكما كان أهل الإرجاء القدماء على درجات في مقالتهم، فإن أهل الإرجاء الفكري هم كذلك في فكرهم. ¬

(¬1) المرجئة طوائف يجتمعون في إخراج العمل عن مسمى الإيمان، وظهروا في أواخر عهد الصحابة، انظر الملل والنحل للشهرستاني: 1/ 139 ومجموع الفتاوى: 7/ 297 فما بعدها. (¬2) مجموع الفتاوى: 7/ 394. (¬3) سبق ذكر أن المرجئة درجات، ومنهم وإن كان يُخرِج العمل عن مسمى الإيمان؛ إلا أنه يحرص على العمل ويحث عليه ويحتفي بأهله كمرجئة الفقهاء.

من ملامح هذا الإرجاء الفكري: أولاً: عدم التصريح بالأحكام الشرعية: فيتهرب مَنْ أصيب بهذا المرض من قول: (حرام) أو (كفر) أو (شرك) لِمَا هو كذلك بالنص الشرعي، ويستبدل هذه الألفاظ الشرعية بأخرى مبتدَعة هي أخفُّ (حدَّة ووطأة) - بزعمه - على مخالفيه أو الناس عموماً؛ فيقول: (الأَوْلَى تَرْكه) مع علمه بحرمته، أو (فيه خلاف) مع أن الخلاف مطروح وغير معتَبَر؛ فيوحي إلى سامعه أن الأمر (سهل ميسور). ثانياً: عدم استخدام المصطلحات الشرعية: فلا تجد في قاموسه (كفَّار)، أو (فسَّاق)، أو (منافقون)؛ فهؤلاء لا يعيشون على الأرض، وكأنهم - لدى من أصيب بهذا المرض العضال - تاريخ مندثر ولَّى، ولا يظن ظانٌّ بأن المطلوب هو إقحام مثل هذا في الكلام إقحاماً. لا، ليس هذا المراد، بل المقصود: هو التولي عن استخدام هذا المصطلح الذي هو شرعي دلَّت عليه النصوص، إلى غيره، فيستخدم (غير المسلمين) أو (الآخر)، أو يستخدم (أهل التقصير) لمن هم رؤوس الضلالة والفجور في الأمة. ولا يخفى أن المصلطح الشرعي هو الذي لا يُطلَب به بدلٌ، ولا عنه حِوَلٌ؛ لدقة معناه، وعمق مرماه. وقد تكلم أهل العلم كابن تيمية وغيره في أهمية التمسك بالمصطلح الشرعي وأنه يزيل كثيراً من الإشكال. ثالثاً: الذلة على الكافرين، والكبر على المؤمنين: وهم بهذا يعارضون مراد الله - تعالى - حين حكى حالَ أهل الإيمان، فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 45]، وحين أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 37]؛ ولكن أهل الإرجاء الفكري تجد لديهم تمام التودد للكفار والزنادقة، ولين الخطاب والتسامح معهم، مع غلظة وشدة وجفوة واستعلاء مع إخوانهم من أهل الإيمان. رابعاً: كَتْمُ بعض النصوص الشرعية: تلك التي فيها الوعيد والتهديد، أو التي يتوهَّمون شِدَّتها وعنفها كالحدود، فيحاولون تجنُّب ذِكرِها تماماً، والتنصُّل منها؛ وكأنها غير موجودة أصلاً، مع إبرازهم في المقابل للنصوص الشرعية في الوعد والتسامح والعفو، وقد خاطب الله - تعالى - أهل الكتاب، فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 58]. خامساً: محاولة الوقوع على نقطة التقاء مع أصحاب المذاهب: فيكون أحدهم صامتاً ساكتاً ردحاً طويلاً، والأمة حوله تئن من أعدائها المختلفين في مشاربهم ومذاهبهم، وكلٌّ منهم ينهشها نهشاً، وهو لا يحرك ساكناً؛ فإذا رأى قولاً لصاحب فكر منحرف أو مذهب هدَّام بادر لإعلان الموافقة، وتعاضُدِ الفكرة، وهو في هذا كله يغض الطَّرْف عن الانحرافات الكفرية أو البدعية أو الهدامة؛ فلا ينبه الناس عليها، فيكون عند ذلك الغش الذي يتسرب لعموم المسلمين: أن الشيخ فلان وافق فلاناً فهو على الخير، فنال تزكية لدى عوام الناس؛ فلا يمسُّه بعد هذا نكير، إلا وصاح الناس في المنكِر عليه باطلَه أخذاً بتزكية من أصيب بالإرجاء الفكري من قَبْلُ.

سادساً: الإكثار دوماً من ذكر الخلاف والرخص: إن ذكر الرخصة للناس وتخفيفَ المشقَّة عليهم واجب شرعي؛ فإن الدين دين يُسْر، لكن أن يكون هذا بكثرة، ويكون المراد من ذكر الخلاف دوماً هو نقض الشريعة، وتخيير العامة، وإثارة شكوكِ من لا خَلاقَ له من دينٍ أو علمٍ بأن الشريعة متناقضة؛ فهذا جناية على الدين، ومهما كان مراد صاحب الإرجاء الفكري في هذا التيسير على الناس، فقد أخطأت استُه الحفرة بهذا، حين جنح للإرجاء دون التيسير، ودعا الناس للزندقة بتخييرهم بين أمور الدين، التي يصير بها المرء أخيراً ليس على دين الإسلام؛ فإن من له حظ من علم يعلم أنه لا يحق لمسلم التخيُّر بين أقوال أهل العلم لهوى في نفسه، بل عليه التقليد إن كان جاهلاً، واتباعُ الدليل إن كان عالماً. سابعاً: غياب الفطنة، ومحاولةُ تأصيل الأفكار الهدامة شرعاً: إن من لازِم الخنوعِ والمسكنةِ الفكرية، وعدمِ الاعتزاز بالشرع الإسلامي في جميع مناحي الحياة، أن يصبح هذا المصاب بالإرجاء الفكري، مسوِّغاً لمشاريع التيارات المنحرفة، مسبغاً عليها مظلة شرعية، خادعاً بها الراعي والرعية؛ فيسألونه (أو ربما تبرع هو محتسباً) لبيان حكم عمل المرأة - مثلاً - وأنه كشرب العسل، مع أن أهل الأهواء لا يريدون عمل المرأة لذاته، بل لما وراءه من إخراج المرأة المسلمة، وإفسادها؛ وهل جادل أحد من أهل العلم في عملها مع الضوابط حتى يحتسبَ هذا المصابُ بالإرجاء الفكري لبيان الحكم؟ ولنا في ابن عباس - رضي الله عنهما - قدوة حسنة حين سأله من في عينيه شرر عن توبة القاتل، فقال له: لا تُقبَل، وسأله من في سيفه دم عنها، فقال: تُقبَل. فسأله من حوله عن هذا، فقال: علمت أن ذاك إن قلت له: يقبلها الله، ذهب فسفك دماً حراماً، وأن الآخر أتاني نادماً فلم أقنِّطه. ويقول الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في هذا الباب: «لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء. والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل؛ إذ تقدَّم إليها بعض (البنات) اللاَّئي أُعطِينَ شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلاً لأن يكنََّ في مناصب النيابة، تمهيداً لوصولهن إلى ولاية القضاء. فرأت الوزارة أن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدَها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين. وذهب العلماء الرسميون يتبارَوْن في الإفتاء، ويحكون في ذلك أقوال الفقهاء؛ فمِنْ ذاكرٍ مذهب أبي حنيفة في إجازة ولايتها في الأموال فقط، ومِن ذاكرٍ المذهب المنسوب لابن جرير الطبري في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومِن ذاكرٍ المذهب الحق الذي لا يُجوِّز ولايتها القضاء قط، وأن قضاءها باطلٌ مطلقاً، في الأموال وغير الأموال. سألت وزارةُ العدل العلماءَ فأجابوا. ولستُ أدري لِمَ أجابوا؟ وكيف رضوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنيَّة على أصلين خطيرين من أصول الإسلام، هدمهما أهل هذا العصر، أو كادوا؟ ولو كنتُ ممن يُسأل في مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنيتُ عليها الجواب عن الفرع أو الفروع؛ فإن ولاية المرأة القضاء في بلدنا هذا، في عصرنا هذا، يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بُنيتْ عليهما بداهةً:

أولاً: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتَبَس عن تشريعات أوروبة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالي واضعه: أوافق شِرعَة الإسلام أم خالفها؟ ويصرحون - ولا يستحيون - أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين، وأنتم ترون ذلك وتعلمون ... أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا (الدين) الجديد؛ أعني: (التشريع) الجديد؟ أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلُّم هذا واعتناقِه واعتقادِه والعملِ به، ذَكَراً كان الابن أو أنثى، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟ وثانياً: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانون أو غيره - سواء مما يجوز تعلُّمه ومما لا يجوز - وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله. أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخُلُق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة على الرغم مما يظن الأغرار وعبََّاد الشهوات؟ يجب أن نجيب عن هذا أولاً، ثم نبحث بَعْدُ فيما وراءه؛ ألا فَلْيُجبِ العلماء وليقولوا عما يعرفون، وليبلِّغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين. سيقول عني عبيد (النسوان) الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: إني جامد، وإني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فَلْيقولوا ما شاؤوا، فما عبَأْت يوماً مَّا بما يقال عنِّي، ولكني قلت ما يجب أن أقول» (¬1). وإنما أطلت في هذا؛ لفشوِّه اليوم بين طلبة العلم، وموافقته لشهوة الرياسة وحبِّ الظهور، وما علم المسكين (صاحب الإرجاء الفكري) أن من كذا حاله رُمِي بعد إتمام الغرض منه، وكَثُر ذامُّوه وقلَّ حامدوه أو عُدِمُوا، وأعظم من هذا: أن الله هو الذي مَدْحُه زين وذمه شين، وإذا أحب الله عبداً أمر جبريل أن يحبه فيحبه، ثم ينادي في الملائكة: أن الله يحب فلان فأحبوه، فيحبونه (¬2)، و «من ابتغى رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس، ومن ابتغى سخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» (¬3). ومن تمسك بالنص الشرعي، وأذعن له فكرُه، وخضع له عقلُه، نجا من هذا الإرجاء، مع تعلُّقٍ بفهم السلف الصالح لا سواه، والبعد عن المحدَثَات الفكرية، أو محاولة تطويع الدين بما لم يأذن به الله، والعلم النظري بأننا في زمن الفتن كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «فتن كقِطَع الليل المظلم، يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا قليل» (¬4)، ثم تطبيق هذا العلم النظري، مع دعاء الله الثبات؛ كما كان يفعل - صلى الله عليه وسلم - حينما يُكثِر من قول: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» (¬5)، ويسأل الله حُسْن الخاتمة. أسأل الله لي ولك حُسْن الخاتمة. المصدر: مجلة البيان ¬

(¬1) انظر جمهرة مقالات أحمد شاكر: 2/ 591 فما بعدها. (¬2) انظر: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، (2637). (¬3) انظر: سنن الترمذي، (2414). قال الشيخ الألباني: صحيح، وصحيح ابن حبان، (276). قال عنه الأرنؤوط: إسناده حسن. (¬4) أخرجه مسلم، (118). (¬5) سنن ابن ماجة، (3834)، والترمذي، (2140)،وصححه الألباني في تعليقه عليه.

الضوابط الشرعية ... رؤية ليبرالية

الضوابط الشرعية ... رؤية ليبرالية محمد بن أحمد الزهراني 17 شعبان 1431 كنت شخصيا ممن يرى أن أهل الفضل والعلم - ممن شرفهم الله بالعكوف على البحث والتقصي في معرفة مراد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم - قد يكونون وقعوا في شيء من المبالغة في قاعدة سد الذرائع حتى رأوا سيئا ما ليس بالضرورة يؤول إلى محذور شرعي. وكنت أقول في نفسي: رحم الله علماءنا وعفا عنهم, إن حدبهم على هداية الأمة وصلتها بخالقها العظيم وهدي نبيها الكريم أدى بهم إلى التوجس من مآلات وهمية هي أبعد ما تكون عن مجتمعنا النقي الذي قد تضلع بكافة أطيافه بالعقيدة السليمة والرغبة فيتمثل هدي الرسول صلى الله عليه وسلم مظهرا ومخبرا وإن تفاوت الناس بعد ذلك في هذا التمثل قلة واسكثارا, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والآن وبعد مرور عقد تقريبا على هذه الطفرة الجينية في الخريطة الوراثية لإعلامنا بكافة أجنحته, إلى أين وصلنا؟ تتبع معي أخي الكريم مسيرة طرحنا الإعلامي المحلي عبر العقد الماضي واضرب كفاً بكف حينما يتملكك العجب. كانت أكثر المقالات الزئبقية تساق متدثرة بلافتات "حسب الضوابط الشرعية"! كانت البداية الوجلة تبرز قرنها عل هيئة دعوة إلى قبول الآراء الفقهية الأخرى ما دامت حسب الضوابط الشرعية. نعم, فما المانع أن تترك للمرأة الحرية في كشف وجهها ما دام رأيا فقهيا معتبرا يقرها على ذلك؟ وما المانع أن يساهم الشعب في الشركات المساهمة المشتبهة ما دمنا لا نعدم من يفتينا بذلك؟ وما المانع أن نحاور الأديان الأخرى بغية تبيين الحق وإقامة الحجة؟ وما المانع أن يتعلم أفراد الشعب اللعبة الديموقراطية وصناديق الاقتراع ويختارون من يمثلهم في مؤسسات المجتمع المدني؟ اليوم لم نعد نسمع عبارة "حسب الضوابط الشرعية" فقد وسدت التراب إلى جانب العبارة الشهيرة " نشجب ونستنكر الانتهاكات الصارخة للعدو الصهيوني" ,فأحسن الله عزاء الجميع في العبارتين. نعود إلى طرحنا الإعلامي لنرى عن ماذا تمخضت هذه الدعوات المتنسكة بالضوابط الشرعية؟ حرب شعواء ضد الجهة الوحيدة المخولة لوضع هذه الضوابط الشرعية, إسقاط لرموز أرباب المعرفة بالعلم الشرعي والدعاة إلى الاحتكام لشرع الله المطهر. من منا ينسى تلك الليلة الليلاء التي تقاسم فيها القوم على أن يبيتوا أحد أعلام المعرفة بالضوابط الشرعية التي يتشدقون بها ثم بعد أن جاءوا على قميصه بدم كذب وتم لهم ما أرادوا, خرجوا بكل صفاقة ليقولوا "ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون"!! لا يحتاج الأمر إلى كبير عناء ليعرف مدى كذب دعوى الضوابط الشرعية, بل ليس الأمر أبعد من شخص قدم لك لحم خنزير وقال لك "تفضل, مذبوح بالضوابط الشرعية". وإن أردت الدليل على ما أقول فعليك برصد الجناح المرئي لإعلامنا وكيف انه قد استحال في كثير من برامجه إلى عروض للأزياء ومتاجرة بهذه المشاهد , فقط لنرفع أسهمنا عند "الآخر" ويشهد لنا بالوسطية والاعتدال كما يراها هو. رجل وامرأة قد لبسا وتزينا و"تمكيجا" ثم "انتصا" ليتحادثان ويتمازحان طوال ساعات الصباح وكأنهما في "صباحية مباركة" ... !! تدشين أول فيلم سينمائي احتشد فيه كل شيء .. إلا الضوابط الشرعية طبعا!! دعوات لصرف قضايا اعتراض على بعض الكتابات والسلوكيات عن مسارها الشرعي إلى مسار خرج من عباءة ثقافة"الفيتو" الغارقة في الظلامية والجاهلية. مهرجانات غنائية أدركتها حمى الطفرة الجينية لتطعم المهرجان الغنائي السنوي بأصوات ناعمة غابت صورها هذا العام , ولو حلفت ما حنثت أنها ستظهر في العام القادم .. وليس الذي يليه.

احتفالات صيفية على شرف "نجوم ونجمات" الفن الكوميدي في ليلة جنوبية رقصت طوال ساعات الليل على جثمان الضوابط الشرعية. دعوات لحوار الأديان لم تكن إلا دعوة لإخاء الأديان , تبشر بها أجنحة إعلامنا المختطفة بعبارات لا تحتمل تأويلا " نريد الناس أن يتمسكوا بالأديان الإبراهيمية الثلاثة ففيها الخير للإنسانية جمعاء ... قرآن .. توراة .. إنجيل .. " وإن شئت لقلت: إنها دعوة لا تهدف إلا إلى إحراز تقدم سياسي اتخذت من هذه الدعوة وسيلة لا غاية. بل حتى التجربة الخداج لإشراك الشعب في اتخاذ القرار فيمن يمثله وئدت في مهدها والأسباب قيدت ضد مجهول لكن هناك أخبار تؤكد أن الشعب لايزال على قدر من الجهل والسطحية, فلم يكن قادرا على استيعاب التجربة الانتخابية ويؤيد ذلك نتائج الانتخابات!! ولكنه قطعا سيكون أكثر نضجا بعد أن يروض إعلاميا وثقافيا و"ابتعاثيا!! " , وحينئذ ستطرح التجربة مرة أخرى لأن النتيجة ستكون مرضية كما يريدها المخرج!! أيها الضوابطيون ومن مكّن لهم , قولوا لنا بربكم من قال من أهل العلم بهذه الصور التي تزعمون أنها لا تخرج من عباءة الشريعة؟ ثم هنا سؤال آخر يلح بشدة , لو استوردنا لكم أراء فقهية من الخارج , هل ستستوعب هذه الآراء تطلعاتكم ورؤاكم المستقبلة؟ أجزم أنكم ستقولون بأفواهكم ما ليس في قلوبكم. وهل أجدت أراء علماء الشام ومصر فيما يتعلق بحجاب المراة وعملها وما يتعلق بالفن والتمثيل والحرية الدينية والعقدية, هل أجدت شيئا أمام المد الشرس الذي مارسه أسلاف هؤلاء "الضوابطيين"؟ ما عليك إلا أن تنظر بأم عينك إلى واقع تلك المجتمعات التي باتت تردد: يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن والله لا على ضوابطكم وثوابتكم أبقيتم , ولا بالديموقراطية رضيتم!! {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}. اللهم إني أبرأ إليك من هذه الانتهاكات التي ترتكب باسم الضوابط الشرعية. اللهم إني أعتذر من عجز الثقات وأبرأ إليك من جلد الفاجر.

منع غطاء الوجه والتذرع بالذريعة!

منع غطاء الوجه والتذرع بالذريعة! إبراهيم الأزرق 17 شعبان 1431 من حجج الحكومات المستبدة بأكثريتها باسم الديمقراطية في منع النقاب أو غطاء الوجه ضرورة التعرف على الشخصية زعموا، وذلك لدواع أمنية. ومن العجيب أن يبدي قناعته بهذه الدعوى أو يقرها صامتاً عنها بعض المغفلين الذين دأبوا يشنعون على أهل العلم الذين يعتبرون الذرائع الحقيقية، فينبذونهم بالنعوت والألقاب، ويتهمونهم بالتضييق والتعنيت، أما تصرفات الحكومات الغربية من نحو الفرنسية والبلجيكية فتلك هي الحكمة وذلك هو الفقه الذرائعي المعتبر! مع أن أهل العلم المحققين لا يحرمون من الذرائع إلاّ ما كان قطعي الإفضاء إلى المحرم أو أغلبيه أو كان محتملاً لكن الطبع متقاض لإفضائه، وأما ما يفضي أحياناً فحكمه بحسب المصلحة من ذلك الفعل. أما هؤلاء المتبلجكون والمتفرنسون فيسدون من ذرائع العفة الغالبة أظهرها، ويمنعون من ذرائع المفسدة المتوهمة واحدة من أسمجها! ولو تساءلنا كم من جريمة في فرنسا أو بلجيكا قد ارتكبت؟ وكم تلك التي كان النقاب سبباً فيها لعلمنا تفاهة الذريعة المدعاة! إن من الطبعي أن يدعي خبيث أن النقاب أو غطاء الوجه يساعد على ارتكاب الجريمة، ويمنع من التعرف على الجاني، لكن من الغباوة أن نعتقد بأن المجرم إذا جاء يخطط لتنفيذ جريمته فسوف يُعِدُّ الغطوةَ ليعصب وجهه، والجلباب ليَشُلَّ حركته! ربما غاب هذا عن غربي لم يمارس هذا اللباس، وغاية ما يتخيله عنه ما يراه في أفلام النينجا! لكننا معاشر الشرقيين ندرك أن هذا اللباس يقيد حركة المرأة نوعاً ما بحيث لا يدع لها من المجال ما يحتاجه اللص أو المجرم في حركاته ووثباته وركضاته وانثناءاته! والاحتجاج لمنع غطاء الوجه بدعوى الدوافع الأمنية في نظري يشبه الاحتجاج بنفس الدعوى من أجل منع لبس الكعب العالي المُعيقِ عن الحركة! فمن يدري ربما أخرجته وضربت خصيمتها به في يافوخها فكان أمضى من سكين، وربما قذفت به في وجه آخر فكان أنفذ من رصاصة! نعم إنها ذريعة واردة بمنطق فقهاء فرنسا ومشرعي بلجيكا! وإني لا آمن أن تكون نهاية الخطوات المقبلة منع المرأة من الخروج بسوى البكيني في تلك الدول منعاً لذريعة ارتداء الحزام الناسف أدنى الثياب، وليتبين أمر الحوامل من الانتحاريات! إنه فقه مشرعي الكفر فلا عجب! وأعجب منه كلام بعض المستغربات وقالوا: لا تثيروا ضجة ومعركة في قضية لا تسوى -وقاتل الله التأويل الذي أداهم إلى أن بعض أوامر الله لا تسوى- فهؤلاء ربما أفاقوا إذا قررت تلك المجتمعات الخطوة التالية وهي منع الخمار أو غطاء الرأس مطلقاً! وإذا بدت لك سخافة الذريعة التي يدافع عنها بعض مناهضي قاعدة سد الذرائع في الإسلام مع موافقتها المنقول والمعقول، فاعلم أن للقوم حجة أخرى وهي المنع من غطاء الوجه من أجل التعرف على المجرمين والفارين من وجه العدالة .. ومع أني أعتقد أن هذه مجرد مراوغة لا حقيقة لها، لأن هذا الزي في تلك البلاد مدعاة لاسترعاء الانتباه وتتبع صاحبه من أين يخرج وإلى أين يذهب، وماذا يفعل، لا صرف الأنظار عنه وغض البصر عند مروره! ولأن صويحباته قلة معروفة في مجتمعاتها، ولو أن مجرماً فرنسياً لبس العباية والنقاب ثم خرج لقفش عند عتبة بابه، ولأن التحقق عند الريبة من الشخصية المنقبة ممكن، ولأن الأجدر في التنكر استخدام أساليب أخرى يغير فيها المجرمون خلق الله، بل الأمر لا يستدعي ذلك فعندهم من المساحيق والأشعر المستعارة والأصباغ والأقنعة والنظارات الشمسية ما يباع مشاعاً وهو كفيل بأن يؤدي للمجرم تلك الوظيفة بكل يسر، مع كل ذلك فلو فرضناها دعوى هم صادقون فيها من جهة قصدهم، لحق لنا أن نُبَشِّع بمقصدهم ونيَّتهم المنطوية على اتهام الأبرياء، فعجباً لدولٍ ديمقراطيةٍ البريئةُ فيها متهمةٌ مطالبة بفعل ما يثبت براءتها! كأنهم يقولون لتلك المنقبة المحتجبة أنت متهمة بأنك (جاك مسيرين) فأثبتي خلاف ذلك! والأدهى أنها إذا أثبتت أنها فلانة بنت فلان فعليها حينئذ أن تدفع غرامة! فهل عهدتم دولةً مستبدةً في شرقنا البريئات المنقبات فيها متهمات حتى يدفعن بالبراءة ويبذلن بعد ذلك غرامة؟ لا جرم فقومنا أبرياء من ديكتاتورية الأكثرية في النظم الديمقراطية! كما أن شعوبنا برءاء من التسلط على الأقليات بالأهواء، أما في فرنسا فتوشك ألا تأمن منقبة بعد قليل إذا هي سارت في حدائق بولوني أن يقوم ثلة من العراة الذين يحق لهم نظاماً التسكع هنالك بالاحتساب النظامي عليها عبر الجوال، ليجيء مقلعاً (جيب) هيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف الفرنسية - أو سمِّه ما شئت - متلافيا أجساد العراة، ليعتقل المنقبة!

الفتوى ومسألة الحرية

الفتوى ومسألة الحرية محمد السعيدي 1 شعبان1431هـ الحرية بدلالتها المصطلحية ماسونية الأصل غربية الولادة والمنشأ، وقد وردت إلينا مثقلة بدلالاتها العقدية والاجتماعية والسياسية بحيث أصبح نقلها إلى دلالات أخر لم يجمعها بها أصل ولا منشأ شبه متعذر إلا إذا قبلنا تشويه المدلولات المعهودة لنا بحشرها تحت مظلة هذا المصطلح الغريب في دلالته على ثقافتنا، وإن لم يكن غريبا من حيث تكوينه اللغوي. جاء إلينا هذا المصطلح كالزيت الساخن الذي يشوه كل ما يغمس فيه، ورغم ذلك فقد سارعنا إلى غمس أجمل ما لدينا داخله دون أن نلتفت إلى حجم ما يلحقه ذلك فيها من أضرار. أصبحنا نكرر دون أن ندرك تماما ما نقول: حرية العقيدة، حرية الفكر, حرية التعبير, حرية الرأي، حرية المرأة، حرية الاقتصاد. حاول بعض المفكرين منذ مطلع القرن الحديث استغلال هذا البريق المنطلق من هذا المصطلح للدعوة إلى الإسلام فنادوا لأجل ذلك بأن الإسلام دين الحرية أو أن الإسلام جاء بالحرية، لكن هذا النداء لم يكتب له الرواج كأسلوب للدعوة إلى الإسلام، لأن المستهدف بهذه الدعوة يفهم هذا المصطلح على وجه لا يمكن أن ينطبق على الإسلام أبدا. لن ينطبق على الإسلام حتى لو أضفنا اشتراط الضوابط لتكون الحرية إسلامية، لأن تلك الضوابط سوف تكثر وتكثر حتى لا يمكننا أن نصدق إلا مجاملة لأنفسنا أن الحرية تتفق مع الإسلام. وصل تشويه مصطلح الحرية إلى الفتوى التي هي في الأصل اجتهاد في الإخبار عن مراد الله تعالى من أحكام تكليفية على أفعال العباد، ومع ذلك أصابتها في أيامنا الأخيرة آفة الحرية، فأصبحنا نسمع عن حرية الفتوى، أي حرية القول على الله تعالى، وحرية التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكنت أسمع مثل هذه الدعوى من بعض الكتاب في صحافتنا والصحافة العربية ولم أكن أقابلها بأكثر من زم الشفتين والدعاء لهم بالهداية، لكنني اليوم أصبحت أقرؤها في بعض الكتابات التي تنحوا منحى العلمية والتأصيل، وفي كثير من تفاعلات القراء على ما يكتبه العديد ممن ينادون بضبط الفتوى في أيامنا هذه. من هنا بدا لي أن مصطلح الحرية بحمولته الماسونية وصل في فكرنا المعاصر إلى حد ينبغي أن ينتبه إليه، فقد وصل إلى حيث لا ينبغي أن يصل. إن الحرية لم ترد في مصادر الإسلام إلا في مقابل الرق ولم ترد أبدا في معناها الذي نروجه اليوم لها، بل إن هذا المعنى الذي ندعمه جميعا اليوم للحرية لا يمكن أن ينسجم مع ما جاء به الدين من تفاصيل تقيد حياة العبد من حين يستيقظ إلى أن ينام مرة أخرى، بل حتى في أثناء نومه ربما نقول إن أحكام الشريعة لا تفك مرتبطة به. فالإنسان مستعبد لله تعالى اضطرارا والمسلم مستعبد له اختيارا، هذا هو المعنى الذي ينبغي أن نقرره وننطلق في فهمنا للحياة من خلاله، فالمسلم عبد لله في عقيدته وفكره ورأيه، رجلا كان أم امرأة، لا فكاك للرجل عن عبودية المولى عز وجل كما لا فكاك للمرأة. والفتوى أخص من ذلك فهي في ذاتها عبادة لله عز وجل كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وهي فرض عين على من تعينت عليه وفرض كفاية على من تأهل لها وحرام على من ليس كذلك. إن شأن العبادات أن تستكمل شرائطها وهي لوازم صحتها التي تسبقها، وأركانها وهي لوازم صحتها التي تصاحبها، وواجباتها وهي أجزاؤها التي تتكون منها، ومن تعمد أداء العبادة دون تحصيل الشرائط وإقامة الأركان والواجبات فقد ارتكب إثما ووطئ حراما، كما أن للعبادة أيضا أوقاتها التي لا تصح في غيرها. ولا تختلف الفتوى عن أخواتها من العبادات في شئ من ذلك أبدا، فلها شرائط وأركان وواجبات وسنن وآداب يعرفها كل من درس الفتوى واتقى الله في أدائها.

فمن أداها ولم يستكمل شرائطها فهو كالمصلي على غير طهارة أو الصائمة في وقت العذر لا يحصلان مما فعلا إلا معصية لا يلغيها عنهما إقامتهما لتلك العبادة صحيحة الظاهر في أعين الناظرين. وكل تلك القيود تنافي مقالة اللاهجين بحرية الفتوى، المستطيلين عليها دون قيود أو حدود. بل ثمة قيد مهم قد يخفى على بعض المحصلين لشيء من مقومات الفتوى، ألا وهو الحكمة في بيان العلم وحساب مآلات الخطاب ولوازمه، فإذا كان الناس على خير واجتماع على فتوى صحيحة فليس من الحكمة بل ليس من الدين أن تفرق جمعهم وتشيع الفوضى بينهم من أجل رأي رأيته يخالف ما انطوت عليه صدورهم وتقبله سائرهم إلا عند من اختصك بالسؤال وطلب منك المشورة فلك أن تحيله إلى رأي الكافة ولك أن تخبره بما توصل إليه اجتهادك إن كنت من أهل الاجتهاد، دون أن تتكلف إشاعة الفوضى ومصادمة الناس، هذا فيمن استكمل شرائط الفتوى وأركانها، وللسلف في ذلك أخبار عجيبة لعلي أفرد لسردها مقالا خاصا، وقد بلغ من عنايتهم بهذا الملحظ أن يقول علماؤهم: قد يكون من السنة ترك السنة، وقد شرح ذلك ابن تيمية رحمه الله في القواعد النوارنية بأن ترك بعض السنن أولى من فعلها إن رأى المفتي أن في إظهارها شئ من مفاسد الفرقة والضوضاء، قال رحمه الله عند حديثه عن خلاف العلماء في البسملة في الصلاة: (ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي تغيير بناء البيت لمارأى في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه متما وقال: الخلاف شر). وكما أن الخلاف شر في نص ابن مسعود رضي الله عنه، فإن استبدال الحديث عن تمحيض الاستعباد لله تعالى بالحديث عن الحرية والتغني بها شر أيضا والله المستعان.

الثورة الإصلاحية وكشف المغطى

الثورة الإصلاحية وكَشْفُ المُغَطَّى ناصر العلي جامعة أم القرى 1 شعبان 1431هـ الإصلاحُ كلمةٌ لها بريقُها ورونقُها، {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}. والفساد ممقوتٌ ممجوجٌ، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}. وكفى بالإصلاح شرفًا ومطلبًا أن يدَّعيَه كلُّ أحد، ولو كان منافقًا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} ولأن مركبَ الإصلاح مُوَطَّأُ الأكناف، استوى على ظهره، وامتطى صهوةَ جوادِه كلُّ زاعم للإصلاح، سواء ممن في قلبه مرض، أو ممن حسنت سريرته، لكنه حاد عن جادَّة الطريق: "فكم من مُريدٍ للخير لا يصيبه! ". فأما الذين في قلوبهم مرض، وفي منهجهم دَغَل، وفي تفكيرهم خلل، فبينهم وبين المؤمنين بُعْدُ المشرقين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}. لماذا؟؛ لأن مرجعية التحاكم متضادة، هم يحاكمون الناس إلى العقل والليبرالية والغربية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، بينما علماء الشريعة يقولون لهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}. ولهذا فلا غَرْوَ أن ابتدع التغريبيون تصنيف المجتمع إلى: إصلاحيين (يعنون أنفسهم، ومن دار في فَلَكِهِم من الشرعيين المنفتحين المتساهلين المتلاينين)، ومحافظين (يعنون العلماء والدعاة الجامدين التقليديين المعوقين مسيرة الإصلاح في نظرهم). وأَيْمُ الله! {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى}؛ لأن وصفَ المؤمنين - من الأنبياء والعلماء والصالحين - بالفساد، ونَزْعَ صفةِ الصلاح عنهم غَدْرةٌ يهوديةٌ: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ}، وهي أيضا شِنْشِنَةٌ فرعونيةٌ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}. لكنَّ اللهَ جلَّ جلالُه - الذي يعلمُ المصلحَ من المفسد - حدَّدَ معيارًا كاشفًا لحقيقة الإصلاح في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}. ولهذا كان الأنبياء - والعلماء ورثة الأنبياء - هم الإصلاحيين الحقيقيين، قال شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.

وفي غضون السنين الأخيرة تفاقمتْ حِدَّةُ الناقمين على العلماء عامَّةً والمفتين خاصَّةً المعروفين لدى كافَّة الناس أجمعين. فنبتت نابتةُ ثوارٍ إصلاحيين من: منافقين مفسدين (ممن في قلوبهم مرض). وشرعيين متعالمين ليس لهم في العمق العلمي وِرْدٌ ولا صَدْرٌ. وشرعيين عالِمِين مُسْتغفَلين، يُستكتبون ويُستفتون، فتقع منهم موبقات حين يقصدون مجرد الإفتاء، بينما مُسْتغفِلُهم يقصد التوظيف الفكري لخدمة مُبَيَّتَاتِه فحسب. إن العجب ليأخذ منك كل مأخذ حينما ينبري من كان أَحَبَّهم الناسُ لحبهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم واشتغالهم بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن كان يترنَّم بآياتِ الذكر الحكيم، ومن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن كان يدعو الناس إلى الخير، ومن كان يخطب خطبة تسير بها الركبان، ومن كان يلقي درسًا أو محاضرة يحتشد لها الألوف ثم يعلن عن منهجِ حِقْبةٍ جديدةٍ، ومسلكِ إصلاحٍ قادمٍ وخطابٍ تجديديٍّ متناغمٍ مع ما يُراد عالميًّا ومحليًّا. مَنْ مِنَ الناس لا يهوى الإصلاح والتجديد في زمن فُشُوِّ الفساد والركود!!. لكن بكل خيبة أمل، لم تكن أطروحاتهم الإصلاحية الثائرة سوى الهجوم على الفتاوى السائدة، والمنهجِ الذي ارتضع الناسُ لَبَانَه، واقتنعوا بصحته بالدليل والبرهان، عنوانه: "ما أنا عليه وأصحابي". إنك لا تكاد تبصر في مقالاتهم نور الوحيين، ولا تقرأ فيها آيةً أو سنةً، بل يكررون ذات المضامين الليبرالية، لكنْ المتحدثُ الرسميُّ بها "شخصيةٌ ذاتُ صبغةٍ شرعيةٍ"؛ لعلها تحقق الغرض الذي عجز عنه أساطينُ الحرية والعلمنة. إنني لست ألج باب النوايا، فلعلها حسنة، ولكني آسى على الاستغفال الكُبَّار لهؤلاء الشرعيين حينما يكونون أدواتٍ بأيدي المفسدين (الإصلاحيين زعموا)!. إن المجتمع المحافظ على دينه، المستمسك بكتاب ربه، لما رفض الأفكارَ الفَجَّةَ التي تُسمّى "إصلاحية"، عمد المفسدون إلى أسلوب إلباسِها اللُّبوسَ الشرعي، بتسخير مَنْ يتَتَبع المتشابهاتِ ابتغاءَ الفتنة (منهج الذين في قلوبهم زيغ)، والإعراضِ عن المحكمات (منهج الراسخين في العلم). إن المفسدين في الأرض باتوا ورقةً مُهْتَرِئَةً، صَكَّت الناسُ آذانَها عن سماع ضجيجهم وفحيحهم، فلجؤوا إلى التترس ببعض الشرعيين؛ لعل فتوىً شاذةً من هنا، أو هجومًا كاسحًا على العلماء من هناك، يجدي فتيلا في تزهيد الناس في تلقي ثوابته الدينية التي تقف صخرة شماء تنكسر عندها قرون الناطحين لها. يا ناطحًا جبلاً يومًا لِيُوهِنَهُ أَشْفِقْ على الرأس لا تُشفق على الجبل إن مما يبتهج به فريقُ حملة المشروع الإصلاحي المفسِد أو المستغفَل أن ثورة المعلومات أحدثت هِزَّةً بل زلْزلةً في القيم والعادات، أكانت هزةً حميدةً أم خبيثةً؟ ليس مُهمًّا عندهم، المهم الثورة على السائد. هؤلاء الثوّار أَرْغَوا وأزْبَدوا على الفتاوى السائدة، يا وَيْحَها!! لِمَ لا تحكي الخلافَ الفقهي؟! لماذا تُلْغِي الرأيَ الآخرَ بغير سبب يُوجب الإلغاء؟. وما أدراهم بأنه لا سبب يوجب الإلغاء؟! عَجَبٌ ما ينقضي منه العجب!! يريدون عَرْضَ الفتاوى لعامة الناس على طريقة "الفقه المقارن"، تلك المادة التي يستصعبها كثيرٌ من طلاب الجامعات. وكأن المطلوبَ تعليمُ العوام وتدريبُ المستفتين وفق منهج "بداية المجتهد ونهاية المقتصد".

وراح الإصلاحيون الثائرون يراهنون على جمهور الناس بأنهم فقدوا الثقة في علماء الإفتاء الرسميين!. ولستُ أدري سرّ هذه المراهنة، ونحن نشاهد برامج الإفتاء في الإذاعة والتلفاز والمواقع الإلكترونية يتقاطر عليها الناسُ زُرافاتٍ ووِحْداناً من شتى بقاع الدنيا بالاستفتاءات، وليس ثمّة من المفتين - في الأعم الأغلب - سوى المحافظين على دينهم الراسخين الثابتين في خِضمّ الانقلاب الحاصل. وربما تحجج الثائرون الناعون على العلماء باستقطاب الفتاوى الشاذةِ المسْتَغرَبةِ الجماهيرَ المسكينةَ المنْخَدِعةَ عبر السنين بالفتاوى السائدة!! فوَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! ما جرى هذا الاستقطابُ - إن سُلِّمَ زَعْمُه - إلا لتلميعِ الإعلامِ الرؤوسَ الجُهَّالَ ذوي الأقوال الجاهلة الموافقة للأهواء، مصداقًا لحديث المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «إنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» متفق عليه. إن ثوار الإصلاح يتخيلون أوهامًا، ويبنون عليها كلامًا. ويَنْسِجون تُهمًا ضدَّ علماءِ الفتوى المعروفين، فيصدّقونها، ويَقْسِرون الناس على تصديقها قسْرًا، وما هي إلا هُراءٌ جِزَافٌ. تخيلوا إصلاحيًّا شرعيًّا يُلصق تهمةً - لا أساس لها من الصحة - بالمفتين من العلماء أنهم يتبعون سياسة كتمان الأقوال الفقهية المعتبرة، تمَّ الكشف عنها بوسيلة لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وبالنشر الصحفي للآراء الغريبة، والفتاوى الضالة، والأقوال المنحرفة. والأغرب من ذلك - وهذا من غرائب المحاكمات الإصلاحية في زمن الديمقراطيات - الإلحاح بمطالبة العلماء بتصحيح مسيرتهم الإفتائية بالتوبة النصوح وفق شروطها الأربعة: الإقلاع عما هم فيه من التشنيع على الأقوال المعتبرة، والندم على ما بدر منهم من فتاوى لم يحكوا فيها خلافا، والعزم على ترك العودة إلى طَيِّ الخلاف وكتمانه مستقبلا، والاعتذار الجميل لكلِّ مفتٍ إصلاحيٍّ أُسِيء إليه يَتَّبِع سياسةَ بسط الخلاف الفقهي للمستفتين العوام. أرأيتم حجم الشَّطَح، وعمق الهُوَّة، وفداحة الأوهام التي تُعَشْعِشُ في أفهام الثوار المصلحين الجدد. وبميسورك الكشفُ عن فِرْيَةِ هذا الزعم الإصلاحي في ترميم الفتاوى بطرح هذا التساؤل: ما الذي طرأ على مشهد الفتاوى في غضون السنوات الأخيرة؟! إننا لم نسمع أو نقرأ أقوالا وجيهة أو خلافا معتبرا أو آراءً لها حظُّها من النظر، وما دامت كذلك، فلا ضير من إغفالها، من بعد ما تبيَّن أنها أطروحاتٌ شاطَّة، وآراءٌ شاطحة، وفتاوى شاذة. إن أدعياء الإصلاح مطالبون بحشدِ طائفةٍ من الأمثلة - ولا يكفي المثالُ ولا الاثنان ولا الثلاثة - التي باستقرائها وتتبعها يظهر المخبأ الذي كان يستبطنه العلماء حينًا من الدهر، فانكشف بضغطة زر. وإلا فَلْيَصدقْ فيهم قولُ الشاعر: والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بيناتٍ أبناؤها أدعياء وحينئذٍ فليكشفوا هم مُغَطَّاهم، وأسرارَ ثوراتهم، وارتدائِهم سرابيل الإصلاح التي لن تقيهم من أوهامهم الفكرية، وهي أحوج ما تكون إلى الإصلاح. وأخيرًا: لا يمكن القول بعصمة العلماء، ولا بقداسة اجتهاداتهم، ولَيْسَتْ مؤسساتُ الفتوى خاليةً تماما من الملاحظات. ولكن في نفس الأمر ليس من المسلك الرشيد انتهاجُ أسلوب الثوار الإصلاحيين، الذي ينعى على علماء الفتوى المشهودِ لهم من الخاصّ والعامّ، مع التشْكيك في مصداقيتهم، والطعن فيهم. وإذا أشفق المصلحون المزعومون من سقوط الرموز العلمية لدى الناس، فليخشوا أيضًا على أنفسهم، فهم أول من سيحيق بهم السقوط، ولن يسلموا من نقاش الإصلاحيين الشرعيين الحقيقيين لهم، فضلاً عن هجمات الناس عليهم، لماذا؟ لأن الله تعالى يقول: ?إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ?. وأعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، واسأل الله الهداية والثبات للجميع إلى سواء السبيل.

القول الشاذ في الفقه الإسلامي ودعوى اكتشاف الإسلام من جديد

القول الشاذ في الفقه الإسلامي ودعوى اكتشاف الإسلام من جديد د. هيثم بن جواد الحداد 28 رجب 1431هـ لم تكشف "زوبعة الفتاوى الفقهية الأخيرة" وما تلاها من انتصار البعض لها عن أزمة في التعاطي مع المسائل الفقهية بقدر ما كشفت عن خلل في رؤية البعض للعلاقة بين الشريعة والحياة، وأن عددًا من الإسلاميين لديهم "القابلية لللبرلة"، تشبه إلى حد ما قابلية رجال الدين النصارى للعلمنة في ما يعرف بعصر التنوير. صحيح أنّ المسائل مدار البحث لا يعدوا أكثرها إلا أن يكون مسائل فقهية فرعية، لا تتحمل مثل هذا الضجيج، لكن الانحراف في منهج الاستدلال الذي يتسلل أصحابها من خلاله يعتبر أشد خطورة من ذات المسائل نفسها، وأشد خطرا منه الرؤية التي تحكم البعض، والتي تجعل من "قابلية بعض الإسلاميين لللبرلة" أو "قابليتهم للعلمنة المهذبة"، في ظل غياب مرجعية شرعية، واختطاف قوى ذات وجه عصراني إلى حد ما للمشهد السياسي الإسلامي، أمرًا يبعث على القلق. تعالج هذه المقالة واحدة من تلك المخاوف؛ الانحراف في منهج الاستدلال، فلا يعنينا كثيرًا الموقف من القضية الفقيهة عين البحث، بقدر ما يعنينا المنهج الأصولي المتبع للخروج بالرأي الراجح المتبنى من قبل عدد من المنتسبين إلى العلم، فانحراف هذا المنهج سيولد أراءً منحرفة لا يخترمها ضابط ولا ينتظمها كتاب، وعليه فإن علاج الخلل في المنهج ذاته يتخذ أهمية أكبر من علاج المسألة الفقهية نفسها. وقد ذكرت في مقال سابق أن هذا المنهج أصبح يتكئ على قضيتين رئيسيتين: ـ العبث بمقاصد الشريعة، ومن ثم التستر بها. ـ العبث بالتراث الفقهي، والتستر بالعمل بالدليل وترك التقليد، بحجة أن ثمة من قال بهذا القول أو عمل به. هاتان القضيتان أفرزتا "زبدًا" كثيرًا وأخرجتا لنا قضية تتخذ لونًا جديدًا كلما بهت لونها السابق؛ إعادة قراءة النص، لكننا نحن اليوم بصدد ترهة أخرى؛ إنها عملية إعادة اكتشاف الإسلام. وقد نتج عن ذلك تصدع في الصف الإسلامي في وقت المسلمون في أشد ما يكونون لتوحيد صفوفهم والتمسك بسبل النجاة. وكثير من هذا الزبد، خبيث مردود، ومنه ظاهرة تبني الأقوال الشاذة، وعمل بعض المنتسبين إلى العلم وأصحاب الدعوى إلى الوسطية والانفتاح والإصلاح إلى حيز الخلاف المعتبر الذي لا يشنع على من قال به، بل على احترامه، فتخندق بذلك مع الأسف الشديد مع جمع من أعداء الإسلام، ولا أظن أن هذه الظاهرة يمكن أن تعالج إلا بعمل متواز يجتمع فيه التركيز على منزلة الآخرة من الدنيا في نفوس العامة، بل وفي نفوس بعض المنتسبين إلى العلم، من ناحية، ثم بتأصيل شرعي لحقيقة القول الشاذ من ناحية أخرى ـ وهو موضوع مقالتنا هذه ـ، فإن متبني مثل هذه الأقوال يرى أن قوله قوي يؤيده الدليل، ومن ثم فإنّ مجرد اتهام صاحبه بأنه ليس من أهل الفتيا، أو ليس من أهل العلم، إن لم يسهم في التأصيل العكسي للقول الشاذ، وربما تعاطف البعض معه، فإنه لن يسهم في حل القضية من جذورها، لأن صاحب القول الشاذ ينظر إلى نفسه أنه من أهل الفتيا، وينظر إليه كذلك كثيرون، ثم ماذا لو كان فعلا من أهل الفتيا، أو ممن أشتهر اسمه كأحد أهل العلم، أو رموز الدعوة، فلن يكون وصمه بذلك مقبولا عند تلك الجماهير التي أقبلت عليه واعتادت على الأخذ منه. وأما القول بأنه خالف كبار أهل العلم في بلده، فإنه في المقابل وافق بعضًا من كبار أهل العلم في بلد آخر، فهل يقال أن لكل بلد قولاً شاذًا، أم يقال بأن الشذوذ في القول أمر نسبي خاضع للحدود الاجتماعية والسياسية؟ وعليه فيبدوا لي أنه لا مناص من أمرين:

الأول: التقعيد الأصولي للقول الشاذ، والثاني أن يكون ذلك التقعيد مما يمكن أن يتفق عليه جمهور الأمة، أو في أقل الأحوال أن يسلم من النقض الموجه إليه من الطرف المقابل. * حقيقة الإجماع وروحه: استقر في الشريعة أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة، وعلى هذا تواردت آيات وأحاديث عديدة، فمنها {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] و {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))، و ((عليكم بالجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية))، و ((الجماعة رحمة والفرقة عذاب)). وهذه الآيات والأحاديث هي الروح التي ولدت لدى المسلمين منذ العهد الأول قناعة بأن ما اجتمع عليه المسلمون هو الحق، فلا يجوز لأحد أن يخالفهم، ومن خالفهم فقد شذ، اتضح هذا جليًا في أمر الخلافة عامة وخلافة الصديق خاصة، لأنها هي الحدث الذي يمكن أن تتناقل الأمة في ذلك الوقت بما أوتيت من وسائل اتصال الاتفاق عليه، أما المسائل العلمية الأخرى فلم يكن لدى المسلمين الأوائل لا شبكة انترنت، ولا هواتف جوالة، ولا أجهزة تلفزة يطلعوا من خلالها على جميع آراء العلماء في آن واحد، فلم يتبلور الإجماع الأصولي بصورته التي تحدث عنها كثير من الأصوليين في كتبهم، إذ لا يتصور هذا قط، ولهذا قال الإمام أحمد (وما يدريك لعلهم اختلفوا). ومع هذا كله، فثمة نصوص في عهد مبكر تشير إلى أن اجتماع الأمة على قول، بصرف النظر عن تقصي قول كل عالم أو من يقبل قوله في مثل هذه المسائل، فعن ضمرة عن أبي إسماعيل الكوفي قال سألت عطاء بن أبي رباح عن شيء فأجابني، فقلت له عمن ذا فقال ما اجتمعت عليه الأمة أقوى عندنا من الإسناد. إذ يبعد أن عطاء ابن أبي رباح الذي توفي 114 هـ، قد استقصى قول كل من انتسب من أهل العلم، والغالب أنه قد اكتفى أنه بما اشتهر عن العلماء ممن سمع بهم. ثم لما صنف الشافعي (ت 204هـ) الرسالة، وهي أم الكتب في أصول الفقه، فطن لإبراز أدلة أخرى تدل على وجوب الانقياد للإجماع بصورة أصولية، فمن أشهر ما استدل به قول الله جل وعلا {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، ثم أخذت نظرية الإجماع الأصولي في التشكل والتبلور وبدأت تعريفات "نظرية تظهر له"، ولما كان معرفة اتفاق جميع العلماء في آن واحد غير متصور من الناحية العملية، أخذت تعريفاتهم تتباين تباينا صغيرًا أو كبيرًا حول ماهيته. لكن الاتساع في حركة التصنيف وانتشار الكتابة في بداية القرن الثالث الهجري ساهم مساهمة فعالة في تدوين أقوال العلماء، لا سيما أقوال الصحابة والأجيال الأولى من الفقهاء والعلماء، وعزز من قابلية معرفة ما اجتمع علماء الأمة عليه، وما اختلفوا فيه ـ وإن كان لا يتصور أن يحدث ذلك كما نتصوره نحن وقد عشنا في عصر الاتصال وانتقال المعلومة في جزء من الثانية ـ بل وعزز من دور الإجماع كمصدر للتشريع بجانب الكتاب والسنة، بل ومصدر لفهم نصوص الوحي، ومن ثم قدمه بعض العلماء عند ترتيب أدلة بعض المسائل على الكتاب والسنة، كما فعل ابن قدامة في المغني وغيره. هذا العرض المختصر يهوّن علينا قبول وجود بعض الآراء التي تبناها بعض أهل العلم في زمن من الأزمنة، لكن أحدًا من تلامذتهم المقربين لم يتابعهم عليها، ولم تصبح مذهبًا متبوعا في أي من بلاد المسلمين، وهذا من حفظ الله لهذا الدين.

هذه الآراء التي انفرد بها بعض أهل العلم، جعلت مدوني أصول الفقه يختلفون "نظريًا" إزاء العلاقة بينها وبين الإجماع، فبعض العلماء نظر إليها أنها مجرد آراء لا تؤثر في انعقاد الإجماع، كما فعل ابن جرير الطبري، وابن المنذر، والنووي وغيرهم، وبعضهم نظر إليها على أنها قادحة في انعقاد الإجماع، لكن معالم الخلاف بين الفريقين تكاد تتضح حقيقتها بتصور وضع "الاتصال بين البشر" في ذلك الوقت. فمن قال بأن مخالفة الواحد أو الاثنين تضر بانعقاد الإجماع، تحدث عن انعقاد إجماع في وقت معين، كأن تبحث مسألة وجوب قراءة الفاتحة على المصلي أيًا كان إمامًا أو مأمومًا في عام 300 هـ، فيرى الجميع أنها واجبة، إلا أن ابن جرير الطبري يخالف في ذلك فيرى أن المصلي لو قرأ من القرآن أحرفًا تساوي أحرف سورة الفاتحة صح ذلك له، فلا يتصور أحد عندئذ أن يُشنَّع على ابن جرير الطبري صاحب العلم الذي تحدثت الركبان بجلالته، ولا يجرؤ أحد أن يقول في ذلك الوقت "أجمعت الأمة على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة"، فأين هم من ابن جرير؟ لكن السنون تمضي، وهاهم تلامذة ابن جرير تهجر قول شيخها، ثم تتابع الأمة قرنا بعد قرنا على هجرانه، فعندئذ سيتضح لدى الرائي أن ابن جرير قد انفرد بهذا القول، وأن الأمة قد أجمعت على خلافه، ولن يتعذر على بعض العلماء أن يتصور أن الإجماع ينعقد حتى مع مخالفة واحد أو اثنين. هذا ما نقوله تنظيرًا، لكنني حاولت ـ وما زلت أحاول ـ استقراء المسائل التي انفرد فيها بعض العلماء، وموقف الفقه الإسلامي منها، ووجدت أن ثمة مئات من الأقوال تروى عن عدد من التابعين، وأتباعهم، وجيل الأئمة الأربعة، لم تتبن الأمة شيئا منها، وإنما حفظت ودونت في الكتب الفقه ليس إلا، وبقيت في هذا الحيز، دون أن تتجاوزه لتصبح مذهبا يعتنقه عدد من علماء المسلمين في أي مصر من الأمصار، بل إن تدوينها يزيد من قناعتنا بصلابة مورثنا الفقهي الإسلامي، فإنه لم يخف علينا شيئا، كما أن تتابع إعراض الأمة عن قول انفرد به واحد أو اثنين يؤكد شذوذه، فقد علمت به الأمة، ومع ذلك فما عمل به منها أحد سوى هذا، أو هذين. ثم إننا إذا تأملنا تحذير العلماء قاطبة من الأخذ برخص العلماء، كقول سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً. اهـ. وأنهم أطلقوا الرخص على ما اجتمع فيه أمران: أولها: انفراد واحد أو اثنين من العلماء به. ثانيهما: أن هذا الأمر توسع في الإباحة، أو ترخيص في أمر حرّمه الجماهير. إذا تأملنا هذا التحذير من هذا الذي أسموه رخصًا لوجدناه يؤيد هذا الاتجاه؛ أي أن مخالفة الواحد والاثنين من العلماء لا تضر الإجماع، ولا يجوز العمل بذلك الانفراد، خاصة وإن كان متعلقا بجانب التيسير ـ في مقابل جانب التشديد ـ. وقد تتابع العلماء على عبارة مفادها (أجمع أهل العلم إلا من شذ)، وقد أكثر من استخدامها ابن المنذر، ورُمي بالتساهل في نقل الإجماع وبعدم اعتبار مخالفة الواحد والاثنين مناقضة للإجماع، إلا أن كثيرًا من العلماء تناقلوا بعض عباراته مستشهدين بها، وبعضهم قرر عبارات مثلها دون الرجوع إليه، ولولا أن إيراد الأمثلة يصرف ذهن القارئ لها لأوردت عددًا منها، ويمكن الاستعانة بالاسطوانات المدمجة لاستقراء جملة منها، وإلا فكثير منها معلوم لدى طلبة العلم. ومثل هذا ما انفرد به بعض الصحابة ولم يتابعوا عليه، بل تتابع العمل على خلاف ما انفردوا به، مثل عمل ابن عمر وأبي هريرة في إسباغ الوضوء، ورأي ابن مسعود في ترتيب المصحف وبعض سور القرآن، وقد تأدب العلماء فلم يصموا هذه الآراء بالشذوذ، ولكن أحدًا من العلماء لم يجز متابعتهم عليها.

وهنا يبرز السؤال: كيف يقال أجمع العلماء إلا من شذ، أليست مخالفة الواحد أو الاثنين تقوض ـ على مذهب الجمهور ـ انعقاد الإجماع؟ ولا يقف جوابٌ على هذا الإشكال إلا أن نقول إن الأصوليين الذين ذهبوا إلى أن الإجماع لا ينعقد بمخالفة واحد أو اثنين؛ قد ذهبوا لذلك تنظيرًا، أما تطبيقًا فإن الجميع اتفق على أن ثمة شيئًا اسمه قول شاذ، وأنه لا يجوز العمل به، وأن ضابطه أنه ما انفرد به واحد أو اثنين (بل ربما ثلاثة)، وأنه يتعين قبول القول الآخر (أو الأقوال الأخرى)؛ يتعين ذلك سواء سمينا ذلك إجماعًا أم لم نسمه إجماعًا. فحقيقته أنه أخذ حكم الإجماع وإن لم يسمه بعض العلماء إجماعًا! وخلاصة الأمر، أن القول الشاذ الذي لا يجوز الأخذ به ـ كما هو واضح من اسمه ـ أنه القول الذي ينفرد به واحد أو اثنان (بل ربما ثلاثة من العلماء)، وهذا القول يكون قولا لم تتبناه أحد المذاهب الفقهية الأربعة، أو لم يحك قولاً فيها. وهنا لا بد لنا من التأكيد على أنه ثمة من تبنى بعض هذه الآراء من غير أهل الأهواء ألئك، إذ قد تبين لهم ما ظنوه دليلاً، إلا أننا لا بد أن نملك قدرًا من الشجاعة لنقول بأنهم قد أخطأوا مع ظننا بأنهم مخلصون، ولا بد لنا من شجاعة مماثلة كذلك لنقرّ بأن بعض من أغلظ في الرد عليهم من أهل المذاهب والتقليد ما حملهم على ذلك إلا غيرتهم على الإسلام وخشيتهم من ظهور مدرسة اكتشاف الإسلام هذه بحجة العمل بالدليل ونبذ التقليد. لم لا نعمل بالقول الشاذ: الجواب له أكثر من شق؛ أما أولها، فإن القول الشاذ مخالف إما للإجماع، أو لحكم الإجماع، وقد تقدم ذلك. أما الشق الثاني، فإن العمل بالقول الشاذ يقتضي ترجيحه على قول أطبقت عليه الأمة جيلاً بعد جيل، خلا أفراد قلائل منهم، وهذا يتضمن أو يستلزم القول بخطأ الأمة، أو القول بتتابع علمائها جيلاً بعد جيل على الضلال، وترجيح الخطأ دون الصواب، وهذا محال عقلا وشرعًا، بل ويلزم منه أن الحق قد خلت الأرض منه مددًا من الزمن، وأن شيئا من دين الله لم يعمل به قرونًا من الزمن في أرض الله بعد بعثة رسول الله، وهذا مخالف لبدهيات دين الله الذي تكفل بحفظه! ولا يقولن قائل إن الحقّ مع الدليل ولو قل من أخذ به، فإننا لا نتحدث عن قلة فيما يقابل الكثرة، ولكننا نتحدث عن شواذ مقابل جماهير عددها غالب ليس في طبقة واحدة ولا جيل واحد، ولكننا نتحدث عن جماهير العلماء جيلاً بعد جيل، ويبعد أن تتابع هذه الجماهير بأعدادها الغالبة على عدم الأخذ بالدليل الذي استند إليه الشاذ من الأقوال، بل إن الأقرب أن يقال بأن الجماهير الغفيرة من العلماء جيلاً بعد جيل تركت الأخذ بهذا الدليل إما لضعف فيه لم يتبين للمخالف، أو لعدم دلالة معناه على المقصود، أو لوجود معارض له قد خفي على المخالف أيضا. وعلى هذا، فإن الثورة المعلوماتية، وإن أسهمت في إظهار المخبأ فلن تسهم في تغيير ديننا، ولن نصبح كأهل البدع والأهواء، كلما ظهر لهم من هو ألحن مِن سابقه تبعوه، فلم يبق لهم دين، ولن تساهم الاسطوانات المدمجة في اكتشاف معالم ديننا، أو في صناعة دين جديد لنا، والله حافظ دينه كله من قبل هذه التقنية، وسيحفظه بعدها، ودخول الجنة والنجاة من نار جهنم ليستا معلقة بأقوال في ديننا لم تكشفها إلا التقنية الحديثة. وأما الشق الثالث: فهو ما تقدمت الإشارة إليه أن العمل بالقول الشاذ، مقارن للعمل برخص العلماء مجتمعة، وهو سبب للمروق من الدين، وطريق سهل إلى الجحيم، والله سيحاسبنا كما أراد، لا كما أردنا، وحسابه عسير، ونار جهنم يدخلها مع الكفار طوائف لا تحصى من المسلمين، لا يخلدون فيها، لكن يوما عند ربك كألف سنة مما يعدون، وصغائر الذنوب ليست حلالا ولا مباحة، وربما اجتمعت على المرء فأهلكته، ولذا حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، هذه أسس "فكرية، عقدية، إيمانية، وعظية" أهملها بعضنا بحجة إصلاح حال الأمة، فأخشى أن لا تصلح الأمة في الدنيا، وأهم من ذلك وأكثر خطرًا أن يدخل كثير من أهلها نار جنهم، نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة. بقي لدينا أمور لا يتسع لها هذا المقال، بحثت في الكتاب الأصل، أسأل الله أن ييسر إخراجه عما قريب: الأول: لمَ لا نقول بأن القول الشاذ هو ما خالف الدليل؟ الثاني: الفرق بين القول الشاذ والضعيف. الثالث: هل تبنى شيخ الإسلام ابن تيمية أياً من الأقوال الشاذة؟

جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة

جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة فهد بن صالح العجلان 28 رجب 1431هـ (هلع) و (ارتباك) و (تحفُّز) يصيب كثيراً من المؤلفين المعاصرين في موضوعات النظام السياسي حين يمرُّون على بحث (حدِّ الرِّدة) في الإسلام؛ فهو يشكل لهم إحراجاً لا يطاق أمام ضغط الثقافة الغربية المعاصرة التي تضع (الحرية الدينية) في قمة هرم الحقوق والحريات المدنية التي تحتضنها، وتقاتل في سبيل التزام جميع الأمم والحضارات بها على وَفْقِ التفسير والمعيار الغربيين. فتوالت البحوث والدراسات التي تبحث في الدلائل الشرعية عمَّا يخفف من شدة نكير الأصوات المستغرِبة؛ ليَصِلُوا بهذا الحكم الشرعي إلى (النفي) أو (التأويل) أو (التكييف) الذي يجعله متلائماً مع الحالة المعاصرة؛ فهي وإن بحثته بطريقة النظر في دلائل الكتاب والسنَّة؛ إلا أنها تضمر في داخلها حقيقةَ أنها تسعى بأي طريقة للتخلص من هذا الحكم لضرورة الخروج بالمظهر اللائق أمام الآخر. وهذا ما يفسر لك أن البحث في إشكالية الرِّدة وإثارة الخلاف حول حكم المرتد لم يكن له أيُّ حضور في المذاهب الفقهية السالفة؛ فمع أن الفقهاء يختلفون في كثيرٍ من المسائل، ويتنازعون حتى في المسائل التي وردت نصوص صريحة فيها؛ إلا أن حدَّ الرِّدة لم يكن مجالَ اختلاف بينهم؛ فقد أجمع عليه الفقهاء كافة، وحكى الإجماعَ عليه عشرات من الفقهاء من مختلف الأزمان (¬1)، بينما تجد هذا الحكم حاضراً ومُشْكِلاً في الدراسات المعاصرة؛ وهو ما يدلل على أن العامل المؤثر فيها ليس هو النظر في الاجتهاد الفقهي بِقَدْر ما هو تأثُّرٌ بروح الثقافة الغربية. إن الملفت للانتباه أن (التخلص) من هذا الحكم الشرعي لم يَسِر على طريقة واحدة؛ فلئن اتفقت كلمة كثير من المعاصرين على (ضرورة) الانفكاك من تبعات هذا الحكم، إلا أن وسيلة تنفيذ ذلك قد تعددت فيما بينهم، فاجتمعت علينا طرائق عديدة نستخلص من كل واحدة منها مَنْزِعاً من منازع الانحراف الفكري، المتباينة في ما بينها تبايناً كبيراً؛ إلا أنها تجتمع في حالة (إشكالية الرَّدة): فبعضهم: ينكر هذا الحكم لعدم ذِكْره في القرآن الكريم، وينظر في الآيات القرآنية التي تخاطب الكفار وتحكي مقولاتهم، فلا يجد فيها أي عقوبة لهم في الدنيا؛ وهو ما يعني أن الشريعة لا تُرتِّب أي عقابٍ دنيوي على من يمارس حريته الدينية في الدنيا، وهذا التفسير يستبطن الانحراف القائم على (إنكار) سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورَفْضِ الإيمان بها؛ لأن حدَّ الرِّدة لم يثبت إلا في سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فالمطالبة بأن يُذكر الحكم في القرآن يعني أن السُّنة غيرُ كافية في هذا الباب. ولا يصل الأمر بآخرين إلى هذا الحد؛ فهم يثبتون السُّنة النبوية، لكنهم يحكمون على حديث: «مَنْ بدَّل دينه فاقتلوه» بأنه من قَبِيل أحاديث (الآحاد)، ولا يستقيم العمل بها؛ لأنها ظنية؛ وهذا انحراف في إنكار شيء من سُنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشكِّل عامة أحاديثه - صلى الله عليه وسلم -. وثمة آخرون: لا ينكرون العمل بخبر الآحاد لكنهم لا يرون العمل به في المجالات المهمة كمجال التشريع، وهذا انحراف في وضع شرائطَ معاصرة حاكمة على السُّنة النبوية؛ وكأن موضوعات التشريع هي المهمة دون موضوعات العبادة أو الاعتقاد أو الأخلاق. ¬

(¬1) منهم - على سبيل المثال -: ابن المنذر في الإجماع (ص76)، والبغوي في شرح السُّنة: 5/ 431، والنووي في شرح صحيح مسلم: 12/ 208، وابن قدامة في المغني: 12/ 264، وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: 1/ 355، والسُّبكي في السيف المسلول: (ص119)، وغيرهم.

في تقسيم السُّنة إلى (سُنة تشريعية) و (سُنة غير تشريعية)، وعلى سوء فهمهم لهذا التقسيم، إلا أن الإشكال الأبرز هنا أن المعيار لمعرفة (التشريعي) في السُّنة من (غير التشريعي) معيار مضطرب وغير محدَّد، وإنما يُستَخدَم عند كثيرين؛ لإزاحة بعض الأحكام. ويأتي بعضهم بذريعة (الخلاف الفقهي)؛ ليزيح حضور هذا الحكم عن طريقه، مع أن المسألة ليس فيها خلاف أصلاً (¬1)، ولو كان ثَمَّ خلاف بين الفقهاء في أي حكم شرعي؛ فالخلاف لا يلغي العمل، وليس من شرط العمل بالأحكام الشرعية أن يتم الاتفاق عليها. وسادس هذه الانحرافات: من يفسِّر حدَّ الرِّدة بأنه (الخروج) على الدولة ونظامها؛ وهو ما يطلَق عليه في النُّظم المعاصرة: (الخيانة العظمى) وهي تبيح التعامل معه بالقتل: وهذا التفسير جميل، متلائم مع الفكر الغربي المعاصر، لكنه بعيد عن دلائل الشريعة وكلام الفقهاء؛ وهو من قبيل تطويع الشريعة لتستقيم مع الوضعية المعاصرة، ويبدو مقنعاً لكثيرٍ من الغربيين والمستغربين لكن أصحاب هذا التفسير سيقعون في (ورطة) مع عقلاء الغربيين وأتباعهم الذين يدركون حقيقة هذا الحكم الشرعي، وسيكون مثل هذا التفسير سبيلاً للاستطالة على الشريعة؛ من جهة أن هذا التفسير يتضمن (اعترافاً) من أصحابه بأن الحكم الشرعي على أساس التفسير الفقهي المعروف مرفوض عقلاً. وسابع الانحرافات: الاستمساك بالمصلحة في كافة صورها لتعطيل العمل بالنص: وموضع الانحراف هنا ليس في ترك العمل بالحكم الشرعي في حال وجود مصلحة معيَّنة معتبرة، أو ضرورة أو حاجة ماسَّة، بل هذا اجتهاد شرعي وإن حصل اختلاف في تطبيقاته؛ وإنما الإشكال أن يعطَّل الحكم بكليَّته بدعوى المصلحة، وأن تكون المصلحة حاضرة عند النظر في ثبوت الحكم الشرعي ابتداءً؛ فبدلاً من تقرير ثبوت هذا (الحكم) مع عدم إمكانية تطبيقه أو وجود ضرر أو غياب مصلحة عند العمل به، يأتي (صاحب المصلحة) لينفي هذا الحكم من أساسه بدعوى المصلحة، وهذا خلل؛ لأن المصلحة (بشروطها) قد تُوقِف العمل بالحكم الشرعي، غير أنها لا تزيل وصف الشرعية عن الحكم تماماً. ¬

(¬1) ينسب كثيرون إلى الفقيهين الكبيرين (إبراهيم النخعي) و (سفيان الثوري) - رحمهما الله - أنهما ينكران حدَّ الرِّدة، والحقيقة أن خلاف هذين الإمامين إنما هو في (استتابة) المرتد وليس في حكم قتله؛ فقد كانا يقولان: يستتاب أبداً، كما رواه عبد الرزاق في مصنفه، (10/ 166) وقولها هذا إنما هو في مَعرِض حكم الاستتابة وليس في محلِّ الحكم الأصلي، وقد روى عبد الرزاق في مصنفه، (6/ 105) عن الثوري: أن المرتد إذا قُتِل فماله لورثته، وذكر عنه أيضاً في (9/ 418): أن من قُتِل مرتداً قبل أن يرفع إلى السلطان فليس على قاتله شيء، وهو ما يدل على أن حكم الثوري لا يخالف في هذه المسألة؛ وهذا ما فهمه الفقهاء في كتب المذاهب؛ حيث يذكرون كلام هذين الإمامين في خلاف الفقهاء في حكم (الاستتابة) وليس في عقوبة المرتد. انظر على - سبيل المثال -: المغني لابن قدامة: (10/ 72) ومغني المحتاج للشربيني: (4/ 140). وعلى التسليم بأن النخعي والثوري ينكران حدَّ الرِّدة؛ فإنهما يطالِبان بالاستتابة الدائمة، وليس بالحرية الدينية للمرتد؛ وبناءً على ذلك فالإشكال الذي يلاحق حدَّ الرِّدة سيأتي هنا، فإذا كان القتل مرفوضاً في الحرية الدينية المعاصرة، فالملاحقة والاستتابة والسجن مرفوضة كذلك

من يتحدث عن ضرورة تقديم صورة حسنة للغربيين، وأن الحديث عن حدٍّ للمرتد في زمان شيوع ثقافة الحريات الدينية وقيام النظم السياسية الغربية على حمايتها، يقدم صورة مشوَّهة عن الإسلام ... إلخ. هذا هو الكلام الذي يقال في كثيرٍ من أحكامنا الشرعية، ومع ذلك ما تزال دعوة الإسلام تنتشر في الأوساط الغربية بشكل مذهل؛ وهو ما يعني أن وَهْمَ التشويه الذي يتحدث عنه هؤلاء الناس محض خيالٍ علمي، وهو قائم على تصوُّر غارقٍ في الوهم؛ بأن تحسين صورة الإسلام؛ ولو بإخفاء وتغيير الحقيقة سيوقف خصوم الإسلام عن مواصلة التشويه. والتاسع: يشيع (الرعب) و (الذعر) من أن تقرير مثل هذا (الحكم) سيكون سبباً لاستغلال بعض النظم السياسية له في سبيل القضاء على مخالفيهم وخصوماتهم: فحين يأتي بعض الناس فيسيء تطبيق حكمٍ شرعيٍّ مَّا، فالحل في هذا النظر العقلي أن يُلغَى الحكم الشرعي كله. ويأتي بعضهم: فينفي هذا الحكم لمعارضته لأصلٍ قطعي مُحكَم هو (الحريات)، وهذا الانحراف مركَّب من وجهين: الأوَّل: أنه يضرب بالأصول الكلية على هامَة الأحكام الفرعية، مع أن الأصول إنما تثبت من خلال اجتماع الفروع؛ وإلا فعلى هذه العقلية من التفكير يمكن أن ننفي حكم الربا؛ لأنه معارض لأصل قطعي هو (حِلُّ البيع)، وننفي حكم شرب الخمر والميتة ولحم الخنزير؛ لأنه معارض لأصل قطعي هو (حِلُّ الطعام). والثاني: أنه جاء بمفهوم غربي معاصر هو (الحريات) ليجعلَه أصلاً شرعياً، قطعياً أيضاً. تلك عَشْرَة كاملة، هي أبرز وسائل البحوث المعاصرة (للتخلُّص) من هذا الحكم الشرعي، قد اجتمعت فيها منابت الانحراف المعاصرة من جذورِ بقاعٍ شتى، حضر فيها (منكِر) السُّنة، و (مضيِّق) العمل بها، و (مقطِّع أوصالها)، ومن يعطل الأحكام الشرعية بدعوى (الخلاف) أو (المصلحة)، ومن يعارض الأحكام الشرعية بأصول فكرية محدَثَة، ومن (يخاف) من الحكم الشرعي أو (يخاف عليه)؛ فأصبح النظر إلى هذا الحكم (جامعاً) للانحرافات الفكرية المعاصرة، وحين يأتي المسلم فيقرر هذا الحكم كما جاء في النصوص الشرعية وبما نقله كافة الفقهاء، فإنه يسجل شهادة خير لنفسه، ليحمد الله عليها لسلامته وبُعْدِه عن مثل هذه الانحرافات التي عم بها البلاء. المصدر: مجلة البيان

أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (1/ 2)

أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (1/ 2) المقال الأول: الظاهرة د. هيثم بن جواد الحداد [email protected] 25 رجب 1431 الحمد لله والصلاة على رسول الله، أمَّا بعد فلم يحظ موضوع أصولي في العشرين سنة الماضية ما حظيه موضوع مقاصد الشريعة، وقد ساهمت أحداث سبتمبر وما أعقبها مما يسمى بالحرب على الإرهاب في مزيد من الاهتمام بهذه الموضوع بشكل لم يسبق له مثيل. السياسيون اهتموا به لتمرير "أجندتهم" السياسية، والإعلاميون تمسكوا بها، لتبرير مخالفت الإعلام للشريعة، وكثير من الدعاة تمسك بها من أجل المزيد من المكتسبات سواء لدى عامة الناس، أو لدى شرائح "الملء"، وتولت مقاصد الشريعة مع "ظاهرة الخروج عن مألوف الشريعة المعهود لدى المسلمين بحجة نبذ التقليد والعمل بالدليل" مهمة تمرير "لبرلة" الإسلام وعصرنته، وكان أخطر ما في الأمر تبني شرائح إسلامية عديدة لهذا الفكر الأصولي الفقهي فكانوا أخطر الجميع. لقد اهتم الجميع بهذين الموضوعين؛ مقاصد الشريعة، عزل النص (الإلهي) القرآن والسنة، عن العمل البشري (اجتهاد الفقهاء)، حتى لم يعودا موضوعين أصوليين، بقدر ما أصبحا أداة خطاب، كل يستعملها كيف شاء، ولأي غرض شاء. وقد أقبل جمع من بعض الدعاة وطلبة العلم وبدون تمحيص إلى مقاصد الشريعة من خلال منظور محدد، وتبنوها، وكتبوا فيها رسائل علمية، مما زاد الفهم الخاطئ لها تثبيتا وتقريرا، وعسر على بعض منهم الاعتراف بأن ثمة خطأ في هذه المنظومة الفكرية الأصولية التي نسجت بتوال على خطأ واحد، ووقف كثير من الدعاة وبعض طلبة العلم وأهله عاجزين عن مواجهة هذا الفكر باللغة نفسها، فعمد بعضهم إلى لغة عاطفية قد لا تكون مناسبة في مقام تأصيل وتقعيد، مما بدا لكثير أنه عجز في الحجة نفسها، لا في طريقة أدائها، الأمر الذي أكسب هذا الفهم القاصر والمغلوط زخمًا ومزيدًا من الرسوخ. فمقاصد الشريعة بذلك الفهم ألغت المطالبة بوحدة المسلمين تحت خليفة واحد، إذ إنّ مقصود الشريعة الأعظم هو حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال والعرض وهذا يتحقق بهذه النظم الورقية المعاصرة، أما ما نعم به المسلمون في بعض أزمانهم من وحدة جعلتهم دولة مرهوبة الجانب، فتحت مشارق الأرض ومغاربها، إنما هو مجرد واقع تاريخي ومرحلة زمنية لا يجوز أن تفرض نفسها على نظرة المسلمين السياسية المعاصرة. ومقاصد الشريعة ألغت جهاد الطلب، وقصرت الجهاد على الدفاع، فمواثيق الأمم المتحدة، وبنود التعايش السلمي تمنع الاعتداء، الذي هو قلب مقاصد الشريعة، وليت الأمر اقتصر على "وقف العمل بجهاد الطلب حتى تكتمل شروطه" بل تجاوزه إلى إلغاء جهاد الطلب وشطبه من القاموس الإسلامي بالكلية. وقل مثل ذلك فيما أجمع عليه فقهاء المسلمين حتى قبل المائة سنة الماضية من تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وما تبع ذلك من جعل الولاء السياسي في الإسلامي مبنيا على الولاء العقدي لا العكس. وتسابقت الدول الإسلامية في فتح أراضيها للقوات الأجنبية الكافرة لضرب حركات أو دول إسلامية مجاورة وتذرع هؤلاء بدون حياء بمقاصد الشريعة التي توجب عليهم المحافظة على مكتسبات الدولة (وبعضهم أسماها الأمة)، ومصالحها العليا. وأخمد أيٌ من الأصوات المعارضة لصوت بعض الأنظمة الحاكمة، ولو كانت معارضتها هادئة وديعة، وتكفلت مقاصد الشريعة المغلوطة بهذه المهمة متذرعة بسعي الشريعة لتحقيق وحدة الأمة وتجنب الصراعات المدنية التي تضيع حفظ الأنفس والأموال والأعراض، وتكفل كبر ذلك أشياخ أو علماء، فعباءتهم أوسع العباءات، وهي الأكثر تأثيرًا في الحس الإسلامي، فلا أنسب منها رداءا وقت الحاجة!.

أما على الصعيد الإجتماعي، فقد فرضت علينا مقاصد الشريعة هذه تغيير وضع المرأة المسلمة ونظرة المجتمع لها، إذ لم تعد مهمتها الكبرى تربية الأولاد والعناية بالبيت، بل تجاوزته إلى مساهمتها في الحياة السياسية وربما العسكرية، وعليه فلا بد من تغيير المعهود من أحكام إختلاط النساء بالرجال، وصفة الحجاب وشروطه .. وعند الأقليات، أباحت مقاصد الشريعة للزوجة التي أسلمت تحت زوج كافر، أن تبقى معه على كفره، مناقضة بذلك ما أجمع عليه العلماء أو اتفقت كلمة جلهم على انتهاء عقد الزوجية بدخولها في الإسلام. ولن يتخيل بعض القراء بعض الأمثلة التي سأوردها، فكثير منها يتداول في الغرب، لكن الأخطر من ذلك أننا أصبحنا نرى ونسمع عن تداول الأمثلة نفسها في بلاد المسلمين، فمثلاً يكثر بعض الدعاة في الغرب الحديث عن ضرورة إعادة قراءة بعض أحكام الإسلام، وضرورة القيام بحركة تصحيحية تجاه نظرة الإسلام للملل الأخرى وأهلها، أو أحكام الأقليات في الإسلام، والحدود الشرعية، وقوامة الرجل على المرأة، وميراثها، ونظرة الإسلام لما يسمى بالمثلية الجنسية (الشذوذ الجنسي)،إذ أن هذه الأحكام بحسب زعمهم جاءت منسجمة مع واقع معين، فإذا ما تغير هذا الواقع واضطرب هذا الانسجام، وجب تغيير الأحكام محافظة على هذا الإنسجام الذي هو أحد مقاصد الشريعة!. وفي الغرب كذلك يكثر الحديث بين الأوساط الإسلامية عن العلمانية، وأنها أصلح الأنظمة لحكم المجتمعات متعددة الثقافات، بل لحكم مجتمع ذي ثقافة واحدة لكنه مرتبط بمجتمعات متعددة الثقافات من خلال أدوات العولمة، ونرى الآن كثيرًا من بعض الإسلاميين في بلاد الإسلام يؤمنون بهذه الأفكار وربما روجوا لها بحماس يثير الدهشة. البداية: تكاد كلمة الباحثين تتفق على أن أول من أفرد مقاصد الشريعة بالذكر هو الغزالي (505هـ)، فقد ذكر أن الشريعة جاءت لرعاية خمس مقاصد؛ حفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، وتابعه على هذه الطريقة جل من تحدث عنها خلا شيخ الإسلام ابن تيمية (708هـ)، وكما تقدم ذكره، فلم يأخذ هذا الموضوع حيزا من الاهتمام إلا في العقد السابقين، لكن أكبر خلل وقع فيه من تحدث عن مقاصد الشريعة هو قصرها على المصالح الدنيوية، ولا أظن أنه دار بخلد الغزالي ولا غيره من السابقين أن مقاصد الشريعة ستصبح دنيوية محضة، تغيب فيها المقاصد الأصلية الكبرى، إلى أن ينتهى الحال بمقارنة الشريعة بالنظم الوضعية، ونسي الجميع بما فيهم عدد من الأفاضل، أن أهم وأعلى مقاصد الشريعة التي جاءت من أجلها إنقاذ الناس من عذاب النار، وإدخالهم جنات عدن، من خلال التعبد للرب وحده لا شريك له، ذلك المقصد الذي تذوب فيه كل المقاصد الأخرى، ومن ثم فإنه يؤثر في رؤى الناس للكون والحياة؛ للسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، لتنفيذ الحدود وتطبيقها، للعلاقة بين الدنيوي والأخروي، لهيمنة الشريعة وثباتها، للمقصود من الحضارات، لربط الفرد بعلاقة متزنة مع جميع من حوله بما فيهم الجماد. إنّ المتتبع للقرآن الكريم والسنة المطهرة، يرى أن النصوص تحدثت عن "إرادة إلهية"، ولا شك أن هذه الإرادة هي العليا، وعليه فلا يمكن أن تكون مقاصد الشريعة، إلا تبعا لهذه الإرادة، ومن خلال التتبع لهذه النصوص لا يصعب علينا أن نميز بين إرادات (مقاصد) أربع، يدل عليها كذلك الاستقراء العقلي: ما أراده الله لنفسه من خلقه الخلق، وهو ما يُعبر عنه أحيانا بالإرادة الكونية. ما أراده الله لعباده من خلقه لهم. ما أراده الله لنفسه من شرعه الشرائع، وهو ما يعبر عنه أحيانا بالإرادة الشرعية. وما أراد الله لعباده من شرعه الشرائع. وهذه الأنواع كما ترون يمكن أن تدمج لتصبح اثنين: ما أراد الله لعباده. ما أراد الله لنفسه. وإن أكبر خطأ وقع فيه المقاصديون الجدد هو إهمالهم لما أراد الرب لنفسه، ولما أراده لخلقه بعد مماتهم، مع أنهما الأهم في ما رمت إليه الشريعة. أما ما قصدته الشريعة من حفظ الضروريات الخمس المذكورة، فإنه ثانوي ومكمل لهذين المقصدين، ومن أهم ما يترتب على ذلك ترتيب أولويات الشريعة، وأهلها، لا سيما عند التعارض بين الأدلة، أو الأحكام، أو عند محاولة تنزيل بعض الأدلة على بعض الوقائع المعاصرة، وما يعرف بالسياسة الشرعية.

أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (2/ 2)

أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (2/ 2) المقال الثاني: مقاصد هم، ومقاصد القرآن الكريم د. هيثم بن جواد الحداد [email protected] 25 رجب 1431 فيما يلي عرض للمقصدين الأولين بحسب الاستقراء الكلي لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة: أما المقصد الأول: وهو ما أراده الله لذاته العلية، بأن يعبد وحده لا شريك له، فيعظم، ويرهب من جانب، ويحب ويطلب من جانب آخر، وأدلته في القرآن الكريم أكثر من تحصى، لكني سأقتصر منها على يفيد العلية والسبب، أو الغاية والحكمة. فمن أهم آيات القرآن الكريم (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقوله (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)، و (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، وهذه الآيات وما في معناها تفيد الحصر، مما يقطع القول بأن هذا المقصد هو أعظم المقاصد وأهمها. ومن أساليب القرآن الدالة على هذا المقصد، ما ورد في عدد من النصوص التي تفيد أنّ الله أراد من خلقه للخلق وشرعه للشرائع، وإرساله للرسل، وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أن تظهر وحدانيته بالإلهية، والربوبية، ويظهر أمره فوق كل أمر، وسلطانه فوق سلطان، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33}) سورة التوبة. وفي معناها آيتان أخريان، ومن أمثلة أدله هذا النوع من الأساليب أمر الله بالقتال من أجل أن يظهر دينه على الدين كله، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {39}) سورة الأنفال. فالله جل وعلا أمر بالقتال في سبيل الله، وهو من أجلّ ما أمرت به الشريعة بعد التوحيد، وكذلك هو أشقّ ما أمرت به الشريعة، لتحقيق هذه المقصد العظيم (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {8} لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {9}) سورة الفتح. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {12} سورة الطلاق. (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {97}) سورة المائدة. ومن الأساليب الدالة على هذا المقصد كذلك تلك الآيات والأحاديث التي تدل على أنّ الله جل وعلا أراد أن يبتلي عباده بالتكاليف التي أهمها إظهارهم خوفهم له وأنه فوق كل خوف، وحبهم له وأنه فوق كل حب، وكذا الخضوع والذل والانكسار بين يديه، ثم الرغبة إليه، والتوجه والالتجاء إليه دون غيره، وبمعنى آخر عبادته وحده لا شريك له.

ويدخل في هذا النوع أيضا إرادته جل وعلا أن يبتلي عباده بالخير والشر وأنواع المصائب، حتى يظهروا الصبر على ما أصابهم منه، والرضى به، والفرار إليه، والربّ جل وعلا يحبّ أن يعظم، وكل ما ازداد تعظيمه جل وعلا، وتقديمه على كل شيء حبًا فيه، وخوفًا منه، وكلما ازداد إظهار الخضوع له، ازداد تقرب العبد من ربه، ورفعة عنده، وكل ما كانت العبادة أكثر في إظهار التعظيم للرب جل وعلا، كانت أكثر حبًا له، وأكثر قربًا منه، وانظر إلى الصلاة التي هي عمود الإسلام، والفاصل بين الكفر والإيمان، كلها تعظيم له جل وعلا، ومن أهم أركانها التي تقرأ فيها الفاتحة التي يقول الله جل وعلا فيها قسمت الصلاة بيني وبين عبدين قسمين فإذا قال عبدي الحمد لله رب العالمين قال الله جل وعلا حمدني عبدي، فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي. ومن أمثلة أدلة هذا النوع ما يلي: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {31}) سورة محمد. قال ابن كثير أي لنختبرنكم بالأوامر والنواهي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا: إلا لنعلم أي لنرى. (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {7}) سورة هود. (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2} سورة الملك. (وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48}) سورة المائدة. ومن أمثلته كذلك: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (143)) سورة البقرة. ويدخل في هذا النوع كذلك تلك الآيات الكثيرة التي تدل على أن الله وعد من استجاب لأمره بالنعيم المقيم، وأوعد من تمرد على سلطانه بالعذاب المقيم، وكذلك الآيات التي تشير إلى أن الله أراد من خلقه للخلق أن يعذب العاصي وأن يثيب المطيع، ومنها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا {72} لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المنافقين وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {73}) سورة الأحزاب. وإذا تأملنا هذه الآية وما قيل في تفسيرها، لوجدنا أن الله خلق الخلائق كلها من أجل أن يعذب ذك ويثيب هذا، واللام هنا للتعليل كما نص عليه جماعة من المفسرين. وإذا كان هذا أهم مقاصد الشريعة الدنيوية، وهو مرافق للمقاصد الشريعة الأخروية، فإن مواقف المسلمين وحراكهم السياسي يجب أن يراعي منزلة هذا المقصد بين المقاصد الأخرى، وأي مناورة سياسية تغفل هذا فإن الله لن يكتب لها نجاحًا، لأنها أهملت إرادة الله جل وعلا، ومحبوبه، فأنى يكتب الله لها التوفيق.

وقد تتابع العلماء منذ العهد الأول حتى قبيل عصر الانحطاط الأخير هذا على فهم حقيقة واحدة قررها القرآن والسنة، أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى، وأن دين الله يجب أن يسود الأرض ويحكمها، فالأرض لله، فكيف يسود فيها غير حكمه، ومن هذا فمن البديهي العقدي أنّ أي حكم غير حكم الإسلام إنما هو منازعة للملك في ملكه، لا يمكن أن يرضاه أو يقر به، ولذا كان من أكبر الكفر. ففهم مقاصد الشريعة بهذه الطريقة، يعين على وضع التصور السياسي الصحيح الذي أراده الله من المسلمين، وقد تكون هذه القضية من أشد القضايا حساسية لكثير من الإسلاميين، وقد يكون فيها نوع حرج للبعض، لكن البحث هنا في تقرير الحقيقة، أما مجال التطبيق فقد يسعنا نوع من الاختلاف فيه، لكن يجب أن يحدونا كلنا البحث عن الحق، لا مجرد تقرير ما يجد قبولا عند شرائح واسعة من المجتمع. وآثار مراعاة هذا المقصد على النظرة الفقهية لكثير من المسائل المعاصرة واضح جدًا. فالمرأة الكافرة التي تسلم، فتفارق زوجها الكافر، حبًا لله وتعظيما لمراده على مرادها، موافق لأعظم مقاصد الشريعة، إذ فيه تقديم محبة الله على محبة من سواه، ولو كان أقرب الناس إليها، فكيف يقال إنّ مقاصد الشريعة تؤيد أن تبقى المرأة مع زوجها بعد إسلامها وبقائه على كفره. وقطع يد السارق فيه تحقيق للأمن، لكن فيه ما هو أعظم من ذلك، وهو الاستجابة لأمر الرب في هذا الأمر الشاق على النفس، الأمر الذي يحقق تعظيم الرب، وبه يفرح الرب جل وعلا، وأي مقصد أعظم من هذا. فإذا ما توهم أحد بأن قطع اليد السارق فيه مفسدة تعارض مصلحة تحقيق الأمن، فطالب بإلغاء تطبيق الحد، فأنى له أن يعرف رضى الرب من سخطه يوم يرى أن أمره في أرضه لا ينفذ!! وإيقاف التعامل بالربا فيه مصالح دنيوية وأخرى أخروية، فإن زعم أن المصالح الدنيوية قد ألغيت فأنى له أن يزعم أن المصالح الأخروية قد ألغيت أيضا!. والمفاصلة العقدية، وما يتلوها من تبعات سياسية لمن يسب الربّ، أو يسب أنبياءه، وأخصهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو صحابته، هي في أصلها موقف صحيح لأنه يأتي موافق لأهم مصالح الشريعة، وهو تعظيم جناب الربّ، فوق ما يمكن أن نحصل عليه من مصلحة سياسية، ولا يمكن تغليب المصلحة السياسية على هذه المصلحة العقدية، إلا إن كان المقصود تحصيل مصلحة عقدية أخرى أكبر. المقصد الثاني: ما أراده الله لعباده، وهو نوعان: النوع الأول: النصوص التي تقرر أن الشريعة أرادت من ضمن ما أرادت تحقيقه حفظ ضروريات الحياة، أي أنّ مقصد الشريعة هنا دنيوي، ويشمل الضروريات الخمس التي نص عليها الغزالي الأول في إفرادها بالذكر، ثم تبعه على ذلك جل من جاء بعده، والنصوص التي وردت بهذا النوع كثيرة ومتنوعة، تجدها في كل كتاب، ومقالة، ومحاضرة تحدثت عن مقاصد الشريعة. وهذه النصوص تقرر أنّ الله أراد حفظ هذه الضروريات لعباده، لكنّ الخطأ الذي وقع فيه عدد من الباحثين ناهيك عن المقاصديّن الجدد الحديث عن هذه المقاصد بمعزل عن المقصد ين الآخرين الأهم في المقاصد كلها؛ ما أراده الله لنفسه، وما أراده الله لعباده في الدنيا من غير الدنيوي المحسوس وما أراداه لهم في الآخرة، مع أنك لا تكاد تجد آية أو حديثًا تحدث عن أي من هذه الضروريات إلا وقد تحدث صراحة أو ضمنًا على أن تحقيق هذا المقصد مجرد أمر مؤقت، الأمر الذي يقطع بأنه مقصد ثانوي بجانب المقصدين الآخرين، ولا تكاد ترى مقصدًا من هذه المقاصد الثانوية إلا وهو وسيلة لتحقيق المقصدين الكليين الآخرين.

وقد اجتهد عدد من العلماء والباحثين فزادوا مقاصد دنيوية أخرى، منها أن الشريعة ترمي للتيسير على العباد، قال الله وجل وعلا (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). ومنها كذلك أن الشريعة جاءت لنشر الرحمة بين الخلق، إذ أن الله يقول (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). أما نشر العدل بين الناس فيمكن أن يقال إنه من مقاصد الشريعة الدنيوية لكن لم يذكره العلماء ضمن المقاصد الخمسة الثانوية، وقد يكون السبب عدم ظهور الحاجة الماسة لإفراده بالذكر. وبكل حال فهذه المقاصد الخمسة أو الستة مع ما زيد عليها لم يكن أمرًا قد أجمع عليه العلماء منذ عهد الأئمة الأربعة وحتى هذه العصور المتأخرة حتى يتعذر أو يشق علينا أن نخالفها، ولهذا فلا مانع من الزيادة عليها كما فعل جماعة من المعاصرين، لكنّ الأمر الذي لا يسعنا السكوت عليه هو قصر مقاصد الشريعة على هذه الدنيوية، أو في أحسن الأحوال عزلها، أو عزل العمل بها عن المقاصد الكلية الأخرى للشريعة، ومن تأمل القرآن الكريم يعجب من هذا الخطأ الذي وقع فيه عدد كبير ممن انتسب إلى العلم والباحثين، والأكاديميين، وغيرهم. فالنبي أرسل رحمة للعالمين، والصواب في معنى ذلك أنه جاء لينقذهم من نار جنهم، ويدخلهم الجنة، فرحمة الآخرة أولى، وأعظم، وأهم، من رحمة الدنيا، وقصر المقاصديّن الجدد، وأصحاب الخطاب الدنيوي هذه الرحمة على الدنيا، انتقاص للشريعة، وإهدار لحق الله جل وعلا، وقد جاء النبي بالتوحيد، والأمر به، حتى ينقذ الناس من عذاب الله أولا قبل كل شيء، وآخرًا وأهم من كل شيء، والله جل وعلا قال في ثاني سورة أنزلها على محمد (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2}) وسيأتي مزيد تقرير لهذا. والشريعة أرادت اليسر بالعباد، ومع هذا اليسر فإن الشريعة كلفت العباد، والتكليف كما تقرر عند الجميع، إلزام ما فيه مشقة، فكيف أرادت الشريعة اليسر، وقد ألزمت العباد بما فيه مشقة؟! (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {216}) سورة البقرة. الجواب هو أن الشريعة ألزمت الناس بشيء من المشقة، ابتلاء وامتحانًا كما قرره الأصوليون، والله جل وعلا جعل جزاء الصبر على هذا البلاء النجاة من مشقة نار جنهم، فكانت بذلك مريدة لليسر بهم، وهو أمر يحتاج إلى تأمل. ومثل هذا أو قريب منه يقال في العدل والقسط وأضرابها كمقاصد رمت إليها الشريعة وأرادتها. ولهذا، فيحسن بنا أن نسمي هذه المقاصد، بمقاصد ثانوية بجانب المقصد الكلي؛ ما أراده الله لنفسه العلية في الدنيا والآخرة. أما النوع الثاني: فإنه تلك الآيات والأحاديث التي تقرر أن الشريعة أرادت مصلحة العباد في الآخرة، أي بعد مماتهم، فالمقصد هنا راجع للعبد، ولكن في الآخرة: وقد يكون هذا المقصد ما أراده بعض من تحدث في المقاصد من الأوائل ومن مشى على طريقتهم يوم أن جعلوا حفظ الدين أول الضروريات، لكن كلام بعضهم أوهم أنه مقصود للعبد فقط، وليس مقصودًا لله، فإن كان هذا الذي فهمناه من كلام السابقين صواب، فقد أخطأ منهم من قال بذلك، وإن كان غير ذلك، فالصواب ما تضافرت عليه الأدلة مؤيدًا بإجماع علماء القرون الثلاثة وأئمة المذاهب - وهو ما ورد في النوع الأول - أن الغاية من الخلق أن يفرد الرب جل وعلا بأي نوع من أنواع العبادة التي هي في أصلها إظهار غاية الرهبة والرغبة للرب جل وعلا وحده لا شريك له، ومن ثم يثيب من يحقق هذا بجنة عرضها السموات والأرض، ويعذب من تمرد على هذا بنار تلظى، لا يموت من دخلها ولا يحيي، فالمقاصد إما راجعة للرب، وإما للعبد لكن في الآخرة وليس في الدنيا، وما يرجع منها إلى الدنيا ثانوي فرعي. ولا أظن أحدًا يقرأ هذا البحث بحاجة إلي إيراد الأدلة على منزلة هذا المقصد؛ أعني المقصد الراجع لمصلحة العبد في الآخرة، لا سيما إذا ما قورن بالمقاصد والمصالح الدنيوية. ولعل الله ييسر إخراج كامل البحث عما قريب.

عنيف القول ولطيفه تجاه السلف

عنيف القول ولطيفه تجاه السلف د. عبد العزيز العبد اللطيف 17 رجب 1431هـ لا يُنْتَظر من الغرب إلا مزيداً من العداء الجلي، أو المكر الخفي لدين الإسلام وأهله، لا سيما مذهب أهل السُّنة والجماعة؛ فقد جاهر ساركوزي فرنسا بأن الحجاب ناشئ عن السلفية، وأما أهل البدع المغلَّظة: كالرافضة وغلاة الصوفية؛ فلا يزالون في كيدٍ دائمٍ، وعداء متلاحق لمذهب السلف الصالح. لكن البلية أن ينساق بعض متسنِّنة هذا العصر إلى نقد السلفية، وتقويم أهل السُّنة عبر قنوات مأبونة، ومحافل مشبوهة، وربما تدثَّروا بالموضوعية وروح النقد والصدع بالحق. وأما أهل الأهواء والزندقة فهم في عافية من نقد أولئك «الشجعان»، بل صار الطعن في السلفية حِمَىً مستباحاً، واهتماماً راتباً، وقضية مكرورة مألوفة. ومع ذلك فإن التطاول على مذهب أهل السُّنة هو علامة الإرث الصحيح، والاتباع التام لسيِّد الأنام صلى الله عليه وسلم؛ فإن قريشاً كانت تسمي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً، وتارةً شاعراً، وتارةً كاهناً، والروافض يلقِّبون أهل السُّنة بالنواصب، وأهلُ الكلام يسمونهم حشوية ونوابت، وأهل التعطيل ينبزونهم بالمشبهة والمجسمة ... إلخ (¬1). وهذا الطعن والهجوم على مذهب السلف قد يكون في غاية النزق والبغي؛ فيكون حافلاً بالكذب الرخيص، والإفك المبين. ولئن كان هذا البغي والفجور في الخصومة مُوجِعَاً لأوَّل وهلة؛ إلا أنه سرعان ما يعتريه الزوال والانحسار؛ فهو أشبه بقعقعة الصبيان، وهذيان نزلاء المارستان. إضافة إلى أن العداء الصارخ، والحرب المكشوفة قد تبعث يقظة وتحفُّزاً، وتهيُّؤاً للمنازلة والمجالدة؛ فسبحان من قدَّر المقادير وأحكمها؛ فجعل في المحن مِنَحَاً وألطافاً! فتبارك الله أحسن الخالقين. وقد يسلك الخصوم مسلكاً هادئاً في مكايدة مذهب السلف، فيحرصون على التلطف والمراوغة من أجل تطويع مذهب السلف للتبديل والتحريف، والعصرنة والتنوير؛ فهو مسلك خفيٌّ يكمن مَكْرُه الخفي بإثارة الأغلوطات، وتكلُّف التأويلات، واتباع المتشابهات ابتغاء الفتنة، وقد يتظاهرون بمدح السلفية والاحتفاء بها، فَتَعْظُم الرزية بهؤلاء أشد ممن قبلهم. وقد يستغرب القارئ الكريم إذا علم أن هذا الكيد الخفي هو سبيل قديم لأهل البدع الذين مردوا على النفاق؛ كما كشفه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280هـ) - رحمه الله - قائلاً: «بلغنا أن بعض أصحاب بشر المريسي قال: كيف تصنعون بهذه الأسانيد التي يحتجون بها علينا في ردِّ مذهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؟ قال: لا تردُّوه فتفضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل، فتكونوا قد رددتم بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردٌّ بعنف» (¬2). وأظهر مثال على ذاك الهجوم بشقَّيه (العنيف واللطيف) هو الهجوم على شيخ الإسلام ابن تيمية وتراثه النفيس؛ فقد شَرِق الخصوم قديماً وحديثاً بهذا الإمام الرباني ومؤلفاته، وتكالبوا عليه، وأجلبوا بخيلهم ورَجِلِهِم، فما زاده ذلك إلا رِفعة وقَبولاً، وأضحت مؤلفاته ملء السمع والبصر، وفي شتى الأصقاع والبلدان. فأقرأ تصانيفَ الإمامِ حقيقةً ... شيخِ الوجودِ العالمِ الربانِي أعني أبا العباس أحمدَ ذلك الـ ... ـبحرُ المحيطُ بسائرِ الخُلْجَانِ هي في الورى مبثوثةٌ معلومةٌ ... تُبْتَاعُ بالغالي من الأثمانِ (¬3) فمن الكذبات الصلعاء أن ابن تيمية رجع إلى عقيدة الأشاعرة، وآخر يزعم أن ابن تيمية ليس سلفياً. ومن ركام ذاك الإفك الرخيص ما سوَّده أحد المعتوهين المنتكسين من أن ابن تيمية «المتشدد» يعاني أزمة روحية!!. ¬

(¬1) انظر: الحموية لابن تيمية، ص532، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية: 1/ 386، 3/ 643. (¬2) الرد على بشر، ص 556. (¬3) قالها ابن القيم في «النونية»، ص 163.

ثم يغالط ذاك المأفون هذيانه السابق فيزعم أن ابن تيمية يقرر أن جميع البشر إلى الجنة (¬1). وكذا ما ادَّعاه أحد المتعثرين المتقهقرين من أن ابن تيمية ليس له أي دراسة لكتب المنطق والفلسفة (¬2). والحال المذكور آنفاً وإن كان يحكي سفهاً وحمقاً، وجهلاً كثيفاً، إلا أنه يكشف نوعاً من عوارض «الإسقاط»، أو كما في المثل السائر: «رمتني بدائها وانسلَّتِ». ومن المغالطات الخفية ما تفوَّه به أحد المشايخ «العصريين» قائلاً: «شيخ الإسلام متسامح جداً؛ يقول بتهنئة أهل الكتاب وتعزيتهم، وعيادتهم إذا كانوا مرضىً، وهذا اختيار شيخ الإسلام، كما قال البعلي» (¬3). وادَّعى أيضاً أن الجهاد عند ابن تيمية لأجل العدوان وليس لأجل الكفر (¬4). إن العبارة الأُولَى لا تنفك عن إيهام ومغالطة، وبالرجوع إلى الاختيارات الفقهية للبعلي، نجد أن المقام بشأن أهل الذمة خصوصاً، الذين تجري عليهم الشروط العُمَرِية وما تحويه من الذل والصغار و «الغيار» على أهل الذمة، وليس جميع أهل الكتاب مطلقاً؛ فالكافر قد يكون ذمياً، أو معاهَداً، أو مستَأمَناً، أو محاربِاً، كما أن عيادتهم وتعزيتهم جائزة إن كان يُرجى إسلامهم، ثم إن البعلي حكى اختلاف كلام ابن تيمية في ردِّ تحية الذمي، وهاك العبارة بتمامها «واختلف كلام أبي العباس (ابن تيمية) في ردِّ تحية الذمي، هل تُردُّ بمثلها أو: وعليكم فقط؟ ويجوز أن يقول: أهلاً وسهلاً. ويجوز عيادة أهل الذمة، وتهنئتهم وتعزيتهم، ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة؛ كرجاء الإسلام. قال العلماء: يعادُ الذمي، ويُعرَض عليه الإسلام» (¬5). والشيخ المذكور يقول: (مشكلة الناس أنهم يقرؤون «اقتضاء الصراط المستقيم» ولا يقرؤون «الاختيارات الفقهية»). ولا موجب لهذا الامتعاض، وافتعال هذه الإشكال؛ فالجميع كلام ابن تيمية، والمتعيَّن أن يُنظَر في جميع تقريراته، بل إن تقريراته في «الاقتضاء» أوثق وآكد من تقريرات واختيارات يكتنفها فَهْمُ من جَمَعَها وصنَّفها، كالبعلي. وبالجملة فإن بتر النصوص، وإهمال بعضها ليس «ترشيداً» - كما يقصد الشيخ المذكور - بل هو «تشريد»، وبعثرة للنصوص، وتفريق لها. ¬

(¬1) ينظَر: منصور النقيدان، موقع إيلاف: 22/ 7/2007م. (¬2) ينظَر الدراسة الرائعة التي سطرها عبد الله الهدلق بعنوان: «الهادي والهاذي» في الرد على شغب «السرحان». (¬3) انظر: مقابلة مع الشيخ عبد الله بن بية في مجلة الإسلام اليوم، عدد 67. (¬4) انظر: مقابلة مع الشيخ عبد الله بن بية في مجلة الإسلام اليوم، عدد 67. (¬5) الاختيارات الفقهية، ص 319.

ومجاراةً للشيخ ومريديه في الاحتفاء بالبعلي؛ فإن البعلي اختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، واختصر اقتضاء الصراط المستقيم، وأسوق بعض ما جاء في مختصر الفتاوى المصرية: «وليس لأهل الذمة إظهار شيء من شعار دينهم في ديار المسلمين، وليس للمسلمين أن يُعِينُوهم على أعيادهم، لا ببيع ما يستعينون به على عيدهم، ولا بإجارة دوابهم ليركبوها في عيدهم؛ لأن أعيادهم مما حرَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما إذا فعل المسلمون معهم أعيادهم مثل صبغ البيض، وبخور، وتوسيع النفقات، فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال، بل قد نصَّ طائفة من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كفر من يفعل ذلك، ولو تشبَّه المسلم باليهود أو النصارى في شيء من الأمور المختصة بهم، لَنُهِي عن ذلك باتفاق العلماء، بل ليس لأحد من المسلمين أن يخصَّ مواسمهم بشيء مما يخصونها به؛ ومن فعل ذلك على وجه العبادة والتقرُّب به، فإنه يُعرَّف دين الإسلام، وأن هذا ليس منه، بل هو ضده، ويستتاب منه، فإن تاب وإلا قُتِل. وليس لأحد أن يجيب دعوة مسلم يعمل في أعيادهم مثل هذه الأطعمة، ولا يحل له أن يأكل من ذلك» (¬1). وأمر آخر فيما يخص التهنئة - التي هي محل خلاف - فيما ليس متعلقاً بأعيادهم وشعائرهم المختصة بهم؛ فتهنئة الكفار بأعيادهم حرام بالاتفاق، بل قد لا يسلم صاحبها من الكفر كما قرره ابن القيم تلميذ ابن تيمية (¬2)، بل قال العلاَّمة ابن عثيمين: «التهنئة بالأعياد؛ فهذا حرام بلا شك، وربما لا يَسْلَم الإنسان من الكفر؛ لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضاً بها، والرضا بالكفر كفرٌ، ومن ذلك تهنئتهم بما يسمى عيد «الكريسمس» أو عيد «الفصح» أو ما أشبه ذلك» (¬3). وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية: «لا يجوز للمسلم تهنئة النصارى بأعيادهم؛ لأن في ذلك تعاوناً على الإثم، وقد نهينا عنه، قال - تعالى -: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما أن فيه تودداً إليهم، وطلباً لمحبتهم .. وهذا لا يجوز، بل الواجب إظهار عداوتهم» (¬4). ودعوى أن الجهاد عند ابن تيمية لأجل المحاربة والعداون، وليس لمجرد الكفر، فهذه دعوى مردودة مكذوبة، والرسالة المنحولة لابن تيمية في ذلك لا تصح ولا تثبت، كما حرره جملة من العلماء والمحققين كابن قاسم (¬5)، وابن مانع في رسالة خطية بعثها إلى الشيخ ابن سحمان سنة 1340هـ (¬6)، بل صنَّف الشيخ سليمان بن حمدان سنة 1382هـ كتاباً مستقلاً يزيد على مائة صفحة في الردِّ على هذه الرسالة المزعومة، وسمى كتابه بـ: «دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع»، كما أن الذين سردوا مؤلفات ابن تيمية: كابن رشيق وابن عبد الهادي ونحوهما، لم يذكروا تلك الرسالة، بل إن هذه الدعوى منقوضة بتقريرات ابن تيمية في كتبه المعتمدة، ورسائله الشهيرة، كما في «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح» (¬7)، و «الصارم المسلول» (¬8)، والصفدية (¬9)، ومجوع الفتاوى ونحوها (¬10). ¬

(¬1) مختصر الفتاوى المصرية، ص517، 518 = باختصار، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم: 2/ 515، وجامع المسائل: 3/ 374، والمستدرك على الفتاوى: 3/ 255، ومجموع الفتاوى: 25/ 325 - 331. (¬2) انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم: 1/ 205، 206. (¬3) الشرح الممتع: 8/ 75، وانظر: فتاوى العقيدة لابن عثيمين، ص 246، وكتاب الأعياد المحدثة وموقف الإسلام منها لعبد الله المهنا. (¬4) 3/ 435. (¬5) انظر: مجموع الفتاوى: 8/ 5. (¬6) هذه الرسالة الخطية محفوظة في دارة الملك عبد العزيز بالرياض، رقم (263). (¬7) 1/ 75، (ط المدني). (¬8) 2/ 514. (¬9) 2/ 321. (¬10) انظر: 4/ 205، 28/ 349، 358.

قال ابن تيمية - رحمه الله -: «كل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه فلم يستجب له، فإنه يجب قتاله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ... » (¬1). وأخيراً: فإن على القارئ أن يستصحب أن تراث ابن تيمية يحوي مجاميع متنوعة، ومجلدات كثيرة، بل هو أشبه بالموسوعات المتعددة؛ فلا غرو أن يقع اشتباه وإشكال في مواطن من هذه المؤلفات، أو تَرِدَ عبارات محتملة أو موهمة؛ ومسلك العلم والعدل يقتضي أن يؤخذ بكلام المؤلِّف كله، ويردَّ ما كان مشتبهاً ومجملاً إلى ما كان واضحاً مفصَّلاً؛ فلا يُحتَجُّ بالأغرب منها علي الأغلب، ولا يُشغَب بالمغمور على كلامه المشهور (¬2). كما يتعيَّن على أهل السُّنة أن يحققوا الرسوخ في العلم الشرعي، وإحكام منهج السلف، وتحرير مسائل الاعتقاد، والتهيؤ التام لمدافعة الشغب على مذهب السلف، وإبراز القواعد الكلية والأجوبة المتينة تجاه شبهات وأغاليط المخالفين؛ فإن هذا الحِجاج والجدال من أعظم القربات وآكد الحاجات. «قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام:83]. قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم؛ فالعلم بحُسْنِ المحاجَّة مما يرفع الله - تعالى - به الدرجات» (¬3). «فقصة إبراهيم في العلم بالحجة، والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين، والمقصِّرون عن علم الحُجَجِ والدلالات مقهورون مع هذا الصنف، تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شرِّ بعضٍ في الدين، وتارة يعيشون في ظلِّهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم، وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدافعة لأهل البدع» (¬4). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: 28/ 349. (¬2) انظر المدخل إلى آثار ابن تيمية، ص 76 - 78. (¬3) بيان تلبيس الجهمية: 1/ 493. (¬4) مجموع الفتاوى: 14/ 493، 494 باختصار

التسامح العقابي مع المبتدع وضرورة الإتقان المعرفي

التسامح العقابي مع المبتدع وضرورة الإتقان المعرفي سلطان العميري 13 رجب 1431هـ تعد مسألة التعامل مع المخالف من القضايا الشائكة على مر التاريخ، فالخلاف فيها ضارب في أعماق تاريخ الفكر الإسلامي، ومن يتتبع مراحل ذلك التاريخ يجد تباينات واسعة بين أتباع المذاهب في تحديد القول الصحيح فيها، وتحرير الضوابط الموافقة لمقتضيات الدلالات الشرعية المتقنة. وها هو اليوم .. واقعنا المعاصر يشهد التباينات نفسها، ويعود فيه التاريخ من جديد، ليجعل هذه المسألة محل بحث ومثار جدل طويل. وبلا شك يلحظ المراقب في خطابنا السائد ميلا إلى الجانب التشددي في الموقف من المخالف في مجالات عديدة، ومن مظاهر ذلك التشدد: الانطلاق من سوء الظن بالمخالف، وشيوع القدح في ديانته, والاتهام بسوء الطوية، وإغفال ماله من حقوق وتغليب الجانب النافي لها. وهذه المظاهر تحتاج إلى إصلاح ومراجعة ومحاكمة إلى دلالات النصوص الشرعية وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. وقد أراد عدد من المهتمين بهذه القضية التخلص من الصورة الخاطئة في التعامل مع المخالفين، وكان من أظهر القضايا التي أرادوا مزاولة التصحيح فيها: قضية العقاب الدنيوي للمبتدع، وحسنا قصدوا، ولكنهم حين أرادوا ممارسة هذه العملية التصحيحية لم تكن ممارستهم خالية مما يقدح في انضباطها أو ما يعرقل مسيرتها، وإنما وقعت في ممارسات استدلالية ووصفية وتحليلية خاطئة أدت بها إلى نتائج مخالفة أو غير متسقة مع المستندات الشرعية الصحيحة، فغدت طريقة التصحيح محتاجة إلى تصحيح، وعملية النقد تتطلب النقد. وتبرز أعمق تلك الممارسات الخاطئة في الأمور التالية: الأمر الأول: شيوع التوصيف المخالف للواقع، فقد عمد كثير من المتبنين للتسامح العقابي إلى بناء توصيفات شرعية وتاريخية خاطئة مخالفة للواقع، وأخذ يستند إليها في تقرير ما يريد أن ينتهي إليه، وهي غير صحيحة في نفسها، وبالتالي وقع في بناءات خاطئة. والأمر الثاني: اختفاء المناطات الشرعية المؤثرة في الحكم، ومزاحمة المناطات الأخرى التي ليس لها تأثير في بناء أي حكم شرعي، فمن البدهيات الاستدلالية في المسائل الشرعية أن الواجب على الناظر في دلالات النصوص الشرعية التحرر من كل غرض نفسي أو واقعي أو مصلحي، ويتجرد لتحرير المناط الذي اعتبرته الشريعة في بناء الحكم الشرعي، ولكن الملاحظ في قضية التسامح العقابي عدم تحرير تلك المناطات المؤثرة، واختلاطها بمناطات أخرى لا تأثير لها، مما أوقع البحث فيها في صور عديدة تنافي الانضباط المعرفي والاستدلالي وهذا البحث يريد أن يسلط الأضواء على هذين الخطأين المنهجيين ويبين آثارهما على طريقة البحث والتداول في قضية التسامح العقابي مع المخالف، ويدرس مدى ربط التسامح مع المبتدعة مثلا بعدم إجراء العقاب الدنيوي معهم. ... ... ... أما الأمر الأول، وهو: التوصيف الخاطئ، فتتخلى أمثلته في القضايا التالية: القضية الأولى: القول بأن المنافقين كانوا يعلنون كفرهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من غير إنزال عقوبة دنيوية بهم، ليتم التوصل بعد ذلك إلى أن ثمة تسامحا عقابيا كان مع المنافقين. وقد استند هذا القول على نوعين من الأدلة: النوع الأول: أن الله تعالى كثيرا ما يذكر عن المنافقين أقوالهم ومناقضتهم لما كان عليه المؤمنون وأنهم يتحدثون في مجالسهم بذلك، ووجه إلى المؤمنين التوجيه مباشرة ولم يذكر أي إجراء عقابي، وإنما كان يأمر بالإعراض وعدم الإلتفات إليهم ونحو ذلك، وهذا يدل على أن المنافقين كانوا يعلنون أقوالهم وإلا كيف توجه الخطاب إلى المؤمنين مباشرة.

والنوع الثاني: انسحاب المنافقين بثلث الجيش يوم أحد، وهذا من أظهر الأدلة على إعلان المنافقين لكفرهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن حين نرجع إلى واقع المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لنتأكد من هذا التوصيف (إعلان الكفر) لا نجد ما يدل عليه، بل هو مخالف للواقع الذي كانوا يعيشونه، والشواهد على هذا عديدة، ومنها: وصف النفاق نفسه، فإن النفاق في الأصل يعني الخفاء والاستتار، فلوا كان المنافقون يعلنون كفرهم بين المسلمين فكيف يصح وصفهم بالنفاق إذن؟! ولهذا لما بين القرآن ما كانوا عليه من الكفر وسوء الطوية في سورة التوبة سمي هذا التبيان فضيحة، وسميت سورة التوبة بالفاضحة، والفضيحة تعني كشف المساوئ وإظهارها، فلو كان المنافقون يظهرون كفرهم فأي فضيحة حصلت إذن؟! ومن يطالع القرآن يجده يحكي عن المنافقين الخوف والاستتار وعدم إظهار ما يكتمونه في صدروهم، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم} [التوبة:101] , فهذه الآية دالة على أن المنافقين يخفون كفرهم بحيث لا يعلمهم الرسول ومن معه، ومن ذلك: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُم * وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم} [محمد:29 - 30]، فهذه الآية تدل على أن كفرهم غير ظاهر وإنما يمكن أن يعرف بالقرائن. ومن ذلك قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون} [التوبة:64] , فهذه الآية غخبار من الله تعالى عن خذر المنافقين من إظهار القرآن لحقيقة ما هم عليه، فلو كانوا يظهرون الكفر علنا فبما مبرر هذا الحذر؟! ومما يدل على ذلك: أنه نقل عن عمر بن الخطاب أنه لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة خشية أن يكون الميت منافقا، فلو كان المنافقون يعلنون كفرهم جهارا لما خفي على عمر، وهو الرجل القريب من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا يظهروا كفرهم لما كان العلم بأسماء بعضهم سرا خاصا بحذيفة رضي الله عنه. وإذا طالعنا حال المنافقين وجدنا أنهم يتحملون مشاقا كبيرة، فقد كانوا يخرجون إلى الغزوات ويحضرون الصلوات وهي ثقيلة عليهم جدا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانوا يظهرون كفرهم فلماذا ها التحمل كله؟! والذي تدل عليه الأدلة الشرعية والتاريخية أن المنافقين حصل منهم إظهار لفكرهم، ولو لم يظهروا قولهم الكفري لما كانوا منافقين، ولكن هذا الإظهار لا يصل إلى درجة الإعلان به في وسط المجتمع، وإنما كان إظهارا خاصا في مجالسهم الخاصة وفي حوادث متفرقة، وكان يشهد هذه المجالس بعض المسلمين ممن لم يعلم بحالهم، ثم يخبر بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يقولوا، وهذا لا يسوغ لنا أن نقول إن ثمة إعلانا للكفر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.

وأما ما حكاه القرآن من أقوال المنافقين، فإنه لا يصح الاعتماد عليه في القول بأنهم يمارسون إعلانا للكفر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن غاية ما فيه إثبات حدوث تلك الكفريات من المنافقين، وليس فيها ما يدل على شيوع هذا القول وإعلانه، ومن عادة القرآن الغالبة استعمال الأسلوب العام في التوجيهات حتى ولو كانت متعلقة بأسباب جزئية، فترى القرآن يخاطب عموم المؤمنين في الأمر والنهي النازل بسبب خاص، وهذا لا يدل على أن ما نزل بسببه الأمر أمرا شائعا في المجتمع المدني، فكلك الحال في حكاية قول المنافقين، فاستعمال الأسلوب العام لا يعني أن هذا الفعل شائع في ذلك المجتمع. وأما انسحابهم من غزوة أحد، فإن الذي يحاول أن يتعرف حقيقة ما وقع من المنافقين يدرك بأن ما وقع منهم لم يكن كفرا ونفاقا، فإنهم أثاروا شبهة ضعيفة، وهي أنهم لا يتوقعون وقوع القتال بين المسلمين والكفار، ولهذا رجعوا إلى المدينة، وافتتن عدد من المسلمين بشبهتهم فرجعوا معهم، وهذا في حد ذاته ليس إعلانا للكفر، حتى يصح الاعتماد عليه. القضية الثانية: موقف ابن عمر من القدرية، فإنه أنكر قولهم ولم يطالب بمنعهم أو ملاحقتهم، فموقفه هذا دال على أنه يرى أن المخالف لا يعاقب على مخالفته، وهذا يدل على التسامح العقابي كما يقول بعضهم. وإذا رجعنا لنتحقق من موقف ابن عمر وغيره من الصحابة من طائفة القدرية في زمنهم، فإنا نجد الأمر مختلفا عن هذا التوصيف، ولا بد لنا ابتداءً أن نبين المراد بالقدرية في زمن الصحابة، فإن المقصود بهم من ينكر علم الله السابق للأشياء، فالله حين أمر ونهى لم يكن يعلم من يطيعه ومن يعصيه حتى وقعت الأفعال من المكلفين. وحين ظهر هؤلاء، وكان عددهم قليلا، أخذ الناس يسألون من بقي من الصحابة كابن عمر وابن عباس وعمران بن حصين وواثلة وغيرهم، وسألوا أيضا كبار علماء التابعين الذي تتلمذوا على الصحابة. وظاهر فتوى ابن عمر أنه يرى كفر القدرية الأولى؛ لأنه بين أن الله لا يقبل منهم علمهم حتى يؤمنوا بالقدر، واستدل بحديث جبريل الطويل، ليثبت أن القدرية أنكروا أصلا من أصول الإيمان الستة، وكان ابن عباس يرى قتل القدرية الأولى، فعن أبي الزبير أنه:" كان مع طاوس يطوف بالبيت، فمر معبد الجهني، فقال قائل لطاوس: هذا معبد الجهني، فعدل إليه، فقال: أنت المفتري على الله؟ القائل: ما لا يعلم؟ قال: إنه يكذب علي، قال أبو الزبير: فعدل مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس، فقال طاوس: يا أبا عباس الذين يقولون في القدر؟ قال: «أروني بعضهم، قلنا: صانع ماذا؟ قال: إذا أضع يدي في رأسه فأدق عنقه» (الشريعة، الاجري رقم 458). وهذا هو القول المنقول عن كبار علماء التابعين، كمحمد بن سيرين وإياس بن معاوية وزيد ابن أسلم ومحمد القرظي وإبراهيم النخعي ووكيع بن الجراح والقاسم بن محمد ابن أبي بكر وسالم ابن عبدالله ابن عمر، (انظر في أقوالهم: الشريعة، الاجري 2/ 917 و 918 و 922و923). فكل هؤلاء تواردوا على الإفتاء بقتل القدرية الأولى، وهم أعلم بفقه الصحابة وأقرب إلى منهجيتهم في الاستدلال، أولى بفهم أقوالهم. وكون ابن عمر لم يفت بقتل القدرية الأولى لا يعني أنه لا يرى إلحاق العقوبة بهم، خاصة إذا علمنا أنه يرى كفرهم. القضية الثالثة: موقف علي من الخوارج، فإنه لما ناظرهم هو وابن عباس قال لهم: "لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا، لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا "، هذا يدل على أن عليا يرى أن المبتدعة لا يتخذ فيهم إجراءً عقابيا كما يقول بعض الباحثين.

وقبل أن نبين حقيقة موقف علي رضي الله عنه لا بد أن ننبه على أن النصوص الشرعية دلت على مشروعية قتال الخوارج وقتلهم، وقد جاء ذلك في نصوص كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم:" يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة» (أخرجه البخاري رقم 3611). ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم:" «إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (البخاري رقم 7432). فهذه النصوص كلها تدل على مشروعية اتخاذ الإجراءات العقابية ضد الخوارج، ولهذا استند عدد من علماء المذاهب إليها في تقرير مشروعية قتل الخوارج ولو لم يبدؤوا بالقتال، وهي دلالة قوية على خطأ إطلاق القول بالتسامح العقابي بدون قيد. وأما عدم تطبيق علي رضي الله عنه لهذه العقوبة في بداية الأمر فليس فيها دليل على أنه يرى عدم مشروعية العقوبة الدنيوية للمخالف، فإنه حرق من غلا فيه من الشيعة ولم يتسامح معهم، فموقفه من الخوارج في ابتداء الأمر يحمل على أن عليا لم يكن يقصد إلى تشتيت جهوده في محاربة الخارجين عن حكمه والمنازعين له في إمامته، وعلى ان الخوارج كان عددهم كبير جدا فلا مصلحة من قتلهم في تلك المرحلة، فلما اعتدى الخوارج وانتشر شرهم بادرهم بالقتال والقتل. القضية الرابعة: القول بأن واصل بن عطاء كان له مجلس في مسجد الكوفة يدرس فيه مذهبه المخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون، وهذا يدل على مدى التسامح العقابي الذي كان يزاوله الصحابة والتابعون كما يقول بعض الباحثين. ونحن حين نرجع إلى المراجع التاريخية لنتحقق من هذا الأمر نجدها مختلفة في حكاية ما كان عليه واصل مع الحسن البصري، ولكن كل الحكايات ليس فيها ما يدل على أن واصلا كان له مجلس مستقر في المسجد يشرح فيه قوله، وإنما غاية ما فيها أنه لما انعزل عن مجلس الحسن البصري جلس إلى سارية من سواري المسجد واجتمع إليه عدد من أصحابه وأخذ يتحدث إليهم بفكرته، ولم يرد أنه أنشأ مجلسا ظاهرا في المسجد أو في غيره يشرح فيه قوله, بل الظاهر في التاريخ أن قوله كان غير مشهور ولا معلن به. القضية الخامسة: موقف عمر بن عبدالعزيز من غيلان، فإنه - كما قرر بعض الباحثين - ناظر غيلان الدمشقي ولم يتخذ ضده إجراءً عقابيا، فلما مات عمر قتله هشام بن عبدالملك، وبلا شك أن عمر أفضل من هشام، وهذا دليل على أن الإجراءات العقابية كان منشاؤها السياسية لا الدين. ولكن هذا التوصيف غير دقيق، فإن الناظر في الكتب المسندة يجد أن عمر لم يتسامح مع غيلان، فإنه حين بلغه عن غيلان القول بالبدعة دعاه وحبسه أياما ثم ناظره وبين له خطأه واستتابه، فأظهر غيلان التوبة والرجوع عن مقالته فخلى سبيله، وهذا يدل على أنه لو لم يعلن توبته لاتخذ منه موقفا آخر. ثم لما مات عمر رجع غيلان إلى مقالته وقتله هشام ابن عبدالملك بعدما ناظره الأوزاعي وأفتى بقتله، فقتل، وأيد عدد كبير من كبار العلماء هذا الفعل. وقد حاول عدد من الباحثين التشكيك في نزاهة هذا القتل وربطه بالأغراض السياسية، وقد بينت في التفسير السياسي الخلل المنهجي في هذا الربط الخاطئ. ... ... ... وأما الأمر الثاني، وهو: اختفاء المناطات المؤثرة في بحث التسامح العقابي، فتتجلى هذه الإشكالية في القضايا التالية: القضية الأولى: الخلط بين الحكم الشرعي وبين تطبيقه:

من العلوم أن النظر في نصوص الكتاب والسنة يتطلب أن يفرق الناظر فيها بين أمرين هامين: أما الأمر الأول: فهو حقيقة الحكم الشرعي في نفسه وكيفية بنائه، وأما الأمر الثاني: فهو تنزيل الحكم الشرعي على المعين وتطبيقه في الواقع. وهذان أمران مفترقان في الحقيقة وفي المناطات المؤثرة وفي الشروط، فالواجب على الباحثين في الشريعة أولا بناء الحكم الشرعي في نفسه وتحرير الدلالات الصحيحة فيه وتبيان المناطات المعتبرة، وأما تنزيل الحكم على المعينين وتطبيقاته المختلفة فهذا شأن آخر له شروط واعتبارات أخرى، ويجب أن يراعى فيه ظروف زمانية ومكانية وحالية لا تراعى في بناء الحكم الشرعي نفسه. وهذا التفريق تدل عليه تطبيقات كثيرة في عهد الصحابة وغيرهم، فمما لا شك فيه أن الشريعة ثبت فيها حد السرقة ثبوتا قطعيا، ومع هذا لم يطبق عمر هذا الحكم على بعض المعينين لظروف خاصة راعاها عمر، فعدم تطبيق عمر لا لأن الحكم ليس ثبتا عنده، إنما لأنه يفرق بين الحكم الشرعي ومناطاته وبين تطبيقاته العملية، وكذلك لم يقم عثمان حد الزانى على المرأة الجاهلة في زمنه, لا لأن عثمان لا يرى حد الزانى وإنما لأنه راعى أحوالا خاصة قامت في المعين. وعلى هذا فانتفاء العقاب عن المعين ليس دليلا على انتفاء وجود العقوبة الشرعية نفسها، ولما لم يدرك بعض المتبنين للتسامح العقابي هذه الحقيقة أخذ يستدل على انتفاء مشروعية العقوبة بانتفاء تطبيقها، فجعل يقول: إن المنافقين لا يشرع في حقهم إجراء عقابي في الدينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ في حقهم ذلك الإجراء العقابي. وهذا التصور مبني على مقدمة خاطئة في الاستدلال كما سبق تبيانه، وفضلا عن ذلك فإن ثمة دلالات شرعية عديدة دالة على ثبوت العقوبة الدينوية شرعا في حق المنافقين. ومن ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} [التوبة:73]، فالأمر بالجهاد والإغلاظ أمر بعقوبة دنيوية بلا شك، وقد اختلف المفسرون من الصحابة وغيرهم في معنى الأمر بالجهاد هنا، فمنهم من ذهب إلى أن المراد به الجهاد باليد واللسان، وهو تفسير ابن مسعود وغيره من السلف، واختاره ابن جرير وغيره، ومنهم من قال: إن المراد بالجهاد هنا الجهاد باللسان فقط، كما قال ابن عباس، وعموم اللفظ يقوي القول الأول، وأما الأمر بالإغلاظ فهو أمر بعدم الرفق بهم والشدة عليهم، وهذا أمر يشمل أحكاما عملية عقابية عديدة. ومما يدل على ذلك: قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61]، وهذه الآية واضح فيها التهديد العقابي بالقتل والتشريد، وقد أخذ عدد من العلماء مشروعية قتل المنافقين إذا أظهر نفاقه من هذه الآية. ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عمر ابن الخطاب تعليق القتل بالمنافق حين قال عن حاطب:" دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال عملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عمر استحلال ضرب عنق المنافق، فهو لم يقل: وما يدريك إن المنافق يقتل، وإنما بين أن حاطبا ليس منافقا.

ومما يدل على ذلك: هدم النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار، وهذا الهرم من الأصول الكبرى التي يبنى عليها التعزير بالمال، وقد استدل به كثير من العلماء على هذه القضية، وليس خافيا أن التعزير بالمال إجراء عقابي دنيوي. هذه كلها دلالات شرعية على مشروعية العقاب الدينيوي في حق المنافق. ومن صور الخلط بين الحكم الشرعي وبين تطبيقه: القدح في الحكم الشرعي بناءً على التطبيقات السيئة له، وبناءً على استغلال أصحاب النفوس الضعيفة له، فإن بعض الباحثين في التسامح العقابي لما رأى أن الإجراء العقابي للمخالف طبق تطبيقات سيئة في التاريخ الإسلامي واستغله بعض الحكام أخذ يقدح في الحكم الشرعي نفسه، وهذا كله غير صحيح ولا مبرر فيه للقدح في الحكم الشرعي، لأنه لا علاقة للحكم الشرعي بالتطبيقات الخاطئة، ولو طردنا هذه الطريقة لأبطلنا عددا كبيرا من الشرائع الإسلامية، نتيجة التطبيقات الخاطئة من بعض المسلمين لها. ثم إن عبث المستغلين للأحكام الشرعية يمكن أن يقع حتى في العقوبات الأخرى التي هي دون القتل كالعقوبات المالية والجسدية الأخرى، فهل ننكر حتى هذه الأحكام لأنه تم استغلالها من بعض ضعفاء النفوس؟! القضية الثانية: اختفاء المناط المؤثر في قتل المبتدع: من القضايا الهامة التي تساعد على ضبط وإتقان البحث في مسألة التسامح العقابي تحرير المناط المؤثر في إجراء العقوبة الدنيوية في حق المبتدع، فقد شاع في التاريخ الإسلامي أن عددا من غلاة المبتدعة قتلوا، كمعبد الجهني وغيلان الدمشقي والجهم ابن صفوان والجعد بن درهم وغيرهم، وقتل هؤلاء تتعلق به بحوث عديدة، ومن تلك البحوث: السبب الحقيقي الذي كان وراء قتلهم، فقد ذهب عدد من المعاصرين إلى ذلك السبب كانا سياسيا بالدرجة الأولى، وأن العلماء الذي أفتوا بقتلهم انخرطوا مع هذا الغرض المادي البحت، وهذا خطأ تاريخي ظاهر، وقد بينت الدلائل على خطائه في كتاب " التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي المعاصر " وتوصلت إلى أن السبب وراء ذلك كان سببا دينيا بالدرجة الأولى. وقد استشكل بعض الباحثين هذه النتيجة وأخذ يقول: إذا السبب وراء قتل أولئك المبتدعة كان دينيا فإنه يلزم منه الحكم بجواز قتل الأشاعرة، لأنهم قالوا بأغلظ مما قال مبعد الجهني وغيلان الدمشقي، بل هم أكثر ابتداعا منهما. وإذا أردنا أن نحلل هذا الاستشكال ونفكك مقدماته نجد أنه مبني على مقدمتين خاطئتين: أما المقدمة الأولى: فهي أن بدع الأشاعرة أغلظ من بدع القدرية، وهذا غير صحيح؛ فإن قول معبد الجهني أعظم جرما ومخالفة للنصوص الشرعية والأدلة العقلية من جميع أقوال الأشاعرة، فإن قوله راجع إلى إنكار العلم الإلهي السابق، وهذا قول شنيع لم يقل به الأشاعرة ولا حتى المعتزلة. ومنشأ الغلط في ذلك الاستشكال راجع إلى عدم التفريق بين اطلاقات لفظ القدرية في التاريخ الإسلامي، فإن هذا اللفظ يطلق على ثلاث طوائف كما بينته في التفسير السياسي: الإطلاق الأول: يطلق على نفاة العلم الإلهي، ويسمى هؤلاء بالقدرية الأولى، وهم من يقول إن الله لا يعلم بأفعال العباد حتى تقع منهم وأما قبل وقوعها فهو سبحانه لا يعلم من يطيعه ولا من يعصيه، وقد أنكر عليهم من بقي من الصحابة وأفتوا بقتلهم وكذلك فعل كبار علماء التابعين، وهذه الطائفة انقرضت في زمن مبكر من التاريخ الإسلامي، والإطلاق الثاني: يطلق على الذين يقولون إن الله لا يخلق الشر فقط، وهذا القول شاع في المحدثين حتى قال الإمام أحمد:" ثلث رواة البصرة من القدرية " ويريد بهم هذا النصف، والإطلاق الثالث: يطلق على المعتزلة، الذين أثبتوا العلم الإلهي، ولكنهم نفوا خلق الله تعالى لكل أفعال العباد.

وهذا الإطلاق هو الذي يقابل بينه وبين قول الأشاعرة غالبا, فإن قال العلماء عن قول الأشاعرة أغلظ من قول القدرية وأقبح، فالمراد بالقدرية هنا المعتزلة لا القدرية الأولى، ولا شك في صحة هذا الحكم، لأن قول المعتزلة يؤدي إلى تعظيم الأمر والنهي والتكليف أكثر من قول الأشاعرة. وإذا ظهرت لنا هذه التفصيلات الهامة فسندرك أن ذلك الاستشكال لا مبرر له، وإنما هو ناتج عن عدم إدراك لهذه الأمور الهامة. وأما المقدمة الثانية: وهي: أن المناط في قتل القدرية كان الابتداع في الدين، وهذه المقدمة وقعت فيها تجاذبات عديدة، وتباينات مختلفة في توصيف المناط الحقيقي فيها، فمن الباحثين من يقول أن المناط هو الابتداع في الدين، ومنهم من يقول أنه الوقوع في البدعة المكفرة، ومنهم من يقول أنه الدعوة إلى البدعة. وكل هذه الأقوال غير دقيقة في تحديد المناط الحقيقي لقتل المبتدع، وقبل أن نذكر المناط الصحيح المؤثر لا بد أن ننبه على أن هذه القضية تعد من المسائل الاجتهادية التي هي محل للاختلاف السائغ الذي يقتضي الإغلاظ أو التثريب، وليست من معاقد الإجماع التي يضلل فيها المخالف، وهذا لا يعني عدم الحرص على تحرير الدلالة الشرعية فيها وعدم بيان الخطأ الواقع فيها من الأقوال المخالفة. وثمة أمر هام لا بد من التنبيه عليه أيضا، وهو أن الإجراء العقابي بالقتل وغيره مبني على إباحة التعزير بالقتل، وهذا الأصل مختلف فيه بين أتباع المذاهب الفقهية، والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء جواز التعزير بالقتل كما سيأتي ذكر بعض أدلته. وبناءً على هذا الأصل ذهب عدد من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز الإجراء العقابي على المبتدع الداعية إلى بدعته بالقتل، وهو الذي كان عليه أكثر علماء السلف المتقدمين من أهل الحديث وغيرهم كما حكاه ابن تيمية. وإذا أردنا أن نحلل القول بجواز الإجراء العقابي على المبتدع بالقتل ونحوه ونفتت منظومته الاستدلالية ونجزئ مكوناته المعرفية نجد أن المناط المؤثر في بنائه مناط مركب من أمرين: الأول: حصول الضرر الديني بسبب البدعة. والثاني: انحصار دفع الضرر في القتل فقط، ولا بد من توفر هذين الأمرين حتى يصح قيام المناط المؤثر، فإذا لم يحصل الضرر الديني بالبدعة فلا يجوز المصير إلى القتل، والمراد بالضرر هنا قدر زائد على مجرد المخالفة للشرع، وإلا جاز قتل كل من وقع في المعصية وكل من وقع في بدعة ولو لم تكن غالية، وكذلك إذا أمكن إزالة الضرر بغير القتل فإنه لا يجوز المصير إليه، وكذلك إذا لم يزل الضرر بالقتل فإنه لا يجوز المصير إليه. وتحديد تحقق هذا المناط المركب في الواقع مما يحصل فيه الاجتهاد، ويقع الاختلاف في تحديد الظروف التي يتحقق فيها، ومن الظروف التي لا يتحقق فيها - في تصوري- أن تكون البدعة شائعة ومنتشرة ويتبناها عدد كثير، ففي هذه الحالة لا يحقق القتل اندفاع المفسدة، وكذلك إذا كان انتشار السنة التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم ضعيفا، فالقتل لا تندفع به المفسدة والحالة هذه. ويمكن لنا أن ندرك هذه المناط المركب من تقريرات كثير من الفقهاء، وفي هذا يقول ابن عابدين من الحنفية:" والمبتدع لو له دلالة ودعوة للناس إلى بدعته ويتوهم منه أن ينشر البدعة وإن لم يحكم بكفره جاز للسلطان قتله سياسة وزجرا لأن فساده أعلى وأعم حيث يؤثر في الدين" (ابن عابدين 4/ 243). ويقول ابن فرحون من المالكية:" وأما الداعية إلى البدعة المفرق لجماعة المسلمين فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (تبصرة الحكام 2/ 297)

وهذا المناط المركب ظاهر في تقريرات ابن تيمية، وهو يعد من أوضح العلماء الذين حرروا وجه التركيب فيه، وفي هذا يقول ": ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى البدع في الدين" (الفتاوى 28/ 108). يقول أيضا:" وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب، وإن لم يكن في نفس الأمر كافرا، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه" (الفتاوى 23/ 351). ومن أجمع تقريرات ابن تيمية في هذه القضية قوله:" فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أينما لقيتموهم فاقتلوهم} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض. فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم " (الفتاوى 28/ 499). وهذه التقريرات من ابن تيمية تدل على أنه لا يعتمد على قصة عمر مع صبيغ فقط، ولا على موقف علي من السبئية فقط، وإنما ينطلق من أصل كلي في الشريعة وهو أن الشرع جاء فيه إباحة دم المسلم لأجل أمور تتعلق بالشؤون الدنيوية، فما يتعلق بالدين يكون من باب أولى، كما سيأتي بيانه. والملاحظ أن عددا من المعاصرين لم يهتم بتحرير وتعيين الأدلة الشرعية التي استُنبِط منها ذلك المناط المركب، ولأجل هذا أخذ بعضهم يقول: إن دليل هذا القول ضعيف؛ لأنه مبني على الاستدلال بفعل الحجاج أو هشام ابن عبدالملك أو مبني على كون أكثر السلف قال به. وإذا مارسنا مزيدا من التحليل لتقريرات المحققين من العلماء الذين تبنون هذا الموقف نستطيع الكشف عن الأدلة الشرعية التي كانت وراء بناء هذا القول، وتتحصل هذه الدلالة في قياس الأولى. وصورة هذا القياس: أن الشريعة أباحت دم المسلم المعصوم بأمور عديدة ترجع إلى الفساد في الأموال والمصالح الدنيوية، والمبتدع الذي يتبنى بدعة غالية ويدعوا إليها يؤدي إلى إحداث ضرر كبير في دين الناس، والدين أعظم من المصالح الدنيوية، فإباحة القتل فيه من باب أولى. والأصل المقيس عليه في هذا القياس أصل كلي قطعي، كما جاء قي قتل الزاني المحصن وقتل المفارق للجماعة الشاق لعصى الطاعة وقتل الصائل وقتل المحارب وقتل الخوارج وقتل الساحر وقتل من أتى ذات المحارم وقتل تارك الصلاة وغيرهم والعلة في أباحة الدم في هذه الأمور تحقق الفساد في دين الناس ودنياهم، وهذه العلة متحققة بصورة أكبر في صاحب البدعة الغالية الذي يسعى إلى الدعوة لبدعته، فإباحة دمه بناءً على ما سبق تكون من باب الأولى. وهذا الأصل القطعي كان معتمد عدد من العلماء في الافتاء بالقتل في أمور لم ترد في النص الشرعي، ومن تلك الأمور: الإفتاء بفتل فاعل اللواط، ومن الأمور: الإفتاء بقتل الجاسوس، من تلك الأمور: الإفتاء بقتل شارب الخمر في المرة الخامسة، فهذه القضايا أفتى فيها عدد من العلماء بالقتل، قياسا على ذلك الأصل الكلي.

خبراء في الفكر والفلسفة ولكن!

خبراء في الفكر والفلسفة ولكن! خباب بن مروان الحمد 13 رجب 1431هـ [email protected] نجتمع أحياناً في بعض النوادي الثقافية واللقاءات الفكرية، أو من خلال اللقاءات على الشبكة العنكبوتيَّة، نتطارح مع بعض الشباب أحاديث فكرية، وطروحات معرفيَّة، وهموماً نهضوية وتنمويَّة، فأجد لدى الكثير من الشباب إقبالاً كبيراً على المطالعة والمباحثة ومحبَّة الحوار، حتَّى ويكأنَّ المرء يشعر أنَّ مثل هذه النقاشات صار كثير منها متكلفاً، فالمهم أن نتحدث ونتناقش ونتبادل الآراء، ثمَّ بعد ذلك نمضي في أعمالنا وهمومنا الحياتيَّة مع قلَّة تطبيق وحسن عمل، وهذه مشكلة، يمكن أن نطلق عليها بإشكالية الترف الفكري، والغثاء الثقافي الذي يعيشه بعض الشباب المثقف والطامح لأن يكون يوماً ما مفكراً أو مثقفاً. وعلى أيَّة حال فإنَّني ألحظ ساعة مناقشاتي مع بعض الشباب العربي والمسلم، والمتحمس للقراءة في المجالات الثقافية والفكرية والفلسفيَّة أنَّهم يعدُّون كمَّاً هائلاً من كتب ومدونات الكثير من مفكري الشرق والغرب، ولا يُعجزهم أن يتحدَّثوا حول جماليات منطق أرسطو، وتعريفات سقراط، ونظريات أفلاطون، وعبارات فيثاغورس، وقوانين دور كايم، وحكم فولتير، ويحشد لك عدداً من الأسماء كسبينوزا، جون لوك، ايراسموس، جان جاك روسو، مونتسيكو، ديكارت، توماس هوبز، جون ستيوارت ميل، ديدرو، لبطليموس، ابكتيتوس، مارتن لوثر، غاندي، والقائمة تطول بأسمائهم، فلها في قلوبهم بهجة كبيرة، حتَّى بتُّ أشعر حالة نطقهم لأسماء أولئك القوم بأنَّهم يعيشون حالة من الزهو والخيلاء، التي تُشعرهم بأنَّهم قوم مثقفون قد نالوا قسطاً كبيراً من الثقافة والقراءة في أفكار الغير. هاتفني أحدهم قائلاً: أحب المطالعة في هذه الكتب الفكرية والفلسفيَّة، وكتب النظريات الغربية. فقلت له: وما سر هذا التركيز وأنت شاب يافع؟ فأجاب: إنَّه لابدَّ لنا أن نتعلم نظريات الغرب لكي ننقدهم وننتبه من خطورتها، ويستدل بالحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها كان أحق الناس بها) (¬1) وأنَّ الشاعر العربي أبو فراس الحمداني قال: عرفت الشر* لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير* من الشر يقع فيه! وأنَّه رُويَ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال "تُنقض عرى الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية" (¬2). إلى غير ذلك من الاستدلالات والرؤى التجميعيَّة بحشد النصوص بكليتها لمناصرة القناعة المدموغة في عقليَّته التنويريَّة! فنصحته وقلت له: يمكنك أن تهتم الآن بمطالعة كتاب الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيأتي اليوم الذي يمكنك أن تطالع فيه هذه الكتب بعد برهة من الزمن، للاستفادة ممَّا بها من جوانب تراها خيِّرة، ولنقدها فكرياً ومنهجياً، شرط أن تكون لديك حصانة ذاتية ومناعة فكرية. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي برقم (2687) وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه [فيه] إبراهيم بن الفضل المدني يضعف في الحديث من قبل حفظه، وقال العقيلي: منكر، كما في تهذيب التهذيب: (1/ 151)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترمذي بقوله: حديث ضعيف جدا. (¬2) انظر منهاج السنة النبوية (2/ 398) و (4/ 590) وكذلك مجموع الفتاوى (10/ 301 (15/ 54) وقد وردت في مصنف ابن أبي شيبة وطبقات ابن سعد بغير هذا اللفظ.

كان ذلك الأخ مقتنعاً بأنَّ لديه اطلاع جيد بالعلوم الشرعية بحجَّة ما قام بدراسته سابقا، وأنا شخصياً لم أجده بالفعل كما يقول، وحاولت محاورته وإقناعه بمرادي، وقلت له إنَّ كل نفس يعتورها ما يعتورك من ضرورة مطالعة الكتابات والأطروحات الفلسفية والفكرية المنشورة قديماً وحديثاً وما بين الفينة والأخرى، وقد تسَوِّغ النفس لأجل ذلك أسباباً متعددة .... لكن أحسب أنَّ لكل زمن رجال، ولكلِّ مرحلة أهلها، واستباق الأحداث والوقت غير المناسب لفعل شيء ما يضير أكثر ممَّا ينفع. • قناعات بديلة: أعتقد أنَّ من الأهمية بمكان، الصيرورة إلى توجيه العقول إلى ما يمكن أن تنتفع به ويكون ركناً ركيناً، وأصلاً أصيلاً في عمليَّة التلقي، وهو التركيز على قضية أحسب أنَّها ذات أولوية في صياغة وتشكيل العقل العربي والمسلم وفي هذا الزمان خصوصاً تلك القناعة التربوية التي لازلت متشبِّثاً بها وصادحاً بها في مجامع الشباب المثقف، قائلاً: وأين نصيب القرآن والسنَّة وكلام الصحابة والتابعين من مطالعاتكم؟ وهل حاولتم أن تجمعوا مثلا أقوال الصحابة في طرق النهضة بأمتنا؟ وتستخرجوها من مظانها من كتب الآثار والمسانيد وإسقاط ذلك على الواقع المعاصر؟ أو قمتم بجمع آثار التابعين في ضرورة التنمية الاجتماعية والحراك العملي الخدوم في المجتمع؟ وهل فتَّشتم في كتب سلفنا وآثارنا وتراثنا عن مظاهر التفكير الإبداعي وخدمة الأمَّة المسلمة فيه وخصوصاً من فئة الشباب؟ وهل طالعتم كتب التأريخ والسير والمغازي وجمعتم الأسباب الحقيقيَّة لالتهاء الشعوب بأمر دنياها وقيام قلَّة قليلة منها بمقاومة النتوءات الفكريَّة، والخروقات الثقافات، وماذا كان دور عموم الناس في مناصرة علمائهم ومفكريهم حينما يصدعون بالحق، وما أسباب وقوفهم من عدمه؟ إلى غير ذلك ممَّا يخدم أمَّتنا وواقعها الفكري المعيش، وخصوصاً حينما ندرك أنَّ (العمل الجوهري للمفكر هو صناعة المفاهيم) (¬1)، وهي الطريقة الفعليَّة للاستنباط من تلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثير من المفاهيم التي تهمنا في مجتمعنا بشتَّى اهتماماته. وبالطبع كنت أجد الجواب مختلفاً بين ألسنة الشباب، ولكنّي وجدت إجماعاً واضحاً على التقصير بقراءة كتاب الله ومطالعة التفاسير لفهمه، وما في سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يمكن الاستعانة به من شروحات كتب الحديث لفهم معانيها. ووجدت بعضهم وكأنَّ الأمر لا يعنيه، فهو يفهم القرآن وقد قرأه سابقاً لمرة أو مرتين، وقرأ الأربعين النووية وشيئاً من رياض الصالحين، ولكنَّ الأهميَّة الكبرى لديه الآن في مطالعة الكتب الفلسفية وغيرها من المفاهيم التي تتحدث عن الديناميكية والحيوية والارستقراطية والأتوقراطية والثيوقراطية والبيوقراطية والمادية الجدلية ونشأة الحضارة، وقراءة تاريخ الصناعة والعمران المدني إلى غير ذلك من اهتمام هو أكبر وأوثق من اهتمامهم بقراءة القرآن والسنَّة. ¬

(¬1) كيف نفهم الأشياء من حولنا؟ كتاب الدكتور عبد الكريم بكَّار ص7.

وهذا بالفعل شيء حاصل فالكثير من هؤلاء باتوا يهربون من مطالعة النصوص الشرعية من كتاب الله وسنَّة رسوله ويستشهدون بها، ويحاولون أن يأتوا بآراء فلسفيَّة وحجج كلامية، وأحسنهم حالاً من لا يأبه بذكر النصوص الشرعيَّة بل يهتم بالمقاصد وفقه المقاصد، ويحاول أن يقفز على هذه النصوص بما يراه هو أنَّه من مقاصد الشريعة، وعندئذٍ تذكرت قول الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم" (¬1). إنَّ ما ذكرته من حالة مأساوية وقع فيها الكثير ممَّن يعدون أنفسهم فلاسفة وأهل رأي حصيف وفكر مكين، لكنَّ إدبارهم وإعراضهم عن الاهتمام بنصوص الوحيين تأملا وتدبراً وتفكراً وإسقاط هذه النصوص على الواقع، ومعالجة الواقع بالأدلة الشرعية بات شيئاً ضعيفاً، وصار الكثير منهم يستروح للحديث الإنشائي أو لذكر حِكَمِ وتجارب الفلاسفة، ومن لطائف ما حصل أثناء كتابتي لهذا المقال أن أرسلته لأحد أصدقائي المصريين المثقفين والمتميزين في المجالات الفكرية والفلسفيَّة، وحينما قرأ المقال وانتهى منه أرسل لي رسالة يقول فيها: (لكني أوافقك تمام الموافقة فيما ذهبت إليه، ووالله إني لأعاني من ذلك في الجمعية الفلسفية التي أحضر ندوتها كل شهر والتي يرأسها الدكتور حسن حنفي؛ حيث لا كلام إلا عن الغرب وأعلامهم، ومذاهبهم من الكلاسيكية حتى الحداثة وما بعد الحداثة ... كلها أمور تقسي القلب إلى جانب أنها لا تقيم نهضة للأمة!) • فليكن الفكر منطلقاً من أساس متين: قد يقول قائل: وهل يُراد من عموم الشباب العربي المسلم المثقف أن يكونوا علماء في الشريعة، فإنَّ هذا لا يتأتَّى ولا يمكن، ونحن بالفعل بحاجة لشباب مثقف ومفكر؟ وبالطبع، فإنَّ الأمَّة الإسلاميَّة ليست بحاجة للعلماء الفقهاء فحسب، بل هي كذلك بحاجة للشباب المثقف الواعي والمفكر بقضايا أمَّته والذي يندمج في واقعها الحيوي ويناقش مشاكلها بعمق وموضوعية وشفافية، لكن مع وجوب المواظبة على ورد يومي من قراءة كتاب الله وشيء من تفسيره مع التدبر بما فيها، ومطالعة شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وقراءة سيرته العطرة، فالمنتسبون لأمَّة الإسلام يجب عليهم أن يكون لديهم التصاق تام بهذا الإرث (كتاباً وسنة) فهو عصمة لهم من الفتن، ووقاية لهم من مضلات الأهواء، خصوصاً حينما يحسن القارئ لهما التعامل معهما. إنَّ الإشكالية الكبرى لدى هؤلاء أنَّهم يظنُّون أنَّ القرآن الكريم ما هو إلا حديث عن الغيبيات أو كما قال أحدهم عن الميتافيزيقيا فحسب، وأمَّا غير ذلك من الأجوبة التي تعنى بأمور تنظيم العبادة بين العبد وربه، وإعمار الكون بالإيمان والبنيان، والسير في الأرض، والأمر بالعدل وإنكار الظلم، وتزكية الأنفس، وتكوين الأسرة الصالحة، وإثبات كرامة الإنسان، والدعوة إلى التعاون على البر، ليست في وارد ذهنهم إطلاقا، فلا يظنَّون القرآن إلا مجرد بكائيات فحسب! ¬

(¬1) إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: (1/ 55).

لأجل ذلك يقول بعضهم: انظروا في الكتب الأخرى والأفكار الأخرى، فهي التي تُفَتِّقُ الذهن، وتوسع مدارك العقل، وكأنَّ القرآن أغفل الحديث عن الكثير من الجوانب التي تصلح الكون والإنسان والحياة، وقد أحسن الإمام ابن القيم حين تحدث عن أمثال هؤلاء فقال عن القرآن ومن لا يعتنون به: " أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلو فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن كتناوله لأولئك " (¬1). • فكان للمهتم بالفكر أن يهتم بالذكر: أعجب ويحقُّ لي العجبُ من شدَّة هوس بعض الشباب العربي المسلم بقراءة كتب المفكرين الغربيين وأقوال الفلاسفة اليونانيين، وهم في الحقيقة خلو من مشاهدة وتأمل ما في الكتاب الكريم من آيات وعظات وحكم ومعاني عميقة، وما في السنَّة النبوية المطهَّرة من جوامع الكلم، وسامق الحكم، ورائق العبارات، وبديع المقالات. هذه مشكلة كبيرة نعيشها مع شباب اليوم المقبل على النوادي الفكرية والصالونات الثقافية ظانين أنَّ مصدر السعادة ومعين الرضا والسرور هو في مناقشة فكر أحد الكتاب أو الفلاسفة الغربيين، وتجد أنَّهم قد يتكلفون ببعض العبارات وحشد الجمل واللفظات وتكديس المصطلحات حينما يتحدثون لكي يقول عنهم القائل: إنَّهم فعلا فلاسفة وحكماء عباقرة! حتَّى إنني أتذكر واحداً من هؤلاء قال لي يوماً: إنَّ لديه دفترا قريباً منه كان يكتب فيه بعض المصطلحات والعبارات الرنانة التي تستهوي عقله؛ لكي يستخدمها في بعض مقالاته فتجد في المقال حشداً مصطلحياً لربما لو سئل كاتبه ما معنى ما قصدته بالضبط لحار جواباً وأطرق رأساً! وعلى كُلٍّ؛ فإنَّ من يظنُّ أنَّه في بداية مطالعاته سيهتم بعلوم فلسفيَّةٍ وقراءات في المنطق والفكر الغربي، ويغفل القرآن ويظنُّ نفسه أنَّه بالفعل يريد الجمع والدمج بين الإسلام عقيدة وشريعة وبين ما هو مسطور في كتب الفلاسفة ومزبور في تراثهم، فإنَّه سيكتشف بالفعل أنَّه لن يبلغ النتيجة التي قصدها وخصوصاً إن كان ذلك في بداية مطالعاته، بل يخشى عليه بالفعل من عقائد أولئك الفلاسفة والتي في أغلبها تجاهل لحكمة الرب، وتشكيك في كثير من الغيبيات، وإنكار علم الله الكامل، ونفي معاد الإنسان، فأي فكر فلسفي لرجل يريد أن يُنوِّر المسلمين بفلسفة أولئك الفلاسفة والمناطقة، وكأنَّ في القرآن والسنَّة نقصاً ليس موجوداً إلاَّ في كلامهم، وبعد هذا وذاك يريد ذلك الشخص أن يطلق عليه الناس أنَّه مفكر إسلامي، وهو لربما يكون إلى العلمنة والليبرالية أقرب منه إلى الإسلام، ولهؤلاء أقول وأذكرهم بما قاله المفكر الفرنسي المسلم فنساي مونتاي: (إنَّ مثل المفكر العربي الإسلامي المبعد عن تأثير القرآن كمثل رجل أفرغ من دمه!) (¬2). ¬

(¬1) مدارج السالكين لابن قيم الجوزية: (1/ 343) (¬2) رجال ونساء أسلموا (5/ 45)

إنَّ المسلم يجب أن يكون على قناعة تامَّة بعظمة القرآن الكريم، وعظيم عِبَره وحكَمِهِ، وبالرجوع لكتاب المفكر والمؤرخ الإسلامي عماد الدين خليل بعنوان: (قالوا عن القرآن)، لكي يقرأ في هذا الكتاب أولئك الذين تعلَّقت قلوبهم بكلام الفلاسفة ويرى أنَّ كثيراً منهم يشهد بعظمة كتاب الله عزَّ وجل، ومنهم من ساقه ذلك للإسلام، ومنهم من بقي على دينه الباطل، ولكنَّه شهد بما في هذا الكتاب الكريم من آيات ودلائل وإصلاح للواقع (والحق ما شهدت به الأعداء!)، وهو وإن كنَّا لسنا بحاجة لشهادة غير المسلمين على ما في كتاب رب العالمين، لكن لعلَّه يكون باعثاً لهم على عطف قلوبهم وأفئدتهم وأجسادهم للاعتناء بقراءة كتاب الله تعالى. نقول هذا لأنَّ هنالك الكثير ممَّن يستهويهم الفكر الفسلفي والقراءة في الكتب الفكرية الغربية، والاطلاع على فكر المدرسة الفرنكوفونية، والوله بالمصطلحات الفلسفيَّة، فهؤلاء في الغالب يبعدون النجعة كثيراً عن مطالعة كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وقد يقول بعض الناس إنَّ هذا اتَّهام في غير محلَّه وكيف نبتعد عن الآيات القرآنية؟ ونحن نقرأها ونتعبَّد الله بها؟ إلاَّ أنَّ الشاهد يوضح أنَّ كثيراً ممن انتسبوا للفكر والفلسفة، نجد لديهم لوثة غربيَّة وقراءات فلسفيَّة في كتب الغربيين، مع أنَّهم قد لا يعقلون كثيراً مما جاء فيها، وقد يلوكون بعض العبارات ظناً أنَّهم فقهوها، وهم في المقابل لا يحسنون فهم آيات القرآن الكريم، بل يدخل بعضهم في قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها. فضلاً عن أن يكون قد دخل كثير منهم في قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) فهجروا قراءته وتدبره وسماعه وتلاوته والعمل به والتحاكم إليه والاستدلال به، وهم بالفعل لو كان لديهم نهم وشغف بمعرفة أقوى الكلمات ذات الدلالات العميقة فإنَّهم لن يجدوها إلاَّ في كتاب الله، ولكنَّ كتاب الله عزَّ وجل لن يعطي للإنسان أسراره ومعانيه إلاَّ إذا أعطى المرء من نفسه لكتاب الله الشيء الكبير، والوقت الكثير من التأمُّل والتدبر، فتنهمر عليه الكنوز القرآنيَّة، والبدائع العرفانيَّة، وينطق لسانه بالحكمة. لقد ذكر المؤرخون لسيرة المفكر الشاعر الباكستاني المسلم محمد إقبال، أنَّه دخل على ولده ذات مرَّة وهو يقرأ القرآن فقال له إقبال ناصحاً: أي بني! اقرأ القرآن وكأنَّه عليك أُنزِل. وقد صدق رحمه الله، فإنَّ القرآن تنهمر أسراره وتنفلق وتظهر معانيه وتنطق، لمن قرأه وهو يستشعر بالفعل أنَّ هذه الآيات تخاطبه وتتحدَّث إليه، لكي يقوم بالفعل بأدائها حق أداء، والتفكر في معانيها الباهرة، التي تستعلي على أقول وقيم الشرق والغرب، وصدق الله: (وإنَّ كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون). إنَّها دعوة للمراجعة الجادة القلبيَّة لجميع المنتسبين للفكر والفلسفة، بأن يبحثوا في سويداء قلوبهم، وهل لديهم شدَّة تعلُّق بآيات القرآن وما صحَّ من أحاديث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أم لا؟ إنَّني على قناعة بأنَّ من تابع كتب ومقالات ومحاضرات فلان أو علان وهو يتحدث بفلسفة ويلوك الكلام لوكاً، فإنَّه ستظهر معه نقولاته لآراء الفلاسفة والغربيين ويدع جانباً الاستناد والاستشهاد بالآيات والأحاديث لمقولاته، فالاهتمام لأي شيء يظهر من خلال تعامل الشخص معه.

قال ابن تيمية رحمه الله: (تجد مَن أَكْثَرَ من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه؛ تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها؛ لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم؛ لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير) (¬1). وهذه مشكلة أخرى نجدها عن بعض المنتسبين للفكر الإسلامي من دهاقنة الفكر ورموزه في هذا الزمان، فقد يتطرق بعض المهتمين بالفكر بذكر بعض الجوانب الأخلاقية والسياسية والإنسانية والاجتماعية وغيرها في مقالاته وكتاباته وكتبه، وقد يذكر عشرات الأقوال من المفكرين الغربيين واليونانيين وغيرهم، ونجد من الضآلة بمكان أن يتذكر آية أو حديثاً يذكره في ثنايا بحثه وكتبه ومقاله، ولولا أنني لا أريد التسمية لسميت عدداً من هؤلاء يتقنون فنون ذكر أقوال الكفرة والملحدين من المحسوبين على الفلسفة والمنطق الكلامي، وقلَّما يذكرون آيات من كتاب الله أو سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بدعوى أنّ الآية حمَّالة أوجه، وأنَّ الحديث قد يكون ضعيفاً! فيا سبحان الله! إن كانت الآيات حمَّالة أوجه والأحاديث قد تكون ضعيفة أو خبر آحاد (كما يزعم بعضهم) فلم الاستشهاد الكبير والغوص والتنقيب عن أقوال عدد من الكتاب والمفكرين اليونان، ورموز المدارس الكلامية والليبرالية الغربية، واستخراجها ومحاولة بعثها من جديد؟! أم أنَّ كلامهم ليس حمَّالاً لأوجه؟! وأقوالهم ليست إلاَّ من قبيل آحادهم وأفرادهم والتي قد يصيبون فيها ويخطئون! ومن العجائب والغرائب كذلك أن نجدهم يقولون إنَّ ذكرنا لكلام هؤلاء الغربيين والفلاسفة اليونانيين وغيرهم، لكي يعرف الغربيون أنَّنا نعرف واقعهم، ونتحدث بلغة مفكِّريهم، وما علموا وللأسف الشديد أنَّ كثيراً منهم ـ ولا أقول الكل ـ قد يستخدم أقوال هؤلاء بما قد يستدل به على مفهوم فهمه يكون خاطئاً أو معارضاً لكتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولأجل ذلك وجدنا الكثير من العبارات التي يقولها بعض الناس وما دروا خطورة قولها مع علمي أنَّ بعض من قالها من بعض الفضلاء ولكنَّهم يقولون كلاماً يحتاج لإعادة نظر حينما يتحدثون عن (ديموقراطية الإسلام، ليبراليَّة الإسلامية، اشتراكية الإسلام، الرومانسية الإسلامية) والإشكال الكبير أنَّ كثيراً من منطلقات هؤلاء بالفعل يرونها منطلقات إسلاميَّة ولكنَّهم ما علموا أنَّ هذه العبارات ما هي إلاَّ بعض مما تسلَّق على ذاكرتهم أثناء قراءتهم في أفكار الآخرين! بل وجدنا واحداً ممن يعتبرون أنفسهم من تيار التنوير الإسلامي، يقول في مقال له بعنوان: (وثنيون هم عبدة النصوص) ويزري على الناس وبعض المهتمين بالمجالات الكتابية والذين يقولون ليتنا نرى في بعض مقالات بعض المفكِّرين نصوصاً قرآنية أو أحاديث نبويَّة مذكورة في مقالاتهم، وبدلاً من أن يشكرهم على نصيحتهم له، يعدُّهم كالوثنيين الذين يعبدون القبور ويشركون بالله، فيتهمهم ويصمهم بأنَّهم وثنيون لأنَّهم على حد زعمه: (عبدة نصوص)!! ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 542)

وهذا أحدهم يتحدث بأسلوب ملتوٍ، يريد منه النيل ممَّن يستند لقراءة النصوص القرآنية، حيث يقول: (فالأمرُ هنا هو السير في الأرض , وليس السير في الكتاب , أي قراءة الواقع , وليس قراءة النصوص , والظن بأنَّ الاستغناء بالكتاب عن الواقع هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة ثقافية مروعة) (¬1). قلت: هذا وليس من مقصدي في هذا المقال إيعاب القول وحشد جميع ما قرأته في هذا الصدد فلو أردت جمع ما قيل لوجدته أكثر من (حِملُ بعير وأنا به زعيم)، ولكنَّ هذا دليل ومثال على أنَّ من تربَّى في جو مفعم بالفكر والفلسفة والصحافة والإعلام و (احترام الرأي والرأي الآخر) فإنَّ هذا سينشأ معه ولو كان في يوم ما مفكراً كبيراً أو فطحلاً بطلاً من أبطال الفكر في هذا الزمان .. إنَّ المتعاملين مع القرآن أصناف ونحن نقصد بالتعامل الصحيح هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في التقيد والانضباط بالأصول الكلية التي يرجع إليها لفهم آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وإلاَّ فهنالك قوم يدَّعون أنَّهم (قرآنيون) مع أنهم في حقيقة أمرهم يخالفون القرآن الكريم فيما أمر به ونهى عنه، فما هم إلا (جهال متنطعون) لم يفهموا القرآن والسنة مع مجاهرتهم بضرورة الرجوع للقرآن، فهذا أمر لا يروج على العقلاء ولا يقصده الناصحون لأمتهم والأمناء على عقيدتها. ولقد قال معاذ بن جبل: (يقرأ القرآن رجلان: فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس، يلتمس أن يجد فيه أمرًا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى. ورجل يقرؤه ليس فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس فما تبين له منه عمل به، وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن فيه فقهًا ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة، فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه، أو يفهمه إياها من قبل نفسه) (¬2). الشاهد أنَّ معرفة المرء بطريقة التعامل مع نصوص الوحي كتاباً وسنَّة تقيه بإذن الله عزَّ وجل من الانحراف الفكري، والتخبط العقلي، ولتكون نصوص الوحي منطلقاً وركيزة متينة لمناقشة الوقائع والحوادث المعاصرة، واستنباط ما يفيد لمعالجتها من كتاب الله وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وفق القواعد الشرعية والأصول الكبرى لفهم نصوص الوحيين. وبعدها فللمرء أن يتطلع ما يشاء ويريد ويفقه الواقع المعاصر، ويتأمل في حقائق هذا العالَم وما فيه من أفكار وقيم وتصورات. إنَّ اهتمام المتفكر بالذكر سبيل بإذن الله تعالى لأن ينال الفكر الصحيح والحكمة الحقيقية والحصافة في النظر، وفي هذا يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله: (إنَّ أهل العلم لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر والفكر على الذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة) (¬3) ولكن أن يحسن التعامل مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفق قواعد ذكرها أهل العلم في طريقة التعامل مع كتاب الله وسنَّة رسول الله، وسيجد حتماً ما يغذي فكره ويحرك عضلات عقله من معين الحكمة الربانية وصفاء الكلمة النبوية. ¬

(¬1) جريدة الرياض عدد 10188 في 28/ 12/1416هـ. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/ 394) (¬3) مفتاح دار السعادة لاين القيم (1/ 183).

لقد أورد الإمام الشوكاني في تفسيره لمطلع سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت ....... الآية)) قصة الفيلسوف العربي الشهير إسحاق بن يوسف الكندي وأصحابه نقلاً عن أبي بكر النقاش رحمه الله أحد المفسرين في القرن الخامس الهجري، حيث قال: إن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلاَّ في أجلاد)! والمقصود مِمَّا ذكرته أنَّ عبارات القرآن الكريم، وكذلك ألفاظ الحديث النبوي فيها من دلائل الإعجاز وعلائم الإيضاح والحكم، ما يمكن أن نجابه به كلام فلاسفة الشرق الغرب، فالقرآن الكريم يقول تعالى عنه: (إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) وهو كذلك نور: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) والقرآن على حد وصف الشاطبي رحمه الله: (كلية الشريعة، وعمدة الملَّة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، فلا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره) (¬1). بل هو المعجز في آياته: (وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد) (¬2) كما قاله الإمام ابن عطية. فحق لأنصار القرآن والسنَّة أن يصيحوا بين عموم ومعشر المثقفين والقراء وخصوصاً من الشباب المتقدم للقراءة، بأن يبدؤوا القراءة بكتاب الله، فهي وصية الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم التي علَّمه إياها جبريل قائلا له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علَّم بالقلم * علَّم الإنسان ما لم يعلم). فمن أراد أن يقرأ فليقرأ القرآن أولاً، وليقرأ باسم ربِّه ثانيا، وليقرأ سنَّة وسيرة رسوله ثالثاً، وليتمكَّن من فهم الوحيين كتاباً وسنَّة على الأقل إلى حد معقول، مع دوام الملازمة لهما إلى الممات: (فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين* لمن شاء منكم أن يستقيم)، فمن شاء الاستقامة الدينية والعقائدية فلا غنى له عن القرآن، ومن شاء الاستقامة السلوكية فعليه بالقرآن، ومن شاء أن يستقيم فكرياً فعليه بالقرآن، ومن لم يقنعه القرآن فلا استقام ولا أقام وما تفكر بل طبع على قلبه الران. والقرآن لأهل الفكر مرجع لا غنى عنه ففي القرآن الكريم أكثر من (1300) آية كونية، وفي كتاب الله أكثر من (700) آية تدعو للتفكر والتعقل والتدبر، فليس من جميع العلوم الإنسانية مثيل بعلوم القرآن وهو كلام الرحمن الذي: (يعطيك معانٍ غير محدودة في كلمات محدودة) (¬3)، كما يقول الأديب الرافعي رحمه الله، لكنَّ الإشكال الكبير أنَّنا بتنا نقرأ القرآن (للتبرك لا للتحرك) كما كان يقول الشيخ الراحل محمد الغزالي رحمه الله، وهو بهذا يشرح الحالة النفسية التي يتعامل بها كثير من المسلمين اليوم مع كتاب الله تعالى، فيهتمون به في حالة القراءة على الأموات! فصار الكتاب الذي جاء ليحيي الأحياء يقرأه الأحياء على الأموات ويكتفون بذلك! وهذه حالة عامة في كثير من بيوت العرب والمسلمين ويدخل فيهم الكثير من المنتسبين للفكر والثقافة والفلسفة! • بل تشمئز قلوب بعضهم من حفظة القرآن والسنَّة: ¬

(¬1) الموافقات للشاطبي: (3/ 224). (¬2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية (1/ 57 - 58). (¬3) وحي القلم للرافعي.

حينما يعلم بعض المحسوبين على الفلسفة والمنطق أنَّك قارئ للقرآن فإنَّه يراك شيخاً درويشاً وأمَّا إن قرأ قصَّة الحضارة لول ديورانت، أو قرأ كتابات فلان أو علان من المفكرين الكبار أو عمالقة الفلسفة الغربيَّة، سينظرون إلى ذلك الرجل أنَّه بالفعل شخص موسوعي، ولديه عمق معرفي وطول نظر، وخذ من هذه الأوصاف فهو الرجل المثقف والحصيف والذي ضرب من العلوم ضرباً واسعاً وقطع بها شوطاً كبيراً، فشابه بعضهم قول الله تعالى: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولَّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأنَّ في أذنيه وقراً). وقوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون). وقوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم* يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم). نقول هذا في زمن أدبر الناس فيه بل كثير منهم عن مطالعة آيات القرآن وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وملازمة حلق الذكر، وتذكر الله تعلى من خلال مطالعة القرآن الكريم، والتفكر في هذا الكون الصامت والناطق بأنَّ له إلهاً حقاً هو الله تعالى تبارك وتعالى وتقدس من كلام الكفرة والفجرة. ولهذا نجد ضلال كثير من ضل بسبب الإدبار والإعراض عن قراءة كتاب الله تعالى، وقد نبَّه الإمام ابن تيمية رحمه الله على ذلك فقال: (وإذا تدبر العاقل وجد الطوائف كلها كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب، كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله ورسوله أبعد، كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية فقال: لا نسلِّم صحَّة الحديث! وربما قال لقوله عليه السلام: كذا ... وتكون آية من كتاب الله، وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر) (¬1). ومع هذا كلِّه فإنَّا نجد لدى الكثير من المغرمين إلى حد الثمالة بقراءة كتب الفلاسفة والفلسفة، وليتهم يقرؤونها لتقييمها، وإنَّما يقرؤونها ثمَّ يكون مآلهم الأخذ ممَّا بها من أفكار، مع أنَّ هؤلاء الفلاسفة غربيين أو شرقيين ليس في كلامهم ما يفيد إيماناً بالله إلاَّ شيئاً نادراً، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (فإن القوم-أي الفلاسفة- لا يعرفون الله, بل هم أبعد عن معرفته من كفار اليهود والنصارى بكثير, لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية, وهذا بحر علمهم وله تفرغوا, وفيه ضيعوا زمانهم, وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جداً, وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد فلا يعرفون ذلك ألبتة) (¬2). • وأخيرا: إنَّه لم يخطر ببالي كما أرجو ألاَّ يخطر ببال أحد أنَّ ما قلته دعوة مطلقة لعدم الاهتمام بتراث الآخرين، وأفكارهم وقيمهم، ولكنَّ هذه الكتب والآراء لها رجالاتها المتخصِّصون، والذين يسبرون أغوار الكلام، ويعقلون مقاصد الآخرين، أو على الأقل لمن نال قسطاً كبيراً من مطالعة كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم وبشهادة أهل العلم الثقات له بذلك، أما أن يأتي لقراءة هذه الكتب كل من هبَّ ودبَّ ومشى ودرج، فإنَّ هذا أمر لا يستقيم بحال. نعم! على من أراد أن يكون يوماً ما صاحب فكر وتنظير، أن يدرك حتميَّة التلازم بين ضرورة الشرعي والاهتمام بطريقة فهم النصوص ومقاصدها من خلال القواعد المقرَّرة في ذلك، وبين فهم العالَم المحيط وسبر أغواره، والسير في آفاقه، والتأمل في كينونته، والتفكر في مخلوقات الرب تبارك وتعالى. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 96) (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 330)

ونحن بالفعل بحاجة ماسَّة لمن يستخدم عقله في الفكر الصحيح، وأن يكون على مستوى المسؤولية في مناقشة أفكار الآخرين من المستغربين والمتفرنجين، فضلاً عن دعاوى المفكرين الغربيين أو اليونانيين المتأثرين بالفلسفة اليونانيَّة ومنطق الإغريق! ولكن ليس بالإقبال الكبير على الفلسفة والفكر الغربي والتغريبي وضعف مطالعة كتاب الله والسنن والآثار، والتي تؤدي بالشخص في نهاية أمره إلى الشك والضعف في مناقشة أقوال الفلاسفة بل الوقوع في مخالفة السنَّة، لأجل ذلك يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي: (ما جهل الناس واختلفوا إلاَّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطليس) (¬1) ونحن بحاجة للفكرة التي تغرس لدينا المفاهيم، وتصنع لنا القيم، وتستنبط لنا من النصوص روافد فكريَّة منضبطة، فإنَّ (الفكرة قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكّر جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب) (¬2) هكذا يقول الراغب الأصبهاني. ولَكَم شاهدنا في الحقيقة تأثير الكتابات الفكريَّة المعمَّقة والتي تأثَّر بها كثير من شباب الإسلام، وكان لها تأثير كبير على المفكرين المسلمين وغير المسلمين، لكنَّنا بحاجة ماسة إلى الشخصيات التي جمعت شيئاً كبيراً من العلم الشرعي وأوعبت منه مع حسن الفهم والهضم للمعلومات، وتنمية وتربية الملكات، ومن ثمَّ القيام بدراسات تأصيليَّة في مجال الفكر والفلسفة، مع ضرورة وضع خطَّة منهجيَّة علميَّة في التأصيل الفكري كما هو حاصل في التأصيل الشرعي، لكي يتوجَّه بعض الشباب المريد لمثل هذه التخصُّصات من خلال نصيحة خبراء أصحاب منهج وتربية وتوجيه، مع عناية ورعاية، لكي يختصروا عليهم الطريق، ولا يتخبطوا خبط عشواء وحتَّى لا يميلوا مع أخطاء بعض الفلاسفة والمفكرين، بل تكون بنيتهم الفكريَّة ذات أصل وعمق. وختاماً: فليس لدي مقصد من هذا المقال إلاَّ التنبيه على ضرورة العودة إلى كتاب الله وما صحَّ من سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ووجوبها، للنهل منهما والارتواء من معينهما، ففيهما الشفاء لكل داء، وفيهما الصلاح لكل فساد، وبهما الحق لدحر كل باطل، وفيهما خطاب العقل، ومنظومة المفاهيم والقيم، فمن تربَّى عليهما وعلى مائدتهما ونال منهما قسطاً ونصيباً، فإنَّه ستنهمر على عقله منهما أفكار رائعة، ومعاني خلاَّقة. وبالله المستعان. ¬

(¬1) فضل علم السلف على علم الخلف، لابن رجب، ص99 (¬2) مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني ص 83، 643.

فاضح القراء

فاضح القرّاء د. أحمد بن صالح الزهراني 12 رجب 1431هـ من نعمة الله على هذه الأمّة أنّه لا يُخلي الأرض من الشخصية الأنموذج، لا أقصد الرجل الأمّة، الذي تجتمع فيه خصال الخير، فليس ذلك ضرورياً في كل زمن، وإنّما لا تكاد تجد جانباً من جوانب شخصيّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ وجدت من يقوم بها، ويثبت أركانها في الأرض. للأسف الشديد إنّ بعض هذه الجوانب يكاد يختفي في بيئات طلبة العلم، فضلاً عن غيرهم، وكثيراً ما يكون خفاؤها ناتجاً عن الإغراق في ضدّها تحت ذرائع شرعيّة أحياناً! ومن ذلك جانب الزّهد والمباعدة عن الدنيا ولذّاتها .. وهو من أميز جوانب شخصيّة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه .. ومع هذا يكاد يتلاشى من واقعنا .. إذ أصبح ذلك شيئاً من الماضي، لم نعد نقابل ونرى زاهداً حقيقيّاً إلاّ ما ندر .. وقد رأينا وسمعنا عن بعض الأخيار من أهل الزهد الحقيقي، أعني ذلك الّذي يمارسه صاحبه بينما الدنيا قريبة منه، بل طيّعة في يديه .. بعض هؤلاء من أكابر أهل العلم .. رفضوا الملايين والقصور المنيفة والسيارات الفارهة، وفضلوا البقاء في طبقة الكادحين والمساكين .. وبين بعضهم وبين المال والجاه رمية حجر! إنّ هذه النماذج الّتي أقامها الله في الأرض شواهد على ما اندرس أو كاد من فضائل الشريعة يصحّ فيهم وصف ابن السمّاك لداود الطائي الزاهد المعروف .. عن حفص بن عمر الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أياماً، وكان سبب علته أنه مَرّ بآية فيها ذكر النار، فكرّرها مراراً في ليلته فأصبح مريضاً فوجدوه قد مات، ورأسه على لَبِنَة، ففتحوا باب الدار، ودخل ناس من إخوانه وجيرانه ومعهم ابن السماك، فلما نظر إلى رأسه قال: يا داود فضحت القرّاء» .. يعني أنّه أبان عن حقيقة ما يعيشه العلماء في وقته من رغد العيش؛ إذ مات ابن السماك، ولم يجد وسادة يضع عليها رأسه .. وأيّ رغد يتحدث عنه ابن السمّاك، لو رأى ما نحن فيه من ترف، وليته كان من خالص الحلال، إذاً لرددْنا ما ردّده الليث في ردّه على مالك: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ} .. فإذا نظرت إلى غالب مكاسبنا فإذا هي حرام خالص، أو شبهة غالبة، أو إسراف ومبالغة في الدنيا .. دعنا نعرض الآن عن حل الكسب، ونتكلم عن فضيلة كادت تُنسى في خضمّ جوّ مسموم غلب فيه الكلامُ العملَ والتزيّنُ الظاهرُ التزينَ الباطن .. إنّها فضيلة الزهد؛ فعلى الرغم من أنّ المنهج العلمي السلفي قد حارب الفكرة الصوفية التي تقوم على التعبد بترك الدنيا والتباعد عنها، ونجح في إقصائها، إلاّ أنّ واقع كثير منّا للأسف الشديد ينبي عن إفراط في جانب الحرص على الدنيا، والإغراق في الاستمتاع بها خارجاً عن حدّ المعقول، وأنا أتكلم عن القدوات من أهل العلم وطلبته والأخيار .. الذين يجب أن يراعوا من يراقبهم .. لا يجوز أن يصدّر الإنسان نفسه حتّى إذا كان رأساً في الناس تصرّف تصرفات الأخفياء؛ فإنّ للرئاسة ضريبة! عن زيد بن وهب الجهني قال: خرج علينا علي بن أبي طالب، ذات يوم عليه بردان متزر بأحدهما، مرتدٍ بالآخر، قد أرخى جانب إزاره، ورفع جانباً، قد رقع إزاره بخرقة، فمر به أعرابي، فقال: يا أيها الإنسان، البسْ من هذه الثياب فإنك ميت - أو مقتول - فقال: «أيها الأعرابي، إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزهو، وخيراً لي في صلاتي، وسنّة للمؤمن» وفي رواية: «وأجدر أن يقتدي به المسلم» .. وفي رواية ثالثة: «يتعزّى به الفقير» .. رضي الله عنك يا أبا الحسن! وقد سمعت شريطاً لأحد الفضلاء لا تملك دمعتك من شدّة تأثيره في السامع عن الله والدار الآخرة، ثمّ قُدّر أنّ أطلع على بيته فإذا هو قصر منيف لا يختلف عن قصور الأباطرة ..

أرجو أن تتذكر الآن أنّي لا أتكلم عن حلّ ولا حرام .. أتحدث عن فضيلة منسيّة .. لقد أصبحنا نشتاق لرؤية العالم أو الداعية الّذي يغنيك حاله عن قوله، قال مالك بن دينار: «إنما العالم أوالقاصّ الذي إذا أتيته فلم تجده في بيته قصّ عليك بيتُه، فترى حصيراً للصلاة، ترى مصحفاً، ترى إجانة للوضوء، ترى أثر الآخرة». وعن الأعمش أن رجلاً أعطاه مالاً يشترى به زعفراناً قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: «ما كانوا يطلبون الدنيا هذا الطلب». وعن عبيد بن عمير قال: «إن الله يبغض القاري - أي العالم - إذا كان لبّاساً ركّاباً ولاّجاً خرّاجاً». وعن عبيد الله بن شميط قال سمعت أبي يقول: «يعمد أحدهم فيقرأ القرآن، ويطلب العلم حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره، وحملها على رأسه فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها». وكان أبي يقول فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}». وصدق رحمه الله؛ فالآن ترى حولك من يبالغ في زينة الدنيا من الناس حتى يقترض للسفر إلى السياحة، ويغيّر السيارة والأثاث مرات بلا حاجة، ويشتري من الثياب ما ينفق على أسرة فقيرة عاماً كاملاً، وإذا نصحته احتجّ لك بأسماء معروفة .. يا لبؤسنا حيت تصبح النصوص الشرعية حجة في التملّص من الشريعة .. !! ويا لبؤسنا مرة أخرى حين تصبح القدوات حججاً في ترك وهجر الفضائل .. !! وكثير من الشكوى من الفقر ليس الفقر الحقيقي، وإنّما أصبحنا نعدّ بعض الأمور من الضرورات وهي ليست كذلك، والسبب هو غياب القدوة الّتي تقول للناس بحالها قبل مقالها: إنّ ما يعدّه البعض فقراً هو بالنسبة لبلاد أخرى بذخ .. ولهذا كان السلّف آيات في هذا المجال، عن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: «العالم طبيب الدين، والدراهم داء الدين فإذا جذب الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره». عن سعيد بن محمد قال كان من دعاء طاووس: «اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل». وفي الأثر عن كعب قال: إنّ الرب تعالى قال لموسى عليه السلام: «يا موسى إذا رأيت الغنى مقبلاً فقلْ ذنب عُجّلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقلْ مرحباً بشعار الصالحين». وكان قصدهم بذلك تركيز الهمّ في جهة الآخرة، فأودية الدنيا كثيرة، عن أبي إدريس قال: «من جعل همومه همّاً واحداً كفاه الله همومه، ومن كان له في كل واد همٌّ لم يبال الله في أيها هلك». ومن آثار ذلك أنّ الكثير منّا للأسف أصبح يحب مجالس الأغنياء والمترفين، ويحرص على مجالستهم، فضلاً عن أهل المناصب من أمراء وملوك ورؤساء، وهذا خلاف منهج السلف، عن أبي داود أنه سمع محمد بن علي يقول: «إذا رأيتم القارئ (العالم) يحب الأغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص». وقال سفيان الثوري: «لا خير في القارئ يعظم أهل الدنيا». وعن هشام قال: «سمعت الحسن يحلف بالله ما أعز أحد الدرهم إلاّ أذله الله». قال الزهري لسليمان بن هشام: «ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء» قال: «وما عسيت أن أقول في العلماء إلاّ خيراً. إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأوا ذلك قدموا بعلمهم إلى أهل الدنيا، ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم شيئاً .. إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة». ولهذا كان أئمة السلف والخلف يحرصون على الجلوس مع الفقراء والمساكين يتطلبون رقة القلوب وثبات الإيمان والأجر.

عن أبي هريرة قال: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته. إن كان ليخرج إلينا العُكّة فنشقها فنلعق ما فيها. وعن أبي هريرة قال: كان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسميه "أبا المساكين". وعن ميمون بن مهران أن امرأة ابن عمر عوتبت فيه، فقيل لها: أما تلطفين بهذا الشيخ فقالت: فما أصنع به! لا نصنع له طعاماً إلاّ دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قوم من المساكين كانوا يجلسون بطريقه إذا خرج من المسجد فأطعمتهم، وقالت لهم: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، وكانت امرأته أرسلت إليهم بطعام وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أردتم أن لا أتعشى الليلة، فلم يتعشّ تلك الليلة. وعن أبي ذر قال: أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأوصاني بحب المساكين والدنوّ منهم. ومن المعاصرين شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمه الله- الذي تواتر عنه أنّه لم يأكل عشرات السنين إلاّ مع الفقراء والمساكين. فلا عجب إذن من ذلك الثبات وذلك الرسوخ؛ إذ أقفلوا في وجه الشيطان كلّ باب، وسدّوا عليه إلى قلوبهم كلّ سبيل؛ فرحم الله ميتهم وحفظ الله حيّهم. ومن مظاهر الترف كثرة الأكل والشرب، وتطلّبهما في كل مناسبة، حتّى مجالس العلم. عن بكر بن خنيس عن أبي عبد الله الشامي عن مكحول قال: «أفضل العبادة بعد الفرائض الجوع والظمأ». قال بكر: «وكان يُقال الجائع الظمآن أفهم للموعظة وقلبه إلى الرقة أسرع». وكان يُقال: «كثرة الطعام تدفع كثيراً من الخير». وعن عبيد الله بن شميط قال: سمعت أبي إذا وصف أهل الدنيا قال: «دائم البطنة، قليل الفطنة، إنما همّه بطنه وفرجه وجلده، يقول متى أصبح فآكل وأشرب وألهو وألعب، ومتى أمسي فأنام جيفة بالليل بطالاً بالنهار». وعن أبي بكر بن المنذر الهجيمي قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: «البطنة أصل الغفلة». وقال سفيان الثوري: «إياكم والبطنة فإنها تقسّي القلب». عن عبد الواحد بن زيد قال: «من قوِيَ على بطنه قوِيَ على دينه، ومن قوِيَ على بطنه قوِيَ على الأخلاق الصالحة، ومن لم يعرف مضرّته في دينه من قبل بطنه فذاك رجل في العابدين أعمى». وعن عبيد الله بن محمد التيمي قال: قال رياح القيسي: «لا أجعل لبطني على عقلي سبيلاً أيام الدنيا». فكان لا يشبع، إنما كان يأكل بُلغة بقدر ما يمسك الرمق. وعن جعفر قال: كنا نأتي فرقداً السبخي ونحن شببة فيعلمنا فيقول: «إنّ من ورائكم زماناً شديداً شدّوا الإزار على أنصاف البطون، وصغّروا اللُّقَم وشدّوا المضغ، ومصّوا الماء، فإذا أكل أحدكم فلا يحلّنّ من إزاره فتتسع أمعاؤه، وإذا جلس ليأكل فليقعد على إلييه، وليلزق فخذيه ببطنه، وإذا فرغ فلا يقعد وليجيء وليذهب». وعن عثمان بن زائدة قال: كتب إليّ سفيان الثوري: «إن أردت أن يصحّ جسمك، ويقلّ نومك فاقللْ من الأكل». آخر الكلام: الآثار كثيرة، وواحد منها يكفي، ولو نظر الواحد إلى حال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه عرف حقيقة الأمر، حتّى أغنياؤهم ممن يحتج البعض بحالهم كانت الأموال في أيديهم لا في قلوبهم، ينبيك عن ذلك إنفاقهم في سبيل الله، وطبيعة استمتاعهم بتلك الأموال. عن أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان الداراني: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف موسرين! قال: «اسكُت! إنّما كان عثمان وعبد الرحمن خازنين من خزّان الله في أرضه ينفقان في وجوه الخير». فانظر لحال من يحتجّ بحال عثمان وعبد الرحمن هل منهم من يفعل فعلهما؟ أم أنّ الاحتجاج بهما فقط في كسب المال وكنزه دون إنفاقه؟ اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

زجر أهل العلم والتقوى للمتساهلين بالفتوى

زجر أهل العلم والتقوى للمتساهلين بالفتوى سعد بن ضيدان السبيعي 27جمادى الآخرة 1431 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد فقد روى يعقوب بن شيبة في [المعرفة والتاريخ] (1/ 670)، والإمام ابن عبد البر في [جامع بيان العلم وفضله] (2/ 201) أن رجلاً دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي المعروف بربيعة الرأي وهو يبكي فقال: ما يبكيك - وارتاع لبكائه - أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا, ولكن "استفتي من لا علم له, وظهر في الإسلام أمر عظيم". أقول رحم الله شيخ إمام دار الهجرة فكيف لو أدرك زماننا ورأى الجرأة على الفتيا وكثرة الموقعين عن الله عز وجل؟! فكم سمعنا من فتاوى نشاز من هنا وهناك، طارت بها الركبان، ونشرت على صفحات الانترنت، وظهر أصحابها يتفوهون بها على شاشات الإعلام وتسارع إليها الجهال ومن في قلبه مرض ومن يتتبع الرخص! وهي أعني هذه الفتاوى ليس لها ذنوباً وحظاً من فقه وعلم وإنما صدرت باسم فقه التيسير، ومراعاة لضغط الجمهور، أو لأغراض فاسدة، كالتعلق بأذيال الشهرة، وحب الظهور من باب: (أنا أبو اعرفوني)! فهذا يفتي بجواز الغناء وآخر بإباحة الاختلاط وثالث بإباحة الفوائد البنكية! وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ فيما قاله أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، ينظر [إعلام الموقعين] (4/ 237). وقد نص أهل العلم على أنه لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى وذلك قد يكون بأن لا يثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة وذلك جهل ولأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل. ينظر [فتاوى ابن الصلاح] (1/ 21)، ونقله النووي في [أدب المفتي والمستفتي] (72) وما أجمل قول الخطيب البغدادي في كتابه [الفقيه والمتفقه] (2/ 350): "وقل من حرص على الفتوى, وسابق إليها, وثابر عليها إلا قل توفيقه, واضطرب في أمره, وإذا كان كارهاً لذلك غير مختار له, ما وجد مندوحة عنه, وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب". فانظر الآن يا رعاك الله إلى بعض من يتصدرون للفتيا تجدهم سارعوا إليها واشرأبوا حتى لا ينكسر الجاه وأضاعوا "لا أدري" وقديما قيل: إذا أغفل العالم لا أدري، أصيبت مقاتله. وهذا مروي عن محمد بن عجلان بسند صحيح رواه الآجري في [أخلاق العلماء] (102) قال ابن جماعة الكناني في [تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم] (23) "واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن تثبته. وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، حين لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك". وقد كان أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الفتيا والكثير منهم لا يروى عنه في هذا الباب إلا المسألة والمسألتان!

قال الإمام ابن حزم [الأحكام] (5/ 666): "المكثرون من الصحابة رضي الله عنهم فيما روي عنهم من الفتيا عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله ابن العباس، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، فهم سبعة يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابا، وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث. والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا رضي الله عنهم أم سلمة أم المؤمنين، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، عثمان بن عفان، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن الزبير، أبو موسى الأشعري، سعد بن أبي وقاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد الله، معاذ بن جبل، وأبو بكر الصديق. فهم ثلاثة عشر فقط. يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جداً ويضاف أيضاً إليهم طلحة، الزبير، عبد الرحمن بن عوف، عمران بن الحصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، معاوية بن أبي سفيان. والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروي الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك فقط يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم رضي الله عنهم .. ". وذكر أسمائهم. أقول وكانوا أيضا يتدافعون الفتيا ورعاً وخوفاً من الله. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى " رواه الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه] (2/ 349) بسند صحيح. وروى الإمام ابن المبارك (19) في [الزهد] بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أراه قال في هذا المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا". وروى أيضاً في [الزهد] (18) بسند صحيح أن ابن عمر رضي الله عنه، سئل عن شيء ", فقال: "لا أدري", ثم أتبعها، فقال: "أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسورا في جهنم، أن تقولوا أفتانا ابن عمر بهذا" هذا شأن الصحابة وكذلك من أتى من بعدهم من أهل العلم والفضل المشهود لهم بالإمامة في العلم والدين. فهذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة يقول: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك "رواه الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه] (2/ 324) بسند صحيح. وهذا إمام أهل السنة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قيل له: "يا أبا عبد الله: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟، قال: لا، قيل: مائتا ألف؟ قال: لا، قيل: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قيل: أربعمائة ألف؟ قال: لا، قيل: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو "الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه] (2/ 349) وهذا ابنه عبد الله يقول عنه: "كنت أسمع أبي كثيراً يسأل عن المسائل فيقول لا أدري وذلك إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثير مما كان يقول سل غيري فإن قيل له من نسأل يقول سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه" [مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله] (438) وكثيراً ما كنت أسمع شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله إلى قبيل وفاته إذا سئل عن مسألة يقول:"محل نظر، محل بحث"! أقول وفي هذا رسالة لكل من تزبب قبل أن يحصرم، وطار قبل أن يريش فإلى الله المشتكى.

قال ابن حمدان في [صفة الفتوى] (14): "عظم أمر الفتوى وخطرها وقل أهلها ومن يخاف إثمها وخطرها وأقدم عليها الحمقى والجهال ورضوا فيها بالقيل والقال واغتروا بالإمهال والإهمال واكتفوا بزعمهم أنهم من العدد بلا عدد وليس معهم بأهليتهم خط أحد واحتجوا باستمرار حالهم في المدد بلا مدد وغرهم في الدنيا كثرة الأمن والسلامة وقلة الإنكار والملامة" وما أحوج هؤلاء لمن يأخذ على أيديهم ويحتسب في منعهم وزجرهم حتى لا يقولوا على الله بغير علم. قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: "ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق".رواه الإمام ابن عبد البر في [جامع بيان العلم وفضله] (2/ 201) وقد كان الإمام ابن تيمية رحمه الله شديد الإنكار على من يفتي وهو ليس بأهل. قال الإمام ابن القيم في [إعلام الموقعين] (4/ 237) سمعته يقول قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسبا على الفتوى؟ َ! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب. قال الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه] (2/ 324): "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها، وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم، ويأمرون بأن لا يستفتى غيرهم" وهناك من يفتي بفتاوى لها حظ من النظر والصواب وقال بها بعض أهل التحقيق من أهل العلم ولكن قد تفهم على غير فهمها وتحمل مالا تحتمل فيكون السكوت عنها به أجمل وأليق .. فليس كل ما يعلم يقال. وقد بوب الإمام البخاري في صحيحة باب "مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا". وروى عن عَلِيٌّ رضى الله عنه (127) أنه قال:"حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ". وروى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:"مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً". قال الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] لابن حجر (1/ 203): "وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَر عِنْد الْعَامَّة. وَمِثْله قَوْل اِبْن مَسْعُود: "مَا أَنْتَ مُحَدِّثًا قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغهُ عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَة "رَوَاهُ مُسْلِم. وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيث بِبَعْضٍ دُون بَعْض أَحْمَد فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهِرهَا الْخُرُوج عَلَى السُّلْطَان، وَمَالِك فِي أَحَادِيث الصِّفَات، وَأَبُو يُوسُف فِي الْغَرَائِب، وَمِنْ قَبْلهمْ أَبُو هُرَيْرَة كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْجِرَابَيْنِ وَأَنَّ الْمُرَاد مَا يَقَع مِنْ الْفِتَن، وَنَحْوه عَنْ حُذَيْفَة وَعَنْ الْحَسَن أَنَّهُ أَنْكَرَ تَحْدِيث أَنَس لِلْحَجَّاجِ بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُ اِتَّخَذَهَا وَسِيلَة إِلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدهُ مِنْ الْمُبَالَغَة فِي سَفْك الدِّمَاء بِتَأْوِيلِهِ الْوَاهِي، وَضَابِط ذَلِكَ أَنْ يَكُون ظَاهِر الْحَدِيث يُقَوِّي الْبِدْعَة وَظَاهِره فِي الْأَصْل غَيْر مُرَاد، فَالْإِمْسَاك عَنْهُ عِنْد مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْأَخْذ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوب". وقد كان السلف الصالح يمسكون عن الحديث والفتوى عند خشية اللبس أو عدم الفهم! قال ابن شبرمة: "إن من المسائل مسائل لا يجمل بالسائل أن يسأل عنها ولا بالمسئول أن يجيب ".رواه الخطيب في [الفقيه والمتفقه] (2/ 91) وانظر في هذا التعليق النفيس للحافظ الذهبي عَلى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:"حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ". في [سير أعلام النبلاء] (2/ 597) (10/ 603). وانظر لزاماً ترجمة الإمام وكيع بن الجراح في [سير أعلام النبلاء] (17/ 166) والمحنة التي حصلت له وكادت تذهب فيها نفسه! وختاماً أقول لقد تكلم في العلم، وأفتى الناس من لو أمسك عن الفتيا وعن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به، وأقرب لسلامة له، فا للهم إنا نشكوا إليك هذا الغثاء. وأمثال هؤلاء المتخبطون ينبغي منعهم بل يجب، فالحجر لاستصلاح الأديان, أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان، والله المستعان.

شبهة حرية المنافقين

شبهة حرية المنافقين إبراهيم بن عمر السكران 24 جمادى الآخرة 1431هـ مدخل: الحمد لله وبعد،، تتمتع شبهة ترك الرسول للمنافقين بتاريخ متقدم نسبياً، حيث كانت تستعمل هذه الشبهة كواحدة من أهم الأدوات لتعطيل العقوبات الشرعية، والتشويش على جهود المصلحين والمحتسبين. ومن أئمة الدين الذين تمت مواجهتهم بهذه الشبهة الإمام محمد بن عبد الوهاب، حيث كان هناك طالب علم يقال له (أحمد بن عبد الكريم) وهو من أهل الأحساء، وفي بداية أمره نصر التوحيد وعارض سدنة القبور، ثم إن عدداً من دعاة الشركيات أغروه بشئ من الدنيا فانتكس، ثم راسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب يخبره بتراجعه عن مواقفه الأولى واحتج بجملة أمور منها أن النبي ترك المنافقين، فرد عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب برسالة موجودة في الرسائل الشخصية للشيخ وهي الرسالة الثالثة والثلاثون، يقول الشيخ محمد رحمه الله: (ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر، أما استدلالك بترك النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده تكفير المنافقين وقتلهم؛ فقد عرف الخاص والعام ببديهة العقل أنهم لو يظهرون كلمةً واحدة أو فعلاً واحداً من عبادة الأوثان أو مسبة التوحيد أنهم يقتلون أشر قتله، فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين ولم يبق إلا أشياء خفية تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول، وقتلوا الطواغيت، وهدموا البيوت المعبودة؛ فقل لي) [الرسائل الشخصية، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص215] وفي عصرنا هذا أخذت شبهة ترك المنافقين بعداً آخر، فإن غالب من كتب عن حرية الرأي، أوشرعنة الديمقراطية وحقوق الإنسان، أوإنكار حد الردة، تحت ضغوط الآيديولوجيا الغربية فإنك تجده يحتج بشبهة ترك النبي للمنافقين، ولايمكن عرض كل من استعمل هذه الشبهة، لكن يمكن لنا أن نشير لبعض النماذج: من الواضح أن هذه الشبهة طرحت وراجت مبكراً منذ أيام مايسمى برموز النهضة الأوائل كالأفغاني وعبده، والعامل الذي يوحي بذلك أننا نجد الأستاذ رشيد رضا (ت1935م) يرد على هذه الشبهة في مواضع من تفسيره، ومن نماذج ذلك قول الأستاذ رشيد رضا: (فإن قيل إن مقتضى حرية الدين التي امتاز بها الإسلام في معاملة أهل الكتاب أن يسمح للمنافقين بأن يظهروا كفرهم؟ قلنا: إن الجمع بين إظهار كفرهم وحسبانهم من المسلمين، لهم ما لهم من الحقوق وليس عليهم ما عليهم من الواجبات؛ تناقض لا يقول به عاقل .. ، فإن قيل: إن القرآن قد فضح بعض المنافقين في هذه السورة وحكم بكفرهم، ولم ينفذ النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم أحكام المرتدين عن الإسلام، بل بقي يعاملهم هو وأصحابه معاملة المسلمين؟ قلنا: إن ما بينه الله تعالى من حال المنافقين إنما كان وصفا لأناس غير معينين بأشخاصهم .. ، وكان الذين عرف النبي وبعض أصحابه أشخاصهم قليلين جداً). [تفسير المنار، التوبة، 129] ومن أوائل من استعمل هذه الشبهة -أيضاً- الشخصية الأزهرية الجدلية عبد المتعال الصعيدي (ت1966م) في كتابه (الحرية الدينية في الإسلام)، وقد لاحظت أن عدداً من مؤرخي الفكر السياسي العربي اعتنوا بأطروحات الصعيدي، لكن اللافت أن الصعيدي نفسه في كتابه الآخر (السياسة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين) المنشور 1961م دافع فيه دفاعاً مستميتاً عن حرب أبي بكر للمرتدين (ص60)

وممن استعمل هذه الشبهة -أيضاً- الدكتور المصري المعروف أحمد صبحي منصور وهو من غلاة العلمانيين، وكان مدرساً بجامعة الأزهر، ثم طرح عدة كتب تضمنت إنكار السنة النبوية، فجرت بينه وبين علماء الأزهر سجالات انتهت بفصله من الوظيفة عام 1987م، وكان لهذه الحادثة دوي وضجيج في الساحة الفكرية المصرية، فاستمر حانقاً على علماء الأزهر، وفي عام 1994م نشر دراسة بعنوان (حرية الرأي بين الإسلام والمسلمين) وحاول أن يؤسس فيها مفهوم الحرية بناء على آيات المنافقين، ويقول الدكتور في إشارة لمن انتقده: (رددت عليه باننى استشهد بآيات القرآن الكريم وهى التى تضمنت تقريراً كاملاً عن حرية المنافقين القوليه والفعليه، وأمر النبى والمؤمنيين بالإعراض عنهم). وقد استمر الدكتور أحمد صبحي منصور في عرض هذه الشبهة في كتبه الأخرى ومنها كتابه عن (الحسبة) الذي نشره عام 1995م حيث يقول فيه: (كان تآمر المنافقين يبلغ درجة الخيانة العظمى حيث كانو يتحالفون مع أعداء الدولة، أو يتآمرون معهم ضد المسلمين وقت الحرب، أي أنه كانت للمنافقين كأفراد وجماعات حرية المعارضة للدين والدولة كيفما شاؤوا، وكان القرآن ينزل يحكم بكفرهم، ويفضح تآمرهم، ولكن يأمر النبي والمؤمنين بالإعراض عنهم، اكتفاء بما ينتظرهم من مصير بائس يوم القيامة) [الحسبة: دراسة أصولية تاريخية، د. أحمد صبحي منصور، ص61]. وفي عام (2003م) نشر الدكتورحاكم المطيري كتابه ذائع الصيت (الحرية أو الطوفان)، لكنه في سبيل شرعنته لمفهوم الحرية الغربي فإنه لم يشر إلا إشارة عابرة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين (الحرية أو الطوفان، ص61) بينما كثف تأصيله على ماذكره الفقهاء من الحالات التي لايقاتل فيها البغاة والخوارج، وبعج هذه الحالات ومططها وأخرجها عن سياقها ليركُز فوقها مفهوم الحرية الغربي، والحقيقة أن الدكتور حاكم بعد كتابه الأخير (الفرقان بين حقائق الإيمان وأباطيل الشرك والطغيان) المنشور في 2010م اتضح فيه بشكل حاد مناقضته الجوهرية لتيار التنويريين والاصلاحيين في مسائل (التكفير والخروج) واقترابه من لغة عبد السلام فرج صاحب الفريضة الغائبة. وفي عام 2006م نشر الدكتور طه جابر العلواني بحثاً بعنوان (لا إكراه في الدين) احتج فيه على الحرية وتعطيل حد الردة بجملة أمور منها ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل المنافقين. ثم إن الكاتب الانترنتي المعروف زائر الوسطية (=سعيد الكثيري) قام بتصميم كتاب نشره قبل عدة سنوات على شبكة الانترنت اسمه (تجديد فهم الوحي) ( www.tajdeedat.com) وقد رأيته أول مرة على الشبكة عام 2007م ولا أدري هل وجد قبل ذلك أم لا، وذكر فيه آيات النفاق محتجاً بها على الحرية، وكان يستل منه أجزاءً ويعيد حقنها في المنتديات الحوارية بشكل دوري، ويستغل غالباً أي جدل يثار هنا أوهناك في المنتديات الحوارية ليدخل في الجدل ويقحم أجزاءً من مادة كتابه (انظر مثلاً ذات آيات النفاق نشرها بمنتدى محاور بتاريخ 21/ 4/2007م). ثم في فترة لاحقة قامت الشبكة العربية للأبحاث والنشر بطباعة هذا الكتاب بنفس العنوان (تجديد فهم الوحي) لكن وضعوا للمؤلف اسماً مستعاراً آخر وهو (ابراهيم الخليفة). وسأعرض جزءاً مختصراً مما قاله الأستاذ ابراهيم الخليفة (=زائر الوسطية) في كتابه هذا حول دلالة آيات النفاق على الحرية، يقول المؤلف: (لقد قال المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفعلوا أسوأ مما قاله وفعله الكثير من المخالفين للدين في عصرنا. ماذا كان يقول المنافقون في عهد الرسول عن أنفسهم وعن الصحابة؟!. كانوا يقولون إنهم مصلحون، ويصفون الصحابة بأنهم سفهاء:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ) المنافقون كانوا يبغضون مجتمع المؤمنين ويحملون العداء لأهله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) المنافقون كانوا يدعمون أعداء مجتمعهم ولو بالأقوال والآراء والوعود: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ). كان المنافقون يكذبون على الرسول: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ) كانوا كافرين بالفعل (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا). كانوا يرفضون استغفار الرسول لهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) كانوا يتآمرون على فقراء الصحابة ليتفرقوا عن الرسول (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا). في قلب الأزمات كانوا يستخفون ويستهزئون بوعود الرسول لهم (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا). كانوا يخذلون الرسول والصحابة في أحلك الظروف ويسعون إلى استثارة النزعات وتفريق صفوف المسلمين (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا). بعض المنافقين لم يكونوا يشككون في نزاهة الصحابة أو العلماء والقضاة، بل كانوا يشككون في نزاهة الرسول: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ). بعض المنافقين كانوا يؤذون النبي ويصفونه بأنه جاسوس: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)؟ هل يتحمل الموقف من قيمة الحرية أي اختلاف أو توقف أو تحفظ؟. وهل تكفي الآيات التي تم عرضها لإثبات مشروعية وضرورة إعادة ترتيب سلم القيم؟!.) [تجديد فهم الوحي، ابراهيم الخليفة، ص447، مع حذف بعض الفقرات]. قصة المادة المستعارة: وممن تابع هذا الاتجاه الأستاذ نواف القديمي، حيث أعاد عرض ذات المادة التي صاغها زائر الوسطية -مع شئ من الاختصار- في ثلاثة مواضع: في كتابه أشواق الحرية (ص56) حيث استعارها القديمي للرد على موقف السلفية من الديمقراطية، ثم استعار ذات المادة مرةً أخرى في مقالته (على هامش فتوى البراك) وكانت رداً على فضيلة الشيخ الإمام عبد الرحمن البراك، ثم استعارها مرةً ثالثة في مقالته (هامش الحرية والورطة أمام النص الشرعي) للرد على المشايخ الفضلاء (فهد العجلان، محمد القصاص، بدر باسعد، عبد اللطيف التويجري). وفي كل المواضع الثلاث لم يشِر الأستاذ القديمي للمصدر الذي استعار منه هذه المادة. وقد وقعت لي قصة طريفة مع هذه المادة، ذلك أنني حين قرأت كتاب الأستاذ القديمي (أشواق الحرية) فور صدوره مر بي قول الأستاذ: (وكانوا يؤذون النبي ويصفونه بالتجسس: "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ") [أشواق الحرية، القديمي، 57]

وهي نفس العبارة التي أعادها في مقالته في الرد على البراك، فتوقفت محتاراً أمام هذا التفسير، حيث فسر الأستاذ القديمي قوله تعالى "هو أذن" بأنه اتهام للنبي بالتجسس، بينما كنت أتذكر أنه قد أشكل علي معنى الآية قبل سنوات فراجعت على عجل تفسير ابن كثير فوجدت المعنى أن العرب تقول للشخص "أُذُن" أي يقبل ويصدِّق كل مايقال له، لكني تهيبت أن أخطّئه وقلت في نفسي لعله اطلع على هذا المعنى في أحد كتب التفسير الموسعة. ثم بعد فترة راجعت التفاسير العشرين المشهورة: الطبري، وابن أبي حاتم، والبغوي، وابن كثير، وابن عطية، وابن الجوزي، والزمخشري، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والخازن، والبيضاوي، والنسفي، وابن جزي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي، والألوسي، والسعدي، وابن عاشور. وفي كل هذه التفاسير العشرين لم أجد أحداً من أهل العلم قال أن معنى "هو أذن" أي جاسوس، وإنما كلهم يؤكدون أن معناها أنه يصدق ويقبل ما يقال له، أي أرادو تنقصه -صلى الله عليه وسلم- بالانخداع والاغترار والغفلة، وهذا معنى لا صلة له بالجاسوسية! ومع ذلك بقيت متحيراً من أين أتى الأستاذ القديمي بهذا التفسير لعبارة (هو أذن) بأنها التجسس؟ ولما أعدت قبل أمس مطالعة كتاب زائر الوسطية وجدت المفتاح، حيث وجدت زائر الوسطية (=ابراهيم الخليفة) يقول في كتابه ذات العبارة: (كان بعض المنافقين يؤذون النبي ويصفونه بأنه جاسوس "ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن") [تجديد فهم الوحي، ابراهيم الخليفة، 452]. وكانت هذه الواقعة بالنسبة لي نموذجاً جديداً لمخاطر القص واللصق، سيما بلا عزو ولا نسبة. وظني أن سبب خطأ (زائر الوسطية) في هذا التفسير هو أنه رأى بعض أهل اللغة يقولون أن وصف من يسمع ويصدّق مايقال له بأنه (أذن)، يشبه وصف الجاسوس بأنه (عين)، فكلاهما سمي بالجارحة المناسبة، فاختلطت الأمور عند زائر الوسطية فسمى من يصدق ما يقال له جاسوساً، أي أنه سمى الأذن عيناً! والواقع أن هذا تشبيه للعلاقة بالعلاقة لا تشبيه للجارحة بالجارحة! ولما قرأت قول الأستاذ القديمي في كتابه ومقالته عن المنافقين: (وكانوا يُظهرون البغضاء للمؤمنين: "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ") توقفت أيضاً، لأن هذه الآية يذكرها أهل العلم في باب الولاء والبراء عن أهل الكتاب، وأول الآية "بطانة من دونكم" وأتبعها بقوله "وتؤمنون بالكتاب كله" بما يؤكد هذا المعنى أنها في أهل الكتاب، لكن قلت في نفسي لعل الأستاذ القديمي يجعل هذا الصنف من أهل الكتاب من المنافقين، سيما أن هناك من أهل العلم من ذهب لذلك. لكن لما طالعت كتاب زائر الوسطية ووجدت ذات العبارة فيه، استبان لي أن الأمر لايعدو كونه قص ولصق، يقول زائر الوسطية في كتابه: (المنافقون كانوا يبغضون مجتمع المؤمنين ويحملون العداء لأهله: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [تجديد فهم الوحي، ابراهيم الخليفة، 447] ولما قرأت في كتاب الأستاذ القديمي ومقالته قوله: (وكانوا يتآمرون على رسول الله: "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا"). لم تتضح لي العلاقة! فالمنافقون يرفضون الإنفاق على "من عند رسول الله" وليس على "رسول الله"، فلا أدري لماذا جعلها مؤامرة على الرسول، ولم يجعلها مؤامرة على الصحابة الذين عند رسول الله؟ ولما قرأت كتاب زائر الوسطية تبين لي أن عملية الاختصار هذه المرة كانت عاجلة بالشكل الذي سبب هذا القفز في المعنى، حيث يقول زائر الوسطية:

(كانوا يتآمرون على فقراء الصحابة ليتفرقوا عن الرسول "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا") [تجديد فهم الوحي، ابراهيم الخليفة، 448]. ثم استمر الأستاذ القديمي في استعارة المادة، بذات آياتها، وبذات وجوه الاستدلال من كل آية، مع شئ من الاختصار والتصرف أحياناً، ومن ذلك مثلاً: يقول زائر الوسطية: (كانوا يخذلون الرسول والصحابة في أحلك الظروف ويسعون إلى استثارة النزعات وتفريق صفوف المسلمين "وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا") ويتابعه الأستاذ القديمي: (وكانوا يخذِلون المُجتمع المسلم في أحلك ظروفه وأزماتِه: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً). ويقول زائر الوسطية: (كانوا يستخفون ويستهزئون بوعود الرسول لهم "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا") ويتابعه الأستاذ القديمي: (بل ويكفُرُون بموعود الله وحديث رسوله "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورا") بل ومن الطريف أن الأستاذ القديمي حافظ على ترتيب أكثر الآيات كما رتب عرضها زائر الوسطية في كتابه المشار إليه. والحقيقة أنني لم أكن أستبعد أن يستفيد الأستاذ القديمي من كتاب زائر الوسطية (=ابراهيم الخليفة) المسمى تجديد فهم الوحي، لأن الأستاذ القديمي هو الذي قام على طبع الكتاب عبر مؤسسته الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ومن الطبيعي أن يكون طالع الكتاب قبل نشره بمدة كافية، لكنني كنت آمل أن لاينسب هذه المادة لنفسه ويستعملها في ثلاثة معارك دون أن يشير ولو إشارة بسيطة إلى أنه نقل المادة من كتاب زائر الوسطية (=ابراهيم الخليفة). ومن جانب آخر فإنني أعتب على الأستاذ القديمي كيف يخوض في تفسير القرآن بناء على قص ولصق من كتاب زائر الوسطية، والجميع يعرف أن زائر الوسطية صاحب تفكير غرائبي لا عقلاني، فهو مهجوس بتأويل النبوءات، مثل حماسه لإثبات أن المسيح الدجال هو الحضارة الغربية، وخوضه سجالات إلكترونية كثيرة لإثبات ذلك، ومن ذلك قوله (فإننا لا نتردد في الزعم بأن المسيح الدجال هو الغرب الحديث أو الحضارة الغربية) (انظر: موقع تجديد فهم الوحي). ومن أفكاره الخرافية أن فتنة قرن الشيطان هي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما يقول في كتابه (في أفكار الشيخ وفي جهوده جوانب غلو حقيقية ومؤكدة تدور حول مسائل التكفير والعنف، وهذه في تقديرنا هي المقصودة بنبوءة قرن الشيطان) (تجديد فهم الوحي، ص91).

ومن أفكاره التي طرحها -أيضاً- القول بجواز إلغاء حد رجم الزاني المحصن وجلد شارب الخمر (تجديد فهم الوحي، ص149، 150)، بل والأكثر إضحاكاً من ذلك أنه يعتقد أن الصلوات المفروضة الواجبة إنما هي الصلوات الجهرية (المغرب، الفجر، العشاء) أما صلوات النهار (الظهر، العصر) فيرى أنها مستحبة فقط فيقول (إن الصلوات الجهرية تدخل في إطار الواجبات الثابتة والمستمرة، أما بقية الصلوات فتدخل ضمن قسم التزكية) (ص160) ثم شرح استنباطاته العجائبية التي أوصلته لهذه النتيجة، وله من أمثال هذه التقليعات اللاعقلانية الكثير فكتاباته تحمل على محمل الطرافة والتسلية والفكاهة وليست بحوثاً علمية! بل كنت أتساءل كيف تطبع (الشبكة العربية للأبحاث والنشر) مثل هذا الكتاب الذي يجحد فرضين من الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام، ويجحد جملة من الحدود الجنائية الشرعية، ويجعل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قرن الشيطان؟! ثم يقولوا نحن من أهل السنة الحريصون عليها؟! هل رأيتم في حياتكم رجلاً ملتزماً بأصول أهل السنة يروج لكتاب ينكر صلاتين من الفرائض الخمسة ويجحد حدود الله ورسوله ويتهم أئمة الإسلام بأنهم قرون الشيطان؟! على أية حال .. كان من الخطأ الفادح أن يُعتمَد على صياغة مثل هذا الرجل الغريب الأطوار -أعني زائر الوسطية- وتفسيره لآيات النفاق ووجه دلالتها على هامش الحرية، ثم تستعمل هذه المادة المستعارة في ثلاث معارك ضد السلفية، والإمام عبد الرحمن البراك، وجملة من طلبة العلم! فهذا ما كان تحاشيه خير من تقحّمه، لكن قدر الله وماشاء فعل. سُنيّة نتائج الشبهة: قبل أن نناقش هذه الشبهة كما صاغها زائر الوسطية واستعارها الأستاذ القديمي، دعونا نسلط الضوء على هذه القضية من زاوية أخرى. كنت أسمع التنويريين والإصلاحيين يرددون بأنهم ملتزمون بأصول أهل السنة، ويبدون انزعاجهم وتبرمهم من أي رجل يضعهم في مواجهة أصول أهل السنة وجهاً لوجه. حسناً .. دعونا نختبر صحة دعوى تمسك التنويريين والإصلاحيين بأصول أهل السنة، لن نختبر هذه الدعوى بتمحيص جميع مقالاتهم وأفكارهم، بل سنختبرها على ضوء فكرة واحدة فقط من أفكارهم، وهي (شبهة حرية المنافقين)، ولاحظ معي أنها مجرد فكرة واحدة فقط من أفكارهم. اتفق أهل السنة بجميع طوائفهم على عقوبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور يبلغون بالعقوبة القتل، قال ابن المنذر (أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقتل). بينما أصحاب شبهة (حرية المنافقين) يقولون لايعاقب ساب النبي صلى الله عليه وسلم شرعاً. واتفق أهل السنة بجميع طوائفهم على عقوبة المرتد (وان اختلفو في بعض التفاصيل) [بداية المجتهد 2/ 459]، ولكن أصحاب شبهة حرية المنافقين يقولون لايعاقب المرتد شرعاً. وهكذا تأمل في العقوبات الشرعية التي ذكرها أهل السنة، مثل: عقوبة الداعية الى البدعة، وعقوبة الجاسوس، عقوبة من يقذف الصحابة، وعقوبة المفطر في نهار رمضان جهاراً، عقوبة أي طائفة تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام كالأذان، الخ وقارنها بمدرسة حرية المنافقين تجد أن أصحاب هذا المذهب يؤول كلامهم إلى جحد كل العقوبات من حيث أصل وضعها الشرعي، لأنهم أتاحو الحرية لأغلظ أنواع الكفر، وصارو يقولون أن مادون ذلك فهو أولى بالحرية، فآل هذا القول إلى إلغاء كافة العقوبات الشرعية من حيث أصل وضعها الشرعي، فهذا يعني أن أبواب الحدود في الفقه الإسلامي كانت تضييعاً للوقت!

هذا اللازم الذي تورطت به هذه المدرسة يقودنا إلى اكتشاف خطأ فرضيات هذه المدرسة في تفسيرها لآيات أفعال المنافقين، إذ لوكانت فرضيتهم التفسيرية لآيات أفعال المنافقين صحيحة لما أدت لهذه النتيجة الكارثية التي تلغي عشرات النصوص والتشريعات الأخرى. وهذه طريقة أهل السنة في تحليل تفسيرات النصوص، فإنهم يدرسون لوازم وآثار التفسيرات المطروحة، فإذا انسجمت مع بقية النصوص علموا صحتها، وإذا أدت للوازم فاسدة علموا بطلان هذا التفسير، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه: (فساد اللازم يستلزم فساد الملزوم) وهي آلية عقلية استعملها القرآن كثيراً، وأخبر الناس بها أهل السنة. وهذا اللازم (إلغاء العقوبات الشرعية) ليس لهم إلا أن يتراجعوا عنه، ويقروا بالعقوبات الشرعية التي قررها أهل السنة وينقضوا تفسيرهم الشاذ لآيات أفعال المنافقين، وإما أن يواصلوا تمسكهم بهذا اللازم، فعليهم هاهنا أن يكونوا صرحاء مع أنفسهم ويعترفوا أنهم مفارقين لجملة من أصول أهل السنة، وعلى رأسها -في هذه المسألة- أصول أهل السنة في العقوبات والانكار والحسبة، وهي أصول كلية إجماعية وليست مسائل اجتهادية يغمض مأخذها ولايثرب فيها على المخالف. الجواب الإجمالي عن الشبهة: إذا كان تفسير آيات أفعال المنافقين بهذه الصورة يؤول إلى إلغاء العقوبات الشرعية وشعيرة الحسبة والإنكار، فما هو التفسير الصحيح لهذه الآيات التي سردها هؤلاء إذن؟ هذا السؤال يقودنا الآن إلى الجزء الرئيس أو العمود الفقري لهذه المقالة، والحقيقة أن تفسير آيات أفعال المنافقين يحتاج إلى مستويين من الجواب: الجواب الإجمالي، والجواب التفصيلي عن أفراد تلك الآيات التي استدلو بها آيةً آية. فأما الجواب الإجمالي عن هذه الشبهة فهو أن أقوال وأفعال المنافقين، أو المخالفة للشرع بشكل عام، ليست على حال واحدة، فهي إما أن تكون سراً يتداولونها بينهم -وهذا هو الأصل والغالب- وإما أن تكون ظهرت ونقلت للرسول لكنهم أنكروها أو تابوا وتراجعوا عنها، وإما أن تكون نقلت للرسول ولم ينكروها ولم يتوبوا عنها لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك إيقاع العقوبة لمانع شرعي راجح، وإما أن تكون نقلت للرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكروها ولم يقم مانع وتم إيقاع العقوبة. فأما المرتبة الأولى وهي كون أقوالهم وأفعالهم يسرون ويجتهدون في التستر بها فهي الغالب على المنافقين، ولذلك قال تعالى عنهم (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة101] فبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لايعلمهم كلهم بأعيانهم وأن الأصل فيهم التستر بأفعالهم. وقال تعالى (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد30]. فبين أن الله لم يره إياهم، وإنما يمكن التعرف إليهم بالقرائن لا صراحة. وقال تعالى (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة64] فأشارت هذه الآية إلى اجتهادهم في ستر نفاقهم في قلوبهم حتى خافوا أن تفضحه الآيات. ولو قيل لأي مسلم من أعلم أمة محمد بالمنافقين؟ لقال على الفور: حذيفة رضي الله عنه. فاسمع مايقول حذيفة في صحيح البخاري (إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يومئذ يسرون، واليوم يجهرون) [البخاري 7113]. وبسبب كون الأصل فيهم الإسرار فلذلك استحقوا هذا اللقب (المنافقين) والذي تميزوا به عن عامة الكفار.

وأما الحالة الثانية وهي حالة إنكار المنافقين ماينسب إليهم، وحلفهم الأيمان بجحده، فهي كثيرة ومن ذلك قوله تعالى (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) وقوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وقوله تعالى (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) بل أخبر الله عن هذه الوسيلة عندهم كقاعدة عامة في قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أي ترساً ووقاية يستجنون بها، فيتفوهون بالعبارات المصادمة للشريعة فإذا بلغت الرسول حلفوا ماقالوا وأنكروا وجحدوا! والباحث الموضوعي الصادق في البحث عن الحقائق الشرعية يسأل نفسه: لماذا كان المنافقون يحلفون في إنكار ماينسب إليهم؟ لو كان الأمر متروكاً لهم على سبيل الحرية فهل كانو بحاجة إلى الحلف والإنكار؟ وكونهم يحلفون منكرين جاحدين هذا يعني أن هناك "حالة استدعاء ومساءلة وتحقيق" مسبقة اضطرتهم إلى الحلف والإنكار. وأما حالة الاقرار بالفعل والاعتذار عنه فهي كثيرة أيضاً، ومن ذلك قوله تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) وقوله تعالى (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) والباحث الموضوعي يسأل نفسه هاهنا -أيضاً- لماذا بعتذرون عن ما تثبت نسبته إليهم؟ هل لوكان الأمر على سبيل الحرية الشخصية الواسعة احتاجوا للاعتذار؟ وفي بعض الأحوال قد تتحقق شروط العقوبة لكن يمنع من إقامتها مانع شرعي راجح، وهو قيام فتنة أعظم، وهذا مما كان يراعيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ابن أبي خصوصاً، فإنه بقي في بعض القلوب حمية له لأجل مركزه السيادي السابق بين الأوس والخزرج. وأما إذا تحققت شروط العقوبة وانتفت موانعها الراجحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإنفاذ العقوبة، ولذلك عاقب الثلاثة الذين خلفوا، ولما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة أمّن الناس جميعاً إلا تسعة نفر فإنه أراق دماءهم وكان منهم: عبد الله بن سعد بن ابي السرح، ومقيس بن صبابة، وهذين كانا مسلمين ثم ارتدا. فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لهم حرية الرأي! وكذلك أصحاب النبي حين قاتل أبوبكر المرتدين، وقتل أبوبكر أم قرفة لما ارتدت بمحضر الصحابة، وقتل ابوموسى ومعاذ بن جبل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد كما في الصحيحين. بل إن عمر جلد صبيغ لما سأل عن متشابه القرآن، ولم يقل هامش حرية الرأي! وفي صحيح البخاري عن (عكرمة قال أتي علي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقتلتهم لقول رسول الله: من بدل دينه فاقتلوه). فهل هذه الأقضية النبوية والراشدية كلها لم تفهم آيات أفعال المنافقين بينما فهمها مجموعة من المنتسبين للفكر المعاصر الذين ليس لهم عبودية الصحابة ولا عمق علمهم بالشريعة؟! أفهذا من العقل والعقلانية في شئ؟! وبعض هؤلاء يحتج ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بعض أسماء المنافقين حيث أطلعه الله على ذلك؟ والحقيقة أن هذا المعترض لم يستوعب أن أحكام الإسلام يجريها النبي صلى الله عليه وسلم على الظاهر، ولذلك يقول الإمام الشافعي في كتابه الأم (قد علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر) [الأم، الشافعي، 4/ 264]. الجواب التفصيلي عن الشبهة:

ما مضى هو الجواب الإجمالي عن الشبهة وهي تراوح حالاتهم بين الإسرار -وهو الأصل والغالب- وبين الإنكار أو الاعتذار أو ترك العقوبة لمانع راجح، أو الأمر بإنفاذها إذا استوفت شروطها وانتفت موانعها. دعونا الآن ننتقل للجواب التفصيلي عن الآيات التي استدلو بها آية آية، والحقيقة أن المادة المستعارة في الرد على الشيخ البراك تضمنت (11) آية، وهي كالتالي: 1 - الآية الأولى: يقول الكاتب: كانوا يصفون الصحابة بالسفهاء (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ). الجواب: هذه الآية في سياقها ذاته نقيض ما احتجوا به، لنقرأ الآية في سياقها وننظر الآية التي تعقبها مباشرة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ** وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ). فبين الله أنهم إذا لقوا الذين آمنو لم يظهرو مقالتهم هذه، بل يظهرون ضد ذلك، ولم يظهروا ضد ذلك إلا لأن الأمر ليس على سبيل الحرية. 2 - الآية الثانية: يقول الكاتب: وكانوا يحرِّضون الكفار على مُجتمعهم، ويدعونهم لحرب المُسلمين: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) .. الجواب: قبل أن نقرأ سياق الآية كنت أقول في نفسي: ألم يتأمل هذا المحتج ماذا يعني احتجاجه هذا؟! هذا يعني أنه لو وجدنا رجلاً يحرض أمريكا على غزو ديارنا واحتلال حقول النفط، أو يحرض إيران على العبث بأمن الحجيج في بلادنا، أورجلاً يتعاون مع الحوثيين ضد جنودنا في الجنوب، أو وجد إخواننا في حماس رجلاً يحرض الصهاينة على أهل غزة ويدعوهم لحربهم، الخ فإنه في كل ذلك لايجوز شرعاً معاقبة هذا المحرض والمؤلب على حرب المسلمين، بل يجب أن تحفظ له حريته، وهذا حق له لايجوز الاعتداء عليه! أي شرع هذا؟! وماهذا الاستنباط الذي يكفي تصوره لإبطاله! يالله العجب كيف يذهل كثير من الكتبة عن نتائج خطيرة في سياق مشاحنتهم لأهل العلم والسنة، هذا الموضع فقط كافٍ لكشف التخبط العميق في تفسيرهم لآيات أفعال المنافقين. المهم .. دعونا نعود للآية، وقصة هذه الآية أن نفراً من المنافقين انطلقوا إلى بني النضير ووعدوهم بنصرتهم ضد المسلمين، ففضح الله المؤامرة دون تعيين القائل ولاتسميته بل بقيت في القرآن مكتومة مطوية، فغاية مافي الآية مؤامرة كشفت أوصافها وليست حرية رأي! 3 - الآية الثالثة: يقول الكاتب: وكانوا يكذبون على الله ورسوله: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). الجواب: ماقاله الكاتب هاهنا هو عين مانريد إثباته، فقد كفانا إياه جزاه الله خيرا!، فنحن نقول أن المنافقين يظهرون بخلاف حقيقتهم، ويعتذرون لرسول الله أعذاراً يكذبون فيها، بل ويحلفون في هذه الأعذار كما ذكرت هذه الآية، فأذن لهم الرسول لما حلفوا له معاملةً لهم بظاهرهم، فبالله عليكم أي دلالة في اعتذار المنافقين على حرية الرأي المزعومة؟! بل هذا يفيد نقيض كلامهم وهو أن المنافقين لم يكونوا مجابهين بمصادمة الشرع بل يتدسسون ويعتذرون!

4 - الآية الرابعة: يقول الكاتب: وكانوا يلمِزون الرسول عليه الصلاة والسلام: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ). الجواب: أصل اللمز هو مايكون من التنقص في خفاء كما يقول ابن عطية في تفسيره (يلمزك: معناه يعيبك ويأخذ منك في الغيبة)، وحكي في الآية أسباب نزول غاية مافيها أن بعضهم قال للنبي (اعدل)، وقيل في الآية أن (يلمزك) أي يسألك ويطلب منك إذا أتتك الصدقات. والمراد أن كون المنافقين غاية ما استطاعوا هو اللمز الذي فضح الله وصفه دون أعيان قائله هذا دليل على ضد مقصود أصحاب حرية الرأي. 5 - الآية الخامسة: يقول الكاتب: وكانوا يؤذون النبي ويصفونه بالتجسس: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ). الجواب: سبقت الإشارة إلى أن معنى "أذن" ليس هو التجسس، وإنما الاغترار بما يقال، وأن هذا التفسير الخاطئ انتقل مع المادة المستعارة كما هو. لكن لماذا قال المنافقون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن؟ يقول الإمام البغوي رحمه الله (نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون النبي ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم "لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا" فقال الجلاس بن سويد منهم: "بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول، فإنما محمد أُذُن"). وهذا يعني أن المنافقين يعتذرون عن أقوالهم إذا بلغت النبي صلى الله عليه وسلم، وليسوا يمنحون عنها حرية الرأي! ولذلك عقب القرآن بعد هذه الآية مباشرة بقوله عنهم (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ). 6 - الآية السادسة: يقول الكاتب: وكانوا يُظهرون البغضاء للمؤمنين: "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ"). الجواب: سبقت الإشارة إلى أن هذه الآية الأشبه أن تكون في أهل الكتاب، وهو ما مال إليه جماهير المفسرين، وأن صياغة الشبهة بهذا الشكل الأرجح عندي أنه مما تسرب مع عملية الترحيل الغامضة من كتاب زائر الوسطية. 7 - الآية السابعة: يقول الكاتب: وكانوا يصدون عن رسول الله ويستكبرون عليه: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ") الجواب: يقول ابن كثير رحمه الله عن سياق هذه الآيات (وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول). وقد أنكر ابن أبي مانقل عنه لرسول الله كما يقول قتادة (فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك). وابن أبي عموماً كما جاء في الخبر (كان إذا جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا). ثم إن سياق الآيات التي سبقت هذه الآية ذلك تشير لذلك حيث جاء فيها (قالوا نشهد إنك لرسول الله) (اتخذوا أيمانهم جنة) (وإن يقولوا تسمع لقولهم). ثم إن ابن أبي لما خشي النبي وقوع الفتنة بقتله بسبب كونه سيداً في قومه قبل الإسلام صار هذا مانعاً شرعياً راجحاً في ذلك الظرف الزمني المؤقت. والخلاصة أن هذه الواقعة التي حكاها القرآن لا صلة لها بحرية الرأي المزعومة بل واقعة لها ملابساتها الخاصة المختلفة. 8 - الآية الثامنة: يقول الكاتب (وكانوا يتآمرون على رسول الله: "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا").

الجواب: واضح قطعاً أن الكاتب لم يراجع أي كتاب تفسير حين احتج بهذه الآية! ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نقلت له مقالة المنافقين هذه قام بعملية تحقيق، واستدعى الأطراف المبلغ عنهم، لكن المنافقين أنكروا وجحدوا، روى البخاري في صحيحه قال: (عن زيد بن أرقم قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل" فذكرت ذلك لعمي، أو لعمر، فذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فكذبني رسول الله وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي "ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ "، فأنزل الله تعالى "إذا جاءك المنافقون" فبعث إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ فقال: إن الله قد صدقك يا زيد) وكون النبي يستدعي الأطراف ويحقق معهم، فهذا يعني أن هذه الآية دليل على المساءلة والتحقيق في الأقوال المخالفة للشريعة، وليست دليلاً على حرية الكفر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عاملهم بظاهرهم. 9 - الآية التاسعة: يقول الكاتب: بل ويكفُرُون بموعود الله وحديث رسوله: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورا") الجواب: هذه الواقعة لا صلة لها بحرية الرأي المزعومة بل هي مجرد حالة خور في لحظة حرب مفزعة كما ينبئ عن ذلك سياق الآيات قال تعالى (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ** هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ** وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا). ومن الطبيعي أن لايتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أي إجراء عقابي في لحظة الحرب، وهذا نظير ترك الحدود في الغزو الذي رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ثلاثة من الصحابة عمر وأبي الدرداء وحذيفة، فضلاً عن أنه لم يقم أي دليل على أن هذه العبارة بلغت النبي صلى الله عليه وسلم عن قائل معين، والقرآن نقلها عن غير معين كما هي عادة القرآن في أفعال المنافقين. 10 - الآية العاشرة: يقول الكاتب (وكانوا يخذِلون المُجتمع المسلم في أحلك ظروفه وأزماتِه: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لأتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاّ يَسِيرا). الجواب: هذه الآية حكى الله فيها مقالتين، المقالة الأولى "يا أهل يثرب لامقام لكم فارجعو" وفيها وجهان أن أوس بن قيظي قالها لقومه، والثانية أن اليهود قالوها لعبد الله بن أبي، وعلى كلا الوجهين لم تستوف شروط العقوبة الشرعية، ومع ذلك فالقرآن حكى هذه المقالة عن غير معين. وأما المقالة الثانية فهي "ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة" وهذا استئذان للنبي لاصلة له بموضوع الحرية.

11 - الآية الحادية عشرة: يقول الكاتب (وكانوا أشحة على الخير، ويقذفون الصحابة بألسنة حِداد: (أشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ). الجواب: أكثر أهل التفسير على أن قوله تعالى "سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير" أي معناها الإلحاح بالكلام المستكره طلباً للغنيمة، وقيل في معناها أقوال أخرى، لكنها على كل الأحوال إذا وصلت إلى القذف، فالقذف له عقوبته الشرعية، فأما إن كان الكاتب يظن أن السلق هنا يصل للقذف وعطل الشارع حد القذف فهذا ضرب للنصوص ببعضها. هذا مايتعلق بالجواب عن أعيان الآيات التي احتجوا بها آيةً آية. والحقيقة أنني مكثت مرةً أتأمل: لماذا يفصل أصحاب هذا الطرح بين الحرية السلوكية والحرية العقدية؟ فتجد أكثر حديثهم عن الحرية العقدية، فيرون الحرية للكفر والزندقة والنفاق، لكن لو قلت لهم: هل هذه الحرية مكفولة لمن يزني ويشرب الخمر؟ قالوا لا!. فكنت أتساءل وأقول: كيف يصبح المرتد مكفول الحرية، والزاني وشارب الخمر يعاقب؟ إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أتاح الحرية للردة كما يقررون، فما دون الردة من الجرائم أولى بالحرية! فانظر كيف أن هذه الطوائف الفكرية المتعلقة بشبهة حرية المنافقين خالفت أهل السنة في أصول العقوبات الشرعية، كل ذلك في شبهة واحدة فقط من شبهاتهم، فكيف لو تتبع الباحث بقية شبهاتهم في أصول التلقي والاستدلال والموقف من المخالف ومنزلة الدنيا وأحكام المرأة ومنهج الفتيا وفقه السياسة الشرعية ونحو ذلك، ثم يأتونك مستغربين ويقولون: لماذا تجعلوننا مخالفين لأهل السنة؟ يالله العجب كيف لاتبصر العيون كل هذه الانشقاقات عن مذهب أهل السنة والجماعة؟! وكون هؤلاء وافقوا أهل السنة في بقية أصول السنة هذا لا يمنع كونهم من أصحاب المحدثات، فإن كثيراً من القدرية (المنكرين لكون الله يقدّر المعاصي كوناً) وافقوا أهل السنة في بقية أصول الإيمان كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وفي تقدير الطاعات والصحابة ونحو ذلك، ولكنهم خالفوا أهل السنة في جزء من القدر وهو تقدير المعاصي، ومع ذلك عدهم السلف من أهل الأهواء وأهل البدع وأهل المحدثات في دين الله، وهكذا فإن هذه الطوائف الفكرية برغم كونها وافقت أهل السنة في بعض أصول الدين، لكنها خالفت أهل السنة في عدة أصول من أصول التلقي والاستدلال وبعض الأصول التشريعية، وهذه العقوبات الشرعية التي أنكروها مجرد نموذج لذلك، فهم أهل إحداث وابتداع في دين الله، وأهل أهواء. وبعض هؤلاء الذين يحتجون بهذه الشبهة يقولون إذا اختار المجتمع هذه العقوبات الشرعية فيجب تطبيقها، يظنون بذلك أنهم يتخلصون من شناعة قولهم، وماعلموا أن هذا أفظع شناعة، فإن هذه العقوبات الشرعية حين أتت بكتاب الله وسنة نبيه ردوها واستثقلوها ورأوا أن فيها تقييداً للحرية وضيق أفق، وحين أقرها المجتمع التزموا بها، فصار تشريع الشعب فوق تشريع الله ورسوله، وهذا هو مؤدى مفهوم الديمقراطية الذي حذر منه الربانيون من أهل العلم، وقد كان الديمقراطيون ينكرونه نظرياً لكنهم الآن يعلنونه عملياً، أعني كون مصدر التشريع هو الشعب وليس رب الشعوب سبحانه وتعالى.

ثم إنه من الغرائب أن يقال إن المجتمع إذا اختار حماية عقيدته فيجب الالتزام بخيار المجتمع، فكيف يضيّق المجتمع على الحريات التي كفلها الشرع في نظركم؟ أنتم ترون النبي كفل الحرية للكفر والقذف والزندقة والردة والتأليب على المسلمين، فكيف يسوغ للمجتمع أن يضيق هذه الحريات التي كفلها رسول الله؟! هل نحن أغير على العقيدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأما قول القائل "أنتم في ورطة مع النصوص الشرعية" فهذا قَلَب المشكلة، بل الذي في ورطة مع النصوص الشرعية هو من فسرها بما يؤول إلى إلغاء العقوبات الشرعية وشعيرة الحسبة والإنكار، وأما من فسرها بشكل يتسق مع بقية النصوص الأخرى، ويتسق مع فقه أصحاب النبي وأئمة أهل السنة؛ فهذا في راحة وانسجام، وليس في ورطة. ويشهد الله وحده أنه لما نشرت مجلة العصر المقالة التي تشوش على فتيا الشيخ الإمام عبد الرحمن البراك في خالص جلبي فإنه قد نازعتني نفسي في الرد، لكني توقفت لاعتبارات نفسية معينة كنت أداريها، ولكن لما صدرت الآن المقالة الثانية قبل أمس في مجلة العصر، فصار كتاب أشواق الحرية والمقالتان اللتان أعقبتاه كلها تكرر نفس الشبهة (حرية المنافقين) والمستعارة من دردشات زائر الوسطية بذات أخطائها؛ شعرت حينذاك بأن الشبهة بحاجة لتفكيك علمي وأنه لا مكان للمجاملات في دين الله، لكني لا أناقش إلا شيئاً منشوراً ولا أستغل -بإذن الله- ما أفضى به إلي صديق بشكل خاص في الرد عليه، فالعلاقات الشخصية شئ، والأقوال المنشورة شئ آخر، وهذا مبدأ من مبادئ المروءة أتمنى أن أبقى عليه ما حييت. والحقيقة أنه من أكثر ما آلمني أنني ألاحظ اليوم تقصير النظام السياسي الحالي في الأخذ على يد السفهاء لردعهم عن العبث بالأحكام الشرعية في قنواتنا وصحافتنا، فلا أعرف حكماً شرعياً يتعارض مع الثقافة الغربية إلا وقد كتبت صحافتنا المحلية في تنقصه وتسفيهه وتحريفه، ومع ذلك لايزال النظام السياسي المحلي لم يتخذ بحق هؤلاء الروادع الشرعية المطلوبة، ثم يأتينا الآن من يسمون أنفسهم التنويريين والاصلاحيين ويقدمون للسياسي شرعنة للمزيد من حرية الزندقة! وكأننا سننهض إذا أتحنا المزيد للكفر وسب الرسول وشتم الصحابة! هذه الكتابات التي تسميها نفسها تنويراً وإصلاحاً لم تصلح الخلل السياسي، ولم تدع الشريعة في حالها. والله أعلم

القصة من أولها

القصة من أوّلها د. أحمد بن صالح الزهراني 25 جمادى الآخرة1431 من أشدّ أساليب الإدانة وقلب الحقائق حذف أوّل القصة والبدء بسردها من جزء معيّن، وهو ذلك الجزء الذّي يحكي مظلومية الجلاّد ومأساة المجرم، لينقلب الحق باطلاً والمحق مبطلاً والضحية جلاداً والبريء مُداناً. إنّه أشبه ما يكون بقصّ صورة من القصّة أو العبث بأجزائها تقديماً وتأخيراً .. مثل رجل قتل رجلاً فلحقه آخر، وأمسك به يضربه فيأتي من يصوّر مشهد القاتل وهو يُضرب، أو يحكي قصّة ضرب القاتل دون ذكر سبب ضربه. يحدث هذا أحياناً بدون قصد، وإنّما تأثراً بالنفسية الّتي تتحكم في رؤية الواقع .. وكثيراً ما يكون ذلك مقصوداً كأسلوب في الدعاية للباطل وترويجه والتنفير عن الحق ومحاصرته. ويساعد الإعلام كثيراً في بثّ الصورة الخاطئة والقصّة المبتورة .. في الجانب السياسي والعسكري كمثال عادة ما ترى المحتلّ يبرز قصص المقاومة ودمويّتها، وفي ضمن ذلك الأخطاء الّتي تقع فيها سواء في التأصيل أو التطبيق .. فيدخل الناس بتأثير هذا الأسلوب في دوّامة الجدل حول المقاومة بين من يصوّب خطأها وبين من يخطّئ صوابها .. وينسى الجميع أنّ المقاومة بكلّ أخطائها وصوابها هي الجزء التالي للقصّة .. القصّة بدأت قبل ذلك بالاحتلال .. وهو الذي يجب محاكمته قبل البدء بمحاكمة المقاومة .. مشركو قريش فعلوا شيئاً من ذلك فتولّى الله الرد: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ). قال ابن كثير: أي: «إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل» في الجانب الثقافي والفكري والدعوي -وهو الّذي يهمّني -انتهجت الأقلام المسمومة نفس المنهج .. إذا بدأنا بأوسع الدوائر وجدنا دائماً محاكمة للإسلام على أنّه دعوة قتال وأصر على الدين وأطر على العقيدة الواحدة .. وكثيراً ما رأينا هِمَم الرجال تتناقص أمام هذه المقولة الظالمة .. نعم، ظالمة؛ لأنّ دعوة الإسلام والتوحيد هي جزء تالٍ في القصّة، والقصّة من بدايتها ذكرها الله تعالى في كتابه: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

فالمؤمن الواثق بالله وبدعوة الله يعلم أنّ دينه وسلاحه ليس أصلاً في القصة بل هو نتيجة تسبّب بها من خرجوا عن الأمّة والواحدة أمّة التوحيد، فهو سائر على طريق أنبياء الله وخاتمهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، يقول للناس ما قال البطل ربعي بن عامر لرستم: «الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر»، هذا كلام من عقل عن الله ورسوله حقيقة القصة الكاملة. وإذا ضيقنا الدائرة قليلاً لننظر إلى الداخل الإسلامي وجدنا ألسنة التغريب والشقاق والنفاق يرمون أهل الشريعة بالتشديد والتعسير، ويعدّون سدّ الذرائع عيباً، ويتخذون من ذلك حجة لهم في القدح في أهل العلم بالشريعة، وأنّهم حرّموا كثيراً مما أحلّه الله بسبب هواجسهم وشكوكهم .. ولو تأمّلنا لوجدنا أنّ الذّرائع إنّما كان السبب في سدّها فشوّ المنكر وغلبة أهل الفجور في استعمال المباحات وسيلة لإشاعة المنكر، فلو تتبّع المنصف حال المجتمعات، وما آل إليه الزمان من فساد أبنائه، وتغلّب الفجرة على مقاليد الأمور في كثير من البلاد وعلى أرفع المستويات، واستغلالهم كلّ ثغرة ومناسبة لفتح باب شرّ جديد على الأمّة لعرف أنّ خوف أهل العلم وحرصهم على سدّ الذرائع هو نتيجة طبيعية وليس أصلاً، فمن رأى كيف أصبحت استقلالية المرأة في العالم أغلبِه وسيلة لفجورها واستغلالها وتحطيم الأخلاق وقيم الأسرة، لا يتوقف لحظة في تصحيح وتصويب مواقف أهل الشريعة من العلماء وطلبة العلم السلفيين الذين يمانعون من مسائل قيادة المرأة للسيارة، وتولي المناصب، وإشاعة المسرح والسينما وغيرها من مسائل يدندن حولها التغريبيون. وإذا جئنا إلى مساحة أخرى في الداخل الإسلامي وجدنا بعض الناس يشتكون من ضيق عطن الشرعيين والعنف اللفظي في الردّ على المخالفين من التغريبيين والليبراليين، ويتبرم بعض الكبار من شدّة الشّرعيين في الردّ وعدم قبول الرأي الآخر كما قرأته مؤخراً لأحد المسؤولين في وزارة الإعلام، فتذكرت حينها المثل القائل: «قال الحائط للوتد: لِمَ تشقّني؟! فقال: سَلْ من يدقّني»! ففي ظنّي أنّ هذه الشكوى الّتي شكا منها هذا المسؤول هي نفس الأسلوب الّذي يتعامى عن سبب المشكلة، يتعامى عن المجرم ويلوم الضحيّة؛ إذ المنطق يقول إنّه حتّى لو أساء الضحيّة التصرّف فإنّ على الحكماء أن يتبصّروا - إن أرادوا إحقاق الحق - في سبب هذا التصرف، لا التوجّه لمعاقبة الضحيّة والسكوت عمّن تسبب في خروجه عن المنطق والقانون .. فالإقصاء الّذي تمارسه الصحف والعنف اللفظي والتهييج والتحريض الّذي يكتبه كتابها تجاه أهل الشريعة، كلّ هذا لم يره المسؤول بينما جحظت عيناه لبضعة مقالات أو فتاوى كانت مجرد ردّ فعل على ذلك الإجرام الذي مورس ضدّ المتديّنين ومؤسّساتهم. وآخر مثال ما يرمي به كثير من الناس أهل السنة بالتشغيب وإثارة النعرات والنزاعات بين الطوائف وتفريق الصف الإسلامي حين يتكلمون بما أمرهم الله به من إنكار المنكر الفكري وتسمية أهل البدع والتحذير من باطلهم؛ فتجد كثيراً من الناس يغترّ بالدعاية الّتي يروّجها المبتدعة ضدّهم من أنّهم يفرقون الأمّة، ويميل إليهم بعض فقهاء الاستنارة الجدد مؤيّدين أو ساكتين سكوت إقرار .. وهذا أيضاً جزء القصة الأخير، والقصة بدأت قبل ذلك حين أصرّ المبتدع أن يجاهر أو يدعو إليها بلسان حاله أو مقاله، سواء كان فرداً من فرقة مشهورة كالأشاعرة والمعتزلة أو الخوارج والمرجئة أو الشيعة أو غيرهم، أو كان رجلاً من أهل السنة لكنه اقترف مخالفة منهجية أو عقدية، فهو الذي فرق الأمّة حقيقة وليس من أنكر عليه، السلفيون الذين يتكلمون فيه ويحذّرون من بدعته يقومون بواجب شرعي، ألا وهو إنكار المنكر .. ورحم الله أبا إسحاق الشاطبي الّذي نبّه لهذا الملحظ من قديم حين قال في الاعتصام (95ص): «إن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم ... وقد حذّر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقاً، كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة؟» أ. هـ وهذا من دقيق فقهه -رحمه الله- فالمبتدع هو الّذي أحدث الافتراق وليس من أنكر عليه، وعكس القضية هو تلاعب في سرد القصّة بالبتر أو الاجتزاء الذي يغيّر الحقائق ويصوّرها في صورة الباطل .. وهو ما نبّهنا إليه في لبّ المقال.

اليهود وجريمة البحر

اليهود وجريمة البحر محمد صالح المنجد 18 جمادى الآخرة 1431هـ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين: فمما يُدمي القلب، وتَدمع له العين، ما أصاب إخواننا شهداء النصرة ممن قامت بقلوبهم غيرة الإيمان والنخوة والمروءة، فهبوا لنصرة إخوانهم المظلومين ... ففاجأهم إخوانُ القردة والخنازير بهجوم مباغت في مشهد بشعٍ اختلطت فيها الدماء بالمياه. 1 - اليهود هم اليهود: أخبث الأمم طوية، وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، امتلأت قلوبهم بالحسد والحقد، يرتكبون المجازر تلو المجازر، (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا). وهذا الحدث من طبيعة النفس اليهودية الساعية للإفساد والقائمة بالإجرام، وقد فعلوا ما هو أكبر من ذلك، فهم قتلةُ الأنبياء، وسفكة الدماء، كذبوا على الله، وحرفوا كتبه، وأكلوا السحت، ونقضوا المواثيق والعهود. 2 - ليست بأولى جرائمهم: وقد أخبرنا سبحانه وتعالى بجملة من كبائرهم فقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)، (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ)، (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ). هذه بعض جرائم اليهود في القرآن، واليوم تلطخت أيديهم بدماء القتلى من مسلمين وغيرهم ممن جاء لنجدة المظلومين المحصورين. 3 - اليهود لا يراعون في أحد ذمةً ولا عهداً: ولا يخافون الله في خلقه، كما أخبرنا تعالى بقوله: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً)، وقال: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً). وقد رأينا ذلك واضحاً في الوحشية اليهودية تجاه أناس عزَّل من بلدان مختلفة لا يملكون من أمرهم شيئاً، وهكذا اليهود (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً). 4 - اليهود جبناء: ويتجلى خوفهم في تسترهم عن أي معلومات تتعلق بالقتلى أو الجرحى الذين تم نقلهم للمستشفيات. 5 - اليهود قوم بهت: زعموا كذباً وزورا وجود أسلحة في السفن المحملة بالمساعدات الغذائية، وتحججوا بأن ركاب السفينة قاوموا بالسلاح، لتبرير جريمتهم. 6 - (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ): وهذا واضح في استخدام الطائرات والسفن الحربية لمقاتلة أشخاص عزَّل. 7 - الاستهداف الإسرائيلي رسالة موجهة إلى المسلمين جميعاً: وفحوى الرسالة: حذار ثم حذار من محاولة التفكير في نصرة أهل غزة!! 8 - الأتراك المسلمون يعيدون إلى الأذهان الارتباط بين العثمانيين والأمة الإسلامية، ويوقظ في النفوس الحنين إلى الخلافة الإسلامية التي تحمي حمى المسلمين في كل أنحاء العالم. 9 - كان واضحا في هذه العملية القصد اليهودي في الانتقام من اليقظة الإسلامية التركية، فقد ساءهم ما يقوم به الأتراك من دور فعال في الدفاع عن حقوق المستضعفين من المسلمين. 10 - المسلمون كالجسد الواحد: فالخليط الإسلامي في السفن البحرية (متطوعون من تركيا، الكويت، الجزائر، لبنان، الأردن ... ) يعكس تضامن المسلمين مع إخوانهم المستضعفين مع تباعد الديار.

11 - بدا واضحاً للعيان الفرق بين الجهود الفعلية التي يقوم بها أهل السنة من قارات العالم، وبين أصحاب الادعاءات الفارغة من أهل البدع الذين يقومون بالتمثيل والعويل وإلقاء الخطب الرنانة في التباكي على القدس، والمتاجرة بقضية فلسطين. 12 - (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ): فالذين قتلوا في نصرة إخوانهم المسلمين شهداء خاطروا بأنفسهم لامداد إخوانهم. 13 - (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ): لا بد من الحذر من الأصابع الخفية من الذين يكتبون في الشبكة العالمية للتحريش بين الشعوب العربية والإسلامية في هذه الأزمة (ولَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، ويجب الكف عن الملاسنات وتبادل الاتهامات انطلاقا من العصبية البغيضة. 14 - الشجب والغضب مفيد، لكنه لا يكفي: فلا بد أن تكون ردة الفعل على قدر الحدث، فهناك دماء سفكت في البحر، ولا بد أن يأخذ الجاني جزاءه. 15 - (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ): فمع فداحة الحدث إلا أننا ندعو للتفاؤل، وتلمس جوانب الخير في هذه المصيبة، ومن مظاهر الخير: تعاطف المسلمين من جاكرتا إلى طنجة مع إخوانهم في فلسطين، بالإضافة إلى تزايد الكره العالمي لليهود .. فدول تسحب سفراءها، وأخرى تلغي زيارات رسمية مقررة، وثالثة تستدعي سفراء اليهود احتجاجاً، ومؤتمرات هنا واجتماعات هناك، واحتجاجات واستنكارات. 16 - عدم اليأس من الدعاء: وقول البعض نحن ندعو من عشرات السنين، فماذا استفدنا .. يدل على انعدام الإيمان في القلب، وعدم معرفة قيمة الدعاء، فلقد أصيبت دولة اليهود بنكبات كثيرة، ومصائب بعض قادتهم فيها عبرة وعظة وما خبر شارون المجرم عنا ببعيد، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ). 17 - (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ): تقول إحدى النساء: لقد صرخت تلك المرأة وا معتصماه، ونحن المسلمات اليوم لا نعرف لمن نصرخ. ونقول: إننا نستنجد بالله عز وجل وحده، ونناشده الفرج. 18 - تذكير بحصار شعب أبي طالب: نتذكر في هذه الحادثة أن من نقض حصار شعب أبي طالب كانوا كفاراً، شعروا بالظلم الواقع على المسلمين، فتنادوا فيما بينهم لتمزيق وثيقة الحصار، فيوجد من عقلاء الكفار من يقيضهم الله للوقوف مع المسلمين والاحتجاج على اليهود، وتحدث لتحركاتهم فوائد ومنافع. 19 - قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت: فالناشط الإنجليزي "بيتر فينر" البالغ من العمر ثلاثة وستين عاماً يعلن إسلامه من على ظهر سفينة مرمرة إحدى سفن أسطول الحرية، ثبته الله وجعله ممن أسلم على ما سلف من خير. 20 - الوقف الإسلامي عبادة جليلة: ومن مظاهره وصوره الجديدة أن السفينة " بدر" المشاركة في الحملة تم شراؤها بصدقات المسلمين لتكون وقفاً على مهمات الإغاثة في الكوارث والنكبات. نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يكشف الغمة عن هذه الأمة، وأن يعز دينه ويعلي كلمته، وأن ينصر أولياءه، ويخذل أعداءه، ويجعل كيدهم في نحورهم، ويكفى المسلمين شرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الاختلاط بين الجنسين وظاهرتي السعار والشذوذ

الاختلاط بين الجنسين وظاهرتي السعار والشذوذ إبراهيم بن عبد الله الأزرق 11 جمادى الآخرة 1431هـ إذا قال بعضهم إن وضع إناء البنزين مفتح الجنبات مشقق الغطاء بقرب النار ليس سبباً طبيعياً للاشتعال، لاتهم الناس عقله أو رموه بالجهل الفاضح والمكابرة والإنكار لبعض مقتضيات الطبيعة، ومع ذلك يصر بعض منتسبي الثقافة والعقل! على أن خلط النساء بالرجال لا يقتضي إشاعة الفاحشة ولا استعار الشهوات! مع أن الميل بين الجنسين طبيعة أودعها الله سائر الثقلين وأنواع الحيوانات، وجعلها من القوة بمكان يناط به بقاء الأجناس الحيوانية والبشرية على ظهر البسيطة. إن إنكار أثر الخلطة على تأجيج الشهوات جهل ومكابرة وجحد لطبائع النفوس! تدعو المنصفين لازدراء قول ذلك الجاحد المكابر للمعلوم بالحس! لكن أقبح من هؤلاء الجهلة جهلة آخرون يزعمون أن الفصل بين الجنسين سبب لتأجيج الشهوات، والانحراف نحو الشذوذ، وربما تجرأ بعضهم فرما من استجاب لنداء الفطرة والعقل وطالب بالفصل بين الجنسين بسوء النية والقصد، وفساد الخواطر والقلب، وكل ذلك ضرب من الإرهاب الفكري المقيت، يُحصر فيه الناس بين خيارين؛ إما الاختلاط ولقائل أن يقول: الزنا، وإما الشذوذ، سبحان الله! ألا يرى هؤلاء إلاّ الجنسَ المحرم، مَثَلُهم كمثل من يقول: إما أن يأكل الناس مما لم يذكر اسم الله عليه، أو يأكلون لحم الخنزير. عجباً! وأين ذهب الحلال الطيب؟ ولك أن تعجب أيضاً من ذلك الشرف، وتلك العفة، التي يزعم امتلاكها من يبيح الاختلاط، ويتهم من ينادي بالفصل بسوء القصد! وأتساءل هل حقاً بلغت السذاجة بأناس مبلغاً يدفعهم لتصديق هذا الدّعي؟! ثم هل يعلم القائلون بهذه الدعوى السمجة أن بالولايات المتحدة وحدها نحواً من خمسين مليون شاذ (¬1)! وهل يعلم هؤلاء الأدعياء مَن الذين يحمون شذاذ الآفاق، مِنْ الذين انتكست فطرهم في الدول العربية والمسلمة؟ هل رأيتم شعباً مسلماً خرج في مظاهرة لحماية حقوق منتكسي الفطر والميول من أهل الشذوذ؟ اللهم لا؛ ولكنّا رأينا احتجاجات بمباني الأمم المتحدة في جنيف، وخارج المكتب الثقافي التابع للسفارة المصرية بواشنطن. وسمعنا بانتقدات جماعات حقوق الإنسان الدولية، لحادث قبض على بعض الشذاذ في أرض الكنانة أسفر عن إدانتهم ومحاكمتهم (¬2)! ¬

(¬1) مأخوذ عن مقال لمروي مشالي، في الأهرام العربي وقد يُظن أن هذه النسبة مبالغ فيها، ولكن الدراسات تفيد أن نسبة 10% من مجموع السكان شذاذ [عن مركز أبحاث الحرم الجامعي للشذوذ بجامعة يوتا بولاية سالت لاك الأمريكية]، بالإضافة إلى 8% عندهم شذوذ "مزدوجي الجنس"، وهذه النسبة تعادل (18%) من مجموع السكان، ووفقاً لتعداد عام 2003م، فإن عدد هؤلاء يصل إلى ما يربو على الثنتين وخمسين مليونا. ومع ذلك فهؤلاء قلة إذا ما قورنوا بإحصاءات أخرى أشارت إلى عدد الذين مروا بتجارب مقيتة حيناً من الدهر. ولعل من الحكمة الإعراض عن الإحالة على بعض منظمات الشذاذ والتي ربما اعتنت بتكثير إحصائياتهم، وأكتفي بالإحالة على موقع مركز جامعة يوتا، وقد كان رابطه حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر: http://www.sa.utah.edu/lgbt. وكذلك راجع موقعة جامعة دايتن الكاثوليكية على الرابط: http://ministry.udayton.edu/diverse/bglad_group.htm. والتقرير التمهيدي لبرامج التجمع الوطني لمكافحة العنف National Coalition of Anti-Violence Programs. (¬2) وقد نشرت قناة الجزيرة الإخبارية الخبر بتاريخ 29/ 8/2001، محاكمة 52 بتهمة الشذوذ، وخصصت الأهرام العربي "حياة الناس" لهذا الحدث، في عددها 231،السبت 25/ 8/2001.

حتى قال محرر الأهرام العربي: "بعد أن رفع الشواذ الأمريكيون شعار الحرية الشخصية الذي تبناه خمسة وثلاثون من أعضاء الكونجرس في رسالة مسمومة إلى الرئيس مبارك يلوحون فيها بورقة المعونة الأمريكية للضغط على مصر بهدف إلغاء محاكمة المتهمين الـ 52 في قضية الشذوذ ومنح الحرية الكاملة لأي شاذ يمارس الجنس مع أشخاص بالغين من الجنس نفسه. ولأن الحملة الأمريكية يقودها شاذ أمريكي يدعي "باري فرانك" عضو الكونجرس عن ولاية "ماستشوستس" ومعه "توم لانتس" المعروف بالمشاركة الدائمة والمنتظمة في أي حملة ضد مصر فقد جاء الرد سريعاً وفي نفس الاتجاه من أوروبا .. وبالتحديد من أمام السفارة المصرية في جنيفحيث وقف عشرات الشواذ يتظاهرون منددين بانتهاك الحكومة المصرية لحقوق الشواذ وحرمانهم من ممارستهم لحريتهم!! والمفارقة أن المظاهرة جاءت ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للشواذ والسحاقيات الذي أقيم الأسبوع الماضي في العاصمة السويسرية. ولم تسلم جمعيات حقوق الإنسان في مصر من الحرب الشرسة، إذ نالت مئات الهجمات العنيفة على مواقعها عبر الإنترنت بالإضافة إلي تهديدها بوقف التمويل مالم تنتفض لنجدة ونصرة الشواذ في مصر وتهيئ لهم أجواء الفجور والفسوق!! " (¬1). " لقد أضاف الدستور البريطاني مادة جديدة تتيح للموظف المسئول، حرية الإعلان عن ميوله الجنسية، فكانت النتيجة أن أعلن أربعة وزراء عن ميولهم الشاذة، وسكت آخرون، فصادف أن وقف (توني بلير) -رئيس الوزراء البريطاني السابق- في أحد المؤتمرات الصحفية بعد إعلان أحد الوزراء عن ميوله الجنسية الشاذة، فلم يجد سوى أن يقول: تلك ميول شخصية لا تؤثر على كفاءته في العمل كوزير! وعندما حاولت ملكة هولندا في السنوات الأخيرة الالتزام ببروتوكول القصر الملكي، فحرمت حوالي أربعة عشر سفيراً ودبلوماسياً هولندياً شاذاً -أعلنوا عن ميولهم في الملأ- من حضور حفلات ملكية، وجدت المتحدث الرسمي الأول لمجلس الدولة -الشاذ- يعرب عن اعتراضه على هذا الحرمان، وامتنع عن حضور المؤتمرات، التي تعقد في القصر لأنه لا يستطيع أن يصطحب صديقه! ولست أدري أين وصلت فرنسا في قانون (باكس) للتضامن الاجتماعي، وأهم البنود المطروحة في مشروع القانون مسألة السماح لأي زيجة بين الشواذ تمنحهم الحقوق المدنية المكفولة للأزواج الطبيعيين مثل حقوق الميراث، والاحتفاظ بالممتلكات بعد وفاة أحد الطرفين. وهناك مشروع مماثل جار بحثه في بلجيكا بعد ضغوط من بعض المنظمات الدولية الكبرى التي ترعى هؤلاء الشواذ (¬2). وقبل أمد ليس بالبعيد وقف أمام الملأ نائب الرئيس الأمريكي السابق "ديك تشيني" ليدافع في مقابلة تلفزيونة أجرتها معه " إم إس إن بي سي" عن حقوق ابنته الشاذة في حماية حياتها الخاصة، معرباً عن حبه الشديد لها، وقد كان ناشطون شذاذ دعوا ابنته "ماري" للتنديد بمقترح الرئيس جورج بوش من أجل تعديل الدستور لحظر الزواج من نفس الجنس (¬3)! وفي تقرير للسي إن إن جاء ما نصه: " ... في الدنمارك على سبيل المثال، فإن قوانين الزيجات المدنية لكلا الجنسين موجودةمنذ عام 1989، فيما تبعت دول أخرى من الدول الاسكندينافية هذه التشريعات فيالتسعينات. ¬

(¬1) الأهرام العربي "حياة الناس"، في عددها 231،السبت 25/ 8/2001. (¬2) الحوادثوالأرقام السابقة مستقاة من مقال بعنوان: ثقافة الشذوذ أحدث منتج أمريكي، لمروي مشالي، نشر في حياة الناس من الأهرام العربي يوم السبت 6 جمادى الآخرة، 1422 الموافق 25 أغسطس 2001العدد رقم 231. (¬3) نقلاً عن جريدة المحايد في عددها رقم 81 بتاريخ 18/ 1/1425، الموافق 9/ 3/2004م.

وكان الهولنديون أول الشعوب التي ألغت الحواجز بين الزيجات التي تربط بين رجلوامرأة والمثليين، وتبعتها لاحقاً بلجيكا. وفي أمريكا الشمالية كانت كندا سباقة في مضمار العفن والرذيلة هذا عندما أعلنت في يونيو/حزيران عن خطط تتعلق بتشريع زواج المثليين، حيث شهدت لاحقاً مدينة أوتاوا قدومالعديد من المثليين إليها لعقد زواجهم. كذلك فإن اللواط أو اشتهاء المماثل في دول إفريقية عدة يعتبر أمراً مخالفا للقوانين، فيما زواج المثليين يعتبر مسألة بعيدة كل البعد عن التفكير بها، لكن فيجنوب إفريقيا بدأت جماعات المثليين بالمطالبة بهذه الحقوق مؤخراً. أما في اليابان فإنه لم يعد ينظر إلى اللواط أو السحاق كمرض نفسي، إلا أن العديدمن المثليين لا يزالون يعيشون تحت ضغوط اجتماعية، مع أن اليابان تعتبر أقل اكتراثاً بخطر هذه المسالك من معظم الدول الآسيوية. أما الدول الكاثوليكية مثل إسبانيا وإيطاليا فإنها ترفض الاعتراف بحقوق المثليين، وذلك بعد الموقف الرافض من الفاتيكان لهذا الرباط، غير أن هناك استثناءاتمهمة. ففي البرتغال وإقليم الباسك في إسبانيا، فإن الأزواج المثليين الذين يقيمون مع بعضهما البعض منذ أمد ليس بالقصير يحصلون من المعونات الاجتماعية مثل ما يحصل عليها الأزواج العاديون، وفي العاصمة الأرجنتينية بوينس أيريس فإن الأزواج المثليينيمكنهم التسجيل لعقد رباط مدني. أما فرنسا وألمانيا فلديهما قوانين تشرع الرباط المدني، فيما بريطانيا بدأت الاستعدادات لتبني مثل هذه التشريعات" (¬1). وهكذا يستشري الشذوذ في تلك المجتمعات التي لاترعى للاختلاط حرمة، ويتقدم ليقتحم الكنائس والبيع، وقد أثارت الصحف الأمريكية قبل حوالي ستة أشهر، نبأ انتخاب "جين روبنسون" أول أسقف شاذ للكنيسة الأسقفية البروتستانتية، التي تضم حوالي 3.2 مليون نصراني، ينتمون إلى الكنيسة الانجليكانية، يباركهم جميعاً هذا القس الشاذ (¬2)! " ولن تعجب كثيراً إذا علمت أن اليهود كان لهم السبق في دعم مثل هذه التوجهات الشاذة في خطوة غير مسبوقة عندما صوت الحاخامات المنتمون لأكبر تجمع يهودي في الولايات المتحدة لصالح الاعتراف بزواج الشواذ وذلك في المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين التابع لحركة الإصلاح اليهودية حيث صرح رئيس المؤتمر [تشارلز كرولوف]:'إن من حق الشواذ الاعتراف بزواجهم واحترامهم'،ومنذ عام 1995، والحركة توافق على تعيين حاخامات مثليين" (¬3). ¬

(¬1) عن موقعها على الرابط التالي: http://arabic.cnn.com/ 2004 /entertainment/ 3/5 /gay.unions/index.html وفي موقع "السي إن إن" عدة قصص ذات علاقة ينظر مثلاً: http://arabic.cnn.com/ 2004 /entertainment/ 3/4 /same_sex.marriage/index.html http://arabic.cnn.com/ 2004 /entertainment/ 2/24 /california.marriage/index.html http://arabic.cnn.com/2005/entertainment/2/21/ukgay.navy/index.html http://arabic.cnn.com/2004/entertainment/2/18/marriage.san_francisco/index.html http://arabic.cnn.com/2005/entertainment/5/30/gay.brazil/index.html وفي الكلام تصرف يسير. (¬2) انظر تقريراً عن هذا الحدث في "السي إن إن" يوم الأربعاء الموافق 6/أغسطس/2003، وقد كان يوم كتابة هذه الأسطر في موقعها على الرابط التالي: http://www.cnn.com/2003/US/08/06/bishop. (¬3) عن تقرير لمفكرة الإسلام بعنوان: حرية التردي وتقنين الفاحشة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان على الرابط التالي: http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news13.asp?IDnews=134.

وعلى صعيد آخر ضرب آخر من الشذوذ تراه يستشري في تلك المجتمعات ألا وهو اقتراف الفاحشة مع المحارم وقد قال بعض باحثي تلك الأمم منذ قرابة الثلاثة عقود: "إن هذا الأمر لم يعد نادر الحدوث، وإنما هو لدرجة يصعب تصديقها، فهناك عائلة من كل عشر عائلات يمارس فيها هذا الشذوذ" (¬1). "فهذههي الجاهلية الحديثة في أوروبا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسيالشاذانتشاراً ذريعاً. بغير ما مسوغ إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهجالحياةالذي يقوم عليه. وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياةالإنسانيةلغير اليهود، بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي .. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجابالمرأة هو الذي ينشر هذهالفاحشةالشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوروبا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى -كما في عالمالبهائم! وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولايقتصرعلى الشذوذ بين الرجال؛ بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء. . ومن لا تخرقعينيههذه الشهادة فليقرأ: (السلوك الجنسي عند الرجال) و (السلوك الجنسي عند النساء) فيتقرير (كنزي) الأمريكي. . ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون، ووصايا مؤتمراتالمبشرين! " (¬2). إن من أعظم أسباب الشذوذ اضطراب الأسرة، وانشغالها عن رعاية بنيها، ولهذا كان من البدهي استشراء الشذوذ في الغرب الذي بات مصير الأسرة فيه مهدداً بالانقراض إثر الانحلال المتفشي. فعندما تهمل الأسرة أبناءها، تكون النتيجة المرتقبة انحرافهم بأشكال مختلفة، قد يمثل الشذوذ أحدها، خاصة عندما ينشأ الأولاد في أسر استرجلت فيها النساء، أو في مجتمع سُلب ذكوره الرجولة. يقول صاحب الظلال: "إحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف. لقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة .. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون ... الخ. شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! -وبخاصة نظرية فرويد- ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس. ¬

(¬1) ينظر إلى كل أب غيور، للشيخ عبد الله علوان، ص39. (¬2) في ظلال القرآن، تفسير سورة الأعراف، الدرس الرابع الآيات 80 - 84 لقطات من قصة لوط.

نعم .. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود. إنالميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قدناطبه امتداد الحياة على هذه الأرض؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميلدائميسكن فترة ثم يعود، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاءالماديللحصول على الراحة، فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة " (¬1). وبعد ذلك كله فإننا لاننكر أن يكون الشذوذ ظاهرة ربما عرضت لنفر منبوذ -لا يراعي للاختلاط حرمة- في مجتمع عربي! أما دعاة الفصل والنأي عن أسباب الفتنة فهم أبعد الناس عنه وأسلمهم منه، لكن ما نستهجنه محاولات تسويغ الدعوة إلى الاختلاط بدعاوى سمجة، بالإضافة إلى تحليل أسباب ظاهرة الشذوذ في المجتمعات العربية تحليلاً سطحياً ساذجاً، يضحك به على البسطاء، ثم اقتراح عقار آخر يضاعف الداء، بهدمهم لتدابير الإسلام الإيجابية كحضه على الزواج، وترخيصه -كالأديان قبله- في الإماء، وأمره بالصيام، وهتكهم لتدابير الإسلام الوقائية، كالسُتُر الحائلة دون اختلاط الرجال بالنساء. وأخيراً إذا كان إنكار نحو دوران الأرض حول الشمس مثلاً يعد عند بعض المثقفين جهلاً يستدعي منهم نوع ازدراء لقائله باسم العلم والعقل مع أن كثيراً منهم لايملك التدليل عليه لجهله! فإن إنكار بعض المثقفين لأثر الاختلاط بين الجنسين على تأجيج الشهوات والإصابة بداء السعار الجنسي أمر يدعو للاشمئزاز من تلك العقول، المنكرة للفطرة والشعور الإنساني والواقع المشاهد! ¬

(¬1) السابق، سورة النور:} قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. {الآيات.

الضوابط الشرعية بين الثوري والمهدي

الضوابط الشرعية بين الثوري والمهدي د. أحمد بن صالح الزهراني 10جمادى الآخرة1431هـ لا يكاد يمرّ يوم دون أن يخرج صوت جديد يردّ على من يحرم الاختلاط، ويجلب علينا بخيله ورجله، ويحشد الأدلة والبراهين التي يرى أنّها ترد على من قال بتحريم الاختلاط في التعليم وأماكن العمل ونحوها بإطلاق، ويبدأ في سرد الضوابط والقيود الشرعية الّتي يمكن معها تشريع الاختلاط، ومثل ذلك القول بجواز قيادة المرأة للسيارة، ومثله السماح بوجود السينما، وغير ذلك حزمة المسائل المُستحدَثة. أكثر ما يثير العجب في حال هؤلاء المتفقّهة هو الغرور المتناهي، فهل يظنّ هؤلاء أنّ كبار أهل العلم والديانة والعلم بالشريعة وفقه مصالحها ومفاسدها على غفلة وجهل بهذه الضوابط والقيود التي يستطيلون بها على غيرهم؟ دعوني أنقل لكم هذا الموقف: لما استُخلف الخليفة المهدي بعث إلى أبي عبد الله سفيان الثوري الإمام المشهور، فلما دخل خلع المهدي خاتمه فرمى به إليه، فقال: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده، وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: أتكلّم على أنّي آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني شيئاً حتى أسألك، قال: فغضب من ذلك وهمّ به، فقال له كاتبه: أليس قد أمّنتَه يا أمير المؤمنين؟! قال: بلى، فلما خرج حفّ به أصحابه، فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال: فاستصغر عقولهم، ثم خرج هارباً إلى البصرة). أ. هـ بطبيعة الحال أيّ واحد منّا قد يعجب لهذا الموقف من سفيان، الخليفة يفتح له المجال ليعمل بالكتاب والسنّة وهو يأبى ويمتنع؟ أيّ سلبيّة هذه؟ وهذا كان موضوع احتجاج من أصحاب سفيان عليه .. لكن سفيان استصغر عقولهم؛ لأنّه يعلم أنّ الخليفة إنّما أراد أن يتخذ من وجود سفيان في بطانته حجّة على غيره من أهل العلم حين ينكرون عليه، وكان يعرف أنّ مخالطتهم تغيّر القلوب، فكان يقول: إن الرجل ليستعير من السلاطين الدابة والسرج أو اللجام فيتغيّر قلبه لهم. قال ابن المبارك: قيل لسفيان الثوري: لو دخلتَ عليهم، قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلت فيه، قيل له: تقول وتتحفظ، قال: (تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي، ليس أخاف ضربهم، ولكني أخاف أن يميلوا علَيّ بدنياهم، ثم لا أرى سيئتهم سيئة). نعم هذه هي الطّامة وهي ما نعاني منه اليوم: أنّ بعض فقهائنا ودعاتنا للأسف لم يعد يرى السيّئة سيّئة، وأصبح يتأوّل للسيئات بأقبح ما يكون من تأويل. نعود لسفيان: لماذا لم يقتنع بدعوة الخليفة، سأله رجل عن ذلك فقال: لأي شيء تهرب من الرجل - أي الخليفة - والرجل يقول: لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا، فقال له سفيان: "يا ناعس! حتى يعمل بما يعلم فإذا عمل بما يعلم لم يسعنا إلاّ أن ننصَب فنعلّمه ما لا يعلم".أ. هـ أي أنّه مفرط في كثير مما يعلم أنّه مخالف فيه للشريعة ويصرّ على مخالفته، فلو صدق في نيته استكمال تطبيق الكتاب والسنة لبدأ بما يعلمه، فعند ذلك يجب علينا أن ننصب ونتكلّف تعليمه ما يجب من الأحكام التي يجب تطبيقها على الناس. عرف سفيان بنور البصيرة الّتي وهبه الله إيّاها أنّه من الخير للعالم الذي يحترم علمه، ويحترم مبادئه ألاّ يشارك في تزكية الباطل، ولو كان بالتضحية في المشاركة في شيء من الإصلاح.

وهنا تتجلّى لنا ميزة يتميّز بها فقهاء السلف هو الفطنة والبصيرة في الدين، فإنّ الواحد منهم لشدّة تعلّقه بالله وتديّنه بدين الله وشدّة اقتفائه الأثر نوّر الله بصائرهم، وأمر آخر لا يقل عمّا مضى وهو تطلبهم الآخرة وشدّة احتقارهم للدنيا، سواء كانت منصباً أم مالاً، أم زوجة، أم غير ذلك من متاعها. العبرة من قصة سفيان: كثيراً ما نسمع اليوم مطالبات من هنا وهناك بأمور تدخل تحت ما حُرّم لأنّه ذريعة للحرام، وأصبحنا نرى تسارع بعض المتفقّهة في تلقّي ما يُلقى إليهم من مطالبات تستظهر الحق وتستبطن الباطل، ويخرج علينا كثير منهم وقد تمّ تلميعهم وتزويقهم ليحتجّوا بظواهر النصوص وعموماتها منزوعة من سياقاتها وسباقاتها على بعض ما يسمّونه حقوقاً، وأكثرها سوءاً وخبثاً ما تم طيّه تحت عنوان حقوق المرأة .. لا ينكر عاقل أنّ المرأة مثلها مثل كل ضعيف تُنتهك حقوقها، وأهل الشريعة هم أوّل من يقف في صفها وصف كل ضعيف مادام المطلب شرعياً لصيقاً بضرورات الحياة وحاجاتها دون أن يكون معبراً للتغريب، وجسراً للعلمنة، وأداة لأهل المنكر. (الضوابط الشرعية) .. هذه العبارة اعتدنا سماعها عند الحديث عن قيادة المرأة للسيارة ووجود المسرح والسينما والاختلاط -وهو حديث الساعة - يردّدها المتفقهة والسياسيون والمثقفون، بل إنّ من ابتذالها أن يحتجّ بها الليبراليون، وهم أكثر الناس كفراً بها، وتمرّداً عليها .. وكلّ فقيه حقيقي نوّر الله بصيرته وألقى عن عينه غشاوة الدنيا، أو غفلة الصالحين وإفراطهم في إحسان الظنّ يعرف أنّ الضوابط الشرعية على الرغم من كثرة من يدافع عنها، ويطالب بتطبيقها من أكثر الضوابط انتهاكاً بلا رادع .. نحن نعيش في حياتنا حالات كثيرة لا يُراعى فيها ضوابط القانون، ولا النظام، ولا الشرع، وفي أمور في غاية اليسر وفيها أصول مسطورة وقواعد مقدورة، ومع هذا فلا راعي لها. خُذ على سبيل المثال الضوابط الشرعية في نظام المواد الإعلامية، فإنّك إذا تتبعتها وجدت غالبها في حكم المهجور أو الملغى .. فعندما يغترّ بعض المتحدثين عن حقيقة ما يُراد تمريره تحت عباءة الضوابط الشرعية فهو بعيد جداً عن حكمة وحنكة فقهاء السلف الذين لم يكونوا يغترون بالكلام والشعارات .. لا ينبغي للعالم والفقيه والداعية أن يجعل من جاهه وصِيته عند الناس وسيلة لتزكية مشاريع التغريب وتسليسها وتليينها لتمر بلا نكير حتى تصبح واقعاً يصعب الانفكاك منه. الموقف الصحيح عند معايشة واقع مثل واقعنا أن نترك التغريب والتغيير عارياً مفضوح النزعة والدوافع والأهداف؛ لأنّ ذلك أجدر وأحرى أن يُغيّر .. أمّا إذا حاول الفقيه المشاركة فيما هو أكبر منه فإنّه لن يمكنه أكثر من يكون بطاقة مرور للمشروع وشهادة تزكية مزوّرة. عندما قال ميمون بن مهران - وغيره من السلف-: ثلاث لا تبلون نفسك بهن وذكر منها: (لا تدخل على السلطان وإن قلتَ آمرُه بطاعة الله) لم يكن غافلاً عن فقه المقاصد وفقه المفاسد والمصالح، كما يظن بعضنا أنّه يتقن هذا الفن أكثر منهم، ولهذا لم يختلفوا في القرب من عمر بن عبد العزيز؛ لأنّهم يعرفون منه الصدق في تطبيق الكتاب والسنة، لا الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، كما يفعل بعض أهل السياسة في عصورنا هذه، ومن الحماقة أنّ يظنّ شخص أنّهم أكثر قرباً إلى الله ورسوله، وأكثر رغبة في تطبيق الشريعة من خلفاء بني أمية. وعوداً على بدء فإنّ توظيف الضوابط الشرعية في الاستدلال لجواز هذه المطالبات هو كلام لا معنى له؛ إذ نظرة واحدة فيما حولنا ندرك أنّ كثيراً من الأمور تسير في حياتنا دون اهتمام ولا مراعاة للضوابط الشرعية، فكيف يمكن لعاقل أن يصدق واقعية أو حقيقة التعهّد بمراعاة الضوابط الشرعية في قيادة المرأة أو السينما أو الاختلاط البريء أو غير ذلك من شعارات أهل الباطل لمرحلة جديدة وخطيرة تمر بها بلادنا؟ مرحلة إن لم نتنبّه لها ونعي خطورة المشروع التغريبي الذي يُبنى فيها، ويُؤسّس له على أرضنا، وندرك أبعاده فستكون نقلة كبيرة واسعة تزيد من عرض البرزخ الذي يفصلنا عن الكتاب والسنة. والله المستعان.

عصر دبلجة الواقع

عصر دبلجة الواقع إبراهيم بن عمر السكران 9 جمادى الآخرة 1431هـ الحمدلله وبعد،، تستحق هذه المرحلة التي نعيش فيها أن تسمى حقبة (دبلجة الواقع) .. فكتابات الطوائف الفكرية المعاصرة اليوم هي أشبه باستديو فكري يحترف التصوير المضلّل أكثر من كونه خطاب نزيه يختلف معك في التقييم لكنه أمين في نقل الواقع كما هو .. ولذلك فالصور التي ترسمها الطوائف الفكرية عن الواقع الإسلامي كلها -تقريباً- صورٌ قد تمت معالجتها بالفوتوشوب الفكري .. وتدهشني للغاية قدرات الخداع التصويري الذي تمتهنه هذه الطوائف الفكرية في مقالاتها الصحفية وحواراتها الفضائية. دعونا نقف سوياً على نماذج طريفة من هذه الفبركات التي أنتجتها استديوهات الفكر العربي والمحلي المعاصر: - تحدثنا الطوائف الفكرية كثيراً عن أن الفتوى المحلية عندنا لديها مغالاة في (سد الذرائع) وأن مشايخنا يسدون كل ذريعة، وأنهم لايعرفون قاعدة فتح الذرائع، وبعضهم يقول: كل ذريعة تتصل بالمرأة فإن الفتوى المحلية تبادر لسدها وتحريمها، فهل هذا التصوير صحيح؟ عدت لواقع الفتوى المحلية فوجدت الذرائع التي فتحها مشايخنا أضعاف أضعاف الذرائع التي سدوها، فكل ذريعة لم تتحقق فيها شروط سد الذريعة فتحوها، خذ فقط بعض الأمثلة: السفر لبلاد الكفار لعلم أو تجارة فيه ذريعة إلى التأثر بالكفار والنظر المحرم وغير ذلك، ومع ذلك لم يحرمه مشايخنا لأنه عارضته مصلحة راجحة. إدخال الانترنت إلى المنزل فيه ذريعة إلى دخول المواقع الفاسدة، ومع ذلك لم يحرمه مشايخنا للمصلحة الراجحة. ركوب الطالبات في حافلة يقودها رجل فيه ذريعة لفتنته بهن، ومع ذلك لم يحرمه مشايخنا للمصلحة الراجحة، وهكذا أيضاً: اتصال النساء بالبرامج الفضائية والإذاعية للسؤال والاستشارة بأصواتهن علناً فيه ذريعة إلى الفتنة، اتصال العوائل بمطاعم التوصيل السريع وتوصيف البيت لهم وإيصال الطلبات فيه ذريعة للفتنة، ويوجد في كثير من المشاغل النسائية غرف لتبديل الملابس وفيها ذرائع كبيرة لأن يستغلها بعض ضعاف النفوس ولكن مشايخنا لم يجزموا بالتحريم لأنه لم يتبين لهم إلى الآن كثرة إفضائها إلى المفسدة. ومن الأمثلة العامة أيضاً: السهر في الولائم فيه ذريعة قوية للنوم عن فريضة صلاة الفجر، تأجير الناس الاستراحات وفيها ذريعة لأن يستخدمها بعض المستأجرين في اجتماعات غير مقبولة شرعاً، شراء السيارة للمراهق وفيها ذريعة لأن يستعملها في أغراض مضرة، الخ الخ. وكل هذه الذرائع السابقة لم يحرمها أهل العلم عندنا، وهكذا لو تتبعت احتمالات الذرائع في تصرفات الناس فإنك لن تنتهي، ومع ذلك فإن فقهاءنا الشرعيين لم يحرموا إلا نزراً يسيراً من الذرائع التي تحققت فيها شروط سد الذريعة، وأما هذه الذرائع التي لاتخلو منها تصرفات الناس وأحوالهم الاجتماعية فإنهم لم يسدوها إما لندرة إفضائها إلى المفسدة، أو لأنه عارضتها مصلحة شرعية راجحة، أو ترتب عليها مشقة على الناس تفوق مايتخوف فيها من الفساد، كما قال ابوالعباس ابن تيمية وهو من أشهر الفقهاء الذين احتفو بقاعدة سد الذرائع (الذريعة إلى الفساد يجب سدها؛ إذا لم يعارضها مصلحة راجحة) [الفتاوى 15/ 419]

وأنت إذا تأملت فتاوى أهل العلم عندنا وجدتهم في غاية التوازن في قاعدة سد الذرائع، وصدق الحرص على تحقيق مصالح الناس الدينية والدنيوية، فإذا ترجح وقوع المفسدة ولم يعارضها مصلحة راجحة منعوا، وإذا كان الإفضاء إلى المفسدة نادراً، أو كان كثيراً لكن عارضته مصلحة راجحة لم يسدو الذريعة بل فتحوها، فكيف يقال: أنهم يسدون كل ذريعة، أو أن لديهم مغالاة في سد الذريعة، أو أنهم لايعرفون قاعدة فتح الذرائع؟ أظن من يقول ذلك لديه تساهل في سد الذريعة ولذلك يتبرم بمنهج المتوازنين. حسناً .. لنواصل أمثلة أخرى من فبركات الطوائف الفكرية: - تحدثنا الطوائف الفكرية بكثرة عن أن أهل السنة والمتبعين لمنهج السلف أشغلوا الناس بمسائل جزئية وصارت حياة الناس كلها نقاش في فتاوى فقهية وتدقيقات عقدية، وهذا بالتالي أبعدنا عن النهضة والحضارة، لما سمعت الطوائف الفكرية تكرر هذا الكلام قلت في نفسي: الله يهدي الدعاة محتمل أنهم أشغلوا الناس فعلاً؟ وصرت مهتماً برصد نمط الحديث في مجالس الناس، فما رأيت هذا الذي يقولونه، ولا رأيت مسائل عقدية ولا فقهية أشغلت مجالس الناس. بل رأيت مجالس الناس مشغولة بأخبار القرارات الحكومية، وأسعار العقار، والتشكي من سوء الخدمات البلدية والصحية، وإشاعات الصندوق العقاري، والتحليلات الرياضية، ومزاين الابل، وشاعر المليون، والمسلسلات التركية، والأحداث المحلية مثل أمطار جدة والرياض، والأحداث السياسية كالحوثيين وقراصنة الصومال والانتخابات الأمريكية، وألعاب البلايستيشن وأخواتها، بالإضافة إلى غرائب وعجائب من القصص تبدأ بقولهم (يقولون .. ) الخ الخ فلا أدري أين هذه المسائل العقدية والفقهية التي أشغلت الناس؟! ولما رأيت حمية الطوائف الفكرية لوقت الأمة وحرقتهم على الزمن قلت في نفسي ربما أن هؤلاء المنتسبين للفكر والثقافة مشغولون بمعالي الأمور فعلاً، فلما ذهبت لمواقعهم التي يكتبون فيها على الشبكة رأيت أحاديثهم: توصيات متبادلة بأفلام سينمائية، ومشاهداتهم السياحية، ومقاطع يوتيوب طريفة، وتتبع تفصيلي لأحداث سياسية خارجية لا ناقة لهم فيها ولاجمل .. افترض أن العلماء والدعاة أشغلوا الناس بالمسائل الشرعية فوالله إن ذلك خير من إشتغالكم بأخبار الأفلام السينمائية وتحليلاتكم السياسية التي لا ثمرة لها! لست أدري أين تلك الغيرة الاستثنائية على الوقت التي تصيبكم حين الحديث عن العلماء والدعاة؟! - وتحدثنا الطوائف الفكرية أيضاً أن الخطاب الشرعي لأهل السنة هو المسؤول عن تخلف العلوم المدنية، فلما ذهبت للخطاب الشرعي وجدت العلماء يقولون إن العلوم المدنية التي تحتاجها الأمة (فرض كفاية) إن قام بها من يكفي وإلا أثم الجميع، ووجدت في تراجم الفقهاء من جمع إلى تخصصه الفقهي دراسة الطب، أو دراسة الهيئة والفلك، ونحو ذلك، بل لما نظرت في دعاتنا المعاصرين وجدت الكثير منهم جمع لتخصصه الدعوي تخصصاً مدنياً فالشيخ الداعية محمد المنجد متخرج من جامعة البترول، والشيخ د. خالد الجبير طبيب (استشاري أمراض القلب)، والشيخ الداعية عبدالمحسن الأحمد طبيب (وحدة التنفس الحرجة) وغيرهم، بل إن أكثر المناشط الطلابية الإسلامية فعالية وحراكاً توجد في كليات العلوم الطبيعية في جامعة الملك سعود وجامعة البترول، الخ

بل إن المفكر الفرانكفوني المتطرف محمد أركون اضطر للاعتراف بإقبال الإسلاميين على كليات العلوم الطبيعية حيث يقول عن الإسلاميين: (نلاحظ مثلاً أن دارسي العلوم الفيزيائية والرياضية والطبية وغيرها ينخرطون في صفوف هذه التيارات -أي الإسلامية- أكثر بكثير من المختصين بعلوم الإنسان والمجتمع، وقد عرفنا أثناء المعارك والاشتباكات التي جرت في جامعات تونس والجزائر والقاهرة الخ أن المتعصبين والمتزمتين ينتمون بشكل خاص إلى كليات العلوم، إنها ظاهرة تستحق التأمل والتفكير) [تاريخية الفكر العربي، أركون، 26]. كم أشعر بالأسى إلى أولئك الذين جعلوا مشروعهم هدم الخطاب الشرعي لأهل السنة بزعم أنه يتعارض مع العلوم المدنية، برغم أن الإسلاميين أسبق من غيرهم في هذا المضمار، ولكنهم يضعون المدنية الدنيوية في منزلتها التي أنزلها إياها القرآن، مجرد وسيلة لتحقيق المطالب الشرعية، ولايجعلونها هي معيار التقدم والحضارة، وإنما معيار التقدم والحضارة موافقة أولويات القرآن. قبل أن نستطرد لحديث آخر .. دعونا نكمل نماذج أخرى من مغالطات الطوائف الفكرية: - تحدثنا الطوائف الفكرية كذلك عن أن أهل السنة والمتبعين لمنهج السلف لايقبلون بالخلاف في مسائل الاجتهاد، ولا يرعون حق المخالف في المسائل الاجتهادية، وأن من لم يوافقهم على كل صغيرة وكبيرة فإنه سيتعرض لسلسلة مضايقات وتسلط، وأن فقه أهل السنة المعاصر يقوم على التنميط الكامل في كل المسائل ولا يرحب بالتفكير والاجتهاد، ويستعملون في توصيف هذا الواقع مصطلحات مثل أدلجة وقولبة وتنميط الخ، وبعد أن يصورون هذا الواقع الإسلامي بهذا الشكل يبدؤون في نقل نصوص بعض أئمة السلف في تفهم الخلاف في المسائل الاجتهادية .. الحقيقة أن القارئ لهذه الطوائف الفكرية لا يكاد يفكر بفحص هذه الدعوى، بسبب كثرة طرقهم لها بشكل مكثف ومستمر وبصيغ متنوعة .. وقفت مرة مع نفسي وقلت لماذا لا أختبر صحة هذه الدعوى؟ لماذا نستسلم لهذا الطوائف الفكرية؟ لماذا تخلب ألبابنا جاذبية الأضواء السينمائية الفكرية التي يستعملونها في خطابهم فتغيب عقولنا عن تحليل صحة الدعاوى التي يطلقونها؟ وضعت هذه الصورة التي تنقلها الطوائف الفكرية جانباً، وعدت للخطاب الشرعي لأهل السنة أتأمل موقفه من الخلاف في المسائل الاجتهادية، فلما قلبت بحوث الفقهاء وطلبة العلم الشرعي وجدتهم لا تكاد توجد مسألة من مسائل الاجتهاد في الفقه الإسلامي المقارن إلا وقد اختلفوا فيها، وتناقشوا وتباحثوا ورجح كل واحد منهم ما رآه بنفوس ملؤها الحب والأخوة، خذ مثلاً بعض أمثلة هذه المسائل: التسمية عند الوضوء، بداية احتساب مدة المسح على الخفين، نجاسة الدم، الطهارة للطواف، الطهارة لمس المصحف، ومن طهرت قبل خروج أحد فرضي الجمع هل تصليهما جميعاً أم الأخير منهما؟، نهاية وقت العشاء بمنتصف الليل أم بدخول الفجر، المفاضلة بين الأذان والإمامة، وسجود السهو قبل السلام أو بعده، مسألة قصر المسافر إذا أقام إقامة مؤقتة، زكاة الحلي .. الخ هذه نماذج لمسائل تراثية، أما مسائل النوازل المعاصرة التي اختلف فيها فقهاء أهل السنة والمتبعون لمنهج السلف بكل رحابة صدر فهي - أيضاً- كثيرة ومنها:

بدل الخلو، هل الشيك قبض؟، بيع الاسم التجاري، الموت الدماغي، تعذر الحصول على تصريح للحج هل يستقر الوجوب في ذمته فيحج عنه من تركته؟، استعمال المنظفات المعطرة للمحرم، لبس الكمامات للمحرم، تعذر المبيت بمنى ليالي التشريق، حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المؤسسات الخيرية، زكاة مكافأة نهاية الخدمة، زكاة الحقوق المعنوية، ومن مفطرات الصيام التي اختلف فيها الفقهاء المعصرون: التبرع بالدم، بخاخ الربو، أقراص الأدوية أسفل اللسان، منظار المعدة، قطرة الأنف وقطرة العين، تخدير المريض باستنشاق الغاز، الحقن المغذية والعلاجية، السفر بالطائرة بعد غروب الشمس بحيث تظهر له مرة أخرى فهل يمسك الصائم أم لا؟ الخ وما مضى هي مجرد نماذج لآلاف المسائل الشرعية التي يختلف فيها طلبة العلم الشرعي عندنا أخذاً ورداً ونقاشاً واستدلالاً واعتراضاً، ومع ذلك لا ينكر فيها على المخالف، بل بقيت بينهم أخلاق الأخوة والعلم، فكيف يفتري هؤلاء على أهل السنة ومتبعي منهج السلف أنهم لايقبلون الخلاف في المسائل الاجتهادية؟! بل لقد حضرت في الرياض -عمرها الله بطاعته- عدة ندوات فقهية أقامها الناشطون الفقهيون حول البطاقات الإئتمانية ومسائل زكاة الصناديق الاستثمارية ونحوها من مسائل المعاملات المالية، وفي كل هذه الندوات -بلا استثناء- كان الفقهاء الشباب يختلفون ويتناقشون مع كل احترام وتفهم وتآخي، ولايخرجون من ندوة إلا لموعد ندوة أخرى. بل وفي شهر محرم من هذا العام عقدت في الرياض ندوة حول مسائل الأسهم وألقى فيها فضيلة الشيخ الفقيه ابوسعد عبدالعزيز الدغيثر ورقة بعنوان (التعويض في سوق الأسهم) وفي مراسلة بيني وبينه قال لي بالحرف الواحد: (والعجيب أن الحضور وصلوا إلى آراء وقناعات تساوي عددهم، فلم يكد يتفق اثنان في مسألة). وأرجوك أن تلاحظ أن هذه السعة في الاختلاف في الاجتهاديات بين طلبة العلم كلها إلى الآن في مسائل الفقه، أما لو انتقلنا لتصحيح الأحاديث وتضعيفها فسنشهد مظهراً آخر للتسامح في الاجتهاديات، فقد اختلف المشتغلون بالحديث من المعاصرين في تصحيح وتضعيف مئين من الأحاديث، ومع ذلك بقي هذا الاختلاف في دائرة التسامح والحب دام أنه لم يصل لتصحيح شديد الضعف، أو العدوان على أحاديث الصحيحين. أغلقت بحوث طلبة العلم، وأوقفت ذاكرتي عن استحضار واقع الندوات الفقهية، وأدرت برامج الفتاوى التي يتصدر لها بعض طلبة العلم المعروفين بحسن الفتيا، فشهدت مظهراً آخر للاختلاف في المسائل الاجتهادية، بل لاتكاد تجد مسألة اجتهادية يفتي فيها شيخ معين إلا ووجدت شيخاً آخر يفتي بخلافه. بل من الطريف أنني رأيت الناس كثيري التبرم باختلاف شيوخنا في الفتيا في المسائل الاجتهادية، ويسرُّ إليك كثير من الناس بأنه يقع في الحيرة بسبب اختلاف المشايخ في الفتيا في المسائل الاجتهادية، ومع كثرة اختلاف شيوخنا وطلبة العلم عندنا في الفتيا في المسائل الاجتهادية لم نرهم أقامو حرباً على بعضهم، ولا شنعوا على بعضهم في مثل هذه المسائل .. ومع ذلك تأتي هذه الطوائف الفكرية وتقول أنتم مؤدلجون تريدون الناس يوافقونكم في كل صغيرة وكبيرة، ولاتسمحون بالخلاف في المسائل الاجتهادية! يالله العجب ما أكذب هذه الطوائف الفكرية! أنا شخصياً لا أجد أي تفسير لما تقوله هذه الطوائف الفكرية عن الخطاب الشرعي لأهل السنة إلا أنه "كذب" محض وشهوة افتراء تعيث بنفوسهم ونقمة على الإسلاميين وطلبة العلم والمتبعين لمنهج السلف تدفعهم لتشويههم بهذا الشكل.

هل هذا يعني أنه ليس هناك أخطاء ولاهفوات في موضوع التسامح في المسائل الاجتهادية؟ لا، طبعاً، فهناك مواقف غير دقيقة ومن أشهرها حادثة كتاب الشيخ دبيان في القبضة، وهي التي يدندن حولها هؤلاء دوماً ويحولونها من حالة شاذة إلى قاعدة مطردة! وأي قارئ موضوعي سيعرف حتماً أن حادثة الشيخ دبيان هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فكيف يدع هؤلاء آلاف المسائل التي اتسعت صدور شيوخنا الكبار وشيوخنا الشباب لها، ويتعنتون دوماً في التعلق بحادثة الشيخ دبيان؟! مثل هؤلاء كمثل رجل رأى مهندساً بنى ألف منزل ووقعت منه هفوة في منزل واحد، فقال إن هذا المهندس يهدم المنازل! هل هذا إلا من الجور والظلم الفادح؟! بل والله هذا عين الكذب الفج .. في ذهني الآن نماذج كثيرة لكذبات الطوائف الفكرية في تصوير الواقع الإسلامي بعامة، وواقع الخطاب الشرعي لأهل السنة بخاصة، لكنه لا يمكنني مواصلة المزيد فقد أطلت، وإنما يهمني هاهنا هدف واحد فقط، وأعتقد أنني لو حققت هذا الهدف فلا يسرني أن لي به حمر النعم، هذا الهدف بكل اختصار هو تنشيط جهاز الفحص لدى القارئ الذي وقع ضحية الطوائف الفكرية المناوئة لأهل السنة، وأن لايستسلم للمعطيات التي يقدمونها، فإذا سمعهم يتحدثون عن الواقع الإسلامي تحت لافتات (نقد الصحوة، نقد السلفية، الخ) فليتوقف عن الاسترسال، وليضع دعاواهم تحت الفحص، وصدقني أنه سيكتشف نماذج طريفة جداً من هوليوديات الطوائف الفكرية .. والله أعلم

المفتون المفتونون

المُفْتُون المَفْتُونُون فهد العيبان 6 جمادى الآخرة 1431هـ لقد ميّز الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم والعلماء، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الأمناء على دينه وشرعه، وحينما يُفتقد العلماء في الأمة أو يتطاول على مقامهم ومهنتهم أو تخرُس ألسنتهم عن أن يصدعوا بالحق، فإن الأمة حينها تهلك في مهاوي الضلال؛ لأنه سيقوم في الناس من يفتي في شرع الله بغير علم فيَضل ويُضل، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" أخرجه البخاري. وإن أعظم مقام يقومه العلماء في الناس هو التوقيع عن رب العالمين بالحلال والحرام، وقد ارتضى الله سبحانه وتعالى هذا المقام الرفيع لنفسه، فقال: "وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ" (النساء: من الآية127)، وقال: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ" (النساء: من الآية176). ثم تولاه رسل الله وأنبياؤه يبلغون عن رب العالمين شرعه وأحكامه ومراده، فقاموا بذلك أحسن قيام ثم ورّثوا هذا العلم لمن بعدهم من العلماء الربانيين، فقاموا في الناس مقام الأنبياء بالتبليغ عن رب العالمين، فكان لزاماً على من تولى هذا المقام أن يكون في المكان الرفيع من العلم والصدق والديانة. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "لما كان التبليغ عن الله يعتمد العلمَ بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضيّ السيرة عدلاً في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر فضله ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات" اهـ. إن هذا المقام الرفيع هابه أكابر العلماء من سلف هذه الأمة فكان أحدهم لا تمنعه شهرته وعلو شأنه بين الناس أن يقول: لا أدري حين يُسأل عما لا يعلم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حين يُسأل المسألة فلا يجيب حتى يسأل جبريل. إن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم علموا علم اليقين أن الفتيا بغير علم كذبٌ على الله وافتراءٌ عليه، فهابوا ذلك وخافوا منه امتثالاً؛ لقول الله تعالى: "وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ" (النحل:116)، وقوله: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ" (الأعراف:33). ولأجل ذلك تورع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الورع عن أن يقولوا على الله بغير علم وهم خير من يبلغ عن الله بعد أنبيائه، فها هم الخلفاء الراشدون مع ما آتاهم الله من سعة العلم وطول الصحبة يجمعون خيار الصحابة وعلماءهم إذا وردت عليهم المسائل والمشكلات، بل إن بعضهم يدفع الفتوى عن نفسه إلى صاحبه لعله يكفيه إياها. قال البراء رضي الله عنه: "لقد رأيت ثلاثمئة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبُه الفتوى".

وقال ابن أبي ليلى: "أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يُسأل عن شيء إلا ودّ أنّ أخاه كفاه". وقال عطاء بن السائب: "أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد". وهكذا كان التابعون لهم بإحسان يعظمون شأن الفتيا والجرأة فيها ولهم في ذلك مواقف عظيمة: - يقول نفيس بن الأشعث: "كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من فقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان". - وقال داود: سألت الشعبي كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول. - وقال الشعبي والحسن البصري: "إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر" - وقال يحيى بن سعيد: كان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئاً إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني". - وسئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل له: ألا تستحي من قول لا أدري وأنت فقيه العراق، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: "سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا" (البقرة: من الآية32). - وسئل مالك عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: "ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً" (المزمل:5). - وقال ابن المنكدر: "العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم". - وقال ابن عيينة: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً". - وقال مالك: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار كيف خلاصه ثم يجيب". - وقال أبو حنيفة: "من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأل عنه كيف أفتيت في دين الله فقد سهلت عليه نفسه ودينه". - وكان أبو الحسن القابسي ليس شيء أشد عليه من الفتوى، وإنه قال عشيةً من العشايا: "ما ابتلي أحد بما ابتليت به أفتيت في عشر مسائل". - وسئل مالك عن اثنتين وعشرين مسألة فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. - وذكر الحافظ ابن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكان من الفقهاء أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه (أي: الجواب)، ثم قال القاسم رحمه الله: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به. هذا هو شأن الأئمة الربانيين الكبار الذين خافوا مقام ربهم واستعظموا الافتراء عليه والكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم فأكثروا من قول: لا أدري، مع أنهم أحق الناس بالفتيا وبيان الحق، ولكنه الورع والديانة وتعظيم الله وتعظيم حرماته. أما زماننا اليوم، فكما قال أحد العلماء: "عظم أمر الفتوى وخطرها وقلّ أهلها ومن يخاف إثمها، وأقدم عليها الحمقى والجهال، ورضوا فيها القيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال".

كم تعاني بلاد المسلمين عامة من جرأة ليس لها مثيل على دين الله، فمقام الفتوى الذي هو مقام الأنبياء ومقام ورثتهم من العلماء تجرأ عليه الكثير من الحمقى والسفهاء، والصغار والكبار ومن لا عقل له ومن اغتر بعقله ومن لا دين له ومن اغتر بعبادته، حتى بعض المفكرين والصحفيين والإعلاميين والأدباء والشعراء والأطباء حتى أصبح مقام الفتوى مهنة من لا مهنة له، بل للأسف حتى الفساق والسخفاء من المغنين والمغنيات والمهرجين والمهرجات تناقلت وسائل الإعلام فتاواهم وكذبهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهل بعد هذا العبث من عبث بمقام الفتوى؟! لقد عانت وتعاني أمة الإسلام من الحكم بغير ما أنزل الله وتضييع الحدود والتعدي على المحارم والأخلاق وإهدار الدماء وإزهاق الأرواح بغير حق كل ذلك وغيره كثير كان من أعظم أسبابه أن الذين استباحوا محارم الله وتعدوا حدوده كانوا قد استباحوا مقام العلماء الربانيين ومقام الفتوى، بل إنهم سفهوا العلماء وقدحوا فيهم وردوا عليهم فتاواهم ولم يأبهوا بها فانفرط بذلك عِقد الفتوى، وانفلت على إثره زمام الأمن والأخلاق والاقتصاد وضاقت على الناس معايشهم واختلط الحق بالباطل والحابل بالنابل حتى لم يعد للفتوى مقام يحترم، فأصبح كثير من العامة والخاصة لا يقيمون لفتوى العالم ولا للجهة العلمية وزناً، وأصبح لكل قناة إعلامية ولكل صحيفة سيارة مفتوها. وكثر المبطلون المطبلون بغير علم ولا ورع حتى أصبحتَ تسمع وترى كثيراً من الناس وهو متحيرٌ لا يدري من يسأل ولا لمن يسمع في أمر دينه وفي الحلال والحرام. وأصبحت سقطات العلماء وزلاتهم ديناً متبعاً، وأصبح تتبع الرخص ومتابعة المميعين لأوامر الشريعة الواضحة البينة موضةً وسبقاً إعلامياً تتسابق إليه وسائل الإعلام لتضرب أقوال العلماء بعضها ببعض حتى اختلطت الأمور على الناس، وتساهل البعض في محارم الله وحرماته، واستسهلوا الوقوع في المحرمات والتلبس بها بحجة أن فلاناً يقول كذا وفلاناً يبيح كذا. إن هذا العبث الذي نشاهده اليوم في شأن الفتوى سوغ لكثير من الناس التساهل في أن يطلق لسانه بالفتوى وهو لا يشعر، فكم نسمع في مجالسنا من عوام الناس من يقول هذا حلال وهذا حرام، وما هذه الجرأة على الله وعلى دينه إلا لأن مقام الفتوى انتهك ولم يعد له حرمته كما كان في سلف الأمة. إن هذا المقام الرفيع قد انتهكه أصناف من الناس يفترون على الله الكذب علموا أم لم يعلموا، ومن هذه الأصناف وأولها وأعظمها خطراً: علماء السوء الذين لهم حظ من العلم لكن لا حظ لهم من الورع والدين والخوف من الله، فهم مفتون مفتونون غرتهم الدنيا، فنبذوا العلم وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فشابهوا اليهود الذين بدلوا دين الله وكذبوا على الله وهم يعلمون، فزينوا للظالم ظلمه ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم من قول الحق أو الكف عن قول الباطل فاغتر بهم العامة والخاصة، واختلت بسببهم معالم الشريعة وانحرفت بسببهم أفهام الناس، فهؤلاء وإن اغتر بهم بعض العامة وتزينوا بزيّ العلماء ولبسوا عمائمهم إلا أنهم ممقوتون عند الله متوعدون بالعذاب الأليم إن لم يتداركهم الله برحمته. وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين هم بعض صغار طلاب العلم ممن أوتوا شبراً أو شبرين من العلم ولم يؤتوا إيماناً فتاهوا وأعجبتهم أنفسهم بسبب تقدير العامة لهم، فأعطوا لأنفسهم الحق في الفتيا، وتجرؤوا عليها شيئاً فشيئاً حتى أصبحت شهوة للنفس لا يستطيعون الفكاك عنها، والسبب في زيغانهم أنهم تعلموا العلم قبل الإيمان.

يقول جندب بن عبد الله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً" أخرجه ابن ماجه. وصنف آخر من هؤلاء المتجرئين على الفتيا بعض الوعاظ والقصاص الذين يعظون الناس ويذكرونهم بالجنة والنار ويخوفونهم بالله فتجد بعضَ هؤلاء تغرّه نفسه ويقوده جهله إلى القول على الله بغير علم، ومن أسباب فتنته سؤال الجهلة له ظناً منهم أن كل من قام ليعظ الناس أو من تظهر عليه علامات التقوى والورع أنه أهل للفتيا فمع كثرة السائلين يستسهل الجواب ثم يستعذبه حتى يصبح ديدنه فيضل الناس بغير علم. ومن هذه الأصناف التي جرأت على الفتيا بغير علم قومٌ غرتهم درجاتهم العلمية أو مكانتهم الأدبية والفكرية أو ثقافتهم العامة أو وظيفتهم الإعلامية والصحفية حتى خاضوا غمار الفتيا بقراءتهم لكتاب أو كتابين أو مسألة أو مسألتين، وأخذوا يدندنون ببعض الكلام كحرية الفكر ولا كهنوت في الإسلام وما أشبه ذلك فسولت لهم أنفسهم أحقيتهم في أن يفتوا في دين الله، وأن يبينوا للعامة قضايا الحلال والحرام عبر وسائل الإعلام متجاوزين بذلك حدود الله ومتجاوزين كذلك قضية التخصص التي لطالما قدسوها وليتهم عملوا بها. إنك لتعجب من بعض الصحفيين والمفكرين في بعض وسائل الإعلام، ما من قضية من قضايا العلم إلا وخاض غمارها، فمرة تجده فقيهاً، ومرة مفسراً، ومرة طبيباً، ومرة محللاً سياسياً أو اقتصادياً، ومرة عالم ذرة، ثم ما إن يسمع بعالم من علماء المسلمين أو فقيهاً من فقهائهم تكلم في السياسة أو في بعض القضايا الاقتصادية إلا ويصب جام غضبه عليه ويسفهه ويدعوه إلى ألا يتجاوز تخصصه، وكأنه يقول بلسان حاله: كل العلوم يجب أن يحترم جنابها فلا يخوض فيها إلا أهلها إلا علم الكتاب والسنة فحماه مستباح لكل أحد، ثم إنك لتعجب مرة أخرى من هؤلاء حين يعيبون على الشباب الأغرار الذين تجرؤوا على الفتيا بالتكفير والتفجير، وتركوا الرجوع لأهل العلم ثم هم يمارسون نفس الدور بالجرأة على الفتيا وعدم الرجوع للعلماء، بل ويصمون علماءنا بالجمود والانغلاق والرجعية. وصنف آخر من هؤلاء الذين تجرؤوا على مقام الفتوى هم المنافقون العلمانيون الذين لا يرون للإسلام ولا لشريعة رب العالمين حقاً في أن تحكم الناس في جميع شؤون حياتهم، ثم هم مع ذلك حين يكون الحق موافقاً للهوى، يأتيك الواحد منهم مذعناً متبجحاً فيفتي الناس بفتوى توافق ما في نفسه ثم يشنع، بل ويرد على العلماء المخالفين، وحين لا يجد ما يوافق هواه ينقلب على عقبيه ويسخر بشرائع الدين وأخلاقياته، فهم كما قال ربنا سبحانه عنهم وهو أعلم بهم: "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (النور:48 - 50). وهذا الصنف من المنافقين لم يكتف بنقل فتاوى بعض أهل العلم التي توافق هواه بل تجرأ هو بنفسه على الخوض في كلام الله وكلام رسوله فيرد هذا الحديث ويحرف تلك الآية حتى خرج لنا بعضهم بفقه عجيب يستبيح به موالاة اليهود والنصارى ومحبتهم والخنوع لهم كما يستبيح للمرأة المسلمة خلع حجابها وأن تتبرج بزينتها وتخالط من تشاء، بل وتخلو بمن تشاء.

وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين شباب دفعهم الحماس والحمية لدين الله على أن تجاوزوا مقام العلماء الربانيين، بل وتنقصوهم ورموهم بالتهم وأطلقوا ألسنتهم بالتكفير والتفسيق، بل واستباحة الدماء دونما تنبه لخطورة ما يقومون به، ثم إن أحدهم حينما تُعرض عليه بعض مسائل الطهارة والصلاة يتوقف عن الفتيا فيها تورعاً، فأي ورع هذا الذي يكفه عن القول في مسائل الطهارة بينما لا يكفه عن الخوض في مسائل الكفر والدماء. إن الحماس والحمية للدين والغيرة على المحارم والجهاد في سبيل الله ليس مسوغاً لكل أحد أن يتجاوز مقام الفتيا، فيقول على الله بغير علم. فكم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من العباد والمجاهدين والغيارى على دين الله، ولكن لم نسمع لأحد منهم فتيا أو قولاً في مسألة من مسائل الدين، وما ذاك إلا لأنهم يعلمون مقام العلم والفتوى وخطورة القول على الله وعلى رسوله بغير علم. كما أن هناك آداباً وواجبات لا بد للمستفتي أن يتحلى بها، ذكرها أهل العلم من أهم هذه الواجبات أن يحرص إذا نزلت به نازلة على سؤال أهل العلم المعروفين بالدين والورع العالمين بالكتاب والسنة، فإن الفتيا دين كما قال ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وقال يزيد بن هارون: "إن العالم حجتك بينك وبين الله تعالى فانظر من تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل ". وعلى المستفتي أيضاً أن يحذر من الهوى في تتبع زلات العلماء أو رخصهم حسب شهوته وهواه أو أن يضرب أقوالهم بعضها ببعض. كما على المستفتي أن يوقر العالم ويتأدب معه ويحسن السؤال والاستماع حال سؤاله وجوابه وأن يحفظ لسانه عن الوقيعة في العلماء إذا بدر منهم خطأ عن اجتهاد، وأن يدعوا لهم بالسداد وختاما لنتأمل هذا الحديث العظيم، عَنْ عَلْقَمَةَ الليثي عَنْ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلاَمٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ. أخرجه مالك في الموطأ، وأحمد في المسند بسند صحيح.

التوازن الفكري

التوازن الفكري د. محمد بن إبراهيم السعيدي 3 جمادى الأولى 1431هـ 1 من 6 مفهوم التوازن الفكري حين شَرعْتُ في كتابة هذه المجموعة من المقالات كان تعريف التوازن عقبة تحول دون البدء في الكتابة, فالمصطلح جديد فيما يبدو لي في تراثنا الثقافي, والذين استخدموه مضافًا إلى الفكر لم يقصدوا به معنًى واحدًا, فمنهم مَن يستخدمه كوصف إيجابي لعملية التفكير التي تؤدي إلى نتائج صحيحة, فهو عنده مرادف تقريبًا لاستعمال المنطق في التفكير، وذلك عن طريق البحث عن مقدمات صحيحة للوصول إلى نتائج صحيحة, ومنهم مَن يريد بهذا المصطلح المعطيات العلمية التي تُبنَى عليها الأفكار الصحيحة, ومنهم من يريد به الفكر المتوسط بين طرفي النقيض أو بين الإفراط والتفريط، فهو عند هؤلاء مرادف للوسطية, ومنهم من يعني بالتوازن الفكري: الفكر الذي هو عليه فأفكاره متوازنة وأفكار غيره مختلة, وهؤلاء طائفة غير قليلة ليس في فكرنا العربي المعاصر وحسب، بل في الفكر والرأي العام العالميَّيْن. أما ما أعنيه هنا أي في هذه المقالات بالتوازن, وأرجو أن أوفق في الكتابة عنه فهو الابتناء على المعطيات الصحيحة في نظري لتكوين الأفكار, والاتزان لا يعني صواب الفكرة, بل صواب طريقة التفكير؛ فإن من مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة, وقبل الاستغراق في هذا المعنى يحسن أن أبدأ في ذكر مفهومي للفكر، فإننا حين نستعرض كشافات الاصطلاحات العلمية القديمة نجد الناس بين عالِم ومتعلِّم وجاهل, وربما وجد في بعض الأوساط مصطلح المتكلم والفيلسوف, وفي العصر الحديث وُجِد مصطلحان ليس لهما وجود -حسب علمي- في تراثنا القديم، وهما الثقافة والفكر، ويأتي منهما: المثقف والمفكر, ويحار الناس كثيرًا في تحديد معناهما، ومن ثَم يحارون في مواضع إطلاقهما. وحديثنا عن الفكر خاصة, فالذي يظهر لي أن أكثر مَن يتعاطى هذا المصطلح في ثقافتنا العربية المعاصرة يريدون به "التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما من حيث كنهه وعوامل تكوينه ومآلاته وطرق تحسينه وعلاج آفاته". وتقييد التصور بالإجمالي والتفصيلي ليشمل الإدراك بنوعَيْه عند المناطقة الذين يقسمون الإدراك إلى تصور وهو الإدراك المتجرد عن الحكم, وتصديق وهو الإدراك المتضمن للحكم. والواقع يشمل الواقع الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمع ما, فكلُّ تصوُّر لهذا الواقع في أي جزئية من جزئياته يعدُّ فكرًا, ولهذا يمكن القول: إن الفكر بهذا المفهوم مشاع بين الناس فكل إنسان لديه تصور لما يحيط به مما ذكرنا, لكن الناس يختلفون في مكانة تصوراتهم باختلاف درجاتهم من حيث حصولهم على المعلومة ونوعية تعلمهم وبصيرتهم, إلى غير ذلك من الفروق الفردية بينهم. وهذا الفهم لمعنى الفكر يتوافق إلى حدٍّ كبير ومفهوم علماء النفس الاجتماعي للرأي العام, وعليه يمكن القول إن الفكر يساوي في كثير من مظاهِرِه ما يسميه علماء النفس الاجتماعي وخبراء الإعلام بالرأي العام, وإن كان ثمة فرق بين الأمرين فهو أن الرأي العام قد يتضمن قضية تفرض على المجتمع إعلاميًّا أو سياسيًّا، وليست في الحقيقة من صميم اهتماماته، وربما لا تكون ضمن الأمور المؤثرة في حياته العادية, لكن وسائل الإعلام قد يكون لها مصلحة في فرضها على المجتمع, وهذا ما يحاول قادة الفكر دائمًا النأي بالمجتمع عنه، وذلك كي لا تكون انفعالات الأمة خادمة لأصحاب المصالح الخاصة.

وثمة فرق آخر بين الرأي العام والفكر, وهو: أن الأخير يُراد به تصورات نخبة معينة من المثقفين، أما الرأي العام فالكل يشارك في تكوينه، وهذا الفرق قد لا يكون دقيقًا, بل قد يكون غير مسلم به لأنه يحتاج إلى ضبط المراد بهؤلاء النخبة التي تستحق أن تستأثر بتسمية إنتاجها الذهني فكرًا, مع أن البشر بشكلٍ عام لديهم نزعة فطرية نحو الحق, بمعنى أن الجميع يريد الحق فيما يعرض له من قضايا, ولا فرق في ذلك بين النخبة وغيرهم, بل قد تكون النخبة أقل ميْلًا إلى الحق من عامة الناس, باعتبار أنهم أكثر تعرُّضًا للهوى الفكري والانتماء المدرسي من غيرهم, أما من سواهم فإن لديهم تسليمًا لا شعوريًَّا بأنهم لا يمتلكون أدوات معرفة الحق في القضايا المتعلقة بالتصورات التفصيلية للواقع، ومن ثَم الحكم من خلالها, وذلك لأن مصدر المعرفة المتفق عليه هو الحس أو ما يقوم مقامه, فلما كان الحسّ متعذِّرًا في الغالبية الساحقة من قضايا الحياة العامة إلا على أناس محدودين جدًّا, فإن الغالبية الساحقة يعطون ثقتهم لمن يتصورون أنه قد وصل إلى المعلومة بطريق الحس أو بأقرب الطرق إلى الحس, وأن هذا الموثوق صادق معه إما لملازمته لصفة الصدق أو لأنه صاحب مصلحة في الصدق, ولعل قول الله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يصدق هذه الفكرة، فالناس بشكل عام ليس لديهم أدوات العلم بمعنى القطع والتحقق مما يسعون إلى التحقق منه. ولهذا نجد أن إقبال الناس على القيادات الفكرية إقبال طبعي، لا يحتاجون إلى مَن يدلهم عليه بل ربما صح القول بأنه فطرة, فالناس إذا لم يجدوا أمامهم مؤهلًا لقيادتهم فكريًّا صنعوا لهم قائدًا على مواصفاتهم الخاصة, ولعل هذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا. ولك أن تتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: "اتخذ الناس" فالناس إذا لم يكن المؤهل لقيادتهم فكريًّا أمامهم اتخذوا من تلقاء أنفسهم قائدًا فكريًّا ولو لم يكن مؤهلًا، والناس يعرفون الموهوب والذكي ومَن يملك القدرات الثقافية والخطابية التي تمكِّنه من التأثير وجذب الأتباع, لكن ليس كل مَن يستطيع تكوين قاعدة جماهيرية بهذه الصفات هو الأمثل حتمًا لقيادة الأمة فكريًّا. ولعلها تتاح مناسبة للحديث عن الأمثل للقيادة الفكرية, وإن كنت قد تطرقت لشيء منه في برنامج ساعة حوار على قناة المجد الفضائية. 2 من 6 آليات التوازن الفكري وأعود هنا للحديث عن قولي السابق: ومن مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه -ولو كانت صحيحة- لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة, وهي مشكلة فلسفية قديمة أدت بكثير من الفلاسفة إلى القول بتعدد الحق؛ نظرًا لعجزهم عن تفسير اختلاف الآراء في القضية الواحدة مع اتحاد منهج البحث فيها. وهم يعنون بالحق المتعدد تلك النتائج المختلفة التي يصل إليها المفكرون عند استخدامهم الآلة الصحيحة لبلوغ الحق, وهي التي يسميها علماء أصول الفقه: (أدوات الاجتهاد) والتي بَنَوْا عليها قضيتهم الشهيرة: هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وغيره معذور, حيث لا يعنون بالمصيب والمعذور من يتسوَّرُون على المسائل ويعطون فيها أحكامًا دون أن يكون طريقهم لذلك الآلة الصحيحة للاجتهاد. ورأي الأصوليين وإن كان سياقهم له في قضايا الفروع الفقهية التي يسوّغ فيها الاجتهاد إلا أن القاعدة صحيحة يمكن أن تنقل إلى جميع فروع الفكر الذي قدّمت تعريفه بأنه التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما، من حيث كنهُه وعوامل تكوينه ومآلاته وطرق تحسينه وعلاج آفاته.

وعندما قسّم العلماء الإدراك إلى تصور وتصديق فإنهم أردوا بذلك أن مَن لا يملك التصورات الصحيحة لا يمكن أن يصل إلى التصديقات الصائبة، وامتلاك التصورات الصحيحة هي في الحقيقة أدوات الاجتهاد في مسألة من مسائل الفكر. أخلُص من هذا إلى أن أول مقوِّم من مقومات التوازن الفكري هو امتلاك التصورات الصحيحة عن كل قضية يُراد الحكم عليها سلبًا أو إيجابًا, والتصور إما أن يكون تصورًا أوليًّا ساذجًا كتصور الصور من جبال وأنهار وصحارى, أو تصورًا معقدًا، وهو تصور المعاني كالحق والصدق والصواب والخطأ وتصور المغيَّبات كالجن والملائكة, وكل صنفٍ من هذه التصورات يحتاج إلى جهد لامتلاكِه يختلف عن الجهد المراد للصنف الآخر, فحين أتصور الناقة لا أحتاج إلى مجهود ذهني كبير لأنه بمجرد طروء الاسم على الخاطر تنتج صورة مطابقة, لوجود مثيلاتها في الذاكرة, أما حين أتصور حيوان الباندا فأحتاج إلى مجهود ذهني أكبر لعدم وجود رصيد مطابق في الذاكرة، وربما لا أصل إلى الصورة الصحيحة، وأحتاج في الوصول إليها إلى البحث عن صور مطابقة, ومع ذلك فإن المجهود الذي يبذله الذهن في تصور الباندا أقل بكثير من المجهود الذي يبذله لتصور الروح والملائكة والحق والخطأ والصواب. تأتي مشكلة التوازن الفكري حين يتعامل الذهن مع التصورات المعقدة بالطريقة نفسها التي يتعامل بها مع التصورات الساذجة, فيبذل في كليهما مجهودًا ذهنيًّا متساويًا, عند ذلك ستكون تصوراته في الأمور المركبة تصورات ساذجة. إذًا فالحصول على تصورات صحيحة هي أولى معطيات التوازن الفكري؛ لأن التصورات هي مفردات التفكير كما أن الحروف هي مفردات اللغة, وبما أن التعبير لا يمكن أن يكون صحيحًا بغير حروفه الموضوعة له فالفكر لا يمكن أن يكون مستقيمًا دون تصورات صحيحة, والحصول على التصور الصحيح هو مسئولية المفكر نفسه, وأيضًا مسئولية المستهلك نفسه, والقيام بها - المسئولية المنوطة - يحتاج إلى جهد يتوانى الكثير ممن يمارسون الكتابة في القضايا الفكرية عن تحصيله, وكذلك المستهلكون للفكر, فلم يعدْ لديهم الجلد حتى على تحليل الأفكار إلى تصوراتها الأولية لفحصها, فجمع التصورات عند كثير من الكتاب أو فحصها عند نسبة أكبر من المستهلكين يتم بطريقة متقاربة في كل القضايا التي يتطرقون إليها. بعد جمع التصورات تأتي مرحلة إحداث النسبة بينها لتكوين ما يسميه المناطقة بالتصديق وهو كما قدمت: الإدراك المتضمن للحكم, فالتصديق هو نسبة التصورات إلى بعضها, فبعد أن أتصور القطب الشمالي وأتصور معنى التجمد وأتصور معنى تمركز الشمس وانحرافها, أحكم على القطب الشمالي بأنه متجمد, فقولنا القطب متجمد, تصديق مبني على عدد من التصورات أدت النسبة الصحيحة لبعض إلى البعض الآخر إلى هذه النتيجة. والأفكار الكلية أو الجزئية هي مجموعة من التصديقات, يجري العقل النسبة بينها لتكون الفكرة. وبذلك يمكن مناقشة كل فكرة من خلال نقد التصورات الأولية التي بنيت عليها أو نقد أي من التصديقات المؤسسة لها أو نقد النسبة بين التصديقات المكوّنة لها. وكلما كانت التصورات ناشئة من مصادر صحيحة للتصور كانت أكثر مناعة عند النقد, وكذلك النسبة بينها أو النسبة بين التصديقات تعتمد مناعتها عند النقد على مدى صحة نسبة بعضها إلى بعض أو ترتب بعضها على بعض. ولهذا يناسب هنا أن أعرج بإيجاز على مصادر التصورات:

1 - الحس مصدر مقر من مصادر التصور, والتصورات الناشئة عن الحس هي أقوى التصورات على الإطلاق ولذلك كان استخدام القرآن الكريم للتصورات الحسية كثيرا كمقدمات صغرى وكبرى للوصول إلى نتائج عقلية كما في قوله تعالى من سورة الغاشية: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإلى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإلى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإلى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)}. فالإبل وخلقها والسماء ورفعها والجبال ونصبها والأرض وتسطيحها, كلها تصورات مصدرها الحسّ, ولم يمنع ذلك أن تكون النسبة العقلية بينها طريقًا للوصول إلى نتيجة غيبيَّة. إلا أن الحس يبقى عاجزًا عن رصد كثير من التصورات التي يحتاج الإنسان إلى الحكم عليها لحياته العامة الاجتماعية أو لتسيير حركته العلمية أو البرهنة على قناعاته الدينية, وهذا العجز حاول القدماء التخلص منه بطرق منها اعتبار التواتر المعنوي قائمًا مقام الحسّ، كتصور المدن النائية أو الشخوص التاريخية القديمة, وهو حل لم ينكره القرآن بل أقره، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (العنكبوت: 38) فالأمم السابقة كعاد وثمود كانت معروفة عند العرب بطريق التواتر المعنوي، وأقر الله هذه المعرفة وبنى سبحانه وتعالى خطابه عليها: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} (السجدة: 26). 2 - الفطرة وهي وإن كانت التصورات المنبعثة عنها أقل بكثير مما ينتج عن المصادر الأخرى إلا أنها تدل على أعظم مدلول وهو الله، كما تدل على نسبة الخلق إليه سبحانه وتعالى، ونفي الشريك عنه فهي تدل على الله تعالى تصورًا وتصديقًا، وهذا مدلول قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 172) أما ما سوى ذلك من مدلولات فمن الفلاسفة المثبتين للفطرة من يثبتها ومنهم من ينكرها. 3 - الوحي وهو مصدر يكاد يكون وحيدًا لتصورات مفردات عالم الغيب كالملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والحوض والصراط ونعيم القبر وعذابه، وبذلك يكون مصدرًا وحيدًا أيضًا لما يتعلق بها من تصديقات. وهو أيضًا مصدر وحيد لتصور مفردات الدين كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وهو أيضًا مصدر وحيد للتصديقات الناشئة عن نسبتها إلى بعضها. 4 - خبر الموثوق: وهو مصدر صحيح للتصورات شريطة أن يكون الموثوق منطلقًا في نقله عن أحد مصادر التصور الصحية المتقدمة. ومن الطبيعي أن نسأل عن العقل: أليس هو أيضًا مصدرًا من مصادر التصورات؟ والجواب: قد يتبادر إلى الذهن أن التصور هو عملية عقلية صرفة، وهذا حق، لكن التصورات موجودة في الخارج والتعرف عليها يتم بالطرق الأربع المتقدمة, وليس للعقل قدرة على استحداث تصورات من تلقاء نفسه، وإنما هو ذاكرة لتلك التصورات التي يتعرف عليها العقل بطريق الحس أو الوحي أو الخبر المتواتر أو خبر الموثوق. نعم أن بمقدوره تكوين الصورة بطريق التذكر أو بطريق التركيب أو بطريق الانتزاع والتخيل, بل إن العقل هو الوسيلة الأولى للربط بين المتصورات لإحداث النسبة التي ينتج عنها التصديق، كما أنه الفاعل الأقوى أيضًا في الربط بين التصديقان للحصول على الفكرة أو مجموعة الأفكار.

كل ذلك صحيح لكنه لا يعني أنه مصدر من مصادر التصور بل هو الآلة الوحيدة لحفظها والتحكم فيها. ومن أسباب الاضطراب الفكري اعتبار العقل مصدرًا للتصورات، فإننا نجد أن هناك فئة تقيم تصديقاتها على تصورات مصدرها العقل، والحقيقة أن كل تصور مصدره العقل: ليس له وجود خارجي حقيقي فهو إما متخيل وإما موهوم, وبما أن التصديقات - ومن ثم الأفكار - تعد التصورات هي لبناتها, فإن كل تصديق مبني على تصور موهوم أو متخيل لا يمكن أن ينتج عنها أفكار متزنة. مثال ذلك: العنقاء, طائر خيالي, وحل الأكل أو حرمته حكمان شرعيان, فحين أجمع بين هذين التصورين العنقاء وحكم الحل أو العنقاء وحكم الحرمة فإنني أخرج بتصديق فاسد وهو حل لحم العنقاء أو حرمته. 3 من 6 " العقل" الطريق الأول لإحداث النسبة بين التصورات بعد استعراضنا لـ"مفهوم التوازن الفكري"، و"آلياته", نستعرض في هذا المقال "الطرق الصحيحة لإحداث النسبة بين التصورات"؛ وهي العقل, والوحي المُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بنوعيه. واختياري للعقل باعتباره الطريق الأول, ليس تقديمي للعقل هنا على اعتبار أنّه أوثق الطرق للحصول على التصديقات, بل لأنّه يمثل المجهود الذهني البشري الصرف, وإلا فإنّ العقل يُعرضنا كثيرًا للخطأ في إحداث التصديقات، وذلك حين يقوم بنسبة الأحكام إلى تصورات مُتخيلة كما قدمنا في مثال العنقاء, أو موهومة كالخوف من الغول, أو حينما يُخطئ العقل في إجراء النسبة بين التصورات كالحكم بأنّ الملتحي متطرف, أو الحليق غير متدين، بناء على تصور قاصر للملتحي والحليق، وتصور قاصر للتطرف والتدين. فالتصورات القاصرة هي عبارة عن مقدمات خطأ, والمقدمة الخطأ لا يمكن أن تكون نتيجتها صحيحة أبدًا حتى لو توافقت مع الصواب, لأنّ كل نتيجة متعلقة بمقدماتها حتمًا, فإذا توافقت النتيجة ذات المقدمات الخاطئة مع الصواب فإنّها لا يمكن أن تكون صوابًا لأنها ستكون مرتبطة بمقدماتها ارتباط الفرع بالأصل, كما أنّ النتيجة الصواب الناشئة عن مقدمات صحيحة مرتبطة بمقدمتها على النحو ذاته فقولنا على وجه المثال: محمد رجل عربي والعرب صادقون فمحمد صادق, فصدق محمد صلى الله عليه وسلم عند هذا القائل إنما هو باعتباره عربيًا, وهي نتيجة كاذبة ولو كانت تشبه الحقيقة من حيث الظاهر. أما قولنا: محمد رسول الله، ورسل الله صادقون فمحمد صادق, فهو قول يحكم بالصدق لمحمد صلى الله عليه وسلم باعتباره رسولاً، وهي النتيجة المطابقة للصواب لابتنائها على مقدمات صحيحة. والأخطاء في نسبة التصورات إلى بعضها قد تكون لقصور في التصور كما في الأمثلة المتقدمة, أو لاستنتاجات كلية أو أغلبية من مقدمات جزئية, وكذلك استنتاجات جزئية بناء على مقدمات كلية أو أغلبية، فالأول كالحكم بأنّ ركوب الطائرة مغامرة بناء على حالة أو حالات من الخطر, والآخر كالحكم بأنّ السم غير قاتل لنجاة حالة أو حالات من خطره. مع أنّ الحكم الكلي والأغلبي له طرق لابد من التوصل إليه عبرها, ومنها:

- الوحي: فما حَكم المولى عز وجل عليه بالكلية، فهو كذلك قطعًا كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185). ولا يمكن أنْ يتطرق إليه الاستثناء إلا من الله عز وجل, كما في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93). ومن أمثلة الحكم الأغلبي في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103). وكذلك لا مكان لمعارضة الأحكام الأغلبية الصادرة من الوحي بأي استثناء مهما كان مبرره؛ إلا أن يكون الاستثناء منصوصًا عليه, فالاستثناء المنصوص كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 105 - 106). - ومن طرق الحكم الكلي الاستقراء التام: وهو تتبع جميع الجزئيات في أمر ما للحكم بكلية تعلق وصف فيه, وذلك كقولنا كل طلاب القسم من أبناء المملكة, نتيجة تتبع جنسيات كل الطلاب, والاستقراء التام قطعي في دلالته؛ حين تكون أدواته صحيحة والقائم به موثوقًا, والغالب أنّه غير ممكن إلا في الكليات محصورة الجزئيات. - أما الاستقراء الناقص: فهو تتبع ما يكفي من الجزئيات للحصول على ظن بكلية هذا الحكم على جميع الجزئيات. والاستقراء الناقص أداة صحيحة لتكوين الأفكار بشرط أنْ تكون العينة المستقرأة ممثلة لنوعها بحيث يصح قياس جميع الجزئيات المهملة عليها؛ كالقول بأنّ أقل سن تبلغ فه النساء تسع سنوات؛ نتيجة لاستقراء طائفة من النساء من أجناسٍ مخلتفة وأجواء متغايرة, فهذا الحكم ظني بمعنى أنّه لا يمنع وجود استثناءات. وكذلك الأحكام الأغلبية يمكن التوصل إليها عن طريق استقراءات ناقصة, وهي طريقة معتمدة منذ القدم لبناء الأفكار وفق شروط أصبحت اليوم أكثر دقة ومنهجية يعتمدها الإعلاميون والتربيون والمخططون والمفكرون. وجميع الاستنتاجات الكلية والأغلبية الّتي لا تَصْدُر عن هذين الطريقين أعني النص والاستقراء تُعد انطباعات خاصة قد توافق الصواب، وقد لا توافقه لكن ينبغي أن لا تفرض على الرأي العام عبر وسائل الإعلام كما لا ينبغي ترويجها لدى صانعي القرار؛ بغية التوصل منهم إلى اعتماد قرارات تنظيمية أو جزائية أو تنموية بناء عليها. أما محاولة فرضها على الرأي العام فهو كذّب ضار على المجتمع ولا يختلف ضررها حين تكون انطباعات سلبية عن ضررها حين تكون إيجابية, لأنّ تصوير المجتمع لنفسه أو تصوير أمر شديد التعلق به على خلاف ما هو عليه في الواقع يُحدث أضرارًا متقاربة في الخطورة سواء أكانت الصورة سلبية أم إيجابية. كل ذلك لأنّ الأحكام الكلية والأغلبية سواء أكانت في مجال الشريعة، أم في أي مجال آخر تُعد من أخطر الأحكام، التي لا تُبنى عليها الأفكار المجردة وحسب؛ بل تُعد أصلاً في معرفة ما يُصلح الأمة وما يُفسدها، وما هيّ بحاجة إليه من علوم ومنشآت وخدمات، وما هي في غنى عنه، كما هي ركيزة في التخطيط لمستقبل الأمة والكشف عن حقيقة واقعها. 4 من 6

" الوحي" الطريق الثاني لإحداث النسبة بين التصورات ذكرنا في المقال السابق أنه من الطرق الصحيحة لإحداث النسبة بين التصورات, العقل, باعتباره المجهود الذهني البشري الصرف, ويأتي ثانيًا بعده: "الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بنوعيه", فهما كما يحتويان على أوامر ونواهٍ إلهية يشتملان أيضًا مجموعة كبيرة جدًّا من التصديقات حسب اصطلاح المناطقة, وهي تقدّم للإنسان ما ينبغي أن يعتنقه من رؤًى يقينية للكون بعالَمَيه: الغيب والشهادة, وذلك بإعطاء أجوبة ربانية لجميع الأسئلة التي لا تزال عند مَن لا يملكون إيمانًا حقيقيًّا بالوحي تعبّر عن مشكلات بل معضلات فلسفية يسميها بعضهم الميتافيزيقا, تتحدث عن كل ما ليس مدركًا ماديًّا, ومنها الأسئلة الخمسة الشهيرة: مَن, وكيف, ومتى, ومن أين, ولماذا, وهي إشكالات عن الخلق وسر الوجود في هذه الحياة, موروثة عن فلاسفة اليونان شكّلت عصب الفلسفة القديمة والوسطى والحديثة, وإن كانت طبيعة النقاش الفلسفي المعتمد على طرح الأسئلة المستنبطة من أسئلة سابقة دون ارتباط السائل بحصوله على جواب مقنع عن السؤال الأول, أقول: إن طبيعة النقاش هذه, قد ساهمت وليست وحدها في أن تكون الفلسفة منطلقًا لكثير من العلوم النظرية والتجريبية كالرياضيات والطب وعلم النفس والجغرافيا والفيزياء والأحياء والميكانيكا, إلا أننا لا يمكن أن نعزو الفضل في ولادة هذه العلوم النافعة إلى الحيرة في أصل الكون والحياة كما يحب البعض أن يصوِّر لنا, بل الحقيقة أن تلك العلوم نشأت عن بيئة علمية مهيَّأة للتفكير, ولو أن تلك البيئة توقفت عند الإجابات الفطرية لإشكالات الكون والحياة لاستطاعت التقدّم بشكل أسرع بكثير في سبيل إنضاج تلك العلوم التي ظلَّت أكثر من ألف سنة متوقفةً عند شكلها النظري الذي تركها عليه كل من أبقراط وأرسطو وأرشميدس حتى انتقلت عند المسلمين نقلةً نوعية من العلم النظري إلى العلم التجريبي، ومن ثَم حقّقت في ظل الحضارة الغربية ما نراه اليوم من تقدّم نتيجة اشتراك العديد من العوامل المؤثرة والتي شكّلت المحرّك الرئيس لتسارعها. وفي تقديري أن تباطؤ حركة الإبداع العلمي عند المسلمين رغم ابتكارهم للمنهج التجريبي كان من تأثير تعلق فلاسفتهم بالحيرة اليونانية وانشغالهم بمعالجة قضاياها في غفلة غير مبرّرة عن الهدي القرآني في حل تلك الإشكالات, بينما كان لتأثر آباء النهضة الحديثة - ديكارت وكانت - بالإجابات الإسلامية عما وراء الطبيعة دور كبير في تسارع التقدم الأوروبي، بالإضافة إلى عوامل كثيرة أخرى لعلها قد درست من قِبل متخصصين في تاريخ النهضة, وهنا أحب أن أنبه إلى أنني لا أملك معطيات علمية لتأثر ديكارت وكانت بالفكر الإسلامي سوى ما أجده بينهما وبينه من تقارب في بعض مسائل الألوهية ومصادر المعرفة, مع أنني أضع في الاعتبار كثيرًا أن يكون التقارب هو بتأثير من دواعي الفطرة التي أظن أن ديكارت وكانت كانا أول من أدخلاها - أي الفطرة - في الفكر الأوروبي.

أتكلم هكذا لأنني أجزم بأن من التهالك الفكري الرجوع بالعقل إلى الوراء في محاولة مناقشة قضايا محسومة قرآنيًّا بشكل قطعي, وذلك في دعوات نسمعها تتصاعد هنا وهناك مطالِبة بدراسة الفلسفة وتدريسها، بل إن هناك مشاريع قائمة الآن لإحياء الفلسفة في بلادنا, هذه الفلسفة التي قامت بدورها المشكور قبل ألفي عام ولم تعد الآن قادرة على أن تقدم للإنسانية أي شيء مفيد بعد أن استقلت عنها جميع العلوم التجريبية، إضافة إلى علم النفس والاجتماع والجغرافيا والتاريخ، ولم يبق في فنائها سوى القضايا المتعلقة باللاهوت وعالم الغيب، وهي قضايا يجب علينا التسليم بأنها قد انفصلت عنها منذ ألف وأربعمائة عام حين قدم القرآن أجوبة قاطعة لجميع مشكلاتها. الوحي أيضًا يقدم منهجا متكاملًا للحياة يؤسسه على حقيقة أن الإنسان عبد لله اضطرارًا ويجب أن يكون عبدًا لله اختيارًا, والاستعباد هنا ليس تحكمًا إلهيًّا في الأفعال فقط, بل في الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي منها الفكر, فالفكر ينبغي أن يكون محدودًا بمساحة ما سكت الشرع عنه, وهذا أيضًا ينبغي ألا يتجاوز الفكر فيه قيود الشرع, فمثلًا حين نتحدث عن الانتماء القبلي, يجب علينا أن نستحضر أن الانتماء إلى القبيلة مباح شرعًا, وهذا قيدٌ ينبغي أن لا نتجاوزه للمطالبة بالقضاء على هذا الانتماء, كما نستحضر أن الانتماء القبلي على أساس من التفاضل في النسب محرم ونستحضر أن الطعن في الأحساب محرَّم وهو قيد آخر فلا يصح استهداف أي قبيلة من القبائل بذكر مثالبها, كما نستحضر أن كل تكتل على أساس يؤدي بالضّرر على النسيج الإسلامي للمجتمع محرم, فلا نطالب بأي تكتلات على أسس قبلية محضة ما لم يكن ذلك لدعم مثل إسلامية, حين نستحضر هذه الضوابط لا يبقى أمامنا إلا المحافظة على القبيلة باعتبارها وسيلة للتواصل الاجتماعي بين أبناء الأمة والقيام مع الفرد من أبنائها في المعونة على نوائب الحق وحسب, وهو نطاق ضيق جدًّا يجرد القبيلة من كل ما من شأنه أن يجعل منها قنبلة موقوتة تفجّر نفسها وتتحطم عليها كل المكاسب, وعليه فلا يقبل أي فكر قبلي لا يسير في نطاق هذا النطاق المحدود لدعم القبلية. وقد اخترت هذا المثال لاعتقادي أن قليلا جدًّا من القراء سيختلف معي فيه، وإلا فالأمثلة كثيرة في مجالات التعليم والإعلام والتنمية والاقتصاد والخدمات والعمل والسياسة والسياحة والعلاقات الدولية والاجتماع والدعوة والفنون، وكل ما يتفرع عن هذه العناوين بل والبيئة والتصنيع أيضًا, كلها نطاقات شملها الوحي بالضبط والتحديد إما إجمالًا ككل ما يتعلق بالأنظمة, أو تفصيلًا ككل ما يتعلق بالفرد وعلاقته بالخالق والمخلوقين. وهذا ما أعنيه بالشمول في خطاب الوحي, وهو شمول عرفناه باستقراء نصوص الوحي من الكتاب والسنة, يجعلنا الإيمان به نتحرى أن لا نجتهد في صياغة أي فكرة قبل أن نبحث عن الضوابط الشرعية لها أو للنوع الذي تندرج فيه.

وحين نصل إلى هذه الضوابط فلا مناص من التسليم التام لما ثبت بالشرع؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَه أَجْرُه عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عليهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 112) ويقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31) ويقول عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء: 65)، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (النساء: 125)، وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب: 36)، ويقول تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة سُبْحَانَ اللَّه وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص: 68). كما أن حياة الإنسان اليومية مضبوطةٌ بخطاب الشرع طيلة يومه وليلته، حيث لا يخرج عمل من أعماله عن أن يكون له حكم في الشريعة الإسلامية, وهذا ما يجعلنا نعيد النظر فيما يقال: إن الإسلام دين حرية, وأعتقد أن هذه العبارة ليست أصيلة في تراثنا الإسلامي، وإنما جاءت في معرِض الردّ على الحملة العلمانية الماسونية التي جعلت شعارها العدل والحرية والمساواة, فجاء جوابنا: إن الإسلام يكفُل للمسلم حرية منضبطة بضوابط الشرع, لكننا حين نتأمل ضوابط الشرع نجدها والحمد لله كثيرة وكثيرة جدًّا، بحيث لا يمكن إقناع أحد أننا معها يمكن أن نكون أحرارًا. كنت أتمنى لو كان جوابنا على دعاوى الحرية: أن الحرية في النهاية هي عبادة النفس وتأليه الهوى كما في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفأنْتَ تَكُونُ عليه وَكِيلًا} (الفرقان: 43) والإسلام أمرنا بالخروج من ذلك إلى الدخول في عبوديته سبحانه، تلك العبودية التي لا يمكن للإنسان معها أن يكون حرًّا مطلقًا ولا حرًّا بضوابط ولو كانت ضوابط الشريعة, لأن الحرية أيها الإخوة مصطلح له أبعاده الفلسفية، وهو بهذه الأبعاد لا يمكن أن يتوافق مع ضوابط الشريعة إلا من حيث دلالته في لغتنا العربية, ولا يخفى أن المصطلحات غير مرتهنة بدلالتها الأصيلة في لغاتها, وحين نقول: إن الإسلام أعطانا الحرية المنضبطة بضوابط الشرع فإننا نتنازل عن المصطلح الأشرف والأسمى والأكثر تأثيرًا في النفوس، وهو الاستعباد الخالص لله إلى مصطلح ملفق من نتاج الماسونية ومشاعرنا الدينية ونحن نريد مصطلحًا صريحا إسلامي الأصل والمنشأ والولادة. 5 من 6 الوحي والحرية أطلْت في المقال السابق في شرح مصطلح الحرية؛ لأن حرب المصطلحات اليوم هي من أبشع الحروب الفكرية في عالمنا المعاصر, ولا يمكن أن نخوض هذه الحرب بمصطلحات هي كالخنثى المشكل أو صناعة غربية وتجميع إسلامي, وهذا من مفسدات التوازن الفكري أعني عدم استقلالية المصطلح وخضوعنا فيه إلى ردّات الفعل على المنتجات الغربية. وحين نرسّخ مفهوم الاستعباد التام لله تعالى فإننا نرسخ أيضًا واجب التسليم لله عز وجل ولأمره ونهيه والرضا بما أمر كتسليمنا بما قسم وقدر.

فالتسليم لله تعالى هو وحده الكفيل بالقضاء على كل مطالبة تخالف النص وتستند إلى ما يعرف بحقوق الإنسان, ويجد المتحمسون لها أصلاً في مقاصد الشريعة العامة, لأن عدم التسليم الحق هو الذي يؤدي إلى محاولة لَيِّ أعناق النصوص أو تعطيلها من أجل موافقة الهوى دون أن يكون هناك داعٍ للتأويل أو التعطيل. ومن تتمة الحديث عن عظيم الابتلاء بمصطلح الحرية: تطرف البعض في استخدامه؛ ومن ذلك أن منهم من جعله مقصدًا من مقاصد الشريعة ينْضاف إلى حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض, مع أننا لا نجد هذا المصطلح في نصوص الشريعة ولا في اللغة العربية بأسرها يطلق إلا على ما يقابل الرق, والشريعة تحيط الإنسان بأحكامها الخمسة من الوجوب والتحريم والكراهة والندب, وليس ثم خيار مطلق إلا في الإباحة, وحتى هذه نجد أن الخيار فيها غير مطلق؛ فإن المباح الواحد لا يكون مباحًا إلا باعتبارات ربما تكون متعددة؛ فالنساء مباحات للرجل ما عدا المحارم منهن، ولا تتم الإباحة إلا بعقد ومهر، وحين يضم الرجل أربع نسوة تحرم عليه جميع نساء العالمين، وتحرم مع المرأة الواحدة أمها وأخواتها وخالاتها وعماتها. والأكل كله مباح إلا إذا كان مسكرًا أو مخدرًا أو مفترًا أو غير مذبوح وغير مذكور الاسم عليه وليس سبُعًا أو ذَا نابٍ أو خبيثًا أو خنزيرًا أو دخل في تركيبه شيء من ذلك. والبيع كله حلال إلا إذا كان بيع مال بمال أو حيلة على بيع المال بالمال أو بيع مجهول أو غائب أو غير مقدور على تسليمه أو غير موصوف بوصف منضبط ولا بيع منابذة ولا ملامسة ولا جلبًا متلقًّى من الركب أو بيع حاضر لبادٍ ولا بيع غرر ولا غبن ولا تدليس ولا بيع نسيئة في الأصناف الستة وما شابهها ولا بيع تلجئة ولا غير تام الملك, إلى آخر ما يُذكر هناك. نعم، نحن نشعر بكفاية الإسلام وبالراحة في تعاطينا لأمور الحياة وفق تعاليمه، لكن ذلك ليس للحرية بل لما في شرف الاستعباد لله تعالى من الفرج واليسر وصلاح أمر الدنيا بصلاح الدين. وقل مثلَ ذلك في الفكر؛ فإن المرء مطالب بالنظر إلى الكون والوجود بجملته وتفاصيله وفق الرؤية الإسلامية وبالمنظار الشرعي لا غير. وممن تطرَّف في الحرية من جاء بهذا الاصطلاح الغربي نفسه فطالب بالليبرالية الإسلامية، والغالب على هؤلاء أنهم غير متحمسين للتسليم للإسلام، وإنما يحاولون ترويج معاناتهم الهوائية، نسبة للهوى لا للهواء، بإضافة الإسلام كتذكَرة عبور إلى مجتمعاتنا لا أكثر من ذلك. الوحي بنوعية- الكتاب والسنة - نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا كل الناس وكل المؤمنين به، وكما أنهم يؤمنون به إجمالاً وتفصيلاً فإن خطابه تعالى لهم إجمالاً وتفصيلاً، وكما أن كل الأمة مجتمعةً مخاطبةٌ بالوحي فإن كل فرد من أفراد الناس مخاطب على حدة بهذا الوحي, والكل مطالب بتدبره وتأمل أوامره ونواهيه، ليس ذلك لأحد دون أحد، العلماء والعامة على حد سواء «يقول تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص:29)، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء:82)، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24). وتدبر القرآن لا يكون صحيحًا إلا بقراءته كاملاً وردِّ بعضه إلى بعض وتفسير بعضه ببعض، وكذلك السنة لا يكون تدبرها إلا بردِّ بعضها إلى بعض وإلى القرآن.

وعكس ذلك اجتزاءُ بعض آيات القرآن وعزلها عن بقيته أو أخذ بعض الأحاديث وترك تفسيرها بالقرآن أو تفسيرها ببعضها, فإن ذلك من اتِّباع الهوى واتِّباع المتشابه الذي حذر الله تعالى منه: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (آل عمران: 7). وهذه الآية كما أنها دليل هذه المسألة فإنها أوضح الأمثلة عليها, فهناك من يستدل بها على تفويض علم القرآن لله عز وجل لقوله تعالى "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ", على اعتبار أن الوقف هنا, ولو قرؤوا القرآن قراءة كاملة وردوا بعضه إلى بعض لعلموا: أن المراد بالتأويل وقوع ما أخبر به الله تعالى، وهو أحد معاني التأويل الواردة في الشرع, وذلك أخذًا من قوله سبحانه وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (الأعراف: 53). وكما أن كل المؤمنين مطالبون بالتدبر فقد فرّق القرآن بينهم على أساس قدراتهم على استنباط الأحكام منه, فقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9)، والعلم الذي يتفاوت الناس فيه في استنباط الأحكام هو العلم بطرائق هذا الاستنباط, وهي مجموعة من العلوم مسئولة عن التمييز بين المحكم والمتشابه والمجمل والمبيَّن والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ, وفائدة كل قسم من هذه الأقسام من حيث دلالته على أحكام الشرع, كما أنها مسئولة عن دلالات الألفاظ ومعاني الحروف, ومدى تعلق الأحكام بأسباب النزول, وأسباب ورود الحديث. فمن الأمور التي يتفاضل فيها الناس في استنباط الأحكام من مصادره: مدى إحاطتهم بهذه العلوم؛ فكلما كانت آلة الإنسان من هذه العلوم أكبر كان أقدر على استنباط الأحكام, ومن لم يحمل هذه الآلة فهو من الذين لا يعلمون، وهم والله أعلم من عَنَاهم سبحانه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة النحل: 43 - 44). والحقيقة المرة أننا في عصر قلَّ فيه حمَلة هذه الآلات مجتمعة، مما أضعف من قدراتنا على مواجهة الواقع بما يناسبه من أحكام على أساس استنباط الأحكام من الكتاب والسنة, فحتى الكثير من المتخصصين في هذه العلوم -كما نشاهد- لا يَصدرون في إبداء الأحكام عن استفراغ للوُسع في دراستها كما هو المفترض فيهم؛ بل يقعون في أحكامهم تحت تأثير أحد أمرين:

إما ضغط الواقع أو الخوف من الواقع, وهما مؤثران خطيران جدًّا على مكانة ما يصدر عنهم من فتاوى وآراء, حيث يحولان دون النظر إلى النص بروح التجرد إليه والانصياع التام له, مع أن الفريقين مؤمن بحاكميه النص ومرجعيته, لكنهم -أي أفراد الفريقين- يضطرون إما إلى الحكم مباشرة من منطلق ما يحملونه من مشاعر تجاه واقعهم دون البحث عن النصوص, أو إلى اختزال دلالة النص إلى مساحة لا ظلال عليها من ضغط الواقع أو الخوف منه. والحق في هذا السياق أن يكون التأني في فهم الواقع وتقدير حاجاته تقديرًا صحيحًا بعيدًا عن ضغطه أو الخوف منه هو المرحلة الأولى في إعطاء الحكم فيما يُستجدُّ فيه من مسائل, وهذا الأمر-أي الفهم- وإن كان الكل يدّعيه لكن الشواهد تشير إلى أن الكثير بعيدون عنه, وهذا يُرجعنا إلى ما ذكرناه في صدر هذا اللقاء من اشتراط صحة التصورات ومن ثم صحة التصديقات ويليها صحة الجمع بين هذه التصديقات للوصول إلى المعرفة الصحيحة, وتحدثنا عن بعض وسائل الحصول على كل ذلك, وما نلاحظه في هذه المسألة أن ما أشرنا إليه من وسائل المعرفة الصحيحة لا يُستخدم كثيرًا لدى أكثر القراء والكتاب، مما يؤكد أنهم لم يعُوا حقيقة الواقع، وإن زعموا أنهم في كل ما يقولونه صادرون عن استيعابه. 6 من 6 العناصر اللازمة لفهم الواقع استعرضنا في هذه السلسلة من المقالات مفهوم "التوازن الفكري", و"آليات التوازن الفكري", و"العقل" و"الوحي" كطرق لإحداث نسبة بين التصورات, وهنا وفي المقال الأخير من هذه المجموعة, نستعرض العناصر اللازمة لفهم الواقع. ويمكن القول: إن فهم الواقع يحتاج أولاً: إلى الوعي بتاريخ المجتمع الفكري، وهو تاريخ تشترك في تكوينه لدى كل الأمم جذورها العرقية وبنيتها الاجتماعية ومصادرها الدينية ومراحلها الاقتصادية والسياسية في كل ما مر عليها من أعصار, وعدم استكمال ذلك في معرفة تاريخ الأمة الفكري سيؤدي حتمًا إلى معرفة مشوهة بهذا التاريخ, وإلى استنتاج مغلوط للواقع الفكري. كما يحتاج فهم الواقع ثانيًا إلى تصور صحيح لما يحيط بالأمة من مخاطر, لأن المبالغة في تقدير الأخطار إما أن توقع في اليأس والتشنج والاضطراب وإما أن توقع في المبالغة في التعبئة لهذه الأخطار، وكلا الأمرين ينحّيان الفكر بعيدًا عن استيعاب الحقيقة والحكم بها. وثالثًا: مما نحتاج إليه في فهم الواقع: معرفة حقيقة احتياجات الناس لتسيير شؤون حياتهم ومطالبهم الآنية وآمالهم وطموحاتهم المستقبلية، وعدم معرفة ذلك على وجه الحقيقة يمنع من تلبية المستقيم من هذه المطالب, كما يحول دون تصحيح المعوج منها ومعالجة أسباب الاعوجاج. والذي أتصوره: أن هذه الأمور الثلاثة وما يتعلق بها, يُحكم عليها عند الأكثرين اعتمادًا على الانطباعات التي طريقها النظرة الفردية المعتمدة على التجارب الشخصية والرؤية الخاصة, مع أن المسلك الصحيح هو استخدام الأسلوب العلمي عن طرق البحث العلمي والتتبع الاستقرائي بكل ما يمكن من طرق صحيحة وعصرية للاستقراء. وليس في المطالبة بفهم الواقع تضييع للنصوص أو تضييق عليها؛ بل إن في فهم الواقع تنزيلاً للنصوص في منازلها الصحيحة, وهذا هو حقيقة ما يغيض أعداءُ نصوص الوحي أن يستخدم النص في موضعه المناسب له. فالفقهاء قد اتخذوا العرف دليلاً والعادة محكمة, وقالوا بتغير الفتوى بتغير الأمكنة والأزمان.

والعرف لا يُستدل به إلا إذا كان عرفًا محكومًا عليه بالإباحة بمقتضى البراءة الأصلية أو بنص خاص من الكتاب أو السنة, وحين يحكم بإباحته فلا يستخرج منه على الوقائع حكم من الأحكام الخمسة المعروفة, بل يستخرج من العرف تقدير ما حكمت النصوص بإباحته أو استحبابه أو وجوبه أو كراهته أو تحريمه, كما حكم الشرع بلزوم النفقة على الوالد, وجعل تقدير المطلوب إنفاقه موكولاً للعرف، كما قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق:7) وأباح لمتولّي مال اليتيم أن يأكل منه، وترك تقدير ما يحل له للعرف، كما قال سبحانه: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبدارئ أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} (النساء:6). وعلى ذلك أمثلة كثيرة في سائر أبواب الفقه, أما أن يكون العرف دليلاً ابتداءً فهذا ما لم يقل به أحد. وكذلك العادة: لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً, بل هي موضع لتنزُّل سائر الأحكام عليها, فإذا حكمنا بموجب النص بإباحتها, جعلناها حكمًا في فهم تصرفات المتعاقدين ونياتهم, كما لو ادعى أحدهم على زيد ألف ريال, وأقر زيد الألف وادعى أنها هبة بقرينة أن الرجل أعطاها إياه ليلة عرسه، ومن عادة الناس أن يعطوا مثل هذا المبلغ إعانة على العرس, فإننا نقبل دعوى زيد الهبة بقرينة العادة, وهذا بخلاف ما لو كان المبلغ المدعى به عشرين ألفًا فإن زعم زيد أنها هبة لا يُقبل؛ لأنه لا يجري في عوائد الناس هبة مثل هذا المبلغ ليلة العرس. أما تغير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة, فذلك متعلق بالفتاوى التي مستندها العرف والعادة على النحو الذي قدمت في المثالين السابقين, فإذا حكمنا على الزوج بنفقة زوجته ألف ريال في الشهر في هذه البلاد فإننا نحكم بربع هذا المبلغ في بلد آخر, وإذا حكمنا بدفع العوض نقدًا في بلد, فقد نحكم بدفع العوض عينًا في بلد آخر، تبعًا للعرف وعوائد الناس. فيبقى الحظ الأوفر والنصيب الأكمل في استنباط الأحكام إلى النصوص المحكمة، كتابًا وسنة وما ينبثق عنها من أدلة كالإجماع والقياس. وفي هذا الصد أذكر مقاصد الشريعة، فقد كثر الحديث حولها في أيامنا هذه، وألفت فيها البحوث المطولات, لكن الذي ينتهي إليه الباحث المنصف أن مقاصد الشارع لا يجوز اتخاذها دليلاً ابتداءً, بمعنى أنه لا يجوز للمفتي أن يحكم بإباحة أمر أو تحريمه وليس له سند إلا ظنه أن إباحة هذا الأمر أو تحريمه تلبي مقاصد الشارع من التشريع. لأننا مع قولنا بأن أحكام الله تعالى معللة بالحكمة فإننا لا نقطع بالحكمة إلا إذا كانت منصوصة, أما الحِكم المستنبطة فهي مضمونة أو موهومة مستندها التدبر المحض, أي أن مصدر القول بها هو العقل، ولا يجوز أن يكون العقل مصدرًا للأحكام مطلقًا. نعم نستفيد من علم المقاصد في تدبر أحكام الشريعة واستنباط الحكم منها, كما نستفيد منها في الترجيح عند تعارض الأدلة في نفس المجتهد, لكن المقاصد وحدها ليست دليلاً حاكمًا، إذ هي ثابتة بالدليل, وما كان محتاجًا إلى دليل لا يكون دليلاً منفصلاً.

ويلتحق بذلك القواعد الفقهية الكبرى كقاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع, والمشقة تجلب التيسير, فهي كلمات جامعة لمعاني عدد غير قليل من النصوص الشرعية, فهي بذلك أدلة باعتبار كونها جامعة لمعاني النصوص الشرعية, ومع ذلك لا يمكن أن يُستدل بها في مقابلة نص ذي دلالة خاصة, بل النصوص الخاصة مقدمة عليها, ويمكن استخدامها مع النصوص الخاصة كمعضدات لها لاسيما إذا كانت دلالة النص الخاص غير قطعية, أو في مجال الترجيح عند الاختلاف وتعادل الأدلة. ولا يبعد عن المقاصد والقواعد: المصالح المرسلة, فكل أمر محرم يريد أهل الهوى إباحته يلجئون إلى الحديث عن المصالح المرسلة يردّون بها النص, مع أن الأخذ بظني الدلالة من النصوص أقوى من الأخذ بالمصالح المرسلة, وقد بلغ من ترويجهم هذا المصطلح لإباحة ما حرم الله تعالى أن صار مصطلحًا رائجًا حتى على ألسنة العامة لكثرة ما يستخدم لموافقة الأهواء في جميع وسائل الإعلام وفي كتابات بعض المتأثرين بهذا التوجه من المشتهرين بالعمل الإسلامي. ومردّ الاغترار والاجتراء على المصالح المرسلة هو عدم القراءة في كتب أصول الفقه التي اعتنت بتحرير مسألة الاستدلال بالمصالح المرسلة, لأن من تأمل في هذه الكتب يعلم أن علماء الأمة قالوا بالمصلحة المرسلة لا لتكون وسيلة لضرب النصوص أو إباحة المحرمات وتحريم المباحات, بل هو قول مراد به حفظ النصوص, ويتجلى ذلك من تعريف العلماء للمصلحة المرسلة بأنها ما لم يرد من الشارع إلغاؤه أو اعتباره, هذا من حيث الإجمال، أما عند التحرير فإنهم يقولون: إن المصلحة إما أن تكون متحققة أو مظنونة أو موهومة, وكذلك فإن الشارع لا يمكن أن يكون ترك أمرًا من الأمور دون اعتبار أو إلغاء, لأن اعتبار الشارع وإلغاءه إما أن يرد على جنس هذا الأمر أو نوعه أو عينه, ولا يمكن أن يخرج فعل بشري عن أن يتعلق به حكم الشارع بأحد هذه الوجوه, فإذا ثبت إلغاء الشارع لجنس أمر أو نوعه , فلا يمكن أن يكون معتبرًا إلا إذا نص الشارع على عينه. وكذلك إذا ثبت اعتبار الشارع لجنس أمر أو نوعه فلا يمكن أن نلغيه إلا بنص على عينه. وبذلك نعلم أن الاستدلال بالمصالح المرسلة عند من يقول به ليس استدلالاً منفصلاً عن النص, بل هو استدلال مقرب للنص ومبين له. أما على قول من يردّ الاستدلال بالمصالح المرسلة وهم جمهور العلماء فيرون أن لا حاجة إلى استحداث دليل جديد، لاسيما والاستدلال به مبنيٌّ على فرضية وجود ما لم يرد من الشرع اعتباره أو إلغاؤه. وبذلك يثبت أن المصلحة المرسلة سواء أقلنا بها أم رددناها, إنما هي شاهد على رعاية العلماء رحمهم الله للنصوص في جميع الأزمان، ولا يمكن استخدامه ذريعة لرد النصوص والعبث بالمحكمات تحت أي ذريعة. وحين نقول: إن كل ما يرِد على العباد من نوازل لا بد أن نجد في الشرع ما يثبته أو يلغيه, فإننا نسير وفق ما تقدم الحديث عنه من ثبوت شمول الشريعة بما يقطع الطريق أيضًا أمام من يحاول اتخاذ البراءة الأصلية دليلاً منفصلاً عن النصوص ليتيح لهم فرصة الحكم بإباحة ما تزينه لهم الأهواء، سعيًا وراء عصرنة الدين. وذلك أن "البراءة الأصلية" أو "الأصل في الأشياء الإباحة": إنما هي مقيدة بالمنافع, ولذلك عبر كثير من محققي أصول الفقه عن هذه القاعدة بقولهم: الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم, فإذا تبينا ذلك عرفنا: أن الحكم بإباحة أمر بناء على عدم دليل يحرمه لا بد أن يُسبق بنظر آخر, وهو تأمل هذا المحكوم عليه: هل هو من المنافع أم من المضار؟ , فإذا تحقق كونه منفعة محضة حكمنا بإباحته, وإن ثبت كونه مضرة محضة قلنا بتحريمه, فإن تردَّد بين النفع والضرر حكمنا للغالب منهما.

إذًا فالقول بأن الأصل في الأشياء الإباحة قول مقيد بالمنافع, ولا يصح استخدامه هكذا مطلقًا, إذ من الأشياء ما يكون الأصل فيها التحريم لا الإباحة وهي التي تعود بالضرر على النفس والمجتمع. وحين نريد التعرف على المنافع والمضار لا بد أن تكون نصوص الشرع هاديًا لنا في معرفة كُنْهِ الأشياء, إذ إن المنفعة والمضرة ليس قياسهما دنيويًّا محضًا فتتجرد العقول لتهتدي إليه, بل هو ديني أولاً دنيوي ثانيًا, فلا بد للحكم بمنفعة أمر من التحقق من كونه لا يعود على دين العبد بالضرر مطلقًا, فإن عاد على الدين بالضرر فلا عبرة بما ينتج عنه من منافع دنيوية ولو كثرت. كما أننا نقطع بأن ما يعود بالنفع على دين العبد ويعود بالضرر على دنياه لا وجود له مطلقًا, وإن توهمه العبد فليس حقيقة في نفس الأمر. وما دمنا نتحدث عن الاستدلال الصحيح والفاسد فلا يفوتنا الحديث عن الخلاف الفقهي: فهو في معزل عن كل شيء يعدّ قضية وحده: إذ نرى كثيرين من دعاة هذه الفكرة يجعلون الخلاف في مسألة ما وحده مبررًا للتخير بين الأقوال في حكمها, ويرون أن مناط الاختيار هو مناسبة الحكم المختار لظروف العصر وحاجة الناس إليه, ولا عبرة عندهم بمدى قرب القول المختار لديهم من النص أو بُعده عنه, فكون أحد العلماء قال بهذا القول يعد عندهم شافعًا لاعتماده إذا كان متناسبًا في زعمهم مع حاجات العصر ومتطلباته. ومن المعلوم عند علماء الأصول أن العامي لا يجوز له الترجيح بين أقوال المجتهدين، وإنما يجب عليه الرجوع إلى من يفتيه في مسألته, كما أنه لا يجوز له التنقل بين الأقوال تشهيًا، بل لا بد للمقلد من التحري فيمن يستفتيه، فإذا أفتاه فقد لزمته الفتوى. وكذلك إذا اختلف المجتهدون فليس للعامي أن يرجّح بين أقوالهم، وإنما يتحرى أقربهم للسنة وآخذهم بالورع وألهجهم بالأدلة من الكتاب والسنة فيسأله, وإنما الترجيح مهمة المجتهد المنتصب للفتوى, فإن واجبه أن ينظر في الأدلة ويرجّح من الأقوال ما كانت أدلته أقوى سندًا أو دلالة, ولا بأس على المجتهد إن ترجّح لديه خلاف قولِ الجمهور ما دام مستخدمًا لأدوات الترجيح الصحيحة التي نص عليها الأصوليون في مصنفاتهم وأولها موافقة المنصوص عن الله ورسوله. وكون قول من الأقوال أنسب للعصر وأيسر على الناس, لا يعد دليلاً قائمًا بذاته تقاوم به النصوص, أو يرجح به بين أقوال أهل العلم, لكنه علامة يعرف بها المجتهد صحة مذهبه، إذ إن التيسير على الخلق والرفق بالعباد من خصائص دين الإسلام, لكن لو صح الدليل في حكم لم نتعرف نحن على وجه كونه يسرًا ورفقًا على الناس فليس هذا مانعًا من الامتثال للحكم، كما أن عدم معرفتنا بأوجه التيسير في هذا الحكم لا تعني عدم وجودها. وأختم هذه المجموعة من المقالات بالقول: إن مما لا يحسن إغفاله من أسباب الاضطراب الفكري: أمراض النفوس, من الهوى واتباع الشبهات والشهوات والحسد والحقد والمنافسة على الدنيا والرياء والتحبب إلى الأتباع أو الرؤساء, فكل هذه الأمور وغيرها من أدواء النفوس تحول دون تحري الحق .. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

متى يحسن الرد على المخالف؟

متى يحسن الرد على المخالف؟ عبد العزيز بن مرزوق الطريفي 1 جمادى الآخرة 1431هـ كثيرٌ ممَّن يُطيل الجَدَلَ والمناظرة لا يُفرِّق بيْن بيان إثبات الحُجَّة، وبين الإقرار بها، فيجعل لازمَ إثبات الحُجَّة أن يُقرَّ المحجوج بها، وهذا ليس من العلم والنظر، ولا مِن مقاصد التشريع في شيءٍ؛ وذلك أنَّ محل الإقرار في القلْب، واللِّسانُ ناقلٌ لِمَا في القلب، والصِّدق في هذا شاقٌّ جدًّا، حتى ربما ظهر الحقُّ لجميع السامعين، ويبقى المحاجَج في سَكْرة نفي ثبوت الحُجَج، والتهوين منها، والتعلُّقُ بالإقرار تعلقٌ بباطن لا يمكن الوصولُ إلى حقيقته، فإلْقاء الحُجَّة مع بيانٍ ووضوحٍ يفهمها المجادَل والسامِع لو أرادَا الفَهْم - كافٍ في قيام التكليف عليه؛ لذا لَمَّا كان أعظمُ تكليف - وهو الإسلام - يكفي في ثبوته الإسماعُ على وجهٍ ولُغةٍ يفهمها المخاطَب؛ قال - تعالى -: ? وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ? [التوبة: 6]، فكفَى السماعُ الواضح الصحيح، ولم يُنتظر الإقرارُ؛ ? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ? [النمل: 14]، فمن باب أوْلى الاكتفاءُ بما دونه مِن التكليف. قال الإمام أبو يوسف: إثباتُ الحُجَّة على الجاهل سهْل، ولكن إقراره بها صعْب. ولْيكتفِ صاحبُ الحق بالقَدْر الكافي من البيان وتَكْراره، من غير استرسال مع لَجاجةِ صاحب الباطل، فكلُّ قول باطل يندثِر ويتلاشى بانخفاض صوْت صاحبه، وأما الحقُّ فيعيش في النفوس، ويَبني بها صروحًا لا تندثِر بموْت أصحابها، فضلاً عن أصواتهم؛ ? فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ? [الرعد: 17]. ويَنبغي لصاحب الحق أن يَفْصِل بين ذاته والحقِّ الذي يحمله، فلا ينتقم لحظِّ نفْسه بالحق الذي معه عندَ الخطأ عليه، فبيْن حظِّ النفْس وحظِّ الحق قَدْرٌ مشترَك دقيق، لا يَعرف قدرَه إلا النُّدرةُ مِن الناس، وكم فوَّت الكتَّابُ من حظِّ الحق؛ بسبب استكمالهم حظَّ أنفسهم من حيثُ لا يشعرون، فيقابلون السوءَ بسوءٍ مثلِه وزيادة، فيصدُّون عن الحق، وكلَّما زاد حظُّ النفْس أكَلَ مِن حظ الحق، وربما كانت الغَلَبة لشُبهة الباطل؛ لأنَّ الذي يقابلها شهوةٌ في صورة حق، والشُّبْهة أقوى من الشَّهْوة. والمناظِر في الحق قاضٍ يقضي في حقِّ الله، فلا يقضي وقلْبُه منصرفٌ إلى غير الحق، وفي الحديث: ((لا يقضي القاضي وهو غَضْبان))، وهذا في تفويت حقِّ البشر، فكيف في تفويت حقِّ الله؟! ويُقابل هذا أن يُحجِم عن بيان الحق؛ خوفًا على حظِّ نفسه من أن يتنقَّصه جاهل، أو يلومه في نفسه لائِم، فهذا لم يهتمَّ أن ينتقصَ الحقَّ، واهتمَّ لتنقُّص نفسه، وأكثر أهل الحقِّ عندَ الفِتن من هذين النوْعين، والمنصِفون عند ذلك قليلٌ جدًّا. ومِن خاف ملامةَ الناس إذا كتب وبيَّن، كتَب إذا أوْجس مدحًا أو حمدًا، وهؤلاء مِن أسباب اضطراب العامَّة في الدِّين، وكثرة المنافقين. والمجاِل وإنْ كان قويَّ الحُجَّة حاضرَ البينة، فإنَّه يخاصم إلى غير قاضٍ، وإنما قاضيه عقلُ مقابله بالإقرار أو عدمه، ومَردُّ ذلك إلى كمال العقلِ والإنصاف، وتمام الدِّيانة، وهذه خِصالٌ نادرةُ التوافق في فرْد. وأصعبُ الأقوال ردًّا أشدُّها سقوطًا؛ لأنَّ مَردَّها إلى التسليم بها، فلم يخطرْ في بال عاقل وجودُها، فضلاً عن استحضار جوابٍ في الذِّهْن سابقٍ لها. ومِن الأعباء الشاقَّة التصدِّي لردِّ جَهالة لجوجٍ جاهِلٍ مستحكمِ الجهل، من جهتين: • مِن جهة استحكام جَهَالته. • ومِن جهته هو.

فإنَّ مَنْ لم يرفعْ نفسَه عن قدْر الجاهل، رَفَع الجاهلُ قدرَه عليه. فإنَّ من المجادلين مجادلاً مع جهْل وكِبْر، تتناسخ في ذِهنه الجهالات، فكلَّما رددتَ واحدةً أورد مِثْلَيها، فتُريد أن تردَّ شبهة تخشى وقوعَها في أذهان الناس، فيأتي بشُبهات أُخرى ربَّما تقع في أذهان الناس موقعًا أكثر من سابقتها، لا تجد وقتًا لتتبُّعِها؛ لسقوطها عندَك، وهي عند بعضِ الناس حقٌّ مُحْكَم، فتعيَّن في ثبات الباطل بابتداء الردِّ عليه، فمن كمال الأدب مع العِلم: الاعتدادُ بمآلات الأحوال، ومعرفة الأعيان، ومِن المعارِف التي لا يُدركها بسطاءُ الناس عدم الردِّ على مَن كانتْ هذه حاله؛ لأنَّ انشغالَ الناس بجَهالةٍ واحدة يُبديها، ثم تتبدَّد في جوِّ الحق السائد - خيرٌ من انشغالهم بجهالاتٍ كثيرة يولِّدها، وتَرقيع بعض الجهالات يُوسِّعها، ونسْج ثوب حقٍّ تامٍّ أفضلُ من ذلك. ولذا يقول الأحنفُ بن قيس: قطيعة الجاهل تعْدِل صِلة العاقل. والكلام ساقطُ المعنى يختلف في قدْر سقوطه، منها ما يَسهُل ردُّه، وإعادته إلى الجادَّة، ومنها ما يَجِد الناقدُ مشقَّةً في ردِّه؛ لقوَّة سقوطه. وكثيرٌ مِن الأقوال الخاطئة التي يَرْميها الكتَّاب والمتحدِّثون كالمتاع يسقط من يدِ صاحبه، بعضُه سهلٌ تناولُه، وبعضه لا يُؤبَه به، ويسقط في بئرٍ سحيقة، تناولُه مُتعذِّر، والمصلحة في ترْكه، وقد يُوصَف تاركُه حينها بالعجز، وينبغي ألا يضرَّه ذلك في نفسه، ولا يضرَّه عندَ العقلاء، ولا يمكن أن يستكملَ العالِمُ اسمَ العلم، حتى يسمعَ الكلمة العَوراء فيجعلَها خَلْفَ أُذنه. وقد يجد الإنسانُ صعوبةً في ردِّ حُجَّة الجاهل مستحكمِ الجهل؛ لأنَّه يحتاج نوعًا نازلاً من العِلم يليق بنزول جَهَالته. وكثرة المجادَلة في المسألة ليستْ محمودةً في حدِّ ذاتها، ما لم يُنظرْ إلى دلائل الاقتران بها حالاً، وما تؤول إليه، ولا يَنبغي للعالِم أن ينساقَ وراءَ ما يُريد الجاهل مِن المراجعة والمقاولة، وما عليه أكثرُ مما بيَّنه؛ لأنَّ الجاهل لا يعرِف نفسَه قدرَ معرفة العالِم له ولقوله؛ لأنَّ العالِم كان جاهلاً من قبل، وأمَّا الجاهل فلا يعرف العالِم؛ لأنَّه لم يكن مَرَّةً عالِمًا. وقد يكون الحق بيِّنًا، وصاحب الباطل معاندٌ معروفُ العناد، فتَجِب محاجَجتُه، وبيانُ الحق لا له، بل لِمَن وراءَه ومَن يتابعه، فهذا أبو لهب حَكَم الله بعدم إيمانه، وقطَع بدخوله النار؛ ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ? [المسد: 1 - 3]، ومع ذلك بقِيَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُحاجِجه وقومَه دهرًا؛ لأنَّ المقصود قومُه في صورته؛ لكونه سيدًا متبوعًا. والعالِم يُدرك مِن أنواع وأجناس وأعداد المخاطَبين ما لا يُدرِكه غيره، فربَّما خاطب فردًا وسمَّاه وهو يُريد غيرَه، وربما خاطب فردًا وهو يُريد جماعة، وربَّما أحجم عن تسميةِ فرْدٍ يستحقُّ الردع؛ استصلاحًا لغيره ممَّن يشركه في مُنكره مِن أهل العِناد، أو ممَّن يمدُّ له بسببٍ ونسبٍ؛ إغلاقًا لمدخل الشيطان عليهم مِن الذبِّ عنه، والْتماس التأويل الباطل له؛ لاختلاط الهوى بالحق، فتكون حينئذٍ فِتْنة جماعةٍ بعدَ أن كانت فِتنةَ فردٍ؛ كما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفعل مع بعض المنافقين مِن الأَوْس والخَزْرج، وهذا من البصيرة المذكورة في قوله تعالى: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ? [يوسف: 108].

الخطاب الإصلاحي والإشكاليات المتجذرة

الخطاب الإصلاحي والإشكاليات المتجذرة (قراءة موضوعية) سلطان بن عبد الرحمن العميري 29 جمادى الآخرة 1431هـ إن الناظر في واقعنا المعرفي اليوم يدرك بأدنى نظر أنه يعاني من الضعف في جوانب كثيرة من مشروعه الإسلامي الكبير الذي يتمنى أن يسود العالم كله. وذلك راجع إلى أن عصرنا الحاضر فرض إشكاليات معرفية وفكرية وعملية بلغت الغاية في الكثرة، والنهاية في الصعوبة والغموض والتعقيد. وإذا ما بحثنا عن أفضل السبل في الخروج من ذلك الضعف والارتقاء بالمشروع الإسلامي البنّاء فسنجد أن من أفضلها: التوجه إلى تفتيت الإشكاليات وتفكيك مركباتها؛ حتى يسهل علينا نحن الإسلاميين إدراك عمقها والوصول إلى الرؤية الناضجة فيها. ومن مقتضيات ذلك: إبراز التخصصات الفكرية والإصلاحية، والحرص على إفراد كل دائرة من دوائر الضعف بطائفة من المفكرين للتخصص فيها، ووسمها بعلم يخصها وفكر يضم مسائلها، ويتعمق في إشكالياتها، ويؤصل مبادئها ويحدد آلياتها، وهذا ما فعله علماء الإسلام منذ تشكلات الفكر الإسلامي؛ فإنه لما تعدّدت فيه المسائل وتنوّعت فيه القضايا، أفردوا لكل نوع منها علماً يخصه، فظهر لنا علم التفسير، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه وعلم العقيدة، ونحو ذلك. وهذا كله يؤكد لنا مشروعية التخصصات العلمية والفكرية والعملية والدعوية، شريطة ألاّ نفتقد وضوح المرجعية الإسلامية، وألاّ نقع في التعصب والاحتقار المقيت، الذي يؤدي إلى المشاحّة بين التخصصات المشتركة والمصارعة بينها في تكوين المشروع الإسلامي الكبير. ومن الظواهر الصحية التي غدت بارزة في الفكر الإسلامي: ظهور خطابات متخصصة في مجالات لم تكن مفردة باسم يخصها من قبل؛ فقد ظهرت في ساحتنا الخطابات المختصة بالنوازل الفقهية بجميع تنوعاتها، والخطابات المختصة بقضايا المقاصد، والخطابات المختصة بالقضايا الفكرية الحديثة. ومن الدوائر التي ظهر التخصص فيها: الدائرة المتعلقة بشؤون النهضة والتنمية والحضارة، ومتعلقاتها السياسية والاجتماعية، ولا شك أن هذه الدائرة من أهم الدوائر التي تحتاج الأمة فيها إلى بناء وإصلاح وتأصيل شرعي وفكري، وتستوجب أن تنفر طائفة من المؤمنين للتخصص فيها والغوص في بحرها والتعمق في إشكالياتها. وإن المسلم الحريص على التكامل في مشروعه الإسلامي الكبير سيسعد كثيراً حين يجد طائفة من المؤمنين - من المفكرين وطلبة العلم - اتجهوا في تغطية هذه الدائرة، وقصدوا إلى التخصص في إثارة موضوعاتها وتحمّل مشاقها وتبعاتها؛ لأنهم بذلك يرفعون الملامة عن عموم الأمة، ويسعون إلى تحقيق القدر الكفائي الواجب على كل الأمة، ويسعون في بناء جانب هام من جوانب المشروع الإسلامي الكبير. والمتحتم علينا نحن طلبة العلم والمفكرين الذي تخصصوا في جوانب أخرى من المشروع الإسلامي أن نتعامل مع ذلك التخصص، ومع من تخصص فيه - وصفاً وتقييماً ونقاشاً ونقداً - على أنه تجربة تخصصية مشروعة، مثلها مثل أي تخصص آخر مشروع. لا يصح لنا أن نتعامل معه على أنه تخصص غير مشروع، ولا أنه فكر دخيل على المشروع الإسلامي، ولا أنه يمثل ظاهرة من ظواهر التأثر بالفكر الغربي. كل ذلك لا يصحّ لنا أن نتعامل به؛ لأنا إن فعلنا ذلك سنتنكّر للتكامل في المشروع الإسلامي. كما أن المتحتم على المتخصصين في دائرة النهضة والتنمية والحضارة أن يتعاملوا بنفس الطريقة، وأن يبادلوا الأطراف الأخرى العاملة في بناء المشروع الإسلامي الاحترام والتأييد، حتى نرتقي معاً ونحقق الأمل سوياً.

هذه تَقْدمة منهجية هامة في كيفية التعاطي مع ما يُسمّى بمشروع الإصلاح، بتمظهراته العديدة، إذا تمثلناها وجعلنا معانيها حالة ملموسة في واقعنا الفكري سترتقي خطاباتها، وتتجه نحو النضج والالتزام بالقيم المنهجية الصحيحة. وبما أن خطاب الإصلاح يُعدّ تجرية تخصصية مشروعة، فمن الواجب علينا النصح له والسعي في تقييمه وإصلاح ما فيه من خلل؛ لأننا بذلك نتعاون في بناء مشروعنا الإسلامي الكبير. ولأجل تحقيق هذا الغرض كانت هذه القراءة النقدية التي تقصد إلى إبراز أهم الإشكاليات المنهجية الواقعة في الخطاب المهتم بالنهضة والحضارة، وهذه الإشكاليات أدّت في -تصوّري- إلى ظهور بقع رمادية في صورته، وضبابية في بعض مستنداته، وتعثّر في بعض مسيرته، مع أن هذا الخطاب تتبناه عقول كبيرة، لا يشك أحد في مشربها الإسلامي، ولا في قصدها، ولا في حرصها ولا في ديانتها، وبالتالي فالكلام ليس متوجهاً إلى أشخاصهم، وإنما إلى نتاجهم. وليس من أساليب المنهجية الصحيحة الناضجة أن نبتدئ في تقييم الأفكار بتقييم قائليها، بل الواجب ابتداء الانطلاق إلى الأفكار نفسها؛ إذ هي محل القبول والرد والصحة والفساد والمدح الذم. وقبل الخوض في تلك الإشكاليات لا بد لنا من التنبيه على أن المقصود بوجود تلك الإشكاليات وجودها بشكل ظاهر في جملة الخطاب الإصلاحي لا في كل نتاج من نتاجاته. الإشكالية الأولى: خفوت النَّفَس الشرعي؛ فالمتابع لنتاج الخطاب المختص في النهضة والحضارة ومتعلقاتها يتبدّى أمام ناظريه ضعف النفس الشرعي فيه، وخفوت المنطلقات الشرعية التي تمثل البنية التحتية للمشروع، ومن المعلوم أن المشاريع الإسلامية العميقة التي يُراد منها إنقاذ المجتمعات من كل مخالفة شرعية، والتي تقصد إلى بناء رؤية شرعية ناضجة، وتروم إلى أن تتجذر في مجتمع إسلامي تسود فيه الحالة التي كان يعيشها الرعيل الأول، لابد أن تتشبع بالروح الإسلامية غاية التشبع، ويظهر ذلك جلياً في تقريراتها وتأصيلاتها. ولا أقصد هنا بالنفس الشرعي أن تكون المقالات والبحوث محشوة بالآيات والأحاديث فحسب، فهذا الأمر مع أهميته ليس هو المقصود هنا، وإنما المقصود أن تتشرب بحوثنا وأفكارنا بالروح الشرعية التي تجعلها خاضعة لمنطقاتها ودلالاتها ومقتضياتها في كل تفاصيلها، وأن نسعى إلى استقراء نصوص الشريعة، ونحرر الدلالات والأصول والمبادئ التي اشتملت عليها، مما هو دال على مشروعية "الفكرة الحضارية في الإسلام"، ويحدد مكوناتها. وقد تسبب هذا الخفوت في حدوث إفرازات معرفية وتعاملية وفكرية كانت محل انتقاد ومثار تساؤلات حول مدى تأثير المستندات الشرعية في بناء بعض أفكار هذا الخطاب، وتسبب أيضاً في وقوع مصادرات لبعض القضايا التاريخية، كقول بعضهم: إن الفكر الإسلامي تمّت صياغته في العصر العباسي، ثم لم يزل يقلد ما صيغ في ذلك العصر، ومن يطالع كتب ابن حزم أو ابن تيمية أو الشاطبي ونحوهم من المحققين يجد أن هذا التوصيف غير متطابق مع الواقع، فإنهم تجاوزوا نتاج القرن الثاني والثالث، ولم يتوقفوا على مجرد تقليده فقط، بل توجّهوا إلى نصوص الشرع مباشرة، وتعاملوا معها تعاملاً مباشراً. وهذا الخفوت هو أحد أهم الأسباب - لا كلها- التي جعلت عدداً من المهتمين بالخطاب الشرعي يقول: إن الخطاب الإصلاحي ينطلق - أو هو متأثر - بمستندات غربية لا إسلامية، أو يقول: إن الخطاب الإصلاحي لديه تعالٍ على النصوص الشرعية وعدم تعظيم لها. ونحن هنا لسنا في سياق إثبات هذه الانتقادات لدى الخطاب الإصلاحي أو نفيها، وإنما في سياق إبراز تجلّيات الخفوت الشرعي في الخطاب الإصلاحي.

الإشكالية الثانية: المبالغة والتهويل في الأفكار؛ فحين يطالع القارئ بعض نتاج الخطاب الإصلاحي يدرك بشكل ظاهر المبالغة في تصوير أفكاره وتعظيمها إلى درجة عالية، فيخيل بعضهم للقارئ بأنه لا نجاة له إلاّ بأفكاره، وأنه لا طريق للغد المنشود إلاّ بمنهجيته، ومن أجل سيطرة الروح الغالية عليه أخذ يتخذ مواقف ليست معتدلة من كل من ينازعه، وهذا ما دعا بعض النقاد إلى وصف الخطاب الإصلاحي بأنه يسعى إلى صناعة الأعداء، فمثلهم -عنده - كمثل قوم صنعوا سفينة، وطلبوا من الآخرين الركوب معهم، ووصفوا من رفض الركوب بكل ذميمة، ولم يقدّروا أعذارهم؛ فلم يقدروا من اعتذر لأن لديه سفينة أخرى، أو من اعتذر بأنه لا يثق بسفينتهم حتى الآن، أو أن لديه تحفظات عليها. وهذا ما يفسر لنا موقف بعض المتبنّين للخطاب الإصلاحي من الخطاب السلفي؛ فإنك تلمس فيه التشنج والقصد إلى الذم، حتى إنه يصل إلى درجة الاستفزاز، فلا يكاد يكتب مقالاً أو بحثاً إلاّ وفيه التعرض للخطاب السلفي من قريب أو من بعيد. وفي تصوري أن عدداً من المتبنين للخطاب الإصلاحي ساعد بقدر كبير على صناعة الجو المشحون في واقعنا الفكري، حتى إنه ليُخيّل للقارئ أنه يعتقد أن الخطوة الأولى لمشروعه هي مواجهة الخطاب السلفي، مع جزمي بأن كثيراً منهم لا يعتقد ذلك، ولكن خطابهم هو الذي تسبب في حدوث ذلك الاعتقاد. وتُعدّ المبالغة بصورتها السابقة أحد الأسباب - لا كلها - التي جعلت بعض نقاد الخطاب الإصلاحي يقول: إنه يبعض الوحي، وأنه يغالي في بعض جوانبه إلى درجة جحد الأبواب الأخرى، وأنه يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أو يقول: إنه يعاني من اختلال مقاييس الأولويات، ويخالف فيها النصوص الشرعية، التي دلت على أن العقيدة من أهم ما يجب أن يحافظ عليه المسلم، أو يقول: إنه يحقر من التخصصات الأخرى، ولا يلقي لها بالاً ويعدها من الفضول، أو يقول: إنه يعاني من الأحادية الإصلاحية، فلا يرى إصلاحاً إلاّ عن طريق السياسة فقط، أو يقول: إنه يقلب الموازين فيحوّل الوسائل إلى غايات والغايات إلى وسائل، كما حوّل الحرية إلى غاية بدل تحكيم شرع الله تعالى. ولا أريد هنا أن أؤكد وجود هذه الانتقادات لدى الخطاب الإصلاحي أو أنفيها، وغاية ما أريده تلمّس بعض الأسباب التي أدّت إلى أن يتصور النقاد تلك الأقوال. وتُعدّ تلك المبالغة أيضاً أحد الأسباب في ظهور لغة الهمز واللمز والاتهام المتبادل بين الطرفين - الخطاب الإصلاحي وبعض نقاده -، وهي كلها أعراض مرضية لا تبشر بمستقبل مشرق. الإشكالية الثالثة: الانطلاق من النقد؛ فالقارئ لنتاج الخطاب الإصلاحي يُخيّل إليه أن بعض أفراد الخطاب غلب عليه الجانب النقدي والاشتغال بركام الآخرين، والبدء باستثارة المخالفين ومواجهتهم، والتنقيب عن أخطاء الآخرين وتسليط الأضواء عليها، وهذا لا شك أنه مخالف لمنهجية البناء الصحيحة؛ فالمشاريع الإسلامية البنّاءة تحتاج أول ما تحتاج إلى بناء الأسس الشرعية والفكرية، وتثبيتها، وفي تصوّري أن هذا لم يحصل في الخطاب الإصلاحي، بل إنه تجاوز إلى النقد اللاذع للخطاب المتهم بالعقيدة أو بالفقه أو بغيرهما من مكونات المشروع الإسلامي الكبير في أحيان كثيرة، وهذا الحال أوقعهم في تناقض منهجي؛ وذلك أن الخطاب الإصلاحي - كما أعلن عن نفسه- يتبنى قضايا التعايش والنهضة، ولكننا نُفاجأ بأن التعايش يخبو أو يختفي في التعاطي مع مقالات ومواقف المختصين بالعلوم الشرعية.

الإشكالية الرابعة: المراوحة في خانة الاحتجاج، وهذه الإشكالية هي نتيجة ضرورية للإشكالية السابقة، فالمتابع لأطروحات الخطاب الإصلاحي يجد أنها طرقت أبواباً كبيرة، وطالبت بتغطية صحارى واسعة، ولكننا نُفاجأ بأنه لم يقدم لنا مشروعات متكاملة في تصوراتها وآلياتها وتطبيقاتها وتفصيلاتها، تتناسب مع حجم الأصوات المرتفعة التي أحدثها، ولا مع قدر الذم الذي وجّهه إلى المخالفين له. فلم نشهد دراسات نهضوية وحضارية وسياسية تؤصل للمشروع الإسلامي الذي يدعون إليه، ولم نشهد ممارسات عملية في الواقع تتناسب مع حجم ما أحدثوه من ضجيج. وهو يعيب كثيراً على الخطاب المختص بالأمور الفقهية والعقدية بأنه لم يقدم دراسات تغطي احتياجاتنا، وإذا نظرنا في واقع الخطاب الإصلاحي نجده يعاني مما نقد به الآخرين، فلو ألقينا نظرة على أهم القضايا المتعلقة بالحضارة والنهضة التي أعلن التخصص فيها، والتي نحتاج فيها إلى دراسات واسعة تسعى مع الدراسات السابقة في العالم الإسلامي إلى تغطية الحاجة الملحة في بناء مشروعنا الإسلامي، ومن تلك القضايا: مفهوم الحضارة في الإسلام ومبادئها، والأسس والأصول التي تقوم عليها الفكرة الحضارية في الإسلام، ومكونات الفكرة الحضارية في الإسلام وحدودها، وطبيعة الفكرة الحضارية ومدى ارتباطها بخصوصيات الأديان، والدراسات التاريخية للحضارة وتطوراتها في الإسلام وتشكلاتها عبر التاريخ، والمفاهيم الحضارية الأخرى ومدى تطابقها مع مبادئ الإسلام، وغيرها من قضايا الحضارة والنهضة التي لا يمكن أن نكوّن رؤية ناضجة لمشروعنا الحضاري والنهضوي إلاّ بتناولناها بالدارسة والتأصيل، إذا نظرنا في ذلك كله فلا نجد الخطاب الإصلاحي قدم فيها ما يكفي، ولا ما يقارب قدر الكفاية. وكذلك لو ألقينا نظرة على الإشكاليات المعرفية والشرعية والواقعية المتعلقة بالجانب السياسي فلا يختلف عن الحال في الجانب الحضاري. ونحن هنا لا نريد أن نقول بأنهم لم يقدموا شيئاً أبداً؛ لأنا إذا قلنا ذلك وقعنا في الظلم الذي حرمه الله على عباده، ولكن المقصود أن ما قُدّم لا يقارب فضلاً عن أن يساوي الضجيج الاحتجاجي الذي صنعوه في ساحتنا الفكرية، ولا يرفع عنهم اللوم الذي يوجّهونه إلى غيرهم. وإذا كان الحال كذلك فإنه يجب علينا أن نتفهم جوانب الخلل التي اشتركت كل الأطياف الإسلامية فيها، وألاّ يشغب بعضنا على بعض بأنه هو السالم من النقص دون غيره، ولا داعي للضجيج الاحتجاجي الذي نلمسه من بعض الخطاب الإصلاحي على الخطاب السلفي، وكأن الخطاب السلفي هو الذي تسبب في وقوع النقص، أو أنه هو الذي يعادي كل تطور وتقدم!! وهذا لا يعني أنا نبرّئ كل المتبنين للخطاب السلفي من الخطأ، ولكن وجود الخطأ من بعضهم لا يسوّغ التجني على كل الخطاب. وهذا كله يحتم علينا أن يسعى كلٌّ من جهته في تغطية ما تخصص فيه على أكمل وجه وأبين طريق، حتى نحقق الروح الإسلامية التي يسعى الكل للوصول إليها. الإشكالية الخامسة: التعالي على النقد؛ فالقارئ يلحظ بوضوح التعالي لدى بعض الخطاب الإصلاحي على ما وُجّه إليه من نقد وتساؤلات، فكم كُتب من مقال في نقد منظومته، وكم كُتب في بيان الأخطاء العملية في نظرياته، وكم كُتب في بيان الموقف من طريقة سيره، ومع هذا لم نشهد كتابات علمية رصينة تبين للناس حقيقة منطلقاتهم وتدفع ما وُجّه من نقود إليهم، إلاّ ما نجده من ردود متفرقة ومبعثرة، وفي تصوّري أن هذا الحال لا يخدم فكرهم، بل لا يزيده إلاّ التباساً. ونحن نعلم أن المختصين بالخطاب الإصلاحي ليسوا سواءً؛ فهو يتسم بتنوعات كبيرة وتباينات واسعة، وهذا التنوّع يحتم على الصنف الناضج أن يحاول جمع كل من وجه إلى خطابهم من انتقادات وملاحظات، ويبين فيها موقفه بوضوح، سواء في الموقف من التاريخ الإسلامي، أو في الموقف من المخالفين، أو في بعض الآراء والأفكار نفسها. هذه هي أبرز الإشكاليات المنهجية - في تصوري- التي يعاني منها خطاب الإصلاح، وهي حاضرة فيه بوضوح، وبقاؤها فيه لا يخدم المشروع الإصلاحي الذي نروم الوصول إليه، ولا يخدم المشروع الإسلامي بجملته؛ لأنها ستؤدي إلى إفرازات مضرة بفكرنا.

اقتلني ومالكا

اقتلني ومالكًا د. أحمد بن صالح الزهراني 25جمادى الأولى1431هـ قبل أيّام دعاني صديق إلى مجلس فيه أحد المشايخ الفضلاء زار مدينتنا الصغيرة مؤخراً، سعدت بهذه الدّعوة، وذهبت مع الصديق العزيز، وقد كانت فرصة للشيخ الكريم أن يمسك بطرف الحديث متحدثاً عن قيمة العدل والإنصاف في المنهج السّلفي. العدل والإنصاف مع من يخالفنا سواء من كان خارج سياج أهل السنة أم داخلها. قيمة العدل والإنصاف هي الميزان الّذي يضبط أصلاً سلفياً كبيراً، ألا وهو أصل الرد على المخالف، فـ (الرد على المخالف والموقف منه) شريعة إسلامية، وأصل إسلامي كبير تأتي أهميته تابعة لأهمية الدين والمنهج؛ فالردّ على المخالف هو الحصن الذي حمت به الشريعة الدين من تأثير أصحابه عليه، أعني من أخطاء حامليه في تصوّره أو تصويره أو تطبيقه. إذ إنّ تقديس الأشخاص والإعجاب بهم والثقة في أحلامهم قد يجنح بالكثيرين إلى تقليدهم فيما زلّت به أقدامهم، وقد يعظم على البعض الردّ عليهم أو نقدهم وبيان أخطائهم، ولهذا كان السلف يردّون على بعضهم ويخطئون بعضهم، فضلاً عن غيرهم ممّن فارق منهج السلف. لكنّ هذه الشعيرة كسائر الشعائر لها أصولها وضوابطها الّتي يأتي العدل والإنصاف في مقدمتها. ومن أصولها كذلك خاصية التوازن في التطبيق، أعني القدرة على إعطاء كل مخالفة وكلّ مخالف وكلّ حالة وزنها الحقيقي دون مغالاة ولا إجحاف، وإلاّ ظللنا نتصادم بين الغلوّ والإجحاف حتى تضيع الشعيرة في خضم عراك المتعاركين. وقد أثار ذلك المجلس وما دار فيه عندي الرغبة في التذكير بأمرين: الأوّل: «تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أياً كانوا - وألا تُبَرّر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج وتبديل قيمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف؛ فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص» أ. هـ. قال هذا الكلام سيّد قطب رحمه الله: يا للجَمال!! نعم: «المنهج أكبر وأبقى من الأشخاص»، هذا الكلام الجميل يتغنّى به الكثيرون حين يكون (الأشخاص) هم الآخرون، لكنهم يتنكّرون له، ويضربون به عرض الحائط إذا جاء التطبيق إليهم. فكل المناهج غاليها ومتساهلها سلفيّها وخلفيّها تأخذ مداها، وتتأرجح بين التطبيق المتشدد، إلى التساهل حين يكون موضوعها ومحمولها هو الآخر، أمّا حين تقترب الشفرة إلى الذات فحينئذ تنتفض الذات، وتهتزّ النفس الحرون لتقرر بطلان أيّ منهج تخسر بتطبيقه بعض بريقها وزخمها الّذي تكتسب به جماهيريّتها .. إنّها الذات .. حين تصبح محور اجتهادات الفقيه، ودعوة الداعي، وجهاد المقاتل، وسياسة السياسي .. ولذا نلاحظ هذه الأيّام موجة من النكوص والعودة إلى التفتيش في قضايا المنهج لا من أجل تثبيتها والإشادة بها بل لنقضها وبيان خللها .. متى حدث هذا ومتى يحدث؟ يحدث كلّما تبيّن أنّ المنهج يقترب من حدود الذات ويلامس حماها .. قديما كان البعض يتترّس بمنهج توقير العلماء وحماية جنابهم .. وحين وجد أنّ العلماء عارضوه، وتكلّموا فيه إذا نفسه تصيح بين جنباتها أنّ تقديس العلماء ليس من أصول الإسلام .. كثيرون يتكلمون عن حاكمية الشريعة، ويكادون يسطون بمن يخالفهم في جزئيات من المسألة .. لكن حين يُراد تطبيق الشريعة عليهم سيكون في المسألة نظر! وبعضهم يترفع أصلاً عن أن يُحاكم إليها! كثيرون ينادون بإشاعة روح النقد والرد على المخالف في جوّ من الألفة والمودّة، لكن حين يكون النقد موجهاً لهم سيصبح كلّ من نقدهم عدواً لهم.

أصبح الناس يبيعون المنهج، ويتنكرون له مقابل سلامتهم وبقاء زخمهم .. أين من يقول كما قال ابن الزبير: اقتلوني ومالكاً .. واقتلوا مالكاً معي حين أقدّس المنهج، وأدافع عنه لن أضحي به مقابل سلامتي .. حتى وإن استُخدم المنهج ضدّي، حتّى وإن كان المنهج سيفاً يتسلّط به البغاة على أهل الحق، فإنّ الحق يظل حقاً وإن وظّفه الباطل. نعم .. إذا تيقنت أنّي سأكون ضحيّة تطبيق المنهج الحق والإشادة به والدعوة إليه فليكُن، ولتذهب حظوظ النفس إلى الجحيم .. لا يجوز أن يكون المنهج رهناً لرياح التغيير التي تهب علينا من هنا وهناك .. ورحم الله سفيان الثوري إذ قال: «إذا رأيتموني قد تغيرت عن الحال الذي أنا عليه اليوم، فاعلموا أني قد بَدّلتُ». الأمر الثاني: قيل: إنّ ذبابة سقطت على نخلة، فلما هَمّت الذبابة بالانصراف قالت للنخلة: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت النخلة: انصرفي أيتها الذبابة، فهل شعرت بك حينما سقطت عَلَيّ لأستعدّ لك وأنت راحلة عني؟! تذكرت هذا المثل حين أصرّ بعض من كان في المجلس على تضييق حدقة الحوار وتصويبها على من ابتُلي ببغضه، ودون تقليل من قدر الزميل المحتقن فإنّي أقول هذا متذكّراً حجم الخلل الواقع في فهمنا أو تطبيقنا لأصول شرعية عظيمة ومنها أصل هجر المخالف والكلام فيه؛ إذ كثيراً ما نمارس هذه الأصول بلا ضوابط، ممّا يفقدها أثرها، هذا إن لم تعُد بنتائج عكسية أصلاً. فهذا الأصل الشرعي العظيم دخله الخلل من جانبين: أحدهما أنّه كثيراً ما يوُظّف لتفريغ الشحن النفسي لدى الهاجر والمتكلّم؛ إذ يشعر بغيظ وحقد لشخص يخالفه فيفرّغ هذه العواطف السلبية تجاهه عبر هجره والقدح فيه، دون مراعاة لضوابط الهجر الشرعية، وهو في هذا غير مأجور إن لم يكن موزوراً، حتى لو فرض صحة موقفه، كما قال ابن تيمية رحمه الله: «الهجرة الشرعية لابد أن تكون خالصة لله، موافقة لأمره؛ فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً من هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانّة أنها تفعله طاعة لله». والجانب الآخر أنّ الهجر والكلام في المخالف لا يكون ذا فاعليّة إلاّ إذا كان الهاجر ذا مكانة عند المهجور والبيئة التي يعيش فيها، مكانة علميّة أو اجتماعية أو ولاية شرعية أو غير ذلك، ممّا يؤدي إلى تأثّر المهجور بالهجر فيراجع نفسه، أو تتأثر به البيئة فيتابعونه في الهجر، فمن المضحك حقاً أن يمارس الهجر فئات ليس لها في الساحة صدى، وهي تدّعي أنّها تقوم بحماية جناب الشريعة، والذي حصل في مثل هذه الحال أنّ أثر الهجر عاد على الهاجرين أنفسهم، فأصبحوا وحدهم فئة معزولة لا تأثير لهم في الآخرين؛ ففقدوا رافداً من روافد نفع الآخرين، وتركوا الساحة لمن يرونهم مبتدعة، وهذا خلاف مقتضى الفقه الصحيح؛ إذ كثيراً ما تكون المشاركة بالّتي هي أحسن أولى من الهجر والمنابذة دون تفريط في بيان كلمة الحق والإنكار على المخطئ. أخيراً فإنّه كثيراً ما يكون الهجر وممارسته نابعاً من إعجاب الشخص بنفسه وظنّه أنّ له من الوزن ما يحقق به هدفاً تربوياً رادعاً وزاجراً، وتراه يفعل ذلك متقمصاً قميصاً أكبر منه، مع أنّه في الحقيقة لو تدبّر في حقيقة نفسه ووزنه لعرف أنّه يرقص في الظلمة -كما يُقال- إذ ربّما يهجر ويعود عن هجره، ثم يهجر ثمّ يعود، ومع ذلك فإنّ أحداً لم يشعر به حين أقبلَ، كما لم يشعر به لمّا أدبَر.

كسوف العقل

كسوف العقل د. عبدالعزيز العبداللطيف 25جمادى الأولى 1431هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: لو أن أهل الحساب والمشتغلين بالفلك والهيئة اقتصروا في تفسير كسوف الشمس أو خسوف القمر وَفْق ما يعرفونه من أسبابٍ ظاهرةٍ طبعيةٍ لهان الأمر؛ فقيمة المرء ما يحسنه، لكن أن يدَّعوا أن كسوف الشمس ليس سببه ذنوب العباد، ولا أثَر ولا صلة له بمعاصي بني آدم، فذاك ظن بلا علم، وتخرُّص بلا فهم، بل هو جهالة بالعلميات، وقساوة قلب بالعمليات والإرادات، كما هو مبيَّن في السطور التالية - مقولة الفلكيين السالفة قد تجد آذاناً صاغية في عصور غابرة، زمن الصراع بين الكنيسة والدين في أوروبا؛ فتأليه العلم التجريبي لا يتحقق إلا بمحاربة إله الكنيسة وخرافة الدين النصراني المحرَّف؛ فإن أردتَ العلم فانسلخ من تلك العبادة، وكذا العكس ... وهكذا ظل الصراع قائماً بين الدين المحرَّف والعلم في بلاد الغرب. وأما دين الإسلام - وعند مذهب أهل السُّنة والجماعة على سبيل الخصوص - فتصريح المعقولات موافق لصحيح المنقولات؛ فلا عداء مفتعلاً بين العلم والدين؛ فما أثبته العلم التجريبي من حقائقَ يستحيل أن تعارض هذا الشرع التامَّ والدين الخاتم؛ فالشرع أنزله الله - تعالى - والعقل خلقه الله، عز وجل. والأدلة الشرعية والبراهين العقلية يصدق بعضها بعضاً. - قررتِ الأدلة النقلية أن للكسوف أسباباً شرعية في وقوعه وارتفاعه؛ فذنوب العباد من أسباب وقوعه وانعقاده، كما أن الصلاة والصدقة والدعاء والتوبة ... سبب في زواله وارتفاعه؛ فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فانكسفت الشمس فقام النبي "صلى الله عليه وسلم" يجرُّ رداءه حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال "صلى الله عليه وسلم": «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد فإذا رأيتموها فصلُّوا وادعوا حتى يُكشف ما بكم». قال الحافظ ابن حجر: «قوله (آيتان) أي علامتان، (من آيات الله)؛ أي: الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته، أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيده قوله - تعالى -: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 95]». وبيَّن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بطلان مزاعم أهل الهيئة (الفلك)، فقال: «قوله "صلى الله عليه وسلم": (يخوِّف بهما عباده) فيه ردٌّ على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتقدم ولا يتأخر؛ إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف، ويصير بمنزلة الجَزْر والمدِّ في البحر، وقد ردَّ ذلك عليهم ابن العربي وغير واحد من أهل العلم بما في حديث أبي موسى الأشعري؛ حيث قال: «فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة».قالوا: إن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما ذُكِر من أنواع الطاعة يُرجَى أن يُدفَع به ما يُخشَى من أثر ذلك الكسوف». وقال العلامة العيني: «لا خلاف في مشروعية صلاة الكسوف والخسوف، وأصل مشروعيتها الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة: أما الكتاب فقوله - تعالى -: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 95]، والكسوف آية من آيات الله المخوِّفة، والله - تعالى - يخوِّف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله التي فيها فوزهم».

وأخرج الشيخان من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصَلُّوا وتصدَّقوا. ثم قال: يا أمَّة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أَمَته، يا أُمَّة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً». قال الحافظ ابن حجر: «قال الطيبي وغيره: لَمَّا أُمِروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة، ناسب ردعَهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخصَّ منها الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك. وفي الحديث ترجيح التخويف في الخطبة على التوسع في الترخيص؛ لِمَا في ذكر الرخص من ملاءمة النفوس لما جُبلَت عليه من الشهوة. والطبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها». - من أعظم الآفات أن يكذِّب أقوام بما لم يحيطوا بعلمه؛ فكون الكسوف والخسوف له أسباب ظاهرة طبعية قد تُعرَف بالحساب؛ فهذا لا ينفي ما سبق تقريره أن ذنوب العباد وتفريطهم من أسباب انعقاد الكسوف وحصوله؛ فلا مانع من ذلك كله، وأمَّا حصر هذه السببية فيما ادَّعاه أهل الهيئة فهذا قصور في العلم، وضيق في الأفق. فالعلماء المحققون من أهل الإسلام والسُّنة اتسعت عقولهم وأفهامهم؛ فأثبتوا السبب الطبعي والشرعي؛ فابن دقيق العيد يقول: «ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله "صلى الله عليه وسلم": «يخوِّف الله بهما عباده» وليس بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب؛ فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد؛ وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقَها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقاً في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله، تعالى». وتحدث ابن القيم عن سببية الكسوف والخسوف قبل مئات السنين فأثبت السبب الطبعي المعتاد، فقال: «فأما سبب كسوف الشمس فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا، وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعاً من اكتساب النور من الشمس ... ». كما قرر السبب الشرعي قائلاً: «إن الله - سبحانه - يُحدِث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاءً لقوم ومصيبة لهم، ويجعل الكسوف سبباً لذلك؛ ولهذا أمر النبي "صلى الله عليه وسلم" عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله والصلاة والعتاقة والصيام؛ لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبباً لما جعله؛ فَلَولا انعقاد سبب التخويف، لما أمر بدفع موجبه بهذه العبادات. ولله - تعالى - في أيام دهره أوقات يُحْدِث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء، ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به، أو يقلله أو يخففه؛ فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها، اندفع عنه الشر الذي جعل الله الكسوف سبباً له أو بعضه؛ ولهذا قلَّ ما يسلم أطراف الأرض؛ حيث يخفى الإيمان، وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف، وتسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة، والقيام بما جاءت به الرسل، أو يقلُّ فيها جداً». كما قرر أيضاً أنه لا تناقض بين حساب الكسوف، وبين الفزع إلى الصلاة والدعاء والصدقة، والذي هو أنفع للأمة وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وحساب الكسوف.

- وإذا تقرر أن للكسوف سبباً يُعرف بالحساب، وحكمةً إلهية في تخويف العباد، فلا يُظَن أن ما جاءت به السنَّة في الكسوف يعارض معرفة وقت الحساب كما حرره ابن تيمية بقوله: «وما أخبر به النبي "صلى الله عليه وسلم" لا ينافي كون الكسوف له وقت محدود يكون فيه؛ حيث لا يكون كسوف الشمس إلا في آخر الشهر ليلة السرار، ولا يكون خسوف القمر إلا وسط الشهر وليالي الأبدار. ومن ادَّعى خلاف ذلك من المتفقهة أو العامة؛ فلعدم علمه بالحساب». كما أن كسوف الشمس سبب في حوادث أرضية؛ فالكسوف سبب للشر وليس مجرد اقتران كما تقوله الجهمية ولا يسوغ أن يُدَّعى أنه لا أثر لشيء من الكواكب العُلْويَّات في السفليات مطلقاً، كما بيَّنه ابن تيمية في غير موطن وأخيراً: فإن معارضة الرسل - عليهم السلام - توجب فساداً في العقل، وسوءاً في الفهم، وكلما كان الرجل عن أتباع الرسول أبعد، كان عقله أقلَّ وأفسد. فدعوى أن كسوف الشمس مجرد أمر معتاد يُعرف بالحساب، لا تنفك عن جهالة بالعلم، وفظاظة في القلب؛ فما ينشره أهل الفلك من أخبار الكسوف هذه الأيام، قد أعقب بلادةً في الوجدان، وتهويناً لشأن هذه الحوادث العظام. ولئن كسفت الشمس لحِكَم إلهية، وأسباب قدرية، فلقد اعترى عقولَ أهل الفلك نوع من الكسوف؛ لضعف الاستجابة لله - تعالى - ورسوله "صلى الله عليه وسلم"، وظهور الأهواء، وكما قال الشاعر: إنارة العقل مكسوفٌ بطوعِ هوى ** وعقلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويرا

الموقف الشرعي الصحيح من وفاة أهل الضلال

الموقف الشرعي الصحيح من وفاة أهل الضلال (محمد عابد الجابري، مثالاً) موقع الدرر السنية - قسم دراسات الواقع 19 جمادى الأولى 1431هـ إن المسلم الحق كما يحزن لموت العلماء والدعاة إلى الله، يفرح بهلاك أهل البدع والضلال، خاصة إن كانوا رؤوساً ورموزاً ومنظرين، يفرح لأن بهلاكهم تُكسر أقلامُهم، وتُحسر أفكارُهم التي يلبِّسون بها على الناس، ولم يكن السلف يقتصرون على التحذير من أمثال هؤلاء وهم أحياء فقط، فإذا ماتوا ترحموا عليهم وبكوا على فراقهم، بل كانوا يبيِّنون حالهم بعد موتهم، ويُظهرون الفرح بهلاكهم، ويبشر بعضهم بعضاً بذلك. ففي صحيح البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم عن موت أمثال هؤلاء: ((يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)) فكيف لا يفرح المسلم بموت من آذى وأفسد العباد والبلاد. لذلك لما جاء خبر موت المريسي الضال وبشر بن الحارث في السوق قال: لولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود، والحمد لله الذي أماته، .. (تاريخ بغداد: 7/ 66) (لسان الميزان: 2/ 308) وقيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد، عليه في ذلك إثم؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟! (السنة للخلال: 5/ 121) وقال سلمة بن شبيب: كنت عند عبد الرزاق -يعني الصنعاني-، فجاءنا موت عبد المجيد، فقال: (الحمد لله الذي أراح أُمة محمد من عبد المجيد). (سير أعلام النبلاء: 9/ 435) وعبد المجيد هذا هو ابن عبد العزيز بن أبي رواد، وكان رأساً في الإرجاء. ولما جاء نعي وهب القرشي -وكان ضالاً مضلاً- لعبد الرحمن بن مهدي قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه. (لسان الميزان لابن حجر: 8/ 402) وقال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 12/ 338) عن أحد رؤوس أهل البدع: (أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره، ثم نقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة، وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله) هكذا كان موقف السلف رحمهم الله عندما يسمعون بموت رأسٍ من رؤوس أهل البدع والضلال، وقد يحتج بعض الناس بما نقله الحافظ ابن القيم في (مدارج السالكين: 2/ 345) عن موقف شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية من خصومه حيث قال: (وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ... ) ومن تأمل ذلك وجد أنه لا تعارض بين الأمرين فمن سماحة شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا ينتقم لنفسه ولذلك عندما أتاه تلميذه يبشره بموت أحد خصومه وأشدهم عداوة وأذى له= نهره وأنكر عليه، فالتلميذ إنما أبدى لشيخه فرحه بموت خصمٍ من خصومه لا فرحه بموته لكونه أحد رؤوس البدع والضلال. وبالأمس توفي أستاذ الفلسفة ومنظر العقلنة محمد عابد الجابري، وفرح بوفاته أهلُ الإيمان، وكيف لا يفرحون بوفاة من هذه أفكاره: • جوَّز حدوث الخطأ والنقصان عند جمع القرآن بدعوى أن جامعيه غير معصومين وأنه تم تدارك بعض هذا النقص. (مدخل إلى القرآن الكريم: ص 233) • يرى أن قطع يد السارق غير ملائم في الوقت الحاضر لردعه عن تكرار السرقة بل الملائم هو السجن. ويرى إسقاط حد الزنا وشرب الخمر والقذف والاكتفاء بالسجن. لأن الحدود ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة للردع والزجر. (وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر: ص 60 و 73) • وهو أحد رواد ورموز العقلنة ويدعو إلى: (الدفع بالفكر العربي في اتجاه العقلنة) (تكوين العقل العربي: ص 52) • ويقول: (لأن موضوعنا هو العقل، ولأن قضيتنا التي ننحاز لها هي العقلانية) (تكوين العقل العربي: ص7)

• يدعو إلى تبني فكر أرسطو ومنهج الفارابي ويعتبره مؤسس العقلانية في الإسلام. (بنية العقل العربي: ص384) • يثني على ابن رشد الفيلسوف ويعظمه (بنية العقل العربي: ص 323) • ويثني على المعتزلة ويعتبرهم أصحاب رؤية عالمية في الفكر الإسلامي. (بنية العقل العربي: ص177) • وفي المقابل يلمز أهل السنة والمنهج السلفي بعبارات منها: النصيون، أصحاب سلطة الماضي وسلطة العادة، المقلدون .. (بنية العقل العربي: ص 53،133، 562) فمن هذا حاله، ألا يُفرح بموته؟! أوَ ليس في موته وهلاكه -على الأقل- توقف هذا السيل الجارف من البدع والضلال؟ وهو ما يحتاج من العلماء والدعاة والمفكرين الإسلاميين -بحق- الغيورين على دينهم ردحاً من الزمن لإزالة حثالة أفكاره التي خلفها في كثيرٍ من كتبه. وفي المقابل، ومما يؤسف له، أنك تجد من دعاة اليوم من يترحم عليه ويأسف ويحزن على موته بل من يدعو الله أن يخلف على المسلمين مفكراً مثله، ومن كان هذا حاله ويعرف فكر الرجل فوالله يُخشى على دينه، لأنه ما من مسلم يخشى الله ويغار على هذا الدين إلا ويفرح بهلاك من ببقائه هدم الإسلام، ومن بموته ينكسر معول من معاول هذا الهدم. نسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يثبتنا على دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

توحيد (الإصلاحيين)

توحيد (الإصلاحيين) أحمد عبد العزيز القايدي 20 جمادى الأولى1431هـ من النادر أن تجد في خطاب (الإصلاحيين) حديثا عن الغاية التي لأجلها بعثت الرسل (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (التوحيد)، فلو أردت أن تحصي عدد ورود كلمة "التوحيد" "الإصلاح" "الحرية" "الديمقراطية" لكان نصيب "التوحيد" صفراً، والمفردات الأخرى تجدها بالمئات فهم موحدين في خدمة تلك القضايا والمفردات. (الإصلاحيون) أنواع في تعاملهم مع التوحيد، منهم من لديه مشكلة حقيقة مع الدعوة إلى التوحيد ولا يرى لها أهمية بل يراها مشكلة تفرق الناس، ومنهم من أشغله هذا الضجيج حول تلك المفردات وأخذه بريقها فنسي لماذا وجد على وجه الأرض، ومنهم من يظن الأمر مجرد تبادل أدوار في سد حاجات الأمة هذا اليوم واختار لنفسه أحدها وهذا الأخير أكثرهم غفلة وأقلهم فتنة. فهم مختلفون في المنطلق وأمور أخرى لكنهم متفقون في شيء واحد، هو تسفيه الشيوخ والدعاة، ويعدون أنفسهم أعقل وأفهم لدنيا الناس من غيرهم، ومؤخرا كتب أحدهم مقال ردا على الشيخ الدكتور عبد الرحيم السلمي كتب فيه واصفاً الشيخ (أي عقلية كهذه العقلية) (العقلية العجيبة). معالجة (الإصلاحيين) لمسألة الحريات معالجة معوجة؛ فهم لم يعالجوها كما عالجها الإسلام، وإنما نظروا في تعاطي الغرب مع مشاكل الظلم والفساد فوجدوه شيخ الحريات وإمامها، فاستنسخوا كثيراً من حلوله، وجعلوها خطابا لهم يقاتلون ويفارقون عليه، ومصطلحهم الأعظم (الديمقراطية) مصطلح مسروق لا ناقة لهم فيه ولا جمل، فهم عقول فارغة لم تستطع حل مشاكلها بنفسها فاستنسخت في عقولها أفكار قوم آخرين وصرفوا أوقاتهم في خدمة تلك الأفكار، منهم حصيف يقبض مقابل تلك الخدمة، ومنهم غافل يظنها له وفيها خلاصه فيناضل من أجلها بدون مقابل، وأكثرهم حمقا من أقنع نفسه بأنها أفكار إسلامية لابد أن يدافع عنها. لم يكن لدى الرعيل الأول نزاع في أولوية التوحيد على الإصلاح السياسي والمالي والحقوق فعندهم التوحيد وتعبيد الناس لله أهم من أي أمر آخر. عندما وقف الحبيب صلى الله عليه وسلم في مكة صدعا بالدعوة لم يدعو إلى ديمقراطية أو حقوق مدنية وإنما دعا إلى التوحيد، وبلال وهو يعذب في بطحاء مكة لم يكن يصيح فيهم حريتي ... حريتي وإنما أحد ... أحد، وعمار عندما كان يعذبه مشركو قريش لم يكن يطالب بحقوق الطفل أو المراهق وإنما كان يدعوهم إلى التوحيد، وأمه لم تكن تذكرهم بحقوق المرأة وجرم الاعتداء عليها وإنما كانت تدعوهم إلى التوحيد. وعندما قدم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يشكل مجلس وحكومة منتخبين - غاية مبتغى الإصلاحيين- وإنما بنى المسجد لأن كل إصلاح وخير ينطلق منه، وأبو بكر لم ينشغل بانتخابات مجلس تشريعي أو بلدي وإنما انشغل بالجهاد والممتنعين عن الزكاة. إن إفراغ الكثير من الوقت في الحديث عن قضايا الفساد المالي والسياسي وإعطاءها أكبر من حجمها لا فائدة منه، فالناس تعرف بفطرتها الظلم والاستبداد وحقوقها عندما تسلب منها أو لا تعطى لها فمجالس عامة الناس لا تكاد تخلو من الحديث عن هذه الأمور فهي ليست بحاجة لمن يخبرها بحقوقها، لكنها بحاجة إلى من يقودها في الوصول إلى تلك الحقوق وهذا بحاجة لرجال أصحاب نفس وروح قوية وهذا ما لا يملكه كثير من الإصلاحيين اليوم، فهم تركوا مدارسهم القديمة ضجرا من الصراع مع النفس والشهوة والناس فكيف بصراع سياسات وأنظمة. حقيقة الخلاف مع القوم ليست حول الحقوق المدينة والإصلاح السياسي والمالي فلو كان (الإصلاحيون) يدافعون عنها بمنهج إسلامي قويم ولا يحتقرون وينتقصون من يعتني بأبواب الشريعة الأخرى كالتوحيد وأبواب العبادة والمعاملات وقضايا المرأة لم يكن في الأمر إشكال وخلاف بل هو مما يدعى إليه ويحتسب فيه الأجر عند الله وغير خاف على أحد بأن من كسر الباب ودفع الناس للحديث عن هذه الحقوق هم رموز الصحوة فالناس عالة عليهم في هذا الباب، ولكن الأمر يصبح مشكلة عندما يحتقر غيرها وتكون العداوة والمخاصمة قائمة على فكرة مسروقة.

مقترح لصد الهجمة الليبرالية

مقترح لصد الهجمة الليبرالية إبراهيم بن محمد الحقيل 17 جمادى الثانية1431هـ لا تخطيء عين المتابع للشأن السعودي الهجمة الليبرالية على الإسلام وحملته ودعاته ومؤسساته، مستخدمين كل الطرق والوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافهم التغريبية سواء كانت وسائلهم مشروعة أم غير مشروعة .. أخلاقية أم غير أخلاقية، فالافتراء والكذب والغش والتدليس والبهتان من الواجبات في الدين الليبرالي العربي -وخصوصاً السعودي- إذا كانت تحقق أهدافهم، والانقلاب على المبادئ الليبرالية المعلنة من نحو: مصادرة الرأي الآخر، وتكميم الأفواه، وإقصاء الخصوم، وتحريض القوى السياسية الداخلية والخارجية على استئصالهم يعد من الفروض إذا كان يحقق المقصود. وكل هذه الأخلاق الرذيلة، والقيم المنحطة التي تخلق بها الليبراليون السعوديون في معركتهم مع دين الإسلام وحملته ودعاته وعلمائه تصبح من فضائل الأخلاق، ومن أوجب الواجبات على طريقة مكيافيلي ونيتشة ووليم جيمس وجون ديوي وأمثالهم من رموز التسويغية والنفعية. ومن المتفق عليه عند الجميع -عدا الليبراليين وهم يكابرون- أن مجتمعنا السعودي ينحاز إلى أهل العلم والدعوة، ويثق بهم، ولا يقبل قول غيرهم، حتى أرباب الشهوات ممن لا يحملون فكراً منحرفاً تراهم يقفون مع أهل العلم والدعوة والحسبة ولو كانوا يضيقون عليهم في شهواتهم المحرمة. ومن الملاحظ أن الليبراليين ومن عاونهم في إفسادهم يراهنون على فئة الصامتين-وهي الأكثر- ويستغلون صمتها في الكذب عليها، ويستخدمون سلبيتها في تحقيق أهدافهم؛ وذلك حين يزعمون أن من يعارض مشروعاتهم التغريبية هم فئة قليلة من المتشددين فقط، مصورين للناس وللغربيين أن المجتمع كله يقف معهم، وأن إرهاب المؤسسات الدينية، وتطرف العلماء والدعاة والمحتسبين هو الحائل دون عجلة التحديث والتطوير على النمط الغربي المبيح للمحرمات، مدعين أنهم فئة قليلة لا تمثل المجتمع، ويستدلون على ذلك بصمت كثير من الناس، ووقوفهم من معركة الليبراليين مع الإسلام موقف المتفرجين. والمقترح الذي أرى أنه ناجع جداً ويضرب التيار الليبرالي في مقتل، ويؤجل مشروعاته التغريبية هو إنطاق الفئة الصامتة من المجتمع، وتحريكها من السلبية إلى الإيجابية؛ فإن الأمر يتعلق بدينهم وأخلاقهم وبيوتهم ونسائهم وبناتهم وأبنائهم، فكم عدد الأخيار والغيورين والمنحازين لهم من الرجال والنساء، وخصوصاً الموظفين والأكاديميين في الكليات الشرعية، وفي الكليات التجريبية، وفي التعليم العالي من طلاب الجامعات وفي التعليم العام من المدرسين والمدرسات، وكم سيكون عدد المقالات لو كتب كل واحد منهم مقالاً كل أسبوع أو كل شهر يرد فيه العدوان عن الدين وحملته والتزم بذلك؟! بحيث إذا نُشِر مقالٌ واحد للمفسدين من الليبراليين تنتهك فيه حرمة الشريعة، أو يُنال من حملتها، أو أَنطقوا من يحرف الأحكام ويبدلها لهم كُتبت مئات المقالات المنكرة عليه في حملة احتسابية تلقائية تتدفق عبر الإنترنت، منها ما يناقش فكرته عقلاً ويدحضها، ومنها ما يبين حكمها الشرعي، ومنها الوعظي الذي يعظ كاتبها ويعظ من يقرءون له، وأقلها من يتخذ موقفاً رافضاً لها, ولو أن يكون المقال في صفحة واحدة، ويذكر الكاتب اسمه الصريح وعمله أو مكان دراسته؛ لقطع الطريق على الليبراليين بادعاء الأسماء المجهولة؛ لأنهم تخلقوا بالكذب والافتراء، وكان بعضهم يكتبون بأسماء نسائية مستعارة، ويظنون أن الناس مثلهم فيرمونهم بدائهم. ولذلك فوائد عدة من أهمها:

1 - براءة الذمة بإنكار المنكر، والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، وأي عدوان أعظم من عدوان الليبراليين على جلال الله تعالى وعلى شريعته الغراء، وحملتها الأخيار؟! 2 - إعطاء صورة حقيقية عن المجتمع السعودي تظهر تدينه وانحيازه للعلماء والدعاة، وتعري الليبراليين الذين ملؤوا الدنيا ضجيجياً وكذباً مدعين أن الناس معهم. 3 - إسقاط الرموز الليبرالية، وكسر معنوياتها؛ فإن المقالات الكثيرة إذا تواردت على الكاتب الذي قال منكراً أرهبته، وجعلته يعيد حساباته في مواجهة مجتمع كامل، ويكفي دليلاً على ذلك انزعاج الليبراليين من الإنترنت؛ لأنهم عاجزون عن السيطرة عليه، ويسمون من يناهضونهم فيه: خفافيش الظلام. مع محاولاتهم الدؤوبة لإغلاق المواقع الكاشفة لفكرهم، ولو أحصينا المقالات التي تنتقد الواحد منهم حينما يقول منكراً لوجدناها قليلة لا تبلغ في بعض الأحيان عشر مقالات، ومع ذلك تؤثر فيهم كثيراً، فكيف لو أُغِرقت شبكة الإنترنت بمئات المقالات بل بالآلاف على كل منكر يقولونه، وبأقلام متعددة ومتجددة، بأسماء صريحة؟! 4 - تعطيل المشروعات التغريبية التخريبية للبلاد والعباد؛ ذلك أن التجاذب السياسي الداخلي ليس يخفى على متابع، وحجة التيار التغريبي أن الناس لا يمانعون من الإصلاح على الطريقة التغريبية، كما أن حجة الممانعين من التيار الآخر أن الوقت لا يناسب ذلك، أو أن بعض الخطوات التغريبية لا تناسب المجتمع. وإغراق الإنترنت بالمقالات المناهضة للتغريب، ولكتاب السوء في الصحافة يقوي تيار الممانعين، ويثبت نظريتهم، ويعطل المشروع التغريبي أو على الأقل يؤجله. 5 - تخفيف ضغط القوى الخارجية، فمن المعلوم أن الليبراليين في دعوتهم للتغريب، وضغطهم على الحكومة في تمرير مشروعاتهم وتبنيها ينطلقون من توجيه المؤسسات الغربية ودعمها لهم ومتابعتها لمطالبهم، والليبراليون عملاء فيها إنْ بالأُجرة والوعود المعسولة بالتمكين لهم في البلاد، وإنْ بالتطوع لخدمة الباطل وتدمير البلاد وإفساد العباد. وهذه المؤسسات الغربية التي تدفع عملية التغريب في المملكة تتابع ما يجري في المجتمع السعودي من صراع فكري، وتجاذب سياسي، وترسم منهجيتها وخططها بناء على ذلك، وإغراق الإنترنت بالمقالات المناهضة للمشروع التغريبي يجعل هذه المؤسسات تعيد حساباتها، وتخفف الضغط، ولربما ضغطت بالاتجاه الآخر ضد الليبراليين؛ للمحافظة على المصالح الغربية وخاصة الأمريكية؛ ولئلا يؤدي تماديهم إلى انتحار مشروعهم. لا بد أن نعلم أن أمريكا بعد انفرادها بزعامة العالم تتعامل مع الدول الأخرى وفق خطين متوازيين: أولهما: تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية. ثانيهما: تسويق فكرها الرأسمالي الليبرالي، ومحاولة فرضه على الجميع. فإذا حصل تعارض بين هذين الركنين في السياسة الأمريكية فإن تحقيق مصالحها يقدم على تسويق فكرها، وهو ما كانت تتعامل به أمريكا مع المملكة قبل انفرادها بزعامة العالم. وبما أن العصابة الليبرالية في المملكة تستمد قوتها من المؤسسات الغربية وبالأخص الأمريكية فلا بد من الضغط الشعبي عبر الكتابة على التوجه التغريبي داخل المملكة؛ لتخفف أمريكا من ضغطها، ولتتخلى عن سياستها في دعم الأقلية الليبرالية المنحرفة على حساب الأكثرية، وأحسب أن إغراق الإنترنت بالمقالات المناهضة للمشروع التغريبي سيحقق الضغط الشعبي بشكل كبير، ويقنع الراصد الغربي والأمركي بكف عملائه.

لقد كانت سياسة أمريكا قبل ثلاثة عقود تتجه إلى المصالحة مع الحكومات التي تتعامل معها، ولا تلتفت إلى الشعوب؛ لأن تعاملها مع الحكومات يحقق لها مصالحها، لكن بعد سقوط من لا يتوقع سقوطهم في ثورات شعبية عارمة -شاه إيران وتشاوشيسكو رومانيا- راجعت أمريكا حساباتها تجاه الشعوب، وكانت تحرص على الاستقرار في الدول التي لها فيها مصالح، وتحاول كسب شعوبها .. وتسويق القيم الأمريكي، وضخها لقنوات الترفيه المجانية، وإنشاء قنوات لها في المنطقة، ودعم القنوات العربية الموالية لها يدل على هذا التوجه؛ بقصد صياغة العقول من جديد، وإمالتها للثقافة الأمريكية أو على الأقل تحييدها عن معارضتها .. ولا يمكن أن تغامر أمريكا بمصالحها لحساب تسويق فكرها كما يدل على ذلك تاريخها وسياستها. وإذا كان ذلك كذلك فإن مؤسسات الرصد الغربية عامة والأمريكية خاصة إذا رأت الغضب الشعبي عن طريق إغراق الإنترنت بالمقالات المناهضة للتوجه التغريبي في المملكة، ستقدم مصالحها على تسويق فكرها، وتخفف من ضغوطها التغريبية، وتتخلى عن أتباعها، أو تأمرهم بتخفيف حملتهم على الإسلام وعلمائه ودعاته. فالضغط الشعبي عن طريق الكتابة له أثر كبير في تغيير القناعات، وتعطيل المشروعات التغريبية، ودحر من يقوم عليها من المفسدين. والملاحظ أن العصابة الصحفية حين تتآلب على عالم أو داعية، وتؤلب القوى السياسية الداخلية والخارجية عليه في عشرات المقالات بتنسيق تام، وحملات منظمة تستهدف فيها شخصيات مؤثرة في مقاومة المد التغريبي فإنها تُقدِّم هذا الافتراء للقوى المؤثرة داخلياً وخارجياً على أنه مطالب شعبية لتكميم أفواه المعارضين للمشروع التغريبي وإقصائهم واستئصالهم، وفي ضخ مئات المقالات المناهضة لذلك فضح للصحافة، وإثبات أنها لا تمثل إلا نفسها، بدليل أن الحملة المناهضة لها أقوى بكثير مما تنشره في صحفها .. إننا -يا معشر القراء والقارئات- نعيش في مرحلة مفصلية لها ما بعدها فإما أن ينجح الليبراليون في تمرير مشروعاتهم وفرضها على الناس بالقوة كما حاولوا في السينما والاختلاط -ولا يزالون- وإما أن يندحر مشروعهم ويسقط تحت الرايات الاحتسابية التي انبرى لها عدد من العلماء الربانيين والدعاة المخلصين لدينهم وأمتهم وبلادهم، والأخيار الذين يؤيدونهم .. والليبراليون مستميتون في استغلال الأوضاع الداخلية والخارجية لتحقيق ما يريدون بأسرع وقت، والمسئولية ليست خاصة بفئة من الناس دون أخرى، بل يجب على المجتمع كله حماية بيضة الإسلام، والمحافظة على سمت المجتمع ومظهره الديني. ماذا سيقول الصامتون لله تعالى يوم القيامة وهم يستطيعون أن يذبوا عن الإسلام بأقلامهم وألسنتهم؟! وهل ينفعهم ندمهم وأسفهم وأساهم حين تخرج بناتهم عن طوعهم، فيُخلع حجابهن، ويُغرب عقلهن، ويُعتدى على عفافهن وهم لا يملكون حلية تجاههن؟! ولا يقولن أحد لن يقع ذلك؛ ففي مصر والشام ودول المغرب من المحافظة على الحجاب ومنع الاختلاط، وصلاح المجتمع قبل مئة سنة ما يوازي مجتمعنا الآن، بل ويفوقه، ثم ماذا كان حالهم حين خذل الناس علماءهم ودعاتهم في مقاومة المد التغريبي الذي أفسد دينهم وبيوتهم ونساءهم، ولم يصلح لهم دنياهم؟! فهم في الفقر والحاجة والتخلف يرسفون، وما أشد ضياع الدين والدنيا على الناس، وهو ما يسعى إليه الليبراليون. ويمكن أن يُعزى صمت الأكثرية إلى أسباب، أهمها: 1 - الخوف من الإرهاب الليبرالي الذي حول الصحافة إلى محارق نازية لمن يقف في وجوههم أو يناقش أفكارهم فيختار كثير من الناس السلامة على المواجهة.

2 - أن من يقومون بالدفاع عن بيضة الإسلام، ويكشفون حقيقة المشروعات الليبرالية التغريبية من العلماء والدعاة والكتاب الغيورين قد أدوا فرض الكفاية، ورفعوا الحرج عن البقية. 3 - عدم محبة كثير من الناس للكتابة، أو ضعفهم فيها، وبعضهم يريد أن يكتب شيئاً عالياً جداً أو لا يكتب أبداً، أو الكسل عن ذلك أو التسويف. 4 - دعوى بعضهم أنه لو كتب لا تنشر الصحف والمجلات له. وكل هذه تعليلات عليلة، وأسباب لن ترفع الإثم عن أصحابها، ولن تعذرهم أمام الله تعالى وأمام أمتهم، وأمام التاريخ. ومن أهل الإسلام فئة الأحلام الوردية، ودعاة التقارب مع كل أحد إلا مع إخوانهم، والمحذرين من الاصطفاف مع أي الفريقين، وأكثر مواقفهم سلبية جداً، وتصب في مصلحة التيار الليبرالي في الغالب، وليتهم سكتوا حين لم يحسنوا أن ينطقوا بالحق. تفعيل الضغط الشعبي: قد يقتنع كثير من قراء هذا المقال بما فيه، ويريدون خطوات عملية في هذا السبيل، والذي أراه: 1 - أن يلتزم كل واحد من قرائه بكتابة مقال كل أسبوع مناهض للمشروع التغريبي، سواء كان تأصيلاً أم رداً، أم بياناً لخطر خطوة تغريبية، أم نصرة لعالم أو داعية ممن نالوا منه. 2 - إذا جهر أحد الصحفيين بمنكر من القول يتطاول فيه على الشريعة أو حملتها فليسجل موقفاً بمقالة ولو قصيرة من صفحة واحدة أو أكثر وينشرها. 3 - يلتزم كل واحد باستكتاب عشرة من معارفه سواء كانوا أكاديميين أم موظفين أم مدرسين أم طلاب جامعات رجالاً ونساء، ويفضل إن كان الموضوع المثار يخص المرأة أن يغلب جانب النساء في الكتابة فيه؛ لأن القضية تخصهن. وعليه أن يتابعهم في كتابة المقالات ويسعى في نشرها لهم، ويشجعهم بعد النشر بنقل التعليقات على مقاله وأصدائه. ومع الوقت ستنتقل مقاومة المد التغريبي من مرحلة الفردية إلى الجماعية، وتتحول من كونها عبئاً ملقى على عاتق قلة من العلماء والدعاة والمحتسبين لتصبح ثقافة مجتمع كامل. 4 - تفعيل نشر المقالات في أكثر المنتديات الإسلامية والمنتديات العامة كالمنتديات الثقافية والنسائية والمجلات الألكترونية بل حتى منتديات الجامعات والمدارس والمدن والقبائل وغيرها، ولا سيما أن أكثر المنتديات لا يتطلب تنزيل الموضوع فيها سوى التسجيل المجاني، وبإمكان الواحد أن يسجل في مئة منتدى، وينزل مقالاته فيها، وحبذا لو ينبري لذلك طائفة ممن يتقنون التعامل مع الانترنت، ومن فوائد ذلك: أ- إطلاع أكبر عدد ممكن من القراء عليه، وحشدهم ضد التغريب والتخريب في بلادنا. ب- قطع الطريق على سياسة حجب المواقع التي تنشر المقالات المناهضة للمشروع التغريبي، أو اختراقها وتدميرها؛ لأن مواقع النشر إن كانت محدودة أمكن للمفسدين السيطرة عليها، وأما إن كانت كثيرة جداً فلا يمكن السيطرة عليها. ج- تعويد الناس على ثقافة الاحتساب؛ لأن المقالات المحتسبة على المفسدين إذا غزت كل المنتديات جرأت الخائفين، ونشطت المتثاقلين، وقوت عزم الخائرين على المشاركة والاحتساب. 5 - عمل دعايات للمقالات المميزة والقوية، وذلك بنشر روابطها في المواقع التي لم تنشر فيها، وتوزيعها عن طريق القوائم البريدية على أوسع نطاق. وليصطف أهل الحق ضد أهل الباطل، وليعلنوا البراءة من مشروعاتهم التخريبية التي تُسرَّب للمجتمع باسم الإصلاح، ولنحذر من أن نكون غثاء كغثاء السيل. والله الموفق.

حديث: ((رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء))

حديث: ((رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء)) القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية ومراجعة المشرف العام 9 جمادى الآخرة 1431هـ يتهم بعض المبتدعة شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه مجسِّم ويستشهدون بتصحيحه لحديث: ((رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء)) فهل حقاً صحح شيخ الإسلام هذا الحديث؟ وهل هو حديث صحيح؟ وللجواب على هذا السؤال أقول: هذا الحديث ورد من طريقين وبألفاظ مختلفة. الطريق الأول: من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. ومن ألفاظه: ((أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ، قدميه، أو قال: رجليه في خضرة)) ((رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء)) ((رأيت ربي في صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراء)) وهذا الحديث من هذا الطريق صححه جمعٌ من أهل العلم، منهم: الإمام أحمد (المنتخب من علل الخلال: ص282، وإبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 139) وأبو زرعة الرازي (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 144) والطبراني (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 143) وأبو الحسن بن بشار (إبطال التأويلات 1/ 142، 143، 222) وأبو يعلى في (إبطال التأويلات 1/ 141، 142، 143) وابن صدقة (إبطال التأويلات 1/ 144) (تلبيس الجهمية 7/ 225) وابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية 7/ 290، 356) (طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- 1426هـ) وضعفه ابن الجوزي في (العلل المتناهية: 1/ 36) واستنكره الذهبي كما في (سير أعلام النبلاء 10/ 113) وقال السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى 2/ 312): (موضوع مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم) والطريق الآخر: من حديث مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب مرفوعاً. ومن ألفاظه: 1 - ((رَأَيْتُ رَبِّي فِي المنام في صورة شاب مُوَقَّرٍ فِي خَضِرٍ، عليه نَعْلانِ من ذهب، وَعَلَى وجهه فراش مِنْ ذهب)). 2 - ((يذكر أنه رأى ربه عز وجل في المنام في صورة شاب موفر في خضر على فراش من ذهب في رجليه نعلان من ذهب)). 3 - ((أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة، قدماه في الخضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب)). وهذا الحديث صححه الحسن بن بشار وأبو يعلى كما في (طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 2/ 59). وضعفه واستنكره جمعٌ من أهل العلم، منهم: الإمام أحمد (المنتخب من علل الخلال لابن قدامة ص284) ويحي بن معين (تاريخ بغداد للخطيب: 13/ 311) والنسائي (العلل المتناهية لابن الجوزي: 1/ 30) وابن حبان في (الثقات: 5/ 245) والسبكي في (طبقات الشافعية الكبرى 2/ 312) وابن حجر في (تهذيب التهذيب 10/ 86) والسيوطي في (اللآلئ المصنوعة 1/ 30) والشوكاني في (الفوائد المجموعة ص447). وكلُّ من صحح الحديث أثبت أنه رؤيا منام لا رؤيا عين، لذلك فلا إشكال ولا مطعن لأهل الأهواء فيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية: 7/ 229): ((وكلها (يعني روايات الحديث) فيها ما يبين أن ذلك كان في المنام وأنه كان بالمدينة إلا حديث عكرمة عن ابن عباس وقد جعل أحمد أصلهما (أي حديث ابن عباس وأم الطفيل) واحداً وكذلك قال العلماء)) وقال في (بيان تلبيس الجهمية: 7/ 194): (وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام) وله رحمه الله كلامٌ صريحٌ في أنَّ الله لا يُرى في الدنيا بالأبصار فقال في (منهاج السنة: 2/ 313) في معرض ردِّه على المجسِّمة: (أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه يُرى في الدنيا بالأبصار)

وقال في (الوصية الكبرى: ص77): (وكل من قال من العُبَّاد المتقدمين أو المتأخرين أنه رأى ربه بعين رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان) وشيخ الإسلام ابن تيمية ليس وحده الذي نفى أن يكون في الحديث إشكال لأنه رؤيا منام، بل ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم. ومن هؤلاء: 1 - الذهبي في (ميزان الاعتدال) (1/ 594) قال: (وهذه الرؤية رؤيا منام إن صحت.) 2 - السيوطي في (اللآلئ المصنوعة) (1/ 34) قال: (وهذا الحديث إن حُمل على رؤية المنام فلا إشكال) 3 - العجلوني في (كشف الخفاء) (1/ 437) نقل كلام السيوطي ولم يتعقبه. 4 - المعلِّمي كما في التنكيل (1/ 253) قال: (إن لهذا الحديث طرقاً معروفة في بعضها ما يشعر بأنها رؤيا منام، وفي بعضها ما يصرح بذلك، فإن كان كذلك اندفع الاستنكار رأساً) وغيرهم قال الإمام الدارمي في (النقض على المريسي: 2/ 738) عند كلامه على حديث: ((أتاني ربي في أحسن صورة)): (وإنما هذه الرؤية كانت في المنام، وفي المنام يمكن رؤية الله تعالى على كل حال وفي كل صورة). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية 1/ 325 - 328): ((لفظ الرؤية وإن كان في الأصل مطابقاً فقد لا يكون مطابقاً كما في قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} وقال: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} وقد يكون التوهم والتخيل مطابقا من وجه دون وجه فهو حق في مرتبته وإن لم يكن مماثلا للحقيقة الخارجة مثل ما يراه الناس في منامهم وقد يرى في اليقظة من جنس ما يراه في منامه فإنه يرى صوراً وأفعالاً ويسمع أقوالا وتلك أمثال مضروبة لحقائق خارجية كما رأى يوسف سجود الكواكب والشمس والقمر له فلا ريب أن هذا تمثله وتصوره في نفسه وكانت حقيقته سجود أبويه وأخوته كما قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} وكذلك رؤيا الملك التي عبرها يوسف حيث رأى السنبل بل والبقر فتلك رآها متخيلة متمثلة في نفسه وكانت حقيقتها وتأويلها من الخصب والجدب فهذا التمثل والتخيل حق وصدق في مرتبته بمعنى أن له تأويلاً صحيحاً يكون مناسباً له ومشابهاً له من بعض الوجوه فإن تأويل الرؤيا مبناها على القياس والاعتبار والمشابهة والمناسبة ولكن من اعتقد أن ما تمثل في نفسه وتخيل من الرؤيا هو مماثل لنفس الموجود في الخارج وأن تلك الأمور هي بعينها رآها فهو= مبطل، مثل من يعتقد أن نفس الشمس التي في السماء والقمر والكواكب انفصلت عن أماكنها وسجدت ليوسف وأن بقراً موجودة في الخارج سبعاً سماناً أكلت سبعاً عجافاً فهذا باطل.

وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك وإلا كان بالعكس قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجابا بينه وبين الله وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم وما أظن عاقلا ينكر ذلك فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره وهذه مسألة معروفة وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام ولكن لعلهم قالوا لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام فهذا مما يقوله المتجهمة وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه. وقول من يقول ما خطر بالبال أو دار في الخيال فالله بخلافه ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا كان محملاً صحيحاً فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته وإن كان ما رآه مناسبا مشابها لها فالله تعالى أجل وأعظم)). انتهى كلامه فكون شيخ الإسلام أو غيره يصحح حديث: (رأيت ربي في صورة شاب أمرد ... ). لا يعني أنه يعتقد بأن الله حقيقة على صورة شاب أمرد بل كما قال: (فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته) فكيف يقال بعد ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية يشبِّه الله بالشاب الأمرد؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وحاشا لشيخ الإسلام -المنزِّه لله تعالى، والذي لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول صلى الله عليه وسلم- أن يقول أو يعتقد ذلك. وكلامه في تنزيه الله عز وجل والرد على المجسِّمة كثيرٌ جداً، من ذلك قوله كما في (منهاج السنة: 2/ 313): (والمثبتة [أي من المجسِّمة] أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه يُرى في الدنيا بالأبصار، ويصافَح، ويُعانق، ويَنزل إلى الأرض، وينزل عشية عرفة راكباً على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان، وقال بعضهم: إنه يندم ويبكي ويحزن وعن بعضهم: أنه لحم ودم ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين والله سبحانه منزَّهٌ عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزَّهٌ عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال، وليس له مِثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزَّهٌ عن النقص مطلقاً، ومنزَّهٌ في الكمال أن يكون له مِثل ٌ) انتهى كلامه يرحمه الله. فهل من يردُّ على المجسِّمة بمثل هذا الرد يُنعت بالتجسيم، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}؟! والله تعالى أعلم.

إصلاح "الإصلاحيين"!

إصلاح "الإصلاحيين"! عبدالله بن صالح العجيري 15 جمادى الثانية 1431هـ يُخيَّل إليَّ وأنا أقرأ هذا الهجوم التصاعدي الأعمى على اسم "السلفية" مؤخراً أنني أمام مشهد قتالي حامٍ مقصوده إيقاف مد "الاستبداد" بمقاومة حملته ومنظريه، المشرعين له ومقننيه، الفارضين له بقوة الرأي والسلاح، ممن لا همَّ لهم إلا سكب قصائد المديح في بلاط السلطان، والتسبيح باسمه المقدس صباح مساء، ولعن أعدائه بالعشي والإبكار. لو كنا نسمع حديثاً عن تخاذلٍ وتقصيرٍ في باب "الإصلاح السياسي" لهان الأمر، فمن الذي يكابر في نقصٍ حاصلٍ، أو يدعو لترك النصيحة في أمرٍ واجبٍ، غير أن طائفةً من منتحلي الإصلاح فقد بوصلة قلمه ولسانه، وربما عقله، فانتقل من هذا إلى الاتهام الجائر لمخالفيه بتشريع وتقنين ومباركة "الاستبداد" وممالأة ومساندة "المستبد". أن يكون ثمة تقصيرٌ وضعفٌ وعجزٌ فشيءٌ نفهمه، نعاني منه ونرجو إصلاحه ولكن نفهمه، أما الذي لا يمكنني فهمه ولا تستوعبه طاقات عقلي فجرأة أولئك بجعل ما نراه من تقصير وخلل ناشئاً عن "عقيدةٍ وإيمانٍ" بنظم "الاستبداد"، واستمتاعاً بصنوف "الكذب والنفاق"، وعشقاً لصراعات "كرتونية فارغة". والأسوأ، تلك اللغة المشبعة بصيغ التعميم الأهوج، الذي لا يتوقف عند حملة العلم والمصلحين القائمين بأمر الدعوة والإصلاح اليوم، بل ويشمل حتى أئمة الإسلام الماضين الذي هم مفاخر هذه الأمة وقدواتها، علماً وعملاً، وفقهاً وفهماً. كان الحديث أولاً عن "متسلفة زماننا"، ثم لم تزل الجهالة العمياء تتوسع وتتوسع، حتى أثمرت أن "ما عدا الرسالة وعهد الرشد، تراث وأفكارٌ وتاريخٌ من هجره فهو خير له". هكذا وبجرَّة قلم ألغى "الإصلاحي" جهود أعيان الأمة وعيونها من أئمة التابعين وتابعيهم، بل وقريباً من نصف قرن من عمر الصحابة رضي الله عنهم. فلو تكلم بهذا الجهل عدو للتشريع الإسلامي لكان موقفه مفهوماً، أما أن يلفظه "إصلاحي"، "إسلامي"، فذاك هو النكوص المبين. النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لقرنين بعد قرن الصحابة بالخيرية، و"الإصلاحي العتيد" يرى الخير في هجر ذاك الخير، لمجرد أنه عاجز عن التعاطي معه، فصار يتوهمه قيداً على نهضة الأمة ونيلها حريتها. مشكلة بعض إخواننا أنهم يريدون تحرير عقولهم من نور القرون المفضلة، ليقعوا مباشرةً أسرى ظلمات الجاهلية العصرية التي كبلت عقولهم بأغلال المحاكاة، فمنعتها من التفكير الحر المتزن. أولئك الإخوة لديهم كما لدينا قضيةٌ عادلةٌ. وهم يعانون كما نعاني من واقعٍ مرٍّ يكتم الأنفاس. ظنناهم يريدون النهوض بتلك القضية بعدما عجز الكثيرون عن حملها، فإذا هم يلقونها وراء ظهورهم، ليحملوا قضيةً أخرى خاسرةً، قضية الهجوم على تاريخ الأمة وفقه المسلمين. فرقٌ عظيمٌ بين من يرى تقصيراً في أداء فرض كفائي فهو يسعى في إقامته، والدعوة إليه برحمةٍ وعدلٍ، مطالباً بإقامة الدين كله، ومن لا يرى من الإسلام إلا بعضاً، فهو يحاسب الناس على ما يعتقد أنه الإسلام كله، فيشتد ويقسو ويريد حمل الناس على ما يعتقده "الإسلام" وإنما هو يريد حمل الناس على بعضه. مشكلة إخواننا هؤلاء أنهم كثيراً ما يفسرون هذا الهجوم على كتاباتهم وأطروحاتهم بأنه معاداةٌ لمبادئ الحرية وترسيخٌ لقيم الاستبداد. المشكلة أنهم يتقدمون إلينا "برزمة" من قيم الإصلاح المشوَّه، ثم يستبدون برأيهم، ويريدون منا أن نقبل استبدادهم قسراً، فإذا ما أبدينا تحفظاً على مسألة هنا أو مشروعاً هناك أخذوا يتصايحون: قد علمنا تضجركم "أعداء الحرية" حين تسمعون أشواقنا إليها!

وهذا للأسف تزييف للحقيقة والواقع، فالنقد لم يتوجه قط لمطالبات إصلاح حقيقية سواءً كانت في شأن المال العام أو مجال السياسة أو توسيع دوائر الرقابة أو غيرها، وإنما توجه دوماً إلى ذلك الاستفزاز الأحمق بالتهوين من المعارف الشرعية، والإزراء بعلوم السلف، والاستخفاف بدعاة السنة. نحن نستطيع أن ندعي بطمأنينة أن "الصحوة" في الجملة ظلت وفيةً للشجعان في مجال "المناضلة السياسية" ما لم يتلوثوا باتخاذ جهادهم تكية للطعن المغلف في أصول السنة، وقواعد الدين. بالله عليكم كيف يطالب الشرعيون بالسكوت عن جنايات هؤلاء، وهم يعلنونها بشكل متتابع، وبلغة استفزازية، وبأسلوب عدائي سافر، ربما يعجز عن بعضه أهل الريب. مرةً يحدثوننا عن "السلفية العباسية" وأثرها السلبي في صياغة "المتون العقدية" لأهل السنة والجماعة. ومرةً يهونون من شأن "الطحاوية" و"الواسطية" و"التدمرية" ويلمزون من يسعى في شرحها وتدريسها، بل ويحدثونك عن "مؤامرة" تحاك لإشغال شبابنا بمباحث "الأسماء والصفات" ومعارك "الجهم والجعد والمريسي" عن ساحات الإصلاح الحقيقية. يطعنون -بجهلٍ عميقٍ- في مبحث "خلق القرآن" وأن ما جرى من جدل سني معتزلي لا يعدو أن يكون جدلاً بيزنطياً فارغاً في مسألةٍ غيبيةٍ اجتهاديةٍ، وأن قول أهل السنة فيها ليس إلا قولاً اجتهادياً جاء لتقرير مبدأ حرية الاجتهاد لا أن الأمر قطعي من القطعيات، فضلاً أن يكون مستنداً إلى شعار أهل السنة المعلن "ما أنا عليه اليوم وأصحابي". ثم يفترون علينا أننا نشغل الطلاب بمسألة خلق القرآن لمدة سنتين أو ثلاثة. يفاخرون بانتسابهم "لإسلام ما قبل التقسيم"، وهل الطريقة السلفية إلا هذه؟! غير أنك إذا فتشت في حقيقة انتسابهم وجدتهم في الحقيقة يدعون لتقسيم الإسلام وتقطيعه، فهم يريدون توزيع الحق بين الطوائف والأحزاب، ويؤكدون على أنه غير محصور في أصول "أهل السنة والجماعة". فلا بأس علينا إذن إن استفدنا من "عقلانيات المعتزلة" وشيئاً من "أطروحات الإباضية". بعضهم في زحمة حماسته لنيل حريته السياسية، يؤكد على ضرورة حرية التدين والاعتقاد والتعبير فإذا ما اعترضت بأحكام المرتد، أنكرها، وضعف أحاديثها وتعلق ولو بالقشة من أقوال أهل العلم، وقرَّر أن لا عقوبة إطلاقاً للمرتد في الفقه الإسلامي، وهذا خروج عن مذاهب المسلمين كافة بيقين. يسخرون من مدافعة "الشرعيين" لسيل "الإفساد الليبرالي" ويعدون ذلك مجرد "صراع كرتوني سخيف" "ومعارك وهمٍ" لا تغني ولا تسمن من جوع، وكأن التصدي لسيل الإفساد هذا خارج عن نطاق الإصلاح. يبدون تململاً وتضجراً من الانشغال بمشكلات طوائف المبتدعة صوفية وأشعرية ومعتزلية ورافضية، ويعدون هذا الانشغال حمقاً وسفهاً، وتبديداً للطاقات والجهود وتفريقاً للصف المسلم، ثم هم يدعون هذه الطوائف جميعاً، ويدعون معها المستبد، ليتفرغوا بعد ذلك لتوليف شتائمهم "الإصلاحية" الموجهة للشيطان الأكبر "السلفية"! يجادلونك في مسائل الشريعة والسياسة فإذا ما جادلتهم بالأدلة الشرعية رفعوا في وجهك لافتة "قطعي الثبوت قطعي الدلالة" وكأن أحكام الشريعة لا تبنى إلا على القطعيات. والقائمة تطول. دعونا من هذا كله ولنقترب أكثر من مشروعهم الإصلاحي المستورد "الديمقراطية"، مستحضرين تلك اللغة المغرقة في التقديس والتبجيل وحجم التهليل والتصفيق الذي يبدونه وهم يسوقون لمشروع الإنقاذ هذا، حتى وضعوا منتقدي "النظام الديمقراطي" من الشرعيين في خانة "السخفاء والضعفاء والجهلة والملبس عليهم".

حاججناهم بأنه نظام لا يتوافق مع "النظام السياسي الإسلامي"، فمرجعية الحكم فيها "لله وحده" بخلاف "النظم الديمقراطية" التي تجعل السيادة للخلق، إضافةً إلى جعل "المواطنة" أساساً للمشاركة الديمقراطية بعيداً عن اعتبارات الدين. قالوا: إنما ندعو لنظام ديمقراطي مهذب موافقٌ لأحكام الشريعة. وأن الديمقراطية حين تعمل في "فضاء مسلم" فستنتج نظاماً مسلماً. لا بأس إذن، ولنتجاوز أساس الإشكال الذي يصر أصحابنا على الهروب منه، بادعاء أن مُخرج "الديمقراطية المحلية" سيكون بمرجعية إسلامية، متغافلين عن مشكلة "المبتدأ" الذي يجعل الأمر كله بيد الناس. لنتجاوز ذلك، ولنتأمل في شيء من تفاصيل هذه "الديمقراطية المهذبة" التي يريدون منا قبولها، وترك التعرض لها بالنقد والتجريح. الديمقراطية كما يعرفون لا تعمل إلا في أجواء من الحرية الواسعة، فإذا ما حدثونا بالتفصيل عن "فضاءات الحرية الديمقراطية" وسعوها لتستوعب بزعمهم كافة تصرفات المنافقين في زمن النبوة من "لمز المؤمنين" و"إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم" و"التآمر على الدولة المسلمة"، فهل هم جادون فعلاً أن مثل هذه الحريات مكفولة في ضمن النظام السياسي الإسلامي؟! نحدثهم عن سيادة الشريعة وضرورة تحكيمها وخطورة تخيير الناس في ذلك، فيهونون من خطورة هذا الأمر، ويدعون أن تحكيمها راجعٌ لاختيار الشعب، وأن الإسلام أقر صوراً من "التحاكم للطاغوت"، فهذه بلاد الكفار في العهد الأول كانت تدفع الجزية وتُقر على أوضاعها الحكمية والدينية من غير تغيير، وهذه كذبةٌ كما يقال لها قرون، وجهلٌ فظيع. يتكلمون في دائرة "أهل الانتخاب" ومن يدخل في "إطار الشورى" ومن يمكنه المشاركة في "اللعبة الديمقراطية"، فإذا هي تضم أهل النفاق والزندقة، مدعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشيرهم ويسمع منهم (وإن يقولوا تسمع لقولهم)! وعليه جرى عمل من بعده من الصحابة فهذا ابن عوف استشار الناس وما فرز أهل النفاق من غيرهم! المعارضة السياسية الشاملة لمختلف الأطياف والتيارات حقٌ مكفولٌ في ظل نظامهم الديمقراطي فمعارضة "البغاة" في عهد عثمان حق مشروع، وكذا معارضة "الخوارج" لعلي كلها دلائل على اتساع دوائر التعددية والمعارضة في الحياة السياسية للدولة المسلمة، وكأن علياً ما بيّن سقف الحريات للخوارج في الحياة العامة (لهم علينا ثلاث: ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، وألا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا). يحدثونك عن فضائل عهد الرسالة والخلافة، ومثالب ما بعده، ثم تراهم وقد ورمت أنوفهم واحمرت حين تضيق فهومهم عن استيعاب توجيه نبوي يقول: "اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك". ثم بعد هذا لا يتحرجون من الإعلان بوجوب الطاعة لمن كفر بالملة وكذب النبوة، إن جاء عبر صناديق الاقتراع المقدسة! إنهم ببساطة يريدون طمأنتنا أن مشروعهم الإصلاحي لا يخرج عن إطار "المباح الشرعي" وهم للأسف كاذبون، أو على الأقل واهمون، وجناياتهم الشرعية باديةٌ لكل ذي عينين. إنها انحرافات أملاها هذا اللهاث وراء نظام "لاإسلامي" لجعله "إسلامياً" ولو بالقسر ولو بإعادة تشكيل "القالب الإسلامي" نفسه ليتوافق مع شكل هذا النظام. يجب أن تعلموا إخواننا أن ديننا وعقيدتنا وثوابتنا أعز إلينا مما تدعوننا إليه، ولتذهب ديمقراطيتكم مع صنوف الاستبداد إلى الجحيم. * * * همسة: أخشى على بعض من يلبس ثوب "الإصلاح" أن يكون له نصيبٌ من قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).

توقير الفلاسفة وتعظيم الحرية .. في صحافتنا الموقرة

توقير الفلاسفة وتعظيم الحرية .. في صحافتنا الموقرة ماجد بن عبد الرحمن البلوشي 13 جمادى الأولى 1431هـ لمّا بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، كان لكفّار قريش من الحرّية نوع شبيه بما لدى كفّار الغرب الآن، فهناك حرية للاعتقاد وحرية للتملك وحرية للسلوك، فالجميع حر فيما يفعل ويعتقد ويتملك. قالت عائشة رضي الله عنها واصفة مشهدا مروعا تشمئز منه النفوس وتقشعر له الأبدان من تطبيقات تلك الحرية: كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام؛ أحدها: مناكح الرايات يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن, فإذا حملت أحداهن ووضعت جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم الحقوا ولدها بالذي يرون، والثاني: أن الرهط من القبيلة أو الناحية كانوا يجتمعون على وطئ امرأة لا يخالطها غيرهم فإذا جاءت بولد أُلحق بأشبههم، والثالث: نكاح الاستخبار وهو أن المرأة إذا أرادت أن يكون ولدها كريما بذلت نفسها لعدة من فحول القبائل ليكون ولدها كأحدهم، والرابع النكاح المعروف يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته؛ فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. فهل تجدون فرقا بين هذا الذي ذكرته عائشة رضي الله عنها مما حاربه الإسلام وأعلن الثورة عليه وهدمه هدما وبين واقع الحريات المطلقة في عوالم اليوم، والتي يتغنى بها المستغربون من الكتاب ويعدّونها جنة الدنيا وفردوس العالم؟ وهل أُقرَّ كفار قريش في جاهليتهم على ذلك حين جاء الإسلام أو سايرهم فيه وصانعهم عليه؟ وهذا السلوك الموغل في اعتناق الحرية، بعدّها قيمة مطلقة في ذاتها، لم يكن من صنيع كفار قريش دون بقية الأمم، فقد حكى الله عن أهل مدين أنهم عارضوا حكم الشريعة التي أتى بها نبي الله شعيب عليه السلام، وكان منطلق المعارضة عندهم أن شريعة شعيب تحول دونهم ودون حرية الفعل في أموالهم بما يشاؤون لا بما تُمليه شريعة شعيب ـ وهذا هو عماد فلسفة آدم سميث التي قامت عليها الرأسمالية الغربيّة فيما بعد ـ، فقالوا له قولتهم المشهورة: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، فعارض هؤلاء حكم الشريعة وقانونها بحكم الحرية وقانونها، فما أغنت عنهم حريتهم التي ينتحلون من الله من شيء لما جاء أمر ربك، وحقت عليهم كلمة العذاب فحاق بهم من النكال والخزي ما تعددت صوره ولم يلحق نظيره بغيرهم من الأمم. والقرآن مملوء ـ بوضوح وصراحة وكثافة بيان يفهمه العيي قبل الفصيح ـ بما يقضي أن نظام الشرع في واد ونظام الحرية المطلقة في واد آخر، فلا يلتقيان حتى يتعانق القمران في كبد السماء. لقد جاء الإسلام وكفّار مكة يتنعّمون بتلك الحرية تنعّم المترف، وكانت الفلسفات بأنواعها قد عمّت الأرض في مصر والهند والصين وبلاد فارس واليونان، والله يعلم ما في السموات وما في الأرض ويعلم الغيب والشهادة ويعلم ما كان وما سوف يكون فحكم على جميع هذه الفلسفات بالبطلان وقضى على الحرية المطلقة بالفساد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب). فلو كانت لهذه الفلسفات مكانة عليّة في الإسلام، لأخذ منها الحجج والبراهين ولأحال على مباحثها ولجعلها معيارا للحقائق أو لبعضها، غير أن شيئا من ذلك لم يكن، فهاهو نور الإسلام يمحو ظلمات العلوم والمعارف الأخرى.

ولم تقف الشريعة عند هذا، فأتت بالقواعد والكليات التي تضبط العلوم وأسست نظريات البحث في الأمور الشرعية والمعرفية بأدوات تامة كاملة، فقد كان الصحابة والتابعون من كبار العلماء ومن أهل البحث والنظر والمعرفة، ولم يقرأ أحد منهم كتابا إلا ما جاءت به الشريعة من القرآن والسنة، وسار على طريقتهم من تبعهم من علماء السلف الصالح، فما عرفوا نظرا في كتب الفلاسفة ولا قرؤوا علوم المنطق أو درسوا مباحث الفلسفة، مع أنها ملأت الدنيا نشرا وشغلت العلماء بحثا، وطائفة كبيرة من علماء الأمة حرّمت النظر في كتب الفلسفة والمنطق، وبالرغم من كل ذلك فما اشتكى المسلمون يوما نقصا في أداة معرفية أو في طريقة لمعرفة الحق أو انقطعوا في مناقشة أو أفحهم مناظِر، بل ناظروا أهل الملل والنحل ومختلف الطوائف بمحكمات الحجج وقواطع البراهين ـ عقلا ونقلا ـ فردوا شبههم ونقضوا أصولهم وشردوا بهم من خلفهم وجعلوهم سلفا ومثلا للآخرين. فأين هم المعتزلة اليوم؟ أين الجهمية؟ أين الزيدية؟ أين الكرّامية؟ وأين البقية الباقية من أنصار الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وإخوان الصفا؟ هذه الجامعات في بلاد الدنيا تدرّس ما اندثر من علومهم وتطبع بوائد كتبهم وتبعث رميم أفكارهم من مراقدها وتقيم لهم الأيام وتحيي الموائد وتعطي الجوائز وتغدق الأعطيات، فما أغنت عنهم شيئا ولا بعثت لهم فكرا ولا أحيت منهم ميتا. واليوم يخرج في صحف المسلمين ومجلاتهم ومنتدياتهم من يعظّم الفلاسفة الغربيين، لا تعظيم جدّهم واجتهادهم، فهذا من مواقد العزم في النفوس البشرية، لكن تعظيم الفتنة بعلومهم والرضا بنتائجها، فما عادت الشريعة وأحكامها معيارا للعلوم والمعارف، وإنما طفق هؤلاء يستغيثون الفلاسفة، ابتداء بديكارت وسبينوزا وهيغل وكانت وانتهاء بنيتشه وفرويد وراسل وبوبر وقرونا بين أولئك كثيرا، وينظرون في فلسفاتهم نظر المعظّم لها والمبجّل لأصحابها، ويجعلون منها قوانين معياريّة لتصحيح الأقوال والحكم على العلوم وتهذيب سلوك الأفراد والمجتمعات، ويقرؤون لهم قراءة الصب الواله. أما كتب السنة، كصحيح البخاري ومسلم والسنن الأربعة ومسند الإمام أحمد، وتفاسير كتاب الله تعالى لأئمة العلم والهدى كابن جرير الطبري والقرطبي والبغوي وابن عطية وابن كثير وغيرهم، وكتب العقائد والفقه وبقية علوم الشريعة فهي عندهم من كتب التراث فحسب، وكثير منها صار نسيا منسيا وسِفرا مهجورا، والباقي يقرؤونه ـ إن قرؤوه ـ كما يقرؤون كتاب ألف ليلة وليلة، يتفكهون به ويستظرفون نوادره ويستنكرون غريبه وينفرون من صرامة أحكامه ويحاكمون أئمته بقوانين أولئك الفلاسفة الذين كانوا يعيشون أحوالا عصيبة من تشظّي الذات وظلمة الروح واعوجاج السلوك، بل يرون العلماء على أنهم طائفة من الدراويش غاية أمرهم أن يعقلوا أحكام النقل المجرد لا العقل الناقد. فإذا ذُكر لدى هؤلاء علماء السلف ومفاخرهم العظيمة اشمأزت قلوبهم وأدبرت أرواحهم وإذا جرى ذكر الفلاسفة الغربيين ومناهجهم ومدارسهم إذا هم يستبشرون. فهل الزندقة إلا هذا؟ وهل قرأ هؤلاء ما دوّنه علماء أصول الفقه والبحث والنظر، ممن لم يخلطوا بين دقائق علوم الاستنباط بصفائها ونقائها وأصالتها وبين شوائب علم المنطق المستورد من تراث الإغريق؟

وهل وقفوا على ردود الإمام أحمد على شُبه المعتزلة بقض عقولهم وقضيضها وكيف أفحمهم وقطع دابر شبههم وهم المعروفون بشراسة البحث وصرامة النظر وحدّة الرأي ومعهم جيش الدولة بدءا من رأسها المأمون وانتهاء بالعساكر والجنود المجندة فضلا عن علماء السوء ووعاظ السلاطين وخذلان المقربين وسكوت الصالحين فصيّر جبال حججهم كثيبا مهيلا، وردوده على الجهمية ورد عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي ورد عبد العزيز الكناني على المريسي أيضا في كتاب الحيدة، وغيرها من الكتب والمصنفات التي خطها أولئك الهداة المتقون المتسلحون بسلاح النص الشرعي وملؤوها بالحجج والبراهين وخاضوا في البحث خوض المناظر العارف بدقائق الأقيسة ولطائف القوانين؟ وانظروا إلى مشارق الأرض ومغاربها التي عمّها نور الشرع وحكَمها دين الإسلام، هل دخلت في دين الله إلا بالقرآن الكريم وبكتب السنة المشرّفة؟ أوَلم يكن أولئك المرابطون في الثغور والمجاهدون في سبيل الله إلا من العلماء الذين قرنوا العلم بالعمل؟ وهل تسمّى الهنود والسنود والفرس والخراسانيّون والترك والفطانيّون والملاويّون والقوقازيّون والشراكسة والبلقانيّون ـ بعد خروج الفاتحين عنهم وقد تركوا فيها بقيّة من نفوسهم وبضعة من قلوبهم وأجداثا ضمّت أطهر الأجساد التي مشت على وجه الأرض ـ إلا بأسماء العلماء الربانيين الذين بذلوا النفوس وأرخصوا المهج وأراقوا الدماء ليُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ولتعلوا كلمة الحق وينتشر الدين في كل فج عميق؟ إن العلماء الربانيين أقاموا بناءً مشيدا من صروح العلم المبني على توقير أمر الله وتعظيم شرعه وتلقيه بالقبول والتسليم والإذعان في مئة عام منتظما مئات المدائن والأقاليم والأمصار والنواحي وأعدادا لا يعلمهم إلا الله من البشر مختلفي العادات ومتبايني الثقافات ومتعددي الأمزجة، وبقي هذا البناء مشيدا مهيبا يزداد رسوخا بجذوره في الأرض وسموّا بفروعه إلى السماء على الرغم من مرور القرون إثر القرون، بينما عجز نظّار الشرق والغرب من خلخلة ذلك البناء أو هزّ متين عماده في 1300 تصرمت من الأعوام. لقد أخمدت أسماء هذه الثلة المباركة من علماء الأمة جميع المعارف من الفلاسفة ودهاقنة النظّار وأرْبت سيرهم وحياتهم ـ في روعتها وجلالها وسموّها ـ على سير أولئك وحياتهم، فسلوا المسلمين وطوّفوا في الآفاق حتى يتبيّن لكم أنه الحق. هل كان الإمام أحمد مرتشيا خائنا خبيث النفس، مثل فيلسوف المادية التجريبية فرانسيس بيكون ذي القبائح المخزية؟ أم كان الإمام البخاري متشككا متوهّما لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، مثل فيلسوف الشك رينيه ديكارت؟ أوليس الإمام المجاهد البطل ابن تيمية الذي مات في سجنه تاليا للقرآن عاكفا على التهجد قائما بالحق فخرج في جنازته خلق لا يحصيهم العد ولا ينفذهم البصر ولا يُسمعهم الداعي أشرف وأنقى وأتقى من فيلسوف الأشر والبطر والطغيان فريدريك نيتشه الذي مات منتحرا؟ دونكم سير الفلاسفة وأخبارهم وأحوالهم، فهل تجدون منها شيئا تشع به نور الهداية في نفوسكم، أو تنشرح معه صدوركم، أو تحيى به قلوبكم كما تفعل ذلك بكم سير الصالحين من علماء الأمة العارفين بالله وبشرعه والقائمين بدينه؟ لقد قرأت سيرهم ووقفت على أخبارهم فما وجدت فيها ما يصلح أن نقرأه على الناشئة أو نهذب به أخلاق الشباب فهي ظلمات بعضها فوق بعض. فإذا كانت جنبات الصحف الغربية تضيق بذكر أئمتنا وأعلام ديننا، فلمْ نجد يوما صحفيا منهم أتى بالثناء الجميل والذكر النبيل على أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وبقية الأئمة، فعلام نجعل من صحفنا ومجلاتنا أبوابا مشرعة لفلاسفتهم ومفكريهم، نقدم لهم فيها دعايات بالمجان ونخدع بذكر أخبارهم وعرض فلسفاتهم الجيل الناشئ؟ إن صحفنا التي تتبرّم من ذكر أعلامنا من سادات أولياء الله الصالحين وأئمة العلم من المتقين، ثم تُفسح المجال لتعظيم فلاسفة الشرق والغرب، لهي صحف وظيفية وإن تكلمت بألسنتنا وكتبت بلغتنا.

صيانة الدين والمجتمع من تعديات أهل الأهواء (1)

صيانة الدين والمجتمع من تعديات أهل الأهواء (1) عبد الله بن ناصر الصبيح 13 جمادى الأولى 1431هـ في الإعلام، سواء كان محليا أو فضائيا، هجوم مطرد على مظاهر التدين في مجتمعنا ومواطن الجمال فيه. ومن أجمل الجمال في بلادنا، الاجتماع الحاشد للصلاة. وبعضهم كتب يهون من شأن الصلاة جماعة، وآخر صرح بأن من المنكر الإنكار على من تخلف عن صلاة الجماعة وثالث كتب يستنكر على الدولة أمرها بإغلاق المحلات التجارية وقت الصلاة، وقد رأيت مقالا لأحدهم عنوانه "إغلاق المحلات التجارية للصلاة مخالف للشريعة من سبعة أوجه"، وقال فيه إن إغلاق المحلات التجارية لا أساس له من دين أو عقل، وكان مما سطره هذا المجتهد أن الاجتماع إلى الصلاة سبيل للجريمة ويدعو إلى الفحشاء والمنكر، هذا ما قرره هذا المجتهد، أما ما قرره الله عز وجل، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن نقوم له سبحانه قانتين أي في جماعات، فأيهما نصدق! العليم الخبير أم الجاهل البليد؟! ومن مظاهر التدين التي وجهوا إليها سهام نقدهم، الفصل بين الرجال والنساء في أماكن العمل العامة والدراسة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وستر وجه المرأة، وحلق تحفيظ القرآن، وعقيدة الولاء والبراء، والدعاة والعلماء. والهجوم على هذه القضايا ليس خاصا بها، بل هو في الحقيقة هجوم على التدين في المجتمع وعلى رموزه ومفاهيمه، فهؤلاء يريدون مجتمعا بلا دين ويريدون أن يكون التدين شأنا فرديا وليس نظاما اجتماعيا. فهم قد يقبلون أفرادا متدينين، ولكنهم لا يقبلون مجتمعا ذا دين. وهؤلاء محجوجون بقوله تعالى: {لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة:44]، وقوله: " {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات:56] "، وبقوله: " {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة:21] "، وبقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [سورة النساء:65]، وبقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [سورة المائدة:3]. ومن معاني الدين النظام العام الذي يخضع له جماعة من الناس أو الحكم والشريعة، قال تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [سورة يوسف:76]، أي في حكمه وشريعته. وأستدل عليهم بالآيات، لأنهم ينازعون في طبيعة الدين، والأعلم بطبيعته من نزله وشرعه للناس، فوجب المصير إلى ما قرره عز وجل عن ما شرعه للناس. وقد تولى كبر الهجوم على معالم الدين، فئة شرقت بالدين ورفعت شعار الليبرالية واحتجت بحرية التفكير، وأقرب وصف لها هو اللادينية. والتفلت من الدين ومعارضته صفة عامة في دعاتها، سواء كانوا في الشرق أو الغرب، وسواء كانوا في بلاد المسلمين أو في غيرها. ولا يستعظمن ذلك أحد، فالليبرالية في أقصى درجاتها كفر بالدين كله، لأنها تقصيه عن الحياة وتتحاكم إلى غير ما شرعه الله، وهي في أقل درجاتها، إيمان ببعضه وكفر ببعضه، وهذا يفعله أغرار الليبراليين ممن لم يفهموا الليبرالية وأرادوا أن يجمعوا بينها وبين الإسلام.

وهؤلاء الكتاب قد دخل فيهم من خدع بهم ممن خفي عليه مقصدهم، فسعى معهم في حرب دينه ومعارضة شرع ربه عز وجل جهلا منه وظانا أنه محسن. وبعض من كتب منهم طاعنا في الشريعة يصدق عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه عمر بن الخطاب وعمران بن الحصين وأخرجه الإمام أحمد في المسند وغيره: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"، فهو عليم اللسان يجادل بالباطل فاسد القلب ينكر شرع الله، ويستدل على باطله بالآية والحديث ويضرب بعض النصوص ببعض، ويورد أقوال العلماء منزوعة من سياقها، ويلبس على الناس دينهم ليفتنهم فيه. وهو ربما استدل بالخلاف الفقهي، وما قصده نصرة الشريعة ولكن غايته إسقاط هيبتها من القلوب وزوال مظاهر التدين من المجتمع بالشغب على ما عرفه الناس من شريعة ربهم وما أفتى به علماؤهم وسنده الدليل الصحيح. وهؤلاء ليسوا أهلا أن يؤخذ منهم علم أو فتوى، لأن العلم دين كما ورد عن مالك بن أنس ومحمد بن سيرين رحمهما الله، فلا يؤخذ العلم عمن لا دين له. وإن من علامات الدين تعظيم حرمات الله عز وجل قال تعالى:" {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [سورة الحج:30] " ومنها تعظيم شعائر الدين، قال تعالى {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [سورة الحج:32] "ومن علامات الدين، تعظيم الله عز وجل وتعظيم ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، والتعبد لله والإخبات له سبحانه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سورة الأنفال:2 - 4]. وأما احتجاجهم بحرية الفكر في عبثهم بالشريعة، فهذا من الغرائب ولولا أن البعض يبثه ويدعو إليه ويحتج به لما أوردته. وهو أصبح عند البعض بابا من أبواب الكفر المأذون بها عندهم، سواء كان في قضايا الفكر أو قضايا الأدب والفن: في الشعر والرواية والقصة. وكي يعلم القارئ أن هذا من الباطل الذي يلبس به على الناس عليه أن ينظر في العلوم المنضبطة كالفيزياء والكيمياء والطب فإنه يجد أن المعتبر التفكير الذي يصيب الحق أو المستند إلى دليل تجريبي صحيح، وكل تفكير ليس له دليل يثبت صحته فلا اعتبار له. ولو نظرنا في تاريخ هذه العلوم لوجدنا أنها مرت بمرحلة صراع طويلة للاستقلال من الفلسفة واعتماد المنهج التجريبي في إثبات قضاياها. وهروبها من الفلسفة إلى المنهج التجريبي هو هروب من التفكير الذي لا ضابط له إلى تفكير منضبط يمكن تقويمه، ومحاكمته إلى مرجعية ثابتة. ومما استقر في مناهج البحث أن طريقة التفكير والبحث في قضايا العلم تختلف عن طريقة التفكير في قضايا الأدب والفن، وهذه القضايا يعبرون عنها بمجالات الإبداع لأنها أقل التزاما بالقيود العلمية والمحكات العقلية، ولكنها ليست خالية منها، فمثلا من القيود في الجانب الحقوقي ألا يتضمن النص تعديا على حقوق الآخرين. وإذا تضمن اعتداء أصبح جناية يحق للمتضرر منه أن يتقدم ببلاغ يطالب فيه حقوقه. ومن التعدي على حقوق الآخرين التعدي على دينهم ومقدساتهم.

وإذا نظرنا في القرآن فإننا نجد أن التفكير ليس محمودا لذاته بل بإصابته الحق وربما كان مذموما إذا كان جدلا بالباطل وإتباعا للهوى، قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [سورة الزخرف:57] {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [سورة الزخرف:58]. وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة:258]، وقال: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [سورة الأعراف:71]. ومن الحالات التي يكون التفكير فيها محمودا إذا صدر من أهل للاجتهاد وبذل صاحبه وسعه في ذلك وسعى لإصابة الحق ولكنه لم يوفق، فهذا مجتهد له أجر واحد لاجتهاده، وخطؤه مغفور. وكما ترى ففي هذا الحالة وفيما قبلها من حالات يكون صاحب التفكير ملتزما في تفكيره بضوابط متصلة بموضوع التفكير وليس تفكيرا منفلتا لا ضوابط له، أو تفكيرا حرا كما يزعمون. وهذا النوع من التفكير ربما حمد من صاحبه في الفكر الغربي في بعض أنواع الأدب والفن كما سبق، وقضايا الشريعة ليست من هذا الباب وإنما هي من مسائل العلم التي ينبغي أن ينضبط فيها البحث والتفكير بمناهجها اللائقة بها. وهؤلاء الزاعمون حرية التفكير المنتقدون للشريعة المبدلون لأحكامها، ليسوا في الحقيقة أحرارا في تفكيرهم، وإنما هم مقلدون لسواهم ويحتكمون لمرجعيات قررها غيرهم. فهم يريدون تحكيم واقعهم أو بعض أوليات الفكر الغربي، كحقوق الإنسان أو الليبرالية والديمقراطية، وإدراجها في أحكام الشريعة. وهذا ليس حرية في الفكر وليس تجديدا ولا إبداعا، بل هو تحريف ومسخ.

(حاصروا غزة وبلاد المسلمين، فحاصرهم الله ببركان أيسلندا)

(حاصروا غزة وبلاد المسلمين، فحاصرهم الله ببركان أيسلندا) موقع الدرر السنية - قسم دراسات الواقع 7 جمادى الأولى 1431هـ أيسلندا إحدى الجزر الإسكندنافية الصغيرة، وهي من الجزر الأوروبية القريبة من أمريكا الشمالية، عدد سكانها لا يتجاوز 350 ألف نسمة أغلبهم من النصارى البروتستانت، وهي من أكثر دول العالم ثراء وتقدماً. احتلت المرتبة الأولى عام 2007م بوصفها البلد الأكثر تطورا في العالم من قبل الأمم المتحدة، ثار في هذه الدويلة الصغيرة قبل أيام بركان من تحت نهرٍ جليديٍّ، زفر زفرات، ونفث نفثات، من السحب الغبارية، فأحدث فزعاً عارماً في قارة أوروبا بأسرها، وارتباكاً عالمياً للرحلات الجوية الدولية. فسبحان الله .. في لحظاتٍ معدودات، انقلب الأمن خوفاً، والسرور حزناً، والحركة سكوناً، فالسحب البركانية أدت إلى توقَّف الطائرات، وإغلاق المطارات, وتعليق الرحلات، واحتجاز ملايين المسافرين والمسافرات. أغلقَ أكثر من 100 مطار أوروبي أبوابه الجوية وألغيت عشرات الآلاف من الرحلات الجوية وبلغت خسائر شركات الطيران مئات الملايين من الدولارت يومياً، فضلاً عن خسائر المصدرين والمستوردين. أوربا بأكملها، بأحدث تقنياتها، وقوتها وجبروتها وغطرستها، تقف عاجزةً أمام بركان من نهر صغير، في جزيرة صغيرة من مجموعة جزر، في دولة صغيرة. غزة اليوم محاصرة ......... وأوروبا اليوم محاصرة غزة اليوم لا يستطيع أهلها أن يسافروا ...... وأوروبا اليوم لا يستطيع أهلها السفر أظلموا ليل غزة ..... فأظلم الله نهارهم وسماءهم بركام من السحب الغبارية غزة اليوم تعطل مطارها ...... وأوروبا اليوم والغرب تعطلت كثيرٌ من مطاراتها ضُربت غزة قبل عام، وتُضرب اليوم مناطق من أفغانستان بغازات سامة ....... فأنزل الله على الغرب الرماد البركاني الذي وُصِفَ بالقاتل؛ لأن استنشاقه يمزق النسيج الرئوي. إن ما تخسره غزة في عام بسبب الحصار تخسره أوروبا في أيام فقط} إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد {. إنَّ بركان (أيسلندا) ليس عبرة لأوروبا فحسب، بل وللولايات المتحدة التي تتزعم سياسة الحصار والتجويع لبلادٍ شتى في أنحاء العالم. فأمريكا تحاصر غزة بمساندتها للكيان الصهيوني، وتخوض حروباً دامية في العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها، فأذاقها الله مرارة الحصار وخسائره رغم بعدها عنه. وصدق الله القائل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] } وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} [المدثر:31]

العقيدة أولا: مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي

العقيدة أولاً: مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي عبدالرحيم بن صمايل السلمي 6 جمادى الأولى 1431هـ من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقاً إسلامياً شرعياً، وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى، وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية، والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم. وبناء على ذلك فإن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير هي قضايا داخلة ضمن الأحكام الشرعية، والتسميات (المصطلحات) الشرعية لها هي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والجهاد ونحوها، والكلام فيها يجب أن يكون بمنهج علماء الشريعة، وأدواتهم، وآلياتهم في التلقي والاستدلال، والكلام فيها بالآراء الشخصية، والتحسينات الذوقية هو من القول على الله بغير علم؛ إلا ما كان في الإطار العام الذي ليس فيه تحليل للحرام، وتحريم للحلال. وعليه فإن الباحث الشرعي عند دراسته للأولويات والبدايات في الدعوة إلى الله تعالى يجد أن أول ما يجب البدء به هو الدعوة إلى التوحيد والعقيدة (أركان الإيمان)، ويدل على هذه الحقيقة الشرعية كثير من النصوص منها قوله تعالى " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك"، وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الشهير لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مصلحاً وداعياً إلى الله تعالى قال له: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ... )) والحديث رواه البخاري ومسلم. والمتتبع لأولويات الأنبياء عليهم السلام في الدعوة والإصلاح والتغيير يجد أنهم يبدءون بالدعوة إلى التوحيد والعقيدة، ومن ذلك قوله تعالى" ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"، وفي قصص الأنبياء في سورة الأعراف نجد أن كل رسول يبدأ قومه بقوله " اعبدوا الله مالكم من إله غيره"، وهذا متكرر مع كافة الأنبياء، وهو من الدين المشترك بين الأنبياء فبهذا تكون أولوية العقيدة والتوحيد من المحكمات الشرعية في مجال الدعوة والإصلاح. وأولوية العقيدة في الإصلاح من موارد الإجماع التي لم يخالف فيها أحد من علماء الإسلام في القديم أو الحديث، وهي تعود إلى قضية منهجية هي التفاوت في مراتب الأحكام والأعمال، فالواجبات أولى من المستحبات، والإيمان بالله تعالى أعظم من الصلاة ... وهكذا. ولهذا أجمع علماء أهل السنة والجماعة على أن أول واجب على المكلف: " توحيد الإلوهية "، وردوا على أهل الكلام الذين قالوا أن أول واجب المعرفة، أو النظر، أو القصد إلى النظر، واعتبروا مقالتهم من المقالات البدعية، وقد ترتب عليها كثير من الأفكار والمواقف التي لا يزال يعاني منها المسلمون إلى اليوم، ومن أبرزها التبرير لشركيات التصوف والتشيع التي أعادت الوثنية، وعبادة الأوثان إلى الأمة الإسلامية. (أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية الجزء السابع والثامن والتاسع من درء التعارض لمسألة أولوية العقيدة وتوحيد الإلوهية فليراجع) ومما يوضح أولوية العقيدة ما يترتب على حقيقتها أو مناقضتها، فهي أصل الدين وأساس الملة، ولا يكون للعبد إسلام بدونها، وهذا المقام من أوضح ما يدل على أولويتها وتقديمها على كل شيء.

وأولوية العقيدة تشمل الإصلاح في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، كما أنها تشمل كافة الأحوال والظروف، وهي أصل محكم لا يعارض بغيره، فمتى ما وجدت قضية عقدية وأخرى غيرها فإن التقديم يكون للعقيدة، وهذا ما يمكن الوصول إليه بقراءة يسيرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. أولويات الخطاب المدني الديمقراطي: مصطلح " المدني والديمقراطي" كان إلى وقت قريب مستعمل في الأدبيات الفكرية العلمانية، وقد استعمله تقرير راند الشهير الذي عنوانه " نحو إسلام مدني ديمقراطي"، فالمدني يقابل الديني التعبدي في الاصطلاح التداولي العام، ولم يتم تداوله في الخطاب الإسلامي إلاّ مؤخراً عند فئة معينة ترى الأولوية للحرية المدنية من خلال الديمقراطية، وأخذت بربط هذا المفهوم بالشريعة الإسلامية مع أن الممارسات الواقعية تدل على أن المنطلق الذي تنطلق منه هو منطلق مدني محض. وقبل الدخول في مناقشة هذا الاتجاه أود تحديد محل الإشكال، واستبعاد القضايا المتفق عليها؛ ففي أحيان كثيرة يكثر الكلام في أمور متفق عليها وليست هي محل المناقشة والمراجعة. فأهمية الحرية، ومخاطر الاستبداد، وأهمية وجود حاكم مختار من الأمة، والحاجة إلى بناء مدنية وتنمية حضارية شاملة ليست هي محل الإشكال، ولا أظن منصفاً يزايد على الخطاب الشرعي السلفي في بيان هذه القضايا، فقد اهتم بالفكر السياسي في غاياته الكبرى وهي تحكيم الشريعة بمعناها الشامل، وهو معنى يزيد على مجرد القضاء في الخصومات ليدخل فيه تربية الأمة على قيم الإسلام وأحكامه وتطبيقها داخلياً، وخارجياً، وكذلك في وسائل الفكر السياسي فقد كان موقف المنهج السلفي واضحاً من التغلب والاستبداد وسرقة المال العام ونحو ذلك، بل إن أتباع الخطاب السلفي هم ضحايا الاستبداد السياسي، وفقدان الحريات. وأنا شخصياً تحدثت في كتابي (حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها) عن الحرية في سياقاتها المختلفة التي تشمل التحرر من رق المخلوقين، وقدرة العبد على فعله، والحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومخاطر الاستبداد، ورجحت أن تكون الشورى ملزمة، مع أنني أعتبر القول بأنها معلمة قول فقهي معتبر لا يسخر منه إلا من فقد الفقه في الدين، ولم يعرف حقوق المسلمين، فلا يزايد أحد علينا في الكلام حول أهمية الحرية. ولكن القضية التي محل الإشكال هي قضية الأولوية للحرية في الإصلاح، والأولوية للاستبداد في المقاومة، وما يتبع ذلك من تهوين الدعوة إلى العقيدة واحتقار منجزاتها، واتهام الداعين إليها بترسيخ التخلف والاستبداد وغيرها من التهم الظالمة، وتصوير المجتمع النبوي على أنه مجتمع ديمقراطي يسعى للمدنية كهدف أصلي له، وجمع النصوص المتعلقة بالاهتمام بالأحوال الدنيوية ووضعها في الصدارة كأنها غاية هذا المجتمع، وإهمال آلاف النصوص الشرعية المخالفة لذلك، وهذه الطريقة هي مسلك من مسالك أهل البدع نبه عليه الشاطبي في الاعتصام، فالخوارج يحتجون بنصوص الوعيد، والمرجئة بنصوص الوعد، والمعطلة بنصوص التنزيه، والمشبهة بنصوص الإثبات للصفات، والقدرية بنصوص الشرع، والجبرية بنصوص القدر، ويضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويتذرعون بذلك إلى إنكار شيء من الدين. إذن الخلاف ليس في أهمية الحرية، ولا في مخاطر الاستبداد ولكنه في الأولوية: أهي للعقيدة والتوحيد أم للحرية؟، وهل الأولوية في الإنكار للشرك أم للاستبداد؟ من خلال النصوص المتقدمة، وترتيب الأولويات في الشريعة نجد أن الأولوية بالإجماع للبدء بالدعوة إلى العقيدة والتوحيد، والتحذير من الشرك والبدع.

وإذا جئت إلى مراتب الدين فإن أركان الإيمان هي الأهم والأعظم في دين الله تعالى، من تحقيق الحرية السياسية والاختيار الحر للحاكم، وكذلك نجد أن مصيبة الشرك وخطره أكبر بكثير من الاستبداد، لان التوصيف الشرعي للاستبداد هو (الظلم)، وهذا هو اسمه الشرعي، والظلم الواقع على العباد أقل من الظلم الواقع في عبادة غير الله تعالى. والحرية التي يتحدث عنها هذا الخطاب هي الحرية السياسية ولهذا يقرنها مع ضدها وهو الاستبداد، وبعض الإخوة من المتأثرين بهذا الخطاب الذين لا تزال للعقيدة مكانة عندهم يزعمون أنهم يقصدون بالحرية التحرر من رق المخلوقين وهذا عين التوحيد، ومع أن السائد في كتابات هذا الخطاب المعنى الأول إلاّ أن هذا الزعم لبعضهم يدل على الاضطراب في خطابهم، ولهذا نقول لإخواننا هؤلاء إذا كنتم تقصدون بالحرية عين التوحيد فلماذا لا تسمون الأمور بأسمائها الشرعية وتتكلمون بما تكلم به الله ورسوله وهو التوحيد؟ ولماذا لم تفكروا في سبب ترك الشرع للفظ الحرية والاستغناء عنه بالتوحيد؟ ثم إن الإشكال ليس هنا فحسب بل يتجاوزه إلى أن الحرية مفهوم عام يشمل ما يكون حقاً وباطلاً، ولا يتميز الإّ بنية القلب، وهذه النية القلبية - إذا كانت مخلصة لله تعالى - هي التوحيد، ولهذا استعمل الشرع لفظ التوحيد ولم يستعمل لفظ الحرية لهذا الغرض التعبدي الإيماني الذي هو مقصود الشرع. وهذا الخطاب المدني يستند في إطلاق أولوية الحرية السياسية إلى أهمية الحرية وفوائدها، ومخاطر الاستبداد، وقد تقدم أن الكلام في الأهمية متفق عليه، ولكن الخلاف في الأولوية على العقيدة، وهو مالم يأتوا بدليل شرعي صحيح عليها، ولا يمكن لهم ذلك، لأنها مخالفة للإجماع، فلم يقل أي عالم معتبر بأولوية الحرية في اختيار الحاكم على العقيدة والتوحيد، كما لم يوجد من يقول بأن الاستبداد أكبر عند الله تعالى من الشرك والبدع. ومن أكبر الأخطاء المنهجية لدى هذا الخطاب بعد دعوى أولوية الحرية على العقيدة هو أنه جعل الحرية - التي لها كل هذه القيمة على العقيدة - وسيلة إجرائية معينة في اختيار الحاكم وهي الديمقراطية، فقد زعم هذا الخطاب أن الحرية لا يمكن أن تتحقق إلا بالديمقراطية، وهو يقصد الديمقراطية كآليات إدارية إجرائية تتيح الحريات ويتم اختيار الحاكم فيها من الشعب، ومع أنني أختلف معهم في الديمقراطية كآليات تحقق الحرية ولكن محور نقدي ليس في هذه القضية بل يتجاوزها إلى اعتبار كلامهم هذا من المجازفة والتهور الغريب؛ إذ كيف يجوز أن تجعل وسيلة إجرائية - مهما كانت مهمة - ذات أولوية على العقيدة والتوحيد، يا سبحان الله أين ذهبت عقول هؤلاء الإخوة فضلاً عن ديانتهم؟!. إن أكبر ما يستدل به من أباح الديمقراطية عند من شم رائحة العلم الشرعي هو أن الشريعة الإسلامية تركت الوسائل الإجرائية في اختيار الحاكم للأمة، فهي عندهم من الامور الدنيوية وليست من الأمور الدينية، فهل يليق بالمسلم أن يجعل اختراعاً إدارياً دنيوياً مثل الأمور التي أمر الله تعالى بها، ورتب النجاة في الدنيا والآخرة عليها؟ لو كانت وسائل اختيار الحاكم لها هذه المنزلة العظيمة في دين الإسلام لما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبين أولويتها على التوحيد الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام!! إنني لا أقلل من أهمية الحرية ومخاطر الاستبداد ومشاكله الكبرى في الأمة لكن أن يجعل ذلك مبرراً لدعوى الأولوية على العقيدة، فهذا هو الانحراف الذي يجب نصح هؤلاء عنه.

إن هذه الحالة والمحنة التي يعيشها هذا الخطاب تشابه إلى درجة كبيرة حالة المتكلمين الذين عظموا العقل (وأهمية العقل لا تخفى!!) كما عظم هؤلاء الحرية، ثم زعموا أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا بالنظر العقلي، ولا يتحقق النظر إلا بدليل حدوث الأجسام، تماما كما قال هذا الخطاب أن الحرية لا تتحقق إلا بالديمقراطية، فالمتكلمون جعلوا دليل حدوث الأجسام هو العقل الذي يعارضون به النصوص، والخطاب المدني جعل الديمقراطية هي الحرية يعارضون بها الشرع فيما يظنون انه يقيد الحرية، والطائفتان قدمت ما تعظمه على التوحيد، وجعلته أول واجب على المكلف. إن الحرية وحدها لا تتضمن طاعة إلاّ إذا قصد الإنسان بها وجه الله تعالى، وهذا مفترق الطرق بين الخطاب المدني الدنيوي، والخطاب الديني التعبدي، وبدون هذا القصد فإنه لا يوجد فرق بين الشخصيات المسلمة وغير المسلمة، فشخصية ثائرة مثل غيفارا كان يشدوا الحرية، وكذلك ثوار الثورة الفرنسية ولكنها حرية مدنية ديمقراطية مشركة مهما حققت من المصالح الدنيوية، ولهذا ما لم يمحص هذا الخطاب منطلقه ويراجع مرجعيته وينفذها في الواقع ويستعمل المفاهيم والمصطلحات الشرعية فإنه سيظل سائراً في طريق العلمنة مهما زعم أنه ذو مرجعية إسلامية، فالدعاوى لا بد لها من إثبات، وإثباتها يتبين من خلال الكلام التفصيلي، فبعض الحكومات العربية تدعي أنها ديمقراطية ولم يقبل هذا الخطاب دعواها. لقد حوّل هذا الخطاب الحرية والمدنية من وسيلة لتحقيق المقاصد التعبدية إلى غاية في ذاتها، بل جعلوا لها الأولوية على العقيدة والتوحيد، ولهذا أصبح بعض الإخوة يهيم بالحرية أيّاً كان مقصدها وهدفها فتجد الإشادة والإعجاب والفرح بأحرار فرنسا وحركة التنوير فلا تفارقهم عبارات فولتير وغيره من ملاحدة الثورة الفرنسية، بل تجاوزوها إلى أقوال غيفارا والزعماء الشيوعيين، بل ربما يتمنى الموت في سبيل الحرية!!. إن القارئ لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سوف يجد أن الغاية من الوجود الإنساني على الأرض هو التعبد لله بمعناه الشامل، وكل ما يتعلق بالبناء الدنيوي بكل أشكاله هو وسيلة لتحقيق هذه الغاية، ولهذا قارن الله تعالى بينهما في قوله: " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"، وتعظيم المدنية على حساب الدين لم يكن هذا الخطاب هو السابق له، فقد سبقت المدرسة العصرانية له من فترة طويلة، وأذكر أني قرأت لكاتب إسلامي يقول كيف يجوز أن نعتقد أن أديسون المخترع للكهرباء ونفع الإنسانية سوف يدخل النار لأنه لم يسلم، وفلاح مصري أحمق يدخل الجنة لأنه مسلم، فهذا الكاتب الإسلامي!! لم يدرك عقله ذلك لأن ميزان الأولويات في ذهنه مختل، وعلى كتب هؤلاء يعتمد بعض كتاب الخطاب المدني الديمقراطي. إنني ناصح لهؤلاء الإخوة أن يراجعوا أفكارهم، وأن لا تنسيهم السكرة خطورة الفكرة، وأن يتجاوزوا المراهقة والاستفزاز، وأن يعلموا أن المحافظة على حقائق الدين أهم من أي مكاسب مظنونة فهي المكسب الأعلى، وأن يبحثوا المسائل بطريقة شرعية سليمة، واذا كانوا لا يمتلكون أدوات البحث الشرعي فإن السكوت خير لهم من النطق الآثم. إنني أتعجب من هؤلاء الإخوة الذين يتكلمون عن النهضة وسننها الكونية ثم يمارسون دوراً سلبياً في الساحة لن يحقق إلا الاستفزاز والصخب الذي يزول دون أي أثر نهضوي. فما يقومون به من استفزاز ونقد سلبي لن يوصل إلى نهضة أو حرية أو ديمقراطية بل يكرس التفرق والفوضى والمخالفة للأحكام الشرعية، والكلام في الدين بغير علم، ونحو ذلك من السلبيات. الغريب حقاً أنهم يسعون إلى التقارب مع التيارات الفكرية الأخرى بحجة الوحدة الوطنية في الوقت الذي يكرسون التفرق والاختلاف مع المنهج السلفي الأقوى علما، ً ودعوة، وصدقاً بالأفكار المخالفة للشرع، والأساليب البعيدة عن روح النصح.

وقفات مع مؤتمر (ماردين دار السلام)

وقفات مع مؤتمر (ماردين دار السلام) موقع الدرر السنية - قسم دراسات الواقع 4 جمادى الأولى 1431هـ إنه في يومي السبت والأحد (11 - 12/ 4/1431هـ) الموافق (27 - 28/ 3/2010م) عُقد في مدينة ماردين جنوب شرق تركيا مؤتمر بعنوان: (ماردين دار السلام) نظمه المركز العالمي للتجديد والترشيد بلندن بالتعاون مع مؤسسة كانبوس الإسلامية للاستشارات بلندن وجامعة أرتوكلو بماردين حضره جمع من العلماء وطلاب العلم والمفكرين من عددٍ من الدول العربية والإسلامية ناقشوا فيه فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية الشهيرة والتي جعل فيها بلد ماردين - والتي كان أهلها مسلمين ويحكمهم آنذاك المغول- بلداً مركباً لا هو دار حرب ولا دار سلم، وكان هذا اجتهاداً منه موفقاً عصم الله به دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، حيث كان التقسيم الشائع بين الفقهاء أن البلد إما أن تكون دار حرب (كفر) أو دار سلم (إسلام) فجاء شيخ الإسلام رحمه الله وقال ما نصه عن ماردين: (وأما كونها دار حرب أو سلم فهى مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجرى عليها أحكام الإسلام؛ لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث)؛ اجتمع المؤتمرون وناقشوا هذه الفتوى وأصدروا بياناً ختاميًّا وقَّعه عددٌ منهم وتحفظ عليه بعضهم. ولنا مع هذا المؤتمر وبيانه وقفات: الوقفة الأولى: حضر المؤتمر عددٌ من المبتدعة وأهل الأهواء، كالرافضة وبعض غلاة الصوفية، وعددٌ ممن يطلقون على أنفسهم التنويريين، كما حضره عددٌ من أهل السنة والجماعة، المشهود لهم بالمعتقد الصحيح؛ اجتهاداً منهم بضرورة المشاركة في كل المؤتمرات لإسماع العالم صوت الحق، وقد رفض بعضهم التوقيع على البيان، ومع ذلك أدرجت أسماؤهم، فلا يُظَنُّ بهم إلا خيراً. الوقفة الثانية: فرح بهذا المؤتمر: العلمانيون والليبراليون والغرب بكل أطيافه وأشكاله من خلال وسائل إعلامه، ولم نر عالماً سنيًّا معتبراً أشاد به أو أثنى عليه، وإليكم بعض العبارت التي أُضفيت على المؤتمر: • علماء بارزون: (فتوى ماردين) لابن تيمية لا تصلح لهذا العصر. (الحوار نت) • فقهاء ينقضون فتوى «قديمة» لابن تيمية ... ويقرِّون «فضاء السلام» بديلاً عنها. (صحيفة الحياة) • مؤتمر (ماردين) يتَّهم أتباع شيخ الإسلام ابن تيمية بتحريف فتواه. (جريدة بر مصر) • المؤتمر الذي عقد في تركيا اعتبر جميع دول العالم «فضاء سلام». (إيلاف) • إعلان وفاة فتاوى ابن تيمية في تركيا. (الأخبار) • المؤتمر مجرد خطوة واحدة ضمن مجموعة مساعي أخرى، لتعزيز المراجعات الفقهية الشرعية. (إذاعة هولندا) • أعاد علماء دين مسلمون بارزون صياغة فتوى تعود إلى القرون الوسطى. (رويترز) الوقفة الثالثة: بعيداً عن تفسير فتوى ابن تيمية تفسيراً خاطئاً والتدثر بها لدى فئامٍ من الناس واستغلالها في فهم خاطئ للجهاد، فإنه لا يصح توجيهها توجيهاً خاطئاً لم يُرده شيخ الإسلام نفسه لتمييع قضايا الجهاد والولاء والبراء. الوقفة الرابعة: أصاب أصحاب البيان في الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية -رغم وجود من يعاديه بل ربما من يُكفِّره بينهم- وكما قيل: (الحق ما شهدت به الأعداء)، وذلك بقولهم في البيان: (ذلك أن ابن تيمية بما ألهمه الله من فهم للشريعة وفقه للواقع ... ) فرحم الله شيخ الإسلام الذي أنطق الله الحق على لسان أعدائه - فضلاً عن محبيه- وجعلهم يثنون عليه ويعترفون أن الله ألهمه فهم الشريعة وفقه الواقع. الوقفة الخامسة:

أخطأ أصحاب البيان في قولهم: (إن تصنيف الديار في الفقه الإسلامي تصنيف اجتهادي، أملته ظروف الأمة الإسلامية وطبيعة العلاقات الدولية القائمة حينئذ. إلا أن تغير الأوضاع الآن ووجود المعاهدات الدولية المعترف بها، وتجريم الحروب غير الناشئة عن رد العدوان، ومقاومة الاحتلال، وظهور دولة المواطنة التي تضمن في الجملة حقوق الأديان والأعراق والأوطان- استلزم جعل العالم كله فضاء للتسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والطوائف في إطار تحقيق المصالح المشتركة والعدالة بين الناس) ذلك أن تصنيف الديار إلى دار حرب ودار سلم وإن كان تصنيفاً اجتهادياً إلا أنه مما أطبقت عليه كتب الفقه الإسلامي من المذاهب الأربعة بل حتى المذاهب: الشيعية والزيدية والإباضية، فهو ليس من مفردات السلفية ولا الوهابية، ولا من اختراعات ابن تيمية، وهي مصطلحات باقية إلى قيام الساعة ما بقي إسلامٌ وكفرٌ، ويمكن أن تكون بعض الديار مركبة فتكون دار حرب من وجه، ودار سلام من وجه آخر، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا كافٍ في الرد على من كفَّر المجتمعات الإسلامية، أو استباح أعراض المسلمين بحجة أنها دار حرب، فلا حاجة لإلغاء ما اتفق عليه فقهاء الأمة، بحجة وجود معاهدات دولية، ونشوء عالم كله فضاء للتسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والطوائف، زعموا. الوقفة السادسة: وأخطؤوا أيضاً في قولهم: (وأصل مشروعية الجهاد ما كان دفعاً لعدوان {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أو نصرة للمستضعفين {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } أو دفاعاً عن التدين {أذن للذين يُقاتَلون ... } وليس ناشئاً عن اختلاف في الدين أو بحثاً عن المغانم) فإنه وإن كان جهاد الدفع مقدماً على جهاد الطلب، إلا أنَّ الجهاد إنما شُرع لإعلاء كلمة الله ولإظهار التوحيد وطمس الشرك وأن يدين الناس بدين الإسلام، والله عزَّ وجلَّ يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فكيف يقول هؤلاء: (وليس ناشئاً عن اختلاف في الدين)، ولو تأمل أصحاب البيان قولهم: (أصل مشروعية الجهاد ما كان دفعاً لعدوان) لوجدوا أنه يعزز اجتهاد من يرى مشروعية أعمال العنف في البلدان الإسلامية بحجة أنه دفعٌ لعدوان، فجاء البيان ليؤكد لهم ذلك ويقول لهم: إنَّ هذا هو أصل مشروعية الجهاد. وكان يكفيهم أن يستنكروا ويجرِّموا أعمال العنف في البلدان الإسلامية مع بقاء فرضية جهاد الدفع ومشروعية جهاد الطلب عند القدرة وتحت راية إسلامية واضحة. الوقفة السابعة: وأخطؤوا أيضاً في قولهم: (إن مفهوم الولاء والبراء لا يكون مُخرجاً من الملة ما لم يكن مرتبطاً بعقيدة كفرية) وهذه لوثة إرجائية، فإن الولاء بمعنى المحبة والنصرة للكافرين من الأعمال المكفرة التي لا يُشترط فيها الاعتقاد، كما نص على ذلك علماء الإسلام قديماً وحديثاً. الوقفة الثامنة:

بعد أن أثنى البيان على فتوى ابن تيمية المشار إليها ووصفها بأنها: (فتوى متميزة في طرحها مشابهة في واقعها إلى حد كبير لعصرنا) (لما تختزنه من دلالات علمية وحضارية ورمزية متميزة) دعا المؤتمر بعد ذلك إلى إعادة النظر في تقسيم الفقهاء -وابن تيمية واحد منهم- فقالوا: (يقتضي أن يعيد الفقهاء المعاصرون النظر في هذا التقسيم لاختلاف الواقع المعاصر الذي ارتبط فيه المسلمون بمعاهدات دولية يتحقق بها الأمن والسلام لجميع البشرية وتأمن فيه على أموالها وأعراضها وأوطانها) وكان يسعهم ما وسع ابن تيمية- الذي أثنوا عليه وعلى فتواه- من تقسيم الديار إلى دار حرب ودار سلم ودار مركبة فيها المعنيان، وكل هذه الأنواع موجودٌ في هذا العصر، مع الإنكار على مَن عامل دار السلم أو الدار المركبة معاملة دار الحرب، أما جعل المعاهدات الدولية سبباً في إلغاء التقسيم، فهذا مما يعجب منه المرء! خاصة ونحن نرى أن دول الكفر- وعلى رأسها إسرائيل ومن عاونها- أول من يخرق هذه المعاهدات. الوقفة التاسعة: ليحذر العلماء والدعاة والمفكرون من أن يكونوا أداة يستخدمها الغرب في ضرب ثوابت الإسلام، ويحققوا بذلك - من حيث شعروا أو لم يشعروا- استراتيجياتهم، ومخططات مراكز دراساتهم واستشاراتهم، كمؤسسة راند وغيرها، بحجة بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي، كما هو أحد عناوين فصول تقرير مؤسسة راند. الوقفة العاشرة: وليحذر المسلم من المؤتمرات والمراكز الإسلامية المستَغْفَلة أو المشبوهة، وليعرض بياناتها وتوصياتها على الكتاب والسنة، وليستعن بالعلماء الراسخين في العلم، والدعاة الربانيين الذين لم يتأثروا بضغوط الواقع وما بدَّلوا تبديلاً. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينصر دينه، ويعلي كلمته والحمد لله رب العالمين

ماذا يريد السلفيون من منتقديهم؟

ماذا يريد السلفيون من منتقديهم؟ عبد اللطيف التويجري 26 ربيع الآخر 1431 المتابع لما يُطرح في الساحة الفكرية والإعلامية اليوم حول الهجوم على منهج السلف؛ يجد أن الهجوم متعدد الأطياف، متنوع الأهداف ـ ولكل من هؤلاء وجه هو موليها، والله حسيبه عليها ـ وفي هذه القضية جال في نفسي خطرات وإشارات سريعة، وقد انتظمت في القضايا التالية: أولاً: قضية العلم والمعرفة أكبر مشكلة تواجه الكثير من السلفيين في أثناء نقاشهم مع منتقديهم هي: ضعف التكوين الشرعي لدى الطرف المنتقد، فتجد استدلالاً بالعموميات، أو بأحاديث ضعيفة، أو رمي التُّهم جُزافاً على الجميع، أو تضخيم خطأ عين، أو الاعتراض بأدلة وأقيسة فاسدة لا تصلح للاحتجاج والقياس العلمي، ونحو ذلك من الحجج والبراهين السائبة! والمتأمل في المنتديات والحوارات يجد في ذلك كيل بعير في عدة مسائل: سواء في القضايا الفقهية: كالاختلاط والغناء والحجاب .. أو القضايا العقدية: كمحبة الكافر غير المحارب، والتقارب مع الطوائف المبتدعة، والأعياد الوافدة، والنزعة الإنسانية .. أوقضايا السياسة الشرعية: كتصور نظام الحكم في الإسلام أو مفهوم العدل والمساواة والحريات، وغيرها. وغاية المراد في ذلك: أن تراعى في هذه القضية الأصول العلمية للنقد؛ وأن لا تكون التُّهم ملقاة بلا زمام، وأن يبني الناقد فكرته على أدلة صحيحة معتبرة؛ ليعرف الآخر كيف يجيبه، فهذا أدعى للإنصاف والموضوعية، هذا إذا كان الناقد صادقاً يريد أن يبني بنقده، أمَّا إذا أراد هدم المشروع السلفي وإزالته؛ فهذا له كلام آخر، حيث إن لهم في ذلك مشاريع وأفكار تجدونها مفصَّلة في تقارير مؤسسة راند الأمريكية، وفي كتابات بعض السطحيين من بني جلدتنا! ثانياً: قضية الأصول والقواعد من المعلوم أن لكل منهج ومذهب أصولاً وقواعد يبني عليها منهجه ومذهبه، وقواعد وأصول المنهج السلفي واضحة ومعلومة، لكن كثيراً من المنتقدين لا تعرف كيف تحاجه وكيف تجادله؛ لأن أصوله وقواعده مضطربة، ومنهجه ((مطاطي)) فإلى ماذا تحاكمه؟ وكيف تحاوره وتناقشه؟ فإذا كانت أصوله الكتاب والسنة، فما أدواته المعرفية لفهم نصوصهما؟! وما ضوابطهما؟! وكيف نعرف أنه أصاب أم أخطأ؟! وهل يعرف النصوص بمحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها؟! إلى غيرها من الأصول العلمية المعتبرة، ومن أمثلة هذه القضية: بعض المنتقدين قد يحتج عليك بكلام الإمام أحمد، أو ابن تيمية أو ابن القيم .. إلخ، ثم تُسلم له، فإذا اعترضت على رأي آخر له، بكلام لنفس العلماء الذين احتج بهم، غاض وفاض، وقال أنتم أيها السلفيون تعتبرون أحمد بن حنبل هو الإسلام! وابن تيمية السنة! وهكذا دواليك .. فلا تعرف كيف تحاجه؟ وكيف تحتكم معه في اختلاف فهم نص؟! أو تضعيف حديث؟! أو اعتراض على قياس؟! أو نحوهما من القواعد والأصول العلمية لفهم الكتاب والسنة! ومن المفارقات، أن علماء السلف السابقين عندما ناقشوا مخالفيهم ومنتقديهم، نقدوهم من خلال أصولهم وقواعدهم، واحتجوا بكلام رجالهم وأهل مذهبهم، مثل أقوال الباقلاني والفخر الرازي والجويني بالنسبة للأشاعرة، وأقوال أرسطو وسقراط وأفلاطون بالنسبة إلى الفلاسفة وهلم جرَّا. ثالثاً: قضية التحدث باسم السلفية

لا أحد يزعم من السلفيين أنه متحدث باسمها، يدخل من شاء في السلفية ويخرج من شاء؛ وذلك لأن السلفية هي الإسلام الصافي النقي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بكافة تعاليمه بغير ابتداع ولا غلو ولا جفاء، ومن سمات المنهج السلفي ومميزاته، أنه واضح مطرد يستطيع كل متبع له، عالم بأصوله وقواعده وضوابطه، أن يعرف المنهج المخالف له، سواء في العقيدة أو المعاملة أو السلوك، أمَّا بما يتعلق بتنزيل ذلك على الأعيان، فالمنهج السلفي هو المنهج الأكثر عذراً واحتياطاً في هذه المسألة، كما هو مقرَّر في أبجدياته وأدبياته من كثير من المذاهب والاتجاهات الأخرى، فهل ترك لنا المتحامل من رباع أو دور؟! رابعاً: قضية الممارسات الخاطئة من بعض السلفيين لمنهج السلف هذه القضية بالذات لو تأملها المنتقد لوجدها ميزة لهذا المنهج، كيف يكون ذلك؟ أولاً: يدل هذا على أن منهج السلف واضح معروف، فإذا شذ فيه من شذ أو خالفه أحد وعُرِفَ، صار المخالف ـ ولو كان متبعاً لمنهج السلف ـ يستوجب النصح والرَّد حسب قواعد وأصول المنهج السلفي. ثانياً: إن من الظلم والإجحاف أن يعمم خطأ الفرد على المنهج نفسه، وهذا أمر بدهي قرَّره كثيرٌ من أهل العلم والمعرفة في القديم والحديث، فليس من المقبول شرعاً أن تعمم بعض الممارسات الفردية الخاطئة على المنهج ورجاله وأتباعه، وهذا للأسف مطروح من بعض المنتقدين حتى إنهم في كل مرحلة يقفزون أعلى، فالتشنيع أولاً على خطأ فردي من شيخ، ثم إذا تبين أنه متبع لرأي لعالم معتبر مثل ابن تيمية، شنع على ابن تيمية، ثم إذا تبين أنه إجماع من السلف شنع على الإجماع وأنه غير معتبر، وهكذا في سلسلة فجَّة من التعميم والإجحاف والظلم، وما قضية الاختلاط عنا ببعيد! خامساً: معرفة الدليل قبل الاعتقاد وإصدار الأحكام وأحسب أن هذه القضية مهمة جداً؛ فالاعتقاد قبل الاستدلال منهج للهوى، فالسلفيون يريدون من منتقديهم ومخالفيهم أن ينظروا أولاً في الأدلة ثم يعتقدوا ويستدلوا، ووالله ما وقع من وقع في بعض الإشكالات الفكرية والأخطاء العقدية إلا بهذا السبب؛ حيث تجد أن الرأي أو الفكرة تبلورت لديه وفق تصورات معينة فبدأ يبحث لها من النصوص والأقوال والآراء ما يوافقها ثم وقع في خطأ علمي فادح، أو منهج جديد قادح! وأجدني قبل انتهاء هذه النقطة مضطراً إلى سوق كلام لأبي إسحاق الشاطبي المالكي (ت: 79) في كتابه الاعتصام: (2/ 42) حيث يقول: (ولذلك سمى أهل البدع أهل الأهواء، لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة .. ). أ. هـ أخيراً: اعتقد أن الهجوم على منهج السلف يمرُّ وفق مؤامرة كبرى لا يدرك أبعادها كثير ممن ينتقد التيار السلفي من الداخل!

والمتأمل في نتيجة تصويت الحلقة الماضية من برنامج البيان التالي: (ظاهرة الهجوم على منهج السلف)، يجد أن التصويت حسم مسألة المؤامرة، وقد سمعنا كثيراً من يقرِّر أنكم دائماً تعيشون فكرة المؤامرة، وأقول: صحيح! المبالغة في ذلك غير مبررة، وفي المقابل أيضاً فإن إغفال ذلك من السطحية والتغافل، وينبغي التنبه إلى أن المؤامرة لا تأتي من عدو خارجي فقط، مثل المنظمات والهيئات الصهيوصليبية ونحوها؛ بل هناك عدو أخطر من ذلك، وهو ماكر مخادع له حيل كثيرة، ومصائده ومكائده لا ينجو منها أحد إلا من رحمه ربه، تأمل معي قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدوًا) وقوله: (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينًا) فهذا الشيطان الرجيم قد يوحي للمرء بشبه وحجج يزينها ويحسنها له فيوقعه في المزالق المهلكة، حمانا الله وإياكم من همزات شياطين الإنس والجن! وفي الختام: لا شك أن باب النقد والتصويب مفتوح لكل أحد، والحق ضالة المسلم أينما وجده فهو أحق به، ولكن ينبغي أن يكون هذا النقد موضوعياً، وأن يكون صاحب هذا النقد يقظاً؛ بحيث لا يوظف هذا النقد توظيفاً سيئاً يفرح به الأعداء والشامتون؛ وقد يكون بعض النقد مثل بيع السلاح في زمن الفتنة، والله المستعان! ومن باب الحق والإنصاف، فإن هناك شخصيات نقدوا واختلف معهم، ولكنهم فعلاً يستحقون الاحترام والتقدير؛ لأن نقدهم موضوعي منصف، تحسُّ فيه النصح والغيرة واليقظة، وفعلاً تستفيد منهم، فهنيئاً لهم هذه الخصلة العزيزة. أدرك أن هذه الإشارات قد لا "تروق" للكثيرين، وأحسب أني في هذا المقال السريع لم أقصد أحداً بعينه، لكنها خطرات وإشارات دونت من خلال متابعه الساحة الفكرية والإعلامية وما يحصل أيضاً في أثناء اللقاءات من حديث حول هذه القضية، ولكن أتمنى ممن لا يوافقني الرأي أن يتأمل هذا المقال ويقرأه بعيداً عن الشحن النفسي، والتصورات الصادرة مسبقاً، وما كتبت هذا المقال إلا أرادة التوضيح والنصح، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، والله أعلم.

فتنة القول بجواز الاختلاط (2/ 2)

فتنة القول بجواز الاختلاط (2/ 2) محمد بن عبدالله البقمي كنتُ قد سطّرتُ في مقالةٍ سالفةٍ؛ بعنوان " فتنة القول بجواز الاختلاط (1/ 2) " مواقف النّاس إبّان فتنة القول بجواز الاختلاط، وما انقسمت إليه النُّخَبُ العلميَّةُ والفكريَّة والثقافيَّة في البلاد. ومن المُناسب لتكتمل صورة هذا المشهد؛ أن نُعْقِب هذه الصفحة بصفحةٍ أخرى، نُسوّد فيها الدروس والعبر التي اُستُفيدتْ من هذه الفتنة، لتكون موعظةً للعقلاء، ودرساً للأجيال، وعبرةً للمعتبرين .. لن أُطيل في التّقْدُمة والتّوطئة لهذه الدروس. وأشرع في ذكرها على وجه الإجمال، وأعتذر مقدّماً عن سهو اليراع أو الإغفال، لكونها عفو الخاطر، قريبة المأخذ، سريعة التسطير، وإن شئت فقل "رأيٌ فطير"!. فمن هذه العبر: أولاً: بُطْءُ المشاريع التغريبية التي يُراد تمريرها على أهل هذه البلاد؛ لا يعني عدم تنفيذها، وإنَّما القوم يمشون رويداً رويداً، حتى يصلون، ومن عجيب ما يُذكر أنّني وقعتُ على تعقيبٍ نشره سماحة الشيخ الإمام ابن باز في (مجلّة البحوث الإسلامية، عدد 15، ص 6) على أحد "دعاة الاختلاط"، اقرأهُ ثَمّ - غيرَ مأمورٍ - لترى قِدم هذه الدعوات، فقد نُشر تعقيب سماحة الشيخ في ربيع الأول عام 1406هـ، أي قبل خمسةٍ وعشرين عاماً بالضبط!! فتأمّل .. ولكأنّي بالقوم يسُوسُون مشاريعهم بقاعدة: (ليس المهم أن تكون الأسرع، بل المهمّ أن تصل!). ثانياً: أعادت هذه الفتنة لعلماء الأمّة الصادقين الناصحين (ولا أعني بالضرورة الرسميين) مكانَتَهم اللائقة بهم، فلقد اصطفَّ الشَّبَبة المحتسبون خلف شيوخهم، منْضَوين تحت رايتهم، مدافعين عنهم، صامدين معهم ضدّ هجمات الصحف "مبعثرة الولاء"، ولقد آذن فجرُ الفتنة بميلاد علماء وطلاب علمٍ وقفوا وقْفة صدقٍ مشكورةٍ، ضِدَّ تمرير هذه الفتنة .. أو حتّى إضفاء الشرعية عليها، ومحاولة التغاضي عنها، استجابةً للميثاق العظيم الغليظ: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران 187]. ثالثاً: تبيّنت حقيقة "المناصب" في هذه الفتنة؛ حيث تابع الجميع، مداخلاتٍ "مدخولة" من ثلّةٍ معيّنة؛ كان الدافع وراء استجلاب حديثهم هو تلك: "المناصب الرسمية"، والتي يستوي فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وكان حديثهم حينها إنشائيّاً بارداً اكتفى بتسويغ المنكر الحاصل، وتطعيمه بانتقاص العلماء المحتسبين، ومشايخنا الغيورين -وفقهم الله وسدّدهم-. ولقد نسيَ أولئك أو تناسَوا أن للحقِّ نوراً يُلبسه الله إيّاه، يراه أهل الإيمان ببصائرهم التي رزقهم الله - تعالى إيّاها. رابعاً: تجلّت في هذه الفتنة سنّة الله تعالى في أوليائه من علماء الصدق والنصيحة وحسن البيان، حيث جرت سنته، واقتضت حكمته؛ أن يبتلي عباده ويمحّص قلوبهم، فكان أنْ ضحّى بعضهم بمنصبه الذي أُبعِد عنه، أو عرضه الذين صار كلأً مباحاً لزوّار السفارات، ومراهقي الكتابات الورقية، وكان في هذا خير درسٍ وعبرةٍ للنّاس في سلوك سبيل أهل الإيمان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت 2]. خامساً: ظهور حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلقد استوعب النّاس بجلاء كُنْه هذه الشعيرة، وغايةُ مُراد الله تعالى منها، حيث المراد "الإعذار إلى الله تعالى" بالدرجة الأولى، ثمّ بعد ذلك: تغيير الواقع المُخالف - ما أمكن، وهو مصداق قول الحقّ تبارك وتعالى في محكم آي الكتاب: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف 164].

قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر؛ ليكون معذرةً، وإقامة الحجة على المأمور والمنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي). سادساً: ظهور أَثَر المواقع الدعوية والإخبارية - على الشبكة العنكبوتية -، حيث وسّعت نطاق التأثير على الرأي العام وقادتْه؛ خلال هذه الفتنة، حيث كان الرأي قبلها حبيساً لصحائف الجرائد الورقية، وكان كتّابها هم لسان المجتمع النّاطق (والخائن في أغْلبِه للأسف)، ولكن بحمد الله سُحِب البساط من تحتها؛ بفضل الله تعالى ثمّ بفضل هذه المواقع الإخباريّة والدّعوية، فقد كانت نِعْم المتنفّس للمشايخ المحتسبين، والدعاة الغيورين. ولا أدلّ على تأثيرها من الحجب الذي تكرّر عليها من قبل بعض الجهات، وينضاف لذلك تلك الهجمة الشرسة من بعض كتّاب الصحف، ومن ساندهم من إخوانهم ورفاق ملّتهم من العاملين في بعض "القنوات الفضائية المشبوهة". سابعاً: تمايُزْ الخندقين، واِنجلاء الغطاء عن الوجه الحقيقي لأفراد الفريقين؛ وهما خندق أهل الإيمان والغيرة والاحتساب، وممانعة المنكرات، وصد الباطل المعاصر بكلّ وسيلةٍ مشروعة، من أهل العلم والدعوة. وخندق دعاة الشهوات؛ وأدعياء الإصلاح والتنوير - زعموا -، ومن وقف بصفّهم ممّن انتسب لأهل العلم، أو شَرُف بشمّ رائحته. فلقد كانت هذه الفتنة بطبيعة الحال؛ لم تدَعْ مجالاً لأنصاف الحلول، أو لذوي الألوان الرمادية. فليس ثَمَّة إلا لونٌ أبيضٌ ناصع، وآخر أسودٌ قاتم. ثامناً: اتّضاح الصورة الحقيقية التي صنعتْ من السّياسي "نبيّاً معصوماً" لا يُخطئ، ولا ينبغي له أن يفعل، فلا يُنال من قراره، أو يُراجع فيه، ولا ينبغي أن يوجّه له النصح، أو يبيّن له الخطأ. والطريف في الأمر: أنّ هذا الأمر هو في حقيقته مخالفٌ لما أراده رأس الهرم السياسي "خادم الحرمين الشريفين" حيث لا زال يستنصح العلماء، ويستشير العقلاء، ويستنير بآراء ذوي الخبرة .. وهذا ما ينبغي أن يعيَه النّاس ويدركونه جيّداً. تاسعاً: كشّر دعاة الليبرالية عن أنيابهم، وأماطوا اللثام عن وجوههم الحقيقية، وتبيّن إفلاس تلك المبادئ البرّاقة، وانكشف زيف الشعارات التي صمّوا بها آذاننا، ومجّوا بها أفئدتنا؛ فأين هم عن دعاوى الحرية، واحترام وجهات النّظر المخالفة، وتقبُّل الرأي الآخر؟! وغيرها من شعاراتهم الزائفة. لقد أثبتت هذه الأحداث بما لا يدعُ مجالاً للشكّ أن القوم مجرّد "أدعياء" لا وجود على أرض الواقع لداعاويهم: والدعاوى إنْ لم يُقيموا عليها .. بيّناتٍ؛ أصحابها أدعياء! عاشراً: انكشاف حقيقة الرّموز المزيّفة التي صُنِعتْ تحت ضغط الإعلام، والواقع، والاغترار بالمظاهر، وجمال المنطق، وسبْك العبارة، والمراوغة في الجواب، أو سمّه إن شئتْ "الدبلوماسيّة الدعوية". فهم مع الأسف الشديد لم يُرَ منهم منهم وقفةٌ تسرّ الصديق، وتغيظ العدا، ويشكرها الربّ تعالى. أضع اليراع عند هذا الحدّ، وأكتفي من القلادة بما أحاط بالعنق، والحرّ تكفيه الإشارة، وكم تغني الإشارة عن كثيرٍ من العبارة .. وأحسبُ أنّي كتبتُ على طاقتي وبذلتُ وُسْعي، في تسطير هذه العبر وقد جعلتها عشرة عبر {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}؛ فأسأل الله - جلّت قدرته- أن ينفع بها، ويجعلها خالصةً لوجهه الكريم. المصدر: شبكة القلم الفكرية

الصحوة والمناطقية

الصحوة والمناطقية إبراهيم بن عمر السكران 26 ربيع الآخر 1431 الحمدلله وبعد، هذا موضوع حساس، ولا يمكن معالجته إلا بوضوح وشفافية، فأرجو أن ندخل إلى هذا الموضوع على هذا الأساس، ولذلك دعوني آخذ راحتي في عرض حيثيات هذا الموضوع. قبل عدة سنوات كنت أتحدث مع أحد الإخوة من طلاب علم الحديث، وكان يحدثني عن كتاب لأحد أشياخه لم يوافق حفاوة بين طلاب العلم، فكنت اسأله عن السبب؟ فقال لي إن شيخه يعتقد بأن ذلك بسبب أنه ليس من منطقة نجد، ولو كان من نجد لاحتفوا به، وهذا بسبب أن الصحوة الإسلامية مريضة بالمناطقية، اسنغربت كلياً هذا التفسير، وظلت القصة عالقة في ذهني. وبعد فترة معينة تكلم أحد الصوفية بمنطقة الحجاز بكلام تجاوز فيه الحدود الشرعية المقبولة، فكنت أتمنى أن يوضح أحد المتخصصين في العقيدة هذا الخطأ، لكن لاحظت أحد الأشخاص في المجلس يقول: لا، يجب أن يوضح الخطأ أحد طلبة العلم من نفس منطقة الحجاز، قلت له: لم؟، فقال لي: طلاب العلم في الحجاز متعصبون للحجاز، ولايقبلون نقداً لهم من الخارج، فاستغربت تماماً هذا التفسير، واستمرت القصة عالقة بذهني أيضاً. وقبل عدة أيام قال لي أحد الشباب: ألا تعتقد أن موقف الإسلاميين من الدكتور أحمد الغامدي (الذي أجاز الاختلاط والإرداف الخ) ليس بسبب خطئه الشرعي ولكن بسبب أنه من منطقة الجنوب؟ وأيضاً استغربت هذه النظرة، وتراكمت هذه القصة مع مثيلاتها في ذهني. وذكر لي أحد الإخوان أنه يعرف أحد المشتغلين بالحديث هذا ديدنه في مجالسه، لايمل من إثارة القضية المناطقية والإقليمية وتفسير الأحداث بها، والتذمر والنياحة أن طلاب العلم لم يعطوه وزنه اللائق بعلمه وعبقريته الحديثية بسبب أنه ليس من المنطقة الفلانية. ماقصة هذه القراءة التي تتهم الصحوة الإسلامية بأنها تتعامل مع الأشخاص والكتب والمشروعات والفتاوى باعتبار أنها تنطلق من معايير مناطقية؟ لماذا تفسر الأحداث بمثل هذه الخلفيات؟ مامدى صحة أن الإسلاميين متعصبين للسعودية؟ أو أن الإسلاميين في نجد متعصبين لنجد؟ أو أن الإسلاميين في الحجاز متعصبين للحجاز؟ أو أن الإسلاميين في بقية مناطق المملكة متعصبين لمناطقهم؟ أعتقد أنه يجب تفكيك هذه التهمة، ولنحاول أن نقرأها بموضوعية على ضوء واقع الصحوة الإسلامية ذاتها: كل من قرأ تاريخ الصحوة الاسلامية منذ أن تنامت وحتى اليوم فإنه سيكتشف بكل وضوح أن الصحوة الإسلامية هي التي ساهمت في محاربة المناطقية والإقليمية، ولم تكن مرتبطة بتاتاً بأي بعد إقليمي أو عرقي أو قبلي .. بل كان الرهان فيها دوماً على "العلم والديانة" .. ولم يكونوا متعصبين لا لجنسية سعودية، ولا لمنطقة نجد، ولا للحجاز، ولا للجنوب، ولا للأحساء، ولالغيرها. لنأخذ بعض الأمثلة التي نبرهن بها هذ الدحض لهذا التجني على معايير الصحوة:

الرمز رقم واحد في علم التفسير في الصحوة الإسلامية هو الشيخ "محمد الأمين الشنقيطي" صاحب أضواء البيان، وهو موريتاني الأصل، وقد كان مشايخنا يتنافسون في الأخذ عنه، فلازمه بكر ابوزيد عشر سنين، بل إن الشيخ حمود العقلا الشعيبي كان في وقت طلبه للعلم علماء كبار مثل الشيخ محمد بن ابراهيم وابن باز والشيخ عبدالعزيز ابن رشيد والخليفي ونحوهم، ومع ذلك وبرغم أنه أخذ عنهم إلا أنه أقبل كلياً على الشيخ الشنقيطي وكان يدرس عليه في الكلية، ثم يذهب إلى بيته يومياً ويدرس عليه الأصول (الروضة) والمنطق (سلم الأخضري) وغيرها، ولذلك سئل الشيخ حمود (لماذا هذه العناية بالدراسة على الشيخ الشنقيطي بالذات؟) فكان جوابه (الشيخ محمد هو شيخي وإمامي في كل شيئ، وكان من خيرة العلماء علما وورعا وزهدا) رحمهما الله كلاهما، بل إنه في كثير من البحوث العقدية التي ثارت مؤخراً حول الحاكمية والإرجاء وغيرها، كان كل من الطرفين يفرح إذا ظفر بنص للشيخ الشنقيطي، فإذا كان هؤلاء أبناء البلد يحتجون على بعضهم بنصوص لعالم موريتاني فكيف يقال أن الصحوة الإسلامية إقليمية أو مناطقية؟! خذ نماذج أخرى على سبيل الاختصار: هذا الشيخ عبدالرزاق عفيفي (مصري) وقد كان ركن اللجنة الدائمة، وهي أهم مؤسسة فتوية في السعودية، وكان الشيخ ابن باز يرتاح كثيراً لتحريراته، وافحص فتاوى اللجنة الدائمة لتجد هذا الحضور الكثيف للشيخ عبدالرزاق، واسأل طلاب العلم الذين أدركوه وكيف دهشتهم من ذكائه رحمه الله. وتأمل الدراسات الجامعية في السعودية في الحقبة السابقة ستجد أن أكثر شخصية معاصرة احتج الباحثون بأحكامه الحديثية هو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (وهو ألباني سوري)، بل إن بعض الباحثين الذين كتبوا في دراسة الظاهرة السلفية المعاصرة جعلوا الألباني أحد أهم ثلاثة مرجعيات شرعية للسلفية، فكيف توصم الصحوة بالقطرية وثالث ثلاثة فيها ليس سعودياً أصلاً؟ دعنا الآن من ذكر شخصيات ذات وزن مركزي وثقل عميق داخل وجدان الصحوة الإسلامية وهي خارج المناطق المزعوم تمييزها، ولننتقل إلى احتجاج أكثرة قوة من ذلك، وهو موقف الإسلاميين في حال المقارنة والموازنة والمواجهة بين طرفين من الشخصيات محل الدعوى: لقد كتب بعض أهل العلم في السعودية فتاوى ورسائل ضد كتب سيد قطب بسبب بعض الهنات فيها، ومع ذلك وقف جمهور الصحوة الإسلامية مع سيد قطب، لا مع شيوخهم، وسيد قطب مصري، واستمروا يتواصون بكتبه، فبالله عليكم أين القطرية المزعومة؟ تهجم محمد بن عبداللطيف آل الشيخ (وأسرة آل الشيخ معروف وزنها الديني والسياسي ومن منطقة نجد) على الشيخ محمد المنجد (وهو سوري الجنسية) ومع ذلك وقفت الصحوة الإسلامية عن بكرة أبيها مع الشيخ المنجد ضد محمد آل الشيخ، ليس ذلك فقط بل ليتك ترى الشباب السعودي من الحجاز ونجد والأحساء يثني ركبه في دروس الشيخ محمد المنجد، ويلتف حوله بعد صلاة الجمعة يستفتيه في دقائق أموره، لماذا؟ لأن معيار الصحوة الإسلامية هو (العلم والديانة) وليس النسب والإقليم كما يزعم الشانئون.

خذ مقارنة تاريخية أخرى: كان جناحا الصحوة الإسلامية في حقبة التسعينات هما (العودة والحوالي)، والعودة من نجد (وبشكل أخص من القصيم)، والحوالي غامدي من منطقة الجنوب، وحين خرجا من مرحلة الاعتقال بدأ العودة في تدشين خطاب ديني جديد، ومع ذلك كله فقد رأينا كيف انسحب السلفيون عن العودة، حتى أن الدكتور العودة وضعهم في خانة الأعداء وكتب كتابه الأخير (شكراً أيها الأعداء)، وانجفلوا يتفانون في توقير الشيخ الحوالي، وهذا ليس خارج نجد، بل السلفيون في منطقة القصيم يجعلون الشيخ سفر رمز الصمود العقدي والدكتور سلمان رمز التراجع، فكيف بالله عليكم توصم الصحوة المسكينة بأنها إقليمية؟ أي جور أكثر من هذا الجور؟! (والحق أن الشيخ سفر الحوالي باقعة في الاطلاع على المذاهب العقدية والفكرية، مع دقته المنهجية). وحتى لو تأملت -أيضاً- في الكتب فمن أوسع كتب العقيدة وأجمعها ومن أكثرها حفاوة بين المتخصصين العقديين كتاب "معارج القبول" للشيخ العلامة حافظ الحكمي (وهو من منطقة جيزان) وهو مفخرة جازان بكل صراحة، فانظر كيف يتلقى شباب نجد والحجاز "العقيدة" من علم من أعلام جازان، ويستشهدون بنقوله. وكذلك أهم مصدر اتكأ عليه الإسلاميون منهجياً في معركة الحداثة محاضرات الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي ثم كتاب الشيخ عوض القرني (وكلاهما من منطقة الجنوب)، بل لم يتشكل تصور الإسلاميين عن الحداثة إلا من طريقهما. على أية حال .. لو ذهبت أستقصي الرموز الشرعية والدعوية والفكرية والتربوية من مناطق المملكة، ومن خارج المملكة، وكيف يتنافس شباب الصحوة الإسلامية في توقيرهم على أساس مراتبهم في العلم والديانة لما انتهيت، وآخر مايعني شباب الصحوة الإسلامية هو النسب والمنطقة والإقليم، ولكني فقط أردت التمثيل، وأجزم لو أن القارئ الآن أخذ يتذكر أسماء المتصدرين للفتيا وتدريس العلوم الشرعية والدعوة والتربية لرأى التنوع الذي يكشف أن الإسلاميين ولله الحمد هم أنضج شرائح المجتمع في التعالي على هذه المعايير الجاهلية. بل إننا نتعبد الله جل وعلا بأن البنجلاديشي الذي يوحد الله أنه أحق بموالاتنا وتوقيرنا من سعودي يستغيث بالحسين. أعتذر على هذه الصراحة في ذكر الخلفيات المناطقية لكن ضرورة معالجة هذه التهمة التي يتهامس بها البعض أحياناً، ويصرح بها البعض في أحيان أخرى، ويعول عليها بعض الفاشلين علمياً أو منهجياً؛ اقتضى مني أن أكون صريحاً في هذا العرض. حسناً .. أعرف أن البعض يقول: أنا أتذكر قصة وقعت هنا أو هناك قال فيها شيخ ما عبارة يفهم منها المناطقية والإقليمية ونحو ذلك؟ فالجواب أن إطلاق الحكم على الصحوة الإسلامية بأنها قطرية أو إقليمية أو غير ذلك يحتاج النظر إلى الظاهرة العامة وليس إلى حالات فردية، فإننا نحن نعلم أن بعض المنتسبين إلى العلم يقع في شهوة رياء أو شهوة مال أو شهوة تتبع للرخص فهل يصح أن نطلق على الظاهرة الشرعية والدعوية بأنها مرائية أو متساهلة في الفتيا بسبب هذه الحالات الفردية؟ بل خذ مثالاً أكثر دلالة من ذلك: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أكمل تجربة بشرية عرفها التاريخ، وقع من بعضهم هنات في التنادي بدعوى الجاهلية، فهل يصح القول بأن الصحابة إقليميون أو عرقيون أو إثنيون بمثل ذلك؟ أم أن العبرة بالظاهرة العامة؟! وأعرف -أيضاً- أن البعض يحتج بمناصب معينة أعطيت بناءً على توزانات مناطقية، ولكن هذه ليست مسؤولية الصحوة الإسلامية، بل هذه يسأل عنها السياسي الذي يراعي هذه التوازنات المناطقية ويحسب لها حسابات خاصة. والمراد أن المعايير التي يتعامل بها الإسلاميون (كظاهرة) في تقييم الأشخاص والكتب أنها مبنية على التفاوت في العلم والديانة، وليس بناء على القطر والإقليم والنسب كما يزعم المتجنون على هذه الصحوة الإسلامية.

ماهي منجزات الصحوة؟

ماهي منجزات الصحوة؟ إبراهيم السكران الحمدلله وبعد. كثيرون تعرضوا لمظالم .. كثيرون تعرضوا لنكران الجميل .. ومع ذلك كله فلم يتعرض أحد في هذا العصر للجور مثل ماتعرضت له "الصحوة الإسلامية" التي قامت على أكتاف علماء ودعاة ومفكري أهل السنة .. يتحمل المرء طعنات العلمانيين والليبراليين وأرباب الشهوات والشيعة .. لكن ما أصعب الأمر حين يكون الغدر من أبناء هذه الصحوة نفسها .. الواحد منهم إذا صادف معرض كتاب، أو زار ستاندرات مكتبة الكتاب، أو قرأ مجموعة روايات؛ جاء منتفخاً مزهواً يتوهم نفسه مفكراً اكتشف مالم يكتشفه الآخرون! مع أن كثيراً من هؤلاء المتنكرين كان جاهزاً للانقلاب قبل أن يقرأ أصلاً، لكن كان يبحث عن بطاقة دخول إلى نادي المنسلخين لا أكثر، ويريد أن يوهم نفسه ومن حوله بأنه تحول بسبب "قراءااات" واسعة، وأكثرها خلاصات انترنتية صادفها هنا أوهناك .. في الشهر الماضي فقط تلقيت على بريدي الإلكتروني الشخصي عدة رسائل تسأل: ماهي منجزات الصحوة؟ بعضهم يسأل مستفسراً، وبعضهم يسأل مساجلاً، وبعضهم يقول لي: دار نقاش في عدة مجالس حول هذه الأطروحة "الصحوة لم تقدم أية منجزات" .. ولقد علمتني التجارب الكثيرة مع أصناف المنحرفين أن (شحن الناس ضد الصحوة) هو أول خطوات الانزلاق .. وكلما رأيت شخصاً وقع في مصيدة "التجني على الصحوة" قلت لأصحابي هذا إن لم يلطف الله به فسترونه يوماً يردد مايردده الليبراليون والعلمانيون .. فالصحوة حلقة الباب من حركها اتهمناه على مافوقها .. أولئك المتسائلين والجاحدين الذين يقولون "ماهي منجزات الصحوة؟ " أحب أن أوضح لهم أن الإشكال ليس في قراءة "المخرجات" .. وإنما الإشكال يسبق ذلك، إنه إشكال في "المعايير" .. قبل أن تسأل الآخرين: ماهي منجزات الصحوة؟ فاسأل نفسك: ماهو معيار المنجزات؟ كل من اضطرب وارتبك في قراءة منجزات الصحوة فليس بسبب خفاء المرئي وإنما بسبب تبدل جوهري في عيون الرائي نفسه .. لوأعطيت الشيعي صحيح البخاري فسيقول لك الكتاب قصر في فضل آل البيت .. ولو أعطيت الناصبي نفس الكتاب لقال لك الكتاب غلا في آل البيت .. كيف اختلف التقييمان والكتاب واحد؟ ليس لاختلاف الأحاديث وإنما لاختلاف معايير القارئ .. قبل أن نسلط الضوء على منجزات الصحوة .. لنحاول تسليط الضوء أولاً على معايير هؤلاء الجاحدين لفضائل الصحوة .. يأتينا بعض هؤلاء وقد تشرب المعايير العلمانية أو الليبرالية أو التنويرية أو الديمقراطية أوبشكل عام (المعايير المستغربة) ثم يقول لنا: ماهي منجزات الصحوة؟ عقول تشبعت بالقيم الغربية في التعامل مع هذه الحياة وتأتي تسأل ماهي منجزات الصحوة الإسلامية؟ يا عزيزي قبل أن تسأل عن منجزات الصحوة، صحح معاييرك أولاً، ولذلك تجد هؤلاء يتحاشون أن يطبقوا معاييرهم على القرون المفضلة، لأنهم يعلمون أنها ستؤول إلى إدانتهم بعضهم يجعل أولوية الإسلام ومركزه وقضيته الأساسية هي (العمران المادي) .. وبعضهم يجعل أولوية الإسلام هي (إطلاق الحريات الشخصية)، وبعضهم يجعل أولوية الإسلام (مقاومة الاستبداد السياسي) .. ثم يأتي ويقرأ الصحوة بهذه العين العوراء التي لاتبصر إلا قضية واحدة ..

لا يا عزيزي .. الصحوة تختلف كثيراً عنك في معاييرها، الصحوة الإسلامية لم تنطلق بمعايير تغريبية، الصحوة الإسلامية لم ترسم مسارها بمعايير علمانية، ولا بمعايير ليبرالية، ولا بمعايير تنويرية، ولا بمعايير الديمقراطيين، ولا بمعايير أدعياء الوسطية، ولا بمعايير أدعياء الإصلاح السياسي، ولا بمعايير الوطنية الجاهلية، .. ولكنها بمعايير (أهل السنة) .. أتعرف ما هو معيار أهل السنة؟ إنه (الإسلام الشامل) إنه أخذ الكتاب كله .. إنه الاستسلام والانقياد لكل مسائل الدين .. إنه الاعتزاز والفخر بكل حرف من حروف الشريعة .. إنه حمل رسالة الإسلام بكل تفاصيلها .. وليس بالأجزاء التي تهواها النفوس فقط .. كما قال تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) [آل عمران:119] .. أما هذه المدارس الفكرية المخالفة لأهل السنة في منهج الإصلاح فمصدر الخلل في معاييرهم تبعيض الكتاب الذي قال الله عنه (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة:85] .. وعبر عنه القرآن أيضاً بتعضين القرآن الذي قال الله عنه (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) [الحجر: 91] أي أجزاءً مفرقة .. وعبر عنه القرآن أيضاً بقرطسة النص الذي قال الله عنه (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) [الأنعام:91]. إن كنت ياعزيزي لازلت متشرباً أهواءك في حصر الإسلام في (العمران المادي) .. أوحصر الإسلام في (الحرية السياسية) .. أوحصر الإسلام في (ماوافق الغرب من المفاهيم) .. فلا داعي أن تتعب نفسك وتتعبنا معك في البحث عن منجزات الصحوة .. لأن مشكلتك ليست مع "الصحوة" .. بل مشكلتك مع "القرآن" .. صحح علاقتك بكتاب الله أولاً، ثم تعال نتناقش في منجزات الصحوة .. الصحوة الإسلامية ياعزيزي حين استوعبت أن معيارها هو معيار أهل السنة وهو الأخذ بالكتاب كله .. أثمرت منجزات شرعية في زمن قياسي قصير .. نجاحات متوالية مذهلة في مدة استثنائية .. أعظم وأهم وأشرف منجزات الصحوة الإسلامية (ترسيخ التوحيد) الذي جعله الأنبياء والرسل رأس مشروعاتهم .. تأمل في البلدان العربية والإسلامية التي لم تنتعش فيها الصحوة السنية وابكِ -إن كانت دموعك يستثيرها التوحيد- على عدد الأضرحة والمزارات والقباب والمشاهد والمراقد المقدسة .. اسأل أي حركة قبورية في العالم عن أخطر توجه يهددهم وسيقولون لك "الصحوة السلفية" .. أي شرف أن يكون من يواصل مشروعات الأنبياء والرسل هم هذه الصحوة الإسلامية؟! هل تعلم أنه في مولد أبي الحسن الشاذلي في محافظة البحر الأحمر في مصر ينحر ذبائح تصل إلى (120) ألف رأس من الخراف والماعز والإبل (صحيفة المصري اليوم، 28/ 12/2006) .. هل تعلم أن حصيلة النذور في مصر في الفترة (2005 - 2006) بلغت 52 مليوناً و67 ألف جنيه؟ (حوار لوزير الأوقاف المصري مع جريدة الأخبار) .. هل تعلم أنه في المنطقة الشرقية والجنوبية من السعودية لاتزال تقام شعائر الشرك والوثنية في الاستغاثة والذبائح للحسين ولعلي ولبقية آل البيت؟ هل تعلم أن واحداً من أضخم الرموز الدينية في الحجازكتب كتباً ورسائل وعقد الدروس والمجالس يدعوا فيها لألوان من قوادح التوحيد .. حتى أن الشيخ عبد الله بن منيع لم يستطع احتمال الأمر وكتب كتاباً حزيناً في مناقشته والتحذير منه ومما قاله الشيخ ابن منيع في الكتاب:

(تدعو حال مؤلفات محمد علوي مالكي إلى اعتباره في طليعة الدعاة إلى البدع والخرافات والشرك بالله في ألوهيته وربوبيته ; ذلك الرجل الذي آثر ممن غرر بهم وأضلهم وأعماهم: لحسهم يده، وركوعهم له، وتبركهم بآثاره وأعضائه وملابسه) [حوار مع المالكي، للشيخ ابن منيع، المقدمة] ورد عليه أيضاً صقر السنة سفر الحوالي -شفاه الله- بعدة رسائل وسماه (مجدد ملة عمرو بن لحي) في رسالة خاصة بهذا العنوان. وأنا شخصياً رأيت محمد علوي مالكي مرةً واحدة، ورأيت فيها مثقفين يقبلون يده، بعضهم كان يسارياً ثم الآن ليبرالي، ومع ذلك ينحني ويقبل يده أمامنا. وهل انتهى دعاة الشركيات اليوم؟ لا، ياعزيزي لم ينتهوا، فانظر الآن في النشاط الغريب للحبيب الجفري والفقيه صالح الأسمري والمحدث محمود سعيد ممدوح، وغيرهم ممن يروجون الشركيات، والحبيب الجفري رُد عليه بكتاب اسمه (إلى أين أيها الحبيب الجفري؟) للباحث خلدون مكي، وقدم للكتاب عالمان من أفاضل الأشاعرة، وهما مصطفى الخن ومحمد راجح, وتحاشى المؤلف كتب ابن تيمية وابن القيم, فضلاً عن كتب علماء الدعوة النجدية, والمشائخ السلفيين المعاصرين، ففي رده عليه بيان لأفكار الجفري الخطيرة في باب الألوهية، وإن كان المؤلف جرى على مذهب الأشاعرة في مسائل كالتسلسل وغيرها. بل الأمر الآن أشد، فقد كان دعاة الشرك في الجزيرة يتعيشون على حصيلة النذور التي يتبرع بها لهم الجهال، أما الآن فاختلف الحال، فقد صارت وزارة الشؤون الإسلامية في الإمارات تدعمهم وتمكن لهم، ظناً من بعض النافذين أنهم يقاومون نمط الإسلام التكفيري بدعم نمط الإسلام الصوفي المتسامح، فصار هؤلاء يدخلون الشركيات على الناس استغلالاً لظروف سبتمبر! وأهل الإمارات أخيار وفيهم طيبة لكن غلاة الصوفية استطاعوا النفاذ إلى مواقع مؤثرة سياسياً .. وأظن البلاء بدأ مع الخزرجي. والله أعلم. ولذلك فإن بعض الناس يتساءل كثيراً عن سبب فشل مشروع الصفار وأمثاله في التقارب بين السنة والشيعة، ويظن هو وغيره من التقاربيين أن المشكلة في "سب الصحابة"!، وإذا تحدثوا في الموضوع لم يذكروا إلا سب الصحابة، أبعد هذا غربة لحقائق القرآن؟! قضية سب الصحابة هي القضية رقم 2 بيننا وبين الشيعة، وإنما القضية الأولى هي الشركيات التي يقوم عليها المذهب الشيعي، كالاستغاثة بالحسين وغيرها، والشركيات امتزج بها لحم المذهب الشيعي ودمه، حتى أن المفكر الشيعي (أحمد الكاتب) وهو مفكر مثقف ومتأثر بالفكر العقلاني المعاصر، ويفوق الصفار وأمثاله عشرات المرات في الاطلاع والعمق والجرأة على نقد المذهب الشيعي (الصفار رجل دبلوماسية محض وليس له في العلم بالمذهب ولا في الثقافة المعاصرة نقير ولاقطمير)، ومع ذلك كله يقول أحمد الكاتب في كتابه (الفكر السياسي الوهابي) مايلي: (ولكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تبعاً للشيخ ابن تيمية، كان يعتبر بعض الممارسات المختلف حولها بين المسلمين، مثل دعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم، شركاً، وشركاً أكبر مخرجاً عن الملة والدين) [ص 16، ط2، 2004م] وتبعاً لذلك فقد اعتبر أن "لا إله إلا الله" لاتعني إفراد الله بالألوهية والعبادة، بل تعني فقط إفراد الله بالربوبية! ولذلك يقول "أحمد الكاتب" في سياق انتقاده للشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ولذلك فقد أطلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب كلمة "التوحيد" على "توحيد الألوهية" وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء والنحر والرجاء والتوكل، وليس "توحيد الربوبية" الذي يعني الإيمان بالخالق الواحد) [الفكر السياسي الوهابي، ص 17، ط2، 2004 م]

هذا أحمد الكاتب (عاقل المرة) بالتعبير العامي؟! فكيف بمن هو دونه؟! ومع ذلك فله كلام فيه تراجع مجمل عن هذا التقرير، ولايزال فيه إشكالات. والمراد أن جماهير رموز الشيعة اليوم مرتبتان: إما غارق في تحسين الاستغاثة بأئمة آل البيت، وإما يقول لك: لا نحن لانرى الاستغاثة بغير الله، وهي شئ غير جيد. هكذا فقط، أما أن تجد رمزاً دينياً للشيعة يقول لك: من استغاث بالحسين فهو مشرك، والاستغاثة بغير الله من نواقض الإسلام، فهذا من النادر، وماحال من يستنكر الاستغاثة بغير الله دون أن يقر بكونها شرك وناقض من نواقض الإسلام، إلا كمن يقول لك: (أنا لا أزني، ولا أحبذ الزنا، والزنا عموماً شئ غير جيد)! فمالفائدة إن لم يعتبرها كبيرة من كبائر الذنوب؟! بل من فعل الزنا مع إقراره بكونه كبيرة هو خير ممن ترك الزنا مع جحد تحريمه. وأتذكر أنه في أعوام 1415هـ ومابعدها نشط كثير من دعاة الصحوة في إلقاء المحاضرات التبي تبين للشباب أن هناك كثيراً من السعوديين في مناطق المملكة واقعون في ألوان من الشركيات بسبب البعد عن مراكز المدن الكبرى، فكان "شباب الصحوة" المباركين يهبون فرقاً وآحاداً يذرعون أرجاء المملكة يلقون الكلمات عن قوادح التوحيد، يستنقذون الناس من حبوط أعمالهم ومن المصير الأخروي البائس الذي ينتظر المشركين (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65] والحديث عن كارثة الشركيات في هذا العصر، وكيف استغل دعاتها بعض المؤسسات الحكومية في الخليج والمغرب العربي، وكيف صارت بعض النظم السياسية الفاسدة تدعمهم في مواجهة مايسمونه الإسلام السياسي (وليس هناك إسلام سياسي بل الإسلام شامل)، وكيف صارت لهم فضائيات يروجون بها أفكارهم الخطيرة في باب الألوهية؛ ليس هذا موضعه، وإنما أردت فقط أن أضع المتسائلين عن منجزات الصحوة أمام سؤال واضح وبسيط: بالله عليكم هل سبق لكم أن رأيتم علمانياً أو ليبرالياً أوتنويرياً أو ديمقراطياً أو إصلاحياً سياسياً يؤلف الرسائل في مناقشة شبهات الوثنية؟ ويتحرق في دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة؟ اسألوا أنفسكم وأجيبوا: من الذي قاد حملة إشعال الوعي المعاصر بأهمية التوحيد وخطر صور الشركيات؟ أليست الصحوة الإسلامية؟ أما إن كنتم ترون أن هذه القضية (التوحيد والشرك) قضية هامشية، وشغلات وعاظ، واهتمامات دراويش، وإشكاليات البسطاء من الناس، فإن هذا يعني بكل وضوح أن مشكلتكم ليست مع الصحوة، بل مشكلتكم مع الأنبياء والرسل، ومشروعات الرسل ليست قضية غامضة ولا موضوع يحتاج لتحليل، فقد كشف القرآن بشكل متكرر عن رأس أولويات الرسل، كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25] وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36] بالله عليكم يامعاشر الطوائف الفكرية ألا تخجلون من الله حين تزهِّدون في الدعوة للتوحيد ومقاومة الشركيات، وأنتم ترون الله جل وعلا يظهر لنا في القرآن حبه للتوحيد وتعظيمه له، وتخصيصه أنبياءه بالدعوة إليه؟ حين أتأمل المدارس الفكرية اليوم ولا أجد فيها من يحمل راية التوحيد وتدريس الكتب الشرعية التي تقرره والرد على المبطلين فيه إلا "الصحوة الإسلامية"، فإني أتعجب من شدة توفيق الله لهذه الصحوة المباركة، ومن خذلان هذه المدارس الفكرية عن أعظم حقائق القرآن على الإطلاق.

وأنا أعرف جيداً لماذا خرجت قضية التوحيد والشرك من معاييركم، ولم تعد جزءاً من آلية القياس والتقييم لديكم؟ السبب بكل وضوح أنكم تشربتم "المفاهيم المادية الغربية"، ولذلك عجزتم عن قراءة منجزات التوحيد ومشكلة الشرك. ويشبه هذا الأمر مافعلته قريش حين احتجت على النبي وأصحابه بكونها خير منه لأنها تقدم نفعاً مادياً للناس وهو (تموين الحجاج وبناء الحرم) فرد الله عليهم مبيناً أن نفع التوحيد أعظم من النفع المادي حتى لوكان للحجاج وفي الحرمين، كما قال تعالى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) [التوبة:19]. ويشبه هذا أيضاً أنه لما استنكر بعض الناس زمن النبوة أموراً فعلها النبي وأصحابه وعدوهاً إرهاباً وقتلاً، فبين الله أن "الفتنة الدينية" أشد وأخطر من "القتل"، كما قال تعالى في موضعين (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:191] وقال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:217]. فجعل الفتنة في الدين أعظم من أمر الدماء، مما يدل على جعل العقيدة فوق المصالح المادية. فانظر الى منزلة جنس التوحيد والعقيدة ونفعها، حتى جعلها الله فوق منزلة النفع المادي للناس، وفوق منزلة الأمن، ومع ذلك كله حين تتحدث الطوائف الفكرية عن المنجزات فإن آخر شئ تفكر فيه هو (منجز ترسيخ التوحيد ومقاومة الشركيات). وقد شاهدت خارج المملكة أموراً عجيبة تدل على عظمة منجز الصحوة في نشر التوحيد، ذلك أنني أشاهد أحياناً شخصيات عربية فيها فضل وخير، لكنها نشأت في أجواء بعيدة عن الصحوة الإسلامية، ومع شدة تدين بعضهم وحرصهم على الخير إلا أنه يقع في قوادح خطيرة للتوحيد وهو لايعلم، ويجد من يناقشه صعوبة في توضيح الأمر له، وأقارن ذلك ببعض الشباب المبتعثين الذين ليس فيهم حرص على التدين، ولكن بسبب نشأتهم في أجواء الصحوة وانتفاعهم بجهودها في نشر التوحيد تجد لديهم حساسية شديدة منذ أن تقترب من حمى التوحيد وباب الألوهية. بل إن بعض الناس يرى أن "الأخلاق المهنية" كالأمانة في العمل أهم من "التوحيد"! وهذا بسبب جهلهم بأعظم المطالب القرآنية، ولذلك يقول ابن مسعود فيما رواه الطبراني وابن أبي شيبة وابن حزم: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا). قال ابوالعباس ابن تيمية في تعليق شهير على هذا الأثر (لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق) .. فكم فات على هذه التيارات الفكرية معرفة منزلة "حسنة التوحيد" وأنها تفوق كل الحسنات التي يعرفونها .. بث معاني التوحيد في الناس، وإصلاح قوادح التوحيد، منجز أعظم من مجلس العموم ووكالة ناسا وأبراج دبي .. لوكنا فعلاً ندرك مراتب الفضل في القرآن، ومحاب الله ومباغضه سبحانه وتعالى .. وأذكر مرة أنني ذكرت لأحد هؤلاء الشباب المتأثرين بهذه المدراس الفكرية ظاهرة عقدية خطيرة انتشرت، وهي انتعاش ظاهرة "تعطيل الصفات الإلهية" ونشاط بعض الرموز في الدعوة إليها، وأن هناك بعض الفضلاء احتسبوا في إعداد بعض البحوث لإصلاحها، فقال لي (وافترض أنهم قضوا على كل المعطلة على وجه الأرض فمالفائدة من ذلك ونحن نرى الاستبداد السياسي؟!) أو كلاماً هذا معناه! فانظر كيف صارت قضايا تنزيه الله سبحانه وتعالى وتوقير صفاته جل وعلا قضية هامشية لا تعنيه، بسبب تشرب قلبه القيم والمفاهيم المادية الغربية ..

ما سبق كله في محور واحد من محاور التوحيد وهو (توحيد الشعائر)، وأما المحور الثاني من محاور التوحيد والذي أنجزت فيه الصحوة مالم تنجز كل المدارس الفكرية الأخرى فهو (توحيد التشريع). فمع هيمنة القوانين الوضعية الغربية المناقضة لشريعة رب الأرض والسموات لم يقف في وجهها ويقاومها ويكتب المؤلفات حولها ويخطب عنها ويرد على الشبهات التي تهونها إلا "الصحوة الإسلامية" .. لقد ملئت ديار المسلمين من "شرك التشريع" ومع ذلك تجد المدارس الفكرية الأخرى في غاية البرود من إفراد الله في التشريع، ولاتجد إلا شباب الصحوة الإسلامية هم الذين حققوا منجزات في هذه القضية لم يحققها غيرهم، وابتدأت هذه الحملة المباركة برسالة الشيخ محمد ابن ابراهيم رحمه الله (تحكيم القوانين) ثم شرحها الشيخ سفر الحوالي في عدة أشرطة، وكتب فيها الشيخ عبد الرحمن المحمود رسالة موسعة فند فيها شبهات مرجئة العصر في التهوين من هذه القضية، وغيرها، والمراد التمثيل. وكل تشريع يخالف تشريع الله ورسوله فهو شرك كما قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى:21] وتوحيد التشريع وإفراد الله بالطاعة ليس شيئاً هامشياً في مشروعات الرسل، بل قال الله تعالى عنهم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) [النساء:64] فهذه الصحوة الإسلامية قامت بمنجز عظيم في نوعي التوحيد (توحيد الشعائر) ضد المتصوفة والشيعة وأضرابهم. و (توحيد التشريع) ضد النظم السياسية الفاسدة والمثقفين المروجين لها. فهاتوا لي حركة في العالم كله قامت بنوعي التوحيد خيراً مما قامت به الصحوة الإسلامية؟ هاتوا لي منجزاً واحداً في العالم يضارع أو حتى يقارب منجز ترسيخ توحيد الشعائر والتشريع؟ يأتوننا ويقولون: وماهي منجزات الصحوة الإسلامية؟ بل أنتم ماهي منجزاتكم؟! ومن منجزات الصحوة الإسلامية نشر السنن وإماتة البدع، وكم للإسلاميين من جهود مشكورة في ملاحقة أعيان البدع وآحادها والصبر على تبيينها للناس، تخيلوا الناس بدون هذه الجهود؟! كيف سيكون حال عامة الناس؟ وكيف سيدخل في دين الله من المفاهيم الخاطئة المحدثة ما الله به عليم؟ ومن قرأ تاريخ السلف يستطيع بكل اختصار أن يقول عنه (تاريخ مقاومة البدع). على أية حال .. لايمكننا التوسع أكثر من ذلك، لكن سنعرض على سبيل الإشارة لبعض منجزات الصحوة الأخرى: فمن منجزات الصحوة إحياء الجهاد الشرعي المنضبط بأصول أهل السنة، والدفاع عن بلدان المسلمين في كل مكان، ولذلك فإن أكبر خسارة تعرض لها (غلاة التكفير والقتال) ليس حين واجهتهم أمريكا، ولاحين واجهتهم النظم العربية، وإنما حين نافرتهم "الصحوة الإسلامية" ورفعت يديها عنهم وحذرت منهم، بعد أن ظهرت انحرافاتهم عن أصول أهل السنة في باب الجهاد حين استهدفوا أمن البلدان الإسلامية، وقد كان هذا بالنسبة لأدعياء الجهاد بمثابة فصل أنبوب الأكسجين ..

ومن منجزات الصحوة الإسلامية مقاومة مشروع (تغريب الإسلام) وهو مشروع تأويل مفاهيم الإسلام لتتوافق مع الثقافة الغربية المنتصرة، إما بجحد ألفاظ النصوص، أو بجحد معاني النصوص، ومحاولة التفتيش في التراث عن أي سند تراثي للمفاهيم الغربية الجاهزة مسبقاً، وهو مشروع واسع وضخم وكتبت فيه مئات الكتب المعاصرة منذ لحظة الأفغاني وحتى لحظة الجابري، وأكثر مادة متأخريهم التفصيلية استمدوها من عمالقة الاستشراق التقليدي مثل جولدزيهر وشاخت وهنري كوربان ورينان (هؤلاء الأربعة بشكل خاص)، فهي إعادة إنتاج للاستشراق التقليدي بلغة جديدة، وابتلع نتائجهم كثير من هذه المدارس الفكرية ظناً منهم أنها أبحاث لهم، وأنها أبحاث علمية جادة! والحق يقال أن المستشرقين أكثر جدية في البحث من هؤلاء المروجين كالجابري ونصر ابوزيد وعبد الجواد ياسين (وهوينقل عن الاستشراق بالواسطة) ونحوهم. ومن أوائل الأطروحات التغريبية للاسلام التي واجهت الصحوة في السعودية أطروحات الترابي وهو يستمد سنده المعنوي بناء على تجربة سياسية نجحت مؤقتاً، وكانت أطروحاته تلك الأيام عن أصول الفقه مربكة، حتى أن أحد الفضلاء (وهو الآن خارج المنظومة الدعوية) ألقى محاضرة في الرياض عن تجديد أصول الفقه كانت إعادة عرض لأفكار الترابي (فكرة الاجماع الواسع، نفي السنة، اجتهاد العوام، العقل، رأي ولي الأمر، الخ). فشعر الشيخ سفر الحوالي بأن أصول أهل السنة مهددة، فألقى بعدها بزمن يسير في الرياض محاضرة بعنوان (العلمانية في طورها الجديد) وقد شعر كثير من المراقبين بالربط بين الحدثين، حتى أن الشيخ احتاج لاحقاً أن ينفي ذلك وقال في درس له بعد ذلك (ولقد تعرضت في محاضرة سابقة كان عنوانها العلمانية في طورها الجديد لهذا الاتجاه ولخطره، ففهمت على أننا نتعرض لبعض الدعاة، سبحان الله! يا قوم أنتم في وادٍ ونحن في واد) وبين أن المسألة ليست في أشخاص ولكنها في اتجاه بدأ يتنامى، وقد صدق حدس الشيخ شفاه الله، فإن إعادة تعليب المفاهيم العلمانية المادية في ثياب إسلامية صار سلعة رائجة الآن! وكتاب الإرجاء للشيخ سفر الحوالي فيه موضعان شكلا علامات تاريخية فارقة، الأول تحدث فيه عن الزندقة العصرية الجديدة (أي مشروع تغريب الإسلام)، والثاني عن ظاهرة الإرجاء بين بعض المنتسبين للسلفية الحديثية، وكلا الموضعين وضعا حداً لكثير من الانحرافات عن أصول أهل السنة. والمراد أنه في الوقت الذي ترى فيه كل المدارس الفكرية المعاصرة بلا استثناء استسلمت للضغط الثقافي الغربي وانكسرت أمام سطوته ووقعت في شئ من تغريب الإسلام (قل أو كثر على تفاوت بينها) تجد الصحوة الإسلامية هي الوحيدة التي احتفظت برباطة جأشها ونفخت في روع أبنائها الثقة بالشريعة وبمنهج أهل السنة، وأننا قادرون على إصلاح دنيانا دون الحاجة إلى العبث بالشريعة. ومن منجزات الصحوة الحفاظ على الفضيلة، ومقاومة مشروعات المنافقين لإخراج المرأة عن حشمتها وعفتها، وتقويض الحواجز بين الجنسين التي شرعها القرآن، وأنتجت الصحوة الإسلامية في هذا المنجز آلاف المواد الصوتية والمقروءة، وبعض الناس يحاول الالتفاف على المشكلة بالقول (لماذا يجعل الصحويون أكبر همهم مراهق في المنتديات، أوشاب طائش يعاكس) وهذا كله تزوير للواقع يعرف من يقوله أنه يكذب، فمشروع تغريب المرأة يتم عبر جيوش من كتاب الصحافة والبرامج التلفزيونية والروايات الماجنة، وخلف هؤلاء كلهم مسؤولون ليبراليون استطاعوا النفاذ إلى بعض مفاصل القرار ودعم هؤلاء العاملين في الميدان، وسوى الروم خلف ظهرك روم .. فمن لم ير من مشروع تغريب المرأة إلا مراهق ومعاكس؛ فهو إما كاذب وإما مغفل.

حسناً .. ما الذي يدفع بعض من لايزال فيهم خير من المدارس الفكرية المنحرفة إلى الكذب وتصوير الواقع على أنه مجرد مشكلة (مراهق منتديات، ومعاكس في سوق)؟! الحقيقة أن هؤلاء لو اعترفوا فعلاً بوجود مشروع خطير لتغريب المرأة؛ لأصبحت جهود الصحوة في حفظ الفضيلة مبررة، ولذلك سعياً منهم لتجريد جهود الصحوة في حفظ الفضيلة من حيثياتها الموضوعية، يصورون مشكلة تغريب المرأة على أنها مجرد (مراهق منتديات، ومعاكس طائش)، وهذا رهان سجالي فاشل بمجرد أن يستحضر القارئ الحملات المنظمة على الفضيلة ودعاتها. فيا لله العجب .. كيف يرون الجهود الجبارة لفرض نموذج (الاختلاط في التعليم والعمل) ثم يقولون المشكلة مشكلة مراهق وطائش؟! ومن منجزات الصحوة ربط الناس بالقرآن، ونشر دور حفظ القرآن، والتبرع لها، فبينما يدير المنتسبون للثقافة كؤوس الشاي بعد صلاة العصر يتسلون بالصحف تجد شباب الصحوة قد جلسوا بين سواري المساجد يسمّعون للشباب أنوار القرآن، ويلي جهود حفظ القرآن جهود حفظ السنة النبوية. ومن مآثر ومفاخر الصحوة الإسلامية نشر العلوم الشرعية وأنوار الوحي في الناس، وتصميم الدروس الأسبوعية، والدورات الصيفية، وتسجيلها للشباب، وبثها عبر الشبكة، بل وتوفير شقق سكنية لمن يسافرون لحضور الدورات. ومن منجزات الصحوة الإسلامية تعميق الإيمان وإنتاج الكتب والمحاضرات عن (التزكية) وكثرة الحديث عن الإخلاص والتقوى والمراقبة والانقياد واليقين الخ من أعمال القلوب التي هي محل نظر الرب من العبد، وهذا لا تعرفه المدارس الفكرية أصلاً، فضلاً عن أن تشارك فيه، والصحوة الإسلامية هي التي روجت كتب ابن القيم التزكوية (المدارج والجواب الكافي وحادي الأرواح وطريق الهجرتين الخ) ومن منجزات الصحوة الإسلامية المشاركة في المعرفة، وفي التصحيح الإسلامي للمعرفة، وظهور مايسمى أسلمة العلوم (انظر على سبيل المثال: في علم النفس: تمهيد في التأصيل الإسلامي لعلم النفس للدكتور عبد الله الصبيح، وفي الفلسفة: نظرية المعرفة للشيخ عبد الله القرني، وفي السياسة: أحكام الانتخابات في الفقه الإسلامي للشيخ فهد العجلان، وفي علم الإعلام: كيف تؤثر وسائل الإعلام في الناس؟ للدكتور محمد الحضيف، وفي العلاقات الدولية: فقه المتغيّرات في علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين للشيخ سعد مطر العتيبي) وهذه فقط نماذج، ومن أراد المزيد من دراسات طلاب العلوم الشرعية في كافة الحقول في الاقتصاد والقانون والإدارة والاجتماع والعلاقات الدولية والقضايا الطبية والتكنولوجية والأفكار الحديثة فليراجع رسالة مختصرة سبق أن نشرت بعنوان (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي). ومن منجزات الصحوة الحرص على الفقراء والمساكين وإنشاء المؤسسات الخيرية التي ترعى أحوالهم وتنظم إيصال المعونات لهم، والصحوة هي من طبق عملياً ومؤسسياً فكرة كفالة اليتيم، واستقبال وتوزيع فائض الأطعمة، ومشروع بطانية الشتاء، ومشروع توفير المستلزمات المدرسية للأسر الفقيرة بداية كل عام. وأما في المنكرات المالية فالصحوة الإسلامية هي التي خطبت وحاضرت وكتبت وأفتت في تحريم الربا والرشوة والاحتكار وأكل أموال الناس بالباطل .. والصحوة هي التي كتبت مذكرة النصيحة الشاملة، والصحوة هي التي كتبت بيان الغلاء الأخير .. ومن منجزات الصحوة المبادرة للاستفادة من الوسائل المعاصرة في حينها كالكاسيت وشبكة الانترنت والفضائيات الخ.

والكثير الكثير لو اراد المنصف أن يقرأ منجزات الصحوة، فقارن ذلك كله بمنجزات المدارس الفكرية الأخرى: العلمانيين، والليبراليين، والتنويريين، وأدعياء الوسطية، ومتفقهة التغريب، والديمقراطيين، وأدعياء الاصلاح السياسي، والوطنيين؟! أنتم الذين ماذا قدمتم بالميزان الشرعي؟! أنتم بتهكمكم بالقضايا العقدية والفقهية صرتم جزءاً من المشكلة بدل أن تكونوا جزءاً من الحل، تطالبوننا بأن نحتسب على السياسي، المفروض الآن هو الاحتساب عليكم من تحريفكم للشريعة قبل أن نحتسب على السياسي، فخطر أهل الأهواء أشنع وأفظع من خطر أئمة الجور، كما ذكره الإمام مالك وشيخ الإسلام ابن تيمية، ولذلك يصلى خلف أئمة الجور مع وقوع الخلاف في الصلاة خلف بعض أهل الأهواء، وأمر النبي بقتال الحرورية أهل الأهواء، ونهى عن قتال أئمة الجور. فتبديل كلام الله ونشر الفاحشة في الذين آمنوا أخطر شرعاً من فساد بعض العقود الحكومية واغتصاب بعض العقارات، وهذا لايعني التهوين من الجرائم المالية، ولكن لأبين أن كثيراً ممن يظنون أنفسهم يصلحون أنهم يفسدون أكثر من فساد السياسي، لأنهم يفسدون الأديان والسياسي يفسد الأموال، وفساد الأديان أشنع من فساد الأموال، وقد اتفق أهل السنة بجميع مذاهبهم على أنه في مقاصد الشريعة مقصد (حفظ الأعراض) مقدم على مقصد (حفظ الأموال)، وقد شرح ذلك الشاطبي في الموافقات في عدة مواضع. وأما قولهم: أين الصحوة عن الإصلاح السياسي؟ فالجواب بل أينكم أنتم؟ فالإصلاح السياسي رأسه وأسه جوهره (تحكيم الشريعة) فالمطلوب من ولي الأمر تحكيم الشريعة التي تشمل حفظ العقيدة وحفظ الأعراض وحفظ الأموال وتطبيق أحكام الله، وحديث الصحوة عن تحكيم الشريعة لايماثله كل الطوائف الفكرية المعاصرة. وأما قضية (الفساد المالي) فالحديث عن قضية الفساد المالي لم يعد مشكلة الآن، فلايوجد صحيفة سيارة إلا ويكتب فيها يومياً عن الفساد المالي، ولكن المشكلة أعمق بكثير من قضية الحديث عنها. وأما قولهم (العدل ونفي الظلم هو مركز الشريعة، والصحوة لم تقم به) فهذا من جهلهم بالمفاهيم الشرعية، فأعظم الظلم هو الشرك، والبدع ظلم، والفواحش ظلم، وليس الظلم فقط هو المظالم المالية للولاة. الخلاصة .. أن هذه الصحوة الإسلامية منة الله على هذا العصر .. ووالله العظيم لو كشفت ما بنفسي من التتيم بهذه الصحوة لظنني البعض أحد "الغلاة في الصحوة" .. ومن أحب المواضيع إلي في الكتابة إبراز محاسن هذه الصحوة الإسلامية والرد على التجنيات الموجهة إليها، ولولا خجلي من أن يقول الإخوان لقد أكثرت في هذا الموضوع لما توقفت .. ولعلي لا أذيع سراً إن قلت أنني كثيراً ما أقرأ في الصحافة الورقية والالكترونية موضوعات منحرفة .. صحيح أنني أنزعج منها، لكن الموضوع الذي لا أملك مشاعري حين أقرؤ عنه هو (التجني على الصحوة الإسلامية) .. ناقشني مرةً ليبرالي مبتدئ فقال لي على سبيل التهمة "أنت صحوي" فأطرقت وقلت له: هذا شرف لا أدعيه .. كل ما أردت أن أصل إليه في هذه المقالة هو شئ واحد: إذا سألك أي شخص من أهل الأهواء: ماهي منجزات الصحوة؟ فقال له: وماهو معيارك أنت للمنجزات؟ إن كان معيارك تحقيق مطالب القرآن والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتعال نتباحث، وإن كان معيارك محصوراً في العمران المادي، أو مقاومة الاستبداد السياسي، أو إطلاق الحريات، فصحح معاييرك أولاً، ثم تعال نتباحث حول منجزات الصحوة. والله أعلم

الانتخابات أسقطت كل الأقنعة في العراق

الانتخابات أسقطت كل الأقنعة في العراق طلعت رميح لم يعد هناك من مستور في مشروع احتلال العراق منذ بدايته وحتى الآن. لقد ظهر الوجه الحقيقي لكل الأطراف التي شاركت في العدوان والاحتلال منذ بدايته وحتى الآن وتلك التي تعاونت مع المحتلين. سقطت كل الأقنعة عن الولايات المتحدة وإيران المتشاركين في العدوان والاحتلال، وعن كل الأطراف التي شاركت في اللعبة السياسية التي شكلها الاحتلال، إذ انكشفت تماما حكاية الديموقراطية وتداول السلطة عبر الانتخابات وظهر أن الانتخابات في العراق -مثلها مثل أفغانستان-ليست إلا تزييفا لإرادة العراقيين باستخدام كل طرق وأساليب التزوير لفرض الديكتاتورية على الشعب العراقى، وأنها ليست إلا أحد أشكال ممارسة الخلاف بين الاحتلالين الأمريكي والإيراني عبر عملاء كل طرف على الأرض العراقية، وأنها من الأساس ليست إلا آلية لإبعاد القوى الوطنية والقومية والإسلامية عن أداء دورها في تحرير العراق وإعادة بنائه، إذ هي موجهة لتحقيق هدف إعطاء الشرعية للمحتلين والمتعاونين كمحاولة للنيل من شرعية المقاومة. كل ذلك لم يعد كلاما مستنتجا من وقائع ما يجرى بل صار اعترافا مؤكدا على ألسنة الذين دخلوا في أضابير تلك الألاعيب. انفضح الكل، أو فضح الكل بعضه بعضه، أو فضح كل طرف الآخر، أو الكل وصل إلى مأزق، فقرر هدم المعبد عليه وعلى خصومه .. وقل ما شئت أيضا. لقد بدأت الانتخابات بألاعيب استقصائية لمرشحي طرف من أطراف اللعبة من قبل طرف مشارك آخر، باستخدام آليات لجنة غير قانونية بمقاييس الاحتلال نفسه، وبأوامر مباشرة معلنة من قبل إيران التي أعلن رئيسها بسفور أن لا مكان لمن سماهم البعثيين. وفي البداية أيضا، قال رئيس قائمة ائتلاف العراقية اياد علاوي -الفائز بأعلى نسبة أصوات بعد فرز 95% من الأصوات -أنه يقبل بنسبة تزوير في حدود 20% ليس أكثر -أى هو يقبل بإهدار أصوات خمس المصوتين -بما أكد أن التزوير عمل ملازم للعملية الانتخابية وأنه واقع لا محالة وأن الطرف المزور لا سبيل إلى ردعه عن إعمال سلاح التزوير، وربما قصد علاوي القياس على ما جرى في انتخابات عام 2005 التي شهدت تزويرا يكاد يكون كليا (هي الانتخابات التي أوصلته هو إلى رئاسة الوزراء). كانت البداية مليئة باشكاليات الصراع حول من له حق الترشيح نتج عنه، بما كشف أن مجموعات الحكم ترفض أحكام القضاء وتلغيها كيفما تشاء مصالحها وهو ما يؤكد على أن القضاء خاضع لتوجهات السلطة والاحتلال ويشدد على عدم مشروعية كل ما صدر من أحكام قضائية بعد الاحتلال. وما إن بدأت عمليات التصويت في الانتخابات وفق ما سمى بالتصويت الخاص الذى شمل العاملين بالجهاز العسكري للدولة والمرضى في المستشفيات وغيرها، حتى اكتشف الآلاف من غير المؤيدين لحكم المالكي الطائفي، استبعاد أسمائهم من قوائم الناخبين. كما بدأ التصويت في خارج العراق، وتكرر الأمر ذاته، إذ لم يجد الآلاف من المهجرين في الأردن وسوريا ومصر أسماءهم بينما وجد الموجودون في إيران أسماء المتوفين ومن لا جنسية عراقية لهم في كشوف التصويت بما أتاح ملء الصناديق بالأصوات المزورة.

ومن بعد، بدأت عملية التصويت العام، فجاءت آلاف الشكاوى من أولئك الذين لم يجدوا أسماءهم في كشوف الناخبين، ومن المسجلين في مناطق العراق التي لا تصوت لمصلحة الجماعات السياسية الشيعية الطائفية بتأخير فتح مقار التصويت لعدة ساعات لمنعهم من التصويت وعدم مد أجل وقت التصويت رغم وجودهم في المقار الانتخابية بما يتطلب استمرار العمل في المقار حتى انتهاء المصوتين من الإدلاء بأصواتهم. وجرت أعمال قصف مدفعي طائفي لمناطق السنة في بغداد لمنع الناخبين من التوجه للإدلاء بأصواتهم .. الخ. انتهى يوم التصويت بما جرى فيه لتبدأ أعمال فرز الاصوات بآلاف الشكاوى، حتى وصل الأمر بالمالكي إلى حد التهديد باستخدام القوة إذا لم تأت النتائج لمصلحته وقائمته ليبقى مجددا رئيسا للوزراء، بما فتح أبواب العنف الطائفي على مصراعيه، وكشف أصل لعبة الانتخابات والحرية والديمقراطية المزعومة. في البداية كان واضحا مما يعلن من نتائج -بالتقسيط-أن ائتلاف دولة القانون برئاسة نورى المالكي -رئيس الوزراء الحالي تحت الاحتلال-يقف في صدارة المشهد الانتخابي ولذلك أظهر المالكي إيمانه بالديمقراطية، في تصريحاته التي صدرت في هذا التوقيت، بل هو أكد على نزاهة الانتخابات وأعمال الرصد للاصوات مطالبا الآخرين باحترام نتائج الانتخابات، وزاد على ذلك أن اعترف بوجود أعمال تزوير-أو تأشير في أوراق التصويت-مؤكدا أنها بسيطة ولا تؤثر على النتائج الحقيقية أو النهائية. كان راضيا ومزايدا على الآخرين القلقين أو المحبطين أو الرافضين للنتائج المعلنة في تلك اللحظة. لكن كل ذلك تغير أو انقلب مع تقدم أعمال الفرز وإعلان النتائج بنسب أعلى من التصويت، أظهرت تقدم قائمة علاوي على قائمة المالكي، إذ دعا المالكي إلى إعادة فرز الأصوات في نحو 50 ألف مركز انتخابى مشددا على ضرورة اجراء فرز يدوى لا آلي أو اليكتروني، بما دفع الآخرين للقلق من إجراء كهذا يعطل ظهور الانتخابات لعدة أشهر يظل المالكي فيها حاكما. وإذ تواصل تقدم قائمة علاوي مع ظهور تصريحات له وأقطاب قائمته بضرورة اعتماد نتائج المفوضية العليا، أطلق المالكي تهديدات صريحة بعودة العنف في الشارع وعدم شرعية أية حكومة تأتي عبر نتائج الانتخابات وفق النتائج الحالية، ومارس بالفعل لعبة تحريك الشارع ضد النتائج المعلنة. انكشف المالكي، ومن خلفه انكشفت إيران التي وقفت تدعم هذا الفريق (وغيره من المرتبطين بها أو الممثلين لها في احتلال العراق)،لكن علاوي هو الآخر قد انكشف، بما جعل اللعبة السياسية كلها بلا أقنعة. علاوي كان تحدث عن التزوير الجارى والأمور المقلقة جراء إعلان النتائج بالتقسيط، لكنه عاد والتزم الصمت وصار يتحدث عن تشكيله للوزارة الجديدة حين أظهرت النتائج المتوالية تقدم قائمته، مشيرا إلى أن المالكي مشروع ديكتاتور، بتشديده على خطورة تصريحات كان المالكي أدلى بها من قبل وقال فيها بأن لا أحد يقدر على أخذ السلطة منه، وفي ذلك صار أتباع المالكي يتحدثون مباشرة عن تدخل أمريكي لصالح علاوي. انكشفت لعبة التزوير في تلك الانتخابات وظهر أنها لم تكن إلا صراعا بين احتلالين للعراق، وأن الأمور جرت من أولها الى آخرها لتعميق حالة الاحتلال .. الخ، بما أعاد للأذهان كل ما جرى في الانتخابات الأفغانية تماما. أفغانستان والعراق

يبدو مهما إعادة التذكير بما جرى في انتخابات أفغانستان، باعتبارها نموذج مكتمل لذات المشهد المتفاعل في العراق وكاشفة له وأطرافه. في الانتخابات الأفغانية كان هناك عديد من المرشحين لمنصب الرئاسة، اجتمعوا كلهم على الطعن في كرازاى بالفساد واتهم وشقيقه المسئول التنفيذى بجهاز الحكم بالاتجار في المخدرات، وهو ما جاء ارتكانا لذات الاتهامات التي أطلقت من قبل مسئوليين أمريكيين وأمميين وأوروبيين. ومن بعد جرى اتهام كرازاى بتزوير الانتخابات بما عطل الإعلان عن نتائجها وعلق اللعبة برمتها. عاشت السلطة مرحلة مريرة خلال فترة الاستعداد للاعادة بين كرازاى ومنافسه عبد الله عبد الله، الذى هدد باللجوء للعنف بما دفع البلاد للوقوف على حافة الحرب الأهلية والعرقية والقبلية. وقتها قيل إن الصراع قبلي وجهوي وقيل إن كرازاى يلقى مساندة من بعض دول الاحتلال بينما يلقى عبد الله عبد الله دعما من قوى دولية محتلة أخرى. لكن الأمور انتهت إلى فوز كرازاى، بعد تخفيض نسبة فوزه، وهو ما جاء نتيجة وصول وزيري خارجية أمريكا وفرنسا إلى أفغانستان في وقت واحد، وإجراء مفاوضات مع الأطراف المختلفة لتحسم نتائج الانتخابات بالمفاوضات لا بأعمال التصويت، وليصبح كرازاى رئيسا رغم كل الاتهامات التي سيقت ضده، وفي ذلك كان العامل الحاسم هو رؤية القادة العسكريين الامريكيين والأطلسيين على الأرض، بأن نكسة الانتخابات أخطر على قوات الاحتلال من الهزيمة العسكرية. تلك الصورة الكاملة هى نموذج مقابل للانتخابات العراقية، وهى تعطى نموذجا عمليا لتصرفات المجموعات المرتبطة بالاحتلال ولسلوك المحتلين، غير أن الجاري في العراق يحمل عمقا للتصرفات والسلوك على نحو أخطر، إذ المعركة في العراق تجرى لتعديل التوازنات داخل النخب المتعاونة مع إحتلالين لا إحتلال واحد، وكلاهما يصارع الآخر على تحقيق حصة أوسع من النفوذ داخل السلطة. ولهذا الفارق ستطول الامور وتتعقد أكثر مما حدث في أفغانستان، وفي الأغلب ستكون هناك أعمال عنف بين الطرفين، إذ نحن أمام انتخابات ستتحدد نتائجها على أساس صراع اقليمى واسع وضمن تسويات لملفات عديدة ومتضاربة في الإقليم. انكشف الكل لقد كشفت الانتخابات العراقية-وقبلها الافغانية أن حكاية الديمقراطية التي ادعتها الولايات المتحدة سببا لاحتلال العراق، لم تكن إلا قناعا كاذبا عند بداية الاحتلال، وأنها ظلت كذلك خلال الاحتلال كوسيلة لإيصال المواليين للاحتلال إلى الحكم وطريقة لتزييف إرادة العراقيين، وأن وظيفتها تنحصر في تعديل التوازنات بين المجموعات المتعاونة مع الاحتلال، وأنها طريقة وآلية لتنظيم الصراع بين الاحتلالين الأمريكي والإيراني، وأن الهدف الأعلى منها ولكل الأطراف الداخلة فيها هو وضع أطر داخلية في العراق لاستبعاد الوطنيين والقوميين والإسلاميين في العراق من الوصول للسلطة. وكشفت الانتخابات كيف أن إيران لم تتعاون مع الولايات المتحدة خلال التحضيرات وإنفاذ أعمال احتلال العراق، فقط، بل هي وجدت في لعبة الانتخابات آلية لتعميق نفوذها ودورها من خلال دعم وتقوية المتعاونين معها في داخل العراق، والمعنى أن إيران لم تستهدف فقط إطاحة نظام معادى لها في العراق -نظام الرئيس صدام حسين-بل كانت خطتها وما تزال احتلال العراق وتغيير هويته وضرب قواه الوطنية .. الخ، وهنا يبرز الوجه الواضح للمأزق الراهن في العراق، إذ القوى المتعاونة مع إيران تقف بوضوح معلنة عدم تسليمها للسلطة طواعية وأنها ستقاتل من أجل استمرار سيطرتها على العراق.

وإذ كشفت الانتخابات عن طبيعة الولاءات الخارجية للنخب أو المجموعات التي تصارعت في العملية السياسية، فإنها كشفت عن اتخاذ كل منها لعبة الانتخابات وفكرة الديموقراطية وسيلة للوصول للحكم دون تركه إلا بالقوة، والمعنى أن لا أحد منهم على قناعة لا بالديموقراطية ولا بالحرية. وواقع الحال أن مثل تلك الحقيقة لم تكن بحاجة إلى تأكيد من الانتخابات والتصريحات والصراع الجارى حاليا، إذ من وافق على إطاحة حكم بلاده بالقوة العسكرية للمحتل، لا يمكن له أن يؤمن لا بالديموقراطية ولا بالوطنية وبأى مبادىء أيا كانت، وكذا لأن مسيرة تلك الجماعات منذ وصولها للحكم -على ظهور الدبابات الأمريكية والدعم المالي والاستخبارى الإيراني -وحتى الآن هي مسيرة تطهير عرقى وقتل على الهوية وتهجير للسكان من منازلهم والاستيلاء عليها وتشكيل ميليشيات القتل والارهاب. والأهم في كل ذلك هو أن تلك الانتخابات، جرت مثلها مثل انتخابات عام 2005 على صعد التزوير والتزييف، بما ثبت أن العملية السياسية التي شكلها الاحتلال، هي لعبة لتزييف الوعى وإنهاك المجتمع العراقي وفرضا للصراع الطائفي والعرقي وآلية لتفتيت المجتمع العراقى لا لتوحيده، ووسيلة لتغيير التوازنات بين مجموعات وعصابات جاءت مع الاحتلال -إذ الوجوه هى نفسها-وأنها وسيلة لتعميق التغلغل الخارجي في البلاد على كل الصعد، وآلية لتشكيل حكم معزول لا يلقى دعمه إلا من قبل المحتل أو المحتلين، وذلك كله هو ذات النمط الذي جرى في أفغانستان من قبل، وهو ذاته الذي جرى في كل الدول المحتلة عبر التاريخ الحديث والمعاصر. المصدر: موقع المسلم

(قلب الأدلة على الطوائف المخالفة) للقاضي

(قلب الأدلة على الطوائف المخالفة) للقاضي د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف قد لا يعاني البحث العلمي في هذا الوقت مِنْ تعذُّر الوصول إلى المعلومة أو تعسُّرها، بل المعلومة يمكن العثور عليها بأيسر طريق، وأكبر قَدْر؛ لا سيما مع التقنيات الحديثة: من الحاسب وشبكات المعلومات ومحرِّكات البحث ... ونحوها. كما أن الباحث لا يَلقى عَنَتاً ولا شحّاً في تعدُّد القضايا، وتنوُّع النوازل، وتتابُع المستجدات التي يجدر بحثها ومعالجتها؛ إذ لا تزال هذه الإشكالات والوقائع ميداناً رحباً لمن عزم على بحثها، وجدَّ في تحريرها وتحقيقها. لكنْ على الرغم من وفرة المعلومات وضخامتها، والسهولة المُفْرطة في مطالعتها، وأيضاً تكاثر المستجدات والحوادث؛ إلا أن الفاحص والناظر في جملة من البحوث العلمية - سواء كانت رسائل علمية أو بحوث مجلات محكَّمة أو مؤتمرات - ليجدُ الهشاشة والهزال فيها، والرتابة المُمِلَّة، والتكرار والاجترار، ولسان الحال يقول: ما أرانا نقولُ إلا مُعاراً ... أو مُعاداً من قولنا مكرورا إضافة إلى الإغراق في النواحي الشكلية والفنية، والاستطراد في المقدمات المعروفة، وأما القضايا العلمية المشْكِلة والمعْنيَّة بالبحث، فإن الباحث قد يختزلها أو يسوق كلاماً عائماً، أو يتنصَّل منها ... دعك من حال البحوث التي يتشبَّع أصحابها بما لم يُعطَوْا، أو الذين يحمدون بما لم يفعلوا. ولمَّا سئل الخريشي (ت 1001 هـ) أن يؤلف كتاباً، فقال: (التأليف في زماننا هذا هو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرق) (¬1). ومهما كان الواقع قاتماً ومتردياً جرَّاء تلك البحوث، إلا أن ثمة بحوثاً على النقيض من ذلك؛ إذ تجد في هذه البحوث الجادة عمقاً علمياً، وتحريراً متيناً، وسَعة في الاطلاع، وابتكاراً في التصنيف، وجزالة في الأسلوب، ورسوخاً في التحقيق، ودراية فائقة في التخصص. ومن خير النماذج وأروع الأمثلة على ذلك رسالة: «قلب الأدلة على الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات» للشيخ تميم بن عبد العزيز القاضي (¬2). ومع أن كثرة الصفحات، ووفرة المراجع ليست أهم المعايير - في نظري - لإضافة تزكية على البحث، وتحقيق إيجابيته؛ إلا أن الباحث سطَّر ما يزيد على ستمائة وألف صفحة، ورجع إلى أكثر من ثماني مئة مرجع، ولم تكن هذه الصفحات المئات حشواً ولا استطراداً، كما لم تكن مراجعه تكثُّراً وتعسفاً؛ فالباحث قد رجع إليها فعلاً، وتحرَّى المراجع الأصلية، والمصادر العميقة، وجانب ما كان هشّاً وما ليس مرجعاً معتبراً. ويستوقفك في البحث ابتداءً حُسْن اختيار الموضوع وجدَّته وبكارته، ومفارقته للبحوث المكرورة الرتيبة. وأحسب أن هذا البحث النفيس من واجبات الوقت، ويسدُّ حاجة ملحَّة في الآونة الأخيرة؛ إذ يسهم البحث في مدافعة انهزاميةٍ واضطرابٍ قد عرضا لبعض المتسنِّنة؛ فقَلْبُ الأدلة على أهل البدع يبعث تمام الثقة بالمنهج السلفي، والاعتزاز والاعتصام بطريقة أهل السُّنة والجماعة، بل هذا سبيل المرسلين وأتباعهم؛ فإبراهيم - عليه السلام - حين عارضه قومه، وخوَّفوه من أصنامهم، قال قالباً عليهم حجتهم وتخويفهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 18]. ¬

(¬1) السحب الوابلة لابن حميد: 2/ 884. (¬2) رسالة تقدَّم بها الباحث إلى قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود، ونال بها درجة الماجستير بتقدير ممتاز سنة 1430هـ. ولا تزال الرسالة حبيسة الأدراج و (الأقراص).

قال ابن القيم: «وهذا من أحسن قلب الحجة، وجَعْل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله، وبطلان مذهبه» (¬1). فما يشغب به أهل البدع من أدلة يحتجون بها على أهل السُّنة، فإننا معشرَ أهل السُّنة نوقن أن كل دليل (نقلي أو عقلي) يتشبث به أهل الأهواء ضد أهل السُّنة، هو حُجَّة لنا ودليل على أهل الزيغ والبدعة، وهذا القَلْب من دلائل صِدْق المرسلين - عليهم السلام - وبراهين أهل السُّنة في صحة معتقدهم وسلامة منهجهم طوال القرون الماضية وما يُستَقبَل من أيام حتى يأتي أمر الله. يقول ابن تيمية: « ... فهؤلاء كل ما احتجوا به من دليل صحيح؛ فإنه لا يدل على مطلوبهم، بل إنما يدل على مذهب السلف المتبعين للرسل؛ فتبيَّن أن الأدلة العقلية الصحيحة من جميع الطوائف إنما تدلُّ على تصديق الرسول، وتحقيق ما أخبر به، لا على خلاف قوله، وهي من آيات الله الدالة على تصديق الرسول التي قال الله فيها: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 35]، وهي من الميزان الذي أنزله الله، تعالى» (¬2). لا عجب أن يعكف الباحث في هذه الرسالة سبع سنين؛ فهو قد اشتغل بمسائل عميقة ومباحث شائكة، هي من مَحَارات العقول، ودقائق المطالب، وخاصة أن الرسالة تجمع بين تخصصين مهمين وعميقين، وهما: أصول الفقه ومسائل الاعتقاد، وهذه مزية أخرى للرسالة؛ فإن من آفات التخصص الدقيق أن يفوِّت دراسة موضوعات مهمة تشتمل على أكثر من فن؛ إذ إن الموضوعات المشتركة والمشتملة على أكثر من تخصص قد تتقاذفها الأقسام بدعوى «عدم التخصص»، وخاصة أن هذا النوع من الموضوعات لا ينفك عن تبعات وأعباء على الباحث ... وصاحبنا قد أحكم موضوع قلب الأدلة من خلال مطالعة كتب أصول الفقه، ومدارسة أهل هذا الفن، وأعدَّ باباً مستقلاً عن قلب الأدلة، وحقيقة الاعتراض بالقلب وأقسامه، وحجية الاعتراض بالقلب وضوابطه. عقد الباحث باباً بعنوان: «قلب الأدلة الإجمالية التي استدلَّت بها الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات»: ففي الفصل الأول: قَلَب الباحثُ أدلة المخالفين في توحيد الربوبية، سواء التي استدل بها أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أو أدلة مسألة حلول الحوادث. وفي الفصل الثاني: قَلَب الباحثُ أدلة المخالفين في مبحث أسماء الله الحسنى. ثم في الفصل الثالث: ساق الباحث أدلة المخالفين من نفاة الصفات الإلهية وتعقَّبَها بالقلب عليهم، مثل: استدلالهم بالتنزيه، وتقديمهم العقل عند توهُّم تعارض العقل بالنقل، ومسألة دليل التركيب والتجسيم ومثال ذلك أن المتكلمين استدلوا بحلول الحوادث ونفيها عن الله - تعالى - على إثبات أن الله هو الصانع، وهو في الحقيقة نفي للصانع؛ فإن الذي يصح أن تنفى عنه الصفات، أو يقال: إنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ فمن كان كذلك فهو ممتنع الوجود؛ ولذا قال بعض السلف: المعطِّل يعبد عدماً (¬3). ¬

(¬1) إغاثة اللهفان: 2/ 254. (¬2) مجموع الفتاوى: 6/ 292. (¬3) قلب الأدلة: 1/ 405 - 406.

وأما الباب الثالث: فعنوانه: «قلب الأدلة التفصيلية التي استدلَّت بها الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات»: استوعب الباحثُ فيه القلب والاعتراض على المخالفين في مسألة: أول واجب على المكلَّف، ودليل التمانع، ومقالة قِدَم العالم عند الفلاسفة، كما قلب الأدلة على نفاة صفات الله - تعالى - الذاتية والفعلية، وساق أمثلة تفصيلية في هذا الشأن، ومثال ذلك: دعوى المتكلمين بوجوب النظر، وعدم صحة إيمان العوام، احتجاجاً بعدم التقليد. يقول الباحث تميم: «وحين ننظر إلى حال ومقال المتكلمين وأهل النظر، فإننا نجد أنهم قد نالوا من التقليد المذموم أوفر الحظ وأجزل النصيب؛ فالذم بالتقليد ينقلب عليهم؛ ذلك أن القواعد النظرية التي أوجبوها لم تدل عليها حجة معتبرة ... وإنما تلقَّوها عن أسلافهم الفلاسفة والمعتزلة؛ فحين يأتي الكلام عن الاستدلال بنصوص الوحي المعصوم في أبواب الإلهيات تجد الردَّ والتزهيد وأنها تحتمل التأويل، لكن حينما يكون الكلام على القواعد الكلامية والفلسفية، فإنك ترى التمجيد تجاهها والتقديس وأنها قد صقلتها الأذهان على تطاول الأزمان!» (¬1). أما الباب الرابع: فهو في قلب الألقاب التي أطلقها المبتدعة على أنفسهم، أو على أهل السُّنة: ففي الفصل الأول من هذا الباب: قَلْبُ ألقاب الذم التي أطلقها المبتدعة على أهل السُّنة، وبيانُ أنهم هم الأحق بها، مثل تسميتهم أهل السُّنة بالمشبهة والمجسمة، ونَبْزِهم أهل السُّنة بالحشوية والنابتة والجهلة وأما الفصل الثاني: فهو قلب ألقاب المدح التي أطلقها المبتدعة على أنفسهم، مثل دعواهم أنهم أهل العدل والتوحيد، وأهل الحق والبرهان، وأهل السُّنة ومن ذلك: إطلاق لقب المشبِّهة على أهل السُّنة، والحقيقة أن لقب التشبيه والتمثيل ينقلب على طوائف المعطلة؛ إذ إنهم شبَّهوا أولاً ثم دفعوا ذلك بالتعطيل ونفي الصفات، وكذا شبهوا الخالق - عز وجل - بالناقصات والمعدومات؛ «ولهذا قال بعض أهل العلم: إن كل معطِّل مشبِّه، ولا يستقيم له التعطيل إلا بعد التشبيه» (¬2). «كما أن لقب المشبهة ينقلب على كثير من متأخري الأشاعرة والماتريدية ممن وقع في تشبيه المخلوق بالخالق، وذلك من جهة ما دخل عليهم من التصوف الغالي، والذي لم يُعهد مثله عن أسلافهم؛ حيث أضافوا إلى أوليائهم وأقطابهم كثيراً من خصائص الربوبية: كعلم الغيب أو التصرُّف في الكون، كما أضافوا إليهم بعض مقامات العبودية التي تفرَّد الله - سبحانه - باستحقاقها: كالاستغاثة بغير الله، والذبح لغير الله ... ونحو ذلك، فكانوا أحق بلقب المشبهة؛ إذ شبَّهوا المخلوق بالخالق في ألوهيته» (¬3). وكذا دعوى الأشاعرة والماتريدية أنهم أهل السُّنة والجماعة؛ فقد قلَبَها الباحث عليهم من عدة وجوه؛ حيث لم يحققوا ضابط أهل السُّنة فيهم، بل تحقق نقيضه؛ فقد فرَّطوا في مصادر التلقي (الكتاب والسُّنة والإجماع)، فسلَّطوا على القرآن طاغوت التأويل، وطاغوت المجاز، وطاغوت تقديم العقل على النقل ... وأن نصوص الكتاب والسُّنة ظنية الدلالة .. وعدم الاحتجاج بأحاديث الأحاد، كما أن الأشاعرة خالفوا إجماعات السلف في غالب أبواب الاعتقاد؛ فخالفوا أهل السُّنة في قواعد الشريعة وأصول الدين؛ ثم ساق الباحث شهادة أئمة السُّنة بخروج الأشاعرة من أهل السُّنة، ومن ذلك ما أخرجه ابن عبد البر عن ابن خويز منداد (ت 390هـ): «أهل الأهواء عند مالك وأصحابنا هم أهل الكلام؛ فكل متكلِّم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تُقْبَل له شهادة في الإسلام أبداً ويُهجَر ويؤدَّب على بدعته ... » (¬4). وبعد أن خاض الباحث غمار مسائل عويصة، وحرر مباحث معضلة، واستوعب وأحكم كتب السلف، وغاص في أعماق مراجع أهل البدع (الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والفلاسفة)، وأجاد فهمها وأحكم نقضها، عندئذٍ ختم بحثه بهذه الكلمات: «وبعدُ: فهذا ما اقتضاه الخاطر المكدود، على عُجَرِه وبُجَرهِ، وعَلاَّته وهنَّاته، وعجزه وضعفه، فما كان فيه من صواب، فمِنَ الكريم الوهاب، وما فيه من زلل ونقصان، فمِنَ النفس الأمارة والشيطان، وأسأل الله منه الصفح والغفران» (¬5). وهكذا فالبحث الجاد والعلم النافع يورث تواضعاً وإخباتاً، وعلى هذا جرت مناقشة هذه «الموسوعة» بهدوء وخمول، وفي قاعة صغيرة، لم يحضرها إلا أربعة: الباحث ولجنة المناقشة. المصدر: موقع الشيخ عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف ¬

(¬1) قلب الأدلة: 2/ 934. (¬2) الصواعق المرسلة: 1/ 244. (¬3) قلب الأدلة = باختصار: 3/ 1311 - 1312. (¬4) جامع بيان العلم: 2/ 195. (¬5) قلب الأدلة: 3/ 1470.

ساعة وفاء

ساعة وفاء إبراهيم السكران الحمدلله وبعد. فتحنا عيوننا نحن أبناء هذا الجيل على الدنيا ونحن نشاهد زخم الصحوة الإسلامية قبيل أزمة الخليج ومابعدها .. دروس هنا .. ومحاضرات هناك .. وإقبال شبابي عجيب على تزكية الإيمان وبناء الشخصية الإسلامية .. ومحافل أدبية اشتعل فيها مايسمى الأدب الإسلامي .. وتنامي تيار أسلمة العلوم .. ومؤسسات خيرية وغوثية .. والتفاف حول أهل العلم وتواصل معهم فيما يخص المنكرات والمخالفات الشرعية .. الفتى الصغير يفكر في معاناة أطفال المسلمين في أصقاع الأرض .. وشغف لاينضب بمفهوم الدولة الإسلامية والتطبيق المتكامل لـ"تحكيم الشريعة" بكل مايشمله من اصلاح عقدي وتشريعي وسياسي .. إنه بكل اختصار: مجتمع يلتهب بشئ اسمه "حمل هم الإسلام" .. ثم جاءت عاصفة سبتمبر، وتسلط الامبراطورية الأمريكية في ملاحقة وتهديد الأنشطة الاسلامية وتوجيه الأنظمة العربية لتطويق منابع التدين، وثورة نظم الاتصالات الحديثة، وتمكن فريق ليبرالي/تكنوقراطي من صناعة الضباب حول رأس الهرم .. كل هذه المتغيرات الداخلية والخارجية في سنيات قلائل .. محنة من أمرّ المحن والصعوبات .. زلت فيها اقدام كثيرة .. وانسحبت أقدام أخرى .. مشاعل هدى صاروا سموم ضلالة .. استبدلوا الانتماءات الشرعية كأهل السنة والاسلاميين بالوطنية، وصاروا ينفخون في اتباعهم تعظيم الدنيا وتعليق القلوب بها، والتزهيد في علوم الوحي واستعظام حطام الكفار، وتهوين الأمر والنهي الإلهي بكثرة التذرع بالخلاف، وتذويب الحواجز العقدية وتهتيك وهجها ووضوحها: السني/المبتدع، الاسلامي/العلماني، المسلم/الكافر، المؤمن/المنافق، الخ وتوهين الذرائع بين الجنسين، وتقويض اليقين بمقصود الشريعة في التحوط بين الجنسين، وكثرة تقزيم المحتسبين ولمزهم وتصويرهم في صورة البسطاء والمتهورين .. الخ الخ وبين كل هذا الركام من الانكسارات والانهيارات وجفاف الإيمان والجريان مع الاهواء .. بقي بين الظلام "دعاة" من الجيل السابق يتلامعون في ليالي الفتن، ثبتوا في هذه المحن، لم ترعبهم التضييقات، ولم تطمعهم المكتسبات الإعلامية والدبلوماسية الرخيصة، لم يرضوا أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، صحيح أن كثيراً منهم اضطر في الساعات الصعبة أن يكظموا صمتهم على تغيظ، لكن لهم الشرف أنهم لم يبدلوا تبديلا، دعاة من طلاب علم ومفكرين ومربين وأدباء إسلاميين .. لازالوا على العهد .. لم ينكسروا أمام الاستطالة اللغوية والارهاب المصطلحي للخطاب الفكري الجديد، لا زالوا على أصول أهل السنة في العقيدة، وفي منهج الفتيا، وفي منهج الدعوة، وأسأل الله أن يثبتهم على ذلك حتى يجتمعوا بأئمة أهل السنة في الفردوس الأعلى من الجنة بإذن الله .. صحيح أننا يجب أن نوقر أهل العلم الكبار، لكن كلي أمل من إخواني طلبة العلم والدعاة من هذا الجيل أن لاننسى واجب الوفاء لهؤلاء الدعاة الذين سبقونا بالإيمان، فلهم والله علينا حقوق كثيرة، وبمجرد أن يرى المرء نفسه يعرف لهؤلاء فضلهم فهو علامة خير، وبمجرد أن يمتلئ قلب الشاب زهواً وجحوداً لفضل هؤلاء الرواد فهذه أمارة خذلان .. الله الله يا إخواني بأن نقدر هؤلاء الدعاة وطلبة العلم الذين يكبروننا، والذين ثبتوا في الفتن السابقة، وأن نعرف لهم فضلهم ومنزلتهم، وأن نستشيرهم في دقائق الأمور الدعوية، فثباتهم في السنوات العجاف السابقة مؤشر عميق على توفيق الله لهم، وقرينة قوية على صدق نياتهم ونظافة مقاصدهم من أن ترديها أمراض حب الظهور، ونزوات الشهرة، وغريزة التصدر، ولذائذ الرياسة .. كلما رأيت طالب علم، أو داعية، أو مفكراً إسلامياً، أو أديباً إسلامياً، يكبرني بسنيات، وكان ممن ثبت في محنة سبتمبر الهوجاء؛ فإنني والله أشعر برغبة دفينة تتدفق في داخلي لأن أظهر له الوفاء بفضله وريادته، وحاجتنا لحكمته ومشورته ونصيحته .. ولولا أن يشعروا أنني أبالغ لقبلت رأس كل واحد من هؤلاء حين ألقاه، وأعرف أن هذا لايمثل لهم شيئاً، لكنه إحساس داخلي بحبهم لا أعرف كيف أعبر عنه .. وحب أجيال المؤمنين اللاحقة لأجيال المؤمنين السابقة من أعظم خصال الإيمان التي نبه عليها كتاب الله كما قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10] كما أن "تفاوت" الدعاة بحسب "ريادتهم" الدعوية من أعظم المعايير التي نبه عليها كتاب الله كما قال تعالى (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد:10]

الاحتجاج بالخلاف ديانة أم مخادعة لله؟!

الاحتجاج بالخلاف ديانة أم مخادعة لله؟! سعد بن مطر العتيبي سألني أحد الأشخاص عن حكم مسألة ما، فأجبته بما يقتضيه الدليل وقرنت الجواب بدليله، فبادرني سائلا: هل المسألة متفق عليها أو أن فيها خلافاً؟ قلت وقد أدركت مبتغاه: وماذا يفيدك الجواب؟ قال: إن كان فيها خلاف سيكون أسهل عليّ! وبالتأكيد ليس هذا الشخص فريداً في فكرته هذه، بل قد ظهرت بين صفوف المنتسبين للاستقامة الظاهرة فكرة البحث عن آراء الفقهاء التي فيها تسهيل في الأحكام الشرعية بغض النظر عن مدى ثبوتها بالأدلة الشرعية، بل ومع العلم أحياناً بكونها مصنَّفة ضمن الشذوذ الفقهي الصارخ، والمؤسف حقاً أن يتبنى بعض هؤلاء العمل بها وإن جاءت على خلاف الدليل الصحيح الصريح؛ بل وتطبيعها والدفاع عنها، كلّ ذلك استناداً إلى وجود خلاف في المسألة! ومن هنا فتن هؤلاء بعضَ العوام، لظهور الترخص في بعض الأحكام الظاهرة لدى المطبقين لهذه الفكرة التبريرية من الرجال والنساء .. فتسبب هؤلاء في ارتكاب المخالفة بغير دليل من الشرع، وبين صدّ المتبعين للدليل الشرعي من العوام عنه. وتكمن الخطورة المنهجية في هذا المسلك في ابتغاء الآراء بمعزل عن أدلتها، وجعل الخلاف ذاته دليلاً على المشروعية! وهذا - لا شكّ - انحراف منهجي، يقع فيه بعض المتفقهة فضلا عن غيرهم من الباحثين عن التخفيف من أي طريق كان. فمما لا يخفى على صغار طلبة العلم أنَّ الخلاف ليس معدوداً في الأدلة الشرعية، لا المتفق عليها، ولا ما يعبّر عنها بالمختلف فيها. بل النصّ الشرعي ظاهر واضح صريح في حصر الرجوع في حال النزاع إلى الكتاب والسنة، في مثل قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). بل إنَّ مما اختصّ به العلماء في النصيحة لهم، الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) كما يقول ابن رجب رحمه الله: " ردّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلِّها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردّها " (¬1). ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 97.

وهذا الانحراف بجعل الخلاف في منزلة الدليل الذي أخذ يستشرى اليوم بين بعض المتفقهة، ليس انحرافاً جديداً؛ بل قد نبّه إلى خطورته ومنافاته للشريعة الربانية، عدد من المحققين من أهل العلم؛ فقد قال العلامة الباجي المالكي رحمه الله منكراً تكرر مثل هذا الانحراف لدى المستفتِين بسبب ضعف إنكاره: " وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعلّ فيها رواية؟ أو لعلّ فيها رخصة؟ وهم يرون أنَّ هذا من الأمور الشائعة الجائزة! ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي؛ وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدّ به في الإجماع أنَّه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحلّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنَّه حقّ، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنَّما المفتي مخبر عن الله في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنّه حكَم به وأوجبه، والله تعالى يقول: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) المائدة 49. فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي! أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عمراً لصداقة بينهما، أو غير ذلك من الأغراض؟! " (¬1). وقال العلامة الشاطبي رحمه الله، في فصل عقده في الموضوع بعد تعقيبه على كلام الباجي: " وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حُجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان: الاعتمادُ في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم! لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإنَّ له نظراً آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع؟ والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حُجَّة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدلّ على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع؛ وهو عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمدٍ معتمداً، وما ليس بحجّة حجّة " (¬2). ثم أورد نقلاً عن الخطابي جاء فيه: " وليس الاختلاف حُجّة. وبيان السنّة حُجّةٌ على المختلفين [يعني فيما أورده من المسائل التي اختلف فيها] من الأولين والآخرين " ثم قال الشاطبي رحمه الله: " والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ به عن نفسه؛ فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتّباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه " (¬3). وقال الشاطبي رحمه الله مبيناً بعض دعاوى هؤلاء: ((ويقول: إن الاختلاف رحمة، وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، أو الذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجَّرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كلّه، وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله " (¬4) وقد قسّم رحمه الله الآخذين بهذا المنهج المنحرف إلى ثلاثة أقسام: الأول: الحاكم به، والثاني: المفتي به، والثالث: المقلّد العامل بما أفتاه به المفتي. ثم بين حكم كل قسم إذ قال: " أمَّا الأول؛ فلا يصح على الإطلاق؛ لأنَّه كان متخيراً بلا دليل، لم يكن أحد الخصمين بالحكم أولى من الآخر، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ¬

(¬1) نقلاً عن الشاطبي في الموافقات:5/ 90 - 91. (¬2) الموافقات: 5/ 92 - 93. (¬3) الموافقات: 5/ 93 - 94. (¬4) الموافقات:5/ 94.

وأمَّا الثاني؛ فإنَّه إذا أفتى بالقولين معاً على التخيير فقد أفتى في النازلة على الإباحة، وإطلاق العنان، وهو قول ثالث خارج عن القولين، وهذا لا يجوز إن لم يكن يبلغ درجة الاجتهاد بالاتفاق، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقتٍ واحد ونازلة واحدة أيضاً حسبما بسطه أهل الأصول. وأيضاً؛ فإنَّ المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه، فكما لا يجوز للحاكم التخيير، كذلك هذا. وأمَّا إن كان عاميَّاً؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتّباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأنَّ العامي إنَّما حكَّم العالِمَ على نفسه، ليخرج عن اتّباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فإنَّ العبد في تقلباته دائر بين لَمَّتين: لمّة ملَك، ولمّة شيطان؛ فهو مخيّر بحكم الابتلاء في الميل إلى أحد الجانبين، وقد قال تعالى: (ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها) (إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفورا) (وهدينه النجدين) ثمة قضية أخرى ينبغي مراعاتها في هذا الموضوع، حتى لا تختلط به؛ وهي الفرق بين الطرائق الشرعية في الفتوى، التي يسلكها المفتي الناصح، مراعياً فهمه للوقائع الخاطئة وطبيعة انتشارها، والآليات التي تؤدي إلى الحكم الصحيح؛ وأعني بذلك فقه التدرج في التطبيق، لا التدرج في التشريع، إذ إن التدرج في التشريع قد انتهى زمنه بانقطاع الوحي، فالحلال حلال والحرام حرام منذ نزل به الوحي، إلا أنَّ الحرام قد يحتاج إلى تدرج في سبيل الخلاص منه، كالفتوى لمن ابتلي بالتدخين بأن يقلل منه في بداية عزمه على التخلص منه، حتى لا يثقل عليه تركه، فيفشل في تركه والانقطاع عنه؛ فهذه السبيل في الفتوى تبقي المحرم محرما، وتسعى في الخلاص منه بالتدرج في التخلي عنه، لسبب يخص المسألة محلّ الفتوى؛ ويشهد للتدرج في التطبيق: نصوص التدرج في التشريع، مع بقية أدلة الأمر بالمستطاع من مثل قول الله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، ومن السنة من مثل قول النبي - عليه الصلاة والسلام - في الصحيح: (دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). نسأل الله تعالى الثبات على الحق، مهما خالفه الخلق .. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله.

إيجابيات الخطاب السلفي

إيجابيات الخطاب السلفي د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي كل من يقرأ التاريخ المعاصر ويرصد الأحداث لا تخطئ عينه الفضائل الكبرى التي كانت للخطاب السلفي على الأمة الإسلامية اليوم، ففي سنوات لا تتجاوز الخمسين سنة انتشر هذا الخطاب انتشارا مذهلا في الأمة شرقا وغربا، وأصبحت المؤلفات والفتاوى والمؤسسات السلفية تنتقل من بلد لآخر نشرا للعقيدة الصحيحة، وتعليما لحقائق الدين وربطا للأمة بالكتاب والسنة. ومن أبرز إيجابيات هذا الخطاب المبارك: تصحيح العقيدة من الشركيات والبدع والمحدثات والخرافات التي انتشرت في الأمة بسبب التصوف والتشيع وبقية الفرق الضالة التي أضرت بعقائد المسلمين ضررا بالغا، فقد نقدوا وكشفوا حقيقة الفرق الضالة كالخوارج والمرجئة والمعتزلة والأشاعرة والصوفية والشيعة والباطنية في الوقت الذي كان بعض المنتسبين إلى الدعوة يرى أن هذه الفرق لا وجود لها الآن وأنها انقرضت وأصبحت أحداثا تاريخية، ومقاومة الخطاب السلفي لهذه الشركيات والبدع دليل على الوعي العميق بالواقع الذي لا يمكن إصلاحه بذر الرماد في العيون ونسيان الحقائق الموضوعية على الأرض، ولكن إصلاحه يكون بمواجهة المشكلة بالمنهج الشرعي الراشد. وهذا العمل التجديدي الكبير كان له آثار عظيمة في إضعاف الفرق الضالة، وتحذير الأمة من مخاطرها وعقائدها الباطلة، وإبراز علماء السلف كقدوات للأمة، فقد انتشرت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من علماء السلف في أرجاء الأرض، واطلع عليها كثير من العلماء والمفكرين والمثقفين وكان لها أثر كبير في تصحيح المفاهيم العقدية والمنهجية التي أفسدتها الفرق الضالة في باب المسائل والدلائل. وقد قام الخطاب السلفي بعمل جبار في حماية شباب الأمة من المذاهب الفكرية المعاصرة، فكتبوا وحاضروا عن العلمانية والقومية والشيوعية والحداثة والليبرالية وغيرها من المذاهب الهدامة، وبينوا منافاتها لأصل الدين، وقواعده الأساسية، ومقاصده الكلية. فقد أزال السلفيون الركام الفكري والعقدي الهائل من التصورات الباطلة والتفسيرات الخاطئة والتأويلات الضالة للقرآن والسنة، وكان للخطاب السلفي المعاصر مزيد عناية بمناهج الاستدلال وآلياته ليتميز المنهج الشرعي عن المنهج البدعي، وخصوصا بعد ظهور التيارات التنويرية والعصرانية التي تسوق أفكارها من خلال النص الشرعي. ومن أبرز ما يميز الخطاب السلفي أنه خطاب ذو منطلق إيماني تعبدي يربط كل مناحي الحياة بالعقيدة والإيمان والتعبد والخضوع لله سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الأخلاق وسائر أحوال الاجتماع البشري بكافة صوره وأشكاله، وهذا هو منهج القرآن وآياته شاهدة بذلك. وإذا أراد المراقب إنصاف هذا الخطاب فإنه لن يتجاهل دوره في نشر العلم والثقافة والوعي السياسي قبل ظهور الانترنت والفضائيات وبعدها، ودوره في إحداث حركة فكرية وثقافية قوية في المجتمع، فقد شجع على الإطلاع والقراءة والنقد والاستقلال الفكري المرتبط بالنص الشرعي، ووضع منهجية شرعية في تفسير الأحداث وربطها بالعقيدة والسنن الكونية والإلهية.

وكان للخطاب الشرعي دور بارز في الجامعات والتشجيع على الدراسات العليا، ولو رجع الباحث المحايد إلى الجامعات السعودية وأراد أن يحدد بداية الثورة المعرفية والثقافية فيها، واتجاه الشباب لإكمال دراساتهم العليا وتابع بدايات هذا النشاط العلمي لوجد أن الخطاب السلفي هو الذي قاد الجامعات السعودية إلى ذلك، وعند النظر إلى الرصيد العلمي الهائل الذي تم في الأقسام الشرعية والعربية ونوعيته لوجد تراثا باذخا وفكرا نيرا، كما أن الأقسام الطبيعية بكافة أنواعها وتخصصاتها المعرفية توجه لها أتباع هذا الخطاب حتى أصبح يطلق البعض على كلية الطب في جامعة الملك سعود كلية الشريعة لكثرة المتدينين من أتباع هذا الخطاب فيها. بل إن هذه الجامعة التي أراد لها البعض أن تكون منبرا لنشر العلمانية كما كانت جامعة القاهرة أصبحت منبرا لهذا الخطاب في كافة التخصصات الأدبية والطبيعية المتنوعة. ولو أن البعض درس باستقلالية وإنصاف الدور الريادي للخطاب السلفي من خلال التعليم والجامعات لوجد نتائج مذهلة تحققت في فترة زمنية محدودة، ولم يكن لهم القرار بصورة مستقلة ولكنهم شاركوا في هذه الجهات وقاموا بعملية الإصلاح حسب المتاح والمقدور عليه. وقد كان الخطاب الشرعي هو المحرك الأساسي لمؤسسات المجتمع التطوعية، وحرك الناس في بذل أوقاتهم لخدمة المجتمع قربة إلى الله تعالى، فهذه أبرز المؤسسات الاغاثية والشبابية والاجتماعية والنسائية يقودها هذا الخطاب. ومن ايجابيات هذا الخطاب التركيز على أهم قضية في الفكر السياسي الإسلامي وهي قضية تحكيم الشريعة الإسلامية وبيَّن ارتباطها بأصل الدين والإيمان وأن تحكيم القانون الوضعي كفر بالله رب العالمين، وقضية تحكيم الشريعة هي أهم نقطة مركزية في الفكر السياسي الإسلامي (انظر مثلا فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم وابن باز والكتب المؤلفة في الحكم بغير ما أنزل الله ونواقض الإسلام والإيمان وغيرها) وكان لهذا الخطاب المبارك دور إصلاحي كبير في نشر التدين والتعبد والتقوى في صفوف الشباب وانتشال أعداد كبيرة من الشباب من الشهوات المحرمة والمخدرات والضياع وغياب الهدف وجعل لهم رسالة ورؤية يسعون لتحقيقها ابتغاء مرضاة الله تعالى، فتجد الشاب في عمر الزهور يخفق قلبه بمحبة الله وتعظيمه والشوق إليه وإبعاد النفس عن الشهوات والمغريات المحرمة، وتجد هؤلاء الشباب يحرصون على تعرف حال أمتهم لإنقاذها من تخلفها في عزيمة لا تجدها عند بقية الشباب الذين لم يستوعبهم هذا الخطاب لقلة الإمكانات وكثرة الاحتياج. إن المراقب صاحب النية الصادقة سوف يذهل للخدمات والتضحيات والبذل الرهيب الذي قدمه هذا الخطاب ولا يزال يقدمه خدمة لأمته في زمن ليس زمنهم، ولا هم قادته بل الأمر والقيادة بيد غيرهم. ولو نظرت إلى فترة أزمة الخليج في التسعينيات ودور هذا الخطاب في إحداث حركة الوعي السياسي والمطالبة بالحقوق العليا للأمة من منطلق إيماني تعبدي والتضحيات التي قدمت لعرفت الايجابية الكبرى التي أفاد بها هذا الخطاب أمته ودينه. وهكذا الحال في مجال الوعظ والنصح، والتربية، والقضاء، والفتيا، وتصحيح العلوم من شوائب الانحرافات التي لحقتها، وتمييز صحيح الحديث من سقيمه (دور الشيخ الألباني كان معلما معاصرا بارزا في هذا المجال)،والمشاركة في الجهاد الصحيح ودعمه، وإحياء روح الإباء والاستبسال في الأمة، وعدم الخضوع للمستعمر.

وقد حذر علماء هذا الخطاب من فتنة العصرنة قبل ظهورها على المستوى المحلي بفترة طويلة من خلال تضمين نقد أفكارها في الرسائل الجامعية في مسائل الولاء والبراء والجهاد والإرجاء المعاصر والعلاقة مع الكفار والمذاهب الفكرية، والموقف من الفرق، ومفاهيم التجديد والتطوير وغيرها (يمكن الرجوع مثلا إلى بحوث العلمانية للحوالي، والولاء والبراء للقحطاني، وأهمية الجهاد للعلياني، والثبات والشمول للسفياني وغيرها كثير جدا, وهي كتب مطبوعة ومتداولة على أوسع نطاق)، وكذلك حذروا من هذه الفتنة من خلال دروس ومحاضرات كثيرة من أبرزها محاضرة الشيخ سفر الحوالي شافاه الله وعافاه: العلمانية في طورها الجديد، التي ذكر فها جملة كبيرة من الأفكار العلمانية لدى بعض الإسلاميين التنويريين: إما بسبب التخليط في مصادر التلقي والاستدلال أو بسبب روح الهزيمة التي تحصل لبعض النفوس الضعيفة أمام الآخر!! وقراءة هذا الإنتاج الضخم (كتب ومقالات ومحاضرات ودروس وخطب ومجلات وبيانات وفعاليات مختلفة .... ) وتحليل أجزائه وآثاره يحتاج إلى جهد كبير وعمل طويل، وفيه جوانب في غاية الإشراق والوضاءة فضلا عن الأحداث والمواقف والحركة الاجتماعية التي هي أكبر وأغزر. إن الإحصاء والاستقصاء للدور الايجابي لهذا الخطاب متعذر في مقالة مختصرة، ولكن من فكّر بنفس نظيفة هادئة مستقرة فإنه سيجد أضعاف ما تمت الإشارة إليه، والهدف إثارة التفكير في الموضوع والعناية به. ومن الطبيعي أن يوجد في أي عمل بشري أخطاء وقصور لكن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ولم يؤثر فيه، ولا ينبغي أن يكون النقد هو الهاجس الوحيد مع الإعراض التام عن ايجابيات الفكر السلفي المعاصر التي هي بكل تأكيد أكثر وارسخ وهي الأصل الأصيل فيه، وأن الخطأ عند وجوده إنما يكون في الأفراد وليس في المجموع. ويؤسفني جدا عندما أرى شبابا ممن يعتبرون أنفسهم من أهل هذا الخطاب ديدنهم ذكر المثالب والعيوب والنقد الدائم لمؤسساته وشيوخه وأفكاره مع ميل للطوائف والتيارات الفكرية المناوئة له، إن هذه النفسية التي تجعل من هؤلاء الإخوة يلتمسون المعاذير ويتفهمون لهذه الطوائف والتيارات أقوالهم ومواقفهم في الوقت الذي جعلوا من نقد الخطاب السلفي مشروعا لهم دون أي إشارة تذكر للايجابيات، هذه النفسية تدل على هوى متبع خفي يلبس لبوس النصح وإرادة الإصلاح، وتدعي أن النقد موجه إلى الخطاب وليس للمنهج مع أن المآل يوصل إلى نقد المنهج متذرعا بان المقصود هو الخطاب الزمني وليس المنهج المحكم الثابت. إنني أتفهم أن يقوم طالب علم شرعي يعرف لإخوانه حقوقهم ويدافع عنهم، ويواجه الطوائف والتيارات الفكرية بما عندهم من الباطل ثم يقوم بتقويم خطأ وتسديد ثغرة وتصويب قول أو موقف فهذا بلا ريب أن دافعه النصيحة الواجبة. ولكنني لا يمكن أن أفهم من يصادق ويصاحب ويصافي إتباع التيارات الفكرية ويتلمس الأعذار ويجد نفرة وعدم ارتياح لإخوانه من دعاة أهل السنة والجماعة ومع ذلك يقول أنني أريد النصح والتقويم عندما أنتقد الخطاب السلفي!! هذا الركام والضجيج النقدي للخطاب السلفي لا ينبغي أن يشغل شيوخه وشبابه عن رسالتهم الربانية وهي تعبيد الناس لرب العالمين ونشر الدعوة والإصلاح في كل مكان، والاشتغال بالنافع من الأفكار وعدم الإصغاء للأفكار السلبية التشكيكية التي يرددها نقاد هذا الخطاب.

لقد انشغل بعض طلاب العلم بالتفكير في هذه السلبيات التي يتم طرحها على الخطاب السلفي وصدقها البعض الآخر دون روية، وكان الأولى الاشتغال بالدعوة والإصلاح والعلم النافع فهو أجدى وانفع، وهذا لا يعني قبول الأخطاء والسكوت عنها لكنه يعني أن هذه الدعاوى لم تقم على أساس صحيح بل قامت لمشاغلة المصلحين عن رسالتهم الأساسية. ولهذا يلاحظ أن المشككين في ايجابيات الخطاب السلفي تضيق صدورهم عند إبرازها والتذكير بها، ويحاولون تشويه هذه الايجابيات بدعوى أننا بحاجة لإصلاح الأخطاء وليس لمدح النفس، أو بدعوى أن ذكر الايجابيات سوف ينسينا معرفة الإشكاليات لمعالجتها، وهي دعاوى ساقطة لان ذكر الايجابيات محفز ومشجع على المضي فيها، ولا يلزم منه تناسي الخطأ وتصويبه، ولا أعرف أحدا من شيوخ هذا الخطاب ادعى العصمة لكلامه أو لبعض شيوخه، ولكن العصمة للنصوص الشرعية وللإجماع. ومن ظن أن الدفاع عن العلماء والدعوة ضد الهجوم الجائر الظالم سوف ينسينا التصويب والتصحيح فهو واهم في أحسن الأحوال، فالدفاع هنا هو أمام ظلم وعدوان وكذب وافتراء لا يجوز السكوت عليه بأي حال من الأحوال. ولا أشك أن الممارسات التي تتم في نقد الخطاب السلفي الموجودة الآن هي ممارسات سلبية تحطيمية أكثر منها ممارسات ناصحة مشفقة، فالنصيحة لها أسلوبها وطريقتها والتحطيم له أسلوبه وطريقته، وعندما يصدر هذا النقد السلبي من خصم لدود سواء من الفرق أو التيارات الفكرية فإن هذا طبيعي من خصم حاقد أغاظه ظهور السنة وأهلها، ولكن المأساة عندما يصدر من إخوة من ذات الخطاب أثرت فيهم الأجواء الموبوءة فأصبحوا يرفقون بالفرق والطوائف الفكرية تحت دعوى التسامح والتوافق على المشتركات في الوقت الذي يمارسون الردح والنقد الدائم المستمر للخطاب السلفي، وكأنه لا توجد مشتركات ولا تسامح معه!!. وهذا يؤكد أن هناك تأثرات ولوثات فكرية أصابت بعض المنتسبين لهذا الخطاب بدرجات متفاوتة، وقد كان الواجب عليهم أن يراجعوا أنفسهم وينقدوها ويصححوا ما أصابها من خلل قبل الحديث عن نقد الخطاب السلفي، لأن العليل الذي يعجز عن علاج نفسه سيكون أكثر عجزا عن إصلاح غيره، فعندما ترى شابا بدت تظهر عليه علامات التغير في تدينه فأصبح يمارس المحرمات ويتساهل في أداء الواجبات، ويتقرب إلى التيارات الفكرية والفرق الضالة، ويتعب نفسه في المقاربات والتماس ايجابياتها بحجة أن الصواب نقبله مهما كان قائله، ثم تجده ناقدا دائما للخطاب السلفي إلى درجة أنه يمكن أن تتوقع موقفه من أي حدث يخص الخطاب السلفي قبل إبداء رأيه فيه لأنه أصبح يسير على نسق وقاعدة فكرية نقدية للخطاب السلفي ... ثم بعد هذا كله يزعم أنه يريد التجديد داخل الخطاب السلفي، عندما ترى ذلك تدرك دون عناء أن المسألة ليس مجرد تصحيح للأخطاء، فهذا تسطيح للموضوع واختزال لعمق المشكلة، وهروب من مواجهتها ومعرفة مخاطرها ونتائجها السلبية. بالله عليكم هل هذه هي صفة المجددين؟ وهل هذا أسلوبهم ومنهجهم؟ وهل ما يقوم به هؤلاء تجديد أم هدم وتحطيم؟ وهل من التجديد النقد المستمر للخطاب السلفي وترك الفرق والتيارات الفكرية، والحياد أمام مشاريعها وأطروحاتها؟ إنني أطالب هذه المجموعة من الإخوة الكرام بمراجعة الذات ونقدها وتصحيح ما أصابها، والتفكير الهادئ الصادق للمنهجية التي هم عليها، والنظرة الكلية للحالة التي وصلوا إليها فإن هذا أكثر نفعا من الاشتغال بالغير، وقولي هذا هو إشفاق وحدب ونصح لإخواني فإن التمادي في هذا الحال سوف تكون عواقبه وخيمة، وقد بدت نذرها في بعض الآراء والأفكار الغريبة. إن الحديث الدائم عن نقد الخطاب السلفي من فئة لا تعمل على نشره، ولا تدافع عنه أمام خصومه وأعدائه، وتظهر دائما الحياد في معركة المسلمين مع المنافقين، هو حديث البطالين الفارغين الذين تركوا الجهاد ومنازلة التيارات الفكرية المفسدة لعقائد المسلمين واشتغلوا بالكلام السلبي. إنني أعلم أنه سيخرج لي من يعطيني الموشحات الطويلة في فائدة العقلية النقدية المتسائلة، أو يفهم كلامي على أنني ضد النقد بالمطلق، وينسى كل ما تقدم ذكره في أن العصمة تكون للنصوص والإجماع وليس للأفراد، وأنني أتكلم عن حالة احترفت النقد ولها سمات معينة يمكن اكتشافها من خلال متابعة بسيطة للساحة الفكرية. على أية حال فنحن بحاجة إلى إبراز الايجابيات في الخطاب السلفي لإعادة الثقة في النفوس التي استسلمت للنقد الجائر مما جعل البعض محبطا أو مذبذبا او حائرا مما يسمعه ويراه، ولو رجع إلى الواقع لوجد خيرا عميما وكبيرا أحدثه هذا الخطاب المبارك في المجتمع على أصعدة متعددة. المصدر: شبكة القلم الفكرية

في إعمار دارفور .. نزرع ويحصد غيرنا!

في إعمار دارفور .. نزرع ويحصد غيرنا! يسعد المسلم عموماً كلما بلغته خبر عن ملف شائك في حاضره يوشك أن يغلق، أو أزمة قد تؤدي إلى فساد التفكيك أو غيره من الأضرار المتوقعة في أي بقعة من حوضهم الإسلامي الرحيب تمضي في طريقها إلى الزوال. وتكون السعادة حقيقية متى كان الحل لتلك الأزمة من داخل البيت الإسلامي، وتساوره الشكوك حين تصبح مفاتيح الحلول بيد "دولية"، لاسيما إذا كانت دول معروفة بعدائها للعالم الإسلامي في مقدمة الباحثين عن "الحل" لمشكلة إسلامية خاصة. في المشكلة اليمنية هذا العام، كانت لندن حاضنة لمؤتمر يخص تنميتها الاقتصادية للحؤول دون انفلات الوضع فيها، أو هكذا كان الأمر معلناً، وصارت تعهدات بتدفقات مالية ضخمة تصرف من أجل منع الإرهاب، استناداً إلى فكرة تتعلق بكون الفقر إحدى المناخات المهيئة لنمو الإرهاب، وفي المشكلة الأفغانية التي أوجدها الاحتلال الغربي منذ ما يقارب عشر سنوات، أصبحت قضية "الإعمار" لافتة تجري من تحتها كل آليات التغريب، وفي الصومال، كانت عملية "إعادة الأمل" أوائل التسعينات عنواناً للتدخل الغربي، وهلم جرا. اللافت في كل هذا أن ما يُسمى بالإعمار لم يكن إلا خادماً لمخططات الهيمنة والتغريب، أو على الأقل إخراج هذا البلد أو ذاك من دائرة التهديد للمصالح الغربية إن لم يكن في وارد الاستيلاء على ثرواته المخبوءة بعد إفقاره المتعمد من قبل في الجانب الظاهر من تلك الثروات، واللافت أكثر أن الغرب جد بخيل فيما يتعلق بتلك الإمدادات المالية. وإن تعهد بتمويل الإعمار إلى جانب دول أخرى؛ فإنه لا يوفي، وإن أوفى فببعض النزر القليل الذي لا يغني ولا يسمن من جوع. الأخطر في المشكلة ليس في ذلك فحسب، بل في أنه عادة ما يكون قاطرة يجر دولاً إسلامية وعربية لتمويل بعض المشروعات في مناطق صراعاته أو تطلعاته، ثم لا نجده معهم إلا قتوراً!! وإذ نعتقد جازمين أن مشكلة بسيطة كدارفور انفجرت بسبب تحريش غربي، وبيئة مهيئة للصراع بين الأعراق على مناطق الرعي والزراعة وما إلى ذلك - إلى جانب أمور أخرى يمكن حلها بهدوء - قد كان بوسع الدول الإسلامية الثرية أن تحلها بما يوازي ما تنفقه في دورة رياضية أو عيد استقلال وما شابه ذلك؛ فإن من حقنا أن نتساءل ونحن نرى تعهدات محمودة من أجل إعمار دارفور، ألم يكُ ممكناً أن يتم ذلك دون تدخل أجنبي بخيل، وفي داخل البيت الإسلامي والعربي الدافئ؟! نعود للتأكيد بأن تلقي منظمة المؤتمر الإسلامي لتعهدات إسلامية وعربية بقيمة تبلغ نحو 850 مليون دولار لإعمار دارفور هو أمر يبهج كل مسلم راغب في اندمال هذا الجرح، وجهد مشكور قامت به إلى جانب المنظمة تركيا ومصر، كما أن رغبة قطر في وصول هذا المبلغ إلى ملياري دولار مطمح جيد، لكننا مع ذلك نقول بعد أن عدم تعهد دول من بينها الولايات المتحدة وكندا والنرويج وبريطانيا في الاجتماع بتقديم أموال، قائلة أن "المنطقة ليست آمنة بما يكفي للقيام بالأعمال المقترحة"، هو مما يبرهن على عدم جدية الدول الغربية في تمويل الإعمار في مناطق تنبعث اضطراباتها في الأساس من أزمات اقتصادية، ويدعونا إلى مطالبة الدول الإسلامية والعربية بإعادة تقييم مواقفها السياسية التي تزرع فيها ويحصد غيرها، وأن تبوأ مكانتها الطبيعية في حل مشاكل العالم الإسلامي، وتفرغ المخططات المستهدفة لها من مبرراتها، وتسحب الأوراق من أيدي خصومها. المصدر: موقع المسلم

نقد الخطاب السلفي ... وغياب القيم

نقد الخطاب السلفي ... وغياب القيم سلطان بن عبد الرحمن العميري الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فمن الظواهر الفكرية البينة في ساحتنا المعاصرة: التوجه إلى نقد الخطاب السلفي، وتقييم تجربته في قيادة المجتمع فقد توالت من هنا وهناك كتابات عديدة تقصد إلى فحص ذلك الخطاب، وتحديد ما تلبس به من أخطاء معرفية ومنهجية في تصور الناقدين حتى غدا الخطاب السلفي متهما بقائمة طويلة من التهم يصعب على المرء متابعتها فضلا عن البحث في تحديد قيمتها المعرفية والواقعية. وقبل أن نلج في تفاصيل ما يتعلق بتلك الموجة الناقدة لا بد لنا أن نعطي تعريفًا مختصرًا للخطاب السلفي ونحن نقصد به هنا الخطاب الذي يعتمد على الانطلاق من الكتاب والسنة، ويقوم على مركزية اعتبار فهم السلف الصالح في التعاطي مع القضايا الدينية ويبني مواقفه على ما تقتضيه تلك المنطلقات ويكون المقابل للخطاب السلفي بهذا التصور كل خطاب لا يجعل الكتاب والسنة وفهم السلف منطلقًا أوليًّا له كالخطاب الاعتزالي والأشعري والصوفي والشيعي والعصراني فضلا عمن جعل العقلانية الغربية منطلقا له. وقد اتسمت الانتقادات الموجهة إلى الخطاب السلفي بتنوع ظاهر في مسميات من تستهدفه بالاحتجاج عليه فتارة يوجه النقد إلى الصحوة الإسلامية وتارة يوجه إلى الخطاب السلفي مباشرة وتارة يوسع التوجه فيكون شاملا للاتجاه الشرعي بجملته ومحصل تلك المسميات راجع فيما يخص الحالة الداخلية إلى الخطاب السلفي؛ لأنه الخطاب الأصل الذي قامت عليه الصحوة المعاصرة وهو الذي يمثل الاتجاه الشرعي المتعمد فيها. كما اتسمت بسمة أخرى وهي تنوع الممارسين لها فقد اشترك في توجيه التهم طوائف عديدة مختلفة في اهتماماتها واجتهاداتها من ثم مقاصدها. فمن الحقائق الواقعية التي يجب علينا التسليم بها، وعدم التنكر لها أو التعالي عليها: أن المنتقدين للخطاب السلفي ليسوا سواءً بل هم متنوعون تنوعات تصل إلى درجة التنافر والتناقض أحيانا ويمكن أن نصنفهم إلى صنفين: الصنف الأول: من ينقد من الخارج فلا شك أن عددًا من المشاركين في الاحتجاج على الخطاب السلفي ليسوا من المتبنين إليه وإنما هم ينطلقون من مناهج أخرى يسيرون في مجالها وهؤلاء أيضا منقسمون فمنهم من ينتمي إلى خطابات شرعية لها أصولها الدينية والعلمية المعروفة ومنهم من ينتمي إلى خطابات مادية لها أصولها الفلسفية المعروفة. الصنف الثاني: من ينقد من الداخل بمعنى أنه مسلم بصحة الأصول التي قامت عليها المدرسة السلفية ومتبن لها في الجملة فمن البين أن عددًا من أبناء الخطاب السلفي ممن تربى في أحضانه بدا له مواطن في خطابه تحتاج إلى مراجعة النظر فيها وتستلزم التقويم والتصحيح وهؤلاء الأتباع ليسوا سواءً فإذا شئنا أن نوغل قليلا في فحصهم فإنه يمكن لنا أن نقف في الواقع على تنوعات عديدة فيهم فمنهم من يظهر في سبب نقده التسليم لضغوط الواقع وتغيراته أو التأثر بأطروحات فكرية خارجية أو داخلية ومنهم من لم يكن من هذا النوع ولا ذاك، وإنما ينطلق في نقده من محض البحث عن الحقيقة، وضرورة التسليم بها ووجوب النصح للمنهج والحرص على بلوغ النموذج الأمثل.

ولا بد لنا أن نفرق بوضوح بين تلك التنوعات فمن المتحتم أن نفرق بين الناقد من الداخل، وبين الناقد من الخارج، وبين الناقد المناوئ، وبين الناقد المحب الصادق ولو كان من الخارج وبين الناقد الباحث عن الحقيقة والناقد الهاوي التابع للموضة فليس كل من نقد الخطاب السلفي يلزم بالضرورة أن يكون مناوئا أو معاديًا أو حاسدًا أو عميلا أو خارجًا عن الخطاب أو متأثرًا بالمعادي أو مستسلمًا لضغوط الواقع أو قليل الديانة أو له مقاصد ومآرب خفية فهذه المعاني ليست ملازمة لكل نقد موجَّه إلى الخطاب السلفي. وإذا كان الأمر كذلك فإنه ليس عدلاً ولا حقًّا أن نأتي إلى كل من مارس النقد للخطاب السلفي، ونجمعهم في سلة واحدة، ونحشرهم في خندق واحد ونصدر عليهم أحكامًا متَّحدة أو حتى متقاربة. وحين نقرر هذا الكلام لا نريد أن نصل إلى نفي أن يكون في قائمة النقاد من هو حاقد على الخطاب السلفي، أو مناوئ له، أو من يريد تصفية حسابات سابقة ولا نريد أن ننفي وجود من لديه مشكلة مع النص الشرعي نفسه ولكن غاية ما نربوا إليه الوصول إلى رؤية واضحة في التفريق بين أصناف المحتجين على الخطاب السلفي. ومن السمات التي اتسمت بها ظاهرة النقد للخطاب السلفي: التنوع في مجالات النقد والتعدد في موضوعات الاحتجاج فقد توسعت ساحة النقد حتى شملت قطاعات واسعة من الأفكار التي يتبناها الخطاب السلفي فاندرج في قائمة التهم مسائل عقدية وفقهية وأصولية وسلوكية وتربوية وسياسية واجتماعية وغيرها. وقد أثارت تلك الموجة النقادة حراكًا فكريًّا عارمًا في الساحة الداخلية أدت إلى ترتيب الصفوف، وتجميع المشجعين، وحدوث معارك صاخبة لا تسمع فيها إلا الضجيج حتى إن بعض المتابعين من الخارج وصف تلك الحالة بالمراهقة الفكرية وتناولت أقلام عديدة تلك الظاهرة بالتحليل والتفكيك، وخاضت فيها من جهات متنوعة: من جهة البحث في أسبابها وعللها ومن جهة تحديد أصناف الممارسين لذلك النقد وتحديد هويتهم ومن جهة الموقف من تَقَبّل ما وجِّه من احتجاج وبيان قيمته المعرفية ومن جهة استشراف مآلات وأبعاد ذلك النقد. والمراقب المنصف يدرك بوضوح أن قدرًا كبيرًا من تلك الخطابات الناقدة تعاني من غياب الانطلاق من القيم المنهجية التي تبنى عليها الاحتجاجات البناءة فالمطالع يدرك أنه غاب عنها البحث في الأسئلة المركزية التي تسهم في بيان القيم التي يجب مراعاتها في تقييم المشاريع المعرفية والعلمية والسلوكية وتسهم في الوصول إلى الحالة الفكرية المشرقة فلم يعد للأسس المنهجية التي يقوم عليها النقد الموضوعي تأثيرها في تلك الموجة النقدية فهي بالتالي تعاني من فقدان البنية التحتية التي تقام عليها المنهجيات النقدية البناءة. وحين نقرر أن الخطابات الناقدة تعاني من أزمة غياب القيم لا يعني هذا تبرئة ساحة الخطاب السلفي من التلبس بالآفة فلا شك أن أصواتاً عديدة من الأصوات المعبرة عن الخطاب السلفي والمدافعة عنه تعاني بالفعل من أزمة غياب القيم فقد اشتركت تلك الأصوات مع الخطابات الأخرى في جريمة التعدي على قيم الحوار والنقاش ومع هذا فالبحث لا يقصد إلى الموازنة بين تلك الخطابات المتعددة وإنما يقصد إلى رفع الظلم عن الخطاب السلفي بالخصوص، وتسليط الأضواء على مواطن الخلل في الخطابات المحتجة عليه وهو- في تصوري- حق مشروع تقر به منهجية كتابة البحوث والمقالات. العدل بوصفه القيمة الأم:

لا يكاد يتنازع اثنان في أن القيمة الكبرى التي تقوم عليها منهجيات البحث والمناظرة والتعاطي مع مقالات الناس وتصرفاتهم -تقييما ووصفا ومدحا وقدحا- ترجع إلى قيمة العدل فهذه القيمة - بلا شك- معتبرة في كل شيء فالعدل نظام كل حدث في هذا الوجود وهي قيمة أصيلة في الشرع المطهر فالكتاب والعدل متلازمان وقد كرر ربنا سبحانه وتعالى الأمر بها والتأكيد عليها، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ... ) وقد بلغ من تجذر هذه القيمة في الشريعة أن جاء الأمر بها حتى مع المخالفين لنا في أصل الدين كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مأمور بالعدل في كل شيء، ومع كل أحد وكلما ازداد المسلم امتثالا لهذه القيمة الشرعية ازداد عبادة لله تعالى، وقربا منه سبحانه وكلما انتقص منها افتقد عبادة من أشرف العبادات وكم في النصوص الشرعية من تأكيد على هذه القيمة وكم لعلماء الإسلام من بيان لفضلها وشرف منزلتها فالله سبحانه يحب الاتصاف بها وهي من أفضل الحُلل التي يتحلى بها المسلم خصوصا إذا نصب نفسه حاكمًا على مقالات الناس وأديانهم وأفكارهم فإن الحكم بين الناس في مقالاتهم أعظم من الحكم بينهم في شؤون دنياهم. فهذه المؤكدات تستوجب على الناقد المسلم أن يبذل جهده الواسع في الاستمساك بقيمة العدل وعدم الخروج عنها؛ لأنه بذلك يتعبد الله تعالى بعبادة من أجل العبادات وهو بذلك يحقق أصلا كبيرًا من الأصول التي تقوم عليها المنهجيات الفكرية البناءة التي توصل إلى الغد المشرق الذي يحقق للناس استقرارهم الفكري والديني والعملي. ومن مؤكدات الاستمساك بهذه القيمة ما نسمعه صباح مساء من الخطابات المتنوعة المهتمة بنقد الخطاب السلفي في تبرير نقدهم: أن المستوى المعرفي للناس لم يعد كما كان من قبل، وأن إدراكهم للأمور ارتقى بمراحل عما كان عليه فهذا الوعي والارتقاء لدى الناس يستلزم أيضا الإتقان العلمي والانضباط المعرفي والاتساق المنهجي في سجالاتنا الفكرية ويوجب علينا احترام منهجيات النقد وأصول الحوار الصحيح وإلا غدونا في محرقة التناقض الفكري التي لا نتكسب منها إلا الاختناقات والضبابية. وإن المسلم الحريص على الالتزام بالقيم المنهجية التي جاءت الشريعة بالدعوة إليها وتأكيد منزلتها والحريص أيضا على أن يبدو بمظهر الملتزم بأصول المنهج الراقي ليعتريه الحزن على ما يشهده من خفوت الالتزام بمستلزمات قيمة العدل بل واختفائها أحيانا كثيرة في قدر من الخطابات المحتجة على الخطاب السلفي. وهذا الغياب له مظاهر عديدة من أبينها: المظهر الأول: انعدام المطابقة: فالعدل يستلزم بالضرورة ألا ينسب المرء شيئا إلى من يحتج عليه إلا إذا كان متأكدًا من مطابقة ما ينتقده لحال المنقود وإلا وقع في الخلل المنهجي فضلا عن وقوعه في مستنقعات الظلم المحرم وقد عانى الخطاب السلفي من هذا الظلم كثيرًا فكم نسبت إليه من مقالة بصورة ليست على الصورة التي يقولها وكم أضيف إليه من قول ليس موافقا لقوله فإنك تجد في قائمة التهم أن الخطاب السلفي يشرع الاستبداد السياسي ويدافع عنه وتكتشف أن هذا القول ليس على ما صُور وتقف فيها على أن الخطاب السلفي يجرم دراسة العلوم الخارجة عن دائرة العلوم الشرعية وتكتشف غير ذلك

وتجد فيها أن الشغل الشاغل للخطاب السلفي هو مسائل الصفات وبدع القبور والموالد وتكتشف أن الأمر ليس كذلك وتقف فيها على أن الخطاب السلفي منشغل بالجزئيات التاريخية على حساب القضايا الواقعية التي تهم الأمة وتكتشف غير ذلك ويبرز لناظريك أن الخطاب السلفي محارب للعقل ومعاد للتجديد وتكتشف غير ذلك وتجد فيها أن الخطاب السلفي معادِ لطائفة من العلماء ممن ليس داخلا في نطاقه وتكتشف غير ذلك وتجد فيها أن الخطاب السلفي يحرم كل نوع من الاختلاط وتكتشف أن تحريمهم متعلق بأنواع مخصوصة والقائمة التي من هذا النوع طويلة جدا. والعدل يستلزم كذلك الاعتدال في مقدار الحكم الذي يُوجه إلى المنقود بحيث تكون صورة الحكم متطابقة مع مقدار ما يراه خطأ فلا يزيد عليه ولا ينقص ولكننا نفاجأ بأن الأحكام الموجهة إلى الخطاب السلفي أكبر بكثير مما يذكر من خلل فتجد أحدهم يسرد ما يراه خللا في الخطاب السلفي، ثم يصدر حكمه الجائر فيقول: إنه هو الذي أضاع الأمة، أو أنه هو الذي كرس المشروع الأمريكي في المنطقة، أو أنه سيؤدي لا محالة إلى نتائج كارثية أو أنه هو الذي عرقل تطور الأمة وكان حجر عثرة في طريق تقدمها أو أنه هو الذي أضاع حقوق الناس، وساعد على تكريس الظلم أو أنه هو الذي تنكر للحوار مع الآخر ولم يحترم قوله أو أنه هو الذي أحدث التأزم في المجمع وإذا ما طالعت ما اعتمد عليه في أحكامه تلك تجده لا يخرج عن دائرة المبالغة في التوصيف والتعدي في الحكم!. المظهر الثاني: غياب استصحاب " الموازنة الشعورية ": ليس خافيا أن من الأصول الكبيرة التي يقوم عليها النقد العادل لأفكار الناس وأحوالهم استصحاب الناقد للموازنات بين الأمور المؤثرة في تحديد قيمة الأقوال والمشاريع. وهذا أصل عظيم استعمله القرآن في مواطن عديدة كمثل قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤديه إليك .... ) وكقوله تعالى: (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ... ). وليس المقصود بهذا الأصل وجوب التلازم الذكري بين المحاسن والمساوئ في كل سياق فليس المراد منه أن يلتزم المرء بذكر إنجازات من ينقده في كل نقد يوجه إليه فهذا المعنى ليس مرادًا وليس هو طريقة القرآن فالقرآن كثيرًا ما يوجه النقد إلى المخالفين من غير أن يشير إلى شيء من محاسنهم. وإنما المراد بذلك الأصل الاستصحاب الشعوري الذي يستوجب اعتبار حال المنقود، وعدم الغفلة عما قدمه من إنجازات واتصف به من صفات حميدة، وما بذله من جهود صالحة فهذا الشعور يجب أن يستصحبه المسلم في كل ممارسة نقدية لكل أحد. فهناك إذن فرق بين التلازم الذكري بين المحاسن والمساوئ واستشعار ذلك التلازم فالأول لا يجب في كل حال وإنما هو خاضع للمصالح والمفاسد وأما الثاني فإنه يجب في كل حال ومع كل أحد. وإذا عاش المسلم ذلك الشعور في نقده فإنه لا محالة سيؤثر في لغته التي يعبر بها عما يراه خطأ، وفي طريقته لبيان نقده وفي كيفية إظهاره وفي مستوى تفعيله له وفي مقدار الحكم الذي يصدره على من ينقده وفي حفظه لحقوقه ومنزلته.

وقد بدأ نفس الموازنة في عدد من الكتابات الناقدة للخطاب السلفي بوضوح فتراه يعترف ابتداء بأنه قدم للأمة الشيء الكثير من المنجزات ولكن الناظر في قدر آخر من الممارسات النقدية الموجه إلى الخطاب السلفي يلحظ فيها غياب ذلك الاستشعار للموازنات فيخيل إليه حين يطالع النقد الموجه إلى الخطاب السلفي أن هذا الخطاب لم يعمل خيرًا قط وكأنه لم يقدم أي إنجاز للأمة في المجال الفكري أو العلمي أو السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي أو التربوي أو السلوكي ويخيل إليه أيضا أن الخطاب السلفي هو الخطاب المتخلف فقط وأنه هو الذي يعاني من الخلل الفكري وكأن الخطابات الأخرى المتدافعة معه لا تعاني مما يعاني منه أو أكثر وكأنها استطاعت أن تقدم للأمة حلولا تخرجها من الأزمة التي تعاني منها! والمراقب العادل إذا أراد أن يتماشى مع المنهج القرآني في الموازنة فإنه سيتجلى أمام ناظريه أن إنجازات الخطاب السلفي أكبر - من حيث عمقها في المجتمع وتنوعها وأثرها - بكثير مما ينتقد عليه ويدرك بوضوح أن هذا الخطاب يمتلك مواصفات واقعية تؤهله - إن أحسن استثمارها- للخروج من الأزمة الخانقة بنجاح ومن أدلة ذلك: قوة المستند وحيوية الأصول التي يقوم عليها وسعة الانتشار والتنوع المعرفي الذي يتمتع به والاندراج في العمل المؤسسي ومراكز البحث بصورة مكثفة وما غدا يتمتع به من توسع في دوائر الاتصال بالمجتمع على اختلاف طبقاته وما يمارسه من تفاعل مع مجريات الواقع وتطوراته ومستجداتها -الإعلامية خاصة - وباحترافية في عدد من المجالات. المظهر الثالث: عدم مراعاة مقدار الأزمة: لم تتفق آراء الباحثين العرب على شيء اتفاقها على أن الواقع العربي والإسلامي يعاني من أزمة حادة مستعصية على الحلول وهذه الأزمة مكتسحة لكل المجالات تقريبا - المجال الفكري والسياسي والاقتصادي وغيرها- وهي بطبيعة الحال تختلف في الحدة من بلد إلى آخر. وقد أدى إلى حدوثها أسباب عديدة لعل من أفتكها: 1 - التخلف السابق: فالعالم الإسلامي عاش في القرنين الماضيين أنواعا من التخلفات وقد كان لها أبعاد واسعة على واقعنا المعاصر فالأمة الإسلامية لم تتعاف من ذلك التخلف بعد وهي تحتاج إلى عقود لتتخلص من رواسبه. 2 - التغير المذهل في مجريات الواقع: فواقعنا المعاصر فاجأ العالم بالتغيرات المذهلة التي وقعت فيه فقد تغيرت القوى المؤثرة في القرار وتغيرت تبعا لذلك مناطق الضغط السياسي والاقتصادي واتسم كذلك بضخامة الاكتشافات العلمية التي غيرت من وجه الأرض وأحدثت معها إشكاليات دينية ومعرفية وفكرية كثيرة وازداد واقعنا تركيبا وتعقيدا وازداد سرعة في التغير والحدوث. وقد تجاوزت آثار تلك الأزمة إلى مجالات عديدة متعلقة بحياة الإنسان كالمجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال الفكري والشرعي ويتجلى أظهر آثارها على القضايا الفكرية والشرعية في الأمور التالية: 1 - غياب التأصيل الشرعي والفكري الكافي عن عدد من نوازل العصر- خاصة السياسية والاقتصادية - فبناءً على التتابع السريع بين مجريات الواقع وكثرة الترابطات بين الأحداث غدا من الصعب جدا تتبع كل جزئيات المسائل بالبحث المؤصل وغدا من الصعب أيضا على كثير من المفكرين وطلبة العلم أن يكوّن الملكة العلمية التي تؤهله لخوص البحث في تلك النوازل بحيث يخرج فيها بصورة ناضجة وهذا ما يفسر لنا الإحجام عن الإقدام على بحث تلك المسائل فنتج بذلك بلا شك فقدان التأصيل الواضح لبعض تلك النوازل أو ضعفه في بعضها.

ولما لم يراع عدد من الممارسين لنقد الخطاب السلفي طبيعة الأزمة وما أحدثته تداعياتها أخذ ينتقده بأنه أهمل مسائل كثيرة من البحث المؤصل الكافي والخروج فيها برؤية ناضجة وهذا في حقيقة الأمر غفلة بل تعالٍ على طبيعة الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي بكل أطيافه فالأزمة لم تدع مجالا لمتابعة ما يضخه العالم الحديث من إشكالياته المتنوعة. 2 - كثرة الخلافات والتشققات فالمتابع لقدر من الإشكاليات التي ارتبطت بهذا العصر يلحظ أنها اتسمت بالاشتباه والتعقيد والغموض وهذه الأوصاف تؤدي عادة -متى ما توفرت في قضية ما- إلى حدوث الخلاف بين الخائضين في حلها. ولما لم يراع بعض الممارسين لنقد الخطاب السلفي طبيعة الأزمة أخذ يحكم على الخطاب السلفي - بله الشرعي كله- بأنه يعاني من التشرذم والانشقاق نتيجة اختلاف مواقفه في قدر من نوازل العصر وهذا في الحقيقة غفلة عن طبيعة القضايا التي أحدثها عصرنا الحاضر فليس من المستغرب أن يختلف السلفيون في المسائل الغامضة والشائكة؛ فهم مختلفون بالضرورة في مقدار استيعابهم وقوتهم العلمية والإدراكية. 3 - التنوع في المواقف؛ ففي عالم سريع التغير والتبدل في مظاهر منتجاته الحضارية وأشكالها فإنه لا محالة ستنصهر فيه المواقف الثابتة وهو بلا شك ما تقتضيه الحكمة والعقل فضلا عن الشرع فليس صحيحا أن يبقى المرء على رأي اتخذه من منتج حضاري ما ويتصلب عليه مع أن هذا المنتج قد تشكل تشكلات أخرى مختلفة اختلافات مؤثرة عما كان عليه في صورته الأولى. ولكن بعض نقاد الخطاب السلفي يأبى اعتبار هذه الحقيقة ويأخذ في التشغيب بأن الخطاب السلفي تناقضت مواقفه في عدد من المنتجات الحضارية والمثال الذي يمكن أن يكوّن صورة مقاربة لما نحن فيه: الموقف من (الدش) فبدل ما كان يحرم الدش ويصدر الفتاوى في التحذير منه غدا رواد الخطاب السلفي يتهافتون على اقتنائه، أو غدوا مسالمين له على الأقل وهذا في الحقيقة تعالٍ على الواقع، وتغافل عن التطورات التي حدثت في موضوع البحث فالموضوع الذي وقع فيه التنوع في المواقف لم يعد في صورته كما كان عليه في أول خروجه وإنما حصلت فيه تغيرات كبيرة أدت بالضرورة إلى أن يغير بعض الخطاب السلفي موقفه منه ولكن بدل أن يكون هذا تفاعلاً ممدوحًا مع الواقع وتفهما له أضحى تناقضا ودليلا على ضبابية المواقف في بعض النقاد!!. المظهر الرابع: عدم مراعاة التنوعات المؤثرة: لا شك أن كل خطاب معرفي أو سلوكي لا بد أن يرضخ تحت وطأة التنوعات التي تؤثر في تحديد المواقف المتخذَة من قبل أتباعه وكلما ازداد الخطاب اتساعًا وشيوعًا في المجتمع ازدادت تلك التنوعات تأثيرًا في تحديد مسار ذلك الخطاب. والتنوعات المؤثرة في الخطابات عديدة من أعمقها: التنوع المعرفي: فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في وعيهم بالأصول التي يبنى عليها خطابهم، ولا بمدى مستلزمات تلك الأصول، ولا بمقدار تفهمها وتمثلها في الواقع بل هم مختلفون فيها اختلافات واسعة. ومنها: التنوع النفسي: فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في أمزجتهم النفسية فهم بلا شك متفاوتون فيها بين الحاد جدا وبين الأقل حدة وبين الهين اللين ولا شك أن المزاج الشخصي له تأثير ظاهر في طبيعة القرارات الدينية أو الدنيوية التي يتخذها في حياته. ومنها: التنوع الاجتماعي: فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في أحوالهم اليومية التي يتلبسون بها فهم يختلفون فيها كثيرًا وهذه الأحوال لها آثار بارزة فيما يتخذه الأشخاص من مواقف.

والمحتم على الناقد الذي يهمه إصابة الحق والاتصاف بالموضوعية والعدل في نقده أن يراعي تلك التنوعات فيما يوجهه من نقد ومتى ما خلا النقد من مراعاتها فلا بد أن يقع في الآفات المضرة. ولا شك أن الخطاب السلفي يعد من أكثر الخطابات شيوعًا وتجذرًا في المجتمع وهذا يعني أن تأثير التنوعات فيه سيكون أكثر من غيره. ومن أظهر الممارسات التي تنافي اعتبار واقعية التنوعات: تعميم الأحكام وإطلاق الأوصاف العامة الشاملة لكل أفراد الخطاب المعين من غير مراعاة لما يشهده من تنوع علمي أو نفسي أو اجتماعي. وإن المتابع لقدر من الاحتجاجات الموجهة إلى الخطاب السلفي يجد أنها تلبست بتلك الآفة فما إن يرى بعض النقاد قولا قرره طيف من الخطاب السلفي، أو فرد من أفراده، أو مفت بارز فيه إلا ويبادر مباشرة إلى توجيه الحكم إلى كل الخطاب ولا يحاول أن يتعب نفسه قليلا ويجيب على سؤال ملح في النقد وهو: هل هذه المقالة التي ينقدها يقول بها كل الخطاب السلفي أم أكثره أم أقله ولكنه - للأسف - يعمد مباشرة إلى الخطاب السلفي بجملته، وينصبه على خشبته المائلة، ويأخذ في سرد ملاحظاته التي رآها من بعض الأفراد الذين يعيش معهم في مدينته أو إقليمه، أو قرأ لهم في بعض المجلات والمواقع الإلكترونية، أو سمع عنهم من بعض أصدقائه، أو تناظر معهم في بعض حواراته، أو استمع له وهو يفتي في بعض القنوات. ونحن حين نؤكد على ضرورة مراعاة التنوعات ونحذر من التعميم، لا نقصد بالضرورة أن نمنع استعمال صيغ العموم على كل حال، أو نحكم على كل تعميم بالخطأ، أو نقرر أن الخطاب السلفي أو غيره من الخطابات لا يمكن أن يجتمع على فكرة أو مقالة ولكن غاية ما نريده أن نحرر المقياس الحقيقي الذي ينضبط به استعمال صيغة التعميم بحيث لا يكون مستعملها خارجًا عن الموضوعية والعدل ثم نسعى بعد تحديده إلى ممارسته فعليا على الواقع. مع أن الطريقة الأكمل من ذلك كله هو أن تتوجه احتجاجاتنا إلى المقالات نفسها -سواء في الخطاب السلفي أو في غيره - وتدور الحوارات في نطاقها ويقام النقد والتقييم والحكم عليها ابتداء ولا نخرج عنها إلا في حالات معينة وظروف خاصة ولكن مشهدنا السجالي انقلبت فيه المنهجية رأسا على عقب فغدت نقطة الارتكاز فيه على صاحب المقالة لا المقالة نفسها، مما اضطرنا إلى التلبس بآفة التعميم والتشرب بآثارها. المظهر الخامس: الرضوخ للاختزال: إن من المظاهر المؤلمة التي يشهدها المراقب لاحتجاجاتنا الفكرية رضوخ أكثرها تحت وطأة الاختزال فيخيل للقارئ حين يقرأ بعضها أن حل مشاكل الأمة كلها مرتبط بحبل سري مع مشكلة واحدة بعينها متى ما حُلت فإن مشاكلنا الأخرى ستنحل تلقائيا وهذه النظرة في تقييم الأمور هي في الحقيقة نظرة ضيقة وقعت فيها خطابات عديدة فالخطاب الإصلاحي السياسي يصرخ بأصواته المرتفعة في نوادينا، ويُظهر لنا في خطابه أن الحل السحري للتخلص مما نحن فيه من تخلف يكمن في إصلاح الحكومات المستبدة التي لا تطبق الديمقراطية! ولا يحفظ فيها المال العام ولا توزع فيها الحقوق بالتساوي ويختزل حلول الأزمات الأخرى فيا اقتنع به وخطاب الإصلاح الفكري يُظهر لنا أن الحل السحري للتخلص مما نحن فيه يكمن في متابعة الأفكار الغربية الوافدة وتتبعها نقدًا وتقييمًا وهكذا دواليك في عدد من الخطابات. والقدر المشترك بين تلك الاختزالات يكمن في افتراض التزاحم بين مجالات الإصلاح واستحالة السير في خطوط متوازية في سبيل الخروج من الأزمة ويكفي هذا تبيانًا لخطأ تلك النظرة وإظهارًا لمخالفتها للتاريخ والواقع.

ونتيجة لتلك النظرة الضيقة أخذ عدد من نقاد الخطاب السلفي يصوره على أنه خطاب يغرد خارج السرب وأنه يعمل في منطقة الخلاء التي لا ينتفع بها أحد وأوهم أنه ينازع في أهمية المجالات الأخرى التي تم اختزال أزمات الأمة فيها. والمتابع الفطن يدرك أن الواقع مختلف عن ذلك فتلك الخطابات لا ينازعها الخطاب السلفي في أهمية الإصلاح السياسي مثلا أو الإصلاح الفكري أو نحوه فالكل متفق على أن تلك المجالات وغيرها تعاني من أزمة حادة وكلها ثغور تحتاج إلى أن تنفر طائفة من المؤمنين لإصلاحه وترميمه ونزاعهم يدور في دوائر أخرى أضيق من دائرة أصل الأهمية والضرورة وحاصلها يرجع إلى كيفية تناول الإصلاح في تلك المجالات وفي تحديد الأولويات فيها وهذه الدوائر لا تخرج عادة عن ساحة الاجتهاد والموازنة بين المصالح والمفاسد وهي غالبا تتلبس بالغموض والدقة وهذا ما يفسر لنا كثرة الخلاف فيها في الفكر الإسلامي منذ قرن من الزمن تقريبا فليس غريبًا بعد ذلك أن تختلف فيها المواقف بين المعاصرين. هذه المظاهر الخمسة- في نظري- هي أهم الآفات التي تلبست بها الموجة النقادة للخطاب السلفي في واقعنا المعاصر وتسبب في بروز أعراض مرضية عديدة أنهكت السجالات الفكرية وأودت بها إلى المهالك كما هي العادة المطردة في الاحتجاجات التي لا تلتزم بالقيم العليا ولا تقوم على البنى التحية الناضجة فإنك لا تشهد معها إلا مزيدًا من التشتت الفكري ومزيدًا من ضياع البركة ومزيدًا من كثرة الصخب والضجيج في الحلبة المعرفية ومزيدًا من تخييم الضبابية على المنطقة الوسط ومزيدا من ضياع القصد الأصلي من الاحتجاج وبدل أن يكون السجال سبيلاً مؤديًا إلى الخروج مما نحن فيه من أزمة يغدو جزءًا معضلاً منها يساعد على تكريسها.

مسألة: حدود عورة المرأة أمام المرأة

مسألة: حدود عورة المرأة أمام المرأة علوي بن عبد القادر السقاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية 22 شوال 1431هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين أما بعد: فإن من الواجبات المتعين على أهل العلم القيام بها تعليم الناس، ومن أوجب هذه الواجبات تعليمهم ما خفي وتلبس عليهم وما عمت بها البلوى وتساهل فيه كثير من الناس حتى أصبح المعروف فيها منكراً، وبات المنكر معروفاً، ومن ذلك مسألة العورات، وبالأخص عورة المرأة على المرأة. والمرأة لا تخلو من أن تكون: إما مسلمة وإما كافرة، والمسلمة إما عفيفة أو فاجرة. فأما عورة المرأة المسلمة أمام المرأة المسلمة فللعلماء فيها قولان: القول الأول: وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء إلى أنها من السرة إلى الركبة، وإليه ذهب المالكية والشافعية والحنابلة وهو الأصح عند الحنفية [المبسوط للسرخسي 10/ 254، مواهب الجليل 2/ 180، المجموع شرح المهذب 3/ 167،الروض المربع 1/ 332] ويرى بعض أهل العلم وهو رواية عن أبي حنيفة أن المرأة تنظر من المرأة ما يراه الرجل من محارمه، وهو مواضع الزينة [البحر الرائق 8/ 219] فتنظر إلى الرأس والوجه والعنق والعضد والساق. ومما استدل به الجمهور: أنه ليس في نظر المرأة إلى المرأة خوف إثارة للشهوة أو الوقوع في الفتنة كما في نظر الرجل إلى الرجل، فنظر الجنس إلى الجنس أخف لانعدام الشهوة غالبا لوجود المجانسة، والغالب كالمتحقق. كذلك من أدلتهم إجماع أهل العلم على جواز قيام المرأة بتغسيل المرأة كما يغسل الرجل الرجل، فكما للرجل الاطلاع على ما فوق السرة ودون الركبة من الرجل حياً وميتاً، فيجوز إذاً أن تُظهر المرأة للمرأة ما فوق السرة ودون الركبة لوجود المجانسة التي تبيح ذلك، فالناظر والمنظور إليه كلاهما من النساء. وأجيب عن الأول بأن ما ذكروه غير مضطرد فالأمرد من جنس الرجال ومع ذلك اعتبره جمهور الفقهاء في حق نظر الرجال إليه بالمرأة، ولم يعتبروه بجنسه. وأما الثاني فلا حجة فيه؛ لأن الغسل ليس فيه إباحة إطلاق النظر، فضلاً عن أن يكون فيه جواز تعرية المرأة، فالمشروع في الغسل أن يكون من فوق الثوب، وهذا إذا قيل بالتساوي بين حالتي الحياة والموت. والآية (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ... ) تخاطب المرأة بالنهي عن إبداء الزينة الخفية بالاختيار إلا لمن ذكر فيها ومن في حكمهم بالقدر المعروف شرعاً وعرفاً. وأما كشف ما فوق السرة لغير الزوج في حال ضرورة، أو ظهور شيء من بدن المرأة سواء كان ذلك في حال الضرورة أو عدم التكليف فليس من هذا الباب. ولعل الراجح هو القول الثاني وذلك لأن الله تعالى قال: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن- إلى قوله- أو نسائهن}. والمقصود بالزينة مواضعها، فالخاتم موضعه الكف، والسوار موضعه الذراع، والقرط موضعه الأذن، والقلادة موضعها العنق والصدر، والخلخال موضعه الساق، وقد جمعت الآية بين محارم المرأة ونسائهن، وساوت بينهم فيما ينظرون إليه وهو مواضع الزينة من بدنها.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة) أخرجه الترمذي (1173) وصححه غير واحد من أهل العلم، فلا يجوز لها أن تبدي إلا ما ثبت استثناؤه، ومن ذلك ما جاء في (صحيح البخاري) (251) -واللفظ له- ومسلم (320) عن أبي سلمة قال: دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة رضي الله عنها فسألها أخوها عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعت بإناء نحو من صاع فاغتسلت وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب. ففيه رؤية رأسها من قبل أخيها وابن أختها أبي سلمة؛ لأنَّ أمَّ كلثوم أختَها أرضعته، وثبت في البخاري (3894) ومسلم (1422) قصة زواج عائشة رضي الله عنها وتمشيط النساء لها وتزيينها للنبي صلى الله عليه وسلم. وحديث جابر رضي الله عنه في قصة زواجه من الثيب وجوابه للنبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله وأنه أراد أن تقوم على أخواته وتمشطهن أخرجه البخاري (2097) ومسلم (715) فلا بد حال التمشيط من رؤية الشعر والأذن والرقبة، ولا يجادل في هذا أحد. ولا نعلم عن أحد من السلف خبرا ذكر فيه تكشف النساء وإظهارهن شيئا من أبدانهن فيما بينهن سوى مواضع الزينة، ولو وقع ذلك لنقل عنهم كما نقل غيره مما هو دونه. وكذلك فإن المرأة لا تحتاج في قيامها بعملها إلى كشف ما زاد عن مواضع زينتها، والظهر والبطن وما أشبههما- مما ليس موضعا للزينة- لا تحتاج لكشفه عند مزاولة المهنة في البيت. أمَّا قول جمهور الفقهاء بأن عورة المرأة بالنسبة للمرأة ما بين السرة إلى الركبة فهو مما لا دليل عليه، وليس معناه أن المرأة تجلس بين النساء كاشفة عن جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، كما هو حال بعض النساء في الأعراس وغيرها لا يبالين بكشف ما فوق السرة وما تحت الركبة، بل ربما أكثر من ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا ينبغي أن يساء فهم قول جمهور الفقهاء، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (وحدود عورة المرأة عند المرأة ما بين السرة والركبة ... ولكن لا يعني ذلك أننا نجوِّز للمرأة أن تلبس ثياباً لا تستر إلا ما بين السرة والركبة، ولكن فيما لو أن امرأة خرج ساقها لسبب وأختها تنظر إليها وعليها ثوب سابغ، أو خرج شيء من رقبتها أو من نحرها وأختها تنظر فلا بأس بذلك، فيجب أن نعرف الفرق بين العورة وبين اللباس، اللباس لابد أن يكون سابغاً بالنسبة للمرأة، أما العورة للمرأة مع المرأة فهي ما بين السرة والركبة). (مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين12/ 268)

ومما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية: (يجب على المرأة أن تتخلق بخلق الحياء الذي جعله النبي من الإيمان وشعبةً من شعبه، ومن الحياء المأمور به شرعًا وعرفًا تستر المرأة واحتشامها وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتنة ومواضع الريبة. وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت وحال المهنة كما قال تعالى: {ولا يُبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن} [النور:31] الآية، وإذا كان هذا هو نص القرآن وهو ما دلت عليه السنة، فإنه هو الذي جرى عليه عمل نساء الرسول ونساء الصحابة ومن اتبعهن بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا، وما جرت العادة بكشفه للمذكورين في الآية الكريمة هو: ما يظهر من المرأة غالبًا في البيت وحال المهنة ويشق عليها التحرز منه؛ كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في التكشف فعلاوة على أنه لم يدل على جوازه دليل من كتاب أو سنة، هو أيضاً طريق لفتنة المرأة والافتتان بها من بنات جنسها، وهذا موجود بينهن، وفيه أيضاً قدوة سيئة لغيرهن من النساء، كما أن في ذلك تشبهاً بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي أنه قال: من تشبه بقوم فهومنهم) انتهى. فعلى ذلك لا يجوز للمرأة أن تلبس الملابس الضيقة التي تبين تفاصيل أعضائها، ولا أن تلبس ما يشف فيبدي مفاتنها، ولا الملابس العارية، فكل ذلك يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم (كاسيات عاريات) أخرجه مسلم (2128) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة) أخرجه مسلم (338). أما حدود نظر المرأة الكافرة إلى المسلمة فللعلماء فيه قولان: الأول: ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والأصح من مذهب الشافعية ورواية عن أحمد أن المسلمة يجب عليها أن تحتجب عن غير المسلمة إلا لحاجة أو ضرورة [حاشية ابن عابدين6/ 371، بلغة السالك1/ 192، مغني المحتاج3/ 131، المغني 7/ 464] والثاني: أن حكم غير المسلمة في النظر كحكم المسلمة وهذا القول وجه عند الشافعية ورواية عن أحمد وهو المشهور في المذهب الحنبلي [روضة الطالبين 7/ 25، المغني الموضع السابق] والراجح - والله أعلم - هو القول الأول فلا يحل للمرأة الكافرة أن تنظر من المرأة المسلمة سوى الوجه والكفين، ومن الأدلة قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن) [النور:31]. والشاهد في الآية قوله (أو نسائهن) حيث دلت الآية على النهي عن إبداء المؤمنة مواضع زينتها بين يدي الكافرة: مشركة كانت أو كتابية، فلو جاز لها النظر لم يبق للتخصيص فائدة. قال الإمام القرطبي في تفسيره: (أو نسائهن). (يعني المسلمات، وتدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة كافرة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن). انتهى. وعلة ذلك أن الكافرة قد تصف المسلمة لكافر، فالتحريم لعارض، لا لكونها عورة. بقي أن أشير إلى حكم نظر المرأة الفاسقة إلى المسلمة، فالراجح أنه لا يجوز لها النظر إلى غير الوجه واليدين من المرأة الصالحة إذا غلب على الظن أنها تصفها للرجال، قال الإمام العز بن عبد السلام من الشافعية (والفاسقة مع العفيفة كالكافرة مع المسلمة) [أسنى المطالب 3/ 111] وفي الفتاوى الهندية عند الأحناف: (ولا ينبغي للمرأة الصالحة أن تنظر إليها الفاجرة، لأنها تصفها عند الرجال، فلا تضع جلبابها ولا خمارها عندها). والله أعلم

تعامل السوق السعودية بالتورق خطر قادم يوقعها في أزمة مالية كبيرة ... عضو الشورى الأطرم محذرا: سندات القروض "ربوية" من بدئها لمنتهاها

تعامل السوق السعودية بالتورق خطر قادم يوقعها في أزمة مالية كبيرة ... عضو الشورى الأطرم محذرا: سندات القروض "ربوية" من بدئها لمنتهاها الدمام - خالد المرشود حذر عضو مجلس الشورى والخبير الاقتصادي الشيخ الدكتور عبدالرحمن الأطرم من خطر قادم قد يداهم السوق المالي السعودي ويلحق به الضرر كما حدث في الأزمة الاقتصادية العالمية وذلك نتيجة تعرض المصارف المالية التقليدية السعودية اليوم إلى عمليات تورق غير مقننة ومضبطة من الناحية الشرعية والمهنية أيضا ومن ذلك يقول إعادة بيع السلعة على البائع نفسه وبيع سلعة غير معينة أساسا مطالبا في الوقت ذاته جهات الرقابة حتى نتلافى ما قد يحدث وضع معايير شرعية عاجلة وتحديد ما هو منتج إسلامي وغير إسلامي. جاء ذلك في ندوة اقتصادية بعنوان المصرفية الإسلامية ومدى تأثرها بالأزمة العالمية نظمها منتدى عبدالله فؤاد الثقافي بالمنطقة الشرقية حيث أستهل الشيخ الأطرم حديثه بتمهيد عن سبب الأزمة المالية العالمية، بعدها بين أهمية المصرفية الإسلامية، وبدايات التأسيس، ثم تحدث عن الرؤية الإسلامية للصناعة المالية قائلا أنها أخذت من الرأسمالية والاشتراكية أفضل ما فيها، وأن الذي ساهم وبقوة في وجود المصرفية الإسلامية هو المستهلك، لأنه يريد المال الحلال مطالبا على هذه الصورة كمصارف مالية الاهتمام والاعتناء به وعدم استغلاله. كما بين فضيلته أن المصرفية الإسلامية لا يمكن أن تعمل دون التواصل الدولي وذكر أن الصناعة المالية يمكن أن تنمو وبجودة شرعية عالية، إذا توفر لها المناخ والبيئة الملائمة، ويتطلب ذلك وجود خطوات عملية وجود الجهات الإشرافية والرقابية التي، تتبنى الإشراف على المصرفية الإسلامية، من خلال قواعد الشريعة الإسلامية، وعدم استغلال الناس وحماية المستفيد من ممارسات الصناعة المالية الإسلامية. ثم تناول سلبيات المصرفية الإسلامية والتي ذكر منها أنها حاكت الصناعة التقليدية، وفي بعضها حيل للربا وضرب مثالا للتأمين التعاوني وتحوله إلى تأمين تجاري. ثم تناول في الشق الثاني من الندوة إجابة لعدد من تساؤلات حول واقع حال الأسهم والاستثمارات المختلطة بالمحرمات، وأثر ذلك على صناعة المصرفية الإسلامية مشيرا إلى أهمية تطهير الأسهم والوحدات الاستثمارية في الصناعة المالية الإسلامية، مؤكدا إلى أن أهمية تطهير الأسهم والاستثمارات من شوائب المحرمات تكمن في تبرئة ذمة الإنسان، طالما يطالبه الإسلام بتطييب مكسبه. ويعتقد الأطرم أن هناك عددا من الآليات التي يمكن أن تحول ما دار حول موضوع التطهير والتخلص من المحرمات في الأسهم والاستثمارات، منها ممارسة نوع من الحوار والنقاش مع عدد من الجهات التي تملك القرار، لما لذلك من حاجة ماسة إلى قرار نافذ يحسمه، ولا بد أن تصدره جهة إشرافية رقابية أو جهة سياسية تملك القرار وتجعل تنفيذه ممكنا. ويرى أن تفعيل الحوار مع الجهات التي تصنع القرار، أو تملكه مهم من أجل حماية الصناعة المالية والاقتصادية في السعودية؛ لأنها أمر شرعي ومن الآليات التي اقترحها الدكتور الأطرم أن تفعّل مراكز البحث العلمي، الذي من شأنه الإسهام في إنتاج الأدوات وإيجاد البدائل، بجانب عامل التثقيف والتوعية سواء على مستوى العامة، أو حتى على مستوى القيادات وصناع القرار. وأوضح الأطرم، أن لكل توعية وضعا يناسبها، سواء كان بالأحكام أو ببيان الأبعاد أو ببيان مترتبات الأحكام، وهكذا دواليك، لما لكل هذا وذاك من أثر عملي سيجعل من التطهير واقعا ملموسا في جميع المعاملات المالية والاقتصادية. وفي السياق ذاته قال الأطرم، إن السندات التي يطلق عليها «سندات القروض» التي يتم الاقتراض فيها من الجمهور أو الاقتراض من المؤسسات بفائدة، سواء كانت الفائدة ثابتة أو متغيرة أو على شكل جوائز، إنما هي معاملة ربوية من بدئها إلى منتهاها، لأنها تنشئ قروضا لمصدر السندات بفائدة. وأضاف أن مثل هذا النهج "ربا" لأن القرض النقدي الذي يشترط فيه الزيادة عند الردّ، أيا كان نوعها فهي ربا محرّم، ثم إنها ربا في التداول، لأنه يتم فيها التداول أو بيع السندات، وهي مؤجلة ما يعني أن استحقاق السند مؤجل، علما بأنه يشترط في الاستحقاق المؤجل بنقد حال، وهو شراء بالدين النقدي المؤجل بنقد حال. وأكد الأطرم، أن ذلك محرّم في الشريعة الإسلامية، بل من بديهيات الشريعة، ومحرّم إجماعا، وعليه فإن السندات تكون في سوقها الأولية وفي سوقها الثانوية محرّمة، مشيرا إلى أنه صدر في ذلك قرار من مجمع الفقه الإسلامي والهيئات الجماعية ومجامع الفتاوى. المصدر: صحيفة الوئام الإلكترونية

الأزهر بين التطوير والتطويع

الأزهر بين التطوير والتطويع موقع الدرر السنية - قسم دراسات الواقع يُعدُّ الأزهر بمصر، من أعرق المؤسسات الدينية التي يتوارد إليها الطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي، والتي استطاعت على مر السنين أن تحمي العلوم الإسلامية والعربية، وتقود الناس لما فيه مصالحهم وتقف أمام أعداء الإسلام سواء من الداخل أو الخارج عن طريق علمائها ودعاتها ولذلك بدأت الجهود تتضافر لضرب الأزهر وإفقاده مكانته وقوته. وذلك بدءاً من الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت والتي غزت مصر وحاولت استمالة علماء الأزهر لإعطائها مشروعية الإقامة وفرض القوانين الاستعمارية، ومروراً بمحمد علي أول من وجه ضربة للأزهر بالقضاء على كبار علمائه، الذين كانوا يمثلون الزعامات الشعبية فتخلص منهم، بالقتل أو السجن أو بالنفي أو الإبعاد، ثم الاحتلال البريطاني وأعوانه من دعاة التغريب الذين حالوا بين علمائه وبين القيادة ومناصب الحكم مشيعين بين الناس أنهم يهدفون إلى تكريم الدين وعلمائه، وكانت البداية الفعلية المنظمة لإسقاط الأزهر كمؤسسة شرعية سنة 1343هـ/1924م عندما قامت في الأزهر حركة تدعو إلى إصلاحه، ومن بعدها جاء طه حسين، ولطفي السيد، ومن على شاكلتهما وطالبوا أن تزال هذه الصخرة العنيفة التي تعترض الجسر الثقافي العالمي العريض. ومن ثَمّ صدرت قوانين تطويع الأزهر باسم تطويره تباعاً من عام 1936م 1355هـ إلى وقتنا الحاضر. وكان من ثمار هذا التطويع: إلغاء القضاء الشرعي جملة وإدماج محاكمه في دوائر تابعة للمحاكم الأهلية التي قامت على القانون الوضعي وكان ذلك عام 1955م - 1375هـ، ثم إدخال القانون الوضعي في صلب البرامج الدراسية لكلية الشريعة بجامعة الأزهر وتسميتها كلية الشريعة والقانون بموجب القانون المعروف بقانون تطوير الأزهر. ثم إصدار الفتاوى والآراء في الكثير من المسائل بما يخالف ما عليه علماء الأمة سلفها وخلفها مما أدى إلى انعدام الثقة بعلماء تلك المؤسسة العريقة ومن هذه المسائل: ارتداء النقاب، أموال البنوك، حجاب المرأة، الاختلاط، الختان، التطبيع مع اليهود على حساب الشعوب الإسلامية بكافة أشكاله. ومن الأسباب التي أدت إلى تطويع تلك المؤسسة: - عدم استقلال الأزهر مالياً وحل الأوقاف الأهلية عام 1957م، مما أضعفه وجعله مرتبطاً بالحكومة. - عدم استقلال الأزهر علمياً وتدخل الدولة في تعيين شيخ الأزهر، وذلك بموجب قانون تطوير الأزهر عام 1961م والذي بموجبه يحق لرئيس الدولة تعيين شيخ الأزهر، وكان وقتها تابعاً لوزير شئون الأزهر، وفي عام 1975م تم استصدار قانون جعل شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية وأصبح شيخ الأزهر بدرجة رئيس وزراء - مالياً - غير أنه يتبع رئيس الوزراء إدارياً وكان وقتها شيخ الأزهر هو الشيخ عبد الحليم محمود. - استصدار الدولة المادة رقم 201 من قانون العقوبات والتي تحرم على خطباء المساجد نقد القرارات الإدارية والقوانين المستقرة, في حين أن هذا الحق كان مضموناً لكل صحفي وكاتب ومحرَّمٌ على خطيب المسجد. - الروح الانهزامية التي سادت مؤسسة الأزهر وعدم التهيؤ للقيام بدور الريادة للعالم الإسلامي خاصة في ظل الظروف السيئة التي يمر بها المسلمون في جميع أنحاء العالم. مراحل تطويع الأزهر:

بين الشيخ محمد الخراشي أول شيخ للأزهر بالتعيين [1656م -1690م] وأحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي [19 مارس 2010م] تعاقب على مشيخة الأزهر 48 شيخاً على مدى 354 عاماً ذوي مذاهب مختلفة ومواقف متباينة، منهم من أدى الأمانة وكانت له مواقف إيجابية وهم قلة، وأمثال هؤلاء هُمِّشَ دورهم، ومنهم من أصبح أداة في أيدي الأنظمة تحركها لتضفي الشرعية على قراراتها وتمرر من خلالها ما يخدم مصالحها ويثبت وجودها، سواء كان نتيجة عدم التأهل والقصور العلمي والبعد عن الواقع، أو اتباعاً للهوى وحفاظاً على المنصب: وممن تولى مشيخة الأزهر خلال العقود الأربعة الأخيرة: شيخ الأزهر حسن مأمون [1964م-1969م] شيخ الأزهر عبد الحليم محمود [1973 - 1978] شيخ الأزهر محمد عبد الرحمن بيصار [1979م-1982م] شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق [1982م-1996م] شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي [1996م-2010م] وقد ساهم الأخير في إضعاف الأزهر ونزع الهيبة عن رجاله بما أصدره من عشرات الفتاوى الشاذة والأقوال الضعيفة والدوران في فلك النظام، حتى أنه صرح ذات مرة أنه موظف بدرجة رئيس وزراء فلا غرابة بعد ذلك ألا تخرج أفكاره وأفعاله ومواقفه عما يتبناه النظام ومن فتاواه الشاذة: - جواز التحاق النساء بالكليات العسكرية والالتحاق بالجيش. - جواز تحويل الرجل إلى أنثى بشرط الضرورة الطبية. - تطبيق الشريعة الإسلامية يحتاج إلى وقت طويل يصل فيها الجميع إلى القناعة. - بارك توصيات مؤتمر المرأة في بكين، وقال: (إن مطالب مؤتمر بكين الخاصة بالمساواة بين الرجل والمرأة لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية). - تعليقه على ما حدث في فرنسا من فرض حظر على ارتداء الحجاب في المدارس وقوله: (بأن هذا شأن داخلي، لا يحق لأحد التدخل فيه ... لا اعتراض لنا إذا أصدرت فرنسا قانوناً كهذا ... من حق كل دولة أن تصدر من القوانين ما يُناسبها). - مواقفه المؤيدة لبناء الجدار الفولاذي الذي يفصل بين الحدود المصرية والحدود الفلسطينية ويجعل من مدينة غزة سجناً كبيراً. وآخر مراحل التطويع هو تعيين الدكتور أحمد الطيب شيخاً للأزهر قبل أيام في 19/ 3/2010م. والطيب تخرج من كلية أصول الدين، وحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية وكان من قبل مفتياً لمصر وذلك من 10/ 3/2002م حتى 27/ 9/2003م ثم رئيساً لجامعة الأزهر من 28/ 9/2003م، وهو عضو في المكتب السياسي للحزب الحاكم. وينتمي الطيب إلى أسرة صوفية حيث يرأس الطريقة الأحمدية الخلوتية الصوفية بمحافظة أسوان خلفاً لوالده وجده. وقد أفتى بإباحة بيع المسلم للخمور في بلد غير المسلمين لغير المسلمين، وأجاز للمرأة أن تؤم الرجال في الصلاة، وأكد على أن التصويت على التعديل الدستوري المليء بالقرارات والقوانين الوضعية فرض عين، ويرى أن النقاب عادة من العادات كالزي العربي القديم، وشدد قبل اشهر على ضرورة خلع طالبات الأزهر للنقاب داخل لجان الامتحانات وداخل الجامعة! فماذا يُتوقع من مثل هذا إلا إضعاف الأزهر والسير على خطى من سبقه، وتمرير مخططات التطويع للقضاء عليه؟! والله المستعان.

بيان مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

بيان مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية بشأن تهويد القدس وإعلان اليهود بأن المسجدين الإبراهيمي في الخليل وبلال بن رياح في بيت لحم تراث يهودي مقدس 16/ ربيع الأول/1431هـ الموافق 2/ 3/2010م تتزايد الهجمة الشرسة لأعداء الله يهود على المسجد الأقصى، وتتكرر الاقتحامات الآثمة له، وتتصاعد وتيرة الاستيلاء على مساجد فلسطين، عبر سياسة مكشوفة مفضوحة، لا تنطلي إلا على من أعمى الله بصيرته. فها هو مشروع الحفريات للمؤسسة الصهيونية تحت وحول الأقصى قد تحول عن أهدافه مرات عدة، فبعدما كان في مرحلة ما يهدف إلى هدم الأقصى بالدرجة الأولى، بات اليوم - كما تشير تقارير الخبراء بواقع المدينة المقدسة - يهدف إلى تأمين وجود تراث وتاريخ يهودي، وخلق واقع سياحي وديني على الأرض من خلال تحويل معظم هذه الحفريات إلى كنس أو مدن أثرية أو معارض أو متاحف أو قاعات أو طرقات، أُنْفق عليها مئات الملايين من الدولارات، وقد أبدعت المنظمات الصهيونية في اختراع تاريخ لها في فلسطين وانتحال وتزوير آثارها. ادعاءات وافتراءات تهدف للتخلص من عقدة النقص التي يعاني منها سادة وقادة اليهود بانعدام أماكنهم المقدسة على أرض فلسطين، فعملوا على إيجاد تاريخ وثقافة وحضارة لهم على أرض فلسطين وحولها، وادعاء ذلك التاريخ للأجيال اليهودية القادمة؛ لنزع الصفة الإسلامية عن أرض فلسطين بادعاء أن كل المقدسات الإسلامية هي مقدسات يهودية الأصل، وأن المسلمين دُخلاء على تلك الأرض، وما أتى الصهاينة الآن ألا ليعيدوا الحق إلى أهله. وقد بدأ اليهود في الفترة الأخيرة بمخطط واضح من خلال الاقتحامات الجماعية وتأدية الطقوس الدينية في الساحات الجنوبية الغربية للأقصى التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من المسجد الأقصى، وذلك بهدف اقتسامه أو السيطرة على هذا الجزء وتحويله إلى نواة معبد يتوسع لاحقاً على طريقة المسجد الإبراهيمي في الخليل الذي بات كنيساً يهودياً في معظم أوقاته، بعد أن ابتدعوا فكرة تقسيمه بينهم وبين المسلمين كمرحلة أولى، انطلقوا بعدها لقضم مساحات أكبر منه، حتى بات معظم المسجد الإبراهيمي كنيساً يهودياً وضموه مؤخراً إلى قائمة المواقع الأثرية اليهودية. لذا فإنهم بين فترة وأخرى يزعمون أن هذا المسجد، وهذا القبر، وهذه الأرض، وهذا البيت مقدس عندهم، وجزء من عقيدتهم، ويوجهون أتباعهم لممارسة طقوسهم عند هذا المقدس الجديد المكتشف حديثاً من دون تاريخ، ولا إثبات، ولا عقيدة، ويبدأ مسلسل المصادرة والاستيلاء والترميم وتوسيع الشوارع وهدم المنازل المجاورة، وممارسة الإرهاب والتشريد، وتثبيت اللوحات الإرشادية باللغة العبرية ليصبح وكأن هذا الموقع له تاريخ عريق!! فاليهود يشعرون في قرارة نفوسهم بعقدة النقص المنبثقة عن قلة أماكنهم المقدسة، بل انعدامها إذا ما قيست بالأماكن المقدسة لدى المسلمين، لذلك فهم يتوهمون باطلاً تلك الأماكن، ويدعون أنها مقدسة لليهود بين ليلة وضحاها، يبتدعونها، ويدعون أنها مقدسة في كتبهم المحرفة، وخيالاتهم الواسعة. وأمام ما يحدث فإننا نوجه العالم للتالي: أولاً: عدم الانجرار وراء الخدع اليهودية، أو تسويق آرائهم وتهديداتهم على أنها مسلمات! بل إن الصهاينة كثيراً ما كانوا يدسون أفكاراً تتبناها وسائلنا الإعلامية من غير تدقيق، ثم نقع فريسة الدعاية اليهودية نرددها من غير وعي أو تمحيص.

ثانياً: الضغط المتصاعد على كل المستويات وبكل الوسائل الشرعية من الضغط الشعبي على الأنظمة والحكام للتحرك تجاه نصرة الأقصى وحمايته، إلى الضغط على المؤسسات الدولية وجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي ولجنة القدس والمنظمات الدولية والأممية والسفارات والهيئات المختلفة شعبياً ورسمياً، ورفع سقف المطالب بهدف دفعهم إلى التحرك لحماية فلسطين من القضم والمصادرة لمساجدها ومقدساتها. ثالثاً: رفع مستوى دعم المدينة المقدسة المادي - الذي لا يكاد يذكر هذه الأيام أمام حجم المعاناة فيها - وكذلك رفع مستوى الدعم المادي والمعنوي لأهلها والمرابطين في مسجدها، وتثبيت أهل القدس الحراس الحقيقيين عن المسجد الأقصى الصامدين في بيوتهم أمام مشروع التهويد، والتنسيق بين كل المؤسسات والهيئات الداعمة من أجل كفاية المقدسيين في مواجهتهم وتحقيق أولويات صمودهم المتعدد الحاجات، ودعم مؤسساتهم الصحية والتعليمية والاجتماعية وغيرها. وكذلك فتح كل السبل مع أهلنا في مناطق الـ 48 من أجل تعزيز وتقوية تحركاتهم في حماية ونصرة مساجد فلسطين ومقدساتها. رابعاً: تفعيل المقاومين والمجاهدين في الضفة ليقوموا بدورهم في الدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات، ذلك أن هذه المقاومة المشروعة هي من أنجح السبل في ردع المحتل وإيقاف صلفه وتجبره. خامساً: دعوة وسائل الإعلام المختلفة إلى إبراز أية واقعة أو تحرك يحصل عند المسجد الأقصى أو أية انتهاك لإرث فلسطين التاريخي الإسلامي ويشكل بداية خطر عليها، واستنفار الرأي العام للشعوب العربية والإسلامية كي تأخذ دورها في الحفاظ على المقدسات، ذلك أن العاتق الأكبر في استنهاض الأمة الإسلامية يقع على وسائل الإعلام. ودعوة الأمة في العالم كله إلى نشر واقع القدس والمقدسات والعمل على بث ثقافتهما وصولاً إلى تثبيت الحق لأصحاب الأرض الشرعيين. سادساً: استنهاض المخزون البشري والنوعي القانوني عند العرب والمسلمين وأحرار العالم لاستثمار القانون الدولي في تكبيل حركة المحتل وملاحقته دولياً بتهمة التطهير العرقي في القدس والاعتداء على المقدسات، تماماً كما حصل في تقرير غولدستون للتحقيق في جرائم الحرب على غزة الأمر الذي أربك الصهاينة وفضحهم. سابعاً: الدور المطلوب لعلماء الأمة الربانيين يظهر جلياً في وقت الأزمات، والأمة تنتظر من علمائها ودعاتها أن يتسلموا الراية لقيادة الأمة نحو المنهج القويم الذي ارتضاه الله لها لتكون خير أمة أخرجت للناس، وتحقق أملها في نصرة وتحرير المقدسات. ثامناً: نناشد أبناء الأمة وهيئاتها ومؤسساتها الأهلية والشعبية كل في مجاله وتخصصه إلى العمل السريع لنصرة مقدساتنا وأهلنا في فلسطين بشتى الوسائل الناجحة وبمختلف الإمكانيات المتاحة، فثبات أهل فلسطين ثبات للأمة وقيامها، وسقوطهم سقوط للأمة. ونناشد من بيده القرار أن يقف موقفاً يكتب له عند الله في الدفاع عن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد لها الرحال ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رويت أكنافه بدماء ملايين الشهداء على مر العصور من أسلافنا لإبقائه عزيزاً محرراً من كل غاصب. وأخيراً، نسأل الله تعالى أن يثبت أهلنا في الداخل ويأخذ بيدهم نحو نصرة دينه ومقدساته، ونسأله تعالى أن يرد أمتنا لدينها لتحقق عزها الضائع، وترفع عنها ثوب الذل والعار.

هدم الأقصى

هدم الأقصى لطف الله بن ملا عبدالعظيم خوجه الصهاينة يمضون خطوات واثقة نحو بناء الهيكل، مما يعني ضرورةً: هدم المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين، وثالث المسجدين، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بارك الله حوله، حيث سيبنى مكانه ذلك الهيكل. ومنذ مدة، هم ينخرون - كالسوس - تحت المسجد الأقصى؛ لتهوي أساساته مع أدنى زلزال، فيبدو وكأنه سقط من ذاته، وهم يفعلون ذلك بشكل مكشوف ومعلن، لا يخافون!!!. ولم لا، وقد ضمنوا وأمنوا ألا معترض إلا أصوات خجولة، ضعيفة، متفرقة .. وما يفعل الصوت - وحده - مع المدفع والدبابة والنووي؟!!. الحقيقة كل المؤشرات تذهب إلى قرب هدم المسجد المعظم، ليس آخرها بناؤهم كنيس الخراب - خرب الله بيوتهم بأيديهم - بالقرب من الحائط للمسجد. هذا البناء الذي ظهر فجأة، وهو يبنى من سنوات، لكن وسائل إعلامنا - إلا القليل - مشغولة عن تهويد القدس بأمور أهم؛ مشغولة بالرقص، والأغاني، والتمثيل، وبأخبار السوق وطرائق الترفيه .. هي أمور أهم من تحرير الأوطان، ونفي الظلم والجور على العباد؟!!!!. نعيش أزمة مستحكمة، لا يبدو حلها في الزمن القريب، هي بلايا تدع الحليم حيران؟!. نرى مقدسات معظمات - عظمها الله تعالى - في خطر، لا نملك حيالها أي فعل يمكن أن يقال عنه: مفيد، مانع، رادع. فنرجع إلى الحوقلة، والحسبلة، والتهليل، والتكبير .. وأنعم بذكر الله تعالى. الأيام دول، وهذه دولة الصهاينة هي المتربعة على العرش، ودولة الإسلام متأخرة، هي من تأخر، ولا مكان للضعفاء والمتأخرين. نعم هناك مقاومة، وإن شئنا مصطلحا أكثر نعومة، فهي ممانعة، من فئة مغلوب على أمرها، تحارب بكل ما تملك، وأول من يقاومها ليس الصهاينة، بل إخوتها وبنو جلدتها، وهي مقاوَمة مباركة في كل حال، حالت دون تقدم المشاريع الاستعمارية، أو عَرْقَلَتْها وأَخَّرَتْها. نعم هناك فئات، تفعل وتقدما ما بطاقتها، والله يرعاها ويثبتها، ولولا ذلك، لكانت جميع بلاد المسلمين تحت تحكم بني صهيون المباشر .. لكن مع كل ذلك، فالألم والخسارة في تزايد كل يوم. الله ربنا جل شأنه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) سورة محمد. ونحن لم ننتصر إلى اليوم منذ قرن وزيادة، فمن المقطوع به إذن: أننا لم ننصر الله تعالى، فنستحق النصر. وفقا لقاعدة: {إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}. في أنفسنا لم ننصر الله تعالى، ولا في مجتمعاتنا، ولا في دولنا .. ولا يصح أن نسمي محاولات خجولة، مترددة، خائفة: نصرة. إن ربنا جل في علاه يريد أكثر من ذلك، يريد أموالا تنفق، وأنفسا تزهق في سبيل الإسلام: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111) سورة التوبة. فضلا عن ذلك: يريد من عباده: الزهد في الدنيا. وليس المعنى ألا تملك منها شيئا، لكن المعنى: أن تكون في يدك لا في قلبك. فلو دعاك الحق: أن تبذل منه كثيرا وفيرا، ما ترددت .. حبا للمال. وهذا عامل رئيس من عوامل النصر، لكن قوما أحبوا المال، حتى يصيروا عبيدا للدرهم والدينار، حقيقون بالتعاسة والانتكاسة: (تعس عبد الدرهم ... تعكس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). بهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تعبد للمال، حتى شح به وبخل، قال تعالى:

{هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (38) سورة محمد ومن عوامل النصر الرئيسة: الصدق مع الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة. وليس بصادق من طلب الحيل والمخارج، يتبع هواه؛ إذا لم يألف حكم الشريعة، أو لم يجده يحقق شهوته ولذاته: تيمم نحو المقاصد يلتمس مخرجا، أو نحو المسهلين يتسهل بفتواهم، أو بحث عن متشابه ينقض به المحكم. كلا، ليس ذاك بصادق، إنما الصادق الذي يأخذ الكتاب بقوة: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. هو الذي يدع هواه وشهوته من أجل الله تعالى، ويستغفر الله من ألاعيب المحتالين، وتخريج الشياطين، فإن الله تعالى لا يخدعه أحد، هو خادع كل مخادع: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (142) سورة النساء. من أهم عوامل النصر: الالتفاف حول الكتاب والسنة، والعمل بهما كعمل الصحابة والتابعين وتابع التابعين. ونبذ كل خلاف بعد ذلك، نبذ وترك كل مذهب أو فرقة لا تعمل بهذا الأصل الكبير. مع خلط ذلك بإحسان الظن، والصبر على من خالف، وتعريفه المنهج النبوي بالحسنى والمجادلة الحسنة، وترك تصنيف الناس، والحكم عليهم بالضلالة بمجرد خطأ أو زلة، أو حتى ركوب بدعة. أن تتسع القلوب للخير، والاختلاف، فما كان منه سائغا مقبولا، فلا وجه للإنكار فيه، وما كان ضلالة، فإنكار برفق، وصبر، وحلم، وتعليم .. فعامة المسلمين محبون للدين والخير، وإنما يدخلهم الخطأ في الدين، من جهة التكوين والتنشئة، والبيئة والمصر .. وهي أمور لا يملكها الإنسان، فمن نشأ في بيئة صوفية سيكون كذلك، ومن نشأ في مجتمع متشيع، في نشئته وتكوينه، لن يكون إلا شيعيا. فمن أراد بيان حق لأحد، وإيقافا على خطأ، ليس له من سبيل، إلا الرفق والبلاغ المبين، وعدم التسرع بالطرح والاستعداء، بداعي مخالفة الحق، والخروج عن السبيل. واتفاق الأمة أهم سبب لحصول النصر على الصهاينة، وتخريب خرابهم وهيكلهم، والعكس بالعكس، قال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}. لن نوقف الزحف الخرابي الهيكلي بمجرد المقاومة السياسية، كما يصفون. ولا بالعمل الحربي وحده. بل قبل ذلك لا بد أن نكون: عباد الله إخوانا. وعباد الله صدقا، واتباعا، وعباد الله زهدا، وإنفاقا. ومن وعد الله تعالى - ووعيده أيضا - أنه قال: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد. يعني لا يغير ما بهم من ذل إلى عز، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من ذل المعصية، إلى عز الطاعة. كذلك لا يغير ما بهم من عز إلى ذل، إلا غيروا من الطاعة إلى الآثام. ونحن نحيا، لكن ليس بالعز نحيا، وبالقطع أننا لسنا على ما يريد الله تعالى، وإلا لغير ما بنا. من الأساليب التي اعتدنا أن نواجه بها الأزمات التي تصيبنا: أن نفر إلى التاريخ والتراث، نطلب سلوة، أو مخرجا. وتاريخنا مليء بكل ما يسلي ويكشف الهم والغم، وفيه أيضا المخارج. لكن: هل يستحسن: أن ننظر خلفنا كلما ألمت بنا فاجعة، كالطفل يعود إلى ورائه يلتمس سندا من أبويه؟.

ألم تشب الأمة، لتقف على قدميها، وتنظر أمامها، فتطلب حلولها مما تستقبل، لا مما تستدبر، فتعمل على إعداد القوة العسكرية، والصناعية، والتقنية، والمالية، لتقارع قوة الغرب، الداعم والمنشيء لهذه الدولة الصهيونية المقيتة؟. هو سؤال واستنكار في محله، على من اكتفى بالنظر إلى الوراء، ومنع من النظر إلى الأمام، ليس شرط النصر: أن نستعيد أدواته من التراث القديم فحسب. بل نأخذ من القديم ما ننطلق به، ونعتمد عليه في التأسيس؛ لأن القديم فيه ذكرنا: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون}. وفيه هدايتنا: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .. }. وفيه الشفاء: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء .. }. قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله، وسنتي). نحن نرجع، لنقف على خطئنا، ونتعرف على الصواب .. نرجع لنستمد اليقين والإيمان، ثم ننطلق مستصحبين هذا الميراث؛ ليهدينا من ضلالة، ويخرجنا من غواية، ولا نمنع من النظر إلى الأمام؛ بمعنى تحصيل كافة وسائل القوة الحديثة، من سياسية، ومال، وسلاح، وصناعة، وثقافة .. إلخ. إنما الممنوع تحصيلها بعيدا عن ضابط يضبط - والضابط موجود في التراث - وإلا استوينا نحن وأمة الكفر في الأخذ بها، بكل تفاصيلها، حلها وحرامها، فكيف نستوي نحن وهم، وقد فرق الله بيننا؟. ومما نرجع إليه من التراث؛ نبتغي الاستدلال على الطريق؛ طريق الفتح: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتحه بيت المقدس. فقد قدم رضي الله عنه الشام لتسلم مفاتيح بيت المقدس، على جمل أورق، يلبس قميصا قد رَسِمَ وتَخَرّق .. عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال أبو عبيدة: "قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض"، فصك في صدره وقال: "أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة؟!، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله". ابن كثير بهذه الروح العزيزة القوية فتح بيت المقدس. وفي رواية أخرى تاريخية: أقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام فاستقبله الأمراء في الجابية، إلا أبا عبيدة، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟، قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعا. أو قال: شيئا. فقال: يا أمير المؤمنين! إن هذا سيبلغنا المقيل. سير أعلام النبلاء 1/ 17 قائد جيوش الإسلام، ليس في بيته شيء، إلا عدة الحرب، وخليفة المسلمين يأتي إلى الشام على جمل يتناوبه هو وغلامه، ولباسه رَسِمٌ مُخَرّقٌ، بمثل هذا الزهد الصادق انتصروا على: فارس، والروم. ومما روي: أن عمر أتي ببرذون فركبه، فلما سار جعل يتخلّج به، فنزل عنه وضربه في وجهه، وقال: " لا علم الله من علمك، هذا من الخيلاء"، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده. ابن جرير 2/ 250 هذا عامل آخر من عوامل النصر، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (47) سورة الأنفال، فالخيلاء والكفر صفة الكفار، أما المؤمنون فسيماهم التواضع والسكون وخفض الجناح. دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد الأقصى فصلى بالمسلمين صلاة الفجر، فقرأ في الأولى بسورة ص~ وسجدة فيها بسجدة داود عليه السلام، وفي الثانية بسورة الإسراء، ثم أتى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، وكان الروم قد جعلوها مزبلة؛ لأنها قبلة اليهود، مكافأة لما عاملت به اليهود القمامة، وهي المكان الذي صلبوا فيه المصلوب، فشرع عمر في تطهير الصخرة من الأوساخ والمسلمون معه. ابن كثير 7/ 55/56 قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النور. المصدر: صيد الفوائد

بيان رابطة علماء المسلمين لنصرة إخواننا في فلسطين

بيان رابطة علماء المسلمين لنصرة إخواننا في فلسطين الحمد لله ربِّ العالمين، قضى بنُصرَة عباده المؤمنين، وحكم بعِزَّة جنده الموحِّدين، وكتب بغَلَبَةِ حِزبه المفلحين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبي الرحمة ونبي المَلْحَمَةِ، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فباسْتِيَاءٍ بلغ الغايةَ، وأوفى على النهايةِ، تلقَّى العالم الإسلامي أنباء عدوان الصهاينة الآثمين على مقدسات المسلمين، وانتهاكهم للشرائع السماوية وجميع المواثيق الدولية، والاتفاقيات العالمية، التي تمنع المحتلِّين من العَبَثِ بأماكن العبادة والاجتراء على المقدسات. وإن إقدام المجرمين على ضمِّ المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، ومسجد بلال بن رباح في مدينة بيت لحم إلى قائمة التراث الصهيوني لهو قرصنةٌ باغيةٌ، واستطالةٌ ظالمة. والمسلمون الحنفاء هم أتباع إبراهيم عليه السلام الأوفياء قال تعالى: ((مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [آل عمران: 67]. وقال سبحانه ((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [آل عمران: 68]. وفي هذا اليوم الثلاثاء الأول من ربيع الثاني عام 1431هـ والموافق للسادس عشر من آذار/ مارس عام 2010م قام يهود الخراب بتدشين " كنيس الخراب" قرب أسوار الأقصى الشريف! وذلك ليكون - بزعمهم- نقطة ارتكاز لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى! وإن رابطة علماء المسلمين تحتسب عند الله تعالى شهداء الأرض المقدسة، والمعارك الباسلة، لتحرير فلسطين الأبيَّة، وتطهير المقدسات الإسلامية. وإنه لا يفتُّ في عضُد أمتنا المنصورة أن يُزف شهداؤها إلى الجنة في أكرم ساحة وأطهر بقعة، كما لا يوهن من عزم أمتنا أن يُقتل أبناؤها فإنهم يؤتَون أجرهم مرتين، ولا يضعف من قوة أمتنا علوُّ اليهود الغاصبين، فإن الإسلام يَعلو ولا يُعلى عليه، والله تعالى قد حكم بذلة اليهود فلا يَعِزُّون أبدًا، ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) وقضى بلعنتهم فلا يُرحمون أبدًا إلا من آمن منهم وتاب ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)) إن رابطة علماء المسلمين في سياق إنكارها واستنكارها لهذه الأحداث الجسام، والمصائب العظام لتؤكد على ثوابت الأمة في هذه المُدلَهِمَّة، وتذكر الأمة بأن فلسطين وقضيتها قضيةٌ إسلامية، وأن القدس كانت وستظل إسلاميَّة عربيَّة، وأن الصراع مع اليهود وحلفائهم الغربيين صراعٌ عقدي، نبَّه الله تعالى إلى حقيقته فقال سبحانه: ((وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) وقال جل ذكره ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)) ورابطة علماء المسلمين تقرر في هذا الموضع ما استقر عليه إجماع علماء الأمة المعتبرين من أن التنازل عن أرض فلسطين أو جزء منها إنما هو خيانة لله ورسوله وللمؤمنين. وأن اليهود لن يتنازلوا ولن يتزحزحوا عن فلسطين إلا إذا قوتلوا فأُخرجوا منها صاغرين، ((فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا))

يا أهل فلسطين: إن التاريخ لم يكتب أبدًا أن أهل الإسلام قد خرُّوا أمام الظلم ساجدين أو قابلوا الذلَّ صاغرين. ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)) [الأنفال: 60]. إن رابطة علماء المسلمين تهيب بالمسلمين أجمعين أن ينصروا قضية فلسطين بعقيدة صحيحة، وقلوب سليمة، وجوارح مستقيمة، باللسان دعاءً ودعوةً، وبالبنيان بيانًا وكتابًا، وبالجنان موالاةً ومحبةً وتفاؤلًا وثقةً بنصر الله تعالى. وعلى علماء المسلمين الرَّبَّانيين تبعةٌ ثقيلةٌ، وأمانةٌ عظيمةٌ في مطالبة الأئمةِ، وتهيئة الأمة للاحتكام إلى الشريعة، وجمع الشمل ووحدة الصف، والتوجه إلى الإعداد، وتربية الشباب على التضحية ومحاربة الوهن في الشخصية الإسلامية، وإيضاح الأحكام الشرعية في نوازل القضية الفلسطينية. وعلى ولاة الأمر المسلمين العملُ على إنهاض الأمة في كل ميدان، ومواجهة العدوان الصهيوني في كل مكان، واستصدار قرار بقطع كافة العلاقات مع منتهكي المقدسات. وعلى وسائل الاعلام ان تعلي صوت المسلمين وتناصر المستضعفين، والجهاد بالاعلام جزء من نصر اخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين. ويتعين دعم المجاهدين الصامدين أمام اليهود الغاصبين، وحلفائهم الصَّليبيِّين، ((وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)) والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين رئيس الرابطة: الأمين الحاج السودان نائب الرئيس: محمد سيديا النووي موريتانيا الأمين العام: د. عبدالعزيزالتركي السعودية الأمين العام المساعد: د. عبدالمحسن زبن المطيري الكويت

ياهؤلاء: شكرا لكم!

ياهؤلاء: شكراً لكم! أحمد بن صالح الزهراني سقط أحدهم في بركة ماء وهو لا يعرف السباحة، فبدأ يصيح ويستغيث بمن حوله. تجمّع حول البركة مجموعة من الأشخاص، دخل بعضهم في نقاش حادّ حول الأسلوب الأمثل لإنقاذه، وبعضهم بدا حزيناً كونه لا يملك له نفعاً، وفي خضم انشغال هؤلاء وسرحان هؤلاء وذهولهم أخذت النخوة شخصاً كان يتابع الموقف، فجذب الغريق من يده وأخرجه من البركة. وبعد يومين تلقّى استدعاءً من الشرطة، وعرف عندما ذهب إليهم أنّ ذلك الغريق تقدم بشكوى ضدّه؛ لأنّه أثناء جذبه تسبّب له في خلع في مفصل يده. لقد وصمه كذلك بكل أوصاف الجهل والتطفل والتدخّل فيما لا يحسن!! ما قلته أعلاه على الرغم من طرافته وإثارته للضحك، هو حال كثير من الناس تجاه الصّحوة ورجالاتها وشبابها خلال العقود الماضية. الكل الآن يظهر عنترياته وقدرته على النقد والتشريح في جسد الصحوة. أنا لا أتعجب حين يكون الثلب صادراً من أعداء الدين من ليبراليين وقوميين وعلمانيين وحداثيين ونحوهم، لأنّ الصّحوة وأَدَت أحلامهم، وهدمت مشروعهم. كما لا أتعجب حين يكون النقد صادراً من أهل العلم المشفقين الذين ينصحون من مبدأ الإصلاح والشفقة والدين. إنّما العجب مصدره تنكّر البعض للصحوة وفضلها، وكثير من هؤلاء هم نتاج الصّحوة وأهلها. وبعضهم يتذكر أيام الصحوة، ويضحك منها، كما تذكر الصحابة أيام الجاهليّة وضحكوا منها .. حتّى إنّ بعض ممن يخرج في الفضائيات يسخر من حال نفسه وأترابه في تمسّكهم بالسنن، وكيف كانت تشكل جزءاً من تكوينهم الديني والفكري كذلك .. وهذا والله العظيم مسلك جحود وعقوق لا مسلك فقه واستنارة .. اعذروني على شيء من الصراحة .. تسري في أوصالي رعدة كلّما أتخيّل نفسي لو أني بقيت على ما أنا عليه حتّى الآن .. كنت كما كثير من الناشئة الذين يتربون في بيئات بعيدة عن العلم والهدى، لا نركع لله ركعة، اللهم في المناسبات، أفتح عيني كل صباح وأوّل فكرة تدهم رأسي: ماذا سأعمل مع رفقة السوء اليوم؟ أبحث عن سيجارة فأشعلها، أحدث نفسي وكل من يقابلني عن مجريات مباراة الأمس، وماذا سيحدث في مباراة اليوم وغد، أبحث معهم عن أماكن اللهو، وإيذاء الناس بالكلام وأحياناً بغيره .. أمضي ساعات طويلة أمام اللاقط للبث الخارجي المشوش بالطبع، لماذا؟ لأنّ الأفلام والمسلسلات فيه لا يُحذف منها شيء. أعيش كغيري على سفاسف الأمور وتوافهها يومي وليلتي كلّها، آكل وأشرب وأتعلم بلا هدف. تُرى لو استمر الوضع كما هو .. أي شخص سأكونه اليوم؟! مجرد تصور الأمر يصيبني بالغثيان .. لكنّ الله تعالى هداني، نعم تحدثاً بنعمة الله أقول ذلك: على يدي من؟ لم يأتني خطاب من وزارة الشؤون الإسلامية يدعوني لتوبة .. لم أتلقّ خطاباً من أحد العلماء الكبار أو اللجان العلمية ينصحني بسلوك الصراط السويّ .. بل كان ذلك على يد شباب صغار من شباب الصحوة رأيتهم، وتعرفت بهم، وعرفت بمقارنة بسيطة بيني وبينهم قبح الحياة التي أعيشها .. فأحببتهم من أوّل لقاء، وسلكت نفسي معهم، فأخذوا بيدي إلى الحلقات العلمية وحلقات حفظ القرآن، وأصبح الغلام الّذي كانت سيجارة تبيعه وتشتريه تحلّق روحه وتسمق أحلامه فوق السحاب .. شكراً لك يارب وحمداً لك يا الله. لو لم تكن لكَ عَلَيّ نعمة غيرها لكنتَ حقيقاً يا ربي بسجدة لا أقوم منها إلى يوم يُبعثون .. شكراً لوالدي الكريمين الّلذَين شجّعاني على الهدى والخير .. شكراً لكل أسرة احتضنت شاباً أو شاباً صالحاً وشجّعته على الخير .. وشكراً لكم أيّها الصحويّون بكلّ أطيافكم ومناهجكم .. شكراً لكم اعترافاً بفضلكم .. لا إقراراً بخطئكم ..

شكراً لكم لأنكم شاركتم في مهمة إغاثية تطوّعية ضخمة انتشلت الجيل من أكبر عملية سلخ للهوية الإسلامية على يد جماعات من مجرمي الخارج وعملاء الداخل .. تلك العملية الّتي يُطلق عليها الآن (الصّحوة). لعلّ بعضكم أساء في الطريقة والمنهج، لكنّه أحسن؛ إذ غامر فشارك وأنقذ .. شكراً لكل شاب وزّع كتيباً، أهدى شريطاً، أرشد تائهاً، دعا صديقاً لحلقة حفظ للقرآن أو درس أو موعظة .. شكراً لكل داعية طوّف أرض الله يلقي الكلمات والمحاضرات .. شكراً لكل صاحب مال استثمر في الشريط والكتاب الإسلامي .. شكراً لصاحب تسجيلات التقوى بجدة الذي أهداني مرة عدة أشرطة، فكأنما ساق لي الدنيا كلّها .. شكراً لكل معلم ربّى طلابه على الخير فنصحهم وأرشدهم .. شكراً لك يا صديقي الصغير - عبدالله - الذي أخجلني من نفسي يوماً ما حين سألني عن أذكار الصباح والمساء فلم أعرفها .. شكراً لك يا محمد درويش صديق الثانوية الذي شدّني للتدين حين رأيته لا يشاركنا سفاسف الأمور .. شكراً لكم جميعاً أن نزلتم إلينا فجذبتمونا من البرك الآسنة الّتي كنّا نغرق فيها، ونحن لا نشعر .. نعم، أهل العلم الكبار لهم الفضل بعد الله، يعرفه لهم أهل الفضل .. لكنّا في جهالتنا لم نكن نعرفهم، ولا نعرف لهم طريقاً .. لم أعرف في حياتي ابن باز ولا ابن عثيمين ولا الألباني ولا غيرهم، حتى جاء المنقذون فأنقذونا وعرّفونا بهم، وهؤلاء المنقذون قد لا يكون الواحد منهم على شيء من العلم، ولا الفقه، لكنّه فعل ما بوسعه .. فهو خير من أولئك المتفرجين الّذين يحسنون التنظير والجدل والنقاش والاستدلال، بينما كنا نغرق .. مازلت أذكر أوّل مجلس علم أحضره .. دلّني عليه صديق في الحارة، قال لي: إنّ هناك شيخاً اسمه "سفر الحوالي" يلقي درساً في العقيدة، ذهبت معه وأنا لا أعلم ما سفر، وما العقيدة أصلاً، لكني كنت منتشياً، لعلها أوّل مرة أحسّ بالاحترام لنفسي وذاتي، يومها وزع الشيخ -متعه الله بالصحة والعافية- كتابه العلمانية، لم أشعر بتردّد، فزاحمت عليه، وأخذت نسخة منه، ثم استمعت للشيخ، ورجعت للبيت، فلم أنم إلاّ وقد قرأت قسطاً كبيراً من الكتاب، كثير منه لم أفهمه .. ليس ذلك بالمهم، ليس مهماً أن أفهم، المهمّ أنّي أصبحت أريد أن أفهم، وهذه بحد ذاتها نقلة .. شكراً لك يا عبد الكريم - صديقي الذي دلّني على درس الشيخ- أن أرشدتني إلى المفتاح الذي فتح الله به قلبي لعلم العقيدة .. وشكراً للشيخ سفر الذي كان له في جدة وغيرها مع الشباب والصحوة شأن يعرفه له كل منصف .. كثيرون أنا عاجز عن شكرهم من (الصحويين) الذين خلع بعضهم أكتافنا، لكنّا نعرف الآن -بما حبانا الله من نعمة البرّ- قيمة ذلك الخلع وأنّه كان خطأً غير مقصود من محب مشفق منقذ بإذن الله .. كم هي أعداد الشباب المؤمن الذي كان إبان الصحوة هائماً بالغانيات، ثم أصبح خاطباً للحور؟ كم منهم من روّى بدمائه الطاهرة أرضاً جهادية هنا وهناك؟! كانت الشوكة تؤلمه ويبكي من عصا المعلم، ثمّ هو يجابه في أفغانستان جبروت الإلحاد السوفييتي .. وكم هي أعداد الشباب الذين كان أمل الواحد منهم أن يكون مطرباً، ثم أصبح قارئاً للقرآن، بل إماماً لمساجد المسلمين يقيم للناس صلاتهم وعبادتهم؟ وكم هم الذين كانوا قبل الصحوة يبكيهم الوتر، ويبكيهم هدف في مرمى الفريق، وينتحر إذا ما مات فنان، ويُجنّ إذا ما ماتت مطربة، ثم أصبحوا رهبان الليل فرسان النهار، كان غاية أمل الواحد منهم أن يملأ بطنه، ويرقد ليله، ثمّ أصبح يسأل عن الخلافة وأسباب انتصار الأمّة، وكيف يسلك دروب النهضة؟

هل رأيت أولئك الذين كانوا ينتظرون مجلة (النادي) ومجلة (سيدتي) و (ألوان) و (الشبكة) و (الصياد) وغيرها، هل رأيتهم الآن وقد أصبحوا يقرؤون العلل لابن أبي حاتم، ويحققون الفتح لابن حجر، ويشرحون الرسالة للشافعي، ويفرزون القراءات الشاذّة، ويكتبون تفسير القرآن، ويحلّلون فسيفساء الفكر الغربي، وينقدونه في ضوء التصوّر الإسلامي! الكلام كثير مسترسل .. لكني أشعر بالحزن لموجة التنكّر والجحود التي أقرؤها للبعض .. كلنا له تحفظات وله نظرات عندما ينظر بعين البصيرة للصحوة خلال أعوام طويلة مضت .. خاصة أهل البطال أمثالي. لكنّا نقول ذلك ونحن نسكب عَبَرات عليها، وعلى ما آلت، وآل كثير من أبنائه إليه بعد هذه الفتن الصمّاء .. أصبحنا نجد لوناً جديداً من التدين والانتساب للإسلاميّة، لوناً يتميز بأنّه كلامي تنظيري إعلامي .. وهؤلاء المتكلمون الذين لا يخطئون، لأنّهم لا يعملون .. وإذا أخطؤوا لا يؤبه لذلك؛ لأنّهم يخطئون في الكلام والكلام سهل تصحيحه .. لكنّ الصحويين أخطؤوا لأنّهم عملوا .. من أكبر وأعظم أبجديات التدين الّتي كانت تتكرر في نهج التربية أيام الصحوة هي: ماذا عملت لدينك؟ كان السباق في العمل والكسب الدعوي كثيراً، أكثر من الكلام .. الآن انعكست الصورة، فأصبحنا نجد كثرة في المشايخ والمفتين أو قُل: من المتكلمين، لأنّ بضاعة اليوم أسهل من بضاعة الأمس، بالأمس تُسأل: ماذا عملتَ؟ واليوم تُسأل: ماذا قُلت؟ ودائما نسمع: أفضل من (تكلّم) هو فلان .. وفي خضمّ هذا الجدل والمِراء نرى الغرقى تغمرهم الفتنة واحداً تلو آخر، ومازال أغلبنا - إلاّ من رحم ربك - يتناقشون، ويتجادلون في أجدى سبل الإنقاذ، بينما يقف آخرون في ذهول ودهشة، ولا أقول إلاّ: رحم الله زمان (الصحوة). والله الموفق.

حتى لا نعرض مشاريعنا للتقبيل

حتى لا نعرض مشاريعنا للتقبيل عبد اللطيف الثبيتي لم يعد ملفتًا أن نرى محلاًّ قد عُلِّق عليه إعلان (للتقبيل)، فقد كثرت هذه الإعلانات حتى صار من يعلقها يتمثَّل ببيت الخنساء الشهير: وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي هذا الإعلان في حقيقته يمثل ترجمةً مهذبةً أو مراوغةً لكلمة "فشل"، ولا يغيِّر من ذلك أن تلحق به العبارة المعتادة (لعدم التفرغ). والواقع أن ظاهرة (عروض) التقبيل، أو الفشل، لم تقف عند حدود التجارة، بل تجاوزتها إلى سائر المجالات؛ سواء كانت علمية أو اجتماعية أو غيرها، وإن كانت فرصة التقبيل لا تتوفر إلا في سوق التجارة، فهناك مشاريع زواج فاشلة، ومشاريع استشفاء فاشلة، ومشاريع طلب علم فاشلة، والقائمة طويلة. والسؤال هنا: لماذا فشل هؤلاء؟ الأسباب متنوعة، لكن هناك سبب يتكرَّر في أكثر الصور، إنه عدم احترام مبدأ التدرج. قلة هم الذين يلتزمون بهذا المبدأ، أما البقية فيعتبرونه ترفًا وتضييعًا للوقت، ولذلك تكثر المشاريع المعطلة، أو التي هجرها أصحابها، وأحيانًا إلى النقيض! وتلك نتيجة حتمية لمن يسعى لبناء دور خامس لبناية لم يكمل بعد دورها الأول. جنون لا يمارسه أحدٌ في الماديات، لكنه يمارس بكثرة في التفكير، وينعكس بعد ذلك فشلاً على الأرض. سنن الكون تؤكِّد على قيمة التدرج، فالتحول بين الفصول، وبين الليل والنهار، وبين حالات المادة على سبيل المثال - يقوم على التدرج، وانتقال الإنسان عبر المكان وعبر الزمان لا يتم بدونه. ولا تكاد تجد مجالاً لا يُحترم فيه هذا المبدأ، لكنك تجد في المقابل من يظن أن بإمكانه حرق كل محطات التدرج، والوصول لما يريد في طرفة عين! أغلبنا يحترم مبدأ التدرج في رياضة بناء الأجسام - على سبيل المثال - لكن كم هم الذين يحترمونه في رياضة النفس؟! التدرج وسيلة ذكية للوصول إلى الهدف، وبدونه نصطدم بواقع نعجز عنه. في التغيير من السيئ للحسن - سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع - يولِّد القرار الحاد ردة فعل حادةً، قد تكون نتيجتها إيقاف مشروع التغيير؛ لذلك لا بد من تخفيف الشعور بالتغيير عن طريق التدرج. لا توضع الرؤية موضع التنفيذ دفعةً واحدةً، وإنما يؤخذ المجتمع بالترقي تدريجيًّا. وواقعنا المعاصر حافل بمشاريع ناجحة كان من ضمن المبادئ التي التزمتها التدرج في العمل، والسير بخطوات محسوبة كالصرافة الإسلامية والإعلام الإسلامي. وفي مقابل الاستفادة من مبدأ التدرج ينبغي التنبه لمنع أي مشروع إفسادي من تمرير نفسه تحت غطاء التدرج، وذلك بكشفه وعرقلته مع أول خطوة. والتاريخ المعاصر يشهد أن دعاة التغريب قد استفادوا من التدرج في تمرير كثير من مشاريعهم عن طريق خلخلة الوضع القائم، وإزالته شيئًا فشيئًا، وتوطين النموذج المستورد مكانه. فالحجاب مثلاً كان يشمل تغطية الوجه في كل العالم الإسلامي إلى ما قبل عام 1924م - 1342هـ (¬1)، ثم بدأ الضغط العلماني عليه تدريجيًّا إلى أن كُشفت دائرة الوجه، ثم أسقط الحجاب كليًّا، وها نحن اليوم نرى الأمر قد تحوَّل في بعض البلدان العربية من الدفاع عن التبرج إلى إعلان الحرب صراحةً على الحجاب! المصدر: شبكة القلم ¬

(¬1) هل يكذب التاريخ، عبد الله الداود، ص 64

القوة في الدين .. كيف نراها واقعا في حياتنا .. ؟

القوَّة في الدِّين .. كيف نراها واقعاً في حياتنا .. ؟ مشهور بن حاتم الحارثي المتأمل في التاريخ يجدُ أنَّه ما من دينٍ ظهَر وانتشر -سواءً أكان حقَّاً أم باطلاً- إلاَّ كان وراءه فئة تؤمن به، وتعمل له، وتمتثله واقعاً في حياتها؛ ليقوم ذلك الدِّين على أكتافهم، وليكونوا أنموذجاً واضحاً لأتباعه؛ يسترشدون بهم، ويطمئنُّون من جهة تطبيق ذلك الدِّين وتحقيقه. ولذلك .. عندما أنزل الله عزَّ وجل دينه في هذه الأرض بشرائعه المختلفة، جعل لكلِّ شريعة من الشرائع رسولاً كريماً يبلِّغ ويكون قدوة، وفئة تؤمن وتعمل وتمتثل؛ لتكون عاملةً على إظهار دينها شيئاً فشيئاً، دالَّةً على صحَّته وإمكان تطبيقه، وتهيئة فئات تحمل همَّ هذا الدِّين والعمل له .. ولكن .. عندما يدبُّ الضَّعف في تلك الفئة المؤمنة العاملة -على اختلاف أزمانها- سواءً من جهة العلم أو العمل، فإنَّ ذلك الضَّعف ينعكس تلقائياً على ظهور ذلك الدِّين وأتباعه .. حتى يضمر أو يتلاشى. وكان من حكمة الله عزَّ وجل أنْ جعل في هذه الأمَّة المحمديَّة، والشريعة الخالدة الأبديَّة، فئة تؤمن بدينه، وتعمل له، وتمتثله واقعاً عملياً في حياتها ما دام هذا الدِّين في الأرض، لا يعتريهم الضَّعف، ولا يسيطر عليهم اليأس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) (¬1) .. وقد دلَّ الحديث على أنَّ هذه الطائفة القائمة بأمر الله عزَّ وجل قد تمَّ حفظها من ضرَرَيْن: أولاً: حفظها من ضرر الخذلان. وثانياً: حفظها من ضرر المخالفة. والفرق بينهما: أنَّ الخذلان ما كان من داخل الصفِّ .. !، والمخالفة ما كان من خارجه (¬2)، وهذان هما الخطران المحدقان بكلِّ دين أو مذهب يُراد له الظهور والانتشار .. وما كان لهذه الطائفة المؤمنة أن تبقى قائمةً بأمر الله عزَّ وجل، صامدةً في وجه طوفان المخاطر الداخليَّة والخارجيَّة سوى أنها كانت قويَّةً في دين الله عزَّ وجل أخذاً وعطاءً، تلقياً وأداءً، علماً وعملاً، شريعة ونَهْجاً .. هذا هو الأمر الذي حفظها من حَنَق المخالفين، وخَوَر المخذِّلين المرجفين. ولولا تلك القوَّة الدينيَّة وما تُمْليه من وضوحٍ في التصوُّر والاعتقاد، وحزمٍ في التمسُّك والامتثال، وجديَّةٍ في السلوك والعمل .. ، لانحلَّت تلك الطائفة عند أدنى مؤامرة أو اعتداء، ولكانت تعيش تشتُّتاً في الأمر، وهواناً في العزم، ولما بقيت تقوم لله عزَّ وجل بحجَّة .. ولذا .. لما كان مدار الصُّمود والبقاء على القوَّة في الدِّين، أَمَر الله عزَّ وجل بها أنبياءه وأقوامهم، فقال تعالى لموسى عليه السلام (فخذها بقوَّة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) (الأعراف:145) وقال لبني إسرائيل (خذوا ما آتيناكم بقوَّة) (الأعراف:171)، وَوصَف الله عزَّ وجل بها نبيَّه داود عليه السلام فقال: (واذكر عبدنا داود ذا الأيْد) (ص:17) أي ذا القوة في الدِّين، بل خاطب الله بها يحيى عليه السلام منذ أن كان في المهد صبياً (يا يحيى خذ الكتاب بقوَّة وآتيناه الحكم صبيا) (مريم:12) لينشأ ذلك الصبي وهو ابن ثلاث سنين كما في قول ابن عباس رضي الله عنه (¬3) .. على معاني القوَّة والجدِّ والعزم في أخذ الدِّين والتمسُّك به. ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب، باب "سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر"، (ح3369). (¬2) انظر: فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله (28/ 416). (¬3) انظر: تفسير البغوي (5/ 121).

إن الأمَّة اليوم بحاجةٍ شديدةٍ إلى استجماع معاني القوَّة في أفرادها؛ ليسعدوا بدينهم، ويُؤدوا حقَّ الله عزَّ وجل فيهم. والناظر في كلام ربِّه سبحانه وتعالى لا تكاد تخطئُ عينه صورتان اثنتان من صور القوَّة في الدِّين لا تتحقق القوَّة إلا بهما: الأولى: القوَّة في الأخذ والتمسُّك والعمل (خذوا ما آتيناكم بقوَّة) (الأعراف:171). والثانية: القوَّة في الإعداد والمواجهة والمدافعة (وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة) (الأنفال:60). إنَّ الأمَّة بحاجةٍ إلى المؤمن القويِّ في عقيدته .. القويِّ في عبادته .. القويِّ في تعلُّمه .. القويِّ في دعوته .... القويِّ في دفاعه .. القويِّ في صَدْعه بالحقِّ ووقوفه أمام سَيْل الشُّبهات والشَّهوات، والفتن والمغريات .. إذا تكلَّم كان قويَّاً واثقاً، وإن ناقش كان قويَّاً واضحاً، وإذا عَمِل كان قويَّاً ثابتاً، يأخذ تعاليم دينه بقوَّة، وينقلها إلى غيره بقوَّة، ويتحرَّك ويدعو في مجتمعه بقوَّة .. لا وَهَن ولا تميُّع .. ولا ضعْف ولا تصنُّع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز .. )) (¬1). ولكي تتحصَّل هاتان القوَّتان بكل صُوَرها وأشكالها، وتُصْبح واقعاً عملياً نعيشه في حياتنا، لابدَّ من استجماع عدِّة أمور هي بمثابة الأُسُس التي يقوم عليها هذا المبدأ الشرعيِّ، (والمقام مقام إشارةٍ لا استفاضة، وهي محاولة استقرائية للآيات الواردة في القوَّة، وحال المأمورين والموصوفين بها): الأساس الأول: قوَّة الصِّلة بالله تعالى. إنَّ من أهمِّ أُسُس القوَّة في دين الله عزَّ وجل أن يكون المؤمن قويَّ الصلة بالله عزَّ وجل، كثير العبادة له سبحانه. لما ذَكَر الله عزَّ وجل نبيَّه داود عليه السلام وَصَفه بالقوَّة في الدِّين، وعلَّل ذلك بأنه أوَّاب كثير الرجوع إلى ربِّه عزَّ وجل فقال تعالى (واذكر عبدنا داود ذا الأَيْد إنَّه أوَّاب) (ص:17)، وكان عليه السلام حَسَن التعبُّد لربِّه عزَّ وجل ففي الحديث: "إن أحبَّ الصيام إلى الله صيام داود، وأحبَّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام" (¬2). ولما أمر نبيُّ الله هود عليه السلام قومه بالاستغفار والرجوع إليه سبحانه بيَّن لهم أنَّ هذه الصلة الحسنة بالله تعالى تزيدهم قوَّة في أمر دينهم ودنياهم (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوَّة إلى قوتكم) (هود:52). الأساس الثاني: الاستجابة الكاملة لله تعالى .. ففي قوله تعالى لبني إسرائيل (خذوا ما آتيناكم بقوَّة واسمعوا) (البقرة:93) أَتْبعَ الله عزَّ وجل أمْرَه بأخذ ما آتاهم بقوَّة بأمرٍ آخر وهو السماع المطلق والاستجابة الكاملة له سبحانه، ليدُلَّنا ذلك بطريق الإشارة على أن ممِّا تتحقق به القوَّة في الدِّين سماع أمر الله عزَّ وجل، والإنصات له، والعمل بموجبه، ليتمَّ تحقيق العبودية الشاملة له بعد ذلك. وإذا أعرض الإنسان عن سماع أمر ربِّه تعالى، أو سمع ولم يجب الاستجابة الكاملة التي تُغيِّر محتواه ظاهراً وباطناً كان عُرضة لأن يقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من الذمِّ وسوء العاقبة (قالوا سمعنا وعصينا وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) (البقرة: 93). الأساس الثالث: اليقين بنصرة الله عزَّ وجل لدينه. ¬

(¬1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب في "الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وترك المقادير لله" (ح4816). (¬2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب "االنهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً .. " (ح1969).

إن استحضار نصرة الله عز وجل لدينه، وامتلاء القلب يقيناً وصِدْقاً بوعد ربِّه تعالى لابدَّ أن يكون مصاحباً لكل مريد للقوَّة في الدِّين- لاسيَّما زمن الفتن والمحن-، ولذلك عندما أحسَّ أصحاب موسى عليه السلام بخُسران المعركة أمام فرعون وملئه، وظنُّوا انتصار الباطل على الحقِّ .. أظهر الله عزَّ وجل على لسان موسى عليه السلام -المأمور بالقوَّة في الدِّين- ما كان يحمل في قلبه من يقينٍ وثقةٍ بنصر الله تعالى لدينه وعباده المؤمنين، فقال الله عزَّ وجل -حاكياً حاله وحالهم- (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) قال كلاَّ إنَّ معي ربي سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كلُّ فرق كالطَّوْد العظيم (63)) (الشعراء). كما أن على القويِّ في دين الله عز وجل ألاَّ يستبطئ وَعْد الله تعالى في نُصْرة دينه، وأن يسعى في مؤازرة إخوانه وتذكيرهم بهذا الوعد، اقتداء بفعل موسى عليه السلام -لما استبطأ قومه النَّصْر واستطالوا عَهْد الله فعبدوا العِجْل- (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحلَّ عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي) (طه:86). الأساس الرابع: الحرص على مذاكرة ما في الكتاب والسنة .. فكيف لمؤمنٍ يريد أن يكون قويَّاً في دين الله عزَّ وجل، حاملاً همَّ تبليغه وتبيينه للناس، إذا فتَّشت عن قراءته -فضلاً عن مذاكرته- لكتاب الله عزَّ وجل وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم وجدتها تبلغ من الضَّعف قدْراً كبيراً.، لما أمر الله بني إسرائيل بأخذ ما آتاهم من التوراة بقوَّة أشار سبحانه إلى ما يُعينهم على هذا الأمر فقال تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوَّة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) (البقرة: 63) أي: خذوا التوراة بقوَّة واتلوها وادرسوها واعملوا بما فيها لتكونوا من أهل التقوى (¬1)، فكذلك كل من أراد القوَّة في دين الله عز وجل عليه أن يكون حريصاً على ذِكْر ما وَرَد في الكتاب والسنة، وعلى العمل بموجبه؛ ليَقْوَى في دينه، وليوصله بعد ذلك بإذن الله إلى العلَّة المذكورة في الآية (لعلكم تتقون). وعندما وَصَف الله عزَّ وجل نبيَّه داود عليه السلام بكونه قويَّا في دين الله أخبر سبحانه عن طَرَف من مظاهر هذه القوَّة وأسبابها فقال تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علما) (النمل: 15)، وقال (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) (الأنبياء:79). الأساس الخامس: عدم الانسياق لرغبات النفس وشهواتها .. إنِّ المؤمن إذا اشتغل قلبه بالدُّنيا، وتعلَّقت نفسه بشهواتها، صَعُب عليه التقوِّي في دين الله تعالى، والاجتهاد في طاعته، ولذلك لما وَصَف الله عزَّ وجل نبيَّه يحيى عليه السلام -المأمور بالقوة في الدِّين- وَصَفَه مُثنياً عليه بأنه يَحصُر نفسه ويحبسها عن الشهوات والملذَّات المباحة فضلاً عن المحرَّمة، فقال تعالى مخاطباً زكريا عليه السلام (أنَّ الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمةٍ من الله وسيَّداً وحصوراً ونبياً من الصالحين) (آل عمران:39). (¬2) الأساس السادس: الارتباط بالصالحين والتقوِّي بهم .. ¬

(¬1) انظر: تفسير الطبري (2/ 161). (¬2) انظر: تفسير البغوي (2/ 35).

إنَّ على القويِّ في دين الله عزَّ وجل أن يكون على ارتباطٍ وثيقٍ، واتصالٍ متينٍ، بإخوانه الصالحين المصلحين؛ ليشدُّوا من عزمه، وليصدِّقوه في دعوته، وليزداد بهم رسوخاً وثباتاً على أمره .. ، ولذلك سأل موسى عليه السلام- وهو المأمور بالقوَّة في الدين- ربَّه سبحانه وتعالى أن يُرسل معه أخاه هارون عليه السلام ليزداد به قوَّةً على قوَّته، فقال تعالى- على لسان موسى-: (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً يصدِّقني إني أخاف أن يكذبون (34) قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)) (سور القصص). هذه سته أسس .. أَحْسبُ أنها كفيلة بإذن الله تعالى في أنْ تُحيي فينا معاني القوَّة في الدِّين أخذاً ومدافعة، وتصنع لنا جيلاً يتربَّى على مثل هذا الأمر .. والشواهد على هذه الأسس كثيرة مستفيضة، ولكنِّي رغبت الاقتصار على الاستشهاد بالآيات الواردة في القوَّة والمتعلِّقة بها؛ ليظهر لنا مدى الاتصال بين هذه الأسس وموضوع القوَّة في الدِّين. ولك أن تتأمل معي ما وَرَد في هذه الآية العظيمة وتُقارن بين المأمور به، وشدَّة العقاب المترتِّب على عدم الامتثال .. يقول الله عز وجل -عن بني إسرائيل-: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلَّة وظنُّوا أنَّه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوَّة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) (الأعراف:171) .. قال قتادة رحمه الله في تفسير هذه الآية: "جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري، أو لأرمينَّكم به .. ! "، وقال الحسن البصري رحمه الله: " لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ، فَرَقًا من أن يَسْقُط عليه" (¬1). وختاماً .. إنَّ على القويِّ في دين الله عزَّ وجل أن يتحمَّل كل التَّبِعات التي قد تنشأ من أخذه للدِّين بقوَّة .. فمن طبيعة هذا الدِّين أن المستمسك به يلاقي ما لا يلاقيه غيره من الضعفاء المتنازلين .. وذلك من حكمة الله عزَّ وجل، وهي فتنة يمحِّص الله عزَّ وجل بها عباده وأولياءه .. والله تعالى قادرٌ على نَصْر دينه وإعزاز كلمته دون أدنى جُهْد من البشر، ولكنَّ الأمر وُكِل إليهم للابتلاء والتمحيص، قال الله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض) (محمد:4). وعلينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً: هل نحن ممن يَصْلح أن يكون من هذه الطائفة القويَّة التي تنصر دينها، وتصبر على ما تُبتلى به .. ؟؟ إذا كنَّا نغشى بعض المخالفات الشرعيَّة، ولا نستطيع قيام الليل أو الوتر على الأقل (¬2)، وكلَّما هبَّت ريحُ شبهةٍ أمالتنا .. ! أو شهوةٍ أناختنا .. ! فإن إحياء معاني القوَّة في أنفسنا قبل الآخرين ظاهرُ العُسْر والصعوبة .. ولا تخش على هذا الدِّين، فإنَّ الأقوياء في حَمْله والأخذ به والدفاع عنه لابدَّ من وجودهم في كل زَمَن .. وهذه الأمَّة أمَّة ولود .. فما يضعف قويٌّ إلا ويقوى ضعيف، وما يزلُّ عالم إلا ويرسخ آخر، وما يتساهل داعية إلا ويثبت غيره، فإمَّا أن تتحقق فينا معاني القوَّة في الدِّين أخذاً ومدافعة .. وإمَّا أن تجري علينا سنَّة الاستبدال في قيادة هذا الدِّين والتأثير في الناس. ومن نافلة القول .. الإشارة إلى أن القوَّة في الدِّين لا تتطلَّب عبوساً في الوجه، وضيقاً في الصَّدر، وغلظةً في التعامل، فإنَّ هذا مما يخالف قوَّة الأخلاق عند الطائفة المنصورة، ولنا في سِيَر الأقوياء الأتقياء أسوة حسنة .. رزقنا الله وإيَّاكم القوَّة في دينه .. وثبَّتنا على شرعه وهدي نبيِّه، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ¬

(¬1) انظر: تفسير الطبري (13/ 218 - 219). (¬2) ذكرت هذا الأمر لكون صلاة الوتر من آكد التطوعات وقد اختُلف في وجوبها، ولأن لها علاقة مباشرة بموضوع القوَّة في الدين فقد رُويَ عن عقبة بن عامر - وفي سند الحديث مقال- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر متى توتر؟ قال: أصلي مثنى مثنى ثم أوتر قبل أن أنام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مؤمن حذر"، وقال لعمر بن الخطاب كيف توتر؟ قال: أصلي مثنى مثنى ثم أنام حتى أوتر من آخر الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مؤمن قوي" أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17/ 304)، (ح838).

(ميمري) و (إيباك) .. الأذرعة المتكاملة

(ميمري) و (إيباك) .. الأذرعة المتكاملة د. محمد بن سعود البشر 22/ 3/1431هـ مؤسستان أمريكيتان بالغتا التأثير في الرأي العام النخبوي والشعبي في الولايات المتحدة، هما: مؤسسة ميمري وايباك. تتكاملان في وظائفهما لتحدثا التأثير المطلوب، ومن ثم تحقيق أهداف الدولة الصهيونية. والمتابع لبرامجهما الإعلامية والسياسية يلحظ مدى التكامل الواضح في الغايات والتنسيق في الأهداف لضمان أن يبقى الدعم الأمريكي السياسي والاقتصادي والمعنوي متدفقاً يخدم استراتيجية الدولة اليهودية في المنطقة العربية. تأسست "ميمري MEMRI "، أو معهد الشرق الأوسط لأبحاث الإعلام The Middle East Media Research Institute، عام 1998م. أسسها العقيد ايغال كرمون Yigal Carmon، وهو ضابط استخبارات سابق بالجيش الإسرائيلي من عام 1968م إلى عام 1988م، وعمل بعدها مستشاراً أمنياً لمكافحة الإرهاب لكل من رئيسي الوزراء الإسرائيليين إسحاق شامير وإسحاق رابين. تتخذ المؤسسة من واشنطن العاصمة مقراً لمركزها الرئيس، مع وجود مكاتب فرعية لها في كل من لندن، وروما، والقدس، وبغداد، وشنغهاي، وطوكيو. ومن برامجها الفكرية المهمة ترجمة البحوث إلى اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والأسبانية، والألمانية، والإيطالية، والبولندية، والروسية، والصينية، واليابانية، والعبرية. تزعم المؤسسة في موقعها على شبكة الإنترنت أنها "منظمة مستقلة، غير حزبية، وغير ربحية." وأنها تهدف إلى ردم "الفجوة اللغوية" القائمة بين الغرب والشرق الأوسط من خلال (توفير ترجمات آنية باللغات العربية، والفارسية، والأردية، والتركية، والقيام بإجراء تحليل سياسي، وأيديولوجي، وفكري، واجتماعي، وثقافي وديني للاتجاهات في منطقة الشرق الأوسط.). لكن المتابع لما تقوم به يلحظ أنها تحظى بدعم مادي ومعنوي كبير من جهات عديدة ذات علاقة مباشرة بالسياسة الإسرائيلية في المنطقة، وأنها تسير في الخط المرسوم لها بعناية فائقة وتخطيط محكم لبلوغ الغايات التي تأسست من أجلها وأماني الداعمين والممولين لها. فهي تركز على (20 دولة) في المنطقة، ليس من بينها إسرائيل بطبيعة الحال. هذه الدول هي: أفغانستان، والجزائر، والبحرين، ومصر، وإيران، والعراق، والأردن، والكويت، ولبنان، وليبيا، وباكستان، وقطر، والسعودية، والصومال، والسودان، وسوريا، وتونس، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة، واليمن. ومن ضمن قائمة هذه الدول أشارت المؤسسة إلى أنها تغطي كل ما يتعلق بالفلسطينيين أو الشأن الفلسطيني، كذا دون ذكر لدولة فلسطين. فعندما أشارت إلى الدول المذكورة باللغة الإنجليزية قالت ( Palestinians) !! أي الفلسطينيين، ولا يتوقع المرء من منظمة بهذه الأهداف أن تذكر "فلسطين" كدولة. "ميمري" استفادت من الدعم المادي والمعنوي المقدم لها، ووظفت هذا الدعم في تنفيذ سياساتها وخططها. فعلى الرغم من أنها تستهدف الأخبار والتقارير التي تُظهر صورة العرب والمسلمين في الإطار السلبي دائماً، وملاحقة الأخبار والتقارير التي تؤيد ذلك، وتجاهل أي آراء لا تتفق مع منهجيتها، إلا أنها نجحت في تسخير آلياتها وإمكانياتها لتنفيذ ذلك من خلال المتابعة المستمرة وعلى مدار الساعة لكل ما يخدم توجهاتها. هذه المؤسسة تركز على النشاز الذي ينشر في الصحف العربية والإسلامية ومواقع الانترنت، وخاصة الإسلامية وتجعل منه مادة لتقاريرها التي تقدمها إلى مؤسسات الضغط السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة، ومن أبرزها مؤسسة أيباك.

أيباك، أو لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية American Israel Public Affairs Committee، هي أقوى جمعيات الضغط على أعضاء الكونغرس الأمريكي. تأسست في عهد إدارة الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، وتهدف إلى تحقيق الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني الموجود على أرض فلسطين. عضوية هذه المنظمة لا تقتصر على اليهود وحدهم بل يوجد بها أعضاء ديموقراطيون وجمهوريون بروتستانت وكاثوليك متعاطفون مع اليهود. وظيفة هذه المؤسسة، التي تتكامل فيها مع ميمري، هي العمل على تقوية العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بغية الإبقاء على الدعم الأمريكي القوي للكيان الصهيوني، أيضاً من خلال تقديم المعلومات وتحليل الأخبار والتقارير عن ما يجري في الشرق الأوسط لتكون مصدرا معلوماتيا مهماً لصناع القرار السياسي في الولايات المتحدة ووسائل الإعلام ومراكز البحوث والدراسات الأمريكية، وكثيرا ما تنشر صحف أمريكية مرموقة مثل الواشنطن بوست والنيويورك تايمز ما تنفرد به مؤسسة أيباك من معلومات زودتها بها ميمري. الذي يعنينا هنا من هذه المقدمة كلها أن ميمري تركز مؤخرا على السعودية وما ينشر في وسائل إعلامها من قضايا محلية (الدينية والاجتماعية على وجه الخصوص) وتجعل منه مادة لتشويه صورة المملكة لدى الرأي العام النخبوي في الولايات المتحدة. فقد تتبعت عددا من القضايا التي كانت موضوع نقاش ديني وفكري في صحفنا المحلية أو في بعض ما تنشره المواقع على الانترنت وجعلت منه مادة مشوهة تخدم ادعاءات الصهاينة الأزلية أو اليمين المحافظ في أمريكا عن المملكة ومؤسساتها وشعبها. لا يعني ذلك - بالطبع- أن نتوقف عن حراكنا الإعلامي، لكن هذا الحراك ينبغي أن يستحضر المصلحة الوطنية أولا وقبل كل شي، وأن لا نجعل للعدو منفذاً يدخل علينا منه، من باب (وشهد شاهد من أهلها)، وهذا يتطلب حذرا شديداً من تدويل قضايانا المحلية أيا كان موضوعها. كما أن على مؤسساتنا البحثية المعنية - في الجامعات على وجه الخصوص- أن ترصد ما ينشر عنا في مواقع هاتين المؤسستين لتقدم الحقيقة للباحثين عنها، لا كما تقدمها ميمري أو أيباك. ثم اختم بتساؤل جوهري: ألم يحن الوقت (في زمن التدافع المعلوماتي) لدولة كبيرة بحجم المملكة وما لها من ثقل مؤثر في العالم كله أن تكون فيها مراكز بحوث ودراسات استراتيجية (حكومية أو أهلية) لتدفع عن السعوديين ما ينشر عنهم؟

الباطنية: سلالة الفرس المجوس

الباطنية: سلالة الفرس المجوس بليل عبد الكريم ممَّا تطابَق عليه نقَلَة المقالات قاطِبةً أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسِبٌ إلى ملة، ولا معتقد نحلة معتضِدٍ بنبوَّة، فإنَّ مساقَها ينقاد إلى الانسلال من الدين كما ينسلُّ الخيط من العجين، فالباطنية يُظهِرون من المعتقد ما لا يُبطِنون، ظاهرٌ يقابلون العامة من غيرهم به، وباطنٌ خاص بهم (¬1). وذي فلسفة ذات قِدَم، أصحابها جامعهم طلب الانفلات من ربقة التكاليف وما يلتزم به غيرهم، وهي أسُّ النظرية العلمانية "اللادين"؛ أي: الشريعة دثار، وإسقاط التكاليف شعار. لقد كانت الباطنية - وما زالت - مصدرَ خطرٍ على الإسلام والمسلمين مذ وُجِدت، بعد أن أيقن أعداء الإسلام أن حسم المواجهة مع المسلمين وجهًا لوجهٍ لن يُجدِي شيئًا في تحقيق أهدافهم والوصول لمآربهم؛ ولذلك كانت الحركات الباطنية بعقائدها وفِتَنِها نتيجةً لاتجاه جديد للكيد للمسلمين عن طريق التدثُّر باسمه والتستُّر بحب آل البيت (¬2). أصل الباطنية: يقول الدكتور محمد أحمد الخطيب في الأصل التاريخي للباطنية: الواقع أن مؤرِّخي الفِرَق مختلفون في أصلها ومصدرها؛ فمنهم مَن يُرجِعها إلى المجوس، ومنهم مَن ينسبها إلى صابئة حران، إلاَّ أن هذا الاختلاف يزول عندما نعرف أن الأصول التي يعتمد عليها الباطنية بكلِّ فِرَقِها وطوائفها نابعةٌ من الفلسفة اليونانية التي غزت بأفكارها الكثير من الفرق (¬3). والفلسفة اليونانية الأكثر تأثيرًا هي فلسفة أفلوطين الإشراقية الغنوصية، وفيثاغورس بفلسفته العددية، ويمكن القول بأن منظومة عبد الله بن سبأ هي منظومة غنوصية باطنية، ويرى المؤرِّخون أن (التصوف الإسلامي الحلولي) المتطرِّف ذو طابع غنوصي باطني، كما يُصنَّف بعض غلاة الشيعة ضمن الغنوصيين، ويُصنَّف العلويون (النصيريون) باعتبارهم جماعة إسلامية ذات توجُّه غنوصي (¬4). ¬

(¬1) ممَّن أفردوا مصنفات في الرد على الباطنية من القدامى: - أبو عبد الله بن رزام: "الرد على الإسماعيلية". - سعد بن محمد أبو عثمان العثماني القيرواني النحوي: "الرد على الملحدين". - أبو بكر الباقلاني: "كشف الأسرار وهتك الأستار". - ابن سعيد الإِصْطَخري المعتزلي: كتب ردًّا على الباطنية أهداه للخليفة العباسي القادر. - إسماعيل بن أحمد البسي المعتزلي: "كشف أسرار الباطنية". - ثابت بن أسلم النحوي الشيعي: له مصنف فضَح فيه أسرار الدعوة الإسماعيلية وقبائحها، فاختطفوه إلى مصر؛ حيث صلبوه في حدود عام 460هـ. - أبو الحسين الملطي: "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع". - محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي اليماني: "كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة". وهذا المصنَّف ذو أهمية بالغة وانفراد عن غيره؛ إذ صاحبه من فقهاء السنة الذين عاشروا الباطنية عن قرب، فقد اندسَّ بينهم، واطَّلع على خبايا دعواهم، وأسرار حِيَلِهم، وخبث أساليبهم، وعلم يقين أخبارهم، ثم ألَّف الردَّ عليهم؛ ففقه مكنون صدورهم وباطن عقيدتهم، وليس سامع كمَن رأى. (¬2) "الحركات الباطنية في العالم الإسلامي"؛ محمد أحمد الخطيب، ص7. (¬3) "الحركات الباطنية في العالم الإسلامي"؛ محمد أحمد الخطيب، ص20. "دراسات في الفرق"؛ عبد الله الأمين، ص81. (¬4) والراجح إخراجهم من الفِرَق الإسلامية؛ فهم جماعة كافرة تقول بتأليه علي - رضي الله عنه - وهذا قول أئمَّة السلف - رحمهم الله.

وتُصَنَّف عقيدة الدروز والبهائية ضمن أشكال الغنوص، ولا تزال هناك فرقة دينية في العراق وإيران تُسمَّى المندائيين، وهي فرقة غنوصية يبلغ عدد أفرادها خمسة عشر ألفًا، و"مندائي" هي الكلمة الآرامية لـ"غنوص"، فالمندائي هو العارف؛ وهي مشتقَّة من كلمة "منداء" أو "منداع" بمعنى "معرفة"، وتتضمَّن عقيدتهم التطهُّر في المياه الجارية وشعائر جنائزية مركَّبة، فحينما يموت المندائي يقوم الكاهن بالشعائر اللازمة لإعادة الروح لمسكنها الإلهي، ليتوحَّد الميت مرَّة أخرى مع آدم السري "الإنسان الأزلي"، أو المجد، جسد الإله المقدَّس (¬1). هذا عن أصل الأفكار، أمَّا أصل الدعوة ورأسها فكان من زمرة الشيعة، فالباطنية ظاهرة شاعَتْ بين الطوائف الفارسية الشيعية: " ... نشَأَت محاولة هدم الإسلام من الداخل؛ عن طريق ابتداع مناهج الباطنية في تأويل الشريعة على نحوٍ يؤدِّي إلى نسخها، والاستعاضة عنها بخليطٍ عجيب من الحكمة، يجمع بين خرافات الفرس، ووثنية الإغريق، وعقائد اليهود الذين حرَّفوا دينهم من قبل، فظهرت بصيغة إسلامية خادعة؛ كفكرة النور المحمدي، وعصمة الأئمَّة، ومعجزاتهم، والغيبة، والرجعة، والحلول، والتجسيم، والتأويل والتشبيه، وغير ذلك من الأفكار والعقائد ... " (¬2). وعلى مَن يفرك فكر الباطنية أن يلمَّ بنشأة الشيعة؛ إذ التشيُّع كان ثوبًا يتستَّر وراءه كلُّ مَن يبغي بذر الفتن ضدَّ المسلمين، ومأوى يلجأ إليه كلُّ مَن رام هدم عُرَى الإسلام؛ بحَشْوِ البِدَع بآراء آبائه وأجداده من يهودية ونصرانية وهندوسية وفيثاغورسية وأفلاطونية وأفلوطينية حديثة. فقد ظهر بعد عبد الله بن سبأ اليهودي اليمني بأفكاره الحلولية أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية زعيم الغلاة الشيعة، فقال بالظاهر والباطن، وبعده بيان بن سمعان الذي أعلن ألوهية علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - وقال بتناسخ الأرواح، ونسخ الشريعة المحمدية، ثم ظهر المغيرة بن سعيد العجلي الذي اشتهَر بعلوم وأسرار العدد (7)، ثم أبو منصور العجلي الذي رفع الأئمَّة الشيعة إلى مصافِّ الألوهية، ثم جاء أبو الخطاب الأسدي شيخ الخطَّابية ومنبت الإسماعيلية وادَّعى الإمامة ثم النبوَّة، ثم أسقط التكاليف الشرعية، وتخرَّج على يديه زعماء الباطنية وأهمهم: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق رأس الإسماعيلية ومنهم المباركية، وميمون القدَّاح رأس الميمونية والتي توالَد منها القرامطة والعبيدية والنزارية والحشاشون والدروز. وتلامذة أبي الخطاب بعد هلاكه توجَّهوا لوجهتين؛ فميمون القدَّاح وابنه عبد الله اتبعَا المبارك - مولى لإسماعيل بن جعفر - في القول بإمامة محمد بن إسماعيل، وأسسَا بناءً على ذلك الطائفة الإسماعيلية أو المباركية، أمَّا المفضل الجعفي فقد تظاهَر بالعودة لفرقة موسى الكاظم الاثني عشرية، وبثَّ فيها أفكار الخطابية، لتفرز النصيرية. ولم يظهر النشاط السياسي للباطنية بشكلٍ منظَّم ومرسوم إلاَّ على يد ميمون القدَّاح، الذي أجمعت كل كتب الفِرَق والملل على أن هذا الرجل هو المؤسس الحقيقي لهذه الطائفة، وليس معنى هذا أن مبادئ الباطنية لم تكن معروفة من قبلُ، وإنما يرجع إلى ميمون القدَّاح (¬3) ¬

(¬1) "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية": عبد الوهاب المسيري، ج13، ص 86. (¬2) "دراسات في الفلسفة"؛ محمود قاسم، ص254. (¬3) وإليه تُنسَب الفرقة الميمونية التي أظهرت اتباع أبي الخطاب "الخطابية"، وزعمت أن العمل بظواهر الكتاب والسنة حرام، وجحَدت المعاد، وكان ميمون وابنه من الديصانية الثاوية الفارسية. "الفهرست"؛ ابن النديم، ص (264، 265).

دور تنظيم هذه الفرقة، وتكوين وتعليم دعاتها، وإرسالهم إلى الأقطار المختلفة لينشروا مبادئهم وتعاليمهم بين الناس (¬1). يقول العلامة محمد بن مالك الحمادي اليماني: "اعلموا - يا إخواني في الإسلام - أن لكلِّ شيء من أسباب الخير والشر، والنفع والضر، والداء والدواء - أصولاً، وللأصول فروعًا، وأصل هذه الدعوة الملعونة التي استولى بها الشيطان على أهل الكفر والشقوة ظهورُ عبد الله بن ميمون القدَّاح (¬2) في الكوفة، وما كان له من الأخبار المعروفة، والمنكرات المشهورة ودخوله في طرق الفلسفة، واستعماله كتب الزخرفة، وتمشيته إياها على الطغام، ومكيدته لأهل الإسلام. فنصب للمسلمين الحبائل، وبغى لهم الغوائل، ولبس الحق بالباطل، ومكر أولئك هو يبور، وجعل لكلِّ آية من كتاب الله تفسيرًا، ولكلِّ حديث تأويلاً، وزخرف الأقوال، وضرب الأمثال، وجعل لآي القرآن شكلاً يوازيه، ومثلاً يضاهيه، وكان الملعون عارفًا بالنجوم، معطلاً لجميع العلوم؛ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] " (¬3). انضمَّ عبد الله بن ميمون القداح إلى حمدان بن الأشعث الملقَّب بقرمط، الذي نشط وصار له أتباع ليعلن بعدها عن ثورته بسواد الكوفة عام 278هـ، ويسيطِر على عاصمة البحرين "هجر" لتقيم بها طائفة القرامطة، ثم أرسل الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح الحسينَ بن فرج بن حوشب وعليَّ بن الفضل إلى اليمن فأقامَا دولة للإسماعيلية هناك، وأرسل محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح - أخو الحسين - أبا عبد الله الشيعي لبلاد شمال إفريقيا؛ فأسَّس للدولة العبيدية (الفاطمية) (¬4) بالجزائر (¬5)، أثناء ذاك تألب القرامطة على الإمام الإسماعيلي، وأرادوا القضاء على الإسماعيلية في الشام لما شكُّوا في نسبة الإمامة لهم، وعلموا أن الإمام الدعيّ (عبيد الله المهدي) من ولد ميمون القدَّاح، وهو سعيد بن الحسين بن عبد الله بن ميمون القدَّاح المتسمِّي بعبيد الله، فهرب عبيد الله إلى الرملة، ثم مصر، ثم إلى الجزائر، وهنالك أعلن عن نفسه ودعوته بعد أن كان متسترًا، ثم أعلن قيام الدولة العبيدية عام 297هـ وسموها بالخلافة الفاطمية (¬6)، بقيت الدولة بالجزائر، وتولى الحكم عبيد الله (ت322)، ثم القائم بأمر الله (ت334)، ثم المنصور بالله (ت341)، بعدها المعز لدين الله الذي غزا مصر سنة 358 هـ، واتَّخذ القاهرة عاصمة له. ¬

(¬1) "مشكاة الأنوار": ص 35. (¬2) كان عالما بجميع الشرائع والسنن والمذاهب، وقد وضع سبع دعوات يتدرج الإنسان فيها حتى ينحلَّ عن الأديان كلها، ويصير معطلاً إباحيًّا لا يرجو ثوابًا ولا عقابًا، حتى اشتهر وصار له دعاة. "الخطط"؛ المقريزي، ج2، ص150. (¬3) "كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة"؛ محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي اليماني، ص16. (¬4) "خطط المقريزي": ج2، ص150. (¬5) وذلك بقبائل كتامة في مدينة "فرجيوة" التابعة لولاية "ميلة"، الواقعة شرق العاصمة الجزائرية وغرب عاصمة الشرق الجزائري "قسنطينة". (¬6) "تاريخ الدولة الفاطمية"؛ حسن إبراهيم حسن، ص53، 56.

ثم تلاه العزيز 365 هـ، ثم الحاكم بأمر الله 386 هـ، ومنه انشقَّ مذهب من الإسماعيلية الفرس نادَى بألوهية الحاكم بأمر الله يسمون بالحاكمية (¬1)، ثم خلف المستنصر، وبعد هلاكه 487 هـ انقسمت الإسماعيلية إلى طائفتين: الأولى نادَتْ بإمامة ابنه الكبير نزار، وعُرِفوا بالإسماعيلية النزارية وهم الأغاخانية بالهند، ومن النزارية خرج الحشَّاشون، والطائفة الثانية نادَتْ للمستعلي وهي الإسماعيلية المستعلية، والمعروفة بالبهرة في الهند، والطيبة في اليمن (¬2). سبب التسمية: لُقِّبوا بها - الباطنية - لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهِم عند الجهَّال الأغبياء صورًا جليَّة، وهي عند العقلاء الأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معيَّنة، وأن مَن تقاعَد عقله عن الغوص في الخفايا والأسرار، والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارع إلى الاغترار - كان تحت الأواصر والأغلال، معنيًّا بالأوزار والأثقال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية. فإن مَن ارتقى إلى علم الباطن انحطَّ عنه التكليف، واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله - تعالى -: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وربما موَّهوا بالاستشهاد بقولهم: إن الجهَّال المنكرين للباطن هم الذين أُرِيدوا بقوله - تعالى -: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع (¬3). نظامهم الدعوي: اتَّخذ هؤلاء الأدعياء التلفُّع بالتشيع وسيلة للحَشْدِ، وتأليف جمعيات سرية تسعى في نشر مذهب الإباحية المزدكية المجوسية والإلحاد الفلسفي. والأصل في النشاط الباطني أن دعاته يدعون تحت بريق الإثارة وستار السرية، بدعوى أن دعواهم لا يحملها إلا ملَك مقرَّب أو نبي مرسل، أو مَن امتحن الله قلبه بالإيمان (¬4). ولمَّا كانت السرية ضرورةً تنظيميَّةً للأعمال الباطنية، خاصة في مراحل التحريف والتجنيد، فإنه من اليسير على الباطنيين أن يجعلوا من الممارسات الباطنية السرية هي الأخرى دينًا، حتى أرجعوا الأصل في التضليل التنظيمي للباطنية والمسمى "التقيَّة" إلى جعفر الصادق، فيقولون: هو القائل في وجوب التقية وضرورة العمل بها: "التقية ديني ودين آبائي وأجدادي، ومَن لا تقية له لا دين له" (¬5). ¬

(¬1) ومنهم طائفة الدروز، ومن أتباع هذا المذهب ابن سينا وأبوه. (¬2) "طائفة الإسماعيلية"؛ محمد كامل حسين، ص 41، 42. (¬3) "فضائح الباطنية"؛ أبو حامد الغزالي، ص11 - 12. (¬4) "أربع رسائل إسماعيلية"؛ عارف تامر، ص (16 - 17). (¬5) المرجع نفسه: ص34.

وكيما يتمكَّن دعاتهم من نشر مقالاتهم (¬1) لجؤوا للرمزية في العمل الباطني (¬2)، والتظاهر بالورَع والزهد أمام العامة ومَن لا يدري خفايا منكرهم، خاصة أيام المرحلة السرية، فيبدون دماثة الأخلاق والتعبُّد والتقشُّف، والتحسُّر على ما آلَ إليه المسلمون، حتى يكثر من حولهم الأتباع فيعلنون الدعوة للإمام المستتر المنجِي من الغم نسل آل البيت، وعلى يديه الفرج وقيام الشريعة، فما اشتدَّ عودهم حتى يجهروا بالإباحية؛ فيكثر من حولهم طغام الناس وأهل الفسق كما يتكاثر الذباب على القذارة، فلا وجدوا حرامًا إلا انتهكوه، ولا كبائر إلا صيَّروها من الشعائر، فالنفاق عندهم تسعة أعشار الدين، وزنا المرأة مع محارمها من كمال إيمانها، ورضا الزوج بأن يزني جاره بزوجته أمامه ثم يبصق عليه ويصفعه بعد أن يقضي وطَرَه منها - من كمال الصبر، والخمر من أقدس المشروب، والصلاة والزكاة والصيام تسقط عنهم، فكانوا من أكفر خلق الله. طوائف الباطنية: الإسماعيلية: وهم رأس الباطنية؛ نسبة إلى إسماعيل بن جعفر، وهم من غلاة الإمامية الشيعة، ويطلق عليهم اسم السبعية والمباركية والباطنية. المباركية: من أسماء الإسماعيلية الباطنية، قالت: إن جعفر نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده، فلمَّا مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه نصب إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل، ونسبتهم إلى مولى لإسماعيل يقال له: المبارك. السبعية: من أسماء الإسماعيلية، يعتقدون أن أدوار الإمامة سبعة، وأكبرهم يثبتون له النبوة التي تستمرُّ في عقبه، فبين كل نبي ونبي سبعةُ أئمَّة، وتدابير العالم السفلي عندهم منوطة بالكواكب السبعة التي أعلاها زحل، وهذا مذهب الثنوية. القرامطة: نسبة لحمدان بن الأشعث الملقب بقرمط؛ إذ كان به قِصَر فصار ناقمًا على مَن حوله، متأففًا ممَّن يحيطون به، حاقدًا على الناس أجمعين (¬3)، وكان "أكار" أبقار في القرية المعروفة بـ (قس بهرام)، وكان داهية، لقيه عبد الله بن ميمون القداح فدعاه لما هو عليه فأجابه، ثم نزل بموضع النهرين بالكوفة، وتظاهَر بالزهد والتقشُّف والتديُّن (¬4)، وأقام على الدعاية حتى اجتمع عليه خلق كثير، فجهَر بمذهبه، فألقي عليه القبض؛ لكنه نجا بمساعدة جارية، فافتتن الناس به، وظنوا ذاك من الكرامات، فتكاثَر عليه الأتباع ليعلن ثورته عام 278م. فقتلوا الحجاج، ومنعوا الحج ثلاث سنين، وسرقوا الحجر الأسود، وادَّعى رأسهم الألوهية، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وأباحوا الزِّنا والانحلال الخلقي، وأبطلوا الصلاة والزكاة والصيام، وأشاعوا المال والنساء بينهم، فهن بينهم دُولة من واحد لآخر، وهم من أكفر خلق الله. ¬

(¬1) مصطلح "المقالة" في علم العقائد لدى القدامى يُطلَق على مصطلح "النظرية" حديثًا. (¬2) "العقائد الباطنية وحكم الإسلام فيها"؛ صابر طعيمة، ص138. (¬3) "القرامطة"؛ أحمد شاكر، ص5. (¬4) وذي قاعدة في الدعوة لدى كل الشيعة قديمًا وحديثًا، ولك التأمُّل في كل الحركات التي أنشؤوها، ما وجدت فيهم رأس دعوة إلا تظاهَر بالتدين والورع، فما اشتدَّ عوده إلا وجهر بالإباحية، وفي عصرنا غالب مَن تشيَّع من أهل السنة - وهم نزر قليل - إن رووا لك قصة تشيعهم تجدهم أُخِذوا من ذا الباب: دماثة أخلاق الشيعي، زهده في الدنيا، تألمه وحسرته على ما يلحق المسلمين من هوان، تشكيكه في الروايات التاريخية التي تفرِّق بين المسلمين، ثم إن اطمئن للمدعو طرق له باب آل البيت، فإن فتح الباب سحبه لفسحة الخلافة والولاية والوصية، ثم ولج به قاع التشيع، وهنا قلَّ مَن دخل ثم خرج.

العُبَيدية: أتباع عبيد الله من ولد ميمون القداح، وهو المدعى المهدي، ومن نسلهم أدعياء الدولة العبيدية، المنسوبة زورًا "الفاطمية"، وأهل الشرف يُنكِرون ذلك؛ فإنهم لم يجدوا لهم في الشرف نسبًا، وقد زعموا أنهم من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وحاشَ لله؛ ما كان لمحمد بن إسماعيل من ولد، ولا عرف ذلك أحد من الناس، بل هم {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] (¬1). التعليمية: من الإسماعيلية، أبطلوا العقول وقالوا بتعاليم الإمام المعصومة. الحشاشون: هم طائفة إسماعيلية نزارية انتشروا بالشام وبلاد فارس والمشرق، ومن أبرز شخصياتهم الحسن بن الصباح (ت1124م)، وهو فارسي الأصل، يدين بالولاء للإمام المستنصر، قام بالدعوة في بلاد فارس للإمام المستور، ثم استولى على قلعة أَلْمُوت، وأسَّس الدولة الإسماعيلية النزارية الشرقية، وهم الذين عُرِفوا بالحشاشين؛ لإفراطهم في تدخين الحشيش، وقد أرسل بعض رجاله إلى مصر لقتل الإمام الآمر بن المستعلي، فقتلوه مع ولديه عام 525هـ. يعتبر الحشاشون أساتذة منظمات المرتزقة العالمية، ومصدر إلهام لأنظمة المخابرات في تشكيل فِرَق العمليات القذرة، امتاز الحشاشون بولائهم المطلق لشيخ الجبل؛ نظرًا للمنهج المتبع في تدريبهم، والنظام الصارم والدقيق في تعليمهم، وحسن اختيار الأتباع، ففي القلعة كان يُربَّى العديد من أطفال الفلاحين الفقراء واليتامى؛ حيث يأخذهم حسن الصباح منذ طفولتهم المبكِّرة، ويعلمهم لغات مختلفة كالعربية واللاتينية واليونانية والفارسية والتركية والكردية ... وغيرها، ويلقنون ثقافة الشعوب والتجمعات الكبرى، وأنظمتها وعاداتها، حضرها وبدوها من مأكل ومشرب ولباس، ويلقنون من صغرهم إلى رجولتهم الطاعة التامَّة لشيخ الجبل سيد القلعة، ويوعدون بالمسرَّات وأن الجنة بيد شيخ الجبل فهو المسيطر على الآلهة ... وأتباع شيخ الجبل يسمون الفداوية (¬2). مراتب الباطنية: هناك بعض التفاوت في المراتب بين الطوائف الباطنية؛ وذاك للطور التنظيمي الذي يقع لها نتيجة الخبرة والاحتكاك مع المجتمعات المتنوِّعة، فمراتب الدعاة في الحركة الإسماعيلية تبدأ بمرتبة الإمام، ثم الباب، الحجة، داعي الدعاة، داعي البلاغ، النقيب، المأذون، الداعي المحدود، الجناح الأيمن، الجناح الأيسر، المكاسر، المستجيب (¬3). أمَّا الحشاشون وهم من نتاج الدولة العُبَيدية، فمراتبهم سباعية؛ وهي كالآتي: المرتبة الأولى: مرتبة رئيس الدعوة أو داعي الدعاة، وكان أيضًا يسمى نائب الإمام المستور في بلاد الشام سمي "شيخ الجبل". المرتبة الثانية: كبار الدعاة. المرتبة الثالثة: الدعاة. المرتبة الرابعة: الرفاق. المرتبة الخامسة: الضراوية، أو الفداوية، وهم الفئة المسلَّحة في الدعوة، التي يشترط فيها التفاني والتضحية في خدمة الدعوة، حتى ولو أدَّى ذلك إلى الموت الذي اعتبروه أشرف نهاية؛ لأنه يضمن لهم السعادة في جنة الإمام. المرتبة السادسة: اللاصقون. المرتبة السابعة: المستجيبون، وهم عامة الناس المؤيدين للدعوة. ¬

(¬1) "كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة"؛ محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي اليمني. ص19. وذا الكتاب من أهم ما ألف في الرد على الباطنية؛ إذ اندسَّ صاحب الكتاب بينهم وعاشرهم فترة، حتى اطلع على مكنون أسرارهم، ثم فضحهم بعدها. (¬2) "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة": (1/ 240). - "مؤتمر الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي قديمًا وحديثًا": كلية الآداب، جامعة الزقازيق، مج 1، ص10، 1990م. (¬3) "تاريخ الدعوة الإسماعيلية"؛ مصطفى غالب، ص (28، 29، 33، 34).

الخرمية: و"خرم" لفظ أعجمي معناه: الشيء المستلذ المستطاب، حاصل مذهبهم إسقاط التكاليف وطلب المحرمات، وأصلهم من المجوس المزدكية أهل الإباحية، ويسمون "خرمدينية" بالفارسية. البابكية: أصحاب بابك الخرمي، خرج في جبال أذربيجان أيام المعتصم، كان ملكهم قبل الإسلام شروين، يزعمون أنه خيرٌ من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولهم ليلة يختلط الرجال فيها مع النساء ويطفئون الأنوار، ويهمُّون بالنساء، فمَن ظفر بواحدة فهي له (¬1). ونحَت إلى المذاهب الإباحية خاصة باستحلال الزِّنا واللواط، ونكاح المحارم، وترك العبادات، وتشريع الكذب وفرض النفاق، وبناء المنظمات السرية، والقول بوجود إلهين اثنين، وإنكار البعث والحساب والعقاب، والجنة هي نعيم الدنيا، والنار هي التكاليف الشرعية. المحمرة: من أتباع البابكية، سموا بذاك لصبغهم ثيابهم بالأحمر أيام بابك. الدروز: طائفة باطنية انشقَّت عن الإسماعيلية بالدولة العبيدية، نسبتها لمحمد بن إسماعيل الدرزي؛ من دعاة الحاكم بأمر الله العبيدي، وعقيدتهم تقوم على تأليه الحاكم بأمر الله، فقد تولى الحكم صبيًّا تحت ثلاثة أوصياء، وما أنْ شبَّ حتى قتل أحد الثلاثة، ثم راح يقتل في كبار الدولة والكَتَبَة والخدم والعامة، ويصدر قوانين غريبة ثم يلغيها، وجعل الناس يشتغلون بالليل وينامون بالنهار، كل ذلك ليعلن الربوبية فيما بعد، فأنشأ لذلك مركزًا لإعداد الدعاة الإسماعيلية أسماه (دار الحكمة)، وللاسم مغزى فلسفي حشد للمركز فلاسفة الإسماعيلية الملاحدة من أقطار الدنيا (¬2)، فزيَّنوا له فكرة الألوهية التي تختلج بنفسه، فاستخفَّ قومه فأطاعوه، وكانوا قومًا فاسقين، فتسمَّى بالحاكم بأمره، "وأمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفًا إعظامًا لذكره، واحترامًا لاسمه ... وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خرُّوا سجدًا، حتى إنه يسجد بسجودهم مَن في الأسواق وغيرهم، وكان جبارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، كثير التلوُّن في أقواله وأفعاله" (¬3)، ونشر جواسيس من النساء في دور الناس ليعلم مَن آمَن به ممَّن هو مستخفٌّ بالليل سارب بالنهار يكتم إسلامه. ومشروعه الذي حاكَه دهاقنة الإسماعيلية في مركز بحثهم (دار الحكمة)، ووضعوا له التشريعات - صار مذهبًا ينتحل خلاصته طائفة الدروز. ¬

(¬1) هذه الليلة تقوم بها كافة الطوائف الباطنية في اليمن والبحرين والشام وإيران والعراق والهند، وبالطريقة نفسها كما يفعلها المزدكية الفرس سابقًا، وعبَدَة الشيطان في عصرنا. (¬2) "الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية"؛ محمد عبد الله عدنان، ص164. (¬3) "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة"؛ السيوطي، ج1، ص601.

النصيرية: نسبة لمحمد بن نصير النميري (ت270هـ)، وزعَم أنه الباب للإمام الحسن العسكري (230 - 260هـ)، فتبعه طائفة من الناس قالوا بألوهية علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - وتناسخ الأرواح، والتأويل بالباطن، وديانتهم مزيج من الوثنية الآسيوية القديمة والنصرانية والإسلام، وعقائدهم من الأسرار التي لا تُباح حتى لنسائهم، أمَّا الرجال حتى يبلغ الثامنة عشرة بعد عِدَّة جلسات سرية على يد شيخ واحد، يرتفع فيها من درجةٍ لأعلاها، وهم يبيحون الزِّنا بنساء بعضهم البعض، والخمر عندهم معظمة ومقدسة، ولهم ثالوث على ثالوث النصارى (ع- م- س)؛ أي: علي ومحمد وسلمان الفارسي، فعلي - رضي الله عنه - هو الذات الإلهية، محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - النبي الناطق والحجاب والاسم، وسلمان الفارسي - رضي الله عنه - هو الباب؛ أي: المرجع الذي خلقه النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - والباب هو الذي خلق الأيتام الخمسة الذين بيدهم مقاليد السموات والأرض. بعض رؤوس الفرق تغيَّر اسمها بنسبتها للداعي الذي عاوَد نشرها في أرض مغايرة لمنبتها، أو لانشقاقها عن الأصل الذي تتلوه حول إمامة إسماعيلي معين، كما وقع في الهند وباكستان وأذربيجان، ومن الباطنية المعاصرة القاديانية والأغاخانية، البهرة، الداودية، العلوية، الناجوشية، والبارسية، وكلها في الهند، والطيبية والصليحية والسليمانية باليمن، والبابية والبهائية بالشام. وكلها تنتسب في عقائدها للإسماعيلية مع شيء من اختلاف التنوُّع، وإلا فأصولها كلها باطنية ملحدة إباحية. وما أحصي هنا منها مجرَّد رؤوس الطوائف، والتي ستتشعَّب كالفطريات إلى طوائف ومنظَّمات وحركات سرية، حصرها عدًّا يُتِمُّ مصنَّفًا مفردًا. حيلهم في الدعوة لمذهبهم: لطرقهم السرية حِيَل في الدعوة تقرب حِيَل الباطنية الشيعة؛ "وفي الاطِّلاع على هذه الحِيَل فوائد جمَّة لجماهير الأمة، وهاك تفصيلَ حيلهم (¬1). 1 - التفرُّس: يميِّز الداعي مَن يمكن استدراجه، وله القدرة على الإقناع بأن للنصوص ظاهرًا وباطنًا، وأن يأتي كل واحد بما يوافق مزاجه وعقله. 2 - التأنيس: يجتهد الداعي في التقرُّب من المدعو، والتنسُّك والتعبُّد أمامه، والتبشير بقرب الفرج. 3 - التشكيك: يجتهد الداعي في تغيير معتَقَد المدعو المستجيب، بالأسئلة عن الحكمة من الشرائع، وغوامض المسائل، والمتشابه، وأسرار الأرقام في آي القرآن. 4 - التعليق: بطيِّ سرِّ الشكوك المثارة، والإيهام بكتمان حقيقتها عن الغير، فلا بُدَّ من عهود توثيق للمريد كيما يطالع بها، ثم يترك معلقًا. 5 - الربط: بالأيمان المغلَّظة، والجهود المؤكدة، (لدرجة الإرهاب الفكري)، فلا يجسر على المخالفة. 6 - التدليس: بالتدرُّج في بثِّ الأسرار - بعد الربط - فيعرض عليه المذهب شيئًا فشيئًا، ويُوهِم أن لهم أتباعًا كُثُر لا يمكن اطِّلاعهم عليهم كيما يستأنس، وقد يسمون له بعض المرموقين من أهل العلم أو السلطان، لكن في بلاد بعيدة لا يمكنه مراجعتهم لبعدهم. 7 - التلبيس: بالاتِّفاق على بعض القواعد والمسلَّمات البديهية، ثم يستدرج إلى نتائج باطلة، لا يعي بطلانها لتسليمه القياد للداعي. 8 - الخلع والسلخ: الخلع من المجتمع باتباعه أوامر العمل، أمَّا السلخ فمن الدين باتباعه لفلسفة المذهب. عقائد الباطنية: ¬

(¬1) "فضائح الباطنية"؛ أبو حامد الغزالي، مع التصرف.

أوَّل حركة باطنية إسماعيلية لإقامة دولة لها كانت باليمن على يد الحسن بن فرج، الملقَّب بالمنصور، مع علي بن الفضل، وبعد أن قوي عودهما بدأ الجهر بالمعتقدات، فقد أحلُّوا الخمور والزِّنا واللواط ونكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات، وأسقطوا الصلوات، وأبطلوا الصيام وجميع المحرَّمات، ولخَّص ذاك علي بن الفضل في أبيات: خُذِي الدُّفَّ يَا هَذِهِ وَالْعَبِي وَغَنِّي هَزَارَيْكِ ثُمَّ اطْرِبِي تَوَلَّى نَبِيُّ بَنِي هَاشِمٍ وَهَذَا نَبِيُّ بَنِي يَعْرُبِ لِكُلِّ نَبِيٍّ مَضَى شَرْعُهُ وَهَذِي شَرَائِعُ هَذَا النَّبِي فَقَدْ حَطَّ عَنَّا فُرُوضَ الصَّلاَةِ وَحَطَّ الصِّيَامَ فَلَمْ يُتْعِبِ إِذَا النَّاسُ صَلَّوْا فَلاَ تَنْهَضِي وَإِنْ هُمُ صَامُوا كُلِي وَاشْرَبِي وَلاَ تَطْلُبِي السَّعْيَ عِنْدَ الصَّفَا وَلاَ زَوْرَةَ الْقَبْرِ فِي يَثْرِبِ وَلاَ تَمْنَعِي نَفْسَكِ الْمُعْرِسِينَ مِنَ الأَقْرَبِينَ وَمِنْ أَجْنَبِي فَكَيْفَ حَلَلْتِ لِهَذَا الْغَرِيبِ وَصِرْتِ مُحَرَّمَةً لِلأَبِ أَلَيْسَ الْغِرَاسُ لِمَنْ رَبُّهُ وَرَوَّاهُ فِي الزَّمَنِ الْمُجْدِبِ وَمَا الْخَمْرُ إِلاَّ كَمَاءِ السَّمَاءِ مُحَلٌّ فَقُدِّسْتَ مِنْ مَذْهَبِ (¬1) وخلال سنوات الدولة الإسماعيلية باليمن تمكَّن دعاة الإسماعيلية من إنشاء حركة لهم في سواد الكوفة والبحرين عُرِفت بالقرامطة سنة 278هـ، ثم انطلقوا منها للبطش بالحجاج حيث عاثوا في الحرم فسادًا وقتلوا خلقًا كثيرًا، وسرقوا الحجر الأسود إلى عاصمتهم، وروَّعوا الآمنين (¬2). من دعاوى الباطنية ألوهية أئمَّتها؛ فكل رأس دعوة يدَّعي المشيخة، ثم الإمامة، ثم النبوَّة، ثم الألوهية؛ وهذا مبني على نظرية الارتقاء الحلولي الصوفي الفلسفي؛ أي: إن بمقدرة الإنسان أن يرتقي بالتأمل أو العرفان الروحي الصوفي من درجةٍ لأعلى حتى يحاكي الأنبياء، وقد يعلوهم حتى يتوحَّد مع الذات الإلهية، وهو ما يُعرَف في الديانة البراهمية بالنيرفانا، وفي التراث الغنوصي الإشراق، وفي التراث الباطني بالاتحاد؛ أي: الاتحاد بين روح العارف والذات الإلهية، وهي عملية عكسية لنظرية الحلول القائلة بحلول الذات الإلهية في أجسام البشر من المعظمين، كما قالت السبئية بحلول الذات الإلهية في الأنبياء - عليهم السلام - ثم في علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - وهو قول النصيرية العلويين بسوريا. وقمَّة تطوُّر النظريتين القول بوحدة الوجود؛ أي: إن الذات الإلهية حالَّة في الوجود، بمعنى أوضح: كل ما في الكون هو الذات الإلهية، وبمعنى أقرب: القول بأن الله في كل مكان. ومن دعاة نظرية وحدة الوجود محي الدين بن عربي الأندلسي، وسيلقي بظلال ضلاله على الطريقة العدوية الصوفية، التي سيتحوَّل أتباعها إلى اليزيدية عبَدَة الشيطان. الإسماعلية من المعطلة؛ ينفون الصفات والأسماء عن الله - تعالى - مطلقًا " ... فلا يُقال عليه: حيٌّ، ولا قادر، ولا عالم، ولا عاقل، ولا كامل، ولا تامّ، ولا فاعل؛ لأنه المبدِع الحي القادر العالم التام الكامل الفاعل، ولا يُقال: له ذات؛ لأن كل ذات حاملة للصفات ... " (¬3)، فتوحيد الله - تعالى - عندهم بمعرفة حدوده، وتنزيهه بنفي الصفات والأسماء عنه، وذا لب فلسفة أفلوطين الحديثة، بل عينها. ¬

(¬1) "تاريخ الفكر الإسلامي في اليمن"؛ أحمد شرف الدين، ص91. (¬2) وأعادها أذنابهم من أتباع الثورة الخمينية في عصرنا، وانتهكوا حرمة مكة، وروَّعوا حجاج بيت الله الحرام. (¬3) "كنز الولد"؛ إبراهيم الحامدي، ص 13، 14.

أمَّا نظرية الخلق فهي نظرية الفيض التي تجدها عند الفارابي وابن سينا، وكلاهما من الإسماعيلية، وهذه النظرية لأفلوطين، وهي مركَّبة من خرافات عبَدَة الكواكب والنجوم، ولها امتداد عند البابليين والكلدانيين والكهنة الفراعنة، والقابالاه اليهودية في "نظرية الفوضى الخلاَّقة"، إلا أن تشقيق الكلام وزخرفته حولها (فلسفة!)، فهم يُطلِقون على الله اسم "العقل الأول" و"المبدع" و"العقل الكلي" و"النفس الكلية"، ولك أن تعجب! يصفونه بما لم يثبت لا في الكتاب ولا في السنة، وينفون عنه ما ثبت بالنص القطعي (¬1). عمل الإسماعيلية إلى التوفيق والتلفيق بين الأديان، وهم من أكبر وأنشط الدعاة لنظرية توحيد الأديان، وهي ذات جذور فلسفية بغية هدم النبوَّات ليصبح الفلاسفة هم مَن يشرعون للناس عقائدهم، كما في "الجمهورية"؛ لأفلاطون، وما حاكَاه فيه الفارابي في كتاب "المدينة الفاضلة"؛ فقد جعل بإمكان الحكيم (الفيلسوف) أن يرتقي على النبي، بل هو عنده أرقى؛ إذ النبي يعلم بواسطة، والفيلسوف بجهده الفكري وملكته العقلية، وعنهم أخذ فرسان المعبد الفكرة ليضموها إلى نشاط الماسونية العالمية أكبر راعي سري وعلني بالنشاطات الاجتماعية والنوادي لدعوة التقريب بين الأديان، والبروتستانتية النصرانية أكبر راعي للفكرة من الكنائس، وكل ذاك بغية محو الأديان، وهدم الوحي، والاستعاضة بالتشريع الوضعي للفلاسفة والمفكرين ... وهم ملاحدة وضعوا العمائم على رؤوسهم أو كانوا حاسري الرؤوس. وكمثال على التلفيق بين الإسلام والنصرانية يقول الشيعي السجستاني: "إن الشهادة مبنية على النفي والإثبات، فالابتداء بالنفي والانتهاء إلى الإثبات، وكذلك الصليب خشبتان: خشبة ثابتة لذاتها، وخشبة أخرى ليس لها ثبات إلا بثبات الأخرى، والشهادة أربع كلمات، كذلك الصليب له أربعة أطراف، فالطرف الذي هو ثابت في الأرض منزلته منزلة صاحب التأويل الذي تستقرُّ عليه نفوس المرتادين، والطرف الذي يقابله علوًّا في الجو، منزلته منزلة صاحب التأييد الذي عليه تستقرُّ نفوس المؤيِّدين، والطرفان اللذان في الوسط يَمنة ويسرة دليل على التالي والناطق، اللذين أحدهما صاحب التركيب، والآخر صاحب التأليف، أحدهما مقابل الآخر، والطرف القائم دليل على السابق الممد لجميع الحروف، والشهادة سبعة فصول، كذلك الصليب أربع زوايا وثلاث نهايات، وللزوايا الأربع والنهايات الثلاث دليل على الأئمَّة السبعة في أدوارهم، كما دلَّت الفصول السبعة في الشهادة على أئمَّة دور ناطقًا - عليه السلام - وكل طرف منها له ثلاثة أطراف، تكون الجملة اثني عشر، كذلك الشهادة اثنا عشر حرفًا ... وكما أن الشهادة إنما تكمل عند اقترانها بمحمد - صلى الله عليه وآله - كذلك الصليب إنما شرف بعد أن وجد عليه صاحب الدور" (¬2). الإسماعيلية يبطلون معجزات الأنبياء، وينكرون النبوَّات، لكن ليس بالتصريح بل بتأويلات ملتوية لقصص الأنبياء، مع تجريد النبي من أيِّ معجزة مادية، والنبوَّة عنده دور من الوحي؛ لذا هي لم تنقطع بل تستمرُّ في الأوصياء والأئمَّة، وبين كل نبي ونبي أئمة ستة، السابع فيهم هو النبي، وذا الدور مستمرٌّ من لدن آدم إلى القيامة، وللإمام أن ينسخ شريعة من قبله، ويسمون الأنبياء بالنطقاء، وآخر النطقاء محمد بن إسماعيل؛ أي: هو آخر الأنبياء (¬3). ¬

(¬1) والمقال لا يسع لعرض نظرية الفيض، وهي مبثوثة في كتاب "تهافت الفلاسفة"، وغيره من كتب تاريخ (الفلسفة الإسلامية). (¬2) "الينابيع"؛ السجستاني، ص (148، 149). (¬3) "طائفة الإسماعيلية"؛ محمد كامل حسين، ص (168، 169).

تقول الإسماعيلية بتناسخ الأرواح "وقد اتفقوا عن آخرهم على إنكار القيامة ... وقالوا: إنها خروج الإمام وقيام الزمان، والسابع هو الناسخ للشرع المغيِّر للأمر، أمَّا المعاد فأنكروا ما ورد به الأنبياء، ولم يثبتوا الحشر والنشر للأجساد، ولا الجنة ولا النار، ولكن قالوا: معنى المعاد عود كل شيء إلى أصله، وزعموا أن نفوس المعاندين لمذهب الإسماعيلية تبقى أبد الدهر في النار، على معنى أنه تبقى في العالم الجسماني تتناسخها الأبدان، فلا تزال تتعرَّض فيها للألم والأسقام، فلا تفارق جسدًا إلا ويتلقاها آخر (¬1). ومعنى الصلاة والزكاة عندهم: محمد وعلي، فمَن تولاَّهما فقد أقام الصلاة وآتى الزكاة ... والخمر والميسر اللذان نهى الله قربهما هما أبو بكر وعمر، لمخالفتهما عليًّا ... ثم يُقال له: (المدعو الجديد) هل تحب أن تدخل الجنة؟ ... فيذهب به الداعي (الإسماعيلي) إلى زوجته ليبيت معها ... فإذا خرج المخدوع (المدعو) من عندها (زوجة الداعي)، تسامع به أهل هذه الدعوة الملعونة، فلا يبقى منهم أحد إلا وبات مع زوجة المخدوع (المدعو)، كما فعل هو مع زوجة الداعي ... " (¬2). نظرتهم للمرأة هي نوع من أنواع المسخ الذي يصيب غير المؤمن (¬3)، فهي كالحيوان؛ لأنها مجردة عن وجود النفس الناطقة؛ لذا يعتقدون أن نفوس النساء تموت بموت أجسادهن؛ لعدم وجود أرواح خاصة بهن (¬4). لذا يستبيحون الزنا بنساء بعضهم بعضًا؛ لأن المرأة لا يكمل إيمانها إلا بإباحة فرجها إلى أخيها المؤمن! وفي ذاك اشترطوا ألاَّ يباح ذلك للأجنبي، ولا لِمَن ليس داخلاً في دينهم (¬5). أثر الحركات الباطنية في واقع المسلمين: منذ أن قامت هذه الحركات الباطنية وهي لا تبغي إلا الإطاحة بالخلافة الإسلامية، والعودة إلى أمجاد آبائهم المجوس بإعلان الإمامة الشيعية، وهنا لا ينفصل الخطر الديني عن السياسي، فلا قوام لديانتهم ونحلتهم دون قيام دولتهم، فالحركة الباطنية الشيعية "عبارة عن دعاية خفية مستترة أكثر ممَّا هي مقاومة مكشوفة، وهذا ما جعلها مخالفة لغيرها من الفرق، وهي دعاية يحيط بها جوٌّ من الأسرار، وتغشاها أساليب المكر والمراوغة" (¬6). واختراقها لكثيرٍ من الطوائف جعلهم يبثُّون عقائدهم بينهم؛ حتى ظهر رؤوس الفلاسفة المتصوِّفة كالحلاج وابن عربي والسهروردي والبسطامي والتلمساني، وهؤلاء ممَّن جهروا بما لم يَفُه به فم؛ فقال الإمام الذهبي عن كتاب ابن عربي "الفصوص": وكل كتبه تحتمل التأويل ما عدا "الفصوص"، فإن كان ما فيه ليس بكفر، فليس في الدنيا كفر ... "، وكانت جماعة إخوان الصفا تضمُّ في صفوفها: "أبا إسحاق الصابي الحراني وهو من عبَدَة النجوم الصابئة، ويحيى بن عدي النصراني رئيس أساقفة الكنيسة اليعقوبية، وماني المجوسي، وأبو سليمان المنطقي السجستاني الإسماعيلي، فما الذي يجمع هؤلاء، ويدعوهم إلى تأليف مجمع سري؟! "، أليس نموذجًا حيًّا لتقارب الفرق والأديان؟ شياطين يُوحِي بعضهم لبعض زخرف القول غرورًا، تحزَّبوا ليرموا الإسلام رمية رجل واحد، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. ¬

(¬1) "فضائح االباطنية"؛ أبي حامد الغزالي، ص 44 - 46. - "الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام"؛ يحي العلوي، ص 21. (¬2) "كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة"؛ الحامدي، ص12. - "تاريخ الفكر الإسلامي في اليمن"؛ أحمد حسين شرف الدين، ص (76 - 79). (¬3) نفس نظرة فرسان المعبد وعبَدَة الشيطان، فهم يرون أن الشيطان يتمثَّل في صورة امرأة. (¬4) "دائرة المعارف الإسلامية": مادة نصيري. (¬5) "الحركات الباطنية"؛ محمد الخطيب، ص370. (¬6) "العقيدة والشريعة"؛ إغناست جولد تسيهر، ص180.

وترتَّب على بزوغ قرن الفتنة الباطنية ثورات واضطرابات متلاحقة أحدثتْ فوضى عارمة، خاصة حال ما قامت لهم دويلات هنا وهناك، فديدنهم (تصدير الثورة) والدعوة لمبايعة الإمام، فطلع على أفراد الأمَّة آفات لم يدروا لها أصلاً، وصار المرء لا يأمن جاره ولا أخاه، وسرت الإباحية في عقول الشباب كالطاعون، فلم يؤتمن عازب في قريته، بل في بيت أبيه، وفتت انعدام الثقة عُرَى الوحدة الاجتماعية والدينية، فالحركة الباطنية استغلَّت الفقر والفاقة التي كانت ببعض الناس في الخلافة، فعملت على إشباع شهواتهم ممَّا يطلبون دون حدٍّ، فسهُل انقيادهم، وصاروا مصدرًا للرعب والقلق بجماعاتهم من المرتزقة القَتَلَة، فلا يدري الأمير من حرسه مَن هو معه ومَن عليه، ولا يعلم الأب إن كان رأسه سيقطع بيد أي الولدين له، وفي ذلك الزمن وتلك المحنة، قدم عدوٌّ من أوربا، فوجد الأرض تمور بأهلها، والقوم لا يدرون الصديق من الزنديق، ولما غزا التتار الأرض كانوا لهم سندًا وراحوا يسفكون دماء أهل السنة؛ فأبادوا العلماء وذريتهم، حتى أبكوا علينا اليهود والنصارى، وما أشبه الليلةَ بالبارحة! فعمليات الاغتيال والاختطاف وإعدام علماء السنة في عراقنا غالبها فُضِحت فيما بعد، وكان الجناة من الشيعة أذناب إيران، ومن الفيالق العميلة للحرس الثوري الإيراني، بل وزارة الداخلية العراقية رأس عمليات التعذيب والتصفيات وكلها من الشيعة، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس، فما يحكى أن ... وقع ويكأن ... الفكر هو هو، والحقد هو هو، غير أن الشخوص تغايرت، أتواصوا به؟ إي وربي، فهؤلاء نسل أولئك، وعلى سيرتهم يسيرون؛ فقديمًا والأمة تذود عن حياضها ضد التتار والصليبيين، ناصَر الباطنية الغزاة، واغتالوا العلماء والأمراء والقادة العسكريين؛ ليفسحوا الأرض للغزاة، ممَّا أربك الصف الإسلامي، ولما احتلَّ الإنجليز أراضي إسلامية من الهند إلى مصر كانوا عونًا لهم، بالفتاوى المبطلة للجهاد، كفتاوى الأغاخانية بالهند، والبَهَرَة في باكستان والبهائية، والبابية في الشام، والصفوية في العراق. زد على خطَّتهم الحالية في الامتداد البشري في مناطق السنة وجميع القرى والمدن المجاورة، وهذا في سوريا والمملكة السعودية والكويت والبحرين، فهم يتمركزون في مناطق إستراتيجية حسَّاسة للأمن القومي. وأسوأ الآثار التي ترتَّبت على طلوع قرن الباطنية الشيعة من العراق هو انقسام العالم الإسلامي إلى فئتين: الأولى تقاتل على جبهتين خارجية وداخلية، وهي عامة السنة، والثانية تحالف النصارى والتتار للفتك بأهل السنة، وبعد أن كان للمسلمين خليفة واحد صار لهم أئمَّة شركاء متشاكسون، بل يثيرون النعرات الطائفية سرًّا، ويجهرون بتوحيد الصف علنًا، إذا لقوكم قالوا: آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، وإذا خلوا إلى شياطينهم من النصارى والكفرة قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون .. فهم حلفاء النصارى من أيام بني العباس أيام الحروب الصليبية، وأيام الحروب البوشية إلى يومنا هذا (¬1). وهذا ما فعلوه مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية السنية لمَّا دخلت القوات النصيرية لبنان، فقد دكوها أولاً، وجعلوا جثث أهل السنة فرجة في قنوات الإعلام (¬2)، وما أشبه الليلة بالبارحة! ختامًا: ¬

(¬1) انظر تفصيل ذاك في: - "تاريخ الحروب الصليبية"؛ ستيفن رنسيمان، مج 2، ص33، 206، 941، 675. - "الحركة الصليبية"؛ سعيد عاشور، ج1، ص555، 559، 560. - "موسوعة التاريخ الإسلامي"؛ أحمد شلبي، ج2، ص189، 190. (¬2) انظر: "رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي"، الجزء الثاني "دور الشعوبيين الباطنيين في محنة لبنان"؛ محمد عبد الغني النواوي.

ممَّا يجب أن ينتبه إليه أهل الإسلام أن الباطنية الإسماعيلية ما زالت ليومنا هذا، ولا زالوا على عقائدهم وحيلهم في استدراج الأتباع، كانوا وما زالوا عضدًا لكلِّ غازٍ يهتك بالمسلمين من التتار إلى الصليبيين، إلى الإنجليز الذين ناصَرَهم رأس الإسماعيلية بالهند أغاخان، وهم الآن بسوريا ولبنان، ويزحفون بنشاطهم نحو الدول العربية والمناطق الإسلامية التي يخبو بها نشاط دعاة السنة، بتشجيع من الدولة الخمينية التي ما فتئوا ينصاعون لها، فالدعوة الإسماعيلية الباطنية سهم مسموم يراد غرزه في جسد العالم الإسلامي، وهم يتوغَّلون في بلاد إفريقية وآسيوية عديدة مثل: كينيا وأوغندا وسيلان وبورما، ولهم مراكز ضخمة هناك. بل سرى نشاطهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بين الزنوج المسلمين. ولك أن تعلم أن هذه الدعوة منبتها من الفلسفة، بل رؤوسها كلهم فلاسفة؛ لذا كبار مَن صنفوا من (فلاسفة المسلمين) (¬1) هم من الباطنية، وكبار أنصار الفلاسفة من العرب إمَّا عقلانيون على مذهب الاعتزال، أو ملاحدة شيوعيون أو شيعة، والشيعة هم من تغلب فيهم؛ لأنها تناسب أذواقهم وترسُّباتهم العقدية، وميراثهم الفكري، ومن أهم الدعاة العرب للفكر الباطني الإسماعيلي في الآونة الأخيرة: مصطفى غالب (¬2)، وعارف تامر، ويُعَدَّان من المدافعين عن الإسماعيلية؛ معتبرين دورها فعالاً في الفكر الحضاري، بل الأول من أكبر الناشرين لكتب الفلسفة والمادحين للحركات الثورية الباطنية الشيعية، بل صنفا كتبًا للدفاع عن القرامطة والحشاشين، وجعلاها في مصافِّ الحركات الثورية التي أرادت إنشاء "المجتمع الاشتراكي المثالي"، ولعلهما يريدان المجتمع الشيوعي المزدكي؛ وهنا لم يخطئ أحد في الحكم؛ إذ الاشتراكية الشيوعية ربيبة المزدكية المجوسية الإباحية. فالواجب المنوط بالعلماء وطلبة العلم فضح هؤلاء، وبيان كفرهم وضلالهم، وحيلهم في التصنُّع للعامة، والتملُّق للخاصة، فالجهل بهم صار مطبقًا، حتى بين مَن يتزعَّمون التيارات السياسية الإسلامية، فما بالك بالعامة الذين تأخذ بلبِّهم زخارف القول، ودعاوي الإعلام؛ من شعارات توحيد الصف، والتآلف بين المسلمين، والتطلُّع لمقاومة العدو الخارجي، وتنميق الشخصيات الشيعية، حتى أعلن بعض قادة الأحزاب الإسلامية السنية عن أحد قادة الشيعة أنه مجدِّد للعصر، وقدوة للشباب؟! وذي هي الطامة، إذا أصبح مَن يُكفِّر الصحابة قدوة للشباب المسلم فعظم على المسلمين مصابهم، وغيب عن الوعي شبابهم، فأصبح في عنق كلِّ داعية أمانة توعية المسلمين وشباب المسلمين من الأخطار الداهمة التي ذاق المسلمون ويلاتها في القديم والحديث، وحسبنا الله ونعم الوكيل. والسلام على مَن اتبع هدْي الإسلام، وسنة سيد الأنام، وهدي صحبه الكرام. ¬

(¬1) ولا يصحُّ قول: فلاسفة الإسلام، فليس للدين الإلهي فلاسفة بل هو وحي، كما أن الفيلسوف لا ينطلق من الدين ليستدلَّ بل من المنطق العقلي، فلا يعلم فيلسوف اتِّخذ الدين مرجعًا للاستدلال، وهذا هو الفارق بين المتكلم والفيلسوف؛ فالأول يعتقد ثم يذهب ليبحث عن الدليل العقلي للإثبات، أمَّا الفيلسوف فيكفر بكلِّ شيء، ثم يبحث في عقله ما يبلغه اليقين، ومعلوم أن العقل بدون هداية من الوحي لن يصل إلى دين صحيح. (¬2) راجع لمصطفى غالب: "تاريخ الدعوة الإسماعيلية، الحركات الباطنية في الإسلام، القرامطة"، الحسن الصباح. ولعارف تامر: "القرامطة"، وتحقيقه لكتاب: "الهفت والأظلة". المصدر: موقع الألوكة

إعادة قراءة الولاء والبراء

إعادة قراءة الولاء والبراء إبراهيم السكران ربيع الأول 1431هـ قرأت للبعض مؤخراً أطروحات متعددة حول ضرورة إعادة قراءة (الولاء والبراء)، وقضايا بغض الكافر، والزوجة الكتابية، الخ الخ .. ولما تأملت في كلامهم وجدت أنهم لم يتخلوا عن (الولاء والبراء) مثقال ذرة، ولم يتغير عندهم أي شئ حول وجود (الولاء والبراء) في تصرفاتهم وسلوكهم، وإنما الذي تحول عندهم هو (أرضية الولاء والبراء) أو المبررات التي تستحق الولاء والبراء فقط. فقد كانوا سابقاً يقولون يجب أن يبغض الإنسان كل من كفر بالله بغضاً دينياً، ثم صاروا الآن يستفظعون ذلك، لكن لو قلت لهم: إنني أحب من يعادي وطني لشنعو عليك، ولو قلت لهم: إنني أوالي أو أصافح من يعادي وطني لاعتبروا ذلك تطرفاً وتخلفاً. فالقضية يا سادة ليست تخلٍ عن الولاء والبراء، وإنما إعادة تحديد لمن يستحق الولاء والبراء، فقد كانوا سابقاً يقولون أن "الله" هو المستحق لأن يكون الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، وصاروا الآن يقولون "الوطن" هو الذي يستحق الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه. هذه كل القضية. فالولاء والبراء لم ينته لحظة واحدة، ولكن تحول أساس الولاء والبراء من (الله) إلى (الأرض) كما أشار تعالى فقال (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف: 176] وقال تعالى (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) [التوبة:38] وهكذا كان فريق من الناس في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعاملون مع الجهاد على أسس وطنية، لا على أسس عقدية، فهم لم يرفضو القتال، ولكن يرون القتال مبرراً على أساس الوطن لا العقيدة، كما قالوا في تحليلهم الفكري لجهاد الرسول (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) [الأحزاب: 13] إنه مشهد يتكرر، ولكنه يتكرر بألم، حين تكون الأرض أغلى في نفوسنا من الله، فيكون الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس الوطن أمراً مقبولاً، بل رقياً فكرياً، لكن الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس القرب والبعد من الله؛ فهذا كله تخلف وتقوقع في قراءات ضيقة لبعض النصوص! الأمر لا يحتاج بتاتاً كل هذه الفذلكة، لكن لأن العقيدة انهارت في النفوس، وتشبعت القلوب بالإخلاد إلى الأرض، فقد فزع البعض إلى عيون الزوجة الكتابية لعلهم يجدون بين مشاعرها عذراً لنقل ولائهم وبرائهم من (الله) جل جلاله إلى (الوطن). القضية باختصار شديد، لو كانوا يريدون الحق؛ أن كل كافر فهو عدو لله بمجرد كفره كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98]، وأخبر أنه لايحب الكافرين فقال (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:32] وأخبر أنه يمقت الكافرين فقال (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا) [فاطر:39]. وعداوة المؤمن تبع لعداوة الله كما قال تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء:101]. فكل مؤمن لابد أن يقوم في نفسه "العداوة القلبية الدينية" لكل عدو لخالقه ومولاه جل وعلا، فإن لم يجد هذه العداوة القلبية الدينية لأعداء ربه سبحانه فليبكِ على إيمانه، ولو كمل حب الله في قلبه فيستحيل أن يحب خالقه وعدو خالقه في آن واحد. إلا إن كان المؤمن يتجرأ ويقول إن أعداء الله أحبابٌ له، فهذا شأن آخر. أو كان المرء يقول: إن الكافر إذا لم يحاربنا فهو ليس عدو لله، وإذا حاربنا فهو عدو لله، فصارت كرامته أعظم في نفسه من كرامة الله، فهل يقول هذا عاقل؟!

فأي تحدٍ لله تعالى أن نقر أن الله عدو لجميع الكافرين، وأن الله لايحب جميع الكافرين، ثم نتحدى ربنا جل وعلا ونقول: أما نحن فنحب بعض الكافرين؟! وتأمل معي في قوله تعالى (هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران:119] فهؤلاء قوم مظهرين للمسالمة، بل يظهرون غاية المسالمة، حتى أنهم إذا لقو الذين آمنوا قال آمنا، ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم، ولم يبح لهم حبهم بحسب ظاهرهم. ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن ذلك أن اسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري، 4230] فبالله عليك انظر في قول هذه الصحابية الجليلة، فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء"، لماذا؟ لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيداً، وأن كل كافرٍ فهو قطعاً عدو لله مبغوض له مهما كان مسالماً عسكرياً. ولما بعث نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافوا أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم) [أحمد: 14966] فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم. وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله من بغض الكافر حتى لو كان مسالماً، ومن الطرائف أن بعض الناس لكي يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بالوهابية، ويدعي أننا أسرى للفكر الوهابي، وأن مسألة بغض الكفار جميعاً إنما هي فكرة وهابية، الخ وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية. والواقع أن قاعدة (البغض العقدي للكافر) قد أطبقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة وليس مسألة ابتكرتها الدرر السنية، فقد قال السرخسي الحنفي (وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود) [المبسوط، للسرخسي، 23/ 11]. وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال (حب المؤمنين، وبغض الكافرين، وتعظيم رب العالمين، .. وغير ذلك من المأمورات) [الفروق، للقرافي، 1/ 201] وقال ابن الحاج المالكي أيضاً (واجب على كل مسلم أن يبغض في الله من يكفر به) [المدخل، لابن الحاج، 2/ 47] وقال الشيخ عليش المالكي (نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين) [منح الجليل، لعليش، 3/ 150] وفي أشهر متون الشافعية (وتحرم مودة الكافر) [الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، للشربيني] وقال العز بن عبدالسلام الشافعي (جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته، وأوجبت بغضه) [قواعد الأحكام، للعز بن عبدالسلام، 72] بل هذا ابن سعدي الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهاً تغريبياً مبكراً يوضح رحمه الله التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكافر فيقول (الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم) [تيسير الكريم الرحمن] والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة كثيرة في منع حب الكافر، فكيف يقال أن وجوب بغض الكفار فكرة ولدت في الدرعية وانتهت مع مؤتمرات حوار الأديان؟! أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون المتقدمة حفظوا في صغرهم "كشف الشبهات"؟! أم أرسلت إليهم نسخٌ من الدرر السنية؟!

أما قولهم: (إننا نقر أن الله أمر بمعاداة أعدائه كقوله تعالى (لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) لكن هذه في المعتدي وليس كل الكفار أعداء لله) فهل يقول هذا من قرأ كتاب الله؟! فكل كافر فهو عدو لله أصلاً كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98]، وقال تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء:101]. وأما قولهم (أننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكفار لايلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم، لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي "النصرة") فالجواب أن "الموالاة" لفظ عام يشمل الحب والنصرة، فالحب موالاة، والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده. ومن ظن أن الموالاة لاتكون إلا لما تركّب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب كقوله (ها أنتم أولاء تحبونهم ولايحبونكم) وهي في المسالمين، وخالف إجماع الفقهاء على منع حب الكافر ومودته، فضلاً عن مخالفته لما حرره الفقهاء المحققين كقول الإمام ابن تيمية (وأصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة البغض) [منهاج السنة] وأما قولهم (إننا نقر أن الله نهى عن موادة من يحاد الله ورسوله، لكن المحاد هو المحارب) فهذا تحريف لكتاب الله، فإن الله تعالى قال (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [التوبة 62 - 63] فهؤلاء الذين حلفوا لرسول الله ليسوا محاربين، ومع ذلك جعلهم الله محادين! ولما ذكر الله حدود الله في مطلع المجادلة قال (إن الذين يحادون الله) ومعلوم أن انتهاك حدود الله ليس محاربة، ومع ذلك جعله الله محادة لله جل وعلا. فإن كان هؤلاء يجعلون "المحادة" هي "المحاربة" فهذا باطل بكون الله في كتابه سمى مادون المحاربة محادة، وإن كان هؤلاء يجعلون المحادة كل قول وفعل يسئ إلى الله وكتابه ونبيه وشريعته، فلايكاد يوجد كافر معاصر لايسئ لأحكام الله في التعدد والقوامة والحجاب والقرار في البيوت والقتال الخ. فهؤلاء يقولون لنا إن الموادة المهي عنها مخصوصة بالمحاد، فإذا قلنا لهم هؤلاء الذين الذين ينتقدون أحكام الشرع من مستشرقين وسياسيين ومفكرين وعامة في المجتمعات الكافرة، لكنهم مسالمون غير محاربين، هل يجوز مودتهم، عادوا وتناقضوا وقالوا نعم يجوز لأنهم غير محاربين، وتركوا علتهم الأولى وهي المحادة! وأما احتجاجهم بترخيص الشارع في الزواج بالكتابية، وأن هذا ينقض كل الآيات والأحاديث والآثار وإطباق المذاهب الأربعة، فقائل هذا الكلام ليست إشكاليته إشكالية مسألة مفردة بعينها، بل لديه إشكالية منهجية، وهي ترك الأصول الظاهرة وتحويل الاستثناء والمحتمل إلى قاعدة! والجواب عن استدلالهم بـ (أن الله أباح الزواج بالكتابية، والزواج يفضي للمودة) أن يقال: المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لايعترض عليها بالأمور الكونية. والمحتج بذلك هو نظير من يقول: أن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك، فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف! فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني. أو كمن يقول أن قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي، وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي! وهكذا، فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار، بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟!

ثم إنه لا يمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14] فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة، فلا أدري لماذا يأخذون آية (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21] والتي تتحدث عن المودة القدرية الكونية، ولايضمون معها هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14] والتي تثبت احتمال قيام العداوة الدينية. ثم إن المودة التي ذكرها الله بين الزوجين لايلزم منها أن تكون دوماً هي الحب، بل قد يكون المراد بها الصلة والإحسان كما قال تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فالنبي لايطلب أن يتحاب مع كفار قريش وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة) [البخاري:4818] ثم إن مايجده الإنسان في نفسه من الولاء والحب لوالده وشقيقه أعظم مما يجده من الولاء لزوجته، ومع ذلك قطع الله موالاة الأب الكافر المسالم، والشقيق الكافر المسالم، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) [التوبة:23] ثم إن أهل العلم بينوا أنه مورد الأمرين مختلف أصلاً، فبغض الكافر المسالم وعداوته القلبية هي بغض وعداوة قلبية دينية، أما المودة التي تقع بين الزوج والزوجة فهذه مودة غريزية فطرية، ولايمتنع أن يجتمع الأمران في شخص واحد. وأما قولهم (إنه يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد محبة وبغض، وبالتالي فما دام يجوز أن يحب زوجته الكتابية فلينتفِ البغض الديني عنها!) فهذا كلام ساقط، فإن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض، فهو محبوب من وجه مبغوض من وجه، وهذا مثال يكرره أهل العلم كثيراً للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد. ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس، وحب شرعي لما فيه من الثواب العظيم، كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [التوبة:92]. فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً، ثم تفيض عيونهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاً وديانة! فمن أنكر الكره الطبيعي للقتال فقد كابر، ومن أنكر الحب الشرعي للقتال فما عرف معنى الإيمان بعد، فإن أثبت اجتماعهما في محل واحد فكيف ينكر اجتماعهما في شخص واحد وهو الزوجة الكافرة؟! وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف -عليه السلام- صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً، كما قال تعالى عن يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33].

وكذلك فإن الإنسان إذا تصدق بأنفس ماله عنده اجتمع في هذا الفعل حب وبغض، فهو يحب ماله طبعاً، ويحب التخلي عنه والصدقة به شرعاً، كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92] وقال تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) [البقره: 177] وقال تعالى يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان:8]. وأما قول بعضهم (إن الحب والبغض عمل قلبي يهجم على القلب لاحيلة فيه، وبالتالي يعفى عن حب الكفار) فمؤدى كلام هؤلاء إخراج الحب والبغض عن أصل التكليف، وبالتالي إبطال كل أوامر الحب والبغض التي أمر الله بها ورسوله، فصار أمر الله بحبه، وحب رسوله، وحب الأنصار، وحب آل البيت، وغيرها من الشرائع، كلها لغو وعبث لاقيمة له لأن الحب والبغض شأن قلبي يهجم على الانسان ولاحيلة له فيه. بمعنى أن قول النبي مثلاً في صحيح البخاري (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده) لو جاء شخص وقال الحب عمل قلبي يهجم على المرء بلا حيلة، ولا أجد في نفسي حب النبي أكثر من والدي وولدي؟! فهل هذا مقبول؟! ولذلك لما جاء عمر وأخبر النبي بما في نفسه لم يقبل النبي هذا الكلام، وصحح له هذا الفهم، حتى ارتقى إيمان عمر، كما في البخاري (يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر، فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر). فعمر حين قال (لأنت الآن أحب إلي من نفسي) إنما جاهد نفسه حين عرف ثواب الحب، فالحب والبغض يحصل بالمجاهدة. ولذلك فإنه لما أبغض بعض الناس بعض التشريعات بغضاً دينياً جعل الله ذلك منهم ردة وخروجاً عن الإسلام ولم يقل الحب والبغض شعور يهجم على القلب لاحيلة له فيه! كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:9] وأما قول بعضهم (بعض الكفار يحسنون إلينا، فكيف نكرههم وهم يحسنون إلينا، ولايوجد إنسان سوي إلا وهو يحب من أحسن إليه، ويجد ذلك في نفسه ضرورة). فهؤلاء المعترضين بمثل ذلك لم يتفطنوا إلى أن الحب هو حصيلة أفعال المحبوب، والبغض هو حصيلة أفعال المبغوض، فهذا الكافر أحسن إليك بمال أو هدية أو ابتسامة لكنه أساء إلى ربك بالكفر، وربك أغلى عليك من نفسك، ولذلك فإساءته لك أعظم أضعافاً مضاعفة من إحسانه المادي إليك، إلا إن كانت نفسك أغلى عليك من ربك وخالقك، وصرت ترى أن من أساء إليك فهو مستحق للبغض، لكن من أحسن إليك واساء لخالقك فهو مستحق للحب، فقائل هذا قد جعل نفسه أعظم من الله ولاحول ولاقوة إلا بالله، وإلى هذا المعنى أشار السبكي إشارة بديعة للغاية حين قال في فتاواه: (والذي يظهر أن النفوس الطاهرة السليمة لا تبغض أحدا ولا تعاديه إلا بسبب، إما واصل إليها، أو إلى من تحبه أو يحبها, ومن هذا الباب عداوتنا للكفار بسبب تعرضهم إلى من هو أحب إلينا من أنفسنا) [انظر فتاوى السبكي، 2/ 476] فمن اعترض بالقول أنه ليس من المروءة أن أبغض كافراً أحسن إلي؟ فيقال له: بل ليس من المروءة أن تحب كافراً أساء لخالقك لمجرد أنه رشاك بلعاعة من الدنيا، فخالقك قد أحسن إليك أضعاف أضعاف ما يقدمه لك هذا الكافر، بل لانسبة للنعم التي أعطاك إياها خالقك ولعاعة الدنيا التي أعطاك إياها هذا الكافر.

وعلى أية حال فإن من يستحضر أن هذا الكافر يسئ إلى الله بجحد إلهيته أو نبوة محمد ولم يهجم على قلبه بغضه قلبياً فهذا يعني أنه قلبٌ ميت، فليبك على قلبه، فإن القلب الحي لايرضى بأن يساء لخالقه ومولاه، إلا إن كان يعتبر الكفر وجهة نظر شخصية لاتغضب الله! وأما قولهم: (كيف أكرهه وأحبه وقد يكون في داخل الأمر على خلاف ماهو عليه؟ بمعنى قد أعتقد أنه كافر لكنه في حقيقة الأمر مسلم) فيقال الحب والبغض من الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية تعلق بالظاهر، ولذلك كان تطبيق هذا الحكم على الأعيان مسألة اجتهادية قد يصيب المرء فيها وقد يخطئ خطأً مغفوراً، ولذلك قال ابن تيمية (ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضا مجتهدون يصيبون تارة ويخطئون تارة) [الفتاوى 11/ 15] وقبل ذلك نبه الإمام محمد بن الحنفية كما رواه اللالكائي عنه حيث يقول رحمه الله (من أبغض رجلا على جور ظهر منه، وهو في علم الله من أهل الجنة؛ أجره الله كما لو كان من أهل النار). وأما قولهم (الكفار متفاوتون فكيف نجعلهم سوياً في البغض والمعاداة القلبية؟!) فهذا غير صحيح، ولم يفتِ أحد من أهل السنة بكون الكفار سواءٌ في البغضاء، فإن الكفر يتفاوت في ذاته، كما يتفاوت الإيمان، ولذلك فإنه كما يكون في أهل الخير أئمة في الإيمان كما قال تعالى (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) فإنه كذلك يكون في الكفار أئمة فيه كما قال تعالى (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة:12]. وكما يتفاوت حب أهل الإيمان بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه، فكذلك تتفاوت معاداة وبغض الكفار بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه. وأما قولهم (إن تغيير الحكم الشرعي في بغض الكفار سيكون له دور في الترويج للاسلام والدعوة) قائل هذا الكلام عكس النتيجة كلياً، بل تحريف النصوص الشريحة في بغض الكفار أعظم ذريعة إلى الطعن في علماء الإسلام ودعاته أنهم كذابون مخادعون يتلاعبون بنصوص شريعتهم لأجل مصالح حركية! إنه لايخدم صورة الإسلام مثل العلم الصحيح الصادق، قد يتدرج العالم أو الداعية في تنفيذ بعض الأحكام، أما تحريف الأحكام الشرعية فهذا لايقع من عالم صادق لأجل أي مصلحة موهومة! وشتان بين التدرج والتحريف، على أن بعض أهل الأهواء يحتجون بأفعال النبي وعمر بن عبدالعزيز في التدرج على التحريف! ثم افترض أننا استطعنا عبر عمليات تجميلية تحريف نصوص (بغض الكفار) فماذا سنصنع بقوله تعالى عن الكفار (إن هم إلا كالأنعام) وقوله تعالى (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) وقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفارا) وقوله تعالى (إنما المشركون نجس) وقوله تعالى (وأن الله مخزي الكافرين) وقوله تعالى (يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) وقوله تعالى (أعزة على الكافرين) وقوله (فإن علمتموهن مؤمنات فلاترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن) الخ الخ؟! هل سنحرف كل هذه الآيات ونظائرها حتى نقوم بترويج الإسلام والدعوة؟! هناك ملفات كثيرة يريد متفقهة التغريب العبث بها، لكن آخر مايمكن أن يحرفوه هو موقف القرآن من الكافر، لقد وضع القرآن الكافر في غاية مايتصوره العقل البشري من دركات المهانة والحقارة والانحطاط واستعمل القرآن كل التعابير الممكنة في بيان رجسية الكافر، فأي تأويل يارحمكم الله يمكنه أن يتلاعب بهذه الآيات القرآنية؟! على أية حال .. هل تدري أين جوهر المشكلة في كلام هؤلاء الذين يريدون تغريب العقيدة؟ إنها في حرمان المسلمين من أوثق عرى الإيمان (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). الله سبحانه وتعالى ينبهنا ويقول بكل وضوح (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:32] ويقول (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [الروم:45] وأنتم تقولون: فأما نحن فنحب بعض الكافرين، ألا تخشون من الله وأنتم تتحدون محاب الله ومباغضه؟! وهذه المسألة من أوضح تطبيقات تقديم المتشابه على المحكم، وعاهة (تقعيد الاستثناءات) أي تحويل الاستثناء إلى أصل، والأصل إلى استثناء، فالله أمر ببغض الكفار وأجاز نكاح الكتابية، فأخذوا الاستثناء وهدموا به الأصل! فهل هذا إلا فعل أهل الأهواء؟! فكفُّو يارحمكم الله عن تشذيب الإسلام وقصقصته لأغراض التبسم في مؤتمرات إنشائية يخدع بها الحاضرون أنفسهم!

معايير تحديد أولويات المواجهة

معايير تحديد أولويات المواجهة إبراهيم السكران هناك فريق من الناس يشنع كثيراً على دعاة أهل السنة بالقول بأنهم لا يرتبون الانحرافات بشكل صحيح، فتراهم يردون على من يخالفهم في بعض الملفات الشرعية، ويدعون العلمانيين الأقحاح، أو يقولون أحياناً: سلِم منكم اليهود والنصارى ولم يسلم منكم مفكرون لازال يشملهم الإسلام. أو يقولون أحياناً: أهل السنة يحتاجون إلى الوعي بأي الحروب أولى بالمواجهة. أو يقولون في أحيان أخرى: هرم الانحرافات يقف بالمقلوب في الوعي السني! وقد لاحظت أن أغلب من يردد هذه الحجج هم التيارات المنتسبة للاستنارة الإسلامية، والإصلاح السياسي، ويرددها -أيضاً- تيار جديد بدأ يظهر على الساحة الآن وهو تيار (الوطنية الإسلامية) وهو تيار يعلن -بمناسبة وبلامناسبة- ولاءه السياسي الكامل والمطلق، ويتعامل مع المخالفين على أساس أنهم "شركاء في الوطن"، ويؤسس شرعية مطالباته وقائمة أجندته الفكرية على أساس "ثوابت الوطن"، ويتحاشى بطريقة فوبيّة غريبة أية لغة يفهم منها البناء على أسس "عقائدية". على أية حال .. لسنا معنيين كثيراً بمن يردد هذه الحجج، ولكن يعنينا هاهنا أن نحلل مدى شرعية هذه الحجج؟ وهل تتفق مع المنهج الدعوي عند أهل السنة، أم هي بدعة وإحداث في دين الله؟ حين نعيد تأمل هذه اللافتات التي يرفعونها حول "أولويات بيان الانحرافات والرد على المخالفين" نلاحظ أنها تنطوي على "معيار" ضمني، هذا المعيار هو بكل وضوح أن أولوية الرد على المخالف تتحدد على أساس "حجم الانحراف" فالملحد أولى بالرد من العلماني، والعلماني أولى بالرد من المخالف المنهجي لأهل السنة، والمخالف المنهجي لأهل السنة أولى بالرد على الخطأ الفقهي الجزئي، وهكذا. ولذلك إذا رأو عالماً أو داعية يرد على "مخالف منهجي" لأهل السنة، قالوا له: سلم منك الملاحدة والعلمانيون وجئت ترد على من يشاركك أكثر الأصول والهموم؟! هذا الموقف منعكس عن مقياس يجعل الأولوية مرتبطة بمراتب الانحراف ذاته. فما مدى صحة هذا الموقف؟ الحقيقة أنه وبأدنى تأمل في طريقة السلف الصالح وأئمة الهدى فإن الباحث يعرف أن هذا معيار باطل مخالف للمنهج الدعوي عند أهل السنة، ومن تأمل ردود أهل السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار من بعدهم فإنه سيلاحظ أن هناك معياراً مختلفاً كلياً. فالمعيار عند أهل السنة لا يربط أولويات المواجهة بـ (حجم الانحراف)، وإنما يربط أولويات المواجهة بـ (حجم الحاجة إلى البيان). تأمل معي بعض هذه النماذج، في الصحيحين أن عبد الله بن عمرو قال رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضئوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فأخذ رسول الله ينادي بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار. لو طبقنا معيار الطوائف الفكرية بأن البيان والرد يكون على (حجم الانحراف) لقلنا: لماذا يهتم النبي وينادي بأعلى صوته بقضية جزئية لا تتعدى أن بعض الناس بسبب السرعة نسوا جزءاً يسيراً من أقدامهم لم يمسه الماء؟! هل يسوغ أن نقول: الأمم من حول النبي فيهم اليهود والنصارى وعبدة النار والمشركون، والداخل الإسلامي يعاني من الفقر، ومع ذلك يعتني النبي بقضية جزئية تتصل بأحد جزئيات الطهارة؟ هذه التساؤلات لا يستطيع أن ينفك عنها العقل الذي تشبع بالمعيار الفكري بأن الرد والبيان يكون على حجم الانحراف، أما العقل الرصين الذي تشبع بالمعيار الشرعي بأن الرد والبيان يكون بحسب الحاجة إلى البيان فإنه يفهم هذا الفعل النبوي فهماً صحيحاً.

وهذا المثال طبّقه على سائر مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- التي غضب فيها وأظهر فيها اهتماماً واضحاً في مسائل جزئية فقهية يحتمل الخلاف فيها، وقارنها بحال المجتمع النبوي الذي يحيط به أصناف الكفار، وفي داخله أعتى المنافقين، ويعج بالفقراء والمعوزين، ومع ذلك كله يهتم النبي بجزئيات المسائل ويرد على أناس من الداخل الإسلامي ذاته. وإذا شاء القارئ الفاضل المزيد من هذه النماذج فيمكنه مراجعة بابٍ لذيذٍ إلى الغاية عقده عبقري السنة الإمام البخاري في صحيحه باسم (باب الغضب في الموعظة والتعليم) وهو موجود في الصحيح في (كتاب العلم) فقد ساق فيه شواهد نبوية على اهتمام النبي وغضبه في مسائل جزئية، وعلى أية حال فكتاب العلم في صحيح البخاري إذا تأمله طالب العلم وجد أنه يحسم كثيراً من مسائل النزاع في المنهج الدعوي لأهل السنة. خذ مثالاً آخر، حين مات النبي -صلى الله عليه وسلم- كان جيش أسامة لغزو الروم قد عقدت رايته، وفي الداخل الإسلامي ظهرت طائفة تنكر وجوب دفع الزكاة لأحد بعد رسول الله، فجهز أبوبكر الجيوش لقتالهم، برغم أنهم يعلنون أنهم مسلمون ويقولون "لا إله إلا الله"، لكن لديهم تأويل لآيات الزكاة بأن المخاطب والمختص بأخذها هو النبي لا غيره فكانوا يقولون: كيف يحق لأبي بكر أن ينزل نفسه منزلة النبي في هذه الفريضة؟! وقد شرح الإمام ابن تيمية تأويلهم فقال (وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا: إن الله قال لنبيه "خذ من أموالهم صدقة" وهذا خطاب لنبيه فقط، فليس علينا أن ندفعها لغيره، فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له) [الفتاوى، 28/ 542] فهؤلاء منتسبون للإسلام، ومتأولون لا في أصل الزكاة، بل في حق أبي بكر باستلامها، حتى أن بعض كبار الصحابة أشكلت عليه المسألة بادئ الأمر كما قال عمر (كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلا الله)، ومع ذلك فقد جرد ابوبكر سيفه وجهز الصحابة لقتالهم، بكل ما يتضمنه القتال من سفك الدماء وغنيمة الأموال. فلم يقل ابوبكر: جيش أسامة على تخوم البلقاء يقاوم الروم النصارى، ونحن نقاتل متأولين في مسألة فيها احتمال! بل علم بفقهه الدقيق أن مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة في تحريف الإسلام من الداخل في مثل هذا الظرف لا تقل عن أهمية مواجهة النصارى. فلو طبقنا المعيار الفكري بأن (المواجهة على قدر الانحراف) لقلنا أخطأ أبوبكر، لأن مواجهة نصارى الروم وهم كفار أصليون محاربون أولى من مواجهة متأولين في الداخل المسلم يقولون لا إله إلا الله، فضلاً عن مقاتلتهم! لكن لو طبقنا المعيار الشرعي بأن (المواجهة على قدر الحاجة إلى البيان) لاستوعبنا حنكة أبي بكر ودقة فقهه وعمق علمه بدين الله، ولذلك تكلم علماء الإسلام كثيراً عن البركات التي حصلت بعزمة أبي بكر على قتال المتأولين في الزكاة. ويمكن أن نشاهد هذا المعيار السني في تطبيقات الصحابة بشكل عام، كمثل تشديد ابن مسعود على المتأولين في الذكر الجماعي، وتشديد ابن عمر على المتأولين في كون المعاصي مقدرة (وهم الذين سموا القدرية لاحقاً) برغم أنهم لم ينكروا أصل القدر، بل تأولوا بعض معناه فقط، وبرغم أنهم ينتسبون للعلوم الشرعية كما يصفهم الراوي في صحيح مسلم حين جاء يسأل ابن عمر (فقلت أبا عبد الرحمن: إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف)، ومع ذلك كله قال فيهم ابن عمر مقالته الشديدة المعروفة. فهل يصح القول: كيف يشدد الصحابة على هذه الاجتهادات في التأويل ويدعون الملاحدة واليهود والنصارى والمجوس والولاة الظلمة والمظالم المالية؟!

بحسب معيار الطوائف الفكرية المعاصرة، نعم، فإن معيارهم سيقودهم إلى التورط بإدانة الصحابة ذاتهم، لكن بحسب المنهج الدعوي عند أهل السنة فهذه المواقف الصحابية معدودوة في مناقبهم ومن شواهد عمق فقههم وعلمهم. وهكذا -أيضاً- انظر في أقوال الأئمة الأربعة في بدعة تأويل الصفات الإلهية، وكيف كانت مواقفهم الشديدة التي وصلت للحكم بكفر المعين أو لعن المعين على أمثال الجهم بن صفوان وعمرو بن عبيد وحفص الفرد ونحوهم (وأقوال السلف في هذا الباب مجموعة في العلو للذهبي واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم). فهل يمكن أن نقول للأئمة الأربعة - أبوحنيفة ومالك والشافعي واحمد- أنتم تصرفون جزءاً من وقتكم في التشديد البليغ على من يتأول بعض نصوص الصفات وهي مسائل تحتملها لغة العرب، وتتركون الملاحدة واليهود والنصارى والفساد السياسي في عصوركم؟! هذه الطوائف الفكرية تنتج معايير ولا تراعي أن معاييرها تقودها إلى إدانة السلف ذاتهم! وهم يتفاوتون في الموقف من ذلك، فبعضهم يطرد قاعدته وأصله ولا يبالي إن كانت قاعدته تقتضي انتقاص السلف واستجهالهم واستبلاههم، وبعضهم فيه بقية دين فيتحاشى أن يطبق قاعدته على عمل السلف، ويفضل أن يعيش بهذا التناقض على أن يواجه لوازم قاعدته. ومن تطبيقات هذه الإشكالية: ظاهرة "الإباحية الفقهية" المعاصرة، وهي أن بعض أصحاب تدجين الخطاب الدعوي المتصدرين في الفضائيات اليوم صاروا يسلكون منهج "تتبع رخص العلماء وزلاتهم والفتيا بها" بشكل واضح، بل وباندفاع في هذا المجال وتصفيق إعلامي ملفت، وصار عند هؤلاء "لجان علمية" وظيفتها البحث في كل مسألة عن من أباحها من أهل العلم للفتيا بموجب ذلك، لجان يسمونها علمية كل وظيفتها "البحث عن مبيح"!، وتتاح لهم برامج أوقات الذروة ليحقنوا المسلمين المستهدفين بزلات العلماء، كان الله في عوننا نحن المشاهدين المساكين، فبدلاً من أن نجد علماً يحي قلوبنا، صرنا نجد شبهات تربت على أهوائنا لنستكين على وضعنا، شخصيات تصدرت للناس بدلاً من أن تكون وظيفتها إحياء الإيمان في النفوس، صارت وظيفتها توهين التدين في نفوس الناس، وتوفير مبررات الفتور التعبدي والبرود الدعوي. المهم .. أنه إذا قام أحد علماء ودعاة أهل السنة ببيان الانحراف في عين فتوى بذاتها، أو تجاه مسلك هذا الرجل بعمومه، قاموا عليه وأخذوا يتساءلون باستغراب: تترك العلمانيين وتأتي لهذا المنتسب للدعوة؟! هذا خلاف فروعي لا يستدعي منك أن تكتب في بيانه؟! تترك المخالف في الأصول ترد على المخالف في الفروع؟! ونحو هذه العبارات. وإجابة على هذه الدعوى يقول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله مبيناً أن الحاجة للبيان في مثل هذه المسائل قد تفوق الحاجة للبيان في بعض مسائل العقيدة الظاهرة لكل أحد، كما يقول رحمه الله: (فإن فتوى من مفتٍ في الحلال والحرام، برأيٍ يخالف السنة أضر عليهم من أهل الأهواء, وقد ذكر هذا المعنى الإمام أحمد وغيره, فإن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت, وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة، بخلاف الفتيا فإن أدلتها من السنة قد لا يعرفها إلا الأفراد، ولا يميز ضعيفها في الغالب إلا الخاصة, وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير) [الكبرى، 6/ 144] فبالله عليك تأمل في عمق هذا الفقه، حيث جعل الرد على بعض الفتاوى الفروعية التي شذت عن طريق أهل العلم، قد تكون أولى بالبيان من بعض البدع الكبرى، لأن الأولى خفية والثانية ظاهرة، فجعل المعيار رحمه الله ليس حجم الانحراف، بل مدى حاجة الناس للبيان. وثمة مقولتان للعلامة المتفنن بكر أبوزيد كلما قرأتهما رقصت جوانحي طرباً لهما، وما رأيت كلام هذه الطوائف الفكرية في هذا الباب إلا تذكرت عبارته يرحمه الله، وهاتان العبارتان كلاهما مذكورتان في كتابه "الردود"، فأما العبارة الأولى فهي قوله رحمه الله وغفر له: (إذا رأيت من رد على مخالف في شذوذ فقهي، أو قول بدعي، فاشكر له دفاعه بقدر ما وسعك، ولا تخذله بتلك المقولة المهينة " لماذا لا يرد على العلمانيين") [الردود، بكر أبوزيد، 49] وأما العبارة الثانية فهي قوله رحمه الله: (فقل لي بربك: إذا أظهر المبطلون أهواءهم، والمرصدون في الأمة: واحد يخذّل، وواحد ساكت، فمتى يتبين الحق؟) [الردود، بكر أبوزيد، 17] وعلى أية حال .. أولئك الذين يلومون علماء ودعاة أهل السنة على مقاومتهم للانحرافات المنهجية -حتى المنتسبة منها للفكر الإسلامي- بحجة أن مقاومة اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين أولى إنما يتمسكون بحجة مؤداها الإزراء بجهود النبي وأصحابة وأئمة الهدى من بعدهم في العناية بسائر تشريعات الإسلام كليها وجزئيها، وأن جهود البيان والرد عندهم ليست مرتبطة بحجم الانحراف، بل مرتبطة بمدى حاجة الناس للبيان. والله أعلم.

حرس الحدود والمسلك الأبلق

حرس الحدود والمسلك الأبلق الشيخ الدكتورعبد العزيز العبد اللطيف المتغيرات تتلاحق، والضغوط بشتى صورها تتابع، والنفوس البشرية يعتريها الضعف والفتور، واستملاح الدّعة والترهل، والتنصل من تبعات الدعوة والنكوص عن مدافعة الشهوات والشبهات .. هذا الواقع الرديء صار مرتعاً خصباً لظهور مسلك أبلق، لا أبيض ولا أسود، هو أنموذج للتلوّن، والمحافظة على " طرائق التذبذب "، فأصحاب هذا المسلك لديهم من الديانة والعقل ما يحفظهم من الانحدار إلى غثاثة التزلف، والتصنع والنفاق، وهم في نفس الوقت لديهم من " الحسابات " و"القناعات". ما يجعلهم في عافية عن المواقف الواضحة! وفي منأى عن الاحتساب والمدافعة .. هذا المسلك يتحرى أن لا يقلق الأنظمة والحكومات، إذ يمكنه أن يقدِّم الدين والسنة بما لا يزعج ولايقلق الحكومة. ومن مقاصد هذا المسلك: ملاينة أهل البدع، والاعتذار لأهل الأهواء، والتكلّف في تبرير شكهم وشطحهم .. كما أن أرباب هذا المسلك يلوكون ألفاظاً حادثة ومصطلحات جديدة كالحوار والإنسانية والمصلحة الوطنية .. وآخرها محاربة الطائفية .. وفي نفس الوقت يتوارى أحدهم عن اللغة الشرعية والمصطلحات الدينية والنبوية .. فإذا تحدث أحدهم فلا تدري أهو محلل سياسي - فاته القطار - أم ناشط حقوقي - أخطأه الصواب! أما تخصصه الشرعي فقد غيّبه مُجاراةً للعصر ومواكبة للتطور! وأما عن مدافعة المنكرات المتوالية .. فقد يلوذ أصحاب هذا المسلك بالصمت متدثرين بالتعقل وبعد النظر، وإظهار الرزانة والثقل. بعد هذه المقدمة ندلف إلى مناقشة مقال كتبه الشيخ الدكتور / حاتم العوني بعنوان طويل: (إذا أصبح حرسُ الحدود الطائفية يمارسون وظيفة حرس الحدود بين الإسلام والفكر) في ملحق الرسالة في جريدة المدينة الخميس 13/ 2 / 1431 هـ.- استهل الشريفُ مقاله بالتحذير من" الإحتقان الطائفي" .. و"التأزم الطائفي" .. وكان المتعيّن ابتداءً أن يحرر مصطلح (الطائفية) وما فيه من الإجمال وأن يُعنى بالتعرّف على ملابسات هذا المصطلح وظروف نشأته، دون هذا الانسياق في التحذير منه بإطلاق، ومجانبة التبعية والمجاراة للواقع السياسي والأمني بعُجَره وبُجَره، ففي الآونة الأخيرة برزت مصطلحات وافدة كإنسانية ووطنية .. ومعالجة الطائفية .. ثم إن بعض المتمشيخة يرفعون عقيرتهم بهذه العبارات بل ربما كانوا أكثر حماساً واندفاعاً من دعاة الإنسانية والوطنية أنفسهم! - إنها انهزامية مكرورة، قد يكون باعثها مجاملة الواقع الحاضر، وإظهار الدراية ... بقضايا العصر، وحتى لا يتهم الشيخ بالجهل أو ضيق الأفق .. ثم ينجرف هؤلاء المتمشيخة في نفق هذه المصطلحات بحلوها ومرها وزيفها وبريقها.

- أعجبني ما خطّه يراع الكاتب المبدع إبراهيم السكران تحت عنوان: (وما العيب في الطائفية؟!) وأَجتزأ منه هذه السطور الآتية: (تحولت هذه اللافتة .. (كلام طائفي) إلى مبرر كافٍ لإدانة أي فتوى ضد الطائفة التي ضلت عن شئ من الشريعة، بمعنى لا تحتاج إلى أية أدلة في نقض الفتوى، بل يكفي فقط أن تثبت أنها فتوى طائفية، بعد ذلك أصلح حنجرتك لترتل لطميات النياحة ضد هذه الفتوى، لماذا؟ لأنها فتوى طائفية! برغم أن إدانة أي طائفة ضلت عن شئ من الشريعة هذا مبدأ قرآني، وسنأخذ مثالاً قرآنيا لذلك يشابه واقع الطائفة الشيعية اليوم، فقد جاء طائفة من المسلمين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقامو بـ " سب الصحابة " فقالوا عنهم: ((مارأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة))، فأنزل الله عليهم تكفيراً طائفياً، فقال - تعالى - في سورة التوبة: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} التوبة 66فهذه إدانة على أساس الطائفة، وبين أنهم كفروا بعد إيمانهم، بمعنى أنهم كانوا مسلمين قبل ذلك، لكن بسبهم أصحاب النبي كفروا، وكان تكفيرهم على أساس الطائفة). - من عبارات الشريف حاتم التي يكثر من تردادها: الولع بتهذيب الحماس وتشذيبه، والوله بـ (الحماس المنضبط)، وساق عبارة هلامية (بَلْقاء): - (لن تنتصر دعوة ما ولو كانت دعوة للاعتدال بغير حماس منضبط .. ) فلم يحدد فضيلته ضابط الحماس المنشود! أهو التسليم للشرع المنزل؟ أم الاستسلام للواقع والاستجابة لضغوطه! فدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - حققت انتصارات، فهل يعني أنها حظيت بالحماس المنضبط الذي يروق للشريف؟!. كان الشريف - في حلقة بثتها قناة المجد منذ سنوات - متوتراً و" محتقناً " جرّاء فتوى أصدرها المشائخ الفضلاء (ابن جبرين - رحمه الله -، والشيخ عبد الرحمن البراك، والشيخ عبد العزيز الراجحي) بشرعية مقاطعة المنتجات الدانمركية، لما حصل التطاول على مقام سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، بل إن حماسه (المنضبط) أفضى إلى تحجيم وتقليل جدوى هذه الفتوى والمقاطعة! والتشبث بسراب الحلول الدبلوماسية ومشتقاتها. فهل من الحماس المنضبط أن يُخاصم هؤلاء العلماء وتختزل النصرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بيانات الحملة (المسالمة؟ لا أدري ماذا سيقول الشريف عن حماس ابن تيمية عندما قال - رحمه الله -: (فإن الكلمة الواحدة من سبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تُحتمل بإسلام ألوف من الكفار، وَلأَنْ يظهر دين الله ظهوراً يمنع أحداً أن ينطق فيه بطعن أحبُّ إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتَهك مستهان) (الصارم المسلول 3/ 939) بل ندعْ ابن تيمية، فإن توتر الشريف من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد يطول ابن تيمية! ونسوق عبارة لأحد الأشاعرة - الذين أبدى الشريف دفاعه واعتذاره لهم - وهو السبكي - رحمه الله - لما قال في مطلع كتابه (السيف المسلول على من سبّ الرسول) عن سبب تصنيفه:- (وكان الداعي إليه أن فُتيا رفعت إليّ في نصراني سب] النبي - صلى الله عليه وسلم -[ولم يُسْلم، فكتبتُ عليها: يقتل النصراني المذكور، كما قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبَ بن الأشرف، ويُطهّر الجناب الرفيع من ولوغ الكلب لا يَسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانب الدم

- إلى أن قال - وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون، والله يعلم أن قلبي كارهٌ منكر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه، وأن ينجِّيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء، إنه عفوّ غفور) (السيف المسلول ص 13، 14). فماذا يقول الشريف وأرباب الحملة (الوديعة) عن حماس السبكي - رحمه الله - في النصرة والذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتمنى أن يحقق تصفية جسدية لهذا الكلب؟! فهل حماس السبكي منضبط عند الشريف؟ أم يُحذر منه؟ أو يُبَلّغ عنه؟! أو يعتذر له لأجل أشعريته؟ وهاك مثالاً ثالثاً في هذا السياق، فابن عابدين الحنفي يقول - عن شقي استطال على خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم -: - (وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحسام) (رسائل ابن عابدين 1/ 293). فابن عابدين وقد انتقد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كما في حاشيته الشهيرة - كما انتقدها الشريف حاتم، إلا أن مسألة سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرة جلية .. ولذا اتفق أقوال العلماء على ذلك - سواءً ابن عابدين الحنفي، أو القاضي عياض المالكي، أو السبكي الشافعي، أو ابن تيمية الحنبلي - فالحماس المتأجج في صدر ابن عابدين لا يشفيه إلا قتله بالحسام وإحراقه! فهل هذا حماس منضبط في لغة الشريف حاتم؟. ساق الشريف أسطورة خيالية استوعبت ثلث المقال، وجعلها مثالاً لتقريب مطلوبه، مع أن فحوى مراده ظاهر بيِّن دون حاجة إلى الإلغاز، أو تكلّف هذه الأسطورة التي أورثت خفاء وغموضاً. ثم إن هذه الحدود المفتعلة (إقليمية أو دولية) ... يكتنفها محاذير شرعية بل إشكالات " وطنية " فمتى كانت مثالاً يقرِّب الواضح والبدهي؟. - لما وضعت الحربُ أوزارها مع الحوثيين، فتوقف القتال، رفع الشريف صوته مطالباً بالتوقف المؤقت عن خطر التقارب! فالشريف - سامحه الله - يحاول مواكبة العصر في لغته ومخاطبته .. " نبذ الطائفية" .. " تقرير الاعتدال ... وهذا يتفق مع مقصود الملاينة والانفتاح والمرونة. لكن لا مانع لديه من التقهقر ونبش الدعوات المدفونة، مثل دعوة التقريب بين أهل السنة والرافضة، فهذه الدعوة المتعثرة قد أضحت أثراً بعد عين، والباحث الكريم / د. ناصر القفاري لما كتب أطروحته الرائعة عن فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وزار دور التقريب في مصر، فإذا هي مقفرة ليس بها أنيس، قد أُوصدَت أبوابها، وسفتها الرياح والأعاصير. وساق د. القفاري مختلف محاولات التقريب الفردية والجماعية، وما صاحبها من فشل وإحباط .. فالتقريب المزعوم مردود شرعاً، وغير واقع قدراً، فعلام التعلّق بالوهم واللهاث خلف السراب؟! ولِمَ لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون؟ .. حبّ السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل إنه الهروب عن الواقع؟ والنكوص عن الحقائق المرّة؟ ولو آل ذاك إلى أن تصم الآذان وتطمس العيون عن مكر الرافضة وكيدهم. كنا نأمل من الشريف وقد وهبه الله علماً وشرفاً أن ترقى الهمم إلى دعوة الرافضة وسبل إنقاذهم من الزندقة والشرك، وتحرير عقولهم من رق عبادة الأئمة .. وسبل مناظرتهم، وطرائق مجادلتهم بالحسنى، وبرامج عملية للمهتدين ..

- يعمد الشريف إلى المغالطة وخلط الأوراق! فيوهم القاريء التسوية بين الأشاعرة والرافضة، وهذا جهل كثيف لا أظن الشريف تلبّس به، فأهل السنة أدرى الناس بمراتب الشرور وتفاوت البدع، وإنزال الناس منازلهم، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ولم يعرف عن جمهور السلف القول بتكفير الأشاعرة، كما هو مبسوط في كتبهم، ولندع هذا الاكتشاف النادر الذي عثر عليه الشريف، فتشبث بعبارة قالها عالم غير مشهور في تكفير الأشاعرة! فلا موجب للشغب والاستطالة على أهل السنة، والنوح على الأشاعرة، فهذا المحدث (مطيار!) قد جانب الصواب في ذلك، وليت هذه الغضبة " المضرية " من الشريف حاتم طالت الأشاعرة، كما طالت أهل السنة، ففي كتب الأشاعرة المعروفة (مثل شرح الكبرى للسنوسي، وشرح جوهرة الأشاعرة للباجوري، وشرح أم البراهين للدسوقي .. ) يسوقون قولهم بتكفير العوام وعدم صحة إيمان المقلد .. بل يلزم من إيجابهم النظر أن يحكموا على سلف الأمة بالكفر!!. - وأما تشدق الشريف بإطلاق القول أن الأشاعرة من أهل السنة، فهذه المقالة وجه آخر من وجوه الملاينة، والتودد لأهل البدع. ثم متى يكفّ الشريف عن مجاملته التي يتهم بها الآخرين؟ والأشاعرة خالفوا أهل السنة والجماعة في جملة من مصادر التلقي والاستدلال، كما خالفوا في الكثير من مسائل الاعتقاد كالصفات والقدر والإيمان ودلائل النبوة .. وغيرها كما هو مبسوط في موضعه، ومقتضى العلم والعدل ان تذكر أوجه الموافقة والمفارقة بين أهل السنة والأشاعرة, ولعل الشريف وتلاميذه يلقون نظرة على كتاب وجيز في هذا الشأن، وهو ما سطّره قلم الشيخ المحقق سفر الحوالي في "الأشاعرة ". ثم لا موجِب للمغالطة والتباكي على علماء الأشاعرة، فأهل السنة يميّزون بين مقالات الأشاعرة، وبين أشخاصهم الذي ترد عليهم عوارض الأهلية من الجهل والتأول والغلط ونحوها .. - تتكرر (شجاعة) الشريف فهو يقول: (لن يجامل أحداً .. !) لكنه يجامل الرافضة مجاملة فجة مُفْرِطة، فالشريف يقول: - (لا أُكفِّر من كفّر عامة الصحابة - رضي الله عنهم - (مستثنياً بعضهم) ككثير من الإمامية .. ) وإذا كان الشريف حاتم لا يكفّرهم، فإن عشرات الأئمة الأعلام والعلماء الكبار قد كفّروا الرافضة منذ مئات السنين، كالإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام البخاري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي زرعة الرازي، وابن حزم، وأبي حامد الغزالي، والقاضي عياض، وابن تيمية، وغيرهم كثير - كما جاء سرد أقوال في مبحث مستقل برسالة أصول الشيعة الاثني عشرية للدكتور ناصر القفاري -. ولم يقف د. القفاري على من لم يكفر الرافضة إلا الإمام النووي ظناً منه أنهم لا يكفرون جمهور الصحابة. مع أن القول بتكفيرهم قبل استفحال كتب الروافض، وظهور زندقاتهم الصلعاء، كما أن الرافضة المتأخرين أشد انحرافاً من أسلافهم. وأخيراً على الشريف أن يتخفف من هذا التوتر والنزق تجاه إخوانه أهل السنة، وأن يكف عن الاعتذار والتبرير لأهل البدع، فلا يكن للخائنين خصيماً، فأهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم، وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم، فالأولون نصروا سنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من - قوله تعالى - {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} الشرح:4، وأهل البدع أبغضوا السنة فلهم نصيب من - قوله تعالى- {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} الكوثر:3.

التعلم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (1)

التعلم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (1) إبراهيم الأزرق كثيراً ما ترى أولئك الذين يدافعون عن الاختلاط في مراحل التعليم الأولية يكسون دعوتهم المريبة ثياب العقل والعلم، والعالم المتعقل يعرف أنها ثياب زور لا تعبر عن الحقيقة والمضمون! ومن ذلك ما يدعيه دعاة هذا الاختلاط من منافع شتى للاختلاط أو بعض أنواعه في التعليم .. وكثير من أصحاب البصيرة يعلمون أن تلك المزاعم محض دعاوى وخواطر، إما لا مستند لها من العلم يؤيدها أصلاً، أو هي صحيحة بيد أنه لا كبير علاقة للتعليم بها، وقد يكون الأمر مركباً منهما. ومن ذلك -على سبيل المثال- زعمهم أن المرأة أصبر وأقدر على تعليم الأولاد لذا يجب أن تعلمهم هي مجتمعين أو على أقل الأحوال منفصلين في نفس المدرسة، ولا سيما في الصفوف الابتدائية ولا أدري لماذا وقفوا ههنا! إن قرنهم بين الصبر والقدرة فيه نوع تلبيس وقد انطلى على بعضهم مع أنه ليس له رصيد علمي يعززه! فلو سلمنا بكون المرأة أصبر وأن المعلم لا يستطيع أن يعالج هذا الصبر في ذلك الموقف؛ موقف التعليم الذي هو من صميم وظيفته التي نصب لها ويتقاضى راتباً عليها! فهل نقول بأن وجود المعلمين في المرحلة الابتدائية محض غلط لافتقادهم عنصراً من عناصر التعليم! وأن على الوزارة أن تسرحهم بإحسان أو تحولهم إلى مراحل أخرى وأياً ما كان فإن الربط بين الصبر أو طول البال والقدرة على التعليم بعلاقة طردية غلط، بل هو محض خرافة علمية، فليس الأصبر هو الأقدر على تعليم الصغار بكل حال أيّاً كان المعلم رجلاً أم امرأة وأيًّا كان الطالب ابناً أم بنتاً، كما أن الأشد والأقوى ليس هو الأقدر! بل للبنين ما يناسبهم وللبنات ما يناسبهن .. وكل ميسر لما خلق له، والحكمة فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت والمحل الذي ينبغي! ومن جهة أخرى فإن مقومات القدرة على التعليم كثيرة غير الصبر واختزالها في الصبر ينم عن قصور في تصور العملية التعليمة، ومن جهة ثالثة لم يُخْرِج لنا هؤلاء المدعون (الصبروميتر) أو المقياس الذي يمتِّرون به الصبر اللازم للتعليم حتى نعلم كيف قاسوا منسوب الصبر عند المعلمين والمعلمات، وكيف خرجوا بدعوى عريضة مفهومها أن المعلمين لا يمتلكون القدر المطلوب! وهنا لمعترض أن يقول: يا من تنعى على الآخرين معاييرهم أين معيارك الذي يبين أن الفصل في تعليم الأطفال هو الأجدى! فأقول المعايير كثيرة والعجيب أنهم لا يطالبون بها في منافسات أخرى غير تعليمية كسائر الرياضات البدنية! ولن أعرض هنا للمعيار الشرعي فهذا بسط في مواضع وكتب فيه عدد من الأفاضل وحسبي منهم الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله فلينظر ما حرره. وأعرض ههنا لأحد المعايير العلمية (¬1)، فلننظر ما تقوله الدراسات العلمية وما تقرره من فروق جنسية مؤثرة على العملية التعليمية، ولعلي أقتصر في هذه المقالة على أحد الفروق وبيان أثرها إيثاراً لترك الإطالة، فإن يسر الله أتبعت المقالة بغيرها مما يبين أثر تلك الفروق، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابي الاختلاط في التعليم وأثره على التحصيل، ولينظر كذلك في مصادره الأصلية. وحديثي ههنا حول حقيقة علمية وحيدة وآثارها على العملية التعليمة وذلك وفقاً لما يقوله المختصون من الغربيين. ¬

(¬1) كررت (العلمية) هنا وفي العنوان وقصدي بها العلمية التجريبية وهو المعنى الشائع بين كثير من المثقفين.

يقول الدكتور ليونارد ساكس (¬1): في منتصف التسعينيات بدأت ألاحظ مجموعات من طلاب السنة الثانية والثالثة الابتدائية يتقاطرون نحو العيادة، ومع كل طفل أحد أبويه حاملاً ورقة من المدرسة تطالب بفحص الطفل والتأكد من إصابته بمرض اضطراب العجز عن التركيز ( ADD) Attention Deficit Disorder)) يقول ساكس: في بعض الحالات لم يكن الأطفال بحاجة إلى ترياق اضطراب العجز عن التركيز، بقدر حاجتهم لمعلم يفهم الفروق العضوية بين الأولاد والبنات التي تؤثر على تعليمهم، وبعد أن تقصيت الأمر وجدت أنه لا أحد في المدرسة يعرف أن قدرة الجنسين على السماع متفاوتة (¬2). ويقول أيضاً: تخيل أنك في الصف الثاني الابتدائي، ثم تخيل جستن ( Justin) ذو السنوات الست جالس في آخر الصف، والمعلمة امرأة تتكلم بنبرة مناسبة بالنسبة لها، جستن لا يكاد يسمعها، يبدأ في النظر من النافذة، أو يراقب ذبابة تسير في سقف الفصل، تلاحظ المعلمة أن جستن غير منتبه .. تتكرر القصة، فتظن المعلمة أنه ربما يكون مصاباً باضطراب العجز عن التركيز! المعلمة مصيبة تماماً في وصمه بالعجز عن التركيز، لكن ليس السبب هو هذا المرض. لكنه صوت المعلمة الهادئ الناعم الذي يناسبها، ويفلح في شد بنات جنسها، بينما ينام أغلب الأولاد الذين يجلسون في الخلف (¬3). قال ساكس: في إحدى المرات بعدما فحصت أحد الأولاد وكتبت توصيتي قالت لي الأم: إن المدرسة نصحتهم باستشارة طبيب آخر، "ليس لأننا لا نثق فيك يا دكتور، لكن فقط لأن المدرسة تطلب استشارة من خبير"، عندها فهمت أن الأطباء الذين تصنفهم تلك المدرسة في عداد الخبراء، هم فقط من يكتبون الوصفات الطبية دائماً! دفعني الفضول لأعرف ما إذا كانت تجربتي هذه متكررة أم لا، فأخذت تمويلاً من الأكاديمية الأمريكية لأطباء الأسرة، لإجراء مسح يشمل كل عيادات منطقة واشنطن. كنا نسأل سؤالاً بسيطاً: من هو أول من يشخص اضطراب العجز عن التركيز؟ الإجابة: أغلب حالات الاشتباه بالإصابة بالمرض ينبه إليها المعلم، ليس الوالدين، ولا الجيران، ولا الطبيب (¬4)! لقد أثبت المختصون وجود اختلاف بين الأبناء والبنات في استجابة الدماغ السمعية، المتفرعة عنها القدرة على السمع، فبنت عمرها سبع سنوات، تميز أصواتاًأخفت من الأصوات الضعيفة التي ينتهي إليها تمييز ولد في عمرها نفسه، وباستخدام أجهزة اختبارات صوتية عالية النوعية، وجدوا أن إحساس البنات بالأصوات، أفضل من استشعار البنين لها بضعفين وربما ارتفعت نسبة إدراك المسموعات لدى بعضهن عن بعض البنين إلى أربعة أضعاف، وذلك في نطاق الترددات المهمة لتمييز الكلام -حوالي أربعة ألاف تردد في الثانية (4 KHz) - وقد أدرك المختصون هذه النتيجة قبل قرابة نصف قرن (¬5)، ¬

(¬1) ليونارد ساكس (( Leonard Sax, M.D., Ph.D. رجل جمع مؤهلات شتى تتعلق بما نحن فيه فهو طبيب أسرة، وعالم إحيائي، بالإضافة إلى كونه خبيراً في علم النفس. وهو رئيس ومنشئ منظمة ( NASSPE) أو الجمعية الوطنية للتعليم الأهلي غير المختلط بأمريكا: National Association for Single-Sex Public Education. (¬2) Sax: Why Gender Matters?, p.4-5. (¬3) Sax: Ibid, p.5. (¬4) Leonard Sax and Kathleen Kautz: Who First Suggests the Diagnosis of Attention-Deficit Hyperactivity Disorder? A Survey of Primary-Care Pediatricians, Family Physicians, and Child Psychiatrists, Annals of Family Medicine, 1:171-174, 2003. (¬5) John F. Corso: Age and Sex Differences in Thresholds, Journal of the Acoustical Society of America,31:489-507,1959. John F. Corso: Aging and Auditory Thresholds in Men and Women, Archives of Environmental Health, 6: 350-356, 1963.

ثم أكدتها دراسات حديثة (¬1)، ووجدت بعض الدراسات الحديثة أن قدرة بعض البنات على السمع في سن الثانية عشرة تفوق قدرة البنين في نفس تلك السن بنسبة قد تصل إلى سبعة أضعاف (¬2). بل أشارت الأخصائية النفسية كولن أليوت ( Colin Elliot) ، إلى أن البنت في الحادية عشرة من عمرها يشتت ذهنها صوت أخفض بعشرة أضعاف مرة من الصوت الذي يشتت ذهن البنين، فإذا نقر طالب الدرج بأطراف أصابعه فلن ينزعج أو يزعج زملاءه، لكن ستنزعج المعلمة وسوف تنزعج الطالبات. ويبين أثر التمايز السمعي لدى الجنسين على العملية التعليمية الدكتور ليونارد ساكس فيقول: الاختلافات الأساسية في القدرة السمعية بين البنين والبنات، تدخل ضمن أهم ممارسات التدريس. فإذا كانت بالقاعة المختلطة أستاذة، فإنها سوف تتكلم بصوت يبدو عادياً بالنسبة لها، ولن تلحظ أن صوتها لا يشد انتباه البنين هناك في آخر القاعة كثيراً. وبالمقابل إذا كان في القاعة أستاذ فسوف يتكلم بنبرة يراها مناسبة، بينما قد تراها الطالبات في الصف الأمامي أقرب إلى الصراخ فيهن! ثم اقترح حلاً مبسطاً لهذا الإشكال بأن يجلس البنات في الخلف ويجلس البنين في المقاعد الأمامية (¬3). غير أن هذا الحل وإن عالج مشكلة السمع، فلن يعالج مشاكل أخرى بعضها شائع في زماننا كقصر النظر أو طوله، وكذلك الحركة الدائبة التي يُطَالَبُ بها الأستاذ في نظم التعليم الحديثة لجذب انتباه الطلاب، وقد تقتضيها حالة التدريس في القاعة أو المعمل. ثم لك أن تتصور اثنين أحدهما يفوق سمعه سمع الآخر ببضعة أضعاف، كيف سيكون حال أحدهما تجاه الآخر لو قام أحدهما فخاطب الأستاذ أو خاطبه الأستاذ؟ وقد أبانت بعض الدراسات بأن الطالبات قد تصرف انتباههن أصوات ضوضاء في مستويات منخفضة ربما لم تشغل عشرة أضعافها الأولاد (¬4). فإذا كان هذا هو الحال في قاعات الدراسة فكيف ستكون الحال داخل المعامل والأنشطة التي تتطلب حركة وعملاً تقوم به مجموعات؟ إن مما أخشاه أن يتحول طلابنا إلى متتبعين للحشرات والذباب جراء التجارب الجديدة تماماً كما فعل (جستين) وقصته حقيقية .. ثم يوصموا زيادة على ما وصم به بألقاب أخرى تعيق البناء وتغرز في أنفسهم الشعور بالقصور .. فهذا معيار وفي الجعبة غيره معايير! ¬

(¬1) Jane Cassidy and Karen Ditty, Gender Differences among Newborns on a Transient Otoacoustic Emissions Test for Hearing, Journal of Music Therapy, 37: 28-35, 2001. (¬2) Sax: The Promise and Peril of Single-Sex Public Education, online at: http://www.singlesexschools.org/edweek.html (¬3) Sax: What Are Some Differences in How Girls and Boys Learn, online at: http://www.singlesexschools.org/differences.html (¬4) Sax: Ibid.

التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (2)

التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (2) إبراهيم بن عبد الله الأزرق أشعر بشيء من الأسف أحياناً عندما أُراني محتاجاً لإقناع مسلم عاقل بالغ بقول الله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران: 36]! ولعلك تعجب إن علمت أن الجدل في هذا المعنى كان محتدماً بين الغربيين منذ أوائل القرن الماضي، ولعلي أعرض إليه لاحقاً في مقالة مستقلة لتعرف حال الجهل التي نشأ فيه الاختلاط في التعليم بالدول الغربية! أما الآن فأكتفي في صدد ذكري للفروق التي تقضي بالفصل بين الجنسين في التعليم الابتدائي ولو في صفوفه الأولية بالإشارة إلى ما أصدرته الأكاديمية الوطنية للعلوم بأمريكا، ( National Academy of Sciences) في عام (2001م) من تقرير بعنوان: "هل الجنس ذو أهمية؟ " قررت فيه أهمية اعتبار فروق الجنس. فأكد وجود فروق إحيائية ثابتة بين الجنسين، وأن هذه الفروق أبعد من كونها مجرد فروق عضوية، كالاختلافات الواضحة في بعض أجهزة الجسم. بل إن هناك فروق متشعبة مسلّم بها في التكوين "الكيميا إحيائي"، ( biochemistries) لكل من خلية الرجل، وخلية المرأة. ونص التقرير على أن هذه الفروق ليست ناجمة بالضرورة عن الخلاف في تركيبة الغدد الصماء وإفرازاتها الهرمونية. بل هي نتيجة مباشرة للفروق الجنسية بين الذكر والأنثى. ويحسن التنبيه هنا إلى أن مجرد اختلاف معدلات الهرمونات له أثره على السلوك وطريقة التعليم المتبعة مع كل جنس، فمثلاً انخفاض معدل هرمون السيروتونين ( Serotonin) ، وارتفاع عمليات التمثيل أو الأيض لدى الذكور يسبب تصرفات تلقائية تدل على الملل ولاسيما إذا حصر الطالب في مكان ضيق كدرج وكرسي، وتلك التصرفات التلقائية تسبب بالمقابل تشتيتاً لانتباه البنات، كما أن تلك الخاصية تدفع المعلمين للانشغال بالأولاد وإسكاتهم، وهذا بدوره يشوش على البنات، لذلك ينصح بالتوقف أثناء الدرس 60 ثانية من وقت لآخر، عند تعليم الأولاد في جميع الأعمار، كما أن السماح للطالب بتحريك شيء في يده بهدوء أمر مفيد لأنه يحفز دماغه، ويهدؤه (¬1)، ولا يزعج غيره من الأولاد بخلاف الإناث وقد أشير إلى هذا في المقالة سابقة. وعوداً إلى التقرير فقد خصص فصلاً كاملاً يحلل فيه الفروق النفسية، والعوامل السلوكية، ليرجعها أولاً وأخيراً إلى الفروق في التكوين الجنسي، والتركيب العضوي، الذي يتأثر جزئياً بالبيئة. وإذا كان الأمر كذلك فإن لكل جنس ما يناسب نفسيته من الطرق التعليمية ويتلاءم مع سلوكه، وهذا الأمر لن يتأتى في أوساط تعليمية مختلطة لا تميز بين ذكر وأنثى. لقد أقر التقرير الغربي عام ألفين وواحد! بصدق قول الله عز وجل: (وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران: 36]، فهل يقر بذلك أقوام من بني جلدتنا يصرون اليوم على جعل فلذات الأكباد فئراناً لتجارب محسومة سلفاً؟! وإليهم اليوم أسوق في هذه المقالة أحد الفروق العضوية بين البنين والبنات وأثره على التعليم في المراحل الابتدائية بل ما قبلها لعل مريد الحق منهم يعتبر. أوضحت بعض الدراسات أن الذكور يتفوقون على الإناث في الحركات الكبرى العامة؛ كالقفز، أو الجري، بينما تتفوق البنات في الحركات الدقيقة؛ كالكتابة، أو القص بالمقص، أو الحركات التي تحتاج إلى تناسق مثل القفز في مواضع محددة، أو من خلال حلقة (¬2). ¬

(¬1) Gurian: Boys and Girls Learn Differently! , p. 57. (¬2) ينظر علم نفس المراحل العمرية النمو من الحمل للشيخوخة والهرم، لعمر عبد الرحمن المفدى، ص255، ط الثانية 1423.

وفرع عن ذلك تفوقهن في القدرة على الإمساك بالقلم بشكل أكثر دقة، ومن ثم الكتابة، وقد أشارت لهذا دراسة أجراها الباحثون في فرجينيا تك ( Virginia Tech) ، حيث وجدوا أن المنطقة المسؤولة عن المهارات الدقيقة في أدمغة البنين تتطور لتلحق بنظيرتها لدى البنات بعد عام كامل (¬1). ومن التجارب التي تظهر خطورة إغفال مثل هذا أو عدم الاكتراث به قصة طفل لم يراع ذووه أن كثيراً من البنين في سن الخامسة ليس لديهم من المهارات الدقيقة ما يُمكنهم من كتابة الحروف الأبجدية، فقد كان ماثيو ( Matthew) كما تقول أمه: نجم الأسرة. وكان دائماً مستعداً للتجربة واستكشاف الجديد، لم يكن يتضجر أو يتذمر، لكنه تحول لطفل آخر! يساق إلى محل الدراسة سوقاً، رغم لطف المعلمة وصبرها، والسبب هو التعليم المختلط في مرحلة التمهيدي! لقد رأت أمه نباهته وتوسمت فيه مخايل النجابة فقررت أن تدفع به للتمهيدي، وعلى الرغم من أن تلك المدرسة كانت تنتهج نهجاً حديثاً لا يلزم الطلاب بمنهج دراسي، فمن شاء كتب، ومن شاء لعب، إلاّ أن البنات -نظراً لتطور قدراتهن الكتابية لقدرتهن على التحكم في العضلات الصغيرة قبل البنين- كن يجتمعن حول المعلمة ويكتبن، بينما يبقى البنون العاجزون عن الكتابة يلعبون بعيداً عنها. بدأ يتولد عند ماثيو شعور بالعجز، فأصبح يتضجر من التمهيدي، فما كان من أمه إلاّ أن ذهبت به إلى الطبيب، فنصحها الطبيب بإرجاعه للروضة لأن قدراته لا تمكنه من الكتابة في هذه السن. غير أن الأم أصرت على استمراره لأنه ذكي، ولأنهالم تسمع بطفل ذكي يخرج من التمهيدي! ومع الزمن رضخ ماثيو للذهاب .. غير أن الشعور بالعجز استقر في داخلته، وكذا الشعور بالانتماء إلى المجموعة المهملة المتأخرة. وعندما أصبح قادراً على الكتابة كان قد رسخ في نفسه عجزه. جاءت الأم لنفس الطبيب بعد عام، ومعها ورقة من المدرسة تأمل فحص ماثيو لمعرفة ما إذا كان مصاباً باضطراب العجز عن التركيز والحركة الزائدة ( ADHD) ! وبعدها تطور أمره إلى علاج نفسي، فعقارات اكتئاب، فأدوية مهدئة ... ثم اضطر لإعادة العام، وأخطر من هذا كله أنه قد رسخ في نفسه بغض المدرسة. والسبب في مبدئه عدم معرفة بقدرات الطفل، وما تؤهله له ملكاته العقلية والعضلية في تلك السن. ومشكلة ماثيو مشكلة متكررة فقد بينت الدراسات الصادرة عام 2003م أن عدد الأطفال الذين يأخذون مضادات الاكتئاب ثلاثة أضعاف عددهم قبل عشر سنوات (¬2). وقد اقترح بعض المختصين علاجاً لتنمية المهارات الدقيقة لدى البنين، بتوجيههم إلى نشاطات تسهم في نحو هذا كتدريبهم على نظم الخرز، أما مشكلة العضلات الكبيرة في البنات فتعالج بتمرينهن على ألعاب حركية مناسبة كالقفز (¬3). ومن هذا يظهر أن ألعاب الفك والتركيب الدقيقة، التي تستخدم فيها قطع بلاستيكية يمكن تركيبها وفكها بأدوات من نحو مفكات وكماشات بلاستيكية؛ مناسبة ومفيدة للبنين فوق الثلاث سنين. كما أن القواعد التي تساعد على القفز، أو ما يسمى بـ (النطيطة) مناسبة للبنات في تلك السن، وينبغي أن يحرص على أن تكون فيها مقابض وأطراف بلاستيكية آمنة تتيح لهن التمسك بها أثناء القفز .. وكذلك ما جرت به عادة البنات من نط بالحبل يساعدهن على اكتساب بعض حاجتهن العضلية. والمقصود أن الفروق العضلية مشاهدة معلومة، ولكننا كثيراً ما نغفل عن أثرها على العملية التعليمية، ويغفل من ينادي بالخلط بين الجنسين أثرها على طريقة تعليم الطالب، وكذلك يغفل أثرها عند تقييم الطالب في الصفوف الدنيا الابتدائية، وربما راعى بعض التربويون ذلك في الأنشطة الرياضية، فجعلوا منافسات البنين غير منافسات البنات وربما كان نوع رياضة هؤلاء غير هؤلاء، لكن هذا ليس كافياً؛ فكما أن خلطهم في المنافسة الرياضية وتقيمهم بناء على مقارنتهم ببعضهم يمثل ظلماً لبنين أو البنات بحسب الرياضة، فكذلك خلطهم في الدراسة وتقييم قدرتهم على الكتابة مثلاً، أو الأعمال الفنية سيكون مجحفاً، يقوم على التسوية بين من ثبتت الفروق بينهما في الجملة، ولا تسمع لجدلي يعارض بالحالات الشاذة، واعلم يا من رعاك الله أنه ليس الذكر كالأنثى! واعلم أن لتلك الفروق آثاراً قد يكون إغفالها مدمراً .. وقريباً أعرض لأثر فرق آخر إن شاء الله. ¬

(¬1) Sax: Why Gender Matters?, p.95. (¬2) Sax: Why Gender Matters?, p.96. (¬3) For more details see: Gurian: Boys and Girls Learn Differently, pp.120-121.

التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (3)

التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (3) إبراهيم بن عبد الله الأزرق لاحظ المختصون في العقد الأخير وجود فروق في تشريح العين بين الجنسين، فالشبكية وهي الجزء المعني من العين بتحويل الضوء إلى إشارات عصبية، مقسمة إلى طبقات، طبقة تحتوي على مستقبلات الصور ( photoreceptors) ؛ نبابيت ( rods) ومخاريط ( cones) . النبابيت حساسة للأسود والأبيض، ولا ترى الألوان، والمخاريط حساسة للألوان. ترسل النبابيت والمخاريط إشاراتهما للطبقة التالية؛ طبقة الخلايا العقدية ( ganglion cells) . المختصون يعلمون منذ عقود أن هذه الخلايا بعضها كبير ( Magnocellular) ، والآخر صغير ( Parvocellular) ، وأغلب الدراسات التي تتناول هذا الموضوع تشير إليهما بالرمزين M, P. وظائف كل من M و P مختلفة تمام الاختلاف؛ فالخلايا M وهي الجزء الذي يتعرف على الحركة، متصلة بصورة أساسية بالنبابيت، وتأتيها بعض البيانات من المخاريط، ونظراً لكونها منتشرة في كل الشبكية فإن بإمكانك أن ترى أي جسيم في كل المجال البصري. اعتبر أن الخلايا M مسئولة عن الإجابة على السؤال: أين هو الآن، وإلى أين سيذهب؟ أما الخلايا P في الجنس البشري فمرتبطة بأنواع المخاريط الثلاثة، الخلايا P تتركز في مركز المجال البصري؛ الحفرة ( fovea) وما حولها، وهذه الخلايا تترجم المعلومات المتعلقة باللون والملمس، لذا يمكن اعتبارها مسئولة عن الإجابة على السؤال: ما هو؟ ترسل خلايا P معلوماتها عن طريق القسم الخاص بها من السرير البصري ( thalamus) إلى منطقة محددة من قشرة الدماغ ( cerebral cortex) متخصصة في تحليل اللون والملمس، بينما ترسل الخلايا M معلوماتها من خلال ممر منفصل لمنطقة أخرى من قشرة الدماغ متخصصة في تحليل العلاقات الفضائية ( spatial relationship) وحركة الجسم. وجد الباحثون أن كل حركة إشارة في جميع ممرات الشبكية إلى قشرة الدماغ تختلف لدى كل من الذكور والإناث، فالشبكية البشرية ممتلئة بمستقبلات هرمونات جنسية. ووجد أخصائي التشريح إدوين لفارت ( Edwin Lephart) وزملاؤه أن شبكية الذكور أسمك من شبكية الإناث، وذلك لأن شبكيات الذكور فيها عدد أكبر من الخلايا M السميكة، بخلاف الإناث اللاتي تسود عندهن الخلايا العقدية P قليلة السمك مقارنة بالأولى. لقد وجد الباحثون تبايناً بين أفراد الجنس الواحد، لكنه محدود، بينما كان التباين بين أفراد الجنسين المختلفين كبيراً، وذلك ما وجد في الحيوانات أيضاً (¬1). ... خلايا P ... خلايا M مرتبطة بصورة واضحة بـ ... المخاريط ... النبابيت متواجدة بكثرة في ... وسط الشبكية (مركز الحقل البصري) ... في كل الشبكية (كل الحقل البصري؛ الأطراف والوسط) مهيأة لمعرفة ... اللون والملمس ... المكان، الاتجاه، والسرعة تجيب عن السؤال ... ما هو؟ ... أين هو الآن؟ أين سيذهب؟ ما مدى سرعته؟ إسقاطها النهائي في ... القشرة الصدغية السفلى (للدماغ) Inferior temporal cortex ... القشرة الجدارية الخلفية (للدماغ). Posterior parietal cortex المسيطرة عند ... الإناث ( P أكثر من M) ... الذكور ( M أكثر من P) ومن التطبيقات تبين أثر الفروق في تشريح العين على الجنسين من الناحية التعليمية ما يلي: ¬

(¬1) Sax: Why Gender Matters? pp.19-21.

لو أعطيت عدداً من الصغار أوراقاً بيضاء، وأقلام تلوين، وطلبت منهم أن يرسموا ما يشاءون، ستلاحظ أن البنات يستعملن ألواناً مثل الأحمر، البرتقالي، الأخضر، البيج (لون الصوف الطبيعي)، لأنها هي الألوان التي هيئت الخلايا P لتكون حساسة لها، أما الأولاد فسيرسمون أشكالاً لأشياء متحركة، وسيستعملون ألواناً مثل الأسود، الرمادي، الفضي، الأزرق، لأنها هي الألوان الأكثر ارتباطاً بالخلايا M (¬1) . وقد درس بعض المختصين في العقدين الماضيين لوحات الأطفال، فوجدوا أن البنات يملن لرسم الوجوه (بشر أو حيوانات)، والأزهار والأشجار، ويكون رسمهن متناظر الشقين إلى حد كبير، يواجه الناظر (كأنها تنظر لما يقابلها في الطبيعة)، كما يستعملن عشرة ألوان أو أكثر في اللوحة الواحدة، من الألوان التي سماها الباحث ياسومازا آري ( Yasumasa Arai) الألوان الدافئة؛ الأحمر، الأخضر، البيج، البني. أما الأولاد فيرسمون أشكالاً لأشياء متحركة؛ صاروخ يصيب هدفاً، غرباء يهمون بأكل شخصٍ ما، عربة تصطدم بأخرى ... ويستعملون ستة ألوان كحد أقصى، من التي سماها ياسومازا: ألواناً باردة؛ الأزرق، الرمادي، الفضي، والأسود. كما أنهم يتخيلون أنفسهم وهم يرسمون كما لو كانوا متحكمين في مكونات اللوحة في الطبيعة، لا متفرجين كما تفعل البنات، وقد اختصرت الأخصائية النفسية دونا تيومان ( Donna Tuman) هذه الفروق بقولها: "البنات يرسمن الأسماء، والأولاد يرسمون الأفعال" (¬2). ومن القصص التي تبين أهمية اعتبار نحو هذه الفروق في العملية التعليمة -على ضآلتها فيما يبدو للناظر- قصة واقعية، لعل سردها يثبت للقارئ أن الدعوة إلى اعتبار الفروق بين الجنسين والفصل بينهم في التعليم دعوة مهمة حقاً، وليست محض تهويل ليس عليه تعويل: أعطت أستاذة التمهيدي كل طفل ورقة بيضاء، وطلبت منهم أن يستعملوا أقلام الألوان لرسم ما يحبون، وكانت المعلمة تمر عليهم وتشجعهم، وأثناء مرورها توقفت عند أنيتا ( Anita) ، ذات السنوات الخمس، رسمت أنيتا ثلاثة أوجه مبتسمة تواجه الناظر، وقد استعملت اثني عشر لوناً! أحمر، بني، برتقالي، ... وكثير من الألوان الساطعة. قالت المعلمة: عمل ممتاز يا أنيتا .. من هؤلاء؟ فردت الطفلة: هذه أنا، وهذا أخي فلان، وهذه أمي. قالت المعلمة: هذا رائع جداً، عمل مميز. ثم انتقلت المعلمة لماثيو ( Matthew) ذي الخمس سنوات، وهو نفس الطفل الذي مر علينا عندما بحثنا أثر الفروق العضلية في المقالة السابقة. كان ماثيو قد غطى سطح الورقة بخطوط سوداء داكنة (خربشة)، فسألته المعلمة: ما هذا؟ أجاب ماثيو بكل فخر: إنه صاروخ كاد أن يدمر الأرض، انظري هذا هو الصاروخ، وهذه هي الأرض. المعلمة رأت أن ماثيو استعمل اللون الأسود فقط لكل من الأرض والصاروخ، لا أثر في لوحته لأي شخص، ولا أي لون، ولا أي حياة! ¬

(¬1) Sax: Why Gender Matters? pp. 21-22. (¬2) Sax: Ibid, pp. 23-24. Megumi Iijima, Osamu Arisaka, Fumie Minamoto, and Yasumasa Arai: Sex Differences in Children's Free Drawings, Hormones and Behavior, 40: 99-104, 2001. Chris Boyatzis and Julie Eades: Gender Differences in Preschoolers' and Kindergartners' Artistic Production and Preference, Sex Roles, 41:627-38,1999. I. Kawecki: Gender Differences in Young Children's Artwork, British Educational Research Journal, 20: 485-90, 1994. Donna Tuman: Sing a Song of Sixpence: An Examination of Sex Differences in the Subject Preference of Children's Drawings, Visual Arts Research, 25: 51-62, 1999.

قالت المعلمة بتصنع محاولة إخفاءه: هذا حسن يا ماثيو، لماذا لم تضف ألواناً أخرى؟ هل هناك أشخاص في الصاروخ؟ نعم لقد حاولت المعلمة إخفاء انطباعها السيء، غير أن هناك شيء يتقنه الطفل في هذه السن بنتاً كان أو ولداً، ألا وهو اكتشاف ما يعجب الكبار، لذا فإن ماثيو فهم رغم محاولات المعلمة أن لوحته لم تعجبها كما أعجبتها لوحة أنيتا. فكانت النتيجة أن استنتج الطفلان أن رسم أنيتا صحيح، ورسم ماثيو خطأ. حاول ماثيو أن يقلد أنيتا، لكنه عجز عجزاً تاماً. فاستقر عنده أنه فاشل في الرسم، وأن الرسم للبنات. وكما أنه اعتبر نفسه فاشلاً في الكتابة نظراً للتفاوت في القدرات العضلية المتعلقة بالتحكم الدقيق، اعتبر نفسه فاشلاً في الرسم أيضاً، وفوق ذلك المعلمة تريد منه أن يبقى في مكانه هادئاً، وينصت لما تقول، بينما لا يطيق هو إلاّ أن يجري ويقفز ويصيح. وقد عقب ساكس على هذه القصة بكلمة حاصلها أن ماثيو لم تكن به آفاة، لكن الآفة هي فصول القرن الواحد والعشرين المختلطة، أو المحايدة كما سماها. وتطبيق آخر ينبني على الفروق المذكورة ينبغي اعتباره، وهو ما أشارت إليه الدراسات التي أجريت على الأطفال الصغار من أن أداء البنات أفضل في المهارات التي تتطلب التمييز بين الأشياء، (الإجابة عن ما هو؟)، بينما أداء الأولاد أفضل في التعرف على مواضع الأشياء، (الإجابة عن أين هو؟). كما لوحظت نفس الفروق بين ذكور وإناث القرود الصغيرة (¬1). فالأشياء المتحركة ذات الألوان المحدودة كفيلة بجذب انتباه البنين، أما البنات فقد لا تجذب انتباههن هذه بنفس درجة الأشياء الثابتة ذات الألوان والتعابير المفصلة، وقد لوحظ أن أغلب البنات والنساء أفضل من البنين والرجال في تفسير كلمات الوجه. فتساءل بعض الباحثين من جامعة كمبردج ( Cambridge) عما إذا كان سبب هذا التفوق أمر داخلي أم أنه جراء عوامل اجتماعية كتشجيع الآباء لبناتهم على الجلوس والتعامل مع الأخريات، بينما ينهمك الأولاد في اللعب بالمسدسات. قرر هؤلاء الباحثون دراسة رُضَّع ورضيعات في اليوم الأول لميلادهم، فخيروا الرضع بين النظر لجسم صغير متدل وبين وجه امرأة حقيقي، كانت المرأة تبتسم للطفل دون أن تقول أي شيء، ويتدلى بجانبها جسم صغير متحرك لا يصدر أي صوت. صور جميع الأطفال البالغ عددهم اثنان ومائة طفل عن طريق آلات تصوير مرئي، ثم حلل عدد من الباحثين حركة أعينهم دون أن يكون لهم إلمام بجنس صاحب المشهد، فكانت النتيجة أن الرضع يفضلون النظر إلى الجسم المتحرك أكثر من وجه المرأة بخلاف الرضيعات، وكانت نسبة ملاحظة الأولاد للجسم المتحرك ضعفي نسبة ملاحظة البنات، فتوصل الباحثون بذلك إلى أن الفروق بين الجنسين في الاهتمامات الاجتماعية جزء منها إحيائي ( biology) الأصل (¬2)، فاعتبروا يا أولي الأبصار! ¬

(¬1) Sax: Why Gender Matters? p. 22. William Overman and associates: Cognitive Gender Differences in Very Young Children Parallel Biologically Based Cognitive Gender Differences in Monkeys, Behavioral Neuroscience, 110: 673-84, 1996. (¬2) Sax: Why Gender Matters? pp18-19.

التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (4)

التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (4) إبراهيم بن عبد الله الأزرق استخدم علماء الأعصاب في جامعة "هارفارد"، ( Harvard) تصويراً مغناطيسياً معقداً لاختبار كيفية نشوء العاطفة، فأجروا اختبارات على أولاد تتراوح أعمارهم ما بين سن السابعة والسابعة عشرة. فوجدوا أن الأطفال الصغار، تنشأ العاطفة عندهم في المناطق أسفل القشرة الدماغية، وهي المنطقة البدائية من الدماغ. وبينما يظل مركز العاطفة كما هو لدى الذكور عندما تتقدم بهم السن نحو المراهقة، فإنه يتحرك لدى الإناث نحو جزء آخر أكثر تطوراً [وقدرة على الاستنباط] في الدماغ؛ نحو قشرة الدماغ، قريباً من مركز التحكم في الكلام. ساق الدماغ ولذلك تلحظ الفرق بين الولد والبنت عندما تسأل الأول عن مشاعره فتقول: لماذا أنت حزين؟ فلا يكاد يختلف جواب ابن سبع سنين عن جواب ابن خمس عشرة سنة، بينما يختلف الأمر كثيراً لدى الإناث (¬1). وذلك لأنا عندما نسأل الولد: بم تشعر؟ فكأنما نطلب منه أن يوصل جزئين من الدماغ ليس بينهما ترابط؛ الجزء الذي يتعلق بالعواطف، والجزء المسؤول عن التعبير. بخلاف البنات اللاتي تنتقل عاطفتهن إلى جزء قريب من مركز الكلام في الدماغ، يوضح ذلك الرسم التالي المبين محل العاطفة لدى كل جنس: دماغ بنت في الرابعة عشرة، لاحظ أن مركز العاطفة (المظلل) انتقل إلى قشرة الدماغ. دماغ ولد في الرابعة عشرة، لاحظ أن مركز العاطفة باق في اللوزة. اللوزة: مركز العاطفة مركز العاطفة لدى النساء فإذا سئل طالب في سن الثالثة عشرة أن يعبر عن مشاعره حيال أي موقف، فسوف يقول: لا أعرف .. وفي داخله يقول: وما دخل الأستاذ بمشاعري (¬2)! وهذه النتيجة جاءت متسقة مع تقرير أخير صدر في ألمانيا يبين انتقال العاطفة لدى النساء إلى قشرة الدماغ، بينما تظل في موطنها البدائي للرجل (¬3). ولعل من آثار ذلك ما وجدته الدراسات من ميل البنات إلى قراءة القصص القصيرة والروايات، بينما يفضل البنون، قراءة الأحداث الحقيقية، مثل المعارك، والأخبار التاريخية، بل ميلهم إلى بعض المواد المجردة كالرياضيات، وكذلك حبهم لمعرفة كيفية عمل الآلات، وكيف تؤثر الثعابين، وما هي أسباب انفجار البراكين، وغير ها من الأمور التي تحتاج إلى تصور مجرد بعيد عن العاطفة (¬4). ومن التطبيقات التي يمكن أن يفاد منها فيحسن من أداء البنين في واجبات القراءة أن يطلب منهم رسم خريطة المكان الذي وقعت فيه أحداث القصة مثلاً، فيدفعهم ذلك إلى التركيز في تفاصيل القصة وتصورها، أما البنات فمجرد التفاصيل في القصة تشدهن، ويمكن سؤالهن مباشرة عن شعورهن أو كيفية تصرفهن فيما إذا كن في موقف شخصية من شخصيات القصة (¬5). ¬

(¬1) W.D. Killgore, M. Oki, D.A Yurgelun-Todd: Sex-Specific Developmental Changes in Amygdala Responses to Affective Faces, Neuroreport, 12:427-433, February 2001. online at: http://www.neuroreport.com (¬2) Kenneth Rowe, What Really Matters: Exploring the Evidence for Factors Affecting Girls' and Boys' Experiences and Outcomes of Schooling, Paper presented at the Boys' Education and Beyond Conference, Fremantle, Western Australia, November 2001. (¬3) Sax: Are There Actually Significant Differences Between a Girl's Brain and a Boy's Brain? (¬4) Sax: Single Sex Education Ready for Prime Time. (¬5) For more details see: Sax: Why Gender Matters? pp.107-111.

وهذا العرض يبين لك وجود فروق في طرق التعليم مبرمجة إحيائياً، تعكس فروقاً عصبية وجسدية بين الجنسين، ينبغي اعتبارها عند إرادة الحصول على نتائج أفضل أثناء العملية التعليمية. وذلك في جوانب شتى أهمها؛ تدرج السلم التعليمي للمواد فينبغي أن يوضع لكل جنس منهج يناسب استعداده وقدراته، وكذلك مما ينبغي مراعاة أسلوب الخطاب لكل جنس على حده بحيث يكون أقرب إلى إفهامه، وكل ذلك يقف الاختلاط في التعليم منذ صفوفه الأولى عائقاً دون الوصول إليه. وقد قام معهد مايكل قرين، ( Michael Gurian) بواشنطن، بتدريس الفروق بين عقول البنين والبنات، ومن ثم تدريب المعلمين على كيفية التعامل مع هؤلاء وهؤلاء، مع تطوير قاعات دراسة تكفل مراعاة الفروق بين الجنسين، ثم بدأ المعهد في تطبيق ما أعده على أرض الواقع وتحديداً في مدرسة توماس إديسون، ( Thomas Edison) الابتدائية، فوجد تحسناً ملحوظاً، إلاّ أن بعض الإشكالات لا تزال قائمة، وهنا تعلق جنفر بنقهام، ( Jennifer Bingham) بأنه يوجد حل جذري تقليدي لهذه الفجوة في التعلم بين البنين والبنات ألا وهو فصلهم (¬1). وقد ناقشت فرضيات بعض النقاد الزاعمة بأن التدريس المختلط، يكفل تفاعلاً جيداً يؤدي إلى استفادة أحد الجنسين من الآخر، فالبنات مثلاً يستفدن من البنين في الرياضيات، والبنون يستفيدون من البنات في تطوير كتابة راقية، وبينت أن هذه الفرضيات غير واقعية لا تؤيدها الإحصاءات والدراسات. ولعل من أسباب ذلك طبيعة العملية التعليمية المبنية على التفاعل بين الطالب والأستاذ، والأصل أن الطالب مُتَلَقٍ والأستاذ مُلْقٍ، فالمعلم هو الأستاذ، والمتعلم هو الطالب، وهذا التفاعل بين الطالب والأستاذ تحفزه عوامل مختلفة منها ما يناسب البنين، ومنها ما يناسب البنات. أما وجود طلاب متفوقين أو متميزين في بعض المواد فلا كبير أثر له على غيرهم من الطلاب سواء في قاعات مختلطة أو غير مختلطة، ولو فُرض وجود أثر ضئيل فالأقرب أن يكون أثراً سلبياً على أحد الطرفين، لأن التفاوت بين الطلاب قد يؤثر على الأستاذ فيعتبر أحد الطرفين ويخاطب الجميع بما يناسب بعضهم. وهذا ما أثبتته الإحصاءات والدراسات وقد أشير إلى شيء منها وأذكر ههنا جملة أختم بها المقالة: في عام (2000م) قام بنيامين رايت، ( Benjamin Wright) ، مدير مدرسة ثرقود مارشال الابتدائية، ( Thurgood Marshall) في مقاطعة سياتل بواشنطن، قام بتحويل قاعات مدرسته من قاعات مختلطة، إلى قاعات غير مختلطة، فقد كان قلقاً بشأن العدد العالي لحالات عدم الانضباط السلوكي، كان يرى كل يوم حوالي (30) طفلاً يرسلون إلى المكتب المسئول بسبب مشاكل الانضباط، فقرر أن يبحث عن علاج في الفصول غير المختلطة، وما هو إلاّ قليل حتى تجاوزت النتائج آماله. فلم يكن التحسن السلوكي هو الفائدة الوحيدة التي جناها، قال: "لقد فعلناها فقط من أجل التأكيد على الانضباط الذي استحوذ على اهتمامنا، ولكن ما أن قمنا بهذا التحول، حتى أصبح البنون قادرين على التركيز في المواد الدراسية، وكذلك البنات". ثم بين ارتفاع نسبهم المذهلة .. ¬

(¬1) Jennifer Bingham: The Lost Boy, Parenting, October 2003. online at: http://www.singlesexschools.org/lostboys.html

ومضت الأيام وتقرر تعين الأستاذ رايت مديراً عاماً لمدارس النصر ( Victory) ، في فيلادليفيا ( Philadelphia) ، فكرر نفس التجربة لتجيء النتائج في أربع مدارس مشابهة للنتائج الباهرة لمدرسة ثرقود مرشال السابقة (¬1). وفي الطرف الآخر من واشنطن واشنطن دي سي ( Washington DC) ، وفي أفقر قسم منها في مقاطعة كولومبيا، وتحديداً في مدرسة ماتن ( Moten) الابتدائية. قام مسئولها جورج سمثرمان ( George Smitherman) بخطوة جريئة إذ قرر فصل قاعات الدروس، فالبنات يدرسن في قاعات خالية من غيرهن، والبنون كذلك، بل قام بالفصل بينهم حتى أثناء ساعة تناول الطعام .. لم يستشر جورج أحداً، ولم يخبر المدير العام للمدارس، بل مضى في عمله بهدوء تام. فجاءت النتائج في يونيو من عام (2002م) لتذهل الجميع، فقد قفزت نتائج اختبارات الرياضيات في عام واحد من متوسط (49 %) إلى (88 %)، أما في القسم الأدبي فقد ارتفعت النسبة من (50 %) إلى أكثر من (91 %)، أما على نطاق الانضباط السلوكي فقد نقصت المشاكل المتعلقة بالأدب بنسبة (99 %) كما قال اسمثرمان للـ "سي إن إن". كان من المتوقع أن يسر الكبراء في مدارس مقاطعة كولومبيا ولكن الغريب أن سمثرمان وُبِّخَ! ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل وجهت إدارة مدارس مقاطعة كولومبيا المدرسين الذين طُرِدُوا من مدارس أخرى بسبب سوئهم إلى مدرسة ماتن، فلم يسع سمثرمان إزاء هذا التخريب -على حد قوله- إلاّ أن يستقيل، ومباشرة أعادت الإدارة البرنامج المختلط إلى المدرسة فلم يكن مستغرباً أن تتردى النتائج وترتد كما كانت في حقبة الاختلاط (¬2). فهلا استفدنا من تجارب مَنْ سبقونا؟! ¬

(¬1) Sax: What's the Evidence? What Have Researchers Found When They Compare Single-Sex Education with Coeducation?, online at: http://www.singlesexschools.org/evidence.html#before (¬2) السابق.

التعليم المختلط في الصفوف الابتدائية نظرات علمية (5)

التعليم المختلط في الصفوف الابتدائية نظرات علمية (5) إبراهيم بن عبد الله الأزرق من خرافات بعض مثقفينا (العلمية) التي يستخدمونها أحياناً لترويج الاختلاط في التعليم ضمن الصفوف الابتدائية كخطوة تكسر الحواجز في النفوس وتنشئ جيلاً من البنين لا ينكر الخلطة ويألف الصداقة مع الأجنبي أو الأجنبية منذ نعومة أظفاره فلا يراها منكرة بل بريئة عادية؛ من تلك الخرافات زعمهم أن التعليم المختلط ينمي بعض الملكات عند الأطفال، فيجعل الطفل لبقاء في تعامله، مهذباً عارفاً بتباين مشاعر الجنسين، قادراً على التعاطي مع الآخر (!)، واثقاً بنفسه، بخلاف العزلة فإنها تكرس عقداً في نفس الطالب، فلا يحسن التعامل مع زوجه إذا كبر، وربما طلق أثناء الخطوبة! وربما زعم بعضهم أن الفصل وضرب الحجاب سبب في الكبت المؤدي للشذوذ الجنسي! بخلاف التعامل الأريحي بين الجنسين! وهذا موضوع آخر يردده بعض الببغاوات وضعفاء العقول لعل المجال يتسع للحديث عنه بالأرقام في غير هذا الموضع، فإحصاءات الغرب تجعل أقاويل هؤلاء أضاحيك، وتبين أن أصحابها يهرفون بما لا يعرفون وإنما يتخيلون ويتوهمون! وعوداً إلى موضوعنا فهؤلاء الأذكياء الأدعياء الذين يحدثونا عن اللباقة والتعامل نسوا أثناء دعواهم تلك أن البنت قبل أن تدخل المدرسة وبعدها في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية -ليست ككثير من بنات الغرب- إذ لها نسبٌ معروف فهي تتعامل تعاملاً طبيعياً بريئاً مع أبيها وأخيها وذوي قرابتها، وأن الابن كذلك لم يخلق من العدم بل له أم، وخالة وعمة وجدة، وأخت وقائمة إناث من قرابته، وليست خطيبته أو زوجته أول امرأة في التاريخ يراها كما يتصورون! ومع تلك السطحية التي لايستحون معها من إطلاق تلك الدعاوى العريضة لا يعتبر هؤلاء بحال الغرب الذي لم يعبأ بالفصل بين الجنسين، فهم يبصرون كمَّ الانحراف السلوكي الشذوذي والاضطراب النفسي العصبي، الذي يقود كثيراً منهم إلى الانتحار أو القتل والدمار واقتراف الجرائم البشعة، ثم لا يعتبرون! ولهؤلاء المفتونين نذكر كلمات بعض أئمتهم من الغربيين المبنية على الحقائق العلمية والدراسات، لا على الخرافات والتخرصات وفي قضية اللباقة والقدرة على التعامل خاصة، أما إحصائيات الشذوذ والجريمة فأعرض عنها في هذه المقالة: قال دكتور ليونارد ساكس: "إن فوائد التعليم غير المختلط ليست منحصرة في تحسين المستوى الدراسي، فقد أظهرت عدة دراسات، أن المتخرج من مدارس التعليم غير المختلط، أكثر ثقة بنفسه، وأكثر جدية في انتهاج سبيل التعليم" (¬1). وأشار إلى دراسة آيرلندية قارنت بين الطالبات في المدارس غير المختلطة، مع طالبات المدارس المختلطة، فوجدت أن اللاتي يدرسن في مدارس غير مختلطة، أكثر ثقة بأنفسهن، بينما الأخريات يعتمد تقييمهن الذاتي على نظرتهن إلى المظهر الشخصي! يعني: ساذجةً سطحية تعتني بالقشور دون اللباب! فإذا كانت الفتاة في المدرسة المختلطة تظن أنها جميلة فعادة ما تكون ثقتها بنفسها عالية وإلاّ فلا! وبالمقابل وجدت الدراسة أن الطلاب في المدارس غير المختلطة، أكثر انفتاحاً لقبول شريحة أوسع من الموضوعات. ¬

(¬1) Sax: What's the evidence? What Have Researchers Found When They Compare Single-Sex Education with Coeducation?, online at: http://www.singlesexschools.org/evidence.html#Australia ويمكن الحصول على نسخة من الدراسة عن طريق مراسلة منظمة ( NASSPE) على بريدهم الإلكتروني وعنوانه: [email protected]

وفي دراسة أخرى ظهر أن البنين في المدارس غير المختلطة، أكثر حرية في متابعة المواضيع التي تميل إليها البنات عادة، وأن البنات اللاتي تخرجن من مدارس غير مختلطة أكثر قابلية لأن تكون موادهن الأساسية الرياضيات والعلوم، بفارق ستة أضعاف عن البنات اللاتي تخرجن من مدارس مختلطة (¬1). وفي دراسة لباحثين بجامعة "ميشيجان" ( Michigan) ، تأكد أن الطلاب في المدارس غير المختلطة لديهم تطلعات تربوية أفضل، وثقة أعلى في قدراتهم، ومواقف إيجابية نحو الأكاديميين أكثر من طلاب المدارس المختلطة. بالإضافة إلى أن البنات في المدارس غير المختلطة لم يكن بسذاجة المختلطات في تصور ما يمكن أن تفعله والنساء وما لا يمكنهن (¬2). بل أعجب من ذلك في محاورة حول التعليم غير المختلط استمعت إليها، قام أحد المداخلين للبرنامج بالاعتراض على ضيفه الدكتور ليونارد ساكس، زاعماً بأن التعليم غير المختلط يفقد الطالب القدرة على التعامل مع الجنس الآخر، [نفس ما يردده مقلدة الأباطرة]. وهذه دعوى معتبرة في المجتمعات الغربية فهم يرون أنهم يعيشون سوياً ويعملون سوياً، فلماذا يفصل بينهم في التعليم؟ خاصة مع الزعم بأن هذا الفصل يفقدهم القدرة على التعامل مع بعضهم. فكانت المفاجأة أن بين له الدكتور ساكس أن هذا الزعم مجرد خرافة، أثبتت الدراسات خطأها، بل أفادت بأن المدارس غير المختلطة لا تؤثر على نفسية الدارس من ناحية تعامله مع الجنس الآخر، بل على العكس ففي دراسة أجريت على مجموعة من طلبة الجامعة، نصفهم من مدارس مختلطة، ونصفهم الآخر من مدارس غير مختلطة، تبين أن النصف الأخير واصل علاقات رومانسية بصورة عادية بينما الأول انقطعت علاقاته (¬3) "! فيا صاحبي إن كنت تروم علاقة رومانسية كما يقولون مع زوجتك فانْأَ عن الخلطة المحرمة، فإن لم تصدِّقني ولم ترض البحث العلمي فاسألها! فإن أبيت إلاّ خلافها فاعلم أنك تطلب سراباً بقيعة، وخير لك أن تسعى لمورد ماء يروي غليلاً ويهني قليلاً. ¬

(¬1) السابق، وقد أشار إلى بعض الدراسات السابقة وغيرها بحث آخر نشر في التجمع الوطني لمدارس البنات، وعلى صفحة العنوان التالي نسخة منه: http://www.ncgs.org/type0.php?pid=16 وعلى صفحة العنوان التالي تقرير يتناول الجوانب التعليمية، والمهنية، والحصيلة الحياتية، في مدارس البنات بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد أظهرت النتائج تفوقاً باهراً لتعليم النساء غير المختلط في الجوانب الثلاثة على اللائي درسن دراسة مختلطة، وقد صدر التقرير بعد مسح قامت به مجموعة "غودمان" في يناير (2000م): http://www.ncgs.org/type0.php?pid=52. وقد أشار التقرير إلى تطابق نتائج الدراسة مع عدة دراسات أخرى ذكرها. (¬2) انظر مجلة "علم النفس التربوي" ( Educational Psychology) ، دراسة بعنوان: "تأثيرات المدارس غير المختلطة على إنجاز ومواقف الطلاب"، من إعداد " فاليري لي" و"آي بريك" ( Valerie Lee and A. Bryk) ، العدد (78)، عام (1986م)، ص381 - 395. وعلى صفحة العنوان التالي إشارة إليها: http://www.singlesexschools.org/evidence.html#academic (¬3) Talk of the Nation: Single-Sex Public Schools, Mars,8, 2004, online at: http://www.npr.org/features/feature.php?wfId=1751885.

كيف بني تحريم الاختلاط؟

كيف بني تحريم الاختلاط؟ لطف الله بن عبد العظيم خوجه المقدمة: الاختلاط موضوع كثر الكلام عنه، بكثرة من أباحه في الآونة الأخيرة، ممن له انتساب إلى العلم، ولن أكثر الجدل في هذه القضية، فأسردها على سبيل: فإن قالوا، قلنا. وهذا دليلهم، وهذا ردنا. لكني سأقول كلمة مختصرة، يفهمها كل إنسان، يعرف ماذا أراد الله منه، وما نهاه عنه؟. سأتجاوز ما لم يقل بتحريمه أحد من الناس، وهو ما كان عفويا غير مقصود لذاته، كالاختلاط في الطواف والأسواق والطرقات، وحضور المرأة للشهادة عند القاضي ونحو ذلك، وما كان له حكم الضرورة كخدمة النساء في الجيش وقت الحرب، حين يقل الرجال. وسأتجه مباشرة إلى محل التحريم، ولا أقول الخلاف، فتسميته كذلك يعطي لقول المخالف قيمة، وهو لا قيمة له، فمحل التحريم هو: الاختلاط المنظَّم؛ المقصود لذاته. وصورته جمع الطلاب والطالبات للدراسة في فصل واحد، والرجال والنساء للعمل في مكان واحد. بما يحدث به إزالة الحاجز؛ الذي هو الحجاب بين الجنسين، فيصبح هو زميلها، وهي زميلته. كصحبة الرجل للرجل، والمرأة للمرأة. هذا النوع من الاختلاط محرم لا يشك في تحريمه عامي، فضلا عن العالم الصالح؛ فالأمر الذي لا يمكن التغاضي عنه: أن الغريزة الجنسية مسيطرة مهيمنة على هذه العلاقة. فمن ذا الذي يدعي أنه لا يخف ويخفق حين يرى الشابة؟. أما الذين يصفون هذا الرأي بالشهواني، ويشنعون على من ينبه إليه؛ أنه لا يرى في المرأة سوى موضع الشهوة والولد. فماذا كانوا يصنعون، وهم يتاجرون بأنوثة المرأة وإغرائها وجسدها في سوق الأفلام، والمسلسلات، والدعايات، والموضة: غير الضرب على وتر الشهوة والغريزة الجنسية؟!. علينا بالحقائق التي لا تخفى على أحد، فموقع المرأة في نفس الرجل، وفتنته بها وإغراؤها، أمر أشهر من أن يستدل له. يكفي في ذلك ما نراه في المجتمع المختلط من افتتان يصل إلى السعار الجنسي، مع أن دعاة الاختلاط كانوا يقولون: الفصل والعزل يسبب السعار، والاختلاط يهذبه. خلقت المرأة مهوى الرجل، وهو هواها .. هذه حقيقة .. بعد ذلك: لو جئت بهما، فجمعتهما جمعا، وخلطتهما خلطا، ثم أردت إليهما أن يكونا تقيين، محافظين، عفيفين. فأنت كمن يضع طعاما بين يدي جائع، ثم تقول له: صم ولا تفطر، وإياك إياك أن تبل يدك بالأدم. نأتي إلى نصوص وردت، تسببت في اضطراب المبيحين؛ الذين كانوا يحرمون الاختلاط قبلا. في تلك النصوص إخبار باختلاط الرجال والنساء، وأكثر من ذلك: أن تفلي المرأة شعر الرجل، وأن يردفها خلفه على الدابة، والمصافحة، والمجالسة، والخدمة، والأكل والوضوء معا .. إلى ما شئت. نصوص أحدثت لبسا، حتى قيل: أين كانت قبل، لم بقيت حبيسة، لم نهتد بها إلى اليوم؟. هي اليوم فتنة عمياء يعصم الله منها صاحب الدين، وصاحب العقل يعصمه عقله، لكن البلية إذا خلي منهما، فكان كمثل القائل: "فخر عليهم السقف من تحتهم". لا عقل ولا نقل. إن علة خطأ المبيحين: أنهم لا يعرفون كيف تبنى الأحكام الشرعية. فالأحكام بناء كبناء البيت، لا يكفي جمع مواده ليصلح للسكنى، إنما بمعرفة وضع كل مادة مكانها، هنالك يكون مأوى وملاذا، وعند عامة الناس علم عام بمواضع البناء، من دون إحكام، لا يحكمه إلا المهندس الخبير. كذلك بناء الأحكام الشرعية لا يحكمه إلا العالم الراسخ. والذين تكلموا في إباحة الاختلاط أبانوا عن جهل بطريق بناء الحكم، بظنهم أن مجرد وقوفهم على نص ظاهره أو حتى باطنه مبيح، يكفي في استخراج حكم بالجواز.

ولو صح ظنهم لكان لازمه الذي لا ينفك، إباحة الخمر، حيث إن فيه نصوصا ظاهرها وباطنها جواز شربه، كقصة حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم لما شرب الخمر وصار يقول للجمع، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم إلا عبيد أبي". وإباحة أشياء أخرى فيها مثل ما في الخمر، ولأجله لا يصح - ديانة - لمن لم يعرف الطريق أن يتطفل عليه، حتى يتفقه ويعرف طرق التأويل والاستنباط والقياس، ويتعلم الأصول والقواعد الفقهية، ويحيط بالناسخ والمنسوخ وما كان أصلا أو استثناءً، وحال الضرورة والسعة، ومراتب الأوامر النبوية. والاختلاط فيه نصوص متعارضة، وليس هو بدعة في هذا، بل لو نظرت في سائر الأحكام الشرعية لوجدت فيها من التعارض ما في الاختلاط بل أشد، فلو أعملت نصوص الإباحة، عطلت نصوص التحريم. ولو أعملت التحريم عطلت الإباحة. فكان لا بد من الجمع والدراسة. فكيف ذلك؟ بني تحريم الاختلاط وتأسس وتأصل وفق أنواع منوعة من النصوص، وهي نصوص في غاية الرسوخ والثبوت والقوة، محكمة قطعية: قولية، وفعلية مؤيدة بالقولية، متأخرة ناسخة، أصل وأساس وقاعدة، لا يملك أحد تبديلها ولا تحريفها. وهي نصوص دالة على التحريم، إما بالمطابقة، أو التضمن، أو اللزوم، فقد احتوت على أنواع الدلالات الثلاث كلها. فأما الإباحة فبنيت على نصوص متشابهة ظنية: فعلية لا قولية، استثناء، وحالة ضرورة، متقدمة منسوخة، وبعضها ليست مصدرا للتشريع؛ كونها ليست صادرة من صاحب الشريعة، بل ممن يؤخذ من قوله وفعله ويرد. وسأعرض كيف بني التحريم، ثم الإباحة؛ ليتبين لمن اتسع إدراكه وخلي من التخبط والميل، فرق ما بين البنائين؛ بنيان تأسَّس على المحكمات القطعيات، وبنيان تأسَّس على المتشابهات الظنيات. * * * نصوص التحريم: إن التحريم تأسَّس وفق: نصوص القرار، والحجاب، وغض البصر، والتحذير من فتنة النساء، والمباعدة بين النساء والرجال. فأما القرار، فدليله قوله تعالى: "وقرن في بيوتكن". وحِكَمُ القرار متعددة، منها: التباعد عن الرجال. يدل على هذه الحكمة قوله عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان). أي زيَّنها في أعين الناظرين. وهذا ما يحصل حقا، فإذا قرّت فلم تخرج إلا لحاجة أو ضرورة قللت فُرَصَهُ لاستشرافها، فإذا ما خالطت لم يعد للقرار معنى؛ فإذا ما نسب للشارع إباحة الاختلاط، تبادر إلى الذهن، كيف يأمر بالقرار ثم يبيح الاختلاط؟!. ولذا فمن أباح الاختلاط، ادعى أن الأمر بالقرار خاص بأزواج النبي عليه السلام ... هكذا؟!!. نعم، قد ورد الخطاب موجَّها إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن حكمه عام، بدلالة نصوص السنة؛ ففي أحاديث كثيرة أمر للنساء بالقرار، كحديث أم حميد الساعدي، وفيه: (صلاتك في بيتك خير من صلاتك في مسجدي). قال القرطبي: "معنى الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة". ولم يرد عن أحد من المتقدمين مفسرين وغيرهم، قصر الحكم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال ذلك بعض المحدثين، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ولو كان الحكم خاصا بالأزواج لكون الخطاب جاء لهن، لكانت الشريعة كلها خاصة بالصحابة، حيث كان الخطاب إليهم حينئذ. وأما نصوص الحجاب. فقوله تعالى: - "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب". - "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".

ومن المتفق عليه بلا خلاف: أن النساء مأمورات بالاستتار عن أعين الرجال؛ فالحجاب من الحجب وهو المنع والحجز، وذلك بستر البدن وتقاسيمه وتفاصيله، فيشترط فيه جلباب: - سابغ لستر البشرة. - وواسع لستر تقاسيم البدن. فكيف يمكن الامتثال لهذا الحكم في بيئة مختلطة؟. إن ذلك لمحال؛ لأن الحجاب مجرد خرقة وقماش ينسدل على بدن المرأة، يتحرك بحركتها، فانكشاف شيء من بشرتها، أو بدوّ تفاصيل وتقاسيم بدنها وارد بل حاصل، إنها لا تأمن ذلك وهي تمر في الطريق والسوق مرور الكرام، فإذا صارت في اختلاط منظم، فمن المحال أن تحترز، وهي المضطرة للقيام والقعود، والدخول والخروج، والانحناء والالتفات على الدوام؛ لطول المكث، وللحاجة إلى ذلك. وهذه سمة في الاختلاط المنظم: طول المكث لساعات قرب الرجال. فالتستر في الاختلاط تكليف بما لا يطاق، والله إذا حرم شيئا حرم وسائله؛ حرم الخمر فحرم بيعه وشراءه. وحرم الربا فحرم كتابته والشهادة عليه، كذلك حرم على المرأة إبداء زينتها، وحرم كل وسيلة وذريعة محققة إلى ذلك، كالاختلاط الطويل. فتحقيق الحكمة من الحجاب (= ستر البشرة وتقاسيم البدن) في اختلاط منظم متعذر غاية التعذر، وما كان الشارع ليأمرها بالاستتار، ثم يبيح لها الاختلاط، إن هذا عين التناقض، ولا تناقض في الشريعة. قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا". وأما نصوص غض البصر. فقوله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن .. ". غض البصر من الرجال عن محاسن المرأة؛ سواء البشرة إذا انكشفت، أو تقاسيم البدن إذا بدت من وراء الحجاب: مأمور به. وسواء قيل بوجوب تغطية الوجه والكفين أم لا، فإن غض البصر واجب عن سائر البدن. والشاهد من هذا الدليل: أن الغض متعذر بل ممتنع في الاختلاط المنظم؛ لطول المكث في مجلس واحد، فصرف البصر من كليهما غير ممكن، وتحوط المرأة في حجابها شاق؛ إذ طول المقام يلجئها إلى تغيير أوضاعها، مما سيبدي حتما ما يجب ستره. فما كان الشارع ليأمر بغض البصر من كليهما، ثم يبيح اختلاطهما على هذه الصورة، فإن في الإباحة تحريضا وتيسيرا للنظر، وإتباعه بنظرة أخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا علي!، لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة". رواه الترمذي، وصححه الألباني. فالمختلط إذا قدر على الغض في الأولى، فهل سيصمد في الثانية، أو الثالثة إلى المائة، وهي كذلك، هما كل يوم في لقاءات مستمرة لساعات طويلة، قد تبلغ الثمان والعشر؟. وعن نصوص التحذير من فتنة النساء. قال صلى الله عليه وسلم: - (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). رواه البخاري. - (واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). رواه مسلم. وصف المرأة بأنها فتنة؛ بمعنى أنها إغراء للرجل، تقوده إلى مواقعتها، بقصد منها أو حتى بدون قصد؛ إذ هي بذاتها مصدر إغراء له، حتى لو لم ترد إغراءه، وبهذا صار للنسل امتداد وبقاء، فإغراؤها ليس عيبا ولا نقصا، بل مطلب في المباح لتحقيق مصالح للرجل والمرأة من التمتع والرحمة والمودة والذرية. وأمر باتقائها، والمعنى: اجتناب فتنتها وإغرائها، ليس المنهي مواقعتها بالفاحشة فحسب، بل باجتناب المقدمات أيضا، من: نظر، وكلام لين، وسماع بتلذذ، ولمس باليد إلى غير ذلك. فقد نهى عن كل هذه المقدمات، وأبلغ حين قال: (العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا). رواه مسلم.

فوصف مقدمات الزنا بأنها من الزنا، باعتبار أن مآلها إلى ذلك، أو المعنى كل عضو زناه بحسبه، فالعين لا تقدر على أكثر من النظر، والأذن لا تقدر على أكثر من السمع، وهكذا اللسان واليد والرجل، فكان كل تلذذ بالمرأة ليست حليلة هو كذلك. وفي الاختلاط من ذا الذي يسلم من زنا العين، والأذن، لو سلم من اللسان واليد والرجل. فإن سلم فكم هو عدد السالمين مقابل المفتونين. ولم كل هذا العناء في فتح الأبواب على الفتنة، ولا مصلحة مرجوة من الاختلاط، وكل هدف وغاية يمكن الوصول إليها من غيره؟. أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم باتقاء النساء، ووصفه بأنهن فتنة، حكم ضمني بتحريم الاختلاط بهن؛ إذ الاتقاء فيه غير متحقق، والفتنة حاصلة، والحقائق يتعذر تكذيبها إلا من مغالط أو مطبق في جهالة. وعن نصوص المباعدة بين الجنسين، وهي كثيرة، تنص وتتضمن منع الاختلاط المنظم وهي على قسمين: - الأول: نصوص قولية، تتضمن الأمر بالمباعدة بينهما. - الثاني: نصوص عملية، تتضمن تطبيق الفصل والمباعدة عمليا. ففي الصلاة باعد بينهما، فجعل صفوفهن في المؤخرة، وقال مؤكدا وقاصدا ومرغبا في المباعدة بينهما فقال صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها). رواه مسلم. فماذا يفهم من هذا القول، وهذا التطبيق العملي؟، هل يفهم منهما تسويغ الخلط بالقصد والعمد؟!. هذا من الأدلة على تحريم الخلط المنظم، فالصلاة نظام، في كل يوم خمس مرات يجتمع الناس على هيئة واحدة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يباعد بينهما قولا وعملا، ويحذر حتى مما ليس في قدرة أحد تحاشيه، فالمتأخر ليس له إلا الصفوف الأخيرة، والمبكرة ليس لها إلا الصفوف الأولى، ومع ذلك جعلها عليهن شر الصفوف، وعليهم كذلك. فمن فهم هذا تساءل: كيف يمكن أن ينسب إلى الشارع إباحة الاختلاط المنظم في تعليم أو عمل، وهو يرى هذا الحرص البالغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفصل في الصلاة قولا وعملا؟. ثم جعل لهن بابا، فقال: (لو تركنا هذا الباب للنساء). فما دخل منه الصحابة بعدها. رواه أبو داود، وكان إذا انصرف من صلاته مكث قدر ما ينصرف به النساء من المسجد، ثم ينصرف إلى الناس، وهم لا ينصرفون إلا بانصرافه، حتى لا يختلطوا عند أبواب المسجد. كذلك هذا منع للاختلاط المنظم؛ إذ الدخول والخروج من المسجد يتم في اليوم خمس مرات. عن أم سلمة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيرا قبل أن يقوم). رواه البخاري. قال الزهري: " نرى أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال". وأكثر من ذلك، كان يأمرهن بالمشي في حواف الطريق، وأن يدعن الوسط للرجال، فيفصل بينهما حتى في الطرقات، فهذا الاختلاط عفوي غير المنظم، ثم مع ذلك حبذ لهن التجافي عنه وتحاشيه. عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال النبي للنساء: (استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق). "فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به". رواه أبو داود وصححه الألباني. بعد ذلك، نأتي إلى الاختلاط في العلم، فقد كان مجلسه للعلم للرجال وحدهم، مما حدا بالنساء أن يطلبن يوما للتعلم، فخصهن بيوم، ولم يأت بهن في مجالس الرجال؛ لينهلا سويا في مجلس مشترك مختلط، أليس هذا دليلا صريحا في منع المنظم من الاختلاط؟.

ألم يكن في القدرة الجمع بينهما؛ لتنال المرأة القسط ذاته من العلم الذي يناله الرجل، وهي بين أطهر الناس وأعلاهم دينا وعلما؛ الذين زكاهم الله تعالى ورضي عنهم؟. عن أبي سعيد الخدري: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم، غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك. فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها، إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة: واثنين؟. فقال: واثنين). رواه البخاري. * * * هذه هي نصوص التحريم، أنواعا منوعة، كل نوع منها تحته أفراد كثيرة من الآثار محكمة الدلالة، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن له، من بيان تحريم الاختلاط المنظم المقصود بين الجنسين. وهي نصوص دالة على التحريم إما بالمطابقة، أو بالتضمن، أو باللزوم. فقد احتوت على أنواع الدلالات الثلاثة كلها. فنصوص المباعدة والفصل بين الجنسين، دالة على تحريم الاختلاط بالمطابقة؛ أي طريق مباشرة، فهي نص في المسألة، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم سعي ولا حرص على خلط الرجال والنساء في مجلس واحد، فلم يكن في مجلسه إلا الرجال، إلا استثناءً وعرضا، كأن تأتي سائلة، أو شاكية، أو مستفتية، أو واهبة نفسها للنبي، لم يكن في مجلسه للشورى والعلم والتخطيط والمدارسة عائشة، ولا حفصة، ولا أم سليم، ولا صفية بنت عبد المطلب عمته، بل ولا ابنته فاطمة. وقد كنّ خيرة النساء مبشرات بالجنة. وهكذا مجالس أصحابه الخلفاء الراشدون من بعده خالية من العنصر النسائي. ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم، دعوته تجار الصحابة توظيف بنات الصحابة الفقراء في تجارتهم لسد عوزهن، ولا إرسالهن إلى الآفاق وحدهن للدعوة أو التعليم أو العلم، بل لما خرجت امرأة إلى الحج وحدها، أمر زوجها - وكان قد اكتتب في غزوة - أن يدع الغزوة ويلحق بها. ونصوص الحجاب تضمنت تحريم الاختلاط .. فإن الحجاب معناه الحجز والفصل والمنع، وفي الاختلاط ينتفي هذا المعنى، وإنما سمح بالاختلاط العفوي - بالرغم من أنه تقارب ينافي معنى الحجاب- للضرورة والحاجة ورفع الحرج عن الأمة، فهو استثناء وليس بأصل، فإذا لم يكن ثمة ضرورة .. فالتباعد والتجافي. كذلك نصوص القرار، فقد تضمنت التحريم، فقد أمرت المرأة بالقرار للتباعد عن الرجال .. وأما نصوص غض البصر، فهي دائرة بين التضمن واللزوم: فيمكن القول: إنها تضمنت منع الاختلاط؛ لاستحالة غض البصر في الاختلاط. ويمكن القول: إنه يلزم عنها عدم الاختلاط؛ لتعذر ومشقة غض البصر حينئذ. وكلا الحالين يمثلها فئة من الناس، فمن الناس من يستحيل في حقه غض البصر؛ لولعه بالنساء، وهؤلاء كثيرون موجودون متعطشون. ومن الناس من يشق عليه جدا، فهذا في معاناة لا يعلم بها إلا الله تعالى. فلذلك للدلالتين في هذا النوع نصيب. فأما نصوص الفتنة والاتقاء، فقد دلت على التحريم من طريق اللزوم، فيلزم لمن أراد أن يتقي فتنة النساء، التباعد عنهن وعدم التقارب إلا بقدر الضرورة والحاجة، وما كان بغير قصد. كل هذه الأنواع من الأدلة تجاوزها المبيحون، ولم يقدروها حق قدرها وجلالتها وهيبتها، فإنه من العسير جدا ردها، أو إبطال دلالتها الظاهرة، وهي كافية في تأسيس الحكم، فلو أتى ما يشكل عليها، فالواجب طرحها أو تأويلها، كما تطرح النصوص التي أشكلت على عدالة الصحابة أو تُأَوّل. هذه النصوص هي التي بني عليها حكم التحريم، فإنها صحيحة ثابتة، صريحة محكمة، وبمثلها تقوم الأحكام: فهي آيات قرآنية، وأحاديث نبوية ثابتة، والطعن في صحة بعض منها لا يضر؛ فليست حديثا واحدا ولا حديثين، ليظن مبيح الاختلاط: أن بتضعيف بعضها يسقط تحريم الاختلاط.

كلا، بل أحاديث كثيرة منوعة، مروية في السنن والصحاح وفي البخاري ومسلم؛ أهم مصدرين للسنة تلقتهما الأمة بالقبول، إذا لم يقم بالحكم حديث قام به غيره، وأسندته أحاديث كثيرة ثابتة. ثم إن تلك النصوص صريحة محكمة؛ لا تحتمل إلا معنى واحدا. وإن أول سؤال يرد هنا بعد هذا التأسيس لتحريم الاختلاط، بمثل هذه النصوص الوفيرة المنوعة: ما جواب المبيحين عنها، وما موقفهم منها، هل قبلوها، أم أعرضوا عنها، أم حرفوا معانيها؟. الجواب: لما كانت من الوضوح بمكان، عمد مبيح الاختلاط إلى تأويلها، وصرف معانيها إلى ما يتوافق والاختلاط، أو الإعراض عنها!!؛ لأنه عسير الجمع بينهما. - ادعوا أن حكم القرار خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أتوا في هذا بالعجب، وأفصحوا عن قلة فقه وبصيرة بمعاني الأوامر الإلهية، فإن عمدتهم في هذا: أن الخطاب توجه إلى الأزواج. ويرد على مذهبهم هذا من وجوه: الأول: أنه يلزم عن قولهم هذا، أن كل خطاب توجه إلى أحد بعينه، فحكمه خاص به، وحينئذ فالشريعة كلها خاصة بالصحابة؛ لأن الأمر الإلهي نزل يخاطبهم حين نزل، فمن بعدهم لم يأت بعد. وما هكذا سبيل العلماء، سبيلهم أن الحكم يخص المخاطب بشرط هو: إذا ورد دليل آخر يدل على الخصوصية. وقد قال تعالى مخاطبا الأزواج: "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى". فهل سيدّعون أن النهي عن التبرج أيضا خاص بالأزواج؛ لأن الخطاب توجه إليهن؟. الثاني: دلت أدلة أخرى على: أن الحكم يعم جميع النساء. كحديث أم حميد الساعدي: (صلاتك في بيتك خير من صلاتك في مسجدي). فتأكد أن مخاطبة الأزواج لم يكن بغرض اختصاصهن بالحكم. الثالث: لم ينقل أحد من المفسرين أن الحكم بالقرار خاص بأزواج النبي، بل قال القرطبي: "الشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة". الرابع: قيل لهم: لم خص الأزواج بالقرار؟. قالوا: لحرمتهن ومنزلتهن. فيقال لهم: هذه الحرمة والمنزلة تشمل فاطمة بنت رسول الله ولا شك. فيجب عليها القرار أم لا؟. فإن قالوا: يجب عليها القرار. فهاهم أدخلوا من لم يتوجه الخطاب إليه، فبطل قولهم بالتخصيص. وإن قالوا: لا يجب عليها القرار؛ لأنها لم تخاطب. بطل تعليلهم، وما بني عليه من التخصيص. فكيفما قدرت، فقولهم باطل. - لكن ماذا صنعوا بالحجاب، وهو أصرح الأدلة على منع الاختلاط؛ إذ لا معنى له ولا فائدة مع إباحة الاختلاط، فالحجاب هو الفصل والمباعدة، والاختلاط عكس ذلك؟. لما كانوا في هذه الإباحة للاختلاط المنظم متناقضين مع معنى الحجاب والحكمة منه، صاروا إلى القول بالتخفف منه، حتى يتلاءموا مع هذا الوضع الجديد، المناقض للحجاب، فمن كان يقول بوجوب تغطية الوجه، رجع إلى القول بالكشف، ومن كان يقول بكشف الوجه، وأفضلية تغطيته، عاد يقول: الأحسن الكشف، حتى تقدر على أداء مهامها دون عائق بصري، قد ينتج عنه خطأ وكارثة. حتى وصل بها الحال إلى حجاب يغطي الرأس فحسب، ثم تلبس ما تشاء من قميص وإزار حتى "البنطلون"، ولو بدا تفاصيل الجسد؛ أي جعلوا مجرد ستر البدن هو الفرض دون تقاسيمه وتفاصيله، وهذا بالاتفاق منكر، فانتشر هذا واشتهر، فأنكروه أولاً على خجل، ثم سكتوا، ثم قبلوه وأقروه؛ بأن الواقع الجديد يتطلب هذا النوع من الحجاب، وهكذا دخلوا في فكرة عصرنة الإسلام؛ أي تطويع أحكام الإسلام بما يناسب أحوال العصر .. صار العصر هو الإله؟!!. ومن الدليل على هذا: تجويزهم - بل دعوتهم - للمرأة المشاركة في الأولمبياد الرياضية، وبالقطع لن تستطيع المشاركة بالحجاب الشرعي السابغ، إنما بحجابهم العصري المجسم المقسم للبدن. وتجويزهم المشاركة في التمثيل، والغناء بين الرجال، إلى غير ذلك ..

صاروا إلى القول بأن للمرأة أن تمارس كافة النشاطات - بلا استثناء - بين الرجال .. "بحجابها".؟!!. وهكذا هدموا الحجاب نفسه ونقضوه، بعدما هدموا معناه بإباحتهم الاختلاط، فما عاد حجاب هؤلاء النسوة والفتيات كحجاب الصحابيات والمؤمنات، وكما جاء الوصف في القرآن جلبابا يغطي من الرأس حتى القدم، واستقر عليه تفسير الصحابة، قال تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما". قال ابن عباس: "أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة". فأين هذا من حجاب ليس إلا الخمار فحسب، لا يغطي إلا شعر الرأس والعنق، وبقية البدن خالٍ من الجلباب، ظاهر المفاتن لكل عين؟. ولا عجب من الوصول إلى هذا الحال؛ فهو يؤكد ما تقدم: أن الحجاب والاختلاط المنظم يتنافيان. - أما عن موقفهم من نصوص غض البصر. فلما علموا استحالة غض البصر في الاختلاط، حرفوا معنى الأمر الإلهي؛ ليتلاءم مع حياة الاختلاط. فعندهم: يغض بصره إذا خشي الفتنة. فانظر إلى هذا التحريف البيّن: أمرت الآية بغض البصر ابتداءً، منعا للفتنة .. وهم يبيحون النظر والاسترسال، حتى إذا خشي الفتنة، أمروه بالكف. فمن يتبعون: آلآية، أم أهواءهم؟. - وعن نصوص الفتنة والاتقاء للنساء، هم يغضون البصر، ويكفون عن التأمل. ونحن نتكلم عن المنتسبين للعلم والدعوة، أما غيرهم فيسخرون منها، وهم يعلمون أنها كلام نبوي شريف قاله ونطق به من لا ينطق عن الهوى، فيقولون: لا يزال فينا إلى اليوم من يعتقد أن المرأة عورة، وأنها فتنة؟؟!! .. - وإذ نأتي إلى نصوص المباعدة والفصل، فإنهم كانوا أشد إعراضا لها. ألقوها خلفهم ظهريا، ولم يرفعوا رأسا بفصله صلوات الله وسلامه عليه بين النساء والرجال في المساجد، وعند أبوابها، والطرقات، وفي مجالس العلم، وفي المواعظ والدروس والشورى والسفر والحضر والتجارات والأعمال. إنما عارضوها بما ظنوه مبيحا للاختلاط، في الطواف والأسواق والجهاد، ولم يتفكروا: إذا كانت هذه تبيح وتلك تمنع، فكيف جاز لهم تقديم الإباحة وتعطيل المنع، فأيهما الأولى بالتقديم؟. كان الأولى بهم النظر، لتحديد ما يكون هو الفرض والواجب تقديمه، فإن اعتاص عليهم، قلدوا الراسخين في العلم، وحينئذ لن يملكوا إلا تقديم النصوص القولية المؤيدة بالتطبيقات العلمية -وهذه حال ووصف النصوص المحرمة للاختلاط- على النصوص العملية غير المؤيدة بالقولية، وهذه حال ووصف المبيحة، والتي فوق ذلك هي محتملة متشابهة؛ لها أكثر من معنى. قال الله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما". * * * نصوص المبيحين: أتينا إلى ما ظنوا حجة ورأيا سديدا .. وحين يكمل عقل المرء ودينه وفقهه، يكفيه ما مضى من تأصيل لتأسيس الحكم لديه، ومعرفة ماذا شرع الله تعالى في العلاقة بين الجنسين. فإذا ما عرض له شيء ظاهره يخالف ما تقرر وتأصل وتأسس، فإنه يلجأ إلى تخريجه والجواب عنه بما يحفظ الأصل ويقره، فهذا حال الراسخين في العلم والمؤمنين، أما حال غيرهم ممن قصر فقهه أو ممن زاغ وابتغى الفتنة، فَيَدَعون الأصل؛ ليعتنوا بالعارض الطارئ، فيجعلوه هو الأصل، على شذوذه وضعفه، فيستنبطوا منه حكما أصليا ثابتا، ينقضون به الثابت المستقر الصادر بالأمر الإلهي.

فحالهم كحال الذي بلغه: أن الحاكم أصدر مرسوما بمنع البيع والشراء بعد الثانية عشرة ليلا، وأعلن ذلك على الجميع، وتأكد بمراسيم أخرى، ثم مر يوما فرأى صيدلية تفتح أبوابها في الواحدة صباحا، ثم تكرر منه رؤية ذلك، ومر فوجد دكانا كبيرا يبيع في الثالثة صباحا، إلى جانبه آخر صغير كذلك. وفي الأثناء أخذ كتابا قديما، فقرأ فيه: أن الناس في هذه البلدة يتبايعون ليلا ونهارا. فاستنبط من ذلك: أن المرسوم قد ألغي. والدليل: هذه المحَاَلّ المفتوحة، وما في الكتاب القديم من خبر. بل زاد على ذلك: عجبه من إحجام البقية عن استغلال هذا الإذن، والعودة لمنافع البيع والشراء. وما درى هذا: أن تلك المحال مستثناة من المرسوم، لحاجة الناس الدائمة، والمرسوم على حاله من المنع. أما الدكان الصغير، فهو مخالف يستحق العقوبة، وما في الكتاب القديم، كان قبل الأمر. والقصد: أنه ما من أمر سواءً كان إلهيا، أو بشريا. وإلا ويعتريه استثناءات للحاجة والضرورة، وهناك من يخرقه ويخالفه قصدا، ومن يخالفه سهوا ونسيانا. فلو كانت هذه الأحوال المخالفة -بعذر أو بدون عذر- سببا كافيا لإلغاء الأمر، لألغيت الأوامر كلها، وما ثبت أمر ألبتة. وهكذا أحكام الشريعة، فيها أمر عام، يتأسس بالنصوص الصحيحة والصريحة في المعنى، كنصوص منع الاختلاط، ثم يطرأ عليها أحوال استثنائية، أو يوجد من يخالفها، لكنها لا ترقى أن تبطلها. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط. ثم إن ابن عمر مرة ارتقى جدارا، فرأى النبي عليه السلام يقضي حاجته مستقبلا أو مستدبرا القبلة. فذهب العلماء إلى قولين في المسألة: الأول: أن هذا الفعل تخصيص لعموم النهي. فإذا كان في فضاء منع، وإذا كان دون القبلة حاجز جاز. الثاني: أن القول مقدم على الفعل؛ لأن القول مقصود لذاته، ونحن مأمورون بطاعة قوله، وأما الفعل فقد يكون سهوا، وقد يكون عمدا، فلما احتمل، وتعذر الترجيح، بقي النهي على عمومه. وهكذا لم نجد بينهم من عارض وضرب قوله بفعله، فعطل الأمر بالفعل، فأجاز بين البنيان مطلقا، لكن الذين أباحوا الاختلاط خالفوا سبيل العلماء الراسخين، فضربوا قوله بفعله .. * * * وهذا يتبين بما يلي: إن نصوص المبيحين لاختلاط الرجال بالنساء ضعيفة في دلالتها، وهي كذلك في غير محل النزاع .. فأما كونها ضعيفة الدلالة، فلأمور أربعة هي: أنها عملية، متشابهة، مبيحة، على البراءة الأصلية. الأول: أنها عملية. ليست بقولية، والمعلوم عن أهل الأصول والفقهاء والمحدثين، من حيث المبدأ والأصل: أن القول مقدم على الفعل، وأن ما كان أمرا بالقول فهو مقصود لذاته؛ لأنه موضوع للدلالة على الأمر، بلا خلاف، وهو يدل على الوجوب بنفسه من غير واسطة. والدليل يؤكد هذا، فإن الله تعالى يقول: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"، فقال: {عن أمره}، والأمر هو القول، قال تعالى: "ولكن حق القول مني: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين". فأما الفعل فإنه قد يكون مقصودا، وقد لا يكون مقصودا، وقد يكون عمدا، وقد يكون سهوا، كما تقدم في مثال استقبال القبلة في قضاء الحاجة، فلا يأخذ منه حكم ابتداءً، لكن القول يؤخذ منه. فقول النبي صلى الله عليه وسلم يتعدى إلى غيره بنفسه، بخلاف فعله، فلا يتعدى إلا بدليل. فإذا اجتمعا كان التمسك بقوله، وحمل فعله على التخصيص ونحوه هو الواجب. قال الزركشي في البحر المحيط 6/ 177: "أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا، فيقدم القول؛ لأن له صيغة، والفعل لا صيغة له". والكلام نفسه بحروفه ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول 2/ 393.

وقال الزركشي أيضا 4/ 198: "مذهب الجمهور: تقديم القول: - لقوته بالصيغة. - وأنه حجة بنفسه. وظاهر كلام ابن برهان أنه المذهب. وجزم به إلكيا. قال: لأن فعله لا يتعدى إلى غيره إلا بدليل، وحق قوله أن يتعداه، فإذا اجتمعا تمسكنا بقوله، وحملنا فعله على أنه مخصوص به. وكذا جزم به الأستاذ أبو منصور، وصححه الشيخ في اللمع، والإمام في المحصول، والآمدي في الأحكام، والقرطبي وابن حزم". قال في الكوكب المنير 2/ 202: " (وإن جهل) هل تقدم الفعل على القول، أو تأخر عنه (وجب العمل بالقول) دون الفعل؛ لأن القول أقوى دلالة على الفعل: - لوضعه لها. - ولعدم الاختلاف في كونه دالا. - ولدلالته على الوجوب وغيره بلا واسطة. - ولأن القول يدل على المعقول المحسوس، فيكون أعم فائدة". الثاني: أنها متشابهة. أي محتملة لأكثر من معنى، كما سنبين في المثال الآتي، والنصوص المتشابهة لا يؤخذ من معانيها إلا المعنى الموافق للمحكم، ويطرح ما عداه، لكن المبيحين أخذوا المعنى المعارض للمحكم، وطرحوا الموافق له، عكس سبيل المؤمنين العلماء الراسخين في العلم. الثالث: أنها مبيحة. تقابلها نصوص تقتضي الحظر، والحظر مقدم على الإباحة؛ لأن المحرمات يحتاط لإثباتها ما أمكن. قال الرزكشي في البحر المحيط 6/ 170: "أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط؛ أن يقتضي الحظر، والآخر الإباحة، فيقدم مقتضى الحظر؛ لأن المحرمات يحتاط لإثباتها ما أمكن، ولحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ". وفيه 6/ 171: "أن القاضي بكار سأل المزني: يا أبا إبراهيم!، جاء في الأحاديث تحريم النبيذ، وجاء تحليله، فلم قدمتم التحريم على التحليل؟. فقال المزني: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن النبيذ كان حراما في الجاهلية ثم نسخ، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالا، فهذا يعضد الأحاديث بالتحريم. فاستحسن ذلك منه". وعلى النسق نفسه نقول: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن الاختلاط كان حراما في الجاهلية ثم نسخ، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالا أو مباحا غير محرم، فهذا يعضد الأحاديث بالتحريم؛ أي يدل على نسخ الإباحة. الرابع: أنها على أصل البراءة. والتحريم والحظر ناقل، والناقل عن الأصل مقدم؛ لأن فيه زيادة وهو الحكم بالتحريم، أما الأصل والبراءة فليس فيه حكم، بل مسكوت عنه، جارٍ على العادة. قال الزركشي 6/ 169: "أن يكون أحد الخبرين مفيدا لحكم الأصل والبراءة، والثاني ناقلا، فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل". فدلالة نصوص الإباحة ضعيفة لواحد من هذه الأمور منفردا، فكيف بها مجتمعة؟. أي لو فرض عدم معرفة تاريخ المتقدم والمتأخر والمنسوخ والناسخ، لكانت هذه الأمور الأربعة -منفردة أو مجتمعة- كافية في إبطال الإباحة وتقديم الحظر والتحريم، كيف وقد علم يقينا أن هذه النصوص لا تعارض التحريم، كونها في غير محل النزاع. فكونها في غير محل النزاع، فلثلاثة أمور: الأول: أنها نصوص كانت قبل الحجاب. كحديث دخوله صلى الله عليه وسلم على أم حرام وأم سليم، وإضافة الرجل وزوجه للضيف وأكلهما معه، وخدمة أم أسيد الحضور من الرجال يوم عرسها، ودخول عائشة على أبيها وبلال لما قدما المدينة وبهما حمى يثرب، ووضوء الرجال والنساء جميعا وغير ذلك، فكل هذه عليها قرائن ثابتة تبين أنها كانت قبل نزول الحجاب في نهاية السنة الرابعة، فلا حجة فيها إذن. فحديث أم سليم وأم حرام سيأتي تفصيله، وحديث الضيف يدل على فقر كان بالصحابة، حيث لم يتعرض لإضافته سوى هذا الرجل، ولم يكن معه شيء هو أيضا، إلا قوت أولاده، وكذلك الناس كانوا قبل نهاية السنة الرابعة (= سنة الحجاب)، حتى فتح عليهم من الرزق بعد ذلك.

وأم أسيد ولدت أسيدا، وهو معدود في الصحابة، فمن المقطوع به أنه ولد قبل الحجاب، وإلا كان عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين. وعائشة إنما دخلت على أبيها وبلالاً في أول مقدمهم إلى المدينة، حيث كان بها حمى يثرب، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فنقل حماها إلى الجحفة. ووضوء الرجال والنساء جميعا قطعا كان قبل الحجاب، لو كان معنى "جميعا": في آن واحد، من إناء واحد. لأنه بالاتفاق لا يجوز للمرأة تبدي للأجنبي قدمها، وساعدها حتى المرفق، ورأسها وشعرها وأذنها، وكل ذلك من مواضع الوضوء، فوضوءها عند الرجال يعني كشف كل ذلك. وكلام الشارع لا يتناقض، حيث أمرها بستر كل ذلك أمرا صريحا. الثاني: أنها كانت مع محارم. كما قد ذهب بعض العلماء في حق أم حرام وأم سليم أنهما كانتا خالتي النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، حيث رضعن مع أمه آمنة، والتي كان أخوالها من الأنصار، وكذا في قصة المرأة التي كان تفلي شعر أبي موسى الأشعري في حجة الوداع، يحتمل أنها كانت من محارمه. الثالث: أنها حالات استثنائية: - فمنها ما كان ضرورة وحاجة، كخروج النساء للجهاد؛ لقلة الرجال، فلما كثروا قلَّ خروجهن، وحضورهن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم للسؤال والشكوى ونحوه، وخروجهن للسوق والصلاة والطواف والحج، كل ذلك يقع فيه اختلاط، لكن لا بد منه، فتسامح فيه الشارع، ولم يؤاخذ به. - ومنها أن المختلطة كبيرة، بالغة سن اليأس، في مقام الأم والجدة، كما قد يقال كذلك في قصة المرأة فَلَتْ شعر أبي موسى الأشعري، وهو وجه ثان في التخريج؛ فإذا لم يثبت محرميتها له، فيحتمل أنها كبيرة لا تشتهى، وحكمها بالقطع ليس كحكم الشابة، فإن لها أن تضع خمارها، فتكشف عن وجهها غير متبرجة بزينة، كما في الآية، فإن احتيج إليها في تطبيب ونحوه فلا بأس. وكذلك حديث سهل بن سعد في إطعام المرأة لهم يوم الجمعة، فإنها كانت كبيرة، وهم صبية، وفيه تخريج آخر: أنه لا يلزم من إطعامها جلوسها معهم، بل مجرد تقريب الطعام، وذلك لا مؤاخذة فيه. - ومنها ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما في إرداف أسماء، وهكذا كان جواب بعض العلماء الذين لم يثبت عندهم قرابة أم سليم وأم حرام للنبي صلى الله عليه وسلم، فجنحوا إلى الخصوصية، وهو وارد، حيث عصمته من الإثم في هذا يقيني، وليس لغيره مثل هذه العصمة، ثم هو أب للمؤمنين، يزوجهن بغير ولي، كما أن أزواجه أمهاتهم. يدل عليه: أن أحدا من الصحابة لم يقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدخول على الأجنبيات. وهكذا نكون قد أجبنا، ووضعنا ميزانا لحل كل ما يورده المبيحون من أدلة، لا يزالون يختلقونها اختلاقا بأدنى صلة، وبعضها لا صلة لها بمحل النزاع أصلا. ومع كل ذلك، فهاك دليلا مما استدلوا به، نعرضه ونناقشه تفصيلا وفق الميزان، كأنموذج يقاس عليه غيره، وبه يتبين اختلال منهج المبيحين - ولا يتصور منهم غير ذلك - وأصالة منهج المحرمين. روى البخاري في صحيحه في الاستئذان، باب: من زار قوما فقال عندهم. حديثين عن أنس: - (أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعا، فيقيل عندها على ذلك النطع. قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه وسلم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة، ثم جمعته في سُكّ وهو نائم. قال: فلما حضر أنس بن مالك الوفاة، أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السُكّ، فجعل في حنوطه).

- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب قباء، يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما فأطمعته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟. فقال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة، أو قال: مثل الملوك على الأسرة - يشك إسحاق - قلت: ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا). الحديث. ظاهر الأثرين معارض، يخالف كافة نصوص تحريم الاختلاط، وأكثر من ذلك؛ فإنه يخالف صريح نهي النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء). رواه البخاري/ النكاح/ لا يخلون رجل. فكيف يكون الجواب عنهما، فإنه من المحال الأخذ بهما وإباحة الدخول والاختلاط؛ لأنه هدر لنصوص كالجبال سبقت في المنع والتحريم؟. للجواب سؤال: هل يمكن أن يكون لهذين الأثرين جواب غير أنهما يبيحان الاختلاط؟. نعم، ثمة أجوبة كلها محتملة واردة، فمن ذلك: أنها حادثة قبل الحجاب، أو أنهن محارم، أو خصوصية. فأما احتمال كونها قبل الحجاب؛ فذلك أن الرجال كانوا يدخلون على النساء بيوتهن، حتى تزوج عليه الصلاة والسلام بزينب، فدخل الناس للطعام، فأطالوا المكث وهم جلوس، وزينب جالسة، والرسول يدخل ويخرج، حتى نزلت الآية في سورة الأحزاب: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي .. "، إلى قوله: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب". فخرج الرجال وضرب الحجاب. (رواه البخاري)، ومنعوا من الدخول بعد ذلك على النساء، وقال: (إياكم والدخول على النساء). فالحجاب والنهي عن الدخول ثبتا قولا، وبه تأسس الحكم بالمنع من هذا الاختلاط، وبعد ذلك، فكل ما أتى من خبر فيه: أنه دخل على امرأة أجنبية بيتها. فحمله على ما قبل الحجاب هو المتوجب. إذ النبي لا يخالف إلى ما نهى عنه عامدا قاصدا إلا بعذر شرعي، قال تعالى: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه .. ". وبهذا الجواب نحفظ للنصوص وقدرها ودلالتها ومعانيها، ونكون قد أجبنا على ما أشكل جوابا معقولا ممكنا غير محال، ومهما أمكن الجواب عن المشكل بما لا يعطل المحكم الثابت، فهو الواجب، لا جواب معطل. على أن له جوابا آخر هو: الخصوصية. فالنبي معصوم من الفواحش بالاتفاق والإجماع، فافتتانه محال شرعا، فلا ريبة من دخوله على النساء المؤمنات، ثم هو كذلك أب للمؤمنين والمؤمنات. ومع ذلك، فمهما أمكن حمله على ما قبل الحجاب، فهو الأوجه والأحسن. وقد ادعى بعضهم أن حادثة أم سليم كانت بعد حجة الوداع، بدليل ذكر الشعر، فزعم هذا أن الشعر كان مما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة في منى، فأخذته أم سليم فخلطته بعرقه في سك. الفتح 11/ 72. لكن الروايات تفيد أنها كانت تفلي شعره، وهذا حال يمكن معه تساقط بعضه. وهكذا لا يلزم من ذكر الشعر، وقوع القصة بعد حجة الوداع. بل في حادثة أم حرام ما يدل على أنها كانت قبل الحجاب؛ إذ فيها بشارة بالفتح ناحية البحر، وهذا دليل على امتداد الفتوحات إلى أمكنة بعيدة، ثم وصفهم بالملوك على الأسرة، وصف عزة وقوة. وقد كانت المبشرات في أوائل العهد النبوي، حيث كان النبي ومن معه يحتاجون إليها للتثبيت واليقين. أما بعد السنة الرابعة، فقد تحول الأمر جذريا من الضعف إلى القوة، حتى فتحت سائر جزيرة العرب، فحمل الحادثة على ما بعد حجة الوداع لا وجه له؛ فلا حاجة إلى المبشرات، وهم يفتحون البلدان. وهناك ما يدل على هذا أيضا، فقد قال ابن حجر في الفتح 11/ 78:

" ثم قال: وإذا تقرر هذا، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له. فقال: أرحمها. قتل أخوها معي. يعني حرام بن ملحان، وكان قد قتل يوم بئر معونة". أما حادثة بئر معونة، فكانت شهر صفر سنة أربع، والحجاب كان في ذي القعدة من السنة نفسها، فبين الحدثين تسعة أشهر، فدخوله بعد حادثة البئر، قبل الحجاب، هو المتعين لقرب المصيبة. وأما احتمال المحرمية، فإن الرميصاء أم سليم، أخت للغميصاء أم حرام بنت ملحان، وقد قال بعض الحفاظ: "كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة". الفتح 11/ 78، وقد رد الدمياطي هذا فقال: "ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أو من النسب، وكل من أثبت لها خؤولة محرمية؛ لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار ألبتة". المرجع نفسه. لكنه هو الذاهل، فإن الزاعمين - بحسب تعبيره - قالوا: إحدى خالاته. ولم يقولوا: أمهاته. والمقصود: أن أمه آمنة رضعت مع أم سليم، وليس هو الذي رضع، فتكون بذلك خالته من الرضاع. ورضاعتهما معا متصور، فأخوالها من بني النجار في المدينة، وهي كذلك. هكذا تدرس هذه النصوص والآثار المعارضة في ظاهرها لحكم أصيل محكم، وما من أثر إلا وله جواب كجواب ما سبق، ثم يبقى الاختلاط غير المقصود العفوي غير المنظم، فذلك مما وسع الله به على عباده، غير مكلف لهم ما لا يطيقون، من دون أن يكون ذريعة للتهاون. فإن الشارع معه إباحته للاختلاط العفوي، إلا أنه استحب التجافي عنه قدر الإمكان من غير إيجاب، وذلك تبين في مواطن عديدة، منها: - أمره النساء لزوم حواف الطريق في مشيهن، وترك الوسط للرجال. - ترغيبهن في الصلاة في بيوتهن، مع نهيه عن منعهن المساجد. - في إشارته أن يطفن من وراء الرجال. فحاجات المرأة كحاجات الرجل، وانفصالها التام عن الرجال، بحيث لا تراه ولا يراها ألبتة، يفوت عليه وعليها منافع شتى، ويجلب الحرج والعسر، ويمنع من التيسير، وقواعد الشريعة وأصولها تقوم على اتساع الأمر إذا ضاق، والتيسير إذا حلت المشقة. وعليه: فقد أجاز لها الخروج والمخالطة بما يحقق حاجاتها، من غير أن يكون ذريعة إلى المنظم أو اختلاط لا حاجة له شرعية.

حديث الأسوة

حديث الأسوة أحمد بن صالح الزهراني دعونا اليوم نتحدث حديثاً يرتفع فوق الخلاف الفقهي، ويسمو أعلى من البحث العلمي، تعالوا بنا نستمع إلى أرقِّ خطاب نطق به بشر، وأكثره عاطفة، وأعذبه صوتاً. كان هذا الخطاب موجّهاً لصحابي من قبل النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلّم: «أمَا لكَ فِيّ أسوة؟!» عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عمها أنه كان بالمدينة يمشي فإذا رجل قال: «ارفع إزارك فإنه أبقى وأتقى» فنظرتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إنما هي بردة ملحاء؟ قال «أما لك فيّ أسوة» فنظرت فإذا إزاره على نصف الساق، قال ابن حجر: «وقوله مَلْحاء بفتح الميم وبمهملة قبلها سكون ممدودة أي فيها خطوط سود وبيض» أهـ. في صميم قلبي لا أستسيغ داعية - ولو بلّ بدموعه الثرى - لا يتأسى به صلى الله عليه وسلّم في ظاهره، كما نحسبه كذلك في باطنه. حين أعرِضُ دموع الداعية وصراخه وعويله على تأسيه يؤسفني أن أقول: إنّه يكذب على نفسه وعلى الناس .. أعلم يقيناً أنّ البعض لا يروقه مثل هذا الكلام، وأنّ سيف الخلاف سيُشهر عليّ، لكني أعود بهم إلى أساس المقال لأقول: لماذا الخلاف دائماً تكون ضحيّته السنن النبوية؟! فحلق اللحية وتخفيفها، والإسبال في الثياب، والتخفف من القيود مع المخالفين للسنة، والتساهل في أحكام النظر للنساء والجلوس معهنّ والاختلاط، وغير ذلك من المسائل الّتي اعتدنا ذبحها بسكين الخلاف وتعليق جثتها على مشجب الاستنارة وسعة الأفق، وصُنْعَ خيمة من جلودها، من استظل بظلها فهو واسع الأفق وسطي معتدل، ومن لا فلا! وحين أتحدث عن التأسي فإنّي لا أضيع وقتي ووقت القارئ بحديث ترفيّ يتناول حوافّ الشريعة وهوامش الديانة، بل إني أتحدث عن أساس إيماني وأصل شرعي يرتبط بجذر الدين .. تأمّل معي: قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) .. ماذا تفهم من هذا الربط العجيب: ربط الإيمان بالله وباليوم الآخر بالتأسي به صلى الله عليه وسلّم؟ دعني أُقِرّ - تنزلاً - بالخلاف المعتبر في بعض المسائل .. سأقر بالخلاف المعتبر في حلق اللحية وتخفيفها جداً .. لكن أين حسن التأسي بالنّبيّ صلى الله عليه وسلّم في لحيته؟ وسأقر بالخلاف في الإسبال .. لكن أين التأسي بإزرته صلى الله عليه وسلّم التي كانت إلى نصف ساقه؟ وسأقر بالخلاف في مصافحة النساء، فأين التأسي به في عدم مصافحتهنّ؟ وسأقر بالخلاف في النظر إلى المرأة بغير شهوة، فأين حسن التأسي بغضّ البصر؟ وسأقر بالخلاف في الحجاب، فأين التأسي بحجاب أمّهات المؤمنين؟ مسائل كثيرة سأقر -تنزلاً فقط - بالخلاف فيها، وسأتفهم - كذلك- أن ينزل العاميّ بنفسه فيها فيأخذ بالأخف والأسهل .. لكني لم -ولن - أتفهم دعوى الغيرة على دين النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وشرعته وسنته مِمّن يصر على ترك التأسي به في أشياء لا تضرّه ولا تضيره .. وحين يتحدث المرء عن التأسي فإنّ كل خلاف يرِدُ في حكمٍ مّا يصبح في طيّ النسيان .. بل يغيب عن الأذهان أصلاً .. ولهذا لما كان صحابته صلى الله عليه وسلّم قد فَهِمُوا عنه هذه اللغة -لغة التأسي- اختفى في كلامهم - أو كاد - الحديث عن الواجب، والمستحب، والفرق بينهما، والمحرم والمكروه، والفرق بينهما. «أمَا لكَ فِيّ أسوة؟!»: هذا الاستفهام الاستنكاري من النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كان في شأنٍ يستخفّ به كثيرون، وهو التزام تشمير الثياب أسوة به صلى الله عليه وسلّم. إنّه خطاب يدلك على مدى البعد بين كثير منا وبين هدْيه صلى الله عليه وسلّم.

وتأمل جوابه صلى الله عليه وسلّم للرجل الذي استفهم عن تحفظ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: كأنّه يقول: أَعَلى مجرد قطعة قماش يا رسول الله؟! لكنّه صلى الله عليه وسلّم لفت نظره إلى أنّ الأمر لا يتعلق بقطعة قماش، بقدر ما يتعلق بأمر إيماني، وهو حسن التأسّي به في كل شيء. أقول: وكذلك الأمر لا يتعلق بشعرات في وجه مسلم تطول أو تقصر، وإنّما تتعلق بمستوى إيمانه وحسن تأسّيه. وعلى ذلك قِس سائر تصرفاتنا وأفعالنا؛ أعني من كان منا يصنف نفسه داعية أو طالب عالم فضلاً عن المشايخ والعلماء. وإذا كان هذا في شأن السنن الظاهرة فكيف في الأعمال الواجبة. عن إبراهيم النخعي: «كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا عن رجل، نظروا إلى صلاته وإلى سَمْته وإلى هيئته». وقال أبو العالية: «كنت أرحل إلى الرّجل مسيرة أيّام لأسمع منه، فاتفقّد صلاته فإن وجدته يحسنها أقمت عليه، وإن أجده يضيّعها رحلت ولم أسمع منه وقلت: هو لما سواها أضيع». وعوداً إلى حديث التأسي أقول: كان هذا منه صلى الله عليه وسلّم في شأن رفع الإزار حتى نصف الساق، لكننا الآن بُلينا بمن يتقحم المحرمات بدعوى الخلاف؛ فأصبح جرّ الإزار ووصوله إلى الكعبين أمراً لا تهتز له في جبين الكثيرين منّا شعرة .. وحلق اللحية وتخفيفها جداً مظهر دعوي، بل يكاد يصل الأمر بالبعض إلى الاستخفاف بالمتأسين بالنّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- في كثافة اللحية أو تركها مطلقاً .. إنّ هذا المظهر نذير شؤم على الدعوة وأهل الدعوة، ودليل على بعدها عن الأخذ بأكبر وأعظم أسباب النصر الرباني، ألا وهو الأسوة واتباع السنة .. فإنّ النصر الإيماني الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا يكون إلاّ للمتأسّين .. قد تتحقق للدعاة وأتباعهم انتصارات نوعية ووقتية، لكنه ليس النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وإنما هو تابع لسنة المدافعة الربانية (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ). فإذا حققت الجماعة نصراً معيناً، وهي بعيدة عن حبل التأسي فليس هو انتصار الحق على الباطل .. ذلك الانتصار الذي يفرح به المؤمنون ويقولون: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، فإنّ هذا لا يكون لمن أصرّ على تنكّب السنّة، ومخالفتها والتهاون بها والتساهل فيها، فضلاً عن التنفير عنها؛ بدعوى تحسين صورة الإسلام، أو ترغيب الناس فيه، كما نرى من فِعال كثير من المنتسبين للعلم والدعوة .. دعاة إلى السنة بأقوالهم .. وهم بأفعالهم ومناهجهم أكبر ما يصدّ عنها. أما آن لنا أن تخشع قلوبنا لذكر الله وما نزل من الحق، ومن الحق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون). [الأنفال:24]. وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). [الأحزاب:21]. والله الهادي إلى سواء السبيل.

لا تجعل قلبك كالإسفنجة

لا تجعل قلبك كالإسفنجة عبد الرحمن بن صالح المحمود ليس هذا عنواناً صحفياً يرنو إلى لفت النظر إلى المقالة وجلب القارئ إليها، ولو كان ذلك - أحياناً - على حساب المضمون، كما هي عادة بعض الكتّاب، وإنما هو عنوان منهج عقدي وفكري يحتاج إليه كل قارئ وتعظم الحاجة إليه في عصرنا الحاضر؛ حيث العولمة بنفوذها الفكري ونفاذها التقني من خلال الإعلام وشبكات المعلومات. العنوان نصيحة قدمها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لأشهر تلاميذه، وهو ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - فنعم الناصح ونعم المنصوح. يقول ابن القيم عن هذه النصيحة: (ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 443). مع أنه قد تلقى عن شيخه عشرات بل مئات الوصايا، كما هو واضح لمن تتبّع ذلك في كتبه، لكن هذه الوصية كان لها شأن آخر في حياة ابن القيم ومنهجه، وقد مرّ بتجارب متنوعة (سطر خلاصتها في نونيته) فأنقذه الله من شبهات أهل الأهواء الذين وقع في شباكهم بتتلمُذهِ على شيخ الإسلام وملازمته له. يقول ابن القيم في عرضه لهذه الوصية: (قال لي شيخ الإسلام - رضي الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيراد بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات، أو كما قال) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 443). خلاصة الوصية عند ورود الشبهات والمقالات التي لا تعرف مصدرها هي: 1 - لا تجعل قلبك مثل السفنجة؛ أي: يتشربها ولا ينضح إلا بها. 2 - واجعله كالزجاجة المصمتة؛ أي: يرها بصفائه ويدفعها بصلابته. وسنقف مع هذه الوصية بقسميها، بعد أن نقدم لذلك بمقدمة مهمة، فنقول: العلوم قسمان: أحدهما: علم الشريعة المنزّل، مثل: كتاب الله الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وما هو تابع لهما، نابع عنهما، مثل: الآثار الصحيحة، والعلوم المؤصلة التي بيّنها أئمة السلف الصالح في العقيدة، والأحكام، والآداب، والسلوك، وعلوم القرآن وعلوم الحديث وأصول الشريعة، والفقه، وأصول العقيدة الصحيحة، وآلات ذلك: فهذه علوم بها حياة القلوب وطريق العبودية وتوحيد رب العالمين, ولا صلاح للعباد والبلاد في الدنيا والآخرة إلا بها. فهذه ينبغي أن يتشرّبها قلب العبد المؤمن؛ لأنها طريق السعادة في الدارين، وسُلّم العبودية لرب العالمين. الثاني: ما سوى ذلك من العلوم، وهذه أيضاً قسمان: 1 - علوم دنيوية بحتة: يؤخذ منها ما يحتاج إليه لحياة الإنسان على هذه الأرض والسعي في معاشه, وهذه إن قصد بها المعونة على طاعة الله أُثيب عليها، وإن صدّت عن طاعة الله أو قُدّمت عليها عوقب عليها. 2 - العقائد والعلوم الفلسفية الفكرية المنحرفة: ومقالات أهل الأهواء والبدع (قديماً وحديثاً) ويدخل في ذلك المذاهب الفكرية المعاصرة بمختلف تياراتها ومنطلقاتها (شرقية أو غربية أو وطنية جاهلية). وهذه الأخيرة هي الداء العُضال الذي إن تسلل إلى القلوب أفسدها، وغشاها بالشبهات والشكوك، وحلوها من يقين الإيمان وبرد التسليم والطاعة وسلامة القلب وصحته وقوته إلى الحيرة والتردد وتسلّط الوساوس، وضعف العبادة وقلة الطاعة، وتحول القلب من الأُنْس إلى الوحشة. والشبهات من أشد الأشياء على القلوب وأثقلها حتى تكاد الشبهة أن تكون جبلاً، وأنَّى للقلب الرقيق تحمّله.

والمؤمن المستبصر يدرك مدى خطورة الأمر، خاصة إذا علم أنه لا أحد بمأمن من ذلك مهما علا شأنه في العلم أو العبادة والطاعة، أو في المجاهدة والدعوة، أو فيها جميعاً. والمتتبع لواقع المسلمين المعاصر، وخاصة طلاب العلم ورجال الدعوة وشباب الصحوة منهم، يرى كيف تسللت شُبَه كثيرة إلى القلوب، وانتقلت إلى العمل والواقع الدعوي من خلال الوسائل المعاصرة (وهي معروفة) وتحولت إلى ما يمكن أن يسمى بـ (شللية فكرية) تتبنى عدداً من مسائل العقيدة والشريعة والثقافة بمنهج عقلاني عصراني منحرف. وأساس المشكلة تسلُل شبهات الملاحدة والزنادقة والعلمانيين والمستشرقين والحداثيين وأضرابهم؛ حيث صار هؤلاء يعرضونها، وهناك جزء من رجال الصحوة وشبابها يتشرّبون هذه الشبهات، وبعد قليل ينوبون عن أولئك الزنادقة وأهل البدع في نشرها والحماس في الدفاع عنها. والملفت للنظر أن كافة هذه الشبهات ليست جديدة، بل هي مما سبق أن عُرض ودُوِّن في كتبهم وردها العلماء والدعاة وكشفوا زيفها؛ فما الجديد؟ الذي استجد إنما هي حرب مركّزة على الإسلام وعلى منهج السلف خاصة، ودعمت هذه الحرب قوى مختلفة معروفة، وقابل ذلك ضعف الإيمان وخلل في الثقة بالمنهج. وهو ما جعل هذه الشبهات تلج القلوب، فتُغيّر الكثير منها. فصارت هذه القلوب كالإسنفجة تمتص هذه الشبهات كما تمتص الماء العَفِن. إن سؤال المسلم الهداية: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]. يكرره في اليوم والليلة أكثر من سبع عشرة مرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر - كما في الحديث الصحيح المشهور - بأن سبيل الله واحد وما عداه سُبُل الشيطان، وأصل الهداية هداية القلوب؛ لأن القلب سيد البدن، كما أن أساس الضلالة - عياذاً بالله - غواية القلوب وضلالها وانحرافها، فجاءت هذه الوصية الغالية من شيخ الإسلام، والتي تقول خلاصتها: لا تجعل قلبك للشبهات مثل الإسفنجة، فيتشربها ولا ينضح إلا بها. فما وجه تشبيه هذا النوع من القلوب بالإسفنجة؟ 1 - يلاحظ الشبه بينهما من ناحية التكوين؛ فكل منهما رقيق ليّن ليس في داخله صلابة من عظام ونحوها. 2 - أن الإسفنجة معروفة بطبعها؛ فهي تمتص كل سائل؛ فإن أدخلتها طيّباً: من ماء عذب أو لبن أو شراب، فإنها تمتصه كما أنك إن أدخلتها في ماء عفن أو بول أو نجس: كخمر ونحوه، فإنها تمتصه أيضاً. 3 - أن الإسفنجة إذا امتصت السائل فلا بد أن تنضح بما فيها؛ حيث يخرج منها القطرات بل أكثر من ذلك إذا ضغط عليها ولو بقليل من القوة وقلّما تحتفظ بما فيها حتى ينشف، ولو نشفت لما أقبح ما فيها؛ إن كان ما امتصته من المجاري وأشباهها! 4 - أن الإسفنجة متى ما اعتادت امتصاص العفن، تحولت هي إلى عفن؛ فلا ينفع معها تنظيف ولا غسل. وكذلك القلوب فهي: أولاً: رقيقة لأنها موطن الإرادة والحب والبُغض والمحبة والكُره، وهي موطن أعمال القلوب: من خوفٍ، ورجاءٍ، ومحبةٍ وإنابةٍ، وإخلاصٍ، وصدقٍ، وتوبةٍ، وتوحيدٍ، وتوكلٍ وغيرها؛ ولذا فهي تابعة لمن خضعت له: أ- فإن انقادت لمولاها وسيدها ومالكها بتوحيده والتوكل عليه وحده لا شريك له وبمحبته ورجائه وخوفه وسائر أعمال القلوب فقد اتصفت بصفتين عظيمتين: إحداهما: كمال الافتقار لمولاها؛ فهي لا تستغني عنه لحظة من ليلٍ أو نهارٍ مع كمال الانقياد والطاعة فهي تقود أبدانها إلى مولاها بالاستجابة التامة، بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فإن أذنب العبد فهي لرقتها تبادر إلى التوبة والاستغفار والحسنات الماحيات.

والأخرى: كما القوة في الحق، والنفور من الباطل (شبهات وشهوات) وسبب ذلك أن قوتها بالله (عبادةً واستعانةً وتوكلاً) وهذا من عجيب أحوال قلوب المؤمنين الصادقين؛ حيث تجدها أعظم ما تكون رقّة ورحمة وأقوى ما تكون صلابة في الحق ونفوراً من الباطل وشجاعة في الدفاع عن الدين الحق وأهله، والموالاة لهم، وردّ الباطل وأهله والبراءة منهم ومن أعمالهم؛ فهي في الإيمان لا تخاف لومة لائمٍ. ب - وإن انقادت القلوب - عياذاً بالله- إلى غير الله من نفسٍ أمّارة أو هوى أو شيطان، وتمثل ذلك في معبود غير الله، أو تعلق بجاه أو دنيا أو شهوة قُدمت على عبادة الله، وطاعته، تحولت القلوب إلى محبة وخضوع لذلك المعبود من دون الله وصارت على الضد من صفات المؤمنين. - فهي قاسية في عبادة الله وطاعته والانقياد له حتى تكون كالحجارة أو أشد قسوة. - وهي ذليلة رقيقة خاضعة لمن مالت إليه؛ فيها من الضّعة والاستكانة والحقارة والعبودية لذلك المعبود من دون الله ما لا يكاد يصدقه الإنسان السوي. ثانياً: هي (أي: القلوب) بحسب ما تُحمل وتُربى عليه؛ فإن حُملت على حبّ الحق والاستجابة له والنفور من الباطل والشبهات، أما إن تركت مرتعاً لكلّ عارضٍ مما يعرض لها، تتقبله من غير تمييز فإنها تكون عُرضةً للخطرات والوساوس التي يلقيها شياطين الإنس والجن، فتصبح مرتعاً للشبهات فتصير كالسفنجة التي حذر منها شيخ الإسلام؛ تمتص الشبهات وربما تنضح، وتصبح مريضة بذلك. ولتشخيص هذه الحالة في واقعنا المعاصر نلاحظ ما يلي: 1 - بروز هذه الظاهرة الإسفنجية لدى بعض طلاب العلم والشباب المستقيم ونحوهم ممن لهم اهتمامات بالعلم الشرعي أو بالقراءة بمعناها العام الشامل لما يُشاهد أو يُسمع أو يُقرأ، أو بحب سماع الحوارات التي تدور بين الأطياف المختلفة في عقائدها، أو في مشاربها، أو في مناهجها؛ فتجد بعض هؤلاء - هدانا الله وإياهم وثبتنا على الحقّ جميعاً- يتشرّب شبهات أهل الباطل فتستقر في نفسه، وإذا علمنا أن للشبهات بريقاً ولمعاناً مُحرقاً خاصةً إن عُرضت بأسلوب ماكر تصحبه سخرية وهزء بأهل الحق المتمسكين به؛ عندها يتبين مدى أثر هذه الشبهات على القلوب الإسفنجية الضعيفة؛ حيث تتحول القلوب إلى نوع من القلق وشيء من الحيرة والشك، حيث يتصارع في قلبه ثقته بمنهجه وعقيدته الصافية، وقوة الشبهة وشدة جذبها وقوة حرقها. وفي هذه الحالة المرضية العارضة المقلقة يكون للقلب أحد مسارين: أ- مسار يؤوب فيه القلب إلى سكينة الإيمان وبرد اليقين والتسليم لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، بحيث تكون له خبيئة من عبادة وطاعة يتقرب بها إلى الله تعالى فتجدد له هذه العبادة ثوب الإيمان والتعلق بمقلب القلوب - تبارك وتعالى- فيتوجه إليه منيباً مخبتاً متوكلاً، أو يكون له صاحب أو أصحاب مثل شيخٍ يثق به ويُباحثه أو يُسائله عما عرض له من شبهات فيتلقّى الجواب وهو على حالته السابقة من التسليم والعبادة فهذا غالباً منّا يعود إليه اليقين ويَسلم من غوائل ما عرض لقلبه من الشبهات فينبته لنفسه لاحقاً. ب- مسار لا يوفق فيه لتسليم ولا لمزيد طاعة، ولا لمعالجة صحيحة لهذا العارض؛ فهذا قد تشتد عنده حالة الشك والقلق ويبقى حبيس نفسه وهواه وهواجسه ووساوسه فينتج عن ذلك مرضان: - رسوخ الشبهة أو الشبهات: لأن القلب تشربها واختلطت بها، كالإسنفجة التي امتصت الماء العفن.

- نقل الشبهة إلى غيره: حيث تجده ينشرها بين أصحابه ويعرضها في كل مناسبة ويكرر عرضها؛ وكأنه لم يبق معه من القول والهمِّ في دينه ودنياه إلا ما أُشرب قلبه من ذلك؛ فهو لا يكتفي بمرض قلبه، وإنما ينقل عداوة إلى الآخرين السالمين الأصحاء والطامة الكبرى تكون حيث يخصّ بهذه البوائق أحبابه وأصحابه المقرّبين منه أو طلابه المتأثرين به؛ فما أعظمها من مصيبةٍ وقعت على الطرفين! وهذا معنى تشبيه القلب بالإسفنجة؛ لأنها إذا امتصت العفن صارت تنضح وتقطر بما فيها من ذلك كما هو مشاهد وكذا القلب الشبيه بذلك. وقد مرّ بي من ذلك نماذج، خاصة في السنوات الأخيرة؛ حيث يأتي إليّ بعض الطلاب الذين أحسنوا الظن بأخيهم الذي اعتبروه أستاذاً لهم يسألونه عن شبهات عالقة بعقولهم وقلوبهم، والسؤال منهج حسن ممدوح، بل هو مخرج ضروري لإزالة الشبهة وسلامة القلب منها، ولكن الذي لفت انتباهي هو: حمل هذه الشبهات وانفعال بعض أصحابها، وهو ما قد يوحي بدرجة ما من علوقها في القلب، ثم إنّ أكثر هذه الشبهات قد أجاب عنها العلماء قديماً كما أجاب عنها العلماء المعاصرين في كتبهم ودروسهم وأشرطتهم المبثوثة؛ فهي ليست جديدة وهي شبهات مكررة لأهل البدع من الجهمية والرافضة والمعتزلة والأشاعرة ... وغيرهم فلو أنّ هؤلاء أصّلوا طلبهم للعلم وأخذوه عن العلماء الموثّقين قديماً وحديثاً وتعمّقوا في مسائله لوجدوا في ثنايا كُتبهم ودروسهم الأجوبة واضحة، فما أحوج هؤلاء وأحوجنا جميعا إلى وصية شيخ الإسلام هذه! فإن قال قائل: هل كل من سأل نتيجة إشكال أو شبهة عرضت له فهو إسفنجي؟ الجواب: هناك أسئلة في العلم أثناء تعلمه وتلقّيه؛ حيث ترد الأسئلة والطالب يسيح في بحر العلم الشرعي، فهذا من الممدوح الذي يدل على ذكاء صاحبه وعمق فهمه، لكن لا يتعدّى السؤال مسائل الباب ولا وقت الدرس حيث تنغمر الشبهة في بحر العلم ويكون جوابها سهلاً، وليس لها علوق في القلب يكدّر صفاءه، هذا ديدن طلاب العلم (قديماً وحديثاً) مع شيوخهم، وعلى رأس هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يسألون عمّا يُشكل عليهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم يُجيبهم، ونماذج ذلك في السنة كثيرة. أما الإسفنجي الذي حذّر منه شيخ الإسلام تلميذه ابن القيم، فهو ذلك الذي يتشرّب شبهات أهل الأهواء فتعلق في قلبه فيكررها وينشرها وينضح قلبه بها. إذاً: ما المخرج من هذه الحالة الإسفنجية؟ وكيف يسلم طالب العلم بل عموم المسلمين من الوقوع في هذه الحالة التي حذر منها شيخ الإسلام وهو الخبير بأحوال القلوب وبأحوال عصره والتقلبات التي تَعرض لطلاب العلم؟ أجاب شيخ الإسلام في وصيته السابقة بقوله: " لكن اجعله (أي: قلبك) كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فهيا فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته" وهذا موجّه لابن القيم المعروف بسعة علمه، وبقوة تألُّهه وعبادته، وخبرته بأحوال القلوب وأمراضها وأدوائها وطرائق علاجها: فكيف بنا وبأحوالنا والله المستعان؟

أولاً: العبادة والطاعة وهذه ضرورية لصفاء القلب وخلوصه من أكداره وهذا أمرٌ قد لا يُنبّه له المشغولون بالقراءة والثقافة والفكر وسعة الاطلاع، حيث يظنون أنّّ سعة العلم كافية وأنّ كثرة القراءة وحدها محصّنة للإنسان في حياته من الزيغ والانحراف، حتى إنهم يستعيضون بها عن العبادة وأفعال القُرَب فقد يؤخر أحدهم الصلاة أو يتأخر عن صلاة الجماعة أو بعضها؛ لانشغاله عما هو أهم (وهو القراءة) وقد لا يجد في صلة رحمه من الأقربين جداً واجتهاداً كالذي يقدمه في ساعات يقضيها على الشبكة المعلوماتية (وأنا أتكلم عن الجاد منها وليس عن سخافاتها) وقد لا يحرص على النوافل لأنها تأخذ منه وقتاً بل قد لا يجد ما يفرغ به نفسه لقراءة القرآن الكريم أو حفظه أو تدبر معانيه عشر معشار ما يقضيه في القراءة المبعثرة الهائمة. إن هذه حالة يجب أن يبادر أصحابها إلى علاج قلوبهم تجاهها؛ وذلك بحمل النفس على تحمل العبادة بأنواعها مع تهيئة البال والنفس والقلب لكي يطيب بالعبادة ويأنس بها؛ فيكون ممن يرتاح بالعبادة وليس ممن يرتاح منها. والنصيحة بالعبادة عند ورود الفتن حيث تضطرب القلوب وتصاب البصيرة بالغبش خير دليل على أهمية العبادة الطاعة والقربى إلى الله تعالى، وعلى كونها تثير البصائر عند ورود الشبهات. ثانياً: الابتعاد عما يُقسي القلب ويُضعفه خاصةً ما عظمت الفتنة فيه في هذه السنوات مثل: 1 - مجالس المنكر ومنتدياته التي تقوم في غالبها على نشر الإلحاد والزندقة ونشر البدعة والاستهزاء بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وشريعته ودينه وعباده المؤمنين، وهي تقوم على فكر منحرف وثقافة مستوردة وتسعى إلى التشكيك ونشر الشبه بين أهل الإسلام وكفى بذلك مرضاً للقلوب؛ فهذه فيها السمّ الزعاف، ولا يجوز لأحد دخولها إلا المتمكن يريد إنكار، ومع هذا فهو حكيم يمر بها لغايةٍ يريد تحقيقها يخدم بها دينه ويردّ صولان هذه المنكرات، ثم هو يمر مسرعاً لا يقيم معها ولا يطيل بحجة معرفة المنكر بل في قلبه من حرارة الولاء والبراء ما يصرفه عنها إلى برد الإيمان والعلم والطاعة. 2 - مجالس ومواقع قاذورات الإعلام، وفتنها وخاصة فتنة الصور وما يتبعها من مجونٍ يُقرأ أو يُسمع أو يُشاهد، وهذا يُقسّي القلب ويُضعف العبادة فيمرض صاحبه ويكون عرضةً للشبهات التي قد يقوده إليها ما تساهل فيه من الولوغ في الشهوات. ثالثاً: أن تجعل قلبك كالزجاجة الصافية المصمتة، كما أوصى شيخ الإسلام فيكون لقلبك بصرٌ نافذٌ عند ورود الشبهات فيعرف أنها شبهة وليست علماً فيتعامل معها على هذا الوضع، وتشبيه القلب بالزجاجة فيه كثير من المعاني البلاغية والعلمية والإيمانية منها: 1 - أن القلب في هذه الحالة يكون مقابل القلب الرخو الشبيه بالإسفنجة؛ فهو صلب في إيمانه وعلمه وبصيرته واثق من منهجه غير متردد فيه ولا شاك. 2 - أن هذا القلب صافٍ كصفاء الزجاجة البلّورية النظيفة يُبصر الأمور والمسائل على حقيقتها فيفرق بين الحق والباطل والمعروف والمنكر والدليل الصحيح والاستدلال الفاسد، والواضح من حقائق الدين والعلم والإيمان وشبهات الباطل، والخاطر الإيماني الرباني والخواطر الشيطانية؛ فإذا أقبلت الشبهة أو الفتنة أبصرها بوضوح تام فقد نُوّر هذا القلب بأنوار الإيمان والعلم والطاعة فهو يعرفها ويعرف منشأها وغايتها وأثرها الفاسد فلا يزال يراها كذلك ويتعامل معها على هذا الوجه وهذا لون من الفراسة يهبه رب العالمين لمن صفت قلوبهم وخَلَصت لربها تعالى. 3 - أن هذا القلب صلب لأن الزجاجة مع صفائها هي مصمتة مغلقة ليس فيها كسوراً أو شقوقاً فهو لصلابته يدفع الشبه ويردها وينكرها فهي من أجل هذه الصلابة لا تجد إليه مدخلاً. فالشبهات حول هذا القلب تدور وتحاول بأساليب متعددة ومحاولات متكررة أن تدخل ولو بفناء القلب أو عند بابه، ولكن هيهات هيهات والقلب صلبٌ مصمتٌ عن الباطل وشُبهِه، فترجع الشبهات مولّية هاربة مهزومة. المصدر: مجلة البيان العدد 270

حينما يكون الإسلاميون سفراء لليبرالية!!

حينما يكون الإسلاميون سفراء لليبرالية!! هيثم بن جواد الحداد لقد ظهرت في هذه الأيام طائفتان "مبتدعتان"، افترقتا في الدعوى، لكن مؤدى كلامهما واحد أو متقارب، إنه الانقضاض على المعهود السالف من الشريعة .. أما الأولون، فهم من نسبوا طريقتهم هذه إلى المنهج السلفي .. أما الفريق الثاني، فهم أصحاب المدرسة المقاصدية، الذين بالغوا في إعمال ما سموه هم "مقاصد الشريعة " .. ليس هذا ردا على من أباح الاختلاط بين الجنسين، ولكنه دراسة ـ أو ربما إشارة ـ لإشكالية في طريقة التفكير، ومنهج الاستدلال، كان القول بإباحة الاختلاط أحد مظاهرها، كما كان القول بعدم وجوب وحدة الأمة تحت خليفة واحد، وجواز بقائها ـ مبعثرة مشتتة ـ تحت أنظمة متعددة، مظهر آخر لها. لقد أثارت تصريحات عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة، وقد نشرت في بادئ الأمر في جريدة عكاظ، والتي تمحورت حول موضوع الاختلاط بين الذكور والإناث، وأنّ "الاختلاط ليس كله محرمًا، وأنه كان ممارسًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دون نكير"، أثارت موجة من الاستياء لدى شرائح كثيرة من المجتمع، بدءًا بطائفة بعدد من أهل العلم وانتهاء ببعض عوام الناس الذين استهجنوا هذه الدرجة من "الوقاحة" في إباحة الاختلاط بين الجنسين وقد نشأوا من نعومة أظفارهم على تحريم هذا الأمر والذي يعلم غير المتدين قبل المتدين أنه منبع كل شر .. وقد كان مستغربًا ـ إلى حد ما ـ أنّ هذه التصريحات جذبت انتباه بعض النخب العلمية من خارج السعودية، فسرعان ما أخرج بعض المشايخ والأساتذة والدعاة من دولة الكويت بيانا يستهجن ما أوردته الصحيفة من تصريحات عضو الهيئة، وأن ما تضمنه كلامه يعتبر شذوذا في الرأي، لم يقل به أحد من أهل العلم السابقين، وقد جاء بيان هؤلاء المشايخ قصيرًا على خلاف ردود غيرهم ممن رد على الغامدي، لكنه حمل معان كثيرة، ورسم منهجًا رصينًا غاب عن كثير من الردود التي فاقته طولا، أدعو إلى اقتفائه، وأسجل هاهنا ضم صوتي لصوتهم، ويجدر بالذكر أن هذه المبادرة كانت توسيعًا في رقعة "الرقابة الشرعية"، التي ربما كانت محصورة في وقت ما على علماء السعودية ومشايخها، فالثناء موصول لهم، وعلى بلائهم الحسن. هل تمثل تصريحات من أباح الاختلاط مؤخرًا ظاهرة ذات بعد "أصولي ليبرالي"؟ أم أن أصحابها كـ"أعرابي أراد الذكر فبال في بئر زمزم!؟ نعم لقد كثرت في الآونة الأخيرة مقولات تحمل نفس المعالم، وإن بدا أن أغلبها مقتصرًا على بعض الشعائر، إلا أن رؤى الشريعة في السياسة والاقتصاد والاجتماع قد كانت أكثر تأثرا بهذه "البدع الأصولية الليبرالية ". وقد كان من آخر هؤلاء الذين سلكوا ذلك الطريق وحمل بعضهم رايته من، أتعب نفسه، وأضاع وقته ـ على علم ـ ليخرج كتبًا في مئات من الصفحات، اكتشف فيها أن استعمال الآلات الموسيقية مباح، من ناحية أصولية، وفقهية، وحديثية! وأن حلق اللحية مباح، فمرد أمرها إلى عرف الناس، فتلقف فئام من الناس هذه المقولات فرحين بها، وكأنما كانوا يتنظرونها على أحر من جمر .. ، وثالث اكتشف أن صلاة الجماعة ليست فرضًا، ورابع اكتشف أن وحدة الأمة تحت خليفة واحد مجرد اجتهاد أملته الظروف السياسية في ذلك الوقت، وأن طبيعة النظام الدولي الجديد تقتضي أن لا توحد الأمة بهذه الطريقة، وخامس أن الجهاد دفاعي لحماية المشروع الإسلامي، وسادس أن الأمة مأمورة بالسكوت عن جور الحاكم، وأن مجرد التنفيس عن النفس ولو بالكلام "خروج" يبيح عرض الخارج، وماله ودمه، وسابع لم يبق بينه وبين أن يقول أخطأت الأمة بتحريمها لمبادلة المال بمثله متفاضلا إلا شعرات يسيرة، وثامن

لقد ظهرت في هذه الأيام طائفتان مبتدعتان، افترقتا في الدعوى، لكن مؤدى كلامهما واحد أو متقارب، إنه الانقضاض على المعهود السالف من الشريعة، وبذل الوسع في إثبات تناغمها مع القيم الغربية الليبرالية. أما الأولون، فهم من نسب طريقته هذه إلى المنهج السلفي، حتى قد قال بعض الصحفيين لأحدٍ مِن أشهر مَن عُرِف بالشذوذ في الآراء: "لقد رددت على أصحاب المنهج السلفي بأدوات سلفية!!، فالتترس بالدليل، ومحاربة التقليد، والتنقيب عمن قال بهذا القول، والمطالبة بالتثبت في حكاية الإجماع وعدم المبالغة في استعماله، هي تلك الأدوات التي أطلق عليها ذلك الصحفي أدوات سلفية. أما الفريق الثاني، فهم أصحاب المدرسة المقاصدية، الذين بالغوا في إعمال ما سموه هم "مقاصد الشريعة"، حتى أباحوا كل منصوص على تحريمه، وكل مجمع على المنع منه، بـ"مقاصد الشريعة"، بل قد رموا مخالفهم بالجمود، والوقوف عند الجزئي وإهمال الكلي، ثم نقبوا عن المخالف، ولا تخلوا مسألةٌ من قولٍ شاذ، فاحتفوا به، وجمعوا له شاذًا آخر، وضخموا الخلاف، وامتطوا ظهر الاجتهاد، فنقضوا المحكمات، وعمدوا إلى المشتبهات، ودعوا إليها، وهكذا حتى أصبحت مقاصد الشريعة أداة لهدم الشريعة. وهكذا أغرق الفريقان القول، وتمالآ ـ إن أحسنا الظن بمراميهم ـ على إهمال قول السابقين مجتمعين، ولم يقيما وزنا لتتابع عمل الأمة، وتضخم لدى كل طائفة منها الاعتداد بفهمه لأدلة الشريعة، وبرز "احتقار" أفهام السابقين جليا في نتاجهم، وكم تجد في كتاباتهم عبارة: "وقد تأملت في الأدلة"، أو "وإذا تأملنا في الأدلة"، ضاربين صفحا عن فهم الأئمة قبلهم، وكأنهم ـ أي أئمة العلم ـ، واحدًا تلو الآخر، عجزوا عن التأمل في الأدلة، وأهملوا كلياتها!. نحن لا نتحدث عن أصحاب المدرسة الليبرالية الصرفة ممن يكره التدين، لكننا نتحدث عن طائفة ممن ينتسب إلى الخير ـ فيما يظهر ـ عمل أصحابها سفراء لليبرالية، شعروا أو لم يشعروا، فقد أحبهم الليبراليون واحتفوا بهم، ليمهدوا لهم الطريق، وهؤلاء الصالحون، كمغفلي رواة الحديث، أدخل عليهم أهل الفساد أحاديث فاستحسنوها، ورووها، وما هو إلا تترسا من أهل الباطل بمغفلي أهل الحق. ونحن حينما نتحدث عن ظاهرة فلا يعني أنها تتخذ شكلا واحدًا، أو بعدًا واحدًا، فأهلها مختلفون، منهم المغرق المتطرف، وربما أعجزته الحكمة، فيفضح نفسه، ويحرق أوراقه، وهذا من رحمة الله، لكن قد نبتلى بالمجانب عليم اللسان، قوي البيان، الذي يحسن استخدام الحجة والبرهان، فيعمل سفيرًا بامتياز لكل ما هو ليبرالي متحرر من الدين. لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة هو كيف نقاوم هذه الظاهرة ـ إن صحت تسميتها ـ، الجواب قد يطول لكن لا بد لحملة العلم المنافحين عن الشريعة من التصدي وبقوة لهؤلاء، وأن لا يمنعنا ماض مشرق لبعضهم من بيان خطلهم، فدين الله أحب إلينا من أحبابنا ـ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين ـ فالقضيتان المتقدمتان يجب أن تكونا من أول اهتماماتنا، فلا بد من إشباعهما بحثا، ثم إحداث ثورة عارمة على هؤلاء من خلالهما، تنتهي بصرع هذا النهج المبتدع.

ثم لا بد من إعادة الاعتبار للأمة، سيما إذا جرى اتفاق بينها على أمر، ولا بد من إعادة الاعتبار لما جرى عليه عمل المسلمين منذ فجر تاريخ الإسلام حتى عصور الانحطاط هذه - سمّه إن شئت بالإجماع العملي-، وأن يوضع خلاف الواحد والاثنين والثلاثة - ولو كانوا من الأكابر - في حيزه الضيق، فلا يعمل به، ولا يلتفت إليه، فضلال أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو جمهورها الغالب محال - عقلا وشرعا - ويجب أن نعرض صفحًا عمن صاح "الدليل، الدليل يا عباد الله"، مهملا "دلالة الدليل عند جماهير السالفين"، فكلام الشارع له دلالة تجمع الأمة عليها أو تختلف، فإن أجمعت فلا يصح نصب الدليل إلا من خلالها، وإن اختلفت، فقد أجمعت كذلك الأمة - ضمنا - على أن الحق محصور بين هذه الأقوال، وأن القول الجديد محدث مبتدع، ولعل الله ييسر إتمام بحث بعنوان "القول الشاذ، والآثار المترتبة عليه ". هذا شق، وشقيقه الآخر؛ إعادة "مقاصد الشريعة" إلى حياضها، فلا هي دليل جديد غفل عنه السابقون، وأهملته نصوص الشريعة، ولا هي قاعدة تتابع الأصوليون على الجهل بها، وكل ما في الأمر أنها من خصائص الشريعة؛ فلا تملك تحريما، ولا تحليلا، فهاهي كتب الأوائل في الأصول والكليات والقواعد، هل ملئت الدنيا ضجيجا بهذه المقاصد؟ لقد مرَّت الأمة في عصورٍ خلت، بواقعٍ أشد بؤسًا من واقعنا، ومع ذلك لم نسمع من علماء تلكم العصور زعيقا: "الجئوا إلى المقاصد ففيها النجاة"، متذرعين بـ"واقع جديد يفرض نظرا كليًا في ضوء مقاصد الشريعة "!. ثم لنتأمل كتاب الله، وسنة رسوله لنستلهم منه مقاصد التشريع، وهي ومقاصد خلق الخلق صنوان، ولنتدبر هذه الآيات، وما قاله أهل العلم السالفين في دلالاتها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {45} وَدَاعياً إلَى الله بإذنِهِ وسِرَاجَاً مُنِيرَاً) الأحزاب، وقريب منها في الفتح، ومثلها (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ {119}) سورة البقرة مع آيات أخرى كثيرة مشابهة، وخلاصة معناها ({شاهداً} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}. وقوله عز وجل: {ومبشراً ونذيراً} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلَّت عظمته: {وداعياً إلى الله بإذنه} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك {وسراجاً منيراً} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند)، نقلا من تفسير ابن كثير. وقوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). آية 7 من سورة هود، وقوله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) آية رقم 2 من سورة تبارك مع آيات أخر، مشابهة، ومعناها (ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا). وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) في ثلاث آيات، قال البغوي ("ليظهره"، ليعليه وينصره "على الدين كله")، وهو أحد المعنيين، وسواء حملنا اللام هنا للعاقبة، أو للتعليل، وسواء كان الكلام عن إرادة كونية، أم شرعية، فالمؤدى واحد.

وقوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المنافقينَ والمنَافِقَاتِ، والمُشرِكينَ والمُشرِكَاتِ، ويَتُوبَ اللهُ علَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) 73 من الأحزاب، قال القرطبي في تفسيرها (اللام في "ليعذب" متعلقة بـ "حمل" أي حملها ليعذب العاصي ويثبت المطيع؛ فهي لام التعليل؛ لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة). ومن هذه الآيات، ابتلاء الله إبراهيم في ذبح ابنه، وابتلاء المؤمنين بشيء من الصيد تناله أيديهم ورماحهم، وابتلاء المؤمنين بتسلط الكافرين على بعضهم، ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعض المؤمنين ببعض .. أين المقاصديون عن هذه الآيات التي قلما تخلوا سورة، من آياتٍ ذات دلالةٍ مشابهة؟ إنّ أعظم مقاصد الشريعة، أن يكلف الله الخلق بتكاليف؛ امتحانًا لهم، ليرى من يعظمه، ومن يجاهد في سبيله وينصره ورسله بالغيب، ولو أهلك نفسه، وماله، وعقله، وعرضه، فمجاهدة الإنسان غير الله، للعمل بمراد الله ولو كان شاقا، هو أعلى درجات تعظيم الرب وحده لا شريك له، هو أعظم ما يُعبد الله به (وما أُمِرُوا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصين له الدين حنفاء)، (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون).

خطأ القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه في مصر مراعاة للعوائد والبيئة المصرية

خطأ القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه في مصر مراعاة للعوائد والبيئة المصرية علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف 6 محرم 1431هـ يزعم بعض الناس أن الإمام الشافعي كان يفتي في العراق بفتاوى ولما ذهب إلى مصر أصبح يفتي بخلاف ذلك لاختلاف البيئة بين مصر والعراق وبالتالي أصبحت له فتاوى تناسب أهل العراق وفتاوى تناسب أهل مصر؟ وهذا الزعم ليس بصحيح فلم يثبت أنه كان للإمام الشافعي رحمه الله فتاوى تناسب أهل العراق وأخرى تناسب أهل مصر، ولكن المقرر في كتب المذهب الشافعي هو أن الإمام الشافعي كان له مذهبان مذهب في العراق وهو المذهب القديم تلقاه عنه تلاميذه هناك وألَّف فيه كتباً ثم إنه عندما انتقل إلى مصر مروراً بمكة التقى بعدد من العلماء ونقلة الأحاديث وتراجع عن كثير مما كان عليه بالعراق، وهو ما أصبح يُعرف بالمذهب الجديد، ولم يكن آنذاك يُعرف بمذهب العراق ومذهب مصر. وهذا المذهب الجديد قيل إنه تشكَّل قبيل مغادرته العراق إلى مكة، وقيل قبل مغادرته مكة، لكن من المقطوع به أنه كتبه وأصَّله في مصر، فهو إذن لا علاقة له بكونه في مصر أو في العراق ومما يدل على ذلك: 1 - أنه لو كان الأمر مجرد فتاوى تناسب كل بلد لما أمر رحمه الله بشطب كتبه التي ألَّفها في العراق وحرَّم على الناس روايتها، فقد كان يقول: (ليس في حلٍّ من روى عني القديم) (البحر المحيط) للزركشي (4/ 584)، بل لجعل لكل بلد فتاواه التي تناسبه. 2 - ولو كان الأمر كما يزعم هؤلاء لأفتى أصحابه بالعراق بأقواله القديمة والواقع خلاف ذلك. 3 - أن أئمة المذهب الشافعي والذين هم أدرى به لم يذكر أحدٌ منهم هذا السبب، فهل هؤلاء المتأخرون أعلم بذلك منهم؟!. بل عندما اختار بعضهم شيئاً من أقواله القديمة لم ينسبوها إليه، بل اختاروها لرجحان أدلتها من وجهة نظرهم. 4 - أن أئمة المذهب الشافعي صرَّحوا بأنه لا يجوز تقليد الشافعي في مذهبه القديم ولو كان المقلِّد من أهل العراق، فكيف يزعم هؤلاء أن السبب اختلاف البيئة واختلاف المكان. 5 - لو صح أن سبب تغيير الإمام الشافعي لمذهبه في مصر اختلاف المكان لما قلَّده الشافعية في غير مصر والمعلوم لدى طلاب العلم أن أئمة الشافعية أين ما كانوا قد أخذوا بمذهبه الجديد الذي أسسه في مصر حتى أهل العراق أنفسهم، وكتاب الأم وهو العمدة في المذهب الشافعي إلى الآن؛ ألَّفه في مصر، لذلك قال النووي في المجموع (1/ 66): (كل مسألة فيها قولان للشافعي رحمه الله قديم وجديد، فالجديد هو الصحيح وعليه العمل)، وقال (1/ 68): (ليس للمفتي ولا للعامي المنتسب إلى مذهب الشافعي رحمه الله في مسألةِ القولين أو الوجهين أن يعمل بما شاء منهما بغير نظر بل عليه في القولين العمل بآخرهما) ولم يفرق بين كون هذا المفتي في العراق أو مصر أو غيرهما. والعجيب في الأمر أن الذين يزعمون أنه غيَّر مذهبه لتغير عوائد الناس وطبائعهم إنما يريدون بهذا الزعم إصدار فتاوى تيسر على الناس ولو خالفت الدليل زاعمين أن الإمام الشافعي أفتى بفتاوى تناسب أهل مصر تيسيراً عليهم، وجهل أولئك أن فتاوى الإمام حسب أصوله في مصر أشد من فتاواه في العراق، ومذهبه في العراق أقرب إلى التيسير، وأنه بنى مذهبه الجديد على الاحتياط، وعدم القول بالمصالح المرسلة التي يدندن حولها القوم، ولا عبرة بالعرف عنده بل العبرة بالنص والالتزام بظاهر النصوص كما سيظهر ذلك من خلال بعض الأمثلة التي سأوردها لك بعد قليل، ولا توجد مسألة واحدة تراجع عنها الإمام لتغير الظروف بين مصر والعراق، والبينة على المدعي، وهيهات!. ومن أمثلة الفتاوى التي أفتى بها في مصر وكان رأيه فيها أشد من رأيه في العراق كما هو مبثوث في كتب الشافعية:

1 - استعمال أواني الذهب والفضة، في القديم: يكره كراهة تنزيه، وفي الجديد: يكره كراهة تحريم. 2 - المسح على الخفّ المخرق، في القديم: إن كان الخرق لا يمنع المشي عليه جاز، وفي الجديد: إن ظهر من الرِّجل شيء لم يجز. 3 - ترك الفاتحة نسياناً، في القديم: تسقط عنه القراءة بالنسيان، وفي الجديد: لا تسقط. 4 - الغسل من ولوغ الكلب، في القديم: لا يجب غسله، وفي الجديد: يغسل ستاً. 5 - ترك الترتيب في الوضوء ناسياً، في القديم: صحيح، وفي الجديد: باطل. 6 - النوم في الصلاة، في القديم: لا ينقض الوضوء، وفي الجديد: ينقض. 7 - امرأة المفقود، في القديم: تتربص أربع سنين من وقت انقطاع خبره، ثم تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشرة أيام، وفي الجديد: لا تعتد ولا تنكح أبداً حتى يأتيها يقين وفاته، فأخذ في القديم بقول ابن عباس رضي الله عنهما الأيسر، وأخذ في الجديد بقول علي رضي الله عنه الأشد. والأمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها في مظانها، ويلاحظ أنه لا أثر لاختلاف المكان والبيئة في اختلاف قولي الإمام الشافعي القديم والجديد في هذه المسائل كلها، وإنما يرجع سبب الاختلاف إلى إحكام مذهبه وضبطه بالأدلة الشرعية كما قال تلميذه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما قيل له: (ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحب إليك أم التي عند المصريين؟، قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك). (مناقب الإمام الشافعي للبيهقي 1/ 263 ( فهذا تلميذه وأعرف الناس به أرجع سبب تغير مذهب إمامه إلى الإحكام والضبط، ولو كان للبيئة والمجتمع سبب في ذلك لذكره. فالقول بأن هذا هو السبب قول باطل وعري عن الصحة ولا يستقيم مع التحقيق العلمي ولا يقوله إلا جاهل أو صاحب هوى. وليس معنى ذلك أن الفقيه لا يجوز له أن يغير فتواه بتغير الزمان والمكان، بل هذا ممكن في المسائل الاجتهادية المبنية على العرف والمصالح ورفع الحرج، أما المسائل المبنية على الأدلة الشرعية الصحيحة، فهي ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان. والله أعلم.

تكثير الأتباع بالوحي لا بالابتداع

تكثير الأتباع بالوحي لا بالابتداع أ. د. ناصر العمر إنَّ بِيَد العلماء والدعاة اليوم كنز عظيم من إرث النبوة، إنْ هُم استخرجوه كما هو، واستعملوه على وجهه، فجدير بالناس أن يؤمنوا بما جاءوهم به، فمع الدعاة اليوم ما بمثله تؤمن البشرية، فقد صح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ". إن الدعاة اليوم ليسوا بحاجة مع هذا الكنز إلى اتباع زبالات العقول ولا إلى استيراد آراء ونظريات الغربيين، وليسوا كذلك بحاجة إلى إخفاء جزئه والتنصل من بعض أحكامه، بل ما يتنصلون منه، فيعتسفون له التأويلات حيناً لينسجم مع نظريات الغربيين، ويكتمونه حيناً آخر باسم مصلحة الدين، وهو المصلحة المعجزة التي بمثلها آمن البشر، والإشكال كل الإشكال في تلك العقلية التي ترى المعروف منكراً، تلك العقلية المنتكسة هي التي يجب أن تعدل، هي التي يجب أن تصحح لا الشرع المطهر، وإذا علم هذا فثمة أمور ينبغي أن يتنبه لها كل من سلك طريق الدعوة منها: - عرض دعواتنا على الوحي، فمتى خالفت منهاجه أو تعارضت مع أحكامه، فلنوقن بأننا في منأى عن عرض دعوة بمثلها يؤمن البشر إيماناً صادقاً شرعياً معتبراً، وإنما هي آراء زخرفت وزوقت فانجذب إليها من ضعف تمييزهم أو اتبعوا أهواءهم، ولا تغرنك كثرتهم! - وما ينبغي التنبه له أنه متى وجدنا أن الدعوة لم تلق قبولاً فلنوقن بأن الخلل في أحد أمرين: - إما أن تكون دعوتنا قاصرةً غيرَ منسجمة مع الوحي في منهاجها أو أحكامها أو بعض شأنها. - وإما أن يكون الخلل في الشريحة المدعوة والخلل حينها أحد أمرين: .. فقد تكون الشريحة المنتقاة للدعوة مخاطبة بخطاب شرعي لا يناسبها. .. وقد يكون الخطاب مناسباً لها لكن الخلل في عقلية المخاطبين التي انتكست، ونفوسهم التي أشربت حب الباطل فلا تطيق التخلي عنه. وعلى الداعية أن يتهم نفسه قبل أن يتهم الآخرين، ويراجع دعوته أولاً بعرضها على الوحي دائماً، ثم يراجع خطابه ويقيم ملاءمته للمدعوين، وأخيراً يبحث عن سبل علاج مرضى القلوب من أصحاب الأهواء والشهوات العالمين المعرضين أو المستكبرين. - ومما ينبغي أن نتنبه له كذلك أن كثرة الأتباع، وحشد الجماهير، وتكثير السواد قد يحصل بعضه بالباطل، وقد يكون شيء منه بالتنازل عن الدين، غير أن الكثرة الكاثرة والسواد العظيم المبارك لايمكن جمعهم إلاّ على الوحي الذي يؤلف بينهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" ... وكما أن للحق أتباع، فإن للباطل أتباعه، ولكل ناعق تابع، وأتباع الشهوات والأهواء كثير، بل (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]، غير أن التأليف بين أصحاب الأهواء المختلفة عسير، وتحقيق رغباتهم كلهم يتعذر فهم الأغلبية المتفرقة، فهم أغلبية لكنهم ( .. لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [من الذاريات: 8 - 9].

أما الاجتماع على الحق والتنازل له فممكن حلو ميسور، ولاسيما الحق المنزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء بشريعة سمحة جمعت المحاسن، وهدت إلى أقوم السبل، فحري بالنفوس المتجردة السوية أن تتبعه وأن تأتلف عليه، وحري كذلك بأن يكون الداعي إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكثر تبعاً من صاحب الشرع المحرف أو المبدل لو عقل الأتباع والمدعوون .. ولكن شأن الأهواء يأبى أن يكون الأحرى والأولى هو الأولى! ومع ذلك فإنَّ سلطان الوحي الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم أبى إلاّ أن يقتحم قلوب كثير من الناس فكان أكثر الأنبياء تبعاً نبينا صلى الله عليه وسلم. والذي يتأمل تاريخ الإسلام يجد أكثر الناس تبعاً من بني الإسلام هم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة العاملين المتبعين للوحي الذين لهم قدم صدق في الإسلام ثابتة، قد أخذو الكتاب بقوة، ولم يعرف فيهم متساهل أو مترخص متلاعب، جعل الوحي باسم المصلحة خلفه ظهرياً. إن تمييع الدين والتنازل عن بعض الثوابت قد يجمع حول الداعية خلقاً بعض الوقت، ثم لا يلبس ذلك الجمع أن ينفض إما بموته فهم ما اتبعوه إلاّ لتحقيق مآربهم وإنما امتطوه ليكون ذريعة شرعية نحو شهواتهم، وإما بأن يجد الجمهور من هو أوسع فقهاً! منه ولك أن تقول: أرق ديانة! وإما أن يهدي الله من تلك الجموع فئاماً تبصر الحقيقة فتنفض عمن يزورونها، والنتيجة الحتمية اضمحلال الباطل وذهاب هيبته وظهور الحق وإياب دولته: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17]، ولو تأملنا في حال المجددين والمصلحين الذين تبعتهم الأمة ورفع الله ذكرهم فيها منذ القرن الأول وإلى اليوم، وجدناهم جميعاً مما يعنون بالوحي وإقامته بين الناس، يمسكون بالكتاب، ويحيون السنن، ويحتاطون للأمة، ما عرف واحد منهم بإحياء البدع، ولا الاندفاع في الترخص، وأمثال هؤلاء ومن جرى على سننهم هم من سوف يبقى علمهم ويشاد ببذلهم ولو بعد حين فهؤلاء إنما يجددون علم النبوة، أما غيرهم فسيضمحل ولو بعد حين، وتلك هي سنة الله في الأولين وسوف تبقى في الآخرين، إلى آخر الزمان، ومن سِرِّ ذلك أن الوحي هو الذي به يؤمن البشر وبه تصلح شؤونهم في سائر الأوقات والأماكن، فلا غرو أن يكون الداعي إليه أكثر الناس تبعاً، على أن المطلوب من أهل الحق أن يبينوه ويجتهدوا في دعوة العقلاء إليه، والله متم نوره ولو كره الكافرون. فإن لم تقم للحق دولة تنصره وترعاه، بل مات أهله في الأغلال والسجون فهو أتم لأجرهم، والله يرفع ذكرهم، كما رفعوا دينه الخالص، وتأمل قول بعض السلف: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز! مات أحمد بن حنبل فتبع جنازته أهل بغداد، ومات ابن تيمية فتبع جنازته أهل الشام ... ومات ابن أبي دؤاد رجل الدولة فما تبعه عدد يذكر! مع أنه كان جواداً ممدحاً وكانت العامة والخاصة -سوى قلة- كانت تظهر له الموافقة خوفاً من بطش السلطان، والله المستعان. المصدر: موقع المسلم

احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي

احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي مناقشة علمية إبراهيم بن عمر السكران -مدخل: طوال السنوات السابقة كنت أسمع وأقرأ حزمة من "المقولات النقدية" التي توجه ضد الخطاب الشرعي، وعادة ما تبدأ هذه الجمل بعبارة (مشكلة الإسلاميين أنهم ... الخ) أو (مشكلة المشايخ أنهم .. الخ)، وتارة أخرى ألاحظ أن العبارة تبدأ بلغة أكثر انتماءً مثل (مشكلتنا أننا .. الخ). والذي لفت انتباهي طوال هذه الفترة في هذه المقولات النقدية أن الفكرة تقريباً متشابهة بين هؤلاء النقاد الذين ينتقدون، بل وفي كثير من الأحيان تجد العبارة ذاتها متشابهة، فأسمع وأقرأ ذات المفردة في الحوارات التي تدور في المجالس العامة، وفي المقابلات الإعلامية التي تُجرى مع بعض المنتسبين للثقافة، وفي المنتديات الفكرية الإلكترونية، بل وكثيراً ما أتلقى رسائل على البريد الإلكتروني من بعض الأصدقاء تتضمن الفكرة ذاتها وبالعبارات ذاتها! هذا التشابه الهائل في تلك الأفكار والعبارات النقدية التي تُشهر في وجه الخطاب الشرعي كان بالنسبة لي سراً غامضاً، حتى أنني وأنا أسمع وأقرأ وألاحظ سعة هذا القدر المشترك بينهم، أقول في نفسي يا ترى هل تَمَاثُل المخرجات يعكس وحدة المصدر؟ أي أن هذا التناسخ التوأمي في الأفكار والعبارات هل يمكن أن يدل على أن المصدر "شخص واحد" وهم ينقلون عنه جميعاً؟! المهم أنني لاحظت أن أكثر هذه "المقولات النقدية" شيوعاً سبع مقولات تقريباً: أولها: أن الخطاب الشرعي لا يعتني بالقضايا الحقيقية والفعلية وأسئلة وإشكاليات الناس المدنية، وثانيها: أن الخطاب الشرعي يهتم بالقضايا الشكلية ولا يعتني بقضايا الأخلاق حتى أصبح التدين تديناً مظهرياً وليس تديناً حقيقياً. وثالثها: أن الخطاب الشرعي لا يعتني بالعلوم غير الشرعية بل ويشيع التزهيد فيها وأنه لا ثواب فيها مما أدى إلى تخلفنا في هذه العلوم. ورابعها: أن الخطاب الشرعي لا يعتني بمقاصد الشريعة ومنهج الشاطبي مما تسبب في إغراقه في الحرفية في تفسير النصوص والجزئية في الاهتمامات. وخامسها: أن الخطاب الشرعي منهمك ومشغول في صراعات ومعارك تاريخية طواها الزمن مثل قضايا الصفات والجهمية وخلق القرآن. وسادسها: أن الخطاب الشرعي خلق موقفاً سلبياً ضد الاستفادة من المنجزات المدنية الغربية مما تسبب في تخلفنا المعاصر. وسابعها: أن الخطاب الشرعي مجرد ذيل وتابع للنظام السياسي، وغارق في مديح الولاة والتزلف لهم، فهو أداة يحركها كما يشاء، وليس خطاباً شرعياً مستقلاً. هذه المقولات السبع أكاد أسمعها في كل مجلس تثور فيه حوارات فكرية حول الواقع المحلي، وأكاد أقرؤها في كل مقابلة إعلامية يتم إجراؤها مع أحد المنتسبين للثقافة حين يتحدث عن رؤيته للخطاب الشرعي. بل إنه من الطريف أن التشابه المتكرر بين هؤلاء النقاد يصل ليس فقط إلى الفكرة والعبارة، بل إلى أسلوب العرض ذاته، فقد لاحظت شخصياً أنهم كثيراً ما يستخدمون أسلوب السؤالين (أين نحن عن .. ؟) و (إلى متى ونحن نتحدث عن .. ؟) فتراهم يقولون لك بصيغة السؤال الأول: (أين نحن عن مصالح واحتياجات وحقوق الناس؟ أين نحن عن قضايا الأخلاق وقيم العمل؟ أين نحن عن منجزات العلوم المدنية الغربية؟) ثم يعقبونها بصيغة السؤال الثاني: (إلى متى ونحن نتحدث عن معارك الصفات والجهمية؟ إلى متى ونحن غارقون في القضايا الجزئية الصغيرة؟) فلا أدري عن سر هذا التطابق في الفكرة، والمفردة، والأسلوب ذاته؟! وهذا التطابق في الحقيقة يمثّل بالنسبة لي ظاهرة طريفة فعلاً. وهذه "المقولات النقدية" في الحقيقة تحمل أحكاماً ضمنية، بمعنى أنها تقرر أحكاماً عن واقع الخطاب الشرعي (بأنه يهمل قضايا معينة .. ويغالي في الاهتمام بقضايا أخرى)، ولذلك كنت حين أسمع شخصاً يردد بعض هذه المقولات النقدية فإني كنت أفضل دوماً أن أبدأ بالسؤال المنهجي: هل فعلاً أجريت دراسة مسحية أو استطلاعية -ولو كانت عابرة- على منتجات الدروس الشرعية والبحوث التي ينتجها الباحثون الشرعيون؟ وكنت دوماً أتفاجأ بردود مخيبة للآمال. غالب الشخصيات التي تردد مثل هذه المقولات التقييمية ليس بحوزتها أية دراسة علمية تبرهن هذه الأحكام الضخمة التي يكررونها في مجالسهم بشكل معتاد. ومن هاهنا فإنني قررت أن أقوم بكتابة ورقة موجزة تتضمن فحصاً لمدى الدقة العلمية في هذه (المقولات النقدية) التي تتداولها بكثرة المجالس العامة، والصوالين الأدبية، والندوات الثقافية، والأعمدة الصحفية، والمشاركات المنتدياتية. ما مدى موضوعية هذه الأحكام وعلميتها؟ ما الذي يصح منها وما الذي لا يصح؟ أين أخطأ نقاد الخطاب الشرعي وأين أصابوا في هذه الاحتجاجات التي يوجهونها دوماً ضد الخطاب الشرعي؟.

الشذوذ في القول

الشذوذ في القول بجواز تولي المرأة منصب الإمامة والقضاء صالح بن علي الشمراني خلق الله الناس من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وشرع لهم الدين وأمرهم رجالا ونساء باتباعه، ووعد من أطاعه منهم الجنة فقال عز وجل: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [سورة النساء:124]، وهم جميعا في أصل التكليف سواء، والخطاب الشرعي واقع عليهم على حد سواء، إلا ما خص الله به الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال، مما يوافق خلقة كل وفطرته وتكوينه، فقد قال عز جل: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [سورة آل عمران:36]. ومما خص الله به الرجال دون النساء تولي منصب القضاء، وهذا شبه إجماع بين أهل العلم من السلف والخلف، ولم يعهد أهل الإسلام منذ مبعث رسولها صلى الله عليه وسلم مرورا بعهد الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا أن أحدا من أئمة المسلمين ولى المرأة هذا المنصب. قال ابن قدامة: " ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه الزمان غالبا". (¬1) ويقول أبو الوليد الباجي: " ويكفي في ذلك عمل المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا نعلم أنه قدم امرأة لذلك في عصر من الأعصار ولا بلد من البلاد، كما لم يقدم للإمامة امرأة. (¬2) وقالت لجنة كبار علماء الفتوى بالأزهر: " الولاية العامة - ومنها رئاسة الدولة - قصرتها الشريعة الإسلامية على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة، وقد جرى التطبيق العملي على هذا من فجر الإسلام إلى الآن، فإنه لم يثبت أن شيئا من هذه الولايات العامة قد أسند إلى المرأة لا مستقلة ولا مع غيرها من الرجال وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات، وفيهن من تفضل كثيرا من الرجال، كأمهات المؤمنين مع أن الدواعي لاشتراك النساء مع الرجال في الشؤون العامة كانت متوافرة، لم تطلب المرأة أن تشترك في شيء من تلك الولايات ولم يطلب منها الاشتراك، ولو كان لذلك مسوغ من كتاب أو سنة لما أهملت مراعاته من جانب الرجال والنساء باطراد. (¬3). وقال ابن العربي: " وقد روي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح، فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث. (¬4). اتفاق الأئمة في هذه المسألة: ولذلك فإن جماهير أهل العلم من السلف والخلف على ما تقدم من أنه لا يجوز أن تتولى المرأة منصب القضاء، وأن من ولّاها أثم. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، (¬5). وهو ما نص عليه فقهاء الحنفية. (¬6). إلا أنهم - أي الحنفية - يرون أنها لو وليت ينفذ حكمها فيما تصح فيه شهادتها. الخطأ في فهم مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: المذهب عند الحنفية كماك تقدم، هو أنه لا يجوز توليتها، إلا أنها لو وليت جاز حكمها ونفذ خلافا للجمهور. قال ابن قدامة: " وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود، لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه". (¬7). وقال ابن رشد: " وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضية في الأموال". (¬8). ¬

(¬1) المغني: (14/ 13) (¬2) المنتقى (5/ 182) (¬3) نقلا عن المرأة والحقوق السياسية في الإسلام ص 220 عن الحركة النسائية (ص: 108، 109) (¬4) أحكام القرآن (3/ 482) (¬5) ينظر: الذخيرة (10/ 16)، الحاوي (20/ 220)، المغني (14/ 12) (¬6) فتح القدير (5/ 486)، مجمع الأنهر (2/ 168) ابن عابدين (8/ 127)، البحر الرائق (7/ 8) (¬7) المغني: (14/ 12) (¬8) بداية المجتهد (4/ 1768)

ومن مثل هذا النقل لمذهب الحنفية ظن الكثير أن أبا حنيفة يجيز أن تتولى المرأة منصب القضاء، وهذا الفهم خاطئ لأنه لا يلزم من القول بجواز قضائها- إذا وليت القضاء- القول بجواز توليها القضاء، وهذا ما أشار إليه المحققون من أئمة الحنفية أنفسهم. قال في مجمع الأنهر: " ويجوز قضاء المرأة في جميع الحقوق لكونها من أهل الشهادة لكن أثم الموليّ لها للحديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (¬1). فترى أنه نص على أثم المولي، ولا يحكم بالإثم إلا على فعل محرم. وقال العلامة ابن الهمام في الرد على استدلال الجمهور بحديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) على عدم جواز قضائها وعدم نفاذ حكمها: (والجواب أن غاية ما يفيده منع أن تستقضى وعدم حله، والكلام فيما لو وليت وأثم المقلد بتوليتها، أو حكمها خصمان فقضت قضاء موافقا لدين الله أكان ينفذ أم لا؟) (¬2). فتلاحظ أن ابن الهمام رحمه الله نص على أن الخلاف إنما هو في نفاذ حكمها من عدمه في حالة ما لو وليت القضاء أو حكمها خصمان، ولذلك فإن مفهوم كلامه رحمه الله أنه لا خلاف في أنه لا يجوز توليتها القضاء. كما أنه نص على أن الحديث يدل على منع توليتها وعدم حله. وقال ابن نجيم: " لأنها أهل للشهادة في غيرها فكانت أهلا للقضاء لكن يأثم المولي لها" (¬3). وقد أشار ابن العربي المالكي إلى هذا التفريق بين القول بجواز حكمها والقول بجواز توليتها فقال: " ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه ولعله نقله عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور، بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستنابة في القضية الواحدة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير". (¬4). النتيجة: مما تقدم فإن الجزم باتفاق الأئمة الأربعة على القول بعدم جواز تولي المرأة منصب القضاء صحيح. ولذلك فإن التعلق بنسبة القول بجواز تولية المرأة القضاء إلى أبي حنيفة باطل، وأبطل منه ما ركب على ذلك من أحكام أخرى كما سيأتي في مبحث الولاية العامة. القول الشاذ في هذه المسألة: فإذا تبين اتفاق المذاهب الأربعة على منع المرأة من تولي منصب القضاء، فقد حُكي عن الإمام ابن جرير الطبري أنه على خلاف ذلك، وأنه يجيز أن تكون قاضيا على الإطلاق في جميع الأحكام. وهذا القول مشهور عن ابن جرير، وذكره غير واحد من العلماء عنه (¬5) وهو قول ابن حزم كذلك (¬6). وقد أشار ابن رشد في باب معرفة من يجوز قضاءه إلى هذا القول والذي قبله فقال: " وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة: فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال. قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماعلى الإطلاق في كل شيء (¬7). التحقيق في قول ابن جرير: لم يثبت هذا القول عن ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - بنقل صحيح ولم ينص هو على هذا في شيء من كتبه. ¬

(¬1) مجمع الأنهر (2/ 168) (¬2) فتح القدير (5/ 486) (¬3) البحر الرائق: (7/ 8) (¬4) أحكام القرآن: (3/ 482) (¬5) انظر: الحاوي (20/ 220) الذخيرة (10/ 21) المغني (14/ 12). (¬6) المحلى (10/ 295). (¬7) بداية المجتهد (4/ 1768)

قال الشنقيطي: " لعل كل ما نسب إلى هؤلاء الأعلام لم تصح نسبته إليهم لرسوخ أقدام القوم، وأن لهم اليد الطولى في العلم، وإلا فكيف يصح أن يقول مثل هؤلاء: يجوز تولية المرأة في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (¬1). انتهى. ثم لو ثبت هذا القول عن ابن جرير فإنه لا يلزم منه القول بجواز تولي المرأة منصب القضاء كما يحرص دعاة العصرنة التأكيد عليه، بل غاية ما هنالك أنه يجيز حكمها لو وليت القضاء وحكمت كما أسلفنا في توجيه مذهب الحنفية. وقد تقدم النقل عن ابن العربي حيث أشار إلى التفريق بين القول بجواز حكمها والقول بجواز توليتها فقال: " ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه ولعله نقله عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور، بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستنابة في القضية الواحدة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير" (¬2). بل إن هذا لم يكن متصورا حصوله عند المتقدمين، ولذا قال ابن العربي: " فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير، لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، وإن كانت متجالة برزة لم يجمعها والرجال مجلس تزدحم فيه معهم، وتكون منظرة لهم، ولم يفلح قط من تصور هذا، ولا من اعتقده". (¬3) ثم لو قلنا بثبوته عن ابن جرير أو غيره، فلا عبرة به لأنه شاذ مخالف لجماعة العلماء. قال الماوردي: " وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام ولا اعتبار بقول يرده الإجماع" (¬4). الأدلة على عدم جواز تولي المرأة القضاء: استدل جماهير أهل العلم على عدم جواز تنصيب المرأة للقضاء بالكتاب والسنة والإجماع: 1 - قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [سورة النساء:34]، وجه الدلالة: أن هذه القوامة عامة، وإذا كان الرجل قيما عليها في حدود الأسرة ففي الولاية العامة من باب أولى. 2 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: لما بلغ رسول صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليه بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (¬5) وجه الدلالة: ظاهر بأمرين: أولهما: العموم في هذا الحديث، وهو من وجهين: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((قوم)) نكرة في سياق نفي فتعم كل قوم، ولم يقل صلى الله عليه وسلم، " لن يفلح الفرس حين ولوا أمرهم امرأة". الثاني: العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرهم)) ليعم كل أمر وذلك لأنها نكرة أضيفت إلى معرفة. ثانيهما: أن نفي الفلاح لا يكون إلا في ترك واجب. قال الشوكاني: " ولا يحل لقوم توليتها، لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب" (¬6). وقال: " فليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد ورأس الأمور هو القضاء بحكم الله عز وجل فدخوله فيها دخولا أوليا" (¬7). ¬

(¬1) نقلا عن كتاب ولاية المرأة في الفقه الإسلامي (ص: 220). (¬2) أحكام القرآن (3/ 482) (¬3) أحكام القرآن (3/ 482) (¬4) الأحكام السلطانية (ص:65) وانظر: ولاية المرأة في الفقه الإسلامي (ص:236). (¬5) رواه البخاري، كتاب المغازي، ح4425، مع الفتح (8/ 158)، وح 7099، في كتاب الفتن كما في الفتح (13/ 67) ورواه الترمذي، أبواب الفتن، ح75. (¬6) نيل الأوطار (8/ 617) (¬7) السيل الجرار (4/ 273)

3 - وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق، فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)) (¬1). قال مجد الدين ابن تيمية: " وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلا" (¬2). وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رجل) فدل بمفهومه على خروج المرأة (¬3). 4 - الإجماع، وقد تقدم نقله عن الماوردي - رحمه الله تعالى-. 5 - دليل النظر الصحيح. حيث إن القاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عن القيام بأكثر الأمور، وهي ناقصة والإمامة والقضاء من كمال الولايات فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال. المصدر: من كتاب (إرسال الشواظ على من تتبع الشواذ) ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب القضاء، باب القاضي يخطئ. سنن أبي داود مع عون المعبود (9/ 353) ورواه الترمذي، أبواب الأحكام، (ح 1322)، باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في القاضي، مع التحفة (3/ 6) ورواه ابن ماجه، كتاب الأحكام، (ح 2315)، كما رواه الحاكم في مستدركه بلفظ: (قاض .. ) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم، المستدرك (4/ 101) (¬2) المنتقى مع نيل الأوطار (8/ 616) (¬3) نيل الأوطار (8/ 618)

الاختلاط بين "محكم" الوحي و"متشابهه"

الاختلاط بين "محكم" الوحي و"متشابهه" عبد الله بن صالح العجيري (1) ليكن واضحاً من البداية أن الحديث هنا ليس عن "اختلاطٍ عفويٍ عارضٍ" كالاختلاط في السوق والطرقات فإنه لا خلاف أصلاً في حكم هذه المسألة، وإنما الكلام في "الاختلاط المقنن الممنهج" كالاختلاط الواقع في قاعات الدراسة ودوائر العمل، وهو مما لا خلاف في حكمه أيضاً. (2) لست أشك بأن مسألة "الاختلاط" من المسائل الجلية الظاهرة التي لا لبس فيها على من سلم من داء "الجهل" وداء "الهوى". ولولا كثرة الملبسين فيها من أهل الريب بالباطل لما تردد في حكمها عامة الناس فضلاً عن خاصتهم. ... في ظني أن من أهم "القواعد الشرعية المحكمة" التي ينبغي الاستمساك بها والصدور عنها مثل هذا الموضوع تلك "القاعدة القرآنية العظيمة" التي بينها الله تعالى في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ). فمن تأمل هذه الآية وما تضمنته من "منهجية علمية قرآنية" في التعاطي مع نصوص الوحي فستنزاح عنه "أثقال الشبهات" وتتطاير "هباءً منثوراً"، ومن "غفل" عنها أو "تغافل" فسيظل مضطرباً حائراً أمام سيل الشبهات والإشكالات والانحرافات. "الوحي" كما أخبر الله؛ فيه "النص المحكم" الذي يجب التزامه، "والنص المتشابه" الذي يلزم رده إلى "المحكم"، فإذا غاب عن الباحث قاعدة "المحكم" و"المتشابه" فلن يتميز له المراد الإلهي، وسيبقى متردداً متذبذباً يقفز مع كل أطروحة، ويربكه كل اعتراض. واستحضار هذا المدخل -هو في ظني- ضروريٌ لمعرفة "المنهجية الشرعية الصحيحة" في التعامل مع ما يتصل بالقضية المطروحة بين أيدينا -أعني حكم الاختلاط- " بمعرفة "محكمات" هذا الباب و"متشابهاته"، والتعامل مع كلٍّ وفق قاعدة الشريعة في "المحكم" و"المتشابه". لا يخفى على كل دارسٍ "لنصوص الوحي" و"مقاصد الشريعة" أن دين الإسلام جاء بـ"التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين"، وأنه يؤسس لتصور يراد منه حفظ "عفاف" المجتمع و"نقاؤه" و"طهارته" بتشريع ما يشيعه في المجتمع ويحفظه، وتحريم ما يفضي إلى إضعافه أو إزالته، وتأمل في مسرد "التشريعات" التالي تعلم "صدق" ذلك: "وجوب ضرب الخُمر على الجيوب وإدناء الجلابيب"، "حرمة إبداء الزينة للأجانب"، "النهي عن الضرب بالأرجل حتى لا تعلم الزينة"، "سؤال المتاع من وراء حجاب"، "منع الخضوع بالقول"، "القرار في البيوت"، "تحريم التبرج"، "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"، "منع الخلوة بالأجنبية"، "تحريم وصف المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي"، "التحذير من الدخول على النساء، وقوله: الحمو الموت"، "منع التعطر في الطريق"، "بيان أن المرأة عورة وذكر استشراف الشيطان لها إذا خرجت"، "تحريم الزنا وكل ما أفضى إليه الوسائل والأسباب"، "الأمر بحفظ الفروج"، "تحريم مس الأجنبية، وقوله: لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"، "تحريم السفر إلا مع ذي محرم"، "وجوب غض البصر"، "بيان حكم نظر الفجأة"، "تحريم الملابس الشفافة والضيقة المجسمة"، "تطويل ذيول النساء" "الطواف من وراء الرجال" ... إلخ إلخ.

ثم إذا قربت "عدستك" من التشريعات "المماسة" لمسألة "الاختلاط" مباشرةً، فستجدها منسجمة تماماً مع تلك "التشريعات" ومؤسسة لذات خطاب "التحفظ والاحتياط في علاقات الجنسين" بما يحدث في نفس الباحث أن ذاك "الاختلاط المقنن" هو من قبيل الحرام الذي لا ينبغي الاختلاف في حكمه. تأمل مثلاً في تلك "التشريعات" المتصلة "بخروج المرأة للصلاة في المسجد"، وتفكر في جملة "الاحتياطات" التي سنها الشارع في هذا الباب، لتعلم حرص الشارع على منع "الاختلاط المحرم" وسد ذرائع "تطبيع العلاقة بين الجنسين". الشريعة أسقطت عن المرأة واجب الحضور لصلاة الجماعة في المسجد، وجعلت صلاتها في بيتها خيراً لها من صلاتها في المسجد [قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها"] فإذا خرجت حرم عليها مس الطيب والتعطر ولبس ما تتزين به [قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً" وقال:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات"] فإذا أرادت دخول المسجد فلها باب يخصها لا يدخل منه الرجال [قال صلى الله عليه وسلم: "لو تركنا هذا الباب للنساء"] فإذا استقرت في المسجد كان محل صلاتها خلف الرجال، وكلما تأخرت عنهم فهو خيرٌ لها [قال صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"] فإذا انتهت الصلاة مكث الرجال مدةً حتى ينصرف النساء [عن أم سلمة قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم, قال: "نُرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال"] فإذا كانوا في الطريق مع الرجال فليس لهن أن يزاحمن الرجال ويختلطن بل لهن حافات الطريق [عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، "فاختلط" الرجال مع النساء في الطريق؛ فقال صلى الله عليه وسلم للنساء: "استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق"، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به]. ولا يغيبن عن ذهنك وأنت تقرأ مثل هذه "الاحتياطات" التشريعية أنها جاءت في حق "أشرف الناس" بعد الأنبياء، وفي "الطريق العابر"، وفي "الوقت القصير"، وفي "وضح النهار"، مع "وجود الحجاب"، حالة الخروج من "أطهر البقاع"، بعد "أشرف العبادات العملية"، فمن باب أولى أن يمنع في أماكن المكث الطويل في أزمان الريب، والبعد عن الحجاب، وضعف الإيمان. وبالله عليك حين يقرأ المسلم المتجرد الباحث عن الحق كل هذه "المنظومة المتماسكة" من "التشريعات" التي تستهدف سدَّ كل الطرق المفضية "لتطبيع" العلاقات بين الجنسين، فهل يشك أن من مقاصد الشريعة التي يريدها الله ويحبها "التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين"؟! وأن "اختلاط الرجل بالمرأة في دوائر العمل بالساعات الطوال" من الأمر المحرم في دين الإسلام.

والذي أريد أن أفهمه: كيف يستقيم لشخص أن يُحرِّم "خلوة الرجل بالأجنبية" ولو مرةً واحدةً "لدقائق معدودة" مع تقدير انشغاله عنها وهي "محتشمة" "متحفظة" لورود "النص المحرم" ولانعقاد "الإجماع" على تحريم "الخلوة"، كيف يستقيم لهذا أن يبيح "الاختلاط بين الجنسين" "الساعات الطوال" على مدى "أيامٍ وسنواتٍ" في "دوائر العمل" و"قاعات الدراسة"، فأي الأمرين أولى بالتحريم في قياس الشريعة، وأيهما أعظم مظنةً لوقوع المحذور. ومن المعلوم ما تفضي إليه مثل هذه "المخالطة المطولة" من رفع "للكلفة" وإزالة "للحرج"، فلو قُدّر أن "هذا" و"هذه" تحفظا في بداية "اختلاطهما" فإن مآل هذا التواصل الطويل غالباً ارتفاع مثل هذا "التحفظ" وهذه "الكلفة" وتلكم "الحساسية"، والبدء "بعلاقة" يسودها ما يسود العلاقات من "عفويةٍ" "وضحكةٍ" "ونكتةٍ" و"دعابةٍ" وغير ذلك، ليتطور الأمر إلى ما ورائه، والواقع شاهدٌ، والصور حواضر، وفتش في عالم "اليوتيوب" وفضاء "الإنترنت" تعلم حجم الخلل وواقع الإشكال. وليت شعري هل يصح أن تترك مثل هذه "المحكمات" في تحريم "الاختلاط المقنن" ويتعلل مثلاً بكون المرأة كانت تساعد في الحروب، أو أنهن يختلطن في المطاف، أو أنهن يبعن ويشترين في السوق، أو أنهن كن يستفتين النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الرجال، أو أن النبي كان يأتيهن ونحو ذلك من النصوص "المجملة" "المحتملة"، بل و"الخارجة" عن سياق مسألتنا أصلاً. ولنراجع "السيرة العملية" التي عاشها الصحابة في "العهد النبوي" حتى ننتزع بقية هذا الإشكال من أساسه، هل كان النساء يخالطن الصحابة في المجالس والملتقيات؟! وهل كن يتزاحمن على النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال كل يطلب قربه والتواصل معه؟! وهل كانت الواحدة منهن تجلس بجانب الرجل لا تجد في ذلك غضاضةً ولا حرجاً؟! أم أنه كان "للنساء مجالس" و"للرجال مجالس"، وأن مثل هذا "الاختلاط المقنن" لم يكن له وجود ولا حضور عند الصدر الأول. ووالله لو كان الأمر أمر "اختلاطٍ ظاهرٍ" لكان في "شهرته" و"انتشاره" ما يغني عن الاستدلال له بأن امرأة جاءت تستفي النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على امرأةٍ مرةً ونحو ذلك. فإن مثل هذا لو كان لكان من "الكثرة" و"الشهرة" ما يغني صاحبه عناء تتبع أفراد أدلته وجزئياته. ثم تدبر الحديث التالي، والذي يبين طبيعة مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يقع في زمانه من الفصل بين الجنسين: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: "ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار". فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: "واثنين". وقد بوب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم". فلو كان الاختلاط جائزاً، وكان هو الأصل لكان حال النساء في الأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله كحال الرجال، فلم يكن هناك غالبٌ ومغلوبٌ، ولقيل لهن: تعالين وساوين الرجال في مكانكن من النبي صلى الله عليه وسلم، أو اجلسن بين ظهراني الرجال، أو تقدمن عليهم. ولا شك أن هذا يتضمن توفيراً للوقت وللجهد، قائد الأمة صلى الله عليه وسلم بأمس الحاجة إليه.

والمقصود أن القدح في مثل هذه "المحكمات الشرعية" بمثل هذه الاحتمالات غير صحيح ولا جائز، ومثل هذا "المتلاعب" بهذه المحكمات لن يعجزه أن يستحل جمهور المسكرات المعاصرة (باعتبارها خمراً من غير العنب)، وجمهور الربويات المعاصرة (باعتبارها أوراق نقدية لا ذهب وفضة)، وسائر العلاقات غير المشروعة بين الجنسين (باعتبارها نكاح متعة يشترط فيه فقط تراضي الطرفين، ولا يشترط ولي ولا شهود ولا مهر) إلخ إلخ من محرمات الإسلام، وسيجد من "المشتبهات" نظير ما وجد في مسألتنا هذه، بل أكثر من ذلك. فمن أهدر قاعدة "المحكم والمتشابه" فلن يجد مشكلة في تخريج ما شاء من آحاد الأحكام الشرعية وفق هواه، وهذه "إشكالية جوهرية" في التدين تتسلسل بالشخص إلى "الانحلال" عن ربقة التكليف، التي هي أساس التشريع، فإن مبنى الشريعة إنما جاء لإخراج العبد عن داعية هواه ليكون عبداً لله. ومن المثير للدهشة فعلاً أن أصحاب هذا المسلك في التعاطي مع مسألة "الاختلاط" واقعون في فخ المراوحة بين "النصوصية" و"المقاصدية" بحسب ما تمليه الرغبات. فإذا كانت مقاصد الشريعة تخدم أهواءهم في قضية ما تحولوا "شاطبيين" و"طوفيين" حتى النخاع. وإذا كان الوقوف على "ظاهر النص" في قضية أخرى هو الذي يخدم أهواءهم؛ تحولوا بقدرة قادر إلى "حزميين" بل أكثر من ابن حزم ذاته! واعتبر بحالهم في مسألتنا، فحين تسرد عليهم تلك النصوص الشرعية الجزئية الدالة على "التحفظ" و"الاحتياط" في العلاقة بين الجنسين وما يحدثه ذلك من معرفة "بمقصد الشريعة" في هذا الباب، فإن ذلك يتبخر في طرفة عينٍ تحت ضغط السؤال" أين النص على كلمة "الاختلاط" في النص المحرم، وإذا قُدّر وباحثك ذات الشخص في مسائل أخر فاستدللت عليه "بنص الشريعة" حدثك عن ضرورة "النظرة المقاصدية" وأن "كليات الشريعة" مهيمنة على فروعها وجزئياتها، فساعة "ظاهري" وساعة "مقاصدي" بحسب الأهواء، أسأل الله أن يعيذنا من الفتن والأهواء، والله يرعاكم ... تنبيه مهم: هذا المقال مستفادٌ "بحرفه" و"معناه" من مجموع مقالاتٍ كتبت في هذا الشأن، مع فوائد وزوائد، أهم هذه المقالات: 1. الاختلاط .. (هم) و (وهم) للشيخ فهد العجلان. 2. درس عملي في المحكم والمتشابه "الاختلاط أنموذجاً" للشيخ منصور العيدي. 3. تعليق حول كتاب أبي شقة "تحرير المرأة في عصر الرسالة" للشيخ إبراهيم السكران.

تتبع الرخص

تتبع الرخص هشام السعيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: هذا بحث موجز في حقيقة المراد بتتبع الرخص وكلام أهل العلم في حكمه، وقد تكلم غالب الأصوليين في (تتبع الرخص) عقيب كلامهم في مسألة (التزام العامي مذهباً معيناً) من حيث إنها مبنية على مسألة التزام المذهب ومخرّجة عليها (¬1). وقد جعلت الكلام فيه وفق الخطة الآتية: • المبحث الأول: حقيقة تتبع الرخص. • وفيه مطلبان: المطلب الأول: المراد بتتبع الرخص. المطلب الثاني: الفرق بين تتبع الرخص والتلفيق. • المبحث الثاني: حكم تتبع الرخص. أسأل الله _تعالى_ أن ينفع به، وأن يجعله خالصاً صواباً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. • المبحث الأول: حقيقة تتبع الرخص. • وفيه مطلبان: المطلب الأول: المراد بتتبع الرخص. 1 - الإطلاق اللغوي: تطلق الرُّخُْصَة (بإسكان الخاء وضمها) في اللغة، ويراد بها: التخفيف والتسهيل والتيسير، وأصل الكلمة كما يقول ابن فارس "يدلّ على لينٍ وخلاف شدة" (¬2). 2 - الإطلاق الاصطلاحي: يظهر من خلال تتبّع استعمالات أهل العلم لكلمة (الرخصة) أن لها في عُرفهم معنيين: الأول: الرخصة الشرعية؛ وهي (ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح) (¬3)، وهي التي تطلق في مقابل (العزيمة). وهذا الاستعمال غير مراد في هذا البحث؛ لأنه لا إشكال في الأخذ بها، بل دلّت النصوص الشرعية على مشروعية الأخذ بها، كما في قوله: "عليكم برخصة الله الذي رخص لكم" (¬4). الثاني: الرخصة الفقهية، وهو المراد هنا، وقد جاء هذا المعنى وفق الاستعمال اللغوي؛ فهو بمعنى التسهيل والتخفيف، وتتبع الرخص هو طلب التخفيف في الأحكام الشرعية. وقد ذكر جمع من أهل العلم تعريفات لتتبع الرخص، أذكر منها ما وقفت عليه: 1 - عرفه الزركشي بأنه: "اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه" (¬5). 2 - وعرّفه الجلال المحلي بقوله: "إن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل" (¬6). 3 - وحكى الدسوقي وغيره من المالكية تعريفين: الأول: "رفع مشقة التكليف باتباع كل سهل". الثاني:"ما يُنقض به حكمُ الحاكم من مخالفِ النص وجلي القياس" (¬7). 4 - وعرّفه المجمع الفقهي بأنه: "ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحاً لأمرٍ في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره" (¬8). 5 - وعرّفه بعض الباحثين بأنه: "تطلّب السهولة واليسر في الأحكام، فمتى ما رأى المتتبع للرخص الحكم سهلاً في مذهب سلكه وقلّده فيه، وإن كان مخالفاً لمذهبه هو الذي يلتزم تقليده" (¬9). المطلب الثاني: الفرق بين تتبع الرخص والتلفيق. يمكن إيضاح الفروق بين الأمرين في الآتي (¬10): ¬

(¬1) انظر: جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني (2/ 400)، البحر المحيط (8/ 375 - 381)، الموافقات (5/ 79)، شرح تنقيح الفصول (ص432)، إرشاد الفحول (2/ 367)، التحبير (8/ 4090)، تيسير التحرير (4/ 254)، فواتح الرحموت (2/ 406). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص447)، وانظر مادة (رخص) في: المصباح المنير (ص85)، القاموس المحيط (ص800). (¬3) انظر: الإحكام للآمدي (1/ 132)، شرح العضد (2/ 7)، شرح الكوكب المنير (1/ 478)، أصول السرخسي (1/ 117). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام (2/ 786). (¬5) انظر: البحر المحيط (8/ 381). (¬6) شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني (2/ 400). (¬7) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 20)، بلغة السالك (1/ 19). (¬8) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص159 - 160). (¬9) التقليد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله الشنقيطي (ص147). (¬10) أومأ إلى شيء من ذلك العطار في حاشيته على شرح المحلي (2/ 442).

1 - أن تتبع الرخص يكون بأخذ القول الأخف والأسهل، وأما التلفيق فحقيقته الجمع بين قولين، وبناء على ذلك؛ فإنه قد يكون بأخذ القول الأخف والأسهل، وقد يكون بأخذ القول الأثقل. 2 - أن تتبع الرخص يكون في الحكم، ويكون في أجزائه، وأما التلفيق فإنه لا يكون إلا في أجزاء الحكم الواحد لا في جزئيات المسائل. 3 - تتبع الرخص ليس فيه إحداث قول جديد في المسألة، وإنما يتّبع الإنسان رخصة قال بها بعض العلماء، وأما التلفيق فإن القول الناتج عنه لم يقل به أحد من العلماء، وإنما هو جمعٌ أو تصرّفٌ في أقوال العلماء. • المبحث الثاني: حكم تتبع الرخص. • تحرير محل النزاع: 1 - اتفق الفقهاء على أن الانتقال إذا كان للتلهي فهو حرام قطعاً؛ لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة، وذلك كأن يعمل الحنفي بالشطرنج على رأي الشافعي قصداً للهوى (¬1). 2 - نصّ الإمام أحمد وغيره أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً أو حراماً ثم يعتقده غير واجب أو غير حرام بمجرّد هواه، مثل أن يكون طالباً لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له، ثم إذا طُلب منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة اتباعاً لقول عالم آخر، فهذا ممنوع من غير خلاف (¬2). 3 - كما ينبغي أن يخرج من محل النزاع أن المجتهد إذا أوصله اجتهاده إلى رأي في مسألة أنه لا يترك ما توصل إليه، بل عليه المصير إلى ما أدّاه إليه اجتهاده (¬3). 4 - ما عدا ما سبق؛ فقد اختلفوا فيه على أقوال، أشهرها ثلاثة: القول الأول: منع تتبع الرخص مطلقاً. وإليه ذهب ابن حزم، والغزالي، والنووي، والسبكي، وابن القيم، والشاطبي (¬4). ونقل ابن حزم وابن عبد البر الإجماع على ذلك (¬5). واختلف أصحاب هذا القول في تفسيق متتبع الرخص على رأيين: الأول: أنه يفسق، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن القيم وغيره (¬6)، وهو رأي أبي إسحاق المروزي من الشافعية (¬7). وخصّ القاضي أبو يعلى التفسيق بالمجتهد الذي أخذ بها خلافاً لما توصّل إليه اجتهاده، وبالعامي الذي أخذ بها دون تقليد (¬8). الثاني: أنه لا يفسق، وهو رواية أخرى عن أحمد (¬9). وقال بها ابن أبي هريرة من الشافعية (¬10). واستدل أصحاب القول الأول بالآتي: 1 - أن الله _تعالى_ أمر بالردّ إليه وإلى رسوله، واختيار المقلّد بالهوى والتشهّي مضاد للرجوع إلى الله ورسوله (¬11). 2 - أن تتبع الرخص مؤدٍ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن له أن يفعل ما يشاء ويختار ما يشاء، وهو عين إسقاط التكليف، فيُمنع سداً للذريعة (¬12). 3 - أن القول بتتبع الرخص يترتب عليه مفاسد عظيمة، منها: ¬

(¬1) انظر: فواتح الرحموت (2/ 406). (¬2) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 220). (¬3) انظر: إعلام الموقعين (4/ 162). (¬4) انظر: قواطع الأدلة (5/ 134)، المستصفى (2/ 391)، جمع الجوامع (2/ 400)، الموافقات (5/ 82)، البحر المحيط (8/ 382)، التحبير (8/ 4090)، إعلام الموقعين (4/ 162)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص208). (¬5) انظر: مراتب الإجماع (ص58)، جامع بيان العلم (2/ 927). (¬6) انظر: المسودة (ص518)، إعلام الموقعين (4/ 162)، التحبير (8/ 4093). (¬7) انظر: شرح المحلي على الجمع (2/ 400)، البحر المحيط (8/ 381). (¬8) انظر: المسودة (ص519)، وعن رأي القاضي قال ابن مفلح (وفيه نظر). انظر: أصول ابن مفلح (4/ 1564). (¬9) انظر: المسودة (ص518)، أصول ابن مفلح (4/ 1564). (¬10) انظر: البحر المحيط (8/ 381)، شرح المحلي على الجمع (2/ 400). (¬11) انظر: الموافقات (5/ 82). (¬12) انظر: الموافقات (5/ 83)، حاشية العطار (2/ 442).

أ - الاستهانة بالدين، فلا يكون مانعاً للنفوس من هواها، ومن مقاصد الشرع إخراج الإنسان عن داعية هواه، والقول بإباحة تتبع الرخص فيه حث لإبقاء الإنسان فيما يحقق هواه. ب- الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، ثم إنه لا يوجد محرّم إلا وهناك من قال بإباحته إلا ما ندر من المسائل المجمع عليها، وهي نادرة جداً. ج- انخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف، فتضيع الحقوق، وتعطّل الحدود، ويجترئ أهل الفساد. د- إفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم (¬1). ويعضد أصحاب هذا القول مذهبهم بالآثار المروية عن السلف في ذم تتبع الرخص، ومن ذلك: - قول الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام" (¬2). - وقوله أيضاً: "يُترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الجبر والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ والسحور" (¬3). - وعن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال:" دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً نظرت فيه وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء وما احتجّ به كلٌ منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين مصنف هذا الكتاب زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب" (¬4). - وعن سليمان التيمي قال: "لو أخذتَ برخصة كل عالِم اجتمع فيك الشرّ كله" (¬5). القول الثاني: جواز تتبع الرخص. وقال به من الحنفية السرخسي وابن الهمام وابن عبد الشكور وأمير باد شاه (¬6). واستدلوا بالآتي: 1 - الأدلة الدالة على يسر الشريعة وسماحتها؛ كقوله _تعالى_: "يريد الله بكم الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسر" (¬7). وقوله: " مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " (¬8). قول عائشة _رضي الله عنها_: "ما خُيِّر النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً" (¬9) وغير ذلك من النصوص الواردة في التوسعة، والشريعة لم تَرِد لمقصد إلزام العباد المشاق، بل بتحصيل المصالح الخاصة، أو الراجحة وإن شقّت عليهم (¬10). ونوقش/ بأن السماح واليسر في الشريعة مقيّد بما هو جارٍ على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها، بل هو مما نُهي عنه في الشريعة؛ لأنه ميلٌ مع أهواء النفوس، والشرع قد نهى عن اتباع الهوى (¬11). 2 - أنه لا يمنع منه مانع شرعي، فللإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل (¬12). ¬

(¬1) انظر: الموافقات (5/ 102 - 103). (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 356)، وإسناده حسن. (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى (10/ 356)، وإسناده ضعيف، وله شواهد ومتابعات، انظر تلخيص الحبير (3/ 187). (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 356) وإسناده صحيح، وانظر: سير أعلام النبلاء (13/ 465). (¬5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 927) وإسناده صحيح، وانظر: المسودة (ص518 - 519). (¬6) انظر: المبسوط (7/ 258)، تيسير التحرير (4/ 254)، فواتح الرحموت (2/ 406)، التقرير والتحبير (3/ 351). (¬7) من الآية (185) من سورة البقرة. (¬8) من الآية (78) من سورة الحج. (¬9) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي _صلى الله عليه وسلم_ (برقم3560)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل (برقم 6045). (¬10) انظر: نفائس الأصول (9/ 4149)، التقرير والتحبير (3/ 29). (¬11) انظر: الموافقات (5/ 99). (¬12) انظر: التقرير والتحبير (3/ 469)، فواتح الرحموت (2/ 406).

ونوقش بعدم التسليم؛ لأن تتبع الرخص عملٌ بالهوى والتشهّي، وقد نهي عنه. 3 - أنه يلزم من عدم الجواز استفتاء مفتٍ بعينه، وهذا باطل (¬1). ونوقش بأن اللازم باطل، بل هو مأمور بتقليد من يثق بدينه وورعه دون الاختيار المبني على الهوى. 4 - أن الخلاف رحمة، فمن أخذ بأحد الأقوال فهو في رحمة وسعة (¬2). ونوقش بأن الخلاف ليس في ذاته رحمة بل هو شر وفرقة، ولكن مراد من أطلق الخلاف رحمة: أن فتح باب الخلاف والنظر والاجتهاد رحمة بالأمة بحيث يكون التكليف مربوطاً بما يراه المجتهد بعد النظر في الأدلة. القول الثالث: جواز الأخذ بالرخص بشروط، واختلف المشترطون: 1 - فقيّد العز بن عبد السلام الجواز بألا يترتب عليه ما يُنقَض به حكم الحاكم؛ وهو ما خالف النص الذي لا يحتمل التأويل، أو الإجماع، أو القواعد الكلية، أو القياس الجلي (¬3). 2 - وتبعه القرافي وزاد: شرط ألاّ يجمع بين المذاهب على وجهٍ يخرق به الإجماع (¬4). 3 - وزاد العطار على شرط القرافي شرطين، هما (¬5): أ- أن يكون التتبع في المسائل المدونة للمجتهدين الذين استقرّ الإجماع عليهم، دون من انقرضت مذاهبهم. ب- ألا يترك العزائم رأساً بحيث يخرج عن ربقة التكليف الذي هو إلزام ما فيه كلفة. 4 - وقيد ابن تيمية الجواز بأن يكون على سبيل اتباع الأرجح بدليله، وفي ذلك يقول: " من التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعاً لهواه، وعاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلاً للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر. وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول، إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك" (¬6). 5 - أما مجمع الفقه الإسلامي، فقد نصّ على أن الرخص في القضايا العامة تُعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محقّقة لمصلحة معتبرة شرعاً، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار، ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية. ونصّوا على أنه لا يجوز الأخذ برخص الفقهاء لمجرد الهوى؛ لأن ذلك يؤدي إلى التحلّل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص وفق الضوابط الآتية (¬7): • أن تكون أقوال الفقهاء التي يُترخّص بها معتبرة شرعاً، ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال. • أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعاً للمشقة، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية. • أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك. ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع. • ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع. • أن تطمئن نفس المترخّص للأخذ بالرخصة. ¬

(¬1) انظر: فواتح الرحموت (2/ 406). (¬2) انظر: الموافقات (5/ 67 - 68 - 93). (¬3) انظر: قواعد الأحكام (2/ 135 - 136)، نفائس الأصول (9/ 4148)، حاشية العطار (2/ 442) ونقله عن العز بن عبد السلام في فتاويه. (¬4) انظر: نفائس الأصول (9/ 4149)، ونقله عنه الإسنوي في التمهيد (ص528). (¬5) انظر: حاشية العطار (2/ 442). (¬6) مجموع الفتاوى (20/ 220 - 221). (¬7) انظر: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص160).

وهذا الأخير هو ما يظهر رجحانه - والله أعلم- فلا ينبغي إطلاق القول بالمنع ولا بالجواز، بل الظاهر أن القائلين بالمنع يبيحون الترخص بالضوابط المذكورة ولو لم يصرّحوا بذلك، وكذا المجيزون لا يجيزون إلا بمراعاة الضوابط المذكورة، فتكون المسألة - مع مراعاة تحرير محل النزاع- قريبة لأن تكون محل اتفاق، وأن حقيقة الخلاف إنما هي فيما بُنيت عليه مسألة تتبع الرخص، وهي مسالة التزام العامي مذهباً معيناً. • ثمرة الخلاف: ذكر الزركشي أن من فروع المسألة: هل يجوز للشافعي مثلاً أن يشهد على الخط عند المالكي الذي يرى العمل به أم لا؟ صرّح ابن الصبّاغ بأنه لا يجوز، وهو ظاهر كلام الشافعية، فإنهم قالوا: ليس له أن يشهد على خط نفسه، والظاهر الجواز إذا وثق به وقلد المخالف، ويدل عليه: تصحيح النووي قبولَ شهادة الشاهد على ما لا يعتقده؛ كالشافعي يشهد بشفعة الجوار. وذكر من الفروع: أن الحنفي إذا حكم للشافعي بشفعة الجوار، هل يجوز له أم لا؟ فيه وجهان أصحهما: الحِلّ وهذه المسألة تشكل على قاعدتهم في كتاب الصلاة أن الاعتبار بعقيدة الإمام لا المأموم (¬1). • سبب الخلاف: لعل الخلاف في المسألة عائد إلى أمرين: الأول: التلفيق؛ فعلى القول بمنع التلفيق يُمنع من تتبع الرخص، وعلى القول بجواز التلفيق يتخرّج الخلاف في تتبع الرخص. الثاني: - وهو الأقرب- هل يجب على العامي التزام مذهب معيّن؟ فمن قال بوجوب ذلك: منع تتبّع الرخص، ومن قال بعدم وجوب التزام مذهب معين، وأنه يجوز مخالفة إمامه في بعض المسائل: أجرى الخلاف في تتبّع الرخص (¬2). وكذا تتبّع المجتهد للرخص، يمكن أن تُبنى على مسألة تقليد العالِم للعالِم؛ فمن منع: منع تتبع الرخص، ومن أجاز: أجرى الخلاف فيه، والله أعلم،، هذا ما تيسر جمعه وتحريره، وأسأل الله أن يجعله خالصاً صواباً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (8/ 383). (¬2) انظر البحر المحيط (8/ 375)، تيسير التحرير (4/ 254)، فواتح الرحموت (2/ 406). المصدر: موقع المسلم

مقدمة كتاب ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) الطبعة الجديدة

مقدمة كتاب ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) الطبعة الجديدة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإنّ العالم البشري كله يشهد في هذا العصر من الاضطراب والضياع والفوضى، وسواد المستقبل، وتجهّم المصير ما يُرعب القلوب، ويُزلزل الأفكار، فهو أشبه ما يكون بسفينة مهترئةٍ تتقاذفها أمواج متلاطمة في غمرات بحر لجّي لا تجد من اجتيازها مناصاً، ولا من سطوته خلاصاً. وقد أمسك بزمامها أمم كافرة عملاقة "تستعمل قوة العفاريت بعقول الأطفال" - كما قال جود -، ويحفزها التنافس الضاري إلى مزيد من الصراع والتهور والاندفاع، وتأتي أمم الكفر الأقلّ شأناً، فتحاول أن تثب وثبات كبرى؛ لتصل إلى مستوى الصراع مع العمالقة المسيطرين، وتبحث لنفسها عن موضع قدم في هذه السفينة الهائجة، وأصبح التفكير في هذا الواقع الأسود والمصير الكالح، هو الشغل الشاغل للمفكّرين والمتعلقين في الغرب وغيره، بل أصبح بفعل التدفّق الإعلامي الهائل من الهموم اليومية لرجل الشارع - كما يسمونه -، إذ ما من نشرة أخبار يسمعها، أو صحيفة يُطالعها، إلا ويجد فيها النذر الصارخة بهذا المصير، فأخبار الحروب والفتن، والانفجارات، والانهيارات، والزلازل، والانقلابات، والجفاف، والفيضانات، والكوارث، والانتحارات ... إلخ. أصبحت من كثرة ما ترددت في ذهنه مثل: أخبار الرياضة، وأحوال الطقس! ومع سباق التسليح الرهيب، والتنافس في نشر أسلحة الفتك المبيد، أحسّ الناس حقيقة بالهلع الذي يقض المضاجع، وهرع الفلاسفة والمفكرون إلى التنقيب عن حل للمعضلة الإنسانية الكبرى، وتلمّسوا أيّ مخرج للانعتاق من الظلمة الكثيفة التي غطّت وجه الأرض وردمت الإنسان في المفاوز المهلكة، والأحراج الشائكة. ووصل الأمر بكثير منهم إلى الاقتناع المطلق بأنّ خلاص هذا العالم - إن قُدّر له الخلاص - لن يكون من داخله، وأن السفينة الهاوية إلى أعماق المحيط لن ينتشلها من هو قابع في داخلها. ومع هذا لم يظهر - مع الأسف الشديد - ما يدل على أوبة صادقة إلى الله، واستجابة لدينه الحقّ الوحيد الذي ما زال غضّاً طريّاً في مسمع الدنيا ومرآها. بل دفعت عوامل أخرى - ولا مجال هنا لتفصيلها، ولبيان ذنبنا نحن المسلمين فيها - إلى أن قامت كل أمةٍ من الأمم تشحذ همتها، وتقدح زناد فكرها، وتستلهم من عتيق حضارتها وماضي أسلافها؛ فمع إفلاس المذاهب الوضعيّة الحديثة ارتد الناس قروناً إلى الوراء، وبدأوا يستعرضون الذاكرة البشرية على ما فيها من قتم وغبش وإسفاف، لعل في متاهات الماضي ما يقيهم شر غوائل المستقبل، ولعل في خبايا القرون الخوالي كوة صغيرة ينفذ فيها اللاهثون العصريون إلى بَرّ الأمان. لقد كانت أوروبا القرون التاسع عشر تدين بالعقلانية، والإطلاق بعقلانية لا تتردد في تفسير أي شيء، وإطلاق لا يستثني من قواعده الصارمة شيئاً، فلما صدمتها السنن الربانية الثابتة، وعصفت بها التحولات الخطيرة حتى أشرفت على الهاوية، عادت إلى مذاهب "اللامعقول" (¬1)، الذي يرفض أن يضبطه شيء، والنسبية التي تأبى كل أحكام العموم والإطلاق، حتى أن مذهباً إطلاقياً حتماً - كالشيوعية - تراجع من الحلم بالسيطرة على معظم العالم في الستينيات، يُصبح في نهاية الثمانينات رأسمالية حمراء. ¬

(¬1) أو "اللاعقلي"، ومن مذاهبه: الروحية (برجسون)، والوجودية (سارتر)، والبعثية (ألبير كامو)، واتجاهات أخرى كالرمزية والسوريالية، وكثير من المدارس النفسية والاجتماعية.

وبتبني اللامعقول، والنسبية انتكست أوروبا من جديد، وأعلنت - وهي في قمة السيادة الحضارية - إفلاسها وانهيارها، واختبأ رواتها وشعراؤها وعامة أبطال فكرها وفنّها في أقبية الجاهلية اليونانية الهالكة، يحتمون بظلامها وظلالها من لظى الأفكار المادية المهترئة، والشعارات المجدبة، وسعير التطبيقات الرعناء لآراء وضعها في القرن الماضي جهلاء ارتدوا زيّ الحكماء. ومع عودة سيدة الحضارة العجوز وانتكاستها عادت الأمم التابعة تلهث في الطريق نفسه. فانتفضت الصين على "ماو"، وحطمت تماثيله على يد الجماهير الكادحة التي كانت تصرخ منذ سنوات ليست بالكثيرة: "ماو ماو، رب الكادحين"، وعادت بلهفة وشوق إلى "كونفشيوس" الدفين منذ آلاف السنين في أعماق الذاكرة الصينية. وبدأت الهند في ترميم أصنامها العتيقة بعد أن أصبحت تستقبل من الغربيين اللاهثين بحثاً عن "بوذا"، و"كرشنا" أكثر مما تستقبل من الإرساليين الكنسيين الطامعين في إدخال الهند إلى دين "بولس" (¬1) وبابواته. وتفوّقت اليابان على أمريكا في كثير من مجالات التكنولوجيا - أو نافستها - في حين أنه ما يزال الإمبراطور منسوباً إلى سلالة الآلهة، وكأن اليابانيين قد اقتنعوا - أمام عودة الغرب الحائرة - بأن التقدم التكنولوجي لا يزيد هذا النسب الإلهي إلا عراقة ورسوخاً. وظهرت أمريكا الجنوبية وأستراليا دعاوى عريضة بأن لها حضارات ماضية، وأمجاداً وطنية غابرة. ومهما قيل عن عدم مطابقتها للحقيقة؛ فالغرض المهم هو أنها إعلان للعودة وللتوقف عن السير وراء الضائعين في الغرب المفلس. لقد أخذت كل أمة من الأمم تبحث في مجاهل تاريخها عن فيلسوف قديم، أو شاعر غابر، أو مصلح سالف؛ لتقدمه للبشرية على أنه منقذ جديد، وأن في "إلهاماته" ما ينير الطريق لإنسان القرن العشرين الحائر المضطرب، وأصبحت الميادين الكبرى في عواصم هذه الأمم معابد عصرية تتوسطها تماثيل أولئك الغابرين. وهكذا برزت ظاهرة إنسانية كبرى هي ظاهرة "العودة إلى الماضي"، التي هي تعبير صارخ عن عدم الثقة في الحاضر، والتي لا تعدو في مقاييسنا الإسلامية أن تكون عرضاً من أعراض الخسران الأكبر، والإفلاس الماحق لقوم كفروا بالله ورسوله {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} *النمل: 66*. ومع بروز هذه الظاهرة - عالمياً - بدأ التيار التغريبي العلماني في العالم الإسلامي يتردد، بل ينحسر ويندحر، وبدأت جمع جمة من القطيع السائر خلفه تتوقف وترعوع، وانكسرت حدة الانبهار بالغرب الكافر لدى عدد لا يستهان به، وتنادوا - لا سيما الشباب منهم - بالعودة لماضينا الذي ليس ماضي سائر الأمم بأولى منه. وفي وسط طريق العودة التقى هذا الرافد العالمي العصري بالرافد الأصلي الذي ظل في غمرات القرون مستقيماً، لم يشذ مستعلياً، ولم ينبهر، ألا وهو بقايا الخير في هذه الأمة من رجال ما تزعزع يقينهم لحظة واحدة في أنه لا يصلح هذا العالم إلا بهذه الأمة، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وبدأ هذان الرافدان في تشكيل نهر لا بد أن يصبح في يوم من الأيام تياراً، ومن ثَمَّ يجتاح ما على هذه الأرض من الشرور والأدران والأوثان، كما وعد الله وبشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم! ¬

(¬1) المؤسس للدين المعروف حالياً باسم "المسيحية"، واسمه الأصلي "شاؤل" اليهودي، وهو النموذج الذي احتذا حذوه عبد الله بن سبأ اليهودي لإفساد الإسلام، فأسس دين التشيع وفروعه. انظر: مقدمة منهاج السنة.

لكن الشيطان الذي تعهد بإضلال بني آدم إلى يوم يبعثون، وأعوانه بل أقرانه الذين ما فتئ الشيطان يتعلم منهم فنون المكر والتآمر، عمدوا إلى إحباط هذا الأمل العظيم من طريقين: الأولى: تضخيم هذه العودة الإسلامية البريئة - بل الساذجة في كثير من مظاهرها - وتسميتها "يقظة العملاق"، و"قوة الغد"، و"صحوة الإسلام"، ونحو ذلك مما هو إغراءٌ صارخٌ للقوى العالمية ووكلائها المحليين باستئصال هذه النبتات الغضة في مهدها، مع أن الحقيقة أنه حتى هذه اللحظة ما تزال ظاهرة العودة في العالم الإسلامي متأخرة عملياً عما وصلت إليه في البلاد الأخرى، حيث وصلت هناك إلى دفّة الحكم أو قاربت!! إن الإعلام الغربي لا يستكثر على "الدالاي لاما" المطالبة بدولة بوذية مستقلة عن الصين، بل لم يستكثر على الهندوس المتعصبين أن يحكموا الهند، وإنما يستكثر على أمة الإسلام العظيمة الممتدة من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي أن يكون في بعض جامعاتها شباب متدينون، ويستغرب وجود جامعات غير مختلطة، أو جامعيات غير متبرجات، مع أن ذلك لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من الانتشار السكاني الهائل للأمة. يستكثرون ذلك ويستغربونه، ويتابعهم عليه في بلاد الإسلام من يتابعهم، مع أن الأصل في الأمة الإسلامية ألا تنحرف ولا تنبهر، مع أن الأصل في المسلم إذا انحرف وعصى أن يتوب ويستقيم. إن الأصنام العصرية الكبرى تعرضت لنسف تماثيل "لينين"، و"ستالين"، وتماثيل "ماو"، وتماثيل "شاوسكو" بمباركة الغرب إلا صنماً واحداً يحرسه الإعلام الغربي أكثر مما يحرس تماثيل المسيح عليه السلام، ذلك هو صنم "أتاتورك"!! تماماً مثلما ضاقت باريس - عاصمة النور والحرية عند كثير من المخدوعين - بغطاء رأس فتاة مسلمة من بين ألوف الأزياء والموضات!! ومثلما ضاقت دولة الحياء والكرامة الإنسانية و .. "سويسرا"!! في نظر الغرب لا ضير في عودة الملايين إلى أسفار "فيدا"، وتعاليم "بوذا"، أما عودة بعض أمة الإسلام إلى نور القرآن وهدي محمد صلى الله عليه وسلم فهي وحدها نذير الشؤم، وداعية الويل والثبور، وعظائم الأمور!! وليس أعجب حالاً من هؤلاء إلا من يصدقهم ويجاريهم من أبناء جلدتنا المستغربين، أو من يأخذه الغرور بقولهم من التائبين العائدين. نعم إن إفلاس المذاهب الأرضية في العالم الإسلامي وسقوط ممثليها أصبح حقيقة ثابتة وقد جرى ذلك وفق سنة إلهية ثابتة. ولكن رجوع المسلمين إلى الإسلام ما يزال في أول بشائره، وأمامه عقبات كبرى ذاتية خارجية، كما أن له سنته الإلهية الأخرى التي ما لم يرعاها ويسير بمقتضاها فلن نصل أبداً. الثاني: استنفار أفاعي "الطابور الخامس" من قطّاع الطريق إلى الله الذين عملوا منذ عهد عبد الله بن سبأ، والجعد بن درهم، وبشر المريسي، والنظام (¬1) .... إلخ، لنسف القلعة الإسلامية من داخلها، وإجهاض كل محاولة لرفع هذه الأمة إلى القمة التي أراد الله أن تكون عليها. فأما العدو الخارجي: فللحديث عنه مواضعه الأخرى، وما عداؤه لنا، واستعداؤه علينا بجديد، وما هو بالذي يُحسب له كل هذا الحساب لو كنا في أنفسنا أمةً تعيش وتسير كما أمر الله، فالله تعالى يقول: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} *آل عمران: 120*. ونحن قد فقدنا الخصلتين كلتيهما إلا من رحم الله. وأما قُطّاع الطريق فهم لعمر الله آفة هذه الأمة قديماً وحديثاً، وهم "حصان طروادة" الذي ما دخلت إلينا الأفكار الغربية قديمها وحديثها إلا من خلاله وبآثاره. ¬

(¬1) ذكر الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (10/ 542) أنه كان برهميا، فأراد أن يبرهم الإسلام عن طريق الاعتزال، كما أراد عبد الله بن سبأ أن يهوده عن طريق التشيع!!.

ولن نستعرض تاريخهم القديم، وهل في الإمكان استعراض المحيط الزاخر؟ ولكننا نشير بإجمال إلى دورهم في ركوب موجة التوبة الجماعية التي نسميها - ولو على سبيل التفاؤل - "الصحوة الإسلامية"!! لقد أراد كل كمين من هذه السبل المتفرقة التي نهى الله عن أتباعها أن يستغل بواكير هذه الصحوة، ويستغفل شبابها الغض، فيلقي عليهم ثوب بدعته، ويقنعهم بقناع مذهبه حتى تصبح الأمة العائدة - وهي التي أراد الله لها، ونريد لها أن تكون أمة واحدة على المنهج الأبلج النقي - تصبح شيعاً وأحزاباً، كما كان حالها أيام الزحف التتري أو الصليبي. فأحدهم "صوفي" لا يعرف من التدين إلا الطبل والمزمار، والحضرة والتواجد ... يندس في الصفوف العائدة رافعاً راية التصوف، - أو خرقته -، ساعياً بأقصى جهده إلى تصويف المسيرة كلها. وذاك رافضي خبيث يتقمص شخصية الدجال تحت عمامة المجدد، ويلوّح للجموح الباحثة عن الطريق: أن تعالوا إلى الإسلام، وما غايته إلا ترفيض القافلة بأجمعها. وذلك مستشرق عربي! غذّاه المستشرقون الغربيون بما استطاعت عقولهم الضحلة أن تلتقطه من فتات أفكار الفرق البائدة، وأظهروا أمامه التباكي على تراثها الإسلامي المفقود، وكنوزه الضائعة، واستحثوه أن يشتغل بالتنقيب عنها ونشرها (¬1)، فجاء المخدوع أو المتآمر ينبش رميم الباطنية والحلولية، وينفض الغبار عن هرطقة الفلاسفة والمعتزلة، ويحقق كتب البدع والفرقة، تحت ستار إحياء التراث والتحقيق العلمي النزيه .. وما الغرض إلا تمزيق طريق العودة، وتشتيته ذات اليمين وذات الشمال، وإذكاء القروح الميتة في كبد الأمة الجريحة، وأقل ما فيه صرف النظر عن الكنوز الحقيقية التي ليست مجرد تراث!! بل هي منبع الحياة الفكرية، ومعالم على طريق المنهج القويم. وجاءت سبل وطوائف أخرى ... وتكدست في المكتبة الإسلامية. وفي أخطر ركن فيها - وهو ركن العقيدة - صحائف سود، لا أعني سواد مدادها ولكن سواد فكرها، واستشرت ظلمات بدعتها حتى ظهرت على صفحات المجلات والجرائد، فأخرجوها من دوائر المتخصصين إلى متناول العوام المساكين. وهذه الكتب والمقالات قد تبدوا للناظر أولّ وهلة وكأنها هي مجرد امتداد للفرق المنحرفة القديمة، ولا دافع لها إلاّ التعصب لتلك الفرق والمذاهب. والواقع أن وراء تلك الأكمة ما وراءها، وأن هذه النظرة إن صدقت على بعضهم لا تصدق على كلهم، فهي لا تهدف للتعصب للماضي بقدر ما هي تخطط وتبرمج للمستقبل، مستغلة سذاجة غالب شباب الصحوة كما أسلفنا. ومن الأدلة على ذلك: ما يفتعله أصحاب هذا الاتجاه البدعي المقنع حين ينشرون أفكارهم وكتبهم على الملأ، ويحثون الشباب على قراءتها، ثم لا يفوتهم أن يقرنوا ذلك بالتباكي على ما تعيشه أمة الإسلام من تفرق وتمزق، وأنها ما تزال تبحث مسألة "أين الله؟ "، ومسألة "القرآن مخلوق أم قديم؟ "، و "قضايا الفلاسفة والمعتزلة والصوفية والأشاعرة ... إلخ". في حين أن العدو يحتل أراضيها ويهدد كيانها، ولا يفرق بين أحد منها، فهلا انصرف المسلمون لمحاربة الشيوعية، ومقاومة الخطط الصهيونية، وتركوا هذه الخلافات. يتباكون على هذا، وهم يقدمون للشباب مؤلفات كلها تفلسف وتجهّم واعتزال وتصوف وتشعر ... إلخ. ¬

(¬1) انظر على سبيل المثال: تقديم المستشرق "ألفرد جيوم" لكتاب المعتزلة لزهدي جار الله، وكلام المستشرق "اربري" في مقدمة كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي، تحقيق فتح الله خليفة. أما جهد "ماسينيون" و"نيكلسون" لإحياء الفكر الصوفي، وما بذله تلامذتهم الشرقيون، فلا تحتاج إلى تمثيل.

وأشهد أن بعضهم - إن لم أقل كثيراً منهم - قد كتب الكثير من المؤلفات في الطعن على السلف، والنيل من عقيدتهم، والدعوة الصريحة إلى البدعة التي هي أصل الانقسام والفرقة، وما كتب حرفاً واحداً قطّ عن الشيوعية والصهيونية، بل إنّ واقع حاله يدل على أن تضليل - أو تكفير - أئمة عقيدة السلف أولى عنده وأهم من محاربة الشيوعية والصهيونية. وأخطر من هؤلاء طائفة من القطّاع هالها كساد سوقها، وتكدّس مصنفاتها البدعية، فعمدت إلى أسلوب أمكر وأخبث، وهو انتحال مذهب السلف الصالح ظاهراً، وادعاء أنه ومذهبها سواء، وزعمت أنها بذلك تخدم مصلحة الإسلام، وتسعى لجمع المسلمين، فبعثروا المعالم والمعايير أمام الشباب الحائر، فلم يعد يدري كيف يسير؟! هذا الأسلوب بدأه الرافضة منذ مطلع القرن العشرين بما أسموه "التقريب بين المذاهب الإسلامية"، ثم تبعتهم الفرق البدعية الأخرى تحت شعار "توحيد الصفوف"، فقدموا للشباب الذهب مع البهرج والحجارة والنحاس، وقالوا: لا بد من صهر الجميع في بوتقة واحدة، ولا عليك إن اخترت منها ما شئت، فالكل يسمى معدناً. وإن مما يدمي القلب أن كثيراً من شباب الصحوة خدعته هذه الدعاوى الزائفة، وعصبت عينيه عن رؤية الحق الصراح، فتطوعوا بخدمة قطّاع الطريق الماكرين، حتى أن بعض المراكز الإسلامية في الغرب وغيره أصبحت أوكاراً للرافضة وغيرها، وانتعشت البدع والشركيات حتى صرح بعض سدنة الأضرحة أن إقبال الشباب عليهم في زيادة مستمرة، وأن المريدين أخذت أعدادهم في السنوات الأخيرة تتضاعف، وكلما سمعت أو رأيت شيئاً من هذه الظواهر المرعبة أسأل نفسي بحق، هذه الصحوة الإسلامية التي نبتهج ببشائرها، ونتطلع إلى بواكيرها، أهي صحوة فعلاً، أم هي - عياذاً بالله - انتكاسة جديدة إلى موروثات الوثنية الإغريقية، والصوفية الهندية؟ أم أن الخمر المسكرة الوحيدة في نظر بعضنا، هي خمرة الافتتان بالغرب، وأفكاره ونظمه ومن صحا منها، فلا عليه أن يسكر بخمرة الوجد والفناء، أو نبيذ البدع والأهواء، فلا يصحو إلى يوم يبعثون؟! وأسأل نفسي أيضاً لماذا يرفض الشباب الإسلام الفكرة الواحدة نفسها إن كان سندها - مثلاً -: ماركس عن هيجل عن أرسطو، ويعدها كفراً وإلحاداً، ويقبلها ويتعصب لها - بذاتها - إذا كان سندها: الرازي عن ابن سينا عن أرسطو؟! أم أن عداوتنا أصبحت كعداوة الثور للون الأحمر فقط، فنعادي الباطل؛ لأنه منقول عن الغرب وأذنابه، لا لأنه باطل يجب معاداته أينما وجد في واقع أنفسنا، أو في صفحات تاريخنا، أو موروثات مجتمعاتنا ومذاهبنا. واسم الإسلام يطلق على: 1 - المنتحلون لمذهب السلف اسماً، والمخالفون له سلوكاً وفهماً. 2 - عموم الاسم لكل مسلم لم ينتسب لعقيدة بدعية، وظل على الإيمان المجمل الصحيح، أو أيّاً كان تخصصه العلمي؛ فقيها، محدثاً، لغويا، مؤرخاً، شاعراً، بل العامي من المسلمين يطلق عليه ذلك. وأما كلمة "أهل السنة والجماعة" فهو مصطلح عزيز، وشعار عظيم، وكيف لا وهو يعبر عن حقيقة الإسلام الصافية النقية التي لا شائبة فيها ولا زيغ، وهو منار وعلم على الفرقة الناجية من أمة الإجابة، تلك الفرقة التي تمسكت بما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصبرت عليه، وجاهدت في سبيله، فكانوا كما قال بعض السلف: "أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في سائر الملل". والتفرق والاختلاف من البلاء الذي لم يرفعه الله عن هذه الأمة منذ أن قتلت خليفتها الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلماً وعدواناً، كما أشار حديث حذيفة في الفتن التي تموج موج البحر (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (144).

فهو في حقيقته عقوبة جرى بها القدر المحكم، تحقيقا لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} *الأنعام: 65*. على ما فسرتها به الأحاديث الصحيحة (¬1)، ولله في ذلك الحكمة البالغة، وما أصاب المسلمين عامة من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، وليس بخارج عن سنة الله أن يبتليهم بما لم يبتل به أمم الكفر، أو يذيقهم من البأس ما لم يذقها. وليس عجيباً في سنة الله أن يأتي عصر يقل فيه أهل السنة والجماعة ويستضعفون، ويعلو فيه أهل البدعة والفرقة ويسيطرون، فهذا أيضاً من الابتلاء - ابتلاء التمحيص والرفع - الذي هو سنة الله في الأنبياء من قبل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} *الفرقان: 31*. {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} *الأنعام: 53*. ولكن العجب المستنكر أن تطغى البدع حتى يبلغ من جرأة أصحابها أن يدعوا أنهم هم أهل السنة والجماعة، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الضلالة والفرقة! أو يضيع الحق بين تفريط أهل السنة والجماعة، وتلبيس أهل الضلالة والفرقة؛ فيقال: إن هؤلاء من هؤلاء، وأن الفرقتين سواء - دون نكير ولا اعتراض -. فهذا - حسب التشبيه المأثور في حال أهل السنة بين أهل الإسلام - مثلما لو ادعى عدو للإسلام أن أهل الإسلام بين أهل الأديان قليل؛ كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ورتب على هذا أنهم شذّاذ لا اعتداد بخلافهم، ولا اعتبار لدينهم الذي خالفوا به سائر أمم الأرض. فهذا ادعاء لا يستحق كبير اهتمام، ولا يبعث كثير عجب، ولكن لو ادعى هذا العدو أن اليهود والنصارى هم المسلمون المتمسكون بما كان عليه الأنبياء جميعاً، وأنهم هم الأمة المصطفاة التي أورثها الله الكتاب، وأن المسلمين هم المخالفون لمنهج الأنبياء، وهم أولى أن يسموا بكل اسم سمي به أعداء الأنبياء ومخالفوهم، وسماهم هذا العدو "المشركين أو الصابئين" (¬2)، أو نحو ذلك. فهذا ما لا يملك أي مسلم يعرف حقيقة دينه أن يسكت عليه؛ لأنه قلب للحقائق، ومكابرة للعقول، ولو شاع مثل هذا الادعاء وسكت عليه المسلمون أو أقروه - كلهم أو بعضهم - حتى أصبح مصطلح "المشركين" أو "الصابئين" يعنيهم عند الإطلاق، ومصطلح "المسلمين" يعني اليهود أو النصارى أو المشركين ... لكان هذا خرقاً فظيعاً لما استقرت عليه الأفهام، وأجمعت عليه العقول، وتعارف عليه التاريخ المتواتر. والمؤلم حقاً أن هذا الذي لا يصدقه العقل بالنسبة للإسلام مع الملل قد أصبح - إلى حد ما - حقيقة واقعة بالنسبة لأهل السنة والجماعة مع الفِرَق! وقد يكون سبب ذلك أن بعض أهل السنة والجماعة لا يعرفون المضمون الكامل، والمنهج الشامل الذي يحويه مدلول "أهل السنة والجماعة"، ولا يدركون حقيقة مناهج الفرق البدعية وأصولها، ومن ثَمَّ كانت الخسارة الكبرى لأهل السنة والجماعة، لا أعني خسارة الأتباع، ولكن اضمحلال الشعار، وضياع الحقيقة في ركام الزيف، وفقدان المنهج المتميز في زحمة المناهج. وقد ركب الله تعالى في نفوس بني آدم كافة من معرفة العدل ما ينكرون به أن يتقمص اللص شخص الحارس، وأن ينتحل الفاجر شخصية التقي، وأن يدعي الشيطان حقيقة الملك. ¬

(¬1) وهي أحاديث كثيرة، جمعها الحافظ ابن كثير رحمه الله، انظر: الطبعة المحققة من تفسيره (3/ 264 - 272). (¬2) كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه "الصباة".

وعن هذا عبر شاعر المعرة بقوله: فوا عجباً كم يدّعي الفضل ناقصٌ ... ووا أسفا كم يُظهر النقص فاضلُ إذا وصف الطائي بالبخل مادرٌ ... وعير قسًّا بالفهاهة باقلُ وقال السهي: يا شمسُ أنتِ خفيةٌ ... وقال الدجي: يا صُبح لونك حائلُ وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهةٌ ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادلُ فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمةٌ ... ويا نفس جدِّي إن دهرك هازلُ إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن أصحاب جهنم أنهم يقولون: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} *الملك: 10*. فنفهم من هذا: أن الكفار لا سمع لهم ولا عقل، وأن المؤمنين أهل السنة والجماعة هم أصحاب السمع الصحيح، والعقل الكامل؛ من جهة أنهم يتلقون عن القرآن والسنة الصحيحة، ويستخدمون قوة العقل، وملكة الفهم للتمييز بين الحق والباطل، وأن أصحاب البدع أصحاب فساد في السمع وخلل في العقل. ومن فساد السمع التلقي عن الدجالين والكهان والمشعوذين، أو الفلاسفة والملاحدة والصابئين، والاستشهاد بالروايات الموضوعة والواهية. ومن فساد العقل عندهم تحريف معاني النصوص الصحيحة، والتأويلات الباطلة، وضرب الوحي بعضه ببعض من أجل تغيير البدعة التي لا أصل لها فيه. فللمعرفة إذن مصدران لا ثالث لهما: 1 - إما الوحي، والعقل السليم، والفطرة المستقيمة، كل منها يصدق الآخر، وهذا من نصيب أهل السنة والجماعة دون سائر الفرق والملل. 2 - وإما الأساطير والأوهام والتخرّصات والخيالات والوساوس، وهذه تسمّيها كل ملة منحرفة باسم تزعمه: فالكفار أصحاب النظريات الكونية والنفسية المخالفة للوحي يسمونها "حقائق علمية"، وهؤلاء كذّبهم الله تعالى وهدم منهجهم بآية واحدة من كتابه: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} *الكهف: 51*. والفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين المنتسبين للإسلام يسمونها "البراهين" أو "القواطع العقلية"، وهؤلاء ساروا على المنهج الإبليسي في معارضة الوحي بالرأي {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} *الأعراف: 12*. والمشعوذون والدجّالون وغلاة الصوفية المنتسبون للإسلام يسمونها "كشفاً وفيضاً ووجداً وذوقاً ... "، وهؤلاء اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما ورثوه من تعاليم هاروت وماروت، وسحرة الفراعنة، وكهّان الهندوس، وأصحاب البدود (¬1)، كما كانوا يسمونهم. ¬

(¬1) وهم البوذيون، فأصل الكلمة واحد (بوذا) أو (بذ) ومعناها: العارف.

قصة الحوثيين

قصة الحوثيين راغب السرجاني من هم الحوثيون؟ ومتى ظهروا؟ وإلى أي شيء يهدفون؟ ولماذا تحاربهم الحكومة اليمنية؟ وما هو تأثير القوى الخارجية العالمية على أحداث قصتهم؟ هذه الأسئلة وغيرها هي موضوع مقالنا، والذي أرجو أن ينير لنا الطريق في هذه القصة المعقَّدة .. بدأت القصة في محافظة صعدة (على بُعد 240 كم شمال صنعاء)، حيث يوجد أكبر تجمعات الزيدية في اليمن، وفي عام 1986م تم إنشاء "اتحاد الشباب"، وهي هيئة تهدف إلى تدريس المذهب الزيدي لمعتنقيه، كان بدر الدين الحوثي -وهو من كبار علماء الزيدية آنذاك- من ضمن المدرِّسين في هذه الهيئة. وفي عام 1990م حدثت الوَحْدة اليمنية، وفُتح المجال أمام التعددية الحزبية، ومن ثَمَّ تحول اتحاد الشباب إلى حزب الحق الذي يمثِّل الطائفة الزيدية في اليمن، وظهر حسين بدر الدين الحوثي -وهو ابن العالم بدر الدين الحوثي- كأحد أبرز القياديين السياسيين فيه، ودخل مجلس النواب في سنة 1993م، وكذلك في سنة 1997م. تزامن مع هذه الأحداث حدوث خلاف كبير جدًّا بين بدر الدين الحوثي وبين بقية علماء الزيدية في اليمن حول فتوى تاريخية وافق عليها علماء الزيدية اليمنيون، وعلى رأسهم المرجع مجد الدين المؤيدي، والتي تقضي بأن شرط النسب الهاشميّ للإمامة صار غير مقبولاً اليوم، وأن هذا كان لظروف تاريخية، وأن الشعب يمكن له أن يختار مَن هو جديرٌ لحكمه دون شرط أن يكون من نسل الحسن أو الحسين رضي الله عنهما. اعترض بدر الدين الحوثي على هذه الفتوى بشدَّة، خاصة أنه من فرقة "الجارودية"، وهي إحدى فرق الزيدية التي تتقارب في أفكارها نسبيًّا مع الاثني عشرية. وتطوَّر الأمر أكثر مع بدر الدين الحوثي، حيث بدأ يدافع بصراحة عن المذهب الاثني عشري، بل إنه أصدر كتابًا بعنوان "الزيدية في اليمن"، يشرح فيه أوجه التقارب بين الزيدية والاثني عشرية؛ ونظرًا للمقاومة الشديدة لفكره المنحرف عن الزيدية، فإنّه اضطر إلى الهجرة إلى طهران حيث عاش هناك عدة سنوات. وعلى الرغم من ترك بدر الدين الحوثي للساحة اليمنية إلا أن أفكاره الاثني عشرية بدأت في الانتشار، خاصة في منطقة صعدة والمناطق المحيطة، وهذا منذ نهاية التسعينيات، وتحديدًا منذ سنة 1997م، وفي نفس الوقت انشقَّ ابنه حسين بدر الدين الحوثي عن حزب الحق، وكوَّن جماعة خاصة به، وكانت في البداية جماعة ثقافية دينية فكرية، بل إنها كانت تتعاون مع الحكومة لمقاومة المد الإسلامي السُّنِّي المتمثل في حزب التجمع اليمني للإصلاح، ولكن الجماعة ما لبثت أن أخذت اتجاهًا معارضًا للحكومة ابتداءً من سنة 2002م. وفي هذه الأثناء توسَّط عدد من علماء اليمن عند الرئيس علي عبد الله صالح لإعادة بدر الدين الحوثي إلى اليمن، فوافق الرئيس، وعاد بدر الدين الحوثي إلى اليمن ليمارس من جديد تدريس أفكاره لطلبته ومريديه. ومن الواضح أن الحكومة اليمنية لم تكن تعطي هذه الجماعة شأنًا ولا قيمة، ولا تعتقد أن هناك مشاكل ذات بالٍ يمكن أن تأتي من ورائها مظاهرات ضخمة للحوثيين وبداية الحرب: وفي عام 2004م حدث تطوُّر خطير، حيث خرج الحوثيون بقيادة حسين بدر الدين الحوثي بمظاهرات ضخمة في شوارع اليمن مناهضة للاحتلال الأمريكي للعراق، وواجهت الحكومة هذه المظاهرات بشدَّة، وذكرت أن الحوثي يدَّعِي الإمامة والمهديّة، بل ويدَّعِي النبوَّة. وأعقب ذلك قيام الحكومة اليمنية بشنّ حرب مفتوحة على جماعة الحوثيين الشيعية، واستخدمت فيها أكثر من 30 ألف جندي يمني، واستخدمت أيضًا الطائرات والمدفعية، وأسفرت المواجهة عن مقتل زعيم التنظيم حسين بدر الدين الحوثي، واعتقال المئات، ومصادرة عدد كبير من أسلحة الحوثيين.

تأزَّم الموقف تمامًا، وتولى قيادة الحوثيين بعد مقتل حسين الحوثي أبوه بدر الدين الحوثي، ووضح أن الجماعة الشيعية سلحت نفسها سرًّا قبل ذلك بشكل جيد؛ حيث تمكنت من مواجهة الجيش اليمني على مدار عدة سنوات. وقامت دولة قطر بوساطة بين الحوثيين والحكومة اليمنية في سنة 2008م، عقدت بمقتضاها اتفاقية سلام انتقل على إثرها يحيى الحوثي وعبد الكريم الحوثي -أشقاء حسين بدر الدين الحوثي- إلى قطر، مع تسليم أسلحتهم للحكومة اليمنية، ولكن ما لبثت هذه الاتفاقية أن انتُقضت، وعادت الحرب من جديد، بل وظهر أن الحوثيين يتوسعون في السيطرة على محافظات مجاورة لصعدة، بل ويحاولون الوصول إلى ساحل البحر الأحمر للحصول على سيطرة بحريَّة لأحد الموانئ؛ يكفل لهم تلقِّي المدد من خارج اليمن. لقد صارت الدعوة الآن واضحة، والمواجهة صريحة، بل وصار الكلام الآن يهدِّد القيادة في اليمن كلها، وليس مجرَّد الانفصال بجزء شيعي عن الدولة اليمنية. أسباب قوة الحوثيين: والسؤال الذي ينبغي أن يشغلنا هو: كيف تمكّنت جماعة حديثة مثل هذه الجماعة أن تواجه الحكومة طوال هذه الفترة، خاصَّة أنها تدعو إلى فكر شيعي اثني عشري، وهو ليس فكراً سائداً في اليمن بشكل عام، مما يجعلنا نفترض أن أتباعه قلة؟! لذلك تبريرات كثيرة تنير لنا الطريق في فهم القضية، لعل من أبرزها ما يلي: أولاً: لا يمكن استيعاب أن جماعة قليلة في إحدى المحافظات اليمنية الصغيرة يمكن أن تصمد هذه الفترة الطويلة دون مساعدة خارجية مستمرة، وعند تحليل الوضع نجد أن الدولة الوحيدة التي تستفيد من ازدياد قوة التمرد الحوثي هي دولة إيران، فهي دولة اثنا عشرية تجتهد بكل وسيلة لنشر مذهبها، وإذا استطاعت أن تدفع حركة الحوثيين إلى السيطرة على الحكم في اليمن، فإنّ هذا سيصبح نصرًا مجيدًا لها، خاصة أنها ستحاصر أحد أكبر المعاقل المناوئة لها وهي السعودية، فتصبح السعودية محاصَرة من شمالها في العراق، ومن شرقها في المنطقة الشرقية السعودية والكويت والبحرين، وكذلك من جنوبها في اليمن، وهذا سيعطي إيران أوراق ضغط هائلة، سواء في علاقتها مع العالم الإسلامي السُّني، أو في علاقتها مع أمريكا. وليس هذا الفرض نظريًّا، إنما هو أمر واقعي له شواهد كثيرة، منها التحوُّل العجيب لبدر الدين الحوثي من الفكر الزيديّ المعتدل إلى الفكر الاثني عشري المنحرف، مع أن البيئة اليمنية لم تشهد مثل هذا الفكر الاثني عشري في كل مراحل تاريخها، وقد احتضنته إيران بقوَّة، بل واستضافته في طهران عدة سنوات، وقد وجد بدر الدين الحوثي فكرة "ولاية الفقيه" التي أتى بها الخوميني حلاًّ مناسبًا للصعود إلى الحكم حتى لو لم يكن من نسل السيدة فاطمة رضي الله عنها، وهو ما ليس موجودًا في الفكر الزيدي. كما أن إيران دولة قوية تستطيع مدَّ يد العون السياسي والاقتصادي والعسكري للمتمردين، وقد أكّد على مساعدة إيران للحوثيين تبنِّي وسائل الإعلام الإيرانية الشيعية، والمتمثلة في قنواتهم الفضائية المتعددة مثل "العالم" و"الكوثر" وغيرهما لقضية الحوثيين. كما أن الحوثيين أنفسهم طلبوا قبل ذلك وساطة المرجع الشيعي العراقي الأعلى آية الله السيستاني، وهو اثنا عشري قد يستغربه أهل اليمن، لكن هذا لتأكيد مذهبيَّة التمرد، هذا إضافةً إلى أن الحكومة اليمنية أعلنت عن مصادرتها لأسلحة كثيرة خاصة بالحوثيين، وهي إيرانية الصنع. وقد دأبت الحكومة اليمنية على التلميح دون التصريح بمساعدة إيران للحوثيين، وأنكرت إيران بالطبع المساعدة، وهي لعبة سياسية مفهومة، خاصة في ضوء عقيدة "التقية" الاثني عشرية، والتي تجيز لأصحاب المذهب الكذب دون قيود.

ثانيًا: من العوامل أيضًا التي ساعدت على استمرار حركة الحوثيين في اليمن التعاطف الجماهيري النسبي من أهالي المنطقة مع حركة التمرد، حتى وإن لم يميلوا إلى فكرهم المنحرف، وذلك للظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة جدًّا التي تعيشها المنطقة؛ فاليمن بشكل عام يعاني من ضعف شديد في بنيته التحتية، وحالة فقر مزمن تشمل معظم سكانه، لكن يبدو أن هذه المناطق تعاني أكثر من غيرها، وليس هناك اهتمام بها يوازي الاهتمام بالمدن اليمنية الكبرى، ويؤكد هذا أن اتفاقية السلام التي توسَّطت لعقدها دولة قطر سنة 2008م بين الحكومة اليمنية والحوثيين، كانت تنص على أن الحكومة اليمنية ستقوم بخطة لإعادة إعمار منطقة صعدة، وأن قطر ستموِّل مشاريع الإعمار، لكن كل هذا توقف عند استمرار القتال، ولكن الشاهد من الموقف أن الشعوب التي تعيش حالة التهميش والإهمال قد تقوم للاعتراض والتمرد حتى مع أناسٍ لا يتفقون مع عقائدهم ولا مبادئهم. ثالثًا: ساعد أيضًا على استمرار التمرد، الوضعُ القبلي الذي يهيمن على اليمن؛ فاليمن عبارة عن عشائر وقبائل، وهناك توازنات مهمَّة بين القبائل المختلفة، وتشير مصادر كثيرة أن المتمردين الحوثيين يتلقون دعمًا من قبائل كثيرة معارضة للنظام الحاكم؛ لوجود ثارات بينهم وبين هذا النظام، بصرف النظر عن الدين أو المذهب. رابعًا: ومن العوامل المساعدة كذلك الطبيعة الجبلية لليمن، والتي تجعل سيطرة الجيوش النظامية على الأوضاع أمرًا صعبًا؛ وذلك لتعذر حركة الجيوش، ولكثرة الخبايا والكهوف، ولعدم وجود دراسات علمية توضح الطرق في داخل هذه الجبال، ولا وجود الأدوات العلمية والأقمار الصناعية التي ترصد الحركة بشكل دقيق. خامسًا: ساهم أيضًا في استمرار المشكلة انشغال الحكومة اليمنية في مسألة المناداة بانفصال اليمن الجنوبي عن اليمن الشمالي، وخروج مظاهرات تنادي بهذا الأمر، وظهور الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق "علي سالم البيض" من مقره في ألمانيا وهو ينادي بنفس الأمر. هذا الوضع لا شك أنه شتَّت الحكومة اليمنية وجيشها ومخابراتها؛ مما أضعف قبضتها عن الحوثيين. سادسًا: وهناك بعض التحليلات تفسِّر استمرار التمرد بأن الحكومة اليمنية نفسها تريد للموضوع أن يستمر! والسبب في ذلك أنها تعتبر وجود هذا التمرد ورقة ضغط قوية في يدها تحصِّل بها منافع دولية، وأهم هذه المنافع هي التعاون الأمريكي فيما يسمَّى بالحرب ضد الإرهاب، حيث تشير أمريكا إلى وجود علاقة بين تنظيم القاعدة وبين الحوثيين. وأنا أرى أن هذا احتمال بعيد جدًّا؛ لكون المنهج الذي يتبعه تنظيم القاعدة مخالف كُلِّية للمناهج الاثني عشرية، ومع ذلك فأمريكا تريد أن تضع أنفها في كل بقاع العالم الإسلامي، وتتحجج بحججٍ مختلفة لتحقيق ما تريد، واليمن تريد أن تستفيد من هذه العلاقة في دعمها سياسيًّا واقتصاديًّا، أو على الأقل التغاضي عن فتح ملفات حقوق الإنسان والدكتاتورية، وغير ذلك من ملفات يسعى الغرب إلى فتحها. وإضافةً إلى استفادة اليمن من علاقتها بأمريكا، فإنها ستستفيد كذلك من علاقتها بالسعودية، حيث تسعى السعودية إلى دعم اليمن سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا لمقاومة المشروع الشيعي للحوثيين، واستمرار المشكلة سيوفِّر دعمًا مطَّردًا لليمن، ولعل الدعم لا يتوقف على السعودية، بل يمتد إلى قطر والإمارات وغيرها. وبصرف النظر عن الأسباب فالمشكلة ما زالت قائمة، والوضع فيما أراه خطير، ووجب على اليمن أن تقف وقفة جادة مع الحدث، ووجب عليها كذلك أن تنشر الفكر الإسلامي الصحيح؛ ليواجه هذه الأفكار المنحرفة، وأن تهتم اهتمامًا كبيرًا بأهالي هذه المناطق حتى تضمن ولاءهم بشكل طبيعي لليمن وحكومتها. ويجب على العالم الإسلامي أن يقف مع اليمن في هذه الأزمة، وإلاّ أحاط المشروع الشيعي بالعالم الإسلامي من كل أطرافه، والأهم من ذلك أن يُعيد شعب اليمن حساباته وينظر إلى مصلحة اليمن، وأن هذه المصلحة تقتضي الوحدة، وتقتضي الفكر السليم، وتقتضي التجمُّع على كتاب الله وسُنَّة رسوله، وعندها سنخرج من أزماتنا، ونبصر حلول مشاكلنا. ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

من الذي اخترع لفظ (الاختلاط)؟

من الذي اخترع لفظ (الاختلاط)؟ إبراهيم السكران - مدخل: بعد أزمة الاختلاط الكاوستي ظهر على السطح الإعلامي شريحتان كتبتا بغزارة مذهلة، في وقت قياسي، وبشكل يومي مكثف. فأما الشريحة الأولى: فهي فريق من المنتسبين إلى (البحث الشرعي) كانت تردد وتعيد وتكرر بأن مفردة الاختلاط إنما هي (بدعة مصطلحية لاتعرف في كتب أهل العلم)، وقال بعضهم بأن (الاختلاط لفظ دخيل لايعرف في التراث الإسلامي)، وقال آخرون بأن (الاختلاط لفظ معاصر لاتعرفه سائر المذاهب الفقهية الأربعة لأهل السنة)، وذكر آخرون بأنه لاتعرف لفظة الاختلاط إلا في (خلط المالين في الزكاة) وقال آخرون بأنهم تتبعوا كتب التراث الإسلامي ولم يجدوا لفظة الاختلاط إلا في (اختلاط الراوي) في علم الجرح والتعديل، وتوسع بعضهم وقال إن لفظ الاختلاط لفظ "لاهوتي-كنسي" استورده الإسلاميون المعاصرون ولاذكر له أصلاً عند علماء التراث الإسلامي. وبنى هؤلاء على ذلك كله أنه لاداعي للحماس لاستنكار وشجب تدشين الاختلاط في جامعة (كاوست) باعتبار أن لفظ الاختلاط أصلاً ليس من ألفاظ المنكرات عند علماء الشريعة في سائر المذاهب السنية الأربعة. وأما الشريحة الثانية: فهي فريق من المنتسبين إلى (البحث الفكري (أخذت تكرر وتعيد بأن الفصل بين الجنسين في التعليم نظام شاذ غريب غير مقبول كلياً في عالم اليوم، ولاتعترف الحضارة الغربية المعاصرة بهذا النظام العنصري، بل هو جزء من الماضي السحيق والتاريخ الغابر، وبنى هؤلاء على ذلك كله بأننا لو استمرينا على هذا النظام في التعليم فإننا سنقع في إحراجات سياسية دولية، وسنصبح مضحكة للمجتمع الغربي الذي لم يسمع بشئ اسمه الفصل بين الجنسين إلا في غرائبيات الميثولوجيا الدينية، وإلى متى نصادم العالم ونتقوقع داخل تقاليد يسخر منها عالم اليوم. هاتان أطروحتان تم ضخهما وبكثافة طوال الأيام الماضية في الصحافة المحلية، وتم استكتاب الكثيرين للإدلاء بآراء فقهية أو فكرية تدور حول هذين المعنيين. وفي هذه الورقة الموجزة سنحاول سوياً أن نفحص هذين السؤالين اللذين طرحهما هذان الفريقان: السؤال الأول: هل فعلاً أن المذاهب الفقهية الأربعة لاتعرف لفظ "الاختلاط" بين الرجال والنساء؟ السؤال الثاني: هل فعلاً أن المجتمع الغربي المعاصر لايعرف فكرة "التعليم غير المختلط"؟ - الاختلاط في المذاهب الأربعة: ثمة مرتبتان للاختلاط يدركهما ببساطة كل من تأمل هذا الموضوع، أولهما مرتبة (الاختلاط العارض) كالذي يكون في الطريق ونحوه. والثاني هو (اختلاط المجالسة) كالذي يكون في مجال التعليم والعمل، وهو الذي يترتب عليه رفع الكلفة، وانكسار الحواجز، والمضاحكة، وإلف كل من الطرفين للآخر، ونشوء العلاقات غير المشروعة. فمن ذكر أن المذاهب الفقهية الأربعة تبيح جميع مراتب الاختلاط، أو أن فقهاء المذاهب السنية الأربعة لايعرفون أصلاً لفظ الاختلاط، فهذا قد وضع نفسه في حرج علمي بالغ، لأن لفظ الاختلاط لم يرد بشكل نادر في كتب الفقه الإسلامي، بل ولم يرد في باب واحد فقط، وإنما هو كالأصل الفقهي المنبث في أبواب كثيرة بحيث يؤثر على كثير من الأحكام الشرعية، واستخراج معالجات الفقهاء لمنكر اختلاط الجنسين لا يحتاج لعبقرية فقهية أصلاً، وأشهر المواضع التي يعالج الفقهاء فيها موضوع "اختلاط الجنسين" هي:

باب صلاة الجماعة (مسألة مكث الرجال بقدر ماينصرف النساء) وفي كتاب الجمعة (مسألة علة عدم وجوب الجمعة على النساء) وفي كتاب الجنائز (مسألة الدفن في القبور الفساقي) وفي كتاب الاعتكاف (مسألة صيانة المسجد عن الاختلاط) وفي كتاب الحج (مسألة علة منع التعريف) وفي كتاب الجهاد (مسألة علة منع خروج النساء للمباضعة، ومسألة شرط الذكورة في الإمامة الكبرى) وفي كتاب النكاح (مسألة محرمات الزفاف، ومسألة الفرق بين الحرة والأمة في مخالطة الرجال، ومسألة حبس المرأة زوجها بحقها) وفي كتاب القضاء (مسألة علة منع استقضاء المرأة، ومسألة اختلاط الجنسين في مجلس القضاء)، وفي باب الوصية (مسألة مبطلات الوصية) وفي كتاب الأدب (الذي يسمى كتاب الكراهية عند الحنفية) عالجوه في مسألة (حكم مخالطة من تعطلت غريزته للنساء)، وغيرها من المواضع. وسنستعرض هاهنا بعض نماذج تلك المعالجات الفقهية التراثية: - موقف الفقه الحنفي: يميز فقهاء المذاهب دوماً في مصادرهم الفقهية بين الكتب المحدِّدة للمعتمد في المذهب في مجالي (القضاء والفتيا)، والكتب المحدّدة للمعتمد في المذهب في مجال (التعليم الفقهي). فأما في مجال (القضاء والفتيا) فإن المعتمد عند الحنفية ثلاثة كتب، رأسها وأهمها عندهم هو الكتاب المبكر "المبسوط للسرخسي"، ويكاد عندهم أن يكون قاعدة المذهب لأنه جمع خلاصة فقه متقدمي الحنفية، وفي هذا المصدر الحنفي الرئيسي يقول السرخسي رحمه الله: (في اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة؛ من الفتنة والقبح ما لا يخفى) (المبسوط،16/ 80). ويقول أيضاً رحمه الله: (في اختلاطها - أي المرأة - بالرجال فتنة) (المبسوط، 4/ 111). وأما في مجال (التعليم الفقهي) فإن أهم كتب الحنفية عندهم هي "الهداية للمرغيناني" وأشهر شروحها هو "فتح القدير" لابن الهمام، ويقول ابن الهمام في هذا الشرح: (المرأة إنما تخالط المرأة، لا الرجل الأجنبي) (فتح القدير، 5/ 222). ولم يختلف فقهاء المذهب الحنفي في أصل تحريم "اختلاط الجنسين" وإنما اختلفوا في صورة معينة: وهي الرجل الذي تعطلت غريزته كلياً فهل له أن يخالط النساء أم لا؟ ومع أنه في هذه الحالة قد يغلب انتفاء الفتنة إلا أن جمهور الحنفية منعوا ذلك أيضاً، ويلخص الامام السرخسي هذا الخلاف فيقول: (إن كان مجبوباً قد جف ماؤه؛ فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء، لوقوع الأمن من الفتنة، والأصح أنه لا يحل له ذلك) (المبسوط، 10/ 158). وأما في مجال (علم القواعد الفقهية) فإن أوسع كتب الحنفية في هذا الحقل هو كتاب "غمز عيون البصائر" للإمام الحموي الحنفي الذي شرح فيه كتاب "الأشباه والنظائر" للإمام ابن نجيم الحنفي، رحمهما الله، وفي هذا الكتاب القواعدي الحنفي يقول الإمام الحموي رحمه الله: (قلت: وهو - أي الزفاف - حرام في زماننا، فضلا عن الكراهة، لأمور لا تخفى عليك، منها اختلاط النساء بالرجال) (غمز عيون البصائر، 2/ 114). واستمر هذا الحكم الفقهي في تحريم "اختلاط الجنسين" حاضراً في سائر كتب الفقه الحنفي الأخرى، حتى مجئ آخر أئمة الحنفية الموسوعيين وهو الإمام ابن عابدين رحمه الله، فزاد هذا الحكم الشرعي لتحريم اختلاط الجنسين تأكيداً، حيث يقول في موسوعته رد المحتار: (ومما ترد به الشهادة الخروج لفرجة قدوم أمير، أي لما تشتمل عليه من المنكرات، ومن اختلاط النساء بالرجال) (رد المحتار، 6/ 355). وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات الحنفية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر الحنفية الأخرى مثل:

كتاب تبيين الحقائق للزيلعي (6/ 20) والبحر الرائق لابن نجيم (8/ 222) ومجمع الأنهر لشيخي زاده (2/ 540)، وغيرها من مصادر المذهب الحنفي الأخرى. - موقف المذهب المالكي: محور المذهب المالكي - كما هو معروف - هو مختصر خليل، فهو الحلقة الرابعة في سلسلة الاختصار، فهو خلاصة مكثفة للمذهب، وقد بين الشيخ خليل في عبارته المركزة - كما هو معتاد في لغة المتون بشكل عام، ومختصر خليل بشكل خاص - منع الاختلاط في ثلاثة أمور (مجلس القضاء، ومجلس الفتيا، ومجلس العلم) حيث يقول رحمه الله: (ينبغي - أي للقاضي - أن يفرد وقتاً أو يوماً للنساء، كالمفتي والمدرس). وحين جاء الشيخ عليش المالكي لتوضيح هذه الفقرة في مختصر خليل ذكر علة هذا الحكم، ثم نقل نقولاً عن أئمة المذهب المالكي حول الاختلاط، حيث يقول رحمه الله: (سترا لهن وحفظا من اختلاطهن بالرجال في مجلسه، [قال] سحنون: يعزل النساء على حدة والرجال على حدة. [وقال] أشهب: لا يقدم الرجال والنساء مختلطين. [وقال] ابن عبد الحكم: أحب إلي أن يفرد للنساء يوما. ويفرق بين الرجال والنساء في المجالس .. ، [وقال] المازري: إن كان الحكم بين رجل وامرأة أبعد عنها من لا خصام بينها وبينه من الرجال) (منح الجليل شرح مختصر خليل، 8/ 306). ويلي مختصر خليل في الذيوع والانتشار بين المالكية رسالة الإمام ابن أبي زيد القيرواني، وحين تعرض الإمام النفراوي المالكي في شرحه لهذه الرسالة لمسألة "مسقطات وجوب إجابة وليمة العرس" قال: (ثم شرع في بيان مايسقط الإجابة بقوله .. : "ولا منكر بيِّن" أي مشهور ظاهر، كاختلاط الرجال بالنساء) (الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، 2/ 322). وأما علم "تفسير آيات الأحكام" فأشهر كتب المالكية فيها كتاب ابن العربي المالكي، ويقول فيه: (المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير) (أحكام القرآن، 3/ 483). وحين تعرض الامام الدسوقي المالكي لباب مبطلات الوصية ذكر من مبطلاتها أن يوصي الموصي بعمل يتضمن "اختلاط الجنسين،" كما يقول رحمه الله: (أن يوصي بإقامة مولد على الوجه الذي يقع في هذه الأزمنة، من اختلاط النساء بالرجال، والنظر للمحرم، ونحو ذلك من المنكر) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/ 427). أما الإمام ابن الحاج المالكي فقد اعتنى بشكل مكثف بكثرة إعلان التحذير من "اختلاط الجنسين" حتى أن جهوده في هذا الموضوع لفتت انتباه فقهاء المذاهب الأخرى، حتى قال الخطيب الشربيني الشافعي مشيراً لذلك (خصوصا في هذا الزمان الذي كثر فيه اختلاط الأجانب من الرجال والنساء .. ، ولابن الحاج المالكي اعتناء زائد بالكلام على مثل هذا وأشباهه، باعتبار زمانه، فكيف له بزمان خرق فيه السياج) (الاقناع مع البجيرمي، 3/ 495). وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات المالكية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر المالكية الأخرى مثل: مواهب الجليل، للحطاب (1/ 91)، الكفاية مع حاشية العدوي (2،225)، بلغة السالك، للصاوي (4/ 585)، وغيرها. - موقف المذهب الشافعي: تكاد تكون أضخم موسوعة فقهية أنتجتها المدرسة الشافعية هي "الحاوي الكبير للماوردي"، وفي هذه الموسوعة يقول الماوردي رحمه الله: (والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال) (الحاوي الكبير، 2/ 51).

ولما تعرض الإمام النووي - ريحانة الشافعية - لظاهرة اختلاط النساء والرجال ليلة عرفة للدعاء والذكر أغلظ في تحريمها والتشنيع عليها، وذكر أن من علل تحريمها "اختلاط الجنسين" كما يقول رحمه الله في موسوعته "المجموع شرح المهذب": (ومن البدع القبيحة ما اعتاده بعض العوام في هذه الأزمان من إيقاد الشمع بجبل عرفة ليلة التاسع أو غيرها .. ، وهذه ضلالة فاحشة جمعوا فيها أنواعا من القبائح، منها: اختلاط النساء بالرجال، والشموع بينهم، ووجوههم بارزة، ويجب على ولي الأمر وكل مكلف تمكن من إزالة هذه البدع إنكارها) (المجموع، 8/ 140). ومن المعروف أن المذهب الشافعي استقر على مافي كتاب المنهاج للنووي، وأجل شروحه عندهم هو شرح الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله، وإمامة ابن حجر الهيتمي للمذهب الشافعي لاجدال فيها، حتى أن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- لما ناظر بعض الشافعية في بعض مسائل الألوهية لفت انتباهه شدة تعظيم متأخري الشافعية لابن حجر الهيتمي (انظر مجموع الرسائل الشخصية للشيخ محمد) والمراد أن ابن حجر الهيتمي نص في هذا المصدر المركزي على تحريم اختلاط الجنسين فقال: (الاختلاط بالنساء مظنة الفساد) (تحفة المحتاج، 2/ 107). بل إن الإمام ابن حجر الهيتمي لم يتحدث عن تحريم "اختلاط الجنسين" فقط، بل اعتنى بالتأكيد على أن تحريم اختلاط الجنسين هو مذهب متقدمي الشافعية أيضاً مستنداً على نصوص الإمام الشيرازي الشافعي صاحب المهذب، كما يقول ابن حجر الهيتمي في فتاواه: (وفي المهذب في باب صلاة الجمعة: "ولأنها، أي المرأة، لا تختلط بالرجال، وذلك لا يجوز" فتأمله تجده صريحا في حرمة الاختلاط، وهو كذلك لأنه مظنة الفتنة، وبه يتأيد ما مر عن بعض المتأخرين) (فتاوى ابن حجر الهيتمي، 1/ 203). وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات الشافعية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر الشافعية الأخرى مثل: نهاية المحتاج للرملي (1/ 553)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 144)، حاشية الشبراملسي على النهاية (3/ 34)، فتوحات الوهاب للجمل (2/ 206)، تحفة الحبيب للبجيرمي (2/ 226)، وغيرها. - موقف المذهب الحنبلي: أهم موسوعة فقهية مقارنة أنتجتها المدرسة الحنبلية هو بلاشك كتاب "المغني لابن قدامة" ويعرف كل من تابع تاريخ الفقه الإسلامي أنها تجاوزت الداخل المذهبي الحنبلي واكتسبت أهمية مرجعية عامة، حتى قال شيخ المقاصد العز بن عبد السلام الشافعي عبارته الشهيرة "ماطابت نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة من المغني"، بل عدّهُ المتأخرون أحد الموسوعات الخمس التي تجمع علوم أهل الإسلام، وفي هذه الموسوعة الرصينة يقول الإمام ابن قدامة في تعليل وجوب انصراف النساء قبل الرجال: (فصلٌ: إذا كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن يثبت هو والرجال بقدر ما يرى أنهن قد انصرفن .. ، ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء) (المغني، 1/ 328). وقال الإمام ابن قدامة أيضاً: (المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال) (المغني، 2/ 88). وأضاف الإمام ابن تيمية الإشارة إلى آثار السلف في المباعدة بين الجنسين، حيث يقول رحمه الله: (وقد كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب أن لا تسكن بين المتأهلين، وأن لا يسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة) (الفتاوى، 34/ 181).

وأما الإمام ابن القيم - رحمه الله - فلم يكتف ببيان "تحريم الاختلاط" شرعاً كما ذكره غيره من الفقهاء، بل عقد له فصلاً خاصاً في كتابه المعروف "الطرق الحكمية" صدّره بقوله: (فصلٌ: ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال) (الطرق الحكمية، 237). ثم شرح الإمام ابن القيم مخاطر الاختلاط معززاً ذلك بآثار عن السلف كعمر بن الخطاب والامام مالك والامام أحمد وغيرهم. واستمر تأكيد ابن القيم على تحريم الاختلاط في كتابه الآخر "إعلام الموقعين" وهو الكتاب الذي برزت فيه روحه الأصولية ورهافة ذوقه الفقهي، وبالمناسبة فهذا الكتاب من أميز الكتب التراثية في التدريب العملي على مهارات "تحليل علل الأحكام"، حيث يقول رحمه الله فيه: (النساء لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال) (إعلام الموقعين، 2/ 114). وأما المصادر التي تعين المعتمد في المذهب الحنبلي في مجال (القضاء والفتيا) فهما كتابي "شرح منتهى الإرادات" و "كشاف القناع"، وهما الكتابان المعتمدان تاريخياً في القضاء الشرعي السعودي، وقد كان صدر باعتمادهما في القضاء الشرعي عدة قرارات رسمية، وفي هذا الكتاب - أعني "كشاف القناع"- يقول البهوتي رحمه الله: (ويمنع فيه اختلاط الرجال والنساء، لما يلزم عليه من المفاسد) (كشاف القناع، 2/ 367). وأما في علم (الآداب الشرعية) فإن من أوسع كتب الحنابلة فيها كتاب الإمام السفاريني الحنبلي "غذاء الألباب"، والذي شرح فيه منظومة الآداب الشهيرة لابن عبد القوي، وفي هذا الكتاب يقول الإمام السفاريني رحمه الله: (والمحمود من الغيرة صون المرأة عن اختلاطها بالرجال) (غذاء الألباب، 2/ 400). - موقف الفقهاء المستقلين: ثمة فقهاء آخرون لم يتمذهبوا ابتداءً بأحد المذاهب السنية الأربعة، ثم كان لهم وزن علمي داخل البحث الفقهي السني، ونأخذ نموذجاً لذلك العلامة المتفنن الشوكاني رحمه الله - الذي كتب أوسع شرح لأحاديث الأحكام المعروف بـ"نيل الأوطار"، وفي هذا الكتاب يقول الشوكاني رحمه الله: (في الحديث - أيضاً - تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال، لأن الاختلاط ربما كان سببا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره) (نيل الأوطار، 3/ 362). ولايمكن الإطالة بأكثر من هذه النماذج من المعالجات الفقهية، والمراد منها الإجابة على السؤال الأول الذي طرحه الفريق المنسوب إلى (البحث الشرعي) والمتعلق بإشكالية: هل تعرف المذاهب السنية الأربعة لفظ الاختلاط؟ وننتقل الآن إلى السؤال الثاني الذي طرحه بعض المنسوبين إلى (البحث الفكري) المتعلق بإشكالية أن الاختلاط نظام مرفوض جذرياً في الحضارة الغربية المعاصرة، ولايمكن أن يستوعب العقل الغربي المعاصر فكرة الفصل بين الجنسين في التعليم، مما سيسبب لنا حرجاً سياسياً ودبلوماسياً. - تجربة المدارس غير المختلط في المجتمع الغربي: لا يمكن استيعاب الواقع الغربي الحالي للمدارس غير المختلطة (المنفصلة) إلا بتصور عام عن الخلفية التاريخية لتطورات هذا االأسلوب التعليمي. فمع تنامي هيمنة حركات المساواة في منتصف القرن الماضي -حيث كانت مزاج العصر- انتشرت المدارس المختلطة بشكل واسع جداً في المجتمع الغربي، وتعرضت المدارس غير المختلطة (المدارس المنفصلة) لنقد حاد باعتبارها جزء من التمييز على أساس الجنس، وأصبحت تلك المدارس المختلطة هي السمة الطاغية، وانتصر هذا النمط التعليمي حتى أن أحد الراصدين يرى أنه بعد العام (1945م) لم يكن هناك إلا نقاش محدود جداً حول جدوى التعليم المختلط ( Weinberg,1981) .

بينما يشير الدكتور بريهوني -المتخصص في تاريخ التعليم في كلية إدجيل للتعليم العالي- إلى أن انتشار "التعليم المختلط" في النصف الاول من القرن العشرين لم يتغلب على نظيره لأسباب تعليمية أو اجتماعية بشكل رئيسي، بقدر ماهي اسباب اقتصادية ( Brehony,1984) . وتطور تنامي اتجاه المدارس المختلطة في الولايات المتحدة إلى أن ظهر في مطلع السبعينات قانون يحد كلياً من برامج التعليم غير المختلط (المدارس المنفصلة) على أساس المساواة بين الجنسين وهو القانون المسمى ( Title IX,1972) . وبطبيعة الحال أصبح "التعليم المختلط" معطى بحثي أثار شهية الدارسين الاجتماعيين والمعنيين بشؤون التعليم، وانفجر منذ أواخر السبعينات ومايليها العديد من النتاج العلمي حول الموضوع كما يصور د. جنيفر شو ذلك فيقول (في السنوات القليلة الماضية ظهر تيار متواصل من التقارير البحثية والمقالات الصحفية التي تعيد فحص جدوى التعليم المختلط وغير المختلط) ( Shaw,1984) . ومع بدء بروز المشكلات المصاحبة لنمط التعليم المختلط، وعدم بروز تلك النتائج الإيجابية المبالغ فيها التي راهن عليها أنصاره، تناقص الحماس الشعبي العارم لهذا النمط من التعليم، وبدأ يتزايد الطلب الاجتماعي على المدارس غير المختلطة (المنفصلة) حتى أنه في التسعينات كما يصور ذلك في الولايات المتحدة البروفوسور سالومون -وهي أستاذة القانون الدستوري والإداري بجامعة سانت جونز في نيويورك- حيث تقول: (وفي نفس الوقت - أي في التسعينات - تزايد الاهتمام بالتعليم غير المختلط بين مدارس القطاع الخاص، فبين العام 1998 والعام 1999 لوحدها زاد التسجيل في مدارس الفتيات المستقلة بنسبة 4.4%. وأما في مدرينة نيويورك، بما تحمله من كثافة للمدارس الخاصة، فقد قفزت الطلبات إلى نسبة ضخمة تصل إلى 69%. ومن الواضح أن ثمة أمراً ما أقنع أولياء أمور الطلاب بأن المدارس غير المختلطة تمثل استثماراً جيداً في مستقبل بناتهم) ( Salomone, 2003) . ومع هذا الطلب الاجتماعي إلا أنه في واقع الحال ظل هامشياً بسبب تلك التنظيمات التي حدت منه في التعليم العام، ولكن مع ازدياد ضغوط أنصار هذا الاتجاه ظهر في الولايات المتحدة عام 2002م تشريع فيدرالي جديد يعزز ضمن مواده نظام التعليم غير المختلط، ويدعمه ببرامج تمويلية، وهو القانون المسمى ( NCLB,2002) ، وبعد ذلك تزايدت المدارس غير المختلطة في أمريكا حتى بلغت إلى شهر نوفمبر 2009 - بحسب إحصائيات المنظمة الوطنية للتعليم العام غير المختلط- أكثر من 547 مدرسة عامة غير مختلطة ( NASSPE,2009) . وأما في بريطانيا فلم يظهر من الأصل قانونٌ يفرض التعليم المختلط، ولذلك بقي جزء من مدارسها محافظاً على النظام غير المختلط (المدارس المنفصلة)، ويقدرّها البروفيسور سميثرز -أحد ألمع خبراء التعليم في بريطانيا- بأنها تزيد على 400 مدرسة تعمل بنظام التعليم غير المختلط ( The Observer,2006) ، ولذلك يبدي أستاذ علم الاجتماع في جامعة سوسكس د. جنيفر شو هذه المقارنة ببقية الدول الغربية فيقول: (على الرغم من أن بريطانيا ليست منفردة في هذا المجال، فإن الفصل الجنسي في مدارسها أصبح مظهراً متميزاً بحيث يضع نظامها للتعليم الثانوي بعيداً عن عدد من الدول المتقدمة التي يعتبر التعليم المختلط فيها مسألة طبيعية، كما في الولايات المتحدة على سبيل المثال) ( Shaw,1984) . وأما أهم (المنظمات الأمريكية) الفاعلة في مجال دعم التعليم غير المختلط (المدارس المنفصلة) فأهمها: المنظمة الوطنية للتعليم العام غير المختلط ( NASSPE) وقد تأسست عام 2002م.

ومؤسسة تعليم الفتيات، وقد تأسست عام 2002م ( feyw.org) . والائتلاف الوطني لمدارس الفتيات ( NCGS) ، وغيرها. وأما في بريطانيا فأهم تلك المؤسسات الداعمة للتعليم غير المختلط: منظمة مدارس الفتيات ( GSA) وتأسست عام 1974م. وكل هذه المنظمات لها مواقع خاصة على (شبكة الانترنت) توفر من خلالها مادة غزيرة حول مواقع المدارس التي توفر تعليماً غير مختلط (منفصل)، كما تزود الزائر بخلاصات لأبحاث ودراسات وتقارير تدعم موقفهم المناهض للتعليم المختلط، بالإضافة إلى أخبار دورية عن أهم المؤتمرات والندوات التي تدعم التعليم غير المختلط (المنفصل). وأما المبررات التي يعرضها أنصار التعليم غير المختلط (المنفصل) فقد لاحظت شخصياً أنها تدور حول محورين رئيسيين: المبرر الأول الفروق التكوينية بين الجنسين مما يتسبب في نقص فرص المساواة في التعليم بسبب التضحية باعتبارات أحد الجنسين للآخر، والمبرر الثاني كثرة حمل المراهقات في التعليم المختلط الذي يكبد المجتمع خسائر صحية واقتصادية، ويعرض أنصار التعليم غير المختلط دراسات وأبحاث امبيريقية تدعم موقفهم، بينما يقدم خصومهم دوماً دراسات مضادة تدعم التعليم المختلط، ولاتزال المسألة بينهم محل جدل. هذه الإشارة الخاطفة الى تطور إشكالية "التعليم غير المختلط" في المجتمع الغربي ليس الهدف منه -بأي شكل من الأشكال - تصوير المؤسسات التعليمية الغربية باعتبارها تطوي حقائبها الأخيرة استعداداً للتحول الكلي إلى التعليم غير المختلط، كلا قطعاً فهذه صورة مغرقة في الخيال، وإنما المراد من هذا العرض الوجيز كشف الخلل العلمي في الصورة التي لازال يقدمها الإعلام الليبرالي بأن (قضية التعيم المختلط هي مسألة محسومة في الفكر التربوي الغربي، وأن التعليم غير المختلط إنما هو جزء من التاريخ وأساطير الماضي) الخ. فهذه الصورة التي يقدمها الإعلام الليبرالي صورة غير علمية كلياً، بل قضية التعليم المختلط/غير المختلط لاتزال "قضية جدلية" داخل الفكر التربوي الغربي، ولايزال هناك مؤسسات ومدارس ومنظمات تتبنى وجهتي النظر، ولايزال هناك دراسات مستمرة حول كفاءة كل منهج من هذين المنهجين، ولاتزال هناك مقالات ينشرها أنصار كل اتجاه ضد الاتجاه الآخر. وبالتالي، فإن القول بأننا لو واصلنا التعليم غير المختلط فسنتورط بإحراجات سياسية عالمية بسبب غرابة هذه الطريقة في عالم اليوم، وأنها طريقة ماضوية لاتوجد على وجه الأرض، هذا كله مجرد تصريحات مجانية ناشئة بسبب الجهل بالتكوين الفعلي للواقع الغربي المعاصر، وسأضرب على ذلك مثالاً معاكساً لتتضح به الصورة، فهذا الشذوذ الجنسي -أكرم الله القراء- يعتبر استثناء داخل الحياة الاجتماعية الغربية، ويظل جمهور الناس في المجتمع الغربي لايزالون محافظين على الميول الغريزية الطبيعية، وأنصار الشذوذ الجنسي والمدافعون عنه هم أقلية في كل الأحوال، ومع ذلك كله لو أن دولة عربية أقرت الشذوذ الجنسي رسمياً فهل ستواجه بإحراجات سياسية غربية باعتباره نمط أسري يخالف ماعليه جمهور الناس في الغرب؟! فكيف سنواجه بالإحراج في مسألة التعليم غير المختلط التي لها من الأنصار والدراسات العلمية في المجتمع الغربي أضعاف أنصار الشذوذ الجنسي. - ماوراء المشهد:

أما بالنسبة لذلك الفريق المنسوب إلى (البحث الشرعي) فإنني أتساءل: إذا كان الفقهاء عالجوا مسألة "الاختلاط بين الجنسين" (بلفظها ومضمونها ذاته) بهذه الكثافة والغزارة في باب صلاة الجماعة، وكتاب الجمعة، وكتاب الجنائز، وكتاب الاعتكاف، وكتاب الحج، وكتاب الجهاد، وكتاب النكاح، وكتاب القضاء، وباب الوصية، وكتاب الأدب .. فكيف بالله عليكم -بعد ذلك كله- يتجرأ بعض المتسرعين ويقولون إن (لفظ الاختلاط بين الرجال والنساء لايعرف في كتب الشريعة)؟! أو أنه لفظ اخترعته الصحوة! (يارحم الله هذه الصحوة المسكينة التي صارت دُرْجاً ترمى فيه كل ملفات الشريعة غير المرغوبة!). مع أن القارئ المنصف يمكنه أن يلاحظ أن أكثر المعالجات الفقهية التراثية لمنكر الاختلاط إنما هي في "الاختلاط المحض" الذي يخشى أن يكون ذريعة، فكيف بـ"الاختلاط المعاصر" الذي يصاحبه من المنكرات مايجعله "اختلاطاً مغلظاً" مثل تعطر الفتيات أثناء مخالطتهن للطلاب، وتجملهن كل صباح، واستعراض كل من الجنسين أمام الآخر، ولبسهن الملابس الضيقة بالألوان الخلابة، والتساهل التدريجي بكشف الوجوه ثم الشعور ثم النحور ثم بقية المفاتن، وتضاحكهن مع زملائهن، والتوسع في الفضفضة والدردشة في فضول الأمور كالهوايات والميول، وترعرع الانجذاب الخفي عبر كثرة المجالسة والملاطفة والاستملاح، وتصميم الحفلات المشتركة على خلفية المعازف الهادئة، ونشوء دواعي الزيارات الفردية، وكل دَرَكة تخفف من التي قبلها، الخ الخ، ويعرف ذلك كله من رأى الاختلاط في الجامعات الغربية، ورأى كيف يبدأ الفصل الدراسي كأنه عرض أزياء، وينتهي بصداقات ترتمي خلف أسوار الجامعة. فإذا استحضر المؤمن بالله واليوم الآخر مثل هذا الواقع المشهود، ثم تذكر أنه سيقف يوماً بين يدي الجبار يسأله عما خطت يداه، فكيف سيكون جوابه -في ذلك اليوم العصيب- عن تبريره لهذه الفواحش وذرائعها البشعة، وكيف سيكون جوابه -وهو يشاهد أهوال القيامة- عن توريط بنات المسلمين وفتيانهم بهذه المستنقعات؟ الترخص بالسكوت عن هذه الجرائم الأخلاقية في غاية الخطورة على دين المرء، فكيف بمن تجرأ وبررها وكذب على الله، كل ذلك ليلفت انتباه صناع ترشيحات المناصب، والله تعالى يقول (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر:60]. والله إن الأمر فظيع، ولكن ماتت قلوبنا -ولاحول ولاقوة إلا بالله- من كثرة مارأينا من هزائم الأخلاق على يدي الإعلام الأجرد. ومع ذلك كله لنسلم جدلاً بأن لفظ "الاختلاط" لفظ مخترع معاصر، فهل ينتهي وجوب إنكاره؟! فطبقا لهذا المنطق هل يمكن أن نقول لفظ "الفئة الضالة" لم يرد لافي قرآن ولاسنة ولافقه، وبالتالي فلاداعي للتحذير منهم؟! وهل يمكن القول أيضاً طبقاً لهذا المنطق: لفظ "الوطنية" لا يعرف لافي قرآن ولاسنة ولا فقه، وبالتالي لاداعي للحماس للمطالبة به؟! هل هذا منطق معقول بالنسبة لكم أم أن العبرة هاهنا بالمضامين؟! وهذا الباحث الذي يقول "إن لفظ الاختلاط لفظ لاهوتي - كنسي تسرب إلى المسلمين " أخشى أن يأتينا يوماً ويقول إن لفظ "الصلاة" هو أيضاً لفظ لاهوتي - كنسي باعتبار أنه ورد في "الكتاب المقدس" ثم تسرب إلى المسلمين! وأن مفهوم "تحريم الخنزير" مفهوم لاهوتي - توراتي باعتباره ورد في كتب اليهود، ثم تسرب إلى المسلمين! وأن لفظ "الزهد" لفظ هندي - روحاني تسرب إلى المسلمين من الحضارة الهندية! وأن لفظ "القتال" لفظ جاهلي-عربي تسرب من بقايا موروث ماقبل الإسلام! وهكذا دواليك، يتم جحد أحكام الله ورسوله باعتبار أنها ذكرت هنا أو هناك قبل الإسلام، أو بعده!

هذا المشهد الأليم في الحقيقة يجعل حادثة الاختلاط الكاوستي تتحول من قضية " فرض سياسي للاختلاط " إلى " تبديل للحكم الشرعي " ذاته لتوفير غطاء فقهي للإرادة السياسية، وهذا يعني أن الخطورة تفاقمت أضعافاً مضاعفة، فشتان بين من يفتح بنكاً وهو معترف بتقصيره، وبين من يفتي بجواز الربا! وشتان بين من يقع في علاقة غير مشروعة وهو معترف بخطئه، وبين من يفتي بإباحة الزنا! وهكذا، فشتان بين من يكرِه المجتمع المسلم على إنشاء جامعة مختلطة، وبين من يحرف النصوص الشرعية والتراث الإسلامي، ويدعي أن لفظ "الاختلاط" لايعرف أصلاً في كتب أهل العلم! فهذا التدهور من (الفرض السياسي للاختلاط) إلى (التبديل الشرعي لحكم الاختلاط) ينقلنا من منكر مجرد إلى منكر مغلظ. وأما بالنسبة لذلك الفريق المنسوب إلى (البحث الفكري) فالحقيقة أن أي دارس موضوعي يقوم بتحليل أطروحات "كتّاب الأعمدة الليبرالية" فإنه سيتوصل حتماً إلى أن جوهر المشكلة لديهم هي الجهل الفظيع لاغير، فهؤلاء الكتّاب يعانون من جهل فادح في تصور التراث الإسلامي، وفي تصور تركيبة المجتمع الغربي، فهم يجهلون طرفي الرحلة كليهما، حيث يجهلون محطة المغادرة ومحطة الوصول، فلا يعرفون التراث (الذي يريدون أن نذهب عنه) ولايعرفون الغرب (الذي يريدون أن نذهب إليه)، فأي أزمة أكثر من أزمة مسافر لايعرف من أين جاء ولا إلى أين سيذهب؟! ومن الواضح لكل قارئ لخطاب الأعمدة الليبرالية أن أكثرهم يكتب عن الحضارة الغربية من خلال مايمكن تسميته "ثقافة السائح"، وأفضلهم حالاً هم ضحايا الكتب الفكرية العربية الاندهاشية التي يكتبها متطلعون للانحلال الديني الغربي فيزوّرون الواقع لأغراض آيديولوجية تتصل بتمرير ميولهم الشهوانية على أساس أنها جزء من مكونات المجتمع المتحضر، فيبتلعها هؤلاء المساكين ثم يعيدون صياغتها بشكل مبسط وترويجها للمستهلك النهائي وهو قارئ الصحافة. خلاصة القول أن الاختلاط منكر شرعي نصت عليه كافة المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة، ولايزال مسألة جدلية في الفكر التربوي الغربي لها أنصارها ومناوئيها، وكل طرح بخلاف ذلك لايساعده البرهان، والرهان على العلم ..

الصحفي .. المفتي!

الصحفي .. المفتي! ياسر بن علي الشهري النتيجة التي لا يفرح بها عاقل هي أن يُجرّ أهل العلم والفضل إلى سجالات وتعصبات ومناحرات فقهية على صفحات وشاشات وسائل الإعلام؛ لأن إعلامياً محترفاً استطاع أن يصنع قضية حول موضوع مفصلي في الخلاف بين التيارات الفكرية في المجتمع، واستطاع بحرفية توظيف مجموعة من القوالب، ومناداة مجموعة من الزملاء في وسائل أخرى لجعل هذه القضية حاضرة في دائرة اهتمام المجتمع. هذه الوضعية تصنع ما يُسمّى بـ"جمهور قضية"، حيث يبدأ الإعلامي بعدها بالتحكم في طريقة عرض الآراء حول القضية، فيضخم ويحجم، ويمتدح ويذم، ويركّب ويفكّك، وكل شيء يخضع لهواه، (ولا عزاء لمن لم يستفد من تجاربه مع الإعلام!)، حتى ينتهي السجال إلى نسف رأي فقهي في القضية، واعتبار هذه القضية ليست من الدين، أو اعتماد فتوى أو رأي فقهي ضعيف، وإسقاط رأي فقهي معتبر، وترسيخ فكرة تشدّد أصحاب الرأي المخالف -لرأي الصحفي- وجمودهم الفكري، وإلصاق الصور السيئة بهم، واشتهار هذا الصحفي بإعادة اكتشاف الإسلام، ومكانته اللامعة في تطوير الفكر الإسلامي. ما يحدث الآن أسوأ من هذا التوصيف البسيط؛ فالصحفي يستطيع أن يحدد القول الفقهي الذي يرغب في إسقاطه، أو ترجيحه -لتوافقه مع أهوائه أو أهواء رئيس التحرير- ثم يبدأ في مغازلة طلاب العلم وأهل الفضل، لجمع أكبر عدد من الأسماء لترجيح رأيه الفقهي! بشكل مباشر، أو من خلال التلاعب بالسؤال والجواب للوصول إلى نص مقارب لمراده، وإن لم يجد مفتين يحققون مراده أو تنطلي عليهم حيله، فالحل يكمن في صناعة مفتين جدد وترويجهم استعداداً للاعتماد على أقوالهم. أستطيع المراهنة أن غالب العلماء وطلاب العلم الذين نُشر لهم حوارات صحفية أو آراء في بعض القضايا المجتمعية؛ قد تعرضت أحاديثهم لتغييرات، أقلها صياغة العناوين بالطريقة التي تحقق غرض الصحفي، وتضع المادة الصحفية في السياق العام للرأي المرغوب ترجيحه، وإذا كان ذلك مؤشراً على ضعف الموضوعية لدى بعض الإعلاميين أو الوسائل، فإنه مؤشر -أيضاً- على ضعف فهم بعض الفضلاء للإعلام، وارتجالهم تحت ضغط فكرة توسيع دائرة الجمهور (ولا عزاء لمن لم يستفد من تجاربه مع الإعلام!). كان المتابع للساحة الإعلامية في السابق يخاف خوفاً شديداً من الآثار الفكرية التي ربما خلّفها "إعلام الأهواء" على عموم الناس الذين يعتمدون على وسائل الإعلام كأساس ومصدر لإدراك البيئة المحيطة بهم، مع ضعف العناية بالتمحيص والانتقاء لدى الأكثرية، ولكن مع تقدم الأيام وتفنن واحتراف بعض الإعلاميين، برزت ظاهرة استغلال بعض طلاب العلم إعلامياً، ووضعهم في مواقف تختزل معاني كثيرة، وتحمل آراءً فقهية بطريقة غير مباشرة، وساعد على حدوث ذلك ضعف التخطيط للمشاركة الإعلامية لدى بعض طلاب العلم، ويقين بعض أهل العلم والفضل بقوة تأثير وسائل الإعلام مقارنة بالاتصال الجمعي! ما أدّى إلى حصرهم مصادر معلوماتهم عن المجتمع -وإدراكهم للواقع- في وسائل الإعلام النافذة، متجاهلين حقيقة عدم حيادية هذه الوسائل. إن حالة الاستسلام -هذه- التي يعيشها بعض الفضلاء أمام قناة معينة أو صحيفة معينة حتى جعلها واقعاً حتمياً في حياته- قادت إلى معرفة غير دقيقة بالواقع وتصور غير صحيح عنه، خاصة مع تجاهل أن الوسيلة الإعلامية ليس بمقدورها أن تغطي الواقع أو أن تلبي رغبات وتوجهات كافة الجمهور، فتضطر اضطراراً -يفضح الطبيعة البشرية- إلى الاكتفاء بتحقيق رؤية ومصالح من يمولها، من خلال مديرها (حارس البوابة الإعلامية) أو من يُنيب!

يجب أن يتفهم العالِم وطالب العلم أن الوسيلة الإعلامية عندما تطلب مشاركته إنما هي تستهدف وضعه في سياق معين يحقق أهدافها، وأبسط هذه السياقات -في الوسائل ذات التوجهات الفكرية المخالفة- أن تكون المناسبة دينية، وتحتاج الوسيلة إلى تلبية الرغبات الدينية للجمهور، كما في كثير من البرامج التي تعقب صلاة الجمعة، أو تسبق صلاة المغرب في رمضان أو في يوم عرفة، وأعقد هذه السياقات ما يحدث عندما يعمل الإعلامي على إظهار العالِم في حديث أو فتوى عن (النمص) -أو ما شابه ذلك- في الوقت الذي تُسحق فيه بقعة من بقاع المسلمين، لتكون الرسالة غير المباشرة أبلغ وأقوى! وهكذا راجت مقولة (علماء الحيْض والنِّفاس). لقد خسرنا إعلامياً -على الصعيد الديني- خسائر كثيرة تحت ضغط تغليب حسن الظن بالإعلامي على الفطنة في حماية الدعوة والفتوى وتمثيلهما خير تمثيل، وتغليب الرغبة الشخصية في المشاركة على تقدير المصلحة واستشراف الآثار، وتغليب الارتجال والسرعة على التخطيط والتروي، وهذا الاندفاع في هذه الاتجاهات الثلاثة قاد إلى تسليم "قوة الفتوى" إلى الصحفيين، وتزايدت حالات الاضطراب في الآراء الفقهية الرائجة بين عامة الناس. الصحفي .. المفتي، ينطلق من امتلاكه صوراً متعددة للاضطراب والاختلاف بين آراء الفقيه الواحد وآراء مجموعة من الفقهاء؛ ليؤكد لجمهوره، أن الفتوى تتطور، وأنه يفتح حوارات لأهل العلم لتجلية الحقيقة والبحث عن الحكم الشرعي الصائب (عنده طبعاً!)، وأنه ليس لعالِم أن يزعم أنه يملك الحقيقة وحده، وأن هناك آراء فقهية أخرى حتى لو كانت لمبتدعة. وفتوى الصحفي تتخذ مقدمة (كليشة) معروفة جديرة بتمرير أي فتوى يصدرها: (وتلك سنّة سار عليها الفقهاء والأئمة قديماً. فالإمام مالك، رحمه الله، كان يقول: كل إنسان يُؤخذ منه ويُردّ إلاّ صاحب هذا القبر. وكان بذلك يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. والشافعي يقول: «رأيي صواب يقبل الخطأ، ورأي غيري خطأ يقبل الصواب»، بل إن الشافعي «عدّل» في آرائه الفقهية بعد رحيله من العراق إلى مصر، حين رأى اختلافاً في الحياة الاجتماعية بين كلا البلدين. ولا يعني ذلك أنه أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً، لكنه أعاد النظر في بعض اجتهاداته الفقهية التي استنبطها من الأدلة الشرعية؛ وفقاً لتغير البيئة والظروف، وهي نظرية فقهية يدرسها طلاب الكليات الشرعية، لكنْ قليل من يجتهد فيها)، ثم يأتي نص فتوى الصحفي، وأحسن الله عزاء المجتمع في العلم والعلماء.

إتباع الصراط في الرد على دعاة الاختلاط

إتباع الصراط في الرد على دعاة الاختلاط عبد الله بن عبد الرحمن السعد اللهم إنا نعوذ بك من السكوت عن الحق، كما نعوذ من مداهنة الخلق، ونعوذ بك من القول بلا علم، كما نعوذ بك من كتم العلم، ونعوذ بك من شهواتٍ تعمي الأبصار، كما نعوذ بك من شبهات تستخف الأغمار، ونعوذ بك من جرأة السفهاء، والاستخفاف بالعلماء، ومعاداة الأتقياء. نحمدك فأنت للحمد أهل، ونشكرك فأنت صاحب الفضل، ونصلي ونسلم على من بعثته رحمة للعالمين، وسراجاً منيراً للناس أجمعين. أما بعد: فإن لله عز وجل سنناً كونية لا تتغيّر ولا تتخلّف؛ ومنها سنة المدافعة بين الخلق، والصراع بين الحق وأهله، والباطل وأعوانه، فإن سبيل الحق واحدة وللباطل سبل شتى؛ قال تعالى: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ? [الأنعام:153]. فسنة المدافعة بين الفريقين قائمة إلى أن يشاء الله، ولو كانت الغلبة مع الحق دوماً لما تمايزت الصفوف ولانطوى من ليس من أهل الحق تحت لوائهم وتدثر بدثارهم، فكان من حكمة الله تعالى ولطفه أن قدر الحياة دولا، ومن رحمته وعدله أن جعل العاقبة للمتقين، فمهما لج الباطل وأعوانه فلابد أن يرتج ويخنس؛ تلك هي حكمة الله وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلا، حتى يميز الخبيث من الطيب، ويعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فيزداد بذلك الذين آمنوا إيمانا وتثبيتا، وتنكسر شوكة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولن تجد لسنة الله تبديلا. تسامع الناس بالجلبة التي أثارها بعض الرويبضة من الصحفيين حول ما يتعلق بحكم شرعي وهو (الاختلاط بين الرجال والنساء)؛ ذلك أنهم دخلوا البيوت من غير أبوابها، ورموا بسهام الباطل حجابها، فحاموا حول حمىً منيعة، وهجروا أوشال الشريعة، وتسوّروا محراب العلم من غير آلة، ليكون لهم عند الناس بريق وهالة، فسقطوا عند الله وعند الناس، بما افتروا وتقولوا وقالوا للناس؛ قال سبحانه: ?وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ... ? الآية [النحل:116]. ومع أن منع الاختلاط بين الرجال والنساء، يكفي فيه الوازع الطَبَعِي في الخليقة، لما فطرهم الله عليه من غَيْرة وحَميّة، إلا أن نصوص الوحيين قد جاءت بما يؤكد ذلك، صيانةً لمحارم المسلمين، وحمايةً لأعراضهم؛ من أصحاب الشهوات والقلوب المريضة، بما سنأتي على بيانه إن شاء الله، فنعوذ بالله من انتكاس الفطر، وتفسّخ العزائم. وقد تبين لكثير من الناس مغالطات هؤلاء الكتبة، وبعدهم عن الحق والإنصاف، ومخالفتهم لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم, بل وبعدهم عما كانوا يتشدقون به من احترام (الرأي المخالف) أو ما أسْموه (الرأي الآخر) ومنح الحرية لجميع الأطراف، ودعواهم بالانفتاح على القول الآخر ... ، إلى غير ذلك من عباراتٍ طنانة وألفاظٍ رنانة؛ باتت جوفاء باهتة، أشغلوا بها الناس ردحاً من الزمن, ثم كان ماذا! لقد كشف الله عور قولهم وزيف دعواهم، فكذّبت أفعالهم أقوالهم، وكرّ ليلهم على نهارهم، وتبين أنهم أمشاجٌ مبتلون بالتغريب، ودعاة فتنة، وأبواق بدعة، ومعاول هدّامة؛ بأقلام مأجورة، وأفعال مأزورة، وعقولٍ مُسيَّرة، وفكرٍ مُضلِّلة؛ حسيبهم الله.

فانظر لهولاء الصخّابون في الصحافة؛ كيف كالوا بمكيالين، وما الشمس بخافية على ذي عينين، وقديما قالت العرب: «الشيء من معدنه لا يستغرب»، فكل من ينادي بفصل الدين عن الحياة، أو يرى فلسفة في الحياة غير ما يراه الدين، ويرضى بأن يكون بوقاً لأقوام لا خلاق لهم ولا حض في الآخرة؛ فهذه دعواه. ومع أن دعواهم لم تكن غائبة على أهل العلم وحماة المجتمع المسلم، إلا أن الله أظهرها للعامة والخاصة، وفضحهم بأيديهم وأيدي المؤمنين؛ وهذه سبيل المنافقين، قال سبحانه: ?وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ? [محمد:30]. نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية. وقد بلغت الجرأة ببعضهم إلى تحزيب المجتمع الواحد، وتصنيفه حسب أهوائهم وشهواتهم، في دعوىً آثمة تفوح منها ريح الجاهلية، والله عز وجل قد أمر بالاجتماع والتآلف في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، فالكون كله لله والخلق خلق الله تحت شرع الله، قال سبحانه: ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ? [الأنبياء:92]. ولا ينقضي عجب المسلم وهو يتابع جرأتهم في ذلك، وتقسيمهم المجتمع بكل مقوماته ومؤسساته إلى قسمين وحزبين؛ لسان حالهم "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، فلم يكن الأمر سجالاً علمياً يصوّبه الدليل، ويزيّنه الأدب، ويحتويه الحلم؛ بل شهوات وشبهات؛ ظلمات بعضها فوق بعض، فإذا نشدت أحدهم الحجة أبلس وخنس، وهيهات أن يعقد لهم مسلم خنصره؛ فإنما هو دين، وما هي إلا جنة أو نار. بل لم يتورع بعضهم من استعمال العبارات الساقطة, والألفاظ النابية، حتى لكأنه يلمز هيئة علمية ينتسب لها كبار أهل العلم بما قد صانهم الله عنه، فما هي إلا كلمات مشاغبة تدل على فكر صاحبها وعلمه وأدبه، وقد قالت العرب قديما «كل إناء بما فيه ينضح»، فما أساء صاحبها إلا إلى نفسه، ولا وصف في قوله إلا شخصه. إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتكلم وإن الإنسان ليعجب من السماح لمثل هؤلاء بالكتابة في صحفٍ سيّارة تتلقفها أيدي الناس، وهم إنما يسعون بخيلهم ورجلهم لهدم المجتمع وتفكيك لحمته وزعزعة قواعده وتفتيت أخلاقه، والشيطان يؤزهم على ذلك أزّاً؛ مصادمين مشاعر الناس في تحدٍّ لرغباتهم وقدحٍ في مسلمات دينهم، فمن لم يزعه خوف أو أدب من الطعن في مؤسسة علمية يسمع صوتها أغلب المسلمين في أرجاء العالم، وينظر لرأيها المجتمع بأسره من حاكم ومحكوم؛ فكيف يُرجى خيره أو يؤمن شره؟ ولسنا في حاجة لسوق كلامهم فقد كرعت بهم الصحف، وبالت وثلطت بسُمّهم الزعاف، كما لسنا بحاجة للتصدي له ورده، فليس فيه مستمسك علمي يعارض بمثله، وإنما هو الخوض في الشريعة وأخلاق المسلمين، وهذا هو المجتمع بحكمه وحاكمه ومحكومه. إلا أنا ندعوهم للقراءة في محاسن الإسلام وحكم تشريعاته ومقاصده، وكيف أنه انتظم الدين والدنيا في نظام شرعي كوني واحد، فهو دين الفطرة الذي أكمله الله لنا ورضيه وأتم به علينا نعمته، فيه من القطرة إلى القنطرة، ومن الجرة إلى المجرة، جمع الدين والدنيا، والأولى والآخرة، والحياة والكون، والسماء والأرض، والبشر والملائكة، والجن والإنس ... ؛ فمن عدّل أو بدّل فإنما خصمه الله. فندعو الجميع بدعوة الله في قوله تعالى: ?وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا? [الأعراف:56] فكل نظام شرعي يخلّ به أشخاص؛ قابله من الفساد الكوني، بقدر ذلك الخلل.

إن مثل هؤلاء الكتبة ممن أمضى قلمه في هدم شرائع الإسلام، والتعدي على حرمات العلم؛ لحري بالعاقل أن يشفق عليهم من أنفسهم، وأن يسعى لتبصيرهم والأخذ بيدهم أو على يدهم؛ قال تعالى: ?أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ? [فاطر:8]. فهذا دين الله وشرعه، وهو حاميه وراعيه. ويا ليت شعري فقد أصبح المسلم وهو يحاول أن يأخذ بأيدي هؤلاء للحق، كأنه إنما يعرض لهم الإسلام ويبين لهم حكمه ومحاسنه، وسبْق المسلمين في كثير من العلوم حين استبْقوا دينهم، وحَمَوه وصانوه وعظّموه، وكيف أن أعظم عصور النهضة العلمية للمسلمين إنما كانت مواكبة لأيام عزهم وصونهم لحمى دينهم وامتثالهم لأحكامه، ولو كلف أحدهم النظر في كتب التاريخ الإسلامي لتجلت له الحقائق، التي خضع لها تاريخ العلوم الغربية، فدونت الشهادات بذلك من أيدي المنصفين منهم. لقد زاوج الإسلام بين العلم والعمل، والحياة والكون، في نظام واحد عجيب، بل كسر الإسلام أصنام الجهل، وحطم أغلال الفكر والنظر، فحث على السير في الكون وتأمل صنع الله وبديع خلقه، وامتن بالتسخير ورغب في البحث والانتفاع، ووعد بتبصير الآيات والشواهد في الآفاق والأنفس، فما أخذت أمة بأسباب العلم والنظر إلا وفتحت لها آفاق من العلم والمعرفة، وإنما كان تخلف المسلمين حين تخلوا عن دينهم، فتولت عنهم دنياهم حين أخلدوا إلى الشهوات وهتك الحرمات. نحن أمة طريق دنياها بدينها، وهذه سنة الله للإسلام الذي ارتضاه وأكمله وأتمه لنا، فحري بمن امتطى هواه وتمنى على الله الأماني، أن يفتش في نفسه وينظر أين الإسلام من قلبه وبيته وزوجه وولده وعمله وماله وقلمه، ثم ليحتكم إلى الإسلام إن كان عاقلا، وليهتف بالدين إن أراد الدنيا، ولا يعمل معوله في دينه لإقامة دنياه، فتزهده الدنيا ويهلكه الدين، فيخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، قال تعالى: ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا? [الكهف:103 - 104]. وقبل بيان الحكم الشرعي لما نحن بصدده، نذكّر أنفسنا وإياهم بمراقبة الله الذي يحصي الأعمال، ونذكرهم بأن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، كما ندعوهم إلى كلمة سواء بيننا وبينهم بأن نحتكم جميعا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ينظر كل كاتب إلى ما كتب؛ أهو لله أم للنفس والهوى. نسأل الله أن يهديهم للحق والصواب، وأن يأخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وأن يكفيهم ويكفي المسلمين شر أنفسهم. وهذا أوان الشروع في بيان الحكم الشرعي للاختلاط، مؤيداً بالدليل الشرعي، مستمداً التوفيق والسداد من العلي القدير: إن الاختلاط محرمٌ شرعا؛ سواءً في التعليم أو العمل، وسائر الاجتماعات الخاصة والعامة، ولا عهد لأهل الإسلام باختلاط نسائهم بالرجال الأجانب؛ والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها: الدليل الأول: قول الله تعالى في سورة النور: ?قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ? [النور:30 - 31]. فهذه الآية محكمةٌ بينةٌ في بيان مقصدٍ من مقاصد الشارع؛ وهو تزكية المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم وحفظ فروجهم.

فإذا نظرنا إلى الاختلاط المنظم الذي يراد منه التقريب بين الجنسين ساعات طويلة وشهور مديدة، (وليس مجرد اجتماع في مكان عام لا لبث فيه سوى لحظات يقضي فيها كل حاجته ويمضي) هل هو محقق لهذا المقصد ومتفق معه أو منافٍ له؟ سيكون جواب المنصف: إن هذا منافٍ له أشد المنافاة، حتى قالت إحدى الغربيات: "إن الاختلاط جريمة في حق الإنسانية", والحق ما شهدت به الأعداء. وقد خلصت دراسة حديثة من جامعة (هارفرد) بأن المدارس النسائية (مقارنة بالمدارس المختلطة) تُحقق أهدافاً تربوية ودرجات عليا في العلوم والقراءة والقيم الذاتية, وتغيب المشاكل السلوكية والعلاقات بين الجنسين، والتخلف عن الحضور وغير ذلك. وهذا ما يراد لنا أن نكتشفه ولكن بعد التجربة العملية والتضحية بالكثير، مع الإغماض عن التجارب والدراسات الحديثة؛ فضلاً عن اطراح الأحكام الشرعية والآداب المرعية. والله المستعان. الدليل الثاني: قول الله تعالى: ?وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ? [النور:31]. إن من كمال الشريعة السمحة عدم التفرقة بين المتماثلات وعدم الجمع بين المتنافيات، وكل مسلم صحيح الديانة، مستقيم العقل، سليم القلب؛ يعرف حكم الاختلاط بمجرد تأمله هذه الآية الكريمة. فهل يظن عاقل أن الشارع الحكيم ينهى المرأة لابسة الخلخال من تحت الثياب أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع الرجال حسه، ثم يبيح لها أن تجلس معه وتدرس بجواره مع ما يصاحب ذلك (ولا بد) من سماع صوتها، ورؤية شيء من جسدها، وربما الاحتكاك بها؟ إن الشارع منزّه عن ذلك من غير شك والحمد لله. الدليل الثالث: في العلم والتعليم؛ فقد أخرج البخاري (101) ومسلم (2633) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال, فاجعل لنا يوماً من نفسك. فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار). فقالت امرأة: واثنتين؟ فقال: (واثنتين). وهذا يفيد أن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام في التعليم بلا اختلاط؛ وإلا لما قالت النساء ما قلن. ولو كان ذلك جائزاً لما تأخر نساء الصحابة عن تلقي العلم، ولما طالبن بمجلسٍ يخصهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهن من هن في الحرص على الخير. ولذا كان تبويب البخاري رحمه الله على هذا الحديث: (باب: هل يجعل للنساء يوماً على حِدة في العلم). الدليل الرابع: في التعليم أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (98) من حديث ابن عباس, أن صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال فظن أنه لم يُسمع النساء, وفي رواية: (ثم أتى النساء, فوعظهن وأمرهن بالصدقة ... ). وقد بوّب عليه: (باب عظة الإمام النساء وتعليمهن). وهذا يدل على أن مجلس النساء متميزٌ عن الرجال وخاصٌ بهن. الدليل الخامس: في الصلاة والانصراف منها؛ فقد أخرج البخاري (870) من حديث أم سلمة قالت: كان صلى الله عليه وسلمإذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم, قال: (نُرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال). قلت: والقائل هو ابن شهاب، كما في (837، 849)، وهذا الذي قاله قالته قبله راوية الحديث أم سلمة رضي الله عنها، ففي رواية في صحيح البخاري (850) قالت: كان يسلم، فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتبين أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان من أجل انصراف النساء قبل الرجال؛ لئلا يؤدي هذا إلى اختلاط الرجال بالنساء.

مع أن وقت الانصراف من الصلاة قصير, فأين هذا من اختلاط الشباب والفتيات لساعات عديدة وأشهر طويلة؟ الدليل السادس: في الصلاة أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (872) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يصلي الصبح بِغَلَس، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يُعرفن من الغلس، أو لا يعرف بعضهن بعضاً. وقد بوّب عليه: (باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد). فهذا يفيد أن النساء كن ينصرفن فور انتهاء الصلاة, لذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "لا يُعرفن من الغلس" ولم تذكر الرجال؛ لأنهم يمكثون حتى تنصرف النساء. الدليل السابع: في الصلاة أيضاً؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بترك باب في المسجد خاص بهن لدخولهن وخروجهن: قال أبو داود (462): (باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال): عن عبد الله بن عمرو وأبو معمر، عن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء). قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وقال غير عبد الوارث: " قال عمر"، وهو أصح. حدثنا (463) محمد بن قدامة بن أعين، عن إسماعيل، عن أيوب، عن نافع قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بمعناه. وهو أصح. اهـ من أبي داود. قلت: يعني أن الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر رضي الله عنه. وقد أخرجه في موضع أخر (571) فقال: (باب التشديد في ذلك) , وقد بوب قبل ذلك: (باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد) وذكر حديث عائشة (569) رضي الله عنها: لو أدرك صلى الله عليه وسلمما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منع نساء بني إسرائيل. ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود (570) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها). ثم روى أبو داود (464) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير، عن نافع قال: (إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يُدخل من باب النساء). قلت: رواية عبد الوارث أخرجها الطبراني في الكبير والأوسط, وأبو نعيم في أخبار أصبهان, والباغندي في أماليه, وابن بشران؛ جميعم من طريق عبد الله بن عمرو. وأما ما يتعلق بالترجيح بين الروايتين؛ فعبد الوارث وابن علية متقاربان في أيوب, فكلامهما من كبار الحفاظ, لذا قدم بعض الحفاظ ابن علية، وقدم آخرون عبد الوارث, وأما رواية: بكير (وهو ابن الأشج) عن نافع أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء، فليست صريحة في أن عمر هو الذي أمر بذلك,؛ إذ هي محتملة أن يكون الذي أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتنفيذا لذلك كان عمر رضي الله عنه ينهى أن يدخل الرجال من باب النساء. وإذا كان الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر رضي الله عنه, فهو من الخلفاء الراشدين الذين أمر عليه الصلاة والسلام بالعمل بسنتهم, فقال في الحديث الصحيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي). ومن المعلوم أن القرآن الكريم كان ينزل بموافقة عمر رضي الله عنه, ولذا كان عليه الصلاة والسلام يستشيره في الأمور, وفي هذا الخبر أن ابن عمر عمل بذلك فلم يدخل من هذا الباب الذي خصص للنساء حتى توفاه الله عز وجل. وفي هذا الحديث مشروعية جعل أبواب خاصة للنساء في المساجد, ويلحق به دور التعليم والعمل وغيرهما. والحكمة في ذلك ظاهرة؛ وهي ألاّ يختلط الرجال بالنساء، مع أن مدة الدخول والخروج قصيرة, فكيف إذا كان هذا الاختلاط في أوقات طويلة؟ ويلاحظ أن في صلاة النساء مع الرجال عدة أمور:

أولاً: الأولى بالمرأة أن تصلي بالبيت، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث، منها قول صلى الله عليه وسلم: (وبيوتهن خير لهن)، مع أن الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام عن ألف صلاة، ولا يستثنى من ذلك إلا صلاة العيدين، فقد جاء الحث للنساء بالصلاة في المصلى، وهما لا يقعان إلا مرتين في العام. ثانياً: إذا خرجت المرأة إلى المسجد فعليها أن تخرج بدون أن تتطيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليخرجن تفلات)، ويدخل في ذلك الثياب الحسان ونحو ذلك مما يكون سبباً للفتنة. قال أبو محمد بن حزم: (ولا يحل لهن أن تخرجن متطيبات ولا في ثياب حسان ... ). وقال ابن كثير: (يجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال، بظهور زينة ولا ريح طيب). وقال ابن دقيق العيد: (فيلحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا فما أوجب هذا المعنى التحق به). ثالثاً: تخصيص باب لهن يدخلن منه ويخرجن، حتى لا يختلطن بالرجال. رابعاً: أنهن يصلين خلف الرجال، ولا يختلطن بهم؛ بل الأفضل لهن أن يبتعدن عن صفوف الرجال قدر الإمكان، لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها). وهذا يؤكد حرص الشارع على عدم اختلاط النساء بالرجال، وقد وصف مجرد قرب النساء للرجال بالشر؛ فكيف بالمخالطة؟ لا شك أنها شرٌ من باب أولى. خامساً: أنهن إذا صلين مع الرجال، فعليهن أن ينصرفن مباشرة بعد انتهاء الصلاة إلى بيوتهن، وأما إمام المسجد ومن معه من الرجال، فينتظرون قليلاً حتى ينصرف النساء، كما سن لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذه الأمور الخمسة أدلتها ظاهرة. وهناك أمر سادس اختلف فيه: وهو شهود النساء للصلاة في المساجد، هل هو خاص بالصلوات الليلة لكون الليل أستر لهن، أم أنه يشمل صلاة النهار أيضا؟ لأنه إذا أبيح لهن أداء صلاة الليل في المساجد، فتكون صلاة النهار من باب أولى، فيه خلاف بين أهل العلم. فأين هذا مما نحن بصدده من جلوس الشباب والشابات في مقاعد الدراسة مختلطاً بعضهم بالبعض الآخر، وينظر أحدهم إلى الآخر، ويتحدث بعضهم إلى بعض، ولذا لا يعرف هذا في الإسلام. الدليل الثامن: في البيعة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس في معزلٍ عن الرجال؛ وقد بوب البخاري في صحيحه فقال: (باب: بيعة النساء، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم). الدليل التاسع: في الطُرُقات والأسواق؛ فقد أخرج أبو داود (5272) من حديث: عبد الله بن مسلمة، عن عبد العزيز (بن محمد الدراوردي)، عن أبي اليمان (الرحال)، عن شداد بن أبي عمرو بن حِماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه أنه سمع صلى الله عليه وسلميقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق؛ فقال صلى الله عليه وسلمللنساء: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق)، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. قلت: وشداد فيه جهالة. وخالف شداد؛ الحارث بن الحكم، فرواه (كما عند الطبراني والبيهقي في الشعب) عن أبي عمرو بن حماس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء سراة الطريق). قلت: وهذا منقطع، والحارث فيه جهالة.

وللحديث طريقٌ أخرى صححها ابن حبان (5601)؛ من حديث: مسلم بن خالد (الزنجي)، عن شريك بن أبي نمر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء وسط الطريق). قلت: ومسلم بن خالد الزنجي من مشاهير الفقهاء في زمانه، حتى قال إبراهيم الحربي: كان فقيه أهل مكة. وكان من أهل الفضل كما قال ابن سعد: كان فقيهاً عابداً يصوم الدهر، وكان كثير الغلط في حديثه. قلت: إنما تكلموا فيه لسوء حفظه كما قال ابن سعد. والحديث بمجموع طريقيه فيه قوّة؛ وله شواهد من حيث المعنى، كما في حديث أم سلمة المتقدم. الدليل العاشر: ما جاء في الصحيحين (البخاري 1088، ومسلم 1339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها)، وفي رواية: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم). الدليل الحادي عشر: ما جاء في الصحيحين أيضاً (البخاري 1862, ومسلم 1341) مرفوعا: (لا يخلو رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم, ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلق فحج مع امرأتك). والحكمة في هذا ظاهرة، وهي الحفاظ على المرأة لئلا تحتاج إلى الرجال الأجانب في قضاء حوائجها أثناء السفر, فتختلط بالرجال فإذا كان معها محرم منها فسيكفيها ذلك. الدليل الثاني عشر: ما رواه البخاري (5240, 5241) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها). وأخرجه أحمد (36092) والطبراني في الكبير (10247) بلفظ: (لا تصفن المرأة لزوجها المرأة كما ينظر إليها). ووجه الشاهد من هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى النساء أن يصِفن لأزواجهن النساء الأخريات؛ كأنهم ينظرون إليهن, وذلك خشية الفتنة. فإذا كان وصف المرأة للأخرى بحضرة الرجال الأجانب لا يجوز؛ فمن باب الأولى عدم جواز اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات عنهم؛ لأنهم والحالة هذه لا يحتاجوا إلى وصف هؤلاء النسوة؛ لاختلاطهم بهن ونظرهم إليهن, وهذا أبلغ في الفتنة من الوصف؛ فأيهما أولى بالتحريم؟ الدليل الثالث عشر: ما جاء في الصحيحين (البخاري 2035، ومسلم 2175) في قصة صفية بن حيي عندما زارت صلى الله عليه وسلمفي معتكفه فقام معها ليوصلها إلى حجرتها فمر في أثناء ذلك رجلا من الأنصار فأسرعا لكي يبتعدا عن أهل صلى الله عليه وسلمفقال: (على رسلكما إنها صفية) فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا). والشاهد من هذا: أن الرجلين الأنصاريين عندما رأيا صلى الله عليه وسلموأهله, ابتعدا؛ مع أن الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على الإتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, والسلام عليه والجلوس معه, فما منعهم من ذلك إلا أهله. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما) ليس لعدم مشروعية هذا الفعل, وإنما دعاهم إلى عدم الإسراع حسب, وأن التي معه هي زوجته لئلا يقذف الشيطان في قلوبهما شيئا؛ كما بين ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام, وهذا يدل على أن المتقرر عندهم أن الرجل يبتعد عن النساء الأجنبيات. الدليل الرابع عشر:

في الحج والطواف، مع أن هذه العبادة العظيمة تختلف عن باقي العبادات بسبب كثرة الناس فيها واجتماعهم في أماكن معينة وفي وقت واحد, ومع ذلك منع الإسلام من الاختلاط فيها. أخرج البخاري (1618) من حديث ابن جريج أخبرني عطاء (إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال) قال: كيف يمنعهن؟ وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يُخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجْرَةً مع الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: "عنك"، وأبت. وكن يخرجن متنكراتٍ بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهنّ كن إذا دخلن البيت؛ قمن حتى يدخلن وأُخرِج الرجال. وكنت آتي عائشة، أنا، وعبيد بن عمير، وهي مجاورة في جوف ثبير. قلت: وما حجابها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاء، وما بيننا وبينها غير ذلك، ورأيت عليها درعا مورّداً. اهـ وهذا ظاهر أن الاختلاط في عهد الصحابة غير جائز، وأنهم يأمرون بالمنع منه. ومعنى (حجْرَة) أي: معتزلة الرجال, وفي رواية: (حجزة) وهي رواية عبد الرزاق؛ فإنه فسره في آخره فقال: "يعني محجوزاً بينها وبين الرجال بثوب". وقوله: (فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: "عنك"، وأبت). دليلٌ على أن اختلاط الرجال بالنساء لو كان جائزاً؛ لما امتنعت عائشة رضي الله عنها وهي أم المؤمنين وأفقه النساء, وأبت أن تستلم الحجر الأسود مع المرأة، مع فضل استلام الحجر الأسود. وقوله: (قلت: وما حجابها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاء). دليل على احتجابها وابتعادها عن الرجال وعدم اختلاطها بهم. فمن يجرؤ بعد هذا أن ينكر أن الاختلاط مصطلح شرعي، له حكمه الواضح البين؟ وقوله (يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال) أي كن يؤخرن طوافهن إلى الليل؛ لأن الليل أستر لهن، ومن المعلوم أنه لم يكن هناك مصابيح كما هو الآن، ومع ذلك كله كنّ متنكرات أي مستترات، كما في رواية عبد الرزاق, وإذا أردن أن يدخلن البيت أي (الكعبة) خرج الرجال, وهذا يدل على أن ذلك ليس خاصاً بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر النساء عموماً, وتقدم أن عائشة أنكرت على المرأة ولم تذكر لها إن هذا الفعل خاص بها، ومن المعلوم أن قول الصحابي الموافق لقواعد الشرع لا يمكن ادعاء الخصوصية فيه. ووقع في رواية الفاكهي: كن إذا دخلن البيت سُترن، أي ستر النساء عن الرجال وهذا زيادة على احتجابهن باللباس وكونهن يفعلن ذلك في الليل, ولذا قال ابن حجر في شرح تبويب البخاري على هذا الحديث (1619): " (باب طواف النساء مع الرجال) أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن"اهـ. قلت: والذي دل عليه الدليل هو الثاني، أي أن يطفن على حدة بغير اختلاط؛ لأن انفرادهن بالمسجد وإخراج الرجال منه لا يمكن, واختلاط الرجال بالنساء قد نفاه الراوي فلم يبق إلا الأمر الثاني وهو أن يطفن على حده من غير اختلاط. ولذا في الحديث الثاني الذي أورده البخاري تحت هذا الباب, وهو حديث أم سلمة عندما قالت: شكوت إلى صلى الله عليه وسلمأني أشتكي, فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) , وهذا أبلغ من الذي قبله, فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تطوف من وراء الناس, أي الرجال؛ لئلا تخالطهم, مع أن القرب من البيت أثناء الطواف أفضل وأرفق بها؛ لأنها شاكية, ومن المعلوم أنها كلما ابتعدت ستطول عليها مدة الطواف, ومراعاةً لشكواها أمرها أن تركب. قال ابن حجر: "وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ولا تقطع صفوفهم أيضا, ولا يتأذون بدابتها"اهـ. الدليل الخامس عشر:

قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ? [الأحزاب:59]. فبعض من في قلبه مرض لا يدع المرأة المارة في الشارع أو السوق في حالها، بل يتعرض لها بكلام أو غير ذلك، فكيف إذا جلست بجواره وربما خلت به في ما بين المحاضرات وفي ساعات العمل والتدريب المشترك الذي سيفرضه جو الدراسة المختلط؟ ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء. الدليل السادس عشر: قوله تعالى: ?وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا? [الإسراء:32]. وتأمل قوله تعالى (ولا تقربوا)؛ فلم يقل (ولا تفعلوا)؛ فكل سبيل موصل له فهو مُحرّم. ومما يقرّب للزنى: اختلاط الشباب بالفتيات الساعات الطوال، فبهذا تتهيأ أجواء الفتنة، وتنتظم بيئة المنكر، والشيطان مع هذا يرتع؛ فلا تسل بعدُ عن العلاقات المحرمة بين الجنسين، والله يعصم عباده. الدليل السابع عشر: ما قصّه الله عز وجل من قصة موسى عليه السلام مع ابنتي شيخ مدين؛ قال تعالى: ?وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ? [القصص:22 - 23]. ويفهم من هذه الآية أنه لو كان اختلاط الفتاتين بالرجال أمراً جائزاً؛ لسقين الماء لمواشيهن، مع الرجال الرعاء، ولم ينتظرن حتى يذهبوا بمواشيهم. والله أعلم. الدليل الثامن عشر: ما قصّه الله عز وجل من قصة يوسف عليه السلام مع امرأة عزيز مصر؛ قال تعالى: ?وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ? [يوسف:23]. قلت: ولو لم يكن هناك اختلاط بين المرأة ويوسف عليه السلام، وتهيئة الأجواء لذلك؛ لما تجرأت على المراودة. الدليل التاسع عشر: ومن الأدلة الواضحة البينة في منع اختلاط الرجال بالنساء - وهو خلاصة ما تقدم من الأدلة - قوله عز وجل: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى? [الأحزاب:33]. وهي آية خوطب بها أطهر وأشرف نساء الأمة، وفي ذلك تنبيه على شمول حكمها لكل نساء المسلمين، إما بدلالة اللفظ؛ فيكون من مفهوم الموافقة، أو على الأقل من باب المعنى؛ فيكون قياساً جلياً، وكلاهما حجة، وليس لادعاء الخصوصية فيها نظر صحيح مستقر أو سلف معتبر, والحكمة من الأمر بقرار المرأة في البيت: حفظها وإبعادها عن مخالطة الرجال الأجانب. الدليل العشرون: قوله تعالى: ?وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ? [الأحزاب:53]. ويفهم من هذا بطريق الأولى أن انعزال النساء وعدم اختلاطهن بالرجال الأجانب؛ أطهر للقلوب، وأبعد عن الريبة، ومواطن الفتنة. الدليل الحادي والعشرون:

قوله تعالى: ?قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ?. [النور:30]. وقد أخرج مسلم في صحيح (2159) من طريق أبي زرعة عن جرير بن عبد الله قال: سألت صلى الله عليه وسلمعن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري. وإذا تأمل العاقل في البيئة المختلطة بين الشباب والفتيات؛ يعلم أنها من أبعد ما يحقق هذا الأمر الشرعي بغض البصر وحفظ الفرج. الدليل الثاني والعشرون: ما جاء في قصة الإفك، فقد أخرج الشيخان (البخاري 2661 مسلم 2770) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان صلى الله عليه وسلمإذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأقرع بيننا فخرج سهمي، فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه، حتى إذا فرغ صلى الله عليه وسلممن غزوته تلك ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقدٌ لي قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ... ) الحديث. قلت: والشاهد من هذا هو ابتعاد الرجال عن النساء كما في هذه القصة، فكان الذين يرحلون الهودج يبتعدون عنه جدا، من أجل ركوب النساء فيه، ولذا لم يعلموا أن عائشة رضي الله عنها لم تكن في الهودج؛ بل ظنوا خلاف ذلك، وذلك لبعدهم. فإذا كان هذا في حال ركوب المرأة وهو وقت قصير جدا، ومع ذلك يبتعدون عنها، فكيف يجوز الاختلاط في مقاعد الدراسة!. الدليل الثالث والعشرون: ما أخرجه البخاري (5232) ومسلم (2172) من حديث زيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر؛ أن صلى الله عليه وسلمقال: (إياكم والدخول على النساء). فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت). وإنما شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحمو بالموت؛ لأن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه، والفتنة تحصل به أكثر من غيره؛ لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن يُنكر عليه بخلاف الأجنبي. وهذه الصفة التي في الحمو (قريب الزوج)؛ موجودة بعينها في الزمالة في التعليم، فالزميلة تتباحث مع زميلها، فتذاكره ويذاكرها، ويخلو بها من غير التفات نظر؛ لأنه زميلها وشريكها في دروسها فهو موت كما ترى, وأما ما يثار من قبل البعض من أنه يحصل خلط بين أدلة تحريم الخلوة وبين الاختلاط ,فنقول أن هذا مجانب للصواب, وأدلة الاختلاط مستقلة كالتي ذكرنا , وإنما تورد أدلة الخلوة كون الاختلاط سبب لها , فليس ثمة ذريعة توصل للخلوة أعظم من الاختلاط المنظم كالذي يحصل في الجامعات والمدارس ونحوها. الدليل الرابع والعشرون: سد الذريعة الموصلة إلى فاحشة الزنا، وهذا واجب بإجماع المسلمين وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة. ومن المعلوم للمتابع؛ أن اختلاط الجنسين يفتح الباب على مصراعيه لذريعة الزنا، ولا ينازع في ذلك إلا من مكابر، أو بعيد عن الواقع. وقد سئل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذه المسألة بعينها، فقال: (حضرة الأخ المكرم رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت حفظه الله ووفقه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد وصلنا خطابكم رقم 35 في 27 محرم 1389هـ تسألون فيه عن حكم الشرع في اختلاط الجنسين في الدراسة الجامعية وما يترتب على ذلك من المفاسد. والجواب عما سألتم عنه وفقنا الله وإياكم: أن من الغريب أن يوجد في أمة مسلمة عربية اختلاط الجنسين في الجامعات والمدارس مع أن دين الإسلام الذي شرعه خالق السموات والأرض على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يمنع ذلك منعا باتا والشهامة العربية والغيرة الطبيعية العربية المملوءة بالأنفة تقتضي التباعد عن ذلك وتجنبه بتاتا، وتجنب جميع الوسائل المفضية إليه، وسنذكر لكم في جواب سؤالكم وفقنا الله وإياكم طرفاً من الأدلة القرآنية والسنة النبوية، ثم نشير إلى شهامة الجنس العربي وابتعاده عن التلبس بما لا يليق، ولو لم يكونوا مسلمين ... ) إلخ. (ينظر تتمة الجواب في رسالة الاختلاط (ص153) المطبوعة ضمن آثار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى) هذا وأشكر طلابي الذين ساهموا في هذه الفتوى, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

درس عملي في المحكم والمتشابه

درس عملي في المحكم والمتشابه الاختلاط أنموذجاً منصور بن حمد العيدي يُشكِّل الحديث عن المحكم والمتشابه في هذه السنوات الأخيرة أهمية فائقة؛ لأننا نعيش وبامتياز ظاهرة الاستدلال بالمتشابه والإعراض عن المحكم، أو على الأقل محاولة تخريج النصوص المحكمة بأي نوع من أنواع التخريج بغية إبعادها عن ساحة الحكم بين الناس، وبالتالي إقصاء دلالتها عن التأثير في عموم المسلمين، ممّا يُمهِّد لإشاعة أي فكر منحرف في أوساطهم، لكون ما يحميهم من النصوص المحكمة في الكتاب والسنة قد أصبح وراء الظهور. لا يخفى على المشتغلين بالعلم الشرعي أن من أنواع المتشابه: النصوص التي تحتمل معنى لا يكون مراداً للشارع الحكيم. ولمّا كان الخصوم في المسائل كلُ يدّعي أن ما معه من النصوص مُحكم وما عند خصمه متشابه، اقتضى الحال أن يُبيّن بالمثال كيف يُعرف هذا النوع من المتشابه الذي هو أكثر الأنواع شيوعاً في هذا العصر. وليكن أمر الاختلاط الذي أوجد فيه بعض الناس اليوم خلافاً في حكمه. فسأذكر دليلاً واحداً لمانعيه وآخر لمبيحيه بغرض تجلية الأمر. روى أبو داوود وغيره عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء: ((استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق (أي: ليس لكن أن تسرن وسطها) عليكن بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. هذا النص الذي أمامك دلالته وموضوعه الأصلي هو: الأدب الذي ينبغي أن تتحلى به المرأة وهي في الطريق ألا وهو: البعد عن الرجال، ولهذا ترى أبو داود يبوب عليه باب مشي النساء مع الرجال في الطريق. والتوجيه النبوي لا لبس فيه، صريح في دلالته: الأمر بلزوم النساء حافة الطريق إذا كان ثمة رجال، ولوضوح التوجيه النبوي كان امتثال الصحابيات رضي الله عنهن مباشراً دون استفصال. والتعليل لهذا الأمر النبوي منصوص عليه: حصول الاختلاط (فاختلط الرجال مع النساء). ولوضوح هذه المعطيات لن يتردد طويلب العلم فضلاً عن المجتهد باستخلاص نتيجة هي: وجوب ابتعاد النساء عن الرجال في الطرقات، وإنما تنحاز المرأة إلى حافة الطريق فيكون بينها وبين الرجال مسافة يصح معها حينئذٍ أن يُقال أنها غير مختلطة بهم. وهذا الحكم مُفاد من النص بطريق المطابقة. ويستطيع الفقيه بعد ذلك باستخدام عموم المعنى أو قياس الأولى أن يستنبط منع الاختلاط في غير الطرقات؛ فإنه إذا منع منه أشرف الناس بعد الأنبياء، في الطريق العابر، في الوقت القصير، في وضح النهار، مع وجود الحجاب، حالة الخروج من أطهر البقاع، بعد أشرف العبادات العملية: فمن باب أولى أن يمنع في أماكن المكث الطويل في أزمان الريب، والبعد عن الحجاب، وضعف الإيمان. كل هذا لأنه (أي الفقيه) أمام نص لا يحتمل اللبس إلا على جهة المكابرة والسفسطة، وبالتالي لا يمكن بحال وصف هذا النص بالمتشابه، بل هو من الإحكام بمكان. أما المجيزون فإنهم يستدلون على إباحته بما رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري: (قال النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ فقال واثنين). فهذا النص عند المجيزين محكم في إباحة الاختلاط. وأقول بل هو في أمر الاختلاط في أحسن أحواله من المتشابه، إن لم يقل قائل: أنه لا تعلق له به البتة.

وبيان ذلك أن دلالة الحديث الأصلية في شقه الأول هي: طلب النساء للعلم الشرعي وتخصيصهن بذلك دون الرجال، ولهذا ترى البخاري يبوب عليه فيقول: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم. فإذن ليس هو في حكم الاختلاط ابتداء - وهذا ليس بشرط للإحكام ولا لعدمه ولكنه قرينة - بخلاف النص الأول فإنه في أمر الاختلاط ابتداء وهذا على كل حال وجه ترجيح لا ينبغي إغفاله. كما أنه من المحتمل أن تكون هذه الحادثة قبل فرض الحجاب أصلاً. وليس في النص دلالة على عدم وجود الحجاب بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين النساء رضي الله عنهن. والفارق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين بقية الرجال من جهة التقوى والعصمة وغض البصر وغير ذلك لا ينكر الأمر الذي يصعب معه الاقتداء، والحكم بالجواز، هذا لو سُلِّم كل ما تقدم. وقد يقلب المانعون ظهر المجن للمجيزين فيقولون لهم: هذا النص دليل على منع الاختلاط لا إباحته. وبيان ذلك أنه لو كان الاختلاط جائزاً، وكان هو الأصل لكان حال النساء في الأخذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسؤاله كحال الرجال، فلم يكن هناك غالب ومغلوب، (وهو ما يحدث في مقاعد الدراسة المختلطة) ولقيل لهن: تعالين وساوين الرجال في مكانكن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو اجلسن بين ظهراني الرجال، أو تقدمن عليهم. ولا شك أن هذا يتضمن توفيراً للوقت وللجهد، قائد الأمة بأمس الحاجة إليه - صلى الله عليه وسلم -. كما أن ما ذكر في الحديث في شأن من فقدت أولاداً يشمل الرجال والنساء فهو ليس شأناً نسائياً محضاً فيقال تخصيص النساء لهذا السبب. وبالجملة فهذا النص هو إلى منع الاختلاط أقرب منه إلى إباحته، نعم لكنه ليس في صراحة النص الأول للمانعين، وهو - فيما يتعلق بأمر الاختلاط - من المتشابه الذي يجب أن يُردّ إلى المحكم، وصدق شيخ الإسلام حين ذكر أن ما يستدل به أهل البدع من المتشابه يكون فيه ما يُردُّ به عليهم. لكنهم في غمرة البحث عن دليل يسعفهم يضلون عن التنبه لما يَرِدُ عليهم. وأحسب أن القارئ الكريم قد ظهر له بالمثال شيئاً من كيفية تمييز النصوص المتشابهة، فليكن هذا منه على بال فإن كثيراً من الاستدلالات المعاصرة هي من هذا القبيل. وإنه لمن المخجل محاولة التشغيب في أمر الاختلاط في الوقت الذي يحكي فيه العلماء الإجماع على حرمته، فهذا أبو بكر العامري يؤلف رسالة في الرد على بعض مدّعي الزهد ممّن أباح لنفسه النظر للنساء وجمع الرجال والنساء في مجلس واحد بزعم أنه لا بأس في ذلك في مجلس الذكر! فيقول: (ثم قد اتفقت علماء الأمة أن من اعتقد حل هذه المحظورات وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب فقد كفر واستحق القتل بردته، وإن اعتقد تحريمه وفعله وأقر عليه ورضي به فقد فسق لا يُسمع له قول ولا تقبل له شهادة فضلاً عن أن يُظن به ز هادة أو عبادة ... ) ثم يُبيّن المفاسد في هذا الأمر فيقول: (فيه معاصٍ لا تُحصى منها أنه إذا اختلط الرجال بالنساء وجمعهم موضع واحد ونظر بعض إلى بعض وقع في قلب الرجل شيء من المرأة وفي نفس المرأة شيء من الرجل ... ) إلخ. ويبيّن العامري: أنه يحرم على السلطان إقرار مدّعي الزهد إغواءه (الشباب ... وبعض النسوان بالاجتماع في مجلس واختلاط بينهم في عشرة أو سماع بنفوس جاهلة وقلوب غافلة ... وليس هناك وازع من دين أو علم أو تقوى ويوهمهم ذلك الشيخ الملبّس ما أوهمه إبليس أن القلب سليم وليس فيه غش ولا معصية فلا يضر هذا الحضور والاجتماع). وما بين الأقواس من كلامه. أحكام النظر إلى المحرمات ص 81 - 84.

ومن قرأ هذا الكلام قال: ما أشبه الليلة بالبارحة. فمبيحي الاختلاط الآن كأضرابهم في السابق يخدعون أنفسهم بالقلوب السليمة والمجالس المحفوفة بالوقار المشغولة عن الفتنة بالعلم. وما الأمر إلا تلبيس إبليس، وإلا فإن أئمة الإسلام يؤكدون على ضرورة البعد بين الجنسين حتى في البلد الحرام وبجوار الكعبة المشرفة، وفي هذه يقول ابن جماعة عن المرأة: (ولا تدنو من البيت مخالطة للرجال). كما اشترط لفعل المرأة سنن الطواف: (إذا لم تفض إلى مخالطة الرجال) و (هذا ممّا لا يكاد يُختلف فيه). هداية السالك 2/ 864. هذا رأي أئمة الإسلام في شأن الاختلاط في أطهر البقاع مع الحجاب، فماذا يكون رأيهم عن الاختلاط مع اختلاف الدين، ونزع الحجاب، في وقت اعتبار ممارسة الفاحشة حرية شخصية؟ وعند ذلك هل يكون هناك محل للإباحة؟ وهل الأمر إلا مجرد استدلال بالمتشابه؟ عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}. قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم). متفق عليه.

توضيح المبهمات في مسألة كون جدة ميقات

توضيح المبهمَات في مسألة كون جدة ميقات د. عبد الله بن منصور الغفيلي الحمد لله وصلاة وسلاما على رسول الله، أما بعد: فهذا بحث مختصر جمعته منذ بضع سنوات، وفي كل مرة تحول دون مراجعته المهمات، وقد تجدد العزم لتحريره وحل مافيه من إشكالات، فكان الرأي أن يطرح هكذا بين أيديكم، لعله يحظى برأيكم وتعديلكم، لاسيما وقد أقبل موسم الحج، لا حرم الله كل مجتهد أجره، وأكرمه وأسبغ عليه فضله، آمين. الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أشكره شكر عبد معترف بالتقصير عن شكر نعمه وأفضاله، وأشهد أن لاإله الاالله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد. فلقد ظهر في الآونة الأخيرة خلاف بين بعض أهل العلم حول اعتبار مدينة جِدة ميقاتاً مكانياً لأداء مناسك الحج والعمرة مع اتفاقهم على أنها ميقات لأهلها ولما كانت تلك المسائل من مهمات المسائل لمسيس الحاجة إليها، مع كوني لم أقف فيها على بحث يجمع متفرقها ويبين مشتبهها (¬1)، وإن كنت لا أزعم أنني سأصنع ذلك ببحثي هذا، بل هو إشارات يستضاء بها وعلامات يهتدي بها، إذ المقام يقتضي الاختصار وإلا فهي من المسائل الكبار، وإنما رغبت على إيقاف القاري الكريم على أطرا ف المسألة ووسطها فأقول مستعيناً بالله متوكلاً عليه: أولا: لقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال وسبب خلافهم هو اختلافهم في تفسير المحاذاة وتطبيق معناها على مدينة جدة. فمن قال بأنّ مدينة جدة محاذية لميقات الجحفة أويلملم فإنه يعتبر مدينة جدة ميقاتاً، ومن لا فلا، ومن قال إن معنى المحاذاة هي كونه الموضوع المحاذي واقعاً بين ميقاتين على خط واحد قال إن مدينة جدة ميقات، ومن لم يفسرها بذلك فلا يعتبر جدة ميقاتاً (¬2). ولذا فإنه يجدر التقديم بتعريف المحاذاة لغة واصطلاحاً فأقول: إن المحاذاة في اللغة كما قال في القاموس: من حاذاه أي آزاه والحذاء الإزاء الخ .. " (¬3). وقال في اللسان: جاء الرجلان حذيتين أي كل واحد منهما إلى جنب صاحبه " (¬4) وقال في المصباح حذوته أحذوه حذواً وحاذيته محاذاة هي الموازاة، وحذوت النعل بالنعل قدرّتها بها وقطعتها على مثالها وقدرها " (¬5). ¬

(¬1) لم أتعرض في هذا البحث لتعريف الإحرام وحكمه، وتعريف المواقيت وأقسامها وأفرادها، وذلك لضيق المقام واختصار البحث وبحث كثير من هذه المسائل ووضوحها وإني لا أعني بذلك أن المسألة لم تبحث بل قد ألفت فيها عدة بحوث ورسائل قد أفدت منها فمن ذلك 1 - أدلة إثبات ان جدة ميقات لعدنان بن محمد آل عرعور. 2 - وقد ردّ عليه الدكتور إبراهيم الصبيحي في القسم الثاني في كتابه المسائل المشكلة في مناسك الحج والعمرة. 3 - جواز الإحرام في جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية لعبد الله بن زيد آل محمود. 4 - المختصر في حكم الإحرام من جدة. 5 - فتوى لهيئة كبار العلماء في السعودية في أن جدة ليست ميقاتاً. 6 - وقرار المجمع الفقهي الإسلامي الثاني بتاريخ 10/ 04/1402هـ في الدورة الثالثة ج3 ص (1611). 7 - وفتوى لمصطفى الزرقا في فتاويه ص187. 8 - الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي لمحي الدين قادي. 9 - دفع الشدة يجوز تأخير الأفاقي الإحرام إلى جدة " لجعفر بن أبي اللبني الحنفي. وغيرها في البحوث المنشورة العدد الثالث، الجزء الثالث من مجلة مجمع الفقه الإسلامي (¬2) وإن كان جماهير أهل العلم فيما فهمت من كلامهم يعتبرون اتحاد الجهة في المحاذاة خلافا للحنفية في قول عندهم. (¬3) القاموس المحيط للفيروز أبادي ص1643،. (¬4) لسان العرب لابن منظور14/ 169 (¬5) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي 1/ 126

فيتضح بذلك أنّ المحاذاة في اللغة تعني الإزاء والمماثلة والمساواة. والمحاذاة اصطلاحاً: هي أن تكون مسافة المحاذي والمحاذي به من الحرم سواء كما ذكره ابن الأثير (¬1) ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن المحاذاة هي أن يكون بعد المحاذي والمحاذي في البيت واحداً (¬2). وقال ابن حجر في قوله صلى الله عليه وسلم: (انظروا حذوها) أي اعتبروا ما يقابل الميقات من الأرض التي تسلكونها. (¬3) ولم أقف على مخالف من أهل العلم المتقدمين في تفسير المحاذاة (¬4). ثانيا: الخلاف في اعتبار مدينة جدة ميقاتاً مكانياً: اختلف أهل العلم المعاصرين (¬5) في هذه المسألة على أربعة أقوال: القول الأول: إن مدينة جدة ميقات مكاني مطلقاً فيجوز للقادم من جميع الجهات أن يحرم من جدة سواء كان قدومه براً أو بحراً أو جوّاً. وممن قال بهذا القول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس محاكم قطر (¬6) والشيخ عدنان عرعور (¬7). القول الثاني: إن جدة ميقات القادمين بالطائرة جوّاً وبالسفينة بحراً. وممن قال به الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والدكتور محمد الحبيب بن الخوجه والشيخ عبد الله كنون من المغرب، والشيخ عبد الله الأنصاري من قطر، ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف في تصحيحها لفتوى جعفر بن أبي اللبني الحنفي بجواز تأخير إحرام الأفاقي إلى جدة وغيرهم (¬8). القول الثالث: إنّ جدة ليست ميقاتاً إلا للقادم من غربها مباشرة وهم أهل السواكن في جنوب مصر وشمال السودان، وممن قال به الشيخ عبد الله بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء في السعودية سابقاً، والشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام السعودية سابقاً (¬9)، والشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء حالياً (¬10). والشيخ أبو بكر محمود جوفي عضو المجمع الفقهي (¬11)، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء سابقاً في السعودية (¬12) وغيرهم. ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/ 358. (¬2) شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة لشيخ الإسلام ابن تيمية2/ 336 (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3/ 389. (¬4) وإن كان جماهير أهل العلم فيما فهمت من كلامهم يعتبرون اتحاد الجهة في المحاذاة. أما من المتأخرين فقد خالف صاحب رسالة أدلة إثبات ان جدة ميقات انظر ص16،. (¬5) سأكتفي بذكر الخلاف لدى المتأخرين أما المتقدمون من الفقهاء فمن ذكر جدة منها لم يعدها ميقاتا كما سيتبين من بعض نقول البحث. (¬6) انظر رسالة عدنان عرعور (أدلة إثبات أن جدة ميقات ص40،فقد نسب القول إليه علماً بأنه في رسالته التي بعنوان (جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية) لم يشر إلى اعتبار جدة ميقات مطلقاً. (¬7) انظر كتابه المتقدم ذكره ص40، وقد ذكر جملة من العلماء قالوا بهذا القول ثم قال (منهم من قال بذلك مطلقاً ومنهم من قال هي ميقات لمن اتخذ من غربها مباشرة) أ. هـ. (¬8) انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي في العدد الثالث الجزء الثالث الدورة الثالثة بحث (الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي) ص (1453) لمحي الدين قادي. (¬9) كما حدثني بذلك الدكتور إبراهيم الصبيحي عن الشيخين ابن باز، وإن كانت فتوى هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز لم تتعرض لأهل السواكن وإنما نفت كون جدة ميقاتاً بدون استثناء. وكذا قرار المجمع الفقهي بعضويته. انظر مجلة المجمع 3/ 1613. (¬10) انظر رسالة: أدلة إثبات أن جدة ميقات لعدنان عرعور ص40. (¬11) انظر مجلة المجمع الفقهي 3/ 1613، القرار الثاني بتاريخ 10/ 04/1402هـ (¬12) كما حدثني الشيخ عبد الله الجبرين بنفسه بتاريخ 3/ 08/1422هـ

القول الرابع: إنّ جدة ليست ميقات مطلقاً، وممن قال به أعضاء مجمع الفقه الإسلامي في الدورة الثالثة (¬1). ثالثاً: أدلة الأقوال: أدلة القول الأول: الدليل الأول: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال (لما فتح هذا المصران -أي الكوفة والبصرة - أتوا عمر فقالوا ياأمير المؤمنين إن رسول الله حدّ لأهل نجد قرناً وهو جور عن طريقنا وإنّا إن أردنا قرناً شق علينا فقال انظروا حذوها من طريقكم فحدّلهم ذات عرق) (¬2). وجه الدلالة منه: أن القاعدة في تحديد المواقيت غير المنصوص عليها هي المحاذاة وحدّها أن تكون مسافة المحاذي والمحاذي به عن مكة متساوية، أو يكون الموضع المحاذي واقعاً بين ميقاتين على خط واحد. فتبين بذلك أن مدينة جدة ميقات مكاني؛ لأنها محاذية لميقاتي الحجفة ويلملم حيث تقع بينهما، وهي جميعاً على خط واحد، كما أن مسافة جدة عن مكة مقاربة لمسافة يلملم عن مكة فيتحقق بذلك معنى المحاذاة في جدة. وأجيب: بأن ما ذكرتموه من أنّ القاعدة في تحديد المواقيت غير المنصوص عليها هي المحاذاة صحيح لكنّ حَد المحاذاة الذي ذكرتموه لا يسلم بإطلاق، فتفسيركم المحاذاة بالمعنى الثاني وهو كون الموضع المحاذي واقعاً بين ميقاتين على خط واحد، فهذا غير مسلم لغة وشرعاً، وذلك أن كلمة "حذا" في اللغة لا تدل على تسمية المكان الواقع بين مكانين محاذياً. (¬3) ولو صح هذا المعنى لغة، فإنه لا يصح شرعاً لأنه سيؤدي إلي أنّ أي مكان واقع بين مكة والمدينة يسمى محاذياً للمواقيت، فيجوز الإحرام منه؛ لأنه يصدق على مكة اسم مكان كما يصدق هذا الاسم على المواقيت أيضا (¬4). ثم إن هذا التفسير للمحاذاة وهوكون المكان واقعاً بين ميقاتين على خط واحد مخالف لتفسير أهل العلم كما تقدم بيانه (¬5). وأما المعنى الأول للمحاذاة وهوكون مسافة المحاذي والمحاذى به عن مكة متساوية فصحيح، إلا أن تنزيله على مدينة جدة وكونها محاذية للجحفة (¬6) أو يلملم (¬7) غير صحيح، وذلك لأن مسافتها عن الحرم متفاوتة وليست سواء، فمسافة جدة عن الحرم تقارب سبعين كيلاً، بينما مسافة الجحفة عن مكة تقارب مائة وسبعة وثمانين كيلاً، ومسافة يلملم عن مكة أربع وتسعون كيلاً (¬8)، فكيف نقول بالمحاذاة وهي تساوي بعد المكانين عن الحرم مع هذا التفاوت الظاهر، كما أن جدة تقع في جهة أخرى غير جهة يلملم. ¬

(¬1) مجلة المجمع الفقهي 3/ 1613، القرار الثاني بتاريخ 10/ 04/1402هـ (¬2) رواه البخاري في كتاب الحج باب ذات عرق لأهل العراق برقم 1531. (¬3) قد تقدم بيانه قبل قليل في هذا البحث. (¬4) انظر المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة ص164 (¬5) راجع ما سبق من هذا البحث. (¬6) الجحفة: قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة، فإن مروا بالمدينة فميقاتهم ذو الحليفة، وكان اسمها مهيعة وإنما سميت بالجحفة لأن السيل احتجفها وحمل أهلها، ويهل الحجاج الآن في رابغ قبل الجحفه بقليل. (معجم البلدان 2/ 111). (¬7) يلملم: ويقال ألملم، موضع على بعد ليلتين من مكة، وهو ميقات أهل اليمن، قال المرزوقي هو جبل من الطائف، وقيل هو واد هناك (معجم البلدان 5/ 441). (¬8) بحث الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي

الدليل الثاني: أن أهل العلم قد اتفقوا على أن من قدم من مكان لا ميقات له يحرم من مسافة أقرب المواقيت إليه إذا كان حذوه، ولما كان القادمون إلى جدة من المغرب ليس لهم ميقات معين يحرمون منه وكان أقرب ميقات إلى لجدة هو يلملم وكانت مسافته عن مكة تساوي مرحلتين وكذا مسافة جدة عن مكة، فهما متساويتا المسافة عن مكة، فجدة إذن ميقات مكاني إضافي على المواقيت المنصوصه (¬1). وأجيب عنه: بأنه لا يسلم حكاية الاتفاق على أن من قدم من مكان لاميقات له أنه يحرم من مسافة أقرب المواقيت إليه إذا كان حذوه، بل لقد نقل ابن حزم الخلاف في ذلك على رأيين، فقالت طائفة: يحرم وقال آخرون لا يحرم (¬2). وقال:" وأما سائر الروايات التي ذكرنا عن الصحابة والتابعين فليس في شيئ منها أنهم مروا على الميقات، وإذ ليس فيها فكذلك نقول: إن من لم يمر على الميقات فليحرم من حيث شاء " (¬3). وعليه فإنه لا يحتج على المخالف بمحل النزاع. الدليل الثالث: أنه لا محاذاة في البحر البتّة وذلك: 1 - لأنه يتعذر تعيين المواقيت فيها. 2 - ولأنه لم يقم على هذا دليل في الكتاب والسنة أو الإجماع. 3 - ولأنه لا تتحقق في البحر المحاذاة على المعنى الصحيح، فيتبين بذلك أنّ للقادم من البحر تأخير الإ حرام إلى جدة (¬4). وأجيب عنه: بعدم التسليم بأنه لا محاذاة في البحر فهذا مخالف لما ذهب إليه أهل العلم من وجوب الإحرام على من كان البحر طريقه إلى مكة إذا حاذى الجحفة أو يلملم (¬5) بل المحاذاة حاصلة لمن كان البحر طريقه ولا تتعذر المحاذاة في البحر كما أننا نقول بأنه لا ميقات في البحر، ولكن يمكن محاذاة ميقات الجحفة ويلملم، وهما قريبان من البحر وليست محاذاتهما متعذرة للقادم من الشمال أو الجنوب. الدليل الرابع: أنّ مدينة جدة لا تخلو: 1 - إما أن تكون داخل المواقيت والمواقيت خلفها. 2 - أو خارج حدود المواقيت. 3 - أو على المحيط نفسه. أما الحالة الأولى: فيعني هذا الزيادة على مسافة المحاذاة وهذا مردود شرعاً وواقعاً. وأما الحالة الثانية: فلا يقول بها أحد، وأما الحالة الثالثة: فهي المتعنية فتكون جدة ميقاتاً. وأجيب عنه: بأن هذا التقسيم قائم على تفسير أصحاب هذا القول للمحاذاة، وإثباتهم أن جدة محاذية لميقاتي الجحفة ويلملم، وهذا قد تقدم الجواب عنه، وإنما نقول إن مدينة جدة داخل المواقيت وليست محاذية لأحدها لكونها أقرب إلى مكة من ميقاتي الجحفة ويلملم، ولذا فالواجب على القادم من الشام ومصر براً وبحراً وجواً الإحرام من الجحفة أو ما كان حذوها، وكذا القادم من اليمن سواء كان ذلك براً أو بحراً أو جواً فإنه يحرم من يلملم. أدلة القول الثاني: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين مواقيت في الجو لأن الطائرات لم تكن موجودة في عهد النبوة ولا متصورة، فلا يَصدق على أهل الطائرات أنهم اتو الميقات المحدد لهم لا لغة ولا عرفا، لكون الإتيان هو الوصل للشيّ في محله (¬6). ¬

(¬1) أدلة إثبات ان جدة ميقات ص 149 من مجلة مجمع الفقه الإسلامي ج3. (¬2) المحلى لابن حزم ص73/ 7. (¬3) المحلى ص78/ 7. (¬4) أدلة إثبات أن جدة ميقات ص31. (¬5) انظر مفيد الأنام للجاسر ص53، والمسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة ص174. (¬6) بحث" جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية "لآل محمود ص1607 من مجلة مجمع الفقه ج3.

وأجيب عنه: بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وأن الهواء تابع للقرار كما قرر أهل العلم، ولذا فلو صلى في الطائرة أو وقف بعرفه في الجو صحت صلاته وحجه، ولم يوقت صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت في هذه الأماكن إلا ليتخذ من النصوص قدوة وأسوة لحرمة البيت العتيق سواء كان طريق الحاج براً أو جواً، ثم إن الإتيان متحقق في المرور به مع عقد نية الدخول في النسك، ويصدق على راكب الطائرة أنه مرّ بالميقات إذ لا يشترط في المرور المماسّهَ (¬1). ثانياً: ولأن المحاذاة لا يمكن أن تتصور في الجو ولا تنضبط، وكذا في البحر (¬2). وأجيب عنه: بعدم التسليم بل المحاذاة متصورة في الجو والبحر؛ لأن المحاذاة تقريبية، كما يمكن الاحتياط لذلك حتى لايتجاوز الناسك الميقات دون أن يحرم. ثالثا: ولأنّ في إلزامهم بالإحرام في الجو مشقةً عليهم والمشقة تجلب التيسير (¬3). وأجيب: بعدم التسليم بوجود المشقة بل يمكن الإحرام في الجو بيسر، كما أنه يمكن تقديم الإحرام قبل ركوب الطائرة وعقد النية عند المرور بالميقات، وكذا الحال بالنسبة لركاب السفينة بل هي أيسر من الطائرة من جهة السعة وبطء الحركة بحيث يتمكن المحرم من لبس إحرامه بسهولة. رابعاً: ولأن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية كونها بطرق الناس وعلى مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز وقد صارت جدة طريقاً لجميع ركاب الطائرات والسفن ويحتاجون بداعي الضرورة إلي ميقات أرض يحرمون منه لحجهم وعمرتهم، فوجبت إجابتهم كما وقت عمر لأهل العراق ذات عرق، إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء أو في لجة البحر الذي لا يتمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله من خلع الثياب والاغتسال للإحرام والصلاة وسائر ما يسن للإحرام، إذ هو ما تقتضيه الضرورة وتوجبه المصلحة ويوافقه المعقول ولا يخالف نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم (¬4). وأجيب: بأن وضع المواقيت في طريق الناس لا يلزم منه أنه كلما استحدث الناس طريقاً وضع لهم ميقات بدون نظر إلى المواقيت المنصوصة ولا محاذاة لها، إذ لو كان كذلك لما صار لتلك المواقيت شرعية، ولم يكن لوضعها كبير أثر، ثم إن تفاوت مسافاتها يدل على مقصد تعبدي تجب مراعاته وربط المواقيت الأخرى بها، كما يدل عليه أيضا حديث عمر المتقدم في توقيت ذات عرق حيث قال "انظروا حذوها" (¬5) أي حذو قرن المنازل. وأما كون الميقات في جو السماء أو لجة البحر فلا إشكال فيه، إذ الشريعة جاءت لكل الأزمان، والله لا يخفى عليه صنع تلك الطائرات والسفن فهو القائل (وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون) (¬6). وأما خلع الثياب والاغتسال للإحرام والصلاة وسائر سنن الإحرام فإنها تقدم قبل ركوب الطائرة؛ لأنه إذا تعارض عندنا الإحرام قبل الميقات أو بعده فيقدم الإحرام قبل الميقات، ولا ريب؛ لأنه جائز بدون تعارض مع الإحرام بعد الميقات فكيف إذا تعارض (¬7). أدلة القول الثالث: ¬

(¬1) انظر جواب أحمد محمد جمال وعبد الله البسام في مناقشة المسألة في مجلة مجمع الفقه 3/ 1637 (¬2) بحث جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية 3/ 1607 من مجلة مجمع الفقه. (¬3) بحث" من أين يحرم القادم بالطائرة جوا للحج والعمرة" لمصطفى الزرقا 3/ 1437. (¬4) المرجع السابق. (¬5) تقدم في أعلى البحث. (¬6) سورة النحل أية (8). (¬7) ردّ على السالوس على مصطفى الزرقا 3/ 1640 من مجلة مجمع الفقه.

الدليل الأول: ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم، هن لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمهله من أهله) (¬1). وجه الدلالة: أن الحديث دل على وجوب إحرام من مرّ على هذه المواقيت وليس من أهلها، ولا يجوز له تأخير الإحرام إلى جدة أو غيرها مما يلي الميقات الذي مرٌ عليه، ولما كانت المواقيت محيطة بالحرم عدا جهة الغرب لمدينة جدة، فلذا لا يجوز تجاوز الميقات للإحرام من جدة إلا للقادم من غربها وهي جهة جنوب مصر وشمال السودان. الدليل الثاني: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما فتح هذان المصران أي الكوفة والبصرة أتو عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا فقال: انظروا حذوها من طريقكم فحدّ لهم ذات عرق) (¬2). وجه الدلالة: إن الإحرام يكون في الميقات أو حذوه، وجدة ليست محاذية لأحد المواقيت فمسافتها إلى مكة أقرب كما تقدم، فلا تكون ميقاتاً إلا للقادم من غربها مباشرة لعدم وجود محاذى به قبل جدة. الدليل الثالث: أن جدة كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذها ميقاتاً ولو كانت من المواقيت لنص عليه النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما مع قرب موقعها ووضوحه وأهميته (¬3). وأجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعلها ميقاتاً لكون جهتها غير مأهولة بالسكان ولم يكن حينذاك مسلمون في جنوب مصر وشمال السودان وجهتهما في أفريقيا. وأجيب عن هذا الجواب: بأن ذلك مُنّزل على جهة غرب جدة، ونحن نقول بأنها ميقات للقادم من غربها، أما القادم من الشمال أو الجنوب أو الشرق فليست ميقاتاً له بل ميقات ما يمر عليه من المواقيت أو يحاذيه. أدلة القول الرابع: استدل أصحاب هذا القول بأدلة القول الثالث نفسها إلا أنهم لم يستثنوا جهة غرب جدة. ويجاب عليهم: بأنهّ يشكل على قولهم القادم من غرب جدة، فإنّه لا يمر بميقات ولا يحاذي ميقاتاً، وأول منزل له هو مدينة جدة، ولا ينضبط إحرامه قبلها في البحر، ومسافتها مقاربة لمسافة أقرب المواقيت وهو قرب المنازل وقد نص الفقهاء أن من كانت هذه حاله فإنه يحرم من مسافة مرحلتين عن مكة؛ لأنها مسافة أدنى المواقيت إلى مكة (¬4). رابعاً: يتبين مما تقدم مايلي: 1 - أن الخلاف في المسألة قوي، وإن كانت كفة القول الثالث عندي أرجح، لقوة دليله. 2 - أن مدار المسألة يقوم على تفسير المحاذاة الواردة، مما يستدعي مزيد بحث لها، مع كون تفسيرها من أهل العلم اجتهاد ظاهر في دلالة النص، وليس نصا. 3 - أن القول بتوقيت جدة لا يلزم منه جواز الإحرام منها مطلقا، فالأئمة الأربعة متفقون على أنه لا يجوز لمريد النسك مجاوزة ميقاته لميقات آخر لظاهر النص "هن لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة" (¬5) فإن كان غير ميقاته جاز له مجاوزته عند الحنفية والمالكية. ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الحج "باب مهل أهل مكة للحج والعمرة "برقم (1524) ومسلم في الحج باب مواقيت الحج والعمرة رقم (1182). (¬2) تقدم في أعلى البحث. (¬3) انظر تفسير ابن كثير 1/ 77 حيث أشار لوجود جدة منذ خلق آدم كما في أثر الحسن البصري، وقال في معجم ما استعجم 1/ 371 عن جدة: (هي ساحل مكة). (¬4) ينظر الدر المختار2/ 154، وقال في تحفة المحتاج4/ 42. (وإن) لم يحاذ شيئا من المواقيت (أحرم على مرحلتين من مكة) ; لأنه لا ميقات دونهما وبه يندفع ما قيل قياس ما يأتي في حاضر الحرم أن المسافة منه لا من مكة أن يكون هنا كذلك ووجه اندفاعه أن الإحرام من المرحلتين هنا بدل عن أقرب ميقات إلى مكة وأقرب ميقات إليها على مرحلتين منها لا من الحرم فاعتبرت المسافة من مكة لذلك لا يقال المواقيت مستغرقة لجهات مكة فكيف يتصور عدم محاذاته لميقات فينبغي أن المراد عدم المحاذاة في ظنه دون نفس الأمر ; لأنا نقول يتصور بالجائي من سواكن إلى جدة من غير أن يمر برابغ ولا بيلملم ; لأنهما حينئذ أمامه فيصل جدة قبل محاذاتهما , وهي على مرحلتين من مكة فتكون هي ميقاته). قال في شرح منتهى الإرادات1/ 255: (وإذا لم يحاذ ميقاتا) كالذي يجيء من سواكن إلى جدة من غير أن يمر برابغ ولا يلملم لأنهما حينئذ أمامه, فيصل جدة قبل محاذاتهما (أحرم عن مكة بقدر مرحلتين) فيحرم في المثال من جدة لأنها على مرحلتين من مكة لأنه أقل المواقيت. (¬5) رواه البخاري في كتاب الحج "باب مهل أهل مكة للحج والعمرة "برقم (1524) ومسلم في الحج باب مواقيت الحج والعمرة رقم (1182). المصدر: موقع المسلم

التحصينات الشرعية من أنفلونزا الخنازير وغيرها

التحصينات الشرعية من أنفلونزا الخنازير وغيرها د. علي بن سعيد العبيدي الحمد الله منزل الداء والدواء، وصلى الله وسلم على من حضَّ على الدواء فقال: «تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء»، وعلى آله وأصحابه الكرام الطيبين. وبعد: فليس بخاف على الجميع ما يعيشه كثير من الناس اليوم من حالات خوف وهلع شديد من جراء تفشي أنفلونزا الخنازير في بلدان العالم، واقتحامها بلداناً لا تعرف الخنازير أصلاً، وإنما جاء به الوافدون إليها. وأنت تلحظ مظاهر الخوف والهلع في الأماكن العامة في أعين الناس وتصرفاتهم، فما أن يعطس أحدهم بصورة غريبة في مسجد أو مجلس أو مكتب أو ممر أو سوق أو مشفى حتى يلتفت إليه الجميع برقاب متطاولة وأحداق واسعة، فهو متَّهم مشكوك في أمره، وما أن يتحرك حتى ترصد العين اتجاهه بدقة، وما أن يمر بجمع حتى يتفرق عنه بسرعة، ولسان حالهم يقول: لا مساس. ومما زاد الطين بلة كثرة الشائعات حول عدد الإصابات والوفايات، فما يعلن شيء، وما يتناقله الناس شيء، وأيضا كثرة الشائعات والتناقضات حول آثار العلاج والتطعيمات على مستويات رفيعة من أهل الشأن والاختصاص، فأصبح الناس أكثر حيرة وأكثر اضطرابا وقلقا إلا القليل منهم، وحتى تمنى بعضهم لو يفر إلى بعض الكواكب السيارة حيث تسبح النجوم! .. ولكن هيهات هيهات! والواقع أنَّ غير المؤمنين أشد فرقا من المؤمنين، لركونهم إلى المعطيات البشرية المادية التي يعتريها النقص، ويخالطها الشك، وتقل فيها الثقة أحيانا أو تنعدم، ولكون الدنيا جنتهم ومنتهى أملهم؛ فحرصهم عليها شديد ولا غرابة!. وأما الفريق الثاني فيتفاوت أهله في الخوف والهلع، بحسب ما قام في قلوبهم من الإيمان والتوكل وحسن الظن بالله تعالى، وبحسب ما قدموا من أعمال صالحة يرجون ثوابها، وما يفرق أكثرهم إلا لخوفه أن ينتهي أجله وهو مقصر، أولم يزدد من الأعمال الصالحة، فيحبس عن جنته، أو تقل رتبته. أسباب كتابة الموضوع: في خضم تلكم الأحداث وجدت ثلاثة أمور كانت هي الباعث الرئيس لكتابة هذا الموضوع، وبالعنوان الآنف: أولها: إن أكثر كلام الناس في مجالسهم ومنتدياتهم وعلى جميع المستويات منصب على التحصينات والعلاجات المادية فحسب. وثانيها: تعلق طائفة من المسلمين بالأسباب الوقائية المادية، وانصرافهم إليها دون الأسباب الإلهية، إما لغفلة منهم، أو جهل، أو ضعف يقين. وثالثها: تداول الناس لبعض الأدعية غير المأثورة، والتي يرتقي بعضها إلى البدعة. فلأجل هذه الأسباب ـ بصورة مباشرة ـ كتبت هذا الموضوع على اختصار من أصله؛ لتذكير المسلم بجملة من التحصينات الإلهية للوقاية من الأمراض والآفات وسائر المكاره والشرور وإن عظمت عند البشر (كوباء الخنازير)، أو لرفعها بعد نزولها وتخفيفها. وهذه التحصينات لا تخضع للمجهر، ولا للتجارب المعملية، ولكن تصدقها التجربة المباشرة، والواقع المشاهد، ولا يستفيد منها ـ في الجملة ـ إلا أهل الإسلام، فهي من ثمرات التوحيد وجزائه المعجل في الدنيا. ولتعلم الدنيا أن لدينا أنواعا أخرى من التحصينات ـ التي تشعر بجلال الإسلام وعظمته ـ بالإضافة إلى ما لديهم. وليعلموا أن ما يأخذون به من وسائل مادية للوقاية من وباء الخنازير ـ وما في معناه ـ قد سبق إليها الإسلام ودعا إليها، وما هي في حقيقة الأمر إلا بعض ما جاءت به الشريعة المحمدية من التحصينات الوقائية من الأوبئة والأمراض، وهي تحصينات يشترك في الإفادة منها جميع البشر من مسلمين وغير مسلمين. التحصينات الشرعية الوقائية المادية: اهتم الإسلام بالجانب الوقائي فيما يتعلق بالأمراض بصفة عامة، وبالوبائية منها بصفة خاصة، ومن مظاهر هذا الاهتمام:

1 - نهيه عن دخول الأرض الموبوءة أو الخروج منها. وذلك لحصر الوباء فلا تتسع دائرته، وهو ما يعرف في الطب الحديث بالحجر الصحي، قال صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» (¬1). ولذا لم يجز بعض العلماء السفر إلى البلدان الموبوءة أو الخروج منها إلا لغرض صحيح. 2 - نهيه المريض أن يقدم على الصحيح. وذلك لتضييق دائرة المرض المعدي، والذي قد ينتقل بالمخالطة إلى الأصحاء فيمرضهم بمشيئة الله وإرادته، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ممرض على مصح» (¬2)، وعليه فلا يجوز لمن أصيب بمرض وبائي كأنفلونزا الخنازير مخالطة الأصحاء، ولا غشيان أماكن تجمعاتهم، خاصة أماكن العبادة التي يجتمع فيها الناس، لما قد يلحقه بهم من ضرر. 3 - أمره بالابتعاد عن بعض أصحاب الأمراض المعدية بأفظع عبارة. وذلك من باب الأخذ بأسباب الوقاية مما جعله الله سببا للإصابة بالمرض عند المخالطة إذا شاء الله سبحانه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» (¬3). ولما جاء وفد ثقيف لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا قد بايعناك فارجع» (¬4). وما ذاك إلا لأن الجذام مرض معدٍ بالتجربة والمشاهدة، والمجذوم حقه العزل عن الناس. 4 - أمره العاطس بأن يضع كفيه على وجهه. وذلك أن العاطس قد يتطاير من فمه ما يؤذي الجلساء، أو يلوث الهواء، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا عطس أحدكم فليضع كفيه على وجهه، وليخفض صوته» (¬5). ويتأكد هذا الأمر متى ما كان الإنسان مصابا بمرض معد كالزكام وأنفلونزا الخنازير مثلا، فيضع كفيه على وجهه، وقد يستعين لذلك بكمامات أو منديل أو شماغ ونحوه، حتى لا يتطاير الرذاذ في الهواء، أو يقع على المسطحات فتنتقل العدوى إلى الأصحاء بمشيئة الله وإرادته. وللإسلام أساليب أخر تربوية راقية في التصرفات والأفعال، ويصح أن تكون وسائل وقائية يقوم بها المرء حال الشرب والبصاق، وقبل تناول الطعام وبعده، ويحترم فيها ما يشترك فيه الناس من المياه والطرق والظل، ويتأكد العمل بها عند ظهور المعديات لما قد يترتب على التفريط فيها من ضرر ذاتي أو متعدٍّ. فما أعظم الإسلام، وما أعظم ما جاء به من تعاليم للحفظ على صحة البشرية وإسعادها. وقد صدقت الباحثة البولونية يوجينا غيانة ستشيجفسكا ( B. G. Stryzewska) - المتخصصة في الدراسات القانونية - إذ قالت:"إنّ القرآن الكريم مع أنّه أنزل على رجل عربيّ أُمّي نشأ في أمّة أميّة، فقد جاء بقوانين لا يمكن أن يتعلمها الإنسان إلاّ في أرقى الجامعات" (¬6) وكذا القول في السنة فيما يتعلق بالأدوية الطبية الطبيعية. رأي العلماء في التحصينات الشرعية الإلهية: تكلم العلماء في القديم والحديث عن تأثير التحصينات الإلهية في دفع الأمراض ورفعها، وأكتفي بذكر جملة من أقوالهم المنتخبة: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الأنبياء (3286). (¬2) أخرجه البخاري في الطب (4537). (¬3) أخرجه أحمد (9722)، والبيهقي في الكبرى (13550)، وأورده الألباني في الصحيحة (873) وصححه. (¬4) أخرجه مسلم في السلام (2231). (¬5) أخرجه الحاكم (7684)، والبيهقي في الشعب (9353)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (685). (¬6) قالوا عن الإسلام (ص68).

قال ابن القيم:"ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب؛ فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه؛ وقد جرّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسيَّة" (¬1). وقال ابن حجر في معرض الرد على من ينكر بعض مفردات الأدوية الإلهية:"وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسيء الأسقام ومنكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير، ولم يقل بذلك إلا شذوذ، والأحاديث الصحيحة ترد عليهم ... ورد البلاء بالدعاء كرد السهم بالترس، وليس من شرط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمى السهم" (¬2). وقال المناوي:" ... كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يعالج الأمراض بثلاثة أنواع: بالأدوية الطبيعية، وبالأدوية الإلهية، وبالأدوية المركبة منهما" (¬3). وهو كما قال، ومثالها على التوالي إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى علاج مرض العين بماء الكمأة، والنظرة بالرقية، ولسعة العقرب بالجمع بين الماء والملح والرقية. وقال الألباني في جوابه لما سئل عن العاجز عن إتيان أهله لاحتمال أن يكون مربوطا:" .. هذا إما مرض وإما سحر، فإذا كان مرضاً فالأطباء يكتشفونه، وإذا كان سحراً فلا يستطيع الأطباء أبداً أن يكتشفوه؛ لأن هذا مرض روحي، والأطباء يعالجون الأمراض المادية، ومن هنا يجب على المسلمين أن يتعالجوا بالطب النبوي، ومنه قراءة المعوذتين، وقراءة بعض الأوراد الخاصة المختصرة" (¬4). وهذا غيض من فيض مما تواطأ على تقريره العلماء. فعلى المسلم أن يجمع في التحصن والتداوي من الأمراض والآفات والشرور بين الأسباب المادية والمعنوية التي جاءت بها الشريعة قدر طاقته، ولا يهمل سببًا مع إمكانه الأخذ به، فمن فعل ذلك فحري به أن يدفع الله عنه البلاء فلا يصيبه، أو يرفعه عنه إن نزل به، ثم يفوض أمره بعد ذلك إلى لله تعالى، فإن الأخذ بهذه وهذه من تمام التوكل الصحيح، ولو لم يجنِ المسلم من ذلك إلا طمأنينة القلب وراحة النفس وإحياء السنة لكفى بها نعمة. التحصينات الشرعية المعنوية الإلهية: والآن إليك جملة من التحصينات الإلهية المختصرة من الأذكار والأدعية والأعمال الصالحة، للوقاية من الأمراض والمكاره أيّا كانت. مع العلم أن النصوص الواردة في ذلك بعضها صريح الدلالة في الحفظ من الشرور بصفة عامة، وبعضها دلالته استنباطية، وقد حرصت ألا أذكر منها إلا ما كان صحيحا ومقبولا عند النقاد. 1 - التحصن برقية الدخول في الفراش للنوم ليلا. ¬

(¬1) زاد المعاد (4/ 9). (¬2) فتح الباري (10/ 133). (¬3) فيض القدير (3/ 514). (¬4) درس صوتي (6/ 13).

وهذه الرقية كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم على كيفية معينة إذا انضم إلى فراشه ودخل فيه لينام؛ وفيها تحصين من الشرور والمكاره قبل نزولها، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث (¬1) فيهما، فقرأ فيهما:"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" [الإخلاص:1]،"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق" [الفلق:1]، و"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" [الناس:1]، ثم يمسح بهما مااستطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات» (¬2). قال القرطبي في المفهم:"وجميع أحاديث الرُّقية الواقعة في كتاب مسلم: إنَّما تدل على جواز الرُّقي بعد وقوع الأسباب الموجبة للرُّقية من الأمراض والآفات، وأما قبل وقوع ذلك: ففي البخاري - ثم ساق الحديث الآنف وقال: - فكأن هذا دليل على جواز استرقاء ما يتوقع من الطوارق والهوام وغير ذلك من الشرور " (¬3). 2 - التحصن بآية الكرسي عند النوم. جاء في قصة أسير أبي هريرة: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح» (¬4). قال القرطبي:"فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من الآفات" (¬5). وقد ورد في فضل هذه الآية الكثير من النصوص مما يدل على عظمتها. 3 - التحصن بآيتين من آخر سورة البقرة كل ليلة. لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (¬6)، قال ابن القيم:"الصحيح أن معناه: كفتاه من شر ما يؤذيه" (¬7)، فمن قرأهما بيقين في ليلة كفتاه تلك الليلة كل سوء ومكروه، ودفعت عنه كل ما يخاف، وفضل الله لا حد له. 4 - التحصن بسورة الإخلاص والمعوذتين صباحا ومساء ثلاث مرات. لقوله صلى الله عليه وسلم: «قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تصبحُ وحين تمسي ثلاث مرات تكفيك من كل شيء» (¬8). أي: تدفع عنك كل سوء وشر، أو تكفيك من كل ورد يتعوذ به (¬9). والالتزام بالعدد هنا والوقت مطلوب، وتتم قراءتها بخشوع وتأمل في دقيقة واحدة. ولعظم هذا الحصن قال صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه: "ألا أعلمك سُوراً ما أنزلت في التوراة، ولا في الزبور، ولا في الإنجيل، ولا في الفرقان مثلهن؟ لا يأتين عليك ليلة إلا قرأتَهن فيها: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس". قال عقبة: فما أتت علي ليلة إلا قرأتُهن فيها، وحُق لي أن لا أدعهن وقد أمرني بهنرسول الله صلى الله عليه وسلم (¬10). 5 - التحصن بالتوحيد عشرًا دبر صلاة الفجر، وقبل تغيير الوضع والكلام. ¬

(¬1) النفث:"نفخ لطيف بلا ريق". تاج العروس من جواهر القاموس (5/ 377). (¬2) أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4729). (¬3) المفهم (8/ 88). (¬4) أخرجه البخاري في بدء الخلق (3101). (¬5) الجامع لأحكام القرآن (3/ 268). (¬6) أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4722)، ومسلم في صلاة المسافرين (1914). (¬7) الوابل الصيب (ص131). (¬8) أخرجه الترمذي في الدعوات (3575)، وأبو داود في الأدب (5084)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:"حسن صحيح ". (¬9) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 290)، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 29). (¬10) رواه الإمام أحمد وغيره، وأورده الألباني في الصحيحة (891) وصححه.

لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجليه قبل أن يتكلَّم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب الله له عشرَ حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومَه ذلك كله في حرز من كل مكروه، وحُرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشركَ بالله» (¬1). فمن قال ذلك مراعيا الوقت والكيفية والعدد حصلت له الوقاية والحفظ من كل مكروه على وجه العموم، ومن الشيطان على وجه الخصوص. 6 - التحصن باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء ... صباحا ومساء ثلاث مرات. فعن أبان بن عثمان قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضرُّه شيء»، وكان أبان قد أصابه طرف فالج، فجعل الرجل ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر إلي؟ أما إن الحديث كما حدثتك، ولكني لم أقله يومئذ ليمضي الله علي قدره (¬2). وفي رواية: «لم تصبه فجاءة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح لم تصبه فجاءة بلاء حتى يمسي»، وفيها أن أبان قال للرجل: ما لك تنظر إلي فوالله ما كذبت على عثمان، ولا كذب عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت، فنسيت أن أقولها (¬3). والحديث دلالته ظاهرة في إن"هذه الكلمات تدفع عن قائلها كل ضر كائنًا ما كان، وأنه لا يصاب بشيء في ليله ولا نهاره إذا قالها في أول الليل والنهار" (¬4)، إذ إن أول كلٍ منهما هو بداية التحصين الذي تحصل معه الفائدة بدفع المضرة والبلاء المفاجئ الذي يأتي بغتة دون إشعار أو مقدمة. 7 - التحصن بصلاة أربع ركعات أول النهار. لقوله تعالى في الحديث القدسي: «يا ابن آدم! صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» (¬5). فمن صلى هذه الأربع أول النهار كانت له حرزا من المكاره إلى آخره. قال العيني في معناه:"أكفك آخر النهار من كل شيء من الهموم والبلايا ونحوهما" (¬6) وقال الطيبي:"أكفك شغلك وحوائجك، وأدفع عنك ما تكرهه بعد صلاتك إلى آخر النهار، والمعنى: أفرغ بالك بعبادتي في أول النهار، أفرغ بالك في آخره بقضاء حوائجك" (¬7). وفضل الله واسع، فليتوجه المسلم بهذه الركعات المباركة إلى من بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ ليقضي حوائجه، وييسر أموره، ويدفع عنه كل ما يكرهه من الأمراض أو غيرها مما قد يجلب له همًّا أو يشغل له بالا. وقد اختلف العلماء في تعيين هذه الركعات، هل هي صلاة الضحى أم صلاة الفجر وسنته؟ والمشهور الأول وعليه عمل الناس، وعند ابن تيمية وتلميذه الثاني، قال المناوي:"قال ابن تيمية: هذه الأربعة عندي هي الفجر وسنتها، وبه رد تلميذه ابن القيم على من استدل بها على سنة الضحى" (¬8) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في الدعوات (3474)، وأبو داود في الأدب (5079)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4240). (¬2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (10178)، والحاكم في المستدرك (1895)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (655). (¬3) أخرجه أبو داود في الأدب (5088)، وهو صحيح كما في مشكاة المصابيح (2391). (¬4) مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح (8/ 278). (¬5) أخرجه النسائي في الكبرى، في الحيض (4680)، وأبو داود في التطوع (1291) بلفظ: «لا تعجزني من أربع ركعات»، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (674). (¬6) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/ 195). (¬7) تحفة الأحوذي (2/ 478). (¬8) فيض القدير شرح الجامع الصغير (4/ 469).

والأمر محتمل هذا وهذا، قال العراقي: "وهذا ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع الفجر، وقال: على تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه الأربع الركعات بعد طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو الظاهر من الحديث وعمل الناس فيكون المراد بهذه الأربع: ركعات صلاة الضحى" (¬1). وأيا كان الأمر فمن أراد أن يحصن نفسه ويحفظها من المكاره يومه فليفعل الأمرين معا إن لم يترجح عنده أحدهما؛ لأن المصلحة عائدة عليه في النهاية. 8 - التحصن بكلمات الله التامات عند نزول المنازل والأمكنة. لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل» (¬2). فدل الحديث أولا: على استحباب التعوذ بصفات الله تعالى عند نزول منزل ما، سواء أكان ذلك المنزل بيتا، أو فندقا، أو سوقا، أو مشفى، أو منتزها، أو شجرة يستضل بها، أو غير ذلك، وسواء أكان ذلك في حال سفر أو إقامة. ودل ثانيا: على أن من قال ذلك الدعاء بقلب حاضر، وتوجه تام لله تعالى عصم من كل شر، وبقي في حفظ الله وكلائه وحرزه حتى يرتحل من منزله ذلك. ويشهد لذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة قال: «أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك» (¬3). قال المناوي معلقا:" (لم تضرك) بأن يحال بينك وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوّته وضعفه"وما ذاك إلا؛"لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يضر" (¬4). 9 - التحصن بالحمد عند رؤية المبتلى في دينه أو بدنه. لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا؛ لم يصبه ذلك البلاء» (¬5)، وفي رواية: «عوفي من ذلك البلاء كائنا ما كان ما عاش» (¬6). وهذا الحصن بشرى عظيمة، يقوله المؤمن سراً عندما يرى مبتلا في دينه بالمعاصي والفسوق، أو في بدنه بالمرض أو نقص الخلقة؛ ليكتب الله له السلامة والعافية من ذلكم البلاء ما كتب الله له حياة. قال المباركفوري:"من رأى مبتلى في أمر بدني كبرص وقصر فاحش أو طول مفرط أو عمى أو عرج أو اعوجاج يد ونحوها، أو ديني بنحو فسق وظلم وبدعة وكفر وغيرها، فقال «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا» أي فضلني في الدين والدنيا والقلب والقالب إلا عوفي من ذلك البلاء ... مدة بقائه في الدنيا" (¬7). 10 - التحصن بالدعاء لدفع البلاء ورفعه. ¬

(¬1) نيل الأوطار (3/ 78). (¬2) أخرجه مسلم في الذكر (2708). (¬3) أخرجه مسلم في الذكر (2709). (¬4) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 458). (¬5) أخرجه الترمذي في الدعوات (3432)، والطبراني في الصغير (5324)، وصححه الألباني في الصحيحة (602). (¬6) أخرجه ابن ماجة في الدعاء (3892)، والترمذي في الدعوات (3431)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2729). (¬7) تحفة الأحوذي (9/ 275).

قال الله تعالى:"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" [البقرة:186]، وقال سبحانه:" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر:60]، وقال عن أيوب عليه السلام:"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ " [الأنبياء: 83 - 84]. إن الدعاء أمضى سلاح في دفع البلاء قبل نزوله، وفي تخفيفه أو رفعه بعد نزوله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» (¬1). ودلالة الحديث ظاهرة في أثر الدعاء، وأنه ينفع مما نزل من المصائب والمكاره وسائر أنوع البلاء ومما لم ينزل منها. قال ابن القيم:"والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل ... وله مع البلاء ثلاثة مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه" (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القدر إلا الدعاء» (¬3)، وهذا الحديث - إضافة إلى سابقه وما في معناهما - يفتح باب الأمل في دفع المكاره المتوقعة أو المحذورة، ومعناه: أن الدعاء سبب من الأسباب التي يستدفع بها البلاء، كما أنه سبب من الأسباب التي يستجلب بها الخي. وكان بعض السلف يقول:"ما وجدت للمؤمن مثلا إلا رجلا في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب يا رب .. لعل الله ينجيه" (¬4). فلنقل: يا رب نجنا من المكاره .. يا رب نجنا من البلايا .. يا رب نجنا من الأوباء. وإياك ثم إياك أن تقل هذا مطلب كبير، فإنا نطلب الله ما هو أكبر من ذلك وأعظم .. ومن ذلك إنزال الغيث إذا أجدبت الأرض وأمسكت السماء فيستجيب لنا! وإن لنا في دعاء القنوت لعبرة!! وكلما كان الدعاء عن حاجة واضطرار، وكان في أوقات الإجابة، وكان خاليا من الموانع كان أحرى بالقبول والإجابة. 11 - التحصن بالقنوت. جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء النص على مشروعية القنوت لدفع الوباء ورفعه كونه من النوازل، وقد خالف آخرون، قالت اللجنة "القنوت في الفجر غير مشروع إلا في حالة النوازل، كحلول الوباء، أو حصار العدو للبلاد، أو تسلطه على المسلمين، ففي هذه الحال يشرع القنوت في صلاة الفجر وغيرها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك" (¬5). وللعلماء كلام متفرق في الطاعون والوباء، وفيه تفريعات تستحق البحث والدراسة. 12 - التحصن بالدعاء للغير بظهر الغيب. لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل» (¬6). ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (2498)، والحاكم في المستدرك (1813)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7739). (¬2) الجواب الكافي (ص22). (¬3) أخرجه الترمذي في القدر (2139)، والطبراني في الكبير (1442)، والحاكم في المستدرك (1814)، وحسنه الألباني في الترغيب والترهيب (1638). (¬4) شعب الإيمان للبيهقي (2/ 39). (¬5) فتاوى اللجنة (31/ 392). (¬6) أخرجه مسلم في الذكر (86).

قال صفوان: قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء، فقالت أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل» (¬1). وهذه غنيمة باردة، لا تحتاج منا إلى كثير جهد وعناء، وإنما فقط أن نتذكر إخوتنا في الدين أو النسب فندعوا لهم بالسلامة والعافية وبما نحب من الخير، وندعوا لهم ولذراريهم على وجه الخصوص بالنجاة من الأمراض والأوباء المعدية وخاصة ما يشغل بالنا هذه الأيام، فإن فعلنا ذلك بصدق وإخلاص استجاب الله دعاءنا فيهم، واستجاب دعاء الملك فينا بمثل ما دعونا لهم به؛ لأن دعاء الملائكة مجاب. وخلف هذا الدعاء من الثمرات الخاصة والعامة الكثير والكثير لمن تبصَّر، فليكن لنا منه أوفر النصيب. 13 - التحصن بدعاء ذي النون. هو من ضمن الأدعية التي تدفع بها المكاره وترفع بإذن الله، وإنما أفردته لأهميته، وفيه جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من بلايا الدنيا دعا به يفرج عنه؟ فقيل له: بلى فقال: دعاء ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» (¬2). قال الإمام الشافعي:"أحسن ما يداوى به الطاعون - ومثله سائر الأوباء - التسبيح، ووجهه أنه يدفع العذاب، قال تعالى:"فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" [الصافات: 143 - 144] " (¬3). 14 - التحصن بدعاء إذهاب الهم والحزن. لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحا» قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات، قال: «أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» (¬4). والهم والغم والحزن أمراض باطنة، تستوعب جميع أقسام الزمن المستقبل والحاضر والماضي، وهي مما ينغص العيش، ويكدر الخاطر، وهذا الدعاء يذهبها؛ بل يقلبها فرحا. والأمراض الفاتكة، والأوبئة المعدية، والعلاجات غير الموثوقة، أو ذات الأضرار الجانبية هي مما يشغل البال، ويجلب الهم، والهم معوق، وقد يقلل الإنتاج ويعطل عن العمل، فيرجى أن يكون في هذا الدعاء بلسما وشفاء لمن تحصن به، فيكفيه الله شر ما أهم، ويبدله مكان همه وغمه فرحًا. وقد بسط ابن القيم الكلام على هذا الحديث في غير ما كتاب من كتبه، وتكلم عليه بكلام نفيس. 15 - التحصن بسؤال الحسنتين. أي سؤال حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، وهو" طلب العافية في الدارين" (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الذكر (88). (¬2) أخرجه النسائي في الكبرى (10491)، والحاكم (1864)، وصححه الألباني في الصحيحة (1744). (¬3) الفتاوى الكبرى الفقهية (4/ 28). (¬4) أخرجه أحمد (4318)، وابن حبان (972)، والحاكم (1877)، وصححه الألباني في الصحيحة (3528). (¬5) اللباب في علوم الكتاب (3/ 443).

جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟» قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! لا تطيقه أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟» قال: فدعا الله له فشفاه (¬1). فهذا الرجل لما دعا بتعجيل العقوبة استجاب الله دعاءه، وابتلاه بالمرض حتى ضعف وصار مثل فرخ الطائر، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يطيق ماسأل في الدنيا، ولا يستطيعه في العقبى، ثم بين له الصواب من القول، فلو قال: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة ... )؛ لغفر الله له ذنوبه وعافاه من المرض، فدعا الرجل بهذا الدعاء الجامع فشفاه الله (¬2). وكان هذا الدعاء المبارك أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنس رضي الله عنه يدعو به لأصحابه، وما ذك إلا لأنه "جامع لجميع مطالب الدّنيا والآخرة" (¬3)، فحري بالمسلم أن يكون له منه أوفر النصيب. 16 - التحصن بسؤال العفو والعافية. ففي العفو محو الذنوب، وفي العافية السلامة من الأسقام والبلايا (¬4). قال أنس رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: «سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة»، ثم أتاه الغد فقال: يا نبي الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: «سل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت العافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت» (¬5). وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المبتلين الذين لا يسألون الله العافية، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم مبتلين، فقال: «أما كان هؤلاء يسألون العافية؟!» (¬6). قال ابن حجر الهيتمي:"ويتأكد لمن أصابه طاعون أو مرض وغيره أن يديم سؤال العافية" (¬7)؛ فإذا ما استجاب الرب تعالى كانت الصحة والسلامة. وقد قام صلى الله عليه وسلم على المنبر يوما ثم بكى، فقال: «سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية» (¬8). قال الحكيم:"هذا من جوامع الكلم، إذ ليس شيء مما يعمل للآخرة يتقبل إلا باليقين، وليس شيء من أمر الدنيا يهنأ به صاحبه إلا مع الأمن والصحة وفراغ القلب، فجمع أمر الآخرة كله في كلمة، وأمر الدنيا كله في كلمة" (¬9). وصح إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع تلكم الدعوات حين يمسي وحين يصبح. 17 - التحصن بالله من تحول العافية. فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من تحول العافية وتبدلها بالبلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك» (¬10). قال الصنعاني:"تحول العافية: انتقالها، ولا يكون إلا بحصول ضدها وهو المرض" (¬11)، فكأن المتعوذ سأل دوام العافية، وهي: السلامة من الآلام والأسقام (¬12). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2688). (¬2) انظر: مشكاة المصابيح (8/ 613). (¬3) اللباب في علوم الكتاب (3/ 443). (¬4) انظر: فيض القدير (2/ 32). (¬5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (436)، وصححه الألباني (495). (¬6) أخرجه البزار (3134) وصحح إسناده الألباني في الصحيحة (2197). (¬7) الفتاوى الكبرى الفقهية (4/ 28). (¬8) أخرجه الترمذي في فضل التسبيح (3558)، والنسائي في الكبرى (10717)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5945). (¬9) فيض القدير (4/ 106). (¬10) أخرجه مسلم في الذكر (2739). (¬11) سبل السلام (7/ 281). (¬12) فيض القدير (2/ 110).

فحري بالمسلم أن يحتمي بمن له القدرة التامة على حمايته من سائر الأمراض السيئة التي لا طاقة له بها، ولا قدرة له عليها، ومنها الأوبئة الفاتكة كوباء الخنازير في وقتنا. 18 - التحصن بالله من سيء الأسقام. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيء الأسقام» (¬1). والمعنى: التجئ إليك يا الله، وأعتصم بك، وأحتمي من هذه المكروهات، ومن سائر الأمراض والعلل السيئة أن تصيبني فامنعني منها، ونجني من شرها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأدواء» (¬2). أي: باعدني عن المنكرات المذكورة، ومنها الأدواء،"وهي الأسقام المنفرة" (¬3)، كالتي مرت في الحديث الآنف. 19 - التحصن بكثرة الاستغفار. فإن الاستغفار سبب إلى الحياة السعيدة الهانئة الخالية من المنغصات والمكدرات، ولك أن تتأمل ما يأتي من الآيات، وأن تعود إلى تفسيرها لترى ما ينشرح به صدرك. قال تعالى: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً" [نوح: 10 - 12]، وقوله عز وجل: "وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ" [هود: 3]، وقال سبحانه: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ" [هود: 52]. فدلالة هذه الآيات على الوقاية من الأمراض والمكروهات وسائر الآفات استنباطية، إذ إن ظفرك بمطر السماء، وإمدادك بالأموال والبنين، وامتلاكك البساتين الجارية بالأنهار، وزيادة قوتك قوة، وإمتاعك متاعا حسنا يستلزم بقاءك وحمايتك من المهلكات؛ لتصدق فيك معاني الآيات إذ صدقت في الاستغفار. فليكن لنا نصيب من الاستغفار، وليكن لنا من سيده أوفر النصيب، ولنتذكر أن الاستغفار المثمر هو ما تواطأ عليه القلب واللسان، مع الإقلاع عن الذنوب والآثام، والندم على فعلها، والعزم على هجرها وعدم العودة إليها، ومتى ما نقضنا العهد أو كبونا فلنعد إليه مرة أخرى بشروطه. 20 - التحصن بالتصالح مع الله تعالى والرجوع إليه. فإن الذنوب هي الأصل فيما يصيب الناس من المكاره، ولنتأمل قول الحق تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" [الشورى: 30]، فالله تعالى يخبر"أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو الله عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون."وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً" [فاطر: 45] " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (13070)، والحاكم في المستدرك (1944)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1281). (¬2) أخرجه ابن حبان (960)، والطبراني في الكبير (15379)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1298). (¬3) سبل السلام (7/ 178). (¬4) تيسير الكريم الرحمن (759).

وقال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الروم:41]، يقول ابن سعدي في تفسيرها:"استعلن الفساد في البر والبحر أي: فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك، بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها" (¬1). وفي الحديث: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» (¬2). والطريق إلى العودة ودفع المكاره عموما أو رفعها يكون بالإيمان الصحيح، والتقوى والأعمال الصالحة، كما قال الله: - عز وجل - " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ " [الأعراف: 96]. 21 - التحصن بالصدقة. وهي من الإحسان المتعدي إلى الغير، وبها تدفع الأمراض والمكاره وترفع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «داووا مرضاكم بالصدقة» (¬3)، فإذا كانت الصدقة ترفع المرض بعد وقوعه، فمن باب أولى أن تدفعه قبل وقوعه، فإذا ما بذل الإنسان صدقة من طعام أو كساء أو نقود وما أشبه ذلك للمحتاجين بنية دفع البلاء أو رفعه، فيرجى له الظفر بما نوى. قال المناوي: "أمر بمداواة المرضى بالصدقة، ونبه بها على بقية أخواتها من القرب، كإغاثة ملهوف، وإغاثة مكروب، وقد جرَّب ذلك الموفقون، فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسيَّة، ولا ينكر ذلك إلا من كثف حجابه" (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: « ... وآمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقربوه ليضربوا عنقه، فجعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم، وجعل يعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه» (¬5). ففي الصدقة نجاة من الكروب والمكاره، قال ابن القيم: "إن للصدقة تأثيرا عجيبا في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو من ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به؛ لأنهم جرَّبوه" (¬6). والشواهد من الواقع المحسوس على تأثير الصدقة في رفع البلاء كثيرة جدا، أذكر واحدة وأتجاوز البقية للاختصار، ذكر ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: "أنه تقرّح وجه أبي عبد الله الحاكم قريباً من سنة، فسأل أهل الخير الدعاء له فأكثروا من ذلك، ثم تصدق على المسلمين بوضع سقاية بنيت على باب داره وصب فيها الماء، فشرب منها الناس فما مر عليه أسبوع إلا وظهر الشفاء وزالت تلك القروح، وعاد وجهه أحسن ما كان" (¬7). 22 - التحصن بصنائع المعروف. ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن (643). (¬2) أخرجه ابن ماجة في الفتن (4019)، والحاكم (8623)، والبيهقي في الشعب (3315)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7978). (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (10044)، والبيهقي في السنن الكبرى (6832)، وجاء عند غيرهما بروايات وزيادات لا تصح، أما هذا الحديث فحسنه الألباني في صحيح الجامع (3358)، وقال في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 182):"حسن لغيره ... رواه أبو داود في المراسيل ورواه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن جماعة من الصحابة مرفوعا متصلا والمرسل أشبه ". (¬4) فيض القدير (3/ 515). (¬5) أخرجه الترمذي في الأمثال (2863)، وابن حبان في التاريخ (6233)، والحاكم (1534)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (877). (¬6) الوابل الصيب (ص49). (¬7) الزواجر (1/ 321).

لقوله صلى الله عليه وسلم: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات، والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة» (¬1). ودلالة الحديث ظاهرة في كون فعل الخير وإسداء الجميل إلى الناس ـ سواء أكانوا أبرارا أم فجارا ـ يحفظ صاحبه من مصارع السوء ويردها عنه، فإن الجزاء من جنس العمل. قال العامري:"المعروف هنا يعود إلى مكارم الأخلاق مع الخلق، كالبر، والمواساة بالمال، والتعهد في مهمات الأحوال كسد خلة، وإغاثة ملهوف، وتفريج مكروب، وإنقاذ محترم من محذور، فيجازيه الله من جنس فعله، بأن يقيه مثلها، أو يقيه مصارع السوء عند الموت" (¬2). وقد فسرت الآفات بأنها العاهات، وهي البلايا التي تصيب الزروع والمواشي والناس، ومنها الموت، والمرض، والمصائب، والحزن، والغم، والتعب، والكدر، والحمى، والصرع وغيرها (¬3)، وفسرت الهلكات، بأنها السنون الجدبة، لأنها مهلكة (¬4). والحكايات في الباب كثيرة أكتفي بواحدة ذكرها الشيخ عطية محمد سالم، قال:"سمعت منذ أسبوع مضى: أن امرأة وقعت في دبل العين ـ والذي أخبرني حي يرزق ـ فانخسف بها الدبل، وسقطت في الأرض ولم تستطع أن تخرج، ومكثت خمسة عشر يوماً لا يعلم بها أحد، وقد كان لها غنم تعطي عجائز بجوارها من لبنها في طاسة من النحاس، فمر شخص يمشي على ظهر الدبل فسمع صوتاً، فنادى فأجابته فأخرجوها، فسألوها كيف كنت تعيشين؟ قالت: طاسة الحليب التي كنت أعطيها العجائز اللاتي بجواري، كانت تأتيني كل يوم!! " (¬5). فمتى سنحت لك الفرصة مع الإمكان لصنع معروف فبادر إليه ولا تتأخر، فيوشك أن تجد جميل صنعك أحوج ما تكون إليه. 23 - التحصن بالاستيداع. لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا استودع شيئا حفظه» (¬6). فيستودع الإنسان ربه نفسه وأهله وولده وكل شأنه؛ "لأن العبد عاجز ضعيف، والأسباب التي أعطيها عاجزة ضعيفة مثله، فإذا تبرأ العبد من الأسباب وتخلى من وبالها، وتحلى بالاعتراف بالضعف، واستودع الله شيئا فهذا منه في ذلك الوقت تخلى وتبرى من حفظه ومراقبته، فيكلأه الله ويرعاه ويحفظه والله خير حفظا" (¬7). وعليه فما أجمل أن تقول المرأة لزوجها وأولادها عند الخروج من المنزل: أستودعكم الله، وما أجمل أن يقول الوالد لأولاده عند إنزالهم مكان تعليمهم أستودعكم الله، وبالجملة ما أجمل أن تتبادل الأسرة هذه الكلمة المباركة فيما بينها؛ ليحرسهم الله ويحفظهم مما يكرهون. 24 - التحصن بركعتين تقي من مخرج السوء ومثلها من مدخله. لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرجت من منزلك فصل ركعتين تمنعانك مخرج السوء، وإذا دخلت إلى منزلك فصل ركعتين تمنعانك مدخل السوء» (¬8). والمعنى إذا أردت الخروج من بيتك فصل ركعتين بهذه النية، تكون لك حرزا من الشر، وإذا دخلت كذلك. 25 - التحصن بماء زمزم. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في العلم (429)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795). (¬2) فيض القدير (4/ 442). (¬3) انظر: مختار الصحاح (1/ 20)، وإكمال المعلم (5/ 92)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 621)، والأنوار الساطعات لآيات جامعات (1/ 372). (¬4) المحكم والمحيط الأعظم (2/ 137). (¬5) الأربعين النووية/ عطية محمد سالم، درس (51). (¬6) أخرجه ابن حبان (2693)، والبيهقي في شعب الإيمان (3342)، وصححه الألباني في الصحيحة (2574). (¬7) فيض القدير (2/ 506). (¬8) أخرجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (505).

وهو أشرف المياه وأطيبها وأعجبها، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن زمزم: «إنها مباركة، وهي طعام طعم وشفاء سقم» (¬1)، وإنما تظهر بركتها على من صحَّ صدقه، وحسنت فيها نيته (¬2). وماء زمزم لما شرب له من النيات والمقاصد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» (¬3). قال الشوكاني:"فيه دليل على أن ماء زمزم ينفع الشارب لأي أمر ضربه لأجله، سواء كان من أمور الدنيا أو الآخرة؛ لأن (ما) في قوله: (لما شرب له) من صيغ العموم" (¬4). وقال مجاهد:"إن شربته تريد الشفاء شفاك الله، وإن شربته تريد أن تقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته تريد أن يشبعك أشبعك الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل ... من شرب منها حتى يتضلع أحدثت له شفاء، وأخرجت منه داء" (¬5). وقد شربه جماعة من العلماء والصالحين لمقاصد جليلة وحوائج جزيلة فنالوها (¬6). قال ابن القيم:"وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مراراً" (¬7). وتجارب العلماء وأخبارهم مع هذا الماء المبارك كثيرة جدا، ولولا الإطالة لذكرت طرفا منها، فلنشربه بنية الوقاية والشفاء من الأمراض، وبنية السلامة والعافية من المكاره، ودون تردد مع اليقين بحصول المطلوب. 26 - تحصين من نزل به البلاء لرفعه عنه. لقوله صلى الله عليه وسلم: «من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض» (¬8). فهذه الفائدة يحصلها المريض بدعاء الزائر له بالصيغة النبوية المذكورة، فيعافى ويقوم سريعا من مرضه بإذن الله تعالى، مالم يكن مرضه الذي هو فيه مرض الموت، فإن كان كذلك لم ينفعه شيء. 27 - التحصن بالتعاويذ والرقى عند نزول البلاء. وهذه بابها واسع، وقد ذكرت طرفا منها في كتابي ((أذكار المسلم 200 سؤال وجواب)) (¬9)، تحت عنوان: أذكار المرض والرقية والموت وما يتصل به. هذه بعض التحصينات وفيها الكفاية لمن وفقه الله. تساؤلات: هل هناك فرق بين الأدوية الإلهية والأدوية الطبيعية في النفع من الداء؟ وما مميزات الأدوية الإلهية؟ وهل لها آثار جانبية سلبية؟ نعم هناك فرق؛ فالأدوية والتحصينات الإلهية تكون أحيانا استباقية، ومساحتها العلاجية أرحب، قال ابن القيم:"واعلم أن الأدوية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعا مضرا وإن كان مؤذيا، والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء، فالتعوذات والأذكار إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض" (¬10). وتمتاز الأدوية والتحصينات الإلهية بأنها مجانية، وسهلة التعلم، وليس لها آثار جانبية، إضافة إلى إنها تشرح الصدر، وتطمئن القلب، وتزرع اليقين، وتقوي الصلة بين العبد وخالقه. ¬

(¬1) أخرجه الطيالسي (457)، والطبراني في الصغير (259)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1056). (¬2) المفهم (9/ 203). (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط (849)، والبيهقي في الصغرى (1784)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (10439). (¬4) نيل الأوطار (5/ 149). (¬5) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 216). (¬6) تاريخ مكة المشرفة (1/ 67). (¬7) الطب النبوي (ص307). (¬8) أخرجه أبو داود في الجنائز (3107)، وصححه الألباني (2664). (¬9) طبعة دار كنوز أشبيليا. (¬10) زاد المعاد (4/ 182).

كيف نحقق أكبر فائدة من تلكم التحصينات؟ لكي نحقق أكبر فائدة من تلكم التحصينات علينا بالآتي: أولا: بالنسبة للتحصينات الشرعية المادية: علينا أن نأخذ بأسباب الوقاية التي تجنبنا المكاره على اختلافها وتنوعها، ومنها انتقال الأمراض المعدية والوبائية منها خاصة، وقد ذكر أهل الاختصاص من الأطباء في الوقاية من أنفلونزا الخنازير أمورا أصبحت مشهورة عند كثير من الناس، لانتشار منشوراتها في المدارس والجامعات والمساجد والأماكن العامة، فلنأخذ بها ولا نهملها وهذا من تمام التوكل، وقد تقدم أن مثل هذه التحصينات قد جاءت الشريعة بأصولها على أكمل وجه وأتم صورة. ثانيا: بالنسبة للتحصينات الشرعية الإلهية علينا الآتي: 1 - قولها بحضور يتواطأ فيه القلب مع اللسان. 2 - قولها مع اليقين ببركتها ونفعها. 3 - الالتزام بأعدادها، وكيفياتها، وأوقاتها. 4 - اعتقاد أنها سبب وأنها لا تؤثر بذاتها. 6 - تفويض الأمر بعد ذلك إلى الله تعالى. هل من الممكن أن يتخلف تأثير تلكم التحصينات أو ينعدم؟ نعم؛ والأمر كما قال ابن القيم:"الأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعدا قويا، والمانع مفقودا، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر" (¬1). وقال أيضا:" فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحدٍ يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبدًا، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدَّعها، أو على الأرض لقطعها" (¬2). هل يلزم أن تقال جميع التحصينات الآنفة في كل مرة لتحصيل الفائدة؟ لا يلزم، لكن التحصينات المتعلقة بأوقات معينة أو مناسبات معينة فإنها تقال فيها، والأكمل أن نواظب على ما نستطيع من التحصينات، فمن يقاتل بسلاحين أو ثلاثة أكمل ممن يقاتل بسلاح يتيم، وقد يكفي من التحصينات قراءة الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات صباحا، وثلاث مرات مساء مع اليقين وحضور القلب. من أحوج الناس إلى تلكم التحصينات؟ الجميع بحاجة إليها بلا استثناء؛ لدفع المكاره أو رفعها وتخفيفها، وعندما تظهر الأوبئة فمن يكون على احتكاك مباشر بالجماهير أكثر حاجة إليها، كالأطباء، والمعلمين، والطلاب، ومن يغشاهم الناس لحاجاتهم. أمنيات: وقبل أن أختم هذا الموضوع أبث إليكم ثلاث أمنيات علها تجد صوتا مجيبا، فأقول: 1 - أتمنى نشر ثقافة التحصينات الشرعية الإلهية بين الناس، بحيث تصبح جزءا من أولويات اهتمامهم، بألفاظها وكيفيتها وأوقاتها التي جاء بها الوحي المقدس. 2 - أتمنى أن نشاهد -بجانب ورقة التحصينات الوقائية المادية- ورقة أخرى للتحصينات الإلهية من أذكار ورقى ودعوات وإرشادات إلى الأعمال الصالحة كالصدقة. 3 - أتمنى عندما يتحدث المسؤول - وخاصة أصحاب التخصصات الطبية والتعليمية - عن الأمراض الوبائية كأنفلونزا الخنازير، أن يطعم حديثه بشيء من التحصينات الإلهية، مشيرًا إلى أهميتها وضرورة العناية بها لدفع البلاء أو رفعه وتخفيفه. وبعد،،، آمل أن تكون المعلومات الآنفة واضحة ومفيدة، كما آمل أن نتعلمها ونعلمها أهلينا في البيوت، وننقلها إلى الآخرين، وأن نعمل بها من اليوم، سائلا المولى عز وجل أن يجنبني وإياكم وذرارينا وسائر المسلمين كلَّ مكروه، وأن يرفع عن الأمة وباء الخنازير وسائر المكروهات .. والله أعلم. ¬

(¬1) الجواب الكافي (8). (¬2) زاد المعاد (4/ 322). المصدر: موقع الإسلام اليوم

ونحن أيضا، سنصدع بالحق

ونحن أيضاً، سنصدعُ بالحقِّ علوي بن عبد القادر السَّقَّاف 12 ذو القعدة 1430هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه. أمَّا بعد: فقد عاشت هذه البلاد منذ عقودٍ خَلَتْ على منهج أصيل، أسَّسَه علماؤها وغيرُهم من العلماء الوافدين إليها من أنحاء العالم، وترسَّخ هذا المنهج، وضُبطت أصولُه وقواعدُه على منهج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والاستدلال، ونشأت الأجيال وتربت الأمة عليه، وارتضاه الناس، حيث جمع شملهم، ووحَّد كلمتهم من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، ووجد له أنصاراً ومحبين في شرق العالم وغربه، حيث وافق الفطرة، ودعا للإسلام النقي من شوب المحدثات. وترسَّخ خلال هذه المدة في نفوس الناس ضرورةُ التقيُّد بالدليل الصحيح وعدم التعصب لمذهب معين رغم وجود الدراسة الفقهية الحنبلية والاسترشاد بها في القضاء وغيره. وظهر بعد الجيل الأول من العلماء جيل آخر أخذ منهم، وسلك مسلكهم، فكانوا خيرَ خلفٍ لخير سلف، أعانوا مشايخهم على رفع الجهل عن الأمة بالعلم والتعليم والدعوة والإصلاح، ومع تحري منهجهم للدليل، وقيامهم بالدعوة على أسس منهج السلف في العقيدة، ودعوتهم الناس إلى نبذ العصبيات إلا أن ذلك لا يعني قبول جميع الأطراف لدعوتهم بل كانت هناك أعداد قليلة غير راضية عن هذا المسلك متهمةً إياه بالتشدد تارة، وبالجمود تارة أخرى، لكن لم يكن لهم تأثيرٌ يُذكر، حيث صدَّقت أفعالُ العلماء أقوالَهم، وظهر للقاصي والداني نُصحهم، وصحة منهجهم. وخلال تلك المدة جَدَّتْ أحداث، ونزلت بالأمة نوازل، اختلفت فيها الآراء والاجتهادات في مسائل معدودة، لكن لم يُنْقَضْ فيها أصلٌ، ولم يُشَنَّع فيها على عالم، واجتمعت كلمة الجميع ولم تختلف إلا ما ندر. وحفظ الصغارُ قَدْرَ الكبار، واستفادوا من علمهم وتجاربهم، واستفاد الكبارُ في المقابل من اطلاع الصغار وتخصصهم، ورغم حدوثِ متغيراتٍ عالميةٍ وعربيةٍ ومحليةٍ في تلك المدة، ووفودِ أفكارٍ ومعتقداتٍ إلحاديةٍ كالشيوعيةِ والقوميةِ والبعثيةِ والحداثيةِ، وانفتاحِ المجتمع على المجتمعات الغربية وتطورِ وسائل الإعلام، إلا أنَّ المجتمع كان متمسكاً بدينه، وملتفًّا حول علمائه، وكان لعلمائه هيبةٌ ووقارٌ لدى الكبير والصغير، دون تقديس أو ادعاء عصمة، وخلال هذه المدة حُرِّرت مسائل، وأُلفت كتبٌ، وأُعدت رسائل جامعية في شتى العلوم: العقدية، والأصولية، والفقهية، حتى أصبحت هذه البلاد وعلماؤها وطلاب العلم والدعاة فيها محط الأنظار، وقدوة للأمصار، في سلامة المنهج، وقوة التمسك بالدليل. واستمر هذا الحال ثلاثة عقود أو أكثر، وكانت اللحمة الدينية والسياسية على وفاق واتساق، مما أفرح الصديق وأغاظ العدو، وهذا كله لا يعني عدم وجود أخطاء، وتجاوزات، واختلافات، ومفارقات، لكنها لم تكن لتشق الصف وتفرِّق الأمة، ولم يكن يتطلب الأمر أن يُسعى لتقويض ما تسميه بعض الجهات المشبوهة ومقلِّدوها بالمؤسسة الدينية. ثم حدثت في السنوات الأخيرة أحداثٌ عالميةٌ ومحليةٌ لا تخفى على أحد، ووقعت على إثرها ضغوطٌ عالمية ظهرت آثارها وتسارعت بشكلٍ كبير لكثرةِ قنواتِ الاتصالِ وسرعتها، غيَّرت من قناعاتِ وتوجهاتِ عددٍ من الخطباء والدعاة وطلاب العلم، بل وبعضٍ ممن يحسبون على العلماء!.

كان هؤلاء في بدء الأمر يعرضون ما عندهم بمداورة والتواء ولحنٍ في القول، وبصوت منخفض، وعلى استحياء، وفي مجالس خاصة، ثم تطور الأمرُ فأصبح بعضهم يُصرِّح بما عنده ولكن في مجالس خاصة أيضاً. وكان عددٌ من الدعاة وطلاب العلم يبلغهم ذلك، فتارة ينفونه عنهم حُسْنَ ظنٍّ بإخوانهم، وتارة يتوقفون، وأخرى ينصحون. ثم تطور الأمرُ أكثر، فأصبح بعضُ أؤلئك يصرِّح في حواراتٍ صحفية، أو فتاوى فضائية، أو مقالاتٍ (إلكترونية)، كلُّ ذلك كان يحصل والعلماء وطلاب العلم كانوا يغلِّبون حسن الظن بهم، ويؤمِّلون أوبتهم، ويطمعون في عودتهم. ورغم قلَّتهم -كما يعبرون هم عن أنفسهم- إلا أن تأثيرهم قد زاد، وما ذاك إلا لأن وسائل الإعلام قد فتحت لهم أبوابَها وقنواتِها، ولأن ما يطرحونه مما تستهويه الأنفس. ونسوا قول الله عزَّ وجلّ: {فَأَمَّاالزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} فطفق العلماء وطلاب العلم يتهامسون فيما بينهم: أما آن الأوان أن نصدع بالحق ونبين أخطاءهم حتى لا يغتر بهم العامة؟ وكانت طائفة من أهل الثبات على المنهج تدعو إلى الرويَّة حفاظاً على وحدة الصف ولمِّ الشمل، لكن القوم استفحل أمرُهم، وتجاوز الخلاف معهم المسائل الفقهية المبنية على التيسير غير المنضبط بضوابط الشرع: كالقول بجواز الأخذ من اللحية بلا قيد، وجواز إسبال الثياب، وعدم وجوب الصلاة جماعة في المسجد، وجواز سماع بعض آلات المعازف كالطبل وغيره -وهي مسائل وإن قيل بها إلا أنها مرجوحة-، وكالقول بجواز الاحتفال بأعياد الميلاد والأوطان، بل وبمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقضايا متعلقة بالمرأة كالحجاب والنقاب والعباءة واختلاط الرجال بالنساء ... إلخ. تجاوز الأمرُ ذلك كلَّه إلى قضايا عقدية ومنهجية: كمسائل في نواقض الإيمان، والولاء والبراء، والتسامح مع المبتدع، وجعل الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة، والدعوة إلى فتح الذرائع، وغير ذلك مما يناقض أصول أهل السنة والجماعة في العقيدة والاستدلال، كلُّ ذلك ضمن إطار ما يزعمونه من تجديد الخطاب الديني، وركوب موجة الإصلاح والتغيير بحجة استغلالهما قبل أن يستغلهما المُفسدون، وكأن الإصلاح والتغيير لا يكونان إلا بمسايرة الواقع، ومخالفة الشرع، والانفلات من التدين، وهذا عين ما يزعمه دعاة التحرير. بل تطور الأمرُ عند بعضهم، فطالت كتاباتهم، وبلغت سهامهم الدعوة السلفية، ودعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، وأثاروا الشكوك حولها، وتجرأ بعضهم على كبار علماء هذه البلاد ولمزوهم. وظلَّ السؤال يعيدُ نفسه: هل آن الأوان لنصدع بالحق ونبين خطأ إخواننا هؤلاء أم نظل ساكتين حتى تغرق السفينة، وتنهدم الصروح الشامخة التي بُنيت عبر عقود؟ والذي يراه الآن كثيرٌ من العلماء وطلاب العلم والدعاة أنه قد آن الأوان -إن لم يكن قد فات-، وأن عليهم أن يتداركوا الأمر ويفنِّدوا شبهاتِ هؤلاء الإخوة علناً كما نشروها علناً، وأن يصدعوا بالحق كما صدعوا هم بما يظنونه حقاً، فحديثهم عن كبار العلماء والمؤسسة الدينية وتأثيرها إنما ينصب على مدرسة الإمامين ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله- ومن سار على طريقتهما من العلماء وطلاب العلم والدعاة، وقد كانت طريقة هدى ورشاد، من غير ادعاء العصمة لهم من الخطأ. لذلك وجب الصدع بالحق في وجه هذا التيار نصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وبياناً للدليل، ولمأخذه عند أهل النظر من أهل الرسوخ من العلماء وطلاب العلم، وحفاظاً على مكتسبات الأمة خلال هذه العقود، لكن ينبغي أن يكون ذلك برفقٍ وعدلٍ وعلمٍ دون تعصُّبٍ لأحد، وألا يشغلنا الردُّ عليهم عن الردِّ على أهل الباطل الصرف من المبتدعة والعلمانيين والليبراليين كما شُغِلوا هم -وللأسف- عن ذلك. فيا علماء المسلمين، ويا طلاب العلم ابروا أقلامكم، وجهزوا صحائفكم، فإن كلمة الحق لا بد لها من سامع، وإن مقاومة الأخطاء المتكررة بالعلم، والبيان، وإقامة الحجة، عهدٌ عهده الله إليكم، فإن لم يكن الآن وقت ذلك فبالله عليكم متى يكون؟! قال الإمام أحمد: إذا سكتُّ أنا، وسكتَّ أنت، فمتى يتبيَّن الحق. أسال الله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا على دينه وسنة نبيه، وأن يردَّ إخواننا هؤلاء إلى الحق ردًّا جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الترجيح في حكم النشيد

الترجيح في حكم النشيد صالح بن أحمد الغزالي من المعلوم أنَّ النشيد بصورته الحاضرة من المسائل المستجدة التي لم يُسبق بحثها في كتب أهل العلم المتقدمين، وهذا داع إلى العناية بذكر حكمه مفصلا، ويضاف إليه الدواعي التالية: 1 - كثرة متعلقات النشيد، (الألحان، الكلمات، المقاصد، وغير ذلك من وقت السماع وكيفيته ... الخ) وتنوعها. 2 - قوة الخلاف في حكمه، وقد مرّت صورة واضحة من خلال عرض الأقوال، والأدلة السابقة. 3 - عموم الحاجة إلى معرفة حكم النشيد؛ لكثرته وانتشاره الواسع، خصوصا بعد انتشار أجهزة التسجيل وأشرطة الكاسيت، لهذه الأسباب وغيرها كان من المناسب بسط الحديث عن النشيد ومتعلقاته، وبيان حكمه التفصيلي. وإليك بيان ذلك مستعينا بالله، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان وما توفيقي إلا بالله. الحكم التفصيلي للنشيد: قبل معرفة الحكم التفصيلي للنشيد لابد من التنبيه إلى أمرين: الأول: أن ما يعرف - الآن - بالنشيد الإسلامي أنواع مختلفة، ومتباينة من حيث الألحان والكلمات والمقاصد فيجب التفصيل عند بيان الحكم بين أنواعه المختلفة لا الإجمال والتعميم، قال ابن القيم (¬1) - رحمه الله -: فعليك بالتفصيل والتمييز ... قد أفسدا هذا الوجود وخبّطا فالإطلاق والإجمال دون بيان ... الأذهان والآراءَ كلّ زمان وقال الشيخ محمد العثيمين (¬2) - رحمه الله - بخصوص التفصيل عند بيان حكم النشيد:" واعلم انه في هذا الباب لا تكاد تجد أحداً يفرق بين ما كان مشروعا (¬3) وغير مشروع، ولهذا أرى أن الأناشيد لابد أن تُعرض - قبل أن تُسمع - على طالب علم يميز بين الصحيح وغير الصحيح، ثم بعد ذلك تأخذ الحكم". الثاني: وأن كثيرا مما قاله أصحاب الرأيين (المانع، والمبيح) في حق النشيد حق وصواب، ولكن في بعض أنواعه لا في جميعها، فمثلا: من قال أن الأناشيد ليست من جنس الغناء الملحن المطرب، صح هذا في بعض الأناشيد دون بعضها، التي تشبه ألحان الأغاني، أو هي من جنسها. فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها ومن قال أن سماع الأناشيد يُلهي عن ذكر الله وتلاوة القرآن، صح هذا في حق كثير من المستمعين، دون من تقيد بسماعه في المناسبات دون غيرها من الأوقات. ومن قال أن الأناشيد طريق لدخول الأفكار القومية والبدع الصوفية، صح هذا في بعض الأناشيد دون بعضها، والذي يخلو من ذلك، وتلتزم كلماته بالمعاني الشرعية الصحيحة. ومن قال أن سماع الأناشيد ليس من جنس السماع الصوفي المحدث، صح هذا في حق البعض، ولم يصح في حق من التهى عن سماع القرآن ومواعظه بسماع النشيد ومواعظه. الحكم التفصيلي للنشيد: اعلم - رعاك الله - أن النشيد تتنازعه ثلاثة أصول: الحُداء والنَصْب أصل، والغناء المعروف عند أهل الغناء أصل، والسماع الصوفي المحدث أصل. فما وافقت صفاته من الأناشيد أحد هذه الأصول، سواء في الألحان، أو الكلمات، أو المقاصد، أُلحق به في الحكم، كما هي القاعدة القياسية الأصولية في الفرع الذي يتنازعه أكثر من أصل، فيُلحق بأكثرهم شبها. قال الناظم (¬4) - رحمه الله - عند بيان النوع الثالث من أنواع القياس: والثالث الفرع الذي ترددَ فيلتحق بأي ذين أكثرَ ما بين أصلين اعتبارا وُجدا من غيره في وصفه الذي يُرى ¬

(¬1) متن القصيدتين النونية والميمية، ابن القيم (ص: 38). (¬2) البيان المفيد، جمع: السليماني (ص: 14). (¬3) [أي: إباحة الشرع، لا أنه من الدين والشرع] (¬4) لطائف الإرشادات على تسهيل الطرقات لنظم الورقات، نظم شرف الدين يحيى العمريطي (ص: 53)

يعني أن النوع الثالث من أنواع القياس، قياس الشبه، وهو أن يكون الفرع مترددا بين أصلين أو أكثر فيلتحق في الحكم بأكثرهم شبها في الصفة (¬1). بناءً على ذلك يكون للنشيد ثلاثة أحكام: الحكم الأول للنشيد: إباحة سماع النشيد واستماعه إلحاقا له بالنَصْب والحُداء، الذي جاءت الرخصة بإباحته مقيداً، فيما إذا كان النشيد موافقا لهما في الألحان والمقاصد والكلمات، ويتحقق ذلك بالشروط التالية: الشرط الأول: في الألحان. أن تقع على أصل الخلقة دون تكلف وتصنع، بأن تقع بتطريب وترجيع يسيرين دون الألحان المتكلفة الموزونة على النغم الموسيقي المطرب، بله (دع) الألحان المائعة الماجنة، قال ابن قدامة (¬2) - رحمه الله -:"وأما الحُداء فمباح لا بأس به في فعله واستماعه، وكذلك نشيد الأعراب، وسائر أنواع الإنشاد، ما لم يخرج إلى حد الغناء". الشرط الثاني: أن لا يُقصد من سماعه التعبد كشأن أهل السماع الصوفي البدعي (¬3)، أو اللذة والطرب كشأن أهل الغناء الفسقي، بل شيء من الترويح والنشاط، قال الشاطبي (¬4) - رحمه الله -:" ولم يكن فيه - أي النشيد المباح - إلذاذ ولا إطراب يُلهي، وإنما كان شيء من النشاط". الشرط الثالث: أن لا تشتمل كلماته على معنى محظور في الشرع، كأن يكون النشيد وسيلة لدخول بدع الصوفية، أو وسيلة لترويج الشعارات القومية، والوطنية، والحزبية عن طريقه أيضا (¬5). الشرط الرابع: أن لا يشتمل على دف، بله (دع) بقية المعازف، قال الشيخ محمد العثميين (¬6) - رحمه الله -:"الأناشيد الإسلامية لا تخلو من حالين، أولاً: أن يكون فيها ضرب بالدف، وفي هذه الحالة تكون حراما؛ لأنها مشتملة على اللهو الذي لا يُباح في مثل هذه الحالة". الشرط الخامس: "أن لا تُتخذ ديدنا، وتُتخذ موعظة للقلب يتلهى بها الإنسان عن مواعظ الكتاب والسنة، فإنها تكون حينئذ إما محرمة وإما مكروهة؛ لأنها تصد عن كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬7). الشرط السادس: أن لا يحدث بسببها مفسدة في الدين كالتلهي عن سماع القرآن والعلم الشرعي به، أو في أمور الدنيا، كتضييع بعض الواجبات والمصالح المهمة بسبب الاشتغال به. وضابط هذه الشروط هو:"الحد الذي كان يُفعل بين يدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه، ومن يُقتدى بهم من أهل العلم (¬8)، ويخرج بهذا القيد من لا يجوز الاقتداء بهم، وهم في هذا الباب صنفان: أصحاب السماع الفسقي من أهل الغناء، وأصحاب السماع الديني المُحدث من أهل الطرق الصوفية البدعية. الحكم الثاني للنشيد: أن يلحق بغناء أهل الفسق في الذم والكراهة، وذلك إذا وافق النشيد غناء أهل الفسق في ألحانه أو كلماته أو مقاصده، ويكون ذلك في الحالات التالية: ¬

(¬1) انظر: نفس المكان. (¬2) المغني (9/ 176.) (¬3) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " المراد: التعبد بسماعه، فأما التعبد بنفعه وتأثيره في السامع فهذا ينبغي أن يُتخذ قُربة وعبادة، فإن كثيرا من الفسقة والفجرة وأهل الجرائم اهتدوا بسماع نشيد إسلامي يحتوي على التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار. وهكذا هناك من بذلوا الأموال في سبيل الله، وبذلوا النفوس، وصبروا على الأذى، وتحملوا المشاق بعد أن سمعوا هذه المواعظ في تلك القصائد. والقصص بذلك كثيرة ".] (¬4) الاعتصام (1/ 436). (¬5) البيان لأخطاء بعض الكتاب، الفوزان (ص 287) بتصرف يسير. (¬6) البيان المفيد، جمع: السليماني (ص: 14). (¬7) المصدر السابق، فتوى الشيخ محمد العثيمين (ص: 15). (¬8) الاعتصام (1/ 345).

1 - في حال التكلف والتصنع في أداء ألحان النشيد، فإنه - أي التكلف - في إنشاد الشعر من خصائص المغنيين ولم يكن الماضون الأولون - الذي يكون فهمهم حجة على من بعدهم - لم يكونوا يتصنعون أو يتكلفون في إنشاد الشعر إلا من وجه إرسال الشعر، واتصال القوافي فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه؛ كان ذلك مردودا إلى أصل الخلقة، لا يتكلفون ولا يتصنعون" (¬1). 2 - كون النشيد محكوما بالتلحين الغنائي الموزون على النغم الموسيقي المطرب، وعلة الحظر في هذه الحالة والتي قبلها، التشبه بالفسّاق والمجّان مع ما فيه من الإطراب المذموم الملهي. 3 - في حال مشابهة النشيد لألحان أغنية محرمة معلومة، وفي هذه الحالة من التشبه بالفساق والماجنين ما يجعله - أي النشيد - محظورا حتى عند بعض الغافلين عن الحالتين السابقتين وما فيهما من تشبه، قال الشيخ عبد الله علوان (¬2) - رحمه الله -:"لا يجوز للمنشدين أن ينشدوا أغاني فيها تشبه بالأغاني المائعة من ناحية أوزانها وألحانها؛ لأن السامع حين يسمعها يظن أن المنشد يغني الأغنية المائعة، والمقطوعة الفاجرة؛ لكون أكثر الناس يلتفتون إلى النغم واللحن، أكثر من التفاتهم إلى المعنى والنظم، وهذا مشاهد ومعروف في عالم الواقع الذي نحيط به، وننظر إليه ونعايشه، والرسول عليه الصلاة والسلام حذّر كل التحذير من التشبه بالمائعين والمخنثين". 4 - أن يشبه النشيد ألحان وكلمات أغنية محرمة، معلومة، ولو مع تغيير بعض الكلمات التغيير الذي يغير معنى الأغنية المحرم، مع بقاء الشبه والتذكير بالأغنية، كتلحين نشيد: عودوا يا ناس (للإسلام) ويّامه خلّوا اللوام يلوموا مهما لاموا على لحن الأغنية الماجنة: عودوا يا ناس (للحب) ويّامه خلّوا اللوام يلوموا مهما لاموا وعلة النهي في هذا العمل ونظائره هو: التذكير بالمحرمات، (نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الانتباذ في المزفت والحنتم والنقير) (¬3) وهي الأواني التي كانت مخصوصة للخمر فنهى عنها؛ لأنها تذكر بها، وهي علة التحريم، إذ لا لذة في رؤية القنينة وأواني الشرب، لكن من حيث التذكير بها، والذكر سبب انبعاث الشوق، وانبعاث الشوق إذا قوي فهو سبب الإقدام (¬4). 5 - أن يحصل تشبه أهل النشيد حين أداء النشيد بأهل الغناء والعزف، حين أداء الغناء في الهيئة الظاهرة، كالوقفة والحركة واللبس وطريقة الأداء والإلقاء. مثاله: أن يقف المنشد وفرقة النشيد فوق خشبة المسرح أمام الجمهور، وقفة الفرق الغنائية، حسب نظام وقوفهم الخاص، مثل انفراج الرجلين والقدمين بمقدار معين، ووضع الشعار (كالمنديل في الجيب أو المنشفة على الكتفين أو غيرهما)، وتحريك اليدين ارتفاعا وانخفاضا مع اللحن، أو تحريكهما مع المعاني المؤثرة، وتغميض العينين، ورفع الرأس وهزه يمنة ويسرة، وترتيب فرقة النشيد بالزي الموحد، كترتيب أعضاء الفرق الغنائية بحيث أن من يراهم يظنهم أحد الفرق الغنائية الماجنة. ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 348). (¬2) أناشيد (الشجرة الطيبة). (¬3) أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهي أواني كانت يُشرب فيها الخمر. (¬4) إحياء علوم الدين، الغزالي (2/ 272) بتصرف.

ففي هذه الهيئة (¬1) من التشبه بأهل الفساد ما يجعل عملهم هذا محظورا في الشرع، ولو كان ما ينشد مباحا، قال أبو حامد الغزالي (¬2) - رحمه الله -:"لو اجتمع جماعة وزيّنوا مجلسا وأحضروا آلات الشرب وأقداحه، وصبوا فيها السكنجين (¬3)، ونصبوا ساقيا يدور عليهم ويسقيهم، فيأخذون من الساقي ويشربون، ويحيي بعضهم بعضا بكلماتهم المعتادة بينهم، حرم ذلك عليهم، وإن كان المشروب مباحاً في نفسه؛ لأن في هذا تشبها بأهل الفساد". 6 - إن قُصد من النشيد - إلقاء أو سماعا - الإطراب، فإنه من مقاصد الغناء المحظور، وليس من مقاصد النشيد المباح (¬4). والإطراب واللذة تقعان في الأناشيد الزُهدية الحماسية، التي لا تقتضي معانيها اللذة والطرب، وذلك - أي الطرب - يكون من جهة ألحان النشيد المطربة، مثل أن تنشد القصيدة الزهدية: " يا ساكن القبر عن قليلي ماذا تزودت للرحيل؟ " أو: "يا نفس توبي فإن الموت قد حان واعص الهوى فإن الهوى ما زال فتّانا" بألحان لذيذة مطربة لاسيما مع طلبها وحبها، وتكرار سماعها من غير اتعاظ. قال ابن القيم (¬5) - رحمه الله -:"سماع الأشعار التي تتضمن إثارةً في القلب من الحب، والخوف، والرجاء، والطلب، والأنس، والشوق، والقرب، وتوابعها، صادف من قلوب سامعيها حبا وطلبا، فأثاره إثارة ممتزجة بحظ النفس، وهو نصيبها من اللذة والطرب الذي يحدثه السماع، فيظن تلك اللذة والطرب زيادة في صلاح القلب وإيمانه وحاله الذي يقربه إلى الله، وهو محض حظ النفس". 7 - في حال تضمن النشيد (آهات) المغنيين، الذين يتفننون في أدائها وإتقانها على أوجه كثيرة، من التطويل والتقصير والتفخيم والترقيق، وغير ذلك مما يتقنه أهل اللحن. 8 - في حالة تضمن النشيد كلمات أهل الغناء الخاصة بهم، كـ"يا ليل، يا عين" فإن هذا يوجب التذكير بأغانيهم المحرمة، والتشبه بهم، وكلاهما محظوران في الشرع. 9 - المد الفاحش في كلمات النشيد على نحو مد أهل الغناء، وتقييده بالفاحش هنا؛ ليخرج المد غير الفاحش في كلمات الشعر وإنشاده، فإنه يُباح، ودليل إباحته ما رواه البراء بن مالك في قصة حفر الخندق: ( ... فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب، ويقول - صلى الله عليه وآله وسلم -: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا، وإن أرادوا فتنة أبينا، قال: ثم يمد صوته بآخرها) (¬6). 10 - الاشتغال بالنشيد وسماعه في كل وقت وحين، كنحو اشتغال أهل الغناء بغنائهم. ¬

(¬1) [بمجموعها لا بوصف واحد منها، كالاصطفاف وحده، أو الزي الموحد وحده مثلاً.] (¬2) إحياء علوم الدين (2/ 272). (¬3) [فارسي مُعرّب، أصلها: سركا اتكبين، أي: خل، وعسل، وهو دواء مزيج من الخل والعسل، يُضاف إليهما مواد طيبة، ثم أُطلق على كل شراب مركّب من حلو وحامض (مُعجم الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدي شير ص: 92، الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب لابن القديم ص: 825).] (¬4) انظر: الاعتصام، الشاطبي (1/ 346 - 348). (¬5) الكلام على مسألة السماع (139 - 140) بتصرف. (¬6) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، انظر: الفتح (7/ 399).

11 - نشيد من يتقن صنعة الغناء ويحذقها، فإنه يُسمى غناء وصاحبه يُسمى مغنيا، وليس إنشاده من القدر المرخص به في الشرع، روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا) والشاهد من الحديث قول عائشة -رضي الله عنها -: (وليستا بمغنيتين)، قال النووي (¬1) -رحمه الله -:"وقولها (ليستا بمغنيتين) معناه ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به". 12 - إذا اقترن بالنشيد حركات أهل الغناء المعبرة عن اللهو والمجون، كالتمايل، وهز الرؤوس، فإنه يكون حينئذ محظورا، أخرج البيهقي بسند صحيح، عن أم علقمة، مولاة عائشة - رضي الله عنها: (أن بنات أخي عائشة - رضي الله عنها - خفضن، فألمن ذلك، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، قالت - أم علقمة -: فأرسل إلى فلان المغني فأتاه، فمرّت به عائشة - رضي الله عنها - في البيت، فرأته يُغني ويحرك رأسه طربا - وكان ذا شعر كثير - فقالت عائشة- رضي الله عنها -: أف شيطان، أخرجوه، أخرجوه، فأخرجوه) (¬2). 13 - أن يقترن بالنشيد بعض الأصوات المطربة التي هي دون الآلات، كالتصفيق، والصفير، والضرب بالأرجل والقضيب والصنج، فإنه يكون حينئذ مكروها (¬3). 14 - أن يكون فيها - أي الأناشيد - ضرب بالدف، وفي هذه الحالة تكون عند البعض حراما؛ لأنها مشتملة على اللهو الذي لا يُباح في مثل هذه الحالة (¬4). 15 - أن يقترن بالنشيد آلات العزف المحرمة، فيحرم، ولا يجوز فعله على أي وجه وحال. 16 - النشيد الذي يُؤدى بأصوات مائعة وألحان ماجنة، يحرم إنشاده وسماعه مُطلقا، فإن كانت أصوات النشيد غير مائعة، وألحانه غير فاتنة، وحصلت الفتنة بها عند بعض المستمعين، فتحرم في حقهم؛ إذ إن علة التحريم هنا هي الافتتان، وقد يكون في الصوت واللحن، فتحرم مطلقا، وقد يكون في المستمع فتحرم في حقه، والمرء طبيب نفسه، والله أعلم. الحكم الثالث للأناشيد: أن يلحق بالسماع الصوفي المحدث، إذا وافقه في بعض خصائصه، وعلله التي يحكم ببدعيته لأجلها (¬5). ويكون ذلك في الحالات التالية: 1 - الاعتقاد بأن الأناشيد المطربة من الدين، وهو نظير اعتقاد الصوفية أن سماعهم من الدين. 2 - الاعتقاد بأن الأناشيد المطربة تزيد في جذوة الإيمان، وهو نظير اعتقاد الصوفية أن السماع يزيد في الأحوال والمواجيد الإيمانية. 3 - اعتقاد البعض أن الأناشيد المطربة طريق يُقربهم إلى الله ويوصلهم إليه، ولا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: أنه قربة وطاعة وبر، وطريق إلى الله واجب، أو مستحب، إلا أن يكون مما أمر الله به أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬6). ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (6/ 182). (¬2) أخرجه البيهقي (10/ 223 - 224). (¬3) انظر: كف الرعاع، ابن حجر الهيتمي (105 - 110). (¬4) البيان المفيد، جمع: السليماني، فتوى الشيخ العثيمين (ص: 14). (¬5) [أساس علل الحكم ببدعية السماع الصوفي والنشيد في بعض أحواله - كالتي سنذكرها - هو جعل تلحين الشعر بالألحان المطربة ديناً وعبادة وقربة وطاعة وطريقة موصلة إلى الله، بالقول، أو الاعتقاد، أو القصد، أو العمل.] (¬6) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 451).

4 - عدّ الأناشيد المطربة من الوسائل الرئيسة التي يُطلب بها رقة النفوس، وخشوع القلوب (¬1)، ولم يكن ذلك من فعل السلف المتقدمين المقتدى بهم، قال الشاطبي (¬2) - رحمه الله -:"ولا كان المتقدمون أيضا يعدون الغناء (¬3). 5 - تلحين الشعر - جزءاً من أجزاء طريقة التعبد، وطلب رقة النفوس وخشوع القلوب (¬4). 6 - الاجتماع على الأناشيد المطربة وقصدها من أجل إصلاح القلوب ورقتها، وتذكرها بالآخرة، وذلك من البدع المحدثة بعد مضي القرون الفاضلة، المشهود لها بالخيرية، وقال ابن تيمية - رحمه الله-:" وأما سماع القصائد لصلاح القلوب والاجتماع على ذلك، إما نشيدا مجردا، أو مقرونا بالتغبير ونحوه، فهذا السماع مُحدث في الإسلام بعد ذهاب القرون الثلاثة، وقد كرهه أعيان الأئمة، ولم يحضره أكابر المشايخ" (¬5)، ولم يكن للسلف سماع يجتمعون عليه غير سماع القرآن الكريم. 7 - اتخاذ الأناشيد المطربة (¬6) من وسائل الدعوة الرئيسة، التي يُتوّب بها العصاة، فيُهجر لأجل ذلك الدعوة للكتاب والسنة،" ومن المعلوم أنما يهدي الله به الضالين، ويرشد به الغاوين، ويُتوب به العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصاً يحتاج إلى تتمة" (¬7). 8 - هجر سماع القرآن وتلاوته بسبب الاشتغال بسماع الأناشيد الملحنة وتلاوتها، وذلك من البدع المحدثة التي اشتد نكير الأئمة على أصحابها، قال أبو موسى - رحمه الله -:"سمعت الشافعي - رحمه الله - يقول: بالعراق زنادقة أحدثوا القصائد؛ ليشغلوا الناس عن القرآن" (¬8). ¬

(¬1) انظر: نشيد الكتائب (6 - 7). (¬2) الاعتصام (10/ 348 - 349). (¬3) يُطلق الغناء على تلحين الشعر، بدون آلة. (¬4) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " ولا يُنافي ذلك اتخاذه وسيلة من وسائل الدعوة، فيضمن مع حُسن الصوت معاني مؤثرة في السامع، مما ينتج عن سماعها رقة القلب، ودمع العين، وتسبب التوبة من السيئات، والإقلاع عن الخطايا، والانكباب على الطاعة، والتوبة الصادقة، فيكون لمن أنشدها وسجلها مثل أجر مَن اهتدى بسببها. والله أعلم".] (¬5) مختصر الفتاوى المصرية (ص 592). ابن جبرين - حفظه الله -:" السماع الذي يُريده ابن تيمية- رحمه الله - هو ما أحدثه الصوفية من الهزيج والطرب والرقص وضرب الأرض بالأرجل وهز الرؤوس عند سماع تلك القصائد وهو المُسمى عندهم بالسماع الذي مدحوه وقالوا فيه كل مجال: هو طاعة هو قُربة هو سُنّة ... شيخ قديم صادهم بتميل وسيق إلينا عذبها وعذابها ... حتى أجابوا دعوة المحتال" (¬6) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " يُراد بالطرب هنا: ما يُحرك البدن، ويهتز له الرأس ويدعو إلى تمايل ورقص ونحو ذلك، ولا ينافي أن تتخذ القصائد الوعظية من وسائل الدعوة، فقد جُرّب نفعها في رجوع كثير من العصاة كالخطب والنصائح والمواعظ، وكل الجميع مصدره من الوحيين فلا يُقال أن فيها زيادة على ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم- ".] (¬7) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 623). (¬8) انظر: الكلام على مسألة السماع، ابن القيم (ص: 124).

9 - ثقل سماع القرآن الكريم بسبب الاعتياد على سماع الأناشيد، وهو - أي ثقل سماع القرآن - أمر طبعي في حق من اعتاد سماع الأناشيد، واعتنى بها أكثر من اعتنائه بسماع القرآن الكريم (¬1). ويحصل الاستثقال هنا لسببين: الأول: اعتياد قلبه على سماع الأناشيد الملحنة بالأنغام المطربة المتنوعة، ويحصل لذلك نفور سماع آيات القرآن الكريم التي لا يكون فيها ذلك الإطراب الذي اعتاد عليه القلب وتعلق به (¬2). الثاني: إنّ في الشعر والنشيد موافقة لأغراض النفوس - قلّ أو كثر - بخلاف القرآن الكريم الذي فيه تقييد للنفوس بالأوامر والنواهي الصارمة، قال ابن القيم - رحمه الله - مُشيرا إلى هذا السبب: ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي وأتى السماع موافقا أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه (¬3) ولهذا يوجد مَن اعتاد سماع الأبيات الملحنة واغتدى بها، ولا يحن إلى القرآن ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات ذوقا وحلاوة ووجدا، كما يجد في سماع الأبيات، بل ولا يُصغي أكثر الحاضرين أو كثير منهم إليه، ولا يقومون معانيه، ولا يغضون أصواتهم عند تلاوته (¬4). 10 - التأثر بمواعظ النشيد دون مواعظ القرآن الكريم، وهذا من علامات السماع المحدث (¬5)، قال ابن الجوزي (¬6) - رحمه الله -:"وقد نشب حب السماع بقلوب خلق منهم فآثروه على قراءة القرآن، ورقة قلوبهم عنده بما لا ترق عند سماع القرآن، وما ذاك إلا لتمكن هوى باطن، وغلبة طبع، وهم يظنون غير هذا"، ثم ساق من تاريخ الخطيب بإسناده إلى أبي نصر السّراج، يقول:"حكى لي بعض إخواني عن أبى الحسين الدراج. قال:"قصدت يوسف ابن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلت الري سألت عن منزله، وكل من أسأله عنه يقول: إيش تفعل بهذا الزنديق؟! فضيقوا صدري حتى عزمت على الانصراف، فبتُّ تلك الليلة في مسجد، ثم قلت: جئت هذه البلدة فلا أقل من زيارته، فلم أزل أسأل عنه حتى وقعت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب، بين يديه رجل على يديه مصحف، وهو يقرأ. فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: من أين؟ قلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ. فقال: تحسن أن تقول شيئا؟ قلت: نعم. وقلت: رأيتك تبني دائما في قطيعتي! ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني!! فأطبق المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وثوبه! حتى رحمته من شدة بكاءه!! ¬

(¬1) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -:" لكن غير مطرد، فكثير من الذين يستمعون النشيد المفيد ويتأثرون بما فيه من المواعظ والنصائح، ويُكثرون من اقتنائه والاستفادة منه ليس لمجرد التلذذ بالنغمات ولا الارتياح للأصوات والنبرات، وإنما للمعاني والمحتويات، والفوائد المتنوعة، ومع ذلك لا يهجرون القرآن بل يقرؤونه، ويستمعون له، ويُنصتون لقرأته، ويتلذذون ويتنعمون بسماعه وتدبره، فيجمعون بين سماع المواعظ في النشيد، وسماع القرآن وغيره. والله أعلم".] (¬2) انظر: نزهة الأسماع، ابن رجب (ص: 89). (¬3) إغاثة اللهفان (10/ 346). (¬4) الكلام على مسألة السماع، ابن القيم (ص: 107). (¬5) [ابن جبرين - حفظه الله -: " ولعل السبب غرابة هذا المسموع وطرافته وجدته، فإن النفس تتأثر بالمسموع لأول مرّة، وينتج من ذلك التأثر رقة وخشوع وبكاء وخوف، ثم يَقِل تأثيره إذا أُعيد للمرة الثانية، وكذا الثالثة، وإن كان الواجب أن يتأثر كلما سمع القرآن أو تلاه، حيث أنه لا يخلق عن كثرة الرد، ولكن لكل جديد أثر، وهكذا يكون في سماع النشيد، فإنه لا يتأثر بما قد تكرر على سمعه مراراً، بل يكون سماعه كمعتادٍ غيره ".] (¬6) تلبيس إبليس (ص: 239).

ثم قال: يا بني تلوم أهل الري، على قولهم: يوسف ابن الحسين زنديق، ومن وقت الصلاة هو ذا أقرأ القرآن، لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليّ القيامة بهذا البيت" (¬1). وهل يعذر المرء في أحوال السماع الفاسدة وهي في غير مقدوره؟ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -:"قال بعض العارفين: إن أحوال السماع بعد مباشرته تبقى غير مقدورة للإنسان، بل خارجة عن حد التكليف، وهذا غير معذور فيه؛ لمباشرته أسبابه؛ فهو كمن زال عقله بالسكر (¬2). 11 - العناية بالنشيد المطرب، والاشتغال به في أكثر الأوقات على وجه أنه طاعة وعمل صالح، قال الشيخ عمر الأشقر (¬3) - حفظه الله -:"وجاوز أقوام الطريق، فأصبح الإنشاد والغناء شغلهم الشاغل، وأحدثوا له أنغاما، ورققوا أصواتهم، حتى أصبح فنا، لا أقول هذا عن الفساق من المغنيين والمغنيات، وإنما مرادي أولئك الذين اتخذوا هذا دينا يقربهم إلى الله تعالى، وشغلوا بذلك أوقاتهم، وهجروا قرآن ربهم". 12 - جعل الأناشيد الملحنة المطربة من جنس أعمال القربى التي تفتقر إلى إخلاص النية فيها لله وحده دون سواه، كما تفتقر الطاعات والعبادات المحضة لذلك، فيقال مثلا - عند ابتداء الأناشيد أو ختامها -:"نسأل الله عز وجل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه"، أو"نعوذ بالله أن نخلط عملنا هذا برياء" أو نحو هذه الكلمات التي تنوى عند ابتداء الطاعات والعبادات المحضة. ولا يصح أن يقال: النشيد الملحن المطرب من جنس شعر الدعوة الإسلامي، الذي نصّ الفقهاء على استحبابه وعدوه من الطاعات والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله؛ لما يتضمن من الدفاع عن الدين، والذود عن حياضه، والتزهيد في الدنيا .. وما كان كذلك فهو مفتقر إلى إخلاص النية وتصحيحها، وذلك لأن النشيد بهذه الصفة ليس شعرا فقط، وإنما هو شعر مضاف إليه التلحين المطرب، وإباحة شيء أو استحبابه لوحده ليس دليلا على إباحته مع غيره؛ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "لأن التركيب له خاصية تؤثر على الحكم، ألا ترى أن الماء مباح فإذا أضيف إليه تمر على هيئة خاصة أصبح (نبيذا) محرما". "وهذا نظير ما يُحكى عن فقه إياس بن معاوية، أن رجلا قال له: ما تقول في الماء؟ قال: حلال. قال: فالتمر؟ قال: حلال. قال: فالنبيذ ماء وتمر فكيف تحرمه؟ فقال له إياس: أرأيت لو ضربتك بكفٍ من تراب أكنت أقتلك؟ قال: لا. قال: فإن ضربتك بكف من تبن، أكنت أقتلك؟ قال: لا. قال: فإن ضربتك بماء أكنت أقتلك؟ قال: لا. قال: فإن أخذت الماء والتبن والتراب، فجعلته طينا، وتركته حتى يجف، وضربتك به أكنت أقتلك؟ قال: نعم. قال: كذلك النبيذ". " ومعنى كلامه أن المؤثر هو القوة الحاصلة بالتركيب، والمفسد للعقل هو القوة الحاصلة بالتركيب" (¬4) انتهى، وكذلك ما نحن فيه" (¬5). ¬

(¬1) تاريخ بغداد للخطيب (14/ 318) (¬2) الكلام على مسألة السماع (ص: 400). (¬3) جولة في رياض العلماء (ص: 59). (¬4) الكلام على مسألة السماع، ابن القيم (270 - 271). (¬5) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " هذا الوصف ينطبق على سماع الصوفية الذي يحصل من آثاره طرب ونشوة ورقص وتمايل يُشبه حال أهل السكر، ولهذا أنشد ابن القيم قول الشاعر: تُلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساهٍ لاهي وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي فانظر إلى النشوانٍ عند شرابه ... وانظر إلى النسوان عند ملاهي وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي واحكم فأي الخمرتين ... أحق بالتحريم والتأثيم عند الله" ]

13 - الاعتقاد بأن كمال التربية الروحية والإيمانية والجهادية للشباب والترقي بهم في ذلك لا يتم إلا عن طريق الأناشيد المطربة، وهذا نظير اعتقاد الصوفية أن أحوالهم مع الله وصلتهم به لا تتم إلا عن طريق السماع. 14 - الاعتقاد بأنه لابد للشباب من سماع الأناشيد أيا كانت، ولو كان فيها بعض المحاذير، لاسيما لمن اعتاد سماع الغناء؛ وإلا فإنهم سيتركون الالتزام بالدين، ويرتكبون المحظورات من سماع الأغاني وغيرها من المحرمات. وفي هذا الكلام وجه من الشبه؛ لقول بعض الصوفية: إن محبته لله - عز وجل - ورغبته في العبادة وحركته ووجده، وشوقه، لا يتم إلا بسماع القصائد، وسماع الأصوات والنغمات، ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة، ما لا تتحرك بدون ذلك، وأنهم - بدون ذلك - قد يتركون الصلوات، ويفعلون المحرمات، ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم، وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم، وتحملها على فعل الطاعات، ويقولون: أن الإنسان يجد في نفسه نشاطاً وقوة في كثير من الطاعات، إذا حصل له ما يحبه، وإن كان مكروهاً، وأما بدون ذلك فلا يجد شيئاً، ولا يفعله، وهو أيضا يمتنع عن المحرمات إذا عوض بما يحب، وإن كان مكروهاً وإلا لم يقنع (¬1). نقل ذلك عنهم الشيخ تقي الدين - رحمه الله - ونقدهم (¬2). 15 - الاعتقاد بأن الأناشيد المطربة من شعائر الالتزام بالدين وعلامات الاستقامة، كاعتقاد بعض العامة أن سماع الأناشيد خاص (بالملتزمين)، وعلامة من علامات الهداية، والتوبة، والرجوع إلى الله، وكذلك يعتقد الصوفية في سماعهم أنه من علامات الاستقامة والصلاح والتوبة!! (¬3) والصحيح أن ترك (الأغاني) من علامات الاستقامة، وأما سماع أو محبة الأناشيد الملحنة والمطربة فليست من الطاعات، وأما الكلمات الطيبة فهي محمودة في القصائد وغيرها. 16 - تقديم الأناشيد والاشتغال بها على بعض النوافل الشرعية، خصوصا طلب العلم الشرعي، وهو نظير تقديم الصوفية السماع على بعض النوافل، كقيام الليل وقراءة القرآن. 17 - قصد الأماكن الفاضلة للإنشاد، كجعل الأناشيد الملحنة المطربة في المساجد؛ فإنه من بدع الصوفية المحدثة في سماعهم دون غيرهم، قال أبو الطيب الطبري (¬4) - رحمه الله -:"ليس في المسلمين من جعله (تلحين الشعر) طاعة وقربى، ولا رأى إعلانه في المساجد، ولا حيث كان من البقاع الكريمة والجوامع الشريفة؛ فكان مذهب هذه الطائفة (الصوفية) مخالفاً لما أجمع عليه العلماء". وأما مُجرّد الإنشاد فلا بأس. 18 - قصد الأوقات الفاضلة أو ما يظن أنها فاضلة للإنشاد، كيوم مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، ورجب، وليلة القدر. ¬

(¬1) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " لا شك أنا إذا رأينا من الشباب إقبالاً على الأغاني الماجنة، وسماع الموسيقى، والتلذذ بآلات الطرب والمزامير والمعازف، ورأيناهم قد شُغفوا بذلك، وأكبوا عليه، فإنا نبذل السبب في صدهم عن ذلك، وتخفيفه عنهم، ولا شك أن سماع هذا النشيد الذي فيه مواعظ وتخويف وترقيق ووعد ووعيد، هو أخف وأحسن من سماع ذلك اللهو والطرب، فيرتكب أخف الضررين، فبعض الشر أهون من بعض ".] (¬2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 203). (¬3) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " إلاّ أن هناك فرق بين سماع الصوفية الذي هو رقص وطرب وضرب بالأرجل وهز للرؤوس ونحوه، مما يُثيره ذلك السماع المبتدع، وبين النشيد الذي هو قصائد علمية وعظية مُفيدة، لها وقع في النفوس، ينشرها الشباب الملتزم، ويحصل بها توبة، وإقلاع وبُعدٌ عن الحرام، وإقبال على العبادة، ومحبة لجنس الطاعة ".] (¬4) نزهة الأسماع، ابن رجب (ص: 84).

19 - الغلو في النبي (¬1) - صلى الله عليه وآله وسلم - وإطرائه، كما أطرت النصارى عيسى بن مريم - عليه السلام- ورفعه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى مقام الألوهية، نحو الاستغاثة به - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما لا يقدر عليه إلا الله - عز وجل -، ككشف الكرب، وإزالة الظلم، ويقول بعض المنشدين: يا أيها المختار هل من ومضة تجلي بوهج برقيها الظلمات (¬2) فإن حقيقة الشرك هو دعاء غير الله تعالى بالأشياء التي يختص بها، أو اعتقاد قدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه (¬3). 20 - أن يتضمن النشيد كلمات الدعاء والنداء والتوجه إلى غير الله، والاستغاثة واستجلاب الخير من غير الله - عز وجل -، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره، ولا من غيره (¬4). 21 - إذا تضمن النشيد الدعوة إلى بعض البدع الصوفية، كتعظيم يوم مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعله عيدا، مثل قول بعض المنشدين: مولد الهادي سلاما أنت للأجيال عيد (¬5) 22 - التغني بالذكر البدعي غير المشروع، كالتغني بلفظ الجلالة (الله) مُفردا في مقام الذكر والعبادة، فإن اشتملت الأناشيد على ذلك فإنها تكون حراما؛ لأن هذا الذكر مُحدث، والعبادة مبناها على التوقيف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6) - رحمه الله -:"المشروع في ذكر الله - سبحانه وتعالى - هو ذكره بجملة تامة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا، فلا أصل له، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬7). وإن كان التغني بالاسم المفرد (آلله، آلله) في النشيد لمجرد التلحين والتطريب، فغير مشروع أيضا؛ لأنه استعمال له في غير محله، قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180)، ولم يقل تغنوا بها. 23 - التغني بالذكر المشروع على طريقة بدعية، نحو طريق الإنشاد الجماعي الملحن بصوت واحد، مثل أن تنشد كلمة التوحيد بأصوات ملحنة منظمة جماعية، متوافقة في مقام الذكر والعبادة. ¬

(¬1) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " لا شك أنه هذا شيء واقع، وأنه ممنوع وحرام، والغالب أنه يكون في قصائد المتصوفة والقبوريين، وأهل الجهل والشرك في الأقوال، الذين أوقعهم جهلهم في هذا الغلو، باسم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وتوقيره والاعتراف بحقه ... الخ. فزادوا في وصفه، وأعطوه خالص حق الله من التعظيم والعبادة، وأوصاف العظمة، وما لا يستحقه إلا الله، وقد فطن لذلك أهل التوحيد والإخلاص فنزّهوا قصائدهم ونشيدهم عن هذا الغلو والإطراء، حيث رووا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وقوله: (إياكم والغلو فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو) وقوله: (أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) ونحو ذلك.] (¬2) نشيدنا، سليم عبد القادر (ص: 61). (¬3) انظر: الدر النضيد، الشوكاني (145، 163). (¬4) نفس المصدر (ص: 163). (¬5) نشيد الكتائب (ص: 94). (¬6) البيان المفيد، جمع السليماني، فتوى الشيخ محمد العثيمين (ص: 4). (¬7) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 226، 233) بتصرف.

ووجه مخالفة هذه الهيئة للصفة المشروعة في أمور، منها: الجهر بالذكر، ورفع الصوت به في غير محله، ومنها تلحين الذكر وتنغيمه، ومنها أداؤه جماعة بصوت واحد، وهذه الأوصاف الثلاثة مخالفة للهيئة المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والعبادات مبناها على التوقيف، والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في: كيفيتها، وسببها، وجنسها، وقدرها، وزمانها، ومكانها (¬1). ومن جهة المعقول: فإن تلحين كلمات الذكر وتمطيطها سبيل إلى تحريفها، وتغيير معانيها، وكأن تنشد كلمة التوحيد بلفظ ( ... موحامد رسول الله)؛ ولهذا كره الإمام أحمد - رحمه الله - القراءة بالألحان، وقال الإمام لمن تعجب من ذلك:" ما اسمك؟ قال: محمد. قال: أيسرك أن يقال لك: موحامد"؟ (¬2) 24 - تلحين الأدعية بطريقة التمطيط الفاحش، على نحو صنيع مبتدعة الصوفية في الابتهالات والتواشيح الدينية، فإنه مُحدث في الدين، وكل مُحدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة! ومن جهة المعقول: فإن سؤال الله - عز وجل - ودعائه بطريقة التمطيط والتلحين الفاحش ممقوت، وغير مناسب لحال السؤال والتذلل، فلو أن رجلا دخل على صاحب سلطان فقال له:"ياآآيها السلطآآن هآب لي ... " على طريقة التمطيط المعهودة هنا، أتراه محسناً في تقديم طلبه؟ أم تراه مقدرا لصاحب السلطان ومعظما له؟! 25 - أن يقترن بالنشيد الأصوات المطربة التي هي دون الآلات، كالتصفيق والصفير، والضرب بالقضيب والأرجل، على وجه الطاعة والقربة، وترقيق القلوب وإصلاحها، فلهؤلاء نصيب ممن قال الله فيهم:"وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً" (الأنفال: 35) والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، كذا قاله غير واحد من السلف (¬3). 26 - أن يقترن بالنشيد ضرب الدف، على وجه الطاعة والقربة، وترقيق القلوب وإصلاحها، ففعل ذلك من البدع المُحدثة، المتفق على تحريمها، وليس من جنس اللهو المختلف في حكمه بين الفقهاء،" سئل الفقيه الشافعي تقي الدين السبكي - رحمه الله - عن الرقص والدف وعن حضور السماعات؟ فأجاب عنه بقوله: واعلم بأن الرقص والدف الذي ... سألت عنه وقلت في أصوات فيه خلاف للأئمة قبلنا ... شرح الهداية سادة السادات لكنه لم تأت قط شريعة ... طلبته أو جعلته في القربات والقائلون بحلّه قالوا به ... كسواه من أحوالنا العادات فمن اصطفاه لدينه متعبدا بحضوره فاعدده في الحسرات (¬4) 27 - جعل الأناشيد الملحنة المطربة من الأمور المستحبة أو الواجبة، فإنه لا يجور لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: أنه قربة، وطاعة، وبر، وطريق إلى الله واجب أو مستحب، إلا أن يكون مما أمر الله به، أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - والأناشيد الملحنة المطربة - أيّاً كانت معانيها - ليس مما أمر الله به، ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -" (¬5). ¬

(¬1) انظر: دروس وفتاوى من الحرم المكي، الشيخ محمد العثيمين (32 - 35). (¬2) انظر: زاد المعاد (1/ 489). (¬3) نزهة الأسماع، ابن رجب (ص 83) بتصرف. (¬4) كف الرعاع، ابن رجب الهيتمي (ص: 83). (¬5) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 451).

28 - الإصغاء إلى ألحان النشيد، والشوق والحنان إليها، والراحة النفسية، والاطمئنان القلبي حين سماعها، أكثر من سماع القرآن الكريم، وسبب ذلك أن في القلب فراغ وجوع روحي، ومتى استفرغه المرء في سماع الشعر مجردا أو ملحنا - النشيد -، أو القصص المقروء أو المشاهد - التمثيل - أو غير ذلك مما يحصل به تغذية النفوس والأرواح، لم يبق بعد ذلك مكان لسماع القرآن الكريم (¬1). 29 - جعل النشيد بديلاً وعوضاً عن الغناء، يُترنم به في كل وقت وحين، والصواب أن البديل الإسلامي للغناء، والذي يحصل به استغناء القلب وغذاؤه وعافيته هو القرآن الكريم، قال ابن الأعرابي (¬2) - رحمه الله -:"إن العرب كانت تتغنى بالركباني - وهو النشيد بالتمطيط والمد - إذا ركبت الإبل، وإذا تبطحت على الأرض، وإذا جلست في الأفنية، وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يكون القرآن هجيرانهم مكان التغني بالقرآن، فقال: (ليس منا من لم يتغنى بالقرآن) (¬3). 30 - الخلط والجمع بين قراءة القرآن وتلاوته، وبين إنشاد الشعر وتلحينه في مكان وزمان واحد، وهذا من إحداث جهال الصوفية المتأخرين، ولم يكن من فعل سلف الأمة المقتدى بهم، المشهود لهم بالخيرية، بل كان - زيادة في التحرز - ينهى بعض السلف عن خلط القرآن بالشعر، قال أبو بكر الخلال في كتابه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (¬4): "عن الرجل يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمام الشعر، فكأنه لم يعجبه - أي الإمام -، وقال حدثنا حفص عن مجالد، عن الشعبي قال: كانوا يكتبون أمام الشعر: (بسم الله الرحمن الرحيم) وقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن الكريم، فما بال القرآن يُكتب مع الشعر؟ وقال: هذا حديث أنس: (أنزلت عليّ سورة، وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم) وهو حجة ألا يكتب أمام الشعر". 31 - التغذي بالأصوات المطربة الملحنة في النشيد (¬5)، جاء في مقدمة أناشيد الكتائب (¬6): "إنه - أي صوت المنشد أبي مازن - صوت ينبعث من أعماق الجنان، فيسمو بالنفس ويرقى بالروح، ويعمل على بعث معاني الحق، وتجديدها في النفس"، وجاء في مقدمة نشيدنا (¬7) في مدح صوت المنشد أبي الجود نظما: ينساب صوتك في روحي فيرشفها شهدا تسامر على خمر العناقيد ولا ريب أن الأصوات العذبة بمجردها، وكذا النغمات الموزونة، والألحان الجميلة، ليست مما يتقرب به إلى الله، ولا مما تزكى به النفوس وتطهر، فإن الله شرع على ألسنة المرسلين كل ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوزارها، ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل شيئا من ذلك، وإنما يأمر بتزكية النفوس بالألحان من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة، كما يأمرون بعشق الصور، وقد أنكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - وغيره على المتصوفة المبالغة في مدح الألحان وجعلها أمراً واجباً أو مُستحباً. قال ابن القيم (¬8) - رحمه الله -:"قال إمام الزنادقة ابن الراوندي: اختلف الفقهاء في السماع، فقال بعضهم: هو مباح، وقال بعضهم: هو محرم، وعندي: أنه واجب، ذكره أبو عبد الرحمن السلمي عنه، في مسألة السماع، واعتد به، وكذلك شيخ الملاحدة وإمامهم ابن سينا في الإشارات (¬9) أمر بسماع الألحان وعشق الصور، وجعل ذلك مما يزكّي النفوس ويهذبها ويصفيها، وقبله ومعهم معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي، إمام أهل الألحان". ¬

(¬1) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " وذلك خاص بما إذا كان السبب الدافع له هو مجرد التلذذ بالصوت الملحن والاشتياق إليه، فأما إن كان قصده المعاني والمحتويات التي تضمنها ذلك النشيد، وما فيها من الزجر والتخويف والوعظ والوعد والوعيد، أو بيان الأحكام، وتوضيح الأدلة، فإن ذلك محمود، ولا يكون شاغلاً عن سماع القرآن والذكر والخير ".] (¬2) انظر: المجموع المغيث (2/ 581). (¬3) رواه البخاري في صحيحه، انظر: الفتح (13/ 501). (¬4) (ص: 166). (¬5) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " وقد ورد الأمر بتحسين الصوت بالقرآن في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن لم يتغن بالقرآن فليس منا) وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى بحسن صوته وقال: (لقد أُوتي مزماراً من مزامير آل داود). فمن هذه الأحاديث استحب للقراء أن يُحسنوا به أصواتهم، وقد شوهد تأثير السامعين لمَن رُزق صوتاً حسناً، وإكبابهم على استماع قراءته، وتأثرهم به، ورقة القلب ودمع العين عند سماعه، وهكذا إذا سمعوا قصائد وعظية أو زهدية، وكان الناظم لها أو المسجل من ذوي الصوت الحسن الرقيق، كان تأثيرها في القلوب أبلغ، ولا يكون ذلك شاغلاً عن سماع كلام الله تعالى، وقراءته، والله أعلم ".] (¬6) (ص: 6). (¬7) (ص: 35). (¬8) الكلام على مسألة السماع (261 - 262). (¬9) انظر: الإرشادات والتنبيهات (4/ 82).

جواب سؤال عن كتاب: (ظاهرة الفكر التربوي)

جواب سؤال عن كتاب: (ظاهرة الفكر التربوي) علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف 3 ذو القعدة 1430هـ السؤال: هل اطلعتم على كتاب (ظاهرة الفكرالتربوي) لمؤلفة الشيخ ذياب الغامدي، وما رأيكم فيه؟ الجواب: الحمد لله نعم اطلعت على الكتاب، والشيخ ذياب كتبه نافعة نفع الله به، والدعوات بحاجة إلى نقد لتصحيح مسيرتها، لكني رأيت في الكتاب مبالغات ونقداً بعضه ليس في محله، وقد أطال الشيخ وأسهب في مصطلحات وألفاظ كنت أتمنى لو وفَّر وقته وسخَّر قلمه فيما هو أولى من ذلك، وأرى أن المعركة الآن مع المبتدعة والعلمانيين والليبراليين و (المتغربين) الذين يريدون نشر الفاحشة والمنكر بين المسلمين وتغريبهم، فينبغي أن يتوجه النقد والفضح لهم، وهؤلاء الدعاة أو من سماهم الشيخ بالتربويين لهم أثرٌ طيب في المجتمع مهما اختلف هو أو غيره معهم، فنقدهم النقد البناء مطلوب أمَّا النقد الذي يهدم ولا يبني والتحذير والتنفير منهم في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن وتوجهت أسهم أعداء الإسلام من الداخل والخارج على الدعوة والدعاة والمحتسبين فلا أرى أن المصلحة فيه. ولعلنا نرى من أخينا الشيخ ذياب كتاباً بأسلوبه الجزل الرصين ما يفضح ويعرِّي فيه أعداء الإسلام لا دعاته، وأن يسخِّر قلمه لكشفهم والرد على شبهاتهم. والله أعلم.

الفرق بين بيت الله الكعبة وسائر الجامعات المختلطة

الفرق بين بيت الله الكعبة وسائر الجامعات المختلطة إبراهيم الأزرق مقدمة: الحمد لله رب العالمين وبعد فقد اضطرني لاختيار هذا العنوان بعض المساكين الذين ضعفت عقولهم حتى بات بعضهم لا يفرق بينهما فيما يظهر! فيقولون: وماذا في الاختلاط بالجامعات؟ أليس هو حاصل في كذا وفي كذا وعند بيت الله؟

ولهؤلاء أقول: إن الاختلاط إذا أطلق -عن بعض أو كل قيود الشريعة- محرم عند أهل العلم من حيث الأصل، ومن أدلة ذلك أمر النساء بالقرار في البيوت (¬1)، مع منع الرجال من الدخول عليهن (¬2)، وقوله صلى الله عليه وسلم المرأة عورة (¬3)، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام: فاتقوا النساء (¬4)، وقصة سالم مولى حذيفة والتحرج من دخوله على سهلة رضي الله عنهم مع تبنيه ونشوئه في حجر حذيفة زوجها (¬5)، إلى غير ذلك من الأدلة التي جمعها بعض أهل العلم في رسائل ومؤلفات مستقلة ولا يتسع المقام لسردها فضلاً على بيان أوجه دلالتها (¬6). الاختلاط المقيد: ¬

(¬1) كما في آية الأحزاب: 33. (¬2) كما في حديث عقبة بن عامر المتفق عليه: إياكم والدخول على النساء، البخاري (4934)، ومسلم (2172). (¬3) صحيح بن خزيمة 3/ 93، ورواه أيضاً في التوحيد من حديث قتادة عن مورق وقد صحح رفعه الإمام الدارقطني كما في العلل له (5/ 314)، وقد رواه أيضاً ابن حبان في صحيحه من طريق ابن خزيمة 12/ 413، وكذلك الهيثمي في موارد الظمآن 1/ 103، ورواه الترمذي في السنن وقال: حسن غريب (3/ 476) إلاّ أن المنذري قال في الترغيب والترهيب 1/ 142: "رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب" وهذا تصحيح من الإمام الترمذي له، ولعله كذلك في بعض نسخ الجامع ومما يؤيده نقله من قبل غير المنذري كالزيلعي في نصب الراية 1/ 411 وكذلك ابن الهمام في فتح القدير 1/ 259 وكذلك ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/ 123 نقل تصحيحه عنه ويبعد وهم هؤلاء جميعاً، وقد عزاه المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 141 للطبراني في الأوسط وقال رجاله رجال الصحيح، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 34 وقال في التي بعدها: رجاله موثقون، وهو في الأوسط للطبراني 8/ 101، وفي الكبير 10/ 108، وقد صحح هذا الحديث الدارقطني والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وجوده ابن كثير (التفسير 3/ 483) والمنذري والهيثمي وغيرهم، والظاهر أنه صحيح وقد خالف هماماً سليمان بن المعتمر فرواه عن قتادة عن أبي الأحوص، ولهذا شك ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث خاصة عن مورق، والأقرب صحة سماعه له منه، فالرواي عن قتادة همام، ولئن كان سليمان أجل وأوثق في الجملة فإن هماماً من أوثق الناس في قتادة خاصة، فهو رابع أربعة في قتادة لا يقدم عليه فيه إلاّ ابن أبي عروبة وهشام وشعبة (انظر الكامل 7/ 129، وتهذيب الكمال 30/ 306، والجرح والتعديل 9/ 108 وغيرها)، خاصة إذا حدث عن همام من روى عنه متأخراً لكونه من كتابه، وعمرو بن عاصم من طبقة من رووا عنه أخيراً كعفان بن مسلم وحبان وبهز، وقد احتج البخاري برواية عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة في خمسة مواضع من صحيحه، ويعزز صحة رواية همام أيضاً متابعة سعيد بن بشير وسويد بن إبراهيم -ووالأقرب أنهما صالحين للاعتضاد- لها فهو لم يتفرد بها عن قتادة والله أعلم، وقد صح الأثر عن ابن مسعود موقوفاً كذلك، فلعل بعض الرواة مرة رفعه ومرة أخرى وقفه، ومثله إخبار عن غيب لعله لايقال بالرأي والله أعلم. (¬4) صحيح مسلم (2742). (¬5) متفق عليه؛ البخاري (4800)، ومسم (1453). (¬6) منها رسالة مختصرة في حكم الاختلاط للشيخ محمد بن إبراهيم جمع فيها تسع عشرة دليلاً على تحريم الاختلاط، وقد أفردت في رسالة مستقلة وهي في مجموع فتاواه رحمه الله 10/ 35، وفي كتابي الاختلاط بين الجنسين بيان أوجه دلالة بعضها بشيء من البسط.

غير أن من المقرر كذلك عندهم جواز خروج النساء مع الرجال وذلك خلافاً للأصل، إن تُقيد بضوابط الشريعة، فعندها يجوز أَيْنَ كان عند الكعبة أو غيرها، ومن الضوابط الشرعية التي كان عليها الشأن في العهد الأول -والذي يستدل به بعض الملبسين على الاختلاط المطلق من قيود الشريعة المعاصر، ولا يلتزمون الضوابط التي كانت مرعية عند الصحابة رضوان الله عليهم- ما يلي: 1 - وجود الضرورة أو الحاجة المقتضية لخروج النساء واختلاطهن بالرجال سواء أكانت هذه الحاجة دينية كشهود الجماعات أو دنيوية كشراء ما يلزمها شراؤه، فإن لم تكن ثمة ضرورة أو حاجة فلا تقر مخالفة كائنة من كانت لأمر ربها الرحمن: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) [الأحزاب: 33]، وقد فسر إمام التفسير مجاهد التبرج هنا بما دل عليه صدر الآية فقال: "كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى" (¬1)، وقد استدل بالآية أئمة التفسير كالقرطبي وغيره على أن المرأة تلزم بيتها لاتخرج منه إلاّ لضرورة، قال الجصاص: "وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت، منهيات عن الخروج" (¬2)، وقال ابن العربي المالكي رحمه الله: " قوله تعالى:} وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ {يعني اسكُنَّ فيها ولا تتحرَّكن، ولا تبرحن منها" (¬3). فمن خالفت أمر ربها فقد أتت ذنباً، قد يعتذر لها فيه لكن لا يحتج بفعلها .. وهنا قد يقول قائل إن التعليم حاجة معتبرة شرعاً، وجوابه إجمالاً بالتسليم غير أن الجامعات غير المختلطة كثيرة، وإنشاء واحدة رائدة للنساء هو مقتضى العدل، أما افتعال الضرورة فلا يجوز، وأهل العلم لا يطالبون بإلغاء التعليم، ولكن يطالبون بحظر الاختلاط إذ لا حاجة له توجبه وهو محرم لغير حاجة، كالشأن في سائر جامعات المملكة السعودية، أما الكعبة فلا يمكن إنشاء كعبة غيرها تخصص للنساء! 1 - خروج النساء المقر في التشريع كان بضابط التزامهن الحجاب والستر، وحرصهن على الحشمة والأدب، ومن ذلك مشروعية الطواف لهن، أما إذا خرجت المرأة متطيبة متزينة، غير ملتزمة بالحجاب الشرعي، فلا يشرع لها دخول المسجد، بل لا تشرع لها الصلاة، ولا يقبل منها الطواف فالطواف صلاة على ما أثر وفيهما لابد للمرأة من ستر سائر البدن إلاّ الوجه والكفين في الصلاة، فكيف يقاس هذا بالخروج إلى جامعة لا تشترط الحجاب والستر، بل بعض الجامعات على ما نقل تأذن في اختلاط الطلاب والطالبات بلباس البحر على الشاطئ أو عند المسبح فهل يُجَوِّز هذا إلاّ من سَفِه عقله وهل يُعدُّ استدلاله بوقوع اختلاطٍ عند الكعبة إلاّ تبجحاً بالجهل! ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير للآية 3/ 483، وهو عند عبد الرزاق كما أشار الحافظ في الفتح 8/ 520 وسند عبد الرزاق الذي ذكر صحيح، وهو كذلك في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 198. (¬2) أحكام القرآن له 3/ 529. (¬3) أحكام القرآن 3/ 568.

2 - في الحج والعمرة عامة النساء يكُنَّ مع محارمهن وذويهن، ومن لم تكن كذلك أو لم يكن كذلك يجد نفسه في هذا الجو، فتضعف التهمة، ثم من يقصدون الكعبة يأتون راجين الأجر والمثوبة فاعلين للقربة لا يجمعهم حديث مشترك وأشجان متبادلة، بل كُلٌ في شأنه يناجي ربه، يسبح بحمده، يستغفره ويعلن توبته، أما في الجامعات المختلطة فلا يأتي الطالب أو الطالبة مع محرم! ولا يطلبون ما عند الله، ولا يبتغون ثواب الله، وليس في قلوبهم تعظيم بيت الله، ولا قلوبهن ملئت مهابة من حرم الله! فكيف يجعل هذا كهذا! ولمّا كانت هذه المعاني ضعيفة في بعض المواطن التي تدعو الحاجة إلى دخولها وليس فيها ما في تلك التي جاء بها التشريع من الحواجز التي تحول بين الناس والفتنة كانت أبغض البقاع عند الله كالأسواق (¬1) التي قد يختلط فيها الحابل بالنابل وإن كان لحاجة، على أن واقع الأسواق غير مقر شرعاً كله إلاّ ما انضبط بقيود الشريعة، وما خالفها يحتج له لابه، بل ليس كل ما يقع في الحرم مقر شرعاً. الحرص على منع الاختلاط عند الطواف في العهد الأول: ومع ما سبق يقال لهؤلاء: كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم كما في البخاري، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت .. " (¬2)، وهذا نص على أن الفاضلات لم يكن يخالطن الرجال في الطواف. والناظر في فتوى القرون المختلفة، وما قاله أهل العلم، وما فعله بعض الولاة يجد مراعاة المنع من ذلك الاختلاط بينة، قال ابن جبير في رحلته: "وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنها الرخام حسناً، منها سود وسمر وبيض قد ألصق بعضها ببعض، واتسعت عن البيت بمقدار تِسْعِ خُطاً إلاّ في الجهة التي تقابل المقام، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به. وسائر الحرم مع البلاطات كلها مفروش برمل أبيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة " (¬3)، ونحوه ذكر البلوي (¬4) وابن بطوطة (¬5)، وهذا يدلك على أن العمل القديم الذي تتابعت عليه عصور أهل الإسلام جرى قروناً طوالاً على الفصل بين الطائفين والطائفات، فقد كانت رحلة ابن جبير إلى مكة من الأندلس عام 578هـ، ورحلة ابن بطوطة وخالد البلوي بعده بنحو قرنين إلاّ ثلاثة عقود. وربما جعل الولاة بعض يوم للنساء خاصة، تيسيراً للطواف عليهن، وتمكيناً لهن من أن يصلن البيت دون مخالفة للشريعة، ونحو هذا مذكور في بعض كتب أخبار مكة والمناسك (¬6). ¬

(¬1) ينظر صحيح الإمام مسلم (671). (¬2) صحيح البخاري 2/ 585 وغيره. (¬3) رحلة ابن جبير ص63، ط داري صادر وبيروت، 1379. (¬4) ينظر: تاجُ المَفْرِق في تحلية علماء المشرق، لخالد بن عيسى البلوي، 1/ 304، بتحقيق الحسن السائح، ط صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المغرب والإمارات. (¬5) رحلة ابن بطوطة 1/ 128، المكتبة العصرية مع غيرها، 1425. (¬6) كرحلة ابن جبير، وقد كانت في ذلك العهد مرة في العام، تنظر رحلته ص115.

وقد ذكر الأزرقي أن خالد بن عبد الله القسري أول من فرق بين الرجال والنساء في الطواف، وأجلس عند كل ركن حرساً معهم السياط، يفرقون بين الرجال والنساء (¬1). وأن ذلك استمر إلى زمانه، ولعل المراد هو أن خالداً أول من فرق بإلزامه وعقابه المخالف، وإن كان جريان العرف بذلك وتمسك الصالحات به مأثور من لدن عهود الصحابة المرضيين كما في أثر عائشة رضي الله عنها الماضي، وحمل بعض أهل العلم هذا على احتمال أنه فعله وقتاً ثم تركه (¬2) لما ورد في البخاري من إنكار عطاء على ابن هشام منعه طواف النساء مع الرجال وسيأتي بيانه، ويحتمل أنه فعل مدة ولايته ثم اختلطت الأمور بعده إلى عهد ولاية ابن هشام على مكة. ونقل ابن جماعة في هداية السالك أن عمر رضي الله عنه نهى أن يطوف الرجال مع النساء، فدخل المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل يطوف مع النساء، فأقبل عليه ضرباً بالدِّرَّة، وقال: ألم أنْهَ عن هذا؟ قال: ما علمت. قال: أما بلغك عزمي؟ قال: ما بلغني لك عزمة. قال: دونك فأمسك -يعني فاقتص. قال: ما أنا بفاعل (¬3). فإن صح هذا فلعل عمر رضي الله عنه جعل لهن وقتاً ليس للرجال فيه نصيب، ويحتمل أنه طاف في موضعهن من المطاف. كشف شبهت من استدل بإنكار عطاء على ابن هشام: وأما ما رواه البخاري: "قال ابن جريج أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام (¬4) النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكنَّ يخالطن. كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت .. " (¬5)، فنص على أنهن لم يكن يخالطن الرجال. ¬

(¬1) روى معناه بطريقين في أخبار مكة 2/ 20 - 21، عن سفيان بن عيينة. (¬2) فتح الباري، لابن حجر 3/ 480. (¬3) ينظر هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، لابن جماعة، 2/ 866، وقد عزاه لسعيد بن منصور، ولم أقف عليه. (¬4) يحتمل اثنين، قال ابن حجر: "ابن هشام هو إبراهيم، أو أخوه محمد بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، وكانا خالي هشام بن عبد الملك، فولى محمداً إمرة مكة، وولي أخاه إبراهيم بن هشام إمرة المدينة، وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته" الفتح 3/ 480. (¬5) صحيح البخاري 2/ 585 وغيره.

وإنكار عطاء صنيع ابن هشام قد يفهم منه بادي الرأي خلاف ما روي من منع عمر رضي الله عنه الرجال من الاختلاط بالنساء في الطواف، ومثله ما جرى في عهد خالد بن عبد الله القسري وليس كذلك، فقد وقع في الحديث إثبات عطاء أنهن لم يكن يخالطن الرجال، فإن لم تكن الخلطة المريبة موجودة لكون المرأة تطوف حجرة ناحية (بعيدة) عن الرجال زال الإشكال وارتفعت المحظور، ثم إن قول عطاء نفسه في هذا الأثر: "وكن يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال"، هذه الرواية تدل على إخراج الرجال ليلاً، والرواية في مصنف عبد الرزاق قال: "ولكنهن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن، ثم أخرج عنه الرجال" (¬1)، وقد ثبتت من طريق عبد الرزاق، وطريق البيهقي والفاكهي وغيرهم، ومقتضى هذا يحتمل أن عمر إنما أمر بإخراج الرجال ليلاً، أو حد للرجال حداً لايتجاوزونه حال وجود النساء، كالذي كانت تطوف فيه عائشة رضي الله عنها حَجِرة، وليس أحد من هذه الوجوه في الجمع موقوفاً على تصحيح الرواية في منع عمر للخلطة، بل رواية الصحيح وعبد الرزاق والبيهقي وغيرهما الآنفة تشعر بهذا المعنى، قال ابن حجر: "قوله: حين يدخلن في رواية الكُشْميهَنِيِّ حتى يدخلن وكذا هو للفاكهي، والمعنى إذا أردن دخول البيت وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه" (¬2). قال ابن حجر معلقاً على أثر منع عمر: "وهذا إن صح لم يعارض الأول لأن ابن هشام منعهن أن يطفن حين يطوف الرجال مطلقاً فلهذا أنكر عليه عطاء" (¬3). فظاهر قول عطاء رحمه الله إنكار تحكم ابن هشام دون مقتضي في ذلك العهد، مع إمكان الطواف بغير خلطة من وراء الرجال. والمحصلة أن قصد منع الخلطة المحرمة ثابت في حديث البخاري هذا وفي ما روي من صنيع المتقدمين من الخلفاء الراشدين المهديين ومن أتى بعدهم، تصوبه عموم نصوص الشريعة القاضية بمنع أسباب الفتنة وتزاحم الرجال والنساء، وإنما ينكر التعنت إذا لم تكن الخلطة المذمومة حاصلة، ولم يكن ثمة مقتض للإلزام بما لم يلزم به الشرع. على أن مجرد إنكار عطاء رحمه الله ليس حجةً على غيره حتى يستمسك بها في مخالفة مقتضى النصوص. وفيما نقله عن عائشة رضي الله عنها من ترك الاستلام الذي ندب إليه اجتناباً للخلطة ونفيها عنها بذكره طوافها ناحية كل ذلك دليل على أنه لاتسوِّغ تلك العبادة اختلاط النساء بالرجال. مراعاة فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم منع الخلطة ما أمكن في المناسك: ولعل هذا يبدو جلياً لمن أنار الله بصيرته في المسألة، ونظر في تشريع المناسك بإنصاف، وتأملَ ما وُضع من ضوابط لأجل صيانة النساء القاصدات لهذه العبادة، صيانة تحفظ معها كرامتهن، وتمنع من اختلاطهن بالرجال على الوجه المفضي للمفسدة بقدر الإمكان، ومن ذلك أن الشارع لم يوجب على المرأة حجاً أو عمرة إلاّ إذا كان معها محرم، ومن أباح لها السفر من الفقهاء مع رفقة من النساء مأمونةٍ قال: "لتستأنس بهنَّ ولاتحتاج إلى مخالطة الرجال" (¬4)، وكره مالك أن تركب البحر ولو للحج لأنه مظنة خلطة، وفرق فقهاء المالكية بين ما إذا كان في السفينة مكان تستغني به عن مخالطة الرجال فجوزوا هذا ومنعوا إذا لم يكن (¬5). ¬

(¬1) المصنف 5/ 67 (9018)، تنظر في سنن البيهقي 5/ 78 (9030). (¬2) الفتح 3/ 481. (¬3) الفتح 3/ 481. (¬4) انظر المبسوط للسرخسي 4/ 111. (¬5) التاج والإكليل لمختصر خليل 3/ 485، وكذلك مواهب الجليل 3/ 520، وكان ساحة بعض السفن كانت عندهم كالمجس الواحد.

ثم جعلت الشريعة رخصاً لمن كانت معه نساء أو ضعفة ليست لغيره، كالدفع من مزدلفة بليل فقد رويت فيه أحاديث صحاح ومن ذلك حديث عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعتفصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه! ما أرانا إلا قد غلَّسنا، قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (¬1). والأحاديث في هذا معروفة وقد رخص بها جمع من أهل العلم للنساء في الرمي والطواف قبل طلوع الشمس. ومن مراعاة الفقهاء لأصل المنع من الاختلاط في الشريعة استحبابهم للمرأة ما لم يستحبوا للرجل من نحو طوافها بعيدة عن البيت (¬2)، ورخصوا لها في تأخير طواف القدوم إلى الليل خشية الزحام (¬3). ومع هذا فقد صرح أهل العلم قديماً وحديثاً بأن الاختلاط غير المنضبط بما يعصم من الفتنة منكر لا يجوز، قال ابن جماعة في منسكه الكبير:"ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجوههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة ... " إلى أن قال: "نسأل الله أن يلهم ولي الأمر إزالة المنكرات"، قال ابن حجر الهيتمي بعد أن نقله: "فتأمله تجده صريحاً في وجوب المنع حتى من الطواف عند ارتكابهن دواعي الفتنة" (¬4)، وتأمل كيف عد كشفهن عن الوجه -ولايتصور من المحرمة الطائفة غير كشف الوجه والكفين، لا يظن بهن تبرجاً أو تهتكاً ومجوناً- مع إيقاد الشموع ولو بصحبة الأزواج من أسباب الفتنة. وقد نص بعض أهل العلم على كراهة الطواف مع مطلق الاختلاط قال محمد بن إبراهيم بن فرحون المالكي في المسائل الملقوطة عن والده أنّه يكره الطواف مع الاختلاط بالنساء (¬5). ومن مراعاتهم للمنع من الاختلاط في النسك قولهم: لايستحب لها أن تزاحم الرجال لاستلام الحجر الأسود (¬6). قال ابن جماعة: "ولايستحب لها تقبيل ولا استلام مع مزاحمة الرجال، ولا يستحب لها الصلاة خلف المقام، أو في غيره من المسجد مزاحمة للرجال، ويستحب لها ذلك إذا لم تفض إلى مخالطة الرجال. وهذا مما لايكاد يختلف فيه؛ لما يتوقع بسببه من ضرر" (¬7). ¬

(¬1) البخاري 2/ 603، ومسلم 2/ 940. (¬2) انظر للحطاب المالكي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل 3/ 140 بل صرح المالكية بأن السنة لهن خلف الرجال كالصلاة انظر شرح مختصر خليل للخراشي 2/ 315، وللهيتمي الشافعي تحفة المحتاج في شرح المنهاج 4/ 92، وللزيلعي الحنفي انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2/ 16، وهو ما يفهم من كلام ابن قدامة والمرداوي من الحنابلة انظر المغني 3/ 185 والانصاف 4/ 8. (¬3) انظر حاشية العدوي 1/ 527، ونص عليه الإمام الشافعي في الأم في حق الجميلة 2/ 232، وأضاف الشريفة في المجموع نقلاً عن الإمام والأصحاب 8/ 14، وكذلك في أسنى المطالب 1/ 476، وانظر المغني 3/ 157، وهو في كتب فقهاء الحنابلة كثير. (¬4) الفتاوى الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي 1/ 202، وقد نقله موافقاً له ومحله من منسكه 2/ 868. (¬5) تنظر المسائل الملقوطة ص221، والنهي عن الطواف مختلطاً بالنساء كثير في كتب المالكية وغيرهم ينظر مثلاً كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب المالكي 3/ 110 وكذلك الفواكه الدواني 1/ 358 و367، وحاشيتا قيلوبي وعميرة في فقه الشافعية 2/ 134. (¬6) المغني 3/ 183. (¬7) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، لابن جماعة، 2/ 864، وقوله: لايستحب المتوجه حمله على التحريم إذا أفضت المزاحمة إلى محرم كالتلامس فما فوقه.

وقال أيضاً: "ولا تزاحم الرجال، وينبغي أن يكون سعيها بين الصفا والمروة بالليل، كما تقدم في طوافها بالبيت، لأنه أستر وأسلم من الفتنة. وقال بعض الشافعية: إنها إذا سعت بالليل في حال خلوة المسعى استحب لها شدة السعي في موضعه كالرجل ... ولا ترقى على الصفا ولا على المروة عند الشافعية والحنابلة، وقال المالكية تصعد إذا كان المكان خالياً، وهو مقتضى كلام الحنفية، وقول بعض الشافعية المتقدم" (¬1). وقولهم: لاتقف المرأة على الصفا للدعاء إلاّ إذا خلا المكان عن مزاحمة الرجال، ويكون سنة في حقها إذا خلا المكان (¬2). ومن مراعاة بعض أمهات المؤمنين للأمر بلزوم البيوت ونبذهن الاختلاط، اكتفاؤهن بحجة الفريضة، وترك القيام للتطوع، وهذا مأثور عن زينب وسودة رضي الله عنهما، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "هذه ثم ظهور الحصر" (¬3). خاتمة: مما سبق نخلص إلى أن الشارع حف الحج والعمرة بأحكام تكفل منع الخلطة المحرمة ومن ذلك اشتراط المحرم، ومع ذلك ندب المرأة إلى ترك مزاحمة الرجال، واستحب لها الفقهاء لأجل ذلك ما لم يستحبوه للرجال، حتى وضع بعض الحكام ضوابط تكفل ذلك، وهذا مع بعد الفتنة عند مهوى أفئدة المسلمين، وقد كان خير جيل بمن فيهم أمهات المؤمنين ونساء الصالحين يراعين ذلك فيمتزن عن الرجال، غير أنه تبقى نسوةٍ في القديم والحديث يصدق فيهن قول الأول: من اللائيْ لم يحججن يبغين حِسْبَةً ولكن ليقتلن البريءَ المُغَفَّلا فعلى أخت الإسلام أن لا تغتر بهن، نسأل الله أن يصلح حال أخواتنا وأمهاتنا ونسائنا ونساء المسلمين. وما سبق يدلك على أن من استدل على جواز الاختلاط في الجامعات بما يحدث في طواف الناس اليوم، فقد قاس مع الفارق أولاً، على أمر ليس كله مقر شرعاً، والله نسأل أن يلهم ولاة أمر المسلمين إزالة المنكرات، وأن ينجح مقاصد المصلحين الناصحين، والحمد لله رب العالمين. ¬

(¬1) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، لابن جماعة، 2/ 883 - 884. (¬2) الفواكه الدواني 1/ 359، وانظر المغني 3/ 192. (¬3) حديث صحيح فقد رواه جمع من طريق زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرجها من هذا الطريق الإمام أحمد في مسنده 5/ 218 والتي تليها، وكذلك أبويعلى 3/ 32، والبيهقي في الكبرى 4/ 327، 5/ 228 وأبو داود في سننه 2/ 140، وأرسلها عبد الرزاق عن زيد بن أسلم في مصنفه 5/ 8، وغيرهم وقد أعل بعض أهل العلم كالذهبي في الميزان (7/ 119) هذا الطريق بتفرد زيد بن أسلم بالرواية عن ابن أبي واقد، غير أن ابن حجر في الفتح صححها وقال: (4/ 74) " وإسناد حديث أبي واقد صحيح وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة .. وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل"، ولعل لإعلال الذهبي لتلك الطريق وجه بيد أن الحديث صح من طريق ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصالح وإن اختلط فإن رواية ابن أبي ذئب عنه قديمة كما قرر الحفاظ، قال ابن عدي: "لابأس إذ سمعوه منه قديماً" (الفروع لابن مفلح 1/ 530 - 531)، وقال الهيثمي في المجمع 3/ 214: "وفيه صالح مولى التوأمة ولكنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وابن أبي ذئب سمع منه قبل اختلاطه"، وهو كما قال وإليه أشار الحافظ في التقريب، وهو الذي عليه الأئمة كما أشار إليه ابن عبد البر في التمهيد 23/ 361، ومن هذا الطريق خرجه الإمام أحمد 2/ 446، و 6/ 324 وهو في مسند الحارث 1/ 440، وعند الطيالسي 1/ 229، وأبي يعلى 13/ 80، 13/ 88، وغيرهم، وجاء من طريق ثالث لابأس به فقد جاء من عدة أوجه عن عثمان الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن أم سلمة كما عند أبي يعلى 12/ 312، والطبراني في الكبير 23/ 313، وغيرهما. فالحديث صحيح إن شاء الله، وقد وثق رواته المنذري في الترغيب والترهيب 2/ 138، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 214، وكذلك الألباني في صحيح أبي داود 1515، وقد تكلم أهل العلم في تأويله. المصدر: موقع المسلم

إنها لإحدى العبر

إنها لإحدى العبر ما حدث للشيخ الشثري عبرة للجميع!! سعيد بن ناصر الغامدي الجمعة 20 شوال 1430 المتأمل في الحملة المنسقة التي شنها التيار العلماني الليبرالي ضد الشيخ سعد الشثري، يمكنه الخروج بنتائج عديدة مهمة في شأن الفكر والمجتمع السعودي، والمستقبل المتوقع لهذا المجتمع ومكوناته الأساسية. ومن المناسب التذكير بأمور مهمة في هذا السياق من خلال النظر فيما أفرزته الحملة من نتائج: الأمر الأول: أن لكل دولة ونظام أسساً مشروعية، يتم بناء التوجه عليها، ويُرسم المسار، وتتحدد الرؤى، وتوضع الأهداف. وأسس المشروعية هذه هي العمود الفقري للدولة والنظام والمحور الجوهري، وكلما بقيت أسس المشروعية ثابتة وراسخة ومتينة كان ذلك أدعى للبقاء والاستمرار، وكلما حصل التلاعب أو الاستنقاص أو المخاتلة في هذه الأسس كان ذلك مؤذناً بأمور خطيرة في المستقبل القريب أو البعيد، والناظر في قوة الدول واستمرارها أو ضعفها وزوالها يمكنه أن يدرك هذه القضية، ويدرك معها أنه ربما حصلت الإزاحة لهذه الأسس أو الانحياز عنها بسبب ضغط ما، أو لتحقيق هدف ما، أو لتجنب مشكلة معينة، أو لتحصيل مصلحة معينة، وهذا يدل على أن حسن النية المتوفر في مثل هذه الحالات هو نوع من خداع النفس، والإعذار بالنية الحسنة لا علاقة له بالنتائج المترتبة على إضعاف أسس المشروعية أو بعضها، ولعل الأخطر في هذا المجال حينما تتوجه الإرادة لإيجاد أسس للمشروعية غير تلك الأسس التي قام عليها الكيان، حينها تتضخم المشكلة، وتكون مؤذنة بانفصام اجتماعي وتضاد وتنافر يصل في حده الأقصى إلى الاحتراب والفتنة الداخلية، ويبقى في حده الأدنى مثيراً لإشكالات عامة غير منقطعة، مما يعني البقاء في دائرة الارتباك والتردد والاضطراب، وهو ما سوف يقود إلى الاستمرار في التآكل الداخلي رويداً رويداً، حتى وإن كانت القشرة الخارجية تعطي مؤشرات مطمئنة. الأمر الثاني: أنه بالنظر إلى الوضع الداخلي للدولة السعودية والمجتمع السعودي يجد بعض المراقبين أنه قد مرّ بمراحل عديدة، منها التأسيس على أسس معينة، وجمع الشمل على هذه الأسس، ثم بقاء هذه الأسس معلناً عنها ومحترمة، مع صدع بالحرص على إبقائها بعيدة عن الازدراء والاستنقاص، فضلاً عن الاستبدال والاستعاضة، ثم حصول طفرة علمانية-في فترة من الفترات- متمثلة في اللوبي الناصري الاشتراكي العلماني الذي كانت كلمته مسموعة ورؤاه مستجاباً لها إلى حد ما، مع قدرة على التغلغل والتأثير من داخل القلعة، وعندما أدرك الأذكياء خطورة هذه اللعبة وأثرها الكبير على أسس المشروعية تمت الاستفاقة بعمل أبيض سريع أعاد الأمور إلى نصابها، وكان دور العلماء حاسماً حينها، وتم طرد حصان طروادة ومن فيه، لتأتي بعد ذلك مرحلة الاستقرار والاستمرار التي امتدت لعدة عهود، جاعلة من الدولة والمجتمع كياناً متجانساً في أمور عديدة وأحوال كثيرة، بل أعطت صورة معينة في أذهان الناس في الداخل والخارج، هذه الصورة تؤكد أصل المشروعية، وتقول بلسان المراقبين داخلياً وخارجياً بأن السعودية هي آخر القلاع التي صمدت أمام موجات التغريب والعلمنة التي اجتاحت العالم الإسلامي، وأورثت تناقضات داخلية متتالية ومتوالية

فهل استمرت هذه المرحلة، وبقيت هذه الصورة أم عاد حصان طروادة من جديد؟ سؤال كبير وخطير، وإن كان كل المراقبين المشفقين يتحدثون عنه همساً أو تلميحاً لا يصل إلى حد التصريح الذي كتبه بعضهم عن خطورة البرامكة، في حين يتحدث عنه آخرون (مستفيدون) من هذا الوضع الجديد، يتحدثون بكثير من الغبطة والسرور والدعاية والمدائح المتوخية للإغراء بالمزيد، والهجوم المضاد الشرس على أي ناقد أو ناصح، ولو جاء كلامه مدبجاً بالثناء والأمنيات الطيبة في أوله وآخره. هجوم ميلشيات الليبرالية يتم دائماً، تحت شعارات النهضة والتقدم والرقي، والخروج من مآزق الثبات التي سار عليها من سبق، باعتبار أن هذا الثبات (على أسس المشروعية) ضرب من الجمود الذي لا يتوافق مع معطيات العصر، بل هو - بحسب رأيهم - الذي أدى إلى الضرر بالسمعة والمصلحة معاً. الأمر الثالث: أن البلاد مرت بتجارب من هذا القبيل، ولعل أبرز ذلك يتمثل في ثلاث تجارب: الأولى: التجربة المشار إليها سابقاً حينما كانت الناصرية والاشتراكية هي (موضة) التقدم آنذاك، والإسلام والشريعة هي شعار التخلف والمحافظة الرجعية والظلامية، وقد تم تجاوز هذه التجربة بإرادة قوية أعادت القطار إلى مساره، بعد أن غفل سائقه وأضر به من حوله ضرراً بالغاً، على ما في شخصيته من خير وطيبة قلب وصفاء نية، كما يوصف، ويمكن قراءة هذه التجربة بشكل جلي في رواية قلب من بنقلان. الثانية: التجربة الحداثية التي اكتسح أصحابها معظم المواقع الإعلامية والأندية الأدبية، وحصل التصدي لهذه التجربة بوصفها متناقضة مع أسس مشروعية الدولة والمجتمع، وشارك في التصدي لها شخصيات مهمة، ليس أولهم الشيخ ابن باز -رحمه الله- ولا آخرهم أمير عسير آنذاك الذي قام بنسخ وتوزيع مادة إعلامية تكشف الحداثة المحلية بحقائق ووثائق كما زعم معدها، ومادة أخرى ثقافية تخدم الغرض نفسه بميزان اختاره معد هذه المادة. المهم في الأمر أن هذه التجربة -في جوهرها- كانت صراعاً حول أسس مشروعية الدولة والمجتمع، بشكل علني أو ضمني، وهو الأمر الذي أدّى إلى انحياز نسبي ضد التجربة الحداثية التي كانت آنذاك تستجن بالأدب والنقد والفن؛ لأن الأجواء الاجتماعية والرسمية غير قابلة لإعلان صريح عن انتماء علماني أو ليبرالي صريح، كما هو حادث هذه الأيام حيث تعلن التجربة الثالثة عن نفسها بقوة وبلا مواربة، بل إلى حد الاجتراء على الجهر بالاستقواء الخارجي (الغربي بالطبع)، وعدم التردد في فتح علاقات سرية أو علنية مع السفارات الأجنبية المهتمة بتغيير البنية الداخلية للبلاد، فضلاً عن المجاهرة بأفكار خطيرة، والنيل من شخصيات مهمة. الأمر الرابع: أن التجربة الراهنة والتي أخذت مداها بشكل واضح ليست جديدة بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، بل هي تجربة مكررة في أفكارها العامة وأهدافها الكبرى، وتكاد تكون مستنسخة في أساليبها ووسائلها، وليس شاقاً على الدارس استحضار ما حدث أواخر الدولة العثمانية، وما حدث بعد ثورة الضباط الأحرار في مصر، وما حدث بعد تمكن بورقيبة في تونس، وما حدث بعد استيلاء الاشتراكيين على جنوب اليمن، إلى غير ذلك من التجارب التي بدأت ناعمة مداجية للوضع القائم، ثم لما استحكم لها الأمر فعلت أفاعيل تشيب منه النواصي، ولم يشفع لأولئك الذين أحسنوا الظن بها، أو أرادوا الوقوف على الحياد، أو تعاملوا معها ببرود وموازنة ساذجة .. لم يشفع لهم أي أمر من هذه الأمور، فقد نالهم من التنكيل ما جعل بعضهم يتمنى أنه لم يخط حرفاً أو يقول كلمة في النيل من الأصلاء الأحرار أو في المداجاة والحيادية المفلسة!!

إن من المهم دراسة الآلية المتبعة عند هؤلاء في مراحل وجودهم السياسي والاجتماعي؛ لمعرفة (الميكانزم) المتبع في حالة الاستضعاف ثم في حالة ركوب حصان طروادة، ثم في حالة دخولهم بالحصان إلى القلعة، ثم في حالة قدرتهم على هدم القلعة وتخريب أبراجها وإفساد نواطيرها، ثم في حالة استحكام الأمور لهم. أهم ما يلفت الانتباه هنا أن الشعارات تتبدل في كل مرحلة، بحسب الحال الذي هم عليه، فإذا كانوا-مثلاً- في وضع استضعاف، تكلموا عن الحرية وحق الرأي الآخر وحرية التعبير والتجمع، وخطورة الإقصاء، وأهمية الحوار، مع استعمال -مملّ- لعبارات من قبيل: في ضوء ثوابتنا وعقيدتنا وأسس مشروعيتنا. فإذا حصل لهم نوع من التمكن الإعلامي أو الثقافي أو السياسي مارسوا كل ما يقدرون عليه من إقصاء واستعداء وتسفيه وتحقير لمخالفهم ونعته بالنعوت البشعة المنفرة منه، من مثل (متشدد، متطرف، وجه خفي للإرهاب، منغلق، ظلامي، وهابي، محافظ رجعي، متوتر يسير عكس تيار التحديث، متعلق بقشة المتوارث، فقيه طالباني يستمرئ التخريب والتشغيب والترهيب والتشويش، متعطش للشهرة، فارغ من العلم وإن ادعاه، معول في يد الحركيين يهدمون به المنجزات ويقتلون به فرحَ المشروعات،، .... الخ). (يمكن للمتحري أن يطلع على هذه العبارات في نحو عشرين مقالاً تم تحرك مليشيات كتبتها بعد سويعات من كلام الشيخ الشثري، وهو الكلام الأنعم من الناعم، والمبدوء والمختوم بالإشادة والتمنيات الطيبة). هذه أقوالهم المتخمة بالأهاجي والتحريض والاحتشاد المتواصي به والإثخان الإعلامي الموجّه، وهم يتعاطون مع الوضع بالإمكانيات المتاحة الآن، فإن حصلت لهم إمكانيات أخرى فلن يوفروها في سبيل شطب المناوئين لهم حسياً، كما حاولوا من منصاتهم الإعلامية شطبهم ثقافياً ومعنوياً. أما إذا حصل لهم التمكن الكامل - لا قدّر الله - فما ثم إلاّ التشريد أو السجون والتعذيب والقتل لمن يطلقون عليهم أوصاف الظلامية والتقليدية والتشدّد والمحافظة والرجعية، وما زالت حية في أذهان علماء الإسلام ودعاته تجربة أتاتورك، وعصمت اينونو، وسياد بري، وحزبي البعث، وعبد الناصر، والحزب الشيوعي في عدن، وسوكارنو، وبو رقيبة، وخلفه، والقذافي، وغيرها من تجارب ليبرالية وعلمانية تشهد بأنهم لا يرقبون في عالم ولا داعية إلاًّ ولا ذمّة، إلاّ من سايرهم ولاطفهم، وسكت عن انحرافاتهم رغبة أو رهبة، والتاريخ - كما يُقال - يعيد نفسه، فاعتبروا يا أولي الأبصار. والعجيب في هذا السياق أن بعض علمانيي بلدنا حرق المراحل، ووصل إلى المرحلة الأخيرة، وذلك باستعداء السلطة، والزج برأسها في المعركة، واستعمال اسمه لتخويف وتخوين الشيخ الشثري، بل إن أحدهم هدد العلماء والدعاة بالسجن، موضحاً بأنه ليس أمامهم سوى أحد طريقين لا ثالث لهما إما (الخنوع والسكوت والمداجاة، أو أبو غريب!!) مذكراً بقصة شيخ سجن ثم تاب وأناب. يقول هذا الكاتب ما نصه (يطري على بالي هذه الأيام كلمة سلمان العودة حول أجمل سنيّ عمره التي قضاها في السجن .. لا أعرف ماذا يمكن للمرء أن يفهم من هذه المقولة إلاّ أن ترجمتها على أرض الواقع تعطي دلالات قوية على أن الإسلاميين اليوم أمامهم إحدى طريقين-وهم الذين كانت ترضخ لهم كل الطرق- الأول: أن يكون محبوساً إما في السجن أو في منتدى إلكتروني، والثاني أن يكون كل شيء آخر يريده .... الخيارات أصبحت محدودة، "واللي عقله في راسو يعرف خلاصو .. ") (منقول من كلام فهد الثابت من مجموعة القاسم البريدية، وهو اسم رمزي لشخصية من التسعة رهط الذين لهم شأن في التيار العلماني).

فإذا كان هذا حالهم والبلاد مليئة بالأخيار والصلحاء والعلماء وطلاب العلم، والمجتمع مازال المكون الديني أساسي فيه، فما الظن إن تمكن هؤلاء الليبراليون أكثر؟ وما الذي يمكن تخيله إن استحكم لهم الأمر؟ الأمر الخامس: كيفية التعامل مع المتغيرات والحملات المنسقة والمواقف المناوئة المسكوت عنها أو المحمية. اختلفت مواقف العاملين للإسلام وردود أفعالهم، وما زالت تختلف بناء على اختلاف نظرهم في عدة متعلقات أساسية: أولها: اختلاف النظر في الحاصل: هل هو جزئي أم كلي؟ هل هو تغير مبدئي أم مرحلي؟ هل هو انحياز أم طارئ؟ ثانيها: اختلاف النظر في الحاصل: هل هو مبرمج ومتفق عليه مع تبادل أدوار في إخراجه أم هو اتجاه أحادي ليس محل اتفاق. ثالثها: اختلاف النظر في مآلات ما يحدث، ومقدار أثره، وحجم ضرره في المستقبل على أسس المشروعية ووحدة البلاد وأمنها. رابعها: اختلاف النظر في العمل المناسب لهذا الوضع، وما يتوقع من تداعياته في المستقبل خامسها: اختلاف النظر في المصالح والمفاسد المترتبة على المواقف والأقوال، ويدخل في ذلك المصالح والمفاسد الدينية والاجتماعية والشخصية. سادسها: اختلاف التكوين الفكري باختلاف مقدار التعمق الشرعي، واختلاف المعلومات الأخرى المكتسبة، واختلاف التصورات المبنية على تلك المعلومات، واختلاف المدارك المتعلقة بالسنن الكونية والتغيير وأعمار الدول، وأسباب النهوض والانهيار، واختلاف النفسيات والمشاعر مابين متفائل وعكسه، ومؤمل ومحبط، ومكترث وبارد، وغير ذلك. وبناء على ما سبق - وغيره- يمكن قراءة المواقف الإسلامية المختلفة من هذا (الحملة العدائية المضادة للشيخ الشثري، ومن قبله الشيخ اللحيدان المنتهية بالإقالة أو الاستقالة) وقراءة ما يمكن أن يحدث مستقبلاً. الأمر السادس: إن قراءة ما حدث للشيخ الشثري من هجوم ثم إعلان إعفائه من هيئة كبار العلماء أمر في غاية الأهمية بالنسبة للعلماء والدعاة لأسباب منها: 1) قرب الشيخ وأسرته من الأسرة السعودية الحاكمة. 2) كون الشيخ يمثل التوجه الديني للدولة السعودية (دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب). 3) كون الشيخ من أهل نجد وهم مادة السلطة وعصبتها، حسب التعبير الخلدوني 4) كون الشيخ الشثري من العلماء المنسوبين إلى الدولة. 5) كلام الشيخ عن الجامعة في ثول (كاوست) كان مفعماً بالاحترام والتهذيب والشكر والامتنان، في أول القول ووسطه وآخره، إلى الحد الذي فاق الإشارة إلى المأخذ الشرعي في الاختلاط. فكان ماذا بعد كل هذا؟ كانت الحملة الكتائبية المنسقة، ثم جاء بعدها بيان الإعفاء. هل يمكن أن نقول بأن هذا نوع مما يُسمّى أساليب الغازي حينما يفتك، ويدير المعركة بشعار فشرّد بهم من خلفهم؟!! لا يوجد إلاّ القلة النادرة من العلماء والدعاة والعاملين للإسلام الذين يمتلكون الامتيازات التي يمتلكها الشيخ الشثري، أو يقدرون على ضبط إيقاع كلماتهم مع الوضع الرسمي بالقدر الذي ضبطه الشيخ الشثري، إلى درجة لا يوجد دونها درجة، ومع ذلك حصل له ما حصل!! وبناء على ذلك: هل يمكن القول بأن هذا الحدث يمثل تحوّلاً مهماً ومنعطفاً بيّناً في العلاقة بين الشرعي والسياسي، وبين الديني والزمني (حسب تعبير الدنيويّين) وبين السلطة وعصبيتها؟ بعض المثقفين يرونه مجرد حادثة عابرة، أو صراع، مؤقت، أو قضية من عشرات القضايا المشابهة، ويتكلمون بسطحية أو ببرود مصطنع أو بسذاجة .. وهناك من يرى أن الأمر له تداعيات كبيرة، من أظهرها الانحيازات الفكرية التي ظهرت في الإعلام والمواقع، واصطفاف الناس -في الجملة- في صفين متقابلين، متعارضين متضادّين، مما يؤذن بمستقبل اجتماعي ينقسم فيه المجتمع السعودي، كما حصل للمجتمعات الإسلامية التي ابتُليت بالتيارات الليبرالية التي تمارس ليبراليتها بنعومة الأفعى وسمّها. وفي الختام ينبغي أن يستحضر علماء الإسلام ودعاته أوائل سورة العنكبوت، ويسألون الله العافية، ويقومون بدورهم المتمثل في حديث الدين النصيحة، لمن؟ لكتاب الله، ولسنة رسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. والله الموفق إلى سواء السبيل.

الاختلاط .. (هم) و (وهم)

الاختلاط .. (هَمٌّ) و (وَهْمٌ) فهد بن صالح العجلان من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء (الملقاة) على قارعة الطريق-كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحدّ أن يتوّهم بعض الناس أنها من المسلّمات الفقهية .. القول بأن المحرّم في الشريعة هو (الخلوة) لا (الاختلاط) وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعاً مختلطاً يجتمع فيه الرجال والنساء، ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيّدة له. وتلقائياً .. يأتيك من يحكي الخلاف في المسألة بأن منع (الاختلاط) هو مذهب الحنابلة، وأما مذهب الفقهاء الآخرين فهو الجواز .. كما يفعلون في كلّ المسائل التي يرونها شهيرة في المجتمع السعودي إذ ينسبونها قولاً فقهيّاً من مفردات الحنابلة في مقابل الجمهور، من غير بيّنة على ذلك سوى أنه يشاهد كثيراً من المجتمعات الإسلامية لا تلتزم بهذا القول مما يدلّ على أن هذا مذهب الجماهير، فهو يتصوّر أن مذهب الفقهاء هو ما يفعله الناس في هذه الأيام. دعونا من مذهب (الحنابلة) .. وتخيّروا ما شئتم من مذاهب السادة الفقهاء .. ولكم حرية الاختيار في القرن الفقهي الذي تريدون .. واحضروا أي كتابٍ تهوون .. فإنكم ولا بدّ ستجدون أن من العبارات الفقهية المألوفة لدى جميع أصحاب المذاهب على توالي القرون (والمرأة ليست أهلاً لمجامع الرجال) و (المجامع التي يختصّ بها الرجال) ونحو هذه العبارات التي تساق كمسلّمات، بل وتذكر كأدلة فقهية لإلزام الرأي الآخر. فمثلاً: حين يردّ جمهور الفقهاء على الحنفية في قولهم بصحة (قضاء المرأة) في بعض الأحكام: يوردون عليهم أن (المرأة ليست أهلاً لمجالس الرجال) فيجعلون هذا الكلام كدليلٍ على إبطال قول الحنفية، وهو أمر يسلّم به الحنفية وإلا لما كان لمثل هذا الكلام في الردّ عليهم أي معنى. وستجد النقولات الكثيرة في ذمّ الاختلاط ووجوب الستر، وحثّ المحتسبين على متابعة هذا الأمر وتأديب المخالفين .. إلى ما شاء الله من النصوص التي لا طاقة بأحد على استقصائها .. إذا كان الأمر كذلك .. فمن أين دخل علينا مفهوم أن المحرّم هو (الخلوة) لا (الاختلاط) وأن المجتمعات الإسلامية في عصر الإسلام كانت مجتمعات مختلطة؟ ثمّة عدة أوهام سبّبت هذا الأمر، ولعلّي أخصّ بعضاً منها: ((الوهم الأول)):- [تصوّر أن التحريم في الشريعة إنما جاء في خصوص الخلوة دون الاختلاط] وللأسف .. أن يقول بهذا الكلام من يدعو للعمل بالمقاصد الشرعية، فعجباً: كيف تحرم الخلوة ويباح الاختلاط؟ إذا كان اجتماع الرجل مع المرأة في مجلس خالٍ وهي محتشمة وهو منشغل عنها بأي شغل يعتبر محرّماً بالنصّ والإجماع مع أن ثمّة موانع تحول دون حصول المكروه من الحياء وخشية الفضيحة والجهل بالطرف المقابل ونحوها .. فهل يكون هذا محرّماً .. واللقاء المتكرر المختلط في (قاعات الدراسة) و (أروقة العمل) أمراً مباحاً مع ما تقتضيه طبيعة اللقاء المتكرر والعمل المشترك من (مودّة) و (ابتسامة) و (لطافة) و (مصافحة) و (مقاربة) و (إزالة كلفة) وأمور لا تخفى على أحد، فأي جمود فقهي وظاهرية يابسة تلك التي تحرّم الخلوة وتبيح الاختلاط، وواقع الأمر أن دوافع الفساد والانحراف في الاختلاط أضعاف ما هي في الخلوة؟ ثمّ إن (الاختلاط المتكرر) يمهّد لحصول الخلوة بأبشع وأشنع صورها، فتهيئة الأجواء المختلطة وتطبيع الناس عليها وتنشئة أجيال المسلمين على إذابة الحساسية والكلفة بين الطرفين يعين ويمهّد لحصول الخلوة التي (نقطع) بحصول المكروه فيها لا بالخلوة التي هي (ذريعة) للمكروه.

أريد أن أفهم: الشريعة تأمر بالمرأة (بالقرار) في البيت، وإذا خرجت فهي (عورة) يستشرفها الشيطان، فلا بدّ من (الحجاب) و (ترك) التعطّر والتزيّن و (مأمورة) بأن لا تخضع بالقول ولا تخلو بالرجال، والرجل يجب عليه أن (يغضّ) بصره عنها هذه الأحكام .. فكيف يحصل لقاء مختلط متكرّر مع هذا؟ وإذا كانت الشريعة قد (أسقطت) عن المرأة الجمع والجماعات مع ما فيها من فضيلة لأجل حثّها على القرار في البيت، بل وصلاتها في بيتها (خير) لها من صلاتها في المسجد مع ما في صلاة الجماعة من أجر الجماعة وسماع القرآن ترغيباً للمرأة في القرار، وإذا أبت إلا الحضور في المساجد فإنها (ممنوعة) من الاختلاط بالرجال في وقت العبادة والذكر والاجتماع المفتوح الآمن، بل صفوف الناس الأخيرة خير لهنّ لما فيها من مزيد بعد وصيانة، أفيكون هذا خاصّاً بالمسجد والأماكن الآمنة وأما مقاعد الدراسة والعمل فشيء آخر أطهر وأبرّ! إن القول بتحريم (الخلوة) يتضمّن في ذاته القول بمنع (الاختلاط)؛ لأن تحريم الخلوة مبنيٌّ على ما في علاقة الرجل بالمرأة من حساسية تقتضي سدّ الذرائع المؤدّية إلى أي تلويث يمسّ هذه العلاقة، وبالتالي: فمن يحرّم الخلوة لا يمكن أن يقول بقول الصحفيين التائهين (إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تسودها الثقة والاحترام لا الجنس والشهوة) لأن من يقول بهذا يلزمه أن لا يحرّم الخلوة، فالاحترام إن كان هو صفة علاقة الطرفين فهو موجود في الخلوة والجماعة، وإن كان ثمّة حساسية وكلفة فهي موجودة فيهما، وأما من يمنع الخلوة ويجيز الاختلاط فهو في شتات. ((الوهم الثاني)): [أن الاختلاط ليس محرّم بإطلاق، بل منه الممنوع والمباح، فإذا وجدت الضوابط الشرعية كان اختلاطاً مباحاً] ولتبديد هذا الوهم يجب أن نراعي أن كلمة (الاختلاط) من الكلمات العائمة الموهمة، وقد كان الواجب على الطرفين أن يحددوا مفهوم الاختلاط المتنازع فيها حتى يكون النزاع على أرضٍ واحدة. فالبحث مع المخالفين ليس في مجرّد (لقاء عابر) بين رجل وامرأة (لحاجة) أو (عارض) أو (بكيفية) آمنة فهذه صور ليست هي محلّ النزاع، وفي المجتمع السعودي الذي يصفونه بالانغلاق من أشكال الاختلاط في الأسواق والدوائر الحكومية الشيء الكثير وما زالوا يطالبونه بالاختلاط مما يعني أن الاختلاط المقصود ليس هو هذا الاختلاط بل هو [نوعية معينة] من الاختلاط. المقصود طبعاً .. هو [الاختلاط المفتوح] الذي تزول معه الحساسية بين لقاء الرجل والمرأة مما يكون مع اللقاء طبيعيا كلقاء الرجال، يلتقون سوياً في (مقاعد الدراسة) وأماكن العمل) و (المناسبات العامة) ونحوها. فهل يمكن في مثل هذه اللقاءات أن تكون جائزة وعلى وفق الضوابط الشرعيّة؟ إنّها صورة حالمة غارقة في المثالية، تعمي بصرها عن الواقع المخزي للمجتمعات المختلطة وآثار الفساد الناخر في بنائها، وتذهل عن الميل الفطري الذي يسكن في نفس كلّ ذكرٍ وأنثى، وتتخيّل عالماً افتراضيّاً تنزل عليه الحكم الشرعي، فتلقي بالشاب والفتاة في النهر وتقول: إياك إياك أن تبتلّ بالماء! إنّ الاختلاط المحتشم الذي يذكرون هو اختلاط قائم على ضوابط ذاتية تعتمد على ضمير الفرد، من شاء أخذ بها ومن شاء تركها، فهي طريقة تذلّل الفساد للفتيان والفتيات وتطالبهم بأن يكونوا ملتزمين ومنضبطين، ولن تستطيع أن تستقيم فتضع ضابطاً فاصلاً بين الاختلاط المحتشم وغير المحتشم لأنك لا تعلم ما في قلوب الناس ولا ما بنظراتهم، وما فعلوا سوى أن ستروا الاختلاط المبتذل ليكون مقبولاً أو قريباً من المقبول.

وأزيدك بياناً .. بأن ذوي الفكر المنحرف وأتباع الشهوة ليس لديهم أي مشكلة مع مفهوم الاختلاط المحتشم، بل هم من أحرص الناس على إشاعته والترويج له بين الناس؛ لأنهم يعلمون أن القبول بالاختلاط المحتشم هو قبول بكل الاختلاط، وأن ما هم عليه من تفسّخ وخلاعة وانحلال هو من الاختلاط الذي لن يكون بعيداً عن الاختلاط المحتشم. ((الوهم الثالث)): [أن المجتمع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مجتمعاً مختلطاً، ويسوقون في سبيل ذلك النصوص الدالة على حضور النساء في بعض مجامع الرجال في ذلك العهد الطاهر] .. وهذه الطريقة في الاستدلال فيها خلط واشتباك سبّب هذا التشويش في النظر: [أولاً]: من جهة عدم التفريق بين النصوص الواردة قبل الأمر بالحجاب وما جاء بعده، فالقائلون بالاختلاط يسوقون النصوص من غير تمييز، مع أن الأمر بالحجاب جاء متأخّراً وكان النساء قبل ذلك على ما كنّ عليه قبل الإسلام، فمن الضروري أن يميز النصّ فيما كان قبل آية الحجاب وفيما كان بعده، غير أن الكثيرين يسوقون النصوص ليتشبثوا بها على جواز الاختلاط بغضّ النظر عمّا يلزمهم في هذه الطريقة من لوازم شنيعة. (خذ مثلاً): يستدلّ بعضهم على الاختلاط بدخول النبيّ صلى الله عليه وسلم على أم سليم ومنامه في بيتها وتفليتها لشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في القصة الشهيرة، وقد تكلّم العلماء عليها وحملوها على محامل كثيرة تجتمع فيها الدلائل الشرعيّة .. لكنّ بعض الناس يسوقها ليدلل بها على الاختلاط .. ولو تأمل لعلم أن الحكم في الحديث ليس اختلاط فقط، بل خلوة ونوم في بيت أجنبية وقيام المرأة بمسّ الرجل .. فهل هذه كلّها جائزة أيضاً .. ؟ هنا يظهر دور العالم الفاحص الذي يجمع النصوص ليتوصّل بها للحكم الشرعي لا من ينتزع الدلائل المحققة لغايات البحث المقصود. والأمر الثاني من الخلط في هذه النصوص: أن جميع النصوص تدلّ على اختلاط جاء لحاجة أو لعارض أو لطارئ تؤمن فيه الفتنة ولا يتصوّر فيه إثارة، وهذا الأمر لا ينازع فيه أحد ولا يقول أحد فيه شيئاً، فالمرأة تسلّم على قريبها أو تسأل المفتي أو تدخل سوقاً لحاجتها أو تدخل مسجداً لتؤدي الصلاة وكلّ هذه حالات خلطة لا إشكال فيها وهي قريبة من النصوص التي يسوقونها في مجتمع النبوّة. [الخلاف بيننا]: هو في مجتمع (مختلط) ترتفع فيه (الكلفة) و (الحشمة) بين الرجال والنساء ليحصل اللقاء دوماً في المدارس والعمل والأعراس والمطاعم فهل كان الناس في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك؟ وكيف يكون حالهم كذلك .. والمرأة تحثّ على ترك الصلاة في المسجد، وإن أبت فتلزم بترك التزين والتطيب وتتوعّد عليه، وتحثّ على ترك الاقتراب من الرجال وهي وهم في صلاة في المسجد جماعة، ويضع النبيّ صلى الله عليه وسلم للنساء باباً خاصّاً وينهى الرجال عن الدخول منه، ويأمر الرجال أن يمكثوا قليلاً بعد الصلاة لينصرف النساء .. وهذه الاحتياطات في [العبادات الجماعيّة التي تقام في بيوت الله] وليس في [مقاعد السينما ونوادي الرياضة]؟

إن النصوص التي يسوقونها -لو تأملوا- دليل عليهم؛ لأنها تدلّ على أن الاختلاط كان عارضاً وطارئاً لأجل ذلك احتاجوا لجمع الأدلة عليه، ولو أن الاختلاط هو الأصل والسائد لأصبح معلوماً بالضرورة من غير حاجة لمثل هذا الحشد، فلستَ بحاجة لأن تعلم أن الرجال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون في المسجد ويسلمون على بعض وينامون في بيوتهم ويتزوجون ويأكلون لأن هذا من الأمور الظاهرة المشتهرة، فلو كان ثمة اجتماع دائم بين الرجال والنساء لكان من المعلوم الذي يتناهى علمه إلى الجميع لا أن يتوصّل إليه من خلال حشد النصوص من قبيل (دخلت امرأة فسلمت) و (قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم) ونحو هذه الدلائل. خاتمة القول: إن الاختلاط (وهمٌ) وقع فيه بعض الفضلاء لتأويل واجتهاد يعذرون فيه، ويقبل منهم أكثر حين نعلم أنهم درجوا في بيئات مختلطة فلم يكن قولهم بجواز الاختلاط أثراً في نشر الفساد والانحراف، بل كان سيكون لقولهم بمراعاة الضوابط الشرعيّة دوراً إيجابيّاً في تخفيف الشرّ الحاصل من غلواء هذا الاختلاط. وأما إشاعة القول في مجتمعات محافظة سليمة من الاختلاط وآثاره، قد رفضه المجتمع ديانة ونخوة وحمية وعادة، فهو (همّ) يقلق بعض الناس يصبح معهم وينام ويستميتون في الترويج له، وهي لوثة فكرية تستر نفسها بعباءة فقهية، فالفقيه غيور على حرمات الناس ثائر في وجه المنكرات وألوان الفساد وليس عجلة في قطار الزجّ بمجتمعات المسلمين في متاهات الكهوف المظلمة بالفساد والريبة. لا زلت غير قادر على فهم من يدّعي (المسلك) و (الخلاف الفقهي) في هذه المسألة، حين يسطّر عشرات المقالات بجهادٍ متواصل لاستحثاث الخطى لفكّ قيود الاختلاط بينما لا يجود قلمه بنقطة حبر عن الاختلاط (الآثم) الموجود في كثير من المجامع مما يسلّم بحرمته إبليس، بل إنّ الإنكار على صور الاختلاط فيها يجعل ذلك الشخص يتذّكر مسألة الاختلاط المباح المحتشم .. فهل هذا كلّه مجرّد خلافٍ فرعيّ وتَقَفٍٍّ لجواد الفقهاء؟

مفهوم الاختلاط بين التأصيل والتضليل

مفهوم الاختلاط بين التأصيل والتضليل سعود بن محمد بن حمود العقيلي باحث في مجال الاختلاط لمرحلة الدكتوراه من الأهمية بمكان معرفة مفهوم الاختلاط ومحدداته لكي تتضح صوره، ومن خلال ذلك يمكن أن نفرق بين ما هو اختلاط وما هو غير ذلك، حيث إنه لا زال هناك عدم وضوح لهذا المصطلح، مما أدى إلى كثير من الالتباس عند العامة والخاصة، نتج عنه تساهل كبير في تناول مصطلح الاختلاط، فجعل البعض يختزل حكم الاختلاط بأنه مباح بناء على ما يرونه أنه صورة من صوره، وهو الالتقاء العابر أو التقابل غير المقصود الذي يقع في الأماكن العامة كالشوارع والأسواق والمساجد ونحوها، ثم هو بعد ذلك يقيس باقي صوره على هذه الصورة، ولاشك أن هذا تجن واضح وتحريف للكلم عن مواضعه. إن الاختلاط في عالمنا الإسلامي والعربي في العصر الحاضر، أصبح له صور كثيرة ومتعددة كما هو الحال في العالم الغربي الذي لا يقيم للدين والأخلاق وزنا، ذلك أن الاختلاط صنعة غربية تم تصديرها إلينا ونمط اجتماعي غربي فرض علينا. إن الاختلاط هو القضية الأساس التي يسعى المفسدون لنشرها في المجتمع ويستميتون في إقناع الناس بها، ويوجدون لها المسوغات بل ويجعلونها من الضرورات، ويعزون كل بلاء في الأمة وتخلف وانحطاط إلى ما ساد من عزل المرأة عن الرجل في التعليم والعمل وغيره!!. ويعلم المفسدون أنهم إن نجحوا في نشر ثقافة الاختلاط فإن ما بعده من الإفساد سيكون أهون، والمجتمع إليه أسرع، وهنا مكمن الخطر. إنني أُعد الاختلاط نازلة من النوازل الفقهية في هذا العصر, جرَّت إلى مفاسد كثيرة، ومن قارن حال العالم الإسلامي قبل بدعة الاختلاط وبعدها، تبين له الفرق الكبير، ولكل قارئ أن يتساءل ما هو الاختلاط ومحدداته؟! فأقول وبالله التوفيق: يرتبط المعنى الاصطلاحي بمعناها اللغوي ارتباطاً وثيقاً، وقد تكتسب الكلمة معان متعددة بحسب عوامل متعددة، إلا أنها تظل مرتبطة بمعناها اللغوي، ومن ثم يمكن الوقوف من خلال استعمالاته اللغوية السليمة على حقيقة المعنى الاصطلاحي. الاختلاط لغة: الخليط والمخالط كالنديم للمنادم والجليس للمجالس. واختلط القوم في الحرب تشابكوا، وخالط الذئب الغنم وقع فيها. ورجل خلط يتحبب إلى الناس ويختلط بهم قال طرفة خالط الناس بخلق واسع -- لا تكن كلباً على الناس تهر ورجل خلط مختلط بالناس متحبب، وامرأة خلطة كذلك أي مختلطة بالناس متحببة لهم. والخِلط المختلط بالناس يكون الذي يتملق ويتحبب إليهم والأنثى خلِطة. والعرب تقول اخلط من الحمى يريدون أنها متحببة إليه، متملقة بورودها إياه، واعتيادها له كما يفعل المحب الملِق. قال السيوطي أصل الخلط تداخل أجزاء الأشياء بعضها في بعض وقد توسع فيه حتى قيل رجل خلط إذا اختلط بالناس كثيراً. وعليه فنلحظ في المعنى اللغوي أن الاختلاط يكون فيه تحبب وتودد وتوسيع للأخلاق وتحسينها. لذا فهو قريب المعنى جدا لبعض معاني الاختلاط الاصطلاحي الذي سنذكره قريبا، وقد وردت الكلمة وبعض مشتقاتها في القران الكريم 1 - {ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي تشاركوهم في المطعم والمشرب والمسكن والخدمة. 2 - {وإنَّ كثيراً من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض} فالخلطاء الشركاء والأصحاب. وكذلك وردت الكلمة ومشتقاتها الدالة على المعاني نفسها في السنة ومن ذلك ما يلي: 1 - ما رواه ابن ماجه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)

2 - ما رواه ابن ماجه بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير يا أبا عمير ما فعل النغير؟. 3 - ما رواه البخاري في باب طواف النساء مع الرجال، قال عطاء: لم يكن يخالطن الرجال كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم. 4 - وقد اخرج أبو داود في سننه عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج المسجد فاختلط الرجال بالنساء فقال رسول اله صلى اله عليه وسلم استأخرن ---- الحديث أما تعريف الاختلاط اصطلاحاً: فهو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم اجتماعاً يرفع الكلفة ويزيد الألفة وهو كذلك تزاحم بالأبدان وتماسها. ففي هذا التعريف نلحظ انه أشار إلى نوعي الاختلاط سواء كان في تماس الأبدان وتقارب الأنفاس ولو لم يكن هناك سابق معرفة كما يحدث في الأماكن المزدحمة والضيقة وهذا ما يسمى بالاختلاط الحسي. أو كان هذا الاختلاط بدون تماس غالبا كما هو الحاصل في التعليم المختلط والعمل المختلط، حيث تتكسر الكثير من الحواجز بين الجنسين بسبب طول الاجتماع، فقد يرى الرجل زميلته في العمل أكثر من زوجته وكذلك العكس، فينتج عن ذلك ارتفاع الكلفة وزيادة الألفة فيحصل بذلك تقارب القلوب والنفوس واستحسان للمحادثة وتلذذ بالجلوس والحديث وتبادل النكات والطرائف وقد يحصل بهم الأمر أن يدعوها أو تدعوه أن يتناولا الطعام سوياً، كل ذلك بحجة الزمالة وقدم المعرفة وثقتها بأخلاقه وهنا مكمن الخطر ذلك لأن الله قال في كتابه {ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} وقال {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} فالخضوع بالقول وصوت الخلخال داعيان للزنا وأنهما طريقان إليه، فجاء تحريمهما سداٍ وحسماً للشر من أصله، بل وجاء هذا الكلام في كتاب الله صريحاً لكي لا يختلف فيه المسلمون، ولكي يعلموا أن سد الطرق الموصلة للزنا، أمر أوجبه الله تعالى ليس خاضعاً لاجتهاد عالم ولا لإنكار منكر. ولكل عاقل أن يقارن بين ما يحدثه خضوع المرأة بصوتها، وكذلك صوت خلخالها إذا ضربت به الأرض، وبين ما يحصل في الاختلاط مما ذكرنا آنفاً من ارتفاع للكلفة وزيادة للألفة وتبسط في الكلام، أيهما أشد ضرراً على قلب الرجل؟! فإذا كان الله قد حرم على المرأة أن تخضع بالقول ولو لمرة واحدة مع رجل لا تعرفه في سوق أو مكان عام، فما بالك بالخضوع بالقول بشكل دوري ويومي، بل وأشد من ذلك كالتبسم والضحك والتبسط في الحديث وطول المقابلة والجلوس، وكذلك بالنسبة للخلخال فأيهما أشد أثراً هذا الذي يحدثه فرقعة الخلخال لامرأة مرت مروراً عابراً برجل أجنبي لا يعرفها أم الاختلاط بها لساعات طويلة؟! وكذلك بالنسبة للتطّيب والتعطر فالنبي صلى الله عليه وسلم يصف المرأة المتطيبة بالزانية، هكذا بكل وضوح وصراحة مع أنه عليه الصلاة والسلام عفيف اللسان نظيف المنطق كما قال عنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ومع ذلك يصف المرأة المتعطرة بهذا الوصف، فالمرأة العاملة في مجمع الرجال، كيف لها أن تتقابل مع زملائها في العمل ورائحة العرق ونحوه تخرج منها بل وقل أشد من ذلك إذا كانت في فترة الحيض, وقل مثل ذلك عن الطالبة في قاعة الدراسة. وكذلك بالنسبة للنظر فكيف يغض أحدهما بصره عن الآخر وهما يجتمعان في مكان واحد طيلة الوقت وقد يمارسان عملاً مشتركاً كالطبيب مع زميلته الطبيبة أو الممرضة أثناء إجراء عملية أو تطبيب مريض، وكذلك الأستاذ مع طالباته أو الأستاذة مع طلابها في قاعة التدريس أو الطالب مع زميلته في قاعة المختبر، فكيف يمكن لهؤلاء أن يلتزموا بقول الله تعالى {قل لمؤمنين يغضوا من أبصارهم ... } وقوله تعالى {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ... }. وقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله جرير بن عبدالله رضي الله عنه عن نظر الفجأة فقال عليه الصلاة والسلام: اصرف بصرك، وقوله لعلي رضي الله عنه: ياعلي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الثانية. كيف يستطيع الطالب أن يتابع شرح معلمته دون النظر إليها مرة بعد أخرى, وكذلك الحال مع زميلاته في القاعة ماذا عساه أن يفعل وكيف يستطيع غض بصره؟، وهو كلما أرسله اصطدم بصره بهذه أو بتلك. تلك بعض الإشكالات التي أفرزتها ثقافة الاختلاط، ذلك لأنه نمط اجتماعي غربي لا يتناسب وواقع المجتمعات التي تدين بالإسلام، ناهيك عن ما ينتج عنه من الفساد كالزواج السري الذي يتم بدون إذن الأهل والتحرش الجنسي والزنا وليس هذا مقام الحديث عن ذلك هنا. وللحديث بقية.

الموالاة: معناها ومظاهرها

الموالاة: معناها ومظاهرها أبو مريم محمد الجريتلي إنَّ الحمد لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله. أمَّا بعدُ: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدْي هدْيُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدْعة، وكل بدْعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلقد رأيتُ لأهل العلْم كلامًا كثيرًا في باب الموَالاة بين مُقلٍّ ومكثرٍ، ومُجملٍ ومفصِّلٍ، وكلٌّ له الفضْل والسبق؛ فكتبتُ لنفسي كلمات في هذا الباب أشْبه بالملخَّص للدِّراسة، فأشار عليَّ مَن رآه من أهلِ العلم أن أرَتِّبه وأعرضه على طلَبة العلم في حلق الدراسة، فلقي قبولاً - ولله الحمد والمنَّة - فسطرته في هذه المقالة؛ راجيًا من الله أن تعمَّ الفائدةُ، فيعظم الأجر، والله المستعان، وعليه التكلان. تعريف المُوَالاة: يقول ابنُ تيميَّة - رحمه الله -: " (الولاية) ضد العَداوة، وأصل الولاية المحبَّة والقُرب، وأصل العداوة البغض والبعد، وقد قيل: إنَّ الولي سُمِّي وليًّا من موالاته للطاعات؛ أي: متابعته لها، والأول أصَحُّ، والولِيُّ: القريب، فيقال: هذا يلي هذا؛ أي: يقرب منه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألحقوا الفرائض بأهلِها، فما أبقت الفرائض فَلأَوْلَى رجلٍ ذَكَر)) (¬1)؛ أي: لأقرب رجل إلى الميت، فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه - كان المعادي لوليه مُعاديًا له؛ كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (¬2)، فمَن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومَن عاداه فقد حارَبَهُ، فلهذا قال: ((ومَن عادى لي وليًّا، فقد بارَزَنِي بالمُحَاربة)) (¬3). صوَر الموالاة ومظاهرها: تدور الموالاة حول ثلاثة أصول: 1 - الحب والمودَّة: قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (¬4). يقول ابن تيميَّة - رحمه الله -: "ونظائر هذا في غير موضعٍ من القرآن، يأمُر - سبحانه - بِمُوالاة المؤمنين حقًّا، الذين هم حِزْب الله وجُنده، ويُخبر أنَّ هؤلاء لا يُوالون الكفُّار، ولا يوادونهم" (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري: (6732/ كتاب الفرائض)، ورواه مسلم: (1615/ كتاب الفرائض). (¬2) [الممتحنة: 1]. (¬3) رواه البخاري: (6502/ كتاب الرقائق/ باب: التواضع). (¬4) [المجادلة: 22]. (¬5) "اقتضاء الصراط المستقيم" ص48، (ط. دار الحديث).

يقول ابن رجب - رحمه الله -: "فأولياءُ الله تجب مُوالاتهم، وتحرم معاداتهم، كما أنَّ أعداءه تجب مُعاداتهم، وتحرم موالاتهم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (¬2)، (¬3). 2 - النصرة: قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (¬4)، وقال سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (¬5). وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس منَّا مَن دعا إلى عصبيَّة، وليس منَّا مَن قاتَلَ على عصبيَّة، وليس منَّا مَن مات على عصبيَّة)) (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن خَرَج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهليَّة، ومَن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبيَّة، أو يدعو إلى عصبيَّة، أو ينصر عصبية فقُتل، قُتل قتلة جاهلية)) (¬7). 3 - الاتِّباع: قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (¬8) والأحاديث في النهي عن مُتابعة أهل الكتاب مُتَواتِرة: فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتتبعُنَّ سنن مَن كان قبلكم، شبرًا بشِبْر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه))، قُلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَن؟)) (¬9)، وفي الحديث: ((مَن تَشَبَّه بقوْمٍ فهو منهم)) (¬10). يقول ابن تيميَّة - رحمه الله -: "فالمشابَهة والمُشارَكة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة" (¬11). ¬

(¬1) [الممتحنة: 1]. (¬2) [المائدة: 55]. (¬3) "جامع العلوم والحكم"، حديث 38. (¬4) [النساء: 76]. (¬5) [الأنفال: 72]. (¬6) رواه أبو داود، 4/ 5121. (¬7) رواه مسلم: (3240/ كتاب الإمارة/ باب: وُجُوب ملازمة جماعة المسلمين عند الفتن). (¬8) [البقرة: 120] (¬9) متَّفق عليه: رواه البخاري: (732/ أحاديث الأنبياء/ باب: ما ذكر عن بني إسرائيل)، ورواه مسلم: (2669/العلم/ باب: اتباع سنن اليهود والنصارى). (¬10) "صحيح الجامع"، ح (6149). (¬11) "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص188، (ط/ دار الحديث).

ويقول - رحمه الله -: "إنَّ المُشَابَهة في الظاهر تورِّث نوعَ مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابَهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة"، فإذا كانت المشابَهة في أمور دنيويَّة تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإنَّ إفضاءَها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تُنافي الإيمان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (¬1)، وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2)، فبَيَّنَ - سبحانه وتعالى - أنَّ الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأنَّ عدم اللازم يقتَضِي عدم الملزوم. وقال - سبحانه -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3)، فأخبر - سبحانه - أنَّه لا يوجد مؤمن يوَادّ كافرًا، فمَن وادَّ الكفَّار فليس بمؤمن" (¬4). وقال ابن حزم: "صحَّ أنَّ قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (¬5)، إنَّما هو على ظاهره بأنه كافر في جُملة الكفَّار، وهذا حقٌّ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين" (¬6). يقول ابن كثير: "وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (¬7)؛ أي: شك، وريب، ونفاق، {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}؛ أي: يُبادرون إلى مُوالاتهم ومَودتهم في الباطن والظاهر (¬8). ومِن مَظاهر المُوالاة الممنوعة: ¬

(¬1) [المائدة: 51 - 53]. (¬2) [المائدة: 78 - 81]. (¬3) [المجادلة: 22]. (¬4) "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص190، 189. (¬5) [المائدة: 51]. (¬6) "المحلى"، 13/ 35. (¬7) [المائدة: 52]. (¬8) "تفسير القرآن العظيم" لآية المائدة (51)، 2/ 66،65.

مظاهرة الكافرين، وإعانتهم، والتجَسُّس على المسلمين، وإفشاء أخبارهم وأسرارهم، وكشْف عوراتهم لأعداء الدِّين، والفرَح لِمُصاب المسلمين، والحزن لنصرهم، وتمنِّي هزيمتهم، والسعي لذلك بالقلَم والمال والنفْس، والدعوة إلى خلْع رابطة الولاء الدِّيني، وجعل الولاء على أُسُس عرقيَّة؛ مثل: الوطنيَّة، والقوميَّة، والفرعونيَّة. قال الشيخ الشِّنقيطي - رحمه الله -: "ومن هدْي القرآن للتي هي أقوم: هدْيه إلى أنَّ الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن يُنادى بالارتباط بها دون غيرها - إنما هي دينُ الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي، كأنه جسَد واحد، إذا اشتكى منه عُضو، تداعَى له سائرُ الجسَد بالسهَر والحُمَّى" (¬1). ومن مظاهر الولاء: الدعوة إلى زمالة الأديان، ورفْع شِعار: "الدِّين لله، والوَطَن للجميع"؛ ليذوب معنى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ} (¬2)، و ((المسلم أخو المسلم))، ومن ذلك: التجمُّع تحت أحزاب وكيانات تشترط أن يكون الاجتماع لا على أساس الدين؛ كالماسونية، ونوادي الروتاري والليُونز، أو أحزاب سياسية تفصل الدِّين عن السياسة، كالعلمانية، وشعارهم: "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة". ومن ذلك: دعوى تقديم الواجب الوَطَني على الواجب الدِّيني، فإذا تعارَض عندهم الدِّين والوطنية، قدم ما فيه مصلحة للوطن - في ظنِّهم - حتى لو كان فيه مُحاداة لله ورسوله، ومُحاربة لدِينه وأوليائِه. ومن ذلك: "كسر حاجز الولاء والبَرَاء بين المسلم والكافر، وبين السُّنِّي والبِدعي، وهو ما يُسَمَّى في التركيب المولد باسم: (الحاجز النفسي)، فيُكسر تحت شعارات مضَلِّلة: (التسامُح)، و (تأليف القُلُوب)، (نبذ الشذُوذ والتَّطَرُّف)، و (التَّعَصُّب)، و (الإنسانيَّة)، ونحوها من الألفاظ ذات البَريق، والتي حقيقتها: (مؤامرات تخريبية)، تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتمَيِّز وعلى الإسلام" (¬3). ومِن ذلك: تَوْلِية الكُفَّار ما فيه سلطان على المسلمين، وتنصيبهم أمراء وقادة ومستشارين وبطانة من دون المؤمنين، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬4)، يقول ابن القَيِّم - رحمه الله -: "ولَمَّا كانت التوْلية شقيقةَ الولاية، كانت توليتهم نوعًا من تَوْليهم، وقد حكم الله - تعالى - بأن مَن تَوَلاَّهم فإنَّه منهم، ولا يتم الإيمانُ إلاَّ بالبَرَاءة منهم، والولاية تُنافِي البَرَاءة، فلا تجتمع البَرَاءة والولاية أبدًا، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكُفر أبدًا، والولاية صلة فلا تجامِع مُعاداة الكافرين أبدًا" (¬5). ومن ذلك: ¬

(¬1) "أضواء البيان"، 3/ 401. (¬2) [الحجرات: 10]. (¬3) "هجر المبتدع"؛ لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد: ص4. (ط، مكتبة السنة). (¬4) [آل عمران: 118، 119]. (¬5) "أحكام أهل الذمة"، 1/ 242.

طرْح الاعتزاز بآداب الإسلام وأخلاقياته، والاعتزاز بكلِّ ما يُتلقى عن الغرب الصليبي - وإن خالَفَ الإسلام - باسم المدَنيَّة، والتقدُّم، أو الحضارة والرَّقي، أو باسم الموضة أو الفن أو تحت أيِّ مسمَّى، وازدراء من تَمَسك بآداب الإسلام وهدْيه، ورَمْيه بالتَّخَلُّف والرَّجْعِيَّة. ومن ذلك: الاحتفال بأعياد المُشركين وتسميتها أعيادًا؛ كعيد الحُب، وعيد شَمّ النسيم، وعيد رأس السَّنة الميلاديَّة، ومُشاركة المُشركين في ذلك، والفرَح بها أكثر منَ الفَرَح بأعياد المسلمين، وربما رفع بعضُهم شعارات عليها فينوس، ويقولون: (فينوس إله الحبِّ)، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا. وقال أبو العالية، وطاوس، وابن سيرين، والضَّحَّاك، والربيع بن أنس، وغيرهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (¬1)، قالوا: هي أعياد المشركين" (¬2). وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا تعَلَّمُوا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم" (¬3). ومن ذلك: حب الهجرة إليهم، والاعتزاز بالتجنس بجنسيتهم، والافتخار بذلك، وفي الحديث: ((لا تُساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم؛ فمن ساكنهم أو جامعهم، فليس منَّا)) (¬4). ومن ذلك: السخرية من اللغة العربية لُغة القرآن، ومحبة لغة الأعاجم، والتحَدُّث بها، والافتخار بذلك، وتقديم مَن يجيدها وإن كان عدوًّا لله ورسوله. دعاوى أهل النِّفاق في مُوالاة أعداء الدِّين: 1 - يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة: ما حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬5)، يقول ابن كثير - رحمه الله -: "قال ابن إسحاق: وحَدَّثَني أبي، عن عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، قال: لما حاربتْ بنو قينقاع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفَّار وولايتهم. قال: وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلتِ الآيات من المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬6)؛ يعني: عبد الله بن أبي إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُ ونَ} (¬7)؛ يعني: عُبادة بن الصامت" (¬8). 2 - يُسارعون فيهم يبتغون عندهم العزة: ¬

(¬1) [الفرقان: 72]. (¬2) "تفسير ابن كثير: 3/ 399. (¬3) رواه البيهقي: 9/ 234. (¬4) "صحيح الجامع"، ح6، 818. (¬5) [المائدة: 52]. (¬6) [المائدة: 51، 52]. (¬7) [المائدة: 56]. (¬8) "البداية والنهاية"؛ لابن كثير، 2/ 409 - 410.

كما قال الله عنهم في مُحكم التنزيل: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬1). يقول الشيخ ناصر السعدي - رحمه الله -: {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ}؛ أي: الذين أظهَرُوا الإسلام، وأبطنوا الكُفرَ، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار، وموالاتهم، ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك؟ {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ}: وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين؛ ساء ظنُّهم بالله، وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عما وراء ذلك، فاتَّخذوا الكافرين أولياء، يتعزَّزون بهم ويستنصرون. والحال أنَّ العزَّة لله جميعًا، فإنَّ نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم، وقد تكفَّل بنَصْر دينه وعباده المؤمنين، ولو تَخَلل ذلك بعض الامتحان لعبادِه المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستَمرَّة، فإنَّ العاقبة والاستقرار للمؤمنين. وفي هذه الآية الترهيب العظيم من مُوَالاة الكافرين، وترْك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأنَّ الإيمان يقتَضي محبَّة المؤمنين وموالاتهم، وبُغْض الكافرين وعداوتهم" (¬2). 3 - يريدون عرَض الحياة الدنيا: كما قال الله تعالى عنهم: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (¬3). يقول ابن كثير - رحمه الله -: "يُخبِر - تعالى - عنِ المنافقين أنهم يتَرَبَّصون بالمؤمنين دوائر السوء؛ بمعنى: ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكُفر عليهم، وذهاب ملتهم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ}؛ أي: نَصْر وتأييد وظفر وغنيمة، {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}؛ أي: يتودَّدُون إلى المؤمنين بهذه المقالة، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ}؛ أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد، فإنَّ الرسُل تبتلى ثم يكون لها العاقبة" (¬4). 4 - يحسدون أهل الإيمان على ما آتاهم الله من فضله: كما قال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬5). ¬

(¬1) [النساء: 138، 139]. (¬2) "تفسير السعدي"، ص209 - 210. (¬3) [النساء: 141]. (¬4) "تفسير ابن كثير"، 1/ 487، (ط. دار القلم). (¬5) [آل عمران: 118 - 120].

يقول ابن كثير - رحمه الله -: "يقول - تبارك وتعالى - ناهيًا عباده المؤمنين عن اتِّخاذ المنافقين بطانة؛ أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً؛ أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكلِّ مُمكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم. ثم قال تعالى: {قَدِ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر}؛ أي: قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}. قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} (¬1)، وذلك أشدُّ الغيظ والحنق، قال الله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬2)؛ أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أنَّ الله متِمٌّ نعمته على عبادِه المؤمنين، ومكملٌ دينه، ومعلنٌ كلمته، ومظهرٌ دينه، فموتوا أنتم بغيظكم؛ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنُّه سرائركم من البغضاء والحسد والغلّ للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمِّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها" (¬3). ونصيحة لكل مسلم يسير إلى الله يبتغي الحق ويسأل الله العون: لا ترغب عن سبيل المؤمنين؛ كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬4)، وقال - سبحانه -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬5). يقول ابن كثير - رحمه الله -: {نَوَلِّه مَا تَوَلَّى}؛ أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره، ونزيّنها له؛ استدراجًا له، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬6)، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (¬7)، وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬8)، وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأنَّ مَن خرج عن الهدى لَم يَكُن له طريق إلاَّ إلى النار يوم القيامة" (¬9). فلا ترغب عن سبيل المؤمنين، ولا تقتفِ سُبُل المجرمين من الكفَّار والمنافقين، واعلم أنه ما من سبيل منها إلا وعليه شيطان يدعو إليه ويزينه لأهله. فإن وفقك الله لسبيل المؤمنين فإياك والتفرُّقَ فيه، واسمع لقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬10). ¬

(¬1) [آل عمران: 119]. (¬2) [آل عمران: 119]. (¬3) "تفسير ابن كثير"، 1/ 342 - 343. (¬4) [الأنعام: 153]. (¬5) [النساء: 115]. (¬6) [القلم: 44]. (¬7) [الصف: 5]. (¬8) [الأنعام: 110]. (¬9) "تفسير ابن كثير"، 1/ 476. (¬10) [سورة يوسف: 108].

وعليك بالنُّصح لكل مسلم؛ فـ ((الدين النصيحة))، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصح لكل مسلم (¬1). وفي رواية: ((أبايعك على أن تعبُد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين)) (¬2). فالنصيحةُ للمسلمين هو مُقتضى ترْك التفرُّق في السبيل، وهو هديُ أهل السنَّة وسَمْتهم. يقول ابن تيميَّة - رحمه الله -: "ثُمَّ مِن طريقة أهْلِ السُّنَّة والجماعة اتِّباع آثار الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا .... إلى أن يقول - رحمه الله -: ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتَقِدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشُد بعضه بعضًا)). (¬3) وقوله: ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهَر" (¬4)، (¬5). جَعَلَنَا اللهُ وإياكم مِمَّن لا يُفارقون السبيل، ولا يَتَفَرَّقون فيه، اللهم آمين. المصدر: موقع الألوكة ¬

(¬1) رواه البخاري: (57/ كتاب الإيمان/ باب: الدين النصيحة)، ورواه مسلم: (56/ كتاب الإيمان/ باب: بيان أن الدين النصيحة). (¬2) رواه النسائي:7/ 148، وأحمد في المسند: 4/ 365، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم636. (¬3) رواه البخاري: (481/ كتاب الصلاة/ باب: تشبيك الأصابع). (¬4) رواه البخاري: (6011/ كتاب الأدب/ باب: رحمة الناس)، ورواه مسلم: (2586/كتاب البر والصلة). (¬5) "شرح العقيدة الواسطية"؛ لابن عثيمين: 512 - 515، (ط. مكتبة الإيمان).

الحرم المكي ومضاعفة الأجر فيه

الحرم المكي ومضاعفة الأجر فيه عبد اللطيف بن عوض القرني الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: إن أفضل البقاع على الإطلاق البلد الحرام، خصّه الله سبحانه بالفضائل والمزايا وجعل له أحكاماً تخصّه عن سائر البلدان، ولذا كان من المناسب توضيح بعض الأحكام المتعلقة بالحرم المكي، وخاصة مضاعفة الأجر فيه، وقبل أن نشرع في ذلك لا بد من تعريف الحرم وحدوده وفضائله، فنقول: الحرم وأسماؤه: ورد اسم الحرم في كتاب الله _عز وجل_ وفي سنة نبيه محمد _صلى الله عليه وسلم_ ولفظ الحرم إذا أطلق عموماً فإنه يراد به حرم مكة وهو حرم الله وحرم رسوله _صلى الله عليه وسلم_، والحرم قد يكون الحرام، مثل: زمن وزمان، كما يطلق على حرم مكة: المحرم. (لسان العرب 4/ 95). والحرمان: مكة والمدينة. جمع أحرام. والحرم: حرم مكة وهو ما أحاط بها من جوانبها وأطاف بها جعل الله حكمه حكمها في الحرمة تشريفاً لها. (تهذيب الأسماء واللغات 3/ 1/82). وهذا التعريف عام وهو مبنى على أن الحرم يشمل مكة، أما الآن فإن أجزاء من مكة خارج الحرم. الفرق بين الحرم والمسجد الحرام: ورد ذكر اسم المسجد الحرام في خمسة عشر موضعاً من كتاب الله وقد اختلف في المراد به على أقوال ذكرها ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة بقوله: "المسجد الحرام يراد به في كتاب الله ثلاثة أشياء: نفس البيت، والمسجد الذي حوله، والحرم كله" (أحكام أهل الذمة 1/ 189). وزاد النووي في المجموع مراداً رابعاً وهو مكة. (المجموع شرح المهذب 3/ 189). حدود الحرم: معرفة حدود الحرم مهم جداَ لتعلق كثير من الأحكام به، قال النووي: "واعلم أن معرفة حدود الحرم من أهم ما ينبغي أن يعتنى ببيانه، فإنه يتعلق به أحكام كثيرة" (تهذيب الأسماء واللغات 3/ 1/82). وحرم مكة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والأصل في معرفة حدوده التوقيف، ولا مجال للاجتهاد فيه منذ أن نصب سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام أنصاب الحرم، واختلف العلماء في زمن تحريم مكة، والصحيح أن مكة لم تزل حرماً من حين خلق الله السموات والأرض لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس _رضي الله عنه_ما أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة". (البخاري 4/ 46، ومسلم 1/ 986). فيفهم من ذلك أن مكة كانت حرماً منذ خلق الله السماوات والأرض وأن ما ورد في حديث عبد الله بن زيد _رضي الله عنه_ أنه سمع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "إن إبراهيم حرم مكة ... " (أخرجه البخاري 4/ 346، ومسلم 1/ 991). فيحمل على أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أظهر تحريمها بعد أن كانت خفياً، فوضع أنصاب الحرم بدلالة جبريل عليه السلام له، وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد ورجحه النووي وابن كثير (الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 192) (المجموع 7/ 466) (تفسير ابن كثير1/ 174). حدود الحرم من الطرق الحديثة: أما مداخلة إلى مكة من الطرق الحديثة: 1 - من طريق جدة السريع: (21كم): من جدار المسجد الحرام الغربي من باب الملك فهد وحتى العلمين الجديدين على الطريق. 2 - من طريق الليث اليمن الجديد (20كم): من جدار المسجد الحرام الجنوبي وحتى العلمين الجديدين على الطريق. 3 - من طريق الطائف الهدى الجديد (14.600كم): من جدار المسجد الحرام الجنوبي وحتى العلمين الجديدين على الطريق السريع (الطائف الهدى) بالقرب من جامعة أم القرى.

4 - من طريق الطائف السيل السريع (13.700كم): من جدار المسجد الحرام الشرقي وحتى العلمين الجديدين على طريق الطائف. (انظر: أحكام الحرم المكي الشرعية، الحويطان ص 40. وقد ذكر في الحاشية الجهاز الذي قام بقياس المسافة وهو " GPS") . وهناك بعض الاختلافات في حساب المسافات على حسب الجهاز المستخدم والأجدر أن يحرص المتخصصون على تحديد أعلام الحرم وحدوده بدقة في هذا الزمن لتقدم الوسائل والعلوم المعنية في هذا المجال لما يترتب على ذلك من أحكام مهمة. فضل حرم مكة: لقد فضل الله حرمه على سائر بقاع الأرض وجعل له فضائل عظيمة وفي ذلك يقول ابن القيم: ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه _صلى الله عليه وسلم_ وجعله مناسك لعباده وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق. (زاد المعاد 1/ 46). ومن أهم الفضائل التي يختص به حرم مكة: الأول: فيه بيت الله الحرام: شرف الله منطقة الحرم بأن جعل بيته الحرام فيه كما قال سبحانه في دعاء إبراهيم _عليه السلام_: " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم:37). فكان أول بيت وضع للعبادة كما قال الله _تعالى_: "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ" (آل عمران:96). وجعل حج الناس إليه كما قال _تعالى_: "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" (آل عمران: من الآية97). وجعل سبحانه قصده مكفراً لما سلف من الخطايا والآثام كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". (أخرجه البخاري 3/ 382 واللفظ له، ومسلم 1/ 984). وحمى الله بيته كما في قصة أصحاب الفيل، كما جعل الصلاة فيه مضاعفة كما سيأتي بحث ذلك بالتفصيل. الثاني: جعل الله الحرم آمناً: اختص الله الحرم بأن جعله آمناً بدعوة سيدنا إبراهيم _عليه السلام_ عندما دعا ربه "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ" (البقرة: من الآية126). وقد امتن الله على قريش بأن جعلهم آمنين في بلدهم وفي سفرهم، قال الله _تعالى_: "الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" (قريش:4)، وهذا الأمن كان في الجاهلية عرفاً واعتقاداً منهم، وفي الإسلام شرعة ومنهاجاً قال الله تعالى: "وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً" (آل عمران: من الآية97). الثالث: مضاعفة الرزق فيه: لقد استجاب الله دعاء إبراهيم _عليه السلام_ كما في قوله _تعالى_: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم:37). وقيل: لما دعا إبراهيم عليه السلام استجاب الله دعاءه ونقل الطائف من الشام إلى مكة ولا يصح هذا، وثبت عن أنس بن مالك _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من بركة" (أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 97، ومسلم 1/ 994).

ومن عاش في تلك البقعة المباركة لمس الرزق فالخيرات تحمل إليها من كل بقعة طوال العام، قال ابن سعدي _رحمه الله_: "فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت، والثمار فيها متوافرة، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب" (تيسير الكريم الرحمن ص 427). الرابع: مكة لا يطأها الدجال: اختص الله مكة والمدينة بأن الدجال لا يدخلهما كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" (أخرجه البخاري 4/ 95، ومسلم 3/ 2265). كم حرماً على وجه الأرض: ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة حرمة مكة والمدينة، وهو قول عامة أهل العلم ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة فيما يتعلق بحرمة المدينة حيث ذهب إلى أن المدينة ليست بحرم، واختلف العلماء في وادي وج، وذهب الشافعي _رحمه الله_ إلى أن وجّاً حرم واستدل بحديث الزبير بن العوام أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن صيد وج وعضاهة حرام محرم لله" (أخرجه أبو داود 2/ 528، والبيهقي 5/ 200) وضعفه جماعة من العلماء لضعف محمد بن عبد الله الطائفي. والصحيح أن وجاً ليس بحرم وهذا هو مذهب جمهور العلماء. مضاعفة الصلاة في الحرم: ثبت في الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله _رضي الله عنه_ما أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه". (رواه أحمد 3/ 343، 397) وفي إسناده مقال. كما روى عبد الله بن الزبير _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في هذا" (رواه أحمد 4/ 5، والبيهقي 5/ 246)، وورد الحديث موقوفاً على عبد الله بن الزبير وهو أصح من المرفوع كما ثبت موقوفاً على عمر _رضي الله عنه_ (ابن أبي شيبة 2/ 371)، ومجموع هذه الأحاديث ترتقي إلى درجة الحسن وتعضدها الآثار الثابتة عن الصحابة. فتخيل أيها القارئ الكريم كم يخرج المرء بأجر عظيم مضاعف إذا قسمت تلك المضاعفة على قدر الصلوات الخمس في اليوم والليلة ولكن هل هذه المضاعفة في صلاة الفريضة والنفل اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إن المضاعفة تعم صلاة الفريضة والنفل وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة. (انظر مطالب أولي النهى 2/ 383، والفروع 1/ 599). القول الثاني: إن المضاعفة تختص بالفريضة فقط وهذا مذهب أبي حنيفة والمالكية. (انظر مشكل الآثار 1/ 251، وفتح الباري 3/ 68). واستدل أصحاب القول الأول بعموم النصوص السالف ذكرها. واستدل أصحاب القول الثاني بحديث زيد بن ثابت _رضي الله عنه_ عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة" (أخرجه البخاري 2/ 214). فلو كانت صلاة النافلة تضاعف في مسجده _صلى الله عليه وسلم_ لما أرشدهم _صلى الله عليه وسلم_ إلى الصلاة في بيوتهم. وأجيب عن هذا القول بأجوبة منها: 1 - لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما وكذا في المسجدين. 2 - أن الصلاة في البيوت تعظم ولا تضاعف لعدم وجود نص يفيد ذلك. وجملة القول إن صلاة الفريضة والنافلة تضاعف في المسجد الحرام وعليه إطلاق الأحاديث الصحيحة كما أن صلاة النافلة في البيت خير من صلاتها في المسجد وحتى ولو كان المسجد من المساجد الثلاثة الفاضلة. (انظر نيل الأوطار 3/ 73). مضاعفة الصلاة في الحرم المكي:

اختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام التي تضاعف فيه الصلاة، على أقوال: القول الأول: أن المسجد الحرام يراد به الكعبة: واستدلوا بقوله تعالى: " فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" (البقرة: من الآية144) والمقصود أن الاستقبال في هذه الآية للكعبة فقط وأجيب بأن إطلاق لفظ المسجد الحرام هنا من باب التغليب. واستدلوا بقوله _صلى الله عليه وسلم_: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا الكعبة" (أخرجه أحمد 2/ 386، وأخرجه ابن أبي شيبة 2/ 371). وأجيب بأن المقصود هنا مسجد الكعبة بدلالة حديث ميمونة _رضي الله عنه_اقال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة" (أخرجه مسلم 1/ 1014). واختار هذا القول بعض المتأخرين من الشافعية. (أعلام الساجد ص 121). القول الثاني: أن المسجد الحرام يراد به المسجد حول الكعبة وهو قول الحنابلة (الفروع 1/ 600) ورجحه بعض الشافعية (المجموع 3/ 190)، واختاره من المتأخرين ابن عثيمين _رحمه الله_ (الفتاوى المكية ص 37). واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: 1 - قوله تعالى: "وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" (البقرة: من الآية191). وقوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا" (التوبة: من الآية28). وقالوا إن المقصود في هاتين الآيتين مسجد الجماعة الذي حول الكعبة. 2 - قوله _سبحانه وتعالى_: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى" (الإسراء: من الآية1). والنبي _صلى الله عليه وسلم_ أسري به من الحجر عند البيت وقيل أسري به من بيت أم هاني وهو خارج المسجد ولذلك استدل به من يرى أن المضاعفة تشمل جميع الحرم. ومسألة من أين أسري بالرسول _صلى الله عليه وسلم_ مسألة خلافية. ولكن الثابت في البخاري عن أنس بن مالك بن صعصعة _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ حدثهم عن ليلة أسري به قال: "بينما أنا في الحطيم وربما قال: في الحجر .. الحديث" (أخرجه البخاري 7/ 201). 3 - ما رواه مسلم عن ميمونة _رضي الله عنه_اقالت: "من صلى في مسجد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فإني سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة" (سبق تخريجه). ومفهوم الحديث أن المضاعفة مختص بمسجد الكعبة. 4 - أن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد كما جاء في حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى" (أخرجه البخاري 3/ 63، ومسلم 1/ 1014). ومعلوم أننا لو شددنا الرحال إلى مسجد من مساجد مكة غير المسجد الحرام لم يكن هذا مشروعاً بل كان منهياً عنه فما يشد الرحل إليه هو الذي فيه المضاعفة. (انظر الفتاوى المكية لابن عثيمين ص 31). 5 - ما تقرر من أن الجنب لا يجوز له اللبث في المسجد الحرام كبقية المساجد ومع ذلك يجوز له اللبث في بقية الحرم مما يدل على أن المقصود بالمسجد الحرام مسجد الجماعة لا كل الحرم. القول الثالث: أن المسجد الحرام يطلق على الحرم كله وهو قول الأحناف (بدائع الصنائع 2/ 301)، والمالكية (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 1275)، والشافعية (مغني المحتاج 6/ 67)، ورجحه ابن تيمية (الفتاوى 22/ 207)، وابن القيم (زاد المعاد 3/ 303)، وابن باز (مجموع فتاوى ومقالات 17/ 198). واستدلوا بأدلة منها:

1 - قوله _تعالى_: "إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا" (التوبة: من الآية28). فهذه الآية تدل على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كله وليس المسجد فقط، قال ابن حزم بلا خلاف. (المحلى 4/ 243). ونوقش هذا الاستدلال بأن الله _تعالى_ قال: "فَلا يَقْرَبُوا" ولم يقل: فلا يدخلوا، فالمشرك عندما يأتي إلى حدود الحرم فإنه يصبح قريباً من المسجد مما يدل على أن المقصود بالمسجد الحرام في هذه الآية عين المسجد ويجاب عن ذلك بأنه ليس من المسلم أن مقصوده فلا يقربوا المسجد الحرام أي عين المسجد لأنه قربا لكافر من الحرم لا يلزم منه قربه من ذات المسجد وخاصة في العهد القديم وانعدام الوسائل الحديثة فبعض حدود الحرم تبعد عن المسجد أكثر من واحد وعشرين كيلو مما يدل على أن القرب من الحرم لا يلزم منه القرب من عين المسجد الذي هو مكان للطواف. 2 - قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" (الحج:25). والمقصود بالمسجد الحرام هنا الحرم كله ونوقش هذا الاستدلال بأن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية هو المسجد حول الكعبة وهو ظاهر القرآن وقال به النووي (تهذيب الأسماء واللغات 9/ 250)، وابن القيم (أحكام أهل الذمة 1/ 189)، وثبت أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_- كما سيأتي - أنه كان يصلي في الحرم فعلم من ذلك أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لم يكن صد عن الحرم. 3 - أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ - عندما كان في صلح الحديبية - (أخرجه أحمد مطولاً 4/ 323) كان يصلي في الحرم مع أن إقامته في الحديبية بالحل وذكر الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم. (الأم 2/ 341). وهذا من أصرح الأدلة على أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع الحرم وليس مسجد الجماعة فقط قال ابن القيم رحمه الله: "وفي هذا دلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف. (زاد المعاد 3/ 303). ونوقش هذا الاستدلال بأن غاية ما يدل عليه الحديث فضيلة الصلاة في الحرم مقارنة بالحل وهذا لا شك فيه قال الرحيباني وهذا لا يستريب به عاقل". (مطالب أولي النهى 2/ 384). وأما المضاعفة فهي خاصة بالمسجد. وأجيب بأن أفضلية الصلاة في الحرم إنما كانت بالمضاعفة المتعلقة بجميع الحرم وإلا لما كان للحرم مزية في الصلاة فيه عن باقي الأماكن. وورد عن ابن عباس _رضي الله عنه_ما قوله: الحرم كله هو المسجد الحرام. (أخرجه الفاكهي 2/ 106 وفيه مقال). كما ورد ذلك عن عطاء (مصنف عبد الرزاق 5/ 151، وابن أبي شيبة 1/ 4/392)، ومجاهد (مصنف عبد الرزاق 4/ 345، وابن أبي شيبة 1/ 4/392)، وقتادة (تفسير الطبري 3/ 359). مضاعفة أعمال البر الأخرى في الحرم: اختلف العلماء هل التضعيف خاص بالصلاة أم يشمل جميع الأعمال الصالحة كالصوم والصدقة والتسبيح على قولين: القول الأول: أن الأعمال الصالحة لا تضاعف في الحرم كالصلاة واستدلوا بأن الأدلة الثابتة في التضعيف مختصة بالصلاة فقط والقول بمضاعفة الطاعات الأخرى يحتاج إلى دليل ثابت وهذا هو قول الجمهور. القول الثاني: أن الأعمال الصالحة تضاعف كالصلاة وقال به الحسن البصري فذكر أن من صام في الحرم كتب له صوم مئة ألف يوم ومن تصدق فيها بدرهم كتب له مئة ألف درهم صدقة. (أخبار مكة للفاكهي 2/ 292). واستدل أصحاب هذا القول بما رواه ابن ماجه عن ابن عباس _رضي الله عنه_ما قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له كتب الله له مئة ألف شهر رمضان فيما سواه ... " (أخرجه ابن ماجه 3117 وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي، متروك الحديث). قال الألباني في (الضعيفة 2/ 232): "الحديث موضوع". ونوقش الاستدلال بأن الحديث لا يثبت. واستدلوا ببعض الأحاديث والآثار ولكن كلها لا ترقى لدرجة الاحتجاج. وخلاصة الكلام أنه لم يثبت دليل ينص على مضاعفات الطاعات في المسجد الحرام كمضاعفة الصلاة أي بمئة ألف. ولكن تبقى الأعمال الصالحة في الحرم لها تعظيم ومزية عن غيرها وذلك لفضيلة الحرم على الحل. (انظر الفروع 1/ 600). وقال ابن باز _رحمه الله_: وبقية الأعمال الصالحة تضاعف - أي في الحرم - ولكن لم يرد فيها حد محدود، إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال الصالحة كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم. فيها نصاً ثابتاً يدل على تضعيف محدد. (مجموع فتاوى ومقالات 17/ 198). وفي الختام نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المصدر: موقع المسلم

وسائل الأعداء في إفساد المرأة وأساليبهم

وسائل الأعداء في إفساد المرأة وأساليبهم صالح بن ساير المطيري الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: الدور الذي يقوم به العلمانيون اليوم لإفساد المرأة هو نفس الدور الذي قام به أسلافهم في مصر قبل مائة عام وهو الدور نفسه الذي قام به المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمتابع لأطروحات هؤلاء الأعداء يجد أنهم جميعاً يصدرون عن جميع الأفكار التي ذكرها قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة يقول الشيخ سليمان الخراشي وهو كاتب متابع وراصد بشكل كبير في مسيرة القوم يقول: (أخذت أقارن ما أقرأه من كتابات المتحررين والمتحررات بكتاب قاسم أمين فاكتشفت ـ ولست مبالغاً ـ أن القوم يصدرون عن هذا الكتاب في كل صغيرة وكبيرة، بل إنهم لا يزالون يرددون إلى اليوم ما ردده من أفكار وأساليب وأحاديث موضوعة وآثار ضعيفة وقصص مكذوبة دون زيادة أو نقصان) منهج الخطة العلمانية لإفساد المرأة المسلمة: يتبع العلمانيون منهجاً واحداً لم يتغير عبر مائة عام من أجل إفساد المرأة وأطروحاتهم التحررية التي جلبوها من الغرب هي أطروحات لم تتغير منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا سوى تغير طفيف لمراعات البيئات ومستجدات العصر لكن المطالب الأساسية لديهم مكررة معادة نقرأها في كتب القدامى ونسمعها من أفواه المعاصرين، فهم في حقيقة الأمر أبواق ينفخ فيها اليهود بروتوكولاتهم، فتمر عبرهم الأفكار اليهودية لتخرج لنا أفكاراً يهودية بلهجة محلية عربية ويمكن تلخيص ملامح هذا المنهج الإفسادي في النقاط التالية: أولاً: التطبيع: أي جعل الفساد أمراً طبيعياً حيث يتم طرح مجموعة من الأفكار والمقالات الصحفية ونشر بعض الكتب والقصص والروايات والتي تتحدث جميعها عن موضوعات لها ارتباط بقضية إفساد المرأة حتى يبدأ عامة الناس بقبول تلك الأفكار ويبدأ تأثيرها يتسرب شيئاً فشيئاً إلى تفاصيل حياتهم اليومية ومن القضايا التي تناولها العلمانيون ما يلي: أ): الاختلاط: يقول برتراند رسل: ((يجب أن يعالج الجنس من البداية كشيء طبيعي مبهج ومحتشم، وإذا أردنا أن نغفل خلاف ذلك فإننا نكون قد سممنا العلاقات فيما بين الرجل والمرأة وبين الآباء والأولاد) ويقول غيره: (إن الفضيلة التي تستند إلى الجهل لا قيمة لها وإن الفتيات لهن نفس الحق في المعرفة الجنسية كالفتيان) وينطوي تحت ذلك الدعوة للتعليم المختلط منذ الصغر بحجة التعرف على نفسية الجنس الآخر وإزالة الشكوك بينهما بسبب الاعتياد على مشاهدة بعضهم لبعض فيشعر الولد ـ بزعمهم ـ كأنه يعيش مع أخته والفتاة مع أخيها. ومن التطبيقات العملية التي ينفذها القوم في واقعنا المعاش الاحتفالات المختلطة التي نشاهدها بين آونة وأخرى وإذا وقف المصلحون أمام دعوتهم هذه أجلبوا عليهم بكل ما يجدون من وسائل السب والإقصاء وادعوا بأنهم يريدون الرجوع بنا عن مجالات التقدم، وأنكم تنظرون بمنظار الريبة والشك وإلا فالاختلاط أمر طبيعي فانظروا مثلاُ الحرم المكي والطواف .. ب): إظهار الألبسة العارية على أنها رقي وتقدم:

المتابع لذلك يجد أن هذه الألبسة العارية ابتدأت في الصحف والمجلات العربية عام 1925م أي بعد سقوط الخلافة بعام واحد فقط ظهرت بصورة كثيفة في تلك الحقبة وكا ن ظهورها جرئياً في خلاعته في وقت كانت المرأة المسلمة متمسكة بحجابها الكامل، لكن الضغط الإعلامي وتزيين ذلك والدعوة إلى الموضة وإتباعها أجبر النساء على التخلي عن الحشمة ثم الانجراف قليلاً قليلاً صوب السفور والجري خلف الموضات ولا يزال هذا السيل الجرار من هذا العري يزداد يوماً بعد يوم ولعل محلات الأزياء والمجلات النسائية العربية ومسابقات ملكات الجمال التي يتم عرضها في القنوات الفضائية هي أصدق تعبير على ذلك، ومن طرق الضغط ما يتم ممارسته بإتخام الأسواق وملئها بأصناف الألبسة الغربية المنافية للدين والحشمة والعفاف لإجبار النساء على ارتدائها لعدم أو صعوبة توافر البديل الساتر العفيف. ج:) إبراز أهل الفن من ممثلين وممثلات ومغنين ومغنيات ولاعبي الكرة على أنهم قدوات فتبرز تفاصيل حياتهم واهتماماتهم وتجرى معهم المقابلات. د): تعظيم الغرب وأهله وتقديمهم بصفتهم القدوات والمثل الأعلى والملاحظ أن هؤلاء العلمانيين لا يعظمون المظاهر الحسنة التي امتاز بها الغرب من الاختراعات والعلوم الطبية والتقنية وغيرها إنما يركزون أحاديثهم وجميع انتاجهم على ما يريدون من الفساد فهم يقدمون (ثقافة الذباب) التي لا تقع على الزهور والورود بل على أقبح ما لدى الغرب. هـ): استمراء التفحش بتعويد الناس على إظهار صور من الانحلال الجنسي في وسائل الإعلام بصور تبدو كأنه عفوية بحجة الرشاقة وتمارين تخفيف الوزن، أو باسم التمارين الرياضية، ومن الأساليب الخادعة لنشر التفسخ والفاحشة في المجتمع أن يخصص العلمانيون الصفحات الكاملة للحديث عن مشاكل المرأة الجنسية في المخدع الزوجي بالتفصيل المثير للغرائز أو الحديث المطول عن الفضائح الجنسية والجرائم المتعلقة بالاغتصاب وهم بهذه الطريقة أن ينيروا عقول الناس بزعمهم لمحاكاة تلك القصص (المسلسلات التركية مثالاً) ولإقناع الناس بتدهور المجتمع وأن هذه الجرائم من الأمور المستشرية التي لا يخلو منها بيت. و:) تحسين العلاقات المحرمة حتى يصلوا إلى تسويغها في النفوس فراحوا يبعدون الشباب عن الزواج وينادون بإلحاح على تأخير الزواج للفتاة بالذات ويبررون ذلك بأن في زواجها ظلماً للأولاد الصغار (وقفة) ثانياً: استغلال الدين: لعلم هؤلاء المفسدين أن للدين أثراً على الناس فقد حرصوا على أن يركبوا موجته ويقولوا حقاً ليصلوا به إلى باطل فتراهم ينهجون منهج العرض الديني في أطروحاتهم لإفساد المرأة وهذا المنهج منهج قديم كشفه الله سبحانه في قوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} فيستعمل هؤلاء المصطلحات الدينية للاحتيال والتلبيس ومن أمثلة ذلك: أ): الاستدلال بالأقوال الشاذة. ب): ادعاؤهم فهم الدين: فغالباً ما يزعم هؤلاء أنهم هم الذين يفهمون عمق الإسلام وروحه وسماحته ويهاجمون التفسيرات الصحيحة لأحكام الإسلام ويتهمون غيرهم بالجمود والنصية والتشدد في فهم الدين. ج): التمسح بالدين: لا يفوت القوم أن يختموا أطروحاتهم حول تحرير المرأة بالتأكيد على أن دعواتهم هذه يتم طرحها وفق الثوابت الدينية ودون المساس بها فنجد في عباراتهم (في ما لا يخالف الدين) (في ظل عقيدتنا السمحة) (حسب ضوابط الدين الحنيف) (وفقاً للضوابط الشرعية) وهكذا وهذا كله لا يجاوز حناجرهم بينما فكرهم وسلوكهم يعارض ذلك تماماً.

د): التأكيد على الخلاف الفقهي: فالقضايا التي يعبرون من خلالها إلى الإفساد يسعون فيها إلى إثارة الخلاف (الحجاب الاختلاط، الغناء ... وهم يتميزون في هذا الشأن بأنهم: أولاً لا يفقهون الخلاف الفقهي في غير هذه القضايا التي يثيرونها ويطنطنون حولها فبينما تراهم محيطين بالأقوال الشاذة حول ذلك وإثارتها والبحث عن أقوال أهل العلم في ذلك بكما يخدمهم تجدهم في المقابل لا يعرفون في غيرها من أمور الدين شيئاً وثانياً: عندما يتحدثون عن الخلاف الفقهي لا يبحثون عن الراجح والأقرب للأدلة والإجماع بل يبحثون عن الأقرب لهواهم ولإفسادهم حتى ولو كان دليله ضعيفاً أو لا دليل عليه أو شاذاً غريباً. ثالثاً: احتواء الأقلام والمواهب النسائية وأسيرات الشهرة والظهور الإعلامي عن طريق استدراجهن بألوان الإغراء كالمال أو الشهرة أو المقايضة بتسهيل أمورهن وفي المقابل إقصاء ومحاربة الأقلام النسائية الشريفة التي لا يستطيعون احتوائها. رابعاً: ادعاء نصرة المرأة: يدعي هؤلاء أنهم إنما يريدون نصرة المرأة ويسمون المعارضين لهم بأنهم نصبوا أنفسهم أوصياء على المرأة ولكن أطروحاتهم تبتعد عن الحقوق الحقيقة المهضومة فيها المرأة فهم لا يطرحون ذلك إلا لتوظيفها فيما يخدم أهدافهم ومن أسلوبهم في هذه الدعوى: أ): استغلال المشاكل الاجتماعية للمرأة وجعلها شماعة لمشاريعهم التخريبية وهذه بعض الأمثلة: • يوجد في مجتمعنا تعامل ظالم من بعض الأزواج أو الآباء وهذا لا يقره الإسلام ولا العقل لكن مثل هذه الأمور يسارع العلمانيون لنشرها وأنها هي الغالبة ليتوصلوا بها إلى إلغاء القوامة • مهاجمة تعدد الزوجات مستغلين سوء تعامل بعض الأزواج وظلمهم الواضح البين ب) إقحام الحديث عن الأم والأخت: فعند الحديث مع القوم والنقاش حول الاختلاط يقفز هؤلاء إلى نقطة أخرى لا علاقة لها بالموضوع إلى القول نحن نتحدث عن أمهاتنا وأخواتنا ثم يتضاعف التلبيس في الحوار حتى يقع المحاور معهم في تيه وتفكك. خامساً: التشكيك في الحجاب: الحجاب عند العلمانيين هو المفصل الأهم في قضية المرأة وهو مصدر الرعب لقلوبهم، فهم عندما يكيسرون هذا المفصل يسهل عليهم النجاح في تحقيق إفسادهم لذلك اعتمدوا على منهج التشكيك في شرعيته أولاً ثم في مناسبته لهذا العصر ثانياً فيرتدون لباس الطهر في هذا الجانب ويتباكون على تضييع حقيقة الدين ويكذبون على أحكام الدين ليوهموا المسلمين بأمور: • أن الحجاب ليس من الدين أصلاً وإنما لباس اجتماعي موروث عن الأجداد. • لا يوجد دليل من الدين يوجب الحجاب على المرأة. • العفاف عفاف القلب وليس بالحجاب فهناك فاسقات يلبسن الحجاب وهناك عفيفات طاهرات لا يلبسن الحجاب وكثيراً ما يرددون مقولة (كم من متحجبة وهي سيئة، وكم من متكشفة وهي بطهر التابعيات) ثم يستمرون بالغمز واللمز للمحجبات بمثل هذه الدعوى لتنفيرهن من حجابهن. دور وسائل الإعلام في إفساد المرأة: كانت وسائل الإعلام هي الأبواق التي ينفث فيها هؤلاء من قديم حتى زمننا هذا، وللأسف الشديد أن الإعلام في العالم الإسلامي اليوم ـ في غالبه ـ لا يخدم قضايا الأمة، ولا يسعى في إيجاد الحلول لمشاكلها، بل لا يمثل فكر الأمة ولا دينها إطلاقاً. فهو سلاح بأيدي الأعداء وبوق من أبواقهم، وكان له الدور الأعظم في قيادة الأمة إلى الارتماء في أحضان عدوها، ومما يعنينا في هذا المجال الدور الإفسادي الذي قامت به ـ ولا تزال ـ وسائل الإعلام في إفساد المرأة المسلمة في بلاد الإسلام قاطبة بجميع أنواعها من صحافة وتلفزيون وقنوات فضائية وسينما وغيرها ولنقف مع شيء من هذا الدور الإفسادي.

أولاً: الصحافة والمجلات: كانت الصحافة العربية من بداية إنشائها واقعة تحت تأثير الآراء الغربية فقد كشف هاملتون جب عن خطة الصحافة العربية بقوله: (إن معظم الصحف العربية اليومية واقعة تحت تأثير الآراء والوسائل الغربية، فالصحافة العربية لا دينية في اتجاهها …) والصحافة والمجلات تقوم بهذا الدور الإفسادي من خلال: • فتاة الغلاف: حيث أصبحت فتاة الغلاف أمراً لازماً لا تفرط فيها أي من تلك المجلات. • إظهار الصور الماجنة الخليعة بحجة الجمال والرشاقة أو بحجة تخفيف الوزن أو بحجة ملكات الجمال مع ما فيها من مواضيع الحب والغرام وهذا يهدف إلى تهوين أمر الفواحش وقلب المفاهيم الراسخة، وإحلال مفاهيم جديدة بعيدة عن هوية الأمة ودينها. • صفحات المشاكل: تقوم الصحف والمجلات بفتح الباب لمن لديه مشكلة عاطفية أو اجتماعية أو جنسية بإرسالها للمجلة لتعرض على مختصين ـ بزعمهم ـ ويكون الحل دائماً بعيداً عن الحل الإسلامي، دائماً حل يدعو المرأة إلى الاستمرار في البعد عن الله ويُسهل عليها كثيراً تجاوز الحدود الشرعية. • الاستطلاعات: لاشك أن باب الاستطلاعات في بعض المجلات يعتبر من أخطر الأبواب لحرصه على إظهار المرأة المتبرجة في البلدان التي يستطلعها ويثني عليها وعلى تحررها وعلى جهودها، ويتهجم على المرأة المحجبة ويستهزئ بها ويقلل من شأنها. • الثناء على المرأة المتحررة والاستهزاء بالمرأة المتحجبة: هذه الوسيلة من أخبث الوسائل وأقواها أثراً خاصة على المرأة فتحرص بعض الصحف والمجلات على عمل مقارنة بين صورتين لتمدح المتحررة وتنتقص المتحجبة. • وفي الآونة الأخيرة أخذت الصحافة المحلية تحت اسم حرية الرأي تطرح بشكل واضح وسافر معارضات صريحة لمسلّمات في الدين لا تقبل النزاع، فباسم حرية الرأي تدعو صراحة إلى نبذ الحجاب وإلى العمل جنباً إلى جنب مع الرجل. • إبراز المتبرجات والسافرات والمنحلات كقدوات للجيل، تجرى معهن المقابلات وتبرز سيرهن وأعمالهن وخدماتهن الجليلة للمرأة ـ زعموا ـ. ثانياً: التلفزيون: يُعتبر من أخطر الوسائل الإعلامية لما له من تأثير على المشاهد وذلك لقدرته على جذب الانتباه وتركيزه على دقائق الصور والحركة واللقطات الحية. وفي تقرير لليونسكو يقول: (إن الإنسان يحصل على 90% من معلوماته عن طريق النظر) والتلفزيون يحرص على إظهار المرأة بالصورة العاطفية ويظهر ذلك من خلال الأغاني واللقاءات المحرمة ومشاهدة الإثارة الجنسية. ثالثاً: السينما والفيديو: هي من الوسائل التي لا تقل خطورة عن التلفزيون إن لم تكن أكثر، وتكمن الخطورة في هاتين الوسيلتين في: 1 - تعدد مصادر نقل الأفلام مما يجعلها تستورد أنماطاً من السلوك والأخلاقيات لكافة شعوب العالم. 2 - سهولة الحصول على أجهزة عرض منها، وخاصة الفيديو والذي أصبح من السهل أن يحصل عليه من يشاء. 3 - سهولة تداول الأفلام بين الشباب والفتيات ويسهل كذلك استنساخه. 4 - يغلب على أفلامهما الأفلام الخليعة الجنسية. 5 - سهولة المشاهدة بدون رقيب. رابعاً: القنوات الفضائية: وهذه جمعت شرور وسائل الإعلام جميعاً، ونقلت جميع القنوات الفضائية العالمية إلى العالم الإسلامي بما فيها القنوات الإباحية وهي تعمل على مدار الساعة وأثرت تأثيراً كبيراً على المسلمين رجالاً ونساءً وإن كان التأثير على النساء أعظم وأشد خاصة أن بعض القنوات متخصصة. خامساً: شبكة المعلومات العنكبوتية: مما زاد المشكلة ونشر الرذيلة المواقع الإباحية التي تستغل المرأة وسيلة لنشر سمومها واستغلال جسدها وبلغ حداً أنه لا يمكن أن يكون له ضوابط، كما استغلت الشبكة في تبني الأفكار المخالفة لدين الأمة في قضايا المرأة وهذه الوسائل جميعاً تكوّن ثقافة في المجتمع مخالفة تماماً عن ثقافة المجتمع الإسلامي، يتقبلها المجتمع بسبب كثرة طرحها وتعدد وسائل الطرح وتنوعها وعدم ظهور الإنكار عليها أو ضعفه. فتصبح من المسلّمات التي لا يناقش فيها، بل يصبح من ينكرها شاذاً في نظر المجتمع}} أهـ. وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. المصدر: شبكة القلم الفكرية

رائد الإبداع طيب الأثر إشارات وعبر من سيرة ومؤلفات الشيخ بكر

رائد الإبداع طيب الأثر إشارات وعبر من سيرة ومؤلفات الشيخ بكر محمد بن عبد الله الذياب الشيخ د. بكر أبو زيد - رحمه الله - عَلَمٌ بارز ومؤلف متميز، وفقيه مبرِّز، كان غيوراً على التوحيد، غيوراً على الحرمات، غيوراً على أعراض المسلمين، غيوراً على نساء وبنات المسلمين، غيوراً على لغة القرآن، غيوراً على طلبة العلم من التخبُّط، غيوراً على أهل العلم من الانجرار وراء الألقاب والتسميات التغريبية، غيوراً على ناشئة المسلمين من التربِّي في أحضان المدارس العالمية، غيوراً على ألسنة المسلمين من التفوُّه بما لا يجوز ولا يليق، غيوراً على منهج السلف، غيوراً على الأمة من التحزب والتفرق، غيوراً على أعراض العلماء والدعاة. كان الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - مجموعة من التخصصات اجتمعت في رجل؛ فهو الفقيه، والأصولي، واللغوي، والنّسَّابة، والمحدِّث، والأديب، والمؤلف المعتز بعربيته (لغة القرآن) المدافع عن التوحيد والسُّنة. كان الشيخ بكر - رحمه الله - صاحب مواقف عظيمة؛ فلم يدع مجالاً يهم المسلمين وأهل العلم وطلبته - صغاراً وكباراً - إلا طرقه مؤلِّفاً وموجِّهاً وصادعاً بالحق ومبيِّناً الصواب - كما يراه - ومحذِّراً من المخاطر بنظرة العالم الخبير المشفق الحريص على دينه وأمّته ولغته وناشئة المسلمين وأعراض المسلمات وأعراض أهل العلم؛ فجاءت مؤلفاته شاملة حاوية لعدد من العلوم مراعياً فيها حاجة وواقع المسلمين ونوازل الأمة. بين الإمام ابن القيم والشيخ بكر أبو زيد رحمهما الله: لمَّا كان شيخ الإسلام الثاني والإمام الرباني ابن قيم الجوزية صاحب تآليف متميزة، وأساليب مشرقة، وأطروحات مبرِّزة، عاش الشيخ بكر - رحمه الله - معه في كتبه ردحاً من الزمن متأمّلاً، ودارساً، ومحقّقاً، ومنقّباً، ومقرّباً لعلومه - فعالم كابن القيم يستحق دراسات متعددة ومتنوعة - فعاش معه الشيخ - رحمه الله - سنين عدداً. قال الشيخ متحدّثاً عن ذلك في كتابه (تقريب علوم ابن القيم ص 11): (وقد عشت مع ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - زمناً مديداً بقراءة عامّة مؤلَّفاته المطبوعة البالغ عددها فيما وصل إليّ علمه: اثنين وثلاثين مؤلفاً منها ما يتكوّن من مجلدات، ومنها الرسالة في عدد من الملازم، ومنها ما بين ذلك. وقد منّ الله عليّ بقراءتها جميعها في زمن متصل، ومنها ما سبقت قراءته في أوائل الطلب) ا. هـ. ثم تخصّص به وتخرّج على مؤلفاته بعد معيشته معه سنوات أخرى في (العالمية) فأخرج مؤلَّفاً متميزاً جَمَعَه من كلام ابن القيم سمّاه (الحدود والتعزيرات عند ابن القيم) ولم يكتف بذلك، وكيف لمن علت همته وتطلّعت للمعالي نفسه أن يقف عند حد في طلب العلم الشرعي؟ بل عاش سنوات أخرى مع ابن القيم حتى أخرج دُرّة نفيسة وسَمَها بـ (أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية) فنال بها - ما يحب أن يُطلَق عليه بعيداً عن بهرجة الألقاب وتغريبها - درجة (العالمية العالية) وهي ما تُعرف في الأوساط الأكاديمية بالدكتوراه، وغدا الشيخ بكر - رحمه الله - متخصّصاً في ابن القيم؛ حيث قام بتقريب علومه بدرّته البديعة (تقريب علوم ابن القيم) وألّف عنه مؤلَّفاً متميزاً جميع فيه شذرات ودرراً من سيرته، وحصر مؤلفاته، فكثير ممن جاء بعده يحيلون على ما كتبه الشيخ بكر عن ابن القيم، وهذا من إنصافهم جزاهم الله خيراً، ووسم كتابه بـ (ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده). وهو صادر عن دار العاصمة، ووعد الشيخ بأنه سيخرجه في طبعة جديدة تكون ضمن مشروع) آثار ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال) وذلك في الطبعة القادمة لوجود زيادات وإضافات عنده على الطبعة الأولى.

معالم في مؤلفات وشخصية الشيخ: لقد كان الشيخ بكر - رحمه الله - يتمتع ويتميز بمجموعة من الصفات في مؤلّفاته وشخصيته، وقفنا عليها من خلال ترجمته اليسيرة، وما سمعناه وقرأناه عنه قبل وبعد وفاته، فمن تلك المعالم والصفات البارزة في مؤلفات الشيخ: التميّز: أخذ الشيخ بكر على نفسه أن يكون متميزاً في طرحه ومؤلّفاته. ومن جوانب التميّز عند الشيخ: تميّزه في المقدمات التي يكتبها لبعض المؤلّفات أو التحقيقات التي يطلب أصحابها من الشيخ كتابة تقديم لها؛ لمكانته العلمية عند أهل العلم؛ حيث قام الشيخ بالتقديم لعدد ليس بالقليل من الكتب، وأذكر منها: 1 - تقديمه لـ (تفسير السعدي) طبعة دار ابن الجوزي، بعناية سعد الصميل. 2 - تقديمه (للموافقات) تحقيق الشيخ مشهور سلمان. ومن الفوائد التي تهم القارئ في هذا الباب (التقديم للكتب) ما حدثني به الأستاذ سعد الصميل (صاحب دار ابن الجوزي، والمعتني بتفسير السعدي الذي طبعته الدار) حيث قال: بعد الفراغ من تحقيق الكتاب أعطيت الشيخ بكر نسخة من الكتاب - قبل طباعته - لينظر فيه ويقوم بكتابة مقدمة له، فمكث عنده فترة طويلة، ولمَّا كلمته في ذلك، قال لي: (إن مسألة التقديم والكتابة لأي كتاب - عندي - ليست بالأمر الهيّن؛ فإن من يريد أن يقدم لكتاب ما لا بد أن يأتي بشيء جديد يفيد القارئ وإلا فلا يُتعب نفسه). وأُحيل القارئ الكريم على مقدمات الكتب التالية مما دبّجه الشيخ - عليه رحمة الله -: كتقديمه الرائع لكتاب (الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية) المطبوع ضمن مجموعة (مؤلفات وآثار شيخ الإسلام ابن تيمية) وهو مجلد كبير حوى تراجم من كتب مطبوعة ومخطوطة عن شيخ الإسلام، فقدّم الشيخ للكتاب بمقدمة بلغت نحو ثلاثين صفحة. ومنها ما كتبه مقدِّماً لكتاب (الموافقات) للشاطبي الطبعة التي حقّقها الشيخ مشهور سلمان وطُبعت في ستة مجلدات، فجاءت مقدمة الشيخ مدخلاً حافلاً يليق بالكتاب والعمل الذي بذل فيه المحقق جهداً مباركاً. التميز في الأسلوب الراقي في الكتابة: يقول عنه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في شرحه لكتاب الشيخ بكر (حلية طالب العلم) الشريط الأول: ( ... إن كلامه في غالب كتبه كلام يدل على تضلّعه في اللغة العربية، والذي يظهر أنه لا يتكلف ذلك؛ لأن الكلام سلس ومستقيم؛ وهذا يدل على أن الله - تعالى - أعطاه غريزة في اللغة العربية لم ينلها كثير من العلماء في وقتنا، حتى إنك لتكاد تقول: هذه الفصول كمقامات الحريري وهي معروفة ... ) ا. هـ. والشيخ ابن باز أيضاً قُرِئ عليه عدد من كتب الشيخ بكر ويثني على أسلوبه في الكتابة (¬1)، فقد قال الشيخ (محمد الموسى) مدير مكتب بيت الشيخ ابن باز - رحمه الله) -: ... وكان يَعجَب كثيراً من أساليب صاحب المعالي العلاَّمة الشيخ بكر أبو زيد، وكان يقول متعجباً: من أين يأتي الشيخ بكر بهذه الأساليب والتراكيب؟) (¬2) من المعالم المتميزة والبارزة في كتابات الشيخ بكر - رحمه الله - (جانب الغَيْرة) ونميِّز فيه: ¬

(¬1) قال الشيخ (محمد الموسى مدير مكتب بيت الشيخ ابن باز رحمه الله): ( .. ومن الكتب التي قرأتها على الشيخ - من كتب الشيخ بكر أبو زيد -: (الإبطال، درء الفتنة، بدعة اليوبيل، بطاقة الائتمان، أدب الهاتف، حد الثوب والإزرة، تصنيف الناس .. ). (¬2) جوانب من سيرة الشيخ ابن باز لمحمد الحمد، ص 263.

أولاً: الغيرة على القرآن: إن غيرته على لغة القرآن (اللغة العربية) بارزة وظاهرة في طريقته وأسلوبه ومحافظته على الألفاظ والصياغات التي يكاد ينفرد بها، كذلك حرصه على تحذير أهل العلم من الانجرار خلف الألقاب المستوردة كلقب) الماجستير والدكتوراه) (¬1)، والرمز بحرف (د) قبل الاسم على طرَّة الكتب والمؤلفات والمقالات؛ كذلك ألَّف رسالته الفريدة «تغريب الألقاب العلمية). ثانياً: غيرته على أعراض المسلمين ونسائهم على وجه الخصوص؛ حيث ألف واحداً من أروع وأوسع مؤلفاته قَبولاً وانتشاراً، وهو كتاب (حراسة الفضيلة) الذي طُبع منه حتى طبعته الرابعة 500 ألف نسخة، كما ذكر ذلك الشيخ نفسه في مقدمته للطبعة الخامسة التي طبعتها دار العاصمة عام 1421 هـ. ثالثاً: غيرته على أعراض العلماء والدعاة، فقد تصدّى - رحمه الله - لتلك الفتنة بمؤلَّفه: (تصنيف الناس بين الظن واليقين) ومن براعة الشيخ وورعه أنه لم يتعرض لأحد باسمه، بل نَقَد المسلك والطريقة، وحذّر منهما بأسلوب رفيع نفع الله به. ومن المعالم البارزة عند الشيخ: جانب التواضع: التواضع من صفات العلماء الراسخين في العلم، وقد حصل الشيخ بكر على مراتب علمية أكاديمية متقدمة، فحصل على لقب: (العالمية) و (العالمية العالية) كما يُحب أن يُطلق عليهما في كتاباته، وهما في المصطلح العلمي المعاصر (الماجستير) و (الدكتوراه)، ومع هذا لم يكن يصف نفسه بها ولا يقدّم تلك الألقاب أمام اسمه عند طباعة كتبه، ولا يضع لفظة (الدكتور) ولا يرمز باختصارها (حرف الدال) وقد سبق أن له رسالة في علاج ونقد هذه الظاهرة وهي:) تغريب الألقاب العلمية ( ومما يدل على تواضعه، بل دقّته - عليه رحمة الله -: أنه كان يكتب على مؤلفاته العبارات التالية: بعضها عبارة:) تأليف ... (وهو ما قام بتأليفه، مثل: كتاب) تصحيح الدعاء) وكتاب (طبقات النسّابين (. وبعضها عبارة:) قرأه) كما في كتاب) الجدّ الحثيث في بيان ما ليس بحديث) ولعله يريد - رحمه الله - أنها مَنْزِلة أقل من) تحقيق، أو حقّقه) وقد ذكر فوائد في ذلك انظرها للفائدة في (ص 6) من الكتاب نفسه، طبع دار الراية ط (1) 1412 هـ. من المعالم البارزة في شخصيته: علو الهمة في الترقّي في مدارج العلم: بدأ الشيخ دراسته الشرعية النظامية في كلية الشريعة فتخرج فيها، ثم عُيّن قاضياً في محكمة المدينة النبوية، ولم يقف عند هذا الحد مع ما في عمل القضاء من متاعب وصعوبات، إلا أن ذلك لم يثنه، بل واصل دراسته وحصل على ما يحب أن يطلق عليه في كتاباته: درجة (العالمية) الماجستير) وقدّم أطروحته في جانب الرجل الذي أحبّه وتخصّص به الإمام (ابن قيم الجوزية) وكان عنوان تلك الدراسة:) الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية؛ دراسة موازنة) طُبِعَ في دار العاصمة عام 1415 هـ في مجلد واحد. ¬

(¬1) تنبيه هام: قال الشيخ بكر في كتابه: (تغريب الألقاب العلمية (ص 41 (، وأخيراً، فلا يحسبن أحد أنني بهذا أدعو إلى التأخر عن نيل مثل هذه الرتب العلمية، لا وكلا، بل أرى ما فوق ذلك وهو أن يجدّ الطالب في الترقي إلى أقصى درجات الطلب وأن يهب حياته ويتفانى في سبيل العلم وخدمته، ولكن لا ينبغي لنا بحال أن نتعلق بالشكليات، وزُخرف الألقاب فقيّم الناس على حسب ألقابهم؛ فإن هذا من خَطَل الرأي المنتج لإسناد الأمر إلى غير أهله؛ إذ الأمور مرهونة بحقائقها، فالعبرة بجوهر الإنسان ومعناه لا بزخرف لفظه ومبناه؛ وبهذا نَسْلم من الدخول في قالب سجناء الألفاظ) ا. هـ

وتعالت همّة الشيخ مع علوّها وتسامت مع سموّها مكتسبة من ابن القيم قدوة، وانبعثت الآمال لمواصلة المسيرة في المجال نفسه؛ كما أفصح في مقدمة كتابه الذي عنون له بـ: (أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية؛ دراسة موازنة) صدر عن مؤسسة الرسالة ط (1 1416 هـ) وواصل الشيخ بحوثه وإبداعاته في نشر العلم ما بين تأليف، وتحقيق، وعناية، وإخراج لبعض الكتب في جوانب مختلفة من علوم الشريعة في مخاطبة شرائح المجتمع بمختلف طبقاته (عامة، طلبة علم، مثقفين، علماء، متخصصين ... ) وإن الناظر في مسرد مؤلفات الشيخ يأخذه العجب من تلك الشمولية والتنوع في فنون متنوعة حباه الله إياها. ولم يقف عند هذا بل واصل في مجال خدمة العلم وتوجيه الطلاب عن طريق الإشراف على الرسائل العلمية (الماجستير والدكتوراه) فقد أشرف الشيخ على عدد من الرسائل وطبع شيئاً منها وقدَّم لها (¬1). قال الدكتور عبد الرحمن الأطرم في مقدمة رسالته للدكتوراه (الوساطة التجارية) التي أشرف عليه فيها الشيخ بكر أبو زيد، قال عنه ص 17: ( ... فهو الذي وضع يدي على هذا الموضوع وأشار عليّ به وأرشدني إلى جملة من مظانه، وقَبِل الإشراف عليه بصدر رحب، وكان كلما وجد مسألة تتصل بهذا البحث زوَّدَني بها، فاكتسبت من مجالسته العلم والأدب والتوجيه والإرشاد وعرفت منه النصح والغيرة فَشَكَر الله له وأعظم أجره) وواصل خدمته للعلم وأهله في مجال آخر؛ وهو الإشراف على المشاريع العلمية القيّمة التي أخرجها مَجْمَع الفقه الإسلامي، بتمويل من مؤسسة سليمان الراجحي الخيرية - جزاهما الله خيراً - فكان الشيخ بكر مشرفاً على تلك المشروعات ومتابعاً وموجّهاً لمن يقومون بالعناية والتحقيق لتلك المجاميع العلمية المباركة، مع التقديم والمشاركة فيها أيضاً، وقد صدر منها الآتي: 1 - آثار شيخ الإسلام وما لحقها من أعمال) وطُبع في أحد عشر مجلداً، وشارك الشيخ في هذه المجموعة بمؤلَّف - يُعتبر من آخر ما كتبه قبل مرضه الذي أقعده عن كثير من الأعمال - سمَّاه: (المدخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال) في مجلد صغير. 2 - آثار ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال) المطبوع في ثمانية عشر مجلداً، وقد قدّم الشيخ بكر لذلك المشروع بمقدّمة ضافية مفيدة حول هذا المشروع، تهم طالب العلم كما في المجلد الأول من (بدائع الفوائد) ضمن تلك السلسلة. 3 - آثار العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي) وطُبع في تسعة عشر مجلداً حوى آثار ومؤلفات ذلك العَلَم الذي أراد الشيخ بكر أن يرد له شيئاً من جميل ما حباه به من علم وأدب ووقت وإفادات حصّلها وتلقّاها على يديه مدة ملازمته التامة له؛ عندما كان قاضياً في المدينة النبوية ما يقارب عشر سنوات، فبرّ التلميذُ بشيخه، عليهما رحمة الله. ¬

(¬1) من ذلك كتاب: (التأخير وأحكامه في الفقه الإسلامي) رسالة دكتوراه تأليف د. محمد العيسى مطبوعة في مجلدين. وكتاب (الوساطة التجارية في المعاملات المالية) رسالة دكتوراه تأليف د. عبد الرحمن بن صالح الأطرم.

ونأمل من مجمع الفقه الإسلامي الذي رأسه الشيخ بكر قرابة خمسة وعشرين عاماً، والذي تبنّى طباعة تلك المشروعات العلمية التي أشرنا إليها؛ لأنها من ضمن الأهداف التي قام من أجلها المجَمْع، وكذلك نأمل من مؤسسة سليمان الراجحي الخيرية التي قامت - مشكورة - بتمويل تلك المشروعات، نأمل منهما أن يقدّما لأهل العلم وللشيخ بكر - رحمه الله - بعد وفاته خدمة وشكراً عمليين مقابل جهوده في المَجْمَع والمؤسسة؛ يمدّ في أجره، ويسهّل على الباحثين والمحبين والراغبين في مطالعة إرث الشيخ العلمي؛ فيقوموا - فضلاً لا أمراً - بتبنّي مشروع (مؤلفات وآثار العلَّامة بكر أبو زيد) لتكون ضمن هذه السلسلة، وذلك لما تحمله مؤلفاته من فائدة وعلم وأصالة شهد له بها أهل العلم، والقبول والانتشار الواسع لها. من المعالم البارزة في شخصية الشيخ: صبره وجَلَده على تلقِّي العلم وتحصيله: إن الجمع - في تحصيل العلم - بين الدراسة النظامية في الكليات الشرعية وبين ملازمة المشايخ في حِلَق العلم في دروسهم وفي المساجد، قلّ من يستطيعه، وقد كان الشيخ بكر - رحمه الله - ممن أخذ في هذا الباب وضرب فيه بحظ وافر؛ إذ عُرف واشتُهر عنه ملازمته لشيخه محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، فلم ينقطع عنه ولم يتخلف عن دروسه. يقول عنه د. عبد الرحمن السديس في كتابه (ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان) (ص215) معدّداً تلاميذ الشيخ: (الشيخ بكر أبو زيد: صاحب التصانيف الكثيرة، الباحث المحقق، لازم الشيخ - رحمه الله - عشر سنين، ودرس عليه بعض مذكراته في الأصول وآداب البحث والمناظرة دروساً خاصة في المسجد وفي منزله - رحمه الله - ودرس عليه كتابَيّ ابن عبد البر (القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم وأول من تكلم بالعربية من الأمم) و (الإنباه على قبائل الرواة) وقيّد عليهما بعض التحريرات من دروس الشيخ والنكات والضوابط العلمية) ويقول الشيخ السديس أيضاً: حدثني عبد الله ابن الشيخ محمد الشنقيطي - رحمه الله - أن أباه قال للشيخ بكر: (ما أخذ عني علم الأنساب في هذه البلاد غيرك). وحدثني - القائل د. السديس - الشيخ الدكتور محمد الحبيب، قال: (لقد شاهدت الشيخ بكر أبو زيد يحضر حلقة الشيخ في التفسير في رمضان لم يتخلف يوماً واحداً) ا. هـ. من المعالم البارزة في شخصية الشيخ: المعايشة والتفاعل مع الأحداث والواقع: كان الشيخ بكر ابن عصره ورجل واقعه، ومراقب أحداثه، فلم يكن بعيداً ولا منعزلاً عن تلك الأحداث والنوازل التي تُطل برأسها حيناً بعد آخر؛ فكانت له مشاركات متنوعة ووقفات راشدة وسَبْر وتحليل لِما يمرّ بالمجتمع، مع ما عرف عنه من عزلة وعدم رغبة في كثرة مخالطة الناس؛ لا ترفعاً ولا تعالياً حاشاه، لكنه اختار طريقاً رآه أنفع؛ يجد نفسه فيه وينفع من خلاله، وقد حصل له ما أراد، بل كانت عنده قناعات شخصية تُحترم وجهة نظره فيها، ومن ذلك أنه عُرض عليه المشاركة في البرامج التي تُقدَّم في إذاعة القرآن الكريم، وفي برنامج (نور على الدرب) حيث عرض عليه الشيخ ابن باز - رحمه الله - المشاركة، ثم عرضها عليه الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وكان الشيخ يعتذر عن المشاركة، بل حتى في مرضه لم يكن يحب أن يتوافد الناس عليه وتكثر الجموع عنده في بيته أو في المستشفى؛ كل ذلك فراراً من الشهرة والأضواء، بل قيل عنه: (إنه كان عدو الشهرة) يرفضها ويدفعها ويهرب منها.

وعَوْداً على ما ذكرنا من أن الشيخ كان يعيش عصره وواقعه رغم انشغاله بأعماله العلمية الرسمية والشخصية وبالعلم، والتأليف، والتحقيق، والقراءة، رغم ذلك لم يكن غائباً؛ لا تحرّك فيه النوازل والأحداث التي تمر ببلده أو بالمسلمين شيئاً؛ بل كان كثير من مؤلفاته انعكاساً وأثراً لحدث أو مناسبة أو ظاهرة تحتاج منه وقفة وكلمة. فعلى (¬1) سبيل المثال لمَّا قامت الحملة الجائرة على طلبة العلم والدعاة؛ تصنيفاً وتجريحاً وتبديعاً وتفسيقاً، تصدّى لها بكتابه (تصنيف الناس بين الظن واليقين) ولما رفع دعاة تحرير المرأة عقيرتهم وأجلبوا بخيلهم ورجلهم في كلام على المرأة ووضعها في بلاد الحرمين، قام الشيخ قومة الشجاع النِّحْرير صادعاً بالحق ورادّاً على أهل الباطل بمؤلَّفه القيِّم (حراسة الفضيلة) حتى أُطلق على الشيخ في حياته وفيما كُتب عنه بعد مماته - نثراً وشعراً - (حارس الفضيلة) وما ذاك إلا لِما تركه كتابه من أثر نفع الله به نفعاً كبيراً. ولمَّا كَثُر التجنّي على بلاد الحرمين وضرب التغريب أطنابه ورُميت عن قوس واحدة، وأصبحت العولمة - أو كما أطلق عليها الشيخ في بعض كتبه: الشوملة والكوكبة - على الأبواب، قام الشيخ في الأمة بمؤلَّفه الرائع (خصائص جزيرة العرب) ذاكراً الضمانات الهامة لحفظ هذه الجزيرة من الأخطار المتنوعة. ولمَّا رأى الخلط والتلبيس في الشرائع والدعاوى الجائرة على عقيدة التوحيد، وشريعة الإسلام وتكلم المنهزمون ودعاة التقريب بين الأديان، وقف سداً منيعاً جاهراً بما يدين الله به مما هو الحق وسواه باطل، وأبطل تلك النظرية بصاعقته المرسلة وشهابه الثاقب كتاب "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان " ولمَّا رأى - وذلك في بدايات بروزه في مجال التأليف - التخبّط والعِثار الذي أصاب بعض طلبة العلم وعدم وضوح الرؤية أو المنهج العلمي، ألَّف رسالته (حلية طالب العلم) موجّهاً ومربّياً وناصحاً ومرشداً. ولمّا رأى الانبهار بالألقاب العلمية التغريبية والركض خلف تلك المسميات، أخرج رسالته (تغريب الألقاب العلمية) ولمّا خشي على الألسنة من المحرَّم والمكروه، ورأى أن هذه الجارحة الخطيرة دبّ إليها المحرَّم وفاهت بالمكروه واستمرأت التساهل، وظهرت الأسماء والمصطلحات غير اللائقة، أخرج واحداً من أجمل وأبرز مؤلّفاته وهو (معجم المناهي اللفظية) وأما في مجال التخصّص الفقهي - وهو مجال الشيخ الرّحب - فقد كان مؤسِّساً ومؤصِّلاً ومشاركاً في نوازل الأمة بكتابه (فقه النوازل) الذي دَرَس فيه عدداً من المسائل النازلة. وفي واحد من المجالات الخطيرة والهامة التي تحتاج شجاعة وعلماً وفقهاً وطول تتبع واحتساباً وأمانة علمية، كان سداً منيعاً في وجه المحرِّفين والعابثين والمعتدين على كتب التراث. فجُمعت جهوده في هذا الباب في مؤلَّف كبير حوى عدداً من الكتب سمَّاه (الردود) والواقف عليه يرى فيه دقة وشمولية وطول نَفَس وغَيرة. وخاتمة المقال ومِسْكه: أن المؤلَّف الذي يصح أن يقال عنه (كل الصيد في جوف الفَرَا) (¬2) من بين مؤلّفات الشيخ في تقديري، والذي أوضح جوانب متنوعة في شخصيته وأفرز خبرته وعلمه وعقليته وطول باعه وسعة اطلاعه وتَمكُّنه من المذهب الحنبلي هو كتابه: (المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد) ومتمِّمُه كتاب (علماء الحنابلة من الإمام أحمد المتوفى سنة 241 وحتى وفيات عام 1420 هـ). ختاماً: ¬

(¬1) هذه الفكرة، والعرض استفدتهما من د. وليد الرشودي - جزاه الله خيراً - في حديثه عن الشيخ بكر - رحمه الله - في يوم وفاته عندما عرضت عنه حلقة خاصة في قناة المجد في برنامج خبر وتعليق. (¬2) الفَرَا: حمار الوحش.

في الكلام على هذا المعْلَم وهو تميّز الشيخ في جانب التأليف والتحقيق أقول: لقد ترك الشيخ بكر - رحمه الله - للأمة إرثاً عظيماً، وثروة قوامها خمسون كتاباً تقريباً، كتبها بعصارة جهده، وأفرغ فيها خبرته وتجاربه، وأوسعها علماً وفقهاً وأدباً وبحثاً، وفوائد نادرة، وطول باع وسعة اطلاع وتبحُّراً قلَّ أن يأتي مثله في زمان ضعفت فيه الهمم، فحري بمعاشر طلبة العلم ومحبي الشيخ ومنهج السلف أن يشمّروا تشميرين: الأول: في تقصّي وتتبُّع وجَمْع هذه المؤلَّفات؛ وهي مبذولة موجودة في دور النشر، وغيرها مما لم يُطبع، ولعل الله أن ييسر خروجها؛ فقد أشار الشيخ في كتابه (النظائر) (ص 13 - 16) إلى عدد من الكتب التي لم تر النور. والتشمير الثاني: تشمير الجادّين الشادّين في قراءتها وتدريسها والإفادة منها في طريقة الشيخ وأسلوبه في التأليف وتميّزه ومنهجيته العلمية بحثاً وتأصيلاً ودقّة وأدباً وحُسن عرض وإشراقة بيان. لقد كان الشيخ - وأرجو أن لا أكون مبالغاً - مدرسة علّمت الكثير؛ بسيرته وكتبه وكتاباته ومواقفه، وما زالت، وستبقى - بإذن الله - فلعل الفائدة المرجوَّة لم تأت وتتكامل بعد. ولعله بعد وفاته يُعرف أكثر وتُعرف قيمة مؤلفاته والمنهج الذي سار عليه ورسمه، فتتم الإفادة من علمه من قِبَل طلبة العلم وناشئة المسلمين، والمؤلفين وغيرهم ... عليه رحمة الله. المصدر: مجلة البيان

نوازل الصيام [1/ 2]

نوازل الصيام [1/ 2] د. عبد الله بن حمد السكاكر النازلة الأولى: بخاخ الربو ماالمقصود ببخاخ الربو؟ وكيف يستعمل؟ وإلى أين تذهب مواده؟ وكلام أهل العلم في هل يفطر به الصائم أولا يفطر؟ بخاخ الربو: هو عبوة مضغوطة تحتوي على ثلاثة أمور أو أشياء: الأول: الماء. والثاني: غاز الأكسجين. والثالث: المواد العلاجية التي يقصد أن تصل إلى الجهاز التنفسي فالعبوة هذه تحتوي على هذه الأمور الثلاثة النسبة الكبرى فيها للماء والباقي على الأكسجين والمواد العلاجية واستعمالها كما هو معروف هو بأن يضع الإنسان هذا البخاخ في فمه ثم يأخذ شهيقاً عميقاً وفي هذه الأثناء يطلق بخةً واحدة يستنشقها أو يتنفسها مع الشهيق هذه البخة أين تذهب حينما تستنشقها أو تتنفسها؟ هذه البخة في غالبها وعامتها وأكثرها إلا ما ندر يذهب إلى الجهاز التنفسي بدأ بالفم ثم ما يسمى البلعوم ثم القصبات الهوائية ثم يذهب إلى الرئة غالب هذه المادة المستنشقة يذهب بهذا الاتجاه لكن هناك جزء يسير جداً من هذه المواد يعلق بجدران ما يسمى بالبلعوم والبلعوم هو أعلى الجهاز الهضمي يعلق به وربما الإنسان يبتلع شيئاً منه فيذهب إلى المعدة يعني جزء يسير جداً يعلق في البلعوم وجزء مما يعلق في البلعوم يذهب إلى المعدة والمعدة هي الجوف على الصحيح من أقوال أهل العلم فهذا الجزء اليسير يذهب في هذا الطريق وغالب هذا الغاز أو المادة المستنشقة يذهب إلى الجهاز التنفسي وننتقل إلى هل يفطر الصائم إذا تعاطي هذه المادة أو لا يفطر؟ اختلف المعاصرون من أهل العلم الذين بحثوا هذه المسألة على قولين: فذهب أكثر أهل العلم من المعاصرين إلى أن الصائم لا يفطر عند تعاطيه لهذه المادة أو الغاز وهو صائم وممن قال هذا القول المشايخ الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ محمد الصديق الضرير واللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية وقد رجح هذا القول الشيخ أحمد الخليل في بحثه المفطرات المعاصرة قال هؤلاء إنه لا يفطر بهذا البخاخ وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أنه يفطر به فإن الأصل أنه لا يجوز له أن يتعاطاه فإن احتاج إلى تعاطيه تعاطاه وقضى يوماً مكانه هذان هما قولا أهل العلم في هذه المسألة الذين ذهبوا إلى أن هذا البخاخ لا يفطر الصائم وهم الأكثر ومعهم من ذكرت لكم في هذه المسألة قالوا: إن الأصل صحة الصيام ولا يترك هذا الأصل وهذا اليقين إلا بيقين مثله ووصول شيء من هذا الرذاذ وهذه المادة إلى المعدة أمر مشكوك فيه لأن الأصل أن هذه المادة تذهب إلى الجهاز التنفسي فوصول شيء منها إلى المعدة هذا أمر مشكوك فيه واليقين لا يزول بالشك وبالتالي نقول إن الصيام يبقى صحيحاً حتى يثبت عندنا يقين أن جزءا من هذه المادة وصل إلى المعدة وكما قلت قبل قليل أن الأطباء يقولون أن جزءا يسير قد يصل إلى المعدة قال من قال بأن بخاخ الربو لا يفطر قالوا وعلى فرض أن جزءا من هذه المادة وصل إلى المعدة فإنه قدر يسير يعفى عنه ولا يحصل الفطر به قياساً على أمرين:

الأول: ما يبقى بعد المضمضة فإن الأطباء وأهل العلم يقولون إن الإنسان إذا تمضمض وهو صائم إنه يصل إلى معدته من الماء قدر أكثر مما يصل إلى المعدة إذا استنشق هذا البخاخ لأن القدر الذي يصل إلى المعدة لو وصل من هذا البخاخ قدر ضئيل جداً جداً فإنه هذه العلبة علبة بخاخ الربو مقدار ما فيها تقريباً عشرة ملليلترات من هذا المحلول وهذه العبوة قد أعدت لتطلق مائتي بخة أي أن كل بخة واحدة من هذا البخاخ يبلغ مقدارها واحدا على عشرين 1/ 20 من المليلتر الواحد هذا الجزء من عشرين جزءا من الملي لتر عامته يذهب إلى الجهاز التنفسي إذاً ما يعلق في البلعوم جزء يسير جداً من هذه الكمية ثم الذي يعلق في البلعوم ليس كله يصل إلى المعدة وإنما الذي يصل إلى المعدة جزء يسير مما يعلق في البلعوم يقولون إن هذا القدر الذي يصل إلى المعدة من هذه المادة إنه لا يقارن أبداً بما يمكن أن يصل إلى المعدة إذا تمضمض الإنسان بالماء ومن المعلوم أن الصائم يجوز له أن يتمضمض والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" معنى ذلك أن الصائم يتمضمض ويستنشق والأطباء يقولون: لو تمضمض الإنسان بمادة مشعة يعني تظهر في الأشعة لو تمضمض ثم مج هذا الماء الذي تمضمض به أو هذه المادة لوجد أثر هذه المادة بعد مدة يسيرة في المعدة معنى هذا أنه إذا تمضمضت يبقى في الفم شيء ثم تبلعه أنت مع الريق فيصل إلى المعدة هذا الذي يصل إلى المعدة من بخاخ الربو لا يقارن أبداً بما يصل إليها من المضمضة فهؤلاء يقولون: لا يصل شيء من البخاخ إلى المعدة ولو وصل فهو قليل معفو عنه متجاوز عنه لا يحصل به الفطر قياساً على ما يمكن أن يصل إلى المعدة بعد المضمضة بالماء هذا القياس الأول.

القياس الثاني: القياس على ما يمكن أن يصل إلى المعدة من السواك فإن هذا السواك أثناء الإستياك به تتحلل أجزاء منه ثم تذهب مع اللعاب إلى المعدة وفي صحيح الإمام البخاري معلقاً " يقول عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، مالا أحصي يستاك وهو صائم " والحديث وإن كان فيه مقال إلا أن الأصل في الأدلة الدالة على فضل السواك والترغيب فيه ليس فيها ما يدل على أن السواك يرغب فيه في حالة دون حالة والنبي صلى الله عليه وسلم قال " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " والصائم تمر عليه ثلاث صلوات وهو صائم الفجر، الظهر، العصر وقال:" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء "وكان إذا دخل داره يبدأ بالسواك وإذا قام من نومه يبدأ بالسواك فالأصل أنما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الفطر يفعله في الصيام مالم يثبت دليل يخرج ذلك عنه فهذا السواك ثمت أجزاء تتحلل منه مع اللعاب فتصل إلى المعدة فإذا لم يحصل الفطر بهذه الأجزاء التي تتحلل فإنه لا يحصل بما هو أقل منه وهو ما يكون من أثر بعد تعاطي بخاخ الربو هذا هو قول من قال أنه لا يفطر من تعاطى البخاخ أثناء الصيام وهذه هي حجتهم أظن إنه بمعرفة هذا القول ودليله نعرف دليل القول الثاني إذا القول الثاني أصبح واضحا وجليا لأنه إذا قلنا بخاخ الربو جزء يسير منه يعلق في البلعوم وجزء مما يعلق في البلعوم يصل إلى المعدة ومعنى ذلك أنه وصل إلى المعدة فهذا يُفطر فهذا هو دليل من قال بأن من تعاطى بخاخ الربو أثناء الصيام فإنه يفطر بذلك ودليل أصحاب القول الأول جواب عن دليل القول الثاني أن وصول هذا الماء إلى المعدة غير مسلم وعلى فرض التسليم به فما يصل يسير جداً معفوا عنه قياساً على ما يبقى بعد المضمضة وبعد السواك ولهذا نقول إن الراجح والعلم عند الله هو القول بأن بخاخ الربو لا يحصل الفطر به وهذا كما مر معنا أنه خلاف بين أهل العلم وأهل العلم يقولون الخروج من الخلاف مستحب فإذا أمكن لمريض الربو مثلاً أن يؤخر تعاطي هذا البخاخ ولا يترتب على ذلك مشقة ولا ضرر قلنا الأفضل أنه يؤخره خروجاً من الخلاف لكن إذا احتاج إليه فإننا نقول إنه لا يحصل الفطر بذلك والعلم عند المولى سبحانه. النازلة الثانية: الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان

يقول الأطباء أن منطقة ما تحت اللسان. هذه تعتبر من أسرع المناطق امتصاصاً للعلاج في البدن بحيث أن هذه المنطقة إذا وضع فيها العلاج يمتصه البدن بأسرع وقت ولهذا هناك أقراص صنعت لمرضى القلب لمنع ما يسمى بالذبحات الصدرية هذا العلاج صنع لمرضى القلب لمنع هذه الذبحات أو التجلطات في القلب بحيث أن الإنسان يضع هذه الحبة تحت لسانه فما هي إلا مدة يسيرة جداً فيمتص البدن هذه المادة العلاجية فتصل إلى القلب عبر الدم وينتفع بها البدن هذه هي الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان هذه الأقراص اتخذ فيها مجمع الفقة الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة في عام 1418هـ اتخذ فيها المجمع في تلك الدورة قراراً بالإجماع كما أظن أنها لا تفطر لكن بشرط أنما يتحلل من هذا القرص لا يبتلعه الإنسان أو يزدرده لأن هذه الأقراص إذا وضعت تحت اللسان ربما يتحلل شيء منها يبقى في اللعاب فهذا الذي يتحلل ما يبتلعه الإنسان وإنما يمجه فإذا لم يبتلع الإنسان ما يتحلل من هذا القرص وإنما كان دخولها إلى البدن عبر هذه القنوات التي تحت اللسان عبر الدم فإنه لا يفطر بذلك لأن الأصل صحة الصيام ولا نترك هذا الأصل إلا بيقين وهذه الأقراص ليست أكلاً ولا شرباً ولا في معنى الأكل أو الشرب فإنها لا تصل إلى المعدة ولا يحصل للبدن بها من القوة والنشاط ما يحصل بالطعام والشراب فهي ليست طعاماً ولا شراباً ولا في معنى الطعام أو الشراب ولهذا نقول إن هذه الأقراص لا يحصل بها الفطر لكن بالشرط الذي ذكرت لكم وهو أن ما تحلل منها لا يبتلعه الإنسان لكن لو تحللت في الفم ثم ابتلعه الإنسان فحينئذٍ نقول إن هذا عبارة عن أكل أو شرب والله سبحانه قال {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} بمعنى انه إذا تبين الصبح أمسك الإنسان عن الطعام والشراب فإذا ابتلع ذلك فإنه يفطر به. النازلة الثالثة: منظار المعدة.

منظار المعدة هو عبارة عن جهاز طبي متصل بسلك أو خيط أو نحو ذلك يدفع في الجهاز الهضمي للإنسان عبر الفم ثم البلعوم ثم المريء ثم يصل إلى المعدة وهذا الجهاز في غالب أحيانه يستعمل لأغراض تشخيصية إما تصوير وإما أخذ عينات أو نحو ذلك ثم بعد انتهاء الغرض يسحب مرةً أخرى ويستخرج هذا هو المنظار الذي نريد أن نتحدث عنه. هل يحصل به الفطر إذا فعله الإنسان وهو صائم؟ وقبل ذلك نبحث مسألة الخلاف فيها يؤثر في المسألة التي بين أيدينا هذه المسألة هي: هل كل ما وصل إلى الجوف بالمعنى الذي رجحناه وهو المعدة هل كل ما وصل إليها يعد مفطراً أم لا يعد مفطراً إلا ما وصل إلى الجوف مما يطعم أو يشرب أو ينتفع به البدن؟ فمثلاً إنسان معه خرزة أو لؤلؤة وهو صائم ثم وضعها في فمه وابتلعها عمداً هذا هو محل الخلاف في هذه المسألة هل يفطر بذلك أم لا؟ من المعروف أنك إذا شربت ماءً أن هذا مفطر بالإجماع كما مر معنا لكن إذا أكلت وأنت صائم حصاة مثلاً أو لؤلؤة ووصلت إلى المعدة هل تفطر بذلك أم لا؟ جماهير أهل العلم يقولون: إنه يفطر بابتلاع أي شيء سواء كان مما يطعم أو يشرب أو مما لا يطعم ولا يشرب ولا يتحلل لو ابتلعت حصاة عمداً قلنا أنك أفطرت فإن قيل: هذه الحصاة لا تنفع ولا تغني ولا تسمن يقولون المهم أنك ابتلعتها ووصلت إلى المعدة فأنت تفطر بذلك هذا القول قال به الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلا أن الحنفية قيدوا هذه المسألة بشرط فقالوا: - وهنا يتضح أحياناً فائدة وثمرة الخيال الفقهي الواسع ربما ذلك الفقيه الحنفي حينما ذكر مثل هذا الأمر لم يأتي في خلده أنه سيأتي بعد قرون شيء يسمى المنظار- فالحنفية يقولون: إنه يفطر بما وصل إلى المعدة ولو لم يكن مطعوماً ولا متحللاً لكن بشرط أن يستقر في المعدة فعند الحنفية لو أن الإنسان ربط خرزة مثلاً من اللؤلؤ بخيط ثم ابتلعها ووصلت إلى المعدة ثم سحبها مرةً أخرى فإنه لا يفطر بهذا في ذلك الوقت نقول إن هذا عبارة عن ترف فقهي أن الإنسان يتخيل مسائل قد لا تكون موجودة في ذلك الزمن ولا يخطر في بال أنها موجودة لكن الآن وجدت فعند الحنفية أنما يصل إلى المعدة يفطر به الصائم ولو لم يكن مما يتحلل أو ينتفع البدن به لكن بشرط أن يستقر. هذا هو القول الأول في هذه المسألة. القول الثاني في هذه المسالة ذهب إليه بعض المالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية «قال أصحاب هذا القول إنه لا يفطر بما وصل إلى المعدة إلا أن يكون ذلك مما يطعم أو يشرب يعني مما يتحلل فينتفع البدن به فلو أكل حصاةً أو قرشاً فعند أصحاب القول الثاني أنه لا يفطر بذلك.

الجمهور الذين قالوا بأنما دخل إلى المعدة يفطر الصائم به ولو كان مما لا يطعم ولا يتحلل استدلوا على ذلك بعدد من الأدلة من هذه الأدلة أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن الاكتحال للصائم " وقالوا إذا اكتحل الإنسان فإن جزءا منه يصل إلى البلعوم ثم مع الريق ينزل إلى المعدة والكحل ليس مما ينتفع به البدن فهذا دليل على أنه يفطر بما وصل إلى المعدة سواء أكان نافعاً أو لم ينتفع به البدن لكن هذا الحديث حديث منكر لا يصح. الأمر الثاني قالوا أن ابتلاع الحصاة يسمى أكلاً وبتالي يدخل في النصوص الشرعية كما في قوله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فهؤلاء يقولون: إن هذا أكل لكن أصحاب القول الثاني يقولون هذا هو محل النزاع وأهل العلم يقولون: ما يصح الاستدلال على الخصم بمحل النزاع فنحن لا نسلم أن هذا أكل الأكل إنما هو لما يطعم أو يشرب ولهذا الأكل والشرب ورد في الآية والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله تعالى وقد قال: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. رواه مسلم فالحديث يدل على أن الأكل إنما يعد أكلاً مفطراً إذا كان مطعوماً أيضاً استدل الجمهور بماصح عن ابن عباس _ أنه قال " إنما الفطر فيما دخل لا فيما خرج "وهذا وإن ثبت عن ابن عباس _إلا أنه مقيد كما قيدت الآية لأن الفطر فيما دخل مما يطعم مما ينتفع به البدن مما يتقوى به البدن لأن الحكمة من مشروعية الصيام هو- حبس النفس عن شهواتها وكسر حدتها وتضييق مجاري الشيطان وهو الدم فيها وهذا إنما يحصل بترك المطعومات أما غير المطعومات فدخولها للبدن لا يقوي البدن ولا يوسع مجاري الشيطان فيه. القول الثاني وهو قول بعض المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية «الذين قالوا إنه لا يفطر بما دخل إلى المعدة إلا أن يكون مطعوماً أو مشروباً يتحلل فينتفع به البدن فقالوا لأن هذا هو الحكمة من الصيام لأن الحكمة من الصيام هي منع البدن في هذا الوقت من الطعام والشراب الذي يحصل به تقوي وأنتم تعرفون أن النفس إذا شبعت حصل لها الأشر والبطر وهذا أمر مشاهد فإذا جاعت انكسرت حدتها وسورتها وذهب الأشر والبطر وما يحصل من المعاني التي تنافي العبودية، والذل والخضوع لله عز وجل يحصل بالإمساك عن الطعام والشراب ويحدث عكسه بتعاطي الطعام والشراب الذي يتقوى به البدن أما تعاطي الحصاة أو خرزة أو نحوه فإنه لا يؤثر في ذلك ولهذا قال أصحاب هذا القول إنه لا يفطر إلا إذا وصل إلى المعدة شيء مما يتحلل وينتفع به البدن ويتقوى وهذا القول رجحه الشيخ أحمد الخليل في كتابه المفطرات المعاصرة وهو الذي يظهر إن شاء الله. بعد ذلك نأتي إلى مسألتنا وهي مسألة المنظار هل يفطر به الصائم أو لا يفطر؟ فنقول المنظار له حالتان: الأولى: هي أن يقوم المعالج بوضع مادة هلامية أو مادة دهنية أو نحو ذلك على هذا المنظار من أجل تسليك وتسهيل عملية دخوله أو يضخ الطبيب عبره محلول الملح ونحوه لإزالة العوالق عليه لتسهيل عملية التصوير وحينئذٍ نقول: إنه يفطر الصائم بذلك لأنه وإن كان المنظار لايتحلل ولاينتفع به البدن إلا أن تلك المواد يمتصها البدن ويحصل له بها نوع انتفاع.

الحالة الثانية: أن يقوم المعالج بإدخال هذا المنظار بدون وضع أي شيء عليه أو من خلاله وحينئذٍ فالكلام في الفطر به متفرع على الكلام بالفطر بدخول شيء إلى المعدة لا يتحلل مثل ابتلاع القرش والحصاة ونحو ذلك فجمهور أهل العلم يقولون إنه يفطر بذلك لأنه جسم وصل إلى المعدة فهو في حكم الأكل أو الشرب والحنفية يقولون لا يفطر لأنه لا يستقر وأصحاب القول الثاني وهم بعض المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية «يقولون إنه لا يفطر بذلك لأن هذا ليس مطعوماً ولا مشروباً ولا يتحلل ولا يحصل للإنسان له به قوة ولا نشاط فلا ينافي معنى الصيام ولا الحكمة من الصيام وبتالي لا يفطر بذلك وهذا القول رجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين «وهو الراجح إن شاء الله تعالى. النازلة الرابعة: ما يتعلق بنفوذ شيء إلى البدن عن طريق الأنف. فمن ذلك قطرة الأنف هل يفطر الصائم بوضع شيء من هذا الدواء في أنفه أو لا؟ وقبل أن نذكر أقوال أهل العلم في التفطير بهذه القطرة نؤكد على أن الأنف منفذ إلى الحلق وإلى المعدة وهذا أمر ثابت في السنة ومؤكد عند الأطباء ومعروف عند الناس ففي حديث لقيط بن صبره _ في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" وهذا يفيد بأنه إذا كان صائما فلا يحل له أن يبالغ في الاستنشاق لئلا يصل الماء إلى جوفه فيفطر بذلك فالأنف منفذ إلى الحلق ثم إلى المعدة كما هو معروف وفي الطب الآن ما يتعلق بغسيل المعدة وأحيانا التغذية لبعض المرضى وأمور كثيرة يكون ذلك عن طريق الأنف فهو منفذ إلى المعدة. إذا احتاج الصائم إلى أن يضع في أنفه قطرة من هذه القطرات الطبية العلاجية فهل يفطر بذلك أم لا يفطر؟ قد ذهب أكثر أهل العلم من المعاصرين ومنهم الشيخان ابن باز وابن عثيمين «إلى أن القطرة في الأنف تفطر وحجتهم في ذلك ظاهرة قالوا إن ما يوضع في الأنف من قطرات ينفذ إلى الحلق ثم إلى المعدة فيكون مفطراً لحديث لقيط ابن صبره "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" فإن وَضْعَ القطرة في الأنف أبلغ من المبالغة في الاستنشاق لأن المبالغة في الاستنشاق يحتمل أن يصل بها إلى حلقة شيء من الماء ويحتمل أن لا يصل لكن القطرة آكد لأن الإنسان يضعها بحيث لا تخرج هذا هو القول الأول في هذه المسألة.

وذهب بعض أهل العلم أيضاً من المعاصرين إلى أن القطرة في الأنف لا تفطر واحتجوا على ذلك بأمرين: الأول أن ما يصل إلى الحلق من هذه القطرة قليل جدا فإن القطرة الواحدة ربما لا تصل كميتها إلى 6% من السنتيمتر المكعب الواحد فهي كمية قليلة جداً هذه الكمية يذهب أكثرها أو جلها في الشعب التنفسية والجيوب الأنفية وفي هذه القناة وما يصل منها إلى الحلق ثم بعد ذلك إلى المعدة قليل جداً فهو مما يعفى عنه ولا يحصل الفطر به قياسً على ما يصل إلى المعدة بعد المضمضة كما مر معنا سابقا. أيضاً مما احتج به أصحاب هذا القول أن هذه القطرة الطبية لو وصلت إلى المعدة فإنه ليس كل ما يصل إلى المعدة يحصل الفطر به. وعلى كل حال هذا الدليل فيه إشكال ونظر فبالتأكيد أن ما يصل من القطرة إلى المعدة سوف يحصل امتصاصهُ وليس صحيحاً أنه مثل الحصاة أو الخرزة أو نحو ذلك لكن كون هذا الذي يمتص مغذيا يحصل للإنسان به نشاط أو لا يحصل هذا ليس هو المعنى الذي يحصل به الفطر وإنما ما يصل إلى المعدة مما ينتفع به البدن أو يمتصه البدن ولهذا لو أن إنسانا مثلاً تناول سما هل نقول ما يفطر لأنه هذا ضار ولا ينتفع به البدن؟ هذا يعتبر أكلا أو شربا وبتالي يحصل به الفطر وبناء على هذين القولين فالذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم خاصةً أن ما يتعلق بالقطرة التي توضع بالأنف وإن كانت يسيره إلا أنه ما يأمن الإنسان أن يضع في أنفه خمس قطرات، هل الإنسان حينما يضع القطرة في أنفه نجزم بأنه وضع قطرة واحدة مقدارها 6% من السانتيمتر المكعب؟ هذا غير مجزوم به. بالأمس قلنا بالنسبة لبخاخ الربو البخه الواحدة الذي يصل منها يسير لأنها بخه واحدة لكن هنا قد الإنسان يريد أن يضع قطرة فيضع خمس قطرات. ثلاث قطرات. فنحن نقول إذا وصل إلى الحلق وإلى المعدة ما يزيد على ما يعفى عنه قياساً على ما يبقى بعد المضمضة فإنه يحصل به الفطر وإن كان الذي يصل إلى المعدة قدرا يسيرا جداً مثل ما يتسامح فيه مما يبقى بعد المضمضة فإنه حينئذ لا يحصل الفطرُ بذلك ولا شك أن المسألة كما قلت لكم إشكالها أنك ما تستطيع أن تجزم بمقدار ما وضع في الأنف فلو أن الإنسان جزم بأنه وضع قطرة واحدة في الأنف وما وصل من هذه القطرة إلى الحلق شيء لا يذكر قلنا إن القول الثاني هو الأرجح في هذه المسألة. لأن هذا يسير فهو مما يعفى عنه قياساً على ما يبقى في الفم بعد المضمضة لكن إذا لم يحصل اليقين بذلك ووضعت القطرة في الأنف ربما زادت وربما وصل إلى الحلق أكثر من ذلك فإننا نقول حينئذ إن هذه المسألة باب الاحتياط فيها ينبغي أن يكون مقدماً خاصةً أن النبي صلى الله عليه وسلم نص كما في حديث لقيط ابن صبره على عدم المبالغة في الاستنشاق إذا كان الإنسان صائماً وكما قلت لكم قبل قليل أنه في حال الاستنشاق إذا بالغ الإنسان في الاستنشاق فإن وصول شيء إلى حلقة مشكوك فيه ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لئلا يصل شيء إلى الحلق فيحصل الفطر به فهذا لا شك أن القول الأول في هذه المسألة أنه أحوط لكن لو أنها كانت قطرة واحدة وتأكدنا من ذلك فإننا نقول إن القول الثاني أرجح لكن إذا حصل الشك في ذلك أو كان أكثر من ذلك فإننا نقول إن القول الأول أحوط في هذه المسألة. بالمناسبة فإن مجمع الفقه الإسلامي المنعقد كما قلت لكم في دورته العاشرة عام 1418هـ أتخذ قراراً بالنسبة لقطرة الأنف أنها لا تفطر بشرط أن لا يبلع ما يصل إلى حلقهِ فلو أنه وضع في أنفه قطرةً ثم وصِلَ إلى حلقة شيءٌ منها فمجه وأخرجهُ فإنه لا يفطر بذلك لكن لو أبتلعه فإنه يفطر ويكون كالقول الأول في هذه المسألة. النازلة الخامسة: غازات التخدير.

التخدير له أنواع كثيرة وطرق شتى وإنما نريد في هذه المسألة أن نبحث نوعا واحدا من أنواع التخدير وهو ما يتعاطى عن طريق الأنف بهذه الغازات وإلا فإن التخدير يحصل بهذه الغازات التي تستنشق ويحصل أحياناً بطريقة الإبر الصينية ويحصل أحياناً بالإبر التي تكون إما باللثة أو الوريد أو نحو ذلك في طرق كثيرة. لكن ما نريد أن نتكلم عنه هو ما يتعاطى عن طريق الأنف أو الفم من هذه الغازات هذا الذي يتعاطى عن طريق الأنف من الغازات نريد أن نبحثهُ في أكثر من موضع. أولاً: الفطر بعملية التخدير ثم نأتي بعد ذلك إلى الأثر وهو كون الإنسان يتخدر هل يفطر بذلك أو لا يفطر؟ نبحث في المسألة الأولى عملية التخدير ذاتها هل يحصل بها فطر أو لا حينما توضع هذه الغازات أو نحوها على الأنف أو الفم فيستنشقها المريض ثم يحصل له بذلك التخدير هذه الغازات التي توضع على الأنف أو على الفم فيستنشقها؟ مجمع الفقه الإسلامي أتخذ فيها قراراً في دورته التي ذكرتها لكم على أنها لا تفطر. وقد ذكر بعض الفقهاء الذين بحثوا في هذه الغازات بأنه ليس لها أجرام وأنها تستنشق عن طريق التنفس وتذهب إلى مجاري التنفس وبتالي فإنها لا تنفذ إلى الحلق ولو نفذت إلى الحلق فما ينفذ منها يسير مما يعفى عنه ولا يحصل الفطر به قياساً على ما يبقى في الفم بعد المضمضة. هذا هو قرار مجمع الفقه الإسلامي في هذه المسألة. وقد ذكر لي أحد الأخوة بالأمس من الأطباء أن هذا الذي يوضع على الأنف للتخدير يصاحب أحياناً عملية إدخال المنظار إلى المعدة يقول إن هذا التخدير يكون معه أحياناً بعض البخار أو المواد التي تصل حتماً إلى المعدة، - ذكرت لكم الآن قرار مجمع الفقه الإسلامي وذكرت لكم ما ذكر لي أحد الأخوة الأطباء أنه يصل إلى المعدة من هذه الغازات مواد تصل حتماً إلى المعدة وهذه المواد لها أجرام وتمتص في المعدة فإذا كان ما يقوله الأخ دقيقاً بحيث أن هذه الغازات يكون معها مواد متحللة بخار ماء. مواد كيميائية وغير ذلك تصل إلى المريء ثم إلى المعدة فتمتصها المعدة وكان هذا المقدار كثيراً فإننا نقول أنه يفطر لكن مجمع الفقه الإسلامي والذين بحثوا هذه المسألة يقولون إنه لا يصل إلى المعدة من ذلك شيء يذكر وما يصل فهو داخل فيما يتسامح فيه مما هو يسير كما يبقى في الفم بعد المضمضة أو ما يصل إلى المعدة بعد المضمضة. هذه مسألة هل يقع الفطر بعملية التخدير؟ نأتي بعد ذلك إذا قلنا أن التخدير لا يفطر كما هو قرار مجمع الفقه الإسلامي ننتقل بعد ذلك إلى ما يحصل للمريض بعد عملية التخدير مما يشبه الإغماء التام لأن التخدير هذا المقصود منه تخدير المريض سوءً كان موضعياً أو تخديراً كلياً فإذا قلنا إن عملية التخدير لا تفطر، نأتي بعد ذلك إلى ما يحصل بعد تعاطي هذا المخدر. فنقول ما يحصل للمريض بعد ذلك له حالات: الحالة الأولى: أن يكون فقدان الوعي جزئياً. مثل أن يكون فقدان الوعي مثلاً لمنطقة الجهاز التنفسي أو جهاز البلعوم والمريء مثل ما يحصل عند المنظار فهذا فقدان للوعي في جزء معين وهو ما يسمى بالتخدير الموضعي لا يغيب معه العقل ولا الإحساس ولا الإدراك وهذا لا يحصل به الفطر لأن الإنسان لا يزال بقواه العقلية ويستصحب النية إما حقيقة أو حكما. الحالة الثانية: أن يحصل له تخدير كامل. بمعنى أنه يتعاطى هذا المخدر ثم بعد ذلك يفقد الوعي بالكلية فهل يفسد الصيام بذلك أو ما يفسد؟ فقدان الوعي بالكامل له حالتان أيضاً. الحالة الأولى: أن يفقد الوعي جميع النهار. من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بمعنى أنه ما يمر عليه من الصيام وهو في حالة إفاقة أو تذكر لصيام.

الحالة الثانية: أن يكون هذا التخدير في جزء من النهار يعني ساعة ساعتان ثلاث ساعات ثم يرجع إلى وعيه مرة أُخرى فأما الحالة الأولى لو أعطي المخدر مثلاً قبل طلوع الفجر وبقي مخدراً حتى غربت الشمس وكان من الليل عازماً على الصيام ناويا للصيام لكنه لما كان قبل الفجر بعشر دقائق أُعطي هذا المخدر فبقي مخدراً حتى غربت الشمس فهل يصح صيامه أو لا يصح؟ الكلام في هذه المسألة هو كلام أهل العلم في مسألة إذا أُغمي على الصائم النهار كلهُ لأن مسألة التخدير مثل مسألة الإغماء إن لم يكن التخدير أبلغ لأن التخدير يكون بفعل الإنسان وجمهور أهل العلم على أنه إذا خدر النهار كلهُ فإنه لا يصح منه صيام. والعلة في ذلك هي أن الصيام إمساك بنية وهذا لا يصح منه أن يقال أمسك بنية لأن هذا ليس معه وعي إطلاقاً والصيام كما تعرفون أنه تعبد لله سبحانه وتعالى ولهذا قلنا في تعريف الصيام بالأمس أنه إمساك بنية عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا الذي فقد الوعي بالكامل لا تصح منه النية لا حقيقة ولا حتى حكماً وبالتالي لا يصح صيامهُ ومن أهل العلم من قال إن الإغماء أو التخدير كما هو حاصل الآن في هذا الزمن إنه لا يفسد الصيام قياساً على النوم كما لو أن الإنسان نوى الصيام ثم نام قبل طلوع الفجر وما أفاق إلا بعد طلوع الشمس فإن هذا نام النهار كله وغاب معه العقل والإدراك فإذا قلتم أنه يصح هنا فإنه يصحُ هنا فإنه إذا صح من النائم صح من المغمى عليه. ولا ريب أنه يختلف المغمى عليه أو المخدر عن النائم فالنائم معه نوع إدراك وأما المغمى عليه أو المخدر فإنه ليس معه إدراك بالكلية ولهذا الذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم أن الصيام حينئذ لا يصح إذا خدر النهار كلهُ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"يقول الله عزوجل كل عمل ابن أدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدعُ طعامهُ وشرابهُ وشهوتهُ من أجلي" فأنت تلاحظ في الصيام معنى أن الإنسان يمتنع طاعة لله سبحانه وتعالى وتعبداً "يدعُ من أجلي" فالترك هنا من أجل الله سبحانه وتعالى هذا هو الصيام أما ما يكون من ترك للطعام والشراب دون أن يكون في ذلك قصد الصيام فإنه حينئذٍ لا يكون صياماً ولا يكون إمساكاً تماماً مثل لو أن الإنسان أمسك عن الطعام والشراب ونحو ذلك على سبيل الحمية أو الرجيم أو نحو ذلك فالذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم هو قول الجمهور في هذه المسألة وأنه لا يصح صيامه. وبناء على قول الجمهور الذين يقولون لا يصح صيامهُ فإذا كان التخدير لجزء معين من النهار بمعنى أن الإنسان في وسط النهار في رمضان ذهب إلى الطبيب من أجل أن يعمل له منظارا أو نحو ذلك فوضع له هذا المخدر وخدره تخديراً كاملاً لمدة ساعتين مثلاً ثم بعد ذلك رجع وأفاق مرةً أُخرى فإن أهل العلم يختلفون في ذلك على قولين:

فمن أهل العلم من يقول إن هذا يقطع النية، والنية في العبادات يشترطُ استصحابها في بداية العبادة حقيقة وفي أثنائها حكماً. ومعنى يستصحبها حكماً أن لا يأتي بما يقطعها فلا يشترط أن يتذكرها كل الوقت فالإنسان في صلاته يسهو والإنسان في رمضان ينام والإنسان في الحج ينام ويغفو فالمقصود أن لا يأتي بما يقطعها، لا ينوي قطع الصيام ولا ينوي قطع الصلاة فإذا نوى قطع النية انقطعت فهذا هو المقصود بالاستصحاب الحكمي فا أصحاب هذا القول يقولون إن غياب الوعي بالكامل يقطع النية وبتالي فإنه يفسد الصيام ومن أهل العلم من قال إن هذا يقاس على النوم لأنه إذا حصلت له النية في أول العبادة وحصل له الإغماء أو التخدير في وسطها فإنه حينئذ استصحب النية حقيقة في بداية العبادة وفي أثنائها هذا التخدير يأخذ حكم النوم بمعنى أنه لم يأت بما يقطع وإنما غابت النية حينئذ وأنتم تعرفون أن مسألة الاستصحاب في أثناء العبادة أهون من قضية ما يتعلق بعدم استصحاب النية في بداية العبادة ففي بداية العبادة الأمر آكد أما في أثنائها فإنه أهون ولهذا ينام الإنسان ويغفل ويسهو في الصلاة وما تبطل صلاتهُ لكن لو أنه غفل عن النية في بداية العبادة ما دخل في العبادة أصلاً وما صحت العبادة منه ففي بداية العبادة لابد من استحضار النية لكن في أثنائها الأمر أيسر من ذلك ولهذا الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم أنه إذا حصل التخدير في وسط النهار أو في أثناء النهار دون أن يكون في أوله أو من أوله إلى أخره أن هذا لا يفسد الصيام. هذا البحث في مسألة التخدير بالغازات التي تكون عن طريق الأنف أو الفم بعيداً عما يكون مع التخدير من ملابسات أُخرى لكن لو وجدت ملابسات أُخرى مع التخدير فإن هذه تبحث لوحدها كما لو أدخل جهاز ومعه مثلاً مادة هلامية ونحو ذلك أو أعطي المريض حقنة مغذية مثلاً أو وضع في دم المريض حقنة مغذية كالسكر أو نحو ذلك هذه مسائل أُخرى سنبحثها لوحدها. نحن نتكلم الآن عن عملية التخدير فقط. النازلة السادسة: ما يتعلق بقطرة الأذن. فإذا وضع الإنسان في أذنه قطرة علاجية فهل يفطر بذلك أو لا يفطر؟ قبل أن نبحث هذه المسألة نبحث مسألة أختلف فيها أهل العلم قديماً، والآن صار الطب فيصلا فيها وهي هل الأذن منفذ إلى الحلق أو لا؟ فالأطباء يقولون إن الأذن ليست منفذً إلى الحلق إلا في حالة واحدة.- فلو وضعت في الأذن سائلا ماء أو دهنا أو قطرة أو أي شيء. لا يمكن أن يصل هذا إلى الحلق إلا في حالة واحدة وهي إذا وُجد في طبلة الأذن خرق فحينئذ هناك قناة تصل من الأذن إلى الحلق ومن الممكن أن يضع الإنسان في أذنه شيئاً فيصل إلى حلقة أما إذا كانت طبلة الأذن غير مخرقة فإنه لا يمكن أن يصل شيء من الأذن إلى الحلق. فهذه مسألة مهمة قبل أن نبحث المسألة التي بين أيدينا

وقد اختلف أهل العلم قديماً فيما إذا وضع الإنسان في أذنه دهنا أو ماء أو نحو ذلك هل يفطر بذلك أو لا يفطر فمن أهل العلم من قال إنه يفطر بذلك بناءً على أنه لو وضع في أذنه شيئاً فإنه ربما وجد طعمه في حلقة، ومعنى ذلك أنه منفذ، ومن أهل العلم من قال إنه لا يفطر بما يصل إلى أذنهِ وذلك أن الأذن ليست منفذاًً للحلق فهذا ليس أكلا ولا شربا ولا في معناهما والشرع إنما جاء بالفطر بالأكل والشرب والمفطرات المعروفة فهذا الذي يوضع في الأذن ليس أكلاً ولا شرباً ولا ينفذ إلى الحلق فنحن الآن بعد ظهور أن الأذن لا تكون منفذا إلى الحلق إلا إذا كانت الطبلة مخرقة. نقول: إن الطبلة إذا كانت سليمة فمعنى ذلك أن ما يوضع في الأذن لا يصل إلى الحلق وبتالي فإن هذا ليس منفذً إلى المعدة وبناءً عليه إذا كانت طبلة الأذن غير مخرقة فإن قطرة الأذن لا تفطر نأتي إلى الحالة الثانية: افترض أن طبلة الأذن مخرقة وحينئذ كما يقول الأطباء تكون الأذن منفذا إلى الحلق وقد يوضع في الأذن شيء فيصل إلى الحلق فهل يفطر بذلك أولا يفطر؟ فالكلام حينئذ كالكلام في قطرة الأنف وغيرها هل هذا الذي يصل إلى الحلق يحصل به الفطر لأنه يصل إلى الحلق ثم إلى المعدة وما وصل إلى المعدة فإنه يفطر به الإنسان مثل ما قيل في بخاخ الربو ومثل ما قيل في قطرة الأنف وغيرها فنقول أن هذا يصل إلى الحلق والجوف وبتالي يفطر به لحديث لقيط ابن صبره"وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " فهذا يعتبر في حكم الأكل والشرب أو نقول وهو القول الثاني في هذه المسألة وهو: الذي يقول به مجمع الفقه الإسلامي أنما يمكن أن يصل إلى الحلق لو كانت الطبلة مخرقةً يسير جداً بحيث أنه لا يخرج عن المقدار المعفو عنه فيما يتعلق بالمضمضة فما يصل إلى الحلق من قطرةٍ لا يزيد عما يصل إلى الحلق والمعدة مما يبقى إذا تمضمض الإنسان بالماء وهو صائم وإذا تمضمض بالماء وهو صائم فإنه لا يفطر بالإجماع فكذلك هنا لا يفطر وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى ومجمع الفقه الإسلامي يقول إنه لا يفطر بشرط أنه لا يبتلع ما يصل إلى حلقه لكن نحن نقول حتى لو وصل إلى حلقه شيء وابتلعه فإن هذا لا يخرج عن كونه يسيراً يعفى عنه. النازلة السابعة: غسيل الأذن. أما إذا كانت طبلة الأذن سليمة وغير مخرقة فإنه لا يحصل الفطر بذلك لما سبق وأما إذا كانت طبلة الأذن مخرقة ثم غسلت هذه الأذن بماء أو نحوه ثم وصلت كمية تزيد عن المقدار المعفو عنه والقول حينئذ بأنه لا يفطر لا شك بأنه قول ضعيف والصحيح والله أعلم أنه إذا حصل غسيل الأذن وهي مخرقة الطبلة والغسيل حينئذٍ بماء كثير أو محلول كثير فإنه حينئذٍ يفطر بذلك استدلالا بحديث لقيط ابن صبره رضي الله عنه في السنن" وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما "لأن هذا في معنى الاستنشاق إذا كانت الأذن قناة تصل إلى الحلق وإلى المعدة ثم غسلت بالماء الكثير فوصل شيء إلى ذلك فهذا مثل ما يصل إلى الحلق إذا بالغ الإنسان في الاستنشاق ولهذا الظاهر والراجح حينئذٍ أنه يفطر بذلك لكن لو حصل الغسيل بشيء يسير أونحو ذلك فإن هذا يأخذ حكم القطرة لكن إذا كان كثيرا ًبماء أو محلول أونحو ذلك فإن هذا مثل إذا استنشق الإنسان أو بالغ بالاستنشاق فإنه يفطر بذلك. النازلة الثامنة: قطرة العين

ما يوضع في العين من مادة علاجية على شكل قطرة. قبل بحث هذه المسألة نقدم بإجابة على سؤال هل العين قناة إلى الحلق؟ بحيث أنما يوضع في العين يصل إلى الحلق أم لا؟ يقول الأطباء إن العين قناة إلى الحلق فإن العين لها قناة متصلة بالأنف ثم بالحلق ولهذا نقول إن هذا منفذ إلى الحلق، والآن هل يحصل الفطر بما يوضع في العين من قطرة؟ المسألة خلافية بين أهل العلم المعاصرين وقد ذهب أكثر أهل العلم ومنهم: الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين _عليهما رحمة الله_ إلى أنه لا يفطر الصائم بوضع قطرة في عينه، لأن الصيام ثبت بيقين فلا يرفع إلا بيقين وما يصل مما يوضع في العين من قطرة لو وصل فإنه لا يزيد على ما يعفى عنه مما يتبقى بعد المضمضة فإن الأطباء يقولون إن تجويف العين لا يمكن أن يتسع إلا لقطرة واحدة وهذه القطرة حجمها لا يعدوا ستة بالمائة من السنتيمتر المكعب الواحد ثم إن هذه القطرة سوف يمتص أكثرها فيما يسمى بالقناة الدمعية وما يصل إلى الحلق إن وصل إلى الحلق فهو كمية ضئيلة جداً لا تزيد عما تسامح الشرع به في المضمضة بل إن بعض الأطباء يقولون إنه لا يمكن أن يصل شيء من قطرة العين إلى الحلق فإنما يوضع في العين يمتص بالكامل في القناة الدمعية وما يجده الإنسان من طعم في حلقه ليس عن طريق وصول هذه القطرة إلى الحلق وإنما يقولون إن الجسم لما إذا امتص هذه القطرة ذهبت مرارتها إلى مراكز التذوق في اللسان فيحس الإنسان بطعمها ولو لم تصل في الحقيقة إلى اللسان وإنما وصلت لامتصاصها في البدن ووصولها إلى مراكز التذوق وهذا كلام لبعض الأطباء وليس كلهم لكن لو أننا لم نأخذ بهذا الكلام وإنما أخذنا بأنه قد يذهب شيء من قطرة العين إلى الحلق فإننا نقول إنما يصل إلى الحلق من ذلك يسير جداً لا يتجاوز الحد المعفو عنه بالمضمضة، ومن أهل العلم من قال إن قطرة العين يحصل بها الفطر وهؤلاء يقولون قياساً على الكحل فكما أنه يفطر إذا اكتحل فكذلك إذا وضع قطرة فإنه يفطر لأنه يجد طعمها في حلقه فإذا وصلت إلى جوفه أفطر بذلك وهذا على كل حال يجاب عنه بأن الأصل المقيس عليه ليس محل إجماع من أهل العلم، فأهل العلم مختلفون في الكحل والصحيح أنه لا يفطر الإنسان بالكحل فالأصل المقيس عليه ليس مسلماً كما يستدلون بحديث لقيط بن صبره " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" قالوا هذا يصل إلى المعدة وقد أجبنا عن ذلك بأن ما يمكن أن يصل إلى الحلق ثم إلى المعدة من ذلك يسير معفو عنه فهو داخل تحت ما تجاوز الله عنه مما يبقى بعد المضمضة ولهذا فالصحيح أن قطرة العين لا يحصل بها الفطر. النازلة التاسعة: الحقن العلاجية سواء كانت جلدية أو عضلية أو وريدية. فهذه هي أقسام الحقن منها ما يؤخذ تحت الجلد مثل حقن الأنسولين أو كانت مما يعطى في العضل أو في الوريد هذه الحقن قيدناها بالعلاجية لأنه سيأتي في النازلة التي تليها الحقن المغذية لكن مانريد أن نتكلم عنه الآن الحقن العلاجية هل يحصل الفطر بها؟

مر معنا أن الجوف على التحقيق والراجح أن المقصود به المعدة وبالتالي فهذه الحقن العلاجية التي تؤخذ بالطرق الثلاث إذا عرفنا أنها لاتصل إلى المعدة بل تكون عن طريق الجلد أو عن طريق الدم وأنها لا تأخذ حكم الأكل ولا الشرب فيما يحصل بها من تقوية للبدن ونشاط وحيوية وغير ذلك فإننا نقول حينئذٍ إن الصيام ثابت بيقين وإن هذا الصيام الثابت بيقين لا يرتفع إلا بيقين مثله وهذه الحقن ليست من المفطرات التي نص الشرع على التفطير بها وليست في معناها ولهذا نقول إنها لا تفطر وبهذا قال أعضاء مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة فقد اتخذوا قراراً بالإجماع أن هذه الحقن لا تفطر وهو قول الشيخين ابن باز والعثيمين عليهما رحمة الله تعالى وقد ذكر الدكتور أحمد الخليل في مفطرات الصيام المعاصرة أنه لا يعرف أحداً قال بأن هذه تفطر وذلك لما سبق من التعليل فنعرف أنه لا بأس للصائم أن يعطى إبرة الأنسولين تحت الجلد أو المضاد الحيوي أو يعطى اللقاح وقد سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء من قِبل وزارة الصحة بأنها تنوي القيام بحملات تطعيم ضد الحمى الشوكية على المدارس في نهار رمضان فهل يحصل الفطر بهذه الإبر فأفتت اللجنة الدائمة بأن هذا لا يفطر. النازلة العاشرة: الحقن المغذية الوريدية. وهي التي تعطى لبعض المرضى وتكون مؤلفة من محلول مائي يحتوي على السكر والأملاح والماء وربما أضيف إليه بعض العلاجات فهذه الإبر المغذية لا تنفذ إلى الجوف ولا تصل إلى المعدة وإنما هي إبر تعطى عن طريق الوريد فهي تدخل إلى الدم مباشرة فمن جهة وصولها إلى الجوف والمعدة فإنها لا تصل لكن يبقى أن هذه الإبر المغذية في معنى الأكل والشرب ولهذا تلاحظون أنه في بعض الأحيان عند المرضى قبيل العمليات الجراحية أو بعدها أو في بعض الحالات المرضية ربما يجلس المريض لساعات أو أيام يتغذى على هذه الإبر فقط لا يعطى أي طعام أو شراب وهذا يدل دلالة أكيدة على أنها في معنى الأكل والشرب ولهذا فمجمع الفقه الإسلامي وأكثر العلماء المعاصرين على أنها تفطر وذلك أنها وإن لم ينص على أنها من المفطرات إلا أنها في معنى المنصوص قد نص الكتاب الكريم والسنة النبوية على أن الصائم يفطر بالأكل والشرب {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط البيض من الخيط الأسود من الفجر} وفي الحديث" يدع طعامه وشرابه وشهوته " فالأكل والشرب منصوص على التفطير بهما وهذه الإبر في معنى المنصوص عليه ولهذا فإنه يحصل الفطر بها، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه لا يحصل الفطر بها لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا تنفذ إلى المعدة ولكن لا شك أن هذا قول ضعيف لأنها ليست أكلا ولا شربا ولكنها في معنى الأكل والشرب والمريض قد يستغني بها أياماً عن الأكل والشرب ولهذا فلا شك أن القول الراجح أنه إذا تعاطها المريض فإنه يفطر بذلك. النازلة الحادية عشر: الدهانات والمراهم واللصقات العلاجية.

من المعروف أن في الجلد مسامات يحصل من خلال هذه المسامات امتصاص ما يوضع على الجلد فمثلا الإنسان إذا وضع على جلده مادة دهنية يمتص الجلد هذه المادة كما هو معروف ومشاهد ومثل هذه المواد الدهنية توضع مواد علاجية على الجلد لأن هذه المسامات تمتص هذا العلاج وأحيانا توضع العلاجات على شكل لصقات تكون فيها مادة نفاثة أو مادة علاجية مسكنة أو طيارة أو نحو ذلك فتوضع على الجلد فهذه المراهم والدهانات التي توضع على الجلد فيمتصها الجلد وتنتهي على الدم إذا قلنا بأن الإبر والحقن التي تعطى عن طريق العضل وتحت الجلد وفي الوريد لا تفطر فهذه من باب أولى فقد اتخذ مجمع الفقه الإسلامي قرارا بالإجماع أنها لا تفطر وقد حكى بعض الباحثين الإجماع على أن هذه لا يحصل الفطر بها ومما لاشك فيه أن الناس على عهد النبي كانوا يحتاجون إلى الادهان في جلودهم وشعورهم وهذا أمر معروف عند الناس في القديم والحديث وحتى في قصة العنبر في الحديث قال: فأكلنا وادهنا, فالادهان أمر معروف والدهن يمتصه الجلد ولو كان مفطراً لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز على النبي - صلى الله عليه وسلم - تأخير البيان عن وقت الحاجة فهذا لا شك أنه ظاهر في أن مثل هذه حتى لو كانت علاجية فإنها لا تفطر **************** [2/ 2] **************** النازلة الثانية عشر: القسطر. فما هي القسطرة وما حكم هذه القصطرة بالنسبة للفطر بها وعدمه؟ القصطرة هي إدخال جهاز أو أنبوب مثل ما ذكرنا عن المنظار الذي يعطى عن طريق البلعوم أو عن طريق المريء للمعدة سواء كان للتشخيص أو للعلاج فالقصطرة مثل هذا الجهاز أو يختلف عنه اختلافا بسيطا يدخل عن طريق الوريد حتى يصل الأوردة والشرايين المتصلة بالقلب أو في أي مكان في البدن ويستعمل هذا النوع من العلاج أحيانا لأغراض تشخيصية لاكتشاف التجلطات في الأوردة والشرايين وأحيانا لأغراض علاجية مثل فتح بعض الشرايين المغلقة أو التي فيها تجلط هذه هي قصة القصطرة وهي معروفة تصنع لمرضى القلب ونحوهم أما حكمها وهل يحصل الفطر بها أو لا فقد اتخذ مجمع الفقه الإسلامي قراراً بالإجماع وذكر بعض أهل العلم أن في المسألة إجماعا من المعاصرين على أنه لا يحصل الفطر بها لأن هذه القصدرة ليس مما ورد به النص مما يفطر وليست مما في معنى المنصوص وهذا الكلام مشروط بأن لا يكون هناك أمور مصاحبة كما في مسألة المنظار فإن المنظار لو وضع عليه مادة هلامية أو مادة دهنية حصل الفطر به فكذلك القصطرة فإذا كانت عملية القصطرة بدون إضافات فإنه لا يحصل الفطر بها لأنها ليست مما نص الشارع على الفطر به وليست في معنى المنصوص لكن لو حصل مع هذه القصدرة أن أعطي المريض بعض الإبر أو الحقن أو المحاليل المغذية في الدم فإنا نقول حينئذ إنها تبحث إذا كانت أشياء علاجية مثل الإبر وإن كانت مغذية فتأخذ حكم الإبر المغذية لكن القصطرة بذاتها إذا لم يصاحبها إدخال أشياء أخرى إلى جسم المريض فإنها لا تفطر لأنها ليست من المنصوص على التفطير به ولا في معنى المنصوص. النازلة الثالثة عشر: منظار البطن.

تكلمنا عن المنظار الذي يعطى للمريض مع البلعوم فالمريء إلى المعدة هذا نوع من المناظير ومن أنواع المناظير مانتكلم عنه الآن وهو منظار انتشر بعد تطور الطب يدخل في بطن المريض عن طريق جدار البطن فتفتح فتحة صغيرة في جدار البطن ثم يدخل هذا المنظار وهذا المنظار يذهب إلى تجويف البطن لكنه لا يذهب إلى المعدة فإذا قلنا إن تجويف البطن هو الجوف قلنا هذا وصل إلى الجوف لكن إذا حصرنا كما مر معنا واتفقنا في الدرس الأول أن الجوف مقصود به المعدة فإن هذا المنظار لا يذهب إلى المعدة إنما هذا المنظار يذهب إما لأغراض علاجية مثل استئصال المرارة أو استئصال الزائدة الدودية أو استئصال حصوات معينة وهو أحيانا يكون لأغراض تشخيصية تصوير ونحو ذلك وأحيانا يكون لأخذ عينات من الكبد أو نحو ذلك فهو لا يصل إلى المعدة وإنما يذهب إلى تجويف البطن إلى الزائدة أوالمرارة أو الكلى أو الكبد أو نحو ذلك فما حكم هذا المنظار الذي يصل إلى البطن؟ هذا المنظار حكمه تابع للخلاف الذي ذكرناه في الدرس الأول وهو المقصود بالجوف فمن قال: بأن تجويف البطن يعتبر جوفاً وأن ما وصل إليه يعتبر مفطرا فإنه يقول إن المنظار يفطر لأنه يصل إلى الجوف ولكن حينما نتأمل أن هذا المنظار أولاً لا يصل إلى الجوف الذي رجحنا أنه الجوف وهو المعدة. الثاني: أن هذا المنظار ليس مما يطعم ولا يشرب فحتى لو وصل إلى المعدة فقد سبق وأن قررنا أنه لو وصل إلى المعدة شيء مما لا يطعم ولا يشرب كأن يبتلع الإنسان خرزة مثلا أو حديدةً أو قرشا أونحو ذلك لا يفطر بذلك فإننا نقول إن هذا المنظار: أولا لا يصل إلى الجوف الذي رجحناه وهو المعدة وثانيا أن هذا المنظار لو وصل فإنه ليس مما يطعم ولا مما يشرب ولهذا فإن الراجح هو أن منظار البطن ليس مما نص الشارع على أنه يحصل الفطر به ولا في معنى المنصوص ولهذا اتخذ مجمع الفقه الإسلامي قرارا بالإجماع على أن منظار البطن لا يحصل الفطر به وهذا بالطبع كما قلت لكم في مسألة القصطرة ما لم يصاحب هذا أمور أخرى فتبحث لوحدها لكن المنظار إذا أدخل المريض دون أن يعطى أشياء أخرى أو محاليل أو سكريات أو أملاح أو نحو ذلك فإن المنظار بحد ذاته ليس مفطراً على الصحيح من قولي العلماء وهو الذي اتخذ فيه مجمع الفقه الإسلامي قرارا بالإجماع أنه لا يحصل الفطر به. النازلة الرابعة عشر: الغسيل الكلوي

بعض المرضى يصاب بفشل كلوي وحينئذ يحتاج إلى أن يجرى له غسيل كلوي دوري كل يومين أو كل ثلاثة أيام من أجل إخراج هذه السموم والمواد الضارة من دمه هذه العملية وهي عملية غسيل الدم وإخراج هذه السموم والمواد الضارة من الدم هي مايسمى الغسيل الكلوي، والغسيل الكلوي له طريقتان الطريقة الأولى: الغسيل الكلوي عن طريق ما يسمى الكلية الصناعية وهي أداة أو جهاز يوصل بالمريض عن طريق الوريد فيستخرج دم المريض عن طريق الوريد إلى هذا الجهاز فيقوم هذا الجهاز بتنقية هذا الدم عن السموم والمواد الضارة ثم يضاف إلى هذا الدم بعض السكريات والأملاح ثم يعاد ضخه إلى المريض مرةً أخرى هذه هي الطريقة الأولى. الطريقة الثانية هي الغسيل الكلوي عن طريق ما يسمى بغشاء البريتون أو البرايتون وهذا الغشاء موجود داخل تجويف البطن فيفتح للمريض فتحة فوق السرة ثم يضخ عن طريق هذه الفتحة كميات من السوائل فيها كميات كبيرة من السكريات والأملاح وتبقى داخل تجويف البطن عند ما يسمى بغشاء البرايتون فهذا الغشاء يتبادل مع هذه السوائل السموم أو المواد الضارة الموجودة في الدم امتصاصاً وإفرازاً ثم يقوم الطبيب بإخراج هذا السائل مرةً أخرى ويضخ سائلا آخر مرة أخرى يبقى في البطن مدة من الزمن ثم يمتص أو يستخرج وهكذا، هذه هي الطريقة الثانية من طرق الغسيل الكلوي وتلاحظون أنه في كلا الحالتين أن العملية تتم بإضافة قدر من السكريات والأملاح والماء أحيانا ولاشك أن السكريات والأملاح في معنى الأكل والشرب فالمغذي الذي يعطى للمريض هو عبارة عن ماء وأملاح وسكريات كما أعرف فغسيل الكلى بالطريقة الأولى أو الطريقة الثانية يشتمل على هذا الأمر فيصل إلى دم المريض سكريات وأملاح عن طريق هذا الغسيل وبناء على ذلك ذهب أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية والشيخ عبد العزيز بن باز «ومجموعة من أهل العلم إلى أن الغسيل الكلوي مفطر من مفطرات الصيام وذلك لأنه وإن لم يكن أكلاً ولا شرباً إلا أنه في معنى الأكل والشرب مما يحصل للمريض به من التقوي ونحو ذلك. ومن أهل العلم من قال إنه لا يحصل الفطر بالغسيل الكلوي وذلك لأنه ليس أكلاً ولا شرباً ولا ينفذ إلى الجوف لكن هذا القول ليس بشيء لأنه كما ذكرنا قبل قليل أن إيصال المواد الغذائية مثل السكريات والأملاح إلى الدم يحصل به من القوة والنشاط ما يحصل بالأكل والشرب فالمغذي أحياناً يجلس عليه الإنسان يومين أو ثلاثة أيام ويكتفي به عن الأكل والشرب ويحس معه المريض بالري والشبع ولا يحتاج معه إلى طعام فالغسيل الكلوي لاشك عندي والله أعلم أنه يحصل الفطر به هذا فوق أنه يحصل للإنسان به من الإجهاد والضعف والإنهاك ما هو أشد مما يحصل للإنسان بالقيء مثلاً أو بالحجامة أو حتى بدم الحيض ودم الحيض مما قام الإجماع على الفطر به والقيء ثبت الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" من استقاء فعليه القضاء " وأكثر أهل العلم يعلل القيء بأنه يضعف والحجامة الذين يقولون بأنه يفطر بها يعللون ذلك بما يحصل من الإضعاف للبدن، والغسيل الكلوي يظهر لي أنه لا يقارن بهذه الأمور فهو ينهك المريض أكثر مما تنهكه الحجامة أو القيء أو الحيض ولهذا فالنفس مطمئنة إلى أن الغسيل الكلوي يحصل الفطر به. النازلة الخامسة عشر: الغسول المهبلي.

والمقصود بالغسول المهبلي هو ما يكون من محاليل مطهرة أو علاجية تتعاطاها المرأة عن طريق الفرج (القبل) هذا الغسول المهبلي محل خلاف بين أهل العلم مبني على خلاف قديم لأهل العلم قديماً فيما إذا أدخلت المرأة مائعاً في فرجها هل يحصل الفطر لها بذلك أو لا يحصل؟ فأهل العلم قديماً اختلفوا في ذلك بناءً على اختلافهم في هل الفرج يعد منفذا إلى الجوف أو لا؟ تعرفون أن كثيراً من هذه الأمور لم يجزم بها ويقطع بها إلا بعد تطور علم الطب والتشريح أما في السابق من المعروف أن الميت له حرمة لهذا لم يكن مثل ذلك متاحاً للفقهاء الأقدمين فمن أهل العلم قديماً من قال إنه يفطر به لأن هذا منفذ إلى الجوف وبتالي يحصل الفطر به ومن أهل العلم من قال إن هذا لا يعد منفذا إلى الجوف وبتالي لا يحصل الفطر به وفي العلم الحديث أن هذا لا يعد منفذا إلى الجوف ولا يصل مطلقاً وليس هناك قناة بين الفرج وبين المعدة وبتالي فإن هذا الغسول ليس أكلاً ولا شرباً ولا مما يحصل الفطر به بالنص ولا في معنى ما ورد النص بالفطر به ولهذا اتخذ مجمع الفقه الإسلامي قراراً بالإجماع بأن الغسول المهبلي لا يعد مفطراً للصيام. التحاميل المهبلية والمنظار المهبلي وأدوات الفحص المهبلية وكل ذلك المقصود به ما تحتاجه المرأة في العلاج سواءً كان ذلك بالتحاميل التي تعطى للمرأة كمواد علاجية أو كان بالمنظار المهبلي الذي يكون لأغراض علاجية أو تشخيصية أو كان ذلك بالأدوات التي يفحص بها في فرج المرأة وفي قبلها وهذه الأدوات الثلاث أو النوازل الثلاث إذا قلنا إن الغسول المهبلي لا يحصل الفطر به فهذه مثلها أو أولى منها فلا يحصل الفطر بهذه التحاميل ولا بالمنظار ولا بأدوات الفحص لأنها ليست مما ورد النص بالفطر به ولا في معنى المنصوص ولهذا اتخذ مجمع الفقه الإسلامي قراراً بالإجماع بأن هذه الأمور لا يحصل الفطر بها. النازلة السادسة عشر: الحقنة الشرجية.

والحقنة الشرجية هي ما يعطى للمريض في الدبر وهي نوع معالجة وغسيل للأمعاء بضخ الماء وبعض الأدوية كما هو معروف وهذه المسألة ليست جديدة لكنها الآن أخذت صبغة علمية باعتبار أنها عمل طبي يعالج به وقد اختلف فيها أهل العلم قديماً وحديثاً على قولين: فمن أهل العلم من قال إنها تفطر لأنها تصل إلى الجوف وبتالي فإنها تفطر وذلك لما قررناه سابقاً من أن الجوف المقصود به المعدة والأمعاء لأنها موضع الامتصاص ومن أهل العلم من قال إنها لا تفطر واحتجوا على ذلك بأنه لا يحصل للإنسان بها نوع تغذية وإنما هي للتنظيف فلا يحصل منها غذاء فهي ليست أكلا ولا شربا ولا في معناهما وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية «وقبل أن نذكر ما هو الراجح في هذه المسألة أنبه بأن الأطباء يقولون إن الدبر متصل بما يسمى بالمستقيم ثم بعد ذلك القولون أو الأمعاء الغليظة والحقنة تكون في هذه المنطقة والأطباء يقولون إن امتصاص الغذاء يحصل أغلبه في المعدة وفي الأمعاء الدقيقة ويحصل منه امتصاص يسير للماء والأملاح والسكريات في الأمعاء الغليظة وبناء على ذلك فإن المريض إذا أعطي هذه الحقنة الشرجية أعزكم الله والتي تشتمل على السوائل والمحاليل وأمور طبية أنها تصل إلى هذه المنطقة التي يحصل بها الامتصاص وهي الأمعاء الغليظة ولهذا فالقول بالتفطير هو الأظهر والأرجح وقد أختار الشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ أحمد الخليل -حفظه الله - في هذه المسألة أن ما يحقن في الدبر إذا تضمن الماء أو شيئا من المحاليل المغذية مثل الأملاح أو غيرها فإنه يحصل به الفطر أما إذا لم تشتمل هذه الحقنة إلا على أشياء دوائية فليس فيها سوائل ولا ماء ولا أملاح فإنها لا تفطر وعندي أن هذه الحقنة والله سبحانه وتعالى أعلم تفطر على كل حال مادام أنها تصل إلى الأمعاء الغليظة التي يحصل فيها الامتصاص فإن الأمعاء الغليظة ومراكز الامتصاص تمتص الدواء وتمتص الماء وهذه الأمور كلها مفطرة ولهذا والذي يظهر والله تعالى أعلم أن هذه الحقنة الشرجية مفطرة بهذا المعنى هذا هو الراجح أنشاء الله تعالى. النازلة السابعة عشر: التحاميل الشرجية.

التحاميل الشرجية هي ما يوضع في دبر المريض وتشبه المراهم وتستعمل لعلاج بعض الأمراض مثل البواسير ولتخفيض الحرارة وهي معروفة فهذه التحاميل أيضاً محل خلاف بين أهل العلم باعتبار أنها تصل إلى الجوف وبتالي هل يحصل بها التفطير لوصولها إلى الجوف أم لا يحصل بها التفطير وهو بالتأكيد قياس قول من قال إنه لا يحصل التفطير بالحقنة الشرجية. فالذي يقول إن الحقنة الشرجية لا تفطر فإنه من باب أولى يقول إن هذه التحاميل لا تفطر وعلى كلام الشيخ محمد بن عثيمين «أن هذه أيضاً لا يحصل بها الفطر ومجمع الفقه الإسلامي قد أجل البت في هذه القضية على اعتبار أنها محل خلاف بين أعضاء المجمع وبالتأكيد أن مثل هذه التحاميل لا توضع في بدن المريض إلا لأن البدن يمتصها ثم ينتفع بها، فالحقنة الشرجية مثلاً هي نوع من الغسيل للأمعاء وربما لايبقى الماء أو السوائل أو نحو ذلك مدةً بحيث يحصل لها امتصاص لكن مثل هذه التحاميل الأصل أنها تمتص تقريباً بالكامل ولا ينتفع منها المريض إلا إذا امتصها البدن ولهذا ليست مثل الحقنة، الحقنة يحقن الإنسان مثلاً بهذه الحقنة الشرجية أعزكم الله ثم يستفرغ مرةً أُخرى لكن مثل هذه التحاميل توضع ولا تزال وهذا يدل على أن البدن يمتصها نعم هي ليست أكلا ولا شربا ولا في معنى الأكل والشرب فإذا قلنا إن الإبر التي يأخذها الإنسان في العضل أو في الوريد لا يحصل بها الفطر مع أنها تصل إلى الدم مباشرة فمثل هذه التحاميل الشرجية الذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم أنه لا يحصل الفطر بها وليست مثل الحقنة باعتبار أن الحقنة الشرجية المواد المغذية فيها أكثر وقد مر معنا في بداية هذه المجالس أن هناك أمورا يسيرة كثيرة جداً قد عفي عنها كما يحصل في الفم بعد المضمضة فهذه التحاميل الشرجية إذا امتصها البدن فهي أشياء دوائية لا تصل إلى مراكز الامتصاص في الغالب وهي الأمعاء الغليظة وإنما ما دون ذلك ولهذا فإنها لا تأخذ حكم الأكل والشرب لا حقيقةً ولا حكماً فالذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم أنه لا يحصل الفطر بها. النازلة الثامنة عشر: المنظار الشرجي. المنظار الشرجي الكلام فيه كالكلام في منظار المعدة وقد سبق أن تكلمنا علية وقلنا إن منظار المعدة إذا خلاء من أشياء تضاف إليه فإنه بمجرده لا يحصل الفطر به لكن إذا أضيف إليه مثلاً مواد هلامية أو دهنية أو محاليل كما حدثني أحد الأخوة الأطباء الذين حضروا معنا أن أحد كبار المتخصصين في المناظير يقول إن المنظار الذي يعطى في المريء ويصل إلى المعدة لابد أن يضخ معه ما يقرب من مائتي ملليلتر من محلول ملح الطعام لإزالة الأطعمة ونحو ذلك عن المنظار بحيث يسهل عملية التصوير والتشخيص ثم يسحب جزء من هذا المحلول فهذا لا إشكال في أنه يكون حينئذٍ مفطراً كما قلنا إنه إذا وضعت علية مادة هلامية أو دهنية أو أدخل معه أو ضخ عبرة شيء من المحاليل أو نحو ذلك فإنه لا شك بالتفطير به وعلى هذا فالمنظار الشرجي كمنظار المعدة بحيث إنه إذا وصل إلى مناطق الامتصاص وهي الأمعاء الغليظة فما فوق إلى المعدة فإن ضخ معه شيء من السوائل أو المحاليل أو المواد الهلامية أو الدهنية أو نحو ذلك فإنها تصل إلى مكان الامتصاص وحينئذً تكون في حكم الأكل والشرب فيحصل الفطر بها، أما إذا لم يصل إلى أماكن الامتصاص أو لم يضف إليه محاليل أو مواد مسلكه فإنه حينئذٍ لا يفطر كما تكلمنا في منظار المعدة. النازلة التاسعة عشر: ما يدخل عبر مجرى البول.

وهذا له عدد من الأنواع أحياناً يُدخل عبر مجرى البول - أعزكم الله- منظار مثل ما مر معنا في منظار المعدة والشرج والمنظار المهبلي وأحياناً تُدخل بعض المحاليل لغسيل المثانة وأحياناً تُدخل بعض الأدوية وأحياناً تُدخل بعض المواد التي تصاحب عملية التشخيص بالأشعة ليتضح التصوير بإضافة هذه المواد فيضخ عبر مسالك البول هذه المواد حتى تتضح في أجهزة التصوير، فهذه الأمور التي تدخل عبر مجاري البول سواءً كانت للرجل أو للنساء محل خلاف بين أهل العلم قديماً، فأهل العلم ذكروا بعض التصورات كما لو أن الإنسان أدخل في إحليله ماءً أو دهناً أو نحو ذلك هل يفطر بذلك؟ وقد أختلف العلماء قديماً في هذه المسألة بناء على اختلافهم هل مجرى البول ينفذ إلى الجوف الذي اتفقنا عليه وهو المعدة أو لا؟ فمن رأى أن مجرى البول ينفذ إلى الجوف قال إنه يحصل الفطر به. ومن رأى أن هذا لا ينفذ إلى الجوف قال إنه لا يحصل الفطر به وعلم التشريح الحديث والطب الحديث يثبت أن مسالك البول ليست منفذً إلى المعدة ولا إلى الأمعاء الغليظة أو الدقيقة أو مراكز الامتصاص أو الجهاز الهضمي كما مر معنا. فهي لا تتصل بذلك مطلقاً فالقول الراجح أن هذه التي تدخل من مجاري البول أنها لا تعد مفطرةً. وهذا هو الذي أفتى به أعضاء مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة. النازلة العشرون: التبرع بالدم. وهذه لا شك أنها من النوازل التي تعم بها البلوى فإن الإنسان ربما يعرض لقريبه أو لأحد من المسلمين حاجة واضطرار إلى الدم في نهار رمضان فهل التبرع بالدم يفطر أو لا يفطر؟

وهذه المسألة أكثر أهل العلم يجعلونها مقيسة ومتفرعة على مسألة الحجامة. هل يفطر الإنسان بالحجامة أو لا يفطر؟ والحجامة معروفة وهي ما يوضع من المحاجم على الرأس أو على أي جزء من أجزاء البدن بحيث يشرط الجلد ثم يمتص الدم من الجلد بهذه المحاجم هذه هي الحجامة وهي معروفة. وقد أختلف أهل العلم قديماً في الحجامة. هل يحصل الفطر بها أو لا يحصل؟ وذلك تبعاً لتعارض الأدلة الواردة في الحجامة فبينما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه قال " أفطر الحاجم والمحجوم "، ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى البقيع فوجد رجلاً يحتجم فقال: أفطر الحاجم والمحجوم والحديث رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جعفر بن أبي طالب _ يحتجم فقال: أفطر هذان - يعني الحاجم والمحجوم - هذا الدليل يدل على أن الحجامة تفطر بينما ثبت كما في صحيح الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس إحتجم وهو صائم وقد أختلف أهل العلم في التوفيق بين هذه الأدلة فمن أهل العلم وهم جمهور أهل العلم الحنفية والمالكية والشافعية من قال إن حديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ، وأن هذا الأمر كان في البداية مفطراً ثم نسخ ويستدلون على ذلك بما روى الدارقطني وغيرهُ عن أنس _ أنه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة ثم رخص بها - يعني للصائم - قال الدارقطني إنه لا يعلم لهذا الحديث علة وقال الجمهور إن الرخصة لا تكون إلا بعد النهي فهذا يدل على أن الترخيص كان بعد النهي. ومن أهل العلم من تعامل بين هذه النصوص بالعكس فقال إن الحجامة كانت في بداية الأمر غير مفطرة ثم بعد ذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تفطر وهذا قول الحنابلة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو اختيار أيضاً الشيخ محمد بن صالح العثيمين، واحتجوا على هذا الترجيح بأن أحاديث الترخيص بالحجامة هذه مبقية على الأصل وحديث أفطر الحاجم والمحجوم ناقلة عن الأصل فإن الأصل أن الحجامة لا تفطر.

والناقل عن الأصل مقدم على المبقي على الأصل فأفطر الحاجم والمحجوم ناقل عن الأصل قد غير حكم الأصل وحديث إحتجم وهو صائم مبقٍ على الأصل والناقل عن الأصل مقدمٌ على المبقي عليه وبناء على هذا الخلاف بين هذين القولين ذهب بعض أهل العلم إلى أن مسألة التبرع بالدم فرع عن مسألة الحجامة فإذا قلنا إن الحجامة تفطر فالتبرع يفطر وإذا قلنا إنها لا تفطر فالتبرع لا يفطر أيضاً ولهذا فإن الشيخ محمد بن صالح العثيمين «لما كان يرجح أن الحجامة تفطر رجح أن التبرع يفطر والذين قالوا لا تفطر الحجامة قالوا إن التبرع لا يفطر، وعندي أن المسألة يمكن أن يكون لها مأخذ غير هذا المأخذ وأنه حتى لو رجحنا قول الجمهور في أن الحجامة لا تفطر فإنه ليس بلازم أن نقول إن التبرع بالدم لا يفطر وذلك لأنه يختلف الأمر بين الحجامة والتبرع بالدم وكلكم أو من رأى الحجامة أو سأل عنها أو خبرها يعرف أن الدم الذي يؤخذ بالحجامة قليل جداً بالنسبة لما يؤخذ بالتبرع بالدم فأحياناً التبرع بالدم يؤخذ نصف لتر من الإنسان وأحياناً يؤخذ لتر كامل بينما الحجامة ما يصل أحياناً ما يؤخذ من المحتجم عن خمسين مللي لتر أو ثلاثين فهي كمية يسيرة فهل يصح أن نقيس عدم التفطير بأخذ خمس مئة مللي لتر من الإنسان أو لتر كامل على عدم التفطير بأخذ ثلاثين ملي أو عشرين ملي أو حتى خمسين ملي خاصة إذا أدركنا أن العلة في التفطير بالحجامة إضعاف البدن ولهذا ثبت كما في صحيح البخاري عن ثابت البناني «أنه سأل أنس ابن مالك رضي الله عنهما فقال: أكنتم تكرهون الحجامة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنس _ لا إلا من أجل الضعف فهذا يدل على أن العلة في التفطير بالحجامة سواءٌ كان هذا الأمر باقيا محكما أو كان منسوخا ما تورثه من الإنهاك والضعف للبدن فإذا كانت هذه هي العلة، فلا يصح أن نقيس التبرع بالدم على الحجامة للفارق بينهما فإن هذا أكثر إنهاكا للبدن من الحجامة وهذا أمر معروف فأنت لو ذهبت الآن إلى مستشفى من أجل أن تتبرع بالدم لرأيت من الاحتياطات التي يفعلها الطبيب ما لا تراه حينما تقدم على الحجامة في مستشفى، دعونا من الإقدام على الحجامة مثلاً عند الحجامين الذين لم يلموا بعلوم الطب لكن لو أحتجمت بمركز صحي أو مركز طبي لما رأيت من الرعاية والعناية بالمريض أو المتبرع مثل ما تجد حين التبرع فإنهم في مسألة التبرع بالدم يشترطون على الإنسان أن يكون تناول غذاءً كافيا ويمدونه بالسوائل أثناء التبرع وبعد التبرع وهذا ظاهر الدلالة على أن عملية التبرع تنهك البدن أكثر مما تنهكه الحجامة فالحجامة شيء يسير يخرج من البدن هذا أمر، الأمر الثاني أنه أيضاً روى الخمسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من استقاء فعليه القضاء ومن ذرعهُ القيء فلا قضاء عليه "ففي هذا الحديث أن من استقاء متعمداً يفطر بذلك، وقد ذهب من قال بأن من استقاء متعمداً يبطل صومهُ إلى أن العلة هي ما يورثه القيء - أعزكم الله- من الضعف والإنهاك للبدن وما يقال في الاستقاء يقال في التبرع بالدم بل ربما يكون في التبرع بالدم إضعاف للبدن أكثر من إضعافه بالقيء، الأمر الثالث يمكن أن يقاس التبرع بالدم على الحكم بالفطر للحائض فإن جمعا من أهل العلم ذهبوا إلى أن الحكمة من كون الحيض مفطرا من مفطرات الصيام أنه ينهك بدن المرأة وهو حالة مرضية تضعفها فيكون في إيجاب الصيام عليها إضعاف لها وضرر عليها ولهذا قضى الله سبحانه وتعالى بأن الحيض مفطر من المفطرات وأنه لا يصح الصيام معه، وبناء على ذلك فإن الذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم أن التبرع بالدم مفطر من مفطرات الصيام على القولين جميعاً، سواء قلنا بأن الحجامة تفطر أو لا

تفطر. فالتبرع بالدم مفطر من المفطرات والعلم عند الله سبحانه وتعالى. النازلة الحادية والعشرون: أخذ الدم للتحليل ونحوه. وهو ما يؤخذ من المريض للتحليل، وهذه المسألة تختلف عن المسألة السابقة لأن الفرق واضح وبيّن في أن الدم في التبرع بالدم كثير وأما في مسألة التحليل فإن ما يؤخذ شيء يسير ولهذا ما قلناه قبل قليل من التعليلات بفطر من تبرع بالدم لا يصح فيما يتعلق بأخذ عينة للفحص والتحليل ولهذا ذهب كثير من أهل العلم منهم الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، إلى أن أخذ عينات من الدم للتحليل لا يحصل الفطر به وبالتأكيد من قال إن التبرع بالدم لا يفطر به الإنسان فإنه من باب أولى يقول إن هذا لا يحصل الفطر به وهذا الذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم أنه هو الراجح فإن أخذ كمية يسيرة من الدم لا يضر الصائم وهو مثل مالو قلع الإنسان ضرسهُ أو أصابهُ جرح يسير أو نحو ذلك، فذلك لا يؤثر في بدنه ولا ينهكه إنهاكا يشبه مثلاً الاستقاء أو التبرع بالدم أو الحيض بالنسبة للمرأة. هذه هي النازلة العشرون وهي أخر النوازل المتعلقة بمفطرات الصيام، بقي عندنا نازلتان نختم بهما هذه الدروس. النازلة الثانية والعشرون: السفر من بلد إلى بلد يختلفان في الرؤية.

فأولاً نصور هذه المسألة، هذه المسألة ليست جديدة ولا نازلة على الحقيقة لكن لما تيسرت في هذا الزمن وسائل المواصلات وأصبح الانتقال كثيراً جداً أصبحت من المسائل التي تعم بها البلوى فكأنها بالنسبة للناس من النوازل وإلا فالمسألة قديمة وقد تكلم عليها أهل العلم قديماً وهي مسألة ما إذا انتقل الإنسان من بلد إلى بلد أخر قد اختلفت رؤية البلد الأول عن البلد الثاني وقد يترتب على هذه الأمر أن الإنسان يسافر من بلد إلى بلد فتختلف بداية الشهر بين البلدين فإذا اختلفت البداية ربما تختلف النهاية فقد يترتب على ذلك أن الإنسان إذا صام مع البلد الثاني الذي انتقل إليه قد يصوم واحد وثلاثين يوماً وقد يحدث العكس وهو ما إذا تقدمت رؤية البلد الذي قدم إليه فقد يصوم ثمانية وعشرين يوما، ونضرب لهذا مثال.

فلو صمنا في المملكة العربية السعودية يوم السبت وفي الباكستان صاموا يوم الأحد، فمن بدأ الصيام بالمملكة يوم السبت ولمّا مضى عشرة أيام أو عشرون يوما ذهب إلى الباكستان وفي الباكستان لم يرو الهلال ليلة الثلاثين فأتموا ثلاثين يوماً هذا الإنسان الذي بدأ الصيام في المملكة يوم السبت وذهب إلى الباكستان، الباكستان أتموا الشهر ثلاثين يوماً، إذا تابع الباكستان في الصيام سيصوم واحدا وثلاثين يوما هذه صورة، الصورة الثانية لنفترض أننا في المملكة صمنا يوم السبت وأن مصر صاموا قبلنا بيوم أي يوم الجمعة فهذا شخص صام يوم السبت مع بلده وهو المملكة ثم بعد عشرة أيام انتقل إلى مصر، كانت مصر قد صامت قبلنا بيوم ولما مضى من الشهر في مصر تسعة وعشرون يوماً تراءى الناس الهلال فرأوه فما صاموا بمصر إلا تسعة وعشرين يوماً فإذا صام هذا معنا وأفطر معهم فمعنى ذلك أنه سيصوم ثمانية وعشرين يوما فقط، السؤال هو هذا الذي سافر إلى الباكستان وذلك الذي سافر إلى مصر يتبع من؟ وإذا ترتب على صيامه في الباكستان أن يصوم واحد وثلاثين يوماً فما الحكم؟ هل يصوم واحدا وثلاثين يوما وهل يكون الشهر الهجري واحدا وثلاثين يوماً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الشهر هكذا وهكذا وهكذا أو هكذا" يعني الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين يوما، ولا يمكن أن يكون الشهر الهجري ثمانية وعشرين ولا أن يكون واحد وثلاثين يوما فهذا الذي ذهب إلى الباكستان إذا قلنا له صم مع الباكستان معنا هذا كأننا قلنا الشهر الهجري يمكن أن يكون واحدا وثلاثين يوما، وهذا الذي ذهب إلى مصر إذا قلنا له صم مع مصر فمعنى ذلك كأننا قلنا إن الشهر الهجري يمكن أن يكون ثمانية وعشرين يوما، هذه هي المسألة التي بين أيدينا، ذهب الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين «وجمع من أهل العلم إلى أنه إذا انتقل من بلد إلى بلد أخر فإنه يتبع البلد الذي انتقل إليه فيصوم معهم ويفطر معهم حتى لو ترتب على ذلك أن يصوم واحد وثلاثين يوماً أو ثمانية وعشرين يوما فإذا أفطروا أفطر معهم وقد استدلوا على ذلك بعدد من الأدلة من أصرح هذه الأدلة ما رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وصححه النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون" فهذا الذي ذهب إلى الباكستان حكمه حكم الناس الذين هو معهم وهذا الحديث فوق أنه يدل على الحكم في هذه المسألة فإنه يدل على مسألة عظيمة جداً وهي أهمية اجتماع الكلمة بالنسبة للأمة الإسلامية حتى وإن ترتب على ذلك أن الإنسان قد يخالف حتى لو رأى هو الهلال ولم يؤخذ برؤيته فإنه يصوم مع الناس ويفطر مع الناس حتى لو أخطأ الناس ووقفوا بعرفة في اليوم العاشر أو في اليوم الثامن فإن حجهم صحيح وهذا يدل على أهمية جمع الكلمة في الإسلام وألا يشذ الإنسان أو يخرج عن الناس هذا هو الدليل الأول.

وأيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته هذا الذي ذهب إلى الباكستان الأصل أنه يصوم لرؤية الهلال ويفطر لرؤية الهلال ويكون تابعا للبلد الذي ذهب إليه لو رئي هلال العيد قلنا له: إن غداً هو واحد من شوال ولا يجوز لك أن تصوم هذا اليوم فإن صيام يوم العيد مما قام الإجماع على تحريمه والنبي صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وقد رئي وأفطروا لرؤيته وقد رئي وهذا من الأدلة الدالة على وجوب أن يكون مع الناس الذين أتى إليهم ومما استدل به أيضاً الشيخ محمد بن صالح العثيمين «في هذه المسألة، أن الإنسان لو افترضنا أنه صام في بريده أمسك في بريده، وفي بريده يؤذن المغرب الساعة السادسة مساءً فلما كان منتصف النهار ركب طائرة وذهب إلى المغرب وفي المغرب ما تغرب الشمس إلا الساعة الثامنة فهل يفطر إذا كانت الساعة السادسة تبعاً لبريده التي أمسك فيها أم أنه ينتظر حتى تغرب الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " فكما أن هذا اليوم زاد لأنه انتقل من بلد إلى بلد فكذلك الشهر يزيد لأنه انتقل من بلد إلى بلد فلو ترتب على ذلك أن يصوم واحداً وثلاثين يوماً فنقول له صم ولو وصلت إلى واحد وثلاثين يوماً لأنك أتيت إلى بلد آخر فأنت كما إذا أمسكت في بلد وانتقلت إلى بلد آخر، فإذا صام واحداً وثلاثين يوماً فلا إشكال في ذلك لما سبق لكن الإشكال هو في المسألة الثانية وهي ما إذا انتقل من هنا إلى مصر، ومصر قد أمسكت قبلنا بيوم وأفطرت قبلنا بيوم تسعة وعشرين يوما وبالتالي إذا أفطر معهم فمعنى ذلك أنه لن يصوم إلا ثمانية وعشرين يوماً والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشهر لا يكون أقل من تسعة وعشرين يوماً فنقول له أولاً أفطر معهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وأنت ومن كنت في البلد الذي أتيت إليه قد رأوا الهلال فيجب أن تفطروا هذا الحكم الأول , فيتبعهم وإن لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوماً. الحكم الثاني. باعتبار أن الشهر لا يمكن أن يكون أقل من تسعة وعشرين يوماً نقول إن هذا كما لو حصل خطأ في أول الشهر فأكملوا العدة بسبب الغيم ثم تبين الهلال في آخر الشهر ليلة تسع وعشرين فنقول هذا مثله, فعليه أن يقضي يوماً مكان هذا اليوم الذي نقص من شهره فإذا أفطر للعيد بعد ذلك يكون عليه يوم من رمضان يقضيه. النازلة الثالثة والعشرون: وهي السفر بالطائرة ونحوها بعد مغيب الشمس أو قبله. وهذه عبارة عن مسألتين: المسألة الأولى: أن تغرب الشمس على الإنسان في بلده ثم يفطر ثم يركب الطائرة فتطلع عليه الشمس فما الحكم بالنسبة له؟ الحكم بالنسبة له أنه صام بدليل شرعي {ثم أتموا الصيام إلى الليل} وأفطر بدليل شرعي وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" فهذا قد أفطر بيقين وبدليل شرعي وبالتالي فرؤيته للشمس بعد ذلك لا تضر ولا يجب عليه الإمساك مرة أخرى فهو كما لو غربت الشمس ثم صعد على جبل مثلا ورأى الشمس مرة أخرى فهذا لا يؤثر لأنه تم له هذا اليوم وهو تماماً مثل لو أن الإنسان كان في الصحراء وفاقدا للماء ثم تيمم وصلى وبعد الصلاة جاءت سيارة معها ماء هل نقول يعيد صلاته مرة أخرى؟ نقول: لا، الصلاة صحت لأنه أداها بدليل شرعي وهو التيمم عند فقد الماء فكونه يزول العذر بعد ذلك لا يؤثر، وبالتالي فلا يجب عليه الإمساك. المسألة الثانية:

أن يسافر الصائم قبيل غروب الشمس في بلده بزمن يسير إلى جهة المغرب فيتأخر غروب الشمس بالنسبة له كما إذا كانت الشمس تغرب في بلده الساعة السادسة مساءً وقبيل السادسة بعشر دقائق ركب الطائرة مسافراً إلى المغرب فكل ما مشى في هذا الطريق كلما طال النهار فالشمس ما تغرب في المغرب إلا الساعة الثامنة فبقي ساعة أو ساعتين والشمس طالعة فما نقول له؟ نقول: لا يفطر حتى تغرب الشمس حتى لو زاد عليه ساعتان أو أربع أو خمس أو أكثر فهو بالخيار إما أن يأخذ حكم المسافر فيفطر ترخصاً وإما أن يمسك إذا أراد لصومه أن يتم لأن القرآن جعل للفطر حداً {ثم أتموا الصيام إلى الليل} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " فما لم تغرب الشمس فإنه لم ينته اليوم بالنسبة لهذا الإنسان وبالتالي فإنه يجب عليه أن يمسك حتى تغرب الشمس أو يترخص رخصة السفر فيفطر ويقضي يوماً مكانه. هذه هي آخر النوازل التي يسر الله سبحانه وتعالى الإتيان عليها. وقبل أن أختم حديثي في هذه النوازل أنبه على أن أفضل ماكتب في هذه النوازل مايلي: مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي العدد العاشر الجزء الثاني. مفطرات الصيام المعاصرة للدكتور أحمد بن محمد الخليل الاستاذ المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم. بالإضافة إلى الفتاوى المنثورة لأهل العلم في كتبهم وفي مواقع الشبكة المعلوماتية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. المصدر: الإسلام اليوم

انتقاد "القول التمام "

انتقاد "القول التمام " د. إبراهيم بن عبد الله الحماد الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده. وبعدُ: فهذا عرضٌ وجيزٌ لبعض ما اشتمل عليه كتاب "القول التمام بإثبات التفويض مذهبًا للسلَف الكرام" من أخطاء وتلبيسات ومغالَطات: 1 - كشفت تقريظات بعض المشايخ والدعاة لهذا الكتاب أن الدعوى العريضة التي يدَّعيها بعضهم في الحِرْص على وَحْدة المسلمين، واجتماع كلمتهم، والبُعْد عما يفَرِّق بينهم؛ خاصة عند الحديث عن مسائل العقيدة - هي دعوى لم تأخذْ حظَّها في التطبيق هنا، وأنَّ المناداة بذلك إنَّما تكون عندما يكون الكتاب المنشور مقررًا للعقيدة الصحيحة على منهج السلف الصالح. 2 - عنوان الكتاب فيه تلبيس من جهتَيْن: أ- فظاهره لا يمنع أن يكون هناك مذهبٌ آخر للسلَف غير التفويض -حتى على فرض أنَّ التفويض هو تفويض المعنى -وهذا ما نقله الكاتبُ عن البعض؛ بل قرَّره هو في بعض المواضع. ب - عدم التصريح بأيِّ أنواع التفويض هو مذهب السلَف. 3 - يُقَرِّر الكتاب أن مذهبَ السلَف الحقيقي هو تفويض المعنى، لا تفويض العلم بالكيفية، وأن القول بأن مذهب السلف هو تفويض العلم بالكيفية، لَم يقلْ به إلا قلة من أهل العلم؛ كابن تيميَّة، وابن القَيِّم. 4 - يؤكِّد الكاتبُ أنَّ المراد بأهل السُّنَّة عند الإطلاق: يدخُل فيه أهلُ الحديث، والأشاعرة، والماتريدية، وهذه من المتناقِضات. 5 - يجزم الكاتبُ في كتابه بأنَّ ظاهِر بعض الصِّفات - كاليد، والوجْه، والعين، بل والعلو -يوهم النقْص، فيجب فيه تفويض المعنى مع عدم اعتقاد ظاهره، وأن هذا مجمع عليه بين السلَف. 6 - يستدلُّ الكاتبُ بالنصوص التي جاءت عن السلَف بمنْع التفسير لنصوص الصفات على أن المراد بها عدم التعرُّض للمعنى، مع أنَّ المراد بها عندهم منْع التأويل الباطل المذموم. 7 - التلبيس في المصطلحات: أ- كدعوى التفريق بين الحقائق والكيفيَّات. ب- ودعوى عدم التفريق بين المماثلة والمشابَهة. ج - ودعوى التفريق بين المفهوم ومصاديق المفهوم. 8 - يجزم الكاتب بأن ظاهر بعض الصفات لا يعرف من معانيها إلا ما هو مشاهد في المخلوق؛ كاليد، والنزول، ومَن قال بوجود معنى غير ذلك، فهو مكابر عنده. 9 - تقسيم الصفات تقسيمًا لا يعرف عند السلف، ومِن ثَمَّ يَبْنِي عليه ما يُريد إثباته من القول بوجوب تفويض المعنى أو التأويل. 10 - عدم التفريق بين اللفظ المطلق، واللفظ المقيد، والمعنى المشترك الكلي، والمعنى المقيد في الصفات، التي يزعم بأن ظاهرها يوهم التشبيه؛ كاليد، والعين، والوَجْه، بينما يفرِّق بين تلك الأمور في الصفات التي يرى أنَّ ظاهرها لا يوهم التشبيه؛ كالسمع، والبصر، والعلم. 11 - يدَّعي الكاتبُ الاحتكام إلى قوانين اللغة، ثم ينقل من كتب اللغة ما يؤيِّد قوله فقط، ويترك ما لا يدل على قوله، كما فعلَه في عدم التفريق بين المماثلة والمشابهة، وكذا تعريف الجسم والحدّ. 12 - لا يُفَرِّق الكاتبُ بين القول بأن نفي صفات النقص ابتداءً ليس من طريقة القرآن ولا منهج السلف، وبين نفيهم النقص عن الله في معرض التنزيه، ويرى أنَّ مَن فرَّق بينهما فهو متناقِض، فلا مانع عنده أن يقال عن الله ابتداءً: ليس بمجنون، ولا غبي، ولا بخيل، ولا كذاب، ونحو ذلك، وبين نفْيه عنه في معرض تنْزيه عما يصفه الظالِمون المعانِدون.

13 - أكثر الكاتب مرارًا أنَّ مذهب السلَف قاطبة هو نفي الجسم عن الله، ثم ينقل عبارات من هو معدود من السلف في باب الصفات، ومن عنده اضطراب ظاهر ويجعلها في سياق واحد، وهذا تلبيس؛ إذ إن المُراد من نفي الجسم من السلف نفي التشبيه، بينما مرادُ من نفى الجسم من غيرهم هو نفي الصفات، وهذا ظاهر في سياق النصوص التي نقلها. 14 - ينقل النصوص الحاكية لإجماع السلَف، ثم يتصرَّف في بيان المراد بهذا الإجماع؛ ليُدَلِّل على ما ذهب إليه، مثل نقله حكاية الإجماع على أن تفويض المعنى هو مذهب السلف. 15 - ينافح الكاتب كثيرًا عن المؤوِّلة ومذْهب التأويل، ويرى بأنه منهج لا ينبغي ذمُّه؛ لأنَّ له ما يؤيده من مجازات اللُّغة. 16 - عقَد الكاتبُ الفصل الثالث من كتابه لبيان أقوال أهل العلم في تقرير مذهب السلف، ثم ساق 111 قولاً لِمَن هو معدود من السلف في باب الصفات، ولمن عرف عنه الاضطراب في هذا الباب، بل وفي غيره من أبواب الاعتقاد، وجعل ذلك كله دليلاً على أنَّ مذهب السلف هو تفويض المعنى، والنصوص التي ساقها عن السلف المعتبرين في ذلك لا تساعده، عند التحقيق والنظر. 17 - وجَّه الكاتبُ مقالة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - والتي تهدم مذهبي تفويض المعنى والتأويل توجيهًا لا يساعده فيه سياق ولا لغة، فقال إنَّ المراد بقوله: "غير مجهول": يعني: وروده في الشرْع. 18 - عدم التفْريق بين تفويض الكيفية، وتفويض العِلْم بالكيفيَّة، وبناء على هذا نفي الكَيْف عن صفات الله - عز وجل - وساقَ من نصوص بعض العلماء ما يزعم أنَّ المراد به نفي الكيفية عن صفات الله، لا نفي العلْم بالكيفية، وهذا مِن أبطل الاستدلالات، وأبلغ الشناعات. 19 - بالغ الكاتبُ في التشنيع على مَن أثبت العلوَّ الحقيقي لله، وأبدل لفظ الحقيقي بالحسي؛ مبالَغة في التشنيع، ثم استدل على نفْيه عن الله بألفاظ مجمَلة، تحتمل معانٍ حقَّة وباطلة؛ كلفظ الحد والجِهة، وخص بالتشنيع في هذا المقام شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - وتوجيهه لكلام الإمام أحمد - رحمه الله - في إثبات لفْظ الحد، وفي ثنايا هذا التشنيع تشم رائحة التحامل والحط من قدْر شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - والقائلون بنفي العلو الحقيقي عن الله - سبحانه - يقفون حائرين عاجزين عن الإجابة تجاه ثلاثة أمور: أولها: الفطرة الخلقيَّة والضرورة الحسية التي يجدها كل إنسان في الاتجاه للعلو حال الشدة للمكروبين، وحال الرخاء للصالحين؛ إذ إنَّه أمرٌ عجزَ عن الإجابة عنْه أساطين المتكلمين وفحولهم، وهذه فطرة لا يُمكن لأحدٍ إنكارها. ثانيها: قوله - تعالى -: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، فهذا السياق القرآني لا يسعف المؤولة فيه أي أسلوب من أساليب العرَب لصَرْفه عن العلو الحقيقي. ثالثها: العُروج بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا يمكن القولُ فيه بغير العلو الحقيقيِّ، وإلاَّ كان مكابرةً للعقول السليمة الخالية من داء الهوى والمكابرة، فلا يقول أحدٌ هنا: إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - صعد إلى السماء حتى بلغ سِدرةَ المنتهى، ثم ما شاء الله مِن العُلى - إنَّ المراد: علو المُلْك والسلطان، فمُلك الله وسُلْطانه في كلِّ مكان، وليس فيما عرج إليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقط. 20 - جَاهَد الكاتب في التمويه بأنَّ نفيَ العلوِّ الحقيقي لا يستلزم نفيَ العُلوِّ المطلق، لكنَّه اعترف بعد ذلك أنَّ العلو المطلق عنده هو علوُّ الملك والسلطان، وهذا مِن غاية التلبيس والتدليس، وهل أنكر أحدٌ من الخلق ذلك العلوَّ؟!

21 - ما ذَكَره الكاتبُ في الفصل الذي عقدَه عن المراد بالتجسيم تهويلٌ، حَرَص من خلاله على بيانِ أنَّ إثبات شيءٍ من الصفات التي يزعم أنَّ ظاهرها يُفيدُ التشبيهَ هو نفسه التجسيم الذي ذمَّه العلماء، وحكموا على قائلِه بالكفر، وفي هذا من التلبيس والتمويه والمخادعة ما لا يَخْفَى، وما حكاه مِن كلام بعض العلماء في هذا الفصل يَنقضُه ما لَم ينقلْه عنهم ممَّا هو مسطَّر في كُتبهم، كنقلِه عن الإمام أحمد. 22 - يسوق الكاتبُ كلامَ ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه "دفع شبه التشبيه"؛ للتشنيع على مَن يُثبت الصفات على ظاهرها، وهو يعلم أنَّ ابن الجوزي - رحمه الله - مضطربٌ مذهبُه في الصِّفات، لكنَّه على سبيل التنفير من القول بتفويضِ العِلم بالكيفية يأتي بمثل هذه النقولات التي يعرف أدْنَى مَن له اطِّلاع على أقوال الأئمَّة المعتبرين في باب الصفات بُطلانَها. 23 - أجاب الكاتب عن الاعتراض الوارد على القوْل بتفويض المعنى "بأنَّه حينئذٍ نكون قد تعبَّدْنا بفَهْم ما لم نعلمْ معناه" - بجوابٍ لا يقبله عقل ولا نقل، فذَكَر أنَّ قولنا هو: أنَّ لنصوص الصفات معانيَ لا يعلمها إلاَّ الله، وهل في هذا جوابٌ عن ذلك الاعتراض؟! 24 - أثبتَ الكاتب أمرًا لم أرَ مَن سبقه إليه، حيث جعل لنصوص الصفات معنيَيْن، أحدهما: قطعي، وهو: المعنى العام، وآخر ظَني، وهو: المعنى الخاص، ثم مثَّل لذلك بصفتَي اليد والأصابع، وجاء فيهما بكلام حاصلُه التشنيعُ على مَن أثبت هاتين الصفتَينِ على ظاهرهما. 25 - يَنقُل عن ابن قُدامه -رحمه الله- القولَ بأنَّه لا حاجةَ لنا إلى عِلم معنى ما أراد الله - تعالى - مِن صفاته، ثم يحمل هذا الكلامَ على أنَّ المراد المعنى لا الحقيقة، وهذا من التلبيس، ولا يقوله مَن تأمَّل كلامَ ابن قدامه - رحمه الله - بتمامه. 26 - أراد الكاتبُ الجوابَ عن القوْل بأنَّ تفويض المعنى فيه تجهيلٌ للسلف، بإيرادِ بعض النصوص عن العُلماء التي تحثُّ على وجوب الإيمان بصِفات الله، وأنَّ ذلك هو المأمور به، وما سوى ذلك فهو تَكلُّف، ومِثلُ هذا لا يدفع عن ذلك المذهبِ الشنيع هذه الشُّبهة. 27 - جاهَدَ الكاتب في إثبات أنَّ القائلين بتفويض العِلم بالكيفية قالوا بالتأويل في بعضِ الصِّفات، وساق مثالَيْن على ذلك، هما نصوص صفة المعيَّة، وصفة الوجه، وساق لتقرير ذلك كلامَ الرازي - رحمه الله - ويَكفي للدلالة على التلبيس التعليقاتُ التي ساقَها على كلام الرازي في هذا الموضع؛ فإنَّه يريد أن يجعل كلامَ الرازي فقط موجَّهًا للقائلين بتفويض العِلم بالكيفية، لا تفويض المعنى. 28 - عَقَد الكاتب فصلاً مستقلاًّ عن سبب تأويل الخَلَف، والذي يظهر لي - والله أعلم - أنَّ هذا الفصل مِن أعظم مقاصد تأليف الكتاب؛ لأنَّ فيه دفاعًا عن القائلين بالتأويل من الأشاعرة والماتريديَّة على وجه الخصوص، وأنَّ مَن شنَّع عليهم في تأويلهم، فإنَّما هو لعدم معرفته بأمرين: أ- عدم معرفته بلُغة العرب. ب- عدم معرفته بمذهب الأشاعرة والماتريديَّة الذين ذَهبوا إلى التأويل، إذ هُم نَقلةُ اللِّسان العربي، ودليل ذلك مؤلَّفاتُهم في اللغة. ولا يَخفى ما في هذا الكلام من تضليل وتلبيس؛ لأنَّ الاعتذار عنهم بالأمر الأول: فيه تنقُّص لِمَن تَرَك التأويل من سَلَف الأمَّة، وأنهم على عدم معرفة بلُغة العرب. وأمَّا الثاني: فمما لا يُنكِرُه أحدٌ أنَّ من أئمَّة المعتزلة مَن يتفوَّق في تصنيفاته اللُّغويَّة على بعض المصنِّفين من الأشاعرة، فبراعة الزمخشري والقاضي عبد الجبار المعتزلي في اللُّغة لا تكون سببًا لقَبول ما ذهبوا إليه في تأويل النصوص.

29 - خَتَم الكاتبُ كتابَه في التعليق على مقالة: "مذهب السَّلف أسلمُ، ومذهب الخلف أعلم" ببيان أنَّها لا تعني الإزراءَ بالسَّلف والقَدْح فيهم، ونقل بعض النُّصوص التي يظنُّ أنَّها تؤيِّده في دفْع الشناعة عن هذه المقالة، كنقلِه عن ابن عاشور - رحمه الله - أنَّ المراد الطريقة لا أصحابها، وهذا لا يُغيِّر من الحقيقة شيئًا، فمَدْحُ طريقةَ الخلف بأعظمَ مِن مدْحِ طريقة السَّلف فيه تنقُّص للسلف، وهذا لا مِريةَ فيه. 30 - تلمَسُ في الكتاب تشنيعًا على بعض العلماء، بأنَّ فيهم ميلاً لقول المُجسِّمة؛ كحديثه عن الإمام الدارمي، والشيخ محمد خليل هراس - رحمهما الله - وكذا ما نقله عن محمد عياش الكبيسي مِن نَقْدٍ لكلام الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - والشيخ صالح الفوزان - حفظه الله. 31 - في ظنِّي أنَّ هذا الكتاب جزءٌ من سلسلة الهجمة على العقيدة السلفيَّة الصحيحة، وتَبعٌ لكتابات المشنِّعين عليها من خلال اختيار عناوين للكتب يُشعِر ظاهرُها بالدفاع عن عقيدة السلف، بينما هي مشحونةٌ في داخلها بالطَّعْن على مذهب السلف، من أمثال كتاب "الصفات الخبرية عند أهل السنة" لمحمد الكبيسي، والذي يُعتبر كتاب سيف العصري تَكرارًا لكثير مما جاء فيه. تنبيه مهم: 1 - احتفَى الكاتبُ كثيرًا بكلام الرازي - رحمه الله - ونَقَل عنه في مواضعَ متعدِّدةٍ في معرض التقرير والاستشهاد والتأييد، مع ما عُرِف عن الرازي - رحمه الله - مِن شدَّة الاضطراب في هذا الباب على وجه الخُصوص، اضطرابًا جَعَله يعترف أنَّ مناهج المتكلِّمين في هذا الباب - بل وغيره - لا تَرْوي غليلاً، ولا تَشفي عليلاً، ومِن أعجب تلك المواضع التي نَقَل فيه الكاتب عن الرازي على وجه التأييد: النَّقلُ في تفسير قوله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، حيث نَقَل عن الرازي - رحمه الله - كلامَه في تعقبه للإمام ابن خزيمة - رحمه الله - ووصفه له بالجاهل، وأنَّه من العوام، وأنَّ ما نقله في كتابه إنَّما هو خُرافات، وأن كتاب التوحيد لابن خزيمة - رحمه الله - هو في الحقيقة كِتابُ الشِّرْك، واكتفى الكاتبُ بالتعليق على هذه العبارات الشنيعة بقوله "أغلظ"، وقوله: "هذه مبالغة لا يُقَرُّ عليها"، وهل تَكفي مثلُ هذه العبارات لردِّ مِثْل تلك الشناعات؟! 2 - مِن أشدِّ الأمور غرابةً وعجبًا: أنَّ الكاتب نَقَل في هذا الموضع عن الرازي - رحمه الله - قوله: "اختلافُ الصِّفات والأعراضِ لا يوجِب اختلافَ الذوات، إذا عرفتَ هذا فنقول: الأجسامُ التي منها تألَّف وجه الكلب والقِرد مساويةٌ للأجسام التي تألَّف منها وجه الإنسان والفرس، وإنَّما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة، وهي الألوان والأشكال، والخشونة والملاسة، وحُصول الشُّعور فيه وعدم حصولها، فالاختلاف إنَّما وقع بسبب الاختلاف في الصِّفات والأعراض، فأمَّا ذوات الأجسام، فهي متماثلةٌ إلاَّ أنَّ العوامَّ لا يعرفون الفرْقَ بين الذوات وبين الصِّفات، فلا جَرمَ يقولون: إنَّ وجه الإنسان مخالِفٌ لوجه الحِمار، ولقد صَدَقوا، فإنَّه حصلتْ تلك بسبب الشكل واللَّوْن، وسائر الصفات، فأمَّا الأجسام من حيثُ إنَّها أجسام، فهي متماثلة متساوية" (27/ 145).

وأيَّده الكاتبُ، فقال - متعقِّبًا الإمام ابن خزيمة - رحمه الله - في إثباته صِفة الوجه لله: "لا يَشكُّ عاقل بأن وجهَ الإنسان والحيوان - أيًّا كان نوعُ هذا الحيوان - تتشابَه، من حيثُ إنَّها جميعًا أجسام، لها طُولٌ، وإن اختلف الطُّول من وجه إلى وجه، ولها عَرْض، وإن اختلف العَرْض من وجه إلى وجه، وهي شاغلةٌ لحَيِّز من الفراغ، وإن اختلف مِقدارُ الفراغ الذي يشغله وجهُ النملة عن وجه الفيل، وهكذا فمُقوِّمات الجسميَّة موجودة في كلٍّ، فهي متساويةٌ إذًا في الماهيات، وإن اختلفتِ في الصِّفات" (ص100 - 101). وهنا يبرز سؤالانِ هامَّان على هذا الكلام: الأول: هل المقصودُ من هذا الكلام القولُ بأنَّ ذوات جميع الأشياء متساوية؟ ومِن ثَمَّ يتم هدمُ قاعدة: القوْل في الصفات كالقول في الذَّات، كما هُدِمت قاعدة: القولُ في بعض الصِّفات كالقول في البعض الآخر. الثاني: لو قال قائل: إنَّ ذات رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي هي أطهرُ ذوات المخلوقين كذاتِ أنجس ذوات المخلوقات كالكَلْب والخنزير! أو قال: إنَّ الجسميَّة التي يُوصَف بها سيِّد الخَلْق - صلَّى الله عليه وسلَّم - هي نفسُ الجسميَّة التي يُوصَف بها الكلْب والحمار، فبِمَ يُحكَم على هذا القائل؟! حاشا رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن مثل هذه الهرطقات والسفسطات، وصَدَق الإمام أبو يوسف - رحمه الله - حينما قال: "العِلم بالكلام هو الجَهْل، والجهْل بالكلام هو العِلْم ". هذا بعضُ ما تيسَّر على عجلٍ من بيان ما اشتملَ عليه هذا الكتاب مِن أخطاء، وتلبيسات، ومغالطات. والله الموفِّق، والهادي للصواب. المصدر: موقع الألوكة

رسالة إلى أئمة المساجد بمناسبة شهر رمضان المبارك

رسالة إلى أئمة المساجد بمناسبة شهر رمضان المبارك الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان الحمد لله العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: فهذه رسالة سطرتها موجهة إلى من وفَّقه الله تعالى وتشرف بإمامة المصلين عموماً وفي هذا الشهر الفضيل خصوصاً، دوَّنت فيها ما رأيت أن الحاجة داعية إلى بيانه حسب ما سمعت وعلمت من الملاحظات التي ظهرت وتظهر على كثير من الأئمة في زماننا هذا، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله. أولاً: من شعائر شهر رمضان المبارك قراءة القرآن في صلاة التراويح، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (سنة باتفاق المسلمين، بل من جُلِّ مقصود التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله، فإن شهر رمضان فيه أنزل القرآن، وفيه كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن) (¬1). وعليه فينبغي للإمام ملاحظة ما يلي: - 1 - أن تكون قراءته سمحة لا تكلف فيها ولا تصنّع ولا تقليد؛ لأن النفوس تقبل القراءة السهلة وتستحليها؛ لموافقتها الطبع وعدم التكلف، أما ما يحتاج إلى شيء من ذلك فقد كرهه سلف هذه الأمة وعابوه. يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: (وأنصح كل مسلم قارئ لكتاب الله تعالى وبخاصة أئمة المساجد أن يكفوا عن المحاكاة والتقليد في كلام رب العالمين، فكلام الله أجل، وأعظم من أن يَجْلِبَ له القارئ ما لم يُطلب منه شرعاً، زائداً على تحسين الصوت حسب وسعه، لا حسب قدرته على التقليد والمحاكاة. وقد قال الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما أنا من المتكلفين) وليجتهد العبد في حضور القلب، وإصلاح النية، فيقرأ القرآن محسناً به صوته من غير تكلف، وليجتنب التكلف من الأنغام، والتقعر في القراءة، والممنوع من حرمة الأداء) (¬2). ولا بأس بقراءة الحدر، وهي إدراج القراءة مع مراعاة أحكامها، وسرعتها بما يوافق طبع القارئ ويَخِفُّ عليه. أما السرعة المفرطة، أو هذُّ القرآن كهذِّ الشعر، فإنه لا يتأتى معه تدبر بحال، وقد يصل ذلك إلى التحريم إذا كان فيه إخلال باللفظ؛ لأنه تغيير للقرآن. فإن كانت السرعة ليس فيها إخلال باللفظ بإسقاط بعض الحروف أو إدغام ما لا يصح إدغامه، فلا بأس بها؛ لأن من الناس من يسهل على لسانه لفظ القرآن. 2 - لقد أثنى الله تعالى على أهل الخشوع عند تلاوة كتابه، فقال تعالى: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) فبكاء الخوف والخشية مطلوب بلا تكلف، وهو لا يكون إلا بعد الخشوع، والخشوع: هو التذلل والتطامن، وهو يكون في القلب أو في البصر أو الصوت، قال النووي (البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين) (¬3). أما ما كان مستدعى متكلفاً فهو التباكي، والمحمود منه ما استُجْلبَ لرقة القلب، وخشية الله تعالى لا لقصد الرياء والسمعة، وعلامة المحمود في الغالب صلاح القلب، واستقامة الجوارح على الطاعة. وينبغي للإمام مغالبة نفسه بحيث لا يُسمع له صوت، ولا يُرى له دمع، لا أن يفرح بذلك بقصد إظهاره للناس، ونحن نحسن الظن بالأئمة، وحسب المسلم الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد عن مطرّف بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الِمْرجَلِ من البكاء (¬4). ¬

(¬1) الفتاوى: (23/ 122) (¬2) بدع القراء ص (55). (¬3) التبيان (ص 47). (¬4) رواه أبو داود (904)، والترمذي في " الشمائل " (316)،والنسائي (3/ 13)، وأحمد (26/ 238 - 239)، وإسناده صحيح. والأزيز: الصوت، والمرجل: القدر، فإنه عند غليان الماء فيه بالنار يخرج منه صوت.

ثانيا ً: السنة في صلاة التراويح أن تكون إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، لقول عائشة رضي الله عنها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً) (¬1). وفي رواية: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء -وهي التي يدعوها الناس: العتمة- إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة» (¬2). قال محمد بن نصر المروزي في بيان أفضلية ذلك: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صلاة الليل أجاب بأن صلاة الليل مثنى مثنى، فاخترنا ما اختار هو لأمته، وأجزنا فِعْلَ من اقتدى به ففعل مثل فعله، إذ لم يُرو عنه نَهيٌ عن ذلك، بل قد روي عنه أنه قال: «مَن شَاءَ فَليُوتِر بِخَمسٍ ومن شاء فيوتر بثلاث، ومن شاء فيوتر بواحدة ... » (¬3). وظاهر حديثها الأول أنه يصلي الأربع بتسليم واحد، لكنه ليس بصريح في ذلك، بل يحتمل أنه يصليها مفصولة، لقولها -كما تقدم-: «يُسلِّم من كل ركعتين». وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة (¬4)، وقد تكون الركعتان الزائدتان على الإحدى عشرة ما كان يفتتح به صلاة الليل كما في حديث زيد بن خالد رضي الله عنه الذي ساقه مسلم بعد هذا الحديث، أو سنة العشاء (¬5) والله أعلم. وصح عن عمر رضي الله عنه أنه أمر تميماً الداري وأبي بن كعب أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة (¬6). وأما ما ورد أن الناس على عهد عمر رضي الله عنه كانوا يصلون ثلاثاً وعشرين (¬7)، فهو ضعيف لا تقوم به حجة، لوجوه ليس هذا محلها (¬8)، ولا متمسك فيه لمن ينتصر لهذا العدد. لكن من يفتي من أهل العلم بالثلاث والعشرين يستدل بما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صلاة الليل لم يحدد عدداً معيناً، مع أن المقام مقام بيان، وهذا الاستدلال لا بأس به، لكن الأفضل اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي داوم عليها، وعمل بها أصحابه من بعده، ومنهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أفهم منا لنصوص الشرع، وأكثر إدراكاً لمقاصده، فجمع الناس على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده وهو إحدى عشر ركعة، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، ولم يجتهد في استنباط ما زاد على هذا العدد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فالاستدلال على الإحدى عشرة بفعله صلى الله عليه وسلم أقوى من الاستدلال على الثلاث والعشرين بهذا الحديث أو غيره من العمومات. لكن من زاد على إحدى عشرة ركعة فهو مأجور إن شاء الله حسب نيته وقصده، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً. يقول ابن عبد البر: (قد أجمع العلماء على أنه لا حدَّ ولا شيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة، فمن شاء أطال فيها القيام وقلّت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود) (¬9) ¬

(¬1) رواه البخاري (1147)، ومسلم (738). (¬2) أخرجه مسلم (736). (¬3) "مختصر قيام الليل "ص (83). (¬4) رواه البخاري (1138) ومسلم (764). (¬5) انظر: فتح الباري (3 - 21) (¬6) رواه مالك (1/ 115) وسنده صحيح. (¬7) رواه مالك (1/ 110) والبيهقي (2/ 496) (¬8) انظر صلاة التراويح للألباني ص (48) (¬9) الاستذكار (5/ 244)

ثالثاً: ينبغي للإمام في صلاة التراويح أن يُعنى بصلاته، فيصلي صلاة الخاشعين يرتل القراءة، ويطمئن في الركوع والسجود، ويحذر من العجلة لئلا يخلَّ بالطمأنينة، ويُتعبَ مَنْ خلفه من الضعفاء، وكبار السن، ونحوهم. يقول السائب بن يزيد: (أمر عمر بن الخطاب أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر) (¬1). رابعاً: على الإمام في دعاء القنوت في رمضان مراعاة ثلاثة أمور: الأول: أن يحرص على الأدعية الواردة في الكتاب والسنة، وأن يجتنب السجع والتكلف، والدعاء المخترع، والتفاصيل الدقيقة التي تجعل الدعاء إلى الوعظ والترهيب أقرب، وإن دعا بما يناسب الأحوال العارضة كالاستغاثة وقت الجدب، أو الدعاء بنصرة المسلمين عند تسلط الأعداء فحسن. الثاني: ألا يطيل في دعاء القنوت إطالة تشق على المأمومين تؤدي إلى فتورهم وتسبب شكواهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما أطال في صلاة الفريضة (أفتان أنت يا معاذ؟) فكيف بالإطالة في دعاء القنوت، بل في أدعية مخترعة وأساليب مسجوعة؟! الثالث: أن يدعو الإمام بصوته المعتاد، فإنه أقرب إلى الإخلاص والتضرع، وأعظم في الأدب والتعظيم، وأدل على إحساس الداعي بقربه من ربه، وعليه أن يبتعد عن كل ما ينافي الضراعة والابتهال، أو يدعو إلى الرياء والإعجاب وتكثير المصلين خلفه من التلحين والتطريب أو التمطيط أو تكلف البكاء ونحو ذلك مما ظهر على بعض الأئمة في هذا الزمان، والله المستعان. خامساً: على الإمام أن يختار الجوامع من الأدعية، لقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك» (¬2). وإن بدأه بحمد الله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو أولى (¬3)، لحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يُمَجِّد الله تعالى، ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَّلَ هَذَا» ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَليَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ ربِّهِ جَلَّ وعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» (¬4). ¬

(¬1) رواه مالك في الموطأ (1/ 115) وسنده صحيح، وفروع جمع فرع وهو أعلى الشيء، يعني بذلك أنهم لا يقضون صلاتهم لطول القيام إلا قرب الفجر. (¬2) أخرجه أبو داود (12/ 14)، وأحمد (6/ 148)، والطبراني في "الدعاء" (50)، والحاكم (1/ 539)، من طريق الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، عن عائشة رضي الله عنها به، وهذا سند صحيح، الأسود من رجال مسلم، وأبو نوفل من رجالهما. (¬3) انظر: "الوابل الصيب" ص (115). (¬4) أخرجه أبو داود (1481)، والترمذي (3477)، والنسائي (3/ 44)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

واعلم أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر، والقنوت أمر ظاهر، لأنه دعاء ورفع يدين، فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله دائماً أو غالباً لنقله مَن كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم كعائشة رضي الله عنها، والله أعلم. وإنما أُخذت سُنية القنوت من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنه الدعاء المأثور: «اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيكَ، إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيتَ» (¬1)، -على القول بثبوت لفظة: «قنوت الوتر» - قال الحافظ في "التلخيص": "قال الخلال عن أحمد: لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ولكن عمر كان يقنت" (¬2)، وقال الإمام ابن خزيمة: "ولست أحفظ خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر ... " (¬3)،وقد ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقنتون، فقد ورد عن عطاء، وقد سئل عن القنوت، قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلونه (¬4). وكان ابن عمر لا يقنت إلا في النصف الآخر من رمضان (¬5).وقال الإمام الزهري: لا قنوت في السنة كلها إلا في النصف الآخر من رمضان (¬6). وقال الإمام أبو داود: قلت لأحمد: القنوت في الوتر السنة كلها؟ قال: إن شاء، قلت فما تختار؟ قال أما أنا فلا أقنت إلا في النصف الباقي، إلا أن أصلي خلف الإمام فيقنت، فأقنت معه (¬7). وعلى هذا فمداومة أئمة المساجد على القنوت في رمضان بحيث لا يتركونه إلا قليلاً يحتاج إلى دليل. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، وليس عنده: «ولا يعز من عاديت» والنسائي (3/ 248)، وابن ماجه (1178)، وأحمد (3/ 247)، والحاكم (3/ 172)، والبيهقي (2/ 209)، كلهم من طريق أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء، عن الحسن به، ورواه أحمد -أيضاً- (3/ 245) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن بُريد ... بمثله، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .... ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئاً أحسن من هذا "وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وصححه النووي في "الخلاصة" (1/ 455)، والألباني في "الإرواء" (2/ 172)، لكن طعن بعض الحفاظ كابن خزيمة في لفظة: «في قنوت الوتر» وذلك لأن شعبة رواه عن بُريد بن أبي مريم كما في "المسند" (3/ 248 - 249) ولم يذكر القنوت ولا الوتر، ولفظه: «كان يعلمنا هذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت ... »، وشعبة أوثق من كل من رواه عن بُريد، كأبي إسحاق وابنه يونس، وعلى قاعدة المحققين في زيادة الثقة يحكم على هذه اللفظة بالشذوذ، ولا يكون هذا الدعاء مختصاً بالقنوت. انظر: "صحيح ابن خزيمة" (2/ 152 - 153)، "التلخيص" (1/ 264). (¬2) "التلخيص الحبير" (2/ 19). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 151). (¬4) مختصر قيام الليل ص (289) (¬5) رواه ابن أبي شيبه (2/ 305) وانظر مختصر قيام الليل ص 289 (¬6) رواه عبد الرزاق (3/ 121) (¬7) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص (66)

سادساً: لم يثبت في مشروعية دعاء الختم في آخر رمضان شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، وأفضل العبادات - كما يقول ابن تيمية - ما وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه (¬1). وليس مع من استحبه دليل يذكر سوى أنه من عمل أهل المصرين: مكة، والبصرة، والسنة لا تثبت بمثل ذلك، لا سيما أنه منقطع عن عصر الصحابة رضي الله عنهم، وتوارث العمل إنما يكون في موطن الحجة حيث يتصل بعصر التشريع، فإن لم يكن كذلك فلا. ورحم الله الإمام مالكاً وهو عالم المدينة في زمانه حيث قال: (ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس) (¬2). وقد اشتهرت هذه المسألة عند الحنابلة في روايات عن الإمام أحمد ذكرتها كتب المذهب، وقد جاء في رواية حنبل قال: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن إذا فرغت من قراءة (قل أعوذ برب الناس) فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه. وهذا دليل على أنه لو كان عند الإمام أحمد رحمه الله سنة ماضية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو متصلة إلى بعض الصحابة رضي الله عنهم لاعتمدها في الدلالة، وهو رحمه الله من أرباب الإحاطة في الرواية (¬3). ويعجبني في هذا المقام كلمة قيّمة لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: (وليس لأحد أن يحتج بقول احد في مسائل النزاع وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة لشرعية لا بأقوال بعض العلماء فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول يجب الإيمان به وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره والشاهد على غيره لا يكون حاكما والناقل المجرد يكون حاكيا لا مفتيا) (¬4). ثم إنه قد تقرر في قواعد الأصوليين في التروك النبوية: أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال يكون تركه حجة إذا وجد السبب المقتضي لهذا الفعل وانتفى المانع، وهذا أصل عظيم، وقاعدة جلية به تحفظ أحكام الشريعة، ويوصد به باب الابتداع في الدين (¬5). وقد ترتب على هذه الختمة أمور:- 1 - الإطالة على المأمومين بدعاء متكلف مسجوع غير مأثور، يشغل نحو ساعة من الزمن، يُقرأ بصوت التلاوة وأدائها. 2 - البكاء والنشيج وإسبال العبرات، مع أن قوارع التنزيل وآيات الذكر الحكيم تتلى في ليالي الشهر، بل على ممر العام، ولا تكاد تسمع ناشجاً، ولا نابساً ببكاء من مأموم وإمام، والله تعالى يقول (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ... ) (¬6). 3 - عناية الناس بهذه الختمة والاهتمام بها إلى حد تتبّع المساجد لطلبها، ولا سيما النساء حتى إن منهن من تسأل عن حكم تأخير دورتها الشهرية عن موعدها حرصاً على حضور الختمة وعدم فواتها. فالله المستعان. ¬

(¬1) الفتاوى (24/ 321 - 323) (¬2) المعيار المعرب (11/ 114) المدخل لابن الحاج (2/ 299) (¬3) مرويات دعاء ختم القرآن لبكر أبو زيد ص 66. (¬4) مجموع الفتاوى (26/ 202 - 203) (¬5) معالم أصول الفقه ص (129) (¬6) مرويات دعاء ختم القرآن ص (69)

سابعاًً: ظهر في هذا الزمان مكبرات الصوت، وهي من نعم الله تعالى على عباده، لما فيها من المصالح العظيمة، من تبليغ الأذان، وخطبة الجمعة، والعيدين، وغير ذلك، وليست من البدع -كما قد يظن بعض الناس- لأن البدعة هي الطريقة المحدثة في الدين مضاهاة للشريعة الإسلامية، واستعمال المكبرات لا يقصد به القربة ولا الزيادة في الثواب، وإنما المقصود تكبير الصوت حتى يسمعه من لا يسمع صوت المؤذن أو الخطيب، بل قد يكون قُربَة من القُرَب إذا احتيج إلى ذلك ((¬1)). ولا بأس باستعمال مكبر الصوت إذا احتاج الإمام إلى ذلك لسعة المسجد وكثرة المصلين، أما بدون حاجة فالأحسن تركه. ومن استعمله عليه مراعاة ما يلي:- 1 - أن يحذر من التشويش على المساجد والبيوت المجاورة، وهو يحصل بفتح الصوت على المكبرات في المنارة ولاسيما إذا كان أهل المساجد المجاورة ممن يصلون في رحبة المسجد وساحته فهؤلاء يكون إيذاؤهم أشد. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَلا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي القِرَاءَةِ» أو قال: «فِي الصَّلاةِ» (¬2). 2 - أن الإمام إنما يصلي بمن كان داخل المسجد، لا بمن كان خارجه، وحينئذٍ يكون إظهار الصوت من مكبرات المنارة عديم الفائدة (¬3). وهذا وصف ينبغي أن تُنَزَّهَ عنه الصلاة. 3 - أن بعض الأئمة يبالغ في القرب من لاقطة الصوت فيجعلها مقابل فمه، وهذا يؤدي إلى حركات كثيرة عند الركوع والسجود والقيام ليبتعد عنها، وهي حركات متوالية ليست الصلاة بحاجة إليها، وبإمكان الإمام وضع اللاقطة عن يمينه، ولن يؤثر هذا في الصوت ضعفاً. 4 - أنه ينبغي أن يكون صوت المكبِّر داخل المسجد بقدر المصلين، ومما يؤسف عليه أننا نرى كثيراً من المساجد رُفع فيها ميزان المكبر حتى أصبح يزعج المصلين، ويؤثر على متابعتهم لقراءة إمامهم وخشوعهم، والله المستعان. ¬

(¬1) انظر: "فتاوى ابن إبراهيم" (2/ 127)، "فتاوى ابن عثيمين" (13/ 91). (¬2) أخرجه أبو داود (1332)، والنسائي في "الكبرى" (7/ 288 - 289)، وأحمد (18/ 392 - 393)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وله شاهد من حديث البياضي، أخرجه مالك (1/ 80)، والنسائي في "الكبرى" (3/ 386)، وأحمد (31/ 363)، انظر: "التمهيد" (23/ 309)، " السلسلة الصحيحة " رقم (1597)، (1603). (¬3) انظر: "فتاوى ابن عثيمين" (13/ 74).

مسألة السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

مسألة السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة أماكن السيرة النبوية كغار حراء وجبل أحد وغيرهما علوي بن عبدالقادر السقاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية 8 شعبان 1430هـ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين أما بعد: فقد اختلط على كثير من الناس الفرق بين زيارة القبور والسفر إليها، ومن ذلك التفريق بين زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسفر إليه وهو ما يُعبر عنه بشد الرحال، فزيارة القبور قربة إلى الله عزَّ وجل ومأمور بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) أخرجه مسلم في صحيحه، وقبره صلى الله عليه وسلم وإن لم يثبت في فضل زيارته على وجه الخصوص حديثٌ صحيح ولا حسن بل كل ما ورد فيه ضعيفٌ جداً، أو موضوعٌ لا أصل له، إلا أنه يدخل دخولاً أولياً في الأحاديث العامة التي وردت في فضل زيارة القبور. إذا علمت ذلك فاعلم أن كثيراً من العلماء المتأخرين أجاز واستحب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل بعضهم أوجبه، لكن المتقدمين منهم وعلى رأسهم الصحابة والتابعون لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه فعله أو أباحه، وأصل الخلاف بين العلماء المتأخرين هو فهمهم لحديث: ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية عند مسلم ((لا تشدوا)). فالمجيزون قالوا: معنى الحديث لا تُشد الرحال إلى مسجد إلا هذه الثلاثة، وعليه يجوز الذهاب إلى أي بقعة كقبر ولي أو نبي، قربة إلى الله تعالى وشبَّهوا ذلك بالسفر من أجل طلب العلم أو أي أمرٍ من أمور الدنيا أو الآخرة. والمانعون قالوا: معنى الحديث لا تُشد الرحال إلى أي بقعة تقرباً إلى الله عز وجل إلا هذه المساجد الثلاثة، وحجتهم أنه إذا كانت المساجد وهي أفضل بقاع الأرض وهي بيوت الله وأحبها إلى الله لا يجوز السفر إليها فغيرها من الأماكن من باب أولى، أما بقية أنواع السفر سواء لطلب علم أو غير ذلك فهو ليس سفراً لذات المكان بل لتحصيل غرضٍ ما. ولا شك أن من تأمل القولين بعدلٍ وإنصاف ظهر له قوة حجة المانعين وصواب فهمهم للحديث، وإلا فعلى فهم المجيزين يكون السفر إلى مسجد قباء لا يجوز لأنه ليس من المساجد الثلاثة ولكن لو قدَّرنا أن هناك قبراً لأحد الصالحين بجوار مسجد قباء فإنه يجوز السفر إليه وهذا فهم لا يستقيم، ومما يؤيد ذلك فهم ابن عمر رضي الله عنهما، فعن قزعة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنه آتي الطور؟ فقال: (دع الطور ولا تأتها، وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وبعضهم قصر الجواز على قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم وليس معهم دليل. وزعم بعض الناس أنه لم يحرِّم ذلك أحدٌ من العلماء قبل شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة (728هـ)، وأنه لم يقلده أحدٌ إلا علماء نجد، وهذا اتهام باطل، فقد حرَّم السفر لزيارة القبور: من المالكية: الإمام مالك (ت:179هـ) والقاضي عياض (ت:544هـ) ومن الشافعية: أبو محمد الجويني (ت: 438هـ)، وابن الأثير صاحب جامع الأصول (ت:606هـ) ومن الحنابلة: ابن بطة العكبري (ت:387هـ) وابن عقيل (ت:513هـ) وغيرهم. قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (1/ 304): (وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي، فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته وإن أراد المسجد فليأته ثم ذكر الحديث: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه) اهـ وقال المناوي في شرحه للجامع الصغير (6/ 140): ( ... ما نقل عن مالك من منع شد الرحل لمجرد زيارة القبر من غير إرادة إتيان المسجد للصلاة فيه)

وقال ابن بطة في (الإبانة الصغرى) (ص 92): (ومن البدع البناء على القبور وتجصيصها وشد الرحل إلى زيارتها) اهـ وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (9/ 106): (واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المُطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره) اهـ وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (3/ 65) عند شرحه لحديث: ((لا تشد الرحال)): (قال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم شد الرحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة) اهـ وقال ابن قدامة في (المغني) (2/ 100): (فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) متفق عليه) اهـ وقال ابن الأثير في (جامع الأصول) (9/ 283) في شرح حديث ((لا تشد الرحال)): (هذا مثل قوله (لا تعمل المطي) وكنى به عن السير والنفر، والمراد: لا يقصد موضع من المواضع بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا إلى هذه الأماكن الثلاثة تعظيماً لشأنها وتشريفاً) أ. هـ وقال علامة حضرموت ومفتيها السيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف (ت:1300هـ) كما في كتابه (إدام القوت) (ص584): (نص إمام الحرمين - ومثله القاضي حسين - على تحريم السفر لزيارة القبور، واختاره القاضي عياض بن موسى بن عياش في (إكماله) وهو من أفضل متأخري المالكية. وقام وقعد في ذلك الشيخ الإمام ابن تيمية، وخَطَّأهُ قومٌ وصَوَّبَهُ آخرون، ومهما يكن من الأمر فَلْيَسَعَهُ ما وسع الجويني والقاضيين حسين وعياضاً، ولكنهم أفردوه باللوم! والقولُ واحدٌ. وقال مالك بن أنس: من نَذر المشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه كرهتُ ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). وقال ابن سريج - من كبار أصحاب الشافعي - إن الزيارة قربة تلزم بالنذر. والخطب يسير لم يُوَسِّعْهُ إلا الحسد والتعصب، وإلا فالتثريب في موضع الاختلاف ممنوع)) انتهى كلام السَّقَّاف. أما النووي وابن حجر وابن قدامة وغيرهم فقد قالوا بالجواز وقد تقدم أن كثيراً من المتأخرين قالوا بذلك لكن المقصود هنا هو توضيح أن هناك من قال بالتحريم قبل شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن لشهرته ومكانته وكذلك لتشنيع خصومه عليه وادعائهم أنه أول من قال بذلك اشتُهرت هذه المسألة عنه. وقال بالتحريم أيضاً بعد ابن تيمية عدد من العلماء من غير الديار النجدية، منهم: علامة اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت:1182هـ) قال في (سبل السلام) (3/ 394): (والحديث دليلٌ على فضيلة المساجد هذه ودلَّ بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة كزيارة الصالحين أحياءً وأمواتاً لقصد التقرب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها) اهـ

وعلامة الهند السيد صديق حسن خان الحسيني (ت:1307هـ) قال في شرحه لصحيح مسلم (5/ 113): (وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة ووقع في عصره صلى الله عليه وآله وسلم وقرره النبي عليه السلام فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه، ولم يقر أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره، ولم يشرِّعه لأحدٍ من أمته لا قولاً ولا فعلاً، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزور أهل البقيع وغيرهم من غير سفر ورحلة إلى قبورهم، فسنته التي لا غبار عليها ولا شنار فيها: هي زيارة القبور من دون اختيار سفر لها، لتذكر الآخرة) أ. هـ وعلامة العراق السيد نعمان بن محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (ت:1317هـ) قال في (جلاء العينين) (ص518) بعد أن انتصر لرأي ابن تيمية: (ونهاية الكلام في هذا المقام: أن شيخ الإسلام لم ينفرد بهذا القول الذى شُنِّع به عليه، بل ذهب إليه غيره من الأئمة الأعلام) فهؤلاء ليس فيهم نجديٌّ واحد. وقد أعرضت عن أدلة يستشهد بها الطرفان لكن لا تُسلَّم لهما، وأُسُّ الخلاف هو ما ذكرته. فمن أدلة المجيزين أحاديث فضل زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وكلها ضعيفة لا يصح منها شيء ولو صحت فهي خارج محل النزاع، ومنها ما يروونه من (أن بلالاً رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الشام في منامه وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟!، فانتبه حزيناً خائفا فركب راحلته وقصد المدينة) قال الحافظ ابن حجر: (هذه قصة بينة الوضع)، وغيرها. ومن أدلة المانعين التي أعرضت عنها أثر أبي بصرة الغفاري وإنكاره على أبي هريرة رضي الله عنهما ذهابه إلى الطور وقد تتبعت روايات هذا الأثر فوجدته ليس في محل النزاع، فذهاب أبي هريرة رضي الله عنه إنما كان لمسجد هناك ثم إنه وافق أبا بصرة بعد ذلك. أمَّا زيارة أماكن السيرة النبوية كغار حراء وجبل أحد وغيرهما بقصد التعبد والتقرب إلى الله تعالى فبدعة لا تجوز، ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل ذلك، ولم يُنقل عن أحدٍ من صحابته رضي الله عنهم أنه فعل ذلك وهم أعلم الناس بدين الله وأطوعهم إلى الله عز وجل، وفي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) متفق عليه. أما إن لم يكن على سبيل التعبد كأن يكون للاستعانة بزيارتها في فهم حوادث السيرة كالغزوات وغيرها كما يفعله بعض المربين والمعلمين فلا بأس بذلك، حيث إن الأصل في الأفعال على غير وجه التعبد الجواز وعلى وجه التعبد المنع، لكن يشترط لجواز زيارتها شروط، منها: 1 - ألا يلتزم بالزيارة في أوقات معينة وبصورة وهيئة معينة حتى لا تشبه العبادة. 2 - ألا يتعمد أداء عبادة عندها كصلاة أو ذكر أو دعاء أو قصد التبرك بها. 3 - أن يتمكن من إنكار المنكر من بدع أو شركيات - إن وُجِدت- بالضوابط الشرعية المعتبرة، فإن لم يستطع فعليه مغادرة المكان فذلك أضعف الإيمان. أما عدم ثبوت زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام لهذه الأماكن فإنه لا يدل على حرمتها فهذا إنما يقال فيما كان على وجه التعبد. لكن قد يقال: إن زيارة مثل هذه الأماكن ذريعة للشرك، فيجاب بأن مجرد الزيارة ليس ذريعة للشرك إلا إذا هُيِّئت هذه الأماكن بحيث تصبح أماكن زيارة وسياحة يأتيها الناس أفواجاً ويقصدونها قصداً فمثل هذا الفعل قد يؤدي إلى جعلها مزارات، فسدُّ هذا الباب متعيِّن، وهناك فرق بين هذا وذاك لمن تأمله. والله أعلم

الخطباء وأفكار المنبر

الخطباءُ وأفكارُ المنبر أحمد بن عبد المحسن العساف البحثُ عنْ فكرةٍ لخطبةِ الجمعةِ منْ التحدِّياتِ التي تواجهُ كلَّ خطيبٍ يرجو ما عندَ الله؛ لأنَّ الخطبةَ المؤثرةَ الباهرةَ تحتوي على عنصرينِ مهمَّين هما: الفكرةُ والبيانُ ويزينُهما الأداءُ الخطابيُ المتقن. وإذا ما تخلَّفتْ الفكرةُ فالخطبةُ مجرَّدُ كلامٍ لا يؤثرُ طويلاً، وقدْ تكونُ الفكرةُ حاضرةً لكنْ ينقصُها البيانُ العذبُ والكلماتُ الفخمة، وكمْ منْ حقٍّ ضاعَ بسوءِ التعبيرِ وكمْ كمْ منْ باطلٍ سرى بطلاوةِ الكلامِ وحلوِ الحديث. ولخطبةِ الجمعةِ مكانٌ سنيٌ في تاريخِنا وأثرٌ بهيٌ على المجتمعِ المسلمِ حتى شَرِقَ بها المنافقونَ على اختلافِهم وحاكوا لها الأكفانَ بدعواتِهم المشبوهةِ لتوحيدِ الخطبةِ أوْ تحديدِها أوْ جعلِها نشرةً محليةً لا يأبهُ لها أحد، إضافةً إلى ما يتعرَّضُ له الخطباءُ منْ رقابةٍ غليظةٍ ومحاسبةٍ دقيقةٍ منْ عدَّةِ جهاتٍ في عصرٍ يزعمُ كثيرٌ منْ أهلهِ أنَّه زمنُ حريةِ الرأيِ وتعدُّدِ وجهاتِ النَّظر. وقدْ كتبَ عددٌ منْ العلماءِ والفضلاءِ فيما يخصُّ تحضيرَ الخطبةِ أوْ إلقائَها وأثروا الساحةَ حتى يستفيدَ حديثُ العهدِ ويتجدَّدَ الخبير، وكتبُهم ومقالاتُهم مطبوعةٌ متداولةٌ إنْ ورقيةً أوْ حاسوبية، وأمَّا الدِّراساتُ المعتنيةُ بصناعةِ فكرةٍ للخطبةِ فنادرة؛ ولعل َّهمَّةَ أحدِ الخطباءِ المصاقعةِ ترِدُ هذا الرَّوضَ الأُنُف؛ فالفكرةُ عزيزةُ المنالِ صعبةُ البلوغِ ولا تتأتي لأيِّ أحدٍ بيسرٍ بلْ قدْ تتمنَّعُ على الفطاحلِ الكبارِ والأساطينِ العظامِ لا عنْ عجزٍ واستحالةٍ؛ وإنَّما لصعوبةِ الموقفِ وهولِ المطلعِ فارتقاءُ المنابرِ والخطابةُ أمورٌ تشيبُ منها المفارق. والفكرةُ إمَّا أنْ تكونَ جديدةً لمْ يُسبقْ إليها، وقدْ تكونُ قديمةً لكنَّها تُبعثُ بطريقةٍ إبداعيةٍ أوْ منْ وجهٍ لمْ يطرقهُ أحد؛ وكمْ تركَ الأولُ للآخر، والموفقُ مَنْ أعانهُ اللهُ ورزقهُ النّيةَ الصَّادقةَ الباعثةَ على الجدِّ والبحثِ والاستقصاء، لأنَّ الأفكارَ تُحدِثُ تغييراً في المجتمعِ ولا بدَّ منْ معرفةِ كيفيةِ الحصولِ عليها وبثِّها كمفهومٍ قابلٍ للانتشارِ والبقاء؛ وما أعظمَ الفرقَ بينَ فكرةٍ خالدةٍ وأخرى بائدة. ولصناعةِ فكرةٍ مناسبةٍ للمنبرِ عدَّةُ سُبُلٍ تنفعُ الخطيبَ والكاتبَ والمتحدِّثَ والمسوِّقَ ومصممي الإعلاناتِ وغيرِهم، وحديثُنا هنا مقصورٌ على الخطباء؛ وقدْ سبقَ كتابةُ مقالٍ للكتَّابِ بعنوانِ "صناعة الفكرة"، وهذا المقالُ عالةٌ عليهِ معْ بعضِ الزِّيادةِ والتطوير، ومنْ السبلِ المقترحةِ لصناعةِ فكرةٍ للخطبة: 1. التفكير: وهو أكبرُ مصنعٍ لها؛ وبواسطتهِ تتولَّدُ الأفكارُ منْ الطرقِ التي بعدَه، ومنهُ التفكيرُ بصيغةِ المستقبلِ حيثُ أنَّ رؤيةَ مستقبلٍ غيرَ مرغوبٍ فيهِ-مثلاً- تقودُ إلى إصلاحِ الحاضرِ والمستقبل؛ فوجودُ نسبةٍ عاليةٍ منْ البطالةِ بينَ الشبابِ تعني -تلقائياً- زيادةَ معدَّلِ الجريمة. ومنهُ التفكيرُ بصيغةِ "ماذا لو"؛ ومنْ الأمثلةِ على ذلكَ ماذا لوْ أنَّ المسلمينَ يحكمونَ العالم؟ ثمَّ يسردُ الخطيبُ وقائعَ تاريخيةً ثابتةً عنْ العدلِ الإسلامي الذي لمْ يحتجْ لمحكمةِ عدلٍ ولا هيئةِ أمم!

2. الملاحظةُ والتَّأمُّل: وهما فرعٌ منْ التفكيرِ وإنَّما خصصتُهما بالذِّكرِ لقربِهما وسهولةِ استخدامِهما؛ وكمْ منْ شيءٍ أوْ مشهدٍ يمرُّ بنا كثيراً ولو تدَّبرناه لظفرنا بفكرةٍ أوْ خاطرة. وقدْ حدَّثني أحدُ الأصدقاءِ أنَّ الشيخَ الفقيهَ عبدَ اللهِ بنَ قعودٍ-أنارَ اللهُ مرقدَه- قدْ خرجَ إلى البرِّ مستجماً فلمَّا عادَ وصعدَ منبرَه خطبَ عنْ عظيمِ قدرةِ اللهِ في الغيثِ والزرعِ. 3. النَّظرُ منْ زوايا مختلفةٍ للموضوعِ الواحد: فموضوعُ الزَّكاةِ -مثلاً- قدْ يوظفهُ إمامٌ للحديثِ عنْ مكانتِها، وآخرُ عنْ حكمِها، وثالثٌ يربطُها بالصَّلاة، ورابعٌ يُذَّكرُ بقتالِ المرتدِّينَ لأجلِها، وخامسٌ يوضحُ أثرَها في الماضي والحاضر، وسادسٌ يبينُ أحكامَ نوازلِها، وسابعٌ يقترحُ أفكاراً لمشروعاتٍ زكوية، وثامنٌ يقفُ على ما يعترضُها منْ مصاعب، وتاسعٌ يشرحُ أصنافَ الزَّكاة، وعاشرٌ يُصَّححُ الأخطاءَ في فهمِ وإخراجِ الزكاة. 4. الدُّخولُ منْ منافذَ غيرِ مألوفة: فوفاةُ الشيخِ ابنِ جبرين-أكرمَ اللهُ وفادَته- بابٌ للحديثِ عنْ ضرورةِ إحياءِ الجوامعِ التي كانتْ معاهدَ علمٍ وتربية، كما يمكنُ تحليلُ التفاعلِ الإعلامي معْ وفاةِ الشيخِ، ولثالثٍ أنْ يهتكَ سترَ أهلِ الضلالةِ وموقفَهم منْ الشيخِ حياً ومريضاً وميتاً، ولوْ أعملنا هذهِ الطريقةَ معْ شهرِ رمضانَ الأغرِّ لانصرفَ أحدُ الخطباءِ عنْ ذكرِ فضائلهِ إلى التحذيرِ منْ مختطفيهِ ومنغصي قداسته. 5. الإنصات: فسماعُ أحاديثِ النَّاسِ منجمٌ للأفكار؛ والأمرُ في حقِّ الخطيبِ أعظمُ لأنَّهُ يعلِّمُ العامَّة ويسعى في رفعِ الظلمِ عنهم وأنَّى لهُ معرفةُ ما يحتاجهُ المستمعونَ بغيرِ إصغاء؟ 6. أحداثُ الساعة: وهيَ منْ أكثرِ المصادرِ استخداماً وأيسرِها، وما أكثرَ الأفكارِ في الأحداث؛ فمن نظرةٍ شرعيةٍ لأنفلونزا الخنازيرِ إلى موقفٍ واجبٍ معْ أهلِ فلسطينَ أوْ الإيغورِ وانتهاءً بمباركةِ القراراتِ الحكيمةِ الأخيرةِ لكسرِ شوكةِ الليبراليةِ في المملكة. 7. الحوارُ والمناقشة: وبخاصَّةٍ عندما يكونُ معْ شخصٍ مُلهِمٍ للأفكار؛ ومنْ أنفعِ الحواراتِ الحديثُ معْ التربويينَ وعلماءِ النَّفسِ والاجتماع، ومنْ أجلِّهِ الجلوسُ بينَ يدي عالمٍ جليلٍ دورياً للإفادةِ منه؛ وممَّا ذُكرَ في جدولِ أعمالِ الشيخِ ابنِ عثيمين-برَّدَ اللهُ مضجعَه- لقاءٌ دوريٌ معْ الخطباء. 8. استخدامُ الأفكارِ المتداولة: بإعادةِ إنتاجِها اختصاراً أوْ زيادةً أوْ تعقيباً وهذا منْ أسهلِ ما يكون، ومن الأولويةِ بمكانٍ استفادةُ الخطباءِ منْ بعضِهم عبرَ لقاءٍ متعاقبٍ أوْ منْ خلالِ المواقعِ المتخصصةِ مثل موقع "ملتقى الخطباء"، وقدْ نقلَ لي زميلٌ عنْ أحدِ الخطباءِ أنَّهُ يرسلُ خطبتَه إلكترونياً كلَّ أسبوع. 9. القراءة: وأعني القراءةَ بأنواعِها وفي جميعِ الفنون؛ وعبرَ الكتابِ أوْ الموقعِ أوْ المجلةِ أوْ الصَّحيفةِ أوْ النَّشرة، وحريٌ بالخطيبِ أنْ يكونَ قارئاً نهماً مطلِّعاً بصيراً ليزدادَ خيرُه وعطاؤه والأجرُ عندَ الله. 10. البحثُ في موضوعاتٍ خصبة: كالأسماءِ الحسنى والصِّفاتِ العُلى وسيرِ السلفِ الصَّالحِ والتاريخِ الإسلامي والأخلاقِ الكريمةِ والظواهرِ الاجتماعيةِ التي يجدرُ بالخطباءِ الحديثُ عنها كآثارِ العضلِ والعنوسةِ والطَّلاقِ والعنفِ والبطالة. وتبقى مسائلٌ لامناصَ منْ الإشارةِ العاجلةِ إليها وهي: • أهميةُ وضوحِ الفكرةِ حتى لا يعسرَ على المصلينَ التقاطُها. • الأفضلُ ألاَّ تتزاحمَ الأفكارُ في خطبةٍ واحدة، وأحسنُ الخطبِ ما اقتصرتْ على فكرةٍ واحدةٍ فقط. • اختيارُ التوقيتِ المناسبِ والمنبرِ الأنسبِ للخطبة، ففرقٌ بينَ قريةٍ ومدينةٍ وحاضرةٍ وبادية. • تدوينُ الأفكارِ كمشاريعَ لخطبٍ مستقبليةٍ حتى لا تضيع. • تلخيصُ فكرةِ كلِّ خطبةٍ معْ نهايتِها حتى ترسخ. • ألزمْ نفسكَ بأفكارٍ مبتكرةٍ للمناسباتِ المتكررة، وسلْ نفسك: هل هذه أفضلُ فكرةٍ يمكنُ الوصولُ إليها؟ • بعدَ ولادةِ الفكرةِ ينبغي التريثُ حتى تنضجَ على نارٍ هادئةٍ منْ الفكرِ المستنيرِ المتزنِ قبلَ نشرِها. وإذا فرغنا منْ صناعةِ الفكرةِ فلا مفرَّ منْ صياغتِها على الوجهِ الذي يجلو البهاءَ ويبينُ المحاسن؛ وإلقائِها بطريقةٍ تأخذُ بمجامعِ النَّفس، وإنَّ الصياغةَ والإلقاءَ منْ القضايا التي يعتني بها الخطباءُ حتى تكونَ كلماتُ الخطبةِ وطريقةُ أدائِها ممَّا يعينُ على انتشارِ فكرتِها وبقائِها حيةً في نفوسِ المستمعين؛ فالخطبةُ مجموعةُ كلماتٍ تُؤدى بنمطٍ ما؛ ونحنُ بالكلمةِ الصَّادقةِ والأداءِ الرَّفيعِ والفكرةِ الجذَّابةِ والرُّؤى العمليةِ نواجهُ الطوفانَ الذي يجتاحُ بلادَ المسلمينَ غيرَ آبهٍ بمصلحةِ دنيا أوْ صلاحِ آخرة. المصدر: موقع صيد الفوائد

النشيد الراحل والغناء الحاضر

النشيد الراحل والغناء الحاضر د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض.] قد لا يُستغرب أن يكون التصوف مورداً لغناء المجون والفجور؛ إذ قد شهد بذلك من عاينَ مجالس الصوفية، وتحلَّى بطرقها، كما اعترف زكي مبارك قائلاً: «قد لاحظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحياناً إلى مجالس فنية، فهي مجالس تُعقد ظاهراً لذكر الله، والغرض منها الغناء .. وكانت مجالس الذكر مدرسة لتخريج المغنين .. فالصوفية تفرَّدوا بين رجال الدين بالتشيُّع للموسيقا والغناء، فأقبلوا على الغناء، وتفرَّدت الطريقة المولوية باستجازة العزف على الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها أثناء مجالس الذكر» (¬1). ولا عجب أن الروافض يعوِّلون على تأجيج العواطف الرعناء وتحريك مشاعر البكاء والعويل؛ فدين القوم أكاذيب في المنقول، وحماقات في المعقول؛ فلا يمكن أن يروج الكذب والشطح إلا بامتطاء هذه العاطفة الهوجاء، والمشاعر العوجاء، والعارية من الدليل والبرهان .. وهذا ما أوصى به خامنئي شيعته - بمناسبة عاشوراء عام 1426هـ - قائلاً: «إن مجالس العزاء (¬2) مستمرة إلى يومنا هذا، ولا بد من أن تستمر إلى الأبد؛ لأجل استقطاب العواطف؛ فمن خلال أجواء العاطفة والمحبة والشفقة يمكن أن تُفهم كثير من الحقائق» (¬3)! لكن العجب أن يضاهي أولئك ويسلك سبيلهم طوائف من متسننة هذا العصر؛ فما كان يُسمَّى إنشاداً - في الماضي القريب - قد أضحى غناءً ومجوناً .. فالترخُّص المُفْرِط في النشيد أفضى إلى الافتتان بالمؤثرات الصوتية، والولع بمعالجة الأصوات وَفْق تقنيات الحاسوب، والهيام بالآهات والترنُّمات .. ! فهذا الركام المتتابع من الانفلات أوقع ولوغاً في غناء الفجور، وسماع المعازف، فانحدر بعض المنشدين إلى خمر النفوس ورقية الزنى والمجاهرة باستعمال ألحان وموسيقى المجون .. بل تفوَّه أحد المنحدرين بأن إظهار الموسيقى هو مقتضى الصراحة! وهكذا البدع والانحرافات تبدأ شبراً، ثم تكون ذراعاً، ثم تصير باعاً، فأميالاً وفراسخ .. وكما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل» (¬4). ومن المعلوم أن البقل ينبت في الأرض شيئاً فشيئاً لا يحسّ الناس بنباته (¬5). وهذه الأناشيد الموسيقية تحرِّك الشهوات الكامنة في النفس، وتثيرها تلك الأصوات والمعازف «فالنغمات المرتبة على النسب التلحينية هو المؤثر في الطباع فيهيجها إلى ما يناسبها، وهي الحركات على اختلافها» (¬6). فالأصوات الملحّنة تهيِّج وتحرِّك من كل قلب ما فيه من محبة مطلقة لا تختص بأهل الإيمان، «وكل إناء بالذي فيه ينضح»، فقد تحرِّك محبة الله تعالى، أو محبة الأوثان، والصلبان، والأوطان، والنسوان .. (¬7). كما أن هذه الأصوات المطربة يزداد أثرها وتعظم حركتها عند النسوان والصبيان والحيوان؛ لأنه ثوران الطباع، فيشترك فيه الإنسان والحيوان، وكلما ضعف العقل قويت حركة النفوس وتواجدها فرحاً أو حزناً .. لكنها حركة ووجد بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير (¬8). ¬

(¬1) التصوف الإسلامي، 193 - 195؛ بتصرف. (¬2) يعني: حماقات أتباعه من النحيب وضرب الصدور وإسالة الدماء .. (¬3) موقع علي الخامنئي مركز العهد الثقافي بدمشق 4/ 2/2006م. (¬4) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى، 2/ 704. (¬5) انظر: الاستقامة لابن تيمية 1/ 393، وإغاثة اللهفان 1/ 374، ومدارج السالكين 1/ 497. (¬6) الاعتصام للشاطبي 1/ 280. (¬7) انظر: العبودية لابن تيمية ص 71، والاستقامة 1/ 261. (¬8) انظر: الاستقامة 1/ 306، 373. ومجموع الفتاوى 2/ 242، 10/ 76. والاعتصام 1/ 280.

قال ابن تيمية: «وأما التحرك بمجرد الصوت فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه، ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك، بل يعدُّون ذلك من قلة العقل، وضعف الرأي، كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة» (¬1). وتحاكي الأناشيدُ الحاضرة الغناء المعهود، بل تماثله مماثلة القُذَّة للقُذَّة، بحيث يتعذر على أرباب الإنشاد والمونتاج التفريق بينهما فضلاً عن غيرهم! فهذا النشيد الموسيقي والغناء: رضيعا لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عَوْضَ لا نتفرقُ ومع هذه المماثلة الظاهرة إلا أن بعضهم يصرُّ على تفريق موهوم بين إنشاده وغناء المجون، فليحذر من هذا التحايل البغيض والذي اتسع خرقه، وتتابع نقضه، فتلبَّس أصحابه بسماع الغناء الحرام مع المخادعة والاحتيال. قال أيوب السختياني: يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان. ولو أتى الأمر على وجهه لكان أهون عليّ (¬2). وها هو ابن القيم يحذِّر من التوثُّب على محارم الله - تعالى - باسم الحيل، فيقول: «فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تُبلى فيه السرائر، ويحصّل ما في الصدور .. هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون» (¬3). ويتعلَّل بعض المولعين بالنشيد المتهتك بأن أصل النشيد مباح، فهي أصوات بشر وشجر ونحوهما، وتم تركيبها ومعالجتها حسب تقنيات الحاسوب .. وهذا تعليل عليل؛ إذ العبرة بالحقائق، ومآلات الأمور، فقد استحال هذا النشيد إلى غناء ومعازف، كما لو استحال العنب إلى خمر، وهذه المعالجة الحاسوبية أوقعت في تلاعب بالأصوات وتغييرها من صوت بشر وشجر وماء .. إلى صوت معازف وموسيقى .. فهذا الغناء الحاضر مركب من تلك الأصوات بعد تعديلها ومعالجتها .. فالعبرة بالنتائج وعواقب الأشياء، كما قال ابن الجوزي: «ولما يئس إبليس أن يسمع من المتعبدين شيئاً من الأصوات المحرمة كالعود نظر إلى المعنى الحاصل بالعود فدرجه في ضمن الغناء بغير العود وحسَّنه لهم، وإنما مراده التدرج من شيء إلى شيء. والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج، وتأمَّل المقاصد» (¬4). وكما يُحكى عن إياس بن معاوية (ت 122هـ) أن رجلاً قال له: ما تقول في الماء؟ قال حلال. قال: والتمر؟ قال: حلال. قال: فالنبيذ تمر وماء! فقال له إياس: أرأيت لو ضربتُكَ بكفٍّ من تراب أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن ضربتُكَ بكفٍّ من تبن أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن ضربتُكَ بماء أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن أخذتُ الماء والتبن والتراب فجعلتها طيناً، وتركته حتى جفَّ، وضربتُكَ به أقتلك؟ قال: نعم! فقال: كذلك النبيذ. ومقصوده أن القاتل هو القوة الحاصلة بالتركيب، والمفسد للعقل هو القوة المسكرة الحاصلة بالتركيب (¬5). فكذا النشيد الحاضر بعد التركيب؛ فقد تغيَّرت صفاته السابقة، وانمحت آثاره السالفة. وأخيراً: فإن فتنة الأصوات والصور المحرمة قد وَلِعَ بها كثير من أرباب التعبُّد المحدث، وإن كانت فتنة الصور أشد فتكاً، ولئن سلم فئام من المتديِّنة من شراك الصور الفاتنة، لكن أسرتهم الأصوات الملحنة؛ فإن غناء المجون وفتنة الأصوات سبيل الولوج في فتنة الصور، فالغناء رقية الزنى .. قال ابن القيم: «أهل الأصوات طرقوا لأهل الصور الطريق، ونهجوا لهم السبيل، وطيَّبوا لهم السير، فساروا وجدّوا بهم إلى مطارح الجمال، فطاب لهم اللعب، ووصفوا لهم سمر القدود وورود الخدود وسواد العيون وبياض الثغور، ونادوا (حيَّ على الوصال)، فأجاب القوم منادي الهوى إذ نادى بهم بحيَّ على غير الفلاح، وباعوا أنفسهم بالغبن، وبذلوها في مرضاة الصور الجميلة» (¬6). والمقصود أن هذا النشيد «المستنسخ» من الغناء حافل بمفاسد ظاهرة؛ كالصدِّ عن سماع القرآن، والإعراض عن التفقه في دين الله تعالى، واستثارة العواطف الرعناء، وتحريك الشهوات من مكانها، والتحايل على المحرمات، ومشابهة لحون أهل الفسق والفجور .. فهل من توبة نصوح عن ذاك الغناء؟! ولقد أحسن القائل: «برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا وكم قلتُ يا قوم أنتم على ... شَفا جُرُف ما به من بِنَا فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في بِنَا فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تِنْتِنا تِنْتِنا (¬7). ¬

(¬1) الاستقامة 1/ 374، وانظر: مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/ 313. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى 30/ 223. (¬3) إعلام الموقعين: 3/ 163؛ باختصار. (¬4) تلبيس إبليس، ص 249. (¬5) السماع، ص 362 = باختصار. وانظر: الاستقامة: 1/ 346. (¬6) انظر: الاستقامة لابن تيمية: 1/ 244. (¬7) إغاثة اللهفان 1/ 346.

حركة الإمام أحمد بالصورة

حركة الإمام أحمد بالصورة سعد بن مطر العتيبي هذه الحركة أو قريباً منها على الأقل تعني التأييد والاستحسان لقول أو فعل أو لتصرف ما وقد اشتهرت عن الأجانب، حتى ارتبطت بما يصاحبها من قولهم (فري قود) لكن رجال الجرح والتعديل (علم البحث في رجال الأسانيد والمرويات، وهو من خصائص أمتنا)، وصفوها أو مثلها عن الإمام أحمد رحمه الله، في تقييمه لرواية المحدث والإخباري المشهور محمد بن إسحاق رحمه الله، والتفريق بين روايته للمغازي وروايته لأحاديث الأحكام من الحلال والحرام، عنده. والفرق بين رواية أخبار المغازي وأحاديث الأحكام معلوم عند علماء الإسلام؛ فإنَّ للتخصص أثراً في الرواية عندهم في ذلك، فيقبل من رواة السير والمغازي المهتمين بها فيها، ما لا يقبل منهم في أحاديث الأحكام، وبروايتهم تكتمل فصول من الروايات لا تتضح بدونها الصورة، فالواقدي مثلا متروك في الحديث بينما هو إمام في المغازي، وهكذ الشأن في القراء الذين يتلقون التلاوة، وينقلونها كما تلقوها، فقد لا تقبل رواية بعضهم للحديث لعدم علمه بالأسانيد وعلل المرويات، وموضوعات الجرح والتعديل وإن كان ثقة ثبتاً فيما ينقله مما تلقاه عن شيخه في القراءة، التي تعتمد التواتر في التلقي دون الاكتفاء بالرواية بالإسناد .. أدعكم مع وصف تلك الحركة في تاريخ يحي بن معين رحمه الله نقلا عن الإمام أحمد رحمه الله، فقد جاء في تاريخ ابن معين: سمعت العباس يقول سمعت أحمد بن حنبل وسئل وهو على باب أبى النضر هاشم بن القاسم فقيل له يا أبا عبد الله ما تقول في موسى بن عبيدة الربذي وفى محمد بن إسحاق فقال أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث كأنه يعنى المغازي ونحوها، وأما موسى بن عبيدة فلم يكن به بأس ولكنه حدث بأحاديث مناكير عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا وقبض أبو الفضل على أصابع يديه الأربع من كل يد ولم يضم الإبهام وأرانا أبو الفضل يديه وأرانا أبو العباس. أهـ وقال في موضع آخر: سمعت عباساً يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول وهو على باب أبى النضر وسأله رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في محمد بن إسحاق وموسى بن عبيدة الربذي فقال أما موسى بن عبيدة فكان رجلا صالحاً حدث بأحاديث مناكير، وأما محمد بن إسحاق فيكتب عنه هذه الأحاديث يعنى المغازي ونحوها فإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا قال أحمد بن حنبل بيده وضم يديه وأقام أصابعه الإبهامين. أهـ. فهل يا ترى تعد هذه الحركة من الحركات الوافدة، أو المشتركة، أو المنقولة عنا ثم المجلوبة إلينا كبعض الأنظمة والقوانين والطروحات الإسلامية؟! ربما لو علم بعض المنهزمين - التابعين المقلدين للأجانب - بأصولها الإسلامية لهجرها إمعانا في البراءة من الأمة والتبعية للأجنبي!! المصدر: موقع الدكتور سعد العتيبي

مسألة زواج السيد الشريف من غير الشريفة, والعكس

مسألة زواج السَّيِّد الشريف من غير الشريفة, والعكس علوي بن عبدالقادر السقاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية 19 جمادى الأولى 1429 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين القائل: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) أما بعد: فقد اختلف الفقهاء في اعتبار كفاءة النسب في النكاح فمنهم من اعتبره وقال لا يصح لغير الشريف أن يتزوج بالشريفة الهاشمية، والصحيح أنه ليس شرطاً معتبراً في النكاح فقد زوَّج النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه، وزوج فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة بن زيد، وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف القرشية، وزوَّج النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ابنتيه من عثمان ابن عفان رضي الله عنه وهو ليس بهاشمي بل من بني عبد شمس، وزوَّج علي ابنته أم كلثوم بنت فاطمة الزهراء من عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً وهو عدوي وليس بهاشمي، وفي الحديث: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه)) رواه الترمذي وحسنه. قال الحافظ ابن القيم في (زاد المعاد) (5/ 144): (فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدِّين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تُزوَّج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك، فإنه حرَّم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعة، ولا غنى ولا حرية، فجوَّز للعبد القن نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوَّز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات) أ. هـ لكن كونه ليس شرطاً في النكاح ليس معناه ألا يختار الزوجة ذات النسب، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم امتدح نساء قريش فقال: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولده في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)) رواه البخاري ومسلم قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (9/ 126): (قوله (ركبن الإبل) إشارة إلى العرب لأنهم الذين يكثر منهم ركوب الإبل، وقد عُرف أن العرب خير من غيرهم مطلقاً في الجملة فيستفاد منه تفضيلهن مطلقاً على نساء غيرهن مطلقاً ... وفي الحديث الحث على نكاح الأشراف خصوصاً القرشيات، ومقتضاه أنه كلما كان نسبها أعلى تأكد الاستحباب. ويؤخذ منه اعتبار الكفاءة في النسب، وأنَّ غير القرشيات (كذا في جميع النسخ وأظنه تصحيفاً، والصواب: غير القرشي) ليس كفأ لهن) أ. هـ وفي الصحيحين أيضاً: ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين ترِبت يداك)) قال القرطبي في (المفهم) (6/ 43): ((هذه الأربع الخصال هي الْمُرغِّبة في نكاح المرأة. وهي التي يقصدها الرِّجال من النساء. فهو خبرٌ عما في الوجود من ذلك، لا أنه أمرٌ بذلك. وظاهره إباحة النكاح؛ لقصد مجموع هذه الخصال أو لواحدة منها، لكن قصد الدِّين أولى وأهم؛ ولذلك قال: فاظفر بذات الدِّين) أ. هـ وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (9/ 131): ((قوله (تنكح المرأة لأربع) أي لأجل أربع، قوله (لمالها ولحسبها) .. وذكر النسب على هذا تأكيد، ويؤخذ منه أن الشريف النسيب يستحب له أن يتزوج نسيبة إلا إن تعارض نسيبة غير ديِّنة وغير نسيبة ديِّنة فتقدم ذات الدِّين، وهكذا في كل الصفات ... قوله (وجمالها) يؤخذ منه استحباب تزوج الجميلة إلا إن تعارض الجميلة الغير ديِّنة والغير جميلة الديِّنة، نعم لو تساوتا في الدِّين فالجميلة أولى)) أ. هـ، وكذا لوتساوتا في الدين فالنسيبة أولى فكيف بالشريفة؟ فالأصل في المرء أن يبحث عن ذات الدِّين ولا يفضل غيرها عليها، لكن لو أراد أن يجمع بين الدِّين والجمال فلا حرج، ولو أراد أن يجمع بين الدِّين والنسب فلا حرج، ولو أراد أن يجمع بين الثلاثة فهذا أولى وأولى، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في (بهجة قلوب الأبرار) (ص172): ((فإن حصل مع الدِّين غيره فذاك، وإلا فالدِّين أعظم الصفات المقصودة)) وقال الشيخ ابن عثيمين في (الشرح الممتع) (12/ 13): (فإذا اجتمع مع الدِّين جمالٌ، ومالٌ، وحسبٌ، فذلك نور على نور، وإلا فالذي ينبغي أن يختار الديِّنة) وعليه فلا حرج أن يختار الإنسان لنفسه ذات الشرف في النسب بشرط ألا يقدِّمها على ذات الدِّين والخلق، كذلك الهاشمية لو اختار لها وليُّها هاشمياً ذا دين وخلق فهذا حسن ويكون قد جمع بين الحسنيين. والله أعلم.

التقدم إلى الوراء

التقدم إلى الوراء د. عبد الكريم بكار حين ننظر إلى كتاباتنا ومداولاتنا اليومية نجد أنه يسيطر عليها -إلى حد بعيد- الحديث عن التطوير والتحديث، والتخطيط للمستقبل، والاكتشاف، والتقدم نحو الأمام، وما شابه ذلك، ونحن بهذا نحاول التعويض عن الخسائر التي تسبب بها التخلف والجمود واليأس الذي خيّم على الأمة قروناً عدة، والحقيقة أن الحديث عن التقدم هو اليوم شأن عالمي؛ حتى إن بعض الكتاب الغربيين تحدثوا عما سمّوه (عبادة التقدم)، ومن المهم في هذا الباب الإشارة إلى أن لفظة التقدم في الأساس هي لفظة محايدة، فالمرء قد يمضي نحو الأمام ويتقدم، ويكون متقدماً نحو جريمة، وقد يتأخر عن فعل شيء مشين، وقد يتراجع نحو الوراء، ويكون تراجعه عبارة عن توبة وتصحيح لخطأ وقع فيه، ومن هنا فإن تقدماً في اتجاه شيء من ماضينا قد ينطوي على خير كثير، وعلى ملامح نهضوية مهمة. إن الأمم وهي تمضي في دروب الازدهار تفقد شيئاً من توازنها، وتنسى بعض أصولها وأساسيات حياتها، وما ذلك إلاّ لأن وعينا بأنفسنا ومبادئنا والتوازنات التي علينا أن نرعاها لا يكون إلاّ ناقصاً، بل إن النقص يكون في بعض الأحيان مريعاً، ولعلي أضع النقاط على الحروف في بعض المسائل التي أرى أنها مهمة في هذا الشأن: 1 ـ يُلاحظ بقوة انكماش دوائر الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن سلامة الأقرباء والمجتمع والأمة وعن صلاحهم واستقامتهم، ولو أننا عدنا إلى نحو نصف قرن من الآن لوجدنا من يتحدث بجدية عن وحدة الأمة الإسلامية أو وحدة العرب، ومن تغلي في صدره مشاعر الغيرة على عزة الأوطان وحفظ مصالحها، ولوجدنا كذلك تضامناً جيداً داخل القرى والأحياء على المستوى التربوي؛ فقد كان الجيران والأقرباء والمعارف والأصدقاء يساعدون في توجيه الأطفال وإرشادهم وملاحظة تصرفاتهم، والخيط الناظم لكل ذلك عبارة عن شعور عميق بأن مصلحة الفرد المسلم هي عين مصلحة أهله وجيرانه وبلده وأمته، فأين ذهب كل ذلك؟! إنه تبخر ـ إلاّ ما ندر ـ بفعل أدبيات العولمة وعملياتها الرهيبة، والتي تقوم بخلع الفرد من الأسرة، وخلع الأسرة من المجتمع، وخلع المجتمع من أمته الكبرى. التاريخ لا يعيد نفسه، وقد حدثت تغيرات كيميائية وفيزيائية، وجغرافية وأخلاقية واجتماعية ... تجعل استعادة صور التضامن ومشاعر الرعاية والانتماء القديمة في حكم المستحيل، وصار مطلوباً منا أن ننشئ المزيد من المؤسسات، ونطلق الكثير من المبادرات التي تساعد على تحقيق الأهداف العظيمة التي فقدناها بأسلوب جديد. 2ـ كلما حصل تقدم حضاري وعمراني أوسع تفتّح وعي الناس على الحياة وعلى مصالحهم، وزادت المقارنات المختلفة بين الذات والآخر ـ بأوسع ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ـ وهذا أدّى إلى انغماس الناس في شؤون الدنيا وفي الهموم الشخصية، كما أدّى إلى ارتفاع حدة الجدال؛ فمجالس الناس مشحونة بالاختلاف والتنظير والنقد والحديث عن الحواسيب، والجوّالات، والميزات، والبدلات والوظائف، والتسوّق، والمهرجانات ... كلام وجدال في أمور لا حصر لها، ومع أن ذلك في الأصل مشروع، وبعضه مطلوب، إلاّ أن المشكلة تكمن في (الغفلة) العامة والشاملة؛ حيث تجد أن المجلس قد يمتد الساعة والساعتين، ويكون الجالسون فيه من أهل الخير والصلاح، ثم لا تسمع فيه ذكراً لله ـ تعالى ـ ولا تذكّراً للموت، ولا لنعيم الجنة، أو عذاب جهنم، وهذا أيضاً على المستوى الفردي؛ فمشاغل الدنيا وهمومها ومباهجها قد خطفت منا الكثير من رقة القلوب، والكثير من يقظة العقول نحو مصيرنا بعد الموت. إن المسلم المطلوب لعيش هذا الزمان هو مسلم غير عادي في صلاحه وإقباله على الله ـ عز وجل ـ وفي تفوّقه ونجاحه في الحياة؛ فالزمان الصعب لا يحتاج إلى المتخصصين والأذكياء والقادة فحسب، وإنما يحتاج قبل ذلك إلى الأتقياء الأنقياء ذوي القلوب الحية والأرواح المشرقة. 3ـ لدينا أسر كثيرة غير مؤهَّلة لتربية أبنائها التربية الجيدة، ولدينا ألوف الشباب والفتيات الذين يعانون من مشكلات كبيرة، وهم لا يعرفون كيف يواجهونها، ولا يجدون المشير ولا المعين، ولدينا مئات الألوف من الشباب والفتيات الذين ضلّوا سواء السبيل، وهم بحاجة إلى من يساعدهم على العودة إلى الصراط السويّ، لكن ليس هناك من يهتم بهم، ويلتفت إليهم، فصاروا عبئاً على المجتمع، بل صاروا مصدر تهديد لخيريّته وأمنه وصلاحه ... من لهؤلاء وأولئك إلاّ الذين اشتعلت قلوبهم بحب الله ـ تعالى ـ والغيرة على دينه وعلى أمة الإسلام؟! لنتقدم نحو الوراء كي نتفقد ما خسرناه عبر السنوات الأخيرة، وكي ننهل من مسيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وسير عظماء هذه الأمة ما يعيننا على التخلص من (الغفلة) التي اجتاحت عقولنا ونفوسنا، وألحقت بنا أعظم الأضرار. ولله الأمر من قبل ومن بعد. المصدر: الإسلام اليوم

نسبية الحقيقة في الفكر الليبرالي

نسبيَّة الحقيقة في الفكر الليبرالي ياسر بن عبد الله بن عبد العزيز السليّم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن كلَّ دينٍ صحيح؛ جاء مرشداً للإنسان، وهادياً له إلى طريقِ الحق، ومكمِّلاً لما فيه من النقائص التي تعتريه، فهو مخلوقٌ إن تجرد عن الإيمان بالله والانقياد لأوامره واجتناب نواهيه؛ كان في أسفل سافلين، فهو - بلا إيمانٍ وطاعة - يعيش طبيعةً بائسة: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... " (¬1). وإن من أكبر الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان: استجابته لعدوه الشيطان، ليبدأ معه رحلةَ التحريف والضَّياع، وينساقَ خلف رَكْبِ الأهواءِ والرَّغبات، فيُقدِّمها على نصُوصِ الشرع المُطهَّر، ودلالاته الواضحة، وحقائقه النيِّرة، ليفقد الإنسانُ تلك المعايير التي بها يَعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والهدى من الضلال. ومن هنا يَكثر التخبُّط والزيغ، وينقاد الفكر تبعاً للأهواء، وتَخضع العقيدة تحت لواءِ العقل الإنساني، الذي إن ابتعد عن نور الوحي وآثار النبوة؛ وقف حائراً أمام الحقائقِ والأسرار والمعارف، وعاش فوضىً حياتية بعيدة كل البعد عن العبوديةِ الخالصةِ المتجرِّدة لله تعالى. ومن نتائج استجابة الإنسان للشيطان؛ خرجت لنا تلك المذاهبُ المنحرفة، والأفكارُ المخدوعة، التي تعتمد - اعتماداً كلياً - على النظرةِ النقديةِ الفلسفيةِ لكلِّ ثابت، وتتقنَّع بمبدأ الحريَّةِ والانفتِاح، وتركضُ خلف العدو الكافر بدعوى التطور والتقدم. ومن تلك المذاهب: (الليبرالية) (¬2). والليبرالية تفيضُ بالمبادئ والأفكار المتناقضة التي لجأ إليها أربابُ هذا الفكر؛ لأجل الهروبِ من قيود الاستعباد المزعوم، حتى أظهروا أقوالاً عجيبة، وقواعدَ مضطربة، تجعل الإنسانَ يعيش في حَيرةٍ وشك، يصير معها الحقُّ باطلاً، والباطلُ حقاً، وتتلاشى معها المبادئُ والقيم، وينقطع بها عن مصادر التلقي في الدين الحق، فيعيش في جهلٍ وانحراف. ومن تلك المبادئ قولهم بـ (نسبية الحقيقة)، وهو ما سيأتي تفصيله وبيانه، وتحليله وتشخيصه، ونقده وتقويمه، سائلاً الله أن يمدني بالعون والسداد، وأن يشكر سعي من كان خلف هذا البحث، إشرافاً وتوجيهاً، ودلالةً وعوناً، اللهم آمين. تعريف الليبرالية لم يتفق صنَّاع الليبرالية والمنظِّرين لها على تعريفٍ يُحدد معناها بوضُوح، لكنهم اتفقوا على وصفها بـ " الحرية المطلقة "، يقول دونالد سترومبرج: «إنَّ كلمة الليبرالية مصطلحٌ عريض، وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالةٍ من الغموض والإبهام» (¬3). و «الليبرالية فكرةٌ ليست من صنع عَقلٍ بشري واحد، ولا وليدةَ بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ أو ثابت، إلا ثابت عدم الثَّبات» (¬4). والليبرالية هي - في الأصل - مصطلحٌ أجنبيٌّ مُعرَّب، مأخوذ من ( Liberalism) في الإنجليزية، و ( Liberalisme) في الفرنسية، وهي تعني: (التحررية)، ويعود اشتقاقها إلى ( Liberty) في الإنجليزية، و ( Liberte) في الفرنسية، ومعناها الحرية (¬5). ¬

(¬1) سورة التين. (¬2) وسيأتي بيان معناها. (¬3) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 337، بواسطة: كتاب (حقيقة الليبرالية)، سليمان الخراشي. (¬4) كتاب: (معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية) ص 32. (¬5) انظر: المعجم الفلسفي 1/ 461، بواسطة: كتاب (حقيقة الليبرالية).

تقول الموسوعة البريطانية: «وحيث إن كلمة Liberty ( الحرية) هي كلمةٌ يكتنفها الغموض فكذلك هو الحال مع كلمة (ليبرالي)». وقد جاء في موسوعة (لالاند) الفلسفية تعريف الليبرالية بأنها: «الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة». وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: «الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية)». وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها: «الحرية الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا». وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها: «غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء» (¬1). وعرفها المفكر (برنيس) بأنها: «الاستقلال الناتج عن غياب الإكراه، سواء كان ببواعث مادية خارجية، أو بواعث داخلية أخلاقية، والناتج أيضاً عن قوة إعمال العقل». وجاءَ في موسوعة (ويكيبيديا) الإلكترونية وصفُ الليبراليةِ بأنها: «حركة وعي اجتماعي وسياسي داخل المجتمع، تهدف لتحرير الإنسان فرداً وجماعة من القيود الأربعة (السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية) ... وتعترض الليبرالية على تدخل الدين في الأمور الشخصية بشكل عام، وهي بهذا مقاربة للعلمانية بشكل كبير» (¬2). وفي (موسوعة المورد العربية) عُرِّفتْ الليبراليةُ بأنها: «معارضة المؤسسات السياسية والدينية التي تحدد من الحرية الفردية، وهي تطالب بحق الفرد في حرية التعبير وتكافؤ الفرص» (¬3). وجاء في (الموسوعة الميسرة) بأنَّ الليبرالية هي: «مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي» (¬4). وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تتفق على أنها انكفاءٌ على النفس مع انفتاحٌ على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه، ولا أسيراً إلا لهواه، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: «الليبرالية هي الانفلات المطلق». وكذا فإن لليبرالية جوهرٌ أساسي يتفق عليه جميعُ الليبراليين في كافةِ العصُور مع اختلافِ توجُّهَاتهم وكيفيةِ تطبيقها كوَسيلةٍ من وسَائلِ الإصلاح والإنتاج، هذا الجوهرُ هو: «أنَّ الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى , الباعث والهدف , الأصل والنتيجة في حياة الإنسان , وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر، وشرح أوجهه والتعليق عليه» (¬5). فالليبراليةُ تدعو إلى الحريةِ المطلقة التي لا تعترفُ بدينٍ ولا شرعٍ ولا نصٍ مُقدَّس ولا عادَاتٍ ولا تقاليد، وتجرُّ الإنسانَ كي ينصاعَ إلى الهوى والشهوة، وتجعله قائماً على الحظوظِ الشخصيَّة ونبذ الأصول المتينة، والقواعدِ الرَّصينة، التي منها انطلق سلفُ هذه الأمَّة في فهمِ الدين وعبادةِ رب العالمين. نسبيَّة الحقيقة أولاً / تعريف " نسبيَّة الحقيقة ": النسبيةُ - بشكلٍ عام - هي مبدأ فلسفي يرى أنَّ كلَّ وجهاتِ النظر صحيحةٌ شرعيةٌ متساوية، وأنَّ كل الحقائق نسبيةً إلى الفرد. وهذا يعني أن كلَّ الأوضاعِ الأخلاقية، والأنظمةِ الدينية، والأشكال الأدبية، والحركاتِ السياسية؛ حقائقٌ نسبية للفرد. ¬

(¬1) انظر هذه التعريفات وغيرها في مقالة بعنوان: دعاة اللبرلة، للدكتور عبد العزيز كامل. مجلة البيان، عدد: (219) ص 46. (¬2) ( www.wikipedia.org) . (¬3) موسوعة المورد العربية لمنير البعلبكي (2/ 1050). (¬4) الموسوعة الميسرة للمعرفة والمذاهب المعاصرة، ص 78. (¬5) مفهوم الحرية، عبد الله العروي، ص 39، بواسطة: كتاب (معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية).

«وفي النسبية مقياس السلوك هو ذواتنا، فما هو الحق والعدل في عين شخص ربما لا يكون حقاً وعدلاً في عين شخص آخر. ولا أحد يستطيع أن يزعم أنه هو على الحق والصواب أو الحقيقة المطلقة» (¬1). يقول أحد الكتَّاب: «كيف لنا أن نقرر حقيقة الحقيقة، أهي مطلقة أم نسبية؟ سؤال حيرني كثيراً، وأضحى يشغل تفكيري نهاراً وليلاً، هل يمكن أن نقود الحقيقة في مسارها؟ أو ليست الحقيقة أيدولويجية يتم تيسيرها برغبة ما نحو صفة وحراك وخطاب معين؟!. لو كانت الحقيقة متمثلة في كائن لبحثت عن مكنوناتها وأوصافها وشموليتها. لو كانت الحقيقة كيانا ملموسا لصعب أيدلجته وتحويره وتسييسه، لكنها مدلولات تخيلية تتسم بالمراوغة وكل ما هو غير حقيقي. أهي وعي حر متمرد على قيوده؟! أسئلة كثيرة هبت هي وغيرها فجأة لتعلن انتماءها إلى مستودع مكنون من الأسرار والمعطيات، منجم يستوعب المقدس، ويحتضن الملكية، وينادي بمحاكمة الخطيئة» (¬2). فيُقال: إنَّ الحق الذي يدعيه (زيد) من الناس شيءٌ غيرَ الحق الذي يدّعيه (عمرو)، فأيهما أحقّ بالحق؟! وأيهما أولى بالاتباع؟! وأيّهما الذي يملك الحقيقةَ المطلقة، فيملك معها تخطئةَ غيره، والقطعَ بضَلال مذهبه؟!. وهذه التساؤلات ونحوها أثارها الفلاسفةُ قديماً، ونوقشت كثيراً في كتبهم وملتقياتهم، فطرقتْ أسماع الناس مقولة: (الحقيقة المطلقة لا يطالها أحد)، أو (لا أحد يحتكر الحق والصواب)، أو (ليس ثمةَ إلا الحقيقةُ النسبية)، أو (الحق المطلق لا يملكه أحد)، وغيرِها من العبارات المشابهة .. «وفحواها: أنه لا أحد يمكنه القطع بأن معتقده هو الحق، وأن معتقدَ غيره خطأٌ قطعاً، وأقصى ما يمكنه الجزم به أن رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ، وأن رأي غيره خطأ يحتمل الصواب، وهو ما يُسمى بنسبية الحقيقة» (¬3). فنسبيةُ الحقيقة تقتضي أنْ «ليس هناك أحد يقول أن منهجي وطريقي هو المنهج الصحيح الوحيد، لذا يجب أن لا نقهر أحداً على قبول منهج ما أو طريقة معينة» (¬4). يقول الأستاذ بسطامي سعيد حول " نسبية الحقيقة " وبيانِ ملامحها: «هل حقائق الدين نسبيَّة؟ .. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها، قالت العصرانية: "ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق، وإن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري". والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلاً أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها. وقضية النسبية ( Relativism) في الحق ( truith) أو في الأخلاق ( ethich) قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يوماً ما أن تحل لغزاً؟!. ¬

(¬1) مقال على الشبكة بعنوان: نقض المذهب النسبي، مبارك عامر بقنة. (¬2) من مقال بعنوان: (الحقيقة المطلقة) جريدة الجزيرة، د. عبد الله بن سعد العبيد، السبت 20 محرم 1430 هـ، العدد 13260. (¬3) مقال على الشبكة بعنوان: الحقيقة النسبية .. أفيون العقيدة!، سامي بن عبد العزيز الماجد. (¬4) مقال على الشبكة بعنوان: نقض المذهب النسبي، مبارك عامر بقنة.

وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض. وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل: ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم؟! الأهم من ذلك أن يُسأل: هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق"، لا تقوم على منهج علمي محدَّد، أو معايير منضبطة؟!. إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدَّد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك. قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى، ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات، والقول بأنَّ حقائق الدِّين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية! فقول لا تسنده حجَّة، ولا يمكن قبوله» (¬1). ويقول الأستاذ غازي التوبة: «نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة، وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة» (¬2). ثانياً / منشأ القول بـ" نسبية الحقيقة ": هذا القولُ أنشأه الفلاسفة السوفسطائيون (¬3) - وعلى رأسهم الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد؛ حيث كانت اليونان تغرق في بعضِ الأفكارِ المتباينة، والمذاهب المتنوعة؛ فلجؤا إلى هذا القَولِ في تأييدِ الآراءِ المتناقِضَة؛ إما شكاً في الجميع، أو تخلصاً من جُهد طلب الحقيقة. ¬

(¬1) مفهوم تجديد الدين، بسطامي سعيد، ص 214 - 215، بواسطة: كتاب (التطرف المسكوت عنه) للدكتور ناصر الحنيني. (¬2) مجلة المجتمع، العدد 1337، بواسطة: مقال (ثقافة التلبيس9: قولهم بنسبية الحقيقة). (¬3) السوفسطائية: مأخوذةٌ من السفسطة، وهي: قياس مركب من الوهميات، وهم طائفة من فلاسفة اليونان ممن ينكرون الحسيات والبدهيات، ومعناها باليوناني: (سوفا) اسم للعلم، و (اسطا) اسم للغلط، فسوفسطا: معناه علم الغلط، ومثَّلوا لإنكارهم الحسيات بَأنَّ الأحول قد يرى الواحد اثنين، والماشي يرى القمر ذاهبًا؛ وعليه فلا يجزم بَأنَّ أيهم يعرف حقاً وأيهم يريد باطلاً. انظر: التعريفات للجرجاني ص158، مجموع الفتاوى (2/ 98).

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «حُكي عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد» (¬1). يقول الدكتور علي سامي النشار: «نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة: "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكَّاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء -كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر» (¬2). وقد أظهر أفلاطون هذا المبدأ، فقال: " تظهر الأشياء لي، كما توجد بالنسبة لي، وتظهر الأشياء للآخرين، كما توجد بالنسبة لهم " فالنسبية تقرر أنه لا يوجد هناك حقيقةٌ مطلقة، فما أعتقده فهو حقيقة بالنسبةِ لي، وما تعتقده هو الحقيقة بالنسبةِ لك، فليس هناك خطأ. يقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: «وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية» (¬3). «لقد عبَّر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه: "عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله: "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثَّورةُ الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر. إنها تعني بالنسبة لنظريةِ المعرفة أنَّ الإنسانَ الفرد هو مقياسُ أو معيار الوجود، فإن قال عن شيءٍ إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلفُ من شخصٍ إلى آخر بحسب ما يقع في خبرةِ الإنسان الفرد الحسيَّة، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجودُ بالنسبة لي، وما تراه أنتَ بحواسِّكَ يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا .. » (¬4). * موقف العلماء من السوفسطائية. لقد قسم علماءُ الإسلام السوفسطائيين - كما يقول الشيخ أحمد شاهين - إلى ثلاثةِ أقسام: «العِندية، والعنادية، واللاأدرية: فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها؛ لأنهم أقيسة الحقائق. والعنادية تجزم بأن لا حقائق في الكون؛ لا في ذاتها ولا بالقياس إلى المؤمنين بها. وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيء؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم» (¬5). ويقول الشيخ عبد القادر بدران في حاشيته على "روضة الناظر": «وهم فرقٌ ثلاث: إحداهن اللاأدرية؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه، بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية: تسمى العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً، وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض، والقدح في كل مذهب بالإشكالات المتجهة عليه من غير أهله. الثالثة: تسمى العندية نسبة إلى لفظ "عند"؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده» (¬6). ¬

(¬1) الفتاوى 19/ 135. (¬2) مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 191، بواسطة: كتاب (التطرف المسكوت عنه). (¬3) السلم في علم المنطق للأخضري، ص7. (¬4) مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، د. مصطفى النشار، ص70 - 71، بواسطة: كتاب (التطرف المسكوت عنه). (¬5) السوفسطائيون في نظر العرب، مقال في مجلة الأزهر، م 21، ص 760 - 763، بواسطة: مقال (ثقافة التلبيس9: قولهم بنسبية الحقيقة). (¬6) حاشية ابن بدران على روضة الناظر، ص 246 - 247، بواسطة: مقال (ثقافة التلبيس9: قولهم بنسبية الحقيقة).

لقد استشعر علماءُ الإسلام خطرَ هذه الفكرة السوفسطائية الفلسفية، والتي تَخلط الحقَّ بالباطل، وتزرع الشكَّ في عقائدِ المسلمين، وتساوي بين الإسلام وغيره من الديانات المحرَّفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة. لا سيما وأنَّ هناك من المنحرفين من يَزرع هذه الفكرة وينشرها؛ وعلى رأسهم غُلاة المتصوِّفة أهل وحدة الوجود، ممن يقول قائلهم؛ وهو ابن عربي: " فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد " (ابن عربي، سميح الزين، ص101) (¬1). وقد ردَّ عليهم الإمام ابن حزم - رحمه الله - في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل "، والمهم منه الرد على فرقة " العِندية " لكونها الفرقةُ التي يُقلِّدها دعاةُ النسبية. قال رحمه الله: «ويقال - وبالله التوفيق - لمن قال هي حقٌ عند من هي عنده حق، وهي باطلٌ عند من هي عنده باطل: إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق، أو اعتقد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال. وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق!!، مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المتنطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق» (¬2). وقال الموفَّق ابن قدامة - رحمه الله - رادَّاً على من نُقل عنه مثلَ هذا القول من العلماء: «وقول العنبري: "كل مجتهد مصيب". إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات» (¬3). وقال - أيضًا -: «قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه» (¬4). وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه ... وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة» (¬5). ¬

(¬1) انظر: مقال (ثقافة التلبيس9: قولهم بنسبية الحقيقة). (¬2) الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 17. (¬3) روضة الناظر 3/ 981. (¬4) روضة الناظر، 3/ 990. (¬5) الفتاوى 19/ 144 - 145.

وقد تحدَّث عنهم الإمامُ ابن الجوزي - رحمه الله - في " تلبيس إبليس " قائلا: «قال النوبختي: قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية؛ فيقال لهم: أقولكم صحيح؟ فسيقولون: هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا: دعواكم صحة قولكم مردودة، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه» (¬1). ويقول العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: «أعظم الناس انحرافاً عنهما - أي الكتاب والسنّة - ملاحدة الفلاسفة، وزنادقة الدهريين، وهم أكبر أعداء الرسل، في كل زمان ومكان .. »، ثم بين رحمه الله أنهم أصّلوا أصولاً ووضعوا قواعد من عند أنفسهم زادت انحرافهم انحرافاً فقال: «أعظمها - أي هذه الأصول - أصلٌ خبيثٌ منقولٌ عن معلّمهم الأول (أرسطو) اليوناني المعروف بالإلحادِ والجحد لرَبِ العالمين والكفرِ به وبكتبه ورسله، وهذا الأصل الذي تفرع عنه ضلالهم: أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية، فليمحُ من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليسع في إزالتها من قلبه، بحسب مقدوره، وليشك في الأشياء، ثم ليكتفِ بعقله، وخياله ورأيه» (¬2). ثالثاً / " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي: ومبدأ " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي، قائمٌ على أساسها العَام الذي هو (الحرية)، فإنَّ إشكالية هذا الفكر قبول التلوُّن والتعدد الصوري، فهو قائم على عدم الجزم والقطع، وهذه مهمة الفيلسوف الليبرالي في حل المشكلات، يقول (رسل): «إن الفيلسوف الليبرالي لا يقول: هذا حق، بل يقول في مثل هذه الظروف: يبدو لي أن هذا الرأي أصح من غيره» (¬3). ويعتقد الليبراليون أن توسيعَ الخلاف، والتعدديةُ في الآراءِ والأفكار ظاهرةٌ إيجابيةٌ تنمِّي الفِكَر، وتقوِّي الرأي، وتُظهر الإبداع. ومن لوازم حريةِ الفكر عندهم: اعتقاد عدم امتلاك (الحرية المطلقة)؛ لأن دعوى امتلاكِ هذه الحقائق يمنع من التفكير الحُر، فالإيمانُ المطلق الذي لا يعتريهِ أدنى شَكٍ لا يتوافق مع الفكر الليبرالي الذي لا يبني عقيدةً محددةً يقينية؛ لأن ذلك يُناقض حريةَ الفِكر والمناقشة حَسْبَ وجهةِ نظرهم (¬4). يقول الكاتب يوسف أبا الخيل متحدثاً عن (مُسلَّمة) تفرضها الضرورة المنطقية: «ألا وهي مفهوم أو فلسفة (نسبية الحقيقة) التي تعني أن الحقيقة بما هي (كل مطلق متعال) فالفرد إزاءها لا يملك فيما يملكه من معارف ومعتقدات ومشارب وآراء واتجاهات فكرية إلا جزءاً من هذه الحقيقة الكلية التي تتعدد جزئياتها ومفرداتها بتعدد زوايا النظر للموضوع المراد بحثه، هذا الجزء من الحقيقة الذي يملكه الفرد قد يماثل أو يقل أو يزيد عما يملكه الآخر المختلف، ولكنه في النهاية يظل جزءاً يزيده ويثريه ولا يلغيه» (¬5). ¬

(¬1) تلبيس إبليس، ص41. (¬2) الأدلة القواطع ص4، بواسطة: بحث على الشبكة بعنوان (التعددية الفكرية عند محمد بن علي المحمود) لصالح السويح. (¬3) نقلاً عن: الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس ص 93، بواسطة: كتاب (حقيقة الليبرالية). (¬4) كتاب (حقيقة الليبرالية) ص56. (¬5) من مقال له بعنوان: (سنة أولى حوار) جريدة الرياض، الاثنين 3 محرم 1425 هـ - 23 فبراير 2004م، العدد 13030.

ويقول محمد بن علي المحمود: «رفع الوصاية عن الفرد، ومنحه حريته، وتهيئة البيئة الحرة التي تطلق مكنونات طاقته الخلاقة من عقالها، كل ذلك تمنحه الليبرالية للمجتمع الليبرالي، مجتمعات وأفرادا» (¬1). * أقوال بعض الكتَّاب الليبراليين حول " نسبية الحقيقة ". يقول تركي الحمد: «لن تكون متقدماً أو صاحب أمل في التقدم؛ إذا قبلت الرأي على أنه حقيقة، والحقيقة على أنها مطلقة وليست نسبية» (من هنا يبدأ التغيير، تركي الحمد، ص 347). ويقول الكاتب يوسف أبا الخيل في سياق حديثه عن السبيلِ الأمثل لمكافحةِ ما سمَّاهُ بـ" الرؤية الحادة الإقصائية ": «. . ولذا فمن أجل حصره في زاوية التعرية لأهدافه وما يتطلع إليه من إجهاض لأية بارقة أمل من التطور، فلا يجب إشعاره أننا نسعى لإحلال صوت إقصائي آخر بديل له، بل بدلاً من ذلك يجب أن تكون آلية الحراك التي نبشر بها تحمل مزيداً من إفساح المجال لكافة الآراء بما فيها صوت ذلك التيار ما دام ملتزماً بشروط الاجتماع البشري، التي يأتي على رأسها الإيمان بأن للآخرين ذات الحق التي له في إبداء الآراء والتماهي مع يترتب عليها من معتقدات، وما دام ملتزماً بإعطاء الفرصة للآخرين - وإن لم يكن مقتنعاً بذلك - ليدلوا بدلوهم في الشأن الاجتماعي كافة، وإشعاره أن زمن احتكار الحقيقة - بما فيها الحقيقة الدينية - قد ولى زمانه وليس ثمة طريق آخر إلا مشاركة الآخرين وفقاً لنسبية الحقيقة التي يمسك كل طرف بجزء من خيطها .. » (¬2). ويقول أبا الخيل حول التسَامح بين الثقافتين الأوروبية والعربية: «تباين التأصيل الفلسفي لمفهوم التسامح بين الثقافتين الغربية والعربية كان له أثره الكبير على الواقع السوسيولوجي والأبستومولوجي بين الثقافتين، ومن ثم امتد أثره إلى جميع مناحي الحياة الأخرى لكل جانب. فبفضلها استطاعت أوروبا أن تخرج من آحاديتها المظلمة وما ترتب عليها من أوضاع خاصة تلك الحروب الدينية المرعبة في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي تسببت فيها الأورثوذكسية الكاثوليكية التي قامت على تسنين عقيدة واحدة لا يسمح لأحد كائنا من كان بالاتصال بالله تعالى خارج تعاليم أساقفتها إلى فضاء فلسفة عصر التنوير التي دشنت تأصيل مبدأ نسبية الحقيقة التي يقر فيها الفرد أنه لا يملك (إن ملك) إلا جزءا بسيطا من الحقيقة يماثل ربما ما يملكه الفرد الآخر أو يزيد أو ينقص ولكنه يظل نسبياً ومن ثم فقبول هذا الآخر لم يعد مجرد زخرف من القول أو مجرد مفردة كرم يتفضل بها فرد على آخر» (¬3). ¬

(¬1) من مقال له بعنوان: (متطرفون في الزمن الليبرالي) جريدة الرياض، الخميس 14 جمادى الأولى 1428هـ - 31 مايو 2007م، العدد 14220. (¬2) من مقال له بعنوان: (السبيل الأمثل لمكافحة التشدد) جريدة الرياض، الأحد 5 صفر 1427هـ - 5 مارس 2006 م، العدد 13768. (¬3) من مقال له بعنوان: (التسامح بين الثقافتين الأوروبية والعربية) جريدة الرياض، الاثنين 8 صفر 1425هـ - 29 مارس 2004م، 1425العدد 13065.

ويقول: «هذه النظرة الإقصائية تأتي بلا شك نتيجة حتمية لتربية طويلة على اعتبار قول وحيد ووسمه بالطابع الشمولي القاطع بحقيقته ويقينيته بلا اعتبار لأية أقوال أو مذاهب أخرى في المسألة المطروحة للبحث إلا باعتبارها ضالة عن الطريق السوي أو مبتدعة في حال التلطف مع أصحابها، لو أننا أشعنا في مرافئ ثقافتنا على اختلاف أنواعها مبدأ نسبية الحقيقة في الأقوال والأعمال والتخريجات والتفسيرات لما كانت هذه حال قطاع كبير ممن يقتاتون على ثقافتنا ويدعون الأحقية بتمثيلها» (¬1). ويقول منتقداً (الثوابت) تحت مسمَّى (النظام المعرفي) داعياً إلى استحضار الشَكِّ أمام العقل الناقد بدعوى (نسبية الحقيقة): «يعرف النظام المعرفي (الإيبيستيمولوجيا) بأنه الطريقة أو الآلية أو النظام التي يستقي بها مجتمع ما أو لنقل ثقافة ما النظرة للكون والحياة والعلاقات الفيزيقية والميتافيزيقة بشكل عام. ولكل ثقافة معينة نظام معرفي خاص بها، وتكاد أن توصف به الحضارة المؤسسة على تلك الثقافة، فيقال مثلاً للحضارة العربية بأنها (حضارة النص) بينما توصف الحضارة اليونانية بأنها (حضارة العقل) وهكذا، وعلى ذلك فإذا كانت الحضارة الإسلامية تتميز بأنها حضارة نص فذلك يعني أنها تعتمد في نظرتها للكون والحياة والعلاقات الإنسانية والاجتماعية على ما توفره النصوص الثقافية بشكل عام سواء الدينية منها أو ما أضيف إليها من مراكمات إنتاجية (تفسيرية وتأولية واجتهادية عامة)، وبالتالي فإن نظامها المعرفي يوفر نظرة نقلية تجاه مكونات الحياة، لكنه قد لا يلقي بالاً لما قد توجبه موجبات العقل تجاه موضوع معين إذا كان يستشف منها (نظرياً على الأقل) اختلافها مع النظرة التي تُستشف من النصوص. في الحضارة اليونانية كان النظام المعرفي السائد فيها هو النظام البرهاني القائم على فحص مكونات الأمر المعروض للبحث، ومن ثم الحكم عليه أو فيه من زاوية عقلانية بحتة تعتمد النظر والتأمل ومقارنة الأشياء ببعضها وإعطاء رأي غير قاطع فيها باعتبار أن الفكر البشري قائم على الترجيح بين البدائل المتاحة مما يعطي فرصة مستمرة لعرض البديل المقترح على مشرحة النقد المستمرة بحيث يتم الاستغناء عنه عند ما يتقادم به الزمن، ويصبح غير قادر على مسايرة العصر، ميزة النظام المعرفي البرهاني أنه غير متقيد بمقيد ميتافيزيقي فهو يعمل وفق معطيات العقل، وبالتالي ففيه فرصة للخطأ والصواب، وبالتالي تتوفر المراجعة المستمرة التي تعتمد على نظام التغذية المرتدة للمعلومات ( back Feed) » . ثم يقول: « .. العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً (وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع) بأنه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة عموماً، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم وردهم لحياض الحقيقة المطلقة» (¬2). ¬

(¬1) من مقال له بعنوان: (الاعتبار الإسلامي لغير المسلمين) جريدة الرياض، الأربعاء 23رمضان 1426هـ -26أكتوبر 2005م - العدد 13638. (¬2) من مقال له بعنوان: (النظام المعرفي والهوية الثقافية) جريدة الرياض، الأحد 25 جمادى الآخرة 1426هـ - 31 يوليو 2005م، العدد 13551.

ويقول كذلك: «إنَّ السلوك الثقافي المعاش يظل مشدوداً إلى التصنيف الثنائي المفصول بين حدوده بشكل حاد وكامل، سلوك يعتمد على تصنيف الرؤى والمعتقدات، بل وحتى وجهات النظر العابرة التي تتصل بالواقع المعاش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إلى ثنائية الحق والباطل، فالحق ما نحمله وندين به، والباطل ما يدين به أو يعتقد به مخالفنا، وتبعاً لذلك يتم تصنيف الناس إلى متبعين ومبتدعين، وإلى ملتزمين وغير ملتزمين، وإلى ضُلاَّل ومؤمنين، وإلى عقائد صحيحة وعقائد ضالة، ليصل الإنسان المبرمج على ثقافة القطع في الحلقة الأخيرة من سلسلة العنف والإقصاء إلى تصنيف الناس إلى مسلمين وكفار، ومن ثم الوصول إلى ما يترتب على تلك الحلقة الأخيرة من ضرورة التخلص من شوائب الكفر والضلال بما فيها ممثلوه ليبقى الإسلام الخالص المتماهي معه من قبل من تبرمجوا على تلك الثقافة حاضراً وفق رؤية خاصة وتخريج خاص للإسلام، لا على أنه الإسلام نفسه كما أنزله الله تعالى على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام» (¬1). ثم يستكمل أبا الخيل حديثَه داعياً إلى نشر ثقافة الشك، فيقول: «لذا لا بد للإنسان - ولا يتأتى ذلك له للأسف غالباً إلا في العيش في جو ثقافي فلسفي - أن يشك ولو مرة واحدة، وهذا الشك لا أعني به الشك المدمر، أو الشك الدوغمائي بطبيعته، أو الشك لمجرد الشك، بل إنه شك يجد له جذوراً من داخل المنظومة الإسلامية نفسها، إذ نجد أبا حامد الغزالي يقول وهو في أوج مرحلة من حياته الفلسفية: "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال" كما كان يقول: "الشك أولى مراتب اليقين" إنه شك يأتي بالذات من مراعاة نسبية الحقيقة على المستوى الاجتماعي والثقافي بوجه عام، شك يعطي دفعاً للشاك أن لا يتحمس أو يتمعر وجهه أو تنتفخ أوداجه عندما يتعايش مع من يخالفه توجهاته، إذ إن هذا الشك يتيح لذلك الإنسان الشاك استحضار تساؤلات من قبيل: ولماذا لا تكون وجهة نظر فلان هي الصواب؟ أو لماذا لا تكون تلك الرؤية أو ذلك التأويل أو التفسير أو التخريج لذلك الفرد أو الجماعة أو الفرقة تحمل على الأقل شيئاً من الصحة في باطنها؟ ولماذا مثلاً لا تكون الرؤية التي أحملها أو تلك التي حُمِّلتها ليست قاطعة ويشوبها الشك وعدم اليقين؟ في مثل ذلك الجو الثقافي المشبع والمربى على نسبية الحقيقة - النظرية على الأقل - لا يملك الإنسان إلا أن يكون متسامحاً مع غيره؛ لأنه لا يحمل اليقين على قطعية ما تناهى إليه نظره، وما برمجته عليه ثقافته طوال عمره» (¬2). ويقول عبد الله بن بجاد العتيبي مقرراً ذات المبدأ: «إذًا فلا بد كمنطلق لعملية التنوير والإصلاح أن يدخل الشك في آلية العقل العربي الإسلامي الحالي أن يشك في قضية جوهرية "هل هو قادر على العمل الآن؟ هل آلياته ومناهجه ومنظومته المعرفية صالحة للتعامل مع الزمن الراهن» (¬3). ¬

(¬1) من مقال له بعنوان: (لنشك حتى لا نقع في شر قطعياتنا) جريدة الرياض، الأحد 19 صفر 1427هـ - 19 مارس 2006م، العدد 13782. (¬2) المصدر السابق. (¬3) جريدة الوطن، العدد: 1727، بتاريخ: 22/ 6/2005 م.

أما إبراهيم البليهي فيرى أنَّ (نسبية الحقيقة) هي من الأمور البدهية، فيقول: «من البدهي أنه لا يوجد إنسان يمتلك كل الحقائق امتلاكاً كاملاً، وإنما يتمسك كل فرد بما يظنه كذلك فينتقي من النصوص والبراهين والمواقف والأحداث ما يُقنع به ذاته ويستمر على انتقائيته، حتى تضطره المواقف المغايرة الضاغطة في أن يعيد فحص أفكاره، فإذا وضع كل طرف أفكاره تحت مجاهر التحليل اقترب الجميع من لب الحقيقة تحت أضواء المكاشفة الاضطرارية المتبادلة» (¬1). ويقول الكاتب يوسف أبا الخيل: «فإن المتعصب عندما يقوم بإدراك موضوع ما (رؤية عقدية مثلا) إدراكاً إيجابياً متعاطفاً معها فإنه لا يأخذها على أنها مجرد أحد المعطيات النسبية للحياة الإنسانية، أو أنها مجرد رأي ينضاف إلى آراء أخرى عديدة لكل منها الحق في خوض غمار تأويله الخاص لذلك الموضوع المثار، لا بل إنه حينما يدركها إدراكاً إيجابياً محباً فسينظر إليها باعتبارها حقيقة وحيدة كاملة ناصعة البيان دامغة الحجة لا تضاهيها حقيقة أخرى في تماهيها مع المطلق، أما عندما يدركها في جانبها السلبي (رؤى الآخرين المخالفة) فسيراها ثاويةً في أقصى يسار الحقيقة عارية من كل ما يمت إليها بصلة، متفاصلة مع كل ما يتصل بالخير أو الجمال أو الفاعلية أو الإبداع الإنساني مفاصلة نهائية لا رجعة فيها، ويترتب على تلك النظرة (اللاواعية) أنه سيعتبر كل من يشاركه الإدراك بجانبيه (الإيجابي تجاه رؤيته المذهبية والسلبي تجاه رؤى الآخرين) فهو السعيد سعادة لن يشقى بعدها أبدا، بنفس الوقت الذي يرى فيه كل من لا يشاركه إدراكه ذلك على أنه هالك لا محالة» (¬2). ويقول - أيضاً -: «يأتي التعصب الديني كما المذهبي على رأس الأسباب التي تهوي بالإنسان سريعاً إلى مرحلة الوحشية البشرية التي تحدث عنها هوبز، إذ أن هذا التعصب يتخلق بداية في رحم آحادية الفكر الناتج من انعدام التعددية الفكرية والدينية، مما يؤدي إلى قناعة الإنسان بأن دينه أو مذهبه هو الوحيد المتوافر على كلية الحقيقة وما سواه من الأديان أو المذاهب فلا تمتلك ذرة يقين أو حقيقة، وهذه هي البذرة الأولى للعنف، أما سقيا هذه البذرة فيأتي من اليقين التام الذي يتوافر عليه الإنسان الآحادي جراء انعدام فضيلة "نسبية الحقيقة" بأن عليه واجب إدخال الآخرين في حمى يقين دينه أو مذهبه، ولكن لأن من يخالفونه دينه أو مذهبه كُثُر ولا طاقة له بالتالي بهدايتهم ولأن معظمهم مرتدون عن الإسلام في نظره فلا عذر له عند ربه سوى إزهاق أرواحهم لزفهم إلى نار جهنم وبئس المصير» (¬3). ويقول محمد المحمود: «تحرير وعي الأفراد ومن ثم إرادتهم كفيل بتحرير وعي الإنسان- المجتمعي. فضلا عن كوننا لا نمتلك تغيير المجتمعي إلا من خلال الفردي، أي خضوع لشروط الواقع، وخضوعا لشرط الصوابية النسبية التي نرتادها» (¬4). * رابعاً / انتشار القول بالنسبية: ¬

(¬1) من مقال له بعنوان: (إنكار الانتقائية أحد منابع الجهل) جريدة الرياض، الأحد 26 صفر 1422هـ - 20 مايو 2001م، العدد 12018. (¬2) من مقال له بعنوان: (سيكولوجية التعصب) جريدة الرياض، السبت 18 ذي القعدة 1427 هـ - 9 ديسمبر 2006م، العدد 14047. (¬3) من مقال له بعنوان: (حالة الطبيعة الوحشية) جريدة الرياض، الأربعاء 10 شوال 1427هـ - 1 نوفمبر 2006م، العدد 14009. (¬4) من مقال له بعنوان: (الإرادة الإنسانية .. المستقبل يصنعه الإنسان) جريدة الرياض، الخميس 9 ذي القعدة 1427هـ - 30 نوفمبر 2006م، العدد 14038.

إنَّ هذه الفلسفة النسبية منتشرةٌ في الثقافةِ الليبرالية بشكلٍ عام، وفي الفكرِ الغربي المعَاصر تحديداً، وهي تظهر في رفضِ الإله، ورد الثوابت والأنظمة والقوانين، وإنكار الحقيقة المطلقة. وقد أدَّت هذه الفلسفةُ إلى انتشار الأمراض المعرفية، والأخلاقية، والسلوكية وغيرها. فمبدأ: (كلُّ فرد على حق) أو (لا توجد حقيقة مطلقة) أو (هذا حق عندك وليس عندي) وعبارات أخرى غير منطقية تحمل ذات المعنى؛ المقصود منها تسويغُ أعمال الشر وإعطائها نوعاً من القبول الذاتي والاجتماعي، بدعوى الحرية التي يقوم عليها منهج الليبرالية. ويمكن أن نتساءل: لماذا اكتسبت النسبيةُ مكانةً رفيعةً لدى بعض أربابَ المجتمع الحديث؟ إذا نظرنا إلى الوَاقع وجدنا أن هناك بعض العَوامل التي ساهمت في قبول النسبيةِ وانتشارها، ومنها: 1. النجاحُ العملي الذي زاد في اعتقاد فكرة أن الإجابات الحقيقية توجد في العِلم. لذا يعتقد البعض من الناس أن ما يقوله العلماء - مهما يكن ذلك القول - هو صحيح. وإذا لم يستطع العلم أن يجد جواباً لشيء ما فإنه ببساطة ستُكتشف الحقيقةُ لاحقاً. فالناس يؤمنون بالعِلم والمطلق فقط فيما نعرفه الآن. والذي ربما يكون غير حقيقي لاحقاً. وهذا يُقَوِّض الحقيقةَ المطلقة. 2. مع القَبول الواسع لنظريةِ التطور، فالإله أُزيح بعيداً خارجَ المنظومة الفكرية، وبدون اعتقادِ وجود الإله المقرِّر للحقيقة والباطل؛ فإن الإنسانَ سيكون بديلاً عن الإله ويقرر ما هو الحق وما هو الباطل. 3. مواجهة الثقافات المتنوعة والمتفاوتة، فهذه المواجهة تجعلنا أكثرُ انسجاماً وقبولاً لفكرة وجود أكثر من طريقٍ لعمل شيء ما. والإيمانُ بتعدد الثقافات لا يشترط ببطلان هذه الفكرة لكنه يعمل على تقويض أو إنكار الحقيقة المطلقة. 4. زيادةُ الفلاسفةُ النسبيين، وخصوصاً المنتمين إلى حركةِ العصر الجديد الذين يقولون: إنه لا يوجد حقيقَة مُطلقة، وأنَّ كل شيءٍ بإمكانه أن يخلق واقعه. 5. التحرُّر من القِيَم الأخلاقية، والقيودِ الاجتماعية، فالنسبية تُقرر مذهبَ: دعه يعمل ما يشاء. (¬1). «وقد وجدتُ شبهةَ (نسبية الحق) هذه مؤثرة حتى في بعض الشباب المتدينين. قال لي أحدهم: إذا كنا نحن نرى أنفسنا على حق فهم أيضاً يرون أنهم على حق. قلت له: وماذا في هذا؟ إن الحق واحد، سواء كان متعلقاً بدين أو بدنيا؛ لأنه وصف لواقع ولا يمكن أن يكون الواقع على صفتين متضادتين» (¬2). * خامساً / نقض القول بـ" نسبية الحقيقة ": لا يمكن لأيِّ مجتمعٍ أن يعيشَ بلا حقائقَ مطلقة مشتركة بين أفراده، فبدون الحقيقةِ المُطلقة سيُنشأ الصِّراع، ويتولَّد النزاع، وتتَصادمُ الآراء، ويحدثُ الشَّرخ الاجتماعي، والتمزق الثقافي، وبالتالي سقوط المجتمع أو ضعفه على أقل الأحوال. إن من الأمور الطبيعية حدوثُ اختلافٍ في تقييم الأمور وكيفيةِ التعامل معها، ولكن يظل هذا الاختلاف والتفاوت تحتَ مظلةٍ عامة متفق عليها، «فقد يختلف الآباء في تربية أبنائهم ولكنهم في الغالب يتجهون إلى نفس الهدف. فالحقيقة العامة متفق عليها ولكن الأساليب في التعامل مع هذه الحقيقة قد يختلف. إن الحقائق المطلقة كثيرة جداً لا يستطيع العقل أن يردها وهي تشهد على زيف النسبية فمن ذلك أن الإنسان لا يوجد نفسه من العدم فهذه حقيقة مطلقة» (¬3). ¬

(¬1) مقال: نقض المذهب النسبي، مبارك عامر بقنة، بتصرف. (¬2) مقال بعنوان: (الحوار .. مجادلة جادة لا مداهنة) أ. د. جعفر شيخ إدريس، مجلة البيان العدد 190 جمادى الآخرة 1424هـ. (¬3) المصدر السابق.

وإن «هذه المقولات التي تقرّر بأنه لا أحد يحتكر الحقيقة ليست صواباً بإطلاق، ولا خطأً بإطلاق، بل فيها نسبة من الخطأ وأخرى من الصواب، إلا أن نسبةَ الخطأ فيها كافيةٌ لنقض أصل الإيمان؛ لأن أصول الإيمان مبنية على القطعية واليقين، فأنت إن لم تقطع يقيناً بصحة توحيدك لله فلست بمؤمن في شريعة الله، وأنت إن لم توقن يقيناً لا ظن فيه فضلاً عن الشك بأن الله فرد صمدٌ لا شريك له في ملكه وخلقه فلست بمؤمن في دين الله، وإن أنت لم توقن يقيناً لا تردد فيه بأن القرآن معصوم من التحريف والتبديل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، وأن الوحي قد انقطع بموته فلست بمؤمن في دين الله، وقلْ مثل ذلك فيما سوى هذا وذاك من أصول الدين وقطعياته» (¬1). وإن القول بـ" نسبية الحقيقة " «يفضي إلى المساواة بين قطعيات الشريعة وظنياتها، ومن ثَمَّ تصبح أركان الإيمان مما يسع فيه الخلاف، فتخرج بذلك عن دائرة الثوابت القطعية، كما أن في العمل بإطلاقها منافاةً لمقتضى الإيمان؛ إذ مقتضاه التصديقُ التامُ، واليقينُ المطلق بأركان الإيمان وأصول العقيدة، وآيات القرآن تغذي في أهله الشعورَ بامتلاكهم للحقيقة المطلقة، وأنهم على الحق المبين إلى درجة اليقين، وأن غيرهم مبطلون يتبعون باطلاً؛ كقوله: " فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ " [النمل: 79]، " وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ " [فاطر: 31]، وقوله تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [آل عمران: 85]، ولا يجوز لمثلِ هذه العقيدة المبنيَّة على اليقين المُطلق أن تخضع للمساوماتِ والمداهنات؛ فمجرد الشك بأنها هي الحق، أو أن غيرَها من ملل الكفر قد يكون هو الحق، أو هو حق مثلها؛ لهو خطرٌ يزلزل الإيمان من أصوله، " فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ " [يونس:94]» (¬2). قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في موافقاته: «الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك. ولا يصلح فيها غير ذلك» (¬3). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: «الدليل أن الحق في جهة واحدة: الكتاب والسنّة والإجماع» (¬4). وقد ذكر الإجماع على ذلك العلامة الشوكاني رحمه الله في كتابه إرشاد الفحول (¬5). ولو لم يكن ثمةَ حقيقة مطلقة يمتلكها أحدٌ فيحتكر فيها الصواب؛ لكان أمرُ اللهِ بلزوم الحقِّ واتِّباعه عبثاً لا معنى له؛ لأنه على ضَوءِ هذا المبدأ حقٌ لا وجود له إلا في الذِّهن، وأما في الواقع فهو نسبيٌ يصح أن يكون حقاً في عقلٍ، باطلاً في عقل آخر!، والله تعالى يقول: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [الأنعام: 153] ولنتساءلْ: أين هذا الصراطُ المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه إذا كانت الحقيقة نسبية؟!، وأين هي تلك السبل الضالة التي حذرنا من اتباعها إذا كانت الحالة كذلك؟!. ¬

(¬1) انظر مقال على الشبكة بعنوان: (الحقيقة المطلقة)، سعود بن محمد الشويش. (¬2) مقال: (الحقيقة النسبية .. أفيون العقيدة!)، سامي الماجد. (¬3) الموافقات (5/ 59). (¬4) روضة الناظر (3/ 982). (¬5) إرشاد الفحول، ص 591، بواسطة: بحث (التعددية الفكرية عند محمد المحمود).

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [البقرة: 213]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «قال الربيع بن أنس: " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ " أي: عند الاختلاف، أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل عند الاختلاف» (¬1). ثم إنه لو كانت الحقائقُ كلُّها نسبيةً، ليس فيها شيءٌ مطلقٌ لا يصح لأحدٍ أن يحتكر الصواب فيها؛ لما جاز أن يُهلِك اللهُ سبحانه الأممَ السابقة على تكذيب رُسلها؛ ولو كانت الحقائق كلها نسبيةً ليس فيها قطعيٌ يقينيٌ لما جاهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكفارَ على أصول الإيمان، ولعذرهم على مخالفتهم. «ألم يأمر الله موسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام أن يأخذا الكتاب بقوة، والذي لا يتحقق إلا بالتصديق اليقيني والإيمان القطعي بما فيه من الأحكام القطعية: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ " [الأعراف: 145]، " يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ " [مريم: 12]» (¬2). وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)) قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله - مبيناً هذا الحديث: «إن المجتهد يكلف إصابة الحكم، وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله، كلف بالمجتهد طلبه، فإن اجتهد فأصابه كان له أجران وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده، وهو مخطئ، وإثم الخطأ محطوطٌ عنه» (¬3). وقد بيَّن شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الحقَّ في حقيقةِ الحال واحدٌ لا يتعدد، ولكن لذلك تفصيل، ملخصه: أن المجتهد في الأمور الاجتهادية الظنّية إن أخطأ حكم الله فهو مصيب من جهة ومخطئ من جهة أخرى، وله أجرٌ على اجتهاده كما نص عليه الحديث. فهو مصيب باجتهاده وبذله الوسع في الوصول للحكم الشرعي؛ وذلك لكونه بذل ما أمر الله به، فالحكم الذي وصل إليه باجتهاده وجب عليه فعله شرعاً، ولا يأثم بعدم موافقة حكم الله وذلك لاجتهاده، وإن كان هو في نفس الأمر مخطئ في إصابة حكم الله الذي يعلمه الله، والذي هو واحد في قول المجتهدين لا يتعدد. ومتى علم وتبين له من الشرع ما ينقض اجتهاده أثم بالإعراض عنه وعدم العمل به (¬4). لذلك لابد من تخصيص عموم هذا المبدأ (نسبية الحقيقة) بأن يُستثنى من عمومه أصولُ الدين، وقطعياتُ الشريعة، وهي: كل ما جاء في الكتاب والسنة قطعيَ الثبوت قطعيَ الدلالة، مما لا يحتمل تأويلاً. وتبقى المقولة بعد ذلك صحيحةً في ظنيَّات الشريعة مما يحتمل التأويل ويَسُوغ فيه الاجتهاد واختلف فيه العلماء، وهذه هي التي عناها الإمامُ الشافعي - رحمه الله - بقوله: " قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقولُ غيري خطأٌ يحتمل الصواب ". ومثل هذه الأمور الظنية لا تحتمل القطعية في التصويب والتخطئة، ولا يجوز أن يكفّر فيها المخالف، ولا أن يتهم بسببها في ديانته وأمانته، ولا يجوز أن يُستحل فيها عرضه، أو يُنتقصَ من كرامته وحقوقِه، فضلاً عن استحلال دمه. وقد خالف بعضهم قولَ سلفِ الأمة فقالوا: إن الحق يتعدد، وهو تابع لاجتهاد المجتهد، فما أدَّى إليه اجتهادُه فهو الحقُّ في الأصول والفروع، وبعضُهم حَصَر تعدد الحق في الفروع دون الأصول. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 248). (¬2) مقال: (الحقيقة المطلقة) للشويش. (¬3) روضة الناظر (3/ 986). (¬4) مجموع الفتاوى (20/ 20 - 33).

وهذا القول نقضه أئمةُ الدين، وأعلام الملّة، وعلماء الشريعة، وردوه بالنصوص الشرعية، قال العلامة الشوكاني - رحمه الله -: «من قال إن كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين، فقد أخطأ خطأً بيناً، وخالف الصواب مخالفة ظاهرةً» (¬1). وقال أيضاً - رحمه الله -: «وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون حكم الله متعدداً بتعدد المجتهدين، تابعاً لما يصدر عنهم من اجتهاد، فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عزّ وجلّ ومع شريعته المطهّرة؛ هي أيضاً صادرةٌ عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل، ولا عضدته شبهةٌ تقبلها العقول، وهي أيضاً مخالفة لإجماع الأمة، سلفها وخلفها» (¬2). وقد ساق الشوكاني - رحمه الله - كلاماً للقاضي يردُّ فيه على مقالةٍ للعنبري والجاحظ، حيث نُقل عنهما القولُ بتعدد الحقِّ في الأصول والفروع: «إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد؛ فقد خرجتما من حيّز العقلاء، وانخرطتما في سلك الأنعام، وإن أردتم الخروج من عهدة التكليف ونفي الحرج - كما نُقل عن الجاحظ - فالبراهين العقلية من الكتاب والسنّة والإجماع الخارجة عن حدِّ الحصر ترد هذه المقالة» (¬3). وقال ابن قدامة - رحمه الله - راداً على ما ساقه الغزالي في المستصفى من قولِ الجاحظ برفع الإثم عمَّن اجتهد فأخطأ في الأصول: «أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله تعالى» (¬4). وهذا القول - أي القول بتعدد الحق - قولُ كثيرٍ من أهل الكلام وأهل البدع، وبهذا نعلم أن الحقَّ واحدٌ لا يتعدد في الأصول والفروع على ما سبق ذكره. إذاً فإنَّ التسليم بمبدأ (نسبية الحقيقة)، وأن الحقيقةَ المطلقة لا يملكها أحدٌ، وأن الحقائق التي يؤمن بها البشر نسبيةٌ محتملةٌ للخطأ كاحتمالها للصواب على سواء، لهو تسليم يناقض أصول الدين الحنيف، وقواعد الشرع المطهر، وأدلة الوحي الكريم. وبالنظر إلى مبدأ " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي نجده يَغرق في تناقضاتٍ عديدة، منها: 1. إذا كانت الحقيقةُ نسبيةٌّ؛ فإن عبارة "كل حقيقة نسبية" تعتبر عبارة مطلقة، والنسبيةُ ترفض المطلق، فالعبارة متناقضة في ذاتها، وعليه فإن مبدأ "كل حقيقة نسبية" باطل. وكذا فإن القول بـ"نسبية الحقيقة" يرفضه الواقع، فهناك حقائق كثيرة مطلقة لا تحمل النسبية اتفاقاً، فالشمس محرقة، والسماء فوقنا، والإنسان ناطق نامي وغير ذلك من الحقائق التي يصعب حصرها. 2. أن ما كان حقاً لديك ليس حقاً لدي: فالحق لدي أن النسبية باطلة، فإذا قلت لي: لا، هذا ليس صحيحاً. فهذا يلغي المبدأ الذي قررتْه النسبية، وعليه فإن النسبية باطلة. وإذا قلتَ: نعم. وأقررت بقولي، فالنسبية باطلة. وإذا قلتَ: إن ذلك حقاً عندي فقط أن النسبية باطلة، فإن هذا يعني أنني أعتقد ببطلان النسبية، وإذا كان اعتقادي صحيحاً، فكيف يمكن أن تكون النسبية صحيحة. 3. أنه ما مِن أحد يستطيع أن يعرف أي شيء من غير شك: فإذا كان هذا صحيحاً، فإننا نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف أي شيء من غير شك، فبالتالي معرفتنا هنا مطلقة وهذا دحض ذاتي. 4. النسبية لا تقدر على إنكار ما يتناقض مع الحقيقة ذاتها. فالنسبية تحمل التناقض الذاتي، فالكل لديه الحقيقة فلا ينبغي أن يكون هناك إقناع الآخرين بما تحمله أنت من أفكار ومعتقدات فما تراه حقيقة لا يحق لك أن تقنعهم حتى يروا أن ما لديك هو الحقيقة. (¬5) ¬

(¬1) إرشاد الفحول، ص590، بواسطة: بحث (التعددية الفكرية عند محمد المحمود). (¬2) المرجع السابق، ص591. (¬3) المرجع السابق، ص586. (¬4) روضة الناظر (3/ 980). (¬5) بتصرف من: مقال (نقض المذهب النسبي)، مبارك عامر بقنة.

ختاماً: يقول العلاَّمة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله -: «كثر على ألسنةِ بعض الكتَّاب أنه لا تجوز تخطئة المخالف، وأنه يجب احترام الرأي الآخر، وأنه لا يجوز الجزم بأن الصواب مع أحد المختلفين دون الآخر. وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه يلزم عليه أن جميع المخالفين لأهل السنة والجماعة على صواب ولا تجوز تخطئتهم، وهذا تضليل؛ لأنه يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: هم مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). ويلزم على هذا القول أيضاً أن المخالف للدليل في مسائل الاجتهاد لا يقال له مخطئ، ولا يُرَدُّ عليه، وهذا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد))؛ فدل على أنَّ أحدَ المجتهدين المختلفين مخطئ، لكن له أجرًا على اجتهاده ولا يُتابع عليه؛ لأن اجتهاده خالف الدليل، وإنما يصحُّ اعتبار هذا القول، وهو عدم الجزم بتخطئة المخالف، في المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل مع أحد المختلفين، وهو ما يعبر عنه بقولهم: " لا إنكار في مسائل الاجتهاد "، و " الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد "، وهذا من اختصاص أهل العلم وليس من حق المثقفين والمفكرين الذين ليس عندهم تخصص في معرفة مواضع الاجتهاد وقواعد الاستدلال أن يتكلموا ويكتبوا فيه. ولو كان لا يُخَطَّأ أحدٌ من أصحاب الأقوال والمذاهبِ لكانت كتب الردود والمعارضات التي ردَّ بها العلماء على المخالفين كلها مرفوضة، ولما كان لقوله تعالى: " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ " [النساء: 59] فائدة ولا مدلول؛ لأنه لا تجوز تخطئة المخالف، وهذا لازم باطل؛ فالملزوم باطل ... وقد ردّ الله - سبحانه وتعالى - على أهل الضلال في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وشرع لنا الردّ عليهم؛ إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل. ولولا ذلك لشاع الضلال في الأرض، وخفي الحق، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً» (¬1). وفقنا الله للحق، ووقانا شر الفتن، وجعلنا من عباده الصالحين، آمين. المصدر: موقع الإسلام اليوم فهرس المراجع 1. كتاب: (تفسير القرآن العظيم)، ابن كثير الدمشقي، المكتب الثقافي، ط1. 2. كتاب: (حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها)، سليمان بن صالح الخراشي. 3. كتاب: (معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية)، د. عبد العزيز مصطفى كامل، من إصدار مجلة البيان. 4. مقال: (دعاة اللبرلة .. عقول محتلة، أم ولاءات مختلة؟) د. عبد العزيز كامل، مجلة البيان عدد (219) ص 46. 5. موسوعة (المورد العربية)، منير البعلبكي. 6. الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، بإشراف د. مانع الجهني، الناشر: دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط4. 7. مقال على الشبكة بعنوان: (نقض المذهب النسبي)، مبارك عامر بقنة، موقع صيد الفوائد. 8. موقع جريدة الجزيرة. 9. موقع جريدة الرياض. 10. موقع جريدة الوطن. 11. مقال على الشبكة بعنوان: (الحقيقة النسبية .. أفيون العقيدة!)، سامي بن عبد العزيز الماجد، موقع الإسلام اليوم. 12. النسخة الالكترونية من كتاب: (التطرف المسكوت عنه .. أصول الفكر العصراني " السعودية أنموذجاً ") د. ناصر بن يحيى الحنيني، الموقع الالكتروني للدكتور. 13. مقال بعنوان: (ثقافة التلبيس9: قولهم بنسبية الحقيقة)، سليمان الخراشي، موقع صيد الفوائد. 14. التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، تحقيق وتعليق د. عبد الرحمن عميرة، دار عالم الكتب، ط1. 15. مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدّس الله روحه. 16. كتاب: (السلم في علم المنطق)، الصدر بن عبد الرحمن الأخضري، مكتبة المعارف، ط1. 17. كتاب: (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ابن حزم الظاهري، دار إحياء التراث العربي، ط1. 18. كتاب: (روضة الناظر وجنة المناظر) ابن قدامة المقدسي، مكتبة الرشد ناشرون، ط7. 19. كتاب: (تلبيس إبليس) أبو الفرج ابن الجوزي، دار الكتب العلمية، ط1. 20. بحث على الشبكة بعنوان: (التعددية الفكرية عند محمد آل محمود)، صالح السويح. 21. مقال بعنوان: (الحوار .. مجادلة جادة لا مداهنة) أ. د. جعفر شيخ إدريس، مجلة البيان العدد (190) جمادى الآخرة 1424هـ. 22. مقال على الشبكة بعنوان: (الحقيقة المطلقة)، سعود بن محمد الشويش. 23. كتاب: (الموافقات) أبي إسحاق الشاطبي، دار ابن القيم ودار ابن عفان، ط1. 24. موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية ( www.wikipedia.org) . ¬

(¬1) جريدة الجزيرة، العدد 11672.

الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (1/ 4)

الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (1/ 4) عاطف عبد المعز الفيومي (الدعوة الإسلامية بين الغربة الأولى والتمكين) الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فالدعوة الإسلامية خير موضوع، لأنها دعوة الإسلام وحقيقته الربانية الكبرى، وهذه الدعوة اليوم أذن الله لها أن تعود من جديد بقوة وإيمان، لتتبوأ مكانها الأول، وقيادتها للعالم الذي تنكب الطريق الحق، وذهب لاهثاً وبقوة وراء الشهوات والنزوات، والكفر والإلحاد، إلا بقية من أمة الإجابة والهدى أمة الإسلام، التي لم تراوح مكانها بعد لتتسلم مفاتيح القيادة لهذه البشرية اللاهثة خلف السراب، القابعة خلف الحجب والدنايا، لتدلها على طريق هدايتها وسعادتها، وسلامتها وأمنها، .. ولكن ثمة طريق طويل وشاق بين التكوين لهذه القيادة الرائدة للبشرية، وبين التمكين لها الموعود لها من الله تعالى في الأرض، نعم بدأت ملامحه تلوح في الآفاق، ودبت الصحوة الإسلامية في كل مكان، وبذرت بذورها لكنها لا تزال في حاجة كبيرة إلى العناية والمتابعة، في حاجة إلى التهذيب والتربية، وفي حاجة كذلك إلى التصحيح والتقويم، وفي حاجة إلى البصيرة والتبصير، وكل ذلك لا يكون إلا بجهد الأمة ودعاتها الصادقين، وجنود الدعوة القائمين بها والمخلصين، وحماية هذه الدعوة وشبابها من أعدائها المنافقين والمتربصين. ومن هنا كان لزاماً علينا أن نبسط بشيء من الكلام في هذا المحور الكبير الجليل - الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين - وإنه حقاً لموضوع يحتاج إلى جهود كبيرة ومخلصة، حتى تؤتى ثمارها بإذن ربها، ولا بد فيه من الوقوف على أحداث السيرة النبوية أولاً، وهنا نقف مع عدة محاور في هذا الموضوع الجليل. أولاً: الدعوة الإسلامية وحقيقتها. الدعوة الإسلامية: تعني الدعوة إلى الإسلام دين الله الحق، المنزل من عند الله تعالى، الذي أرسل به جميع أنبيائه ورسله، هداة للعالمين ورحمة لهم، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي اصطفاه الله لهذه الدعوة والرسالة الخاتمة لجميع الدعوات والرسالات:" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً .. الآية"، والدعوة الإسلامية تعني إقامة شريعة هذا الدين في الأرض، وإقامة عقائده وشرائعه ومبادئه وأخلاقه، كما أنها تعني صياغة الحياة البشرية كلها بصبغة الربانية والعبودية لله تعالى وحده لا شريك له، كما قال تعالى:" قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"، وقال تعالى:" أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... الآية".

نعم صبغة قائمة على عبوديتها لله وحده وإيمانها بكتبه ورسله، عبودية قائمة على إفراد الخالق المعبود بالخلق والأمر:"ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين"، عبودية لا تتجه إلا على أصول العقيدة والتوحيد، ولا تقوم إلا على الحق والإيمان، فلا عقيدة تستقر في القلوب إلا عقيدة الإيمان بالله والإيمان برسله، والإيمان بكتبه وشرائعه، والإيمان بالبعث بعد الموت والدار الآخرة دار الجزاء الحق، ولا شريعة تحكم الحياة البشرية وتقوم مسيرتها، وتهذب أخلاقها، وتصلح مجتمعاتها، وتبني سياستها واقتصادها، وحربها وسلمها، إلا شريعة هذا الدين الحق؛ لأنه الدين المنزل من عند الله وحده، فليس من دين غيره يقبل عند الله كما قال تعالى:" إن الدين عند الله الإسلام .. الآية"، وكما قال أيضاً لمن اعتقد ديناً يدين به سواه:" ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"؛ ولأنه الدين الذي ارتضاه لها:" ورضيت لكم الإسلام ديناً .. الآية"،"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"؛ ولأنه الدين الذي ضمنه الله تعالى كل جوانب السعادة والهداية في الحياة الدنيا وفي الآخرة:" فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ... الآيات"؛ ولأنه دين الحق الجامع لكل مظاهر الحياة البشرية وفق منهج الله تعالى، الشامل الكامل والصالح لكل زمان ومكان:" لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون". فالدعوة الإسلامية دعوة إلى الإسلام نفسه، دعوة إلى إنقاذ البشرية من الهلاك والضياع والتيه في الظلمات، والسير في ركب الشيطان وأتباعه، ودعوة إلى تحقيق سيادة ملك الله في الأرض وفي دنيا الناس، ودعوة إلى قيادة البشرية بمنهج الله تعالى الخالد الباقي إلى يوم الدين، وإفراده سبحانه بالعبادة والتشريع دون من سواه من المخلوقات، ودعوة لبناء النفس والإنسان الصالح لإقامة خلافة لله في الأرض، ودعوة لتحرير النفس البشرية من رق العبودية والذلة لغير خالقها، تحريرها من سلطان الشيطان عليها بكيده ومكره، وتحريرها من الخوف من ذوي السلطان والطاغوت الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وتحريرها من تقديس الذات والمال واللهث وراء أعراض الدنيا الفانية القليلة، وتحريرها من الخوف والطمع إلا في خالقها وموجدها سبحانه وتعالى، ودعوة لتزكية الأنفس والقلوب بمعرفة خالقها والتقرب إليه والطمع في رحمته وجنته، ودعوة للتصدي للشيطان الرجيم ومكائده وحبائله، والوقوف أمام فساد أتباعه وأعوانه الذين يتملقون البشرية ويلهثون خلف الشهوات الكامنة، واللذات المحرمة، ولا يراعون لها أدباً ولا حرمة ولا كرامة، ودعوة لبناء مجتمع رباني نظيف قائم على رعاية الآداب، وحفظ الحرمات.

إنها ليست دعوة لقمع البشرية واستعبادها، والسيطرة على مقدرات الشعوب وأقواتها، ونهب أموالها وممتلكاتها، كما فعلته في القرون المتأخرة الشيوعية الخبيثة المادية، بأفكارها ومعتقداتها الإلحادية الكافرة، أو كما تفعله أمريكا وأوربا بمباركة وتخطيط يهودي صليبي ماكر، أو حتى ما يفعله أرباب الأموال والثروات من الهنود واليابانيين والصينيين، كما أنها ليست دعوة للخروج على حكم الله وشريعته، بدعاوى التقدم والعلم والانفتاح العلمي أمام البشرية مما يجعلها ليست في حاجة إلى شريعة تحكمها ولا دين ينظم شؤون حياتها، كما أنها ليست دعوة مستمدة من العقل والفكر البشري القاصر عن إدراك حقائق الأشياء، ولا الوصول إلى جميع مدلولاتها ليصوغ لها قوانين بشرية في شتى مجالات الحياة، ثم يحكمها فيها ويقول لها هذا هو القانون العصري الذي يتناسب مع طبيعة هذا الزمان، كما أنها ليست دعوة أيضاً للتعدي على آداب الإنسان وحياءه وحرماته، وليست دعوة للفوضى والإباحية والفواحش والمنكرات على حساب شريعة الله والآخرة، لكنها دعوة ربانية طاهرة، تسموا بالإنسان إلى حيث هو عند الله من التكريم والرفعة، وتسموا بأخلاقه وآدابه فيرتفع بإيمانه بالله، على دنايا النفس وحب الشهوات واللذات التي تقودها كثيراً إلى الهلاك والخسران. وهذه المعاني كلها جمعتها هذه الدعوة، التي هي بحق دعوة الإسلام، لأن الإسلام دين الفطرة الذي يولد عليه كل مولود:" كل مولود يولد على الفطرة"، وهذه الفطرة تعنى أن الكون والإنسان لم يخلقاً عبثاً ولا هملاً كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه:"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق ... الآيات"، وكما قال في موضع آخر:" أيحسب الإنسان أن يترك سدىً"، بل وبالغ سبحانه في نفي العبث واللهو في الخلق والأمر عن نفسه فقال تعالى:" وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ... الآيات"، فالكون والإنس والجن، والنجوم والأفلاك، والجبال والبحار، والسماوات والأرض جميعاً، خلقها الله تعالى لحكمة جليلة، وغاية نبيلة، كما أخبر تعالى:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، إنها غاية العبودية لله تعالى وحده لا شريك له، وهذه غاية الوجود الإنساني والبشري على هذه الأرض، ومن هنا كانت الدعوة إلى هذه الغاية الربانية الجليلة، هذه معاني وملامح الدعوة الإسلامية التي أنشأها الله تعالى على يد نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الأطهار رضي الله عنهم. ثانياً: الدعوة الإسلامية بين الغربة الأولى والتمكين.

* نظرة على الواقع الجاهلي: المستقرئ للسيرة النبوية وواقع الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية وبعدها، يلمح الفارق الكبير بينهما، ويقف في اندهاش لما يراه من عظمة البناء الإسلامي، والتعليم النبوي، الذي أقامه الله تعالى لهذا الدين بالتمكين له، وجعله منهج حياة إسلامي، بعد أن ولت الجاهلية على أدبارها بما تحمله من عقائد وشركيات وثنية، وبما تحمله من تصورات ومعاملات وأخلاق وتشريعات جاهلية، وكتب السيرة والتاريخ سطر فيها حال الجاهلية كلها، وما وصلت إليه البشرية آنذاك من انتكاس في الفطرة، وانحطاط في الإنسانية، وتقديس للآلهة المصنوعة العاجزة، لقد عاش العرب في مثالب الجاهلية يرتعون، وفي ظلمات الشرك والوثنية يعمهون، وخلف شهواتهم ورذائلهم ينكبون، هذا هو زمان البعثة المحمدية حقاً جاهلية وأية جاهلية، وكما قال أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى:" بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً، فإذ كل شيء فيه في غير محله، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر، ومنه ما التوى وانعطف، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكاناً آخر، ومنه ما تكدس وتكوم. نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل مالا يملك لنفسه النفع والضر، رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته، فلم تعد تسيغ البديهيات، وتعقل الجليات، وفسد نظام فكره، فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس، يستريب في موضع الجزم، ويؤمن في موضع الشك. وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث، ويستمرئ الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم، ولا يحب الصديق الناصح. رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، قد أصبح فيه الذئب راعياً والخصم الجائر قاضياً، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظيا، والصالح محروماً شقياً لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك. رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد. رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالا على أصحابها وعلى الإنسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية، والجواد تبذيراً وإسرافاً، والأنفة حمية جاهلية، والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والإبداع في إرضاء الشهوات. رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق، ينتفع بها في هيكل الحضارة، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة. رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه ". (ماذا خسر العالم:78،77).

* ظهور دعوة الإسلام: هذا هو النظام الجاهلي الأول، الذي كان يعج بالهبوط الإنساني في كل شؤون حياته، وفقدانه لبدهيات الحياة المستقيمة السوية، لقد طال الفساد والخواء والضلال كل حياتهم، واستحال التغيير والإصلاح عند الكثير منهم، لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره على العالمين، وتشرق أضواء نوره وشريعته على هذه القلوب الغارقة في بحار من شهوات النفس والدنيا الفانية، والواقعة في مستنقع الرذيلة الآسن، فكانت البعثة الربانية والمحمدية، بعثة الإنقاذ والهداية لهذه البشرية الجاهلية التائهة، كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تغييراً حقيقياً وكبيراً لم يشهد مثله على طول التاريخ البشري كله، وما هذا إلا لأن مشركي جزيرة العرب جمعت فيهم جل أدواء وأمراض الأمم السابقة لها، التي لم تجتمع لأمة قبلها فكان الأمر جلل، كيف الطريق إلى تخليص هؤلاء من جميع هذه الأمراض والأدواء القاتلة، ولكن شاء الله ذلك، بحكمته وإرادته وقدرته كما أخبر سبحانه وتعالى بذلك في كتابه العزيز:" هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"، فكانت البعثة وبداية تنزل الوحي الرباني بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب السنة والسير والتاريخ بينت ذلك ودونته، فقد كان فتحاً من الله تعالى ومنة على هذه البشرية كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى هذه الرسالة الربانية، فاستجاب له بعض من الناس أول الأمر لتصديقهم له قبل البعثة ويقينهم في دعوته، فبدأ التكوين النبوي لجيل هذه الدعوة، ورعيلها الأول من خيار الصحابة رضي الله عنهم وكان ذلك باصطفاء من يدعوهم للإسلام، وقوة تأثيرهم على أفراد ذلك المجتمع الجاهلي، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى:" لقد وضع محمد صلى الله عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب، أصاب الجاهلية في مقتلها أو صميمها، فأصمى رميته، وأرغم العالم العنيد بحول الله على أن ينحو نحواً جديداً ويفتتح عهداً سعيداً، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ " (ماذا خسر العالم:82). * غربة الإسلام الأولى: ولكن مع بزوغ شمس الإسلام للوهلة الأولى وإشراقها على أرض الجزيرة المظلمة القاتمة بالشرك والضلال، وبزوغ رسالة الدعوة الإسلامية لهداية الخلق إلى توحيد خالقهم وإفراده بالعبادة وحده، بدأت الجاهلية الأولى بإعلان العداوة لهذا الدين، وإعلان الحرب الكبيرة على هذه الدعوة الإسلامية الجديدة، التي تريد هدم صرح الجاهلية، وهدم كل معتقداتها وتشريعاتها الباطلة وما تحمله من تصورات وأفكار، فبدأت قريش أولاً وهم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان رفضها وعنادها لهذه الدعوة التي جاء بها ابنها، مع أنهم جميعاً كان بينهم بقايا من الحنفاء ومن أهل الكتاب أمثال زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، ولكن هؤلاء ما كانوا يلقوا شيئاً من أذاهم ولا عنادهم ومكابرتهم، لكن الموقف هذا تغيراً تماماً تجاه دعوة الإصلاح والهداية دعوة الإسلام، فشعر المسلمون الذي آمنوا بهذا الدعوة واتبعوا رسولها، بشيء كبير من الغربة بين هؤلاء القوم فلم يعودوا لهم أولياء ولا أنصاراً، بل تحولت إلى نوع من العداء والاعتداء على الأموال والأبدان بالتنكيل والتعذيب المفرط.

وبدأ المشركون في طريق جديد من الغضب والمقت على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه وآمن به وبرسالته، لقد سلكوا كل طريق لصد الناس عن الإيمان بالله ورسوله، وما تركوا أسلوباً ولا طريقاً إلا سلكوه ضد دعوة الإسلام، فمن ذلك: ما جاء في تاريخ السيرة النبوية وكتبها من السخرية والاستهزاء والتكذيب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبأتباعه وأصحابه رضي الله عنهم، وتصور معي هذه الغربة الموحشة في قلوب الصحابة، حيث السخرية بهم وبنبيهم ورسالته وكتابه، والقرآن ذكر شيئاً كثيراً من ذلك كما في قوله تعالى:" وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون" (الحجر:6)، وقوله تعالى:" وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " (ص:4)، وقوله تعالى:" وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون " (القلم:51)، ولا ريب أن كل هذا سنة من سنن الله تعالى التي وقعت في الأمم الخالية قبلنا كما قال تعالى:" ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون" (الأنعام:10). ومن ذلك: صد الناس عن سماع القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، واتهام القرآن والرسول بأنه ساحر وكذاب وكاهن وشاعر إلى آخر هذه السلسلة البائسة من التهم العريضة لأهل الإيمان والحق، قال تعالى:" وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" (فصلت:26)، ومن ذلك: التعذيب والتنكيل لأصحابه والمؤمنين به المتبعين له، فلقد عذب كثير من الصحابة رضي الله عنهم، من أمثال سيدنا بلال بن رباح، وعمار بن ياسر وأبيه وأمه الذين قضوا نحبهم في سبيل الله تعالى، ومصعب بن عمير، وصهيب بن سنان الرومي، وأبو فكيهة أفلح الذي كان مولىً لبني عبد الدار، وخباب بن الأرت، وزنيرة أمة رومية التي أسلمت ثم عمي بصرها، ثم شفيت فقالوا سحر محمد، وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وغيرهم كثير ممن آمنوا في طليعة الدعوة الإسلامية. ومن ذلك أيضاً: إثارة الشبهات الباطلة الكاذبة حول القرآن والرسول، وأنه ما هو إلا بشر مثلهم، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينام، كما حكى القرآن عنهم ذلك قال تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُورا ً، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيما ً، وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا ً، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورا ً، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً" (الفرقان:4 - 9)، واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، وما كل ذلك إلا ليصدوا عنه الناس وعن أتباعه وتصديقه في رسالته ونبوته، وكذبوا البعث بعد الموت والخروج من القبور، وغير ذلك مما حكاه الله لنا في كتابه العزيز.

ومنها أيضاً: تقديمهم الإغراء والعروض الرخيصة من تولية الملك والسلطان عليهم، وجلب المال له ولأصحابه وجعلهم من أئمة الثراء والغناء بينهم، وتزويجه بالنساء والتمتع بهن على الفرش، وشفائه من أمراضه وعلله إن كان الذي نزل به من الأدواء وأنواع السحر، حقاً إنه السفه البشري الذي أضل العقول والقلوب عن هذا النور والحق، وعن هذا البيان الشافي الهادي الواضح، وعن هذا الإعجاز البين القاهر، لقد غلب عليهم الكفر والمعاندة للحق، والجحود والتكذيب مع كمال علمهم بأنه الصادق الأمين، ولكنها السنن الربانية الجارية في الكون لحكمة يريدها الله تعالى، للتمكين لهذا الدين، والتمهيد الرباني لظهوره على سائر الأديان من دونه والنحل الجاهلية المعاندة. ومنها أيضاً: محاولاتهم المتكررة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ومطاردته ونفيه، واجتماع قريش على ذلك بغية الوصول إلى شيء من التصدي لمد هذه الدعوة الجديدة عليهم، وقد أثبت القرآن ذلك ليكون لنا العظة والعبرة من أعداء الدعوة وأصحابها في كل زمان ومكان كما قال تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ". * عوامل الثبات والتمكين: ومع تنوع أساليب الجاهلية في مدافعة الحق والغلبة عليه، إلا أن الله ثبت نبيه ورسوله، وثبت الصحابة الذين آمنوا معه، وصدقوا نبوته ورسالته، ثبتهم لا لأنهم أصحاب الثروات والأموال، ولا لأنهم من ذوي الجاه والسلطان، ولكن ثبتهم لعدة عوامل جليلة وجدت في هذا الجيل المؤمن. وأولها: أنهم أصحاب عقيدة صادقة، وإيمان لا تزعزعه الرياح والأعاصير من الشهوات والشبهات؛ ولأنهم أيقنوا أن هذا الدين هو فطرتهم التي تصرخ في أعماق نفوسهم أنه لا إله إلا الله وحده، لا يشاركه ولا ينازعه في ربوبيته ولا ألوهيته منازع أو شريك؛ ولأنهم جعلوا التوحيد طريقهم إلى الله والدار الآخرة، وجعلوا إفراد الله وحده بالعبادة من الذبح والنذر والطواف وغيرها أحق وأجدر، لأنه المعبود المستحق لذلك فلا شريك له، ولا منازع له، ولا مماثل ولا مكافئ له؛ وثبتهم لما رأى الإيمان خالط بشاشة قلوبهم فأضاء لها الطريق من جديد إلى الله المعبود سبحانه. وثانيها: أن الله علم منهم صدق المتابعة والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلقد آمنوا بالله ورسوله، وصدقوه وتابعوه بمجرد الوقوف معهم بإثبات حقيقة الباطل الذي عليه أمر الجاهلية، وأنها عبدت من دون الله ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، من الأصنام والأحجار والأوثان، وما إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإسلامه من ذلك ببعيد. وثالثها: إعراضهم عن زينة الحياة الدنيا وزهدهم فيها، فلم يكونوا ممن يريدون شيئاً من متاع الدنيا وزخرفها، ولا متعها وقصورها. ورابعها: الكتاب المنزل القرآن الذي ملأ قلوبهم معرفة بالله وإجلالاً له، وتعرفاً على أسمائه وصفاته، وبيان وعد الله لهم بما أعده لأولياه وعباده في الدار الآخرة في جنات النعيم، من الثواب العظيم، والنعيم الخالد المقيم، وترغيبهم فيها وذكر بعض ما فيها من اللذات والفرش والنظر إلى وجه الله جل جلاله، فقاموا يتلون ويتدبرون هذا الكتاب، وقاموا به ليلهم متهجدين عابدين حتى تورمت أقدامهم بذلك أول الأمر وكتب السنة فيها من ذكر القيام والتلاوة شيء كثير.

وخامسها: اليقين القلبي الذي أوقعه النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم بأن الله سيمكن لهم ويبدل خوفهم أمنا وسلاماً، ويجعل العاقبة لهم، فبشرهم ووعدهم وجعل الأمل يدب في قلوبهم، فما كذبوا على استضعافهم، ولا نكلوا على قلتهم، بل صدقوا وثبتوا حتى يأتي أمر الله:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، بشر عمار بن ياسر، وبشر سراقة بن مالك، وبشر خباب بن الأرت وغيرهم فأيقنوا وصدقوا. * البناء والتمكين: لما ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من جيل الدعوة الأول، وصبروا على الكيد والمكر، والصد والاستهزاء، والإعراض والإغراء، وتركوا كل متاعهم وأموالهم، بل ونساءهم وأبنائهم وعشيرتهم لله ورسوله، وكانوا مثالاً واقعياً للثبات على المبادئ والحق، والتضحية الصادقة من أجله ونصرته، لما كان هذا حالهم مكن الله لهم في الأرض، وأذن لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان، والتوحيد والمتابعة، فلقد أذن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله، تمهيداً لعالم ومجتمع إسلامي جديد، مجتمع لا يعرف الجاهلية، ولا يعرف الشرك والوثنية، ولا يعترف بألوهية المخلوقات، ولا بفساد المعاملات، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصورات بشرية، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة، لقد أزالت الهجرة كل ذلك فالهجرة تجب ما قبلها، لقد قام صرح شامخ للإسلام ودعوته بعد عدة محاولات للهجرة والبناء للحبشة، وزالت غربة الإسلام والرسالة الأولى، ولم تعد غريبة على أرض الجزيرة، بل ظهرت كالشمس المنيرة في رابعة النهار، وعلا صوت الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية، زالت الغربة بهذا التمكين، الذي قام على أكتاف خيرة البشر بعد الرسل إنهم أصحاب الرسول وأتباعه، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه:"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً "، وكما جاء في الحديث النبوي بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ".

كان الإسلام ودعوته غريباً على عادات وتصورات وعقائد الجاهلية، كان غريباً في عقيدته وتوحيده:"أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ "، وكان غريباً في نظامه وشريعته:" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ "، وكان غريباً في أخلاقه:" إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً"، وكان غريباً في كل شؤونه وأحكامه:" يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم "، وكان غريباً في سياسته وحكمه:" وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم "، " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون "، وكل هذا البناء الشامخ كان السبب في انقلاب الجاهلية بكل مقوماتها وتصوراتها وعقائدها على الدعوة الإسلامية، والوقوف بينها وبين الناس وإيمانهم بها، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله:" والتقى أهل مكة بأهل يثرب. لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد. فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ. وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث. ولا تزال سيوفهم تقطر دماً. فألَّف الإسلام بين قلوبهم. ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم. ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين. فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء. وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء. كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده. وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها. لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار: " إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ". (ماذا خسر العالم:84) هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول، وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم صياغة جيل الدعوة الفريد، من مرحلة البناء والتكوين، إلى مرحلة القيادة والتمكين، إنه منهج فريد حقاً في كل مقوماته وإنجازاته .. ********************************* الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (2/ 4) (المنهج السلفي وطريق التمكين) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: طريق التمكين اليوم، طريق جهد وشاق، وقد أودع الله تعالى في كتابه وكونه سنناً ربانية وجارية، لإقامة هذا الدين في الأرض وفي دنيا الناس، وفصل لنا سبحانه معالم التمكين لدينه وشريعته، ودل عليها وأمر بها:"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ".

ولا ريب أن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة وملحة إليها، لما حل بالعالم كله من البلايا والرزايا والعقوبات الربانية، في شتى جوانب الحياة البشرية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، التي تجري في الكون وفق السنن الربانية التي أرادها الله تعالى، فمن وفق إليها وفق لطريق النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، ومن خذل عنها فهول المخذول، ولعلنا وقفنا فيما أشرنا إليه من قبل، أن طوق النجاة، وطريق التمكين لهذا الدين إنما منطلقه الأول والرئيس، في العودة الجادة الصادقة لهذا الدين، وشريعته المنزلة المتمثلة في هدي الكتاب والسنة والاعتصام بمنهج وفهم الصدر الأول من سلف الأمة بدأً من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جميعاً، والذي يتمثل فيما يسمى اليوم " بالسلفية " أو" الفرقة الناجية" أو "الطائفة المنصورة" أو" أهل الحديث والأثر" أو المصطلح العام الجليل" أهل السنة والجماعة" وكما جاء في الحديث: "فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" حديث حسن، ولهذا جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم الميزان الحق حين وقوع الفتن والافتراق في أمته كما جاء في الحديث المحفوظ المشهور حديث الافتراق الذي وقعت فيه الأمم، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" وفي بعض الروايات: "هي الجماعة" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. والسلفية تعني: الاتجاه المقدم للنصوص الشرعية على البدائل الأخرى منهجاً وموضوعاً الملتزم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه علماً وعملاً، المطرح للمناهج المخالفة لهذا الهدي في العقيدة والعبادة والتشريع. (السلفية وقضايا العصر:49). أو هي: اصطلاح جامع يُطلق للدلالة على منهج السلف الصالح في تلقي الإسلام وفهمه والعمل به، وللدلالة على التمسك بهذا المنهج والعض عليه بالنواجذ إيماناً وتصديقاً واتباعاً. ويقوم هذا المنهج على ثلاثة قواعد هامة وأصيلة: - صحة المعتقد. - صحة المنهج. - صحة السلوك.

وكما ذكرنا فإننا نؤكد على وجوب سلوك هذا المنهج الرشيد في دعوة الناس إلى الإسلام من جديد، لأنه المنهج الوحيد الكفيل بالتمكين لهذه الأمة الإسلامية وعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الأول، وهو المنهج الكفيل ببناء حضارة إسلامية مثالية، كما تمثلت كذلك طيلة القرون الماضية، وذلك لما يحمله من نظم في العقيدة والعبادة والتشريع الوسطي الشامل، ولقد مكن الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم في الغربة الأولى للإسلام في زمان النبوة، باقتفائهم هذا الطريق وهذا المسلك للكتاب والسنة، وكم رأينا من عوامل الثبات والتمكين لهم، التي جعلت منهم السادة والقادة والفاتحين، من أمثال أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، وجعلت منهم الأمراء والخلفاء الراشدين، من أمثال الخليفة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين، وجعلت منهم الدعاة والعلماء والقراء والمفسرين، من أمثال مصعب بن عمير وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وحملة مشاعل العلم والدعوة في جل ربوع العالم من حولهم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً رضي الله عنهم جميعاً، والتاريخ الإسلامي والفتوحات الإسلامية التي خاضها المسلمون الأوائل فيها دلالة واضحة على عظمة وجلال هذا المنهج الإسلامي الرشيد، الذي حملوه شريعة ومنهاجاً، سيفاً ومصحفاً، حتى دانت لهم الفرس والروم، والعرب والعجم. وإن كل محاولة للتمكين بعدهم في ظل الواقع المعاصر اليوم وما يحمله من عداء ومكائد وتفرق، لن تصل إلى كمال مرادها، وقوة تمكينها لهذا الدين، إلا إن سارت خلف هذا الركب الإيماني الرباني، وتلمست آثارهم، وحثت الخطى خلفهم، ولا يعني هذا مجرد التقليد الأعمى الذي لا يجاري التوازن بين ثوابت الشريعة وبين متطلبات الواقع المعاصر وما استحدث فيه كما تقول المدارس التغريبية والمدرسة العقلانية، لقد رأينا اليوم بعد معرفتنا لواقعنا المعاصر الأليم، أن كثيراً هم من يقولون ويبرهنون لنا أنهم سائرون خلف طريق السلف والصحابة والتابعين، ولكنهم حقيقة الأمر خالفوا طريقهم، وسلكوا مسالك للدعوة والتمكين لا تمكنهم من إثبات هذه الأقوال والدعاوى، فوقعوا في مسالك متناقضة من الجمع غير المتوافق بين مذهب السلف والخلف، وبين الصوفية والسلفية وربما العلمانية من باب حرية العقيدة، والوطن يسع الجميع والكل، وخلطوا كثيراً بين السنن والبدع التي إن تجمعت أخرجت أصلاً كلياً كبيراً، يدخل هذا المسلك الدعوي في مزالق الانحراف البعيد عن منهج أهل السنة والجماعة. لقد وقف المنهج السلفي على طول التاريخ الإسلامي كله أمام كل الفرق والمذاهب التي فارقت وخالفت الكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة والتابعون، بدأً من الخوارج والقدرية والشيعة والمرجئة ومن سار على منوالهم، وقارع بعض الصحابة هؤلاء من أمثال عبد الله بن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً، كما تصدى جاهداً أمام العقل المعتزلي والفلسفي وأصحاب التأويل والتعطيل، وبين فساد ما ذهبوا إليه وخالفوا فيه من الحق والسنن، وفي العصر الحديث اليوم وقف المنهج أيضاً بقوة وثقة ثابتة أمام التيارات والأفكار والمذاهب المحاربة للإسلام من الشيوعية الماركسية والعلمانية والاشتراكية وغيرها وما تولد منها، وقف ليبين للناس معالم الطريق والتمكين، ومعالم الشريعة والدين، ومعالم الحضارة الإسلامية المثالية الأرقى، ولهذا لم يتوقف هؤلاء عن معاداته والتشهير به، والنيل منه، والكيد له ولأتباعه، ورميهم بالتخلف والجمود والرجعية والأصولية. *المعادون للمنهج السلفي:-

لقد وقف أمام المنهج السلفي ودعوته الصافية، التي تمثل منظومة شاملة كاملة في جميع الحياة البشرية عقيدة، وعبادة، وأخلاقاً، ونظماً، اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، لأنه من عند الله وحده:" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فريقان معاصران: الأول: المدرسة العقلانية، التي تنوعت فيها آرائهم ومذاهبهم حتى وصلت بسبب اعتمادهم على عقولهم دون الوحي المعصوم أو بالتأويل المخالف إلى حد كبير أحياناً من التناقض والاختلاف، وزعموا أن المنهج السلفي ما هو: إلا مذهب جديد مبتدع في الدين، والتمذهب به بدعة، فهو لا يعني إلا مرحلة زمنية وصفها الرسول ? بالخيرية، وأنه ليس في الإسلام طائفة متميزة تُسمى بالسلفية، وقالوا كذلك: بأن الالتزام في العصر الحاضر بالمنهج السلفي الذي سار عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين أمرٌ لا موجب له، لأن هذا المنهج إنما هو موقف اجتهادي منهم ولا يلزم غيرهم الأخذ به، وأن السلف أهل السنة والجماعة يتنكرون للعقل ويغضون من شأنه وينحون به جانباً، ويُنكرون استخدام القياس، ويحكمون بالضعف أو الوضع على كل ما ورد في فضل العقل من أحاديث، والقائلون بهذا يعتمدون على الجمع التراثي من المذاهب والفرق جميعاً. أما الذين اتخذوا موقف التحديث في الفكر الإسلامي المعاصر من هذه المدرسة العقلانية، فقالوا: بأن سنة رسول الله ? تنقسم إلى سنة تشريعية يلزم العمل بها، وسنة غير تشريعية لا يلزم العمل بها، وأنه يدخل في القسم الثاني مسائل باب (المعاملات) في الفقه الإسلامي، لأنه من أمور دنيانا التي نحن أعلم بها، كما يدخل فيه تصرفات الرسول ? في القضاء والإمامة، وقالوا أيضاً: أن قضايا الاعتقاد مسائل فكرية، وأن الفكر يتغير بتغير الزمان والمكان، فالعقيدة إذن متجددة متغيرة وعلى المسلمين أن يختاروا ما يناسبهم من المناهج بحسب الظروف والملابسات التي يعيشونها، وقالوا أيضاً: أن أصول الفقه علم مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، وأنه نظرٌ مجرد، كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل، ومقولات نظرية عقيمة لا تلد فقهاً البتة، بل تُولِّد جدلاً لا يتناهى، وقالوا أيضاً: أن الأحكام تتغير بتغير الزمان، وأنه لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات والظروف والأحوال المختلفة المتباينة إلا بتأسيس معقولية الأحكام الشرعية، وذلك: باتخاذ تحقيق المصالح أساساً للتشريع، وبجعل دوران الحكم الشرعي مع الحكمة والمصلحة لا مع العلة، وبربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها.

والمتأمل لهذه الأقاويل والنزعات العقلية، يتبين له أن العقل البشري عقل قاصر عن إيجاد حلول ثابتة وصالحة لكل الأزمان والأجيال والأعصار، والأخطر من ذلك في مسلكهم هذا ذوبان الشريعة الإسلامية وأحكامها على مر العصور، حيث أننا لو تعاملنا مع نصوص الكتاب والسنة كما تقدم آنفاً بهذا المنطلق المنعزل عن فهم الوحي وفق المراد الرباني والنبوي الصحيح، لأدى ذلك إلى نقصان الأحكام الشرعية في شتى مجالات الحياة سياسية كانت أو اقتصادية أو أخلاقية أو تعبدية أو عقدية أيضاً، ولأدى إلى ذوبانها على مر العصور والأزمان فرأينا شريعة وأحكاماً متناقضة تماماً مع الوحي المعصوم من الكتاب والسنة، لأن هذه المدرسة وقفت من نصوص الوحيين المعصومين موقفاً متناقضاً، حيث يقولون إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل على النقل، ولا ريب أن هذا سخف من القول وضلال، إذ إن موجب العقل يقتضي خلاف ما ذهبوا إليه، لأن الله تعالى ما أوجد العقل ليتناقض مع وحيه المنزل، هذا من وجه، أما الوجه الآخر أن نصوص الكتاب والسنة لا يكون فيها اختلاف ولا تعارض في الأصل، لأن الله تعالى لا يجمع في شريعته ودينه ما يخالف بعضه بعضاً وينقض بعضه بعضاً، إنما التعارض في قصور الفهم الصحيح لمراد الله تعالى ومراد رسوله، وقد تكلم الفقهاء والأصوليون في هذه المسائل وبينوا طرقاً كثيرة في رفع توهم التعارض بين النصوص الشرعية. وأما الوجه الثالث: أنهم ما حققوا الإيمان والتسليم لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ إن العقل يقتضي أن التسليم والإذعان من كمال الإيمان بالوحيين الصافيين القرآن والسنة، كما قال تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينا"، وقوله تعالى": فلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما "،وكلام على بن أبي طالب رضي الله عنه أن الدين لو كان بالعقل لكان المسح على الخفين من أسفل، فهذه المدرسة العقلية لا تحمل منهجا ً عقدياً صحيحاً واضحاً تقدمه لأتباعها والمخدوعين بها، ولا تحسن إلى اليوم إلا ضرباً من علوم المناطقة والفلاسفة، الذين عارضوا الشرائع بالآراء والفلسفات الكلامية، وهم يظنون أنهم على باب من العلم لا يحسنه غيرهم، فأنكروا الغيبيات كالملائكة وعذاب القبر ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية، ومنهم من وقع في التأويل الباطل الذي ليس له من الشرع دليل ولا برهان. الثاني: المدرسة التغريبية، التي تفرعت هي الأخرى ما بين اتجاهات علمانية وماركسية شيوعية، وهؤلاء خلطوا كثيراً وتخبطوا كمن سبقوا في فهمهم لحقيقة السلفية ومذهب السلف، فقد أدخلوا كل منتمٍ للإسلام تحت أي مسمىً في مفهوم السلف والسلفية دون تمييز منهم بين المناهج والمعتقدات، وهذا مسلك خطير حيث يبن عورهم العلمي، وجهلهم التاريخي سواء للسلفية أو سائر الفرق المنسوبة للإسلام.

لقد بنوا طريقة تعاملهم مع السلفية على ما نشأ عندهم في القرون الوسطى المظلمة، حيث رجال الكنيسة والمعبد، الذي لا يحسنون قيادة الحياة ومواكبة الركب الحضاري، لأنهم كانوا منشغلين بكنائسهم ومعابدهم وطقوسهم، ومن هنا نشأت دائرة الانفصام بين الدين والدنيا عندهم، واعتقدوا بذلك أن سبب كل تخلف عن ركب المدنية والحضارة، إنما منشأوه من التدين والدين، فصارت العلمانية والتمرد على القيم والانفتاح المنفلت هي شعارات التقدم والرقي للمدنية المزعومة، ومن ثم تعامل هؤلاء مع المنهج السلفي الإسلامي بنفس المعطيات والآفات، فحكموا عليها وعلى أتباعها وأنصارها، والداعين إليها بأنهم من الذين يريدون عودة العالم من جديد إلى عصور الظلام والجهل والتخلف، فوسموها بالتخلف والرجعية والتأخر عن مواكبة مستجدات الواقع المعاصر، مع أن السلفية الإسلامية هي عدو للتخلف والتأخر والرجعية، كما أنها أساس وعماد للحضارة الإسلامية طيلة عشرة قرون متتالية، وستظل هكذا بأمر الله وحده. ولم يقفوا عند هذا التغريب بل تعدى ذلك إلى إيجاد مدرسة أخرى من بين هؤلاء المسلمين، تحمل سمومهم وأفكارهم وحقدهم على هذا الدين، وأضفوا عليهم ألقاباً زائفة ليوهموا السائرين في ركابهم أنهم " المثقفون، والمتقدمون، والتنويرون، والتطويريون، والنخبة "، إلى غير ذلك من أنواع النفخ والتكبير الذي لا يعدوا نفح الكرة بشيء من الهواء المعبأ، فرجعوا إلى بلدانهم حاملين لكل تغريب وغريب، ووقفوا أما دعوة الإسلام تأويلاً وتعطيلاً وتجهيلاً، فخرج منهم الكتاب والأدباء والمثقفون، الذي حملوا على الشريعة الإسلامية بالهدم للثوابت والأصول، والاتهام بأنها قاصرة عن مواكبة مسيرة الحضارة العالمية المسرعة في التقدم والمدنية، بل وعملوا على إحياء وتمجيد كل خبيث وماضٍ من التراث الفرعوني والإغريقي والروماني والوثني، وإحياء النعرات القومية والوطنية والحزبية، التي لا تزيد في أمة الإسلام إلا تفرقاً وشتاتاً، واحتراقاً من لفح الجاهلية الغربية المعاصرة منها والبائدة على طول التاريخ. ومن هنا وقفت المدرستان العقلية والتغريبية موقف العداء الصارخ لدعوة الإسلام عموماً، المتمثلة في السلفية خصوصاً دون غيرها من سائر الدعوات والحركات الدعوية المعاصرة إلا ما ظهر منها، وتولد من كل هذا أجيال وأجيال، أصابها الخور والوهن وحب التقليد الأعمى لكل دخيل ومستغرب، ولو كان يتنافي بوضوح ودلائل وبراهين مع مسلمات وأصول الشريعة الإسلامية، هذا من حيث العداء للمنهج والإسلام. *المخالفون للمنهج السلفي:-

أما من حيث المخالفة للمنهج السلفي في طرائق العمل الدعوي ووسائله وطبيعته ومنهجه، فيدخل في ذلك الجماعات الدعوية المعاصرة، والتي تحتسب غالباً في الصف الإسلامي بجميع مناهجها وتصوراتها، واتفاقها جملة على نصرة الإسلام، والسعي الحثيث لإقامة خلافته الراشدة من جديد، والمعادون للإسلام ودعوته يقفون منها كلها موقف العداء الصراح والخوف من توجهاتها وأهدافها، وهم لا يفرقون حقيقة الأمر بين الموافق منها للمنهج الإسلامي والمخالف في كثير أو قليل، فهي عندهم تمثل المشروع الإسلامي برمته، والمتأمل لواقع هذه التوجهات الدعوية والتجمعات يظهر له وجوهاً كثيرة مختلفة في طبيعة العمل والدعوة للإسلام حيث وجود الاختلافات السائغة وغير السائغة، والبدع والخلط بين الحق والباطل، والتي رجعت على جهود كثيرة من العاملين للإسلام بنوع من التردي أحياناً، والتناحر والتشاحن أحياناً أخرى، وأيضاً التفسيق والتبديع والتكفير مرات ومرات، لماذا ... ؟؟ لأن جل هذه الدعوات والحركات لم تتخذ من المسلّمة الشرعية ألا وهي: اتباع منهج الصحابة والسلف وتعاملهم مع نصوص الشرع من الكتاب والسنة، لم تتخذها طريقاً لبناء عمل دعوي صحيح، فوقفوا عند حبهم للصحابة والسلف رضي الله عنهم، واكتفى هؤلاء بالثناء والترضي عليهم، ولا بأس بالاستدلال ببعض فتاويهم ومواقفهم التي توافق ولا ريب كثيراً مما ذهبوا إليه، وربما عابوا كثيراً على إخوانهم المخالفين لهم المتبعين لمنهج السلف قولاً وعملاً واعتقاداً، وقالوا بقصور نظرهم وضيق أفقهم، عن إدراك الشمولية والوسطية لحقائق هذا الدين الكبير، ولبعدهم أيضاً عن معترك الفكر والسياسة الواقعية، ومن هنا فلديهم قصور في النظر، وضحالة في الفهم، وضيق في الأفق، وحقيقة الأمر أنهم أخطأوا الطريق إلى الحق بهذا القول والتصور الذي خالط عقولهم ومنهجهم، لأن الخلط بين المنهج شيء، وبين تطبيق المنهج من حملته شيء آخر، نعم قد يقع الخطأ وتزل القدم، من بعض أناس يحسبون على الدعوة وهم في الحقيقة ثقل عليها، وهذا واقع عندهم وعند غيرهم، ثانياً: أن الاعتبار الذي ينبني عليه المنهج والعمل إنما يكون بصحة المنهج وسلامته اعتقاداً وتصوراً وسلوكاً، فلا اعتبار في الشرع للأفراد بدون ما يحملونه من مناهج ومعتقدات تحملهم على الحركة والبذل والدعوة والعمل، فإذا صح المنهج وسلم المعتقد، ننظر إلى سلوك العاملين ومدى توافقه مع ما يحملون من مناهج ومعتقدات وتصورات عن طبيعة العمل الدعوي أو غيره.

ثم أمر ثالث أكدنا عليه بأدلته الواضحة البينة لكل أحد بما سبق: أن حب الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يقتضي ذلك متابعتهم والسير على طريقتهم ومنهجهم في التلقي الفريد، والتعامل الصحيح مع هذا الدين وعقيدته وشريعته، هذا بمقتضي الحب والموالاة لهم، أما بمقتضي الشرع فقد أوجب الله ورسوله ذلك إيجاباً بالأمر البين في كتابه وسنة رسوله، بوجوب اتباعهم والأخذ عنهم وعدم المخالفة لهم في شيء مما شرع الله تعالى ورسوله، إلا ما كان من قبيل ما يجد من أحكام ومعاملات تتزل عليها الأحكام الشرعية وفق منهجهم ومذهبهم، لأن الشرع لا يتعارض مع ما يجد من وسائل ومستحدثات في أمور الحياة البشرية كما توهم ما لا بصيرة عنده بالشريعة وأصولها، ولا يقف منها موقف المعارضة والمباينة إلا إن تحقق بها إفساد وإخلال يرجع على مسائل الشريعة وأعراف وأخلاق الأمة ومعتقدها ودينها، ولا حاجة لي هنا أن أعيد ذكر الأدلة في ذلك لأنها أشهر من أن تذكر، إنما الإشكال، في حقيقة الاستجابة لله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته وأصحابه فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، لأن المسلم المتبع حقاً، المتسنن باتباع الهدي والسنة، لا يخالف في ذلك، بل يسلم ويذعن، ويرضى ويؤمن كما قال تعالى:" وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً "، فدلت الآية على وجوب متابعة سبيل المؤمنين والحذر من الوقوع في الوعيد لمخالفة هذا السبيل الذي سلكوه، وكما ذكرت كتب اللغة والتفسير أن السبيل هو الطريق، وأن أول المؤمنين الذين سلكوا طريق الإيمان والمتابعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم، فهم أول من عرف الإيمان والتسليم وكذلك السمع والطاعة وكذلك أيضاً الاتباع للأثر، ولهذا جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم الميزان الحق حين وقوع الفتن والافتراق في أمته كما جاء في الحديث المحفوظ المشهور حديث الافتراق الذي وقعت فيه الأمم، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" وفي بعض الروايات: "هي الجماعة" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.، وكذلك قوله تعالى:" َلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما ".

فالمقصود إذاً أن المعادين والمخالفين لمنهج ومذهب السلف، وقعوا في كثير من المخالفات الشرعية الخطيرة والكبيرة مع تفاضل بينهم فيما وقعوا فيه، وكل بحسبه إلا أصحاب المناهج المستغربة والعلمانية والشيوعية الملحدة، فهؤلاء ولا ريب ليسوا على شيء، والمتأمل في واقعنا المعاصر اليوم يعلم يقيناً أن جل هذه المناهج أو كلها لن تنصر ديناً، ولن تعيد مجداً مسلوباً، ولا حقاً مغصوباً، ولن تفلح أن تقيم للإسلام دولة على كتاب وسنة بينين واضحين، يهتدي بهما الناس، ويعيشوا آمنين مطمئنين على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأقواتهم، ولن تفلح كذلك أن تحارب عدواً يأخذ خيرات أمتنا، وينهب ما تملكه من مقدرات وثروات وكنوز، أو يحتل أرضاً، ويهتك شرفاً، ويذل عزيزاً من المسلمين، كما أنها وفي أفضل أحوالها سيسمح لها بإقامة بعض الشعائر والعبادات، والمشاركة هنا وهنالك في بعض المشاريع السياسية والاقتصادية دون أن تكون هي مالكة زمام الأمر، أو صاحبة القرار المتفرد بالمرجعية التي تريد وتنتمي، وهذا إن وقع فلا ريب أن حل ذلك أمر ميسور لديها بقرار حكومي أو دستوري كما يقولوا هؤلاء، وهذا رأيناه في بلاد الجزائر وتركيا، وكما يحدث بالتزوير في مصر وبعض البلاد الإسلامية الأخرى، وما مشروع حركة حماس في أرض القدس وفلسطين المباركة منا ببعيد، حيث العداء له، والتصدي لسياسته ومرجعيته، فكيف إذا ساد الأمر كل البلاد وفق الشريعة الإسلامية الصحيحة المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفق منهج وفهم السلف الصالح من صدر هذه الأمة المباركة. إن الواجب الملزم يفرض على كل الدعاة إلى الله تعالى وإلى شريعة الإسلام، أن يلزموا ما كان عليه السابقون الأولون من الصحابة والتابعين من مسائل الاعتقاد والمنهج والعبادة والسلوك في شتى شؤون الحياة الإسلامية كلها، لأن اتباعهم فيه السعادة والهدى، وفيه العز والسيادة والتمكين، فهم مكنوا في الأرض بهذا المنهج، وحكموا العالم وفتحوا البلاد، ودونوا الدواوين، واستخدموا العمال، وبنوا الحضارة في كل ميادين الحياة والعلوم، في حين أن أوروبا وغيرها كانت تعج في ظلمات الكفر والشرك من جانب، وظلمات التخلف المدني والإنساني من جانب آخر، فمن الظلم إذاً أن يوصم أصحاب هذا المنهج بأنهم لا يحسنون قيادة العالم ولا فقه الواقع، ولا يفقهون من شؤون الحياة والاقتصاد إلا ما يفقه العوام. إن المنهج السلفي طريق للتمكين الإسلامي، لأنه منهج رباني فريد، ومنظومة شاملة كاملة في جميع الحياة البشرية عقيدة، وعبادة، وأخلاقاً، ونظماً: اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، إنه منهج شامل لأنه من عند الله وحده:" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " نعم، قد يقع الخطأ والخلل في حملته لأنهم بشر، لكنه يظل المنهج الرباني المعصوم، الذي يجمع بين الأصالة والثوابت، وبين التغيرات والمستحدثات وفق منهج الله وشريعته. ******************************************* الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (3/ 4) (قيام المجتمع الإسلامي بواجباته الشرعية)

ينبغي على المجتمع المسلم أن يقوم بدوره في بناء جيل التمكين، وأن يساهم بدوره في مسيرة الدعوة الإسلامية، ولا يقف موقف المشاهد أو المتخاذل، فلا يقدم شيئاً ولا يؤخر، وقد بين الله تعالى لنا أن بني إسرائيل لما تخاذلوا عن القيام بأعباء الشريعة، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي المنكر، حل بهم عقاب الله ولعنته وغضبه كما قال عز وجل:" كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ " (المائدة79)، لقد حق عقاب الله عليهم لأنهم أهملوا الوجبات التي تصون مجتمعهم من الانحراف والضياع، وتقودهم إلى الخير والرشاد. فيجب على أمة الدعوة والهدى أن تقوم بواجبها الذي رسمه الله تعالى لها قال تعالى:"وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ، وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران: 104 - 110). فهذه الآيات تبين للمجتمع المسلم ما يجب عليه تجاه دينه ونفسه، صيانة له وأماناً، لأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحصل بها من الخير والصيانة للمجتمع المسلم الخير الكثير. ومن هنا جاءت الشريعة بها حتى في طرقات المسلمين العامة، وتوجب فيها عدم التغاضي عن هذه الفريضة. والمتأمل في السنة النبوية يرى ذلك كما جاء في الحديث عند الشيخين البخاري ومسلم في صحيحيهما: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والجلوس في الطرقات" فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله. قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".لأن المعروف دلالة على كل خير، وإرشاد لكل بر، والمعروف هو كل ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الخير والبر والتقوى، فالمسلم في طريقه لا يكون إمعة لا يدل الناس على الخير وما فيه الصلاح والهداية لهم، وإنما يرشد ويعلم ويحث الناس عليه، فإذا وجد مسجداً يحتاج إلى تمام بناء أو ما شابه ذلك حثهم وأمرهم بالصدقة، أو إذا وجد فقيراً محتاجاً أو مريضاً أو كبير السن فإنه يأمرهم بذلك الخير وإن استطاع هو فليكن أول فاعل لذلك الخير ليكون قدوة للناس وإماما لهم إلى الجنة ورضوان الله تعالى. لأن الأمر بالمعروف من أجل فرائض الإسلام التي تناسها كثير من الناس اليوم إلا من رحم الله تعالى، فبها قام الإسلام، وهى خيرية هذه الأمة دون غيرها من الأمم "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ".

أما النهي عن المنكر: فالمنكر والمحرم كل نهي نهانا عنه الله ورسوله، وجاءت الشريعة بتحريمه والوعيد عليه، وكما قلنا أننا جميعاً في سفينة واحدة فإن غرقت غرق الجميع، فالمسلم ليس بالفاقد للبصيرة، وليس بالمتغابي عن الواجبات والمنكرات والحرمات، يهز كتفيه للمنكر ثم يقول أمر لا يعنيني فلم أتدخل فيه، هذا ولا ريب نوع من السلبية القاتلة التي يكون آخرها عقاب وغضب من الله تعالى، ولن يلحق شخص بعينه بل على كل المجتمع يقع العقاب، وترك النهى عن الشيء المنكر والمحرم من أنقص صفات بني إسرائيل التي ذكرها الله تعالى لنا في القرآن، حتى نأخذ الدرس والعبرة منهم "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون". إن المجتمع الغربي والأوربي وغيره من المجتمعات الكافرة، لا تلتفت كثيراً إلى شيء من هذه المنكرات أو تعبأ بوقوعها، إلا فيما كان عائداً لهم بشيء من مصالح الدنيا الفانية الرخيصة، فهم لا ينكرون منكراً ولا يعرفون معروفاً إلا بقايا ورثوها وتناسوها على طول الزمان، فجل شوارعهم تحولت إلى دور سينيما، وملاهي ليلية، ذات اليمين وذات الشمال، ومواقعة للفاحشة اللهم إلا خشية ملاحقة القانون الذي لا يردعهم ولا يهذب نفوسهم وأخلاقهم. وطرقات المسلمين اليوم قد وقعت فيها كثير من مخالفات الشريعة وتعدي حرمات الله تعالى من الغش في البيع والشراء، والظلم، ... وتبرج النساء والعري والتهتك المائع الرخيص، ... وانتشار المقاهي ودور السينيما وعلوا الأصوات بالغناء والفحش من القول والبذئ منه ... وغير ذلك. فالمسلمون يجب عليهم في حياتهم عامة، وفي طرقهم خاصة النهي عن كل ما يغضب الله تعالى، ويخالف شريعته وكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا يشارك الناس بعضهم بعضاً في معاصيهم ومحرماتهم. بل الواجب على المسلم أن ينهي ويأمر ويرشد ويعلم ... ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة والأسلوب المهذب المقبول للنفوس، حتى لا يفسد من حيث يريد الإصلاح، أو يهدم من حيث يريد البناء، فالأمر بالمعروف إنما يكون بالمعروف، والنهي عن المنكر إنما يكون بغير منكر. وهذا أمر جاء به القرآن وجاءت به السنة النبوية ويحتاج إلى مزيد بيان وبسط في موضع آخر، والحديث جمع آداباً جليلة حقاً لو استقام المسلمون عليها لرأينا مجتمعاً راقياً في أخلاقه، عالياً في آدابه، آمنا في معاملاته، ... لأنه أقام شريعة الله تعالى فيما أراد الله له. كما يجب على المجتمع الإسلامي ألا يرضي أن يحكم حياته وأوضاعه القوانين الغربية الكافرة، بل على المجتمع أن يعلن في كل موقف رفضه لهذه القوانين التي هي من صنع البشر، وليست من منهج الله، والتي تبعده عن منهج القرآن والسنة، الذي ضمن الله لنا السعادة في الدنيا والآخرة.

فالإسلام عقيدة وشريعة، وأي تجزئة بينهما تعني كفر بهذا المنهج الرباني كما قال تعالى: " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " (البقرة85). فعلينا أن نعتز بهذا الدين، وأن نعتصم بحبله قال تعالى: " وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ " (الحج78). هذا واجب المجتمع الإسلامي الذي يسعى للنصر والتمكين، ويسعي لرضى الله تعالى والسعادة في الدنيا والآخرة. ************************************* الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (4/ 4) (قيام العلماء والدعاة بواجبهم وتوحيد الصف المسلم) نستطيع هنا بداية أن نقف مع مكانة العلماء والدعاة ودورهم الكبير في توحيد الصف المسلم، وبناء جيل التمكين الإسلامي بالوحدة على منهج السلف الصالح، بإيجاز في نقاط سريعة: - إن العلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم والدعوة، وورثوا الصلاح والهدى، ولا يمكن للأمة أن تتحرك بدون علمائها ومشورتهم وقولهم، وكم رأينا ثبات الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله أمام فتنة القول بخلق القرآن، وأمام علماء السوء الذي زجوا به وبأمثاله من أهل العلم إليها، ومع ذلك صبر على هذه الفتنة العمياء، لأنه لو زل وهو صاحب الكلمة الصواب، والرأي المسموع، لزل خلفه عالم كثير، فالعالم دوره كبير في نصرة الحق، وخدمة الدعوة، والحركة لها، وكم وقف العلماء في وجه الطغيان، ينصرون الحق، ويجاهدون في سبيل الله تعالى، والتاريخ مملوء بذكر آثارهم وثمار صدقهم وجهادهم. لقد رفع الله تعالى من منزلة العلماء كما قال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " وقال تعالى:" هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وبين أن العلماء أكثر الناس خشية لله تعالى فقد قال جل شأنه:" إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء" ولم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في الاستزادة من شيء إلا العلم قال تعالى:"وقل ربي زدني علما " واستشهد بهم سبحانه في أجل مشهود عليه وهو توحيده فقال تعالى:" شهد الله أنّه لا أله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط "، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه: أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر. والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته. والثالث: اقتران شهادتهم بشهادة ملائكته. والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فإنّ الله تعالى لا يستشهد من خلقه إلا العدول. والأحاديث الشريفة طافحة بذكر فضل العلم وبيان فضل العلماء نذكر منها حديث معاوية: " من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " متفق عليه، ومنها حديث أبي هريرة: " ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" رواه مسلم، ومنه حديث أبي أمامة: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال صلى الله عليه وسلم " إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذي.

فالآيات والأحاديث تبين فضل العلماء وخطورة القدح فيهم لأن لحومهم مسمومة فمن تكلم فيهم فقد هلك بتعريضه نفسه لغضب الله تعالى ففي الحديث القدسي:" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب .... "الحديث. رواه البخاري، والعلماء بلا شك من أولياء الله تعالى، قال الإمام الطحاوي في عقيدته المختصرة: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. - فالواجب على العالم الذي حمل أمانة العلم والدعوة ألا يركن إلى زهرة الدنيا، ويجعل الدعوة جانباً مهملاً في حياته، كلا، بل عليه أن يكون رحالة سائحًا في محلات مدينته, ومدن قطره, يبلغ دعوة الإسلام. انظر مثلاً كيف كانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام , وتبشر به, ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة , ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام , فلما أخبره بها وقال: "لا أزيد عليهن ولا أنقص" كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد, أتانا رسولك, فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ " رواه مسلم. أتاهم رسوله داعيًا, وكذلك الناس تُؤتى , ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية , ولو فصلت كلمة هذا الأعرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا, وكيف فارق أهله وبيته وأولاده, وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد, ليبلغ دعوة الإسلام. وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها, لابد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وزعم, ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة, فافقه سيرة سلفك وقلدهم, تصل, وإلا, فراوح في مكانك، فإنك لن تبرحه ... ويروي لنا التابعي الكوفي الفقيه النبيل عامر الشعبي, أن رجالاً "خرجوا من الكوفة, ونزلوا قريبًا يتعبدون, فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود, فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم , فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالو: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد , فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا". "كان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد، أو قيام بحق, أو اتباع للأمر, سأل عنه, وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة, وأحب أن يعرف أحواله". لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس, فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم, ويسأل عن أخبارهم, ويرحل للقائهم, ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم, ومن انتظر مجئ الناس إليه في مسجده أو بيته, فإن الأيام تبقيه وحيدًا, ويتعلم فن التثاؤب. قالوا في التعريف بموسى بن حزام شيخ البخاري والترمذي: "إنه كان ثقة صالحًا, لكنه كان في أول أمره ينتحل الإرجاء, ثم أعانه الله تعالى بأحمد بن حنبل، فانتحل السنة, وذب عنها, وقمع من خالفها, مع لزوم الدين, حتى مات" ().

- ولكن نرى على الجانب الآخر ممن لا يريدون لدعوة الإسلام أن تسمع، ولا أن يهتدي إليها الناس، يقفون موقف التنقيص والتشويه وإثارة الشبهات، حول هذه الكواكب المنيرة، والنجوم الزاهر، ورثة ميراث النبوة، وحملة راية العلم والإصلاح، ويقولون هؤلاء العلماء لا يصلحون لشيء من السياسات، ولا يعيشون إلا مع الكتب والأوراق، ولا يعلمون أحداث الواقع، ولا يفقهون الدوامات السياسية ولا الاقتصادية، فهم مع أنفسهم وكتبهم، وبين أطباق الطعام يتنقلون، وفريق آخر ينظر إليهم بعين السخط والبغض، لأنهم صاروا من المقربين إلى ذوي الملك والسلطان، وصارت فتاواهم وأقوالهم توافق هوى الحكام والساسة. وهؤلاء العلمانيون والمنافقون يأتون كل يوم بالشبهات حول الدعاة إلى الله تعالى، وأنهم أصحاب دنيا وشهرة، وأنهم لا يجيدون إلا لغة الصياح على المنابر، في حين أنهم يرون أنفسهم من المثقفين والمتنورين غير ذلك، فتلك النظرات والاتجاهات من الاتجاهات ساهمت كثيراً في تشويه صورة ومكانة أهل العلم، إضافة إلى المنتسبين إليهم دون فهم ولا علم ولا بصيرة. ولكن كل هذا ينبغي أن يطرح جانباً، لأن جل هؤلاء لا يمثلون شيئاً من حجم الدعاة والعلماء الربانيين والصادقين، السائرين على منهاج العلم والنبوة، نعم هناك أخطاء وزلات، نعم هناك أهواء وهفوات، نعم هناك جهل وتقصير، نعم هناك حب الجاه والسلطان، ولكن هذا لا يعني تعميم الأحكام، ولا تضييع المكانة السامية لأهل العلم التي رفعهم إليها ربنا سبحانه وتعالى. إن الأمة تقع في الضلال والفتن والبدع إذا لم يقودها العلماء الربانيون، إن الأمة تخنع للطغاة والظالمين إذا لم يصدع العلماء والدعاة بكلمة الحق في وجوه الطغاة والظالمين، إن الأمة تموت وتفنى يوم أن يُحقر العلم وحملته ودعاة الحق، وكم قرأنا وأدركنا مكانتهم يوم أن جاء التتار بالدمار، ويوم أن جاء الصليبيون بخيولهم وأذنابهم، وتصدى العلماء وقالوا كلمة الحق، وحثوا الناس على رفع رايات الجهاد في سبيل الله تعالى، واسترداد مقدسات المسلمين. وهل وقف اليوم بأمر الله تعالى وحده في وجه الطغيان الصليبي الغربي والصهيوني على العالم العربي والإسلامي إلا العلماء والدعاة إلى الله، لقد أذن الله لمسيرة دعوة الإسلام أن تعود من جديد، ولولا أن الله غالب على أمره، لضاعت القدس وفلسطين وكل العالم الإسلامي من أول يوم دخل فيه اليهود وغيرهم إلى ديار المسلمين، فلتجتمع الأمة من جديد حول علمائها، وليكونوا هم من يقود دفة الدعوة ومسيرتها، وإلا فلا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها ودعاتها. - بقي لنا توحيد الصف المسلم، وأعني به توحيد جهود العاملين للدعوة ونصرة الإسلام، لأنهم هم المعنيون أولاً وأخيراً؛ لأن جمهور المسلمين اليوم صاروا أتباعاً وجلهم على التقليد، إلا من وقف على شيء من البحث والعلم وأقوال العلماء، فنحن نرى بسبب التفرق والوقوع في دائرة الاختلاف السائغ وغير السائغ، متابعة للجماهير بحسب ما غلب عليه الظن أنه الحق، فترى جمهوراً مع جماعة وآخر مع أخرى وهكذا.

فالمقصود أن يقوم الدعاة والعاملون للإسلام بتوحيد صفوفهم، ونزع الحقد والحسد والبغضاء من قلوبهم، وأن يقفوا وقفة رجل واحد يريد الحق والإسلام، لأن الاختلاف والتفرق كما نراه الآن أظنه هو العقبة الكبرى أمام إقامة خلافة الإسلام ونصرة المسلمين، لماذا .. ؟ لأن الحكام والظالمين نعم هم عقبة كبيرة في مسيرة الدعوة والتوحد، لكنها عقبة زائلة بزوال أسباب إيجادها، فالله تعالى ما سلط هؤلاء على الأمة والتحكم فيها إلا يوم أن تحول بأس الأمة فيما بينها، فصار الاختلاف والتفرق والشحناء والحسد، والتزكية للنفس والمنهج ولو كان على غير سنة، فسلط الله علينا هؤلاء بسبب عدم اتباعنا لكتاب الله وسنة رسوله، وهذا حق لا يماري فيه إنسان فضلاً عن متابع للكتاب والسنة. كما أن الجماعات والدعوات اليوم كل منها يريد أن يصل أولاً قبل الآخر، بل ويرى نفسه جديراً بالوصول قبل إخوانه العاملين معه، فهو يرى من نفسه صاحب باع طويل في الدعوة، وتجربة كبيرة أيضاً .... إلخ. ومع وجود عقبة الحكام الظالمين كثيراً، لكنها عقبة تذوب وتتلاشى أمام وحدة الصف المسلم، ووحدة الدعاة بصدق وإخلاص للحق وتجرد، كما أمرنا ربنا بقوله تعالى:" واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .. الآية"، وكما قال ابن القيم رحمه الله:" لا تظن أن العدو غلب ولكن الحافظ أعرض". إن الدعاة والعلماء إذا توحدت جهودهم ودعوتهم، فلن يقف في وجههم شيء بأمر الله، لأنهم عندها يد واحدة، ويد الله مع الجماعة، ولأن الجماهير ستكون معهم تؤيدهم وتنصرهم بهذا الدين بحب ومتابعة وشغف للعدل والسلام. ولكن هنا ستظهر أمامنا عقبات كبيرة، إذ كيف تتوحد هذه الدعوات والجماعات، وهي ترى نفسها أجدر وأحق بالتقدم والفهم والقيادة .. وكيف تتوحد وهي ترى نفسها أدق فهما، وأقدر على فهم واقع الأمة وحدها دون غيرها من الدعوات .. بل ولربما ترى نفسها أولى بالخلافة والحكم. والمتأمل في جل هذه الاختلافات يجدها ترجع بالجملة إلى أمرين: الأول: الجهل بحقيقة الدعوة وأصولها ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم. وقد تعجب من هذا وتقول: وهل أحد اليوم يجهل حقيقة الدعوة وأصولها، بعد هذا التعدد الدعوي والفكري واختلافاته، والجواب نعم.؟ لأننا بينا وأشرنا وأكدنا مراراً، على أصل كبير في طريق الدعوة الإسلامية، أكثر الدعاة والعاملين اليوم لا يلتفتون إليه مع أنه من أجل الأصول وأكبرها، وهو الأصل الوحيد بعد الكتاب والسنة الذي لو حققته الجماعات والدعوات، لرفع محل الخلاف والشقاق والنزاع بينهم، ولتوحدت صفوفهم، هذا الأصل يكمن في متابعة الصحابة والسلف الأول قبل كل شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك بقوله:" فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً .. ثم قال. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .. الحديث" وقوله أيضاً:" الجماعة ما أنا عليه وأصحابي". نعم فإن منهج السلف هذا هو الإسلام بصفائه وشموله .. وما الجماعات الدعوية العاملة اليوم إلا دعاة إلى هذا المنهج .. فلا يظنن ظان أن دعوته بديلاً عن منهج السلف أو مغايرة له .. كلا، إنما الواجب أن تكون كل الدعوات إلى هذا المنهج فحسب. فاختلاف الدعاة الآن في صورة فهمهم لمنهج السلف وطرق تطبيقه، فمن هنا يزعم كل فريق الصواب والمتابعة دون غيره، مع قرب أو بعد، في صحة هذه المتابعة أو خطأها.

فالدعوات السائدة لا ينبغي أن تكون بديلاً عن منهج السلف، وإنما يجب أن تكون إليه لا إلى غيره ولا إلى نفسها، هذا هو الذي تخبطت فيه بعض الدعوات اليوم.، ولم تقف على حقيقة المتابعة لهذا المنهج. ومن جهل هذا الأصل الكبير فإن في دعوته قصور وخلل، أولاً لما أشرنا إليه، وثانياً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا عند وقوع الاختلاف والتفرق في الأمة، وخروج الفرق النارية كذلك أن نلزم جماعة المسلمين التي وصفها بقوله:" الجماعة ما أنا عليه وأصحابي". فالمتأمل ببصيرة وفهم، يعلم جيداً الطريق الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته عند وقوع الافتراق والاختلاف. ولست إلى اليوم أدري .. لماذا يختلف العاملون في الدعوة ومنهجها، وقد بينه الرسول هنا أشد بيان .. ؟؟ لعلي أقول إذاً إنه اتباع الهوى، ومجاراة النفوس على التحزب البغيض، والموالاة لغير الكتاب والسنة، ولكن نحسن الظن بإخواننا إن شاء الله. الثاني: اتباع الهوى مع بعض العلم المجاري لهذا الهوى في القلب، فهذه العقبة الخطيرة من أعظم التحديات التي تواجه الحركة الإسلامية في هذه الظروف الحرجة، وما يقع من فصائل العمل الإسلامي خير شاهد على ما نقول، وهذا واقع مر لا يغفل عنه إلا من حبس نفسه في مكتب مكيف أو جلس يُنَّظرُ للحركة من برج عاجي!! فما زلنا نرى من أبناء الحركة الإسلامية من إذا تكلم عن جماعته التي ينتمي إليها ويدعو لها تغاضى عن جميع أخطائها ولو بُين له ذلك بالدليل من القرآن والسنة الصحيحة، وعارض نور الضُحى بنور السُّهى وظل يبرر ويبرر حتى تصل أخيراً هذا الأخطاء - أحياناً - إلى محاسن!

فجماعته هي جماعة المسلمين، وهى وحدها التي على الحق وما عداها من الجماعات فهي على الباطل، وكل ما تفعله جماعته فهو شرعي وكل ما يصدر عنها فهو الصواب، وكل تاريخها أمجاد، وكل رجالها وقادتها ملائكة!! فإن تحدث عن شيخه أو أميره في الجماعة، بالغ مبالغة كبيرة، فشيخه هو الأوسع علماً، والأقوى حُجة، والأنصع دليلاً، وإن قال شيخه قولاً صار حجةً لا ينبغي أن تناقش، وإن أفتى شيخه فتوى صارت مُلزمةً لا ينبغي أن تُرد، بل وقد يوالى ويعادى إخوانه عليها، علماً بأن الله تعالى ما تعبدنا بقول فلان أو فلان من العلماء والأئمة كلا، إنما تعبدنا بما جاء في القرآن الكريم وما صح عن رسوله الأمين ? وكل عالم أو إمام يؤخذ منه ويُرد عليه إلا المعصوم، فهو وحده الذي يؤخذ منه ولا يرد عليه، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحىُ يوحى، ومن أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - طيب الله ثراه - قوله: "وصاحبُ الهوى يُعميه الهوى ويصمٍّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه ولا يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السَّنة، وأنه الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه، هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء، ليُعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يَّدعى الحق والسنة هو كنظيره، ومعه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة؟! " وهذه العقبة الخطيرة - اتباع الهوى - تحتاج من الدعاة إلى صبر طويل وإلى جهاد مرير لهوى النفس وشهواتها والاستعلاء على رغباتها طاعة لله وطمعاً في رضاه وهذا لا يكون إلا بالتجرد والإخلاص والعمل ابتغاء مرضاة الله جل وعلا، بغض النظر على لسان من أُعلنت كلمةُ الحق ما دامت كلمةُ الحق ستقال، وبغض النظر عن من الذي سيرفع راية الإسلام ما دامت راية الإسلام ستظل مرفوعة خفاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء، وبغض النظر عن مكاننا على طريق الدعوة هل هو في مكان الصدارة والقيادة أم هو في المؤخرة بين صفوف الجنود ما دام عملنا على طول الطريق خالصاً لله جل وعلا. () فالمقصود: أن هذين الأمرين: الجهل واتباع الهوى هما أشد العقبات على تنوعها، أما توحيد الصف المسلم لمواجهة الطغاة والظالمين في الداخل والخارج، فطريق النجاة وتوحيد الأمة والدعاة يرجع بعد كل هذا إلى: 1 - رفع الجهل من النفوس والمناهج بحقيقة الدعوة وأصولها وفق الكتاب والسنة، ومتابعة أهل العلم في بيان ذلك. 2 - الاتفاق على أن منهج السلف هو المنهج الإسلامي الوحيد الذي يحتوى في أصوله ومبادئه، أصول توحيد الأمة والصف المسلم، كما أنه يدعى إليه لا إلى غيره. فنحن ندعوا إلى الأصيل لا إلى البديل عنه، وكما جاء:" ومن شذ شذ في النار"، فيجب على الأمة اتباعه دون تذبذ أو التواء. 3 - التجرد والإخلاص، وترك متابعة الأهواء والنفوس والمناهج التي تخالف الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح. 4 - توحيد الهدف والغاية من كل هذه الدعوات، بأن يكون تحكيم شريعة الله في الأرض، وتعبيد الناس لهذا الشرع الذي هو تعبيد لهم لله وحده دون من سواه من البشر والقوانين والطواغيت. 5 - ثم تربية الجيل المؤمن على ذلك، وكما أشرنا من قبل، عندها لن يتأخر وعد الله لنا بالنصر والتأييد والتمكين كما قال تعالى:" إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". المصدر: شبكة القلم الفكرية

حكم الضرب بالدف والطبل وسماعهما

حكم الضرب بالدف والطبل وسماعهما علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية 28 محرم 1430هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد: فالأصل في جميع أنواع المعازف تحريم سماعها واستخدام آلاتها للرجال والنساء معاً لحديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحريرَ والخَمْرَ والمَعَازِفَ)؛ أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم. ولحديث عامر بن سعد البجلي قال: (دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود وجوارٍ يضربن بالدف ويغنين فقالوا قد رُخِّصَ لنا في اللهو عند العرس) (حديث حسن رواه النسائي وغيره) والرخصة لا تكون إلا بعد أمر محظور أو محرم. والدف والطبل من هذه المعازف قطعاً، قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: (العزف: اللعب بالمعازف وهي الدفوف وغيرها مما يضرب به) وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 484): (وآلات المعازف: من اليراع والدف والأوتار والعيدان). وقال ابن حجر في الفتح (10/ 46): (وفي حواشي الدمياطي، المعازف: الدفوف وغيرها مما يضرب به). فالدف والطبل لغة وشرعاً من المعازف التي ورد النص بتحريمها. والفرق بينهما على الراجح أن الدف مفتوح من أحد طرفيه وليس له جلاجل أما الطبل فمغلق من الجهتين، قال الحافظ ابن حجر: (الدف الذي لا جلاجل فيه فإن كانت فيه جلاجل فهو المزهر) (الفتح 2/ 440) إذا علمت هذا الأصل فاعلم أنه قد جاءت أحاديث مستثنيةً استخدامَ الدُّفِّ للنساء والصغار فقط وبقي الرجال على الأصل، وليس هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن صحابي أو تابعي أن رجلاً ضرب بالدف أو ضرب أمامه رجل. ومما يدل أيضاً على أن الأصل في الضرب بالدف التحريم إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في نعته للدف بمزمور الشيطان عندما سمعه من الجويريات، وهذا النعت لم يأت إلا نتيجة لما استقر في ذهن أبي بكر رضي الله عنه من التحريم العام للمعازف، ومنها الدف، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين له أن الدف أبيح استثناءً للجويريات في يوم العيد، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه نسبه إلى الشيطان بقوله: (إن الشيطان ليخاف منك يا عمر) لما ألقت الجارية الدف عند مقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلو كان في أصله مباحاً ما نسبه للشيطان. وأما الأحاديث الوارد فيها الأمر بصيغة الجمع كحديث عائشة رضي الله عنها وفيه (واضربوا عليه بالدف)، وحديث معاذ رضي الله عنه وفيه (دففوا على رأس صاحبكم)، وحديث أنس رضي الله عنه وفيه (اضربوا على رأس صاحبكم). فكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة. إذاً فالدف أبيح استثناءً من الأصل وللنساء والصغار فقط كما تقدم. وقد تتبعت جميع الأحاديث التي أباحت استخدام الدف فكانت كلها للنساء والصغار ولا تخلو من حالتين: العرس والعيد وهناك حالة ثالثة فيها خلاف بين أهل العلم سيأتي الكلام عنها مفصلاً وهي عند قدوم غائب. فمن الأحاديث التي أباحته في العرس حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم غداة بُنِيَ عَلَيَّ فجلس على فراشي كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف .. ) رواه البخاري ومن الأحاديث التي أباحته في العيد: (حديث عائشة أن أبا بكر رضي الله عنهما دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى) رواه البخاري

بل إنَّ جميع ما ورد في الأحاديث الصحيحة الصريحة في استخدام الدف، إنما كان من الجويريات الصغيرات، إلا حديث بريدة رضي الله عنه وسيأتي الكلام عنه. ففي حديث عائشة رضي الله عنها في النكاح (فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف) رواه الطبراني في الأوسط. وفي حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها (فجعلت جويريات يضربن بالدف) رواه البخاري. وفي حديث أنس رضي الله عنه (فإذا هو بجوار يضربن بدفهن) رواه ابن ماجه. وفي حديث عائشة رضي الله عنها في العيد (وعندها جاريتان تضربان بدفين) رواه أحمد والنسائي. لكن هناك فرق بين حكم ضرب الرجال للدف، وبين سماع الرجال لضرب الدف؛ لأن سماع الرجال لضرب الدف إذا كان من الصغار وفي العرس أو الأعياد فهو جائز وقد وردت فيه أحاديث تقدم بعضها. أما ضرب الدف عند قدوم الغائب فقد ورد فيه حديثان: الأول: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: (أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ ببعض المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفهن ويتغنين) رواه ابن ماجة وليس عنده أنه قدم المدينة فلا يُستشهد به على قدوم الغائب ثم إنهن صغيرات يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في آخر الحديث: (يعلم الله أني لأحبكن). والثاني: حديث بريدة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله صالحاً -وفي رواية: سالماً- أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليخاف منك يا عمر) رواه الترمذي والذي يظهر أن هذه الحادثة واقعة عين لم تتكرر فلا عموم فيها ولا تُعارض بها النصوص. وواقعة العين هي الحادثة الظنية التي تعارض أصلاً أو قاعدة كلية في الشريعة وتكون محتملة لأكثر من تأويل، وقضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال، ومن الأمثلة المشهورة في واقعات العين قصة رضاع سالم مولى أبي حذيفة من سهلة بنت سهيل رضي الله عنهم والمعروفة عند الفقهاء برضاع الكبير. وعليه فهذه الحادثة واقعة عين لا عموم لها, وحوادث الأعيان لا يستدل بها على عموم الأحكام, فالجارية نذرت أن تضرب فوق رأس النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً بعودته سالماً, وهذا لا مماثل له ليُقاس عليه، والذين أباحوا الضرب بالدف في كل مناسبة فرح وسرور وعند قدوم أي غائب غفلوا عن النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن الضرب بالدف ما لم تكن قد نذرت, والنهي قد جاء في الحديث نفسه بلفظ: (وإلا فلا) وفي لفظ آخر: (وإلا فلا تفعلي) فهذا نهي صريح عن الضرب بالدف فرحاً بعودته صلى الله عليه وسلم, والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم واستُثني من ذلك أن تكون قد نذرت أن تضرب فوق رأسه هو صلى الله عليه وسلم فالحالة المستثناة من النهي الصريح هي حالة النذر بالضرب فوق رأسه هو, فرحاً بعودته هو صلى الله عليه وسلم فالخصوصية هنا واضحة ولله الحمد. ولو سلمنا بأنها ليست خصوصية وأنها ليست واقعة عين فليس فيها دليل على جواز الضرب بالدف لكل قادم فما أكثر سفر الصحابة وقدومهم ومع هذا لم ترد رواية واحدة أن أحداً من النساء أو الجويريات ضرب بالدف على رأسه فضلاً عن الرجال. أقوال أهل العلم: 1 - قال الإمام أحمد: أذهب إلى حديث إبراهيم: كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجواري في الطريق معهن الدفوف فيخرقونها (الأمر بالمعروف للخلال 1/ 172)

2 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (رخص للنساء أن يَضْرِبْنَ بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يَكُنْ أحدٌ منهم يضرب بدف ولا يصفق بكَفٍّ) (مجموع الفتاوى 11/ 565) 3 - وقال الحافظ ابن كثير: (نقل غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على تحريم اجتماع الدفوف والشبابات، ومن الناس من حكى في ذلك خلافاً شاذاً، وأما انفراد كل واحد من الدف واليراع (القصبة) ففيه نزاع في مذهب الإمام الشافعي والذي عليه أئمة الطريقة العراقية التحريم وهم أقعد بمعرفة المذهب من الخراسانيين، ويتأيد ما قالوه بالحديث المتقدم -يعني حديث ليكونن من أمتي- ولا يستثنى من ذلك إلا ضرب الدف للجواري -الصغيرات- في مثل الأعياد وعند قدوم الغائب المعظم وفي العرس كما دلت على ذلك الأحاديث كما هو مقرر في مواضع، ولا يلزم من إباحة ذلك في بعض الأحوال إباحته في كل حال) (ملحق كتاب الكلام على مسألة السماع لابن القيم ص 473) 4 - وقال الحافظ ابن القيم: (فكل متكلم بغير طاعة الله ومصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام) (إغاثة اللهفان 1/ 256) 5 - وقال الحافظ ابن رجب في فتح الباري (6/ 82): (ولهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال؛ فإنه من التشبه بالنساء، وهو ممنوع منه، هذا قول الأوزاعي وأحمد، وكذا ذكر الحليمي وغيره من الشافعية ... فأما الغناء بغير ضرب دف، فإن كان على وجه الحداء والنصب فهو جائز. وقد رويت الرخصة فيه عن كثير من الصحابة) 6 - وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (واستدل بقوله: "واضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء، لكنه ضعيف والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن) فتح الباري (9/ 185) 7 - وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي: (حكى الإمام البيهقي عن شيخه الإمام الحليمي -ولم يخالفه- أنَّا إذ أبحنا الدف فإنما نبيحه للنساء خاصة. أ. هـ. وعبارة منهاجه: وضرب الدف لا يحل إلا للنساء لأنه في الأصل من أعمالهن وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء) (كف الرعاع للهيتمي) (2/ 292) وقال: ( ... إن جماعة كثيرين من أصحابنا قالوا بحرمته -يعني الدف- في غير العرس والختان بل اعترض تصحيح الشيخين إباحته في غيرهما بأن الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه وعليه جمهور أصحابه أنه حرام في غيرهما ... وأما الإباحة مطلقاً فلا دليل عليها والاستدلال له بلعب الجواري به ضعيف، لأنهم سومحن بما لم يسامح به المكلفون) (كف الرعاع 2/ 291) أما الختان فلا أعلم فيه حديثاً يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أثراً عن صحابي. والخلاصة: 1 - أن الطبل محرم في أي حال وعلى كل أحد لأنه من المعازف التي لم تُستثن من الأصل. 2 - أن الدف من المعازف المحرم على الرجال الضرب بها على أي حال وفي أي مناسبة. 3 - أنه رُخِّص فيه للنساء وللصغيرات خاصة وفي الأعراس والأعياد فقط. 4 - أنَّ سماعه للرجال من الصغيرات مباح في الأعراس والأعياد فقط. 5 - أنه لا يجوز الضرب به في المناسبات الأخرى كقدوم غائبٍ، أو في ختانٍ، أو عند شفاء مريض, أو تخرج من جامعة, أو حصول على درجة علمية, أو منصب رفيع أو ما شابه ذلك. 6 - أنه لا يجوز سماعه من أشرطة الكاسيت إلا في المناسبتين التي رُخص لنا فيها ومن النساء أو الصغيرات. والله أعلم

الشاب المسلم بين السلبية والإيجابية

الشاب المسلم بين السلبية والإيجابية د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي الحمد لله الأول، والآخر، الظاهر، والباطن؛ الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم، الحمد لله القائل في محكم التنزيل: (اقرأ باسم ربك الذي خلق؛ خلق الإنسان من علق). أما بعد: فإن (الإيجابية) و (السلبية) كلمتان شاع استعمالهما في الأزمنة الأخيرة استعمالاً كثيراً على كافة المستويات؛ يستعملهما الصحفيون، والمؤلفون، وعامة الناس، فتجدهم يقولون هذه (ظاهرة إيجابية) وتلك (ظاهرة سلبية) و (فلان إيجابي) و (فلان سلبي). ولا نعلم لهاتين الكلمتين مدلولاً شرعي، لكن كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح. فالألفاظ أوعية للمعاني. الإيجابية: تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء، والمساهمة، والاقتراح البنَّاء. والشخص الإيجابي: هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه. والسلبية: تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق. والشخص السلبي: هو الفرد البليد، الذي يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، ولا يمد يده إلى الآخرين، ولا يخطو إلى الأمام. وهذا التصنيف، أمر مشهور في القديم والحديث، فإن الله قسم الأخلاق، كما قسم الأرزاق. لكن الذي يهمنا، في هذا المقام، واقع الشباب المسلم الذين انتظموا في سلك الدعوة إلى الله، وحُسبوا من شباب الصحوة الإسلامية، فقد يصاب الشاب بداء السلبية، ويفقد مزية الإيجابية دون أن يشعر. تضمه حلقة ذكر، فيظن نفسه إيجابياً ويرى أقرانه في الشوارع، لا يشهدون ما يشهد، فيقول: هؤلاء سلبيون، وأنا الإيجابي. فلا يسوغ أن نخدع أنفسنا، ونغش ذواتنا، بل علينا أن نتأكد بصورة حقيقيةٍ، من واقعنا وحالنا. إننا حين نرصد هاتين الظاهرتين (الإيجابية)، و (السلبية)، في حياة المؤمنين، فإننا نجد أمثلة نادرة لقوم منَّ الله تعالى عليهم بالإيمان الفاعل، المتحرك، الذي نسميه في مصطلحنا المعاصر (الإيجابية). ومن تلكم الأمثلة: أولاً: قصة مؤمن القرية قال: الله عز وجل: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" لنتأمل حال هذا الرجل الداعية، من خلال عدة وقفات: الوقفة الأولى: (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) جاء من مكان بعيد؛ لم يمنعه بُعد المكان أن يأتي ليبلغ دعوته، وينشر معتقده، فقد جاء من أقصا المدينة! فلم يقل: الشُّقة بعيدة، والمسافة طويلة، والأمر صعب، بل اطرح جميع هذه المعوقات. هذه واحدة. والوقفة الثانية: إنه جاء (يَسْعَى) ولم يأتي ماشياً! فإن ما قام في قلبه من الحماس، والحمية، والحركة، والرغبة، في نقل ما عنده إلى الآخرين، حمله على أن يسعى. الوقفة الثالثة: (من أقصا المدينة) وعادةً، لا سيما في الأزمنة السابقة، لا يسكن أقصا المدينة إلا بسطاء الناس، وضعفاؤهم، وفقراؤهم، فلم يمنعه ما هو عليه من شظف العيش ودنو المنزلة الاجتماعية، من أن يجهر بدعوته. الوقفة الرابعة: "قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" كلمة ً صريحةً، واضحةً، صرخ بها بين ظهراني قومه. ولربما كان هذا الإنسان قبل أن يمن الله تعالى عليه بالإيمان، لا يقوى أن يرفع طرفه إلى الملأ من قومه، مما يجد في نفسه من الشعور بالذلة والمهانة، فهو ليس

من علية القوم، يعيش في قصر في قلب البلد، لا وإنما يعيش في ضواحيه، وأطرافه وكما قال بعض المفسرين: أنه كان يعمل (إسكافاً) وهي مهنة بسيطة دنيئة. لكن الإيمان الذي وقر في قلبه، حمله على أن يشعر بعزة الإيمان، واستعلائه، فيصيح بين ظهراني قومه، قائلاً: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"، دون سابق ممارسة، واعتياد. وإنما يتكلم الإنسان، ويمتلك الشجاعة الأدبية، لما يقوم في قلبه من الإيمان العميق بالحق الذي يعتقده. فلماذا نتلجلج أحياناًً؟ ولماذا نتلكأ؟ ولماذا نحجم؟ إن هذا ناتج عن ضعف الإيمان، وبرودة المعاني التي نعتقدها، أما إذا حَيَت في قلوبنا هذه المعاني، فإنها ستظهر على فلتات اللسان، وحركة الأبدان، للتعبير عنها. الوقفة الخامسة: "اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ": هاهو يناظرهم، ويجادلهم، ويشير إلى بعض نقاط الخلاف بين قومه وبين أولئك الرسل الكرام الذين أرسلوا إليهم، ثم يسوق الحجج العقلية، والفطرية، فيقول: "وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ" هذا مثال لمؤمن حمله إيمانه الحق الصادق، على أن يجهر بدعوته، لا يجمجم، ولا يهمهم، وإنما يأتي بها صريحة، واضحة، بينة، في منتديات الناس. إيمان فاعل، إيمان ناشط، إيمان واعٍ؛ يدرك تبعاتها، وآثارها، وما سوف تجر عليه من مسؤوليات، لكن ذلك لم يمنعه ولهذا قال ذلك الكلام بين ظهراني قومه، ونادى بملأ فيه: "إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ " فقتله قومه شر قتله، حتى ذكر بعض التابعين الذين يروون عن أهل الكتاب أن قومه وطئوه بأقدامهم حتى قضوا عليه، وقيل أنه قطعوه إرباً. ولكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد! يظل الإيمان الفاعل يحمل صاحبه على النصح للآخرين، قائماً، فبعد أن بُشِّر:"قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ"! سبحان الله! حتى بعد الموت، والفوز بالجنة، لا يزال في قلبه الشعور بالرغبة في العطاء، الرغبة في البذل، والنصح للآخرين. ولم يشأ أن يتشفى بهم، أو يجعل ذلك ذريعةً للنيل منهم، وإنما تمنى من سويداء قلبه أن يعلم قومه بعاقبته، لعل ذلك يحملهم على أن يقبلوا نصحه. قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا؛ لَمَّا عاين من كرامة الله. وقال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"، وبعد مماته في قوله: " يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ"رواه ابن أبي حاتم. قال ابن كثير، رحمه الله: (ومقصوده: أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب، والجزاء، والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه) ثانياً: قصة الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه:

كان يتحاشى، ويحاذر أن يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب تحذير قريش. فلما سمعه، وأدرك صدقه، بعقله، وثاقب نظره، وفطرته السليمة، آمن. ولكن الرجل لم يكتم إيمانه في قبيلته (دوس)، ولم ينكفئ على نفسه، دون أن يكون له أثر. وإنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل له آية. فلما أقبل على قومه، جعل الله له نورا ً بين عينيه. فسأل الله تعالى أن تكون في غير هذا الموضع، حتى لا يظنها قومه مُثله. فكانت في رأس سوطه. فلما جاءه أبوه قال: إليك عني، ما أنا منك، ولا أنت مني! وصنع ذلك مع زوجه، وقبيلته. فقالوا: ماذا أصابك؟ قال: إني ءامنت بالله، فإما أن تؤمنوا بما آمنت به، أو أفارقكم. فلم يزل بهم حتى وافقوه. وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، ومعه سبعون من قبيلته دوس! رجل واحد يأتي بسبعين رجلاً، منهم أبو هريرة! فلو لم يكن من فضائله، رضي الله عنه، إلا أن أسلم على يديه أبو هريرة، رضي الله عنه، لكفى. كفى أن أبا هريرة، أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسنة من حسنات هذا المؤمن الفاعل النشيط، الذي وقر الإيمان في قلبه، فظهر على أعماله وسلوكه. وصف الظاهرة اسمحوا لي الآن بعد عرض هذين المثلين الإيجابيين، أن أعرض لوصف مظاهر السلبية، التي صارت تتفشى في مجتمعات كثير من الشباب الصالحين هذه الأوقات. فقد كان الشباب في مطلع هذه الصحوة المباركة، فيهم من القوة، والبذل، والتضحية، بالأوقات، والحماس للدعوة إلى الله عز وجل، ما هو مضرب المثل. وكانوا قلة يواجهون باللوم، والتقريع، وإطلاق ألقاب السوء عليهم. فلم يزالوا صابرين، ناصحين، باذلين، حتى فتح الله على أيديهم، وكثر المهتدون بسببهم. ثم بتنا نرى جموعاً من الشباب، يحبون الخير، ويشهدون مجالسه، ولكنهم أقل عطاءً، وأضعف إنتاجاً، وأثرهم في المجتمع ضعيف. أصيبوا بداء (السلبية). وهذه الظاهرة تنشأ عبر خطوات؛ فتجد الشاب يعيش في مرحلة ما قبل الاستقامة حياةً ممتلئة، فعالة، مؤثرة، تضج بالعطاء، والحيوية، والذهاب، والإياب، والانشغال، لكن في مجال الباطل، والغفلة، واللهو؛ رحلات متتابعة، سفريات، وزيارات، ومشاريع كثيرة جداً. ثم يلتزم الشاب، ويجد طعم الراحة الإيمانية، وتتساقط عنه همومه، وإشكالاته، ويحس بالخفة النفسية. وهذه مرحلة طبيعية، وفرح إيماني صحيح. لكن بعضهم يسيطر عليه شعور بالانسحاب من الحياة العامة، والعيش في جو مغلق محدود، لا يتناسب من حيث العطاء مع وضعه السابق، إذا به يعود منغلقاً على نفسه، مطأطأ الرأس، خافت الصوت، لا ينتج، ولا يبذل. ويصدق عليه المثل القائل: (جبَّار في الجاهلية خوار في الإسلام) ثم تجد أن هذا الشاب الذي أصيب بهذا الداء داء (السلبية) يطمئن نفسه ببعض المسكنات، فيقول: هاأنذا أساهم مع الشباب في حضور بعض الأنشطة، وهاأنذا أحضر مناسبات الخير، وإذا دعيت أجبت. ويعتقد أنه بهذه المساهمات المحدودة، البسيطة قد أدى ما عليه. يشعر بالاكتفاء، والامتلاء. وهذا في الحقيقة داء. ليس المقصود أن تكون رقما فقط،، كلا! إنك حينما اهتديت إلى الله عز وجل، بات المطلوب منك أن تحمل غيرك، كما حملك غيرك، وأن تكون فاعلاً، مؤثراً، كما كنت قبل ذلك، لا أن تملأ المجالس، ويكون دورك فقط الدور الحضوري.

ثم لا يلبث صاحبنا أن تنشأ عنده اهتمامات جانبية، تافهة، تكون هي شغله الشاغل. وقد يتعدى الأمر إلى خطر أكبر، فيقع في الفتور، إذا طال عليه الأمد كما قال الله عز وجل: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ"الحديد"، فيقسو قلبه، وتموت أحاسيسه، وانفعالاته الإيمانية، ولا يستجيب لما كان يستجيب له من قبل. وربما أفضى به ذلك إلى الردة، والانتكاسة، كما نسمع بين الوقت والآخر: إن فلاناً أصابه شيء، وانتكس والعياذ بالله. وربما ابتلي هذا الإنسان السلبي، بمرض آخر خطير، وهو (حب النقد) و (توزيع التهم) و (الانشغال بتجريح الآخرين). فإنك، غالباً، لا تجد من يشتغل بالنقد، والتجريح، والوقيعة في الناس، ولاسيما الدعاة، والعلماء، إلا الفارغين. فالفارغون الذين ليس عندهم عمل، ولا دعوة، ولا طلب علم، ولا حسبة، شغلهم الشاغل أن يتكئ أحدهم على أريكته، ويشير بأصبعه السبابة، قائلاً: هذا صح، وهذا خطأ! وفلان أصاب، وفلان أخطأ! وربما لم يبلغ بعد أن يحسن تلاوة الفاتحة، أو يحفظ باباً من العلم. السلبية في البيت ففي البيت، ليس له تميز، ولا أثر؛ لا يأمر بالمعروف، ولا ينهي عن المنكر. وربما قصر في الحقوق الواجبة عليه من البر والصلة. لا يميز أهله بينه، وبين أخيه غير المستقيم، بل قد يفوقه بعض إخوانه في نفع أهله. وربما لا يقوم بتعليمهم ما يتعلم، ولا يجلب لهم الأشرطة، ولا الكتيبات، ولا يجلس معهم، ولا يحدثهم بأحاديث إيمانية، ولا يناصحهم ولا يسألهم عن ماجريات أمورهم. فهذا لاشك أنه نوع من السلبية. وليستذكر كل واحد الآن، ماذا يصنع في بيته؟ هل أنت شعلة مضيئة؟ هل أنت زهرة فواحة، تنشر أريجها، وعبقها في كل ركن من أركان البيت؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم، خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي. فلماذا نحرص على الخير خارج بيوتنا، ونهمل بيوتنا، وهي ألصق بنا، وأولى ببرنا، وعطائنا؟! لا شك أن هذا يكشف خللاً في التربية، والتدين. السلبية مع الزملاء في المدرسة، أو الكلية، تجد علاقة هذا الإنسان المصاب بداء السلبية، مع زملائه علاقةً عادية في أحسن أحوالها، لا قدوة، ولا أخلاق، ولا تميز. فالمفترض في من يحمل بين جنبيه إيماناً دافقاً، أن يكون بين زملائه، الذين هم أصلاً مهيئون لطلب العلم، داعية، ومذكراً، وأن يباشرهم، ويتعرف على أحوالهم، ويدعوهم إلى الله، ويربيهم، ويتبادل معهم الخبرات، والمعلومات. يعطي هذا شريطاً، ويهدي لهذا كتيباً، ويتفقد حال هذا، ويزور ذاك في بيته. إلى غير ذلك من صور التفاعل الإيجابي، لا أن يقعد ويحتل كرسياً في الفصل، دون أن يكون له أثر. وربما اجتاح الميدان غيره من دعاة السوء، واللهو، والعبث، فصاروا هم المقدمين، الذين لهم الكلمة النافذة، الذين يوجهون مناشط الفصل، ومناشط المدرسة، وبرامج الكلية، وهو يتفرج، لا يحرك ساكناً، لا يقدم ولا يؤخر. كما قيل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود سائل نفسك: حين تكون عضواً في جمعية النشاط المدرسي، أو برامج النشاط التي تقام في الكليات، والجامعات، هل أنت تقدم الأفكار، والاقتراحات، والملاحظات، والمبادرات؟ فإن هذا لون من ألوان التفاعل والإيجابية، أم تكتفي بالحضور الصامت؟ السلبية في المسجد والحي

تجد هذا الشاب الموصوف بالسلبية، لا ثقل له بين جماعة مسجده، ولا اعتبار. نكرة من النكرات، لا يعرفه أحد! لأنه لا يبذل نفسه، ولا يسعى في حاجة المسجد، ولا يساعد جماعته، ولا يعظ، ولا ينصح، بل يأتي ليصلي، ثم ينصرف سريعاً، كأنه عابر سبيل. بل إنك تجد أحيانا ً بعض العامة يبذل في هذا المجال بذلاً عظيما؛ إذا جاء شهر رمضان، رأيت طائفة من الناس يشتغل في تهيئة المسجد، لصلاة التراويح، والعناية بالصوت، والإضاءة، وغير ذلك، وصاحبنا لا ناقة له، ولا جمل. سائل نفسك: حين تكون منتمياًً لحلقة تحفيظ القرآن في المسجد، هل أنت على صلة بزملائك، تناصحهم، وترشدهم، وتثبتهم، وتحضهم على المواصلة في الحفظ؟ وسائل نفسك: ما هو دورك حيال قضايا المجتمع؟ أنت عضو في هذا المجتمع، عضو في هذا البلد، هل تشعر بالاهتمامات على المستوى العام؟ وهل تحاول أن تصلح إذا سمعت بمنكر، فتسعى في إزالته بالطرق المناسبة؟ وإذا سمعت بمعروف شاركت فيه وأيدت؟ أم أنك تكتفي فقط بتلقي الأخبار، وتحليلها وينتهي دورك؟ أسباب السلبية لماذا يقع بعض الشباب في السلبية؟ ما هو السبب الذي جرهم إلى ذلك، مع أن المنطلق كان صحيحا؟ هذا يرجع في الحقيقة إلى عدة أسباب منها: أولاً: عدم الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية: كأن يتصور أن الدخول في عقد الإيمان، يعني أن يكون حاله حال دراويش الصوفية، الذين يقبعون في الزوايا، والتكايا. ولا ريب أن هذا فهم خاطئ أساساً. فالعقيدة الإسلامية عقيدة تقوم على الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وما يقتضي ذلك من الدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه. قال تعالى: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " وتواصوا: صيغة مفاعلة، أي أوصى بعضهم بعضاً. فعلى كل واحد أن يصحح معتقده، ويفهم دينه على الوجه الصحيح. ثانياً: اعتقاد الإنسان أن من شروط الإيجابية حصول الكمال: وهذا عذر مشهور يعلق عليه كثير من الناس تقصيرهم، وتقاعسهم. يقول أحدهم: ومن أنا حتى أفعل كذا، ويتواضع، ويتمسكن، ويقول ما عندي من العلم، وما عندي من الإيمان، وما عندي من التقوى، حتى أفعل كذا، وكذا! هذا ليس تواضعاً شرعياً، وإنما هو تواضع بارد مذموم. نعم لا تتكلم بما لا تعلم، بل تكلم بما تعلم. ولو تأملت لوجدت أن ما تعرف خيراً كثيراً، تملك أن تدعو إليه. وفي نفس الوقت، اسعَ لتكميل علمك، وعملك، وكلما زاد علمك وعملك زادت مسئوليتك، وفضلك. ثالثاً: دعوى أن المبادرة، مدعاة للرياء: هذه حيلة شيطانية، تحول بين الإنسان وبين العمل الصالح. إذا صلحت نيتك الأولى لم يضرك ما قد يقع من ثناء الناس، أو حصول مغنم، بادر في هذا المشروع الطيب، وكن رأساً فيه، فإذا رأيت من هو أولى منك، فكن عوناً له. ولكن لا يجوز أن ينظر بعضنا إلى بعض، ونقول: (من يعلق الجرس)؟ كل منا مطالبٌ أن يعمل قدر وسعه، فلا يتعلل الإنسان بهذه العلل المقعدة. رابعاً: التربية الرخوة: قد يتربى بعض الشباب على منهج تطغى فيه الوسائل على الغايات، فلا يتربى على منهج جاد، بل يُنشَّأ على برامج خفيفة، بسيطة، ليس فيها حزم، ولا صبر، ولا جلد، ولا ثني ركب. لابد من الصبر، والمصابرة في تحصيل العلم، والتربية، والدعوة. كثير من الشباب يدخل في سلك الصالحين بواسطة ما يسمى (الأناشيد الإسلامية) والبرامج المشوقة، والجذابة، وأنا لا أعترض على التدرج، بشرط أن يكون هذا الأسلوب أسلوباً ملتزماً بالضوابط الشرعية، ولمرحلة مؤقتة. ولا يجوز بحال، أن يُستمَر عليه، وأن يكبر الشاب وهو لا يعيش إلا على صدح الأناشيد، والمسرحيات، والرياضة، والسباحة، والرحلات، ونحو ذلك، ويستثقل حضور مجالس العلم، وحفظ كتاب الله. إن هذا المنهج الرخو يخرِّج أفراداً لا يقوون بعد ذلك على المواصلة، ويكونون سلبيين، ولا يملكون رؤيةً واضحة. فيجب أن نفرق بين الوسائل والغايات. هذا في الحقيقة منافٍ للمنهج النبوي في التربية. المنهج النبوي منهج جاد، متين، قوي، وفي نفس الوقت ميسر، رفيق. الختام لابد أن نفتش في أنفسنا، لعل بعض الشباب، لازال يعيش على ذكريات الطفولة! قد كبرت يا عبد الله! قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل هذه كلمات، أرجوا أن تنبه أذهانكم إلى هذه القضية الخطيرة وأن يراجع كل امرئ نفسه ويرى حظه من القيام بأمر الإيمان. فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، ففي العمر متسع، فارجع، وصحح المسار من جديد. هذا، واسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق، والهدى، والسداد. وصلى الله، وسلم، وبارك، على عبده، ونبيه محمد، وعلى آله، وصحبه، أجمعين.

ضوابط في زينة المرأة

ضوابط في زينة المرأة د. محمد بن عبد الله القناص الإسلام دين الفطرة واليسر، والإنسان مفطور على حب الزينة والجمال، وقد شرع الله لعباده التزين والعناية بالمظهر بل طلب منهم ذلك عند كل مسجد، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، وعُني الإسلام بزينة المرأة مراعاةً لأنوثتها، وتلبيةً لنداء الفطرة فيها، فرخص لها ما لم يرخص للرجل، فأبيح لها الحرير والتحلي بالذهب دون الرجال. والزينة من حيث استعمالها تنقسم إلى: زينة مباحة: كل زينة أباحها الشرع، وأذن فيها للمرأة، مما فيه جمال للمرأة وعدم ضرر بالشروط المعتبرة، ويدخل في ذلك: لباس الزينة، والحرير، والحلي والطيب، ووسائل التجميل الحديثة. زينة مستحبة: وهي كل زينة رغب فيها الشارع، وحث عليها ويدخل في هذا القسم سنن الفطرة: كالسواك، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، والاستحداد، ونحو ذلك. زينة محرمة: وهي كل ما حرم الشرع وحذر منه مثل: النمص ووصل الشعر، أو كان فيه تشبه بالرجال، أو بالكفار. ومن الضوابط الخاصة بزينة المرأة: ستر الزينة والبعد عن التبرج وتجنب إظهارها للرجال الأجانب، ومراعاة القصد والاعتدال والبعد عن الإسراف، ومراعاة حدود الزينة أمام النساء. - ضوابط زينة وتجميل الشعر: 1 - قص الشعر: طول شعر المرأة ووفوره زينة وجمال وبهاء، وهذا أمر معروف منذ القدم، وإذا احتاجت المرأة إلى قصه مثل أن تعجز عن مؤنته، ويشق عليها كلفته فلها أن تقصه إذا كان هذا ليس فيه تشبه بالفاسقات والكافرات أو الرجال، ولا يكون في ذلك تلاعب واتباع للموضات، وقد ورد أن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قد قصصن شعورهن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَأَخُوهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجَنَابَةِ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ فَاغْتَسَلَتْ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ وَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا، قَالَ: وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ". [أخرجه البخاري ح (251)، ومسلم ح (320)، واللفظ له] 2 - حلق شعر الرأس: الحلق أخذ الشعر كله وإزلته بالموسى، وحلق المرأة رأسها لا يجوز إلا عند الضرورة وتقدر الضرورة بقدرها، لأن حلقه من غير ضرورة يعتبر مثلة في حق المرأة، وفيه أيضاً تشبه بالرجال، إذ أن الحلق من خصائصهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ" [أخرجه أبو داود ح (1693)]، وعن عائشة رضي الله عنها أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا. [أخرجه الترمذي ح (915)، وقال: والعمل على هذا عند أهل العلم] 3 - نمص الشعر من الوجه والحاجبين: النمص: النمص لغةً: رقة الشعر ودقته حتى تراه كالزغب، والنمص: نتف الشعر، والنامصة: هي التي تُزيِّن النساء بالنمص، والمتنمصة: المُزيَّنة بالنمص.

ونتف شعر الوجه والحاجبين لا يجوز، فعن عَلْقَمَةَ قَالَ: "لَعَنَ عَبْدُ اللَّهِ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَقَالَتْ أُمُّ يَعْقُوبَ: مَا هَذَا؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُهُ قَالَ وَاللَّهِ لَئِنْ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ": (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [أخرجه البخاري ح (5939)، ومسلم ح (2125)]، والنمص والنتف سواء، ولا يختص النمص بالحاجبين بل يشمل أخذ الشعر من الوجه، قال ابن الأثير: "النامصة التي تنتف الشعر من وجهها"، لكن إذا نبت للمرأة شعر في شاربها أو لحيتها أو خدها فلا بأس بإزالته لأنه خلاف المعتاد وهو مشوه للمرأة. وكذلك إذا طال شعر الحاجب ونزل على العين فيزال ما يؤذي منه، ومن الأمور المحدثة في النمص أن تزيل المرأة كامل الحاجب وتضع خطاً مكانه، وكل هذا الأمور سواء الإزالة الكاملة أو التخفيف منهي عنها. 3 - وصل الشعر: وصل المرأة شعرها لا يجوز ففي الحديث: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ " [أخرجه البخاري ح (5933)، ومسلم ح (2127)]، ويدخل في ذلك لبس ما يسمى بالباروكة، إلا لمن بها عيب كأن تكون المرأة قرعاء ليس على رأسها شعر فلا حرج من استخدام الباروكة لستر العيب. 4 - صبغ الشعر: صبغ الشعر لتغيير الشيب مشروع بل مسنون، إذ ثبتت مشروعيته بالأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم دون فرق في هذا بين الرجل والمرأة، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ". [أخرجه مسلم ح (2103)]، وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ " [أخرجه البخاري ح (3462)، ومسلم ح (2103)]. تعلية الشعر فوق الرأس: وهو من الأمور المستحدثة التي وردت علينا من نساء الغرب، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم - وهو من معجزات النبوة - عن صنفين لم يرهما من أهل النار، فقال فيما يرويه عنه أبو هريرة: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا" [أخرجه مسلم ح (2128)] ضوابط في تجميل الوجه: 1 - العدسات الملونة: عرفت العدسات في مجال علاج قصر النظر، واستخدمت على نطاق واسع في مجال التجميل والزينة، وخاصة الملون منها، ويجوز لبس العدسات عند الحاجة بقصد العلاج، وأما استخدامها بهدف الزينة فقط، فمن أهل العلم من منع ذلك لما فيه من تغير خلق الله، والتلبيس مع عدم وجود الحاجة إلى ذلك، ومن أهل العلم من أباح استخدامها لأن الأصل في الأشياء الإباحة والحل ولكن هذا مقيد بقيود وشروط الزينة عموماً بحيث لا يكون في لبسها مضرة ولا تشبه، ومن غير تبذير ولا إسراف. 2 - الرموش الصناعية:

الرموش الصناعية هي نوع من الزينة المستحدثة تضعها المرأة فوق جفن العين فوق رموشها الطبيعية، لتبدو رموشها غزيرة طويلة، وتستخدم مادة مخصوصة لتثبيتها. ولا يجوز استخدام هذه الرموش لدخولها في الوصل المنهي عنه، ولأنه قد ثبت من الناحية الطبية أن المادة التي تستخدم في صناعة الرموش الصناعية، وكذا المادة المثبتة لها تسبب حساسية مزمنة بالجلد والعين وتؤثر على الرموش الطبيعية ونموها الطبيعي. 3 - في الأسنان وتجميلها: وشر الأسنان وهو ترقيقها وتحديدها وتفليجها لا يجوز، وفي الحديث: لعن المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله. [أخرجه البخاري ح (5939)، ومسلم ح (2125)]، وعن أبي ريحانة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوشر والوشم. [أخرجه النسائي (8/ 149)] 4 - استخدام المساحيق والأصباغ: يجوز استخدام المساحيق وأدوات التجميل إذا لم يكن فيها مضرة وحصل هذا بقصد واعتدال، والأطباء ينصحون بعدم استخدام أدوات التجميل عموماً والمكياجات إلا في حالات قليلة وعدم المواظبة على استخدامها لأن فيها مواد كيميائية تؤثر على نضارة البشرة وحيويتها في المستقبل، وغالباً ما تؤدي إلى ظهور التجاعيد مبكراً في البشرة. 5 - الوشم: الوشم: هو غرز إبرة أو نحوها في الوجه أو الذراع، ثم يحشى الموضع بمادة كالكحل أو غيره ليخضر الموضع أو يزرق. وهو محرم، وفي الحديث لعن الواشمات والمستوشمات، ومما استحدث من أساليب الوشم: أن يحدد شكل العينين والشفتين ثم ينقش عليها بالإبر ويحشى الموضع باللون المطلوب، فتصبح العينان كحيلتين على الدوام، وتصبح الشفتان دائمتي الحمرة، وهذا الفعل ينطبق عليه حكم الوشم. طلاء الأظافر: طلاء الأظافر يسمى لدى العامة (موناكير)، وهو مادة سائلة ملونة لزجة تصبغ بها المرأة أظفارها، فتجف بعد فترة مكونة طبقة عازلة تمنع وصول الماء في الوضوء، وهذا الطلاء إن لم يكن فيه مضرة فيراعى إزالته عند كل وضوء وغسل ليصل الماء إلى البشرة. وتركه أولى، وقد أشار بعض الأطباء إلى أن الطلاء المستمر يضر بالأظافر، وقد يؤدي إلى تشققات بها. التزين عن طريق عمليات التجميل: التجميل المستعمل في الطب ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الجراحة التي يحتاج إليها الإنسان لوجود عيوب خَلْقية ولد بها الإنسان كالتصاق أصابع اليدين أو الرجلين، أو عيوب ناشئة عن الآفات المرضية التي تصيب الجسم أو العيوب الطارئة على الجسم كالتشوهات الناشئة عن الحروق والحوادث، فهذه العيوب يجوز إجراء العمليات الجراحية لإزالتها. القسم الثاني: الجراحة التجميلية التي يقصد بها تحسين المظهر وتحقيق صورة أجمل وأحسن، ومن ذلك ما يسمى بعمليات تجديد الشباب، وعمليات تجميل الأنف بتصغيره أو تغيير شكله عموماً، وتجميل الثديين بتصغيرهما إن كانا كبيرين أو تكبيرهما إن كانا صغيرين، وتصغير الشفة الغليظة وتكبير الشفة الرقيقة، ونحو ذلك، وشد تجاعيد الوجه ليظهر صاحبه وكأنه أصغر بكثير من سنه الحقيقي، وهذا النوع من الجراحة مشتمل على تغيير خلق الله، والعبث به حسب الهوى والرغبة، وهو داخل في عموم قوله - سبحانه وتعالى- حكاية عن إبليس: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)، وفي حديث ابن مسعود السابق: " والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله. " [أخرجه البخاري ح (5939) ومسلم ح (2125)] التزين والتجمل بالمطعوم: المواد المطعومة مثل: الحبة السوداء، وزيت الزيتون وعسل النحل، وغيرها هي غذاء للبدن وتستخدم للعلاج وقد تستخدم بغرض التجميل والتحسين المحض مثل وضع القناعات للوجه بغرض تغذية الوجه وتخفيف تجاعيده وخشونته، وإعادة رونقه ونضارته ونعومته، فإذا كانت هذه المواد داخلة في مواد أخرى مصنعة مثل المراهم والمحاليل فلا إشكال في ذلك، وأما إذا كانت خالصة فإن احتيج إليها مما لا يعد امتهاناً فلا بأس بذلك، والله أعلم.

مسألة الأخذ من اللحية وتقصيرها

مسألة الأخذ من اللحية وتقصيرها علوي بن عبد القادر السَّقَّاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية 17 ربيع الأول 1430 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فقد وردت أحاديث كثيرة بتوفير اللحى وإعفائها وحاصل مجموع رواياتها خمس: أوفوا، وأرخوا، وأرجوا، ووفروا، وأعفوا، ومعانيها كلها متقاربة، ولم يرد حديث بلفظ (اتركوا) ولا بلفظ (أكرموا)، والروايات هي: 1 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: ((أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) رواه مسلم. 2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى)) رواه مسلم، وجاء بلفظ (أرجوا) بالجيم. 3 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ((وفروا اللحى وأحفوا الشوارب)) رواه البخاري 4 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ((أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)) رواه البخاري، ومسلم بلفظ (أحفوا الشوارب) وهذه الألفاظ كلها تدل على الترك والتوفير والتكثير، وإليك تفصيل ذلك: (أوفوا) من الإيفاء وهو الإتمام وعدم النقصان، قال في تاج العروس: (أوفى الشيء أي تمَّ وكثُر)، وفي مقاييس اللغة: ((وفي) كلمةٌ تدلُّ على إكمالٍ وإتمام) (أرخوا) من الإرخاء وهو بمعنى الإطالة والسدل أرخى العمامة أطالها، وأرخى الستر أسدله (انظر تاج العروس) (أرجو) أصلها أرجئوا من الإرجاء وهو التأخير فلما قال: (أحفوا الشوارب) قال بعدها: (وأرجوا اللحى) أي أخروها ولا تحفوها. (وفِّروا) من التوفير وهو الكثرة، قال ابن فارس في مقاييس اللغة: ((وفر) كلمةٌ تدلُّ على كثرةٍ وتَمام)، وفي القاموس المحيط: (وفره توفيراً: كثَّره)، وفي لسان العرب: (وفَّره: كثَّره) (أعفوا) الإعفاء أصل معناه في اللغة الترك كما في تاج العروس وغيره، تقول: عفا الله عنك، أي ترك عقابك، وعفوتُ عن فلان أي تركته وحاله ولم أعاقبه، ويأتي بمعنى التوفير والكثرة، ففي لسان العرب: (عفا القوم كثروا، وفي التنزيل: {حتى عفوا} أي كثروا، وعفا النبت والشعر وغيره يعفو فهو عاف: كثُر وطال، وفي الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعفاء اللحى، هو أن يوفَّر شعرها ويُكَثَّر، ولا يقص كالشوارب، من عفا الشيء إذا كثر وزاد) ا. هـ، وقال القرطبي في (المفهم) (1/ 512) قال أبو عبيد: (يقال عفا الشيء إذا كثر وزاد) فأنت ترى أن كل الألفاظ التي جاءت في الأحاديث تدل على الوفرة والكثرة، وبصيغة الأمر الدال على الوجوب، وقد تأكد ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يصح عنه أنه أخذ شيئا من لحيته بل جاء في أحاديث كثيرة في صفته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان: (كث اللحية) رواه البخاري ومسلم، و (كثير شعر اللحية) رواه مسلم، كما ورد في صفة عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا كثيري شعر اللحية، ولا يُعرف عن أحد من السلف أنه حلق لحيته ألبتة، ولذلك اتفق الفقهاء على حرمة حلقها ونقل غير واحد الإجماع على ذلك منهم ابن حزم بقوله: ((واتفقوا أن حلق جميع اللحية مُثلة لا تجوز)). ولم يعلق عليه ابن تيمية، انظر: (مراتب الإجماع) (ص120)، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في مجموع الفتاوى (3/ 373): ((حكم اللحية في الجملة فيه خلاف بين أهل العلم هل يجب توفيرها أو يجوز قصها, أما الحلق فلا أعلم أحداً من أهل العلم قال بجوازه)). أما الأخذ منها وتقصيرها وتهذيبها فإن كان بحيث لا تكون وافرة وكثيرة وكثة فلا يجوز، لظاهر النصوص السابقة والتي تدل كلها على وجوب الإعفاء والتوفير والإرخاء وهذا ما عليه جمهور العلماء، ولكن اختلفوا فيما لو أخذ منها شيئاً مع بقائها وافرة كثيرة على قولين:

الأول: عدم جواز أخذ شيء منها ودليلهم الأمر بالإعفاء وأخذوا من معنى الإعفاء الترك وهو أحد معنيي الإعفاء، أما بقية ألفاظ الحديث فلا تدل على عدم جواز أخذ شيء منها. الثاني: جواز الأخذ منها مع توفيرها وإرخائها، ودليلهم أن الإعفاء يأتي في اللغة بمعنى الكثرة كما تقدم، قالوا: فمن ترك لحيته وأعفاها حتى طالت وكثرت فقد حقق الإعفاء الواجب، كما استدلوا بفعل عدد من الصحابة منهم ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم بأخذ ما زاد على القبضة، ثم اختلفوا هل كان هذا في نسك أم لا؟ وهذا الاختلاف لا يغير في أصل الاستدلال لأنه كما قال ابن عبد البر في (الاستذكار) (4/ 317): ((لو كان غير جائز ما جاز في الحج)). وسبب اختلافهم هو أن ابن عمر رضي الله عنه راوي حديث: (أعفوا اللحى) هو نفسه كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة فمن قال بعدم الجواز استدل بقاعدة: (العبرة برواية الراوي لا برأيه) ومن قال بالجواز استدل بقاعدة: (الراوي أدرى بما روى) وقال لم يخالف ابن عمر رضي الله عنهما روايته بل هذا معنى الإعفاء. وقد قال بجواز أخذ ما زاد على القبضة جمهور من أهل العلم منهم الإمام مالك والإمام أحمد وعطاء وابن عبد البر وابن تيمية وغيرهم وعندهم أن ما زاد على القبضة تحقق فيه الإعفاء والتوفير والإرخاء: قال أبو الوليد الباجي في (المنتقى شرح الموطأ) (4/ 367): ((روى ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية وشذ، قيل لمالك: فإذا طالت جداً قال: أرى أن يؤخذ منها وتقص، وروي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة)) وقال ابن هانئ في مسائله (2/ 151): ((سألت أبا عبد الله عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة، قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبد الله يأخذ من عارضيه ومن تحت حلقه)) أ. هـ وقال الخلال في كتاب (الوقوف والترجل) (ص129): ((أخبرني حرب قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟ قال: إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة، وكأنه ذهب إليه، قلت ما الإعفاء: قال: يروى عن النبي صبى الله عليه وسلم، قال: كأن هذا عنده الإعفاء)) أ. هـ وقال المرداوي في (الإنصاف) (1/ 121): ((ويعفي لحيته ... ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة، ونصه -يعني أحمد- لا بأس بأخذ ذلك وأخذ ما تحت الحلق ... )) أ. هـ وقال ابن بطال في شرح البخاري (9/ 147): ((قال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشيء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت)). وقال الحافظ ابن عبد البر في (الاستذكار) (4/ 317): ((وفي أخذ ابن عمر من آخر لحيته في الحج دليل على جواز الأخذ من اللحية في غير الحج لأنه لو كان غير جائز ما جاز في الحج ... وابن عمر روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأعفوا اللحى) وهو أعلم بمعنى ما روى، فكان المعنى عنده وعند جمهور العلماء الأخذ من اللحية ما تطاير والله أعلم)). وقال شيخ الإسلام في (شرح العمدة) (1/ 236): ((وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه كما تقدم عن ابن عمر، وكذلك أخذ ما تطاير منها)) أ. هـ وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (10/ 36): ((قلت: الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه)) ا. هـ وفي حاشية ابن عابدين (2/ 459): ((لا بأس بأخذ أطراف اللحية إذا طالت)) أ. هـ

وقال الغزالي في (الإحياء) (1/ 143): ((وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وقالا: تركها عافية أحب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أعفوا اللحى)) والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب)) أ. هـ وقال العراقي في (طرح التثريب) (2/ 49): (إعفاء اللحية، وهو توفير شعرها وتكثيره وأنه لا يأخذ منه كالشارب، من عفا الشيء إذا كثر وزاد ... واستدل به الجمهور على أن الأولى ترك اللحية على حالها وأن لا يقطع منها شيء)) وقال ابن الهمام في (فتح القدير) (2/ 270): ((يحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم ... فيقع بذلك الجمع بين الروايات)) أ. هـ وأقوال أهل العلم في جواز الأخذ مما زاد على القبضة كثيرة جداً، ولم يأت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين فيما أعلم تحريم ذلك. واستحسن بعض العلماء قص ما زاد على القبضة وقالوا بالاستحباب والسنية وهذا بعيد، فقد جاء في (البحر الرائق) (3/ 12): ((قال أصحابنا: الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر , والقص سنة فيها، وهو أن يقبض الرجل لحيته, فما زاد منها على قبضة قطعها، كذلك ذكر محمد في كتاب (الآثار) عن أبي حنيفة قال: وبه نأخذ)) أ. هـ وقال القرطبي في (المفهم) (1/ 512): ((ولا يجوز حلق اللحية ولا نتفها ولا قص الكثير منها , فأما أخذ ما تطاير منها وما يشوه ويدعو إلى الشهرة طولا وعرضا فحسن عند مالك وغيره من السلف)) أ. هـ وقال القاضي عياض في (إكمال المعلم) (2/ 36): ((وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن)) ا. هـ ومن العلماء من ذهب إلى المنع من الأخذ مطلقا: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (10/ 350): ((قال الطبري: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها ومن عرضها)) وقال النووي في (المجموع) (1/ 290): ((والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقاً، بل يتركها على حالها كيف كانت، للحديث الصحيح (وأعفوا اللحى)) أ. هـ وقال في شرحه لصحيح مسلم (3/ 151): ((والمختار ترك اللحية على حالها , وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً)) وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في (مجموع الفتاوى) (4/ 443): ((الواجب إعفاء اللحية وتوفيرها وإرخاؤها وعدم التعرض لها بشيء)) وقال الشيخ ابن عثيمين في (فتاوى على الدرب) (10/ 173) ((الواجب إبقاء اللحية كما هي ولا يتعرض لها بقص ولا بحلق)) وقال في (مجموع الفتاوى) (11/ 85): ((أما ما سمعتم من بعض الناس أنه يجوز تقصير اللحية خصوصاً ما زاد على القبضة، فقد ذهب إليه بعض أهل العلم فيما زاد على القبضة، وقالوا: إنه يجوز أخذ ما زاد على القبضة استناداً إلى ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما زاد أخذه. ولكن الأولى الأخذ بما دل عليه العموم في الأحاديث السابقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن حالاً من حال)) أ. هـ وقال بعض العلماء بوجوب أخذ ما زاد على القبضة وليس معهم دليل. وخلاصة ما سبق: 1. أن حلق اللحية حرام بالإجماع. 2. أن الأخذ منها وقصها بما يخل بتوفيرها وكثرتها حرامٌ أيضاً لمخالفته الأمر بالإعفاء والإرخاء والتوفير الوارد في الأحاديث وضابط ذلك ما زاد على القبضة وهو في الغالب إلى منتصف الصدر. 3. أن المعاصي تتفاوت، فالحلق أعظم من أخذ شيء منها. 4. أن الأخذ من اللحية بما لا يخرجها عن كونها كثة وكثيفة وهو ما زاد على القبضة مما اختلف فيه العلماء قديماً وحديثاً. 5. أن حاصل كلام القائلين بجواز الأخذ منها هو الأخذ مما زاد على القبضة ولا أعلم أحداً يقول بجواز الأخذ دون ذلك. 6. أن سبب اختلافهم كما سبق بيانه هو معنى الإعفاء واختلافهم في تقديم إحدى القاعدتين على الأخرى، قاعدة: (العبرة برواية الراوي لا برأيه) وقاعدة: (الراوي أدرى بما روى). 7. أن الأولى والأحوط خروجاً من الخلاف تركها دون أخذِ شيء منها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. أمَّا مسألة الإنكار، فمن حلقها أو أخذ منها وقصَّرها وخففها فيُنكر عليه لأنه فعل منكراً، لكنه منكرٌ دون منكر، والمعاصي تتفاوت كما تقدم، أما من وفَّرها وكثَّرها وأرخاها ولو أخذ مما زاد على القبضة فلا يُنكر عليه، ولم ينكر الصحابة رضي الله عنهم على من فعل ذلك كابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما. والله أعلم

القراءة الحداثية للسنة النبوية "عرض ونقد"

القراءة الحَدَاثِيَّة للسنة النبوية "عرضٌ ونقد" د. محمد بن عبد الفتاح الخطيب الْحَمْدُ لِلَّهِ، يَمْنَحُ الْحَوْلَ كُلَّ يَدٍ تَمْتَدُ ضَارِعَةً فِي صِدْقٍ، تَرْجُو حَوْلَهُ. وَالصَّلَاةُ والسَّلاَمُ عَلى سيدِنَا مُحَّمدٍ خَاتِم النَّبَييَن مَنْ لَا نَبِي بَعْدَه، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ الذَّيِنَ حَفِظوا للإِسْلاَمِ عِزَّهُ وَمَجْدَه، وعَلَى حَمَلةِ العِلْمِ الذَّينَ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْريفَ الغَالِينَ، وانْتحِالَ الُمْبطِلينَ، وَتَأْويلَ الجَاهِلِينَ، فَبَلغَ فِيه كُلٌ جَهْدَه. وَبَعْدُ،،، فقد شغلت وظيفة"القراءة" و"الفهم والإفهام" الطاقات الفكرية للأمة الإسلامية، التي ظلت مشدودة بأحاسيسها، وخطراتها الفكرية إلى هذا "النص" قرآنًا وسنة، إلى حد لا نظير له، حيث تأسست أجواء الفهم والتحليل والتذوق؛ لقراءة هذا النص ومقاربته، بـ"استنطاقه" و"تحليل" إشاراته، و"حراسة" مدلولات ألفاظه، فهمًا وتأويلًا، و"ضبط" علاقة اللفظ بالمعنى، و"تقنين" دلالة المنطوق على المضمون؛ حتى تتفادى كل "تفسير مجانيٍّ" أو "تأويل إسقاطي" لهذا النص، ووقوفًا ضد "كل من يدعي"قراءة" النص المؤسس للشرعية في الإسلام، بعيدًا عن "قوانين التأويل" المتمثلة في طرق الاستنباط، بقواعدها اللغوية والشرعية، وبذلك أصبحت قراءة "النص" في الفكر الإسلامي، قراءة تخضع لمنهج مشدود بثوابت: "مرتبطة" باللسان ومقتضياته في فهم الخطاب من جهة، و"محتكمة" إلى الشرع وحدوده من جهة ثانية، مما يؤدي إلى ما سماه الإمام الشافعي، رحمه الله، بـ"عَقْل المعاني". ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا، من أبناء هذه الأمة، يتناولون القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، بقراءة عرفت بـ "الحداثية" أو "القراءة الجديدة" للنص الديني، وهي قراءة "تأويلية" تستمد آلياتها من خارج نطاق "التداول الإسلامي" بل تأتي وفقًا للتجربة الغربية في فهم النصوص، واللاهوتية منها خصوصًا، فلا تريد أن تحصل اعتقادًا من النص، بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه، واستخدامًا لنظريات لغوية حديثة (مثل: البنيوية، والتفكيكية، والسيمائية) وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صراعه مع الدين، هذا الصراع الذي آل، في الغرب، إلى الاشتغال بالإنسان بعيدًا عن الله (الأنسنة) والاهتمام بالعقل خارجًا عن الوحي (العقلنة) ومراعاة للدنيا، من غير نظر إلى الآخرة (الأرخنة)، ومن ثم ترتكز دعوتهم على ضرورة معالجة "النص الإسلامي" قرآنًا وسنة، داخل "التقليد الكتابي" الذي ينتمي إليه، أي: التقليد اليهودي- المسيحي، مما يعني، فعليًا، إخضاع هذا النص لمناهج النقد والتأويل التي خضعت لها "الدراسات التوراتية والإنجلية المستحدثة في إطار الفكر الغربي، الذي يصير له عند الحداثيين"مرجعية" غير قابلة للنقاش. وجوهر ما يؤسس هذه "المرجعية" بناؤها على: "التحرر" من سلطة النص الذي تكونت في ظله ثوابت العقل الإسلامي ومحدداته، و"نزع القداسة" عنه، وعلى "القطيعة المعرفية" بينها وبين القراءات التراثية، و"الفوضى التأويلية" التي هي "تفكيك" للهوية، و"ضياع" للمعنى. وهي ملامح ومنطلقات لاتخفى مستلزماتها التطبيقية، ولا عواقبها العلمية التي تنسجم مع فلسفة الحداثة وما بعدها!! ومن ثم أفضت تلك القراءة الحداثية للسنة النبوية إلى:

- التشكيك في السنة، فهي في الخطاب الحداثي، وقراءته التفكيكية لأصوله "مجموعات نصية مغلقة" ذات بنية "تيولوجية- أسطورية" حسب تعبير أركون قد خضعت"لعملية الانتقاء والاختيار والحذف التعسفية التي فرضت في ظل الأمويين، وأوائل العباسيين، أثناء تشكيل المجموعات النصية" كما أن هذه"المجموعات النصية" قد تعرضت لعملية النقل "الشفاهي" بكل مشاكلها، ولم تدون إلا متأخرًا، وهذا الوجه"الشفاهي" قام به جيل من الصحابة، لا يرتفعون عن مستوى الشبهات، بل تاريخهم تختلط فيه"الحكايات الصحيحة" بـ"الحكايات المزورة". - التسوية في الاستشهاد بين السنة، وسائر الخطابات الأخرى، وإخضاعها لـ"سنن القراءة" و"مناهج" الألسنيات الحديثة، وتحليل الخطاب التاريخي ونقده؛ باعتبارها "نصًا تراثيًا" شأنها في ذلك شأن بقية النصوص، وهكذا يصبح النَّصّ النبوي نفسه موضع "المساءلة" ما إذا كان حجة أم لا، فضلاً عن تضمنه رسالة للبشرية، أو كونه هدى وبشرى للعالمين. - (عقلنة) السنة، واعتبار العقل حاكمًا وقاضيًا عليها، وكذلك اعتبار "الواقع" حاكمًا على النص، ومتبوعًا، لا تابعًا، فسلطة العقل، في القراءة الحداثيَّة، هي السلطة الوحيدة التي يُتعامل على أساسها مع السنة النبوية، بل مع النصوص الدينية كافة. ولعل أخطر ما في القراءة الحداثية، هو تلك: "الفوضى التأويلية وأشكلة العلاقة بين النص ولغته" إذ تعتبر القرآن والسنة خطابًا لغويًا، يخضع لآليات التفكيك والقراءة التي طبقت على مختلف النصوص بما يعرف في العلوم الإنسانية والألسنية بـ"الهرمنيوطيقا" أو"التأويلية الحديثة" أو"نظرية تفسير النصوص" ومن أهم مبادئ هذه "الألسنية الجديدة":التأويلات "اللامتناهية"، و"أشكلة" العلاقة بين النص المعطى ولغته، فليس لـ"قصد" المؤلف، أو النص، مكان في "النظرية التأويلية" الجديدة، باعتبار أن النصوص لا تحمل أي معنى إلا ذلك الذي يصنعه القارئ ويشكله، مما يؤدي إلى "فوضى التفسير" و"لا نهائية المعنى" و"نسف محتوى النص" و" "إبطال مقصوده"؛ في ظل الغيبات الثلاثة التي تقوم عليها"التأويلية الحديثة": (غيبة المؤلف، وغيبة المرجعية، وغيبة القصدية) وبذلك، وحده، سيأثر الحداثيون بتأويل النص الديني، قرآنًا وسنة، ويتلاعبون بفهمه وتفسيره ومدلوله، في "باطنية" مسرفة لا ترى في "ظواهر" النصوص أكثر من رموز ومؤشرات ومدلولات كوامن بواطن، هي مركز الثقل في النص، وبدل أن يكون الهوى تبعًا لمعطيات النص، يكون هو تبعًا لهوانا!! تلك هي"الرؤية" التي تحكمت في الأصول الفكرية، والمنطلقات المنهجية في "القراءة الحداثيَّة" وإذا نحن دققنا النظر في تلك "القراءة الحداثيَّة" التفكيكية للنص الديني، وما طرحته من"إشكالات" حوله، وخاصة السنة النبوية، كما تقدم، نلاحظ: أن هذه القراءة - على الرغم من ادعاء أصحابها كونَها قراءة ليست "تقليدية امتثالية، كما هو سائد في كليات الشريعة، وفي كل الأوساط الإسلامية دون استثناء"- في الحقيقة، قراءةٌ لا تنفصل كثيرًا عن"الطروحات الاستشراقية المعهودة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن تلك"القراءة الحداثيَّة" قد وقعت في جملة أخطاء (آفات) منهجية، تفقدها قيمتها، كما تفقد النتائج المتوصَّل إليها مصداقيتها؛ وذلك فيما أسميه بـ"الغيبات الأربع" والتي يمكن تمثلها على النحو التالي:

1. غياب البُعد المصدري للنصوص (أزمة القراءة الحداثيَّة مع النص الديني) ولا شك أن غياب "البعد المصدري" للنص الديني، أو "تغييبه" في القراءة الحداثيَّة يعد خطأ منهجيًا، بل يمثل"أزمة" و"خَطبًا" أيَّ خطب؛ إذ النصوص الدينية لا تقبل الانفصال عن قائلها، وعن مراده، فالقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، والحديث هو من الوحي الذي تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأي نظرة إلى كلام الله، عز وجل، أو كلام رسوله، صلى الله عليه وسلم، تستبعد "المتكلم" تقع في محاذير كثيرة، ليس أقلها عدم إدراك عظمة مصدر النص، الذي يُتعامل معه وُيبَّن مراده، فهمًا وتنزيلًا، واستنباطًا واستدلالًا، ومن ثم إعطاء المشروعية لكل عمليات النقد والتخطئة والمراجعة والتصحيح، والتنقيح، وما يستوجب الحكم بالنقص أو وجود الخلل والخطأ، وهدم مصداقيته. 2. غياب القراءة الجامعة (القراءة الحداثيَّة المتهافتة للنص الديني) وهذا واضح في تناولهم لبعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية المشرفة، التي تتحدث عن: حجاب المرأة، وميراثها، ومنزلتها في الإسلام، وإقامة بعض الحدود .... وغير ذلك من أوهام وشبهات، مقتطعة من سياقها؛ فكانت قراءتهم لها قراءة "متهافتة" تعتمد آليات خاصة لا يستعان بها على فهم المعنى المراد للنص، ولا تؤيد الأفكار المبثوثة فيه، بقدر ما تجعله وثيقة تخدم مصالح فئة معينة، في ظروف تاريخية معينة، وهذا يخالف شرط القراءة الصحيحة، التي تعامل القرآن الكريم، والسنة الشريفة"كاللفظة الواحدة" وأن كل جزء من هذه اللفظة ينبغي النظر إليه في ضوء علاقته مع الأجزاء الأخرى. 3. غياب الإبداع الموصول (القراءة الحداثيَّة وأزمة المنهج) وهذه هي مشكلة الحداثة الأولى في مقاربتها النص الديني، وهي الدعوة إلى "ضرورة" قراءة النص الديني، خارج"تداوله" أي: خارج نطاق أي قراءة أسبقية تراثية له، في فصل تام بين النص الديني الإسلامي، وكل القراءات الضابطة لفهمه وتفسيره في التراث العربي الإسلامي، وذلك لصالح المنهجية الغربية المسيحية في تحليل الخطاب، وقراءة النصوص؛ فراحوا يسقطون على"النص الديني" الإسلامي كل ما ظفروا به من "آليات القراءة" و"أدواتها" في نتاج الآخرين، وأطلقوا العنان لقراءة النص الديني وفهمه وتحليله، من خلالها. 4. غياب المرجعية اللغوية (القراءة الحداثيَّة والانحراف عن معهود العرب في الخطاب) ولعل غياب"المرجعية اللغوية" هو الخطأ، بل"الخطيئة" الكبرى، ومن "الإصابات" الفكرية البالغة التي وقع فيها الحداثيون، في أثناء مقاربتهم النص الديني؛ فمن ضوابط القراءة الصحيحة: أن مقاربة أي نص لغوي تستدعي الوقوف على حدود لغته التي تحمل بلاغه، ومعرفة مقاصد أصحابها في كلامهم، وأن يؤول الكلام بما يوافق "معهود الخطاب المتبادَل بين المتكلمين" و"عرف المخاطِب" و"عاداته المطردة".

حين يؤول أمر "النص الديني" قرآنًا وسنة، هذا المآل، في قراءات الحداثيين، فإن الاحتكام إلى "منهجية" توجه القراءة، وتضبط مسارها، فهمًا وتفسيرًا وتأويلًا، وتحمي "النص" من أن يكون مجالًا للتزيد والإقحام، أو العبث واللهو، وتمكِّن من "الفهم" الصحيح لمقاصده، يكون أمرًا ضروريًا، فمن لم يكن "مقياسه" مضبوطًا كل الضبط، فإن المعاني تختلط عليه وتمتزج، ووقع في"التيه" الذي أدخلتنا فيه الحداثة، وما بعدها!! وهذه "المنهجية" محكومة بأصل عام، يمثل"مرجعية" لها، وهو: أن تكون "قراءة" النص الديني الإسلامي، على"طريقة العرب في خطابها" و"مسالكها في تقرير معانيها" و"منازعها في أنواع مخاطباتها" و"عادات اللسان العربي في الاستعمال، وخصوصياته في توزيع المعاني على الألفاظ" وأن يُفهم وَفق مدلوله العربي، الذي يتبادر إلى الذهن، من دون ليٍّ ولا إغراب، ولا تعطيل لمغزي، أو إقحام لمعنى. و"معهود العرب في كلامها" و"مَهْيَعُها" في "مقاربته" و"تلقيه" أراه يقوم على"الضوابط" الآتية: أولًا: سلطة النص (ضبط العلاقة بين القارئ وفقه النص): والمراد بـ"سلطة النص" هي: قدرته على تحقيق "معنى" ما، يتمتع بقدر من الإلزام، ويقبل التثبيت؛ حتى ينضبط الفهم، ويصح الاستنباط، من خلال المعطيات التي يقدمها "النص" نفسه، ومن ثم، فحدود "سلطة" القارئ مع النص، وخاصة النص الديني، تكمن في:"الإصغاء إلى النص" و "اكتشاف دلالاته" و"التفهم لمعناه" ثم"التعبد بمقتضاه"، وقد قننت كتب الأصول، والتفسير، وشروح الحديث "آليات" القراءة التفسيرية والتأويلية، و"معاييرها" من خلال الضوابط الكفيلة بالارتباط بـ"النص" والفهم عنه، واستثمار معناه، و"الغوص" في أعماق الدلالة"دلالة النص، ودلالة معقول النص" حتى صار "النص" في الفكر الإسلامي، أحدَ"الأحباس" أي الأوقاف، التي لا يجوز التصرف فيها بحال. ثانيًا: معنى النص (ضبط العلاقة بين نهج الاستباط ومسألة القصد): لا أبعد إذا قلت: إن "فقه البلاغ اللغوي" قائمٌ، في الفكر الإسلامي، على البحث عن المعنى الذي يحمله النص؛ فالمفسر "يطلب" المعنى، والنحوي "يوفر الأداة" من أجل الإبانة عنه، والفقيه أو عالم الأصول "يقنن" طريقة الاستنباط منه، ومنهج الفقه فيه، والجميع يبحث عن "الفهم الأوفى" انطلاقًا من الظاهرة اللسانية، أو البلاغ اللغوي!! يقول الشاطبي:" فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبنى الخطاب ابتداء، وكثيرًا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة؛ فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي"الموافقات، (2/ 88 - 89). فينبغي العناية بمسألة"القصد" الذي "يُؤَمُّ"، و"مراد" المتكلم و"غايته" من الكلام. ومن أهم الأمور التي توقف على "مقصد" الكلام: "القراءة الجامعة" التي تضع الجزئيات في إطار الكليات، وتردف الفروع بأصولها، و"القرائن" و"مقتضيات الأحوال" المحيطة بالنص، واستبصار ما سيق الكلام له، وما تعلق به من معان، وما هدت "القرائن" إليه، أو ما منعت منه وصدت عنه، والوقوف على:"عرف المتكلم" و"عادته في خطابه".

ثالثًا: مسالك استثمار النص (جدلية العلاقة بين المنطوق والمفهوم): فالمقصود الشرعي يؤخذ من"منطوق" النص كما يؤخذ من "مفهومه" إذ قد يكون المعنى مستنبطًا بطريق الفحوى، ولزوميات الكلام، وتداعي المعاني، وهذا معناه، كما يقول الأصوليون: أنه يجب "استثمار" كافة طاقات النص، انطلاقًا من اللفظ، وطرق دلالته على المعنى، عبارة، وإشارة، ودلالة، واقتضاء، ومفهومًا موافقة ومخالفة؛ ومعنى ذلك: أن المعاني المستفادة من النص، نوعان: "معانٍ هُنَّ بنات ألفاظ" تؤخذ من الوضع الأصلي للألفاظ، و"معانٍ هُنَّ بنات معانٍ"!! تؤخذ من "فحوى الكلام" و"بساط التخاطب" ويجب عند قراءة النص مراعاة ذلك .. رابعًا: التأويل (توجيه النص وإشكالية تعدد المعاني بين "حركة" اللفظ و"منطق" المعنى): قد يحتمل النص "تأويلات مختلفة" فتتعدد فيه "دروب" الفهم، وتتنوع فيه "المعاني" ولما كان "التأويل" المغرض "انحرافًا" بالمقروء، ووقوعًا في "التيه" و"الضلال" فقد تنبه المفسرون القدامى، وعلماء الأصول، وشراح الحديث إلى "التأويل" حين يجور على"المقاصد" فكان لهم "ضوابط"موصولة في جانب منها بـ"قواعد اللسان" وفي جانب آخر بـ"منطق المعنى"تقوم على: - أن"التأويل" ينبغي أن يكون"مُنقادًا" يعضده مرجحٌ قوي من "دليل" صحيح؛ فإذا لم يكن ثمة دليل فلا يجوز صرف الكلام عن ظاهره، كما بفعل الباطنية، قديمًا وحديثًا. - عدم الخروج عن"سَنن" النص في لغته، وعُرف استعمله، وتحميله ما لا يحتمله، منطوقًا أو مفهومًا، فكل "تأويل" للنص مقبولٌ"ما لم يخرج من اللسان، فإن خرج، فلا فهم، ولا علم". - أن يأتي"التأويل" ضمن العناية بـ"مراد" المتكلم، و"مقاصد" خطابه، والاحتكام فيه إلى"منطق المعنى" فالتأويل، في الفكر الإسلامي، ليس "فلسفة" للفهم المفتوح، و"التعري عن مأخذ الكلام"كما في القراءة الحداثيَّة للنصوص، بل هو جهد ذهني مقيد بـ"منطق" النص الشرعي ذاته، و"إرادته" من النص، ويكون جهد "المتأول" التردد بين المعاني المتعددة؛ لمعرفة الحكم استنباطًا، وهو ما نبه عليه الإمام ابن تيميًّة، رضي الله عنه، في رده على الباطنية في تأويلاتهم بعض أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم،، فقال: "والتأويل المقبول هو مادل على مراد المتكلم. والتأويلات التي يذكرونها (أي: الباطنية) لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار- في عامة النصوص- أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات: القرامطة والباطنية، من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله، من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد" (درء تعارض العقل والنقل، 1/ 201). وبعد، ففي ضوء خصائص النص الديني، قرآنًا وسنة، جاءت قراءة علمائنا، رحمهم الله، له، من حيث هو دينُ الله، وشرعُه، وحلالُه وحرامُه، فكانت قراءة "مضبوطة" و "واعية" لا قراءة"مفجِّرة" للنص، "مهدرة" لسياقه ومقاصده، وقد نقل العلامة الونشريسي في ذلك، وصية جامعة لمن رام قراءة النص الديني وتأويله، تضبط النظر الفقهي الشرعي، فهمًا وتعقلًا، واستخراجًا واجتهادًا، وترجيحًا وتنقيحًا، وتنزيلًا وتفعيلًا، فقال:"ولا تفت بالنص، إلا أن تكون: عارفًا بوجوه التعليل، بصيرًا بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقًا في بعض أصول الفقه وفروعه. واحفظ: الحديث تقو حجتك، والآثار يصلح رأيك، والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، وشفع المنقول بالمعقول، والمعقول بالمنقول" (المعيار المعرب، 6/ 377.). وهذا من الفقه الثمين جدًا، الذي ينبغي أن تُربى عليه نفس المسلم، فيتهيب تأويل "النص الديني" دون أن يملك الأدوات التي تؤهله لذلك، وبدونه يصبح "النص الديني" سوقًا مفتوحًا يدخله من شاء، ليستنبط منه ما يشاء؛ كما في القراءة الحداثية، ومن ثم كانت "إعادة تقويم" الخطاب الحداثي، في تعامله مع النص الديني- وهو ما يقوم على بيانه هذا البحث- عملًا مشروعًا، من الناحية "الدينية"، ومن الناحية "المعرفية" أيضُا؛ لأنه قد طال زمن الغربة والضلال والتيه، وقديمًا قالت العرب في كلامها:"مَن رام التفلُّت، طال منه التلفُّت، ويوشك أن تُرهقه المتاهات، وتتلفه العوائق"!! ولله الأمر من قبل ومن بعد. المصدر: شبكة القلم الفكرية

وهم المثاقفة!!

وهم المثاقفة!! عبد الله بن محمد المالكي المثاقفة من المفردات التي تعبر عن أوجه التبادل الثقافي (الأخذ والعطاء) بين الحضارات البشرية المتعددة. وهو اتجاه يسعى أن يكون وسطا بين الانفتاح المطلق الذي يؤول إلى الانصهار في ثقافة الآخر وبين الانغلاق المطلق الذي يؤول إلى الانعزال تماماً عن الآخر والعالم بأسره. وبهذا المعنى تعد المثاقفة رافداً مهما تسعى كل أمةٍ من خلاله إلى معرفة الآخر واستثمار ما لديه من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية، وإلى تنمية كيانها الثقافي بشكل خلاق وغير مضر بمقومات الهوية وثوابتها. كما أن مفهوم المثاقفة يصلح أن يكون بديلاً عن مفهوم الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الهوية وإلحاقه بالآخر وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية احتقارية متغطرسة. هكذا تقدم المثاقفة في الفكر العربي المعاصر؛ حالةٌ من الاعتدال بين الذوبان والتصلب في التعاطي مع ثقافة الآخر. لكن إذا عدنا إلى مفهوم المثافقة في الفكر الغربي ( Acculturation) فإننا سنجده مختلفاً تماماً عما يطرح في محيطنا الثقافي، حيث تطرح المثاقفة على أنها "علاقة بين متفوقة وثقافة متخلفة" (¬1)، بمعنى آخر كما يقول حسن حنفي " أن المثاقفة التي يوهم الغرب بأنها تعني الحوار الثقافي والتبادل الثقافي؛ هي في الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، والسير على منواله، واحتكار الغرب وحده حق إبداع التجارب بالجديدة والأنماط الأخرى للتقدم" (¬2). هذا من جهة المفهوم وأما من جهة الواقع والممارسة، فأغلب النتاج الثقافي في محيطنا العربي بكل أشكاله وأنواعه؛ لا يخرج عن سياق المفهوم الغربي للمثاقفة. فكثير من مثقفينا (والمستغربين منهم على وجه الخصوص) قد وصل بهم المطاف من خلال هذه المثاقفة إلى حالةٍ لم يعد الواحد منهم قادراً على الإبداع قولاً أو فعلاً إلا إذا تمت إحالة إبداعه إلى مصادره الخارجية في الحضارة الغربية: ماركسية أو وجودية أو وضعية أو بنيوية أو تفكيكية أو أي شيء آخر، المهم أن يكون النموذج الغربي هو المنطلق. وبعبارة أخرى: أصبح الغرب من خلال هذه المثاقفة هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي عربي. وكما يعترف حسن حنفي (وأنا استشهد به هنا لكونه يعد من أكبر من مارس المثاقفة مع الفكر الغربي) يقول: "منذ أكثر من قرنين من الزمان نترجم، ونعرض، ونشرح، ونفسر التراث الغربي دون أن نأخذ منه موقفاً صريحاً واضحاً. مازال موقفنا موقف الناقل، عصر الترجمة لدينا لم يتوقف بعد ¬

(¬1) انظر: المورد الانجليزي العربي. (¬2) حسن حنفي، مقدمه في علم الاستغراب: ص 29.

وما زال أكبر مشروع لدينا إلى وقت قريب هو النقل، والذي سميناه ترجمة الأعمال الكاملة لكبار المفكرين في الغرب، ويظل أكبر مشروع لنا في ثورتنا الحديثة هو ترجمة (الألف كتاب) نقلاً عن المؤلفات الغربية ... وكأننا محكوم علينا بالنقل، عاجزون عن الإبداع، دورنا في التاريخ هو دور التلميذ والمتعلم والصبي أمام الأستاذ والمعلم الكبير ... لقد أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب، وأصبح حامل العلم والفكر لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر عدد ممكن من الأسماء والأعلام والمذاهب الفكرية من الغرب منتسباً إلى أحدها، داخلاً في معاركها، داخلاً فيما لا شأن له به، حاشراً نفسه في معارك لم ينشئها ولم يكن طرفاً فيها ... وتنتشر المصطلحات بين الباحثين الشباب فيشعرون بضالتهم أمامها: الهرمنيوطيقا، الاستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، التفكيكية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترانسندتالية، وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الابتسميه، الدياكرونية، السنكرونية .. إلخ» وأصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم هذه المصطلحات» (¬1). هذا اعتراف أحد كبار الممارسين للمثاقفة مع الفكر الغربي، ومثل هذا نجده من قبل عند زكي نجيب محمود، ومحمد عابد الجابري، ومحمد جابر الأنصاري، وغيرهم مما لا يتسع المقام للوقوف على نصوصهم. أريد هنا أن أشير إلي أن الفكرة الأساسية التي تقف وراء هذه الإشكالية المسماة بـ (المثقافة)، هي كالتالي: الاعتقاد المطلق بأن الثقافة الغربية، نتاج إنساني عالمي، يتجاوز الزمان والمكان، ويعبر حدود الجغرافيا والتاريخ. وبالتالي لا يختص بحضارة دون حضارة. وفي جملة واحدة (نزع الخصوصية عن الثقافة الغربية). هذا الاعتقاد هو أكبر وهم ما زال يعشش في أذهان كثير من مثقفينا العرب. فالفكر الغربي في حقيقته لا يعدو أن يكون بيئياً محضاً - كأي فكري بشري - نشأ في ظروف معينة هي تاريخ الغرب نفسه، وبالتالي فهو صدى لتلك الظروف. والمفكِّرون الغربيون - كما يقول حسن حنفي في اعترافه السابق-: «يعبّرون عن ذلك بأنفسهم بقولهم: فلسفتنا، حضارتنا، فكرنا، أدبنا، فننا، تاريخنا، موسيقانا، علومنا، بل حتى ديننا! وإلهنا! فعند الكتَّاب الأوربيين إحساس واضح بأنهم ينتمون إلى حضارة بعينها، وبأنهم ينتمون إلى حضارتهم الخاصة المتميزة عن الحضارات الأخرى. لذلك كان خطؤنا، نحن الكتَّاب العرب غير الأوربيين، الذين ترجموا مؤلفاتهم وشرحوها، وعرضوها، بل وانتسبوا إليها، واعتنقوها = اعتبار الحضارة الأوربية حضارة عامة للناس جميعاً، ولم نرَ نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها رغبةً في الحصول على الجديد بأي ثمن، وفي فترة لم نكن فيها على وعي كاف بتراثنا القديم، أو كان هذا الوعي محصوراً في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين». باختصار شديد؛ حالة المثقافة لدى المثقفين العرب لا تعدو أن تكون صورة جديدة (ومهذبة!) من صور الاسترقاق والتبعية الثقافية للنموذج الغربي وهي امتداد لما ابتلينا به منذ فجر النهضة العربية على أيدي الليبراليين والحداثيين العرب، والتي تحولت معهم النهضة من حلٍّ للأزمة إلى أزمة في ذاتها. وإلى اليوم ونحن نعيش هذه الأزمة (أزمة التراث والمعاصرة). المصدر: شبكة القلم الفكرية ¬

(¬1) نفس المصدر: ص 54.

مشروع التجديد الثقافي .. لماذا؟

مشروع التجديد الثقافي .. لماذا؟ د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي إن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية اليوم لا يخالطه شك في أنها تحتاج إلى عملية واسعة من الإصلاح في كافة المجالات، فالتخلف والتراجع السياسي والاقتصادي والتقني والفكري والثقافي يُعد معلمًا بارزاً ومظهراً شاخصًا على استحقاق الإصلاح وتنمية عوامل البناء وإعادة الدور الريادي الذي فقدته في العصور المتأخرة. والبوابة الكبرى لعملية الإصلاح تكون عن طريق التجديد وإعادة الروح الواثقة والمفاهيم الناصعة قبل تسرب الشوائب والأخلاط إليها، والتجديد الثقافي والفكري هو أول ما يجب أن يبدأ به المصلحون في عملية التجديد، فقد بدأ التخلف والانهيار منه، ولن يعود البناء إلا بإصلاحه وإعادة ترميمه. إن "التجديد" هو أحد العوامل التي يحفظ الله تعالى بها هذا الدين، فقد حفظ الله تعالى الدين بحفظ مصدره الأصلي فقال عز وجل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) {سورة الحجر9} والمراد بالحفظ حفظ لفظه من التبديل , ومعناه من التحريف. وكذلك حفظ الله تعالى دينه بوجود طائفة منصورة على الحق فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) (¬1) وحفظه - أيضًا - بالتجديد فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) (¬2) والتجديد المشروع هو إحياء معالم الدين، وإزالة الركام الفكري والثقافي عن مفاهيمه وقيمه وأخلاقه، وتنزيل أحكام الإسلام لأهل السنة على النوازل والأمور المستجدة وفق أصول الاستدلال , والربط بين الحكم الشرعي ومناطه الواقعي، فالتجديد جعل الشيء جديداً بإزالة الأوساخ أو بإعادة البناء، والبهاء لما درس وتقادم وبلي في واقع المسلمين وحياتهم. فهو لا يعني إضافة أمور جديدة إلى الدين , فهذه الإضافة ليست تجديداً بل هي البدع والمحدثات المنهي عنها، وهي التي تستدعي عملية التجديد، فدين الله عز وجل كامل ليس بحاجة إلى زيادة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) {سورة المائدة3} وعملية التجديد ليست وليدة جديدة في هذا الزمان، فهي تعود إلى القرون الأولى، وقد ظهر مجددون في تاريخ الأمة مثل عمر بن عبد العزيز الذي أعاد الخلافة الراشدة بعد الملك الوراثي، والإمام الشافعي الذي ضبط الاستدلال بالنص الشرعي في كتابه "الرسالة" والإمام أحمد في الموقف من المناهج والتيارات الفكرية الوافدة، وكذلك التجديد الجهادي مع نور الدين محمود , وصلاح الدين الأيوبي , مروراً بالشيخ محمد بن عبد الوهاب في تحقيق التوحيد ونبذ الشرك، إلى غير ذلك من الحركات التجديدية في تاريخ المسلمين. وإن من أهم دواعي التجديد في واقعنا المعاصر: • غياب المنهج الفكري والثقافي الإسلامي عن المشهد العالمي، وصعود خطابات ثقافية جاهلية مادية مما ترتب عليها شقاء الإنسان واضطرابه وتناقضه وحيرته، ودخوله في نفق من الظلام لا يعرف له نهاية، ولا يرى أملاً في النور، وبالمقابل خسر الهداية والفلاح والنور الرباني. • الركام الهائل من الأفكار والمفاهيم البعيدة عن المنهج الرباني مما كان له أبرز الأثر في الجمود والتقليد والتخلف والانحطاط على كافة الأصعدة. • التحولات الفكرية السريعة والخطيرة في المجتمعات الإسلامية، وتأثر فئات من الشباب والفتيات بقيم العولمة وأخلاقياتها وأفكارها. ¬

(¬1) رواه البخاري (7311، 7312)، ومسلم (156)، وأحمد في مسنده (5/ 34)،239، وغيرهم. (¬2) رواه أبو داوود (291) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 150) برقم 599، ونقل تصحيحه عن عدد من الأئمة.

• عدم وجود الدعم السياسي والاقتصادي والإعلامي للخطاب الإسلامي، بل محاربته وإقصائه ومطاردته في كل مكان. • محاولة اختطاف هذا المفهوم الإسلامي «التجديد» بظهور اتجاهات فكرية إلحادية أو بدعيّة تدعي شرف التجديد، وتمار س التبديل والتحريف للمفاهيم الشرعية الأصيلة وتبرز نفسها كبديل إسلامي يتوافق مع العصر الحديث والحضارة الغربية الغازية، وتتلقى الدعم المباشر وغير المباشر من القوى الاستعمارية العالمية. كلّ ذلك وغيره يؤكد الحاجة إلى «التجديد الثقافي» في الأمة، فأزمة الأمة أزمة عقدية وفكرية وثقافية استتبعها أزمات سياسية واقتصادية وحضارية. إن هذه الأمة العظيمة تمتلك كنوزاً وثروة لا تمتلكها أيّ أمة من الأمم، ومتى ما عادتْ إلى دينها وأزالت عنه الركام، وأحسنت تطبيقه فإنها سترقى إلى معالي السؤدد، وستقدم للأمم نموذجاً فريداً من التصورات اليقينية، والقيم الفاضلة، والأخلاق الرفيعة. ولم تبتللَ الأمة إلاّ بسبب العقائد الزائفة، والقيم والأخلاق المادية، وسوء التطبيق للإسلام، وهذا هو سرّ تخلفها الحضاري المشاهد. وبهذا يظهر لنا أن التجديد يستدعي إزالة الركام الثقافي المنحرف، وإعادة صياغة العقائد والقيم على منهج النبوة، ليس على المستوى النظري فحسب ولكن بطريقة عملية تطبيقيّة، وهذا ما يلزم منه إعادة النظر في العوائد، والتقاليد، والقيم، والأفكار، والمناهج السائدة، ووزنها بميزان معصوم وهو الوحي الرباني، والعمل على الإجابة عن الأسئلة الحضارية الجديدة، وكيفيّة العيش في حياة مليئة بالتحديات والعقبات والأخلاط وفق منهج الله تعالى ومرضاته. إن المشروع التجديدي لا ينبغي له أن يكون ردة فعلٍ لواقع مأزوم، فيقوم بتبريره ومسايرته، لكنه يتطلب صحة في الاعتقاد التصوري، وقوة في الإرادة، ومشاركة الأمة بكافة قواها فيه، والعمل الجماعي الصادق المخلص الدؤوب. لقد تم عرض الثقافة في العقود الماضية بصورة هزيلة مترهلة حيث أصبحت الثقافة مجموعة فلكلورية شكلية مثل الرسوم التشكيلية، والأمتعة القديمة، والمنازل العتيقة، والمسرح والموسيقى، والشعر والغناء والتصوير وغير ذلك، وأغفلت المفاهيم الحضارية الكبرى كالإيمان بالله تعالى، والقيم الأخلاقية، والعلم، والتصور الإسلامي الحق للكون والإنسان والحياة والغيب والإله الحق وغير ذلك، وهذا المفهوم الخاطئ للثقافة هو جزء من الركام المنحرف الذي أصاب الأمة في ثقافتها ومفاهيمها. لقد حاول المفكر الجزائري مالك بن نبي أن يشخص الداء العضال الذي أصاب الأمة فرده إلى مشكلة حضارية هي (القابلية للاستعمار)، وقد صدق في ذلك لكنها في الحقيقة عرض لمرض، فما هو سرّ هذه القابلية؟ ولماذا لم تكن قابلة للاستعمار ثم أصبحت قابلة له؟ إن ردّ السبب إلى الذات - كما فعل مالك بن نبي - هو بداية صحيحة لاكتشاف الخلل، وهو منهج قرآني فريد، فالله تعالى يقول: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم {آل عمران 165}. لكن أزمة الأمة الحقيقية تعود في جذورها الأولى إلى «أزمة عقدية فكرية ثقافية» تلاها بعد ذلك الأزمة الحضارية الراهنة. والشعور بوجود أزمة حضارية في الأمة أصبح محلّ إجماعٍ بين كافة التيارات والمناهج، لكن الاختلاف وقع في وصف الداء وتوصيف الدواء. وقد ظهرت حركات تجديدية طالبت بأن تسير الأمة مسيرة الحضارة الغربية حلوها ومرّها، حسنها وقبيحها كما قرر ذلك طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، وسار على طريقته في التبعيّة اتجاه لا يزال -مع كل الإخفاقات والشواهد الدالة على فشل هذا المشروع - ينادي بما نادى به ويراه المخلص للأمة والمنقذ لها.

وظهر من ظنّ أن الإصلاح والتجديد هو في المقاربة والتوفيق بين الإسلام والمناهج الفكرية المادية، واتخذ التجديد سلماً للتبديل الديني فقرن الإسلام بالديمقراطية والليبرالية ونحوها. كما ظهرت مشاريع ثقافية (¬1) تعتمد على الاتجاه الأول تزعم أن المخرج في إعادة قراءة النص الشرعي وتفريغه من محتواه القديم، وإضافة فهم جديد يوافق الحداثة الغربية، وتتذرع لذلك بمنظومة من المناهج النقدية الجديدة. إن هذا الخليط الغريب من الأفكار المتناقضة تدل على أهمية العناية بمشروع التجديد، وعدم السماح باختطافه، وإخراجه عن مساره، وتبين أهمية إعادة توجيهه الوجهة الصحيحة. ومن هنا فالتجديد الثقافي مشروع حضاري رائد يحتاج في صياغته إلى علم شرعي رصين، ووعي واقعي بالسنن الربانية، ومعرفة بحاجة المجتمعات، وعوامل التأثير فيها، ويحتاج كذلك إلى حسن تدبير، وروح قوية واثقة بدينها وقيمته الحقيقية وبراهينه الاقناعيّة، وآفته الكبرى قيادة جاهلة أو مهزومة أمام الآخر أو منحرفة في مفاهيمها وتصوراتها وقيمها. إن من أهم قضايا التجديد الثقافي: معرفة المحكمات والثوابت وإحيائها في الأمة، وضبط آليات الاستدلال بالنصوص الشرعية، وإحياء القيم الأخلاقية الإسلامية، والعمل على الإصلاح الشامل: السياسي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي، ومواجهة التيارات الفكرية المنحرفة، وبلورة مشروع إسلامي حضاري متكامل ليكون قادراً على الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية، ويستفيد من تفنيات العولمة لهداية الناس جميعاً للحق، وغير ذلك من القضايا الهامة التي لا يمكن حصرها هنا. المصدر: شبكة القلم الفكرية ¬

(¬1) يمثل هذه المشاريع الفكرية: مشروع محمد أركون في نقد الفكر الإسلامي، ومشروع حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، وعبد المجيد الشرفي، وغيرهم كثير. مع الانتباه لفروق منهجية بينهم، ولكن يجمعهم إطار عام وهو إخراج النص الشرعي عن مراده وتحطيم الفهم التقليدي له كما يعبرون.

الصناعة المالية الإسلامية والربح الأخلاقي

الصناعة المالية الإسلامية والربح الأخلاقي خالد المزيني هناك تحديات كبيرة تقف أمام الفقه الإسلامي المعاصر، والمؤسسات المنتسبة إلى هذه المرجعية، كالمؤسسات المالية الإسلامية، وغيرها من المؤسسات الربحية المستندة إلى مرجعية إسلامية، ويتمثل هذا التحدي في مدى قدرة هذه المؤسسات على الصمود في السوق، مع الاحتفاظ بالقواعد الأخلاقية التي ترفع شعارها، وذلك بعد أن تحوّلت الصناعة المالية الإسلامية إلى صناعة صاعدة مدفوعة بالانكماش الكبير الذي لا يزال يخنق الاقتصاد الليبرالي. وهذا يتطلب من مؤسسات المال الإسلامية: تقديم خدمات نوعية قابلة للحياة، تجمع بين: الاحترافية المهنية، والمعيارية الشرعية، وتتسم بقدر من المخاطرة العاقلة، فلا هي مضمونة الفائدة: كأدوات الربا، ولا هي عالية المخاطرة: كأدوات المقامرة. وهذا ممكن لو توفّر لهذه المؤسسات الإدارة الجادة في تبني الحلول الإسلامية، والهيئة الشرعية الواعية بفقه الشريعة، والرقابة الشرعية الحثيثة، التي تتابع تنفيذ ما تقره تلك الهيئات. ولا يقلل من شأن هذه التحديات أن العالم اليوم يرمق تلك المؤسسات، وهو مثخن بجراح الانكماش الائتماني، ويتوقع أن تقوم صناعة المال الإسلامية بدور ما لإصلاح الأعطاب التي أحدثتها المؤسسات الليبرالية، على صعيد الاقتصاد. ومن المدهش أن تنبعث أصوات شتى تستنجد بالاقتصاد الإسلامي، وقد قرأنا الكثير منها، وكان من أعجبها المقال الذي نُشر في السابع من مارس 2009م، في صحيفة الفاتيكان الرسمية، داعياً البنوك في مختلف أنحاء العالم إلى أن تتبنى مبادئ المصرفية الإسلامية، لاستعادة الثقة بالاقتصاد العالمي. ومما نشرته (لوريتا نابوليوني)، وهي اقتصادية إيطالية، و (كلوديا سيجري)، وهي محللة إستراتيجية لاستثمارات الدخل الثابت في البنك الاستثماري الإيطالي (أباكس بانك)، أن "المبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها المصرفية الإسلامية ربما تعمق العلاقة بين البنوك وعملائها، وتجعلها أقرب إلى الروح الحقيقية التي ينبغي أن تكون شعار كل خدمة مالية". اهـ[نقلاً عن جريدة الاقتصادية (العدد 5699 (]. ومما يزيد المتابع عجباً أن هذه الفتاوي الكاثوليكية جاءت في الوقت المناسب لترد بطريق غير مباشر على مطالبات بعض المحافظين واليمينيين في الولايات المتحدة الأمريكية بالحد من انتشار الصناعة المالية الإسلامية. إن الفقه الإسلامي أكثر رحابة ومتسعاً مما يظنه بعض أبنائه المعجبين بتجارب أعدائه، لكن إحدى المشكلات تكمن في توجه مؤسسات الصناعة المالية الإسلامية إلى الأدوات المشبوهة، ويبدو أن من أسباب المشكلة العقلية النفعية التي يفكر بها بعض القائمين على تلك المؤسسات، فليس كل من يرفع شعار الإسلام يكون مقتنعاً به، مؤمناً بمبادئه دائماً، هناك رواد مؤمنون بالنموذج الإسلامي، ويتبنون النهج الإسلامي بوصفه ديناً، قبل أن يكون طريقة لجمع المال. وثمة شريحة أخرى تؤمن إيماناً براجماتياً، فالفكرة التي تدرّ ربحاً أكثر هي الفكرة الأصح الأجدر بالتعاطي دائماً، بغض النظر عن مدى أخلاقيتها وانسجامها مع قواعد الشريعة. فإذا كان الاستثمار في الأدوات الإسلامية مجدياً فهم على هذا ملتزمون بالمعايير الإسلامية، وإذا تغير المؤشر تغيروا، وسرعان ما يتحولون من مجال استثماري إلى آخر لمجرد كونه أجدى نفعاً، وأوفر ربحاً.

وهذا لا يعني أن المعايير الشرعية والأخلاقية أقل جدوى؛ فالعالم اليوم اكتشف أن هذه المعايير أكثر واقعية في نظرتها إلى الاقتصاد الكلي والجزئي، وأعلى ضماناً من أدوات الاقتصاد الليبرالي ذاته؛ فالأدوات الاستثمارية الإسلامية تتعامل مع الموجودات الحقيقية، لا الأصول الوهمية كالديون وخدمات الديون والنقود المتولدة عنها، كما أن الأزمة قد كشفت لهم أن النموذج الإسلامي يكافح الأورام الربوية المسببة للعديد من المشكلات، ومنها التضخم، وأن النداءات المتكررة من قبل فقهاء الشريعة بأن يكون سعر الفائدة: صفراً، كما نادى به عدد من علماء الاقتصاد من الليبراليين أيضاً، هو أحد مفاتيح الحل لهذه الاضطرابات التي تضرب في كل مكان. إن مما يحزن المسلم أن تظل مجالس الإدارة في (بعض) المؤسسات المالية الإسلامية تسلك مسلك التلفيق غير المقبول، وتطرح منتجات مشوّهة، فلا هي تقليدية (ربوية) محضة، ولا هي شرعية محضة. ولما كانت تلك المنتجات التقليدية لا تتوافق مع النموذج الشرعي، صاروا يطالبون بفتاوي البدائل القريبة من النموذج التقليدي، وبما أن المستشار الشرعي يفتقر أحياناً إلى المؤهلات المطلوبة: كالملكة الفقهية في فن المعاملات، وإلى الحصانة التامة إزاء ضغوط الإدارة، أو أنه مشغول بأعمال أخرى عديدة، فقد ظهرت نماذج شائهة من الأوراق المالية الموصوفة بأنها إسلامية، ممهورة بتوقيعه، ولو أنه لم يحسن الظن كثيراً بمجلس الإدارة، وأصر على الالتزام بالمعايير الشرعية المعتمدة من الجهات الموثوقة، لكانت المؤسسات المالية أكثر موثوقية لدى الأقرباء والبعداء. لقد ظلت المنتجات الإسلامية زماناً طويلاً، تسلك الطريق الأسهل، وهو محاكاة المنتجات التقليدية، وقد تواطأت معها بعض الفتاوي، تأليفاً للقلوب ومراعاة للظروف الصعبة التي نشأت فيها الصناعة، وهذا الطريق مع سهولته إلاّ أنه لا يمنح الصناعة المالية الإسلامية تميزاً حقيقياً، ولا يقنع الآخرين بتفرد التجربة الإسلامية، بل إنه يؤدي في مآلاته ومستقبلاته إلى ذات النتيجة التي تفضي إليها الصناعة المالية التقليدية ما بين تضخم وانكماش. فالمنتجات التقليدية تضمن للتاجر رأس المال مضافاً إليه الفائدة، وتلغي المخاطرة كما في السندات والتوريق التقليدي، وهذا مخالف للنموذج الشرعي الذي يشترط تحمل التاجر جزءاً من المخاطرة، فالربح غير مضمون شرعاً، بيد أن بعض الفتاوي اتجهت إلى ما يشبه إلغاء المخاطرة، لكن بأسماء أخرى، كالتعويض عن نقص الربح الفعلي، باسم الهبة أو التبرع أو القرض أو غيره، وهو ما لا يجوز فقهاً، سواء نص عليه صراحة في العقد، أو كان معروفاً عرفاً، وقد أكد على ذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الأخيرة (جمادى الأولى 1430هـ). وقد أحسن المجمع المذكور إذ دعا السلطات التشريعية في الدول الإسلامية إلى إيجاد الإطار القانوني المناسب، والبيئة القانونية الملائمة والحاكمة لعملية التصكيك، من خلال إصدار تشريعات قانونية ترعى عمليات التصكيك بمختلف جوانبها، وتحقق الكفاءة الاقتصادية والمصداقية الشرعية بشكل عملي، ذلك أن الدعم السياسي والتأطير القانوني لعملية التصكيك من أهم المقومات التي تؤدي دوراً حيوياً في نجاح هذه الصناعة. إن الفقه الإسلامي ليس "جعجعة في الهواء"، بل هو معايير أخلاقية وجدوى مادية، تدر ربحاً، لكنه ربح عادل نزيه، يفي بمتطلبات أصحاب رؤوس الأموال، ولا يجحف بأموال العملاء، وإن اعتراف الفاتيكان ليؤكد ما يوقن به كل مؤمن من أن هذا الدين قد جاء رحمة للعالمين، ولكن هل يعترف بذلك النفعيون من أثريائنا؟! هذا ما ننتظره. المصدر: شبكة القلم الفكرية.

ظاهرة الأغنية الدينية

ظاهرة الأغنية الدينية أحمد عبد العزيز القايدي أعلن أمس -الثلاثاء 24/ 5/1430هـ - عن وفاة محمد علاء محمد حسني مبارك حفيد الرئيس المصري وخلال دقائق فقط من هذا الإعلان تحولت أكثر القنوات فسقاً ومجوناً وتعريا في عالمنا العربي -القنوات الغنائية ومنها المملوك لنصارى -إلى قنوات إسلامية وراحت تنوع بثها بين القرآن وكليبات الغناء الديني، وهذا النوع من الغناء أصبح أكثر من ظاهرة بل غدا سبيلاَ ناجعا لمن يريد تسوق الفسق والعهر أو أسبابه ووسائله على أقل تقدير تحت شعار الإسلام وهو شعار يمكن من خلاله تمرير كثير من الأفكار والقيم في مجتمعات متدينة، انتشرت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة وفي الأيام السابقة أطلق داعية سعودية قناة تعنى بهذا الشأن عرف هذا النوع من الغناء باسم (الغناء الديني) ولعلنا في هذه المقالة نبرز شيئاً من سماته وآثاره. ما الأغنية الدينية؟ يمكن وصفها بأنها كلمات ذات طابع ديني أخلاقي اجتماعي لا يوجد فيها ابتذال أو فحش يقوم بأدائها مغنٍّ أو مغنية (امرأة) يستخدم فيها آلات العزف، فالمؤدي إذاً هو مغنٍّ من عامة المغنين له أغاني عشق وغرام وغزل، ولكنه غنَّى كلمات تحث على التوبة أو بر الوالدين، فأصبح غناؤه (دينياً)، ومن المعاني التي تدور حولها الكلمات: بر الوالدين، التوبة، المولد النبوي، مدح النبي -صلى الله عليه وسلم -والذب عنه، سرد الأسماء الحسنى، الحج، القضية الفلسطينية، رفقة الصالحين، التسامح مع الكفار، التكافل الاجتماعي، رمضان، أدعية، وغير ذلك. تاريخ الأغنية الدينية: كانت أم كلثوم من أوائل من ابتدع الغناء الديني، فكانت أغنية «نوّرت يا رمضان»، ثم تبعها على هذا النسق كثير من المغنيين في عصرها، واشتهرت هذه الظاهرة في ذلك الوقت، ومع مرور الزمن خبا بريق هذه الظاهرة. ويُعدّ سامي يوسف (¬1) من أوائل المعاصرين الذين أعادوا بريق مثل هذا النمط من الغناء بأغنيته الشهيرة (المعلم) التي بيع منها أكثر من مليون نسخة، ثم تبعه بعد ذلك مجموعة من المغنيين الرومانسيين الذين يخالفهم سامي يوسف في طريقته. وكثرت الألبومات المطروحة في الأسواق وبعضها لمغنيات مشهورات بالجرأة على التعري، ويوجد أيضاً فرقة (راب) (¬2) أمريكية راقصة متخصصة في الغناء الديني وتقيم الحفلات الغنائية في كثير من بلدان العالم، وتطلق على نفسها (جنود الله) ويبدو أن الاسم لم يثرْ اهتمام الأجهزة الأمنية الأمريكية؛ فلم تمنع الفرقة من العمل داخل الولايات المتحدة. المخالفات الشرعية: يحوي ذاك الغناء مخالفات شنيعة، منها: - الشرك بنوعيه الأكبر والأصغر: فهذه كلمات إحدى هذه الأغاني تقول: مدَد مدَد مدَد مدَد مدَد مدَد مدَد يا رسول الله والحلف بغير الله موجود أيضاً؛ كالحلف بالنبي -صلى الله عليه وسلم -والحلف بسور القرآن: أقسمت بالإسراء وبراءة العذراء الدم كل سواء حرام بأمر الله - الدعوة إلى البدع: كالاحتفال بالمولد، وفي إحدى هذه الأغاني دعا المغني الجمهور إلى الذهاب إلى المولد، ويبدو أنه نسي نفسه فأتى بواقع المراقص معه وحث على الرقص، وربما لم يجد فرقاً بين الواقعين! وفي كليب آخر تُعرض رقصات الطريقة المولوية الصوفية الشهيرة. - تمييع عقيدة البراء من الكفار: ¬

(¬1) مولود في طهران من أصل أذربيجاني، وانتقل مع عائلته وهو في سن الرابعة إلى بريطانيا. (¬2) نوع من أنواع الغناء الأمريكي الصاخب المصحوب بالرقص الجامح.

فهذه الأغاني يكثر فيها الحديث عن التعايش مع الكفار والأخوة الإنسانية والسلام والمحبة. وفي هذا السياق يقول أحدهم: (لا ينبغي أن تُحصر الأغنية الدينية في دين معين، أو أن تنحاز، أو يكون القصد منها محاربة دين آخر. على العكس؛ من خلالها نسبِّح الله الواحد الذي يوحدنا جميعاً باختلاف طوائفنا ومذاهبنا. هذه غايتي منها، وأعتقد أننا متفقون جميعاً على حبّ الله) (¬1) وفي إحدى الكلمات: أنشودة المسيح رسالة حرة على الأرض السلام، وبالناس المسرّة وترى في بعض الكليبات شيخاً محتضناً قسيساً يهنئه بمناسبة العيد والصليب يتدلى على صدره، والزنار مشدود على وسطه، ضارباً بعقيدة الولاء والبراء عرضَ الحائط، لذا تجد جزءاً من هذه الأغاني يكتب كلماتها أو ينتجها نصارى. - الاختلاط: فلا يكاد يخلو كليب من هذه الأغاني من اختلاط بين الرجال والنساء، إما في الأفراح، أو في حفلات التخرج الجامعي، أو في المناسبات العائلية أو الدينية. وفي أحد الكليبّات تظهر عروس وهي في كامل زينتها مع عريسها ليلة الزفاف سائرين بين الحضور، وفي آخر تمادى المنتج فأخرج لقطة لشاب وهو يغازل فتاة في السوق. - التبرج والسفور: ومع أن هذه الأغاني تحمل صفة دينية إلا أن مخرجيها لا يبالون أن يخرجوا النساء بلا حجاب مطلقاً، أو واضعات قطعة قماش على الرأس وهن في كامل زينتهن. - الموسيقى: يستخدم المغنون في هذه الأغاني جميع الأدوات الموسيقية بكل أشكالها وأنواعها؛ من الطبلة إلى القيثارة مروراً بالبيانو. الآثار المترتبة: - التلوَّن وذوبان الحقائق: هو ناتج طبيعي لمثل هذه الأغاني، فإذا كان المغني على قناة يتحدث عن التوبة، وبمجرد ضغطة زر واحدة تجده على قناة أخرى في أحضان امرأة شبه عارية، فأيُّ معنى يبقى للتوبة التي يغني عنها؟ ومِنْ ماذا يتوب إذا كان وهو في كليبّ التوبة يعزف على (الناي)؟! فتُفرَّغ القيم الإسلامية بمثل هذه الممارسات من حقيقتها ويجتمع الإيمان والفسق. فهذا المغني الذي فُتِنت به نساء المسلمين، ولديه جلسات احتضان خاصة بالنساء، وأفلامه محل انتقاد عند السينمائيين أنفسهم؛ يأتي لِيوجّهنا إلى جعل «الجنة في بيوتنا»! وبهذا الشكل لا يبقى للمفاهيم الإسلامية خصوصية تبقيها متميزة عمّا سواها، زيادة على امتهانها والعبث بها بهذه الازدواجية. - إضفاء الشرعية على مثل هذه الأغاني: حتى تصبح واقعاً لا يصح إنكاره، بل ربما يُنكَر على من أنكره فيصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً. وهذا ينعكس على المغني نفسه؛ فلا يرى خطأ في شيء من ممارساته، بل يصده ذاك الاعتقاد عن التوبة إلى الله. وهذا ما حصل مع مغنٍّ شهير مات منتج كليباته بجواره، فعزم على التوبة، ولكنه اختار الغناء الديني، ثم بعد مدة عاد كما كان. - تلبيس الحق بالباطل: فالباطل هو الغناء والتشبه بالكفار في الزي والحركات، هذا كله يُلبَّس بالمعاني الإسلامية -المحرَّفة أصلاً -؛ فيروَّج للغناء بحجة أنه يحمل معاني إسلامية، وفيه خدمة للإسلام ووسيلة لنشر الدعوة؛ فيبقى هذا الباطل ويرسخ في النفوس على أنه مشروع، وتنتشر الأغاني في المجتمعات الإسلامية ويصبح سماعها سائغاً وتألفه النفوس. - نشرٌ لعقيدة الإرجاء: فهذا المغني الفاسق المتغزل بالنساء الشارب للخمر، إذا دخل المسجد ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحثَّ على بر الوالدين؛ أصبح نموذج المسلم الصادق. وتلك المغنية المشهورة بالتعري إذا لبست الحجاب وسألت الله؛ أصبحت الطاهرة العفيفة، فالفسق عند ذلك لا يضر إيمانهم؛ فالرقص يجتمع مع الصلاة، والغناء مع القرآن، والتعري مع الحجاب، ولا ينقض أحدهما الآخر في هذه الأغاني، فيبقى الإسلام مجرد ممارسات وطقوس ولا علاقة له بضبط رغبات الناس وشهواتهم ولا سلطة له عليها. - نشر البدع بين الناس: هو جزء مما تمكِّنه هذه الأغاني؛ فدعاء غير الله، والذهاب إلى الموالد، والحلف بغير الله؛ يُظهر على أنه في حقيقة الإسلام وصورته التي يتسم بها المسلم إن ظاهرة الأغاني الدينية هي سمة بارزة للتدين الجديد المتفلِّت الذي يسعى كثير من الليبراليين وغيرهم إلى الترويج لهؤلاء باسم (الإسلام المعتدل.) قال -صلى الله عليه وسلم -: «ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف» (¬2). ولهذا وغيره؛ فإنه من الواجب الاحتساب على هذا الشطح بجميع الوسائل المتاحة , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. المصدر: شبكة القلم الفكرية ¬

(¬1) صحيفة الجريدة. (¬2) أخرجه البخاري.

أوهام القاعدين عن دعوة المسلمين

أوهام القاعدين عن دعوة المسلمين أ. د. ناصر العمر من الأمور التي تستحق التأمل في واقع الأمة، ما نراه من إحجام كثير من الناس عن القيام بأنواع بعينها من أعمال الخير؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الانخراط في مشاريع دعوية، أو القيام بأنشطة تربوية وما أشبه ذلك، ولا يرجع هذا الإحجام لانعدام الخير أو قلته، فالقلوب والحمد لله مليئة بالخير عامرة بالإيمان، لا أدل على ذلك من إقدام الناس على حفظ القرآن والإنفاق على الفقراء أو كفالة الأيتام أو عمارة المساجد وما أشبه ذلك، لكن السر يكمن في أوهام منتشرة بين الناس تحول بينهم وبين هذه الأبواب من الخير. بعض الناس يحجم عن القيام بهذه الأعمال خشية وقوع أشياء يكرهونها؛ من سجن، أو فصل من وظيفة، أو إخراج من الأوطان، وهي خشية لا تكون في كثير من الأحيان في محلها، حيث نجد العاملين يعملون وتمر الأيام والسنوات دون أن يتعرضوا لشيء من ذلك، بل يحصل العكس، فيكرمهم الله بعلو القدر والمكانة، ورفعة المنزلة والكرامة. وهذا لا يعني أن أحداً ممن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وغير ذلك من المشاريع النافعة لا يتعرض للأذى، بل قد يقع شيء من المحذور لبعض الناس، لكن هذا لا ينبغي أن يكون مانعاً لغيرهم من سلوك طريقهم، فضلاً عن أن يكون قاطعاً لهم عن مواصلة طريقهم. إن ما يحول بين بعض الأخيار، ومنهم طلاب علم بل علماء، وبين بعض الأعمال النافعة هو ظنهم أن السجن أو الفصل من الوظيفة أو الإخراج من الأوطان يمثل نهاية الدنيا، بحيث لا يمكن للمرء أن يعيش بعده أبداً، وهذا وهم كبير، فكم رأينا وسمعنا عن أناس ابتلوا وامتحنوا لكنهم صبروا واحتسبوا ومر الزمان واستدار فرفع الله عنهم البلاء ورفع قدرهم ومنزلتهم وعوضهم في الدنيا خيراً. وفي قصة أهل الكهف ما يبدد هذا الوهم الذي عشش في بعض القلوب، فإنهم لما خرجوا من ديارهم، وفارقوا أهلهم وأحبتهم ومساكنهم التي ألفوها إلى كهف منعزل لا يوجد فيه شيء من أسباب الرفاهية، بل لا يوجد فيه ما يكفل لهم البقاء على قيد الحياة، فلا طعام فيه ولا شراب، لم يقولوا: فأووا إلى الكهف واستعدوا للضيق والتحمل والصبر في ذات الله، بل قالوا: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16]، وما ذاك إلا ليقينهم أن من سار في طريق الله يبتغي مرضاة الله آخذاً بالأسباب متوكلاً على رب الأسباب سيجعل له الله من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، وهذا نظر دقيق وفهم عميق رزقه الله هؤلاء الفتية صغار السن وحرمه كثيراً من طلاب العلم. وقد كان من أمر الفتية ما قالوه وزيادة؛ فنشر لهم ربهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقاً، ثم جعلهم للناس آية ورفع ذكرهم في العالمين. إن مما ينبغي أن يكون معلوماً للجميع أن هذه الدار دار ابتلاء وتعب ونصب، وأن الابتلاء سنة الله الماضية في خلقه. وقد ابتلي الأنبياء، وابتلي الصالحون، وابتلي الدعاة إلى الله منذ القدم، فما صدهم ما لاقوه من أذى عن دعوتهم، ولو أن كل من خشي على نفسه الأذى قعد عن الدعوة إلى الله، بل لو أن كل من أوذي في ذات الله قعد عن الدعوة إليه لما وصلنا من دين الله شيء البتة.

فمن كان يظن أن طريق الجنة مفروش بالورود فهو واهم، ومن كان يظن أن الابتلاء بالسجن أو الطرد من الوظيفة أو الإخراج من الديار بل حتى القتل شر محض أو مفسدة راجحة فهو واهم، وها هو شيخ الإسلام رحمه الله ينافح عن الحق فيؤذى ويحارب ويبتلى ويسجن مرات بل يموت في السجن، وبرغم ذلك فقد أعلى الله ذكره وأخمل ذكر أعدائه، وقد كان رحمه الله يقول: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) (¬1)! لكن هذا ليس لكل أحد، بل هو خالص لمن أخلص النية لله عز وجل، ثم أخذ بالأسباب، ورجع إلى أهل العلم فيما يأتي ويذر واستشار واستخار، ولم يتمن البلاء ولا حرص عليه لكن أتاه: وإذا لم يكن إلاّ الأسنة مركباً ... فما حيلة المضطر إلاّ ركوبها! والمهم أن يصدر المرء في دعوته عن علم، وأن يصدر عن أقوال العلماء ولاسيما في المسائل ذات الخطر، وأن يخلص لله في عمله ويتحرى الصواب، فمن فعل ذلك وعرف طريقه وحدد منهجه فلا يلتفت بعد ذلك لشيء، بل ليمض في طريقه وإن أصابه ما أصابه، كما قال تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر: 65] إن هذه الكلمات ليست دعوة كي يلقي الإنسان نفسه أمام المحنة، ويعرضها للابتلاء، فإن العافية لا يعدلها شيء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية" (¬2)، والفرار من مواطن الفتن مطلب شرعي، وكم رأينا من رجل كان يقول إنه لو ابتلي فسيصبر ويفعل ويفعل، فلما وقع البلاء لم يصبر، بل انتكس ورجع عما كان عليه من حمل هم هذا الدين والعياذ بالله. إن المقصود هو أن يقوم المرء بما يجب عليه قياماً منضبطاً بالمنهج الشرعي، بلا إفراط ولا تفريط، فلا تهور يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، ولا قعود وانكفاء عن القيام بما يجب القيام به لأوهام لا حقيقة لها، أو حقيقتها لا تعدل مفسدة ما قعد عنه، وكم ممن يمنعه توهم ضرر محتمل أداء ما وجب عليه بيقين. وإذا أخذ المرء بالأسباب ثم وقع الابتلاء فعليه بالصبر على قدر الله، فإنه إن صبر على أذى ساعة يوشك أن يبدل الله عسره يسراً، ويوشك أن يجد عاقبة ذلك خيراً في الدنيا والآخرة. إن كثيراً من معاناة الأمة اليوم ترجع إلى أفعال بعض أبنائها ممن غاب عنهم المنهج الشرعي، فاندفعوا بوازع من الحماسة غير المنضبطة إلى أعمال خاطئة جرت عليهم وعلى مجتمعاتهم الويلات، وعلى الطرف الآخر تعاني الأمة من إحجام كثير من أهل الخير عن ما ينبغي لهم فعله، وكلاً من الفريقين فقد النظرة المعتدلة للأمور، وأجاب داعي الحماسة أو الخوف دون الرجوع إلى أهل العلم الربانيين المعتبرين ليصدر عن رأيهم. أما الحق فهو وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وصراط الله عز وجل صراط مستقيم لا اعوجاج فيه، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وطريق الدعوة إلى الله طريق واضحة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، فمن صدق الله عز وجل وسلك هذه السبيل فليبشر بخيري الدنيا والآخرة، والله الموفق. الم صدر: موقع المسلم ¬

(¬1) الوابل الصيب - (ج 1 / ص 67). (¬2) صحيح البخاري 3/ 1082 (2804)، صحيح مسلم 3/ 1362 (1742)

مناقشات حول عمل المرأة والتوسع فيه

مناقشات حول عمل المرأة والتوسّع فيه محمد بن عواد الأحمدي قضية عمل المرأة وتوسيع فرصه ومجالاته باتت مؤخراً مسألة تثير الكثير من النقاش والجدل في الساحة الفكرية في المجتمع السعودي، وذلك يعود بالدرجة الأولى لرمزية القضية، وما تحملها بين جنباتها من دلالات فكرية في حالة غلبة رأي على غيره في المشهد الفكري، وما يترتب على ذلك من آثار مستقبلية في واقع الأمر على مستوى صراع الأفكار. ويتجاذب طرفي النقاش في قضية التوسّع في عمل المرأة صوتان: أحدهما صوتٌ محافظٌ واسع الانتشار، يقدم الحرص على ثوابت المجتمع الشرعية والاجتماعية، ويطالب باحترام نظامه العام، ويتخوف من بعض الخطوات التي تخاطر بقيم المجتمع ومبادئه، ويطالب بالتنمية والتطوير في المجتمع، مع ضرورة الاحتفاظ بالأصالة والهوية. وصوت آخر متحرر، ينحو في أطروحاته المتعلقة بعمل المرأة اتجاه الطرح الليبرالي الوافد على المجتمع، ويُغلّب النظر إلى المصالح المادية ولو جاءت على حساب هوية البلد، متغافلاً عن مراعاة الاشتراطات الشرعية والنظامية وضرورة تطبيقها في الواقع، وتتقاطع بعض مطالبات هذا الصوت مع ما تنادي به وتتطلع إلى تحقيقه في المنطقة المنظمات والهيئات الغربية، ويسعى أولئك من خلال مطالباته إلى تحقيق مكاسب دعائية تساهم في تغيير صورة المجتمع السعودي لدى الآخر الغربي، وهذا الصوت لا يتمتع في الحقيقة بالقبول الاجتماعي الشعبي الذي يتمتع به الصوت المحافظ (¬1). وما ألحظه من خلال متابعتي الإعلامية لتصريحات المسؤولين بوزارة العمل أن الوزارة تُولي ما تسميه بـ "بطالة الإناث" أهمية خاصة، تُشعر المتابع أن المجتمع السعودي لا يعاني من بطالة واسعة في صفوف الذكور، وأنهم قد نالوا حقهم في العمل الكريم وتوفرت لهم فرص كسب الرزق، وبقي أن تهتم الوزارة بتوظيف الإناث وتوفير فرص ومجالات عمل جديدة لهن، ولسان حال الوزارة أن توظيف المرأة السعودية، واستحداث فرص متنوعة لعملها في المجالات المختلفة أكثر أهمية وأشد إلحاحاً في المجتمع من توظيف شقيقها الرجل، أو على الأقل أنهما يتساويان في احتياجهما للعمل، وكل ذلك يتعارض مع الاحتياجات الفعلية للمجتمع التي تتشكل وفق ثقافته وقيمه الاجتماعية. ¬

(¬1) ومن الشواهد الواقعية على شعبية الخطاب المحافظ في المملكة وضعف شعبية الخطاب الليبرالي على سبيل المثال لا الحصر نتائج الانتخابات البلدية وتفاعل كثير من شرائح المجتمع مع الشخصيات ذات التوجه الإسلامي أو مع الأشخاص الذين أشاد بهم العلماء والدعاة، وانظر في ذلك إلى دراسة استقرائية قيمة أعدها مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام في جزأين تحت عنوان "تديّن السعوديين"، كما أن من الدراسات الدالة على ذلك دراسة ميدانية قام بها مؤخراً جهاز الإرشاد والتوجيه في الحرس الوطني على عينة عشوائية من النساء السعوديات وعبر عدد من المتخصصين، شملت مختلف الأعمار والفئات، وتوصلت الدراسة إلى أن كثيراً من الأفكار والمطالبات التي تشيع في الصحف، ويطالب بها الخطاب الليبرالي لا تحظى بالقبول والانتشار في الأوساط النسائية، بل إن غالب النساء يعارضن ذلك، فقد أوضحت الدراسة أن 88% من النساء يرفضن قيادة المرأة للسيارة، و 92% يرفضن سفر المرأة إلى الخارج للدراسة من دون محرم، و90% منهن يرفضن العمل المختلط بالرجال الأجانب في المجمعات السكنية والفنادق ونحو ذلك، وحول ظلم المرأة كشفت الدراسة أن قطاعات كثيرة من النساء لا ترى ثمة فرقاً بينها وبين الرجال في نسبة احتمالات التعرض للظلم [صحيفة الجزيرة العدد رقم 12337].

ولو استمعنا إلى صوت العقل والمنطق السليم فسنجد أن التوسع في عمل المرأة في ظل وجود بطالة حقيقية واسعة الانتشار وخطيرة الآثار في أوساط الشباب- أمرٌ مستهجنٌ وغير مقبولٍ، بل إن المنطق السليم يرفض حتى أن نساوي في الاهتمام بين الشباب والفتيات في توفير فرص التوظيف. وليس معنى ذلك رفض مبدأ توظيف النساء طالما أنه يحقق احتياجاً فعلياً في المجتمع لا يُسدّ إلاّ من خلال النساء، أو كان نتيجة لاحتياجات شخصية مادية أو معنوية، أو كان على سبيل التكميل والتحسين الذي لا يُوجد ما يمنع منه ما دام أنه منضبطٌ بالضوابط الشرعية والنظامية، فلا يعرِّض المرأة للاختلاط بالرجال أو التكشف المحرم، ويتوافق مع طبيعتها، ولا يوقعها في الضرر. إنما الذي لا أرى له ما يسوّغه موضوعياً، بل أرى أنه يختلف مع الفطرة البشرية والمنطق السليم هو المساواة في الفرص الوظيفية بين الشباب والفتيات في ظل شيوع البطالة بشكل واسع في صفوف الشباب، وأولى من ذلك بالرفض الاهتمام بتوظيف النساء على حساب الشباب. والتوسّع غير المنضبط في فرص ومجالات عمل النساء على حساب المستحقين من الشباب، كما أنه يتعارض مع القواعد الشرعية والنظامية، فإنه كذلك لا ينسجم مع المنظومة القيمية السائدة في المجتمع السعودي، وله تبعات سلبية على التركيبة الاجتماعية، ومن أبسط تلك التبعات أن التوسع في توظيف الفتيات على حساب الشباب مع وجود معاناة واسعة في صفوف الشباب بسبب عدم توفر فرص وظيفية لهم، يزيد من المشكلات والأزمات الأخلاقية، ويفاقم من ظاهرة العنوسة التي بدأت تدق ناقوس الخطر في مجتمعنا، وأخذت تنتشر وتتوسع، مع إلحاح متزايد لضغوط المغريات والمثيرات، وتوظيف الفتاة - كما يشهد بذلك الواقع - يشغلها في كثيرٍ من الحالات عن الزواج وتكوين الأسرة، بل قد يكون سبباً في فوات قطار الزواج عليها، كما أن توظيف المرأة لا يمكِّنها من أن تفتح بيتاً زوجياً طالما أن زوجها عاطل عن العمل، ولكن على العكس من ذلك فتوظيف الشاب العاطل يسهل عليه الزواج، حتى وإن لم تُتح فرصة وظيفية لزوجته. ومن ناحية اقتصادية فإن القول بأن عمل المرأة يساهم على الإطلاق في إنعاش الاقتصاد وزيادة الناتج القومي قول غير دقيق، إلاّ في حالة وجود عجز في الأيدي العاملة الوطنية من الرجال، واقتضت المصلحة العامة سد الاحتياج التنموي بأعداد من النساء وفق الضوابط الشرعية والنظامية في البلد، أما في واقعنا المحلي المعاصر فإطلاق هذا القول مجانبةٌ للصواب؛ لأنه لا تزال نسبة البطالة من الرجال نسبة كبيرة، ولا يسوغ عندئذٍ أن يكون اهتمامنا بتوظيف الفتيات أكثر أو يساوي اهتمامنا بالشباب، وهنا نقول إن خروج المرأة للعمل من دون اضطرارٍ ولا حاجةٍ وفي ظل وجود بطالة شبابية واسعة يحمل المجتمع أعباءً مالية واجتماعية وتربوية كبيرة لا تساوي قدر المكاسب الحاصلة من عمل المرأة. وعلى مستوى العائد المالي الشخصي للمرأة الموظفة فإن الواقع يشهد بأن كثيراً منه يصرف في أغراض استهلاكية تُوجبها ظروف الوظيفة لا ظروف الاحتياج الشخصي للمرأة؛ فراتب الموظفة يذهب جزءٌ كبيرٌ منه في رواتب الخادمة والمربية والسائق، وفي تكاليف اللباس، وأدوات التجميل، والتي تحتاجها المرأة نظراً لخروجها اليومي، وهذه الاحتياجات لم تجب على المرأة إلاّ بسبب ظروف عملها، وما يعود على المرأة الموظفة حقيقةً قد لا يتجاوز في كثيرٍ من الحالات نصف الراتب أو أقل من ذلك، وقد لا يساوى ذلك المقابل الجهد المبذول والتضحيات التي قدمتها المرأة مقابل الوظيفة إلاّ إن كان دفعها لذلك الاضطرار الشخصي أو المجتمعي.

إن المنطق الشرعي والعقلي يوجب أن يكون الاهتمام في التوظيف موجهاً بالدرجة الأولى إلى الشباب ثم إلى النساء بعد ذلك، كما أن منطق الحقوق يوجب أن تكون الحقوق الممنوحة متناسبة مع حجم المسؤوليات والالتزامات الواجبة على الفرد، ولا يسوّغ أن نطالب بالمساواة في الحقوق بين أفراد تختلف المسؤوليات الواجبة عليهم في بعض جوانبها اختلافاً جوهرياً، كما هو الحال في الواجبات الاجتماعية الواجبة على الرجل والمرأة؛ فالرجل في الشريعة الإسلامية، وفي العرف السائد في المجتمع السعودي هو المكلف في الأصل بالنفقة على من تحت يده من النساء وغيرهم، والمرأة لا يجب عليها شيء من ذلك حتى ولو كانت غنية، فكيف يسوغ والحالة هذه أن ينصرف اهتمام بعض مؤسسات المجتمع إلى توظيف المرأة على حساب الرجل أو يساوي بينهما؟! فعمل المرأة كأجيرة في الأوضاع الطبيعية لا يُعدّ في الغالب من الاحتياجات الرئيسة للمرأة أو للمجتمع باستثناء حالات محدودة، كالحاجة إلى المرأة في القطاع الصحي والتعليمي، وفي القطاعات والمجالات الأخرى التي تحتاج المرأة أن تتعامل معها بنفسها، وفي حالات الاحتياج الشخصي، وإنما يأتي عملها في الغالب كاحتياج ثانوي، وهذا الأمر يجب أن يكون له أثره على أولويات الاهتمام والتوظيف من مؤسسات المجتمع الحكومية والأهلية. وبناءً على ما سبق فلا يسوغ أن ننظر إلى بطالة الذكور والإناث، ونحدد حجمها من خلال نفس المعايير، دون مراعاة الاختلاف الجوهري في الواجبات والمسؤوليات المناطة بكلٍ منهما، محتجين بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، بل الواجب هنا هو مبدأ العدل لا المساواة، والذي يقتضي أن تتناسب الحقوق مع الواجبات، وما ألحظه أن وزارة العمل تنظر لبطالة الذكور والإناث، وتتعامل معها من خلال معايير موحدة، وهذه منهجية تفتقد للدقة والواقعية. وإذا انتقلنا إلى زاوية أخرى للقضية، ونظرنا إلى نوعية الوظائف والأعمال التي تُطرح ضمن تطبيقات توسيع فرص ومجالات عمل المرأة لاسيما في القطاع الخاص، وتحظى بتسويق إعلامي واسع على الصعيد المحلي لرأينا أن هناك سعياً غريباً لتطبيع نوعيات معينة من الأعمال والوظائف التي تتعارض مع ثقافة المجتمع ومنظومته القيمية، أو على أقل الأحوال لا تحظى بقبول اجتماعي، كالعمل في البيئات المختلطة من دون ضرورة فعلية لذلك.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يحاول البعض أن يفرض على المجتمع بعض الأعمال التي لا يُرحب بها غالبية الشعب (¬1)، وتختلف مع نظام المجتمع العام، أَوَليس احترام النظام العام في المجتمع -بصفته مجموعة القيم والمبادئ والعادات التي يؤمن بها ذلك المجتمع، ويستهجن الخروج عليها- أمراً توجبه النظم والأعراف القانونية على الجميع!! لماذا يركز الخطاب الإعلامي على عمل المرأة المختلط بالرجال، وكأنه ليس هناك غيره من الأعمال التي يمكن للمرأة العمل فيها؟ وهل يعود ذلك إلى أن هناك من يهدف إلى كسر الحاجز النفسي وتخفيف الرفض الاجتماعي تجاه العمل المختلط؟! أين تفعيل وزارة العمل للأعمال المتوافقة مع الأحكام الشرعية والنظام العام للمجتمع، والتي تحظى بقبول اجتماعي؛ كصور العمل المختلفة في الأوساط النسائية؟ لماذا لم تُفعل وزارة العمل بشكل جدي إلى الآن التوصية الواردة في القرار الملكي القاضي بتوسيع عمل المرأة وفق الأحكام الشرعية والتي تنص على تفعيل تطبيقات العمل عن بعد عبر الوسائط الإلكترونية، والذي يضمن للمرأة أن تقوم بواجباتها الأسرية بشكل أفضل في جو من الراحة والخصوصية والأمان؟! إن الملاحظ أن هناك ممارسات حثيثة تدفع بالمرأة دفعاً لكي تخرج من المنزل، وتبحث عن الوظيفة، وتثبت قدراتها على منافسة الرجل في كثيرٍ من المجالات، وتحقيق ذاتها، وكأن هناك صراعاً وخصومة بين الرجل والمرأة، وعلى المرأة أن تسعى لكسب الصراع لصالحها، وتحقيق الانتصار على الطرف الآخر، وفي خضم ذلك يلمّع الخطاب الإعلامي المرأة الموظفة، ويبرزها للرأي العام في المجتمع على أنها هي المرأة المنتجة التي تخدم الوطن، وتشارك بفعالية في عملية تنميته، ولو كان عملها على حساب واجباتها الأسرية، بينما المرأة غير الموظفة فإنها تصور على أنها امرأة ناقصة وعاطلة عن العمل، حتى ولو كانت تقوم بدورها الرائد في تربية أبنائها والاهتمام بشؤون أسرتها، في سعيٍ إلى التهوين والتقليل من الواجب الشرعي والوطني المناط بها تجاه أبنائها، وكأنه دورٌ هامشيٌ قليل الجدوى، ولا يقوم به إلاّ الأمهات محدودات الثقافة، وذلك خلطٌ وتلاعبٌ عجيبٌ بالمفاهيم والمصطلحات يجب التنبه إليه. ¬

(¬1) انظر على سبيل المثال إلى نتائج الدراسة السابقة التي قام بها جهاز الإرشاد والتوجيه في الحرس الوطني، وإلى الدراسة الميدانية التي أجرها مركز مسبار للدراسات والبحوث والإعلام، والتي أظهرت أن 72% من المواطنين لا يؤيدون عضوية المرأة في المجلس البلدي، وعلل 69.5% منهم ذلك لوجود مخالفات شرعية تترتب على مشاركة المرأة في المجالس البلدية، في إشارة إلى العمل المختلط مع الرجال الجانب، والذي يحصل من جراء ذلك (صحيفة المدينة في العدد رقم 16633)، إلى غير ذلك من الدراسات والبحوث التي تؤكد أن العمل المختلط لا يحظى بالقبول والترحيب الاجتماعي، وإن مارسه البعض للحاجة أو بسبب التقصير، ولكنه يبقى أنه يفضل غيره لو أتيح له.

الأزمة الإقتصادية العالمية ... أسباب وحلول

الأزمة الإقتصادية العالمية ... أسباب وحلول عاهد ناصر الدين يشهد العالم أزمة اقتصادية لم يسبق لها مثيل، تحاول الدول الرأسمالية حلها وإيجاد السبل للخروج من هذه الأزمة التي سببت كارثة اقتصادية تهدد العالم بأسره. وقد انعقدت قمة العشرين بلندن يوم الخميس الثاني من نيسان عام 2009م في محاولة للخروج من هذه الأزمة الخانقة. وقد ازدادت الأزمة الاقتصادية العالمية سوءا منذ قمة واشنطن في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، والتي عقدها زعماء الدول العشرين والتي تستحوذ على 90% من الناتج الاقتصادي العالمي و 80% من التجارة العالمية وهي تضم ثلثي سكان الأرض. إن هذه الأزمة التي تعصف الآن بالعالم ليست الأولى من نوعها, فلقد كانت هناك أزمة كبرى في عام 1929 وسميت بأزمة الكساد الكبير, ومن أشهر أزمات النظام الرأسمالي ما حصل في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول عام 1997 حيث حصل هبوط حاد في أسعار الأسهم في الأسواق المالية الكبرى، بدأ في هونغ كونغ، وانتقل إلى اليابان، ثم لأوروبا، وتتالى الهبوط من بلد لآخر مع تتالي طلوع الشمس في كل منها، وقد سبق هذه الأزمة التي حصلت في أوروبا وأمريكا ما كان يجري في جنوبي شرق آسيا من تدهور في أسعار صرف عملات دولها وهبوط أسعار أسهم شركاتها فأشرفت عدد من المصارف والشركات على الهلاك من تايلاند إلى الفلبين وماليزيا وإندونيسيا ثم امتدت الأزمة كالعدوى إلى كوريا الجنوبية وتايوان في شمال آسيا 0 وفي هذه الأيام تفاعلت أزمة الرهن العقاري، وتوسعت في القروض، وعجز المقترضون عن السداد، فأفلست كبرى البنوك والمؤسسات المالية في أمريكا أو كادت، وبسبب كثافة الدعاية لسوق الرهن العقاري في أمريكا، وللأرباح الوفيرة المتوقعة وفق أرباب صناعة الإعلان… فقد تسارعت البنوك الدولية والأسواق المالية للاستثمار في هذا السوق، وهكذا انعكس إفلاس البنوك والمؤسسات المالية الأمريكية على العالم، وأصابت "عطسة" أمريكا العالم بالزكام. لقد قدَّرت بعض المصادر المالية خسائر الرهن العقاري بنحو "300" مليار دولار في أمريكا وحدها، و"550" مليار دولار في دول العالم الأخرى! فبدأت الدول، وبخاصة الغنية، تضخ الأموال بالمليارات إلى الأسواق المالية لإسناد السوق وتوفير السيولة لتحريك عملية الاقتصاد، بل إن بعضها تدخلت مباشرة لدرجة وصلت التأميم لبعض المصارف كما حدث في بريطانيا! وإن ما حصل مؤخرا في أزمة الرهن العقاري الحادة والمستمرة دليل على فساد النظام الاقتصادي الرأسمالي, فقد وجدت آلاف الأسر نفسها في الشارع بعد أن خسرت بيوتها التي ذهبت إلى المؤسسات الربوية. إن هذا الاقتصاد الرأسمالي الذي سبب كل هذه الكوارث المعيشية والاجتماعية يقوم على ركائز ثلاثة هي أس الداء ومكمن البلاء وهي التالية: 1 - الشركات المساهمة: أي تلك الشركات التي يتم تداول أسهمها في البورصة فتصبح قيمة هذه الشركة أضعاف قيمتها الحقيقة نتيجة للمضاربة على أسهمها, فالشركة التي أصولها على الحقيقة تساوي مليون دولار مثلا, قد تصبح قيمتها في البورصات نتيجة المضاربة مليار دولار, وهذا معناه بيع أوهام لا أكثر فربما دفع مضارب مليون دولار في شركة لعله يحصل على 10% منها, ولكنه يكتشف أن الشركة لا تساوي كلها بجميع ما فيها نصف المليون. 2 - الربا. وهذا غني عن الشرح. 3 - النقد الإلزامي:

أي أن الدول لا تغطي عملتها المطبوعة بالذهب أو الفضة, وإنما العملات مثل الشيكات تصدرها الدولة وتلتزم بتصريفها دون أن يكون لها رصيد حقيقي, ولعل في عملة العراق مثال يوضح المسألة فقد تهاوى سعر صرف الدينار العراقي إلى قيمة تقارب الصفر بعد الحصار, ولو كان هذا الدينار مغطى بالذهب أو نائب عن الذهب والفضة لما خسر الناس أموالهم لمجرد أزمة سياسية ألمت بالبلد. وقد تآزرت هذه الأنظمة الثلاثة لتفصم الإقتصاد الرأسمالي إلى نوعين من الاقتصاد أو الأسواق: الأول: هو الاقتصاد الفعلي: وفيه يكون إنتاج وتسويق السلع والخدمات الفعلية. والثاني: هو الاقتصاد المالي: وهو ما يسميه بعضهم بالاقتصاد الطفيلي القائم على الشركات المساهمة والبورصات والأسواق المالية التي يتم فيها بيع وشراء الأسهم والسندات، والبضائع دونما شرط التقابض للسلع بل تشترى وتباع مرات عدة، دون انتقالها من بائعها الأصلي، وهو نظام باطل يُعقِّد المشكلة ولا يحلها، حيث يزيد التداول وينخفض دون تقابض بل دون وجود سلع ... ، كل ذلك يشجع المضاربات والهزات في الأسواق، وهكذا تحدث الخسائر والأرباح بطرق شتى من النصب والاحتيال وقد تستمر وتستمر قبل أن تنكشف وتصبح كارثة اقتصادية. إن هذه الأسواق المالية مصدر كبير للفقر المدقع لكثير من الفقراء, وهي أسواق تقتات على حساب المستثمرين الصغار, والجائعين والمحرومين. ومع أن حجم الأموال المتداولة فيها تقدر بـ 98% مقارنة بالمال المستخدم في الاقتصادي الحقيقي والفعلي المتعلق بالإنتاج, إلا أن هذه الأموال لا ينتفع بها إلا فئة قليلة من الناس، ولا شك أن المضاربات من أهم الأسباب في الأزمات الاقتصادية الأخيرة, حتى أن سياسيي العالم انتقدوها مؤخراً وطالبوا بفرض قيود صارمة على المضاربين ومراقبة البورصات. من ذلك ما قاله الرئيس الفرنسي ساركوزي: لقد حان الوقت لجعل الرأسمالية أخلاقية بتوجيهها إلى وظيفتها الصحيحة، وهي خدمة قوى التنمية الاقتصادية وقوى الإنتاج، والابتعاد تماما عن القوى المضاربة. لقد جمعت المضاربات في الأسواق المالية كل مساوئ النظام الاقتصادي الرأسمالي: الفوائد الربوية, العملات الإلزامية الغير مغطاة, البيع والشراء بغير تقابض, اعتماد أساليب الغش والكذب والاحتيال والتمويه والتآمر في رفع الأسعار وتخفيضها, والمجازفة بالاعتماد على العامل الغيبي في البيع والشراء. وأما بالنسبة لنظام الربا المصرفي فإن القروض الربوية تشكل مشكلة اقتصادية كبرى، حتى إن مقدار الدين الأصلي سيتضاءل مع الزمن بالنسبة للربا المحسوب عليه، فيصبح عجز الأفراد والدول أمراً وارداً في كثير من الحالات، ما يسبب أزمة تسديد الدين، وتباطؤ عجلة الاقتصاد لعدم قدرة كثير من الطبقات الوسطى بل والكبرى عن تسديد الدين ومواكبة الإنتاج. وأما بالنسبة لنظام النقد الإلزامي فإن النقود تُعرّف بأنها الشيء الذي اصطلح الناس على جعله ثمنا للسلع وأجرة الجهود والخدمات 0 وقد كان النظام المعدني هو النظام السائد من قديم الزمان قبل الإسلام ولما جاء الإسلام أقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعامل بالدنانير والدراهم، أي بالنظام المعدني، وجعلهما وحدهما المقياس النقدي الذي تُقاس به أثمان السلع وأجرة الجهود والخدمات 0

وقد تم إقصاء الذهب عن كونه الغطاء النقدي، وإدخال الدولار شريكا له في اتفاقية بريتون وودز مع نهاية الحرب الثانية، ثم بديلا له في أوائل السبعينات، قد جعل الدولار متحكما في الاقتصاد العالمي، بحيث تكون أية هزة اقتصادية في أمريكا مشكِّلةً ضربة قاسية لاقتصاد الدول الأخرى، وذلك لأن مخزونها النقدي، معظمه إن لم يكن كله، مغطى بالدولار الورقي الذي لا يساوي في ذاته أكثر من الورقة والكتابة عليها، وحتى بعد أن دخل اليورو "حلبة الملاكمة"، وأصبحت الدول تحتفظ في مخزونها النقدي نقودا غير الدولار، إلا أن الدولار بقي يشكل النسبة الأكبر في مخزون الدول بشكل عام. نضيف إلى ذلك كله أمرا مهما، وهو عدم الوعي على واقع الملكيات، فهي قد كانت عند مفكري الشرق والغرب إما مِلكية عامة تتولاها الدولة وفق النظرية الاشتراكية الشيوعية، وإما مِلكية خاصة يتولاها القطاع الخاص ولا تتدخل الدولة بها وفق النظرية الرأسمالية الليبرالية المعتمدة على حرية السوق، والخصخصة، ثم أضيف لها العولمة. إن عدم الوعي هذا على واقع المِلكيات أوجد ويوجد الهزات الاقتصادية والمشاكل الاقتصادية، وذلك لأن المِلكيات ليست إما أن تتولاها الدولة، أو يتولاها القطاع الخاص، بل هي ثلاثة أنواع: مِلكية عامة تشمل المناجم الصلبة والسائلة والغازية، كالبترول، والحديد والنحاس والذهب والغاز وكل ما في باطن الأرض، والطاقة بكل صورها، والمصانع الكبرى التي تكون فيها الطاقة عنصرا أساسا… فيجب أن تتولى الدولة استخراجها وتوزيعها على الناس عينا وخدمات. ومِلكية دولة وهي ما تأخذه الدولة من ضرائب بأنواعها، وما تنشئه من تجارة وصناعة وزراعة في غير الملكية العامة، وهذه تنفقها الدولة على مرافق الدولة. ثم المِلكية الخاصة وهي الأمور الأخرى، وهذه يتصرف بها الأفراد وفق الأحكام الشرعية 0 ولقد أيقن الساسة والاقتصاديون والمفكرون في العالم أن سبب ما يمرون به من كارثة اقتصادية طامّة؛ إنما هو المبدأ الرأسمالي، الذي يحرص على مصالح الرأسماليين فيه، فيملأ جيوبهم على حساب باقي الناس، وقسم العالم إلى فئتين: فئة لا تصل إلى 5% من الناس تملك أكثر من 80% من مقدرات العالم وثرواته، والأخرى 95% من الناس، ولا تكاد تملك 20% من الثروة، بل إنه يحرم الملايين من لقمة العيش ليحقق الرفاهية للرأسماليين. كما أيقن الساسة والاقتصاديون عجزهم عن إيجاد حل لهذه الأزمة الكارثة، وأعلنوا عجز المبدأ الرأسمالي عن تجاوز الأزمة وحلها، وقد صدر هذا اليقين وهذا الإعلان على لسان كبار ساستهم من أمثال ساركوزي وبراون وغيرهم، ومع أنهم قاموا ببعض الأعمال لمعالجة الأزمة إلا أنهم اعترفوا بفشل تلك الأعمال، كفكرة ضخ السيولة في الأسواق والبنوك والشركات المتعثرة، مع أنهم كانوا يدفعونها من أموال دافعي الضرائب عندهم، أي يأخذون من الفقير ليقيلوا عثرة الغني ... فما زالوا على ضلالهم القديم، في حرصهم على إنهاض الغني الرأسمالي المتعثر، ولو على حساب الفقير لقد فشلت معالجات الدول الرأسمالية للأزمة الاقتصادية الكارثة، لأنها من جنس المبدأ الذي أنتج هذه الأزمة، فالمبدأ الفاسد في أساسه سينتج عنه الفساد حتماً، وسيولد الشقاء لمن يطبق هذا المبدأ، وكذلك فإن المعالجات المنبثقة عنه ستكون معالجات فاسدة، وهذا هو الذي أثبته واقع المبدأ الرأسمالي عبر العقود الطويلة التي طبق فيها .. وعليه فليس أمام الساسة والمفكرين والاقتصاديين إلا أن ينبذوا هذا المبدأ نبذ النواة، ولن يحتاجوا للبحث عن البديل.

فالحل الجذري موجود ومطروح منذ عقود وهو النظام الاقتصادي الإسلامي وهو وحده العلاج الناجع والواقي والحامي من حدوث الأزمات الاقتصادية، فهو قد منع كل مسببات الأزمات الاقتصادية: منع التعامل بسندات الدين بيعا وشراءاً فهي باطلة شرعا ويتم فيها استثمار المال بالربا الذي نهى عنه الشرع نهيا جازما قاطعا باتا مهما كانت نسبته قليلة أو كثيرة، وسواء أكان ربا نسيئة أو فضل، وجعل الإقراض لمساعدة المحتاجين دون زيادة على رأس المال، وفي بيت مال المسلمين باب لإقراض المحتاجين والمزارعين مساعدة لهم دون ربا. ومال الربا مال حرام قطعا، ولا حق لأحد في ملكيته، ويرد لأهله إن كانوا معروفين ولفظاعته وصف الله آكليه بالذين يتخبطهم الشيطان من المس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة275 ولشدة حرمة الربا أعلن الله الحرب على آكليه في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} البقرة 278 - 279 نص على أن يكون الذهب والفضة هو النقد لا غير، وأن إصدار الأوراق النائبة يجب أن تكون مغطاة بالذهب والفضة بكامل القيمة وتستبدل حال الطلب. وبذلك فلا يتحكم نقد ورقي لأية دولة بالدول الأخرى، بل يكون للنقد قيمة ذاتية ثابتة لا تتغير. ومنع بيع السلع قبل أن يحوزها المشتري، فحرم بيع ما لا يملك الإنسان، وحرم تداول الأوراق المالية والسندات والأسهم الناتجة عن العقود الباطلة، وحرم وسائل النصب والاحتيال التي تبيحها الرأسمالية بدعوى حرية الملكية. ومنع الأفراد والمؤسسات والشركات من امتلاك ما هو داخل في الملكية العامة، كالبترول والمعادن والطاقة والكهرباء المستعملة في الوقود… وجعل الدولة تتولاها وفق الأحكام الشرعية. وهكذا فقد عالج النظام الاقتصادي الإسلامي كل اضطراب وأزمة في الاقتصاد تسبب شقاء الإنسان، فهو نظام فرضه رب العالمين الذي يعلم ما يصلح مخلوقاته {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} المصدر: شبكة القلم الفكرية

استخدام التاريخ الميلادي

استخدام التاريخ الميلادي عبد اللطيف القرني [قاضي في ديوان المظالم] الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن لكل أمة تأريخ معين تُنسب إليها أحداثها وتعلق عليه أحكامها وإليه يلجأ أفرادها في أمور دينهم ودنياهم. وحيث إن الرعيل الأول اتفقت كلمتهم على اعتبار شأن الهجرة وأنها بداية مناسبة لتأريخ أمة الإسلام بحيث تنسب إليه الحوادث ويكون مرتبطاً بالحول القمري الذي أمرنا بالاعتداد به، حيث جعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام إذا عرف هذا. ولما كان التأريخ الميلادي من أشهر التواريخ المستعملة هذه الأيام وللأسف الشديد حتى في معظم البلاد الإسلامية أشير علي بحث هذه المسألة مع الأخذ بالاعتبار مدى جواز الاستفادة من الحسابات الفلكية المرتبطة بالتواريخ الأخرى كالحساب الشمسي المتمثل بالتاريخ الميلادي وما واجب الأفراد تجاه أنظمة الدول التي تأخذ بالتأريخ الميلادي. ومن خلال البحث في هذه المسألة لم أجد من تكلم في هذه المسألة بتوسع وأغلب ما عثرت عليه بعض الفتاوى العامة في هذا الباب دون تفصيل في الأحوال، والله نسأل أن يسدد رشدنا وأن يلهمنا الصواب. المبحث الأول: وفيه مسائل: المسألة الأولى: معنى التأريخ: قال ابن منظور: أرّخَ: التأريخ: تعريف الوقت. والتوريخ مثله. أرخ الكتاب ليوم كذا: وَقَّتَه ... وتأريخ المسلمين: أرخ من زمن هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. كتب في خلافة عمر رضي الله عنه فصار تأريخاً إلى اليوم (¬1). وتعريف كلمة التأريخ في الاصطلاح: ما ورد في المعجم الوسيط التاريخ جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، ويصدق على الفرد والمجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية ... والتأريخ تسجيل هذه الأحوال (¬2). ويظهر من التعريف التفريق بين التأريخ (مهموزاً) والتاريخ (بدون همز)، فالتاريخ بدون همزة علم يشمل أبرز الأحداث، والتأريخ هو يوم معين تنسب إليه سائر الأحداث وهو المراد هنا. فنخلص من ذلك أن التأريخ: تسجيل الأحوال والأحداث للأفراد والأمم مستنداً في كل حدث أو حالة إلى الحدث المؤرخ به والمؤرخ به عند الأمة الإسلامية كما سيأتي ذكره هي الهجرة النبوية. المسألة الثانية: الفرق بين التاريخ والتقويم: يطلق لفظ التأريخ ويراد به التقويم، وكذا العكس وعند التأمل نجد الاختلاف الدقيق بينهما فالتقويم لغة بمعنى تصحيح الخطأ أو الاعوجاج واصطلاحاً: تنظيم لقياس الزمن يعتمد على ظواهر طبيعية متكررة مثل دورتي الشمس أو الأرض والقمر (¬3). فهو مختص بحدث مرتبط بظاهرة متكررة كمواسم الزراعة السنوية أو الفصول الأربعة وهو في الشهور الشمسية ثابت لا يتغير مثل ربط بدء الدراسة سنوياً بأول يوم من برج الميزان أو أول يوم من الربيع فهذا يسمى تقويماً وهو خاص بتلك السنة ومثله تقويم أم القرى أو التقويم القطري ونحوه، فهو تقويم سنوي ينظم تفاصيل سنة من السنين وفي تفاصيله تجد التأريخ الهجري القمري والتأريخ الميلادي الشمسي والفصول السنوية المعروفة والأبراج (¬4). أما التأريخ فهو وعاء لأحداث الأمة يساير أيامها ويربط أجيالها بعضهم ببعض ويوثق حاضرها وماضيها وإن كان التقويم مضافاً للهجرة أو الميلاد يستخدم عند البعض بمعنى التأريخ الهجري أو التأريخ الميلادي، ولذا تجد من يعبر عن التاريخ بالتقويم فيقول التقويم الهجري والمقصود هو التاريخ الهجري (¬5). ¬

(¬1) (لسان العرب 3/ 4) مادة (أرخ). (¬2) (المعجم الوسيط 1/ 13). (¬3) (الموسوعة العربية الميسرة 1/ 539). (¬4) (التاريخ الهجري ص 19). (¬5) (انظر التاريخ الهجري ص 19 - 20).

المسألة الثالثة: أنواع التقويم: التقويم مقياس الزمن كالساعة فكما أن الساعة مقياس تعرف به ساعات الليل والنهار كذلك التقويم مقياس تعرف به الأيام والأسابيع والشهور، فإنه يذكرنا باليوم الذي نحن فيه وموقعه وينبئنا عن أيام العبادات والأعياد والمناسبات والمواسم. والأقسام الزمانية على نوعين طبيعية ووضعية: فالأقسام الطبيعية هي التي تسير وفق ما قدر لها في حركات الأفلاك كاليوم والشهر القمري والسنة الشمسية فاليوم ينشأ من دورة الأرض حول محورها والشهر القمري ينتج من دورة القمر حول الأرض والسنة الشمسية تنشأ من دورة الأرض حول الشمس وهذه الدورات الثلاث هي تدبير الهي لا دخل للبشر فيها أما الوضعية فالأسبوع والشهر الشمسي والسنة القمرية (¬1). وبالإضافة إلى ذلك فقد اهتدت بعض الشعوب كالعرب والمصريين إلى مراقبة النجوم ولاحظوا أن البرج يطلع دائماً في المكان نفسه في الزمان نفسه مما فتح لهم مجالاً للتأريخ بتعاقب النجوم أيضاً بدلاً من التأريخ بدورة الشمس وحلول الفصول المرتبطة بموسم الحصاد وعموماً فمن مراقبة الإنسان لتلك الدورات الفلكية نشأت أنواع متعددة من التقاويم. نذكر أبرزها إجمالاً: 1 - التقويم النجمي: يرتبط التقويم النجمي بطلوع نجم معين في وقت معين من العام، ويبدأ من طلوع نجم الشعرى والفيضانات التي تتكرر كل عام ومدة هذه السنة 366.25 يوماً أي أطول من السنة الشمسية بيوم واحد مما سبب خللاً واضحاً في هذا التقويم (¬2). 2 - التقويم الشمسي: يرتبط هذا التقويم بحالة الشمس وهو مأخوذ من دورة الأرض حول الشمس وهي السنة الشمسية وتنقسم السنة الشمسية إلى الفصول الأربعة المعروفة باعتبار بعد الشمس وقربها وهي الدورة السنوية ومدة هذه السنة 365 يوماً تقريباً، وقد عرف هذا التقويم الرومانيون في القديم وعليه قام التقويم اليولياني والتقويم السرياني والتقويم الفارسي والتقويم الصيني والتقويم الفرنسي وممن استخدم التقويم الشمسي منفرداً الروم والقبط وغيرهم (¬3). 3 - التقويم القمري: يرتبط هذا التقويم بدورة القمر حول الأرض ووفق حركة القمر تحصل الشهور وكل دورة للقمر حول الأرض تمثل شهراً قمرياً تبلغ مدته 29.25 يوماً تقريباً، وعلى هذا الأساس فإن السنة القمرية تكون 354.36 يوماً، أي أنه أقل من عدد أيام السنة الشمسية بـ (10.88) أيام، ويلاحظ أنه لا يوجد أي ارتباط بين التقويم القمري والتقويم الشمسي لأن كل منهما مرتبط بحركة ودورة تختلف عن الآخر. والتقويم القمري هو الأصل لأن الشهر في اللغة معناه القمر كما ذكر ذلك ابن سيده في المخصص (¬4). والعرب كانوا يفتتحون الشهر إذا رأوا الهلال ثم لا ينقضي الشهر حتى يروا الهلال مرة أخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن يكون الشهر طبيعياً والسنة عددية فهو سنة المسلمين ومن وافقهم" (¬5) وهناك تقاويم أخرى لكن أشهرها ما ذكرناه وأكثرها استعمالاً هو التقويم الشمسي والتقويم القمري وعند التأمل نجد أن التقويم الشمسي وثيق الصلة بأمور المعاش كالزراعة ومواسمها وأحوال الطقس وذلك لأن التقويم الشمسي يحتضن الفصول الأربعة (الشتاء، والصيف، والخريف، والربيع) وتأتي هذه الفصول فيه في مواعيد ثابتة سنوياً فهذا التقويم أساسه الفصول وليس الشهور فهو في الأصل سنة طبيعية مقسمة إلى فصول أربعة. ¬

(¬1) (انظر فتاوى ابن تيمية 25/ 135 - 138). (¬2) (التوقيت والتقويم، علي حسن موسى). (¬3) (التوقيت والتقويم، ص 33). (¬4) (المخصص 2/ 376) (¬5) (مجموع الفتاوى 25/ 138) انظر التاريخ الهجري ص 23 - 24.

وأما التقويم القمري فهو يقوم على الأشهر لا على الفصول الأربعة والشهر فيه عبارة عن دورة القمر الفلكية الثابتة وتكرر هذه الدورة اثنتي عشرة مرة وبذلك تتكون السنة القمرية عند ذلك يتضح أن السنة الشمسية سنة طبيعية وجاء من قسمتها أشهراً قياساً على الأشهر القمرية، فالأشهر في السنة الشمسية وضعية وعلى العكس التقويم القمري فالأشهر فيه طبيعية وفق دورة القمر لكن السنة فيه وضعية وليست طبيعية. وخلاصة القول إن المقاييس الثلاثة المتدرجة وهي اليوم والشهر القمري والسنة الشمسية منشؤها الظواهر الكونية وعلاقة الأرض بالشمس من جهة، وعلاقة الأرض بالقمر من جهة أخرى، ومع امتداد الزمن ظهرت العديد من التواريخ التي يؤرخ بها الناس إلا أن أبرزها وأكثرها استعمالاً هو التاريخ الهجري والتاريخ الميلادي فالتاريخ الهجري يقوم على دورة القمر أي يستخدم الأشهر القمرية الطبيعية والسنة الوضعية والتي تتكون من اثنتي عشر شهراً قمرياً. والتأريخ الميلادي يقوم حركة الشمس السنوية الطبيعية وهي التي تتكون من دورة واحدة للشمس حول الأرض من شتاء إلى شتاء أومن ربيع إلى ربيع ونحوه، ويستخدم هذا التاريخ الأشهر الوضعية وهي تختلف على حسب زيادة أو نقص في الشهر فبعضها ثلاثون يوماً وبعضها أقل وبعضها أكثر بلا مستند في ذلك. (¬1) المسألة الرابعة: نشأة التأريخ الميلادي: كان التأريخ معروفاً عند الرومان منذ (750) قبل ميلاد المسيح عليه السلام (¬2)، وكان هذا التقويم قمرياً تتألف السنة فيه من عشرة شهور فقط حتى جاء ملك روما (توما الثاني 716 - 673ق. م) الذي أضاف شهري يناير وفبراير وأصبحت السنة تتألف من 355 يوماً. ومع مرور الأيام تغيرت الفصول المناخية عن مكانها تغيراً كبيراً، وفي سنة (46) قبل الميلاد استدعى الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الفلكي المنجم المصري سوريجين من الإسكندرية طالباً منه وضع تأريخ حسابي، يعتمد عليه، ويؤرخ به، فاستجاب الفلكي المصري ووضع تأريخاً مستنداً إلى السنة الشمسية. وبالتالي تحول الرومانيون من العمل بالتقويم القمري إلى التقويم الشمسي وسمي هذا التأريخ بالتأريخ اليولياني نسبة إلى الإمبراطور يوليوس قيصر، وبقي هذا التأريخ معمولاً به في أوروبا وبعض الأمم الأخرى قبل وبعد ميلاد المسيح عيسى - عليه السلام-. واستمر النصارى على العمل بالتقويم الشمسي دون ربطه بالتأريخ الميلادي حتى القرن السادس أو القرن الثامن من ميلاد المسيح - عليه السلام - حيث تم الحساب ورجع بالتقويم الشمسي لتكون بدايته التأريخ النصراني من أول السنة الميلادية، نسبة إلى ميلاد المسيح عيسى - عليه السلام - وأن تكون بداية هذا التأريخ 1 - يناير-1 ميلادي وهو يوم ختان المسيح - عليه السلام - كما يقولون؛ حيث إن ميلاده - عليه السلام - كما يقال كان في 25 ديسمبر (كانون الأول) وعندها عرف هذا التأريخ بالتأريخ الميلادي. ونخلص من هذا بأن الميلاد الحقيقي للمسيح - عليه السلام - سابق لبدء التأريخ الميلادي بقرون عديدة؛ لذا ينبغي التمييز بين التأريخ الميلادي، وميلاد المسيح - عليه السلام - لأن اصطلاح قبل الميلاد أو بعده تأريخياً لا يشير بدقة إلى ميلاد المسيح - عليه السلام - فعلياً (¬3). ¬

(¬1) (انظر: نظام التقويم في الإسلام ص 5)، (التقويم الهجري للملكة العربية السعودية ص 8) لأبي طارق الحجازي. (¬2) (التأريخ الهجري ص 29). (¬3) (التوقيت والتقويم ص109).

وقد استمر العمل بهذا التأريخ إلى عهد بابا النصارى (جوريجوري الثالث عشر) الذي قام بإجراء تعديلات على التأريخ اليولياني لتلافي الخطأ الواقع فيه وهو عدم مطابقة السنة الحسابية على السنة الفعلية للشمس مما أدى إلى وجود فرق سنوي قدره إحدى عشرة دقيقة بين الحساب والواقع الفعلي فقام البابا بإصلاح هذا الفرق وسمي هذا التعديل بالتأريخ الجوريجوري وانتشر العمل به في غالب الدول النصرانية (¬1). ومن الملاحظ أن الكنيسة كانت تتحكم بالتأريخ الميلادي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية مما يعني انطباعاً بالاهتمام الديني النصراني بموضوع التأريخ. والتأريخ الميلادي حالياً هو التأريخ الجوريجوري غير أن بعض الفلكيين يرون أنه سيحتاج قطعاً يوماً من الأيام إلى تعديل، إذا كان الهدف هو المحافظة على انطباق السنة الشمسية على الفصول الأربعة (¬2). وبناءً على ما تقدم فإن التاريخ الميلادي في الأصل كان رومانياً، عدله بعض الملوك والرهبان النصارى ونسبوه لميلاد المسيح عليه السلام نسبة جزافية بعد ميلاده عليه السلام بستة أو ثمانية قرون تقريباً، وقد أقر بعض الباحثين النصارى بخطأ هذه النسبة (¬3). وبالنسبة للأشهر الميلادية التي تتكون منها هذه السنة فإنها في الأصل تعود لتمجيد التأريخ الشمسي الميلادي لاثني عشر إلهاً مزعوماً من آلهة الرومان الأسطورية، كما تعود أيضاً إلى تمجيد قائدين من قواد الرومان وهما يوليوس قيصر الذي أطلق اسمه على الشهر السابع باسم "يوليو" وأغسطس الذي أطلق اسمه على الشهر الثامن (أغسطس)، ولقد قام مجلس الشيوخ في عهده بتعديل أيام الشهر إلى واحد وثلاثين يوماً بدلاً من ثلاثين يوماً؛ لأنه أحرز في هذا الشهر أعظم انتصاراته وكذا يوليو. بعد هذا يتضح لنا أن التأريخ الميلادي نتاج عمل بشري خالص مولود في بيئة رومانية، وحضانة نصرانية، ونشأ برعاية القياصرة وتعديلات البابوات والرهبان ولم يعرف إلا بعد ميلاد المسيح - عليه السلام - بقرون متعددة ولم يُبْن على مولده بيقين. المبحث الثاني نشأة التأريخ الهجري: كان العرب قبل الإسلام يستخدمون التقويم القمري ويتعاملون مع الأشهر القمرية ويؤرخون بأبرز الأحداث. ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وأصبح لهم كيانهم المستقل أصبحوا يطلقون على كل سنة من السنوات اسماً خاصاً بها فكانت السنة الأولى تسمى بسنة الإذن والسنة الثانية كانت تسمى سنة الأمر والسنة الثالثة سنة التمحيص، والسنة الرابعة تسمى سنة الترفئة والسنة الخامسة تسمى سنة الزلزال والسنة السادسة تسمى سنة الاستئناس والسنة السابعة تسمى سنة الاستغلاب، والسنة الثامنة تسمى سنة الاستواء والسنة التاسعة تسمى سنة البراءة والسنة العاشرة تسمى سنة الوداع (¬4). وأخرج ابن عساكر بسنده عن أبي سلمة عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخ التاريخ حين قدم المدينة في شهر ربيع الأول قال ابن عساكر: كذا في هذه الرواية وهي مرسلة وأخرج أيضاً: (عن أبي سلمة عن ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتاريخ يوم قدم المدينة في شهر ربيع (¬5). قال ابن حجر: وهذا معضل والمشهور خلافه وأن ذلك في خلافة عمر رضي الله عنه (¬6) ¬

(¬1) (التاريخ الهجري ص 32). (¬2) (تاريخ التقويمين الميلادي والهجري ومبادئهما ص 13). (¬3) (التقويم الهجري للملكة العربية السعودية ص 143 - 144). (¬4) (انظر: هذه السنوات ومعانيها في الموسوعة العربية العالمية 7/ 83 وقد يُنازع فيها من حيث ثبوتها). (¬5) (تاريخ دمشق 1/ 37) (عن طريق نسخة في برنامج الحاسب الآلي). (¬6) (فتح الباري 7/ 268).

ولا أعلم إسناداً صحيحاً في هذا الباب واستنبط بعض العلماء من قول الله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) (التوبة: من الآية108)، وأنه ليس أول الأيام كلها ولا إضافة إلى شيء في اللفظ الظاهر فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر. وفيه من فقه صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التأريخ فاتفق رأيهم أن يكون التأريخ من عام الهجرة .. فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أن ذلك اليوم هو أول أيام التأريخ الذي يؤرخ به الآن. أما كيف توصلوا إلى هذا التاريخ فقد وردت روايات عديدة تدل على أن التأريخ الهجري بدئ العمل به في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمشورة، ثم اتفاق من الصحابة - رضي الله عنهم -. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة وقيل سبع عشرة أو ثماني عشرة في الدول العمرية على جعل ابتداء التأريخ الإسلامي من سنة الهجرة وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك، أي حجة، لرجل آخر، وفيه أنه يحل عليه في شعبان. فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية أو الآتية؟ ثم جمع الصحابة، فاستشارهم في وضع تأريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك، فقال قائل: أرِّخُوا كتأريخ الفرس فكره ذلك، وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحداً بعد واحد. وقال قائل: أرخوا بتأريخ الروم، وكانوا يؤرخون بملك إسكندر بن فيلبس المقدوني، فكره ذلك. وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل بمبعثه. وقال آخرون: بل بهجرته. وقال آخرون: بل بوفاته - عليه الصلاة والسلام - فمال عمر رضي الله تعالى عنه إلى التأريخ بالهجرة، لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك ... إلى أن قال: وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه قال: استشار عمر في التأريخ فأجمعوا على الهجرة. وقال أبو داود الطيالسي عن قرة بن خالد السدوسي عن محمد بن سيرين قال: قام رجل إلى عمر - رضي الله عنه - فقال: أرخوا. فقال: وما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا. فقال عمر: حسن فأرخوا، فقالوا: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه. وقالوا: من وفاته. ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان. ثم قالوا: المحرم؛ فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم ... ثم قال بعد ذلك ابن كثير - رحمه الله تعالى -: والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور العلماء (¬1). ونخلص من ذلك أن اختيار التاريخ الهجري تم بإجماع منهم رضوان الله تعالى عنهم، والإجماع حجة قاطعة وأيضاً هذا يدل على أنهم كانوا يستخدمون التقويم القمري بدليل أنهم يتحدثون عن شهر شعبان وأيضاً هذا التاريخ لم يكن لعباداتهم فقط بل لجميع أمور دنياهم ويجعلونه رمزاً إسلامياً ولا يمكن الفصل بين التقويم القمري والتاريخ الهجري المرتبط به، والفصل بينهما مخالف لما أجمع عليه الصحابة كما أنه يوقع في المحاذير المخلة بالعبادات والمعاملات وبناء على ما تقدم نعرف نشأة التأريخ الهجري وكيف تم الاتفاق عليه وكونه شعاراً للأمة الإسلامية في مقابل شعارات الأمم المخالفة وأن الإعراض عنه إعراض عما أجمع عليه الصحابة. المبحث الثالث: حكم استخدام التأريخ الهجري والميلادي: ¬

(¬1) (انظر البداية والنهاية 4/ 510 - 511).

أولا: الحديث عن التأريخ الهجري يقتضي تأصيل الحكم الشرعي للتقويم القمري فنقول: دلت النصوص الشرعية على وجوب الأخذ بالتقويم القمري المتمثل بالتأريخ الهجري ومن ذلك قوله تعالى: 1 - "يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ" (البقرة: من الآية189). وجه الدلالة: أن الله جعل الهلال علامة على بداية الشهر ونهايته، فبطلوع الهلال يبدأ شهر وينتهي آخر فتكون الأهلة بمعنى المواقيت وهذا يدل على أن الشهر قمري لارتباطه بالأهلة وهي منازل القمر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فأخبر أنها مواقيت للناس وهذا عام في جميع أمورهم، فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع، ابتداء أو سبباً من العبادة وللأحكام التي ثبتت بشروط العبد، فما ثبت من الموقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه، الصيام، والحج، ومدة الإيلاء والعدة 2 - قوله تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (التوبة: من الآية36). وجه الدلالة: أن الله وصف التوقيت بالهلال وأن الشهور القمرية إذا بلغت هذا الرقم سميت سنة وهذا معنى عدة الشهور. وقال الفخر الرازي: قال أهل العلم: الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكاتهم وسائر أحكامهم بالأهلة، لا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية (¬1). وذكر رحمه الله أن الشهور المعتبرة في الشريعة مبناها على رؤية الهلال، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية (¬2). 3 - قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له" (¬3). وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل انتهاء شهر شعبان ودخول رمضان برؤية الهلال ويقاس عليها بقية الأشهر. ومؤدى هذه النصوص الشرعية صريح أن المعول عليه والمعتبر هو التقويم القمري مما يؤكد وجوب التمسك به دون غيره من التقاويم وهو يتفق مع أحوال الناس لكونه صالحاً للجميع ليسره وسهولة مخاطبته لجميع الأطراف، ولقد اتفق عليه السلف الأول من الصحابة والتابعين كما مر معنا وأصبح العمل عليه. قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: التأريخ اليومي يبدأ بغروب الشمس، والشهر يبدأ من الهلال، والسنوي يبدأ من الهجرة، هذا ما جرى عليه المسلمون وعلموا به واعتبره الفقهاء في كتبهم (¬4). وتأسيساً على ما تقدم فإن استخدام التأريخ الهجري والميلادي يكون على حالات: الحالة الأولى: استخدام التأريخ الهجري دون الميلادي، وحكم هذه الحالة أن التوجيه الشرعي جاء للعمل بالتقويم القمري المتمثل بالتاريخ الهجري وأن احتساب المواقيت والأحوال يكون عليه دون غيره وهو شعار ورمز الأمة الإسلامية التي يؤرخ لها وله دلالاته وأبعاده. الحالة الثانية: حكم استخدام التأريخ الهجري والميلادي جميعاً: ذكرنا في الحالة الأولى أن الأصل هو العمل بالتقويم القمري المتمثل بالتأريخ الهجري وهذا الحكم يشمل جميع الأفراد والدول الإسلامية ولكن لا مانع من الاستفادة بالتقويم الشمسي المتمثل بالتأريخ الميلادي بصفته تقويماً مساعداً للتقويم القمري تابعاً له متى وجد مقتضى لذلك تتحقق فيه مصلحة راجحة ولا عيب أن نأخذ - لا أن نستبدل - من مواقيت الأمم ما يفيدنا في بعض الحالات فيما لا يتعارض مع أمر من أمور الدنيا (¬5). ¬

(¬1) (التفسير الكبير 16/ 53). (¬2) (التفسير الكبير 17/ 35 - 36). (¬3) رواه البخاري (2/ 674) ومسلم (2/ 762). (¬4) (الضياء اللامع من الخطب الجوامع ص 307). (¬5) (التأريخ الهجري 61 - 63 وما بعدها).

وأما ما يتعلق بالفصول الأربعة واستخدامها لتنظيم الاكتساب والمهنة والدراسة والعمل دون ربط ذلك بالسنين فليس من التأريخ مثل أن يقال يبدأ العام الدراسي كل عام ببرج الميزان أو يبدأ موعد الحصاد في برج الحمل كل عام فهذا من الاستفادة العامة للمواسم ولا صلة له ببحث التأريخ الهجري أو الميلادي (¬1). الحالة الثالثة: حكم استخدام التأريخ الميلادي فقط: بناء على ما تقدم يتضح لنا أن التأريخ الميلادي مرتبط بالدين النصراني وحضاراته وهذا واضح في أسماء الأشهر في التأريخ الميلادي فغالبها إما وثنية مرتبطة ببعض آلهة النصارى المزعومة أو بأسماء القياصرة وكبار الرهبان (¬2). ولذا فإن وضع التقويم الشمسي المتمثل بالتأريخ الميلادي شعار للبلد والاعتداد به في احتساب المواقيت والأحوال هو تشبه صريح بالنصارى وجاءت النصوص الشرعية التي تحرم ذلك، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬3). ويتضمن الحديث التشبه بسمات الكفار وعاداتهم وتقاليدهم وأزيائهم وكل ما هو من خصائصهم ولا شك أن اعتبار الأصل هو استخدام التأريخ الميلادي يدخل في سمات الكفار (¬4). وقد سئل الشيخ صالح الفوزان عن: هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى؟ فأجاب لا يُعتبَرُ موالاة، لكن يعتبر تشبُّهًا بهم. والصَّحابة رضي الله عنهم كان التاريخ الميلادي موجودًا، ولم يستعملوه، بل عدلوا عنه إلى التاريخ الهجريِّ، وضعوا التاريخ الهجريَّ، ولم يستعملوا التاريخ الميلادي، مع أنه كان موجودًا في عهدهم، هذا دليل على أنَّ المسلمين يجب أن يستقلُّوا عن عادات الكفَّار وتقاليد الكفَّار، لا سيَّما وأنَّ التَّاريخ الميلاديَّ رمز على دينهم؛ لأنه يرمز إلى تعظيم ميلاد المسيح والاحتفال به على رأس السَّنة، وهذه بدعة ابتدعها النصارى؛ فنحن لا نشاركهم ولا نشجِّعهم على هذا الشيء، وإذا أرَّخنا بتاريخهم؛ فمعناه أنَّنا نتشبَّه بهم، وعندنا ولله الحمد التاريخ الهجريُّ، الذي وضعه لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الرَّاشد بحضرة المهاجرين والأنصار، هذا يغنينا (¬5). ¬

(¬1) (التأريخ الهجري ص 67). (¬2) (التأريخ الهجري ص 34). (¬3) رواه أحمد 2/ 50، 2/ 92 وباسناد فيه مقال، ورواه أبو داود، كتاب اللباس باب في لبس الشهرة برقم 4031 وصححه الألباني. (¬4) كلام الشيخ صالح الفوزان موجود في كتاب المنتقى من فتاوى الفوزان برقم (153). (¬5) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات ص 228).

ويقول فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين: لقد اقتصر المسلمون على تأريخهم الذي اتفقوا عليه من عهد عمر بن الخطاب الذي وضع لهم هذا التاريخ الهجري، حيث اختار مبدأه من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل عليه المسلمون في كتبهم وسيرهم مع معرفتهم بتأريخ من قبلهم، ولم يزالوا كذلك حتى استولى النصارى على كثير من بلاد الإسلام، واستعمروهم واضطروهم إلى تعلم التاريخ الميلادي، وأنسوهم التاريخ الهجري إلا ما شاء الله، فنقول: إن في العمل بالتأريخ الهجري تذكراً لوقائع الإسلام وأحوال المسلمين في سابق الدهر، ثم هو أوضح وأبين حيث يعتمد على الأهلة التي ترى عياناً ويحصل بمشاهدتها معرفة دخول السنة وخروجها، دون إعواز إلى حساب وكتابة، فتنصح المسلمين أن يقتصروا على تأريخهم الذي كان عليه سلفهم، وأن يعرضوا عن تأريخ النصارى الذي لا يتحقق صحته، إنما هو مبني على نقل أهل الكتاب وهم غير متيقنين، حيث لم يثبتوا ذلك بالنقل الصحيح. ومتى احتيج إلى معرفة السنة الشمسية، فإن هناك التاريخ الشمسي الهجري وهو يعتمد الحساب، ويسير على سير البروج الاثني عشر التي ذكرها الله تعالى مجملاً كما في قوله تعالى: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً" (الحجر: من الآية16)، وعرفها الحُسّاب وعلماء الفلك بالمشاهدة، ففي معرفتها ما يكفي عن الاحتياج إلى تاريخ النصارى، والله أعلم (¬1). وأما بالنسبة لمن كان يعيش في دولة نظامها يأخذ بالتأريخ الميلادي فإن كان النظام يسمح بوضع التأريخ الهجري مع التأريخ الميلادي فيجب على الأفراد الإشارة إلى التأريخ الهجري في المكاتبات والإجراءات متى ما استطاعوا لذلك لأن هذا يحافظ على بقاء التأريخ الهجري شعاراً للأمة الإسلامية ويخفف من المفسدة الواقعة بالأخذ بالتأريخ الميلادي والقاعدة الشرعية تنص على أنه إذا لم يمكن قطع المفسدة جملة بأسبابها ودواعيها فإن التقليل من آثارها والحد من استشرائها وانتشارها مطلوب وهو من مقاصد الشرع المطهر (¬2). وأما إذا كان النظام الرسمي للدولة يمنع الإشارة للتقويم القمري المتمثل بالتأريخ الهجري أبداً ويحارب ذلك فيجب على الأفراد في هذه الحالة بذل ما يستطيعون من الإنكار والنصح ومراعاة الأمور والموازنة بين المفاسد المتوقعة وقطع أسبابها والمفاسد الواقعة والسعي إلى تقليل آثارها إذا لم يمكن تلافيها ويبقى الجزاء مرتبطاً بالاستطاعة والقدرة على التغيير ويدخل في هذا التعامل مع الدولة أو الشركات العالمية التي تعتمد التأريخ الميلادي فيجوز مع الحاجة استخدام التأريخ الميلادي مع بعض الاعتبارات المرتبطة في ذلك مثل حساب الزكاة بالتأريخ الميلادي مع معادلته بالتقويم القمري، لإخراج القدر الزائد من المال الزكوي المقابل للزمن الزائد من التقويم الشمسي علما بأن المعتبر في إخراج الزكاة هو التأريخ الهجري لا الميلادي. وفي نهاية البحث أوصي أمتي وأصحاب الشأن في بلاد المسلمين أينما كانوا بأن يتمسكوا بتأريخهم الإسلامي القمري الهجري امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وتمسكاً بالسنة الراشدة والإجماع الصحابي واعتزازاً بما شرع الله. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬

(¬1) مجلة الدعوة العدد الشهري 2076 (¬2) أحكام وفتاوى الزكاة لعام 1423هـ الصادر من بيت الزكاة في الكويت.

الأسماء المركبة: أنواعها وإعرابها .. دراسة نحوية

الأسماء المركبة: أنواعها وإعرابها .. دراسة نحوية د. عبد الرحمن بن عبد الله الحميدي الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعدُ: فهذا بحث يتناول الأسماءَ المركَّبة في النَّحو العربي: أنواعَها وإعرابَها، وقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع تفرُّقُ مباحثه بين أبواب النَّحو؛ فهي لا يضُمُّها بابٌ واحد، وإنَّما توزعت بين عدَّة أبواب، فبعضها في باب المُعرَب والمبني، وقسم منها في باب العَلَم، وقسم في باب الممنوع من الصَّرف، وآخر في باب العدد ... لذا رأيتُ جمعَ ما تفرَّق منها، ولَمَّ شتاته في هذا البحث. وأُشير هنا إلى ما يُكرِّره النُّحاة ويُؤكِّدونه بشأن التَّركيب، وهو أنَّه خلاف الأصل؛ إذِ الأصلُ في الكلمات الإفراد؛ لذا لا يُحكم على كلمة بالتَّركيب ما لم يُوجدْ دليل قاطع على ذلك (¬1). والتركيب يكون في الأسماء والحروف، دون الأفعال؛ قال ابن عصفور: "لم يوجدْ في الأفعال ما هو مركَّب" (¬2). وقال ابن أبي الرَّبيع: "لا يكون التَّركيب فيما أُخذت منه الأفعال؛ وهي المصادر، ولا في الصِّفات الجارية على الأفعال، وإنَّما يكون التَّركيب في الأسماء، نحو: بعلبك، ومعد يكرب، وما أشبه ذلك، وفي الحروف، نحو: هلاَّ، ولولا" (¬3). وهذا البحث يتناول التركيبَ في الأسماء فقط؛ فإن أصبتُ فيما كتبتُه فمِنَ الله، وأحْمَدُه عليه، وإن أخطأتُ فمِن نفسي ومِنَ الشيطان، وأستغفر الله منه. تعريف المركَّب: التركيب في اللُّغة: وضْع شيء على شيءٍ، جاء في "اللسان" و"القاموس": "ركَّب الشيءَ: وَضَع بعضَه على بعض، فتركَّب وتراكب" (¬4)، ويقال: "تراكب السَّحاب وتراكم: صار بعضُه فوق بعض" (¬5)، والمركَّبُ - كمعظَّم -: الأَصْلُ والمَنْبِتُ (¬6). والمركب عندَ الفلاسفة وأهل المنطق: "ما يدلُّ جزء لفظه على جزء معناه" (¬7). وعند النَّحْويين: "ما تركَّب من كلمتين فأكثر" (¬8)، وذكر الشيخ العطَّار في "حاشيته على شرح الأزهريَّة": أنَّ أكثرَ النُّحاة على أنَّ المفرد ما تُلُفِّظ به مرَّةً واحدة، والمركَّب ما تُلُفِّظ به مرَّتين (¬9)، والواقع أنَّ المركب لا يُتلفَّظ به مرَّتين، وإنَّما مرَّةً واحدة كالمفرد، ولكن لأنَّه يُتَلفَّظ بكلِّ جزء من أجزائه - وأقلُّ ما يتألَّف المركب من جزأين - جُعل التلفُّظُ بجزئه تلفُّظًا بكُلِّه، فعندما يُتَلفَّظ بِجُزْأَيْهِ فكأنَّما تُلفِّظَ به مرَّتين، وهذا التَّعريف مبنيٌّ على تعريف أهل المنطق السابق: "ما يدلُّّ جزء لفظه على جزء معناه"، فإذا كان جزء المركب يدُلُّ على جزء معناه، فكأنَّ التَّلفُّظ بالجزأين تَلفُّظٌ به مرَّتين. ¬

(¬1) "الإنصاف في مسائل الخلاف"، (ص: 300)، "شرح المفصل"، لابن يعيش، (1/ 28). "رصف المباني"، (ص: 209، 286)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 209)، "الجَنَى الداني"، (ص: 84)، "الأشباه والنظائر"، (1/ 228). (¬2) "شرح الجمل"، (1/ 610). (¬3) "الكافي في الإفصاح"، (ص: 662 - 664)، وانظر أيضًا:، (ص: 1145). (¬4) "لسان العرب"، (1/ 416)، "القاموس المحيط"، (1/ 76): (ركب). وانظر: "الصِّحاح"، (ص: 139): (ركب). (¬5) "تهذيب اللغة"، (10/ 291). (¬6) "الصحاح"، (ص: 139)، "تهذيب اللغة"، (10/ 219)، "لسان العرب"، (1/ 416 - 417)، "القاموس المحيط"، (1/ 75): (ركب). (¬7) "التعريفات"، للجرجاني، (ص: 233)، وانظر: "التوقيف على مهمَّات التعاريف"، (ص: 649). (¬8) "شرح الكفراوي على متن الآجُرُّومِيَّة"، (ص: 8)، "النحو الوافي"، (1/ 300). (¬9) "حاشية الشيخ حسن العطَّار على شرح الأزهريَّة"، (ص: 26).

ولكلِّ جزء قبل التركيب معنى، فإذا رُكِّب الجزآن أفادَ مجموعهما معنًى جديدًا، لم يكن لأيِّ واحد منهما قَبلَ التركيب (¬1). أنواع المركَّبات: قبل بسطِ القول في أنواع الأسماء المركبة لا بدَّ من تقسيمها قسمين: أسماء أعلام، وأسماء غير أعلام. أوَّلاً: الأعلام المركَّبة، وهي ثلاثة أنواع: 1 - مركَّب إضافيٌّ: وهو ما رُكِّب من مُضافٍ ومضاف إليه، مثل: عبد الله، عبد القادر، عبد السميع، "أبو بكر"، "امرؤ القيس". 2 - مركَّب مزجيٌّ: وهو ما رُكِّب من كلمتين امتزجَتَا - لا على جهة الإضافة - حتَّى صارَتَا كالكلمة الواحدة، فنُزِّلت ثانيتُهما منزلةَ تاء التأنيث ممَّا قبلها، من جِهة أنَّ الإعراب والبناء يكون على آخِرها، أمَّا آخِرُ الأولى فيلزم حالةً واحدة، كما سيأتي بيانُه في "إعراب العَلَم المركَّب". قال ابن يعيش عن هذا المركَّب: "مُزِج الاسمان وصارَا اسمًا واحدًا بإزاء حقيقة، ولم ينفردِ الاسم الثاني بشيءٍ من معناه، فكان كالمفرد غير المركَّب" (¬2)، ومن أمثلته: بَعْلَبَكُّ، وحَضْرَمَوْتُ، ومَعْدِ يكَرِبُ، وسيبوَيْهِ 3 - مركَّب إسناديٌّ: وهو ما رُكِّب من مُسنَد ومُسنَد إليه، سواء كان المسنَد اسمًا أمْ فعلاً، فهو عَلَم منقول من جملةٍ اسميَّة أو فعلية؛ ولذلك سمَّاه بعضُهم: "المركَّبَ الجُمْلِيَّ" (¬3)، والمنقول عن العرب التَّسمية بالجمل الفعليَّة كـ"شابَ قَرْناها" (¬4)، و"تأبَّط شرًّا" (¬5)، و"بَرقَ نَحْرُه"، ويُقاس عليه التَّسمية بالجمل الاسميَّة (¬6) كـ"محمَّد قائمٌ"، و" أحمد كريم"، و"عليٌّ سعيدٌ". ثانيًا: الأسماء المركبة التي ليست بأعلام، وتشمل: 1 - المركَّب العددي: وهو كلُّ عددين رُكِّبا من العشرة والنَّيِّف، وبينهما حرفُ عطفٍ مقدَّر، ويشمل الأعدادَ من "أحد عشر" إلى "تسعة عشر"، وما صيغ منها على وزن فاعل من "الحادي عشر" إلى "التاسع عشر". 2 - الظُّروف المركَّبة: وهي ظروف استعملتْها العرب مركَّبةً، كـ "بينَ بينَ"، و"صباحَ مساءَ"، و"يومَ يومَ"، و"حينَ حينَ"، تقولُ: سقط بينَ بينَ؛ أي: بينَ الحي والميت، أو بين هذا وذاك. قال عبيد بن الأبرص: نَحْمِي حَقِيقَتَنَا وَبَعْ ضُ الْقَوْمِ يَسْقُطُ بَيْنَ بَيْنَا (¬7) وآتيك صباحَ مساءَ، ويومَ يومَ، وحينَ حينَ؛ أي: كلَّ صباح ومساء، وكلَّ يوم، وَكلَّ حين (¬8). 3 - الأحوال المركَّبة، وهي ضربان (¬9): ¬

(¬1) "النكت في تفسير كلام سيبويه"، (ص: 727)، "شرح المفصل"، لابن يعيش، (4/ 135). (¬2) "شرح المفصل"، (4/ 112). (¬3) "الأشباه والنظائر"، (1/ 229). (¬4) اسم امرأة، أنشد سيبويه، (1/ 259)، (2/ 65): كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ لاَ تَنْكِحُونَهَا بَنِي شَابَ قَرْنَاهَا تَصُرُّ وَتَحْلُبُ (¬5) أحد لصوص العرب وعدَّائيها؛ "ألقاب الشعراء"، (ص: 307)، "الشِّعر والشُّعراء"، (ص: 312 - 313)، "الأغاني"، (21/ 127 - 172). (¬6) "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 449)، "أوضح المسالك"، (1/ 124)، "شرح الألفيَّة"، للأشموني، (1/ 133). (¬7) "الشِّعر والشُّعراء"، (ص: 267)، "ما ينصرف وما لا ينصرف"، (ص: 106). (¬8) "الكتاب"، (2/ 53)، "الأصول في النَّحو"، (2/ 140)، "المفصل"، للزمخشري، (ص: 176، 178)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 91، 92)، "ارتشاف الضَّرَب"، (2/ 229). (¬9) "ارتشاف الضَّرَب"، (2/ 370 - 371)، "شرح شذور الذَّهب"، (ص: 72 - 74).

أ - ما أصله العطف، كـ"شَذَرَ مَذَرَ"، و"شغرَ بغرَ"، و"خِذَعَ مِذَعَ"، و"حَيْثَ بَيْثَ"، و"بَيْتَ بَيْتَ"، و"كَفَّةَ كَفَّةَ"، و"صَحْرَةَ بَحْرَةَ"، تقول: تفرَّقوا شغرَ بغرَ، وشذرَ مذرَ، وخِذَعَ مِذَعَ؛ أي: منتشرين متفرِّقين، وتركتُهم حيثَ بيثَ؛ أي: متفرِّقين ضائعين، وفيها لغات (¬1)، وتقول: هو جاري بيتَ بيتَ؛ أي: ملاصقًا، ولقيته كَفَّةَ كَفَّةَ؛ أي: مواجهةً، وأخبرتُه صَحْرَةَ بَحْرَةَ؛ أي: كاشفًا للخبر (¬2). ب - ما أصله الإضافة، كـ"بادي بدا"، وفيها لغاتٌ (¬3)، و"أيدي سبأ"، و"أيادي سبأ"، تقول: فعلته بادي بدا، وبادِي بَدِي؛ أي: مبدوءًا به، قال أبو نُخَيْلَةَ السَّعْدِيُّ: وَقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بَادِي بَدِي وَرَثْيَةٌ تَنْهَضُ فِي تَشَدُّدِي (¬4) وذهبوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ؛ أي: متفرِّقين (¬5)، قال ذو الرُّمة: أَمِنْ أَجْلِ دَارٍ طَيَّرَ الْبَيْنُ أَهْلَهَا أَيَادِي سَبَا بَعْدِي وَطَالَ احْتِيَالُهَا (¬6) قال ابن هشام: "ومجيء هذا التَّركيب في الأحوال قليلٌ بالنسبة إلى مجيئه في الظروف" (¬7). 4 - أسماء الأفعال المركَّبة: قال أبو حيَّان: وهي قسمان: مركَّب من جار ومجرور، ومركَّب من غيرهما (¬8). القسم الأول: مركَّب إمَّا من حرف جر ومجروره، وإمَّا من ظرف مضاف ومضاف إليه. ¬

(¬1) منها: حَوْثَ بَوْثَ، وحاثَ باثَ بفتح الثاءين، وحاثِ باثِ بكسرهما، وحَوْثًا بَوْثًا بالتنوين، "الإتْباع"، (ص: 19)، "الصحاح"، (ص: 280)، (حوث)، "شرح المفصل"، (4/ 119)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 92)، "ارتشاف الضَّرَب"، (2/ 370). (¬2) "مجمع الأمثال"، للميداني، (2/ 9)، "المفصل"، (ص: 176 - 178)، "شرحه"، لابن يعيش، (4/ 117 - 119)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 91 - 92)، "ارتشاف الضَّرَب"، (2/ 370 - 371)، "شرح شذور الذَّهب"، (ص: 75 - 76). (¬3) منها بادِي بَدِي، وبادِي بَدْءٍ، وبادِي بديءٍ على زنة "فعيل"؛ وبادئ بدءٍ ... "المفصل"، (ص: 179)، "شرحه"، لابن يعيش، (4/ 122 - 123)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 89 - 90)، "ارتشاف الضَّرَب"، (2/ 371)، "القاموس المحيط"، (1/ 8): (بدأ)، و (4/ 302): (بدا). (¬4) "سيبويه"، (2/ 54)، "ما ينصرف وما لا ينصرف"، (ص: 104). (¬5) "مجمع الأمثال"، للميداني، (2/ 4 - 5)، "المستقصى"، للزمخشري، (2/ 88 - 90)، "المفصل"، (ص179)، "شرحه"، لابن يعيش، (4/ 123)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 90). (¬6) "ديوان ذي الرمة"، (ص: 501)، "سيبويه"، (2/ 54). (¬7) "شرح شذور الذَّهب"، (ص: 78). (¬8) "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 209).

من النَّوع الأوَّل المركَّب من حرف جر ومجروره: "عليك" بمعنى الْزم، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، و"عليَّ" بمعنى: أوْلِني، تقول: عليَّ زيدًا؛ أي: أولني زيدًا، و"عليه" بمعنى: ليلزمْ، ومنه الحديث: ((يا معشرَ الشَّباب، مَنِ استطاعَ منكم الباءَةَ، فليتزوجْ؛ فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومَن لم يَستطع، فعليه بالصَّوم؛ فإنَّه له وِجاءٌ)) (¬1)؛ قالوا: واستعماله مع ضمير الغائب كما في الحديث، وفي رواية سيبويه عن بعض العرب: "عَلَيْهِ رجلاً لَيْسَنِي" قليلٌ وشاذٌّ (¬2)، ومن هذا النَّوع أيضًا: "كذاك" بمعنى: دَعْ؛ قال جرير: يَقُلْنَ وَقَدْ تَلاَحَقَتِ الْمَطَايَا كَذَاكَ الْقَوْلَ إِنَّ عَلَيْكَ عَيْنَا (¬3) ومن المركَّب من مضافٍ هو ظرف، ومضافٍ إليه: "مكانَك" بمعنى: اثبتْ، و"عندك" و"لديك" و"دونك" ومعناها: خُذْ، و"وراءك" بمعنى: تأخَّر، و"أمامك" بمعنى: تقدَّم. القسم الثَّاني: وهو المركَّب من غير جار ومجرور "هلُمَّ" بلغة أهل الحجاز، فهي عندهم تلزم طريقةً واحدة، ولا تلحقها الضَّمائر، وبلغتهم جاء التنزيل؛ قال - تعالى -: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُم} [الأنعام: 150]، ولغة تميم إلحاق الضَّمائر بها فهي عندهم فِعل (¬4). وهي اسمُ فعل أمر بمعنى: احْضر، فتتعدَّى بنفسها كما في الآية: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُم}، وبمعنى: أَقْبِلْ، فتتعدَّى بالحرف "إلى" كما في قوله - تعالى -: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]. واختُلِف في تركيبها؛ فقال البصريُّون: هي مركَّبة مِن "ها" التنبيه و"لُمَّ"، التي هي فعل أمر مِن "لَمَّ" بمعنى: جَمَعَ، وحذفت ألف "ها"؛ لكثرة الاستعمال (¬5). وقال الفرَّاء والكوفيون: هي مركَّبة من "هل" التي هي للزجر والحث، و"أُمَّ" بمعنى: اقصدْ، حذفت همزتها (¬6)، وقيل: هي مفردة وليست مركَّبة، قاله أبو حيَّان؛ "وهو قول لا بأس به؛ إذْ الأصل البساطة، حتى يقوم دليل واضح على التركيب" (¬7). واسم الفعل الآخر المركَّب من غير جار ومجرور "حيَّهلْ"؛ قال لبيد: ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الصوم، (1/ 326)، وفي كتاب النِّكاح، (3/ 238)، ومسلم في كتاب النكاح، (ص: 1018 - 1020). (¬2) "الكتاب"، (1/ 126)، "الأصول"، لابن السراج، (1/ 142)، "شرح الإيضاح"، للعكبري، (ص: 773 - 774)، "اللباب في علل البناء والإعراب"، (1/ 456)، "التسهيل"، لابن مالك، (ص: 212 - 213)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 213). (¬3) "ديوان جرير"، (ص: 439)، "الخصائص"، (3/ 37)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 213). (¬4) "الكتاب"، (2/ 158)، "الأصول"، (1/ 146)، "الصحاح"، (ص: 2060): (هلم)، "المفصل"، (ص: 152)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 209 - 210)، "شرح قطر النَّدى"، (ص: 31)، ويرى ابن جنِّي في "الخصائص"، (3/ 36 - 37): أنَّها اسم فعل، وإن لحقتها الضمائر؛ لأدلة ذكرها هناك. (¬5) "الكتاب"، (2/ 67، 158)، "الأصول"، (1/ 146)، "الصحاح"، (ص: 2060)، وانظر مصادر الحاشية التالية. (¬6) "معاني القرآن"، للفراء، (1/ 203)، "الخصائص"، (3/ 35 - 36)، "النكت في تفسير كتاب سيبويه"، (ص: 968 - 969)، "المفصل"، (ص: 152)، "شرحه"، لابن يعيش، (4/ 41 - 42)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 72 - 73)، "لسان العرب"، (16/ 102): (هلم). (¬7) "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 209).

يَتَمَارَى فِي الَّذِي قُلْتُ لَهُ وَلَقَدْ يَسْمَعُ قَوْلِي حَيَّهَلْ (¬1) وفيها لغات (¬2)، وتتعدَّى هذه الكلمة بنفسها، فيقال: حيَّهل الثريدَ؛ بمعنى: ائته، ومن ذلك رواية سيبويه عن شيخه أبي الخطَّاب الأخفش أنَّه سمع بعض العرب يقول: حيَّهل الصلاةَ؛ أي: ائتِ الصلاة (¬3)، وتتعدَّى بحرف الجر "على"، فيقال: حيَّهل على الخير؛ بمعنى: أقبلْ عليه، وبـ (الباء) فيقال: حيَّهل بالكتاب؛ أي: أسرع به، ومنه قول عبد الله بن مسعود في عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنهما -: "إذا ذُكِر الصَّالحون، فحيَّهلاَّ بعمرَ" (¬4)؛ أي: أسرعوا بذكره، كما تتعدَّى بـ"إلى"، فيقال: حيَّهل إلى الثريد، بمعنى: أسرع إليه، وهي مركبة من "حيَّ" بمعنى: أقبل، و"هل" أو "هلاَّ"، وهي حثٌّ واستعجال (¬5). 5 - ومن الأسماء المركَّبة: مركَّبات لا تشملها الأنواع السابقة، وهي ضربان: أ - ضرب منها مركَّب تركيبَ الأحوال والظروف، وهو مركَّبان هما: "حَيْصَ بَيْصَ"؛ يقال: وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ؛ أي: في فتنة واختلاط من أمرهم، أو في أمر لا مخلص لهم منه. قال أمية بن أبي عائذ الهذلي: قَدْ كُنْتُ خَرَّاجًا وَلُوجًا صَيْرَفًا لَمْ تَلْتَحِصْنِي حَيْصَ بَيْصَ لَحَاصِ (¬6) وقال الرَّاجز: صَارَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ حِيصٍ بِيصِ (¬7) وفيها لغات (¬8). والمركَّب الآخر "خازِ بازِ"، وفيه سبع لغات (¬9)، وله خمسة معانٍ (¬10)، فهو ضرب من العشب، وذباب أزرق يكون فيه؛ قال عمرو بن أحمر: ¬

(¬1) "شرح ديوان لبيد"، (ص: 183). (¬2) منها: حيَّهْل - بسكون الهاء - وحيَّهَله - بفتحها - وحيَّهَلاً، وحيَّهْلاً - بالتنوين - مع تحريك الهاء وتسكينها، وحيَّهلاَ بالألف؛ "سيبويه"، (2/ 52)، "المقتضب"، (3/ 205)، "الأصول"، (1/ 145)، "شرح الإيضاح للعكبري"، (ص: 764 - 767)، "التسهيل"، (ص: 211)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 72)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 212). (¬3) "الكتاب"، (1/ 123)، (2/ 52). (¬4) "مستدرك الحاكم على الصحيحين"، (3/ 100)، "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، (6/ 148)، "فضائل الصَّحابة"، (1/ 263، 268، 270، 271، 331). (¬5) "الصحاح"، (ص: 1853): (هلل)، "المفصل"، (ص: 153)، "شرحه"، لابن يعيش، (4/ 45 - 47)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 72)، "لسان العرب"، (18/ 242 - 243): (حيا)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 212). (¬6) "ديوان الهذليين"، (2/ 192)، "سيبويه"، (2/ 51). (¬7) "الصحاح"، (ص: 1035)، "لسان العرب"، (8/ 286): (حيص). (¬8) منها: "حِيصَ بِيصَ" بكسر فائهما مع بنائهما على الفتح، و"حيصِ بيصِ" ببنائهما على الكسر، و"حوصَ بوصَ"، وقد تنوَّنان، فيقال: حَِيصًا بَِيصًا، وحيصٍ بيصٍ؛ "جمهرة اللغة"، (ص: 545، 1050)، "مجمع الأمثال"، (1/ 224)، "شرح المفصل"، (4/ 115)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 92)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 316 - 317). (¬9) هي: "خازِ بازِ" ببناء الجزأين على الكسر، و"خازَ بازَ" ببنائهما على الفتح، و"خازِ بازُ" و"خازَ بازُ" بضم الثاني وكسر الأول وفتحه، و"خازَ بازٍ" بإضافة الأول إلى الثاني، و"خِزْ بازُ" كقرطاس، و"خازَ باء" كقاصعاء. "سيبويه"، (2/ 51 - 52)، "المفصل"، (ص: 178)، "الإنصاف" (ص: 315)، "شرح المفصل"، لابن يعيش، (4/ 120)، "شرح الكافية"، للرضي (2/ 92)، "لسان العرب"، (7/ 214): (خوز)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 318). (¬10) "المفصل"، (ص: 178 - 179)، "الإنصاف"، (ص: 314 - 315)، "شرح المفصل"، (4/ 121 - 122)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 92 - 93)، "لسان العرب"، (7/ 214 - 215): (خوز)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 317).

تَفَقَّأُ فَوْقَهُ الْقَلَعُ السَّوَارِي وَجُنَّ الْخَازِ بَازِ بِهِ جُنُونَا (¬1) وصوتُ الذُّباب، وداءٌ يكون في اللَّهزمتين، وهما عظمان ناتئان تحت الأذن، والسِّنَّوْر؛ قال ابن يعيش: "وهو أغربها" (¬2). ب - والضَّرْب الآخَر كنايات مركَّبة، وهي: "كم"، و"كَأيِّنْ"، و"كذا". أمَّا "كم" فتأتي استفهامية يُسأل بها عن عددٍ مجهولِ المقدار، كما في قوله - تعالى -: {سَلْ بَنِي إِسْرَائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِن آيةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211]، وقوله - تعالى -: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} [البقرة: 259]. وتأتي خبريةً يُكنى بها عن عددٍ كثير، كما في قوله - تعالى -: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وقوله - تعالى -: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6]، وقوله - تعالى -: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25 - 27]. وهي مركَّبة عند الكوفيين من "كاف" التشبيه و"ما" الاستفهاميَّة المحذوفة ألفها؛ لدخول حرف الجر عليها، وسُكِّنت الميمُ؛ لكثرة الاستعمال (¬3)؛ قال ابن عُصفور: "وهو باطل؛ لأنَّها يدخل عليها حرفُ الجرِّ، وحرف الجر لا يَدخل على مثله (¬4)، وهي عند البصريين بسيطة؛ لأنَّ الأصل الإفراد (¬5). وأما "كأيِّنْ" (¬6) فكنايةٌ عن عدد كثير، فهي مثل: "كم" الخبرية في ذلك؛ قال - تعالى -: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، وقال - تعالى -: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} [يوسف: 105]، وقال - تعالى -: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45]، وهي مركَّبة من "كاف" التشبيه و"أيٍّ" المنوَّنة (¬7)، وقيل: يحتمل أن تكون بسيطة (¬8)، وفيها لغات (¬9). ¬

(¬1) "إصلاح المنطق"، (ص: 44)، "الخزانة"، (6/ 442 - 446). (¬2) "شرح المفصل"، (4/ 122)، ولم يذكر له سيبويه (2/ 51) سوى معنيين: الذباب والداء. (¬3) "معاني القرآن"، للفراء، (1/ 466)، "الإنصاف"، (ص: 211، 298 - 299). (¬4) "شرح الجمل"، (2/ 64). (¬5) "الإنصاف"، (ص: 298 - 303)، (المسألة: 40)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 377)، "الجنى الداني"، (ص: 275)، "مغني اللبيب"، (ص: 203). (¬6) يجوز إثبات نونها وحذفها في الكتابة، والحذف هو الأصل؛ لأنَّ نونها نون تنوين، وهو المشهور فيها، ونون التنوين لا تثبت في الكتابة، ووضح ابن هشام في "المغني"، (ص: 203) وَجْهَ إثبات نونها، وذهب أبو حيَّان في "البحر المحيط"، (3/ 73) إلى أن النون من بنية الكلمة، وليست تنوينًا، وعلى هذا لا بُدَّ من إثبات نونها في الكتابة؛ لذا كتبتها بالنون؛ لاحتمالها هذا القول. (¬7) "الكامل"، للمبرد، (3/ 321)، "المسائل المشكلة"، (ص: 393)، "سر صناعة الإعراب"، (ص: 307)، "النكت في تفسير كتاب سيبويه"، (ص: 532)، "شرح الإيضاح"، للعكبري، (ص: 1097)، "مغني اللبيب"، (ص: 203). (¬8) "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 385). (¬9) هي "كأيِّن" "وكائن" على وزن "كاعٍ"، و"كَئِن" على وزن "كَعٍ"، و"كَأْيٍ" بوزن (كَعْيٍ)، و (كَيْءٍ) بوزن (كَيْعٍ)، "سر صناعة الإعراب"، (ص: 308)، "النكت"، (ص: 532)، "المفصل"، (ص: 183)، "شرح الإيضاح"، للعكبري، (ص: 1098 - 1103)، "شرح الإيضاح"، (2/ 52)، "البحر المحيط"، (3/ 422 - 423).

وأمَّا "كذا" فيُكنى بها عن عددٍ مُبهم، تقول: له عندي كذا دينارًا، وله عندي كذا وكذا درهمًا، ويُكنى بها عن غيرِ عدد، تقول: مررتُ بدار كذا، وقال عبد الله: كذا وكذا، ومنه قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: "يقول النَّاس: أكْثَرَ أبو هريرة، فلقيت رجلاً، فقلت: بأيِّ سورة قرأ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - البارحة في العَتَمَة؟ فقال: لا أدري، فقلت: ألا تشهدها؟ قال: بلى، قلت: ولكنِّي أدري، قرأ سورة كذا وكذا" (¬1). وهي بنوعيها مركَّبة من "الكاف" واسم الإشارة، "ذا" (¬2). إعراب المركَّبات: أولاً: الأعلام المركَّبة: 1 - المركَّب الإضافي يُعامل الجزء الأول منه "المضاف" بحسب ما يقتضيه العامل، فيُرفع أو يُنصب أو يُجر، ويلزم الجزء الثاني من "المضاف إليه" الجرَّ بالإضافة، مصروفًا - إن خَلاَ من الأسباب المانعة من الصَّرف - فتقول جاء عبدُاللهِ، ورأيت عبدَاللهِ، ومررت بعبدِالله، ويمنع من الصَّرف إن وُجد فيه سببه كعبدِ يغوثَ. 2 - المركَّب المزجي، وهو إمَّا أن يكون مختومًا بكلمة "ويه" (¬3)، كـ"سيبوَيْهِ" و"نفطوَيْهِ" و"خالوَيْهِ"، وإمَّا بغيرها كـ"بَعْلَبَكَّ" و"حَضْرَمَوْتَ" و"مَعْدِ يكَرِبَ". فإن كان مختومًا بكلمة "وَيْه"، فيُبنى على الكسر، وينوَّن إذا نُكِّر (¬4)، ونُقل عن الجرمي (ت: 225هـ) أنَّه يُجيز إعرابَه إعرابَ ما لا ينصرف للعلميَّة والتركيب (¬5)، وذكر ابن مالك: أنها لغة بعض العرب (¬6). وإن كان مختومًا بغيرها كبَعْلَبَكَّ ومَعْدِ يكَرِبَ، فالمشهور فيه إعرابُه إعرابَ الممنوع من الصرف على آخره للعلمية والتركيب، ويلزم أوله البناء على الفتح ما لم يكن منتهيًا بياء، فيسكَّن تقول: هذه بَعْلََبَكُّ، ودخلتُ على بَعْلَبَكَّ، وخرجتُ من بَعْلَبَكَّ، وهذا مَعْدِ يكَرِبُ، ورأيتُ مَعْدِ يكَرِبَ، ومررتُ بِمَعْدِ يكَرِبَ. وفيه لغتان أخريان للعرب: إحداهما: معاملته معاملة المركَّب الإضافي، فتظهر علاماتُ الإعراب على آخِرِ الصَّدر، ما لم يكن ياء فتسكَّن، وتُقدَّر جميع الحركات عليها، ويلزم آخِره الجر بالإضافة مع الصَّرف - إن لم يكن فيه ما يمنع ذلك - كأيِّ مضاف إليه، وعلى هذه اللُّغة لا توصل الكلمة الأولى بالكلمة الثانية حين الكتابة كأيِّ مركب إضافي، فنقول: هذه بَعْلُ بَكٍّ، ودخلت بَعْلَ بَكٍّ، وخرجت من بَعْلِ بَكٍّ، وهذا مَعْدِي كَرِبٍ، ومررت بِمَعْدِي كَرِبٍَ، بصرف (كَرِب) ومنعه (¬7). ¬

(¬1) "صحيح البخاري"، باب العمل في الصلاة، (3/ 1395). (¬2) "شرح الإيضاح"، للعكبري، (ص: 1093)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 388 - 389)، "فوح الشذا"، (ص: 16 - 17)، "الأشباه والنظائر"، (4/ 153 - 154). (¬3) كلمة فارسية، قيل: معناها رائحة، وقيل: هي اسم صوت أعجمي. "النكت في تفسير كتاب سيبويه"، (ص: 866)، "شرح المفصل"، لابن يعيش، (1/ 29)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 434)، "الأشباه والنظائر"، (1/ 238)، "حاشية الصبان"، (1/ 134). (¬4) "سيبويه"، (2/ 52 - 53). (¬5) "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 497)، "شرح شذور الذَّهب"، (ص: 89)، "المساعد"، (1/ 128)، "تعليق الفرائد"، (2/ 146). (¬6) "شرح التسهيل"، (1/ 173). (¬7) "سيبويه"، (2/ 50)، من نظر إليه على أنه اسم القبيلة منعه من الصرف؛ للعلميَّة والتأنيث؛ "البديع في علوم العربية"، (ص: 470)، وفي "حاشية الصبان"، (3/ 250)، و"الخضري"، (2/ 102): "قال الخبيصي: من قدَّر كَرِبًا اسمًا للكربة منع صرفه، ومن قدره اسمًا للحزن صرفه".

اللُّغة الثانية: معاملته معاملة المركَّب العددي، فيُبنى الجزأان على الفتح في كل حال، ما لم يكن صدره مختومًا بياء كـ "مَعْدِ يكَرِبَ"، و"قَالِي قَلاَ" (¬1)، فلتزم السُّكون (¬2). 3 - المركَّب الإسنادي يلزم الحكاية؛ أي: حكاية حاله السَّابقة قَبلَ التَّسمية به، فلا يدخله أيُّ تغيير، وتُقدَّر على آخره جميعُ حركات الإعراب، مثل: جاء جادَ الحقُّ، ورأيت جادَ الحقُّ، ومررت بجادَ الحقُّ، وقيل: هو مبني لا معرب (¬3). وذكر ابن مالك: أنَّ من العرب مَن يضيف صدرَ المركَّب الإسنادي إلى عَجُزه، إذا كان ظاهرًا، فيقول: جاء برقُ نحرِه (¬4)، وتعقبه أبو حيَّان، فقال: ولا يقاس على هذا إنْ صحَّ النقل؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا "على أنَّ كلَّ ما سُمِّي به ممَّا يتضمن إسنادًا، فليس فيه إلاَّ الحكاية" (¬5)، ولا عبرة بما نقله الدماميني عن بعضهم أنَّه أجاز إعرابَ المركَّبِ الإسناديِّ إذا كان عَجُزه مضمرًا، مثل: "قمت" مسمًّى به، فيقول: هذا قمتٌ، ورأيتُ قُمتًا، ومررت بقُمتٍ، بالتنوين والحركات الثلاث على التاء (¬6). ثانيًا: إعراب ما رُكِّب من غير الأعلام: 1 - المركَّب العددي يُبنى جزأاه - العقد والنَّيِّف - على الفتح ما عدا "اثني عشر"، فصَدْرُه معربٌ إعرابَ المثنى، ويلزم عَجُزه البناء على الفتح، كحالِه مع الأعداد المركَّبة الأخرى؛ قال - تعالى -: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4]، {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36]، {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 36]، {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 60]، {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30]، ونُقِل عن ابن كيسان (230 - 299هـ)، وابن درستويه (258 - 347هـ): أنَّ صدرَ "اثني عشر"، و"اثنتي عشرة" مبنيٌّ كسائر الأعداد المركَّبة، غاية ما في الأمر أنَّه وضع للرَّفع "اثنا عشر" و"اثنتا عشرة"، وللنَّصب والجر "اثني عشر" و"اثنتي عشرة" (¬7). وفي ياء "ثماني عشرة" أربعة أوجه: فتح الياء (ثمانيَ عشرة)، وهو الوَجهُ، كما يُفتح صدر غيره من الأعداد المركَّبة، يليه تسكينها (ثمانيْ عشرة)، ثم حذفها مع كسرة النون (ثمانِ عشرة)، ومع فتحها (ثمانَ عشرة) (¬8). وحكى سيبويه عن بعض العرب إعرابَ عَجُز العدد المركَّب إذا أُضيف، مع بناء الصَّدر على الفتح، فقال: "ومِن العرب مَن يقول: خمسةَ عشرُك، وهي لغةٌ رديئة" (¬9). ¬

(¬1) مدينة بأرمينية، ينسب إليها العالم اللُّغوي أبو علي القالي صاحب الأمالي، "معجم البلدان"، (4/ 299 - 300). (¬2) "سيبويه"، (2/ 49 - 50)، "إصلاح الخلل"، (ص: 278 - 279)، "المفصل"، (ص: 179)، "اللباب"، (1/ 518 - 519)، "شرح المفصل"، (4/ 421)، "شرح الجمل"، (2/ 227)، "التسهيل"، (ص: 221 - 22 2)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 432 - 433، 497 - 498)، "المساعد"، (1/ 127)، "تعليق الفرائد"، (2/ 145)، ولم يذكر "سيبويه"، وابن السيِّد، والزمخشري اللُّغةَ الأخيرة "البناء على فتح الجزأين". (¬3) "حاشية الصبان"، (1/ 133)، "حاشية الشيخ حسن العطَّار على شرح الأزهرية"، (ص: 31). (¬4) "شرح التسهيل"، (1/ 173). (¬5) "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 498). (¬6) "تعليق الفرائد"، (2/ 147). (¬7) "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 88)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 366)، "المساعد"، (2/ 80). (¬8) "شرح الجمل"، لابن عصفور، (2/ 34)، "التسهيل"، (ص: 188)، و"شرحه"، لابن مالك، (2/ 403)، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 370)، "المساعد"، (2/ 82). (¬9) "الكتاب"، (2/ 51).

وأجاز الكوفيون إضافةَ صدر العدد المركَّب مُعربًا إلى عَجُزه، واستحسنوا ذلك إذا أُضيف، فقالوا: هذه خمسةُ عشرٍ، وخمسةُ عشرِك (¬1)، وعزا ابن مالك هذا إلى الفرَّاء، فقال: "وأجاز الفرَّاء إضافةَ صدر العدد المركَّب إلى عَجُزه مزالاً بناؤهما، وأنشد: كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وَشِقْوَتِهْ بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ (¬2) ولم يَرَ ذلك مخصوصًا بالشَّعر، بل أجازه في النَّثر والنَّظم (¬3). والذي وقفتُ عليه في "معاني القرآن" للفراء أنَّه أجاز إضافةَ النَّيِّف إلى العقد إذا أُضيف العقد، أمَّا إذا لم يُضف فإضافة النَّيِّف إليه إنَّما تكون في الشِّعر، وهذه عبارته: "وإذا أضفتَ الخمسة العشر إلى نفسك رفعتَ الخمسة، فتقول: ما فعلتْ خمسةُ عَشْري؟ ورأيتُ خمسةَ عَشْري، ومررتُ بخمسةِ عشري ... ولو نويتَ بخمسة عشر أن تُضيف الخمسة إلى عشر في شعر لجاز، فقلت ما رأيت خمسة عشرٍ قطُّ خيرًا منها"، وأنشد الرجز: كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وَشِقْوَتِهْ ...... (¬4). 2 - الظُّروف والأحوال المركَّبة فيها وجهان (¬5): أ - البناء على فتح الجزأين كالعدد المركَّب؛ لتضمُّنها معنى الحرف، ما لم يكن آخرها ألفًا كـ"بادي بدا" و"أيدي سبا"، فالبناء على السُّكون، وكذلك ياءُ صَدْرِها ساكنةٌ. وفي "بادي بدا" لغات سبق ذكرها (¬6)؛ وهي مبنية في لُغتَيْن، منها: هما "بادي بدا" و"بادي بَدِي"، ومعربةٌ إعرابَ المتضايفين في الباقي (¬7). ب - الإضافة، فيُجَرُّ آخرها بالإضافة، ويخضع الصَّدر لعوامل الإعراب، ما لم يكن آخِرُه ياءً فيسكن (¬8)، تقول - على لغة البناء -: أتيته صباحَ مساءَ، وهو جاري بيتَ بيتَ، وتفرَّقوا أيادِي سبا، وعلى اللُّغة الثانية: أتيتُه صباحَ مساءٍ، وهو جاري بيتَ بيتٍ. وذكر سيبويه - رحمه الله - أنَّه لم يُسمعْ من العرب في "بادي بدا" سوى البناء، ولكنَّه أجاز فيه الإضافةَ قياسًا على غيره من مثيلاته (¬9). وأوجب الرضي (¬10) البناء في "شَغَرَ بَغَرَ"، و"شَذَرَ مَذَرَ"، و"خِذَعَ مِذَعَ"، و"أَخْوَلَ أَخْوَلَ"؛ قال: "وكلُّها بمعنى: منتشرين"، و"حَيْثَ بَيْثَ"، و"بَيْنَ بَيْنَ"؛ لأنَّ الإضافة فيها لم تُسمع كما سُمعت في غيرها. ويقدح فيه أنَّ سيبويه لم يذكر مِمَّا لم يُسمع فيه الإضافة من هذه المركَّبات سوى "بادي بدا" - كما مرَّ آنفًا - ومع هذا أجاز فيه الإضافة قياسًا. وإذا عُوملت هذه المركَّباتُ معاملةَ المتضايفين، فأضيف الصَّدر إلى العَجُز، فإنَّها لا تُلازم الظَّرفيَّة والحاليَّة، بل قد تقع ظرفًا أو حالاً، وقد تقع غير ذلك كما في قول الفرزدق: ¬

(¬1) "الإنصاف في مسائل الخلاف"، (ص: 309 - 312)، (المسألة: 42)، "شرح الجمل"، (2/ 33)، "شرح الكافية"، للرضي (2/ 87)، وعزاه إلى بعض الكوفيين، "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 365). (¬2) الرجز في "معاني القرآن"، للفراء، (2/ 34)، و"الحيوان"، (6/ 463)، و"الخزانة"، (6/ 430 - 433). (¬3) "شرح التسهيل"، (2/ 402 - 403). (¬4) "معاني القرآن"، (2/ 33 - 34). (¬5) "سيبويه"، (2/ 53)، "الأصول"، (2/ 140)، "شرح المفصل"، (4/ 118)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 91)، "شرح شذور الذَّهب"، (ص: 72 - 73، 75 - 76). (¬6) انظر، (ص: 5، حاشية: 3). (¬7) "سيبويه"، (2/ 55)، "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 89 - 90). (¬8) "سيبويه"، (2/ 55). (¬9) "الكتاب"، (2/ 54). (¬10) "شرح الكافية"، (2/ 91 - 92).

وَلَوْلاَ يَوْمُ يَوْمٍ مَا أَرَدْنَا جَزَاءَكَ وَالْقُرُوضُ لَهَا جَزَاءُ (¬1) لَمَّا لم يُرِدْ بالمركَّب الظرفيةَ، أعربَه ورفعه بالابتداء، بخلاف ما إذا كانت مركَّبةً مبنية، فإنَّها لا تخرج عن الظرفية أو الحالية. 2 - أسماء الأفعال المركَّبة مبنيةٌ جميعُها، سواء أكانت مركَّبةً مِن جار ومجرور، أمْ من غيرهما، وهذا - أعني: البناء - حُكمُ جميع أسماء الأفعال؛ بسيطِها ومركَّبِها. واختلف في "الكاف" اللاَّحقة لأسماء الأفعال المركَّبة من جار ومجرور، مثل: "عليك"، و"إليك"، و"مكانك"، و"دونك"، وهي تتصرَّف بحسب المخاطب إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، وتذكيرًا وتأنيثًا، فقيل: هي اسم، في موضع جرٍّ عندَ البصريِّين، ونصبٍ عندَ الكِسائي (ت: 189هـ)، ورفعٍ عند الفرَّاء (ت: 207هـ)، وذهب ابن باشاذ (ت: 469هـ) إلى أنَّها حرف خطاب وليست ضميرًا، فلا موضعَ لها من الإعراب (¬2)، وهذا - في رأيي - أقرب الأقوال فيها إلى القَبول والأخذ به؛ لأنَّها صارت بالتَّركيب كالجزء من الكلمة، وجزء الكلمة لا موضعَ له من الإعراب، فهي كالكاف اللاَّحقة لأسماء الإشارة، ومثلُ الكاف في "عليك" و"إليك" ... والياءُ في "عليَّ" بمعنى: أَوْلِنِي، و"إليَّ" بمعنى: أتنحَّى، والهاءُ في "عليه" بمعنى: ليلزم. 4 - "حَيْصَ بَيْصَ" مبنيٌّ على فتح الجزأين عند مَن قال: "حَيْصَ بَيْصَ" و"حَوْصَ بَوْصَ"، وعلى كسرهما عندَ مَن قال: "حَيْصِ بَيْصِ"، ومعربان عند مَن نوَّنهما (¬3)، كقول أعرابيٍّ لآخَرَ: "إنَّك لتحسب عليَّ الأرض حَيْصًا بَيْصًا" (¬4). 5 - "خازِ بازِ" تلاعبتِ العرب في هذه الكلمة - سبق أنَّ فيها سبعَ لُغات (¬5) -: فمن قال: "خازَ بازَ" بفتح الجزأين، فقد ركَّب الاسمين وجعلهما اسمًا واحدًا، وبناهما على فتح الجزأين تشبيهًا بالمركَّب العدديِّ كخمسةَ عشرَ، ومَن قال: "خازِ بازِ"، فقد بناهما على الكسر، قال ابن يعيش: "جعلهما اسمين غير مركَّبين، وأجراهما مجرى الأصوات، نحو: غاقِ غاقِ" (¬6)، ويُشعر كلامُ الرضي بأنَّهما مركَّبان والحال هذه (¬7). ومَن قال: "خازِ بازُ" بكسر الزَّاي الأولى، فقد عامله معاملةَ المركَّب المزجي، فأعربه إعرابَ الممنوع من الصَّرف على آخره؛ قال الرضي: "للعلميَّة الجنسية والتركيب" (¬8)، وكُسِر أوَّله؛ للتَّخلص من الْتقاء الساكنين، وهما الألف والزاي التي كانت ساكنةً على أصل البناء (¬9)، أمَّا "خازَ بازُ" بفتح الزاي الأولى، فمعربٌ إعرابَ الممنوع من الصَّرف كسابقه، وفُتِحَ أوَّله كما فتح أول "بَعْلَبَكَّ" و"حَضْرَمَوْتَ"، وغيرهما من المركَّبات المزجيَّة، التي أولها ليس مختومًا بياء؛ لأنَّ الثاني نُزِّل منزلةَ تاء التأنيث مما قبلها، فلزم آخِر الأوَّل الفتح، كما لزمه ما قبل تاء التأنيث. ¬

(¬1) "سيبويه"، (2/ 53)، "شرح شذور الذَّهب"، (ص: 76)، "الخزانة"، (6/ 440 - 441). (¬2) "سيبويه"، (1/ 126 - 127)، "المقتضب"، (3/ 221، 279 - 280)، "شرح المفصل"، لابن يعيش، (4/ 75)، "شرح الكافية الشافية"، (ص: 1393)، "شرح الكافية"، للرضي (2/ 68 - 69)، "ارتشاف الضَّرَب"، (3/ 214)، "المساعد"، (2/ 656 - 657). (¬3) "الْمَشُوف الْمُعْلَم"، (ص: 225)، "شرح الكافية"، للرضي (2/ 92). (¬4) "الإتْباع"، (ص: 14)، "مجمع الأمثال"، (1/ 88)، "الْمَشُوف الْمُعْلَم"، (ص: 225). (¬5) انظر: (ص: 9) من هذا البحث. (¬6) "شرح المفصل"، (4/ 120). (¬7) "شرح الكافية"، (2/ 92). (¬8) "شرح الكافية"، (2/ 92)، وانظر: ما سبق بشأن إعراب المركب المزجي. (¬9) "شرح المفصل"، (4/ 120).

ومن قال: "خازُ بازٍ" فقد أعربَ الجزأين، وأضاف الأوَّلَ إلى الثاني، عامله معاملةَ المركَّب المزجي، على لُغة مَن يُضيف صدره إلى عَجُزه (¬1). والكلمة مفردة معربةٌ عند مَن قال "خِزْ بَازٌ" و"خازِ بَاءُ"، وزنها في الأولى "فِعْلاَلٌ"، كَقِرْطَاس، وفي الثانية "فَاعِلاَءُ" كقَاصِعَاء، وهي ممنوعةٌ من الصَّرف في الأخيرة؛ لأن همزتها بدل من ألف التأنيث. 6 - الكنايات المركَّبة: "كمْ"، و"كأيِّنْ"، و"كذا" - مبنيَّة على السُّكون، وهو ظاهر في "كم" و"كذا"، أمَّا "كأين" فمبنيةٌ على سكون "النون" في آخرها (¬2)، التي هي في الأصل "نون" تنوين؛ لأنها مركَّبة - كما سبق - من "كاف" التشبيه و"أيٍّ" المعربة المنوَّنة، وبعد التركيب زال المعنى الإفرادي للجزأين - كما قال الرضي - "وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى "كم" الخبريَّة، فصار كأنَّه اسم مبني على السُّكون، آخره نون ساكنة كما في "مَنْ" لا تنوين تمكُّن؛ فلذا يكتب بعد الياء نون مع أنَّ التنوين لا صورةَ له خطًّا" (¬3). وذهب ابن مالكٍ إلى أنها "مستحِقَّة للحكاية؛ لأنَّها مركَّبة من "كاف" التشبيه و"أيٍّ"، فكانت بمنزلة "بزيدٍ" مسمًّى به، فإنه يَلْزم أن يُجرى مَجْرى الجملة المسمَّى بها في لزوم الحكاية، والمحافظة على كلِّ جزء من أجزائها" (¬4)، وعلى هذا "كأيِّن" معربة تقديرًا، بناءً على المشهور من أنَّ المحكيَّ معربٌ لا مبني (¬5). الخاتمة: وبعد هذا العرض للأسماء المركَّبة، لعلَّ من المفيد تلخيصَ ما ورد فيه، فبعد تعريف المركَّب، وهو عند النَّحْويِّين: "ما تركَّب من كلمتين فأكثر" - تناولَ البحث أنواع الأسماء المركَّبة، فقسمتها أوَّلاً قسمين: أسماء أعلام، وأسماء غير أعلام، والأعلام المركَّبة ثلاثة أنواع: مركَّب إضافي، ومركَّب مزجي، ومركَّب إسنادي. أمَّا غير الأعلام من الأسماء المركَّبة فهي المركَّب العددي، والظروف والأحوال المركَّبة، وما أُلْحِق بها، وأسماء الأفعال المركَّبة، والكنايات المركَّبة. كما تناول البحث إعراب المركَّبات بأقسامها المختلفة، فمنها المعرب، وهو المركب الإضافي، والمركَّب المزجي ما لم يكن مختومًا بكلمة (ويه)، والظروف والأحوال المركَّبة في أحد استعمالَيْها، ومنها المبني وهو أكثرها، ويشمل المركب العددي، وأسماء الأفعال، وأسماء الكنايات المركَّبة، والمركب المزجي المنتهي بكلمة (ويه)، والظروف والأحوال المركَّبة في الاستعمال الآخَر. ومن المركَّبات ما هو معربٌ إعرابًا تقديريًّا، وهو المركَّب الإسنادي، فهو يلزم الحكاية، وتُقدَّر عليه جميعُ حركات الإعراب. هذا مجمل ما تضمَّنته هذه الدِّراسة النَّحْوية للمركَّبات، أمَّا دراستها صرفيًّا فسأتناولُها في بحثٍ آخَرَ - إن شاء الله - والحمد لله أوَّلاً وآخرًا. المصادر والمراجع: 1 - كتاب الإتْباع، تأليف: الإمام العلاَّمة حُجَّة العرب أبي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي، الحلبي، المتوفى سنة 351 هـ، حقَّقه وشرحه وقدَّم له: عز الدين التنوخي، دمشق، مجمع اللغة العربية، 1380هـ - 1961م. 2 - ارتشاف الضَّرَب من لسان العرب، لأبي حيان محمَّد بن يوسف الأندلسي (654 - 745هـ)، تحقيق: د/ محمَّد بن أحمد النماس، ط1، مطبعة المدني. ¬

(¬1) "شرح الكافية"، للرضي، (2/ 92). (¬2) "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 385). (¬3) "شرح الكافية"، (2/ 94 - 95). (¬4) "التسهيل"، (2/ 422 - 423)، وانظر: "ارتشاف الضَّرَب"، (1/ 385). (¬5) "حاشية الصبان"، (1/ 133)، "حاشية الشيخ حسن العطار على شرح الأزهرية"، مع "تقريرات الشيخ محمد الأنباري"، (ص: 32).

3 - الأشباه والنظائر في النحو، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السَّيوطي (849 - 911هـ)، تحقيق د/ عبد العال سالم مكرم، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1406هـ/1985م. 4 - إصلاح الخلل الواقع في الجمل للزجَّاجي، تأليف: عبد الله بن السيد البطليوسي (444 - 531هـ)، تحقيق: د/ حمزة عبد الله النشرتي، ط1، الرياض، دار المريخ، 1399هـ/1979م. 5 - إصلاح المنطق، لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق السِّكِّيت (186 - 244هـ)، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر، وعبد السلام هارون، ط3، مصر، دار المعارف، 1970م. 6 - الأصول في النحو، لأبي بكر محمَّد بن السري بن السراج (316هـ)، تحقيق: د/ عبد الحسين الفتلي - مؤسسة الرسالة، 1405هـ/1985م. 7 - الأغاني، لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني (284 - 356هـ)، ط2، بيروت، دار الثقافة، 1376هـ/1957م. 8 - كتاب ألقاب الشعراء ومَن يُعرف منهم بأُمِّه، لأبي جعفر محمَّد بن حبيب البغدادي (245هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون، ط2، 1393هـ/1973م، ضمن "نوادر المخطوطات". 9 - الإنصاف في مسائل الخلاف بين النَّحويين البصريين والكوفيين، تأليف: أبي البركات عبد الرحمن بن محمَّد بن أبي سعيد الأنباري (513 - 577هـ)، تعليق: محمَّد محيي الدين عبد الحميد، ط4، 1380هـ/1961م. 10 - أوضح المسالك إلى ألْفية ابن مالك، تأليف: الإمام أبي محمَّد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري (708 - 761هـ)، تعليق: محمَّد محيي الدين عبد الحميد - بيروت، المكتبة العصرية. 11 - البحر المحيط، لأبي حيَّان محمَّد بن يوسف بن علي الأندلسي (654 - 745هـ)، طبعته مطابع النصر بالرياض عن طبعة القاهرة، سنة 1329هـ، مطبعة السعادة. 12 - البديع في علم العربية، لمبارك بن محمَّد بن محمَّد بن الأثير (544 - 606هـ) الجزء الثاني، دراسة وتحقيق: صالح بن حسين العايد، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية اللغة العربية، بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية. 13 - تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، لابن مالك محمَّد بن محمَّد بن عبد الله الطائي (600 - 672هـ)، حقَّقه محمَّد كامل بركات، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1388هـ/1968م. 14 - التعريفات، لأبي الحسن علي بن محمَّد بن علي الجرجاني (740 - 816هـ)، بيروت، مكتبة لبنان، 1978م، مصورة عن طبعة "فلوغل"، في (ليبسك)، عام 1845م. 15 - تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، تأليف: الشيخ محمَّد بدر الدين بن أبي بكر بن عمر الدماميني (763 - 827هـ)، تحقيق: د/ محمَّد بن عبد الرحمن المفدى، ط1، 1403هـ/1983م. 16 - تهذيب اللغة، لأبي منصور محمَّد بن أحمد الأزهري (282 - 370هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون وآخرين، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر. 17 - التوقيف على مهمَّات التعاريف، تأليف: محمَّد عبد الرؤوف المنياوي (952 - 1031هـ)، تحقيق: د/ محمَّد رضوان الداية، بيروت، دار الفكر المعاصر، ط1، دمشق، دار الفكر، 1410هـ/1990م. 18 - جمهرة اللُّغة، لأبي بكر محمَّد بن الحسن بن دريد (223 - 321هـ)، حقَّقه: د/ رمزي منير بَعْلَبَكِّي، ط1، بيروت، لبنان، دار العلم للملايين، 1987م. 19 - الجنى الداني في حروف المعاني، تأليف: ابن أم قاسم حسن بن قاسم المرادي (ت: 749هـ)، تحقيق: طه محسن، بغداد، 1396هـ/1976م. 20 - حاشية الشيخ حسن بن محمَّد العطار (1190 - 1250هـ) على شرح الأزهرية في علم النحو، للشيخ خالد الأزهري، مع بعض تقريرات للشيخ محمَّد الأنبابي، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي. 21 - حاشية الصبان (1206هـ) على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، دار إحياء الكتب العربية، عيسى الحلبي.

22 - حاشية محمَّد بن مصطفى الخضري (1213 - 1278هـ) على شرح ابن عقيل (698 - 769هـ) على ألفية ابن مالك (600 - 672هـ)، بيروت، دار الفكر، 1398هـ/1978م. 23 - الحيوان، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (150 - 255هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون، ط2، عيسى البابي الحلبي. 24 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي (1030 - 1093هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، دار الكتاب العربي. 25 - الخصائص، لأبي الفتح عثمان بن جني (392هـ)، تحقيق: محمَّد علي النجار، بيروت، لبنان، دار الهدى، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية. 26 - ديوان جرير، شرحه مهدي محمَّد ناصر الدين، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1406هـ/1986م. 27 - ديوان ذي الرمة، شرح الإمام أبي نصر الباهلي، رواية الإمام أبي العباس ثعلب، حقَّقه: د/ عبد القدوس أبو صالح، ط2، بيروت، مؤسسة الإيمان، 1402هـ/1982م. 28 - ديوان الهذليين، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1384هـ/1964م. 29 - رصف المباني في شرح حروف المعاني، للإمام أحمد بن عبد النور المالقي (630 - 702هـ)، تحقيق: أحمد محمَّد الخراط، دمشق، مطبعة زيد بن ثابت، من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1395هـ/1975م. 30 - سِرُّ صناعة الإعراب، لأبي الفتح عثمان بن جني (392هـ)، دراسة وتحقيق: د/ حسن هنداوي، ط1، دمشق، دار القلم، 1405هـ/1985م. * سيبويه = الكتاب. 31 - شرح إيضاح أبي علي الفارسي (288 - 377هـ)، لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (538 - 616هـ)، دراسة وتحقيق: عبد الرحمن الحميدي، رسالة دكتوراه مقدَّمة إلى كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية عام 1409هـ. 32 - شرح ألفية ابن مالك (600 - 672هـ)، لأبي الحسن علي بن محمَّد الأشموني (838 - نحو 900هـ)، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي. 33 - شرح التسهيل، لابن مالك، جمال الدين محمَّد بن عبد الله الطائي (600 - 672هـ)، تحقيق: د/ عبد الرحمن السيد، ود/ محمَّد بدوي المختون، ط1، 1410هـ/1990م. 34 - شرح جمل الزَّجاجي، لابن عُصفور علي بن مؤمن الإشبيلي (597 - 699هـ)، تحقيق د/ صاحب أبو جناح، من مطبوعات وزارة الأوقاف العراقية 1400هـ/1980م. 35 - شرح حسن الكفراوي الشافعي الأزهري (ت: 1202هـ) على متن الآجُرُّومِيَّة، مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر. 36 - شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، حقَّقه: د/ إحسان عباس، الكويت، 1984م، (طبعة ثانية مصورة). 37 - شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، تأليف: الإمام أبي محمَّد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصاري (708 - 761هـ)، تعليق: محمَّد محيي الدين عبد الحميد، ط9، مصر، مطبعة السعادة، 1382هـ/1963م. 38 - شرح قطر النَّدى وبَلّ الصَّدى، تصنيف: أبي محمَّد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري (708 - 761هـ)، علَّق عليه: محمَّد محيي الدين عبد الحميد، ط12، مصر، مطبعة السعادة، 1386هـ/1966م. 39 - شرح كافية ابن الحاجب (570 - 646هـ)، تأليف: رضي الدين محمَّد بن الحسن الأَسْتَرَابَاذِيِّ (686هـ)، بيروت، دار الكتب العلمية، طبعة مصورة عن طبعة الشركة الصحافية العثمانية، سنة1310هـ. 40 - شرح الكافية الشافية، لابن مالك، محمَّد بن عبد الله الطائي (600 - 672هـ)، حققه: د/ عبد المنعم هريدي، ط1، مكة المكرمة، دار المأمون للتراث، مطبوعات مركز البحث العلمي في جامعة أم القرى، 1402هـ/1982م. 41 - شرح المفصل، لابن يعيش، يعيش بن علي بن يعيش (566 - 643هـ)، الناشر: عالم الكتب ببيروت، ومكتبة المثنَّى بالقاهرة، طبعة مصورة عن طبعة محمَّد منير، سنة 1928م.

42 - الشعر والشعراء، لأبي محمَّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276هـ)، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر، ط2، مصر، مطابع دار المعارف، 1387هـ/1967م. 43 - الصحاح تاج اللُّغة وصحاح العربية، تأليف: إسماعيل بن حمَّاد الجوهري، (بعد 396هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط2، بيروت، دار العلم للملايين، 1399هـ/1979م. 44 - صحيح البخاري، محمَّد بن إسماعيل (194 - 256هـ)، تعليق: د/ مصطفى ديب البغا، بيروت، 1407هـ/1987م. 45 - صحيح مسلم بن الحجاج القشيري (206 - 261هـ)، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1375هـ/1955م. 46 - فضائل الصحابة، للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمَّد بن حنبل (164 - 241هـ)، حقَّقه: وصي الله بن محمَّد عباس، ط1، مؤسسة الرسالة، من مطبوعات مركز البحث العلمي في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، 1403هـ/1983م. 47 - فوح الشَّذا بمسألة كذا، لابن هشام أبي محمَّد عبد الله بن يوسف الأنصاري (708 - 761هـ)، تحقيق: أحمد مطلوب، بغداد، 1382هـ/1963م. 48 - القاموس المحيط، تأليف: مجد الدين محمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاهرة، مؤسسة الحلبي، (729 - 817هـ). 49 - الكافي في الإفصاح عن مسائل كتاب الإيضاح، لابن أبي الربيع السبتي الأندلسي (599 - 688هـ)، تحقيق ودارسة: د/ فيصل الحفيان، ط1، الرياض، مكتبة الرشد، 1422هـ/2001م. 50 - الكامل، لأبي العباس محمَّد بن يزيد المبرد (210 - 285هـ)، حقَّقه: محمَّد أحمد الدَّالي، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1406هـ /1986م. 51 - الكتاب، لسيبويه، أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (180هـ)، ط1، بولاق، المطبعة الكبرى الأميرية، 1316 - 1317هـ. 52 - اللُّباب في علل البناء والإعراب، لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (538 - 616هـ)، حقَّق الجزءَ الأول: غازي مختار طليمات، والجزء الثاني: د/ عبدُالإله نبهان، ط1، دبي، مطبوعات مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، 1416هـ/1995م. 53 - لسان العرب، لابن منظور جمال الدين محمَّد بن مكرم الأنصاري (630 - 711هـ)، طبعة مصورة عن طبعة بولاق. 54 - ما ينصرف وما لا ينصرف، لأبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج (230 - 311هـ)، تحقيق: هدى محمود قراعة، القاهرة، 1391هـ/1971م. 55 - مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمَّد بن أحمد الميداني (518هـ)، تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، عيسى البابي الحلبي. 56 - المركَّب الاسمي الإسنادي وأنماطه من خلال القرآن الكريم، د/ أبو السعود حسنين الشاذلي، ط1، 1410هـ/1990م. 57 - المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات، لأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (288 - 377هـ)، تحقيق: صلاح الدين السنكاوي، بغداد، مطبعة العاني، من مطبوعات وزارة الأوقاف العراقية. 58 - المساعد على تسهيل الفوائد، للإمام بهاء الدين بن عقيل (698 - 769هـ)، تحقيق: د/ محمَّد كامل بركات، من مطبوعات مركز البحث العلمي، بجامعة أم القرى في مكة المكرمة. 59 - المستدرك على الصحيحين "مستدرك الحاكم"، لأبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (321 - 405هـ)، راجعه: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، 1411هـ/1990م. 60 - المستقصى في أمثال العرب، لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (467 - 538هـ)، ط2، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، 1397هـ/1977م، طبعة مصورة عن طبعة حيدر آباد، سنة 1962م. 61 - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشَّيباني (164 - 241هـ)، مصر، مطبعة الميمنية، 1313هـ.

62 - الْمَشُوف الْمُعْلَم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم، تصنيف: أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (538 - 616هـ)، تحقيق: ياسين محمَّد السواس، مكَّة المكرَّمة، مطبوعات مركز البحث العلمي بجامعة أُمّ القرى، 1403هـ/1983م. 63 - معاني القرآن، للفراء، لأبي بكر يحيى زياد (144 - 207هـ)، الجزء الأول طبع بمطبعة دار الكتب المصرية، سنة 1374هـ/1955م، وطبع الجزء الثاني بمطابع سجل العرب بتحقيق: محمَّد علي النجار، وطبع الجزء الثالث بتحقيق: د/ عبد الفتاح شلبي سنة 1972م. 64 - معجم البُلدان، لياقوت الحموي (574 - 626هـ)، لبنان، دار صادر، بيروت. 65 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين بن هشام الأنصاري (708 - 761هـ)، حقَّقه: د/مازن المارك، ومحمَّد علي حمد الله، ط1، دمشق، دار الفكر، 1384هـ/1964م. 66 - المفصل في علم العربية، لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (467 - 538هـ)، ط2، بيروت، لبنان، دار الجيل، طبعة مصورة عن طبعة سنة 1323هـ. 67 - المقتضب، صنعة أبي العباس محمَّد بن يزيد المبرد (210 - 285هـ)، تحقيق: محمَّد عبد الخالق عضيمة، القاهرة، من منشورات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1386هـ/1966م. 68 - النحو الوافي، تأليف: عباس حسن، ط5، مصر، دار المعارف. 69 - النُّكت في تفسير كتاب سيبويه، لأبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى المعروف بالأعلم الشنتمري (415 - 476هـ)، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، ط1، من منشورات معهد المخطوطات العربية، 1407هـ/1987م. المصدر: موقع الألوكة

هل تعود السينما من جديد؟!

هل تعود السينما من جديد؟! إبراهيم بن محمد الحقيل 23/ 4/1430هـ تشهد المملكة في السنوات الأخيرة نشاطا ليبراليا محموما .. يرى أصحابه أن هذه المرحلة هي مرحلتهم؛ وذلك لتوافر الظروف الدولية والإقليمية والمحلية الملائمة لفرض فكرهم، ويبدو أن أصحاب هذا التوجه المنحرف لن يفوتوا هذه الفرصة الذهبية التي يرون أنها ربما لا تسنح لهم مرة أخرى كما هي عليه الآن .. تمثل ذلك في سياسة فرض الأمر الواقع بتمرير عدد من القرارات التغريبية للمجتمع، مع حملة شعواء تستخدم فيها كافة الأساليب غير الأخلاقية بالطريقة المكيافيلية على كل من يقاوم مشروعاتهم الإجرامية في إفساد الناس أو ينتقدها، وقد تآزر معهم في حملتهم الهوجاء أصحاب الطوائف البدعية الأخرى -لتقاطع مصالحهم معهم- من رافضة اثني عشرية وزيدية وإسماعيلية وصوفية، وأعانهم أصحاب الاتجاهات العصرانية لضرب هذه البلاد المباركة في عمقها الاستراتيجي، وتقويض الدعائم التي قامت عليها؛ بقصد إضعافها وتركيعها داخلياً، وفرض الإملاءات الخارجية عليها، تلك التي تصب في مصلحة هذه الأقليات الناقمة على منهج هذه البلاد، الحاقدة على من يمثلون هذا المنهج أو يدافعون عنه، وقد بان أنهم في سبيل تحقيق خططهم يعملون في خطين متوازيين: الأول: فرض الفساد العقدي والفكري والأخلاقي بكافة الوسائل تحت شعارات الحرية والإنسانية وقبول الآخر وتحرير المرأة والانفتاح والتعايش والتيسير وغير ذلك، بدعم أجنبي مما يسمى بالمنظمات الحقوقية، ومن الدول المتسلطة. الثاني: الطعن في المؤسسات الشرعية ومن يمثلها ومن يحميها كالقضاء والهيئات والمساجد والدعوة والإغاثة وتحفيظ القرآن، وكافة المشاريع الدعوية، وتشويه سمعتها، وتأليب الدولة والعامة عليها. وكان الإعلام الداخلي والخارجي بفضائياته وصحفه أمضى سلاح استخدموه ومرروا به كثيرا من مشروعاتهم .. خدعوا به العامة بما يدعونه إصلاحاً، وألبوهم على أهل العلم والدعوة، الناصحين لأمتهم، الصادقين في انتمائهم، منتهكين في إعلامهم الأنظمة الصادرة في السياسة الإعلامية للمملكة التي تُعَد دستورها في هذا المجال. وإحياء السينما من جديد هو مشروع واحد من عشرات المشروعات التي يريدون تنفيذها والوصول إليها لإغراق هذه البلاد المباركة في مستنقعات الرذيلة والانحلال، وهذا المشروع لو تحقق لهم فإنه سيلد مشروعات كثيرة خطيرة تفقد هذه البلاد خصوصيتها، وتسلبها ما امتازت به عن غيرها من البلاد الإسلامية التي انتشرت فيها مظاهر الانحلال الأخلاقي، ومجاهرة الفساق فيها بفسقهم. شيء من تاريخ السينما: من يراجع الكتب التي أرخت لصناعة السينما سواء الأجنبية منها أو العربية يجد اضطرابا كبيرا في أوليتها، ورصد تدرجها، وسبب ذلك أن تحريك الصور الثابتة مرَّ بأطوار وتجارب كثيرة سجل بعضها وأهمل بعضها الآخر، وهذا سرد تاريخي بأهم التطورات في عالم السينما: أولاً: السينما العالمية: (¬1) - أشهر المحاولات المُبَكِّرة في هذا الصدد محاولة المصور الإنجليزي الأصل إدوارد ماي بردج في عامي 1877م و1878م، بتقديم مجموعة من الصور لحصان يجري. - قدَّم المخترع الأمريكي المشهور أديسون جهازا عرضت فيه الصور المتحركة عام 1893م. ¬

(¬1) ينظر في ذلك: الموسوعة العربية العالمية، حرف (ص) مادة: صناعة السينما، وتاريخ السينما في العالم، جورج سادول، ترجمة إبراهيم الكيلاني، وفايز كم نقش، ط: عويدات، بيروت1388، وصناعة السينما، دراسة اقتصادية مقارنة د. محمد العشري، وهو من أجود الكتب التي أرخت لمراحل السينما العالمية وتطورها ص9 - 23، وكذلك لنشأة السينما العربية ومراحلها ص24 - 34.

- في عام 1903 م قدَّم إدوين بورتر فيلما روائيا (سرقة القطار الكبرى) مدتُهُ (11 دقيقة) أخرجه دي دبليو جريفيث، ويعد أول عمل روائي في تاريخ السينما (¬1). - قبل نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914م، كانت بعض الشركات المنتجة قد أقامت لنفسها عددًا من أماكن التصوير (الاستديوهات) حول منطقة هوليوود في لوس أنجلوس التي صارت بعد ذلك أكبر مصنع للسينما في العالم. - في عام 1927م عرض أول فيلم ناطق وهو (مغني الجاز) الذي تم فيه تحقيق التزامن بين الشريط السينمائي وأسطوانة الصوت المسجلة. - في عام 1929م، أصبحت عملية تسجيل الصوت على شريط الصورة عملية شائعة، وبه انتهت السينما الصامتة. (¬2) - في الخمسينيات من القرن العشرين الميلادي تراجعت صناعة السينما بسبب انتشار أجهزة التلفزة في أمريكا فانخفض إنتاج هوليوود من) 550 (فيلمًا في العام قبل الحرب العالمية إلى) 250 (فيلمًا في الخمسينيات من القرن العشرين، لكن بقيت السينما ولم تنته بالتلفزيون. - في أوائل السبعينيات ابتدأت دور العرض السينمائية الغربية بعرض الأفلام الإباحية ابتداء من السويد ففرنسا فإيطاليا فأمريكا (¬3) ثانياً: السينما المصرية: (¬4) - أول بلد مسلم عرف السينما هي مصر، وكان عرض السينما فيها بعد أشهر فقط من عرضها في فرنسا، وأول عرض للصور المتحركة للجمهور في القاهرة كان يوم السبت 28 نوفمبر سنة 1896 م، والأجانب من الفرنسيين والإنجليز والإيطاليين وغيرهم هم من جلب السينما لمصر، وهم أول من عرض أفلامها. - من عام 1908 إلى عام 1917 م زادت عدد دور العرض السينمائية في مصر من عشر إلى ثمانين. - في عام 1918 م أسس مجموعة من الإيطاليين (الشركة السينمائية المصرية) فأنتجت فيلم (الزهور القاتلة) وكان يتضمن آيات قرآنية علقت على الحائط بشكل مقلوب. (¬5) - في عام 1919 م اكتشف الأجانب عزوف المصريين عن أفلامهم المستوردة أو المنتجة محليا بخبرات أجنبية فلجئوا إلى إشراك المصريين في أفلامهم لترغيب الناس فيها فنجحوا. - في عام 1923م صدرت مجلة الصور المتحركة في مصر وهي أول مجلة متخصصة في السينما المصرية والأجنبية، وفي عام 1927م أسست غرفة لصناعة السينما في مصر. ¬

(¬1) والنقاد السينمائيون يصنفونه ضمن أفلام العنف؛ مما يدل على أن الإثارة بالعنف في السينما بدأت مع بدايتها. (¬2) للممثل الهزلي العالمي تشارلي سبنسر تشابلن مذكرات عن حياته وعن مراحل السينما الصامتة أرخت لها كونه أشهر ممثل في هوليوود إبان نشأتها، وأصله إنجليزي، وانتقل إلى أمريكا، وله أكثر من ثمانين فيلما صامتا، ومذكراته بعنوان: قصة حياتي، ترجمها وقدمها: كميل داغر، ط1414. (¬3) الفن السينمائي وصراع الأفكار، الكسندر كاراغانوف، ترجمة د. ممدوح أبو الوي، دار دمشق للطباعة والنشر، ط الأولى 1985 ص 20 - 21. (¬4) ينظر مع المصادر السابقة في ذكر السينما العالمية: الهوية القومية في السينما العربية، بحث: كمال رمزي بعنوان: ارتباط نشوء السينما العربية بحركة التحرير العربي ص15، مركز دراسات الوحدة العربية، ط الأولى 1986م، ودراسة مختصرة عن السينما المصرية، الهامي حسن ص 170، وقصة السينما في مصر، سعد الدين توفيق، ط: دار الهلال القاهرة، 1969م والنقد السينمائي في الصحافة المصرية للناقد السينمائي د. علي شلش، ص 38 وفيه عقد فصلا لتاريخ السينما في مصر، هو أجود ما وقفت عليه من جهة جمع الكتب التي أرخت لبدايات السينما المصرية وتحليلها والمقارنة بينها. (¬5) وقيل: إن هذا الفيلم عرض عام 1917، وحصلت ضجة بسبب تعمد قلب الآيات القرآنية مما أدى إلى إيقاف عرضه.

- في عام 1925 أنشأ بنك مصر شركة مصر للتمثيل والسينما، وازدهرت صناعة السينما بعدها، وفي عام 1933 م أرسلت شركة مصر للتمثيل والسينما أولى بعثاتها للخارج للدراسة في باريس وبرلين، وأنشأت هذه الشركة ستوديو مصر الذي افتتح عام 1935 م، وعدوا ذلك أكبر منجز للسينما في مصر. (¬1) - عقب الحرب العالمية الثانية كان في مصر مئة شركة إنتاج سينمائي، ثم ازدهرت صناعة السينما في العقود اللاحقة وأنتجت مصر مئات الأفلام، وفي السنوات الأخيرة يزداد الإنتاج المصري للأفلام ففي عام 2006م أنتجت مصر أربعين فيلما، وأربعين أيضاً في عام 2007م، وزاد العدد في 2008م إلى ثلاثة وخمسين فيلما. - يقول الناقد السينمائي الفرنسي كلود ميشيل: «إن علاقة مصر بالسينما تذكر كثيرا بعلاقتها بالتأثير الذي مارسته عليها التكنولوجيا المعاصرة، والإيديولوجيا والثقافة الأوربية» (¬2) ثالثاً: السينما في السعودية: ألف خالد ربيع السيد كتابا عن السينما في السعودية بعنوان «الفانوس السحري: قراءات في السينما» (¬3) ذكر فيه أن السفارات الأجنبية في المملكة كانت أول من فتح أبوابها للسعوديين لمشاهدة السينما في السبعينيات الميلادية، وأنه كان من مرتادي السفارة النيجيرية والسفارة الإيطالية لمشاهدة الأفلام السينمائية التي تعرض فيها. وأنشئت دور عرض سينمائية في جدة باسم «باب شريف» وسينما «أبو صفية» في حي الهنداوية، وفي الطائف سينما نادي «عكاظ» الرياضي وسينما «الششة»، ويذكر في كتابه أن السينما السعودية خطت أولى خطواتها في عام 1977 ميلادية؛ إذ تم إنتاج أول فيلم سعودي بعنوان «اغتيال مدينة» وعُرض في مهرجان القاهرة السينمائي وحاز على جائزة «نيفرتيتي الذهبية» لأحسن فيلم قصير. ثم ذكر أنه في فترة الثمانينات اغتيلت أحلام السينما السعودية بفعل التغيرات الدينية والاجتماعية للسعودية التي شهدت موجة عارمة من التدين، وتم إقفال دور العرض السينمائية في كل مدن المملكة وأقفلت السفارات التي كانت تعرض السينما أبوابها. قلت: وذكر لي بعضهم أنه في هذه الحقبة كانت بعض الأندية الرياضية تعرض في مقراتها أفلاماً سينمائية عند الفوز، تستميل بها الجمهور الرياضي ليشجع أنديتهم. - في هذا العام 1430عادت الدعوة للسينما جذعة، واستمات الليبراليون في فرضها واقعاً على الناس، وأنتجت شبكة روتانا فيلماً سعودياً بعنوان (مناحي) عرض في جدة، ومن المحتمل أن يعرض في الرياض خلال الأيام القادمة. والقارئ لتاريخ السينما العالمية والعربية في مصادرها المختلفة لا بد أن يلحظ ثلاث ملاحظات مهمة: الملاحظة الأولى: أن السينما نشأت أجنبية الفكر والمشرب والتنفيذ، وأنها لم تكن في يوم من الأيام محايدة، أو أداة للتسلية، أو للربح فقط، وإنما هي تبث رسائل فكرية محددة تستلب عقول مشاهديها بالإثارة والتشويق. ¬

(¬1) الهوية القومية في السينما العربية ص18 - 19، وفي بعض المصادر أن أول استوديو أسس كان بالاسكندرية عام 1912م، وهي أهم مرحلة تطورت فيها السينما، وفيها أرسلت بعثات طلابية لدراسة السينما في الخارج، ينظر: الصحافة الفنية في مصر أحمد المغازي ص346، وشلش ص51 (¬2) مجلة تواصل، الدار البيضاء عدد23 1985 ص34 عن السينما الإفريقية ظاهرة جمالية د. وجدي صالح ترجمة: عادل محمد عثمان، ص10 - 11. (¬3) نشرته دار الانتشار العربي في بيروت بالتعاون مع نادي حائل الأدبي.

وسيطرة اليهود في هوليوود -أكبر منتج للسينما في العالم- ليست تخفى على أحد، وصالات العرض السينمائية في شتى أنحاء الأرض تستورد أفلامها من هوليوود. وقد صدرت عشرات الدراسات عن هوليوود ونجومها ومخرجي أفلامها، وتمويل اليهود لها، وسيطرتهم عليها، يقول بن جوريون وهو يفتخر: «إنني أدعم العمل السينمائي» (¬1) وكان بيجن يستقبل بعض صناع السينما وبعض النجوم العالميين (¬2). وهذا يدل على عناية قادة اليهود بهؤلاء النجوم؛ لأنهم يخدمون توجهاتهم سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا. يقول الروسي كاراغانوف: «إن الهوليوود يقدم للجمهور ما يريد تقديمه، ويرفض وصاية الجمهور عليه، ليس الهوليوود بحاجة إلى جمهور لأنه يصنع جمهوره بنفسه» (¬3). ويقول السينمائي السوري صلاح دهني: «إن الأفلام التي نراها تمثل دون أدنى شك هيمنة غربية على الصالات السينمائية. .. » وذكر أنه كان يعرض في سوريا عام 1966 م 300 فيلم 95% منها أمريكية (¬4). الملاحظة الثانية: أن السينما المصرية -التي هي أول سينما عربية- نشأت أجنبية، وأكثر من أسسوها ونفذوها هم من اليهود والنصارى، وكانوا يغيرون أسماءهم عند الحاجة إلى ذلك، وكان رأس المال اليهودي حاضرا فيها بشكل كبير، وتوجد دراسات تتبعت نفاذ اليهود للسينما المصرية من أول نشأتها (¬5)، وكان من أشهر المؤثرين في السينما المصرية إبان نشأتها وتطورها عدد كبير من اليهود منهم: توجو مزراحي وإلياس مؤدب وبدر لاما وبهيجة المهدي وراقية إبراهيم وزكي الفيومي وسامية رشدي وسلامة إلياس وكاميليا وشالوم وعباس رحمي وصالحة قاضين وفيفي يوسف ونجمة إبراهيم ونجوي سالم ويوسف ساسون ووداد عرفي، وغيرهم. وقد سيطرت عائلات يهودية على صناعة السينما وأدواتها مثل عائلات: منشة وموصيري ويوسف قطاوي وسوارس ومزراحي وأسمالون وشيكوريل وعدس وساسون. حتى إن مجلة صباح المصرية تذمرت من السيطرة الأجنبية على السينما المصرية، وغرسها لأفكار وأخلاق معينة فكتبت في افتتاحيتها تحت عنوان «الأجانب والسينما في مصر»: «لقد كنا إلى آخر لحظة نحسن الظن أو نحاول أن نحسن الظن بجماعة الأجانب الذين يحترفون السينما في مصر .... وطالما أغمضنا أعيننا عن كثير من الجرائم التي يرتكبونها ويعتدون فيها على كرامة المصري .... أهملوا اللغة العربية وهي لغة السواد الأعظم من أبناء البلاد .. .» (¬6) وفي عام 1940 شن الرسام الناقد كامل التلمساني حملة قوية على وضع السينما ومضامينها، وكتب المقالات المنتقدة لها في مجلة (التطور) وهاجم نظرية (الفن للفن) وهو أول من استخدم تعبير (سينما المخدرات) لما فيها من مضامين الفساد. (¬7). ¬

(¬1) انظر: الدوافع السياسية في السينما الصهيونية جودت السعد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الأولى 1983م فقد عقد فيه مبحثا لعلاقة السينما الصهيونية بالسينما العالمية ص29. (¬2) انظر: صحيفة دافارا 29/ 11/1978 عن المصدر السابق ص 33 و36. (¬3) الفن السينمائي وصراع الأفكار ص35 (¬4) المصدر السابق ص35 (¬5) مثل دراسة الناقد السينمائي المصري: أحمد رأفت بهجت بعنوان: اليهود والسينما في مصر، نشرها المؤلف في القاهرة عام 2005م (¬6) مذكرات محمد كريم ص 156 عن الهوية القومية في السينما العربية ص 21. (¬7) الهوية القومية في السينما العربية ص30

وتذكر الفنانة الجزائرية التي تابت خديجة المداح، وعُرفت عند أهل الهوى والضلال بـ (هدى الجزائرية) أنها عملت مع امرأة يهودية، تقول: «فما كان منها إلا أن أوفدتني للعمل في باريس مُهرِّجة مع يهودي وآخر فرنسي، كان دوري يتلخص في ارتداء الزي الجزائري والسخرية منه ليضحك الجمهور الفرنسي .. وفي باريس تعرفتُ على ليلى الجزائرية التي كانت تعمل مع فريد الأطرش، فرشحتني للعمل راقصة، وكنت في كل يوم أقترب كثيراً من حياة الضلال» (¬1) وخصص الناقد السينمائي الفرنسي غي هاينبيل فصلا من كتابه (خمسة عشر عاما من السينما العالمية) درس فيه السينما العربية وحلل واقعها بين عامي 1960 - 1975 ذكر فيه الدور الإمبريالي في السينما العربية وسيطرة شركات الإنتاج والتوزيع الهوليوودية الأمريكية في العالم بما فيها السينما العربية. (¬2) وتحدث أحمد هيكل عن فترة الأربعينيات فقال: «وقد شهدت تلك الفترة تحولا خطيرا في الحياة الفكرية، وقد تمثل هذا التحول في تغلب التيار الفكري المتجه إلى الغرب والمستدبر للشرق .... واتخاذ الغرب مثلا أعلى .... وكان من أهم تفوق هذا الاتجاه ازدياد الاتصال بالغرب في المجال الفكري بسبب عودة طائفة من الدارسين في أوربا إلى مصر .... » ثم يذكر أنه في تلك الفترة قويت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة وتبناها العديد من المفكرين والمثقفين .. ويقول الناقد السينمائي الأردني حسان أبو غنيمة: «كانت الأفلام الواردة من خارج الوطن العربي والعالم الإسلامي والأفلام المصنوعة داخل الوطن العربي والعالم الإسلامي تتقاسم قتل المشاهد فكريا وأخلاقيا بصورة تبعث على الدهشة، وكأنما كان هناك نوع من التلذذ بعملية هذا القتل البطيء والمستمر دونما هوادة ... ». ثم يذكر أن أي دراسة سيسيولوجية لتأثير ما أنتجته السينما تظهر بجلاء أنها لعبت دورا كبيرا في تخريب الكثير من القيم الإنسانية، وفي تشويه العقل العربي الخام، ودفعه في اتجاه البحث عن قيم غربية بعيدة عن تقاليده وقيمه (¬3). ¬

(¬1) صحيفة المسلمون، عدد437، والحقيقة أن عبث الأجانب بأبناء المسلمين وبناتهم في الوسط الفني يحتاج إلى دراسة مستفيضة؛ لأن الملاحظ أن اليهود والنصارى كانوا ينطلقون في هذا الإفساد السينمائي من دوافع دينية وعنصرية؛ لأن الذين كرهوهم وفضحوهم من السينمائيين العرب لم يكن الدين عندهم ذا بال وإلا لما دخلوا عالم السينما من بدايته مع ما فيه من فساد، ولكنهم اكتشفوا أن أولئك الأجانب عنصريون لا يبغضون دينهم فقط وإنما يحتقرون جنسهم، وهذا ما أثار حفيظتهم، وكل ما نقلته في هذا المقال هو عن أناس لا علاقة لهم بالدين سوى ما نقلته عن التائبين والتائبات. (¬2) الجانب الآخر للثقافة السينمائية ريما العيسى وحسان أبو غنيمة المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الأولى 1983م (¬3) الموقف من سينما إسلامية محمد وليد جداع، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة، ط الثانية 1409 ص 32. وحسان أبو غنيمة متخصص في السينما، وألف فيها كتبا عدة منها: في الفن السابع، والبحث عن السينما الأردنية، وحوارات مع السينما العالمية، والسينما ظواهر ودلالات، وفلسطين والعين السينمائية.

الملاحظة الثالثة: اقتحام العناصر النسائية أو إقحامها في السينما أول نشأتها في مصر إنتاجاً وتمثيلا؛ فأسست عزيزة أمير أول شركة مصرية لها باسم إيزيس فيلم، وخرج فيلمها الأول باسم ليلى في موسم (1927 - 1928م) وفيلمها هذا يعده المؤرخون للسينما أول فيلم مصري حقيقي. في أعقاب هذا الفيلم خرج فيلم زينب الذي اشتركت فيه بهيجة حافظ التي أسست فيما بعد شركة سينمائية باسم فنار فيلم. ثم قامت آسيا داغر وأنشأت شركة سينمائية باسم لوتس فيلم وقدمت فيلم غادة الصحراء. ثم جاء دور فاطمة رشدي فأسست شركة سينمائية (¬1). يقول محمد السيد شوشة: «لقد اقترن الإنتاج السينمائي في البداية بأسماء ست سيدات مصريات كن الرائدات ... عزيزة أمير صاحبة فيلم (ليلى) وفردوس حسن فيلم (سعاد الغجرية) وآسيا فيلم (غادة الصحراء) وبهيجة حافظ بفيلم (الضحايا) وفاطمة رشدي بفيلم (الزواج) وأمينة محمد بفيلم (تيتاوونج) (¬2) وإقحام المرأة في عالم السينما منذ بدايتها إخراجاً وتمثيلا، وخلطها بالرجال؛ أثمر ثقافة العري والتخلع والغرام المحرم والإسفاف المخجل في الأفلام المصرية التي غزت العالم العربي فنشرت هذه الثقافة الفاسدة فيه. زرع القيم والأفكار بالسينما: كانت السينما من أقوى الأسلحة الفكرية التي نفذت إلى عقل مشاهديها بسهولة لتؤثر فيهم، وتصوغ أفكارهم؛ ولذا اعتنى بها اليهود، وكان الشيوعيون يعلمون خطرها وتأثيرها على الأفكار حتى قال الزعيم الشيوعي لينين عام 1907: «تعتبر السينما من بين جميع الفنون أهمها بالنسبة لنا» (¬3). وقد خاف لينين من تأثير السينما الأمريكية والأوربية على الشعوب الشيوعية، وخشي من إقناعها لهم بالأفكار الليبرالية الرأسمالية فتتحول عن الاشتراكية، وفي هذا يقول لينين: «تسيطر على الفن السينمائي حتى هذه الساعة أيدٍ تجارية قذرة، وتقدم للمشاهدين أفلاما سيئة أكثر مما هي مفيدة، ففي الكثير من الأحيان يفسد الفن السينمائي المشاهدين بأفلام سيئة المضمون». (¬4) وهذا ما دعا الكاتب الروسي كاراغانوف أن يؤلف كتابه: الفن السينمائي وصراع الأفكار. وتأثير السينما على المعتقدات والأفكار، وصياغتها للعقول لا ينفيه صانعوها والمروجون لها والمالكون لأكبر إنتاجها، بل يثبتون ذلك، وكذب من زعم من بني قومنا أنها لمجرد الترفيه والتسلية، وأن من يحاربونها يتهمون غيرهم على غير هدى، فهذا المخترع المشهور توماس إديسون وهو ممن طور آليات السينما يقول: «من يسيطر على السينما يسيطر على أقوى وسيلة للتأثير في الشعب .. » (¬5) ويقول مؤرخ الفنون الأمريكي أورين بانوفسكي: «إن السينما سواء أحببنا أم لم نحب هي القوة التي تصوغ أكثر من أي قوة أخرى الآراء والأذواق واللغة والزي والسلوك بل حتى المظهر البدني لجمهور يضم أكثر من ستين بالمئة من سكان الأرض». (¬6) حتى قيل: السينما أفيون الشعوب (¬7). ¬

(¬1) النقد السينمائي في الصحافة المصرية ص49 (¬2) المصدر السابق ص61، ومحمد السيد شوشة ناقد سينمائي قديم، كتب قصة فيلم (آمنت بالله) الذي عرض عام 1952م. (¬3) قصة السينما في العالم آرثر نايت، ترجمة سعد الدين توفيق دار الكتاب العربي1967 ص71 والسينما والأدب، فؤاد دوارة، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1991م ص20 والفن السينمائي وصراع الأفكار ص3. (¬4) الفن السينمائي وصراع الأفكار ص3. (¬5) الفيلم والجمهور ص18عن السينما والأدب ص18. (¬6) السينما آلة وفن، ألبرت فلتون، ترجمة صلاح عز الدين وفؤاد كامل، تقديم عبد الحليم البشلاوي ص7 والسينما والأدب ص19. (¬7) السينما فن، صلاح أبو سيف دار المعارف، مصر ص4

ويقول وليسون: «ليست وظيفة السينما أن تزودنا بمعرفة للعالم فحسب وإنما تخلق أيضا القيم التي نعيش بها» (¬1). ويقول محمد كريم في مذكراته عن فتنة الناس بالسينما في مصر: «وإذا كان الصباح ملك المدرسة ودروسها فإن بعد الظهر كان ملك الأصحاب ..... كانت تسليتهم الكبرى الذهاب إلى السينما توغراف .. » (¬2). الإفساد والاستلاب: لقد كان كبار السينمائيين في البلاد العربية -وخاصة في مصر محضن السينما العربية- من غير المسلمين، وينفذون إلى عقول المسلمين عبر السينما، ومنهم من غيروا أسماءهم وديانتهم لما اقتضى الأمر ذلك، وكانوا وكلاء للأجانب في العبث بعقول الناس، وصرفهم عن دينهم، وإفساد أخلاقهم، والكلام عنهم يطول .. لكن سأذكر مثالاً واحداً أسلط الضوء عليه، وهو من خلع عليه الإعلام المضلل جملة من الألقاب، وحظي بجوائز عربية وعالمية كثيرة على إفساده، وهو أشهر مخرج سينمائي عُمِّر في مصر طويلا؛ إذ مات عن ثنتين وثمانين سنة، قضى منها ستين سنة في السينما وإفساد الناس بها، وهو النصراني يوسف شاهين الذي يعدونه خاتمة المخرجين الكبار، وفي الاحتفال بمئوية السينما العالمية عام 1996 م اختار سينمائيون مصريون يوسف شاهين أفضل مخرج مصري في القرن كله. كانت الأفلام التي يخرجها تمنع في البلاد العربية في أول الأمر لما كانت ذائقة العرب صحيحة، وأخلاقهم مستقيمة، فتعرضها فرنسا في قنواتها وهي التي كانت تمولها (¬3) فما مصلحة فرنسا من تمويل أفلام عربية ثم عرضها في شاشاتها؟! أخرج يوسف شاهين فيلم (القاهرة منورة بأهلها) بأموال فرنسية، وعرضه في مهرجان (كان) وأعَجَبَ الفرنسيين لطعنه في المصريين وتصويرهم فيه بأنهم شعب شهواني رخيص متوحش يأكل بعضه بعضاً، وأظهر فيه الشباب المصري شواذَّ يبيعون أنفسهم للأجانب، ونقل فيه الصورة من صلاة الجمعة، وأكوام الأحذية عند باب الجامع إلى جسم راقصة في مرقص، وأظهر في فيلمه الأقباط متحضرين وغير راضين عن هذه الأوضاع في مصر، حتى قال أحد النقاد السينمائيين: «لقد جمع يوسف شاهين كل البيض الفاسد في سلة واحدة» وذكر أنه صور المصريين كما أرادهم الفرنسيون (¬4). ¬

(¬1) تعريف النقد السنيمائي 42 عن السينما والأدب ص 19 (¬2) محمد كريم من المخرجين القدماء، امتهن الإخراج السنيمائي سنة 1927م ويعدونه من المخرجين الرواد، ويسمونه في السينما المصرية: المعلم الأول، وهو من أوائل من وطنوا السينما في مصر حين كان الأجانب وخاصة الإيطاليين هم الذين يخرجون الأفلام السينمائية، تأثر بالسينما وعشقها وعمره عشر سنوات إثر مشاهدته لفيلمي (أسرار نيويورك، وفانتوماس) التي عرضت في سينما (أمبير) في القاهرة، وحاول امتهان التمثيل، وكان يستخفي من أهله هو ورفاقه لأن التمثيل آنذاك كان عارا، ومع تغير الأفكار والقيم صار شرفا. وقد طبعت مذكراته في تاريخ السينما المصرية أكاديمية الفنون عام 2006م بتحقيق محمود علي. (¬3) انظر: يوسف شاهين أمام المحاكم، محمد الصاوي، مكتبة المعارف الحديثة الاسكندريةص28 - 29. (¬4) المصدر السابق ص31 - 32

وعلى هذا الفيلم القبيح كافأه وزير الثقافة الفرنسي اليهودي (جاك لانج) فكلفه بإخراج مسرحية (كاليجولا) لأعرق مسرح في فرنسا -على رغم أنوف كل المسرحيين الفرنسيين- وهو لم يقف من قبل على خشبة المسرح لا مخرجاً ولا ممثلاً، ثم أعطاه اعتماداً مفتوحاً لإنتاج فيلم (شامبليون) (¬1) وصنع فيلم (المهاجر) عن قصة يوسف عليه السلام فشوهها أعظم تشويه، حتى قال عنه بعض النقاد السينمائيين: «فيلم المهاجر سابقة غير أخلاقية في التجرؤ على سير الأنبياء والرسل» وعدوها دعوة صهيونية في فيلم سينمائي، ونعتته الناقدة المسرحية سناء فتح الله فقالت: «الخواجا يوسف شاهين». (¬2) وهو من دعاة الفرعونية، ويرى أن مصر ليست إسلامية، وهو وإن كان نصرانياً علمانياً أو متديناً كما يقول البعض؛ فإنه خدم اليهود في هوليوود وشارك المخرجين اليهود في تلميع صورتهم والدفاع عنهم، وساعد في إخراج أفلام تتبنى فكرة المحرقة اليهودية (الهولوكست) ومنها مشاركته المخرج العالمي اليهودي رومان بولانسكي ومساعدته في إخراج فيلم « The Pianist» عن قصة عازف بيانو يهودي يهرب من المحرقة، وأخرج فيلم (اسكندرية ليه) الذي هو حلقة من سيرته الذاتية، ولا يعدو أن يكون الفيلم دعوة للتطبيع مع اليهود، حتى اتهمه بعض النقاد بأنه يهودي أو مستأجر من اليهود، وقد صرح بكراهيته للحجاب والأذان، وكان يقاوم الأذان بتشغيل الموسيقى الصاخبة. هذا شيء من فساد وإفساد النصراني جوزيف شاهين الذي هلك في رجب من العام الماضي، وناح عليه الإعلام العربي الفاسد بصحفه وفضائياته، وجعله من كبار المصلحين، وصدق الله العظيم حين قال في المنافقين [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ] {البقرة:11 - 12}. ولا يختلف كثير من السينمائيين عنه فهم ينفذون ما يريده أعداء الأمة منهم شعروا بذلك أم لم يشعروا، فالمخرج اللبناني مارون بغدادي مولته فرنسا في فيلمه (خارج الحياة) الذي صور فيه اللبنانيين وحوشاً كاسرة همجية، بينما الآدمي الوحيد هو الرهينة الفرنسي الذي اختطف وعذب بوحشية. (¬3) وفي تونس كان المخرجان: نوري بو زيد، وفريد بو غدير يخرجان الأفلام التي تقدح في مجتمعاتهم وتطعن في قيمهم بتمويل فرنسي يهودي (¬4). ولما سُئل المخرج التونسي أحمد الجميعي -وهو مقيم في فرنسا- عن رأيه في تلك الأفلام الممولة فرنسياً، المشوهة لبلاد المسلمين، المملوءة بإيحاءات الجنس والشذوذ قال: «إن الفرنسيين يفرضون نوعيات معينة من الموضوعات ويمولونها ويهللون لمخرجيها» (¬5) تهوين غير مقبول: حول محاولة إعادة السينما من جديد للمملكة وقد عوفيت منها، ومقاومتها من جلّ المشايخ والدعاة وطلبة العلم، والاحتساب على أهلها والداعين إليها، قال فضيلة الشيخ الداعية سلمان العودة سدده الله تعالى: «إن شاشة السينما أصبحت قائمة الآن في كل بيت، وإن شئت قل في كل غرفة توجد شاشة عرض سينمائية، لا تعرض فيلمًا واحدًا أو مادة جديدة فقط، وإنما تعرض العديد من الأفلام أو البرامج ... وأشار إلى أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية بحاجة إلى الانتقال من سياسة المنع إلى ثقافة المناعة ... ثم تساءل: ما الفرق إذن بين السينما، وبين الشاشة، أو بين التلفاز ذاته؟!! ... موضحاً أن المسألة من وجهة نظره تتعلق بأمرين: وذكر المحتوى المعروض وهو يتمنى أن يكون تربوياً ونظيفاً، ثم أشار إلى ضرورة الضوابط. ¬

(¬1) المصدر السابق ص 29 (¬2) صحيفة الأخبار المصرية 13/ 10/1994 عن. السابق ص122 (¬3) يوسف شاهين أمام المحاكم ص 36 (¬4) المصدر السابق 36 (¬5) مجلة الكواكب 18/ 10/1994 عن السابق ص 108

ثم قال: ولذا فإن علينا أن ندرك أننا عندما نأخذ بمبدأ المنع والرفض المطلق، فإن هذا الجدار المانع الرافض قد ينهدم بلحظة أو بأخرى، وفي الوقت ذاته يبقى الناس -لأنهم منطلقون من دائرة الرفض والمنع والتخوف- بعيدين عنه، وبالتالي لا تكون هناك مشاركة إيجابية» اهـ كلامه سدده الله تعالى ووفقه. وهذا الكلام من فضيلة الشيخ فيه من التهوين والتسويغ للسينما ما لا يخفى، كما أنه يفت في عضد المنكرين لها، المحتسبين على أهلها، ويقوي أهل الباطل عليهم، وأظن أن هذا التبسيط المخل للموضوع نابع من عدم إدراكٍ حقيقي للفرق بين عرض الأفلام في صالة السينما وبين عرضه في شبكات التلفزة؛ إذ سوّى الشيخ بينهما، على أن انتشار التلفزة والفضائيات في أكثر البيوت لا يدل على رضا الممانعين بها، وإذا كانت الفضائيات قد تجاوزت في اختراقها للبيوت ممانعتهم سابقاً فعلى الأقل هم سجلوا مواقفهم الرافضة لهذا المنكر؛ براءة للذمة، وإعذارا للأمة، وفتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى المشهورة شاهدة على ذلك. وفي ظني أن الشيخ سلمان حفظه الله تعالى قد أخطأ حين حجر الدعاة أمام المنكرات ليضعهم بين طريقين لا ثالث لهما: إما المشاركة في المنكر وعدم رفضه ومحاولة تعديله، وإما القدرة على منعه كما هو مؤدى كلامه .. ولا سيما أنه يعلم أن السينما منذ صنعت إلى يومنا هذا وهي مرتع الرذائل، ومستنقع الفواحش، وأن من حاولوا تحويلها عن مرادها لتحمل أفكاراً تنفع الناس من الوطنيين والقوميين والإسلاميين قد فشلوا فشلا ذريعاً؛ لأن القائمين عليها والممولين لها في العالم لا يريدون ذلك؛ ولأنها لا تنجح إلا بالإثارة والإغراء، والذي لا تقيده قيود الشريعة سيكون أكثر إثارة وسيطرة على الجمهور من المقيد بقيود الشريعة، وسأذكر لاحقاً بعض النقول عن جملة من أهل الوسط الفني تدل على ذلك. إن محاولات التهوين من مشروعات المفسدين، ومنها الدعوة لإحياء السينما في بلاد عوفيت منها، وادعاء أن السينما ولجت كل منزل وغرفة عبر الشاشة يدل على عدم إدراك تأثير السينما وما تختلف فيه عن شبكات التلفزة ولو كانت الثانية تعرض الأفلام بعد عرضها في الأولى، وبيان ذلك من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن في إنشاء صالات للسينما وعرض الأفلام المحرمة فيها، واجتماع الناس عليها، مع ما يصاحبها من الدعاية في الشوارع مجاهرة بالمنكر، ودعوة إليه، وتهوين وقعه على القلوب، بخلاف من استتر في بيته فلا يعلم الناس ما يشاهد. بل إن فيها تجرئة العامة على المنكرات واستساغتها؛ لأن الناس يعلمون أن رواد السينما يشاهدون الأفلام المعروضة فيها، ومحتواها معلوم من الدعاية لها، وكان أكثر الناس -ولا يزالون- يزعمون أن الفضائيات التي في بيوتهم هي لأجل الأخبار أو الرياضة، ويتبرؤون من مشاهدة ما فيها من رقص خليع وأفلام ماجنة ولو كانوا يشاهدونها، ومعلوم أن المجاهرة بالمنكر شر من الاستتار به. وبقاء الناس مقارفين لبعض آثام النظر وهم يستخفون بها، ويخجلون من غيرهم أن يعلموا عنهم خير من كسر هذا الحاجز، وتجرئتهم على المنكرات، ومن شاهد أحوال البلاد التي انتشرت فيها السينما يعلم معنى هذا الكلام. الوجه الثاني: أن الفرق هائل بين مشاهدة الفيلم في صالة العرض السينمائي، وبين مشاهدته في التلفزة، ودليل ذلك: أنه مع انتشار قنوات الأفلام العربية والأجنبية ووصولها إلى البيوت مجاناً فإن جمهور الصالات السينمائية لم يعزفوا عنها، وهي وجمهورها في ازدياد مطرد سواء في مصر والشام أو في بلاد الخليج المجاورة.

والذي يحضر السينما يستسلم بالكامل لأحداث الفيلم، ولا يشغله عنه شيء؛ لأنه إنما جاء لأجله بخلاف الذي يشاهده خلف الشاشة، ويشغله عنها ما يشغله (¬1). وسأضرب مثلين برجلين من عقلاء الناس، وهما من مشاهير العرب قد فتنوا بالسينما فتنة شديدة، فكيف بمن دونهم من السوقة والرعاع: المثال الأول: الشاعر المشهور أحمد شوقي فقد كان ممن عاصر بدايات السينما وفتن بها فتنة عظيمة، حتى كتب عن ولعه بها بعض السينمائيين، فكتب أحمد بدرخان مقالاً على إثر وفاة شوقي عام 1932م قال فيه: «كان شغوفاً بالسينما يقضي في صالاتها أغلب أيام الأسبوع ... وكان أمير الشعراء يجلس في الصف الأول بقرب الشاشة لقصر بصره ... وكان يحضر الفيلم الواحد أكثر من مرة إن كان متقناً ... ثم ذكر أنه كان ينظم شعره في صالة السينما. ولما كان ابن شوقي الأكبر علي يدرس القانون بكلية الحقوق بجرينوبل كان والده يكتب له يسأله عن صالات السينما عندهم ليضمن أن يشاهد فيلما جديدا كل ليلة» (¬2). وقد يقال: إن شوقي ما أدرك عرض الأفلام في التلفزيون، ولو أدركها لما ولع بها كل هذا الولع، وهذا منقوض بما بعده. المثال الثاني: المؤرخ والسياسي الفلسطيني أنيس صايغ قال في سيرته الذاتية: «ذهبنا مرة طلاب المدرسة الداخليين إلى دار للسينما وكنت أول مرة أشاهد فيها فيلما سينمائيا وكان الفيلم من إخراج نجيب شماس وبطلته زوجته صباح، وكان من أوائل أفلامها واسمه (أول نظرة) ومع أنه كان فيلماً عادياً جداً، وربما دون العادي فقد فتح شهيتي على مشاهدة الأفلام إلى حدّ أني أدمنت على ذلك خلال إقامتي في بيروت وكمبردج حوالي ثلاثين سنة حضرت خلالها ما يزيد على عشرة آلاف فيلم كلها في دور العرض وليس عبر شاشات التلفزيون» (¬3) فهو معاصر ومع ذلك كانت فتنته بالسينما عظيمة مع وجود الأفلام على مختلف القنوات الفضائية العربية والأجنبية وأشرطة الفيديو قبل الفضائيات، ومع ذلك يذهب للسينما ويشاهد عشرة آلاف فيلم وهو الجاد في عمله، وإنتاجه غزير سواء في العمل الصحفي أو في تدوين التاريخ الفلسطيني، وهذا يدل على أنه لا مساواة بين أفلام التلفزة وأفلام السينما. الوجه الثالث: أن دعاة إنشاء صالات للسينما في المملكة لن يتوقفوا عند مجرد عرض الأفلام فيها، بل هي خطوة أولى لمشروعات من الإفساد متعددة لا يعلم مداها إلا الله تعالى، ومن هذه المشاريع: 1 - أن جلب الأفلام السينمائية العالمية أو العربية يسبقه ويصاحبه حملة من الدعايات تمتلئ بها الشوارع ولوحات الإعلانات الكبيرة تحوي صور الممثلين والممثلات، ومن رأى الدعايات في مصر ولبنان وبعض دول الخليج لبعض الأفلام عرف ذلك، حتى إن الدعاية أحيانا تكون بحجم بناية كاملة، وفيها من صور العري والتهتك ما يُخجل الأسوياء، وهذا من أعظم المجاهرة بالمنكرات. ¬

(¬1) ينظر: الفن السينمائي وصراع الأفكار ص 9 - 10. (¬2) النقد السينمائي في الصحافة المصرية ص63 - 64، وأحمد بدرخان أصله كردي، وهو من المخرجين المصريين القدماء، وعاصر نشأة السينما التمثيلية في مصر، ويعده السينمائيون مؤسس السينما الغنائية، وهو أول من نادى بإنشاء معهد للسينما، ودراسته كانت بين فرنسا والجامعة الأمريكية بمصر. (¬3) أنيس صايغ عن أنيس صايغ، دار رياض الريس ط الأولى 2006 ص127، وهو من ألمع الباحثين والمؤرخين الفلسطينيين، ولد في فلسطين عام 1931م لأب سوري قسيس وأم لبنانية، وتزوج أردنية، كان قوميا ثم تحول إلى ناصري، وأسس مركز الأبحاث الفلسطيني الذي يعد أهم منجز ثقافي فلسطيني وتعرض لعدة محاولات اغتيال من اليهود بسبب المركز الذي يرأسه، إلى أن استقال منه على إثر خلاف بينه وبين عرفات.

2 - أن السينما بوابة عريضة للاختلاط كما هو واقع في الدول الأخرى، وإن بُدئت بمنع الاختلاط فإنها ستنتهي بتكريسه؛ إذ الدوافع للاختلاط فيها أكثر من غيرها، سواء في دراستها أو صناعتها أو حضور عرضها. 3 - أن إيجاد صالات لعرض السينما في المملكة يقود إلى الدعوة لصناعتها السينما محليا، وهو ما يسمى بتوطين السينما -ولا سيما في زمن رفع الشعارات الوطنية- وهو ما حصل في مصر التي سبقتنا في السينما وصناعتها، فإنها ابتدأت أجنبية إلى أن جروا الناس إليها جراً وأفسدوهم بها، وجعلوها وطنية بمضامين الأجانب وأفكارهم وأخلاقهم. 4 - أن صناعة السينما تتطلب معاهد وجامعات وأكاديميات متخصصة في ذلك، وبعثات طلابية من البنين والبنات لدراسة ما تحتاجه السينما من تمثيل وتصوير وإخراج وغيره، كما حصل في مصر. 5 - في وقت البطالة وشح الوظائف سيقتنص شياطين السينما كثيراً من الشباب والفتيات لتشغيلهم في صناعة السينما، ويغرونهم بالمال والشهرة؛ ليكونوا طليعة جيش من المفسدين يُقدمون قدوات لأبناء المسلمين وبناتهم كما كان الحال في مصر والشام. 6 - ستكون الحاجة ملحة حين نخرج جيشاً من صُناع السينما -ممثلين ومصورين ومخرجين- لأنْ تتبنى الدولة إنشاء مدن متكاملة لصناعة السينما على غرار المدن الرياضية لما انتشرت الرياضة، ومصر التي يكدح أهلها نهارهم للكفاف بُني فيها مدن سينمائية واستديوهات ضخمة بدل المشاريع التنموية التي تنفع الناس. إلى غير ذلك من المفاسد الكبيرة التي يجرها إقرار السينما؛ ولذا فإنه يتوجب على عقلاء الناس رد السفهاء عن هذا الباب من الفساد والدمار الفكري والأخلاقي الذي يطل برأسه عليهم. الممانعة أصل شرعي ثابت: إن انتقاد الممانعين للمنكر ومراغمة أهله بحجة أن هذا المنكر أمر واقع لا محالة، منهج يعارض منهج الرسل عليهم السلام؛ إذ إن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد، ولم يوافق هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أقوامهم في منكراتهم من الشرك فما دونه بحجة عدم استجابة أقوامهم لهم، فمتى كانت عدم المشاركة في إثم الآثمين، وضلال الضالين سلبية يُنهى عنها بحجة أن المناعة أولى من الممانعة. لقد كانت البنوك الربوية واقعا مفروضا، والبنوك الإسلامية خيالا مرفوضا، وقام العلماء ببيان الواجب تجاه الربا وبنوكه؛ براءة للذمة، وتحذيرا للأمة، رغم أنه في فترات الممانعة يبدو لمن رأى واقع الربا وانتشاره أن هؤلاء المشايخ ينفخون في الهواء، لكن هذه الممانعة وبيان الحكم الشرعي في الربا على مدى سنوات طويلة آتى ثماره، واضطرت كثير من البنوك لما عزف الناس عنها خوفا من الربا إلى إسباغ الصبغة الشرعية على معاملاتها، وتشكيل اللجان الفقهية في معاملات التورق والمرابحة والاستثمار والأسهم وغيرها، وما ذاك إلا لتأثير ثقافة الممانعة التي ينتقدها الشيخ وفقه الله تعالى. ثم إنه لا أحد من القائلين بالممانعة يمنع إيجاد ثقافة المناعة إن قدر القائلون بها على إيجادها، والرفض والممانعة لا تعارض إيجاد المناعة، بل كل يعمل في مجاله، وعند النظر والتحقيق فإن مدافعة المنكر ومقاومة أهله هي من المناعة مع إبراء الذمة، وإنذار الخلق، والإعذار لله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] {الأعراف:164}.

عجبت كثيرا من دندنة فضيلة الشيخ وفقه الله تعالى حول المناعة مع أن الشريعة منعت ما يحرك الغرائز، ويؤدي للفواحش، ولم تبح هذه الوسائل اتكاء على المناعة التي ينبغي أن يتحلى بها أفراد المجتمع، فمنعت من النظر إلى النساء، والاختلاط بهن، والخلوة، وسفر المرأة بلا محرم؛ لأن هذه الأفعال مظنة الوقوع في الفواحش، مع أنه قد يحصل اختلاط ونظر وخلوة وسفر بلا محرم ولا تقع فواحش، بسبب وجود مناعة أو مانع عند الرجل أو المرأة؛ لكن حكم الشريعة أغلبي، فالأصل أن الشريعة فيها منع مع غرس المناعة في نفوس الناس، وهذا المنع يتناول كل ما يثير الغرائز لدى الجنسين، ومعلوم أن عماد السينما منذ نشأت وصارت صناعة وتجارة إلى يومنا هذا إنما هو على إثارة الغرائز، ونشر الفواحش ومقدماتها، فهل من المناعة أن نسمح بالسينما ونسوغها ونحن نعلم ما سيعرض فيها مسبقاً وما تجر إليه من منكرات عدة؟ وهل في باب المناعة المقترح أن نقول للناس لا تحضروا إلا ما كان عرياً عن المحرم؟ أو احضروا وأغمضوا أعينكم إن كان ثَمَّ مشاهد محرمة أم ماذا؟ فالكلام عن المناعة هو كلام مهلهل لا زمام له ولا خطام، وهو إلى التنظير أقرب منه إلى التطبيق. وأما يتخيله البعض في أذهانهم وما يحلمون به من تحسين وجود سينما نظيفة، فهو في الأذهان والأحلام لا في الواقع المشاهد، فلماذا يحاكمون الواقع بما يحلمون به، ويرسمونه في أذهانهم من خيالات لا وجود لها في الواقع؛ ذلك أن مبنى السينما على الإثارة التي يحبها الجمهور، والإثارة غالباً ما تكون فيما يتعارض مع الدين والأخلاق كالعنف والجنس، فالمعادلة: أنه لا سينما مؤثرة بلا إثارة، ولا إثارة إلا في المحرمات، يقول المخرج الألماني الغربي فولكر شليندروف: «يحرك الجمهور دافعان: الجنس والعنف، أصبحنا جميعا بهذا المعنى كمتعاطي المخدرات نتحرك عندما يحركوننا، عندما يجذبوننا أو يبعدوننا، ولا يوجد لدينا انسجام مع ذواتنا» (¬1) أما العنف: فالسينمائيون يرون أن برامج العنف أكثر رخصاً وسهولة في إشعال اهتمام المشاهد، فتزيد عدد المشاهدين، وترفع تقييم البرامج، وقبل ذلك تزيد في إيرادات الإعلانات الدعائية، ويبرر أحد كبار رجال صناعة التلفزيون في أمريكا في شهادة أدلى بها أمام لجنة تحقيق خاصة بمجلس الشيوخ الأمريكي قبل سنوات قليلة، أن زيادة برامج العنف والجريمة هي من الضرورات الفنية (التكنولوجية) التي تتطلبها طبيعة المنافسة المشروعة. . ويقول الناقد السينمائي المصري محمود قاسم: «إن السينما صورة من الواقع وربما تسبقه أحياناً، فلو نظرنا إلى الجرائم البشعة التي تحدث اليوم، وقرأنا صفحات الحوادث سنجدها مليئة بالعنف والدموية، والسينما من جانبها تجسّد تلك الحوادث أو الجرائم بتفاصيلها وأبعادها كافة، والخطورة تكمن في تجسيد السينما للعنف بصورة نافرة أكثر من الواقع ... انعكست السينما الأميركية في أعمالنا، وأثّرت في مخرجين مصريين كثيرين، فانتشرت لغة العنف منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، تحديداً مع أفلام الحركة والمطاردات» (¬2) ويلفت الناقد السينمائي المصري كمال رمزي إلى أن ظاهرة العنف في السينما لها أوجه وأبعاد مختلفة، موضحاً أن بعض علماء النفس والاجتماع قال: «إن تجسيد لذة العنف والقتل على الشاشة يعزز الرغبة في تنفيذ مشاهد العنف لدى بعض المهيئين لذلك السلوك» (¬3). ¬

(¬1) انظر: الفن السينمائي وصراع الأفكار، ص 22 (¬2) جريدة الجريدة الكويتية، عدد 508، 12/ 1/2009م. (¬3) المصدر السابق.

وأما الجنس: فلا يكاد يخلو فيلم أجنبي أو عربي من الإثارة به، حتى جعلوا من الضرورات السينمائية لنجاح الفيلم إلزام الممثلات ببعض حركات الإغراء الجسدي لجذب المشاهدين، وكلام الفنانات في ذلك كثير، تقول الفنانة التائبة هالة الصافي: «أقر وأعترف بأن الحياة التي يسمونها حياة الفن خالية من الفن، وأعترف أنني عشت هذه الحياة .. » (¬1) وتقول الفنانة التائبة هناء ثروت: «وجدت أن الأدوار التي تصل بي إلى النجومية بعيدة كل البعد عن الأخلاقيات التي تربيت ونشأت عليها وأومن بها، فكان علي إما أن أقدم أدوار الإغراء أو أرفض هذه البذاءات تماماً حتى لو كان فيها الأمجاد التي يصورها البعض ... إنني لم أجد الفن الذي كنت أحلم به ولكنني وجدت أشياء أخرى نستطيع أن نطلق عليها أي شيء ما عدا أن نسميه فناً ... والأفلام التي تعرض الآن والتي تحقق النجومية تقدم أعمالاً مبتذلة فأنا أصاب بالغثيان والقرف والاشمئزاز عندما أشاهد مشهداً من هذه الأفلام .. » (¬2) وتاب زوجها محمد العربي أيضا من الفن وقال: «لن نعود إلى عالم الفن مرة أخرى إلا إذا أصبح هناك فن بالمعنى الحقيقي، وأعتقد أن هذا لن يكون» (¬3) وقالت إحدى الممثلات التائبات: «كل فنانة تدعي أن الفن رسالة سامية فأنا أقول أين السمو؟ هل يكون بين الإثارة والعراء؟» (¬4) وتقول الفنانة التائبة شهيرة: «اعتزلت التمثيل لرغبتي في البعد عن الأضواء والشهرة، وأن التقي بالله سبحانه وتعالى بدون دنيا زائفة .. كما أن الرائج الآن في سوق الفن هو اللعب على غرائز المتفرج .. العنف .. الأعمال البلهاء الكوميديا الرخيصة .. وللأسف هذا هو الذي يحظى بالرواج». (¬5) وتقول الفنانة الإماراتية التائبة نورية سليمان: «وأما ما يخص الوسط الفني فهو لما رأيته من ضياع القيم الأخلاقية مما كان له أثر سلبي عنيف على مفاهيمي وقناعاتي، هذا ما دفعني لرفض الاستمرار في هذا الوسط» (¬6) بل إن إحدى عجائز الوسط الفني وهي ممن ينتقد اعتزال الممثلات سئلت عن مشاهد الإغراء فقالت: «ما أقصده بالفن ليس هو ما يحدث الآن داخل الاستديوهات، ويطلقون عليه فناً، إنك تستطيع أن تصفه بأي شيء عدا أن تسميه فناً أو تسمي من يقوم به فناناً» (¬7) فهاهم أولاء أصحاب السينما وصانعوها وأساطينها يعترفون بما في الوسط السينمائي من القذارة، ويثبتون أن الإثارة هي العماد الذي تقوم عليه السينما، وينفون وجود فن نظيف، وبعضهم يجزم بأنه لا يمكن أن يتحقق؛ ولذلك تركوا الفن .. ¬

(¬1) انظر: فنانات تائبات ونجمات الإثارة، عماد ناصف، وأمل خضير، ط: الثامنة، الناشر: المؤلفان. ص33 (¬2) المصدر السابق، ص66 - 68 (¬3) المصدر السابق، ص72 (¬4) المصدر السابق، ص135. (¬5) مجلة الإصلاح عدد 206. (¬6) مجلة الإصلاح عدد 245. (¬7) فنانات تائبات ونجمات الإثارة، ص183.

إن هؤلاء لم يعارضوا الفن لأجل التصوير ولا التمثيل ولا شيء آخر سوى المضمون القذر الذي لا بد منه حتى تنجح الأفلام والسينما، بل إن العجوز التي انتقدت توبة الفنانات اعترفت بأن ما هو موجود داخل الاستديوهات لا يسمى فناً لقذارته. حتى إن كاتباً في مجلة روز اليوسف عرض في دراسة له كثيراً من المشاهد الجنسية في السينما المصرية وهو مؤيد لها ثم ختم دراسته بقوله: «الجنس فى الدراما السينمائية هو ترمومتر لقياس التطرف في المجتمع المصري، ومدى تسامحه وليبراليته، وليس ذلك دعوة لتقديم الجنس لمجرد الجنس، ولكن تعبيد كل المطبات الاجتماعية والمحاذير الرقابية المكبلة للإبداع» (¬1) وأما الضوابط والشروط التي تسوغ بها المحرمات فهي أضحوكة هذا الزمن، وأعجوبة يلهي بها المفسدون أهل الغفلة من الناس، وقد رأينا كيف أن الدساتير التي قامت عليها الدول تخرق، فضلا عن مجرد ضوابط وشروط تشترط فيما هو مستنقع للرذائل، ومجمع للمحرمات، فمن يشترطها؟ ومن يراقب تنفيذها؟ وما يعرض في الصحافة عندنا وفي التلفزة الرسمية ينتهك الدستور الإعلامي الذي أقرته الدولة إبان ظهور وسائل الإعلام، بل صارت أجهزت الإعلام تطعن في المنهج الذي قامت عليه الدولة، واجتمعت بسببه!! فكيف بمجرد ضوابط لن تكون حرمتها ومهابتها حرمة الدستور ومهابته. وفي عام 1947 م صدر قانون للسينما في مصر ينص على: «مراعاة احترام الأديان وعدم التعرض للعقائد .. .ولا يسمح بمناظر الحركات المخلة بالآداب بما فيها الرقص الخليع المغري (¬2). ثم ماذا كان في السينما المصرية بعد صدور هذا القانون خلال ستين سنة غير ما نص على منعه من الإزراء بالإسلام وأهله، والسخرية بأحكام الدين ولغته وعلمائه ودعاته، وأما الحركات المخلة بالآداب بما فيها الرقص الخليع والإغراء الفاتن فلا يكاد يخلو منها فيلم، فالقوانين لا تطبق، والدساتير يخرقها أهل الفساد والانحلال، فكيف بمجرد ضوابط وشروط هي لذر الرماد في العيون؟! ونحن نرى ماذا يعرض ملاك القنوات الفضائية من أبناء بلادنا في فضائياتهم من التهتك والعري، واستعراض أجساد النساء، مما يعيرنا به كثير من العرب والمسلمين من خارج بلادنا، بل يتندر به بعض الأجانب الغربيين علينا؛ لإثبات تناقضنا وازدواجيتنا، فكيف إذا سنحت الفرصة لهؤلاء المفسدين، وسمح لهم بصب ما فضائياتهم من الفساد على أرضنا في قاعات السينما، ثم في استديوهات صناعتها، ومعاهد تدريسها؟! ¬

(¬1) التطور الطبيعى للمشاهد الساخنة، أحمد باشا، روز اليوسف المصرية في 5 يناير 2008. (¬2) ينظر: الهوية القومية في السينما العربية ص32.

ودعاة السينما في مصر يعترفون بعد مضي قرن على بدايتها أن قضايا مصر الحيوية لم تأخذ حظها من السينما، وأنها كانت سينما عابثة، وأعظم ما أزعجهم توبة عشرات الممثلات من عفن السينما والتمثيل، والتزامهن بالحجاب (¬1). وهذه نصيحة تقدمها من سلكت هذا الطريق المظلم سنوات طويلة حتى صارت نجمة سينمائية مشهورة ثم تابت منه، وهي الممثلة المصرية نورا فتقول: «فن هذه الأيام فن مبتذل فيه إسفاف ولن يكون رسالة سامية مطلقاً فهو بعيد كل البعد عن الإسلام ... إني أنصح كل فتاة تتخذ من هؤلاء الفنانيين قدوة لها، أو تفكر في الزج بنفسها في وسط تلك الأجواء العفنة أن تقف طويلا وتمعن النظر في أحوالهم، وأقوال التائبين منهم، وأن لا تغتر بما هم فيه من المظاهر الجوفاء، وبريق الشهرة الخادع، فما هو إلا كظل زائل أو سراب كاذب سرعان ما يزول فتكشف الحقيقة» (¬2). فهل نبدأ من حيث بدأ الآخرون، وقد سلكوا طريقا مظلما خلال قرن لم ينبت لهم إلا علقماً وحنظلا، فهجره كثير من بناتهم لما ذقن حلاوة التوبة، وعلمن أنهن كن لعباً في أيدي اليهود والنصارى ووكلائهم، ولماذا يُسمح في بلادنا المباركة لأقلية مفسدة أن تفرض فكرها المنحرف على جمهور الناس؟ فأين عقلاء قومي أين؟! [رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ] {الأعراف:155} ¬

(¬1) جاء ذلك في العدد الذي خصصته مجلة روز اليوسف المصرية في 5 يناير 2008 عن السينما المصرية في عيدها المئوي، ومن المضحك أن كثيرا من الكتاب العلمانيين في مصر من ليبراليين وقوميين واشتراكيين شنوا حملة شعواء على توبة الممثلات، وتنادوا بإزالة الخطر الداهم على السينما المصرية، وزعموا أن توبة الفنانات اشتريت منهن بأموال تصل إلى الملايين يدفعها لهن تجار من الخليج ليعتزلن الفن، ويلتزمن بالحجاب، وجوبهت إحداهن بهذا الكلام على إحدى الفضائيات فبكت من عظم الفرية، وقالت باللهجة المصرية: هم بيدفعوا للي بيخلع مش للي بيلبس، وقد أوجزت وأصابت؛ فالناظر لشبكات التلفزة التي يملكها تجار الخليج يعلم حقيقة قول هذه الممثلة التائبة، تقول الممثلة شمس البارودي -وهي من أوائل من تابوا من السينما وأهلها-: «أفلامي التي تبرأت منها وأعتبرها ذنباً سأظل طيلة عمري أبكي ندماً عليه وعلى اقترافه ... بدءوا يعرضون هذه الأفلام بكثرة ملحوظة لدرجة أنه بعد حجابي واعتزالي الفن بشهور كانت جميع دور العرض في مصر، بل وفي البلاد العربية أيضاً تعرض الأفلام التي تبرأت منها تبرؤ الإنسان الطاهر من الرذيلة .... حاول عشرات المنتجين أن يعيدوني إلى التمثيل .. أعطاني بعضهم شيكات على بياض، وعرض علي بعضهم أرقاما خيالية ما كنت أحلم بها، بل إن ناقداً فنياً كبيراً قد اتهمني بأنني دفنت نفسي ودفنت جمالي وأنوثتي ودلالي وشهرتي وضحك علي أصحاب الذقون!! ولكني أقول لهم ولغيرهم أبداً لن أعود إلى الفن .. لن أعود إلى الشيطان الذي سرق مني كل شيء» أهـ فنانات تائبات ونجمات الإثارة، ص57. والعجيب في الأمر أن أبالسة الإفساد والسينما في مصر أقنعوا بعض مشايخ الضلالة بأن يعظوا التائبات ويقنعوهن بالعودة للسينما باعتبارها باباً من أبواب الدعوة والجهاد وتثقيف المجتمع، كما انتزعوا منهم فتاوى بأن السينما والتمثيل فيها لا يتعارض مع الشرع وجعلوها حاجزاً للممثلات الباقيات في السينما تحجزهن عن التوبة من هذا الإثم المبين، وبهذه الفتاوى المضلة عاد بعض من اعتزلن الفن والسينما إليها مرة أخرى، وأذكر أن إحداهن سئلت عن التوبة من الفن والسينما في إحدى المجلات المصرية، فقالت: أتوب من ماذا؟ الفن عبادة أتعبد بها لله تعالى!! ويحمل إثم هؤلاء النسوة من أضلهن من مشايخ الهوى والضلالة، نسأل الله تعالى العصمة والهداية لنا وللمسلمين [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ] {البقرة:79} (¬2) أسرار في حياة التائبات، عبد المطلب حمد عثمان، دار طويق للنشر والتوزيع، الرياض، ط: الثانية، ص112.

مفهوم الشرعية الدولية وموقف الإسلام منه

مفهوم الشرعية الدولية وموقف الإسلام منه عبد العزيز الجليل الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: فإن من أخطر ما يعانيه المسلمون اليوم ما يقوم به أعداؤهم من الكافرين والمنافقين من التلبيس والتضليل حتى أصبح ذلك سمة من السمات البارزة في واقعنا المعاصر. وقد بلغت خطورة هذا الأمر أن انخدع به بعض المنتسبين للعلم فضلاً عن العامة والدهماء، وذلك بما يقوم به الملبسون الماكرون من تلاعب بالمصطلحات وقلب للحقائق وعرضها في قوالب مزخرفة وطرحها في وسائل الإعلام المختلفة بكثافة وتكرار حتى ألفتها الأسماع وصار يرددها كثير من أبناء المسلمين عن خبث من بعضهم أحياناً وعن جهل وتغفيل من البعض الآخر. ومما زاد الأمر خطورة غفلة كثير من أهل العلم عن التصدي لهذه التلبيسات التي يمس كثير منها صلب العقيدة وأركان التوحيد وهوية الأمة وأخلاقها وإن لم يقم أهل العلم بواجبهم في رفع هذا التلبيس وبيان سبيل المجرمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. ومن المصطلحات الكفرية الخطيرة والتي تعمل أجهزة الإعلام الدولية ويتبعها على ذلك كثير من إعلام البلدان الإسلامية ممن لا خلاق لهم والتي يجب على أهل العلم فضحها وتعريتها وتبيين خطرها على العقيدة مصطلح (الشرعية الدولية) حيث يطرح اليوم بكثافة وينادى بترسيخ هذا المصطلح الوثني في أذهان الناس وذلك بمناداتهم، تارة (باحترام الشرعية الدولية) وتارة (بتحريم الخروج على الشرعية الدولية) ومرة ثالثة (بالالتزام بقرارات الشرعية الدولية). فماذا يعني هذا المصطلح الطاغوتي؟: إن (الشرعية الدولية) ترمي إلى الاحتكام والالتزام بشرع وضعي وضعته الدول الكبرى الكافرة يحكم علاقات الدول في هذا العالم وفقاً لتشريعاتهم ومعاييرهم وأعرافهم ومصالحهم، وهذا الشرع الوضعي هو تلك القوانين التي وضعتها الدول الكافرة التي أسست منظمة الأمم المتحدة بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية - أمريكا وبريطانيا وروسيا - وانضم إليهم بعد ذلك فرنسا والصين وصاغت قوانينها لمصالحها ومصالح حلفائها في تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ فوضعت ما سمته بميثاق الأمم المتحدة لتكون له المرجعية الأولى في كل قضية من قضايا العالم حيث تستمد (الشرعية الدولية) منه الأحكام والقرارات وتستند إليه في الخلافات والنزاعات والإجراءات. وأصبح العدو يستخدم هذا المصطلح في تمرير أي شيء يريده على دول العالم ولاسيما دول المنطقة الإسلامية، فتحتل بلدان المسلمين وتغزوها باسم (الشرعية الدولية)،وتؤيد هذا التيار أو ذاك باسم (الشرعية الدولية) وتحارب الدعاة والمجاهدين باسم (الشرعية الدولية) ومن خرج عن ذلك فهو خارج عن الشرعية الدولية!! ومن أكبر الأمثلة على ذلك تكريس الاحتلال اليهودي في فلسطين باسم الشرعية الدولية، ومحاصرة العراق وغزة حتى مات ما يقارب المليون طفل باسم الشرعية الدولية، ومن آخرها مذكرة المحكمة الدولية باعتقال الرئيس السوداني ومحاكمته بوصفه مجرم حرب، أما الذين أحرقوا غزة والعراق فدعاة سلام وديمقراطية. الحكم على هذا المصطلح الطاغوتي في ضوء العقيدة الإسلامية: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. ولذا قبل أن نبين حكم الله عز وجل في هذا المصطلح يجب أن نتعرف على أهم ما يقوم عليه وهو ما أشير إليه سابقاً في أنه يستند إلى ميثاق هيئة الأمم المتحدة وقوانينها التي أذعنت لها كل دول العالم بما في ذلك دول المنطقة الإسلامية. فما هي أهم بنود هذا الميثاق الذي يتحاكم إليه دول العالم ويسمى بالشرعية الدولية؟:

إن ميثاق الأمم المتحدة طاغوت وقانون ليس كأي قانون وضعي عادي وليس هو مجرد وثيقة تأسيسية لمنظمة الأمم المتحدة، فقد جعله واضعوه أكبر من ذلك بكثير، إن خبراء القانون الدولي وفقهاؤه يعلنون بوضوح وصراحة، أن الميثاق هو أعلى مراتب المعاهدات الدولية، وأعظم قواعد القانون الدولي مكانة! ولذلك نصت المادة (103) من هذا الميثاق نفسه على أنه: (إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق). ومعنى ذلك، أنه لا يجوز لأي دولة ملتزمة بهذا الميثاق أن تبرم أي اتفاق دولي أو تختار وتلتزم بشرع بينها وبين دولة أخرى تتعارض أحكامه مع القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، ولو كان شرع الله العزيز الجبار! ومعلوم أنه لا يمكن لأي دولة الانتساب لعضوية الأمم المتحدة حتى تعلن التزامها واحترامها لهذا الميثاق وتسلم له تسليماً إذ إن إجراءات الانضمام للأمم المتحدة تتلخص في أن تقدم الدولة التي ترغب في الانضمام للأمم المتحدة طلباً بذلك إلى الأمين العام للمنظمة الدولية ويكون ذلك الطلب مصحوباً بإعلان قبول الالتزام بميثاق الأمم المتحدة. وكذلك الأمر بالنسبة للفصل من الأمم المتحدة، فإن "المادة السادسة" من الميثاق تنص على أنه يجوز للجمعية العامة أن تفصل عضواً من الأعضاء إذا أمعن في انتهاك مبادئ الميثاق. هذا البند قد يطبق على أي أحد إلا الدول الكبرى التي وضعت الأمم المتحدة لرعاية مصالحها أصلاً، ولذلك تتمتع بحق الفيتو الذي يضمن لها ذلك، وعلى رأسها أمريكا التي ترعى مصالح دولة اليهود من خلاله، بل إن الميثاق وأممه المتحدة قد أمست شرطياً يحرس مصالح هاتين الدولتين على كل صعيد، ولا يجادل في هذا حتى العميان. وعلى كل حال، فهيئة الأمم المتحدة منظمة خاضعة للنفوذ اليهودي الصليبي منذ تأسيسها، ومن يراجع أقسامها وإداراتها وأسماء القائمين عليها يعرف هذا معرفة اليقين (¬1). وهي التي أشرفت على تقسيم فلسطين عام 1947 وطعن هذه المنظمة وطعن إداراتها ومنظماتها المختلفة في دين الإسلام وشرائع القرآن بيِّن واضح مكشوف، واسمها (الأمم المتحدة) من أعظم الأدلة على اتحاد وتناصر وتعاضد وتعاون الدول المشتركة فيها. والذين ينادون بالشرعية الدولية والالتزام بها واحترامها وتنفيذ قراراتها يتعامون عن هذه الحقائق الدامغة. ويبين الدكتور العلياني في كتابه (أهمية الجهاد) هذا الأمر بياناً واضحاً حيث يذكر بعض بنود ميثاق هيئة الأمم الذي تستند إليه الشرعية الدولية نختار هنا بعضها .. يقول حفظه الله تعالى: (جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: (أن غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ........... ). إن هذه العبارة اعتراف وإقرار بحرية الإلحاد وعدم مجاهدة المرتدين وعدم إفزاع الكفار ونعوذ بالله من حقوق هذه نتائجها. • وجاء في المادة الثانية (إن لكل إنسان التمتع بكافة الحقوق والحريات دون تمييز كالتمييز بسبب الدين .... ) قلت: إن الله لم يجعل المؤمن كالكافر في كل شيء بل للمؤمن معاملة وللكافر معاملة ومن راجع أحكام أهل الذمة في الإسلام عرف الفرق بين حقوق المسلم وحقوق الكافر ولكن أين المتدبرون لكلام الله وكلام رسوله. • وجاء في المادة الثامنة (لكل شخص أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية ... إلخ) ¬

(¬1) انظر للتعرف على هذه الأسماء كتاب (أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية) للدكتور علي العلياني.

قلت: لا يجوز للمسلم اللجوء إلى المحاكم التي لا تحكم بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: (إِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]. • وجاء في المادة الثامنة عشرة (أن لكل فرد أن يغير عقيدته). • وجاء في المادة الحادية والعشرين (إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة). قلت إن اختيار أهل الحل والعقد - من العلماء والأمراء ورؤوس الأجناد المتمسكين بالكتاب والسنة - هو الذي يبنى عليه تعيين الخليفة لا قول دهماء الناس وعجائزهم والحكومة مقيدة بشرع الله ولا يجوز لها الحكم بالهوى أو بالجهل. فلا يتلقى المسلم التشريع إلا من الله. • جاء في المادة السابعة والعشرين (لا يصح بحال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة). قلت: بل يجب مخالفة أكثر أغراض الأمم المتحدة لأن مخالفة أصحاب الجحيم هو اقتضاء الصراط المستقيم وبهذا يظهر أن الخضوع لأنظمة هيئة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثل الخضوع للقانون الروماني أو الخضوع للياسق الذي يتحاكم إليه التتار فهي طاغوت يشرع للبشر من عند نفسه نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم الحق ويهدي الأمم المتحدة إلى الإسلام. • وجاء في مقاصد هيئة الأمم المتحدة ومبادئها مايلي: 1 - حفظ السلم والأمن الدولي وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم لإزالتها ولقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم وتتذرع بالوسائل السلمية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها. 2 - إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها وكذلك اتخاذ التدابير الملائمة لتعزيز السلم العام. 3 - تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء. 4 - جعل هذه الهيئة مرجعاً لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة. أما المؤامرة الرهيبة التي تمارس في هيئة الأمم ضد حكم الجهاد فيدل على ذلك ما شرعته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة إذ جاء في تشريعاتها الطاغوتية ما يلي: • في المادة الأولى أوجبوا على كل دولة مراعاة أحكام القانون الدولي. وهذا غير جائز فإن الواجب على الدولة المسلمة أن تراعي أحكام القرآن لا أحكام القوانين الموضوعة من البشر. • وفي المادة الثانية: أوجبوا على الدول تسوية النزاع سلمياً مع مراعاة أحكام القانون وهذا إيجاب ما لم يوجب الله بل الدولة المسلمة تخير الدولة الكافرة بين خصال ثلاث أما الإسلام أو الجزية مع الصغار أو القتال إلا في حال ضعفها فلها أن تهادنها هدنة مؤقتة كما في صلح الحديبية. • وفي المادة الخامسة أوجبوا على الدول عدم الاعتراف بأي زيادة إقليمية تؤخذ عن طرق الحرب وهذا غير جائز في الإسلام بل ما فتحه المسلمون عن طريق الجهاد فهو ملك من أملاكهم. • وفي المادة الثامنة أوجبوا على الدول معاملة الأشخاص الخاضعين لحكمهم على مقتضى حقوق الإنسان التي أعلنتها الأمم المتحدة ومنها حرية الإلحاد ومساواة المسلم بالكافر وهذا لا يجوز في الإسلام.

• وفي المادة التاسعة أوجبوا على الدول الخضوع لكل المعاهدات الدولية وكل ما كان من القانون الدولي العام ولا يحل للمسلم الخضوع إلا لأحكام القرآن والمعاهدات لها أحكام في الشرع الإسلامي تخالف ما يوجد في القانون الدولي فلا يحل للمسلمين أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. • وفي المادة العاشرة أوجبوا على الدول عدم اللجوء للحرب مطلقاً إلا في حال الدفاع إذا اعتدت قوة مسلحة على أراضيها. وهذا إسقاط لأحد أنواع الجهاد وهو جهاد الابتداء والطلب. وبهذا يظهر أن ما شرعته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة مناقض لحكم الجهاد في الإسلام. سلك الله بنا سبيل الهدى والرشاد. ورد الأمة الإسلامية إلى مصدر عزها ورفعتها كتاب رب العالمين وسنة الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه أجمعين.) (¬1). الحكم الشرعي في هذه المواثيق والقوانين الدولية: وبعد الوقوف على أهم بنود الشرعية الدولية المنبثقة من قوانين هيئة الأمم المتحدة نصل إلى معرفة حكم الله فيها: يقول الله عز وجل: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 256: [ويقول سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) [النحل:36] , في هاتين الآيتين يبين الله عز وجل أن التوحيد والعبودية الحقة لله عز وجل لا تصح إلا بالكفر بالطاغوت واجتنابه وعبادة الله عز وجل وحده. بل قد قدم الكفر بالطاغوت على الأمر بالإيمان بالله عز وجل لأن الإيمان بالله لا يصح إلا بالكفر بالطاغوت، والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى عند آية الكرسي: (فالطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، يقال (طغى الماء) إذا ارتفع مده عن قامة الإنسان بحيث يغرقه، فكل من تجاوز حده الذي حده الله له من وجوب عبادته سبحانه والوقوف عند حدوده بالتزام شريعته، فتجاوز ذلك وسعى في أن يكون معبودا لا عابدا بأي نوع من أنواع المكر والاحتيال أو القهر والإرهاب أو التشريع في التحليل والتحريم والتقنين، فهو طاغوت يجب الكفر به ببغضه وعداوته والابتعاد عنه وبغض أحبابه وأعوانه، ولا يصح الإيمان بالله قطعا إلا بالكفر بالطاغوت وكل من يدعوا إلى مبدأ قومي يلتقي المسلم فيه مع الطوائف الضالة أو إلى مذهب مادي من المذاهب اليهودية فهو من الطواغيت الذين يجب الكفر بهم وبغضهم وعداوتهم والابتعاد عن همزاتهم، فمن حقق الكفر بالطاغوت بجميع أنواعه، وحقق الإيمان بالله بحصر المحبة له ومن أجله وفي سبيله، وبغض كل ما يبغضه الله من أي شخص أو عمل (فقد استمسك بالعروة الوثقى) (¬2) أ. هـ ¬

(¬1) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ص (445 - 459) باختصار وتصرف يسير. (¬2) صفوة الآثار والمفاهيم في تفسير آية الكرسي. المصدر: شبكة القلم الفكرية

وهل اتباع طاغوت الشرعية الدولية وطاعة قوانينه إلا إيماناً به وقد أمرنا أن نكفر به، قال الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) [النساء:60]. يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية (هذه الآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواها من الباطل وهو المراد بالطاغوت هاهنا) اهـ. ويقول ابن القيم في إعلام الموقعين: (من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه) اهـ. ويقول الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان:) وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت) اهـ من تفسير سورة الشورى. إن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله عز وجل هما ركنا كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وهو دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم على الصلاة والسلام الذي أمرنا الله عز وجل باتباعها وذلك في قوله سبحانه (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4]. وبعد: فإنه والله لزمن غربة هذا الزمان الذي تغيب فيه هذه الأصول على وضوحها. لقد آن الأوان أن يترك العلماء عزلتهم التي يعيشون فيها عن واقع الأمة وما يحاك لها من التلبيس حيث أراد أعداؤها من الكفار والمنافقين أن يغيبوا أهل العلم ويقصوهم عن بيان هذه المحكمات وغيرها من القضايا والنوازل التي تنتظر الأمة قول أهل العلم فيها. فهل يعي أهل العلم دورهم والأمانة الثقيلة الملقاة على كواهلهم؟ (وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 178]. نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يبصرنا سبيل المؤمنين ويرزقنا اتباعه وسبيل المجرمين ويلهمنا اجتنباه والحمد لله رب العالمين.

القراءة التي تصنع التخلف

القراءة التي تصنع التخلف يوسف بن سعيد آل عمر هل تصنعُ القراءة التخلُّف؟ وهل حرفة العلماء تورث الجهل؟ وهل غُنْيَةُ النُّبلاء تجلب الوهم؟ كيف وقد كانت القراءة أوَّل خطابٍ تكليفيٍّ شرعيٍّ في دين الإسلام، مُذ رُتِّلتِ الآيات على رأس جبل في الحجاز يُطلُّ على البشريَّة كلها من تحته؟ أيُمكن تصوُّر البرودة من النَّار، أو التماس الحموضة في الأَقَاحِ؟ .... كلُّ ذلك غير مُمكن في عقل العقلاء وعُرْف العارفين. غير أنَّه في واقع اليوم مُشاهَدٌ محسوسٌ عند بعض المتثقِّفة من الشباب، وهذا والله، إنَّه لداء ما له دواء، إلاَّ الضَّرب بمُجَلَّدَين من "سير أعلام النُّبلاء" مرتين يوميًّا، وعند اللُّزوم. في حانةٍ كـ "نساء على خط الاستواء"، وجنونٍ كما في "العصفورية" - تنبعث أَنْتَانُ الكَتَبَة إلى العقل والذَّوق، فيُورث بَرَصًا وجُذَامًا - أجارنا الله وإياك - وقد قال الهادي: ((فِرَّ من المجذوم فِرَارَك من الأسد))؛ صلَّى الله عليه وسلم. والتخلُّف حين يستشري في عقليَّة المرء، فإنَّه لا يدعه إلاَّ مُثلة يتندَّر بها الظُّرفاء، وأضحوكة تلوكُها الألسنة، خُصُوصًا إذا كان سَنَدُك عن عبدالله ثابتًا، في جامعه الضَّعيف: "الإرهابي عشرين"، أو كان في مجالس إملائك عن "أبي عبدالله تركي الدَّخيل"، وحين أقول ما أقول، فإني ألفِتُ نظرك إلى قحَة وَوَقَاحَة أَزْكَمَ بها هؤلاء أنوفَنا؛ إذ يُحدثنا بعضُ مَن لا يُسمَّى عن قِصَّة أخته لما حاضت، وعمَّن يُحذرنا من خطر "الصَّحوة" المتمثل في إلجائنا إلى تعاطي المُخدرات وتناول الحشيشة. من الناس مَن إذا قرأ للسَّلف، قرأ "للحلاَّج"، ونظر في آثار أرسطو، وإن كان ذا اطلاع، فلا يَعْدو أن تراه ممسكًا بيده بكتاب: "ألف ليلة وليلة". فإذا قرأ للخَلَفِ، رأيته متقلبًا بين صفحات "الكراديب"، ومُتَرنِّحًا في "الشميسي"، فاسقًا في "فسوق"، لا يعرفُ من الدُّور إلاَّ "المتردية"، و"النَّطيحة"، و"ما أكل السبُع"، وكم رأيتُ في معرض الكتاب من مُتعجرف جَهُول! فتسمع سائلاً يسألُ عن "العدامة"، وترى جاهلاً يسألُ عن "ريح الجنة"، حتَّى كأنِّي بأحد مَن هو موجود يسمع طَلَبَه عند البائع، فيقول: "ريح الجنة ليس في دار الساقي، ولكنَّها في الميادين يا صاح ... ". وهكذا، ترى السطحيَّة والتخلُّف بادِيَيْن على أولئك المخدوعين، مِمَّن صرف وقته فيما لا ينتفع به الذَّكي، وينبهر بانبهاره - كالفراشة - الغبي. ومن نَظَر في هذه النِّتاج الضحل من الورق والأحبار، يعلم أنَّ لهذه التفاهات سوقًا رائجة، وتِجارة رابحة، وهذا ما يُنادي علينا بالجهل من مكان بعيد؛ لأنَّ هذا المعروض في الرُّفوف لا بُدَّ أنَّ له مشتريًا، وهذا ما ينذرنا بطامة كُبرى تعيش في عقول مَن نعرفهم من حولنا. ودائمًا ما يدعو الدُّعاة والمفكرون إلى القراءة والاطِّلاع على الكُتُب؛ كي يُرفع الجهل وتزكو النَّفس، ونعود لأمجادنا التي ننشدها، فإذا نَحن بطامة هذا النَّوع من الكُتاب، كأنَّ في ذلك قطعًا لطريق عودتنا لما نصبو إليه بتوفير الغَثِّ والمهين، وحجب الرَّائق الثَّمين، تمامًا كما حدث في معرض الكتاب الذي مضى. والعجبُ كل العجب من إدارة ذلك المعرض، كيف أنَّها تَدَّعي الحرية في عرض كل ما يناهض ثقافتنا، وتَدَّعي الانفتاح والثِّقة في النَّفس، غير أنَّها تحجب وتمنع كتبًا مما لا يروق لها. وإنَّ القارئ الذي يقرأ مثل هذه النِّتاجات الفاسدة، لا بُدَّ له من حذر على ذوقه، وصونٍ لفكره، فلا يسهب في قراءة مثل هذه الكتب، إن لم يكن بحاجة لها مِمَّن يهتمون بهذا المجال والرَّدِّ عليه وكشفه، أو الاطلاع عما يدور حوله مما لا بُدَّ له من معرفة نُبذة عنه، فإنَّ ذوق الإنسان وفكره أكرمُ عليه من مراهقات أولئك النَّفر، فأحدهم نَسِيَ كتابة مراهقته ونزواته على الجدران، فعَمِدَ إلى بيروت ولندن، فكتبها في كُتُب ذات ورق جذَّاب، وحُلَّة قشيبة، وقال: "هاؤم اقرؤوا كتابيه". ولكن: وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلاَّ سَيَفْنَى وَيَبْقَى الدَّهْرَ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ المصدر: موقع الألوكة

الو حدة الإسلامية ضرورة دينية ودنيوية

الو حدة الإسلامية ضرورة دينية ودنيوية د. أحمد بن سعد ين غرم الغامدي إن طموحات الوحدة الإسلامية طموحات واقعية وهي حقوق مشروعة لها لا يجوز لأحد مصادرتها أو الوقوف في سبيل تحقيقها كائناً من كان، كما قال الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً). (آل عمران / 103)، وهي واجبة عليها لا يجوز لها التخلي أو التقاعس عنها مهما كانت المعوقات كما هو معلوم أن الأمر للوجوب والعبرة بعموم اللفظ هنا لا بخصوص السبب، لا سيما وهذه الوحدة الإسلامية كانت واقعاً تنعم به الشعوب الإسلامية أزمنة مديدة على تعاقب الدول التي حكمتها مع تفاوت في تطبيقاتها إلى أن جاءت معاهدة لوزان واتفاقية سايكس بيكو المشؤمتان اللتان حرمت الأمة من الدولة الواحدة والهوية الواحدة والوطن الواحد منذ ما يقارب المائة سنة. والسؤال هنا هل الشعوب الإسلامية الآن تطمح إلى الوحدة الإسلامية أم لا؟ الواقع أنه برغم ما بذلته الدول المحتلة من قتل وتشريد ونهب، وبرغم ما بذلته المنظمات المصاحبة لها من تغريب وتفريق، وبرغم ما تبذله الحكومات العميلة للاحتلال بعد خروجه من تغييب لثقافة الوحدة الإسلامية بما تملكه من آلة هدم فكري وإعلامي عبر إحياء النعرات العرقية والطائفية والقطرية وغيرها من الوثنيات، إلا أن الشعوب الإسلامية لا تزال تعبر عن إصرارها على الوحدة الإسلامية في صور كثيرة من أخرها ما تمثل في رفض للغزو الصليبي على العراق، والصهيوني الصليبي على غزة حيث تنادت جموع الشعوب الإسلامية بالنصرة والمطالبة بالوحدة من المحيط إلى المحيط. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا من الذي حال بين الشعوب الإسلامية وتحقيق الوحدة بينها في كل النواحي؟ والجواب الصريح أن أعظم حائل بينها وبين ما تريدهما العدوان اللدودان: الأول: أنظمة الحكم التي لا تمثلها ولا تمثل طموحاتها. والثاني: الدول المحتلة والمهيمنة على البلاد الإسلامية. والتي تمثلت محاربتهما للوحدة الإسلامية في الآتي: 1.ما تمليه تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة والمهيمنة من تخويف للشعوب الإسلامية من بعضها لبعض باسم الطائفية والهيمنة الأحادية والاستئثار بالمصالح وغيرها. 2.وما تبثه تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة والمهيمنة من تشويه وتحقير للشعوب الإسلامية الأخرى. 3.ما تقوم به تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة والمهيمنة من ضرب للحركات والأحزاب الإسلامية التي تتبنى مشروع الوحدة الإسلامية كمبدأ وهدف استراتيجي. 4.وما تخدر به تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة والمهيمنة مشاعر الشعوب الإسلامية بالعمل على إنشاء مؤسسات خداج لا روح فيها مثل: - منظمة المؤتمر الإسلامي. - ورابطة العالم الإسلامي. - وجامعة الدول العربية. - والمجالس والاتحادات المتهالكة التي أصبحت مثاراً للسخرية والضحك والعار. إن هذه الأنظمة عامل فرقة وهدم للوحدة الإسلامية قد بان بجلاء ووضوح في هدم كل عمل جاد يوحد الأمة ويلم شملها، تجاوباً مع مصلحها في البقاء جاثمة على صدور تلك الشعوب، وتناغماً مفضوحاً مع رغبات القوى الغربية والشرقية المحتلة والمهيمنة على بلاد المسلمين الناهبة لخيراته ومقدراته، بل قد ذهب بعض تلك الأنظمة الفاسدة إلى التماهي والتمالي مع العدو الصهيوني المجمع على عداوته ضد المستضعفين في غزة، وأما الدول المهيمنة على بلاد المسلمين فلا غرابة في صنيعها جرياً على مبدأ فرق تسد. لكن السؤال العملي المهم هو كيف المخرج من هذه الأزمة التي تقف حجر عثرة في طريق طموحات الأمة في تحقيق وحدتها؟.

والجواب أن ذلك ممكن وليس بالمستحل مع شدة صعوبته، فهذه المهمة الشاقة قد قامت بها مع تفاوت ملموس؛ كثير من شعوب الأرض، فعلى سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية ألم تكن مستعمرة وولايات متفرقة وهي الآن أكبر قوة في العالم!! ودول الإتحاد الأوربي ألم تكن دولاً متناحرة متحاربة إلى عهد قريب وهاهي الآن بيت واحد!! وهكذا في الهند والصين وغيرها وهكذا الشعوب الإسلامية وحدتها ممكنة إذا أخذت بالأسباب الصحيحة الموصلة لها ومنها الأتي: 1.الرغبة الصادقة في تحقيق الوحدة الإسلامية. 2. العزيمة القوية في تحقيق الوحدة الإسلامية. 3. حشد الطاقات العلمية والفكرية والسياسية والاقتصادية من قادة العلم والرأي في الأمة لمشروع الوحدة الإسلامية تعزز مفهوم الوحدة الإسلامية والتبشر به. 4. القيام بعمل مؤسساتي يتناسب ومهمة إعادة الوحدة الإسلامية من جديد: -إنشاء مراكز بحث وتأصيل في كل مدينة وبلدة تؤصل مفهوم الوحدة وترد الشبه عنها وتنشر ثقافتها. - دراسة الواقع الإسلامي والعالمي وإمكانية العمل فيه. - تفعيل المنظمات الحكومية التي يمكن أن تكون أداة إيجابية كمنظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي وغيرها. - إيجاد فرص وحدوية واستثمار وقائع. - حشد الرأي العام وتأهيله كقوة ضاغطة على الأنظمة للعمل باتجاه الوحدة الإسلامية باعتبارها ضرورة قصوى. ولعل هذا القدر من الأسباب هو ما لا يسع المسلم تركه كمرحلة أولى، والله المستعان. المصدر: شبكة القلم الفكرية.

علماء الأمة الإسلامية والدور المنتظر منهم

علماء الأمة الإسلامية والدور المنتظر منهم د. أحمد بن سعد بن غرم الغامدي الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإنه من المسلمات شرعاً وعقلاً أن علماء الأمة الإسلامية هم خيارها عند الله تعالى، لما عرفوا من الحق كما قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). [المجادلة/11]، ولما لهم من السمع والطاعة على الأمة باعتبارهم على الراجح هم ولاة أمرها كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) [النساء/59]، قال البغوي ـ رحمه الله ـ في تفسيره اختلفوا في: {أُولِي الأمْرِ} قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم: (هم الفقهاء والعلماء الذين يعلِّمون الناس معالِمَ دينهم)، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، ودليله قوله تعالى: "ولو رَدُّوُه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطٌونَهُ منهم" (النساء -83)، (ج 2 / ص 239)، وما دام الشأن كذلك فإنه يجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم لما أخذ الله عليهم من البيان وعدم الكتمان، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ). [آل عمران/187] من أجل ذلك كله كان العلماء قديماً وحديثاً محط أنظار الأمة الإسلامية، الذين يؤمل فيهم ما لا يؤمل في غيرهم من النصح للأمة ورعايتها وحمايتها وتفوقها. ـ فمن هؤلاء العلماء؟ ـ وما درجاتهم؟ ـ وما صفاتهم؟ ـ وما هو الدور المنتظر منهم؟ ـ وكيف يمكنهم القيام به؟ هذه أسئلة مهمة للغاية الإجابة عليها بصدق وبجلاء تسهم بقوة في النهوض بالأمة الإسلامية من جديد، وإعادة دولتها ووحدتها ودورها في الحياة بعامة، كما كانت من ذي قبل. أولاً: من العلماء؟ العلماء هم الذين تعلموا العلم وأتقنوه وعقلوه، وعملوا به وعلموه، العدول الذين استقاموا لله تعالى بالدين والمروءة الذين يخشونه ولا يخشون أحداً سواه.

والمقصود بالعلم هنا علم الكتاب العزيز والسنة النبوية من حيث معرفة الأوامر والنواهي والحلال والحرام والكراهة والاستحباب. فكل من عقل عن الله تعالى ذلك العلم وامتثل أوامره واجتنب مساخطه، وعلم من سأله، وأفرد الله تعالى بالخوف منه على وجه التعظيم له فهو العالم حقاً. وفي تفسير ابن كثير - رحمه الله ـ (ج 6 / ص 545)، قال الحسن البصري: العالم مَن خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سَخط الله فيه، ثم تلا الحسن: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ). [فاطر/28].وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري، عن ابن وهب، عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن صالح المصري: معناه: أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية، وأما العلم الذي فرض الله، عز وجل، أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة، وما جاء عن الصحابة، رضي الله عنهم، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويل قوله: "نور" يريد به فهم العلم، ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري، عن أبي حيان [التميمي]، عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض. والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض. والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل. وفي تفسير القرطبي - (ج 14 / ص 343ـ 344)، قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: (كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلاً. وقيل لسعد ابن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها). ومن هذا كله يتلخص لنا أن شروط العالم وهي: 1. العدالة، ونعني بها استقامة الدين بالسلامة من الفسق وخوارم المروءة. 2. الضبط، ونعني به ضبط مسائل العلم وفقهها بعيداً عن الخطأ. 3. العمل بالعلم وامتثاله باطناً وظاهراً. 4. تعليمه لمن سأل عنه. 5. الخوف من الله تعالى المشوب بتعظيمه دون سواه. وهاهنا يجب على العالم الحذر كل الحذر من ثلاثة أمور وهي: الأول: الحذر الشديد من حمل العلم دون العمل به حتى لا يكون كالحمار يحمل كتب العلم ولا ينتفع بها كما قال الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). [الجمعة/5].

والثاني: الحذر الشديد أن يكون الباعث الأصلي من تعلم العلم هو حظوظ الدنيا، ومن ذلك لصرف وجوه الناس إليه أو ليقال هو عالم، أو للمماراة به، أو ليأكل به باطلاً، كما قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). [الأعراف/175 [وفي سنن ابن ماجه (ج 1 / ص 303) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ جَهَنَّمَ). وقال تعالى مؤكداً على تجنب ذلك كله: (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). [البقرة/41، 42]، وقال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). [المائدة/44]. والثالث: الحذر الشديد من شرك الطاعة وذلك بطلب العالم له أو لغيرهم من الحكام والكبراء الطاعة فيما حرم الله تعالى، لأن من يدعوا لذلك فقد جعل نفسه أو غيره من الكبراء والحكام طاغوتاً يعبد من دون الله تعالى، وانظر مصداق ذلك في قوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). [الأنعام/121] وفي قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). [آل عمران/64] وفي حديث الطبراني في المعجم الكبير - (ج 12 / ص 7) عَنْ عَدِيِّ بن حَاتِمٍ، قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ:"يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ"، فَطَرَحْتُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة/31] حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ:"أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟ "قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:"فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ".

ثانياً: ما هي درجات العلماء؟ العلماء درجات بقدر تبحر العالم في العلوم والقيام بها بقدر تقدمه فيها ورفعته بين العلماء بها، لأن العلم مسائل فكل من استزاد منها مسئلة استزاد في العلم درجة. والعلماء هنا ليسوا على حد سواء فمنهم المقلون من العلم وهم صغار العلماء، ومنهم المستكثرون منه وهم كبار العلماء، ولا يحيط بالعلم أحد مهما بذل له. ثالثاً: ما هي صفات العلماء؟ جاء في الذكر الحكيم أن للعلماء صفتان، وهما كالآتي: الصفة الأولى: العلماء الربانيون، كما قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ). [آل عمران/79] قال البغوي - رحمه الله ـ في تفسيره (ج 2 / ص 60) واختلفوا في قوله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، قال علي وابن عباس والحسن:" كونوا فقهاء علماء" وقال قتادة: "حكماء وعلماء" وقال سعيد بن جبير: العالم الذي يعمل بعلمه، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: "فقهاء معلمين". وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقال عطاء: "علماء حكماء نُصحاء لله في خلقه"، قال أبو عبيدة:" سمعت رجلا عالمًا يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العالم بأنباء الأمة ما كان وما يكون، وقيل: "الربانيون فوق الأحبار"، والأحبار: العلماء، والربانيون: الذين جمعوا مع العلم البصارة بسياسة الناس. قال المؤرّج: "كونوا ربانيين تدينون لربكم، من الربوبية" ... وقال المبرد: "هم أرباب العلم سُموا به لأنهم يربون العلم، ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلوم ". قلت: ولا خلاف فاللفظ محتمل ذلك كله. والصفة الثانية: العلماء الراسخون في العلم، كما قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). [آل عمران/7] قال البغوي - رحمه الله- في تفسيره، (ج 2 / ص 10): (هم الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته). رابعاً: ما هو الدور المنتظر من العلماء؟ الدور المنتظر من العلماء على سبيل الواجب أمران وهما مقتضى النصيحة الدينية: الأمر الأول: صيانة الكتاب والسنة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. روى البيهقي في السنن الكبرى - (ج 10 / ص 209)، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين). وأحسن ما رأيت في تأويل هذا الحديث أنه يخرج من صيغة الخبر إلى الإنشاء الطلبي أي ليرث هذا العلم من الأقوام المتأخرين العدول الذين ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين في جميع أبواب العلم.

والأمر الثاني: سياسة الأمة ورعايتها بالشريعة الإسلامية في جميع مناشط حياتها الدينية والدنيوية، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء والأنبياء كانت تسوس الناس بالشرع، كما في صحيح البخاري - (ج 11 / ص 271) عن أبي حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ). وهذا ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فإنهم أئمة العلم وقد ساسوا الأمة بالشرع، أما من عداهم فليس سياسته بسنة لخروجها عن السنن النبوية والراشدية في الحكم، وهكذا يجب على العلماء العودة بسياسة الأمة إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، فإن لم يقوموا بذلك اتخذ الناس أئمة ضلال يسوسونهم بغير الشرع فيضلوا عن الهدى كما جاء في صحيح البخاري - (ج 1 / ص 176) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)، وهذا الحديث صريح في وجوب رياسة أهل العلم للأمة وسياستهم شؤونها بالشرع السليم من البدع والخرافات التي لم يقم عليها دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة. وها هنا يجب التنبيه على أمور منها: 1. أن الحاجة ماسة للعلوم الشرعية، وكلما ازدادت الحاجة للعلم ازداد الواجب على العلماء، واليوم لا يشك عاقل في شدة حاجة الأمة لعلوم الشريعة بعد أن طمس التغريب والتبشير والبدع والخرافات كثيراً من معالم الدين لا سيما في باب السياسة والحكم. 2. أن الأمة لم تعد جسداً واحداً كما أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، بل تقطعت دويلات ومزقت وحدتها، وتعززت القطرية والعصبية والطائفية والفئوية، وعدت الدعوت لوحدة الأمة عند كثير من المنهزمين ضرباً من الخيال الذي لا يمكن تحقيقه، متناسين أن ذلك من الواجبات على الأمة فضلاً عن علمائها. 3. أن استقلالية العالم وتحرر فتواه من هيمنة السلاطين تراجعت، وغدت مسائل من الدين وجمل من الفتاوى خادمة للقهر والاستبداد ومكرسة للظلم ومصادرة للحقوق والحريات، مما جعل الناس يفتنون في دينهم ويرتمي طائفة منهم في أحضان المذاهب الفكرية والأنظمة السياسية العلمانية وغيرها.

4. أن عودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة من واجبات العلماء قبل غيرهم، وليت شعري لو أن العلماء تدبروا اشتغال علماء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بتنصيب الخليفة قبل دفن جثمان النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يعني ذلك؟ أليس من الدلالة بوضوح أن اشتغال العلماء بعودة الخلافة الراشدة مقدم على كثير من الواجبات والتكاليف الشرعية، باعتبار خلو الأمة من منصب الخلافة الراشدة يعطل كثيراً من المصالح الدينية والدنيوية، وهو حق في ذاته دون غيره، إذا كان الأمر كذلك فلما هذا التغييب الصارخ لمفهوم الأمة الواحدة ووجوب تنصيب الخليفة الواحد الذي توافرت فيه شروط الإمامة وبايعته الأمة عن رضاً واختيار، والتعايش المشين مع الأنظمة السياسية القائمة على غير سنن الهدى، ففي كل قطر من أقطار المسلمين لحن بالقول يصرف الأنظار عن هذا الواجب الشرعي على العلماء والأمة بعامة. 5. أن كثيراً من العلماء بالغوا في التواضع حتى وصلوا إلى الاستخذاء، مما جعل الساسة يزيدونهم ذلة وهواناً يقربونهم عند حاجتهم ويعرضون عنهم عند الغنى عنهم، فأصبح أبناء الأمة لما يرون من هوان وضعة لكثير من العلماء يمجدون الرموز الثورية وإن كانت شيوعية، ويعرضون عن علوم الشريعة حتى لا ينالهم نصيبهم من الذلة والهوان الذي أصاب أولئك العلماء، وصدق القاضي الجرجاني حين قال: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ****ولو عظموه في النفوس لعظم أي لو عظموا العلم الذي يحملونه ولم يذلوه لعظم شأنهم ورفع مكانتهم. 6. أن كثيراً من العلماء المعاصرين لا يعملون بعلمهم إلا في ضوء ما يسمح به السلاطين، بل والأشد خطراً من ذلك أنهم يبررون له ذلك ويحملون الناس على وجوب طاعته في ترك الطاعات، وهذا الشأن القبيح جعل الأمة تفقد الثقة العلمية والدينية في هؤلاء العلماء، مما جعلهم يلتمسون العلم عند صغار العلماء فيختلط حينها الحابل بالنابل. 7. أن السواد الأعظم من العلماء غدوا شذر مذر لا تجمعهم رابطة وترعاهم مؤسسة بحيث يقوي بعضهم بعضاً، ويفتح بعضهم على بعض مما يجعل جنابهم أكثر صوناً وعلومهم ورياساتهم أكثر قبولاً.

8. أن كثيراً من العلماء عندما انهزم نفسياً في التعامل مع هذا الواقع المرير للأمة انعكس ذلك على أدائه في درسه وتأليفه فغدا من حيث يشعر أو لا يشعر يعزز مذهب الإرجاء، ويشجع العزلة ويحبذ ترك العامة، ويقلل من شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على الأنظمة وأرباب السياسات والرياسات، وكأن الأمر والنهي إنما يكون من أهله على الضعفاء والمساكين، وما علم هذا العالم أن هذا من نقص الدين كما جاء في سنن أبي داود - (ج 11 / ص 412) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رضي الله ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79 (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] المائدة/78 - 82] ثُمَّ قَالَ (كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا).

9. أن من العلماء من ظاهر الظالمين، وخاصم عنهم ونسي قول الله تعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ). [القصص/15 - 17] وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).، وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا). [النساء/105]، وقوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا). [النساء/107 - 109]. 10. أن من العلماء من يهون من شأن إخوانه العلماء، وبل ويتعدى الأمر عند قلة إلى الهمز واللمز والتنفير، لمجرد خلاف سائغ، أو اجتهاد يعذر صاحبه، أو الأخذ برخصة، أو ضعف في موقف، وهذا الأمر أبعد الشقة بين الأتباع وكان الأولى التزام أدب الخلاف والتماس العذر، والقيام بواجب النصح والإصلاح، وما علم من هذا شأنه من العلماء أن الحامل على ذلك هو الحسد المذموم أو الظن الفاسد، وأن ذلك ينقص من قدر قائله أكثر ممن المقول فيه، وأين هؤلاء من حديث الترمذي في السنن - (ج 7 / ص 166) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ التَّقْوَى هَا هُنَا بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ). خامساً: كيف يمكن العلماء القيام بدورهم المنتظر منهم؟ يمكن العلماء القيام بدورهم المنتظر منهم إذا توافرت عدة أمور منها: 1. أن يتحلى العلماء بالشجاعة العلمية. 2. أن يأخذ العلماء بزمام المبادرة. 3. أن يعيد العلماء جسور التواصل مع عامة الأمة من خلال المواقف الحازمة، والسعي في مصالح الشعوب. 4. أن يتنادى العلماء عبر وسائل التواصل الحديثة لمشروع جامع للأمة.

5. أن يؤسس طليعة من العلماء رابطة علماء الأمة الإسلامية الشعبية المستوعبة للجميع دون تمييز، وأن يختار لها البلد المناسب الذي لا يتدخل أو يملي عليها شروط أياً كانت. وهنا أسهم بمسودة مشروع يمكن أن يكون خطوطاً عريضة لرابطة علماء الأمة الإسلامية، وهو كالآتي: أولاً: المبادئ: أن تؤمن الرابطة بالأصول التالية: 1ـ الإسلام دين الدولة والأمة مصدر السلطة والشريعة مصدر التشريع. 2ـ الخلافة الراشدة نظام الحكم بالشورى والرضا والاختيار. 3ـ وحدة الأمة واستقلالها وسيادتها حق لها وواجب عليها. 4ـ الحقوق والحريات العامة والخاصة مصونة. 5ـ العدل والمساواة والحياة الكريمة حق للجميع. ثانياً: الأهداف: أن تسعى الرابطة إلى تحقيق الأهداف المرحلية والنهائية التالية: 1 ـ تحرير الأمة وشعوبها من الاستعمار والاستبداد بكل صوره وأسلمة كافة القوانين والتشريعات. 2ـ تحقيق الوحدة بين دولها وتعزيز التكامل السياسي والاقتصادي والتشريعي والعسكري بينها. 3ـ اختيار الأمة لحكوماتها بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة. 4 ـ حماية أموال الأمة وثرواتها وتوزيعها بالعدل. 5ـ تحقيق النهضة والتنمية والتطوير في جميع المجالات. ثالثاً: الوسائل: أن تعمل الرابطة لتحقيق أهدافها بكل الوسائل السلمية والمشروعة ومن ذلك: 1ـ الدعوة العامة والخاصة للمشروع بكل وسائل النشر. 2ـ المشاركة السياسية للوصول للسلطة التشريعية والتنفيذية. 3ـ التعاون مع الجميع بما يحقق هذه الأهداف أفرادا كانوا أو جماعات. 4ـ تأسيس الأحزاب السياسية والاتحادات الطلابية والنقابات العمالية والجمعيات المهنية والمراكز الثقافية والقنوات الفضائية والصحف. رابعاً: النظام الداخلي للرابطة: 1ـ تتكون الرابطة من الأعضاء المؤسسين كممثلين عن التنظيمات القطرية وتكون اجتماعاته دورية ويرأسه أكبر الأعضاء سنا وتتخذ قراراته بالأغلبية مع حق التحفظ لكل تنظيم. 2ـ تختار الرابطة المنسق العام الذي يقوم بترتيب اجتماعاته وجدول أعماله ودعوة أعضائه وتسجيل قراراته وتوصياته. 3ـ لكل قطر اختيار ثلاثة أعضاء ممثلين له في الرابطة بصوت واحد ويتم تزكيتهم من الأعضاء المؤسسين أو من يخلفهم ويمكن زيادة أعضاء بعض الأقطار عند الحاجة بصوت واحد. 4ـ تحدد الرابطة مواردها المالية ويضع ميزانيته السنوية وبرامج عمله. 5ـ يتم الإعلان عن الرابطة واختيار مكتبها الأمانة العامة لها بعد موافقة الثلثين. المصدر: شبكة القلم الفكرية

الوحدة بين الأسس الدينية والمنطلقات السياسية

الوحدة بين الأسس الدينية والمنطلقات السياسية بوزيدي يحي تشهد الساحة العربية سجالات فكرية بين العديد من التيارات الإسلامية حول الوحدة ومقوماتها لعل أبرزها وجهة النظر التي تدعو إلى أن تكون الوحدة وفق منطلقات سياسية مشتركة تجعل من القضية الفلسطينية محورا لها وتوجه كل طاقات العالم العربي نحو تحرير فلسطين وتجنب طرح القضايا الخلافية بين الفرق على طاولة النقاش على اعتبار أنها أي القضايا الخلافية تضرب في جذور التاريخ. ويصعب بل يستحيل حسم الخلاف فيها، وأكثر من ذلك فإن فتح هذه الملفات سيؤجج الصراع بين الفرق والطوائف الإسلامية ويؤثر على قضاياها المشتركة ويكون المستفيد الأكبر من كل هذا إسرائيل والقوى الاستعمارية منبهين إلى أن وراء من يثير هذه المواضيع أيادي خفية تعمل على تقسيم المقسم وتجزيء المجزئ، من هنا كان تأييد تلك الحركات لثورة الخميني في إيران التي أعطت لهم دفعا معنويا كبيرا ومن هنا تدعم حزب الله في حربه ضد إسرائيل. إذا ما وقفنا وتأملنا في وجهة النظر هذه فإننا سنجدها لا تعدو أن تكون شكلا من أشكال العلمانية أي فصل الدين عن السياسة هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المنطلق السياسي لا يصح لأن يكون أساسا لمشروع وحدوي لأنه يخضع لمعطيات ومتغيرات مختلفة قد تدفع بالسياسي إلى أن ينتقل من نقيض القضية إلى نقيضها الآخر من أجل تحقيق مصالحه، أيضا لو أخذنا كمثال حزب الله لوجدنا أنه يستمد قوته من شيعيته لا من لبنانيته وهو يطرح نفسه في الساحة السياسية بهذه الصيغة ولا يمكن أن نغفل تأثير هذا على مواقفه السياسية فالدين عامل حاسم في التركيبة الفكرية لحزب الله وقد صرح الأمين العام للحزب حسن نصر الله بأنه يؤمن بولاية الفقيه وكلنا يعرف ما تعنيه ولاية الفقيه والالتزام الذي تفرضه على حسن نصر الله تجاه المرشد الأعلى في إيران التي نظامها أيديولوجي بامتياز والواقع أثبت ذلك. ومعظم الجماعات والحركات الدينية في العالم العربي ولاؤها للسلطة الدينية أكبر منه للسلطة السياسية. وإذا ما سلمنا جدلا بصحة وجهة النظر هذه وتوحدنا سياسيا لتحرير فلسطين وتحررت كل البلدان العربية من الاحتلال الإسرائيلي، هل من ضمانات سياسية لهم على أن كل المكونات ستنطلق من العنصر الديني لتحقيق مصالح سياسية إما أكثريات لها الحق في الحكم أو أقليات تخشى التهميش. أما وجهة النظر الثانية فهي ترى بأن الوحدة يجب أن تنطلق من أساس ديني متين تبنى عليه وهذا الأساس هو التوحيد ويتجلى ذلك في قولهم التوحيد أساس الوحدة. من منطلق أن الجامع المشترك للأمة هو الدين وإذا بقي الخلاف حول الدين وبالأخص القضايا العقدية منه فإنه يستحيل أن تتحد الأمة وتتفق على شيء، وأن القضاياالسياسية يكثر فيها الخلاف وتكون المرجعية فيها هي المصلحة الذاتية والمنفعة الخاصة في حين أن الدين يكون من أجل المنفعة العامة، وعليه فهم يرون بأن الدين هو الوعاء الذي يحوي السياسة، فهي كالسائل إذا ما لم توضع في وعاء تتفرق بسرعة شديدة وفي اتجاهات مختلفة.

والتوحيد تندرج ضمنه الكثير من القضايا العقدية التي يختلف فيها مثلا السنة والشيعة، وإذا كنا نرى كسنة بأن صلاح هذه الأمة لن يكون إلا بما صلح به أولها، فإن أول هذه الأمة من المنظور الشيعي مرتدين ومغتصبين لحق آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وظالمين لهم هذا يدلل على شساعة الهوة واستحالة الاجتماع سياسيا وبشكل طويل ومستمر فنحن نشترك مع الشيعة في تحرير فلسطين وغيرها من الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي، ولكننا نجد أن المصالح الإيرانية الوطنية تشكل أولوية لها وهي المتحكم في علاقتها مع الدول العربية التي تختلف من بلد لآخر فإيران تقف مع المقاومة في لبنان وتدعمها بشكل كبير خارج الدولة اللبنانية وكذلك الحال مع المقاومة في فلسطين وفي نفس الوقت تقف مع حكومة الاحتلال في العراق حتى أن أحمدي نجاد قام بزيارة رسمية إلى العراق، وأيضا المفاوضات التي تجري بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية والتي تساوم فيها أمن العراق بمصالحها وهو الكرسي الذي يفترض أن تجلس فيه المقاومة واللافت في هذا هو استنادها في علاقتها على عنصر الشيعة (الدين)،فهذا يؤكد على تأثير الدين في السياسة ما يعطي مصداقية للقول الذي ينسب على الخميني بقوله (الطريق إلى القدس عن طريق كربلاء). مما يؤكد على أن المنطلقات السياسية لا تصلح لأن تكون مرتكزا للوحدة هو استغلال إيران لتعاطف الحركات الإسلامية معها وعملها على تشييع المجتمعات السنية بداية بأعضاء من تلك الحركات نفسها، ورغم قول العديد بأن الظاهرة محدودة وهي حالات استثنائية تحدث في إطار ضيق وهذا مجرد تهويل إعلامي ليس إلا فإن هذا لا ينفي الظاهرة والدعم الإيراني الرسمي لها بشكل أو آخر. هذه الأمثلة تثبت عدم جدوى البحث عن وحدة من منطلقات سياسية بل بالعكس فإن أي محاولات من هذا القبيل ستكون لها نتائج عكسية. المصدر: شبكة القلم الفكرية

واقع الأمة ... بشائر ومخاطر

واقع الأمة ... بشائر ومخاطر أ. د ناصر العمر الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد: فالحديث عن واقع الأمة حديث ذو شجون؛ فمن جهة لا يخفى على أحد ما بالأمة اليوم من ضعف وتفرق وهوان، جعلها مطمعاً للعدو الذي يتربص بها الدوائر، حتى احتل بعض بلادها احتلالاً عسكرياً مباشراً، واحتل بعضها الآخر اقتصادياً أو فكرياً أو بواسطة العملاء الذين ينفذون سياسات الأعداء؛ ومن جهة أخرى لا يخفى على أحد بوادر الأمل التي تظهر هنا وهناك وتتمثل في التصدي لهذا العدوان بالسنان والقلم واللسان والمقاطعة وغير ذلك. إن من أخطر الأمور التي تؤثر على الفرد أو المجتمع أو الأمة في التعامل مع الواقع هو الاستغراق في اللحظة الحالية والأحداث الراهنة، سواء كانت لحظة هزيمة أو لحظة انتصار، لأن هذا الاستغراق يعمي عن النظر للأسباب التي أدت لهذه اللحظة بإيجابياتها وسلبياتها، ويعمي كذلك عن النظر في مآلات الأمور وعواقبها وما يمكن أن تقود إليه في المستقبل، لذا فإنه يحسن بالمرء أن يبتعد عن ضغط هذه اللحظة وتأثيراتها، وينظر إلى الصورة من خارجها حتى تتكامل رؤيته وتتضح، وإلا ظلت قاصرة وعاجزة عن قدر الأمور بقدرها المناسب. إن من البشائر في واقع الأمة ما نراه من وعي متزايد بين أفرادها بحقيقة الصراع مع الأعداء، وبحقيقة الأعداء التي بُذِلت محاولات كثيرة وشاقة لتزييفها وطمسها بحيث يصبح العدو اللدود صديقاً حميماً، ومن البشائر ما نراه في أماكن مختلفة من العالم من تصدي أهل الإسلام لأعدائهم، مما يؤكد ما بشرنا به كثيراً من أن الأمة مقبلة على الجهاد في سبيل الله برغم المكر الكبار الذي يحاول صرف الأمة عن هذه العبادة الجليلة التي هي ذروة سنام الإسلام، ومن البشائر أيضاً هذا الصمود الذي حصل في غزة وهذا الانتصار على واحد من أقوى جيوش العالم كما يقولون، ومنها انسحاب القوات الإثيوبية من الصومال وعودة أهله لتولي زمام الأمور فيه، ومنها هذا الضعف الواضح لقوات الأعداء في أفغانستان وهذا التخبط فيما بينهم، ومنها تلك الضربات الموجعة التي تلقوها في العراق والتي ما كانوا ليفكروا في مغادرته بدونها. إن هذا الاتساع في رقعة الجهاد هو من أكبر البشائر، فقبل خمسين سنة لم نكن نسمع بالجهاد إلا في فلسطين وحالات أخرى قليلة قد لا يعلم عنها كثير من المسلمين، أما اليوم فالجهاد موجود في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والشيشان والصومال وأوغادين، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا الانتشار أكبر من كونه مجرد بشائر، بل هو انتصار في حد ذاته، لأنه يعيد الأمة إلى ثوابتها، ويربيها على معاني الجهاد والبذل والعطاء، ويشحذ الهمم وينير البصائر. وقد شاهدنا من المواقف ما يدل على أن الأحداث قد رفعت مستوى الوعي عند الناس، وهذا نصر عظيم. إن من يستغرقه ضعف الأمة وهوانها وتكالب الأعداء عليها يعجز بالكلية عن النظر لما سبق من البشائر، أو يتعامل معها تعاملاً سلبياً فلا يرى لها قيمة تذكر أو يهون من شأنها لأن قوة الأعداء وتمكنهم تستغرق تفكيره، فيقع في الإحباط والهزيمة النفسية؛ ومن تستغرقه البشائر السابقة يعجز عن النظر للمخاطر التي تهدد هذه البشائر وتنذر بتبديد مكاسب الانتصارات، فلا يحسب حسابها مما ينذر بالوقوع في شباكها. أما الانعتاق من حال الاستغراق فيجعلنا نتحرر من وثاق الهزيمة النفسية والإحباط ونتحلى بروح الأمل لا سيما وأن الله لا يخلق شراً محضاً، مما يجعلنا نبحث في كل شيء عن إيجابياته، ومن جهة ثانية فإن هذا الانعتاق يجعلنا نزن الأمور بموازينها الصحيحة فلا نقلل من حجم المخاطر ولا نغفلها بالكلية.

لقد سبق للأمة أن حققت انتصاراً عظيماً على الروس في أفغانستان، وأوشكت قريباً أن تلحق هزيمة كبيرة بالأمريكان في العراق، لكن الخلافات والنزاعات بين أهل الإسلام -بمباركة أعدائهم وسرورهم إن لم تكن في أحيان كثيرة بجهودهم- تسببت في الحالين في تضييع كثير من المنجزات. إن هذه الخلافات وأمثالها قد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" (صحيح مسلم 4/ 2216 رقم2890)، ولكن هذا لا يعني أنه لا مخرج ولا عاصم من هذه الخلافات، بل قد أمرنا الله عز وجل بضدها فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. إن أخشى ما نخشاه اليوم على المجاهدين في فلسطين وأفغانستان والصومال أن يقعوا في التنازع فيفشلوا وتذهب ريحهم، أو أن يخطف عدوهم النصر فيكون هو وعملاؤه أكبر الفائزين، فنريد منهم ومن المجاهدين في كل مكان أن يتيقظوا لمخططات الأعداء ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا. إن ما يجري اليوم في الأمة اختبار حقيقي للمجاهدين، فعليهم أن يعلموا أن السنن الربانية لا تحابي أحداً، لقد قال تعالى لأصحاب نبيه عليه السلام: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]، فلما وقعوا فيما وقعوا فيه يوم أحد أصابهم ما أصابهم، فكيف بمن هم دونهم علماً وإيماناً وفضلاً ومكانة! إن أعداءنا يحاولون اليوم جاهدين أن يوقعوا الفرقة بين المجاهدين في فلسطين وأفغانستان والصومال بتقديم عروض هنا وهناك، وتفريق المجاهدين إلى معتدلين ومتشددين، وهذه المؤامرات من المكر الكبار، وهو أشد على أهل الإيمان من المدافع والطائرات، فأثر الأخيرة الظاهر في الدماء والتدمير يستنفر الناس ويوحدهم ضد عدوهم، بخلاف المؤامرات التي تحاك في الخفاء، ولهذا كان خطر المنافقين أعظم من خطر المشركين وأهل الكتاب لأنهم يفتون في عضد الأمة، كالسوس الذي ينخر العظام فاستحقوا أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار. إننا إذ نطلب من الجميع التنبه لما يجري في السر والعلن، ندعو الله عز وجل أن يحفظ المجاهدين ويوحد صفهم، ويحفظ أهل الإسلام في كل مكان ويكبت عدوهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. المصدر: موقع المسلم

نقاش علمي مع الشيخ ابن منيع في مسألة الأهلة

نقاش علمي مع الشيخ ابن منيع في مسألة الأهلة بقلم هيثم بن جواد الحداد [email protected] الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، فقد كنت شرعت في جمع مادة علمية في الرد على الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله في المسألة المشهورة التي يثيرها حفظه الله في كل عام والمتعلقة بخطأ رؤية أهلة شهر رمضان، وشوال، وذي الحجة، في عدد من المرات خلال السنوات الأخيرة المنصرمة في المملكة العربية السعودية، ومن ثمّ تحديده لبدايات هذه الشهور بناءً على الحسابات الفلكية، وكنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى في تحرير تلك المادة العلمية لتنشر ردا على الشيخ حفظه الله، فأؤخرها من جهة بسبب هيبة الرد على مثل شيخ جليل وعالم كالشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله ورعاه، ثم من جهة أخرى بسبب كثرة الانشغال، وأقدمها لما أرى أنّ كلام فضيلته أصبح متكأ لكثير من الناس في داخل المملكة وخارجها القائلين باعتماد الحساب الفلكي في إثبات بدايات هذه الأشهر، أما في داخل المملكة فإن هؤلاء الذين يطلق عليهم بالليبراليين كثيرًا ما يتكئون على كلامه في هذه المسألة، بل ويشيدون بانفتاح الشيخ، وتمشيه مع مقتضيات العصر، خلافا لغيره من المشايخ الرافضين لقبول الآخر، والانفتاح عليه،،، وأما في خارج المملكة وتحديدًا في بلاد الغرب فإن فتوى الشيخ أصبحت مستندًا لمن ينصرون العمل بالحساب، وهم في تلك البلاد كُثُر بسبب تأثير الحياة الغربية عليهم، وأصبح كلام الشيخ تبعًا لذلك وثيقة مهمة للطعن في العمل بالرؤية، إذ أنها صادرة من بلاد تعمل بالرؤية، وفي بعض الأحوال - وإن كانت ضيقة - أصبح مرجعًا يستشهد به من أراد الطعن في الشريعة "التقليدية" ومهاجمتها أو المطالبة بالتحديث فيها. هذا وليعلم أن الشيخ ابن منيع حفظه الله لم ينفرد بهذا القول، بل وافقه عدد من المعاصرين على رأسهم - من متقدمي العصر- الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله، ومن متأخريه المعاصرين الدكتور يوسف القرضاوي، أما من المتقدمين فسيأتي معنا بأن الإجماع قد انعقد على خلافه، ولذا لا تكاد نسبته تصح لأحد غير تقي الدين السبكي، ومع ذلك فإن كلامه رحمه الله موهم، إذ أنه بعد نقله الإجماع على طرح العمل بالحساب مطلقًا استطرد بكلام يفهم منه مخالفة ذلك والقول باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، وسنثبت بعد قليل كلامه كله في هذا المقام، وبكل حال فإن مقصود هذه الورقات مناقشة الشيخ ابن منيع حفظه الله أصالة، ومناقشة غيره ممن يوافقه في القول تبعًا.

لقد كتب الشيخ - ابن منيع- حفظه الله بعد ذلك وفي هذا العام بالتحديد (1428 هـ) ردًا تناقلته بعض وسائل الإعلام المكتوبة (¬1)، لا يخلو من صلابة في الخطاب على فضيلة الشيخ صالح اللحيدان الذي كتب تصريحًا يرد فيه على "دعاوى المرجفين"، مستعملاً فيه - على عادة أكثر مشايخنا في المملكة العربية السعودية- لغة خطاب عامة، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم فهم حجتهم، بل ربما النظر إليها كحجة ضعيفة مهلهلة لا تصمد أمام الحجج القوية والواقعية التي يأتي بها المخالفون، ثم تعقب الشيخ صالح الفوزان حفظ الله الجميع، الشيخ ابن منيع في رده على الشيخ اللحيدان، ومؤيدا للشيخ اللحيدان، ولما جرى عليه العلم في السعودية، بكتابة مختصرة شبيهة بكتابة الشيخ اللحيدان، الأمر الذي كرس لدى البعض القول بضعف حجة القائلين بالرؤية دون الحساب، أو بقوة كلام الشيخ ابن منيع في اعتماد الحساب في النفي دون الإثبات إذ لم يتمكن أحد من الإجابة على شبهه، ولا زال الرادون عليه يكررون نفس الكلام الذي يعرفه الشيخ ابن منيع نفسه .. كانت هذه المداولات دافعًا لتقديم الإقدام على الإحجام وتحرير ما اجتمع لدي في هذه المسألة على وجه الاختصار في صورة مقالة لعل الفائدة تعم بمشيئة الله تبارك وتعالى. هذا، وقد جمعت هذه المقالة طرفًا من التعقبات على مآخذ الشيخ ومن وافقه في النظر لهذه المسألة، مما لم أجده في كلام المعاصرين الذين تعقبوا القائلين بالرؤية وعدم الالتفات للحساب، وأوردت إيرادات خارجة عما تداوله الطرفان، مما لا أظن أن الشيخ ابن منيع ولا من وافقه قد اطلع عليها، ولا أجابوا عنها، الأمر الذي يؤمّلني في أن ينظر إليها الشيخ ابن منيع ومن يوافقه نظرة منصفة ومتأملة. ثم بعد ذلك أحب أن أقول بأن هذا التعقيب على الشيخ ابن منيع، لا يرد على مسألة اجتهادية، إذ إن المسائل الاجتهادية تتسع لها الصدور، ولا ينبغي إشغال العامة بها، لكنه يأتي في مسألة لا يرد عليها بحث أصلا لانعقاد سابق إجماع أو شبهه مما له حكمه عليها، وقد قال ذلك من قبل فقيه مفسر أصولي كبير، فقد قال الجصاص الحنفي: (فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشريعة، وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه لدلالة الكتاب ونصِّ السنة وإجماع الفقهاء على خلافه) (¬2)، ومثله قال ابن تيمية- وكلامه هذا معروف متداول - (فإننا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم) (¬3).اهـ وقد نقل الإجماع على طرح العمل بالحساب بإطلاق - وهذا يشمل النفي والإثبات - جمع من العلماء، منهم ¬

(¬1) منها جريدة الرياض يوم الأحد 9 شوال 1428هـ- 21 أكتوبر 2007 - العدد 14363، (¬2) أحكام القرآن (1/ 280). (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية 21/ 132 - 133.

الجصاص (¬1) - وقد تقدم كلامه -، والباجي (¬2)، وابن رشد القرطبي (¬3)، والحطاب (¬4) وشيخ الإسلام ابن تيمية -وقد تقدم كلامه كذلك-، وابن عابدين (¬5) وغيرهم، بل إن أشهر وأعلم من قال الأخذ بالحساب مطلقا من المعاصرين أثبت ذلك، فقد قال العلامة أحمد شاكر: (واتفقت كلمتهم أو كادت على أن العبرة في ثبوت الشهر بالرؤية وحدها، وأنه لا يُعتبر حساب منازل القمر ولا حساب المنجم .. ) (¬6). فخلاف الشيخ ابن منيع ومن قبله ومن معه فيها خلاف طارئ، بل إنه خلاف غير محرر من جهة، وخلاف يفتح أبوابًا من الأسئلة والإيرادات التي تصعب الإجابة عليها وربما تتعذر. مآخذ الشيخ ابن منيع ومن وافقه وحججهم في هذه المسألة: إذا تأملنا كلام الشيخ ابن منيع ومن وافقه في هذا المسألة، نجده يدور حول مقدمات يمكن تلخيصها فيما يلي: أولها: الرجوع إلى علم الفلك في النفي دون الإثبات، وكثيرًا ما يردد الشيخ في فتاويه" أما في حال النفي فيجب العمل بالحساب الفلكي، فإذا قال الحساب الفلكي بأن الهلال لا يولد إلا بعد غروب الشمس، ثم جاء من يقول إنه رأى الهلال قبل غروب الشمس، فهذا في الواقع باطل؛ لأن هذه الشهادة لم تنفك عما يكذبها، فوجب ردُّها مهما كان قائلها، ومهما تعدَّد الشاهدون بها) (¬7). وأما الثانية: فهي وقوع أخطاء في الرؤية السعودية أعوامًا عديدة، وذلك لنفي الفلك لإمكانيتها. الثالثة: إنّ حسابات علم الفلك مقدمات لنتيجة قطعية الثبوت، إذ أنها حقيقة علمية، فيقول مثلا في تعقيبه على الشيخ اللحيدان (ولاشك بوجود الفرق بين من يتقدم بشهادة رؤية الهلال وبين من يذكر بحقيقة علمية معروفة لدى علماء ذلك العلم. فالأول يأتي بخبر يختص هو بمصدره - وهي الرؤية - والثاني يأتي بخبر علمي يشترك في معرفته جميع علماء ذلك العلم، فالأول في حاجة إلى تعديل وإنصاف بالثقة والأمانة والتقوى والصلاح لكون مصدر علمه بذلك الخبر - وهو الشهادة بالرؤية - ذاتياً في نفسه والثاني لا يلزم اشتراط تقواه وصلاحه لكون خبره معلوماً لجميع علماء ذلك الخبر). الرابعة: أن الشهادة متى ما خالفت الحس وما هو قطعي الثبوت فإنها ترد ولا تعتمد. وفي ظني أن الشيخ مع جلالة قدره وفهمه، فقد أخطأ في هذه المسألة خطأ لا يحتمله الاجتهاد، وأن هذه المقدمات منها ما هو خطأ أصلاً وما كان منها صواباً فلا تأثير له في مسألتنا هذه وعليه فلا يوجد مسوغ مقبول شرعًا لما يقوله الشيخ، ولذا فإن رأيه لا يعتبر أصلا اجتهادًا مقبولا تتسع له صدور المخالف، ويقبل القول أو العمل به، وهذا وإن كان استباقًا للنتائج في المقدمة، وهو خلاف العرف العلمي، إلا أنه مقتضى عرف الشريعة في الأمور المستقرة المعلومة والمشتهرة، فوجب اتباعه، وإن بدا مخالفا للطريقة الغربية التي لا تعترف بما "لا ريب فيه"، وهذا بيان ذلك: أولا: إنه من المشهور أن المستقر عند المسلمين أن ثبوت شهر رمضان المبارك يحصل بأمرين لا ثالث لهما، الأول رؤية الهلال، الثاني إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، ¬

(¬1) أحكام القرآن (1/ 280)، والجصاص فقيه أصولي مفسر حنفي توفي عام 370هـ. (¬2) المنتقى شرح الموطأ (2/ 38) للباجي وهو فقيه أصولي مالكي متوفى 471هـ. (¬3) بداية المجتهد (1/ 283، 284) لا بن رشد وهو فقيه أصولي، مالكي توفي سنة 595هـ (¬4) مواهب الجليل (2/ 387) للحطاب وهو فقيه مالكي توفى سنة 954هـ. (¬5) حاشية ابن عابدين (2/ 387)، وابن عابدين فقيه حنفي متأخر متوفى سنة 1252هـ (¬6) أوائل الشهور العربية ص 4. (¬7) انظر على سبيل المثال فتاويه حول هذا الأمر في موقع الإسلام اليوم وهو من أكثر المواقع التي أبرزت رأي الشيخ هذا.

هذا هو المشهور بناء على الأحاديث التي يحفظها كل أحد، لكن المتأمل لكلام الفقهاء يعلم أن ثمة أمر آخر يعتبر حاكمًا على هذين الأمرين وإليه المرجع في ثبوت الشهر، ألا وهو قبول المسلمين لأحد الأمرين - بل وحتى للحساب الفلكي - وهذه بعض الأدلة النقلية والعقلية التي تؤيد هذا؛ أعني أن قبول المسلمين لأحد الأمرين هو المعول عليه في بدء الشهر، وليعلم أن هذا ليس اجتهادًا أو ترجيحًا من كاتب هذه الأسطر، ولكنه - عند التأمل - عين ما قاله جماهير العلماء، بل إنه كذلك مما لا يسع أحدًا القول بخلافه، وأظن أن الشيخ ابن منيع في رده على الشيخ اللحيدان قد أقر به وأحسن، وقال: " ونحن نقول لفضيلته سمعنا وأطعنا لقراركم المؤيد من قبل ولي أمرنا فالفطر يوم يفطر الناس" لكننا نخالفه، ولا نرى أنه أحسن في قوله "ونحن في ذمة مجلس القضاء" فنحن في ذمة الله يوم أن عملنا بمقتضى تلك النصوص، لا نملك غير ذلك، وإنما تقال هذه العبارة لو أننا عملنا بالحساب، دون مشاهدة الشهر .. وهذه هي الحجج: أولا: لو رأى أحد من المسلمين الهلال، وشهد عند ولي الأمر فرد شهادته لسبب ما، فإن ابتداء الشهر يكون في اليوم الذي قرره ولي الأمر وقبله المسلمون، وعند غياب قرار ولي الأمر يقوم جمهور المسلمين مقامه كما هو مقرر، وأما هذا الذي رأى الهلال وحده، فله حالتان: أ) أن يرى هلال رمضان، وهذا قد اختلف العلماء في حكمه، هل يصوم وحده، وهل يصوم سرًا أم لا، هذا في الصيام، هذا ما ذكره الفقهاء فيمن رأى هلال رمضان وحده. ب) من رأي هلال شوال وحده - ويلحق به من استكمل ثلاثين يوما بناء على رؤيته- وبه يتضح الأمر أكثر، فيمكن أن يخرّج على القول السابق أنه يفطر سرًا، لكن كيف يفعل في صلاة العيد، هل يصلي العيد وحده كما ذكره بعض العلماء تخريجًا فيمن فاتتة صلاة العيد، أنه يصلي وحده في بيته!؟، هل يسافر إلى بلاد تصلي العيد؟، لم أر من ذكر هذا، ولا أظن أن الفقهاء تصوروا هذه الحالة، إذًا ليس له مناص من أن يصلي العيد مع المسلمين الذين يعيش معهم يوم دخول العيد عليهم. يثور هنا سؤال آخر، وهو هل يقضي اليوم الذي تقرر عنده بناء على رؤيته، أنه من رمضان، أم لا؟ بحث نريد تجاوزه الآن. تبقى الحالة الثانية، وهي من رأى هلال رمضان، وردت شهادته، لكنه ابتدأ الصيام وحده، وفي نهاية شهر رمضان لم ير الهلال، فأتم المسلمون في تلك البلاد رمضان ثلاثين يوما، فماذا يفعل إذ إنه ابتدأ الصيام قبل الناس؟ هل يصوم مع الناس؟ أو يفطر سرا؟ إن صام مع الناس فقد صام واحدا وثلاثين يومًا، وإن أفطر، فهل يقال أنه أفطر يومًا من رمضان؟ وهل يقال أيضا إنه صام يوم العيد المنهي عنه؟ وهل يقال إنه يصوم نفلا؟ فهذا غير متجه فإن كان من رمضان لم يجز له أن ينويه نفلا، وإن كان من شوال فهو أول أيام العيد، فيحرم عليه صيامه؟ جملة احتمالات ورادة جدًا على ما ذكروه فيمن رأى هلال رمضان وحده، ولهذا فإن هذه المسألة لا تنضبط إلا بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ.

ثانيا: تكلم العلماء المعاصرون فيمن ابتدأ الصيام في بلد، ثم انتقل إلى بلاد أخرى، أثبتت دخول شهر شوال قبل بلاده، وعليه فإنه يكون قد صام ثمانية وعشرين يومًا، فهل يستمر في الصيام وحده، ولو خالف المسلمين في البلاد التي انتقل إليها، ليصوم اليوم المكمل للتاسع والعشرين، وأقل ما يكون الشهر تسعة وعشرين كما في الحديث، أم يصوم مع هذه البلاد، ثم يقضي يومًا، الفتوى المعاصرة التي لم نطلع على خلافها أنه يفطر مع هذه البلاد، ثم يقضي يومًا، ولا يسوغ القول بغير هذا، لأنه لو استكمل الصيام وحده، فإنه عرضة لأن يكون صام يوم العيد، وهو كذلك قطعًا لن يصلي عيدًا إلا إن انتقل إلى بلاد أخرى تصلي العيد في اليوم التالي، وهذا فيه ما فيه، ولهذا أفتى العلماء بأن يفطر مع البلد الجديد التي انتقل إليها، ثم يقضي يوما بعده ولا يصح عقلاً وشرعًا غير هذا. وكذلك الحال إذا استكملت تلك البلاد الجديدة رمضان ثلاثين يومًا، فإنه إن أفطر وحده فإنه يرد عليه أن يكون أفطر يومًا من رمضان، ويرد عليه كذلك أن لا يصلي العيد إلا إذا سافر إلى بلاد تصليها في ذلك، ولهذا فإن المتعين في حقه أن يصوم اليوم الواحد والثلاثين معهم، ثم يصلي العيد معهم، لكن يبقى البحث هنا هل يصوم هذا اليوم بنية رمضان، أم بنية النفل؟ هو لا شك إشكال محل بحث، لكن هذا الإشكال يضعف مقارنة مع الاحتمال الآخر وهو أن يفطر وحده، فإن الموارد عليه عندئذ أكثر. ثانيا: حجة نقلية صريحة مركبة من نص السنة النبوية، ونص الإجماع، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ. ونظرة عجلى لكتب الفقه نجد أن هذا الأمر مستقر بيّن، يؤيد هذا الذي قاله الترمذي، بأن معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس. الشهر شهران: شرعي، وآخر فلكي، أو لنقل الشهر له بدايتان، إحداهما فلكية، وأخرى شرعية: ثانيا: إذا تقرر هذا، فقد علم أننا لا نصوم الشهر الفلكي الذي يبدأ مع خروج قرص القمر من شعاع الشمس، والذي يكون ترتيبه التاسع في الأشهر القمرية الفلكية في السنة الشمسية، ولكننا نصوم شهرا آخر هو الشهر الشرعي، وهو يفارق الشهر الفلكي، من عدة وجوه أهمها: أن بدايته قد تطابق الشهر الفلكي وقد تخالفه، وهذا مما لم أجد له إشارة في كلام المعتمدين على الحساب، ولا في كلام من رد عليهم، وهو أمر واضح لا مراء فيه، وأظهر أمثلته إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، فإذا ما "قطع" الحساب أن الشهر يبدأ يوم السبت مثلا، وهو يوم الثلاثين من شهر شعبان، لكن لم يتقدم أحد شاهدًا على الرؤية، فعندئذ وجب علينا إجماعًا - أو ما يقاربه لخلاف من شذ - أن نكمل عدة شعبان ثلاثين يوما مخالفين ذلك للحساب، ومستند هذا الاتفاق عدد من الأحاديث منها لفظ (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ومنها لفظ (لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه)، إذا تقرر ذلك، فإن أول يوم من شهر رمضان الشرعي، هو اليوم الثاني من شهر رمضان الفلكي!

وهنا نسأل الشيخ ابن منيع، هل هذا نفي أم إثبات؟ نعم يمكن أن يقول قائل بأننا إذا أثبتنا دخول الشهر بناء على الحساب، فهذا إثبات، ولا نقول به، لكن مع ذلك يمكن أن يقال أننا أثبتنا الشهر بعد ثلاثين يومًا من شعبان، وأنتم تقولون بنفي ذلك، أي إن الشهر يستحيل دخوله في هذا اليوم، بل إن دخوله قد تيقن أمس، ولهذا لم نر أن هذا قول معتبر عند السالفين، حتى ولو حملنا كلام السبكي الآتي عليه. ومن لطيف المسائل المترتبة على هذه، تحديد العشر الأواخر التي يكون تحري ليلة القدر فيها، أو في أوتارها، ويشرع الاعتكاف بدخول أول لياليها، فهل أوتار العشر التي ترجى فيها ليلة القدر هي أوتار العشر الأواخر من الشهر الفلكي، أم من الشهر الشرعي؟ وهل ليلة السابع والعشرين مثلا هي باعتبار الشهر الشرعي أم باعتبار الشهر الفلكي؟ لا أظن أحدًا يقول بأن حساب تلك الليالي معتمدًا على الشهر الفلكي، وإلا لقال قائل بدخول المعتكف ليلة العشرين، إذ قد تكون احتياطا ليلة الواحد والعشرين، وهكذا فقس. إذًا، نحن نصوم، ونقوم، ونعتبر الشهر الشرعي، وليس للشهر الفلكي عندنا -معاشر المسلمين -أي اعتبار. فالشهر الفلكي، هو التاسع في السنة الهجرية، بدايته ونهايته مردها إلى أمر واحد وهو الحسابات الفلكية، بينما مرد الشهر الشرعي لأمور مختلفة في المضمون، متغايرة في العلة، أهمها قبول إمام المسلمين أو جماعتهم بيوم ابتدائه، ويوم انتهائه بناء على شهادة شهود أو إكمال العدة ثلاثين، بل والحساب، فإذا تقرر هذا علم أن ثمة مغايرة كاملة بين الشهرين، نعم قد يتفقان، وقد يختلفان، وهذا لا يضيرنا في شيء. نظائر ذلك كثيرة، وقد عهدنا عند الفقهاء قولهم بلا نكير الطهارة - مثلا - لغة النظافة، وشرعًا هي حالة تمكن الإنسان من القيام بعبادات معينة كالصلاة، وقد يكون ثمة متوضئ غير نظيف لغة، ونظيف لغة غير طاهر شرعًا، فهذان أمران متغايران، وأقوى من هذا مثال آخر، لعل الشيخ ابن منيع والقائلين بمثل قوله يتأملوه، لكن قبل ذلك أحب أن أنقل طرفًا من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، ¬

(¬1) أنقله لا ليكون حاكما على كل كلام عداه، ولكن ليستأنس به في تصوير هذا التحرير، إذ إنه لم يأت برأي جديد في هذه القضية، وكثيرًا ما يساء الظن بشيخ الإسلام ويظن أنه أتى بما خالف به جماهير العلماء السابقين له، وحاشاه، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله، ينظر إلى الأدلة مجتمعة من خلال نظر كلي، وهو بذلك مستقرئ لمقاصد الشريعة عامل بمقتضاها، ومع ذلك هو ناظر في آحاد الأدلة بكل تفصيلاتها، جامع بين دلالاتها ودلالات المقاصد، مثبت أن ثمة لا تعارض بينهما، ثم هو بعد ذلك يبين أن قوله هو قول جماهير السلف والخلف وإن لم ينص عليه أرباب المذاهب المتأخرون، فإذ فعل ذلك بزّ الجميع بتصويره العجيب للمسألة مجال البحث، وبيانه القوي للعلل، والحكم، والمقاصد، مما يظهر وكأنه خالف ما أجمع عليه، أو ما اتفقت كلمة الجماهير عليه.

قال رحمه الله تعالى: (وأصل هذه المسألة أن الله سبحانه وتعالى علق أحكاما شرعية بمسمى الهلال والشهر كالصوم والفطر والنحر فقال تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لأهِلَّةِ قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ?لْحَجّ) (¬1)، فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج، قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ) (¬2) إلى قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ) (¬3) أنه أوجب صوم شهر رمضان وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء وإن لم يعلم به الناس وبه يدخل الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين: فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم ودخل شهر رمضان في حقه وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان وإن لم يعلم غيره، ويقول: من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعًا قضى الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر وفي شهر النحر لكن شهر النحر، ما علمت أن أحدًا قال من رآه يقف وحده دون سائر الحاج وأنه ينحر في اليوم الثاني ويرمي جمرة العقبة ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر: فالأكثرون ألحقوه بالنحر وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين; وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوما، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة. وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرًا شهرته بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة أو لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين وهذا معنى قوله: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون "، ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة. وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم أو ليس شهرا في حقهم كلهم؟ يبين ذلك قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس حتى يتصور شهوده والغيبة عنه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا من الوضح إلى الوضح" ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره إذا رآه صامه فإنه ليس هناك غيره، وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رئي في مكان آخر أو ثبت نصف النهار لم يجب عليه القضاء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرا في حقهم من حين ظهر واشتهر. ومن حينئذ وجب الإمساك كأهل عاشوراء الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم ولم يؤمروا بالقضاء على الصحيح وحديث القضاء ضعيف. ¬

(¬1) سورة البقرة، آية 189 (¬2) سورة البقرة، آية 183 (¬3) سورة البقرة، آية 185

(¬1) هذا، ثم وجدت كلامًا آخر لتقي الدين علي بن الكافي السبكي - الذي تقدم ذكره في بداية هذا البحث - في فتاويه، يتأكد به ما تقدم من أن هذا الفهم أمر مستقر عند سالف العلماء، ولا بأس بنقله، وإن كنت حاولت اختصار النقول وتقليلها، قال رحمه الله (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرَ هَكَذَا وَهَكَذَا عَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَقَدْ تَأَمَّلْت هَذَا الْحَدِيثَ فَوَجَدْت مَعْنَاهُ إلْغَاءَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ الْهِلَالِ شُعَاعَ الشَّمْسِ فَهُوَ أَوَّلُ الشَّهْرِ عِنْدَهُمْ وَيَبْقَى الشَّهْرُ إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهَا وَيُفَارِقَهَا فَالشَّهْرُ عِنْدَهُمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرْعِ قَطْعًا لَا اعْتِبَارَ بِهِ فَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّا أَيْ الْعَرَبُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْكِتَابَةُ وَلَا الْحِسَابُ. ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - (ج 25/ ص 114 ـ 118)

فَالشَّرْعُ فِي الشَّهْرِ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَيُدْرَكُ ذَلِكَ إمَّا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَإِمَّا بِكَمَالِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ، وَاعْتِبَارُهُ إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُونَ بِهِ الْهِلَالَ وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطِ إمْكَانِ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَكَانَ إذَا فَارَقَ الشُّعَاعَ مَثَلًا قَبْلَ الْفَجْرِ يَجِبُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْ الصَّوْمَ إلَّا فِي الْيَوْمِ الْقَابِلِ، وَهَذَا مَحَلٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (¬1) إلا أن السبكي رحمه الله أتبع هذا النقل والتقرير بما يمكن أن يفهم منه أنه يقول باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، وقد أضحى هذا الجزء الأخير من كلامه عمدة يستشهد بها كل من قال بالعمل بالحساب في النفي دون الإثبات، بل بالعمل بالحساب مطلقًا، قال رحمه الله (وَهَهُنَا صُورَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ الْحِسَابُ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ وَيُدْرَكُ ذَلِكَ بِمُقَدَّمَاتٍ قَطْعِيَّةٍ وَيَكُونُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْ الشَّمْسِ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُ فَرْضُ رُؤْيَتِنَا لَهُ حِسًّا لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فَلَوْ أَخْبَرَنَا بِهِ مُخْبِرٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْكَذِبَ أَوْ الْغَلَطَ فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ قَبُولُ هَذَا الْخَبَرِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْكَذِبِ أَوْ الْغَلَطِ وَلَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ الْحِسَابَ قَطْعِيٌّ وَالشَّهَادَةَ وَالْخَبَرَ ظَنِّيَّانِ وَالظَّنُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةُ شَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدْت بِهِ مُمْكِنًا حِسًّا وَعَقْلًا وَشَرْعًا فَإِذَا فُرِضَ دَلَالَةُ الْحِسَابِ قَطْعًا عَلَى عَدَمِ الْإِمْكَانِ اسْتَحَالَ الْقَبُولُ شَرْعًا لِاسْتِحَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَلَمْ يَأْتِ لَنَا نَصٌّ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا وَلَا يَتَرَتَّبُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَأَحْكَامُ الشَّهْرِ عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ أَوْ الشَّهَادَةِ حَتَّى إنَّا نَقُولُ: الْعُمْدَةُ قَوْلُ الشَّارِعِ صُومُوا إذَا أَخْبَرَكُمْ مُخْبِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ وَرَدَ ذَلِكَ قَبِلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ قَطُّ فِي الشَّرْعِ بَلْ وَجَبَ عَلَيْنَا التَّبَيُّنُ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ حَتَّى نَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ أولا، ولا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَشْهَدُ بِالْهِلَالِ قَدْ لا يَرَاهُ وَيُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَرَى مَا يَظُنُّهُ هِلَالًا وَلَيْسَ بِهِلَالٍ أَوْ تُرِيهِ عَيْنُهُ مَا لَمْ يَرَ أَوْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَيَحْصُلُ الْغَلَطُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي رَأَى فِيهَا أَوْ يَكُونُ جَهْلُهُ عَظِيمًا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدَ فِي حَمْلِهِ النَّاسَ عَلَى الصِّيَامِ أَجْرًا أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقْصِدُ إثْبَاتَ عَدَالَتِهِ فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى أَنْ يُزَكَّى وَيَصِيرَ مَقْبُولًا عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ قَدْ ¬

(¬1) فتاوى السبكي 1/ 411

رَأَيْنَاهَا وَسَمِعْنَاهَا فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا جَرَّبَ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ بِخَبَرِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ دَلَالَةَ الْحِسَابِ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ الرُّؤْيَةِ أَنْ لَا يَقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَلَا يُثْبِتَ بِهَا وَلَا يَحْكُمَ بِهَا، وَيُسْتَصْحَبُ الْأَصْلُ فِي بَقَاءِ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُحَقَّقٌ حَتَّى يَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ، وَلَا نَقُولُ الشَّرْعُ أَلْغَى قَوْلَ الْحِسَابِ مُطْلَقًا وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: لَا يُعْتَمَدُ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا قَالُوهُ فِي عَكْسِ هَذَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ الَّتِي حَكَيْنَا فِيهَا الْخِلَافَ أَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَلَا وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذِهِ نَقْلًا وَلَا وَجْهَ فِيهَا لِلِاحْتِمَالِ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ) (¬1)، ويتطرق الشك في قبول هذا التأويل لكلام السبكي القاضي باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، لأن الجمع بين طرفي كلامه يقدح لدى القارئ أنه لا يمكن أن يقول باعتماد الحساب مطلقًا، لا في النفي، ولا في الإثبات، فالله أعلم. وبكل حال، فإنه ولو قال ذلك صراحة، فإنه اجتهاد غير مقبول منه لتقدم إجماع سابق، ولجريان العمل على خلاف اجتهاده من قبل جماهير العلماء قرنا بعد قرن. التفريق بين الشهر الشرعي، والشهر الفلكي، هل له نظائر؟ هذا التفريق بين المعنى الشرعي، والمعنى الحسي، أو الحقيقي ومن ثم الحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، له نظائر كثيرة في الشريعة، لا تقصر على ما يذكره العلماء من المعنى الشرعي للماهيات، والمعنى الشرعي لها، يوم يقولون مثلا الإيمان لغة كذا، وشرعا كذا، بل يشمل أمثلة تتجاوز المعاني لتشمل بعض الصور العملية، ولست أدري كيف غاب عن الشيخ ابن منيع ومن معه هذا الأمر مع أنه بدهي واضح، إذ نحن لا نقبل أن يحاكم أهل اللغة أهل الشرع في حقيقة الصلاة، ولا في مسمى الإيمان وهكذا. فهناك صور عملية كثيرة، نظيرة للتفريق بين الشهر الشرعي، والشهر الفلكي، أذكر منها ذلك المثال الذي أرجو أن يتأمله الشيخ ابن منيع ومن يرى برأيه. إذا زنى رجل بامرأة وهي فراش لغيره، إما زوجة أو أمة، وحملت من ذلك الزنى، ثم مات الزوج، وماتت هي، وبعد أمد ادعى بقية أولادها أن أخاهم هذا لا يستحق شيئا من الميراث، بل طالبوا بنفي النسب عنه لأنه ليس أخاهم، ولا ابنا لأبيهم، بل أبوه الذي زنا بأمهم، ثم استدلوا على دعواهم بما يعرف الآن بنتائج الحمض النووي الذي لا تكاد تخطئ، وأثبت الحمض النووي فعلا أن هذا الولد إنما هو نتاج سفاح بين أمه، وبين رجل آخر غير زوجها؟ فما الحكم؟ الحكم - إجماعًا - أنّ هذا الولد هو أخوهم، ابن أمهم، وأبيهم، يشاركهم في الميراث، ويحمل نسب الأب، لا يملك أحد حرمانه من ذلك!! سبحان الله وكيف نفعل بالحمض النووي ذي النتيجة القطعية التي قطعت بأنه ناتج من ماء رجل غريب؟ ناقش المجمع الفقهي هذه القضية، وحكم في مثل هذه الصورة - متفقًا في ذلك مع مقتضى إجماع العلماء السابقين في لحوق النسب في هذه الحالة - بمقتضى ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر)!! وقرر أيضًا أنه لا ينفى عنه النسب، ولا يحرم من الميراث إلا بحصول اللعان الشرعي بين الزوجين - وهما في هذه الحالة قد توفيا، فلا مصير إليه -، فإن لم يحصل اللعان الشرعي فهو ابن لهما جميعا!!. ¬

(¬1) فتاوى السبكي 1/ 411.

وهنا نقول، حاصل ذلك أن الأب الحقيقي الذي خرج الولد من صلبه، والذي ينتسب إليه بحسب علم الأحياء - أو الكيمياء -والبيولوجيا، لم يعترف به الشارع، وكأنما جعل ماءه فاسدًا لا تأثير له، وجعل الأب الحقيقي هو الأب الشرعي؛ الولد للفراش، إذا لدينا - تنزلا - أبوان، الأب الشرعي، والأب الكيميائي البيولوجي، هو في الحقيقة ليس أبا، وليس له اعتبار ولا وزن، ولا حكم، ولا حق. فإن قال قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نهاية الحديث واحتجبي منه يا سودة، لما رأى من قوة الشبه بين هذا الوليد وبين سعد بن ابن وقاص الذي ادعاه لأخيه، وعدم الشبه بينه وبين من قضى بأنه له أعني عبد بن زمعة والذي به يكون أخًا لسودة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا يدل على أنه عمل بالعلم، وهو هنا الأخذ بالشبه، أو في الأقل الأحوال احتاط، فلم لا نحتاط في أمر صيامنا؟ قيل جوابًا على ذلك، إن هذا الجزء من الحديث يؤيد ما ذكرناه فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم لا حظ الشبه وربما "غلب على ظنه" بأن هذا الوليد ليس بأخ لسودة، بناء على أمر ظاهر مشاهد - وهو في العموم معتبر في الشريعة - إلا أنه لم يتجاوز حكم النص؛ الولد للفراش وللعاهر الحجر، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر ما يقتضيه الحس وهو الشبه المشاهد، لا ما يقتضيه العلم، فليتنبه لهذا، وسيأتي له مزيد بيان. وبكل حال، فإن مقصودنا من إيراد القصة هو تقرير أن الشرع ينظر إلى ما لا ينظر إليه العلم وأنه يعتمد على ما هو محسوس، أو معقول اضطرارًا عقلا لا ينفك عن كل عاقل، ولا يحتاج إلى نظر ناظر، ولهذا، فلو أثبت الأطباء والباحثون والعلماء كلهم مجتمعين غير متفرقين على أنه يستحيل أن يكون ذلك الأب أبا لهذا الولد، لقلنا لهم، كلامكم على العين والرأس، لكننا لا نأخذ به، ليس تكذيبًا له، ولا إقلالا من شأن العلم، ولا رغبة في التخلف!، ولكن قضيتنا ليست قضية علمية طبية، قضيتنا قضية شرعية، نحن نتحدث عن حكم الشرع، وأنتم تتحدثون عن حقيقة الأمر، والحكم الشرعي شيء، والحقيقة الواقعية شيء آخر، فكما أننا لم نلزم العلم بأن يكذب نتائج الحمض النووي، ونقول يستحيل هذا لمخالفته الشرع، فلم يطالبنا أصحاب العلم بأن نلغي نتيجة الشرع لصالح العلم، نقول أما شرعًا - وهو الحكم والمرجع - فليس بأب، وأما علمًا أو كيميائًا أو فيزيائًا فالأمر إليكم. هذا، وقل كذا في أمر الهلال، فثمة شهر شرعي لا دخل له في الشهر الفلكي، لا يجوز لأهل الفلك أن يجبرونا على قبول شهرهم، ولا يجوز لنا أن نجبرهم على قبول شهرنا.

وأثناء تحرير هذه الأوراق وقعنا على مثال آخر، صلاة الكسوف، والخسوف، هل تصلى حينما يرى المسلمون الكسوف والخسوف، أم حينما يعلم المسلمون به، ولم يروه؟ ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة عند الصحيحين " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آياتِ اللهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ فَادْعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا"، وباقي الألفاظ كلها متقاربة تدور حول رحى "إذا رأيتم ذلك"، أي أن مشاهدة الخسوف أو الكسوف حادثا فعلا بأم أعيننا المجردة، هو مناط الحكم، فإذا لم ير الخسوف أو الكسوف، لم نصل كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره (¬1)، لا تكذيبا لحصول الخسوف أو الكسوف، ولكن الحكم ومناطه شيء، وحصول الحدث في نفسه شيء آخر. ¬

(¬1) قال في مجموع الفتاوى (16/ 298 - 300) " .. وَالْعِلْمُ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَكِنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً فِي خَبَرِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مَوْقُوفٌ. وَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ وَلَكِنْ إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَإِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ كَانَ هَذَا حَثًّا مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكُسُوفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَا السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ... ا. هـ. ِ) الفتاوى.، وبه أفتت لجنة الفتوى التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت انظر مجلة الوعي العدد رقم: 493، تاريخ 23/ 12/2006، وجاء في الموسوعة الكويتية " ولو حال سحاب، وشكّ في الانجلاء صلّى؛ لأنّ الأصل بقاء الكسوف. ولو كانا تحت غمام، فظنّ الكسوف لم يصلّ حتّى يستيقن، وقال المالكيّة: إن غاب القمر وهو خاسف لم يصلّ. وإن صلّ ولم تنجل لم تكرّر الصّلاة، لأنّه لم ينقل عن أحد، وإن انجلت وهو في الصّلاة أتمّها؛ لأنّها صلاة أصل، غير بدل عن غيرها؛ فلا يخرج منها بخروج وقتها كسائر الصّلوات) مجلد 27: صلاة الكسوف، وفي روضة الطالبين للنووي 1/ 175 (ولو كانت الشمس تحت غمام فظن الكسوف لم يصل حتى يستيقن. قلت قال الدارمي وغيره ولا يعمل في كسوفها بقول المنجمين والله أعلم.)، وقال في الفروع (وَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ فِي بَقَائِهِ وَوُجُودِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ) 3/ 140.

ولهذا فإن طلب الشيخ ابن منيع الذي كرره مرارًا، وتكاثرت الأصوات المنادية به " بالتوجه إلى ولي الأمر بالموافقة على عقد مؤتمر يجمع بين علماء الشرع وعلماء الفلك للنظر في المسائل الفلكية المتعلقة بحسبان منازل الشمس والقمر وما يتعلق بذلك من نتائج تفيدنا في تحديد أوقات الصلاة والصيام والحج وهذا طريق من طرق التثبت والتحقق "، طلب في غير محله. فإن قال قائل هذا تفريق غريب، والأصل أننا نصوم حينما نرى الشهر الفلكي، كما أننا نصلي حينما تغيب الشمس، سواء كان مغيبها فلكيا، أو مغيبها مشاهدا محسوسا، قلنا هذا من أسباب الإشكال الوارد على الشيخ ابن منيع ومن معه في مسألة العلم، ومطابقته للواقع، ومطابقة الشرع للعلم، وهو ما سيتضح في ما يلي: ما الدليل على التفريق بين العمل بالحساب في أوقات الصلاة، والعمل بالحساب لإثبات الهلال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وقال أيضا (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال)، وما برح علماؤنا يقولون بأن الشارع علق الصوم على الرؤية، ولا زال كثير من القائلين بالحساب سواء في الإثبات أو النفي عاجزين عن فهم هذه الجملة القصيرة السهلة، الذي كانت سهولتها ووضاحتها سببًا في إهمالها، وظنًا بقائلها أنه لم يدرك حقيقة الخلاف، ولم ينظر في الفلك، ولم يعرفه، بل ولم يكن عميقًا في بحثه، وأخذته البساطة بعيدا عن التحقيق، وسبحان الله العظيم. قصد هؤلاء العلماء الأجلاء أن مناط الصوم هو الرؤية، أي أن علة الصوم هي الرؤية، وللشريعة علل بل ومقاصد لا يدرك مراميها كل أحد، ولا زال المسلمون المنصفون يتأملون فيها، لينكشف لهم كل يوم حكمة جديدة، فمناط الصوم أيها السادة هو أحد ما قدمناه؛ الشهود، أو إكمال العدة، وفوق الأمرين قبول إمام المسلمين أو جمهورهم لذلك، وقد تكلم عدد من العلماء في مقصد الشارع من بنائه حكم الصوم هذا على الرؤية البصرية، هل هو شعيرة؟ يعني أن يخرج المسلمون لترائي الهلال؟ أم ربطهم بالمخلوقات الكونية؟ أم تعليمهم منازل القمر؟ أم جعلهم يترقبون إعلان بدء الصوم، وبدء العيد، ويوم عرفة، دون أن يكونوا قد حددوا هذا اليوم من قبل؟ أم ربطهم بالأهلة، وبالتاريخ الهجري؟ لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) فهل الرؤية مقصودة لذاتها، أم أنها وسيلة لمعرفة ابتداء الشهر، فإذا ما عرف الشهر بأي وسيلة أخرى، ثبت حكم الصوم؟ وبتعبير الشيخ القرضاوي، هل الرؤية وسيلة لغاية فمتى ما تحققت هذه الغاية تحقق الحكم، أم أنها غاية في ذاتها؟ يظهر لي أن هذا لب الخلاف بين الفريقين. فقولنا إذًا "مناط الصوم" معناه أن المعنى الذي سمي له شهر رمضان شهر رمضان، هو رؤية هلاله، أو استكمال العدة، أحد تلك الثلاثة، فرؤية هلاله، ليس جزءً زائدا على حقيقة الشهر، بل هي جزء من ماهية الشهر، فلا يسمى شهر رمضان كذلك لمجرد ولادة هلاله، بانفصال القمر من شعاع الشمس - أعني القمر الفلكي -، وهذا كقولنا الخمر متى يسمى خمرًا شرعًا؟، قيل إن مناط تسميته باسم هذا الشراب المحرم لإسكاره، هو الإسكار، وعليه فلو وجد ثمة شراب يحمل نفس الأوصاف، وله نفس المركبات، لكنه غير مسكر، لما سمي خمرًا، ولما علق عليه التحريم، فهو عندنا - أي في الشريعة - ليس بخمر، وإن سماه العلم والعالم كله خمرًا، إذ قد علق التحريم بالإسكار، والإسكار مناط تسمية الشراب خمرًا، وهو جزء لا يتجزأ من حقيقته.

ولمزيد من البيان والتقرير لكون الرؤية جزءًا من الغاية ومقصودا فيها، نقول: كان يمكننا موافقة الشيخ ابن منيع ومن معه من القائلين بالحساب، في أن المقصود هو ولادة قمر الشهر الجديد، أعني حصول هذه الظاهرة الكونية، سواء كان ذلك في النفي أو في الإثبات، عند تحقق واحد من أمرين: الأول: أننا نجد بعد استقراء كلام الشارع، وكلام شراح كلام الشارع - علمائنا السابقين- أنّ ثمة إيماءات وتنبيهات على أن الصوم متعلق بولادة قمر الشهر الجديد، عندئذ نقول جمعًا بين الأدلة أن شهر رمضان الذي يجب صومه هو الشهر الفلكي التاسع، وليس الشهر الذي يبدأ بإحدى هذين الطريقين. الثاني: أن تأتي النصوص مطلقة غير معلقة الحكم بالرؤية، كما هي الحال في الصلاة لمواقيتها، إذ إن نصوصها جاءت مطلقة غير مقيدة، فعلم بهذا أن تلك المواقيت أعني الظواهر الفلكية التي تجري على الشمس والقمر، معلقة بما يدل عليها وحسب، سواء كان رؤية أو حسابًا أو غيره، قال الله تعالى (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (الإسراء: 78) فعلق الحكم هنا بذات الدلوك ولو قال: أقم الصلاة لشهود دلوك الشمس لتغير الأمر، وسبحان من علق الصوم الذي يأتي في العام مرة، على ذلك، وعلق الصلاة التي تتكرر كل يوم مرات على هذا، فسبحانه ما أجل حكمته ورحمته بعباده. وقد نص على هذا القرافي في كتابه الماتع الفروق، فقال رحمه الله ( ... والفرق - وهو المطلوب ههنا وهو عمدة السلف والخلف -: أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر وكذا بقية الأوقات لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬1). أي لأجله، وكذلك قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (¬2). قال المفسرون: هذا خبر معناه الأمر بالصلوات الخمس في هذه الأوقات حين تمسون: المغرب والعشاء، وحين تصبحون: الصبح، وعشياً: العصر، وحين تظهرون: الظهر، والصلاة تسمَّى سُبحة، ومنه سبحة الضحى أي: صلاتها، والآية أمر بإيقاع هذه الصلوات، وغير ذلك من الكتاب والسنة الدال على أن نفس الوقت سبب، فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات وأما الأهلّة، فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سبباً للصوم، بل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم، ويدل على أن صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سبباً للصوم قوله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ". ولم يقل لخروجه من شعاع الشمس، كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬3). ثم قال: " فإن غُمَّ عليكم "أي: خفيت عليكم رؤيته " فاقدروا له ". وفي رواية: "فأكملوا العدة ثلاثين ". فنصب رؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال من الشعاع] (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء: الآية رقم (78). (¬2) سورة الروم: الآية رقم (17، 18). (¬3) سورة الإسراء: الآية رقم (78) (¬4) الفروق (2/ 179)

وهنا لا بد لنا من التنبيه على منهج خطير آخذ في التسلل إلى بعض حملة العلم، يريد به الليبراليون شيئًا، ويحصل من بعض علمائنا بحسن نية منهم موافقة لما يقول أولئك لكن دون التنبيه على اختلاف الدوافع والمقاصد، فيفرح أولئك بكلام من وافقهم من العلماء ويطيرون به، ولو أن هذا الفريق من العلماء اجتهد فانتهى إلى ما انتهوا إليه، لكنه مع ذلك حذر من تلك الدوافع والمقاصد لكان هذا حسنًا، لكن أن يلتقي معهم في قول يقصدون من ورائه هدم حمى الشريعة، أو إشاعة ما يعرف بالإسلام المعتدل، ومشايخنا الفضلاء هؤلاء ساكتون صامتون، فهذا مما لا يجوز، إذ هو سكوت عن منكر شاهدوه وخالطوه يوم أن حصلت بين الفريقين مشاكلة ومشاركة في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (من رأى منكم منكرًا فليغيره، بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). هذا المنهج يقوم على تجاوز النص بحجة العمل بالمقصد الشرعي، وعليه - بحسب هذا المنهج - فإن كثيرًا من النصوص الشرعية وسائل لمقاصد وغايات، فإن تحققت تلك الغايات بتلك الوسائل أو بغيرها، فثم الشرع، وهذا الكلام وإن كان في العموم كلام أصولي دقيق وصحيح، إلا أنه عام أريد به خصوص، إذ يلزم المحتج به أن يثبت أولا أن هذا النص وسيلة غير مقصودة بذاتها، هذه هي العقبة الكؤود في وجه هؤلاء، لكن يأتي من مشايخنا من يذلل لهم الأمر ويسهل لهم هذه العقبة، وينقب في الكتب ليرى أن ثمة من يقول بهذا القول، فيسقط الإجماع، ثم يعرض المسألة مكيفًا لها تكييفا أصوليًا، لتظهر المسألة وكأنها من مسائل الخلاف والاجتهاد، مما لا يثرب على المخالف القول والعمل بها إذ له سلف في ذلك. ونحن إن بدأنا في هذا الطريق انتهينا إلى زندقة "فقهية ليبرالية"، فثمت قائل بقول هؤلاء، وقائل بذاك القول، وهكذا، فلا ينكر على مخالف! ولولا أنّ موضوع هذه المقالة ومقصودها مختلف لجرى البحث في هذه الظاهرة والرد عليها، لكن يقال اختصارًا إن العلماء تظاهروا على أن "من تتبع الرخص فقد تزندق"، وأن "من أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله"، وأن النظر إلى هذه الشريعة بهذا السلوك، هو عين ما أوقع زنادقة الباطنية في المذهب الباطني، فالصلاة ليست مقصودة لذاتها، ولكن المقصود منها تزكية النفس وتهذيبها والارتقاء في درجات الكمال، والصوم كذلك وقياسا على هذا النسق الفاسد يمكننا أن نقول إن الوضوء ليس مقصودًا لذاته، إذ المقصود منه طهارة الأعضاء، فهو بتعبير يشابه تعبير الشيخ القرضاوي، وسيلة لغاية الطهارة، فإن تحققت الغاية بأي وسيلة تحقق الحكم!. نعم، هناك نصوص لا تعدوا أن تكون وسائل لغايات، هذا يقرره استقراء العلماء للشريعة، وهو أمر دقيق، ويحتاج إلى نظر أصولي فقهي مقارن، فإن تتابع علماؤنا السابقون على أمر، حتى مع وجود شواذ من المخالفين فإن الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الشذوذ موجب للأخذ بما تتابعوا عليه وعدم الشذوذ عنه. وعليه فيقال للفضلاء الذين يضعون هذا السؤال بين أيدينا؛ أعني قولهم لم لا نعمل بالفلك والحساب في الصوم كما عملنا به في الصلاة؟ يقال لهم، الصلاة عبادة لها شروطها وأركانها، والصيام كذلك، فالطهارة ليست شرطًا في صحة الصيام لكنها شرط في صحة الصلاة، وذات رؤية الهلال من قبل واحد أو اثنين من المسلمين، أو إكمال العدة ثلاثين يوماً، شرط في إعلان دخول الشهر، وبدء الصوم الواجب، وذات دخول وقت الصلاة هو مناط وجوب الصلاة، سواء علم دخول الوقت برؤية غياب الشمس أو الشفق، أو بالعلم بغياب الشمس، أو العلم بغياب الشفق،،، فليتأمل هذا الفرق، فإنه مهم جدًا. شهادة الشهود، من وما يردها؟

هذه قضية هامة في موضوعنا، لكنّ الذين يتبنون العمل بالحساب سواء في النفي أو في الإثبات معه لا يولونها اهتمامًا كافيًا في البحث، ومعلوم كما تقدم أن الشريعة الإسلامية قررت وسائل للإثبات، منها ما هي وسائل مجردة، متى ما ثبتت الغاية بها أو بدونها ثبت الحكم، وذلك مثل تطهير النجاسات، وإثبات أوقات الصلاة، واتجاه القبلة، وغياب الشمس للفطر، وظهور الفجر للصوم، ونحو ذلك وهناك وسائل مقصودة بذاتها، وقد تكون مع ذلك مرادة لغايات أخر، فكونها مرادة لغايات أخر لا ينفي ولا يعارض كونها هي مقصودة لذاتها، مثل الغسل من الجنابة، والأذان للإعلام بوقت الصلاة، والاجتماع لحضور الجمعة في يوم الجمعة، وإثبات نسب الولد لفراش الزوجية أو ملك اليمين، وإثبات الزنا بشهادة شهود أربع على حصول الإيلاج، وأمثلة ذلك لا حصر لها، فمثة وسائل، وغايات، ووسائل هي نفسها غايات، وغايات لا تنفك أن تكون وسائل، والله أعلم. ثم إن البينات في الشريعة مثل اليمين، والكتابة، وشهادة الشهود المستوفين للشروط الشرعية إذا انفكت عما يكذبها شرعًا، أو حسًا، أو عقلاً، فإنها ملزمة، غير معلمة، ولولا أن الأمر يطول لاستقرأنا أمثلة ذلك من كتب الفقهاء، حتى نبين أن قول من قال إنما هي معلمة غير ملزمة غير مقصود، أو مقصود لكن أراد به قائله ذلك الحكم الذي تقترن البينات فيه بما يعارضها مما ذكر. ولهذا، -والشيخ ابن منيع من أول من يعلم - اختلاف العلماء في القاضي هل يحكم بعلمه أم لا؟ والصواب الذي عليه المحققون - وهو مذهب الجمهور - أنه لا يقضي بعلمه، إلا إذا أراد أن يدرأ حدًا، أو اكتسب العلم بحس في مجلس القضاء، أو نحو ذلك، وفي الصحيحين عن أم سلمة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ. وفي صحيح البخاري في قصة الملاعنة المشهورة بين هلال بن أمية وامرأته، وفيه فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بن سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ. فهذه المرأة قد وقع منها الزنا، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقر عنده يقينًا أو ظنًا غالبًا أنها قد وقعت في ذلك، تأكد هذا يوم أن قال لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن، ومع ذلك لم يحكم بهذا كله، بل حكم بظاهر البينة التي أوجبها الله، أعني الملاعنة، فجنس البينة هنا مقصود، ولا يملك القاضي أن يخالفه ..

فإذا تأسس هذا، جاز لنا أن نسأل فنقول إن شهد شهود عدول برؤية هلال شوال، فهل يملك القاضي لأي سبب آخر أن يرد شهادتهما، أو أن يعمل بموجبها؟ لا أظن أحدًا، ولم أطلع على من قال يردها، وأنى له ذلك؟ وما حجته أمام الله يوم أن يقول له، قال لك نبيي بأنه إن شهد شاهدان فصوموا، فلم لم تصم؟ فلا يملك إلا أن يقول يا رب كان عندي قرينة تكذبهم؟ وعندئذ يكون السؤال ما هي القرينة التي يمكن أن يعذر بها القاضي في تكذيب شهادة الشهود أو ردها!؟، فهل يجيب بأنه علم قاطع، قضى بأن الهلال لا يرى في تلك الليلة!. إن شهادة الشهود حكم شرعي، لا يرده إلا حكم شرعي، والحكم الشرعي الذي يمكن أن يرد شهادة الشهود، هو شهود غيرهم يعارضون ما قاله الأولون، أو مخالفة هذه الشهادة للشرع، أو الحس، أو العقل، وهذا متفق تماما مع قول الشيخ ابن منيع " وسماحة شيخنا يعرف ويعلم أن الشهادة يحتاج قبولها أمرين: أحدهما أن تكون الشهادة منفكة عما يكذبها حساً وعقلاً. والثاني ثبوت عدالة الشاهد. ونحن لا نشك أن القضاء قد استكمل تعديل الشهود ولكن عدم انفكاك الشهادة عما يكذبها لا يزال ثغرة نقص في صحة الشهادة والله المستعان" فإشكال الشيخ وكثيرين في هذه الأيام وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي، في الأخذ بشهادة الشهود مع معارضتها للحساب، إذ إنها عندئذ لا تنفك عما يكذبها، وربما استشهد البعض بكلام لابن تيمية، وابن عثيمين وغيرهم في أنه لو شهد شاهد برؤية الهلال قبل غروب الشمس ردت شهادته. وهذه من المواطن التي التبست على الشيخ وعلى من قال بقوله، فإنهم لم يميزوا بين "ما يقطع به العلم"، وما يعتبره الشرع قطعيًا، فما يقطع به العلم ينظر العلم فيه إلى حقيقة الأمر، وما يقطع به الشرع ينظر فيه الشرع إلى اعتبارات كثيرة منها، قد يكون العلم أحدها وقد لا يكون، فليس مما يفيد القطع شرعًا بمجرده، ليس تقليلا من شأنه ولكن لكل مقام مقال، فلو اتفق أهل الأرض كلهم على قطعية ودقة العلم الفلكي، فنظرة الشارع وتشوفه غير نظرة الفلك وتشوفه، وللشارع "اعتباراته الخاصة". فالحس هو السمع، والبصر، والشم، واللمس، والذوق وهو ما يقوى على معارضة البينات، فشهادة الشهود التي يمكن أن ترد هي الشهادة التي تخالف الحس هذا، أما العلم المستند إلى غير الحس، بل يحصل بالنظر والآلات، فإن الشارع لم يحل عليه ولم يلتفت إليه مطلقاً، فالحكم بمقتضاه ورد الشهادة المعتبرة في الشرع أمر محدث لم يعهد عند علماء الأمة وتبديل لأحكام الشريعة واستدراك على الشارع. فالحس هو ما يقوى على معارضة البينات، فشهادة الشهود التي يمكن أن ترد هي الشهادة التي تخالف الحس هذا، أما العلم المستند إلى غيب عن الإنسان، فإن الشارع يرده، وله إرادته وقصده في هذا، ليس لنا إلا أن نسلم ونذعن له. وهكذا يقال في العقل، فالعقل الذي يعتبره الشارع، هو العلم الضروري، أو المنطق الذي لا يحتاج إلى نظر أو تفكير، كقولنا إن الواحد أصغر من الاثنين، والكل أكبر من الجزء، ونحو ذلك، فليس هذا بالعلم، ولا هذا بالحساب، بل هو العقل وهذا معلوم مستقر، وإني أرغب إلى الإخوة القائلين بهذا القول أن يأتوا لنا بأمثلة من الشريعة تدل على اعتبار ذلك النوع من العلم معارضًا للشهادة أو نحوها، وعندئذ تستقيم لهم دعواهم، أما نحن فقد قدمنا أمثلة من الشريعة تدل على نفي اعتبار الشريعة لمقتضى هذا العلم، وأظهر مثال تقدم معنا هو مقتضى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) في إثبات نسب الولد لمن ولد على فراشه دون اعتبار العلم الذي يمكن أن يكون قطعيًا.

وقد أخطأ الشيخ ابن منيع في مقارنة الحساب الفلكي بمثال الجمع الذي ذكره، فقد قال (فالنتائج العلمية لكل علم من العلوم لاسيما إذا كانت هذه النتائج قطعية لتحديد ولادة الهلال هذه النتائج العلمية لا يتقدم بها عالم أو اثنان أو أكثر حتى نشترط لقبولها العدالة والتقوى والصلاح. وإنما هي نتائج علمية قطعية يعترف بها البر والفاجر والصالح والفاسق والمسلم وغير المسلم فليست نتائج شخصية حتى نطلب من مقدمها ما يدل على ثقته وأمانته. فمثلاً النظريات الرياضية من معدلات وغيرها مما هي محل اعتبار واعتراف وتسليم هل نطلب ممن يقدمها بأي وسيلة من وسائل النشر والبيان العدالة والثقة والصلاح؟ وحينما يقول لفضيلته مثلاً أحد الناس: 15+ 10= 25أو 7*9= 63هل يتردد فضيلته في قبول هذه النتائج حتى تثبت عدالة من يتقدم إليه بها. لعل الأمور قد اختلطت على شيخنا - حفظه الله)، فالحساب يا شيخنا الكريم مرده إلى الحس المشاهد، وهو مما تعتبره الشريعة، فأنت إذا جئت بخمسة عشر درهما، وأضفت إليها عشرة، ثم عددتها مرة أخرى أصبح المجموع خمس وعشرين، وإذا كررت مجموعة أفرادها سبعة، تسع مرات، ثم عددتها واحدًا واحدًا، وجدت حسًا أن مجموعها ثلاثة وستين وهكذا، فهذا حساب حسي لأمر قد حدث أو يحدث الآن وهو لا شك قطعي، والحساب الفلكي حساب لأمر مستقبل من ناحية وغيبي غير مشاهد من ناحية أخرى، فليس منتهاه الحس، وأرجو أن يلاحظ فضيلتكم أننا لا نتحدث عن دقة الحساب الفلكي وعدم دقته، ولكننا نتحدث عن ما هو معتبر في الشريعة وما ليس معتبر، فلو قدر للخلق بعد أمد أن يكشف الله لهم بأبصارهم فيشاهدون القمر وهو يأتي من المشرق، فيسير نحو المغرب، ثم يبصرونه يسير بعيدًا، فيأتي آخر وقال انظروا ها قد أتى، والشهود ما زالوا يشهدونه يتوارى في جهته الأخرى، لعملنا بهذا، وهذا رعاكم الله حسًا، وليس حسابًا، فعلم بهذا خطأ من أطلق فقال بأن الحساب قطعي، والرؤية ظنية، مثل تقي الدين السبكي إن صح حمله كلامه على ذلك. هذا يا كرام معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إنا أمة أمية لا نحسب، ولا نكتب، الشهر هكذا، وهكذا): أي إننا أمة نعتمد على العلم الضروري الحاصل بالحس الذي يعتمد عليه الأمي، ونعتمد كذلك على العقل الذي هو صفة فطرية ليس له علاقة بعامي ولا جاهل، فلا نفتخر نحن بالأمية، ولا نفتخر بإلقاء العلم وراء أظهرنا، ولكن هذا وصف لطبيعة أحكام الشارع، ولكل نظام طبيعة في أحكامه، فلا يحكم أحد على أحد.

ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فقد خلط الشيخ ابن منيع بين الحقيقة العلمية، وبين بعض الحسابات المتعلقة بالحقيقة العلمية والمبنية عليها، فقد قال (ولاشك بوجود الفرق بين من يتقدم بشهادة رؤية الهلال وبين من يذكر بحقيقة علمية معروفة لدى علماء ذلك العلم. فالأول يأتي بخبر يختص هو بمصدره - وهي الرؤية - والثاني يأتي بخبر علمي يشترك في معرفته جميع علماء ذلك العلم، فالأول في حاجة إلى تعديل وإنصاف بالثقة والأمانة والتقوى والصلاح لكون مصدر علمه بذلك الخبر - وهو الشهادة بالرؤية - ذاتياً في نفسه والثاني لا يلزم اشتراط تقواه وصلاحه لكون خبره معلوماً لجميع علماء ذلك الخبر) فالحقيقة العلمية الواقعة - أعني أنها حاصلة في الحاضر، نعم قد لا يحس بها كل أحد، لكنها هناك - هي التي تبني الشريعة عليها الأحكام في الغالب، أما الحسابات التي تتوقع المستقبل، فلم نر في الشريعة اعتبار لها، فثمة فرق عقلي هام بين الحقائق الفلكية وبين الحسابات الفلكية في أمر ولادة الهلال، وإمكانية رؤيته، فالحقيقة العلمية التي يمكن أن تعتبر، لا يختلف فيها الناس لأنها واقع حاضر محسوس، أما الحسابات الفلكية فهي إخبار أو تنبؤ عن مستقبل لما سيكون الأمر عليه بناء على تلك الحقائق الحاضرة، لكنه يعتمد على مؤثرات عديدة، فمنها في ما نحن فيه سرعة القمر، والشمس، والأرض، ومدار كل واحد منهما، وغير ذلك. وأرجو أن يتأمل الجميع هذه الأحوال: 1 - أن نقول السيارة موجودة، وتتحرك بالوقود، وتصل سرعتها إلى مائة كيلو متر في الساعة. 2 - أن نقول أيضا إذا سارت السيارة بسرعة مائة كيلو متر في الساعة فإنها ستقطع مسافة 200 كيلو متر في ساعتين، فإذا سارت من نقطة أإلى نقطة ب التي تبعد عنها 200 كيلو متر، في الساعة العاشرة، وكانت سرعتها عندئذ 100 كيلو متر في الساعة، فإنها ستصل إلى نقطة ب في الساعة الثانية عشرة 3 - تبعد مدينة الرياض عن مدينة الدمام 400 كيلو متر، وسيسافر صالح من الدمام إلى الرياض يوم السبت القادم الساعة الثامنة صباحًا، وسيسير بسرعة 100 كيلو في الساعة، وسيتوقف لمدة نصف ساعة، وسيكون انطلاقه في البداية متسارعًا حتى يصل إلى سرعة 100 خلال 10 دقائق، وعليه فإنه وبالحسابات العلمية، سيصل إلى مدخل الرياض في تمام الساعة الواحدة إلا ربع مثلا. الأولى: حقائق علمية لا شك في ذلك، ولا ينكرها إلا مكابر، والثانية: حساب حسي - كما مر معنا في مثال الشيخ ابن منيع السابق - أما الثالثة: فهي إخبار عما يمكن أن يحدث وتوقيته، أعني أنها إخبار عن مستقبل، وكل أحد يوافقني أن ذلك التوقيت والتوقع نظريٌ قد يكون صحيحا، لكنه قد يتخلف لأسباب كثيرة جدًا، فليتنبه إلى هذا الفرق، أعني الإخبار عن ماض، والإخبار- أو التوقع الدقيق - عما يمكن أن يكون في المستقبل بناء على الحقائق العلمية الثابتة في الزمن الماضي. ثم إن قال لنا الحاسب يوم السبت الساعة الواحدة إلا ربع، الآن قد وصل صالح إلى الرياض فإننا لا نجزم بذلك لتطرق الشك إلى كلامه، لأننا نعلم يقينا أن ثمة عوامل مؤثرة قد تعرقل سيره فيتأخر أو يتقدم، لكن دعونا من هذه العوامل وتأثيرها، بل هبوا جدلا أن هذه العوامل منعدمة، فإننا نقول إن مجرد الإخبار عن وصوله بناء على هذا الحساب تعتريه مشكلتان: الأولى: أنه لا يقول أحد بأنه قطعي لا يقبل الشك، وحتى وإن قلنا ذلك، تبقى لنا المشكلة الأهم، وهي ما تكرر معنا عدة مرات، وهي: الثانية: أن الشريعة لا تبن على مثل هذا الحساب حكمًا، وأظن أن كثيرًا من النظم الوضعية تراعي مثل هذا، وهذا الذي يسمى في القانون بمبدأ شرعية الأدلة.

ولمزيد من بيان الفرق، هبوا أن المخبر بأن صالحا قد وصل اتصل بصديق له في مدينة الرياض قد شاهد لحظة وصول صالح، فأخبره بها، فعندئذ يكون خبر هذا المخبر شهادة، لا حسابا، فيقبل. نعم، سينبري هنا أصحاب الفلك قائلين بأن الجهل كل الجهل أن نقارن سيارة تسير في طرق كلاهما من صنع البشر، وشمس وقمر يسيران بحسبان كما قال الله جل وعلا، ونحن نقول نعم هناك فروقات كثيرة، لكننا ما قصدنا أبدًا تشبيه السيارة بالقمر، ولا سيرها بسيره، وإنما قصدنا تقريب الفرق بين الحقيقة الثابتة، وبين الحساب المبني عليه للإخبار عن شيء لم يحصل بعد، أو هو في عداد الغيب، فأرجو التنبه. فإن قال قائل إننا لو حكمنا حسابًا باستحالة وصول صالح إلى الرياض قبل الساعة الواحدة إلا ربع، أو لنقل قبل الساعة الثانية عشر ظهرا، بناءً على أكبر تقدير لسرعته، وأفضل تقدير لمقدار سيره وتوقفه وعوامل الطريق الأخرى، ثم بعد ذلك شهد عدل بأنه وصل الساعة الثانية عشرة إلا ربع مثلا، لقال قائل يمكن أن يصح هذا لأن الفرق يسير، لكن لو قال قائل أنه وصل الساعة العاشرة مثلا لبلوغ الاستحالة حد اليقين، والجميع يقر بهذا عقلا، فمادام أنكم أقررتم بذلك، فلم لا تقرون به يوم أن نحكم باستحالة رؤية الهلال في ليلة التاسع والعشرين في أحد الأشهر مثلا؟ قلنا جوابًا على ذلك، الفرق بين ليلة التاسع والعشرين فرق يسير إذا ما قورن بعمر القمر كله، ولا يكاد يخالف في ذلك إلا مكابر، ثم إننا أبدًا ما قلنا بقبول من يزعم رؤية الهلال في ليلة السابع والعشرين مثلا، فضلا عن ليلة العشرين، بل إن الشارع قد لاحظ هذا الفرق، فحكم كما في حديث ابن عمر في الصحيحين أن الشهر يكون تسعة وعشرين، وثلاثين، فلا يكون أقل ولا أكثر. ثم إن الدارس في علم الفلك يعلم يقينا أن العوامل المؤثرة في ولادة القمر، ثم إمكان رؤيته، كثيرة جدًا، والله جل وعلا قادر على أن يحدث تغيرا طفيفا في أحدها، يجعل الرؤية ممكنة في وقت غير ما حسبه الحاسبون. ولو قال قائل أيضا بأن سير القمر والشمس، والعوامل المؤثرة فيه، قد عرفها الحاسبون منذ القديم، وأخذوا بها، عبر مئات من السنين، وحركة الشمس والقمر مضبوطتان بسنة كونية (بحسبان)، قد عرفت جميع جوانبها، وتطورت آلات الحساب، ومناظير المراقبة لدرجة عالية جدًا، فلو قال أجمع أهل الفلك المختصون بأن الحساب يحيل ظهوره في وقت كذا، لكان يقينا بأنه يستحيل ظهوره، فسلموا لنا - في أقل الأحوال - بأنه يستحيل ظهوره، حتى لو لم ترتبوا عليه أي حكم شرعي. قلنا جوابا على ذلك، إن هذا غير مقبول أيضا، وذلك لسبب يسير جدًا، وهو أن هذا كله ما زال توقعًا عن أشياء غيبية مستقبلية كثيرة جدًا، لم يأت ما يؤيدها - ولن يأت - من الحس، ولو في حالة واحدة، ولذا فلا اعتبار لها في الشريعة البتة، وبيان أنه لم يأت ولن يأت ما يؤيدها أن النفي لا يقوى على مقاومة الإثبات إلا بالحس، فلو وضع الفلكيون تواريخ ولادة أهلة السنين كلها، ثم بنو على ذلك أنه تستحيل رؤية هذه الأهلة قبل تلك التواريخ، فما هو الحس الذي يمكن أن يؤيد هذه التوقعات؟ إن رؤيته في التاريخ الذي وضعه الفلكيون لا يعني أبدا أنه لا يمكن أن يرى قبله، ولا يمكن للحس أن يشهد بالنفي المطلق والمجرد عن إثبات ما عداه، فليتأمل. وعلى هذا التقرير العقلي، فإنه لا يمكن للفلكيين بأن يجزموا بصحة حساباتهم عن المستقبل وما لم يشاهد جزمًا يصل إلى مرتبة ما يشاهد، ولذا ولغيره لم تعتبره الشريعة.

وخلاصة ذلك أن لدينا ماض، وحاضر، ومستقبل، فالماضي مرده إلى من حضره وشاهده، وإثباته بسماع أو ما في حكمه، والحاضر مرده إلى الحس أعني أنه يشاهد، أو يسمع، أو يذاق، أو يشم، أو يلمس، وإثباته بالشهادة، أما المستقبل فلم يحس، وهو توقع لما يمكن أن يحدث، فهذا لا يقارن أبدا بما قد حدث، ولا اعتبار له في حكم له في الشريعة فيما نحن فيه. تأملات حول إثبات الرؤية في زمن التشريع: يتأيد ما تقدم لنا حينما نتأمل الأحاديث الواردة في ترائي الهلال على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن لدينا ثلاثة أحاديث: الأول: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَأَيْتُ الْهِلَالَ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ نَعَمْ فَنَادَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ صُومُوا) رواه أبو داود والترمذي وغيرهم. الثاني: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ) رواه أبو داود وغيره. الثالث: عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم بِاللَّهِ لَأَهَلَّا الْهِلَالَ أَمْسِ عَشِيَّةً فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا زَادَ خَلَفٌ فِي حَدِيثِهِ وَأَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ. رواه أبو داود والإمام أحمد. فتأملوا أيها الكرام حديث الأعرابي، ثم بعده حديث الأعرابيين، هل استفصل منه النبي صلى الله عليه وسلم غير سؤاله عن إسلامه؟ هل سأله أكانت جهة الهلال للمشرق أم للمغرب؟ هل تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من رؤيته، بأن قال احسبوا هل يظهر أم لا يظهر؟ هل عمل به إثباتًا ونفيًا، أم إثباتًا فقط؟ هل سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن معرفته بمنازل القمر؟ هل شك النبي صلى الله عليه وسلم في أنه رأى الزهرة أو كوكبا آخر؟ أو شعراً من رمشه سقط على عينه؟! هل اختبر النبي صلى الله عليه وسلم حدة بصره؟ لا، ولا، ولا،،، وبعد، فهل أعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله ذلك سيكون تشريعًا لأمته أن يفعلوا ما فعل؟ فإذا ما جاءهم أعرابي، وسألوه هل هو مسلم، فأجاب بالإثبات، قبلوا شهادته، ودخل الشهر بناء على ذلك، هل علم النبي أو لم يعلم بأنه سيأتي أناس يدلون بشهادات حول رؤية الهلال، وبعضهم كاذب، وبعضهم مخطئ، وواهم، وبعضهم رأى كوكبا آخر، وهكذا ... ومع ذلك لم نر النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إيماء أو تنبيهًا، فضلا عن تصريحًا، إلى وجوب عرض شهادتهم على علم الحساب حتى نتثبت من صدقهم، وعدم خطئهم. ثم إني تأملت في هذه الأحاديث وأنا أسمع بعض الاتهامات تجاه الشهود الذين رأوا الهلال حيث يقول أصحابها، لم لم ير الهلال إلا هؤلاء الأشخاص، قلة في العدد، مع أن كثيرًا من الناس يترآونه؟ في الحادثة الأولى أعرابي، وفي رواية لأبي داود ثانية أعرابي من الحرة، يعني أن أعراب المدينة وأهلها من غيرهم عجزوا عن رؤيته!، وفي حادثة شهر شوال أعرابيان، ثم إنهما شهدا كذلك بما لم يشهد به الباقون، بل وغاب عن أهل المدينة كلهم حتى إن الأمر التبس عليهم! خاتمة:

لقد كنت شرعت في كتابة هذا الرد قبل مدة من الزمن، ولم أشأ أن يطول هكذا، لكن انتشار الشبهة في هذه الأيام، وازدياد القائلين بموجبها، ألزم القلم بما خالف مراد النفس فجرى مسترسلا، فكانت هذه الورقات تعقيبًا على الشيخ ابن منيع ومن وافقه في تخطئته للرؤية السعودية في سنوات عديدة، وقوله باعتماد الحساب لأنه قطعي في نفي الرؤية لأنها ظنية، وتبين لنا 1 - أن مدار البحثين أعني الرؤية والحساب مداران منفصلان، فلا يصح أن يحكم هذا ذاك، ولا ذاك هذا. 2 - وعلم مما تقدم كذلك أن الشارع لم يرد لنا أن نصوم الشهر التاسع الفلكي، الذي يبدأ بولادة الهلال التاسع في تلك السنة القمرية، وإنما أراد منا أن نصوم شهرًا، تسعة وعشرين أو ثلاثين يومًا يبدأ بشهود المسلمين لتاسع أهلة تلك السنة، حتى لو صاموا ثمانية وعشرين يومًا ما بين الهلال وإكمال العدة، ويقضون اليوم التاسع والعشرين بعد، وبه يزول الإشكال 3 - وأن التفريق بين المعنى الشرعي، وغيره، والحقيقة الشرعية وغيرها له نظائر إن لم يكن هو الغالب في الشريعة 4 - وأن القائلين بالحساب الفلكي أخطؤوا يوم أن قالوا بقطعيته كقطعية نتيجة الجمع أو الضرب، إذ أن الجمع والضرب من جهة أمر حسي، ومن جهة أخرى أنه يتحدث عن أمر قد وقع وشوهد (ماض أو حاضر)، أما الحساب الفلكي فإنه يتحدث عن توقع لنتائج معينة (مستقبل)، لم يشهد لها الحس ولو مرة واحدة بالصحة، ويستحيل أن يشهد لها، لتغاير مدلول النفي والإثبات. نسأل الله أن يهدينا إلى الصواب، وأن يرينا الحق حقًا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم كتبه هيثم بن جواد الحداد ضحى الأربعاء 19 شوال 1428هـ وأعيد النظر فيه ليلة الثلاثاء 24 شوال 1428هـ. لندن

قاعدة في الأعياد

قاعدة في الأعياد سليمان بن عبد الله الماجد الحمد لله وحده أما بعد .. فإن الزمان والمكان ظرفان جامدان لا تعظيم لهما إلا ما عظمته الشريعة، والتفات القلب إلى تعظيم شيء منها واعتباره والاحتفاء به إما أن يكون قربة لله وضرباً من العبودية له؛ لأن شريعته عظمته، أو أن يكون بعداً عنه وضرباً من عوائد الوثنية؛ حيث كانت تعظم الجمادات ثم اخترعت في تعظيمها ما لم يأذن به الله. والقاعدة في هذا أن كل قول أو فعل يقصد فيه الزمن، ويتكرران بعودة ذلك الزمن فهو عيد محدث في الشريعة؛ وإن غيَّر الناس تسميته، ويزداد الوصف تأكيدا إذا ظهرت فيه أعمال أخرى؛ كالاجتماع لأجله، والتهاني، أو الألعاب، أو المآكل والمشارب. وبرهان ذلك أن البدعة تدخل في الدين المنزل المحدد بسمات تعبدية محضة؛ كالصلاة والحج والصيام، ويكون دخول البدعة فيها بأحد أمرين: الأول: التغيير في بنيتها أو زمانها أو مكانها؛ فمن زاد ركعة في الصلاة، أو جعلها في غير وقتها، أو في غير مكانها على الدوام فقد ابتدع. والأمر الثاني: فعل عبادة أخرى مضاهية لها ولو لم يُغير في الواردة بشيء؛ كمن أحدث صلاة سادسة تؤدى ضحىً، ويجتمع الناس لها في المساجد. وإذا أردنا أن نتصور مسألة المضاهاة هذه فلنضرب لها مثالاً: فلو أن أحداً أراد أن يُعظِّم أباه فكان عند استيقاظه يقف صامتاً متوجهاً إلى منزل والده، وهو مع ذلك يتمتم ببيت معين من الشعر، ويحرك يديه بطريقة معينة يداوم عليها؛ فإذا سئل عن ذلك قال: هذه مجرد عادة لا مدخل فيها لبدعة، ولي أن أعظم والدي بأي طريقة أراها! فلا ريب أن كل منصف سيقول: إن هذا الفعل يشبه العبادة المشروعة، وسيقرر أن هذا من أعظم المحدثات والبدع .. وذلك كله رغم أنه لم يركع ولم يسجد ولم يتل آية واحدة، كل هذا يدل على أن مضاهاة العبادة المحضة بدعة محرمة. والأعياد الشرعية؛ كالفطر والأضحى جاءت بسمات التعبد المحض وذلك في اختيار الشريعة لزمانها على وجه لا يعقل له معنى على التفصيل؛ فوجب أن يُسلك بها سبيل العبادات المحضة؛ فنقول فيها ما قلناه في الشرائع المحددة بأنه لا يجوز أن نغير في زمانها؛ فنجعل عيد الفطر ـ مثلا ـ في ذي القعدة، ولا أن نجعل صلاة العيد بعد المغرب ولا أن نحوله حزنا؛ فهذا إحداث في بنية العيد وزمانه، وهو الأمر الأول الممنوع في العبادات المحضة ويُوصف بالبدعة. أما في الأمر الثاني وهو المضاهاة فلا يجوز أن نحدث عيدا ثالثا؛ ولو لم نغير في الأعياد الواردة؛ كالذي قلناه في الصلاة السادسة. وهذه هي النتيجة المطلوبة في هذه المسألة. ومما يؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى أيام التشريق ـ كما سيأتي في الحديث ـ سماها بالعيد؛ وذلك لأجل قصد الفعل أو القول أو المكان في الزمن المعين المختار من الشريعة على وجه التعبد. وقد ذهب إلى اعتبار عدم معقولية المعنى لجريان حكم البدعة الإمام الشاطبي رحمه الله؛ فقال في "الموافقات" (2/ 222): ( .. التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فِي الوقوف عند ما حدّه لا يُتعدى .. ). وقال رحمه الله: ( .. لأن ما لا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه؛ فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي). وقال في "الاعتصام" (1/ 347): (فإن كان مقيداً بالتعبد الذي لا يعقل معناه فلا يصح أن يُعمل به إلا على ذلك الوجه). وفي "الشرح الكبير" (1/ 672) قال الدردير رحمه الله: ( .. إن الشارع إذا حدد شيئاً كان ما زاد عليه بدعة) أهـ.

وإنما دخل الإشكال على البعض في هذا الباب حين ظنوا أن البدعة لا تدخل إلا عملا يراد به القربة؛ كالصلاة والصيام والحج، وقد بينت في بحث نُشر على الشبكة بعنوان: (ضابط البدعة وما تدخله) ما يدل على بطلان ذلك؛ فآمل مراجعته؛ لأن تصور مسألة هذا السؤال لا يتم إلا بتصور هذه المقدمة العظيمة. وقد دلت الشريعة في باب الأعياد على صحة هذا الاتجاه؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما فِي الجاهلية؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر". رواه أبو داود في "سننه" (1/ 295). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. فقوله: "أبدلكم" دليل على إبطال كل عيد وإلا لزادهم من أعياد الإسلام دون إبطال الأعياد الحالية. وقوله: "عيدنا أهل الإسلام" دليل على أن ما سواها أعيادُ غير أهل الإسلام. ثم تأيدت هذه الأدلة بالهدي الظاهر للسلف؛ فلم يظهر في ديار الإسلام بعد إيقاف الرسول صلى الله عليه وسلم الأعياد السابقة، وإبدالها بأعياد الإسلام أي عيد طيلة القرون الثلاثة المفضلة تعبدية كانت أو عادية، حتى أحدث العبيديون عيد المولد؛ وذلك رغم أن للأمم المجاورة أو المخالطة للمسلمين أعياداً تعبدية وعادية؛ يقصد منها الاحتفاء بزمان أو شخص؛ كعيد الشعانين ومولد عيسى عليه السلام للنصارى، والنيروز للفرس وغيرها من الأعياد؛ لاسيما والأمة فِي هذه القرون كانت تأخذ الكثير من المفيد النافع من الأمم الأخرى؛ فتركها لهذه الأعياد رغم وجودها دليل على إعراضها عنها ديانة. ولو قال قائل: إن هذا إجماع لكان له وجه، وحتى لو لم يصح إجماعا فإنه ظاهر جلي في فهم السلف لهذه النصوص، وأنها تدل على عدم مشروعية الأعياد المحدثة. هذا وليس من الأصول المعتبرة ولا المشارع الصحيحة عند أهل العلم إجراء القياس فيما سبيله التعبد المحض؛ لوجوه: الوجه الأول: أن إجراء القياس مسألة عقلية، والعبادات مبناها على التعبد المحض المنافي للمناسبات العقلية التفصيلية؛ فلا قياس. وبيانه أن القياس يقوم على إعمال العقل لاستنباط العلة من الأصل المقيس عليه، وإعمال العقل مرة أخرى لتحقق وجود هذه العلة فِي الفرع المقيس له. فحيث لم يُعقل المعنى امتنع القياس فِي جعلها أصلاً أو فرعاً. قال النووي فِي "المجموع" (3/ 342): ( .. الصلاة مبناها على التعبد والاتباع والنهي عن الاختراع , وطريق القياس منسدة .. ). وقال الشاطبي فِي "الاعتصام" (2/ 62) عن العبادة: ( .. ولذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها .. ). وقال البهوتي فِي "كشاف القناع" (2/ 478) ( .. ولا يصح القياس إلا فيما عُقل معناه، وهذا تعبدي محض). وانظر "البحر المحيط" (7/ 133) "، و"شرح الكوكب المنير" (537). الوجه الثاني: أن الصحابة والتابعين والعلماء في القرون المفضلة لم يستعملوا القياس ليصححوا عبادة جديدة أو يزيدوا فيها بذلك. الوجه الثالث: أن من شرط صحة القياس أن لا يعارض نصاً من الكتاب أو السنة، وكل قياس لإنشاء عبادة أو الزيادة فيها فهو معارِض للنص القطعي العام المانع من الإحداث. فالعبادة المحضة التي تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف مع قيام المقتضي لفعلها وانتفاء المانع منه هو كالنص منهم على النهي عن ذات الفعل فيُعتبر القياس معارضاً لهديهم؛ فهو باطل.

الوجه الرابع: أن القياس لا يُعمل إلا عند الضرورة؛ ولا ضرورة لإحداث عبادة لم تأت بِها الشريعة؛ بل الضرورة تقتضي ترك الإحداث. جاء فِي "المدخل" (1/ 119) لابن بدران: ( .. عن أحمد قال: سألت الشافعي عن القياس؟ فقال: إنما يصار إليه عند الضرورة). وكلام الإمام الشافعي رحمه الله يدل على أن القياس إنما يباح للضرورة حتى فِي المعاملات؛ فما بالك فِي منعه له فِي العبادات. لذلك ترى أكثر العلماء الراسخين لا يُحسِّنون شيئاً من هذه المحدثات، أو يعلنون محبتها، أو يعملونَها، أو يتولون الحديث عنها تنظيراً وقياساً وتأليفاً ودرساً. وقد رأى بعض العلماء المعاصرين أن مناط الحكم بالمنع من الاحتفال بهذه المناسبات أو بعضها هو التشبه بالكفار في هذه الأعياد، وفيه نظر كبير؛ فلو كان هذا هو سبب منعها الوحيد لم تكن هذه الأعياد ممنوعة محرمة؛ لأن القاعدة في التشبه: أن ما لم يكن من خصائص مَنْ نُهينا عن التشبه بهم فلا يُعتبر تشبهاً مذموماً، وهذه الأعياد لم تعد من خصائص الكفار؛ بل صار يشترك فيها المسلم والكافر؛ كبعض الملابس التي كانت خاصة بهم ثم صارت مشاعة بين الأمم؛ فلم يعد لبسها تشبهاً. وإنما سبب المنع ما ذُكر من المقدمتين: الأولى: أن الأعياد الشرعية من جملة التعبدات المحضة، وهي من الدين المنزل المحدود. الثانية: أن مضاهاة هذا النوع من الدين بإحداث أعياد زائدة: بدعة في الشريعة. فإذا تبينا كون هذه الأقوال والأفعال حدثا في الدين فلنحذر من فعل البدعة وقولها، قال الله تعالى: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"، وقال: صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". * * * * وهذا عرض لبعض ما وقع فيه النزاع من الأعياد مع بناء الكلام فيها على هذه القاعدة: عيد مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إن سمة التعبد المحض في عيد المولد ظاهرة في اختيار الزمان دون معنى معقول، وفي هذا مضاهاة للمشروع. يوضح هذا أنه لا معنى عقلياً لاختيار الزمان ليكون وقتاً لتعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فما المعنى العقلي المفهوم من قصر الاحتفاء بما ذُكر في زمان دون آخر؟ بل إن المناسبة العقلية الصحيحة هي في اختيار غير الزمان الذي وقع فيه الحدث الذي يراد الاحتفاء به؛ لأنه وقت نسيانه، ولأن زمان حدوثه هو: وقت تذكره؛ فالصمود إلى الزمان المعين نوع تحكم وتصميم لم يُعهد إلا من الشريعة في اختيار الأزمنة والأمكنة؛ فههنا كانت المضاهاة التي تحيل العمل العادي إلى عبادة مبتدعة. ومما استدل به بعضهم لتصحيح عيد المولد ما أخرجه أحمد بسند صحيح إلى ابن سيرين رحمه الله قال: (نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا .. وفيه أنهم اختاروا الجمعة؛ فاجتمعوا فِي بيت أبي أمامه أسعد بن زرارة؛ فذُبحت لهم شاة فكفتهم. وقالوا بأن هذا في حقيقته احتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم معين. فالجواب يكون بعدم التسليم أن ذلك احتفال بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو سُلم لكان قبل شرع صلاة الجمعة وخطبتيها؛ حيث جاء فِي رواية عبد الرزاق بسند صححه ابن حجر أن ابن سيرين قال: (وقبل أن تنْزل الجمعة)، وفيها: فأنزل الله فِي ذلك بعدُ: "يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله" الآية. فتركهم لهذا الاجتماع على يوم محدد ـ بعد نزول الجمعة ـ دليل على عدم مشروعية أي اجتماع آخر له سمة العيد، وفيه دليل أيضاً على أنهم يعرفون مثل تلك الأعمال؛ فتركوها اكتفاء بما شرعه الله يوم الجمعة من الصلاة والتذكير والوعظ في خطبتيها.

ثم إن هذا الاجتماع في دار أسعد بن زرارة إنما هو درس، ولم يكن الزمان مقصودا فيه؛ فلا يُسلم أنه عيد. كما أورد بعضهم على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الاثنين: "ذلك يوم ولدت فيه" بأنه صلى الله عليه وسلم احتفل بيوم مولده بالصيام؛ فالجواب أنه تقرر أن الأعياد الشرعية من الدين المنزل المحدد؛ ولا مجال للقياس في العبادات المحضة؛ فاحتفالنا المشروع بمولده صلى الله عليه وسلم إنما يكون على الصفة الواردة، وهي صيام الاثنين فقط. ولو صح هذا المنهج للزم أن نزيد ركعات في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة خير موضوع فمن شاء فليستقل ومن شاء فليستكثر". والذين يقيمون الموالد وإن كان الدافع لهم على ذلك محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، ويُشكرون على هذه المحبة فإنه ينبغي أن نعلم أن أعظم محبته هو ترسم منهجه والسير على طريقه. الأعياد القومية: وذلك كعيد النيروز أو عيد الجلوس أو عيد الثورة أو عيد الاستقلال وغيرها من الأعياد التاريخية والقومية والعرقية. فسمة العيد شرعا وعرفا ظاهرة في هذه المناسبات فهي ممنوعة، وتعد محدثة مبتدعة. وتقدم الكلام أن تخلف نية التعبد عن مثل هذه الأعياد لا تغير شيئا في وصفها بالبدعة الشرعية. إن حب الوطن والعناية به ـ في حدود ما أقرته الشريعة ـ وكذلك تفضيله على غيره دون معارض شرعي لا تثريب فيه، ولكن الإحداث يحصل بتخصيص يوم معين للاحتفاء به دون سائر الأيام. الوعظ عن مناسبة في يوم حدوثها: كالحديث عن غزوة بدر في السابع عشر من رمضان، أو عن الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب، أو عن الهجرة في أول السنة الهجرية؛ فهذا من جنس المحدثات. وكان سبب قيام وصف البدعة هنا هو الصمود إلى زمان معين دون مناسبة معتبرة شرعا ولا عقلا، وقد تقدم أن المناسبة العقلية تقتضي ذكر الشيء في يوم نسيانه لا في يوم تذكره. وإذا كانت بعض الأحكام ظاهرة في وصفها بالشيء نفيا أو إثباتا فإن هذه المسألة لا تعد كالمسائل التي اجتمعت فيها سمات العيد كالمذكورة آنفا، ولكنها في نظري أقرب إلى أن تُلحق بما وُصف بالبدعة؛ لما تقدم تعليله، ولأنه قول ربط بزمن دون مناسبة عقلية معتبرة. وحري بمن أراد أن يستبريء لدينه أن يدع قصد الزمان في هذه المواعظ، ويمكنه أن يؤجلها أو يقدمها عن التاريخ بالقدر الذي يقطع الارتباط الذهني بعلاقة الموعظة أو خطبة الجمعة بذلك التاريخ. ولنحذر في هذا المقام من استمزاج الشيء والارتياح له بما يؤدي إلى استحسانه ومحبته، وربما تشديد النكير على من أنكره؛ لأن هذا الارتياح هو الذي حمل أهل الموالد والأعياد المحدثة إلى استحسان بدعهم، والمسلم الموفق هو الذي يحمل نفسه على الأصول الشرعية دون اعتبار لذوقه وارتياحه. تخصيص أيام الأعياد والجُمع لزيارة المقابر: وذلك بدعوى عموم أدلة مشروعية الزيارة مطلقة أو عامة؛ وهذا مسلك غير صحيح؛ فيجب أن تبقى على عمومها أو إطلاقها ولا تقيد أو تخص بالرأي؛ فعليه حينئذ أن يعود نفسه على زيارة المقابر حسب الاتفاق من الفراغ والنشاط. أما إذا كان وقت الزيارة هو وقت الفراغ أو النشاط؛ دون أن يكون الزمان مقصوداً للزائر فلا شيء فِي ذلك؛ كمن لا يجد فراغاً إلا يوم الخميس أو الجمعة مثلاً؛ فله أن يجعل الزيارة فِي هذا الوقت؛ لأنها صارت معقولة المعنى فلم ينطبق عليها حد البدعة. عيد الزواج: فما يكون في الأسرة أو خارجها في هذا اليوم من الاجتماع، أو تبادل التهاني، أو الهدايا، أو إحداث أي تغيير في الحياة اليومية التفاتا إلى كون اليوم هو تاريخ الزواج هو في الحقيقة عيد زماني محدث ضاهى فيه المحتفل العيد الشرعي فكان ممنوعا. حفلات تكريم الطلبة: تقام حفلات تكريم الجامعيين وطلبة حلق تحفيظ القرآن العظيم؛ فهل تُعتبر بدعة لكونها تشبه العيد؟ ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم، والأظهر أن ذلك مرجوح؛ لكون هذه الحفلات معقولة المعنى على التفصيل، والزمن غير معين، ولا يُقصد لذاته؛ كما هي الحال في الأعياد الشرعية وغير الشرعية، وإنما المقصود خاتمة الفترة الدراسية؛ فلو تأخرت أو تقدمت تبعتها في ذلك، وهذا معقول المعنى معروف العلة فلم يكن بدعة. عيد القرقيعان: وهو من الأعياد المحدثة؛ بل اجتمعت فيه أكثر سمات العيد من اختيار الزمان وهو اليوم الرابع عشر من رمضان، وإلباس الأطفال الملابس الجديدة، وتهادي المكسرات والتسالي، والاجتماع لأجله. عيد الأم: وفيه يقع اختيار يوم معين، ويحصل التهادي والتهاني، وربما الاجتماع؛ فلا يكون مشروعاً. * * * * وأمثال هذه الأعياد كثير؛ كعيد الحب والشعبنة، ويوم المعلم وغيرها، وإذا عرفنا القاعدة سهل رد الفروع المتجددة إليها. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

ما كان لله بقى .. الإخلاص في التأليف

ما كان لله بقى .. الإخلاص في التأليف عبد المجيد المنصور نقل ابن عبد البر في التمهيد قصة تأليف مالك لموطأه فقال: (قال المفضل بن حرب: أول من عمل الموطأ عبد العزيز بن الماجشون: عمله كلاماً بغير حديث، فلما رآه مالك قال: ما أحسن ما عمل ولو كنت أنا لبدأت بالآثار ثم شددت بالكلام، ثم عزم على تصنيف الموطأ فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله؟ فقال: ايتوني به فنظر فيه ثم نبذه وقال: لتعلمن ما أريد به وجه الله تعالى. قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار) (¬1) ا. هـ وقال ابن عبد البر أيضاً: (وبلغني عن مطرف بن عبد الله النيسابوري الأصم صاحب مالك أنه قال: قال لي مالك: ما يقول الناس في موطئي فقلت له: الناس رجلان محب مطرٍ وحاسدٍ مفتر، فقال لي مالك: إن مد بك العمر فسترى ما يراد الله به) (¬2) ا. هـ. وروي أنه لما ألف مالك موطئه قيل له: ما الفائدة في تصنيفك؟ فقال: (ما كان لله بقي)، ذكر ذلك السيوطي في تدريب الراوي. وحال مالك: كما قال ابن المبارك: إني وزنت الذي يبقى ليعدله ... ما ليس يبقى فلا والله ما أتزنا قلت: سبحان الله اندثرت تلك الموطآت ولم يبق إلا موطأ مالك، ومع أنه بقي طول هذه المدة إلا أن العلماء وقَّعوا على الكتاب وشهدوا على جلالته، واعتنوا به اعتناء منقطع النظير، فيقول الإمام عبد الرحمن بن مهدي: (ما نعرف كتاباً في الإسلام بعد كتاب الله عز وجل أصح من موطأ مالك) (¬3)، والشافعي يقول: (ما كتاب بعد كتاب الله عز وجل أنفع من موطأ مالك رحمه الله) (¬4). قال ابن خلدون في مقدمته: (وتلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها ومن لدن صنف (¬5) إلى هلم (¬6)، وطال ثناء العلماء في كل عصر عليه ولم يختلف في ذلك اثنان ... ) (¬7). وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (وإن للموطأ لوقعا في النفوس، ومهابة في القلوب لا يوازنها شيء ... ) (¬8)، وقال في موضع آخر: (وما زال العلماء قديما وحديثا لهم أتم اعتناء برواية "الموطأ " ومعرفته، وتحصيله) (¬9). قلت: وقد صنفت موطئات كثيرة في زمن مالك، ولم تكن في الحجم والكبر دون موطأ مالك، ولكن لم يكتب الله لها الدوام والاستمرار كما كتب لموطأ مالك، ومنها موطأ ابن أبي ذئب، قال الدارقطني: (كان ابن أبي ذئب صنف موطأ فلم يخرج) (¬10)، ومنها موطأ ابن وهب تلميذ مالك: قال الذهبي: (قلت: موطأ ابن وهب كبير لم أره) (¬11). قلت: وإن الله تعالى كتب لعبارة مالك تلك: (ماكان لله بقي) البقاء كما كتب لكتابه الموطأ، فصارت مثلاً، كما كان موطئه جبلا. ¬

(¬1) التمهيد لا بن عبد البر (1/ 86). (¬2) التمهيد لا بن عبد البر (1/ 85). (¬3) سير أعلام النبلاء (9/ 205). (¬4) التمهيد (1/ 77). (¬5) قال في معجم البلدان: صنْفٌ: بالفتح ثم السكون، موضع في بلاد الهند أو الصين ينسب إليه العُودُ الصنفيُ الذي يتبخر به وهو من أردء العود لا فرق بينه وبين الخشب إلا فرقاَ يسيراً. (¬6) يبدو أنها بلدة قديمة كانت في المغرب العربي، ولم أجد لها ذكر في معاجم البلدان. (¬7) مقدمة ابن خلدون (7/ 684). (¬8) سير أعلام النبلاء (18/ 203). (¬9) سير أعلام النبلاء (8/ 85). (¬10) العلل الواردة في الأحاديث النبوية (12/ 246). (¬11) سير أعلام النبلاء (9/ 225).

ولقد كانت تلك العبارة تشدني كثيراً، وتلوح لي عند كتابة أي حرف على قرطاس، وكم استوقَفَتْ نفسي لتتصارع معها فيما يخطه المداد، هل سيذهب أدراج الرياح، أم سينفع الله به، وهي هموم تجول في خواطر أولي النهى على ما اعتادته النفوس البشرية وهو أمر طبعي، لكن النفوس المريضة التي تبحث عن الشهرة- لا جعلنا الله منهم- تجول في خواطرها كم عدد القراء؟، وماذا يكون رد فعل الجمهور؟، وتتطلع إلى ثناء الناس ومديحهم، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك نيته؛ لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له، ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك ... فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعاً؛ لأنه غير مقبول عند الخالق ولا عند الخلق؛ لأن قلوبهم قد ألفتت عنه، فقد ضاع العمل، وذهب العمر) (¬1). وأما أولي الخفاء والإخلاص فإنهم يقذفون بالحق بإخلاص غير مبالين بما يقوله الأنام، فينفع الله فيه، ويدمغ به الباطل بقدر إخلاصهم ويقينهم حين تصنيف الكتاب. ولقد أوضح الإمام مالك رحمه الله لكل مؤلف ومصنف بعده منهجاً كان مرسوماً ممن قبله، يقوم على أن أي كتاب يراد له البقاء على مر العصور فلا بد أن يكون القصد فيه لله دون قصد الثناء أو الاعتلاء على أكتاف الآخرين، والله عليم بذات الصدور، ولما صدق مالك مع الله في كتابه هذا أبقاه الله، وبقدر إيمان العبد وإخلاصه في التأليف يقع به النفع، ويكون البقاء، فإن عظم إخلاصه كثر ذكر كتابه وتردده على الألسن، وكلما ضعف الإخلاص ضعف تأثير الكتاب في الناس، وقل ذكر الألسن له. والإخلاص كما يقول أهل السلوك درجات بعضه فوق بعض، وليس على مرتبة واحدة، وما كان للشيطان فليس له دوام، ولكنه زبد يذهب جفاء: (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ... )، قال الجاحظ واصفاً بعض الكتاب: فتأمَّل الكتَّاب ... إن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبد يذْهب جُفاءً، وكنبْتة الربيع يُحرقها الهيْف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ؛ أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون) (¬2). كما أوضح لنا الإمام مالك في مقولته تلك أن من أخلص عمله لله وقصد بكتابه وجه الله لم يلتفت إلى كلام المثبطين، ولم يخش لوم اللائمين، ولا نقد الفارغين؛ لأن من خاف ملامة الناس ترك كثيراً مما كان لله فيه رضا، وكان خوفهم فوق خوف ملامة الله، وهذا ما عمله الإمام مالك حيث لم يلتفت إلى كثرة الموطآت في المدينة، ولم يعر للنقد بالاً، ولم يقعده التثبيط عن تصنيف موطئه. ولا يعني بحال أننا نجزم أن كل كتاب نفع الله به ظاهراً أن صاحبه كان به مخلصاً، ولا أي كتاب اندثر ولم يبق، أن في إخلاص مصنفه شيئاً؛ لأن أعمال القلوب علمها عند علام الغيوب، فقد يكتب الله البقاء الدائم لكتاب أراد مؤلفه منه الشر أو الحياة الدنيا أو ضعف إخلاصه فيه، ويُقيّض الله له من يعتني به ابتلاء وامتحاناً لمؤلفه أو لآخرين، وقد يكتب الله لكتاب آخر الفناء والانقطاع السرمدي ابتلاء وامتحاناً، أو رحمة لمؤلفه، وليس لضعف في إخلاصهم، وهذا الظن في السلف وكتبهم التي لم يكتب لها البقاء مثل موطأ ابن أبي ذئب وابن وهب وغيرهم. ¬

(¬1) صيد الخاطر ص 122 (¬2) الرسائل ص 127

وقد يكون هناك من الأسباب النظرية التي تجعل الكتاب ينتشر ويشتهر دون غيره إضافة إلى أمر الإخلاص، وهو عناية التلاميذ، وكثرة الأصحاب والأتباع، وفي عصرنا الحاضر الدعاية الإعلامية، وحسن الطباعة والإخراج وغير ذلك من الأمور الظاهرية التي في الحقيقة وحدها ليست بشيء إذا انعدم معها الإخلاص، بل لا أبالغ إذا قلت إن وجود الإخلاص وحده كاف في إشهار الكتاب وبقاءه على مدار التاريخ، ولو بدون دعاية أو حسن طباعة، بل ربما تصير أقوال العالم كتباً على مدار التاريخ لم يسطرها بيده، ولكن سطرها الإخلاص لله، والصدق معه، والجهاد باللسان، فيقيض الله لكلامهم من يدونه فيكون كتاباً ينفع الله به المسلمين أجمع، وقد حفظ لنا التاريخ شيئاً كثيراً من ذلك، وتراثاً ضخماً من أقوالهم. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس إخلاصاً في دعوته، وأعظمهم إيماناً، وأخشاهم لله؛ حفظ الله للأمة أقواله بل وأفعاله وتقريراته، وسيرته وغزواته، وكل صغيرة وجليلة من حياته، صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يدون كلامه صلى الله عليه وسلم في كتاب، ولا أمر به، بل نهى عنه حتى لا يختلط بالقرآن، فقيض الله لإمام المخلصين صلى الله عليه وسلم من يحفظ له أقواله وسنته، وقيض له من يحميها من التحريف والكذب من أئمة الجرح والتعديل، ومن يدونها في الكتب في عهد القرون الأولى، حتى بقيت إلى يومنا هذا، بقاء القرآن الكريم. ولما سار الصحابة على نهج النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإخلاص والدعوة والخشية لله أبقى الله لنا كثيراً من أقوالهم وأفعالهم بقدر إخلاصهم، فحفظت لنا كتب الآثار والمصنفات الكثير من أقوال أبي بكر وأفعاله؛ لأنه يأتي بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإخلاص واليقين، وهكذا عمر ثم عثمان ثم علي، وهكذا بقية الصحابة تزخر كتب المصنفات والآثار بتاريخهم وسيرهم وأحوالهم، يزيد بعضهم على بعض في الإخلاص وينقص، حتى صارت أقوالهم موضع قدوة واحتجاج واقتداء، وكذلك تلقى التابعون وأصحاب القرون المفضلة الثلاثة من الصحابة الإخلاص لله تعالى، فدون التاريخ مآثر وأقوال ثلة كبيرة من الصالحين والمخلصين منهم، فأضحت أقوالهم منارات تنير الطريق، وحكماً تزيد في الإيمان لم يجعلوها في كتب ولا مصنفات، ولا في دواوين ولا مؤلفات، حفظها عنهم التلاميذ والأصحاب فخلدها التاريخ لصدقهم وإخلاصهم، أمثال الحسن البصري وسعيد بن المسيب والسفيانين وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، والنماذج من أقوالهم ومآثرهم التي خُلِّدت كثيرة جداً لا تكاد تحصى، ولكن أشير إلى بعض المواقف التي تدلنا على مدى إخلاصهم في أقوالهم وكتاباتهم، فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس يتكلم في تفسير القرآن وبيان معانيه أمام حشد من المتلقين، ولم يدونه في كتاب له، بل لم يكن التأليف عندهم معهوداً، فيقضي الله تعالى أن تدون أقوال هذا الحبر في كتب التفسير ثم تفرد في كتاب مستقل بعد قرون يحمل اسم (تفسير ابن عباس رضي الله عنه). وموقف آخر يرويه ابن عساكر عن أبي سعيد رضي الله عنه، فقد روى عن عكرمة قال قال لي ابن عباس ولعلي ابنه انطلقا إلى أبي سعيد الخدري فاسمعا من حديثه، فأتيناه وهو في حائط له، فلما رآنا قام إلينا، فقال مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنشأ يحدثنا، فلما رآنا نكتب قال لا تكتبوا واحفظوه كما كنا نحفظ ... ) (¬1)، ومع هذا النهي منه رضي الله عنه فقد حفظت لنا السنة أحاديثه التي رواها، وتولى الله إبقاءها. ¬

(¬1) تاريخ مدينة دمشق (43/ 46).

وموقف ثالث من تلميذ نبيه لابن عباس وهو مجاهد كان يقول لأصحابه: ((لا تكتبوا عني كل ما أفتيت به، وإنما يكتب الحديث، ولعل كل شيء أفتيتكم به اليوم أرجع عنه غداً)) (¬1)، ويريد الله تعالى أن يبقي لهذا العالم أقواله وآراءه، مع نهيه عن الكتابة عنه، ولم يؤثر هذا النهي في نقل علمه. وموقف رابع من أحد أتباع التابعين وهو الإمام مالك فقد أبقى الله لنا موطئه كما علمنا، كما أبقى لنا فقهه وعلمه وأقواله وأجوبته ظاهرة جلية في (المدونة) التي دونها تلاميذه وأشهرهم سحنون، ولم يكتبها في مصنف، وفي آخر جزء من المدونة لسحنون التعليق التالي: (كتبه ناسخ هذا الجزء: سمعت الكتاب, وكتبته بيدي, وسوف تبلى يدي ويبقى الكتاب) أهـ، وسبحان الله بليت اليد، وبقي الكتاب. هذا الكتاب الذي يبقى لصاحبه ... ذكر يسار به في البدو والحضر تَعَلَّمَنْ أنَّ الدواةَ والقلَمْ ... تَبقى ويُفْنِي حادثُ الدَّهر الغَنَمْ وموقف خامس من الإمام الشافعي تلميذ مالك رواه ابن عساكر في تاريخه عن البويطي قال: قلت للشافعي: إنك تتعبنا في تأليف الكتب وتصنيفها والناس لا يلتفتون إليك ولا إلى تصنيفك! فقال لي: (إن هذا هو الحق والحق لا يضيع) (¬2). وقال الشافعي: (ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ولا بد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب أو السنة فقد رجعت عنه) (¬3). وقال الربيع: دخلت عليه وهو مريض فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلموا هذه الكتب ولم ينسب إلي منها شيء أبداً) (¬4)، وقال مرة: (وددت أن كل علم تعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني)، وهذه العبارات التي سطرها التاريخ تدلنا على المرتبة التي وصل إليها أولئك الأخفياء من الإخلاص حيث بلغوا منه المراتب العليا، حين تجردوا من حظوظ النفس ومبتغاها، فاستحقوا بعدها من عند الله ثمرة الذكر الحسن، والبقاء لكتبهم وأقوالهم بل ومذاهبهم وسيرهم، وهذه كتب الإمام الشافعي التي دونها بنفسه، أو دونها عنه تلاميذه باقية على مر العصور، وما كتابا الأم والرسالة عنا ببعيدين. ¬

(¬1) قواعد التحديث ص52. (¬2) تاريخ مدينة دمشق (51/ 365). (¬3) تاريخ مدينة دمشق (51/ 365)، وتاريخ بغداد (14/ 254). (¬4) تاريخ مدينة دمشق (51/ 365).

وموقف سادس من الإمام أحمد رحمه الله تلميذ الشافعي فقد كان يرفض مبدأ التصنيف والتأليف في الفقه تقديراً للكتاب والسنة، وكان يعتبر ذلك بدعة، وواضعها مبتدع (¬1)، ونهى أصحابه عن كتابة فتاويه، ويقول لهم: "خذوا من حيث أخذت"، ولم يؤثر عنه تأليف خاص من قوله إلا رسالة (الصلاة) ألفها لإمام مسجد رأى منه تقصيراً في الصلاة (¬2)، قال ابن القيم: (ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتاباً في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك)، ولم يكن لنهيه رحمه الله تأثير على حفظ مذهبه وأقواله وأجوبته، فشرع أصحابه بتدوين المسائل التي أفتى بها، فهناك مسائل الإمام أحمد لأبي داود، وأخرى لابن أبي هانئ، وأخرى لابنه صالح، وأخرى لابنه عبد الله ... وأخرى، حتى نهيه عن الكتابة عنه حفظوه وبقي، فنفع الله بعلمه -الذي دونه أصحابه- الإسلام والمسلمين، وصارت أقواله مذهباً يذهب إليه طائفة كبيرة من العلماء، أبقاها الله تعالى لنا لإخلاص هذا الرجل وجهاده في ذات الله، وحاله في عجز البيت التالي: إن تكتبوا نكتب وإن لا تكتبوا ... تأتيكم بمكانكم كتبي بل لم يكتف التاريخ بتسطير أقواله، ولكن تُوج التاريخ بسيرته العطرة المليئة بالكفاح والجهاد بالحجة والبيان، والمليئة بالابتلاء والامتحان، بل وسطر التاريخ مشهد جنازته العظيمة التي صَدَقَ فيها مقولته الشهيرة، والتي أبقاها الله تعالى لنا على مدار التاريخ كما بقي علمه ومذهبه، وصارت مثلاً للعلماء لا ولن ينسى وهي: (بيننا وبينكم يوم الجنائز) (¬3)؛ لعلمه أنه على الحق، ولصدقه مع ربه، وثقته به، وإخلاصه له، فحقق الله له مناه، وخلد ذكره، ونصر به السنة، واستحق لقباً لم يسبقه عليه أحد: (إمام أهل السنة) قال ابن كثير معلقاً على مقولته تلك (وقد صدق الله قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يتلفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ... ) (¬4). يا قائلاً قصُرَت في العلم نُهْيَتُهُ ... أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسِبُ إنَّ الأوائل قد بانوا بعلمهم ... خلافَ قولِك قد بانوا وقدْ ذهبوا ما ماتَ منا امرؤ أبقَى لنا أدباً ... نكون منه إذا ما مات نَكتِسبُ ¬

(¬1) سرد ابن القيم في الطرق الحكمية روايات الإمام أحمد الواردة في ذلك، ثم وجه رأي الإمام أحمد، وفصل القول في المسألة، فليراجع ص401. (¬2) أنكر الذهبي أن تكون هذه الرسالة من تأليف الإمام أحمد، والصواب عكس ذلك، كما هو مسند عنه في الطبقات لابن أبي يعلى، وقد أشار لذلك الشيخ بكر أبو زيد في المدخل المفصل. (¬3) تهذيب الكمال (1/ 467)، والبداية والنهاية (10/ 342)، وسير أعلام النبلاء (11/ 340). (¬4) البداية والنهاية (10/ 342)، ولشيخ الإسلام تعليق على عبارة أحمد يرجع إليها في مجموع الفتاوى (4/ 11).

وهكذا بقية القرون التالية لم تخل من أولئك العلماء الأخفياء يدل على درجة إخلاصهم، شهرة كتبهم، وكثرة طباعتها، وقبول العالمين لها، أينما تتجه إلى بلد أو مكان تجد الكتاب، فهذا البخاري يصنف صحيحه الذي زاحم موطأ مالك ليبقى ذكره ليس بين العلماء فحسب بل بين العوام والصغار، ولا يزال العلماء من بعده يلهجون باسمه أو صحيحه في كتبهم، ودروسهم، ومحاضراتهم، وخطبهم، واجتماعاتهم، لا يكاد يخلو شيء منها من لفظة: (رواه البخاري في صحيحه، أو أخرجه البخاري، أو صححه البخاري، أو ضعفه البخاري ... )، ولذا لما علم رحمه الله أثر الإخلاص وصلاح النية في بقاء الكتاب وقبوله لدى الناس صدر كتابه بحديث (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ... ) فكان هذا الحديث أول حديث في كتابه مع غرابة إسناده كما هو مقرر في علم المصطلح، قال ابن بطال: "قال لي أبو القاسم المهلب بن أبي صفرة: وإنما قدم البخاري، رحمه الله، حديث"الأعمال بالنيات" في أول كتابه، ليعلم أنه قصد في تأليفه وجه الله، عز وجل، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخاري في تأليفه" (¬1). قلت: ولعل هذا الملحظ انتبه له العالم المحقق أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) فصدر كتابه بهذا الحديث كصنيع البخاري، فانطبع إخلاصه في التأليف على الكتاب حتى رأينا من شأنه عجباً يندر له النظير، ليبقى هذا الكتاب شامخاً بين العلماء والعوام على حد سواء، بل لو قيل إن أشهر كتاب بين العوام اليوم هو رياض الصالحين لم يكن ذلك بعيداً، ولا يكاد يخلو مسجد من المساجد إلا وفيه "رياض الصالحين" تجده شامخاً في أحد الرفوف بجانب القرآن الكريم، وما من إمام مسجد إلا وقرأ على جماعته هذا الكتاب كله أو بعضه، وقد طبع آلاف الطبعات، حتى قيل: (ما من دار نشر إسلامية إلا وطبعت هذا الكتاب). وتستمر سلسلة عجائب الإخلاص في التأليف والكتابة بعد أولئك الأخفياء ليرينا التاريخ أعاجيب أخرى فجر فيها الإخلاص كل القيود ووسائل الحصار والتضييق على التأليف، فهذا أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله يسجن ويمنع من نشر علمه الغزير بين العالمين، ويمنع عنه في سجنه المداد والكاغد. ويشاء الله أن يخرج علم ذلك الجبل من خلف كل تلك السدود، ليحفل الإسلام والمسلمين ببحور من العلم في فتاويه التي كتبها في سجنه، لتجمع بعده في قرون ويطلق عليها: (مجموع فتاوى ابن تيمية) ما من عالم أو طالب علم إلا وفي مكتبته نسخة منه، وصار مجموعه مورداً عذباً للفقهاء والأصوليين والمحدثين وعلماء العقيدة ... وكل الباحثين، والدعاة والمربين، قد ضرب في كل فن وعلم وباب بسهام كثيرة .. ¬

(¬1) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 31) وقد تكلم الشراح في سبب تصدير البخاري صحيحه بهذا الحديث مع أنه يخالف الترجمة ظاهراً "باب كيف كان بدء الوحي" فراجع شروح صحيح البخاري، ومنها فتح الباري لا بن حجر وعمدة القاري للعيني، وغيرهما

وأصبحت آراؤه وتقريراته وتحقيقتها هي المعتمدة عند كثير من العلماء من بعده حتى إنه ما من عالم أو طالب أو باحث إلا ويحرص أن يضمن رأيه أو مقاله أو بحثه أو فتواه بشيء مما سطره ابن تيمية في فتاويه المجموعة، ومن حقنا أن نضمن هذا المقال بشيء مما قاله في هذا المجال، حيث كان من مقوله المتكرر في خمسة مواضع من مجموع الفتاوى وبعض كتبه: (ما لا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم) (¬1)، وقال في درء تعارض العقل والنقل نحوه: (وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه، فما لا يكون به لا يكون فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما لا يكون له لايصلح ولا ينفع ولا يدوم) (¬2)، وهي قريبة من عبارة مالك والشافعي رحمهم الله تعالى، وقد شاء الله تعالى لفتاويه وأقواله- وهي من أعماله- أن ينتفع بها العباد في سائر العلوم، وتصلح وتدوم، كما بقيت ودامت كتب وأقوال من سبقه بإذن الحي القيوم. وعلى هذا النهج سار تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية فصار لا يُذكر ابن تيمية إلا ويذكر بعده، فابن القيم معطوف، وشيخه معطوف عليه، وبينهما حرف عطف، نفع الله بعلومهما وكتبهما، واشتركا في كثير من العلوم والمعاني كما اشتركا في العطف والخفض والنصب والرفع والجزم، ومن بعد فلا عجب أن تجدهما يتفقان في بعض المعاني بل والعبارات والألفاظ، ومنها العبارة السابقة الذكر حيث يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولا صلاح له - أي العمل- إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه: هو الله وحده، كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه، فوجوده بالله وحده وكماله أن يكون لله وحده، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع ولايدوم). كما قال شيخه رحمه الله، ولا أدري هل نقل العبارة منه، أو هو من توارد الأفكار وهو غير بعيد، ووارد عند كثير من العلماء. وتسير قافلة الكتب المخلصة تمخر عباب بحر الشبهات والشهوات لتقف في كل قرن وتحمل معها نتاج علم العلماء شاءوا أم أبوا ممن أراد الله بقاء علمهم وكتبهم، وفي القرن الثاني عشر تقف القافلة لتحمل معها كتيباً صغير الحجم، عظيم القدر، كتب الله فيه النفع العظيم، وشاء له البقاء، وشاء لغيره مما خالفه الزوال والفناء، كيف لايبقى وقد اجتمعت فيه عوامل البقاء ظاهرة من إخلاص لله تعالى في الهدف والمنهج والتأليف والدعوة، والحرص على نفع العباد وتصحيح عقيدة التوحيد، وتصفيتها عما يشوبها من الشرك والتنديد، كيف لايبقى ولا ينتفع به والحاجة الماسة لمثله في وقته قائمة على أشدها، كيف لا يبقى وقد بناه على الكتاب والسنة، والحرص على نصح الأمة، ولم يبنه على قواعد المنطق ومصطلحات المتكلمين التي خطؤها أكثر من صوابها، إنه (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ألَّفه في بيان توحيد الألوهية الذي هو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، والبراءة من ذلك، وبيان ما يناقضه من الشرك الأكبر، أو ينقص كماله الواجب أو المستحب من الشرك الأصغر، وقسم الكتيب إلى أبواب، وأورد في كل باب ما يشهد له من الآيات والأحاديث، فهو مبني على الكتاب والسنة: قال الله، قال رسوله، كما قال الشاعر: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي فقيه ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 124)، (8/ 329)، (5/ 515)، (8/ 76)، (8/ 379). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (4/ 15).

ولم يورد الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب إلاَّ ما صح من الأحاديث، أو كان حسن الإسناد، أو هو ضعيف الإسناد، وله شواهد تقوّيه أو هو داخل تحت أصل عام يشهد له الكتاب والسنة، مما ترجم له الشيخ في أبواب الكتاب (¬1). ثم إن الشيخ رحمه الله ذكر في آخر كل باب ما يستفاد من الآيات والأحاديث التي أوردها فيه من مسائل العقيدة؛ مما يعتبر فقهاً لنصوص الباب، بحيث يخرج القارئ بحصيلة علمية جيدة من كل باب، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد الذي هو شرح لكتاب التوحيد: (قد جاء- أي كتاب التوحيد- بديعاً في معناه من بيان التوحيد ببراهينه، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه وتبيينه، فصار علماً للموحدين، وحجة على الملحدين، فانتفع به الخلق الكثير، والجم الغفير، فإن هذا الإمام -رحمه الله- في مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق المبين، الذي بعث الله به المرسلين: من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين، فأعلى الله همته، وقوى عزيمته ... ) (¬2) الخ، وقال الشيخ ابن قاسم في حاشيته على كتاب التوحيد (وهذا الكتاب في التوحيد وما يجب من حق الله على العبيد، الذي لم يعلم له نظير في الوجود، قال فيه الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: قد ألف الشيخ في التوحيد مختصرا ... يكفي أخا اللب إيضاحاً وتبيانا فيه البيان لتوحيد الإله بما ... قد يفعل العبد للطاعات إيمانا حباً وخوفاً وتعظيماً له ورجا ... وخشيةً منه للرحمن إذعانا وغير ذلك مما كان يفعله ... لله من طاعة سراً وإعلانا وفيه توحيدنا رب العباد بما ... قد يفعل الله إحكاما وإتقانا وفيه توحيدنا الرحمن أن له ... صفات مجد وأسماء لمولانا وفيه تبيان إشراك يناقضه ... بل ما ينافيه من كفران من خانا أو كان يقدح في التوحيد من بدع ... شنعاء أحدثها من كان فتانا أو المعاصي التي تزري بفاعلها ... مما ينقص توحيداً وإيمانا فساق أنواع توحيد الإله كما ... قد كان يعرفه من كان يقظانا وساق فيه الذي قد كان ينقصه ... لتعرف الحق بالأضداد إمعانا مضمناً كل باب من تراجمه ... من النصوص أحاديثاً وقرآنا الشيخ ضمنه ما يطمئن له ... قلب الموحد إيضاحاً وتبيانا فاشدد يديك بهذا الأصل معتصماً ... يورثك فيما سواه الله عرفانا وانظر بقلبك في مبنى تراجمه ... تلقى هنالك للتحقيق عنوانا وللمسائل فانظر تلقها حكماً ... يزداد منهن أهل العلم إتقانا وقل جزى الله شيخ المسلمين كما ... قد شاد للملة السمحاء أركانا وقال الشيخ أحمد بن مشرف رحمه الله تعالى: وألف في التوحيد أوجز نبذة ... بها قد هدى الرحمن للحق من هُدِي نصوصاً من القرآن تشفي من العمى ... وكل حديث للأئمة مسندِ ومن استقرأه علم ذلك) (¬3) أ. هـ وقد تصدى العلماء وطلاب العلم من بعده لشرحه، وصار طلاب العلم يحفظونه، بل وتقام المسابقات للصغار والكبار على حفظه، ورصدت لذلك الجوائز. ¬

(¬1) ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ص14 (¬2) فتح المجيد ص5 (¬3) حاشية كتاب التوحيد ص3

قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في كتابه إعانة المستفيد الذي هو أيضاً من شروح كتاب التوحيد: "وأما (كتاب التّوحيد) فهو من أعظم مؤلفات الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب ... ولقد نفع الله بهذا الكتاب، وصار الطلاب يحفظونه، والعلماء يشرحونه ويوضحونه ... نسأل الله أن يكتب الاستمرار لنفع هذا الكتاب في الأجيال اللاحقة، كما انتفعت به الأجيال السابقة" (¬1)، ولأجل ذلك تسابقت الكثير من دور النشر على طباعته، وتسابق أهل الخير والجود بتحمل نفقات طباعته ونشره، وتسابقت الجمعيات الخيرية على توزيعه على الناس في مواسم الحج، فطبعت منه آلاف بل ملايين النسخ، وماكان لله بقي ونفع الله به. وسار أبناء الشيخ وأئمة الدعوة بعده على هذا النهج، ونفع الله بهم وبفتاويهم ورسائلهم التي دونت وجمعت بعدهم لم تكن لتبقى لولا إرادة الواحد الأحد. ويلمع منهم ذلك الحفيد الشيخ محمد بن إبراهيم وسلك نهج أجداده في الدعوة إلى التوحيد، والنصح الأمة رغم تقلده وتحمله لعشرات الوظائف العظيمة الثقيلة في الدولة، من الإفتاء، والقضاء، والتعليم العالي (جامعة الإمام والجامعة الإسلامية)، وتعليم البنات، وغيرها من الوظائف التي قسمت الآن على أكثر من رجل بمرتبة وزير، فقيّض الله له من طلابه البررة من جمع له فتاويه ورسائله في مجموع بلغ 13 مجلدا، وسميت: (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم) وسارت به الركبان، وطارت شهرته بخوافي النسور وقوادم العقبان، وهي فتاوى ورسائل مباركة انتفع به العلماء والقضاة وطلاب العلم إلى هذا اليوم، وله شروح وحواشي على عدد من الكتب. وتستمر القافلة في المسير لنشاهدها في زماننا هذا تُركب معها نتاج ثلة من علمائنا المخلصين أمثال الشيخ العلامة الزاهد عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي أنار درب السائلين، في برنامج: "نور على الدرب" لتجمع تلك الأنوار فتضيء لنا فتاويه وأقواله المجموعة الطريق، ولم يكن ليسطرها بيده مع كف بصره، ولكن بفضل الإخلاص لله تعالى، وبذل العلم والوقت للمسلمين، والحرص على هداية العالمين يقيض الله له من يدونها عنه ويراجعها ويحققها، ويخرج أحاديثها ويدققها. وغير بعيد عنه صنوه وتلميذه الفقيه الذي أمتع الأمة والفقهاء بفقهه وعلمه، يلقي الدرس، وجل همه تعليم طلابه العلم وتفهيمهم بكل تجرد وإخلاص، فتكون دروسه المسجلة بعد سنين، كتباً ينهل منها كل طلاب العلم الراغبين، وما كتابه "الشرح الممتع على زاد المستقنع" الذي أثنى عليه كبار أهل العلم إلا أثراً من آثار الإخلاص لله تعالى، وأصبح علم هذين العلمين "ابن باز وابن عثيمين" وآرائهما موضع راحة واطمئنان للعامة والخاصة كما غدت أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله على الجميع. وإن نَسِيت القافلة أن تقل أحداً على مر التاريخ فلن ولم تنس الإمام المحدث خادم السنة وناصرها، محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه الذي قدم مشروعاً للأمة منقطع النظير، حين أقبل على كتب السنة يحققها، ويبين الصحيح من العليل، في "سلسلة"، فيروي بعدها الغليل، في "إرواء الغليل"، ويدون التحقيق والتصحيح والتضعيف في كتبه لتبقى بعده تنطق باسمه، ويلهج طلاب العلم برأيه"صححه الألباني، وحسنه الألباني، وضعفه الألباني ... ) كما نطقوا باسم البخاري وغيره من قبل، ولله في خلقه شؤون. ¬

(¬1) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ص13 - 15

تلك بعض نماذج من كتب أهل العلم وأقوالهم العلمية، والتي حملتها القافلة وأبقاها لنا التاريخ، ونفع الله بها الأمة، لم نرم من ورءاها الحصر، ولم نقصد القصر، وإلا فالتاريخ الماضي والحاضر مليء بالنماذج الجديرة بالذكر، ولكن شهرة تلك النماذج وقبولها لدى الناس تستوقف المتأمل، وتثير العجب، ومن رام لعلمه البقاء فليكن لله، وأجدها فرصة أن ألخص أبرز عوامل ذلك البقاء، نستوحيها من أقوال أولئك الأخفياء، ووجود كتبهم إلى يومنا هذا، ومنها: أولاً: الإخلاص لله في التأليف والفتوى، فإنما الأعمال بالنيات، وفيما سبق من التقرير، كفاية عن التكرار، ومن روائع تعليقات وتوقيعات ابن القيم في إعلام الموقعين ما سطره بعد نقله لكلام الإمام أحمد رحمه الله حين قال: (قال -أي الإمام أحمد- لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس، الخامسة: معرفة الناس. وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه) ثم بين بعد ذلك منزلة النية من الفتوى فقال: (فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، فكم بين مريد الفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته وما يناله منه تخويفاً أو طمعاً، فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب، هذا يفتي لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع، وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع وهو المشار إليه، وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما فالله المستعان، وقد جرت عادة الله التي لا تُبدل، وسنته التي لا تحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويُلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبِغضة ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء ... ) (¬1) إلخ. ثانياً: أن يكون التأليف فيما الناس بحاجة ماسة إليه، تُحل فيه بعض الإشكالات، أو تبين من خلاله الأخطاء والضلالات، أو تقرر فيه ما يخشى اندراسه من أولى المهمات، كتقرير التوحيد وتصحيح العقيدة، وهذا من أهم عوامل قبول الناس لـ (كتاب التوحيد)، علاوة على الإخلاص. ثالثاً: بناء المؤُلَّف على الكتاب والسنة، بمفهوم سلف الأمة، وعلى حسب ما يقرره أهل التحقيق من أهل العلم، وكل كتاب أو فتوى لا تُضَمّن فيهما الكتاب والسنة، ولا يبنى على القواعد الشرعية، والأصول المرعية فهو خل وبقل (¬2). قال ابن تيمية رحمه الله: (فدين المسلمين مبني على إتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون) (¬3) أ. هـ، ونقل ابن تيمية عن الجنيد: (علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن). هذا هو الإخلاص وأثره على بقاء الذكر، وظهور ثمرة علم العالم، وهو مطلوب شرعاً في كل عمل وليس في التأليف والفتوى وطلب العلم فحسب، وإنما خصصت الحديث عن الإخلاص في التأليف والفتوى والدعوة وطلب العلم حثاً لطلاب العلم والعلماء عليه، ولتذكير كل مؤلِّف به إن رام لمؤلفه وعلمه النفع والبقاء، وهو عنوان هذا المقال؛ إذ هم من أحوج الناس إليه، ولم نقصد بالمقال تتبع أثر الإخلاص في كل عمل صالح سوى التأليف، فإن هذا مما يعجز الحال والوقت من استيعابه، والنماذج فيه قد لا تنحصر، وله وقفة خاصة مستقلة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ¬

(¬1) إعلام الموقعين (4/ 199 - 200). (¬2) أصل هذه العبارة لشعبة قالها في كل حديث يروى بدون سند رواها الخطيب في الكفاية عن أنه كان يقول: «كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل». (¬3) مجموع الفتاوى (20/ 164).

وجهة نظر مختلفة حول موقف (أردوغان)

وجهة نظر مختلفة حول موقف (أردوغان) بندر بن عبدالله الشويقي أما أنه موقف مشرف، فنعم، وألف نعم. فالصهاينة ومن وراءهم لم يعتادوا أن يقابلهم أحدٌ في محفلٍ رسمي بمثل تلك اللغة المشبعة بمعاني العزة والأنفة. فهم لا يعرفون من جهتنا سوى خطابات الاستجداء الذليلة الخانعة التي فضحتها غضبة (أردوغان) المضَرية. غير أن هذه الغضبة ما لم يقارنها فعلٌ يناسبها فسوف تبقى مجردَ ذكرى جميلةٍ تشبه ذكرى حذاء منتظر الزيدي. هل هذا الكلام تقليلٌ من موقف الزعيم التركي؟ بالتأكيد لا .. فموقف (أردوغان) سوف يبقى علامةً فارقةً في لغة الخطاب مع الصهاينة. غير أني مع فرحي بمنظر (بيريز) الذليل أمام هبة (أردوغان)، إلا أني أعجز عن تجاهل الموقف التركي المعلَن من دولة اليهود، فأرجع لأقول: إن نشوتنا بموقف (أردوغان) إن طغت على عقولنا، وتجاوزنا بها حجمها الحقيقي، فسوف تنسينا حقيقةَ أن تركيا لاعبٌ رئيسٌ في مسيرة التطبيع مع اليهود التي انخرطت فيها جميع دول المنطقة بلا استثناء. الدولة التركية لديها علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية معلنة مع اليهود، وقد سبق للأمريكيين ترشيح حكومة (أردوغان) للاضطلاع بمهمة إقامة شرق أوسط جديد وأنموذج إسلامي معتدل كما صرح بذلك مهبط الأحذية (جورج بوش)، وكما نشرته صحيفة (يني شفق) التركية القريبة من حزب العدالة. والمبادرة العربية الرجيمة تحظى بتأييد ومباركة كاملين من حكومة (أردوغان). و (عبدالله غل) وزير الخارجية التركي الأسبق -والرئيس الحالي- سبق أن صرحَ لقناة الجزيرة، بأن حكومته تقوم بجهود وساطةٍ من أجل تطبيع العلاقات بين باكستان وإسرائيل، وفي مناسبة أخرى ذكر للقناة نفسها أن حكومته تقوم -أيضاً- بدور الوساطة للتطبيع بين إسرائيل وسوريا. وهذه المواقف تتسق تماماً مع الموقف والنهج الذي يتعامل به حزب العدالة مع الوضع الداخلي التركي، والمبني على الخضوع الكامل للشرط العلماني الذي يحرسه الجيش، وتجاوز جميع الخطوط الحمراء، مقابل السماح للحزب بالبقاء في سدة السلطة. وهو المسلك الذي يوصف بأنه نهجٌ واقعي ذكي. لست هنا بصدد تقييم الموقف الداخلي للحزب، فتلك تجربة ربما لم يحن الوقت بعد لتقييمها تقييماً موضوعياً. لكن الحديث هنا إنما هو عن سياسة الحزب الخارجية. فتركيا اليومَ ضيفٌ جديدٌ على القضية الفلسطينية، وهي في تعاملها مع القضية، لا تجر وراءها ذاك التاريخ الطويل للصراع الدامي في المنطقة الذي لم تكن طرفاً مباشراً فيه، وساستها لا يعانون ما تعانيه الحكومات العربية فيما يتعلق بالرفض الشعبي الواسع لمبدأ التطبيع مع اليهود. ذلك الموقف الذي يجبر الساسة العرب على سلوك طرق التمويه والتغطية قبل الإعلان الصريح عن تطبيع العلاقات رسمياً. كل هذا مما لا وجودَ له في الحسابات التركية. وإذا أضيفَ لذلك كون تركيا عضواً في حلف الشمال الأطلسي، واستماتتها في سبيل الانضمام للاتحاد الأوربي، وحرصها على غض الطرف الأمريكي عن تدخلها المستمر في شمالي العراق، والسماح لها بالدخول لمطاردة الأكراد متى أرادت. فهذه العوامل مجتمعة مما يرشح الحكومة التركية للقيام بدور مأذون عقد النكاح الذي يرادُ إكماله بين اليهود والعرب. ما أقصده من هذا الكلام أن الذي يؤمن باستمرار خيار المقاومة، ويرفض مبدأ التطبيع مع اليهود عليه ألا يصفق لموقف (أردوغان) أكثر مما يجب، وألا يستغرق في موقفٍ عابرٍ يلهيه عن الصورة الأكبر. وقد صفق العرب طويلاً لحرب (1973م)، فلم ينقطع تصفيقهم إلا على خبر زيارة السادات لدولة اليهود، ثم توقيعه لمعاهدة الذل والخيانة.

ونحن اليومَ مهما طربنا وصفقنا لموقعة (دافوس) الكلامية، يجب ألا ننسى أن موقف الحكومة التركية على المدى البعيد من القضية الفلسطينية ومن الصراع مع اليهود، لا يختلف عن موقف الآخرين، وهو موقفٌ لا يسير أبداً في صالح خيار المقاومة. فالسياسة التركية تدفع باتجاه التطبيع، وهي الغاية التي يستميت اليهود في الحصول عليها، كما أنها الورقة الوحيدة المتبقية بأيدي بني يعرب، بعد تسليمهم بالعجز عن الحسم العسكري. ومن نافلة القول أن الثمرة المباشرة للتطبيع بين اليهود ودول المنطقة ستكون خنق المقاومة في الداخل الفلسطيني. وحين تسعى تركيا للوساطة في عمليات التطبيع، فهي في الواقع تحقق المزيد من التضييق على المقاومة الفلسطينية. وموقف الحكومة المصرية في الأزمة الأخيرة، لم يكن سوى نتيجة متوقعة لتطبيعها العلاقات مع الصهاينة. فالتطبيع ودعم المقاومة نقيضان لا يجتمعان. وعليه فإن موقف تركيا ومنهج حماس إن التقيا اليومَ، فمن المفترض أنهما في النهاية سوف يصطدمان، ما لم يتزعزع أحدهما عن مبدئه. فحال تركيا مع حماس، سيكون في المآل كحالِ حماسٍ مع سائر دول المنطقة التي اختارت الدخول في الاتفاقيات ومفاوضات السلام الماراثونية التي لا يكسب فيها سوى المتسابق الصهيوني. والذي يراقب ما يجري الآن، يرى جهوداً حثيثة تبذل لاستثمار دمار غزة في سبيل الدفع بحماس نحو خيار السلام، والتساؤل الذي أتوقع أن يبرز قريباً: ماذا لو خضعت حماس وسائر الفلسطينيين لشروط اللعبة، وتخلوا عن خيار المقاومة الذي يضغط الجميع باتجاهه؟ قد يبرز هذا السؤال قريباً لدى المعتنين بالشأن الفلسطيني. وأياً كان الجواب عنه، فيجب ألا نحمل الفلسطينيين أكثر مما يطيقون. فإن اختاروا الثباتَ على الجهاد والاستمرار في خيار المقاومة فدعمهم والوقوف معهم متعين. ومن عجز عن دعمهم، فلا عذر له في التآمر عليهم أو المشاركة في حربهم. بل ليس له الحق في لومهم لو مدوا أيديهم لقبول المال الإيراني .. لكن إن رأت فصائل المقاومة أن المصلحة الآن في الكف وإلقاء السلاح، فيجب ألا نكلفهم فوق ما يطيقون، فقد أدوا الكثير مما عجز عنه غيرهم. لكن إلقاء السلاح شيء، ومد الأيدي للصهاينة شيء آخر. المصدر: موقع شبكة نور الإسلام

الانتصار لمنهج أهل السنة والجماعة

الانتصار لمنهج أهل السنة والجماعة بقلم منصور بن حمد العيدي قرأه وراجعه علوي بن عبد القادر السَّقَّاف الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد .. فإن من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله عز وجل وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن هم قاموا بشرعه ونصروا دينه قال تعالى: ((إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)). وإن القيام بشرع الله ليعظم أمره، ويجل فضله في أوقات غربة الدين وتسلط أعدائه عليه. ولا يخفى على أحد ما يتعرض له دين الله تعالى في هذه السنوات الأخيرة من هجمة شرسة من أطراف متعددة داخلية وخارجية، الأمر الذي يستوجب من حملة المنهج الحق المبادرة الجادة، والعمل الدؤوب لصد هذه الهجمة على أعقابها؛ إعلاء لكلمة الله واقتداء بهدي المرسلين وابراء للذمة. ومن هذا المنطلق قمت بإعداد هذه الورقة المختصرة أذكر فيها جملة من القضايا والموضوعات التي ينبغي تسليط الضوء عليها على وفق منهج أهل السنة والجماعة عن طريق الدروس والمحاضرات والكتب والمؤلفات، والمساهمة في الصحف والمجلات والمنتديات، وكتابة الرسائل العلمية، وإنشاء مراكز علمية ومواقع على الإنترنت، مرورا بالمناصحة مع العلماء والمسئولين، وفضح العلمانيين والمنافقين، ورصد أقوال المنحرفين والمخالفين إلى غير ذلك من وسائل وأساليب الغرض منها تحقيق هذا المقصد العظيم. ورغبة في مزيد من الإيضاح تم وضع إضاءات وإشارات مختصرة تحت كل عنوان ينبغي التركيز عليها في المقام الأول. وقد قسمت هذه الورقة إلى أربعة أقسام: الأول: العقيدة والمنهج. الثاني: المصطلحات. الثالث: المرأة. الرابع: موضوعات متفرقة. أولا: العقيدة والمنهج: جُمِع تحت هذا العنوان الموضوعات التي تتعلق بشكل مباشر بعقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة. 1 - مفهوم الغلو: يكثر في الآونة الأخيرة نسبة الغلو إلى منهج أهل السنة فيتعين على أتباع هذا المنهج أن يبرزوا الطبيعة المعتدلة لهذا الدين بين الأديان ولهذا المنهج بين المناهج المبتدعة، وفي المقابل عليهم أن يظهروا صور الغلو عند اليهود والنصارى وعند أهل البدع والمنحرفين. 2 - التكفير والخوارج: التكفير باب من أبواب العقيدة يراعى فيه الضوابط الشرعية، ولا يكون دين لا تكفير فيه، مع التحذير من التوسع في إطلاق التكفير والتحذير من بدعة الإرجاء التي تقصر التكفير على الاستحلال، وينبغي تحرير الفرق بين التكفير عند أهل السنة والجماعة والتكفير عند الخوارج. 3 - نواقض الإسلام: ينبغي أن يبين للناس أن للإسلام نواقض تخرج منه منصوصاً عليها في الكتاب والسنة، مع التذكير بما استجد من الصور المعاصرة لها. 4 - الولاء والبراء والجوانب العملية لهما: ترسيخ هذا المفهوم العقدي في نفوس الناس مع بيان من يكون له الولاء الكامل أو البراء الكامل ومن يجتمع في حقه ولاء وبراء, وبيان ما يترتب عليهما من أحكام شرعية، وتفنيد الشبه التي تثار حول هذه العقيدة. 5 - العلاقة مع الكفار: ينبغي توضيح وجوب عداوة الكفار وبغضهم، وأن العداوة غير الاعتداء، وأنه لا يتنافى مع العدل معهم، ولا الإحسان إلى غير الحربي منهم، مع الحرص على دعوتهم للإسلام. 6 - العلاقة مع أهل البدع: يجتمع في المبتدع ولاء وبراء فتبذل له حقوق الإسلام ويحرص على دعوته، ويحذر منه ومن بدعته، ولا يمكَّن له ولا يعلى من شأنه، وأما من أظهر بدعة كفرية فهذا له شأن آخر. 7 - عداوة الكفار لأهل الإسلام:

لا يزال الكفار في قتال وعداوة لأهل الإسلام وأتباع المنهج الحق وما الحملة الصليبية المعلنة إلا شاهد على ذلك، فيؤكد على أن عداوتهم دينية، وأنهم لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبعوا ملتهم. 8 - مظاهرة المشركين على المسلمين: ينبغي توضيح خطورة مظاهرة المشركين على المسلمين وأنها من نواقض الإسلام كما نص على ذلك العلماء. 9 - الثوابت والمتغيرات: تسمع دعاوى كثيرة تلغي وصف الثبوت عن الشريعة، وأخرى تدعي احترام الثابت وهي في الحقيقة تنفي عن أكثر الثوابت هذا الوصف فيتعين إبراز الثوابت والذب عنها وإيضاح معنى الثابت والمتغير. 1 0 - مظاهر الشرك والبدعة: للشرك والبدعة مظاهرهما التي لابد أن تبين ويحذر الناس منها ويرد على دعاتها. 1 1 - مصدر التلقي ومنهج الاستدلال: توضح هنا مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة مع التمييز بين المصادر الأصلية والفرعية ويوضح أيضا منهجهم في الاستدلال، وموقفهم من العقل، كما يبين أن أهل السنة يعطون النص حظه من الدلالة دون غلو ولا تقصير، ويُركز على مكانة فهم السلف لمعاني النصوص، مع كشف مصادر التلقي عند أهل الأهواء والبدع. ثانيا: المصطلحات. الحديث هنا عن مصطلحات متداولة ينبغي تحريرها وتبيين موقف الشرع منها، مع التنبه لطبيعتها المجملة غالباً، وعلى دعاة الحق التنبه لشََرَك مثل هذه المصطلحات. 1 - الاعتدال: لابد من توضيح هذا المصطلح على قاعدة أن الاعتدال ما وافق الشرع، وأن مخالفة الشرع إما غلو وإما جفاء كلٌ بحسبه، ومن المهم التنبيه هنا على مصطلح الوسطية، وأن لها تعريفا شرعيا، مع بيان أحق الناس بوصف الاعتدال والوسطية، مع التحذير من الاستخدام السيء لهذا المصطلح. 2 - الوحدة الإنسانية: يبين هنا أن الوحدة المطلوبة شرعا هي الوحدة الإسلامية على أساس اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وأن أي دعوى توحيد أو تقريب تخالف هذا الطرح غير مقبولة؛ لأنها تتضمن هدما لأصول الإسلام سواء أكان تقريباً بين الأديان أو تقريباً بين الفرق. 3 - السلم المدني: هذا المصطلح المتضمن لدعاوى التعايش والتسامح يحمل في طياته معان صحيحة وأخرى فاسدة فلا يعطى حكماً واحداً بل لكل معنى حكمه الخاص به، وينبه في هذا السياق على ما يسمى بالسلام العالمي وأنه دعوى مستحيلة الحدوث تحت مظلة الحضارة الغربية التي قامت على الاعتداء ونهب خيرات الشعوب المستضعفة فهم أكثر من يطلقه وأكثر من يخالفه. 4 - الحرية: الحرية حق مكفول لكل أحد بضوابطه الشرعية، ويؤكد هنا على زيف دعاوى الحرية عند الغرب وأشباههم, وعلى أن الحرية المنفلتة جرَّت على البشرية ألواناً من العذاب والمعاناة. 5 - اليسر والسهولة: يكثر في الآونة الأخيرة التميع في الفتوى وتجميع الرخص بزعم التيسير ورفع الحرج فيبين هنا الفرق بين الأمرين، ويوضح هذا المصطلح الشرعي على وجه يمنع الاستخدام السيئ له المقتضي للتفلت من الشرع. 6 - الأصولية والتطرف ينبز دعاة الحق بمثل هذه المصطلحات, فلا بد من إبراز المعيار الذي يعرف به التطرف في الشرع, ولابد من ذكر صور التطرف عند المخالفين, والتنبيه على أن التطرف قد يكون جفاء الأمر الذي يقع فيه عامة من يتهم المتدينين به, ويؤكد هنا على الأصل الغربي لكلمة الأصولية وخطأ إسقاط هذا المصطلح على أهل التدين. 7 - العلمانية والليبرالية مصطلحان متقاربان يمثلان مفاهيم غربية يراد فرضها على المسلمين، وهي مخالفة للإسلام، مقتضية لردة صاحبها، وحيث إن أصحابها يطرحون شبهات فلا بد من العناية بالرد عليها. 8 - الديمقراطية:

أسلوب غربي في الحكم يراد تعميمه على كل المجتمعات بزعم أنه الأصلح للبشرية، فلابد من بيان كونه جاهلية معاصرة، وعلى أن الجوانب الحسنة فيه موجودة في الشرع، مع التأكيد على أن السيادة هي للشريعة الإسلامية، وأن نقد الديمقراطية لا يعني الثناء على أساليب التعسف والظلم في الحكم. ثالثا: المرأة: من أبرز ميادين المعركة بين الحق والباطل المرأة فالكفرة يعتقدون أنها أقوى وأسرع طريق لإفساد المسلمين, وأهل الإسلام يعتقدون أن في صلاح المرأة صلاح المجتمع، وفي الميدان ليبراليون ماجنون يريدون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فكان لزاماً إبراز منهج السلف الصالح تجاه قضايا المرأة وعدم الاقتصار على الوقوف موقف المدافع. 1 - عمل المرأة: يبين أن الأصل قرار المرأة في بيتها، وأن خروجها للعمل لابد أن يراعى فيه الضوابط الشرعية مع بيان ما تعانيه المرأة العاملة لاسيما في بلاد الغرب، مع إظهار مقصد أعداء الدين من خروج المرأة، والحرص على رد الشبهات حول عمل المرأة. 2 - حقوق المرأة وتكريم الإسلام لها: لابد من إبراز مظاهر تكريم الإسلام للمرأة والحقوق الشرعية لها، وبيان إهانة المجتمعات الغربية لها كما يوضح أن كثيرا مما يدَّعى أنه من حقوق المرأة ليس كذلك مما يفهم معه خطورة ما في هذه العبارة من إجمال. 3 - ظلم المرأة: جاء الإسلام ليرفع الظلم عن المرأة، فيحسن بأصحاب المنهج الحق أن لايقفوا موقف المدافع عنه لكثرة ما يتهم به من ظلم لها فعليهم بالمقابل ذكر صور ظلم المرأة عند دعاة التحرير وفي بلاد الغرب. 4 - دور المرأة في المجتمع: على دعاة الحق بيان دور المرأة الواسع في إطاره الشرعي في مجتمعها وأنها بتطبيقه ليست معطلة عن العمل، وعليهم بيان المقاصد السيئة لمن يزعم أن المرأة نصف المجتمع المعطل. 5 - المرأة والولايات العامة: يُوضح الحكم الشرعي لتولي المرأة الولاية العامة، كما يرد على الشبهات التي تثار حول هذه القضية مع التأكيد على خطورة التقليد الأعمى للغرب. 6 - تحرير المرأة: لابد من إيضاح المقاصد من هذه الدعوى وأن ما يسمى بتحرير المرأة لم يساهم أبدا في النهضة الحضارية، وأن التحرير دعوى مرفوضة لأنها لم تُستعبد أصلا حتى يُدعى لتحريرها .. 7 - حجاب المرأة: يؤكد على أهمية الحجاب والحياء للمرأة، والتحذير من دعاة السفور، والتأكيد على خطر الموضة على المرأة المسلمة، وعلى أهمية تميزها ظاهراً وباطناً، مع تفنيد الشبهات التي تثار حول الحجاب، وأنه لا يتنافى مع حريتها الشخصية. 8 - قيادة المرأة للسيارة: لابد لأصحاب المنهج الحق من بيان الآثار السلبية لمثل هذا الأمر، وإبراز فتاوى العلماء في هذا الباب، والرد على كافة الشبهات، ولفت النظر إلى أنه الحاجز الذي بكسره يتم تغريب المرأة. رابعًا: موضوعات متفرقة: 1 - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: من مظاهر الطعن في منهج أهل السنة والجماعة الكلام على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب همزاً ولمزاً، وإثارة الشكوك والشبهات حولها، الأمر الذي يستوجب التصدي لمثل هذه الطعون وتفنيد الشبهات، وتقرير أصول هذه الدعوة وبيان وسطيتها ومراعاتها للمصالح والمفاسد، مع تحذير الأخيار أن يكونوا أداة للطعن فيها. 2 - الحسبة: ينبغي إحياء هذه الشعيرة في نفوس الناس، وإعانة أهل الحسبة مع بيان الآثار الإيجابية لهم في صيانة المجتمع، وأن خطأ المحتسب كخطأ غيره من أفراد المؤسسات الأخرى ولا يعود هذا الخطأ على أصل هذه الشعيرة بالنقض، وذلك على فرض صحة وقوع هذه الأخطاء وإلا فإن أكثرها أباطيل وأكاذيب. 3 - الحوار:

مع تزايد المطالبات بالحوار من مختلف التيارات، ينبغي التأكيد على أن يكون المقصود منه الوصول إلى الحق بالحجة والبرهان، مع إجراء قاعدة المصالح والمفاسد في هذا الباب، والتنبيه على أن الحوار وسيلة كغيره فلا يطغى على غيره من الوسائل فيلغيها. 4 - سد الذرائع: التأكيد على شرعية هذه القاعدة واتفاق الفقهاء عليها وعلى أثرها في تحجيم الفساد، وأنه لا سبيل إلى إلغائها أو التضييق عليها متى ما طبق بضوابطه الشرعية، وأن الطعن فيها ومحاولة تجاوزها مؤذن بفساد عريض، كما يجب الرد على كافة الشبهات المثارة في وجه هذه القاعدة أو على تطبيقاتها الصحيحة في الواقع. 5 - الجهاد والإرهاب: يؤكد على أن الجهاد من ثوابت الدين، وأنه جهادان دفع وطلب، مع بيان المشروع منه وما أدخل فيه خطأ أو ظلماً، ويحسن في هذا السياق الإشارة إلى ما تمارسه قوى الكفر في العالم ضد الإسلام وأهله وبيان من هو الجدير بوصف الإرهاب المذموم، ولابد من التفريق بين مفهوم الإرهاب في الشرع ومفهومه عند الغرب الذي هو ترجمة خاطئة للكلمة الإنجليزية ( Terrorism) وترجمتها الصحيحة التخويف بغير حق. 6 - مناهج التعليم: صد الهجمة الشرسة على مناهج التعليم الشرعية بحجة أنها تغذي الغلو والتكفير والإرهاب، ببيان أن ما اشتملت عليه من أصول وثوابت، ورد مختلف الشبهات عنها، وفضح المطالبين بالتغيير من أعداء الداخل، وأسباب هذه المطالبة، مع إبراز معالم العنف والتطرف والغلو في مناهج المخالفين من كفرة حاقدين ومبتدعة ضالين، كما ينبغي التأكيد على أن مناهج التعليم الشرعية متعلقة بصبغتنا الإسلامية وأن التنازل عنها تنازل عن هذه الصبغة (الهوية). 7 - الفتيا والاجتهاد: تقرير أن الفتيا ليست حقاً مشاعاً لكل أحد بل لها شروطها وأحكامها، وأن أهلها هم العلماء، مع التأكيد على مجالات الاجتهاد وأنه لا يدخل في أصول الدين وثوابته، وذكر الضوابط الشرعية لقاعدة لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان. 8 - تجديد الخطاب الديني: ينبغي توضيح حقيقة هذا الشعار وما يراد منه عند بعض حملته الذين يرفعونه تلبيساً وتدليساً لتمرير ما يريدون تمريره من مفاهيم باطلة ويعبثوا بما شاءوا من أصول شرعية ويتلاعبوا بمضمون الخطاب الشرعي، موهمين أن التجديد واقع على وسائل تبليغ هذا الخطاب لا مضمونه، فينبغي التبيين والتفصيل وبيان ما يصح دخوله شرعاً تحت هذا الشعار وما لا يصح. 9 - الجمعيات الخيرية: الجمعيات الخيرية اليوم تتعرض لتضييق شديد وحرب شعواء من العالم الغربي تحت شعار محاربة الإرهاب، فينبغي نصرة هذه الجمعيات بالقول والفعل، والتأكيد على أهميتها وآثارها وفضائلها، ورد التهم الباطلة عنها، والتأكيد على الازدواجية التي يتعامل بها العالم الغربي مع هذه الجمعيات، فبينا هو يحارب الإسلامية منها إذ هو يدعم التنصيرية. (اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

جريمة حصار غزة في الفقه الإسلامي

جريمة حصار غزة في الفقه الإسلامي د. عطية فياض لم يشهد التاريخ البعيد أو القريب مأساة كالتي يعيشها أهل غزة؛ إذ تداعى عليهم الجميع، القريب قبل البعيد، فما أن توقَّفت المحرقة التي سيقوا إليها بتواطؤ مفضوح وعلني مما يسمى بالمجتمع الدولي، وتحت غطاء ما يسمونه "الشرعية الدولية"، حتى تحرَّكت كثير من العواصم، وعقدت قمم لإحكام الحصار عليهم، تارة لمنع تهريب السلاح الذي لم يُتفق بعد على تعريفه، فقد يكون من جملة السلاح: الأدوية، والطعام، ومواد البناء، ومستلزمات المدارس، وتارة أخرى بمنع حماس من السيطرة على القطاع، وغير ذلك من الذرائع. وهذه الحالة وإن كان أهلنا في غزة يعيشونها منذ أكثر من عامين، إلا أنَّ الجديد فيها هذه المرة هي مباركة ومشاركة كثير من الدول الأوروبية وغير الأوروبية فيها، وفق اتفاق دولي سعى إليه الكيان الصهيوني قبل وقف المحرقة بيوم واحد مع أمريكا، لتقوم الأخيرة بدور الشرطي في المنطقة؛ لحماية الكيان الصهيوني من الأدوية التي تدخل للمرضى، ومواد البناء التي تستخدم في إيواء المشرَّدين في الشوارع والمدارس، بعدما أقدم المحتل المتحضر والأكثر أخلاقية على دك البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، وبالمحرَّم من الأسلحة، وقد تطوَّعت بعض الدول الأوروبية للمشاركة في هذه الحملة. وقد يتخيَّل البعض من المسلمين أنه ما دام القصف قد توقَّف، وهدأت الأمور بعض الشيء، وبدأت مفاوضات تثبيت ما أسموه "وقف إطلاق النار" فإنَّ الأمر يسير، وينبغي أن تهدأ نفوسنا، ونصير إلى همومنا، فيمكن لأهل غزة أن يعيشوا تحت أي ظروف كما كانوا يعيشون من قبل، ويمكنهم التغلب على إجراءات الحصار بطريقتهم الخاصة، بحفر الأنفاق تارة، وبما يتكرم به الصهاينة من فتات الطعام والشراب والوقود والدواء تارة أخرى، متجاهلين أنَّ الحصار في حد ذاته يعد عدوانًا مباشرًا على هذا الشعب، وهذا ما يجب أن يعيه المسلمون أولا حتى لا تُصوَّر الأمور تصويرًا خاطئًا، ويفهم أنه إن توقف القصف واستمر الحصار فلا داعي للمقاومة. وهنا يلزم بيان الموقف الشرعي الصحيح من استمرار حالة الحصار الشامل على غزة، ومشاركة كثير من الدول في إحكامه، وسكوت البعض الآخر عليه، بل وربما تسويغه بمسوغات سياسية وغيرها، وهو ما نبرزه فيما يلي:

أولا: الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني؛ بمعنى حبس أهل غزة فيها، ومنعهم من الخروج منها، أو الدخول إليها، ومنع الحركة التجارية، بل ودخول المساعدات الإنسانية وغيرها، وما يترتَّب على ذلك من إلحاق الضرر الفادح بالناس أصحاء ومرضى بسبب نقص الطعام والشراب والدواء والوقود اللازم، وزيادة البطالة، كل ذلك عده الفقهاء من صور العدوان العمد، والذي يترتَّب عليه -إذا ترتب عليه- موت المحاصَر أن يقتص من المحاصِر. قال الدسوقي الفقيه المالكي: "يقتص ممن منع الطعام والشراب ولو قصد بذلك التعذيب ... وقال نقلاً عن ابن عرفة المالكي: من صور العمد ... أنّ من منع فضل مائه مسافرًا -عالما بأنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم يسقه- قُتِل به وإن لم يل قتله بيده اهـ فظاهره أنه يقتل به سواء قصد بمنعه قتله، أو تعذيبه "وفي الفروق" من حبس شخصًا، ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له". وقال زكريا الأنصاري الشافعي: "لو حبسه ومنعه الطعام أو الشراب والطلب له مدة يموت مثله فيها غالبًا جوعًا أو عطشًا، ومات، لزمه القود؛ لكونه عمدًا، لظهور قصد الإهلاك به، وتختلف المدة باختلاف المحبوس قوَّة وضعفًا، والزمان حرًّا وبردًا، ففقد الماء في الحر ليس كهو في البرد، وكذا يلزمه القود إن سبق لهجوع أو عطش، وكانت المدتان تبلغان المدة القاتلة، وعلمه الحابس لما ذكر". وقال ابن قدامة الحنبلي في صور القتل العمد الموجب للقود (القصاص):"الضرب الرابع: أن يحبسه في مكان، ويمنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها حتى يموت، فعليه القود" فهذه نصوص الفقهاء تشهد بأن من منع الطعام والشراب عن شخص حتى مات، قاصدًا قتله أو تعذيبه، فهو قاتل مجرم، فكيف بمن منع الطعام والشراب والدواء عن مليون ونصف من المدنيين، وفرض حصارًا ظالمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا حتى أودى بحياة الكثيرين؟! وهذه الجريمة التي ينفذها الصهاينة بحق شعب غزة تعد صورة من صور جرائم الإبادة الجماعية في نظر القانون الدولي المعاصر حسب ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، والتي اعتمدت، وعُرضت للتوقيع والتصديق، أو للانضمام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948، وكان بدء نفاذها في 12كانون الأول/يناير 1951حيث جاء في المادة الثانية من هذه الاتفاقية صور الإبادة الجماعية على الوجه التالي: "في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيًّا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أوإثنية، أو عنصرية، أو دينية، بصفتها هذه: أ) قتل أعضاء من الجماعة. ب (إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. ج) إخضاع الجماعة -عمدًا- لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا. د) فرض تدابيرتستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. هـ) نقل أطفال من الجماعة -عنوة- إلى جماعة أخرى" فهذا النص بكامل صوره ينطبق على ما تقوم به إسرائيل في حق أهل غزة. ثانيا: في الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني إذلال ومهانة للشعب الفلسطيني قد تكون أعظم مما يحدث في المواجهة العسكرية، فلنا أن نتصور أمَّة أو شعبًا يُمنع من الدخول إلى وطنه، أو الخروج منه إلى غيره، ويُمنع الطعام والشراب والدواء، بل ويُمنع الحديث معه، ويعيش كما يقول العدو "غزة لا حياة ولا موت"، فيسمح بين وقت وآخر بمرور بعض الضروريات كلما أشرفت غزة على الموت، وهذه هي المهانة والذل.

إن الله كرَّم بني آدم جميعًا، وكان من مظاهر تكريمهم أن حملهم في البر والبحر يتحركون بحريَّة، ويتنقلون من أرض لأرض طلبًا للطيب من الرزق، ويوم أن يحرم الإنسان من مظاهر التكريم التي منحها الله إياه، فيجب عليه أن يجاهد تحصيلاً لها. ثالثا: الحصار المفروض على غزة هو من قِبَل عدو محتل غاصب للأرض، وذريعته في الحصار داحضة وسخيفة، فهو لا يريد رفع الحصار إلا إذا سقطت حكومة حماس، أو اعترفت بحق الكيان الصهيوني في اغتصاب الأرض، والاعتداء على الفلسطينيين في أي وقت، وأخيرًا فتح المعابر مقابل إطلاق سراح الجندي الصهيوني " شاليط " في الوقت الذي تعج فيه معتقلات العدو بآلاف الأسرى من الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم يدافعون عن حقهم في الحياة وطرد المغتصبين، فإن لم تذعن حماس لهذه الطلبات فهي ومن يوافقها من الحركات إرهابية، ولست أدري بأي منطق يرى البعض من الذين يسمون أنفسهم حكماء وعقلاء أن على حماس الإذعان لشروط الرباعية، وترك المغتصبين يتجولون بحرية في الأراضي التي اغتصبها العدو، بينما أصحابها يعيشون في ملاجئ في هذا البلد أو ذاك؟! واجب الأمة في رفع الحصار: نظرًا للآثار التي يخلفها الحصار على أي شعب محاصر، فقد اعتبر الفقهاء أن حصار أي بلد مسلم من الحالات التي يتعين فيها الجهاد؛ أي يصبح الجهاد فرض عين لا يحتاج إلى إذن أصحاب الإذن. ومما ورد في ذلك ما قاله البهوتي الحنبلي في حالات فرضية الجهاد: "وَمَنْ حَضَرَ الصَّفَّ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، أَوْ حَصْرِ عَدُوٍّ، أَو ْحَصَرَ بَلَدَهُ عَدُوٌّ، أَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ بَعِيدٌ فِي الْجِهَاد، ِأَوْ تَقَابَلَ الزَّحْفَان الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، أَوْ اسْتَنْفَرَهُ مَنْ لَهُ اسْتِنْفَارُهُ، وَلاعُذْرَ- تَعَيَّنَ عَلَيْهِ َأيْ: صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ" وفي نص آخر يظهر فيه سقوط إذن الوالد والدائن ونحوهما في حالة تعيُّن الجهاد" إلا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ لِحُضُورِ الصَّفِّ، أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ، أَوْ اسْتِنْفَارِ الإِمَامِ لَهُ وَنَحْوِهِ فَيَسْقُطُ إذْنُهُمَا وَإِذْنُ غَرِيمٍ; لأَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ" فالواضح من النص المتقدم: أن حالة حصار العدو لبلد لا تختلف في الحكم عن حالة الاحتلال، أو القتل ونحوهما من حالات العدوان التي يجب فيها الدفع. وهذا النص يؤكد أن جميع ماتقوم به الفصائل الجهادية -من دفع للعدوان بأي وسيلة تراها مناسبة، وحسب ما يتيسَّر لها- هو حق شرعي أصيل، وفي مقابل ذلك يتعيَّن على الأمة كلِّها أن تشارك مشاركة إيجابية في مساندة ودعم الفصائل الجهادية؛ رفعًا للحصار، وإزالة للاحتلال كلِّه، وهذه المشاركة الإيجابية لا تنطلق من بواعث إنسانية فقط، بل قيامًا بالواجب الشرعي، وألخص بعضًا من صور هذه المشاركة الواجبة فيما يلي:

أولاً: وجوب تقديم الدعم المادي باختلاف صوره وأشكاله -بمافيها السلاح - للدفاع عن النفس، واسترداد الحقوق المسلوبة. وما يُقدَّم ليس من قبيل التعاطف الإنساني، بل من قبيل القيام بفرائض الدِّين، وهو فرض الجهاد بالمال الذيي أخذ نفس أحكام الجهاد بالنفس، كما قال الجصاص الفقيه الحنفي المعروف في قوله تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعًا، فمن كان له مال وهو مريض، أو مقعد، أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله؛ بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما أنَّ من له قوَّة وجلد، وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه، وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه، ومن قوي على القتال، وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال، ومن كان عاجزًا بنفسه معدمًا فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله: {ليس على الضعفاء ولاعلى المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} وقال الزيلعي في تبيين الحقائق "وأحوال الناس مختلفة، فمنهم من يقدر على الجهاد بالنفس والمال، ومنهم من يقدر بأحدهما، وكل ذلك واجب؛ لقوله تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم}، وقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} واستنكر ابن القيم تناقض البعض في أحكامهم، فيقول في هذا المعنى: "من أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه، ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير: فقوله ظاهر التناقض"وفي الموسوعة الفقهية" يجب على المسلمين أن لا يعطِّلوا الجهاد في سبيل الله، وأن يجهزوا لذلك الغزاة بما يلزمهم من عدَّة وعتاد وزاد، لقول الله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وقوله عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} وتجهيز الغزاة واجب المسلمين جميعًا، حكَّامًا ومحكومين، وهو من أعظم القرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا)) وإذا كان تقديم الدعم لأهل غزة المحاصرين ضربًا من ضروب الجهاد بالمال لدفع حالة الحصار، فإن ثمت واجبًا آخر يقع على عاتق الدول والشعوب المجاورة لغزة، وهو واجب القيام بحقوق الجوار، وكما أن للفرد جيرانًا، فللدول جيران، وللمدن جيران، وليس الجار هو الجار الأول، بل أوصله البعض إلى أربعين، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن جيران يتمتعون ويأكلون ويشربون ولهم جيران معدومون وهم يعلمون ذلك، فأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه))

ثانيا: تقديم الدعم المعنوي، والمتمثِّل في تكثيف الاتصالات الشخصية بأهل غزة، والرسائل البريدية، والتلفزيونية، وكتابة المقالات، والدعاء، والمسيرات، وغير ذلك من هذه المظاهر التي ترفع من روحهم المعنوية، ويجب ألا نقلل من أثرها. وفي المقابل يجب الإنكار بالطرق الشرعية على بعض الكتاب والإعلاميين ونحوهم ممن يتفقون مع العدو الصهيوني في رؤيته وقراراته تصفية لحسابات سياسية، أو طلبًا لمغنم، أو خوفًا من أن تصيبهم دائرة، فلا نترك مقالة ولا خبرًا إلا ونعلّق عليها ردًّا لها، ودحضًا لما فيها من افتراءات، وهذا باب سهل ميسور لكل منصف إذا أراد أن يكون له دور فاعل في هذه الأزمة. ولا نقلِّل من قيمة الكلمة، فشطر الكلمة التي تعين على قتل مسلم تحجب صاحبها من رحمة الله، ففي المقابل من أعان على إحياء نفس بشطر كلمة شملته رحمة الله عز وجل. ثالثا: عدم التردُّد في كسر الحصار بأي طريق يتيسر لتوصيل الاحتياجات اللازمة لأهل غزة ردًّا على إغلاق المعابر الرسمية، وإذا كان للتعليمات الرسمية للدول حرمة على مواطنيها فحرمة المسلم أعظم حرمة من هذه القرارات، فمع عظم حرمة الكعبة لكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر حرمة المؤمن أعظم، ففيما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: ((مَا أَعْظَمَ حُرْمَتَك، وَمَا أَعْظَمَ حَقَّك، وَالْمُسْلِمُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْك، حَرَّمَ اللَّهُ مَالَهُ، وَحَرَّمَ دَمَهُ وَحَرَّمَ عِرْضَهُ وَأَذَاهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ سُوءٍ)) ولذلك فإنَّ الواجب الشرعي على أهل الثغور المتاخمة لغزة أن يبذلوا ما في وسعهم لتوصيل الاحتياجات اللازمة للقطاع، وهم مأجورون إن شاء الله. رابعًا: فضح الكيان الصهيوني إعلاميًّا بتسليط الضوء على جرائمه وتوثيقها، ونشرها بين الجميع مسلمين وغير مسلمين، وترديدها بين الأولاد والناشئة، وفي الخطب والدروس، وفي المراكز الثقافية المختلفة، وإقامة الندوات والمؤتمرات مع استخدام المصطلحات الصحيحة، كما يجب فضحه قضائيًّا برفع الدعاوى القضائية أمام جهات الاختصاص المحلية والإقليمية والدولية، بغض النظر عن جدواها العملية، فقد تكون من باب تعبئة الرأي العام، وقيامًا بواجب النصرة للمظلوم، وفضحاً للأخلاقيات الصهيونية، فلربما نجحت بعض تلك الدعاوى في حصار مجرمي الصهاينة، فلا يستطيعون مغادرة فلسطين لأي بلد آخر خوفًا من قرارات اعتقال. وهذا الواجب من صور النصرة للمسلم الذي انتقص عرضه، وانتهكت حرمته، وقد أخرج البيهقي والطبراني بإسناد حسن عن جابر وأبي أيوب الأنصاري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه منحرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته. وما من امرئ ينصر مسلماً في موطن ينتقصفيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)). خامساً: عدم التعامل مع العدو الصهيوني بأي وجه من وجوه التعامل، ومقاطعة الدول التي تشاركه وتدعمه، فلا يعقل شرعاً ولا عقلاً أن يقوم العدو الصهيوني بذبح أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، ويهدم بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا فوق رؤوسنا، ومع ذلك يصدر له الطعام والشراب، والوقود، وتمتلئ المحلات التجارية للدول الإسلامية ببضائعه من ملابس، وأجهزة كهربائية، وأغذية وغيرها، وهذا واجب يحتاج إلى تأصيل شرعي، وبراهين سنوضحها في مقالة أخرى إن شاء الله. أسأل الله أن يكشف البلاء والكرب عن كل مكروب ومبتلى، إنَّه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. المصدر: موقع الإسلام اليوم

التغيرات والتداخلات في الاتجاه السلفي

التغيرات والتداخلات في الاتجاه السلفي د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه (1/ 2) تلك المواقف الذي أسهم حادث ضرب مركز التجارة العالمي 11 سبتمبر 2001، في إعادة صياغتها وفق اجتهادات خاصة، قضت بوجوب التغيير والمراجعة، تركت أثرها البارز في حركة المجتمع: الدينية، والثقافية، والفكرية. سواء في الحدود الشخصية أو العامة. في فترة مرت منذ عقدين وأكثر، كان هنالك شبه اتفاق على الموقف الشرعي من مسائل عديدة، تتعلق بالتوحيد، والسنة، والاقتصاد، والمرأة، كذلك في المسائل الشخصية، كإطلاق اللحية، وتقصير الثياب، يضاف إلى ذلك التصوير والموسيقى. وأشياء لا يعين المقام على سردها، وهي معروفة للمتابع، كان رأي الاتجاه السلفي فيها متقاربا، والخلاف قليل لا يكاد يظهر، ومن أكبر أسباب هذا الاتفاق؛ أن هذا الاتجاه كان يتبع جملة من المشايخ، اجتمعت عليهم الكلمة واتفقت وتآلفت، كانوا في هذه المسائل متقاربين، وما بينهم من خلاف يسير، لم يكن ليؤثر في المنهج ولا الاتباع. لم يمر العام 1421هـ حتى رحل جميعهم، فلم يتبق منهم أحد .. لم يقم مقامهم أحد، له تأثير كتأثيرهم الواسع المتجاوز للحدود والأقاليم، وكأن رحيلهم كان إعلانا ببدء تغيرات مرتقبة. حدثت حادثة القرن، واختلت صورة المنطقة العربية والإسلامية، فاحتلت دولتان هما العراق وأفغانستان، وصعد نجم الدولة الإيرانية، وغدت دول المنطقة مهددة عسكريا ومخترقة ثقافيا، واحتمل وحمّل الفكر والاتجاه السلفي كلاهما الوزر بكامله، ونسب إليه كل ما حاق بالمسلمين من مشكلات. وتنصل الآخرون من المسؤولية .. بعضهم أسهم في الحملة، بقصد وبدون قصد. وبه بقي التيار السلفي أو الوهابي، كما يسميه خصومه، وحيدا غريبا يتناوله الجميع من كل جانب؛ جانب الفكر، والسلوك، والفقه، والسياسة، والعقيدة. أبيح حماه، وصار كبش فداء، ومُنح مبغضوه الفرصة للنيل والغمص. لقد وجد نفسه مهددا حتى من بعض أبنائه؛ الذين تربوا في محاضنه، حيث لم يترددوا في الإسهام في الحملة - بقصد الإصلاح لا ريب!!! - مبررين فعلتهم بأنه من قبيل الإنصاف والاعتراف بالحق، وأن المنهج السلفي يقوم على: أن الرجال يعرفون بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال. فانتقل بذلك عدوى التفرق، الذي كان حصراً بين الجماعات إلى التيار السلفي نفسه، فحصل التفرق فيه فكرياً، وفقهياً، ليس حزبياً؛ لأن من طبيعة الاتجاه السلفي، في أصل تكوينه، لا يقوم على الحزبية، (= الهيكلية التنظيمية)، بل هو اتجاه فكري منهجي، يتبع مذهب الصدر الأول في الدين، ولا يلزم المنتسب إليه، الانضمام إلى مجموعة أو جماعة منظمة، إنما يكون منه إذا لزم مذهب الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهكذا فإن أتباع الاتجاه السلفي لا يشترط بينهم، الاتصال الشخصي والجماعي، ولا الاشتراك في نشاط مشترك، غاية ما هناك: أنهم جميعا يتبعون منهجاً واحداً، كسائر المسلمين؛ الجامع بينهم الدين الواحد، والنبي الواحد، والإله الواحد. * * * تفاوتت الاجتهادات، واختلفت الآراء حين خرج من العباءة من صار ينتقد المنهج نفسه، وهو موقف فاسخ للنسبة من أصلها، فالمنهج لا ينتقده إلا من يرفضه. فما من مسألة إلا وحصل فيها إعادة نظر، تبعها تبني مواقف مضادة بالكلية، وفي بعضها جزئية، فالمسائل التي كان يظن فيها الثبوت الحكمي، عادت مسائل قابلة للنزاع والاختلاف، كان ذلك في جل أبواب الدين: • في الاعتقاد: - كاعتبار نصرة الكافرين على المسلمين من الكفر العملي. - وتميز أهل السنة بكونهم على الحق المنزل وحدهم، أصابوا في جميع المسائل بمجموعهم، وغيرهم أصاب وأخطأ. - وقد كثر الكلام في المولد النبوي، وطالب بعضهم إعادة النظر في الحكم عليه بالبدعة.

• وفي قضايا المرأة: - في كشف الوجه؛ أنها خلافية، وأن الراجح القول بالكشف، وأنه قول الجمهور. - وتسويغ مشاركتها في النشاطات المختلطة. - والدعوة إلى ممارسة الرياضة في المدارس. - حتى قيادة السيارة، فالاتجاه الذي قام يوماً قومة رجل واحد في رفضه، صار اليوم بين مؤيد محبذ، وساكت، وهناك من لا يزال على الأول. • وفي المعاملات المالية: - اختلفت الفتوى في التأمين التجاري، وكان قد سبق الإجماع على تحريمه، بحسب المجامع الفقهية، كمجمع الفقه الإسلامي، وهيئة كبار العلماء. - ومثله في تجويز المساهمة في الشركات المختلطة، والمجامع العلمية الكبرى على التحريم. • وفي مسائل الحج: - ظهر الخلاف في الرمي قبل الزوال، والمكث في عرفة حتى الغروب. • وعلى الصعيد الخاص: - ظهر من يجوز حلق اللحية وسماع الموسيقى، ويكتب فيه المؤلفات المتضمنة أنواعا من الاستدلال، الكاشفة عن مهارة وفن نادر في طريقة استخراج الحكم المقصود، فمع الإقرار بصحة الآثار الناهية، فقد حملت على أوجه أخرى لم تكن على بال، فألحقت بباب الأخلاق، وأن الأمر في هذا الباب دائر على الندب لا الوجوب، وقد كنا من قبل نفهم الأمر بصورة أيسر من هذا، كنا نفهم: أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو للوجوب، إلا أن يصرفه صارف، لكن لسوء حظنا لم نفطن إلى هذا الصارف البديع (= النصوص في باب الأخلاق للندب لا الوجوب). وقد وافق على هذا بعض الفضلاء، وكلهم فضلاء نبلاء، وإن لم يكتبوا في ذلك شيئا حتى اليوم، ربما يكتبوه في يوم ما. أمور كثيرة برزت لم تكن معهودة، وفتاوى عديدة أظهرت قرنها، ربما كانت مستترة، وقناعات يبدو أنها كانت تبحث عن فرصة البُدُوّ، وإلا فهل يمكن أن يكون كل ما كان انقلاباً عارضاً، لأناس عرفوا بالفقه والعلم والتمكن، مع خبرة واسعة، وذكاء لا يخفى؟. ليس بالضرورة أن يكون في هذا العرض، إشارة إلى اتخاذ موقف مضاد تماماً، في كل المسائل والمواقف، غاية ما هنالك أنه محاولة لوصف حال التيار السلفي، منذ بضع سنين، تحت المجهر. وليس المهم معرفة وجهة نظر فلان على التعيين، إنما المهم هو معرفة: أن تبني فكرة التغيير، وجعلها منهجا متبعا، وهدفا مقصودا لذاته. يضر بالمنهج نفسه، لا بالمسائل وحدها، فالمسائل متفاوتة، وبعضها تقبل الجدل، إنما الذي لا يقبل: أن يكون المنهج هو التغيير؛ لدافع خفي هو: مسايرة، ومواكبة، ومجاراة الواقع. لأنه حينئذ يحمل على التبديل، حتى من غير مبرر صحيح، ولا بدليل. لا أحد معصوم، فلا مشكلة في إعادة النظر في المسائل، ولا مانع من النظر في كتب المتقدمين من علماء السنة، والذين لهم قدم صدق، ولم يعرفوا بتبني بدعة، يتخذونها منهجا، والاستفادة من أقوالهم، وعرض أقوال المعاصرين من السلفيين عليها، لمعرفة مدى موافقة المتأخرين للمتقدمين .. لا مانع من ذلك ألبتة .. المانع يكون حين يتخذ النظر والإعادة لأجل تغيير حكم قد جرى، وقول قد عمل به، حينئذ يكون القصد هو التغيير، وليس طلب الحقيقة، وهذا المنهج يحمل على التكلف في استنطاق الأدلة، واستخراج الأقوال والآراء غير المألوفة، وتفسير الكلمات بأدنى صلة من معنى. فمن جعل هدفه ومنهجه التغيير، فإنه لن يتردد في تحميل الدليل ما لا يحتمل، ولن يتوانى في التشبث بأي قول سابق، ولو كان شاذاً، أو بارداً متكلفاً، أو استدلالاً غريباً، أو قولا عرفت به طائفة مبتدعة.

وهكذا يلج صاحب هذا المنهج في باب اتباع المتشابهات وترك المحكمات، وقد علمنا ما جاء في هذا، وهو أمر لوحظ على أصحاب هذا المنهج، فكم من مسألة تكلموا فيها، فأفتوا بما يوجب تغيير الواقع الكائن، لا لأن الدليل هو الذي أوجب. ذهبوا به أوجه بعيدة جداً، لا يزال المرء في حيرة منها، فلم يكن يصلح دليلا لما ذهبوا إليه، لكنهم جروه معه جراً، وحمّلوه ما ينأى به عن حمله وينوء. أصبح الاتجاه السلفي على فريقين: أحدهما ينتهج التغيير، والآخر لزم مكانه. وفي طبيعة المنهج السلفي إنتاج أفراد متحررين من قيود الشيخ وسلطة الأستاذ؛ لأنه يربى أتباعه على اتباع الدليل، وترك الشيخ لو خالفه، وبهذا فإن كل من رأى نفسه قد تأهل، لم يجد حرجاً في أن يرد على هذا وهذا .. فإن أصاب فقد سلم، وإن أخطأ فقد تحمل. لكن ليس هذا حديثنا، إنما في تزايد شقة الخلاف وكثرة الأقوال بين أبناء الاتجاه، يعود من ضمن ما يعود إليه من أسباب، إلى السبب الآنف الذكر. والسبب وإن كان محموداً، لكنه قد يستعمل بإساءة، كمن صلى يرائي. * * * إذا كنا لا نبطل عملية النظر في المسائل، وفي الوقت نفسه ننعى على من جعل منهجه التغيير، فقد وجب أن نحدد، متى يكون الأمر إعادة نظر محمودة، وفي أي حال يتطور ليكون منهجاً بدعياً؟. هي مسألة كبرى، ونحن نشير إشارات، والكلمات لا تحصى، وإنما هي كلمة .. إن إعادة النظر في المسائل لا يلزم منها نقد المنهج، بينما اتخاذ التغيير منهجاً، يعني إخضاع المنهج نفسه للتغيير، وهذا هو الخلل الكبير، فالمنهج هو الذي ميز الاتجاه السلفي، وجعل مكانه مكان المهيمن بالحق على جميع الاتجاهات، وأي تغيير فيه قضاء عليه. والاتجاه السلفي يقوم على: - إبراز أنواع التوحيد الثلاثة، خصوصاً الإلهي منها، وتطبيقها عملياً وعلمياً. - وإبراز السنة الصحيحة، والعمل بها، واجتناب إبراز الضعيف منها والعمل بها. - وتمييز الشرك والبدعة، من التوحيد والسنة. - والاعتناء بمعرفة حدود الولاء والبراء، وتطبيقهما عملياً بعناية بالغة؛ إذ هما من معاقد التوحيد - وتحديد مصدر التلقي في الكتاب والسنة بفهم الصحابة والصدر الأول من الأمة، وتقديمه. - ويمنع من تقديم العقل على النقل، بل يرى أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، إنما يعارض لو نزلت مرتبة العقل عن وصف الصريح، أو مرتبة النقل عن وصف الصحيح. - ويمنع من العمل بالكشف والذوق والمنامات، واتخاذها مصدرا لتلقي الأحكام الشرعية. وأصول أخرى لا يتسنى المقام استيفاءها، إنما نذكر شيئاً وطرفاً مهماً منها، والقصد القول: أن هذا المنهج لا يمكن المساس به؛ كونه يمثل روح الدين وأساسه، الذي بني عليه، أما المسائل المندرجة تحته: - فمنها ما يكون أصلا كفعل الصلاة، والحكم بما أنزل الله، ووجوب العمل للإيمان، فهذه الخطأ فيها خروج عن الحق، وإن كان لا يلزم منه الخروج على المنهج. - ومنها ما يكون فرعاً، وهي أكثرها، كوجوب إعفاء اللحية مطلقاً، أو تحريم الإسبال مطلقاً، أو التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فهذه لو أعيد النظر فيها للتحقق من سلامة الموقف والفتوى، فلا يظهر مانع من ذلك، ومثل ذلك الموقف من الواقعين في البدعة، وكيفية التعامل معهم، والتفريق بين مجرد الوقوع في البدعة، وتبني المناهج البدعية.

إن دراسة هذه المسائل بقصد التحرير والتوصل إلى القول المحرر الصواب، لا شية فيها، خصوصاً إذا كان المعتمد في الفتاوى السابقة بعض الأقوال، التي كان لها حضور عارم، وهيبة يمنع من مراجعتها، إما احتراماً لأصحابها، أو خوفاً من مخالفتها، فربما لم تصب مذهب السلف بالدقة اللازمة، وهذا وارد؛ إذ يلاحظ في مسائل عدة: أن الاستدلال فيها بالمتأخرين المعاصرين، دون المتقدمين. إن كل ما تقدم هو محاولة لمعرفة الطوارئ التي طرأت على السلفيين، وتقويمها، ومعرفة ما ينبغي أن يتخذ، وما ينبغي أن يجتنب، ولم يكن الغرض الإحاطة، فذلك لا تكفيه إلا رسالة وكتاب. ونحسب أنه قد أثار شيئاً من حقيقة ما وقع ويقع، وقارب في بيان الصورة. فهذا ما يتعلق بالتغيرات، أما التداخلات فنرجئها إلى مقال لاحق (2/ 2) كان للاتجاه السلفي، بعمومه، موقفاً واضحاً من الاتجاهات المخالفة؛ الدينية، والطائفية، والفكرية. ونعني بالأولى: الديانات المخالفة للإسلام، الذين وصفهم القرآن بصريح الكفر، كاليهود والنصارى. وبالثانية: فرق الشيعة والمتصوفة دون غيرهما؛ للقرب والاختلاط والاحتكاك المستمر؛ إذ المجتمع، في العادة، يحوي جميع هذه الاتجاهات المتنافرة، بالحكم الجغرافي. وبالثالثة الاتجاهات: العلمانية، والليبرالية، والعصرانية. وهي اتجاهات فكرية حوت مجموعات وأفراداً من شتى التوجهات والانتماءات. هذا الموقف تجلى في المفاصلة التامة، أو بالتعبير الشرعي: البراء التام. من كل هذه الملل والفرق والمذاهب الفلسفية والفكرية. تفاصيل هذه المفاصلة بدت في اتخاذ المواقف الحادة مع هؤلاء المخالفين، حتى إنه ليبدو أنه لا قدر مشترك، يمكن أن يعول عليه في التقارب، أو التفاهم، أو حتى في الحجاج والإلزام. فالمخالفون في الملة والدين، وهم اليهود والنصارى خصوصاً- بحكم الارتباط التاريخي والديني - نالتهم المفاصلة التامة، وبالأخص النصارى منهما .. فعلى الرغم من عمق البغض تجاه اليهود، فإن كثرة اختلاط النصارى بالمسلمين، واحتكاكهم بالمصالح الإسلامية، ومواقفهم العدائية؛ من غزو واحتلال واستغلال، ابتداء بالحملات الصليبية، إلى استعمار البلدان الإسلامية، حتى اكتساحها بالغزو الفكري، كل هذه العوامل جعلت منهم محل تطبيق عملي لمبدأ البراء التام، فلم تظهر آثار هذا المبدأ بالصورة الجلية الواضحة، مثلما ظهرت مع هذا العالم النصراني؛ الأوربي والأمريكي بالأخص. وقد وجد التيار السلفي في النصوص الآمرة بالشدة والغلظة مع الكافرين، وبغضهم وترك موالاتهم بمحبة أو نصرة، وعدم بدئهم بالسلام، واضطرارهم إلى أضيق الطريق حين الالتقاء، وتصغيرهم كما صغر الله بهم، ونحو من هذا: مستندا في التدليل على صحة موقفه منهم. كما أن تاريخ وسجل اليهود والنصارى مع المسلمين قديماً وحاضراً، تقدم ذكرها إجمالا آنفاً، أضاف تأكيداً لما قررته النصوص - بكثرة - من عداوتهم تجاه المسلمين والدين الحنيف. وذلك بدوره عمق وأكد مبدأ البراء التام. وبهذا لم يكن من بد، واجباً شرعياً، أمام هذا التيار من إقامة صروح البراء التام تجاه المخالفين في الدين، حسب تقديره ورؤيته، وفي تفاصيل هذه الرؤية، عدم التفريق بين المحارب وغير المحارب، فمجرد الكفر يكفي لتوجه كافة أنواع البراء، على أتم درجة، وأعلى حد.

ولعل الذي عمق هذا التوجه: كون كثير من المنتمين لهذا التيار قليلي الاحتكاك والمعاملة لهؤلاء المخالفين في الملة، إما لندرة وجودهم في ديارهم، كلا الفريقين، أو لتعمدهم التباعد عنهم، امتثالا للوصايا النبوية الناهية عن الإقامة بين المشركين، ومجامعتهم في المساكن. وقد لوحظ في الذين تعرضوا لمثل هذا الاحتكاك، بسبب السفر والإقامة في الغرب، أو غير ذلك: أن كثيراً منهم كانوا أقل حدة. في حال الفرق كالشيعة والصوفية، فإن المفاصلة والبراءة لم تكن بأقل درجة عما سبق تجاه المخالفين في الدين، خصوصا مع تلبس طوائف من هاتين الطائفتين بأعمال، هي من صريح الشرك بالاتفاق. كذلك فإن النصوص المحذرة من البدعة، القاضية بحرمان المبتدع من التوبة، ومن ورود الحوض النبوي، يضاف إلى ذلك: الأقوال والمواقف الحاسمة في الهجر، التي وردت عن الأئمة تجاه المبتدعة الأوائل، كالمرجئة والمتكلمة. كل ذلك أوجد مستنداً شرعياً في معاملة هذه الطوائف بتلك الطريقة؛ بالتباعد عنها وعن رموزها، والإحجام عن التعاون والمشاركة، بله الظهور معاً في محفل واحد، ففي تقديره: أن فعل أي شيء من هذا، يعد تنازلا وتزكية، ويعني بالضرورة التهاون في أمر البدعة. في الحين ظهرت مذاهب أوربية مستوردة، انتشرت في البلاد الإسلامية، هي: العلمانية، والليبرالية، والعصرانية. اتخذ التيار السلفي منها موقفا لا يقل وضوحا وحسما عما سبق، وعاملها بالطريقة نفسها، وربما زيادة؛ كونه رأى فيها خطراً ماحقاً؛ إذ الذين يحملونها أبناء الجلدة، يروجون للأفكار الإلحادية، المعادية للدين في بلاد المسلمين، بقصد التغريب، ونقل أخلاقيات الغرب إليها، ولهم في ذلك ترتيبات وخطط، هم في واقع الأمر رسل الغرب، والغرب يساندهم ويعينهم. والعصرانيون منهم خصوصاً، وإن خلصوا من تهمة الانتماء الغربي، غير أنهم ربما كانوا أشد خطراً؛ إذ منهم من هو منتسب للعلم الشرعي، وفي هيئة دينية، وهو يمارس تحريف الكلم عن مواضعه، تحت غطاء حاجة العصر، ويسر الشريعة. * * * تلك المواقف كانت معلنة غير خفية؛ إذ من استراتيجيات التيار: الوضوح والتجلية، حتى يتميز الحق من الباطل، فيستبين سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين. وذلك الهدف الأكبر لا يتحقق إلا من طريق المصارحة والمطارحة، ولو بالتجريح، وغير هذا ليس بممكن؛ إذ يتسبب في تعمية الحق والصواب عن الجموع العامة من المسلمين، الذين لا يميزون بين الاتجاهات بأنفسها، إلا بإرشاد وتوجيه، وهذه إن لم تصارح، وتوضح لها الحقيقة، فإنها لن تهتدي، وسرعان ما تضل طريقها. والمؤمن الحق هو الذي لا يحابي في دين الله تعالى، ولا يداهن في بيان الحق، والنصوص في هذا المعنى كثيرة جداً، في خطابات الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ، ويعرض عن مداهنة الكافرين. كان التيار متميزاً جداً، في كل شيء؛ في خطابه، ومصطلحاته، وأفكاره، وتوجهاته، وأهدافه، وإعلانه وإسراره، واضحاً على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، بأفكار ومبادئ يقاتل دونها قتال الأسد، ويصونها بكل ما يمكن، لا يتردد في التضحية بكل شيء من أجل ذلك الهدف.

عاش لحظة استغراق تام، وفناء كلي في مبادئه وأفكاره، لم يكن يسمح لأحد بأن يرتع حولها بشك أو ريبة، وإلا فإن ما سيأتيه سيكون قاسياً له ولغيره من بعده، وقد تسلم زمام النصوص من الكتاب والسنة تفسيراً وشرحاً، وأعاد للصحيح هيبته، فتفرد بنشر هذا المبدأ وعمل به، فلا يحتج في شيء إلا بالصحيح دون الضعيف، وفرض فهم السلف الصالح على النصوص، وحاكم إليه من حيث المنهج والأصل، وبهذا تملك زمام الحقيقة الشرعية، فهابته التيارات الأخرى، وتحاشت سطوته، ومن رام الوقوف والمعارضه لم يحسد على ما ينزل به، فالأحظى بنصوص الشريعة، كان الأحظى بالحقيقة، الأحظى بالهيمنة على ساحة الفتوى والتعليم. وهكذا انتشرت السلفية في أصقاع الأرض، فكثر أتباعها الذين يؤمنون بمبادئها في الاعتقاد والفقه، حتى وجدت لها أنصاراً في أقصى الأرض، يخلصون لها باعتبار أنها تمثل الإسلام الصحيح المنزل، بل لقد أوجدت أنصاراً لها ومتعاطفين داخل التيارات الإسلامية الأخرى، المناوئة بدرجة أو أكثر. وتوارى الآخرون، وهم يشعرون بالعجز عن مكافحة هذا التيار، وهو يستدل بالنصوص العارمة في بيان صحة مسلكه وفتاواه، وفساد مسالك وفتاوى الآخرين، في المسائل المختلف عليها. * * * ذلك الوضوح والحسم والصرامة والنجاحات، بدا وكأنه في حالة أفول منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، ربما ظهرت بوادر التغير قبل ذلك من قريب، لكنه لم يظهر جليا إلا منذ ذلك الحين. لقد تبدلت مواقف جناح في هذا التيار، كان له التأثير الواسع، وتبدلت جذريا في بعض المواضع، بذريعة المراجعة والتصحيح، تحت مطارق الاتهامات الآتية من الاتجاهات والقوى، التي حملت التيار وزر ما حاق بالمسلمين من أذى، جراء ضرب برجي التجارة العالمي بنيويورك. وأول وأكبر ما لوحظ في هذا، تغير الموقف من الآخر، المخالف في الملة أو الطائفة أو الفكر من المفاصلة التامة والبراء التام إلى غير ذلك، لا نقول إلى الولاء التام، لكن إلى التداخل والتقارب، والتفاهم، والمشاركة، والتعاون، ونحو ذلك مما يعني إلغاء الطريقة القديمة؛ الحدة والقطيعة. لم يكن هذا التغير معزولا عن المستند الشرعي، كما في الأول، فإن البحث والتنقيب، كذلك: قبول السماع من المخالفين، وتفهم مواقفهم، والجلوس إليهم. كان له دور في هذا التغير. والحامل على كل ذلك هو محاولة التخلص من التهم الموجهة تجاه التيار، ومعالجة الأخطاء، وإعطاء صورة مخالفة عما بدا عليه العقود الماضية. صعب على التيارات الأخرى تقبل هذا الوضع الجديد لهذا الجناح من التيار السلفي، ففي كثير من الحالات كان يرجح أنه موقف سياسي مصلحي، لا يكشف عن حقيقة النوايا. هذا الظن عمق لديهم النظرة السلبية تجاهه، "ففي الماضي كان يمارس دور الوصاية الدينية، والتبديع والتكفير، واليوم يمارس دور المتقرب المعتدل الوسطي، إنه تحايل سياسي في أحسن الأحوال" .. هكذا يتهامسون، وفي بعض الحالات يعلنون. ومع ذلك فلسان حالهم، وأحيانا مقالهم: دعوهم، فإن ما نجنيه نحن من هذا التوجه الجديد، أكبر مما يحصدونه لفكرهم ومذهبهم. في الوضع الجديد لهذا الجناح، برز التفصيل في أنواع الكافرين، وما يستحقه كل نوع من البراء، فليس المحارب كغيره، وللذمي حقوقاً، وكذا المعاهد. وقد كان غائبا لا يكاد يعرفه إلا المختصون. والتعامل مع المبتدع والموقف منه، أمر مصلحي، فحيثما كانت المصلحة فثم الحق، فليس الهجر في كل الأحوال بنافع أو حتى مشروعا، وينبغي التفريق بين صاحب البدعة، والعامي إذا قارف بدعة.

وفي أبناء الجلدة، المعجبين بالغرب، يجب ألا يساء الظن بهم كلياً، وألا ينظر إلى ما يروجونه ويدعون إليه، على أنه تغريب وإفساد. فهم مسلمون، وكثير منهم يقصدون التطوير وارتقاء الأمة، فطائفة مما ينادون به، هو من المباحات الجائزات، كقيادة المرأة للسيارة، وعملها خارج البيت، وممارسة الرياضة. والعصرانيون لم يكونوا مخطئين في كل حال، فكثير من فتاواهم قد ثبت صدقها، فهاهم الذين كانوا يرفضونها، ويجعلونها من التحريف في الدين، هم اليوم يأخذون بها، وينصرونها للتيسير الذي فيها. وفي ظل هذا الانقلاب في الموقف، ظهرت حالة جديدة، منسجمة تماما مع هذا التوجه، فإذا كان الموقف الفارط، موقف المفاصلة التام، يستدعي التميز في كل شيء، حتى لا يختلط الحق بالباطل، فالآن لا معنى لهذا التميز، وقد اعتدلت النظرة وتحسنت تجاه المخالفين، بسبب ذاتي لا غير، وعليه فلا مانع من التوافق في الأطروحات، فتكون القضية واحدة، والهم مشتركا في مسائل عديدة، كالوحدة الإسلامية، ومواكبة العصر، واعتبار حاجة التطور، وهذا التوافق في المواقف يحمل رغما على التوافق حتى في نوع الخطاب، والمصطلحات، وأسلوب الدعوة، والفتاوى ونحوها. هكذا بدأ التداخل بين هذا التيار والتيارات الأخرى، وإن شئنا الدقة، منذ هذه اللحظة بدأ في موافقة التيارات الأخرى في مصطلحاتها وأساليبها، وفتاواها، فلم يحصل تقارب بالمعنى الدقيق للتقارب؛ هذا يقترب من هذا، وهذا من هذا، يلتقيان جميعا في المنتصف .. كلا، بل ذلك الجناح من التيار السلفي هو الذي كان المتقرب، المتودد، الذي تخلى عن مصطلحاته، وركب مصطلحات الآخرين. - فبعد أن كان يتحدث عن عداوة الكافرين للمؤمنين، صار كلامه عن التعايش، والسلام، والمشتركات، واحترام قرارات الأمم المتحدة. - وبعد أن كان يتحدث عن بغض الكافرين، صار يتحدث عن لزوم محبتهم فطرياً وإنسانياً. - بعد أن كان يحذر من بدع التشيع والتصوف، صار يقرر أن ثمة أموراً مشتركات بيننا. - بعد أن كان يتحدث عن خطورة تغريب المرأة، وأدوات ذلك، غدا يكلمنا عن ظلم المرأة. - بعد أن كان يقرر وجوب خلو المعاملات المالية من أي شائبة للربا والمحرمات، بدا يفصل ويقرر مقدار المحرم ونسبته في المعاملات، وعليه يبني الفتوى. وأشياء أخرى لا يحصيها المقام، فهذه النظرة الجديدة ولد موقفاً جديداً، لقد دخلت تيارات كثيرة في نطاق الصداقة مع هذا الجناح من التيار السلفي، فنشأت بينهم مودة وإعجاب، كانت من جانب هذا الجناح أظهر وأكثر. وفي المقابل ساءت نظر بقية التيار لهذا الجناح، فأكثرت من العويل عليه، والتحذير من مسلكه، واعتباره منقلباً على المنهج نفسه، ذلك ولد موقفاً مضاداً حمله على الجفاء إلى حد الامتعاض، بل وفي بعض الحالات القطيعة والهجر. فبعد أن كان الهجر بين التيار والتيارات الأخرى، إذا بهذا الجناح يجافي بني مذهبه، ليصل ويلتقي مع الذين كانوا محل هجره وقطيعته بالأمس. ما كان يخافه التيار بالأمس قد وقع .. انتهى عهد التميز، خصوصاً مع سكوت بقية التيار الملتزمين السنة الأولى، عن الكلام في كثير من القضايا، إما حذرا وإما كسلا ويأسا. وهكذا صار كثير من الناس لا يفرقون بين سلفي المنبت والمدرسة، والصوفي، والليبرالي، والعصراني، فكلهم يتكلمون في القضية الواحدة، التي كانت محل نزاع وتنافر وهجر، كلمة رجل واحد، بلغة واحدة، وهدف واحد، وأسلوب ومصطلح واحد .. حصل التداخل. ما فرح أحد بهذا مثلما فرح الآخرون؛ إذ رأوا في هذا المسلك قضاء على سطوة التيار في فهم الإسلام وتفسير النصوص، وخدمة لأهداف لطالما ضحوا من أجلها، في قضية بدت لهم وكأنها خاسرة، هي اليوم تخدم من قبل التيار المهيمن.

لقد كان من الحجج: أن الوضع الراهن يحتاج إلى مزيد من اليسر، وإلا فإن الناس ينفرون من الدين، ويبقى بلا أنصار. ونكون بذلك جنينا على الدين. لكن البقية رفضوا هذا التحليل، ورأوا أنها فرصة فوتت وضيعت، فحيث كافح هذا التيار ليقول كلمة الحق جلية، وجاهد من أجلها وضحى، فلما انجلت الأمور، وصارت الكلمة ميسرة، والحرية واسعة، والناس في عطش، واستعداد لصعود الجبال، لما يجدونه من ألم الروح وعذاب البعد عن الله تعالى، إذا بهؤلاء الميسرين المجددين يمتطون التعمية، والإغماض في المواقف، فصاروا كمن يشكوا ظلام الليل، ومشقة السير فيه، فلما تجلى له النهار عن شمس ليس دونها غيم: سكن، فلم يتحرك، وإذا ما تحرك، فللتخفي عن الأنظار. كثير من المراقبين يرون أن السلفية بكافة تياراتها، الملتزمة بالطريقة الأولى، والسائرة في طريقها الجديدة، فوتت على نفسها فرصة استغلال حرية الكلمة، والفضاء المتاح، المتصل بأجزاء العالم كله، لِبَثِّ رؤيتها ومذهبها، مع شدة حاجة الناس إليها، في ظل التخبط الذي يعيش فيه العالم. فأما الملتزمة فسكوتها غير المبرر، ولو كانت تبررها، أضاع عليها الفرصة، وأما المجددة فتركها لمصطلحها ونوعية خطابها إلى نوعية ومصطلحات الآخرين، خدم مصلحة وأهداف الآخرين لا مصلحتها، إلا إن كان منها من تنكر كليا للمذهب الأول، فذلك أمر آخر. ولا يزال الناس، يعظمون الصراحة والوضوح، ويمقتون التعمية والغبش، ويعتقدون أن كل من كان واضحاً صريحاً، فهو الجدير بالاحترام، والاتباع كذلك. وفي المذهب السلفي كل شيء يمكن إبرازه، وتوضيحه من غير خجل، ولا الخوف من النقد، فهذا المذهب هو الذي يرجع بالفقه إلى الصحابة والقرون المفضلة، وهؤلاء هم أولى الناس بمعرفة الإسلام وتفسيره كما أراد الله تعالى، وهكذا فإن حقيقة المذهب السلفي: أنه التفسير الصحيح للإسلام، بشرط أن يلتزم المنتسبون إليه فقه الصحابة، وإلا فالألقاب لا تقدم ولا تؤخر. لم يكن الكلام السابق نقداً، بقدر ما كان عرضاً لواقعة وقعت، فالموقف السلفي الأول عليه، في بعض الأمور، ما على التالي الجديد، فقد أصاب وأخطأ، وإن كان صوابه أكثر، وإذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث، وإن كان ذلك لا يمنع من الفحص والبحث، لكن النقد يتجه على الطريقة التي تحكم على نفسها بالغياب، عندما تترك لونها وتلون نفسها بألوان الآخرين، وتستبدل صورتها بصور الآخرين، فتضعها في إطار تصنعها، وما يصنع الناس بالإطار، وإنما العبرة في الصورة. إن استعمال المفاصلة التامة الحادة في كل مقام، مع جميع المخالفين، باختلاف أنواعهم وأقسامهم خطأ جلي محض، وتعطيلها كلياً كذلك هو خطأ، والحكمة: معرفة متى ينبغي تعطيلها كلياً أو جزئياً، ومتى يمكن إعمالها كلياً أو جزئياً. وصفتها موجودة في القرآن والسنة والسيرة. وتميز أهل الحق بكل ما يميز ويظهر الحق الذي عندهم أمر واجب، وإلا فإنه يضل ولا يهدي، فإذا ما انماع أحد في أحدهما (= المفاصلة التامة، أو تعطيل المفاصلة كلياً) فإنه يضر ضرراً بالغاً. إن الكلام في هذا كثير وطويل، وحسبي أني ألقيت حملاً كان ينوء به قلبي وصدري، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ثمة قضية أود التحدث عنها منذ مدة .. عن هذه النقلة الفكرية، الثقافية، الدينية الظاهرة، الحادثة، الجارية في بنية المجتمع .. التي بدت أثرا عن التغيرات والتداخلات في المواقف الشرعية للاتجاه السلفي، وغلبة رؤى ومفاهيم اتجاهات أخرى مختلفة، أتيح لها استغلال الظرف أحسن الاستغلال.

اتباع الهوى

اتباع الهوى د. إبراهيم بن عبد الله الزهراني الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة، هو أصل دين الإسلام، فمن أسلم وجهه لله، ووقف عند حدود الله، فقد اهتدى، ونال الدرجات العلى. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40،41)، وأما من اتبع نفسه هواها، فإن عاقبته الهلاك، والخذلان. وذلك أن المعاصي، والبدع، كلها منشأها من تقديم الهوى على الشرع. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:37ـ 39). إن فساد الدين يقع بالاعتقاد بالباطل، أو بالعمل بخلاف الحق "فالأول البدع، والثاني اتباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء، وبهما كُذِّبت الرسل، وعُصى الرب، ودُخلت النار، وحلت العقوبات" ولذلك ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا على سبيل الذم، وأمر بمخالفته، وبين أن العبد إن لم يتبع الحق والهدى، اتبع هواه. قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (القصص:50)، وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف:176)، وقال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:135). مفاسد إتباع الهوى: • إن اتباع الهوى ـ وهو "ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الشرع"،خلاف مقصود الشرع؛ لأن "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلَّف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً". • صاحب الهوى لا حكَمَةَ له ولا زمام، ولا قائد له ولا إمام، إلهه هواه، حيثما تولت مراكبه تولى، وأينما سارت ركائبه سار، فآراؤه العلمية، وفتاواه الفقهية، ومواقفه العملية، تبع لهواه، فدخل تحت قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية:23) قال عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام: "ما ابتدع رجل بدعة إلا أتى غداً بما ينكره اليوم" وقال عبد الله بن عون البصري:"إذا غلب الهوى على القلب، استحسن الرجل ما كان يستقبحه". • صاحب الهوى ليس له معايير ضابطة، ولا مقاييس ثابتة، يردُّ الدليل إذا خالف هواه لأدنى احتمال، ويستدل به على ما فيه من إشكال أو إجمال، وإذا لم يستطع ردَّ الدليل لقوته، حمله على غير وجهه، وصرفه عن ظاهره إلى احتمال مرجوح بغير دليل. قال شيخ الإسلام: "والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون: نفوّض معناه إلى الله، وهذا فعل عامتهم".

• صاحب الهوى ـ إذا كان عنده شيء من العلم الشرعي ـ مفزع كل مفترٍ، ومأوى كل مبطلٍ، ومستشار كل طاغٍ، وفتنة كل جاهل، بما يسوغه لهم من الآراء الباطلة، ويسوقه لهم من الأدلة الزائفة، ويلبس عليهم به من الشبه الصارفة. قال الحسن البصري: "شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل؛ ليعموا بها عباد الله". • صاحب الهوى تسهل استمالته من قبل أعداء الأمة، والمتربصين بها الدوائر، فسرعان ما يرتد خنجراً في خاصرة الأمة، وسوطاً يلهبُ ظهرَها، وعيناً يكشف سرها، ويبدي سوأتها، ويهتك سترها، داعيةً لتثبيط العزائم، إماماً لكل متهتك وخائن. • صاحب الهوى مفرق لجماعة المسلمين، مبتغٍ لهم العنت والمشقة، الطعن في الصالحين ديدنه، والهمز واللمز دأبه، والحسد طبعه. تراه معتزلاً كل من يخالف هواه، وإن كان أهدى سبيلا، مقرباً لكل من هو على شاكلته وإن كان للشيطان قبيلا. قال سعيد بن عنبسة: "ما ابتدع رجل بدعة إلا غلَّ صدرُه على المسلمين، واختلجتْ منه الأمانة" وذلك لأن "جميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان، وهما العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن التحابّ والتآلف إنما هو بالإيمان، والعمل الصالح كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (مريم:96) أي: يلقي بينهم المحبة، فيحب بعضهم بعضا، فيتراحمون، ويتعاطفون، بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض من المحبة". المصدر: شبكة القلم الفكرية.

المفاهيم العقدية في أحداث غزة

المفاهيم العقدية في أحداث غزة بين الثبات والضياع علوي بن عبد القادر السَّقَّاف المشرف على موقع الدرر السنية 14/ 1/1430هـ الحمد لله الواحد القهار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله وصحبه الأخيار. أما بعد: فلقد أظهرت أحداث غزة المؤمنة، غزة الصابرة، كثيراً من المعاني والمفاهيم العقدية التي تكلم عنها العلماء قديماً وحديثاً، فكانت ابتلاءً وامتحاناً للمسلمين وتمحيصاً لهم: ?وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ? [العنكبوت:11]، فأظهر الله حقائق الإيمان وأثرها على أرض الواقع وهذا مما يزيد المؤمن يقيناً ويزيد أهل هذه المعاني ثباتاً على دينهم وجهادهم. فما حصل في غزة ليس شراً محضاً بل فيه خيرٌ كثير يعرفه من نوَّر الله بصيرته بالإيمان، قال الله تعالى: ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون? [البقرة:216] ومن تابع الأحداثَ، ومجرياتِ الأمور، وشاهدَ ما حصل لأهل غزة، وما تبع ذلك من تصريحاتٍ، وبياناتٍ، وفتاوى، ومظاهراتٍ، ظهر له جلياً الفرقُ بين دراسة مسائل الإيمان والعقيدة نظرياً في المساجد والفصول الدراسية، وبين تطبيق مقتضياتها في ميادين الجهاد وعلى أرض الواقع، حيث تُمحَّص القَناعات، ويظهر أثرُ اليقين على النفوس، ويثبِّتُ الله من أراد به خيراً من أهل الصدق وحسن التوكل عليه، ويوفقه للعمل بمقتضيات الإيمان والتقوى، وأسُّ هذا الأمر: المعتقد الصحيح الذي من تمسَّك به علماً واستدلالاً كان أقرب للتحقق به عملاً، فجمع الله لأهل الثغر بين الفضيلتين، ومن هذه المعاني التي تجلت بوضوح سواءً لأهالي غزة أو لغيرهم من المؤمنين الصادقين والتي دلت على ثباتهم ورسوخ عقيدتهم: الإيمانُ بالقضاء والقدر، وصدقُ اللجوء إلى الله عز وجل والتوكلُ عليه، ومعاني الأخوة الإيمانية، وحُسْنُ الظن بالله، واليقينُ بموعودِ الله ونصره، وفي المقابل: هناك قوم سقطوا في الفتنة وخدشوا توحيدهم أو نقضوا إيمانهم بمظاهرة الكافرين على المسلمين وإخلالهم بعقيدة الولاء والبراء وسوء ظنهم بالله تعالى. ومن هنا كان لابد من إيضاح هذه المعاني لأن أحداث غزة باتت امتحاناً عملياً اجتازه من وفقه الله وسقط فيه من لم يرد الله به خيراً ?ألا في الفتنة سقطوا? [التوبة:49]

أمّا الإيمانُ بقضاءِ الله وقدرِه: فهو ركنٌ من أركان الإيمان، كما في الحديث الصحيح: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) فلا يستقيم إيمانُ العبد إلا به، وقد تجلَّى هذا واضحاً في أحداث غزة، حيث شاهد كثيرٌ من الناس على الشاشات الإعلامية مرات عديدة من فقدوا جميع أهليهم وذويهم أو أكثرهم والطائرات فوق رؤوسهم وهم يرددون: الحمد لله، الحمد لله على قدر الله. ومنهم من يقول: نحسبهم شهداء عند الله، وغيرها من العبارات الإيمانية، فلله درُّهم!. أمَّا المجاهدون فقد ضربوا أروع المثل بإيمانهم بقضاء الله وقدره، صبرٌ بلا جزع، ورضىً بلا هلع، ونحن بدورنا علينا أن نؤمن بأن ما يصيب أهل غزة اليوم من قتلٍ وتدميرٍ وجرحٍ وألمٍ وجوعٍ هو قضاء الله في عباده المؤمنين، ?قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ? (التوبة:51)، وأن تكالب الأعداء من اليهود والنصارى والمنافقين على إخواننا المسلمين في غزة وحصارهم وقتلهم إنما هو من قدر الله، وقدر الله نافذ وهو موافق لحكمته ولا يكون قدر الله إلا خيراً. ?وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ? [محمد:4]

وأمَّا صدق اللجوء إلى الله والتوكل عليه: فمن فوائد هذه الأحداث انقطاع حبل التوكّل بين المجاهدين في غزة وبين الخلق أجمعين، فالله لا يرضى أن يصرف عبدُه قلبَه إلى غيره، وقد رأينا هذا وسمعناه مراراً في تصريحاتِ عددٍ من مسؤوليهم وقادتهم، ونحسبهم -والله حسيبهم- من الصادقين والمتوكلين على ربهم وقد أخذوا بكافة الأسباب الممكنة عسكرياً وسياسياً، ثم فوضوا أمرهم إلى الله ولم يركنوا لسواه مع علمهم بأن كبرى دول العالم ضدَّهم، يخوفونهم ويهددونهم، والله تعالى يقول في كتابه ? أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? (الزمر:36)، وبهذا يكونون قد ضربوا للعالم أروع معاني التوكل على الله، وقد فطن لهذا المعنى كثيرٌ من علماء المسلمين ودعاتهم الذين سعوا لتثبيت إخوانهم في بياناتهم وخطاباتهم عندما أكَّدوا على هذا المعنى ونصحوا إخوانهم في غزة بأن لا يلجأوا إلا إلى الله، ولا يؤمِّلوا خيراً في مجلس الأمن، ولا الأمم المتحدة، ولا منظمات حقوق الإنسان ولا يستجدوا فلاناً أوفلاناً، فكلُّ هؤلاء لا يُغنون عنهم من الله شيئاً، فالتوكُّلُ يكون عليه وحده دون سواه، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة (التوبة): ? لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ?: (يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بِعَددهم ولا بِعُددهم، ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولّوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزل الله نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ... ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قلّ الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) أ. هـ، وفي انقطاع ما بينهم وبين الخلق كما هو حالهم الآن ما يفضي إلى مزيدِ تعلُّقٍ بالله عز وجل، مع يأسهم مما في أيدي الناس وهو مُؤْذِنٌ إن شاء الله بعاجل نصر الله. وفي المقابل: كان هذا الأمر امتحاناً وفتنة سقط فيها كثيرٌ من الزعماء والعلمانيين والإعلاميين، كما أوجدت خَدْشاً في بعض البيانات والخطابات والتحركات التي كان من ضمنها مناشدة هذه المنظمات بوضع حدٍّ للحرب وكأنه خافٍ عليهم قول الله تعالى: ?وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ? [البقرة:120]

أمَّا الأخوة الإيمانية والولاء للمؤمنين: فقد ظهرت أسمى معانيها في أحداث غزة ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ? [التوبة:71]، فما أن اندلعت الحرب حتى هُرِعَ المسلمون من جميع أقطار المعمورة - عرباً وعجماً- يجأرون إلى الله تعالى بالدعاء في صلاتهم إحياءً لسنة قنوت النازلة، ثم تتابعت البيانات والفتاوى التي تدعو لنصرة إخواننا في غزة، وخرج كثيرٌ من الناس بشتى أجناسهم وأعمارهم وطبقاتهم إلى الشوارع يطالبون بإيقاف الحرب، بل طالب كثيرٌ منهم بفتح باب الجهاد ليجاهدوا في سبيل الله معهم، لكن حيل بينهم وبين ذلك! فلله الأمر من قبلُ ومن بعد، كما أنه ما أن أعلنت بعضُ الجهات المختصة بجمع التبرعات لمنكوبي غزة حتى قام كثيرٌ من الناس رجالاً ونساءً بالإنفاق في سبيل الله، وكلُّ ذلك دليلٌ على الأخوةِ الإيمانية وولائهم للمؤمنين. وفي المقابل: سقط آخرون وأصبحوا يتحدثون عن أخطاء حماس وأنها سبب كل ما يحدث، بل إن أحدهم كتب في إحدى الصحف العربية: اضربيهم إسرائيل ولا تبقي منهم أحداً!! فأين هذا من الأخوة الإيمانية؟! ومما يؤسف له أن بعض أهل العلم والفضل لا تجد لهم أثراً رغم كل هذه الأحداث العصيبة، وكأن الأمر لا يعنيهم! وهم من أفقه الناس -نظرياً- بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في (صحيح البخاري) مرفوعاً: (وذِمَّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم) وأمَّا عقيدة البراء من الكافرين وعدم مظاهرتهم على المسلمين: فهذه أصبحت من النظريات، ولا علاقة لها بالواقع مع أن الله عزَّ وجلَّ يقول: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? [المائدة:51] وقد عدَّ علماءُ الإسلام مظاهرة المشركين على المسلمين من نواقض الإسلام. ألا فليحذر كلُّ من أعان اليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار على قتال المسلمين من مقت الجبَّار وغضبه وعقابه. وأما حسن الظن بالله: فينبغي للمسلم أن لا يسيء الظن بالله تعالى فمن ظنَّ أنَّ الله ينصر اليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار على المسلمين نصراً دائماً، أو أن الحق سيظل مغلوباً من قبل الباطل، أو أن ما يجري لا حكمة فيه، أو أنه يحصل عبثاً، فقد أساء الظنَّ بالله، والله تعالى يقول محذراً من سوء الظن به ?يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ? [آل عمران:154] فهذه الأمور المؤلمة التي نراها إنما تحدث لحكمة يعلمها الله، فَالله تعالى مَا قدَّرها سُدًى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً، فهذا من حسن الظن بالله تعالى. أما اليقين بموعود الله ونصره: فهذا من مقتضيات الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم فقد جاء عن أبى هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِىُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِىٌّ خَلْفِى فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ) فمن مقتضيات الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم تصديق هذا الوعد بأن نهاية اليهود على أيدي المسلمين، فابشروا أيها المسلمون، وأمِّلوا، وأحسنوا الظنَّ بربكم، فالنصر آت، وانصروا الله ينصركم ?وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ? [الحج:40] وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

مذبحة غزة وحوار الأديان

مذبحة غزة وحوار الأديان د. رياض بن محمد المسيميري بسم الله الرحمن الرحيم في الوقت الذي تمارس فيه ورش العمل المنبثقة عن مؤتمرات حوار الأديان أعمالها وتنظم أوراقها في دهاليز العواصم العربية والعالمية! وفي الوقت الذي قدم فيه البعض فتاواه الرخيصة للدفاع عن تلك الحوارات البائسة وإن صادمت أصول الدين وثوابت العقيدة! وفي الوقت الذي حاول فيه آخرون ليَّ أعناق النصوص وحمل آيات مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ونظيراتها إلى تبرير حقيقة ما يجري من تقريب بين الأديان, ونسف لقواعد الإيمان. كان لليهود لغتهم الخاصة في التحاور, فقد أمطروا بقنابلهم وصواريخهم غزة الباسلة وجنودها المرابطين؛ ليعلنوا للعالم أجمع أنهم مثاليون جداً على مائدة الحوار شريطة أن تكون مقاعد الحوار مدرعات مصفحة, ودبابات محصنة, وطاولة الحوار أرض بحجم غزة تعلوها الأشلاء الممزقة, والدماءالمضرجة, والأطفال المقطعو الأوصال! لغة يهود في الحوار هدم للمساجد على المصلين وقصف للمستشفيات على رؤوس المرضى والمصابين. لغة لا تعبر عن مكنونات الصدور, وخبايا النفوس إلا عبر فوهات البنادق, وأزيز الطائرات الأمريكية الصنع؛ لتصك أسماع الذين شرَّقوا وغرَّبوا, وقاموا وقعدوا, وحاضروا وناظروا, وملئوا الدنيا ضجيجاً داعيين للحوار مع وحوش العالم من يهود ونصارى ضاربين بتاريخ الصراع بين المسلمين وأولئك الأوباش عرض الحائط, بل كاذبين على الله حين حاولوا إقناع الجماهير بأن القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة النبوية العطرة ملئ بآيات الحوار ومواقف حوارية احتضنتها المدينة المنورة إبَّان القرون المفضلة, ناسين أو متناسيين أن آيات الحوار ومواقف النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- كلها كانت مؤكدة على الدوام أن الحوار لا يمثل سوى وسيلة لإقناع الآخرين بعدالة الإسلام, وأنه الدين الوحيد الذي لا يصلح غيره ولا يرضى الله سواه. حوار قائم على ثوابت لا تتغير, وأصول لا تبدل, وقواعد لا تضطرب؛ فلا إلحاد ولا وثنية, ولا شرك ولا كفر, ولا بدعة ولا فسوق, ولا صلب ولا تعميد, ولا كنائس ولا ِبيع, ولا تثليث ولا تربيع!! {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاأُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة67 {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىوَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} البقرة:120 ليت الذين يبررون كل ما يُرتكب من أخطاء ويضفون عليها الشرعية اللازمة؛ يدركون أن هناك من يفوقهم علماً وفقهاً, وأنهم ليسوا بعاجزين عن فضح خلطهم وحماقاتهم, وإبلاغ الأمة العلم الصحيح والفقه المبني على الدليل والبرهان الساطع. إن علينا أن نتعامل مع الكافر الغاشم بأن لنا ديننا ولهم دينهم, وأننا لن نحيد عن ديننا قيد أنملة؛ لأننا الأعلون وهم الأسفلون, ونحن الأعزة وهم الأذلة الأرذلون! إن علينا أن نوصل إلى العالم رسالة مفادها أن ديننا شريعة إلهية, ورسالة ربانية واصطفاء سماوي لا خيار لنا ولا لأحد في قبوله أو رده {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران:85 فنحن عبيد مربوبون لله, يحكم بنا بما يشاء ويفعل ما يريد, لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا متقدم بين يديه سبحانه. لقد أثبتت قنابل إسرائيل وطائراتها فشل كل الأطروحات والسياسات, والمحاضرات والمناظرات, والكتابات الداعية إلى بيع القضية الإسلامية والخيار الإسلامي واستبدالها بتعايش باهت وسلام من طرف واحد. وبينت لكل من لا يزال يتمتع بمسكة عقل أن لغة الحوار الوحيدة التي ستبقى مفهومها للجميع حتى يرث الله الأرض ومن عليها هي {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التوبة:29 اللهم لطفك بنا وبغزة وأهلها.

دماء غزة تغذي شريان الأمة

دماء غزة تغذي شريان الأمة د. محمد قطب أعاد التاريخ نفسه يوم السبت 27 - 12 - 2008 عندما ارتكب جيش الإرهاب الصهيوني مجزرة جديدة تضاف لسجل اليهود القديم المليئ بإرهاب الآمنين وقتل الأبرياء ونشر الخراب والدمار. وهذا يذكرنا بمجازر العدو الصهيوني المشابهة ابتداء بدير ياسين وقبية وصبرة وشاتيلا وقانا وجنين والآن غزة المحاصرة التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة شهيد وأكثر من ألف جريح والأرقام في ازدياد والعدو يقول أن هذه البداية فقط. ولعل هذه المجازر من استراتيجية اليهود المطردة لفرض سيطرتهم وتوضيح الفرق في موازين القوى وتذكير الأمة العربية والإسلامية أن إسرائيل تفعل ما تشاء وقتما تشاء تحت مرآىً ومسمع العالم دون أي رادع من قانون أو قوة. غير أن توقيت هذا الذبح الجماعي يبدو مرتبطا رباطا وثيقا بالانتخابات الإسرائيلية القادمة في رسالة واضحة أن الفوز في الانتخابات مرهون بعدد الجثث الفلسطينية التي يمشي فوقها المرشح للرئاسة. وكما جرت العادة, تنهال الإدانات الخجولة التي لا تسمن ولا تغني من جوع على هذا الإجرام. لكن المطلوب الآن فزعة واسعة على مستوى الأمة جمعاء مطالبة بدم هؤلاء الأبرياء وفتح المعابر لإسعاف المصابين والمرضى وتوفير العلاج اللازم لهم. المطلوب هو ضغط شعبي وبرلماني واسع على الحكومات لقطع العلاقات مع هذا الكيان المجرم وإلغاء الاتفاقيات السابقة معه التي يخرقها ليل نهار، وإلإعداد والإستعداد الذي أمرنا الله تعالى به. والذي يتوج هذه التحركات كلها هو رجعة صادقة للإسلام الذي لا عز لنا إلا به ومن خلال عقيدته وتعاليمه. الهدف المعلن لهذا القتل الهمجي هو استهداف حركة حماس وبنيتها التحتية, فقد طمأننا أولمرت ومن معه أنهم لا يقصدون المدنيين ولا غزة بأكملها وإنما يضربون بدقة متناهية مواقع حماس وأسلحتها فقط! فهل هؤلاء الأطفال الرضع الممزقين أشلاءً كانوا كذلك ممن ساعدوا بإطلاق الصواريخ؟ وهل هذه الأعداد المهولة كلها من أتباع حماس ومناصريهم؟ ثم ردا على استثارة اليهود شفقتنا عليهم وما يعانيه سكان الجنوب من وقوع مئات الصواريخ على قراهم بعد انتهاء التهدئة, السؤال الذي يطرح نفسه هو: "كم يهودي قتل أو أصيب جراء إطلاق هذه الصواريخ قبل حدوث المجزرة؟ " والجواب هو: صفر. لم يقتل أو يصب أحد. لكن التحذير الأمريكي شديد اللهجة والإدانات العالمية توجه كعادتها لحماس وصواريخ القسام وليس لشلالات الدم الناتجة عن ذبح وجرح قرابة ألف وخمسمئة فلسطيني محاصر. وهذا هو الصلف اليهودي الذي يساوي بين مجرد خوف بعض اليهود من سكان المغتصبات الجنوبية وسفك دماء المئات من الأبرياء المشردين. الموقف الأمريكي من هذا كله ليس مستغربا فقد عودتنا أمريكا أنه كلما خرج بيان استنكار أو قرار إدانة لإسرائيل من قبل مجلس الأمن وقفت هي بالمرصاد بسلاح الفيتو في كل مرة. لكن الملاحظ هذه المرة هو وقاحة وزيرة الخارجية رايس الصريحة التي لم تعبر حتى بكلمة واحدة ولو كذبا عن أسف الإدارة الأمريكية لرؤية ذلك العدد الخيالي من الضحايا وإنما على العكس جاء التحذير منهم مدويا ضد حماس وإطلاق الصواريخ. لم تأبه بثلاثمائة نفس فلسطينية وألف جريح وكأنهم نفس واحدة, مقتفية أثر سابقتها في عهد كلنتون مادلين أولبرايت حنيما سئلت عام 1996 عن الحصار ضد العراق وموت أكثر من نصف مليون طفل ظلما "هل هذا الثمن مناسب؟ " فردت: " أعتقد أن هذا قرار صعب جدا, أما الثمن, نعم نعتقد أن الثمن مناسب." نعم لقد فضحهم لنا الحق سبحانه وتعالى في قوله: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}.

ترى إلى متى ونحن نضع كل آمالنا على مجلس الأمن واللجنة الرباعية والمنظمات الدولية هنا وهناك الذين التزموا الصمت حيال هذه الإبادة المنظمة المتواصلة في فلسطين الحبيبة؟ نعم مقارنة بما يجب أن نسمعه ونراه من تحركات في ظل ما يجري, الإنكار والشجب الأجوف هو بمثابة صمت ورضا بذلك الإرهاب الأرعن. أما لو قتلت صواريخ القسام عشرة جنود محاربين يهود في سديروت أو عسقلان, لقامت الدنيا ولم تقعد فكيف وقد قتلت الغارات الصهيونية ما يربو على ثلاثمئة إنسان أعزل محاصر مجوع وأصابت أكثر من ألف وأغلبهم أطفال ونساء وشيوخ وغالبا لا يمتون إلى المقاومة والجهاد بصلة. الهدف الأبرز لليهود هو ضرب المقاومة المسلحة وروح الجهاد في الأمة. فالمطلوب إما استسلام تام وتطبيع كامل مع العدو مكللا بسلطة فلسطينية تقبل الإملاءات الإسرائيلية وتسهر عليها وتسكت عن جرائمها وإما تهدئة تلو الأخرى تمكن الصهاينة من الاستمرار في بناء المستوطنات والجدار الفاصل والحفريات السرية استعدادا لهدم الأقصى وبناء الهيكل الثالث المزعوم. في عصرنا هذا الذي رق فيه الدين وذبل, وعزف عنه المسلمون وغيرهم وغاب عن أذهان الكثيرين في قرارات الأمة المصيرية وأصبحت التصريحات والخطاب سياسيا مكررا معدا مسبقا, اضطررنا كثيرا إلى استعمال ذلك الخطاب السياسي البحت لمداراة تلك الأصوات التي تدعي الحكمة وتدعونا للكلام بالمنطق والموضوعية والابتعاد عن الدين والعواطف. لكن المتأمل الفاحص يجد أن ذاك الخطاب محدود جدا وساذج وفي الغالب انهزامي واستسلامي ويغفل الجوانب العقدية المهمة التي تحكم هذا الصراع بيننا وبين اليهود. فقد أصبح من نافلة القول أن كل تحركات الصهاينة السياسية تنبع من اعتقاداتهم الدينية ورغبتهم في تحقيق وعود التوراة المحرفة لهم بالسيطرة على كل فلسطين كمنحة إلهية لهم. ولئن انهال العرب خاصة العلمانيين منهم وراء سراب فصل الدين عن الدولة والعقيدة عن السياسة في محاولة بائسة لمحاكاة النظم الغربية الحديثة فقد أعلن اليهود صراحة أن الدين والدولة شيء واحد عندهم وأنهم في خدمة بعضهم البعض. ففي الندوة التي عقدت في إسرائيل في 1981 قال د. مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق: "أود أن أطمئنكم أننا في مصر نفرق بين الدين والقومية, ولا نقبل أبدا أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى معتقداتنا الدينية" فوقف أحد الأساتذة الإسرائيليين المتخصصين قائلا: " إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة, ولكني أحب أن أقول لكم: إننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط , بل إننا نؤكد أن اليهودية هي دين, وشعب, ووطن" ثم رد أستاذ آخر بمثل ما قال الأول. وإن كان تجنب هذه الجوانب عمدا أو من غير قصد فالنتيجة واحدة وهي أن اختزال الكلام في الجانب السياسي الآني يعمينا عن أهدافهم الحقيقية وتاريخ قتلهم وظلمهم لنا ومخططاتهم المستقبلية, وهذا بالضبط ما يسعون لتحقيقه.

فهم لا يفتؤون يطمئنوننا أن جيش الدفاع الإسرائيلي, كما يسمونه زورا وبهتانا, يتعامل بأعلى درجات أخلاقيات الحرب, وكأننا ولدنا من قريب أو نسينا مجازرهم السابقة التي لا يزال الجرح منها يثغب دما في قلوبنا. وحتى لا ننجر كعادتنا وراء السراب الإعلامي والخطاب الصهيوني المتكرر يجب ألا ننسى أن حقدهم الدفين نابع من تعاليمهم العنصرية المحرضة على كراهية كل ما ليس يهودي. هجومهم الوحشي على غزة هو في واقع الحال هجوم على كل مسلم موحد ودينه وقرآنه وجهاده واستخفاف بالدم العربي المسلم وإلا فكيف يستحلون هذا القتل الجماعي الإرهابي غير آبهين لا بالأرواح المهدرة ولا بالمجتمع الدولي ولا قرارات الشرعية الدولية. كل هذا ليس إلا مصداق ما قاله من لا ينطق عن الهوى, نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في طرف من حديثه: ( .. ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ... ) وهذا عندما خلدنا إلى الدنيا وكرهنا الجهاد وتركنا منهج ربنا العليم الخبير. وربما ازدادوا جرأة في إرهابهم الأخير هذا بعد أن أخذت وزيرة الخارجية ليفني الموافقة الضمنية بعد زيارتها لمصر. أعداء الدين كثيرا ما يلجؤون إلى إخفاء حقدهم وكراهيتهم لنا بتطييب الكلام كما وصفهم من هو عليم بذات الصدور: { ... يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون}. لكن بعض أعداء الإنسانية تجاوزوا بوقاحتهم حتى ذلك فأعلنوها بملء أفواههم. فهذا رافائيل إيتان قائد الأركان السابق في إسرائيل الذي قال قديما: "بعد أن نستقر في هذه الأرض (فلسطين) , كل ما يستطيع العرب فعله هو العدو مثل الصراصير المخدرة في الزجاجة." طبعا هذا الكلام يترفع عنه من له أدنى ذوق إنساني فضلا عن الذوق الأدبي, لكن الناظر لما يحدث في غزة المحاصرة اليوم والصهاينة وأولياؤهم متفرجون مصفقون يرى كيف طبق هذا الأمر بحذافيره, كمن حبس صراصير في زجاجة ثم رشهم بمبيد الحشرات. وشمعون بيريزالذي صافحه شيخ الأزهر من قريب قال بصريح العبارة: "إنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهرا سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد." وهذا طبعا غيض من فيض. إذن استهدافهم لحماس هو لعقر المشروع الإسلامي الذي يوقنون بأنه وحده الذي سيقلب موازين القوى ليرد الحق إلى أصحابه. أما غير ذلك من رايات وشعارات وإن كانت مقاومة غير مستسلمة فلا تخيف اليهود ولا يحسبون لها حسابا. حان الأوان أن نعود لكتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لصقل أفكارنا وتصويب آرائنا في طريقة تعاملنا مع اليهود. فمن يقرأ قوله تعالى مخاطبا رسوله (صلى الله عليه وسلم) عن اليهود: { ... يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ... } لا يطمئن لهم أبدا ولا يعول على كلامهم فإن عبارة "ولا تزال" تفيد الاستمرار, وبهذا يوقن المسلم أنهم أهل خيانة وغدر وكذب أبد الآبدين إلا قليلا منهم, مما يمنعه من الركون إليهم والهرع لعقد الإتفاقيات الجوفاء معهم. ما أشبه اليوم بالبارحة عندما حوصر العراق وجوع اثني عشر عاما حتى خارت قواه قبل أن تدك قوات الغزو ذاك البلد المنهك بالصواريخ والنار لتدمره بالكامل. كأن حصار القطاع الظالم المستمر لعدة أشهر لم يكن كافيا, جاء هذا الإرهاب اليهودي ليقتل ما تبقى من حياة أو رمق في جسم غزة الهزيل. عذرا أهل غزة فيبدو أن الله عز وجل كتب لكم أن يكون إحياء ضمير الأمة الإسلامية والعالم أجمع على أشلاء أجسادكم الطاهرة ودمائكم الزكية وخراب حياتكم وأنقاض بيوتكم. صبرا أهل غزة فأنتم من يحمي شرف الأمة ومقدساتها ودماؤكم لن تذهب هدرا بل ستسير في حبل وريد الأمة لتحيي مواتها بإذن الله, إذا عرفنا استغلال هذا الحدث الجلل في تجديد روح الأخوة في الله والجهاد والمقاومة في الأمة. ترى هل تكون هذه صيحة النفير التي تستيقظ بها الأمة من رقادها لتعود للإسلام عقيدة وشريعة وحكما وسلوكا؟ هل تكون هذه العبرة للمسلمين أن النصر لا يكون إلا من عند الله وأن الولاء واجب للمؤمنين والعداء للكافرين وأن جهاد الكفار والمنافقين وما أكثرهم والغلظة عليهم هو سبيل النجاة الوحيد؟ أم هل تسطر هذه المجزرة مع سابقاتها في كتب التاريخ وذاكرة الأمة لتقرأ عنها الأجيال القادمة وتتأوه وتحوقل كما جرت العادة, منتظرة الحرب الجديدة والذبح القادم ليضاف إلى جانب مجزرة غزة المحاصرة في آخر عام 2008؟

يا أصحاب الحجة والبيان ... لا تخطئوا العنوان!

يا أصحاب الحجة والبيان ... لا تخطئوا العنوان! عبدالعزيز مصطفى كامل لا أريد بداية بهذه الكلمات أن أصدر بياناً مستقلا، فلست إلى هذا الشأن أو ما يدانيه أصل. وأؤكد بداية أني لا أقلل من شأن البيانات والتصريحات التي صدرت عن فاجعة غزو غزة، فلست عن أهمية هذا أغفل. ولا أقصد أن استكثر على أهل غزة أي جهد من القول وإن كان بنصف كلمة، ومن البذل ولو كان بشق ثمرة. ولكن - ودعوني أقول (ولكن) - أريد لفت الانتباه إلى أننا في أكثر بياناتنا لمعظم ما يصيبنا؛ نصر على حرث البحر، وزرع الهواء، وتلقيح القبور ببذور الزهور، وذلك بتجاهل حقائق ما وراء المواقف، وتجاوزالحكم عليها وبيان الموقف العلمي الشرعي المطلوب فيها، وتعالوا نتأمل في ردود أفعالنا تجاه النوازل المتتابعة التي تعد البيانات الصادرة عن النخب العلمية والفكرية والدعوية أبرز صورها وأقوى صدى لها، لما تمثله من خلاصة رأي الخاصة، التي على العامة أن يأخذوا بها ويتحركوا على وفقها. وأتجاوز هنا الحديث عن بيانات الهيئات والشخصيات والاتجاهات العلمانية، رسمية كانت أو شعبية، قاصدًا البيانات الصادرة عن فعالياتنا الإسلامية. ولنأخذ النازلة الأخيرة في غزة نموذجًا، سواء طوال مدة الحصار، أو ما تلاها من فتح بوابات الجحيم والنار على إخواننا الصامدين: • فأكثر بياناتنا منذ بدأ الحصار، تطالب وتناشد (المنظمات الدولية)، بأن تطبق مقررات العدل، وتراعي قيم الإنسانية، وتتدخل لإنهاء هذه المأساة، مع علمنا أنهم لا يسمعوننا، ولو سمعوا ما استجابوا لنا! وتدل على ذلك عشرات إن لم تكن مئات المرات التي جرى فيها بيننا وبينهم حوار الطرشان دون إسماع أو إفهام! • ومعظم البيانات والنداءات منذ بدأ الحصار، تناشد (الأنظمة العربية) أن تدخل "بكل ثقلها" لرفع المعاناة عن إخواننا، ونحن نعلم أن أكثر تلك الأنظمة كانت مشارِكة مشارَكة منظمة في صنع هذه الحالة، بوضع غزة تحت وطأة الحصار، توطئة لإدخالها تحت خط النار، والهدف إخراج حماس من المعادلة، لأن أجندتها لم تعد مناسبة لطريق الاعتراف والتطبيع الذي تتوجه إليه معظم تلك الأنظمة. • ولم تخل بياناتنا طيلة مدة الحصار؛ من "مناشدة" الحكومة المصرية، بأن تتجمل وتتكرم، وتستجيب للنداء والرجاء والاستجداء، بفتح كوة التنفس من بوابة رفح، مع أن كثيرًا من الموقعين على البيانات التي صدرت سابقًا ولاحقًا يعرفون أن مصر الرسمية في حرب مع الاتجاهات الإسلامية ولو كانت سلمية في مصر والعالم منذ عقود طويلة، ولذلك كان بدهيًّا أن نتوقع استمرار الحصار مضروبًا حتى يحقق هدفه، وهو إسقاط حكومة حماس الجهادية بصيغتها الإخوانية التي ما يزال النظام المصري منهمكًا في حرب مفتوحة مع شقيقتها المصرية رغم سلمية طريقتها ومدنية نشاطها! • وكل بياناتنا بشأن محنة إخواننا، كانت تنادي ولا تزال تطالب (الإخوة الفرقاء) بالالتقاء، ونسيان الخلافات وتوحيد الطروحات، مع يقيننا بأن الخلاف بين زعماء الفريقين خلاف تضاد منهجي، لا تنوع حركي، ومع علمنا بأن طريقي الإيمان والنفاق لا يلتقيان، وأن الأمانة والخيانة نقيضان لا يمتزجان، وأن صيغة الوحدة الوحيدة المقبولة لدى الأنظمة مصريًّا وفلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا، هي أن تركع حماس ومعها قيم الإيمان، لتخضع لسلطة عباس ولي الأمريكان، وأن تظل الرايات العلمانية هي المرفوعة مرفرفة إلى جوار رايات الدولة الصهيونية اليهودية.

لهذا قلت وأقول: تبقى أمور من (البيان) ينبغي أن يراعيها ولا يتجاهل معانيها أي بيان أو تصريح أو فتوى أو تحرك يصدر عن خواص الأمة بشأن نوازل المسلمين حاضرًا أو مستقبلًا، وهي الأمور والقضايا التي تقف خلف المواقف والنوايا المعلنة من الأطراف في كل أزمة، ولا شك أن استكشاف ذلك ثم كشفه مهم، وهو ليس من الأمور المعضلة أو الخفايا الغامضة، بحيث نساهم بسكوتنا عنه أو تجاهلنا له في تحقيق مآرب المخططين، وتغطية سوءات المتآمرين؟ لا يكفي في الأحداث الكبيرة أن يعرف الناس تسلسلها والجديد فيها، بل الأهم من ذلك أن يعرفوا حقيقة ما أدى إليها وما يتوقع من ورائها، وهذه وظيفة الخواص في اقتناص لحظة الحدث لتحقيق (استفاضة البيان) بشأن القضايا التي تتوه في التفاصيل أويطويها النسيان. إن ما يسمى - مثلا - (بالنظام الدولي) والذي أجهدنا أنفسنا في مناشدته "بالضغط " لرفع الحصار ثم السعي لوقف العدوان، هو بالضبط من أسبغ على ذلك الحصار ثم ذاك العدوان صبغة "الشرعية الدولية " تمامًا كما فعل في حصار العراق ثم العدوان عليه، وحصار أفغانستان ثم العدوان عليها، والحصارات التي فرضت ويمكن أن تفرض على بلاد أخرى إسلامية تمهيدًا للعدوان عليها، مثل السودان أو الصومال أو غيرها من شعوبنا الإسلامية المتربص بها لأهداف استكبارية، كما أن ذلك النظام الدولي هو الذى أعطى شرعيته الدولية منذ ست عقود لوجود الدولة الصهيونية المعتدية على أرضنا الإسلامية، إضافة إلى ذلك فإن (المجتمع) الدولي الرسمي تحت ذاك النظام هو الذي اجتمع مع أمريكا في حربها العالمية ضد المسلمين المقاومين للعدوان، باسم الحرب على (الإرهاب) التي كان ولابد أن تشمل منظمة حماس وفقًا للتصنيف الأمريكي، والتصفيق العربي. • وإن ما يعرف (بالنظام العربي) في معظم دوله، كان من البدهي أن نفهم بأنه شريك رسمي معلن لأمريكا في حربها ضد ذلك "الإرهاب" المدعَى، فكان من غير المتوقع أن يرفع ذلك النظام حصارًا فرضته الحليفة الكبرى - أمريكا ـ لأن المحاصرين ليسوا فقط "حركة إرهابية" كما تصنفها الحكومة الأمريكية، ولكن "حكومة إرهابية" كما وصفتها الحكومة الصهيونية، وتبعتها منظمة "التحرير" الفلسطينية! • وكذلك فإن (النظام المصري) الذي لم يسمح لجماعة الإخوان المسلمين "المسالمة" في مصر بالمشروعية عبر أكثر من نصف قرن مع تسميته لها (بالجماعة المنحلة) في عهوده المتتالية؛ لم يكن ليسمح - كما قال مسؤول رفيع في النظام - (بإمارة إسلامية) على حدود مصر، مع أن ذلك النظام وغيره رضوا واعترفوا وطبعوا مع دولة همجية عنصرية توسعية على حدود أربع دول عربية، مع علم الجميع بأنها تستهدف ما تحت كراسيهم، وما فوق عروشهم في خططها المعلنة المستقبلية! • وهكذا أيضًا - يا موقعون - كيف تتوقعون بل كيف تطالبون في بياناتكم بمزج المنهج العلماني الوضيع، بمنهج الإسلام السامي الرفيع، عن طريق مناشدة الإسلاميين في فلسطين أن يكونوا صفًّا (واحدًا) مع العلمانيين الخائنين للوطن والدين؟ ومتى حدث في التاريخ أن يكون المنافقون والمؤمنون بعضهم أولياء بعض؟!

• ثم إننا نتوهم ونوهم الآخرين، ونظل نتوقع ونوقع الآخرين في تحقق خرافة دعم الأنظمة للحركات المقاومة، ففي كل نازلة ترتفع الأصوات في البيانات والمؤتمرات والندوات منادية تلك الحكومات بإعلان الجهاد، ودعم حركات المقاومة في العالمين العربي والإسلامي، ومدها بما تحتاج إليه من مال وعتاد، مع ضرورة تحريك الجيوش التي تتسلح بالمليارات من ميزانيات قوت أطفالنا، وأدوية مرضانا، ومشاريع تشغيل شبابنا العاطل ومرافقنا المهملة. نطالب بذلك كل مرة مع تأكدنا بأن تلك الجيوش لم تعد لها وظيفة إلا حماية العروش، ومع يقيننا بأن الدور المناط بمعظم تلك الحكومات هو مقاومة المقاومة، حتى تبقى تلك الأنظمة وحلفاؤها سالمة. • وأيضًا فإننا نسرف في التعويل على الصراخ والعويل في مظاهراتنا ومسيراتنا (السلمية)، تحت وقع الضربات (الحربية) التي تفتك بالآلاف من المدنيين قبل العسكريين، مطالبين بتدخل الزعماء دعمًا لتحرك الشعوب؛ مع أننا لم نر في أزمة من أزماتنا أن تظاهرات المحتجين وحدها؛ أعادت حقًّا، أو أرجعت أرضًا أو تبعتها مناصرة الرسميين، مدنيين أو عسكريين، خاصة في بلاد المسلمين، ولكن العسكر لو تحركوا، فلقمع المحتجين وتفريق المتظاهرين، أو على الأقل انتظارهم حتى يقضوا وطرهم وينفسوا احتقانهم ثم ينصرفوا "راشدين"!! ساعة الحقيقة: إذن نحن أمام ساعة حقيقة قدرية، تحتاج إلى مزيد من (بيان) الحقيقة الشرعية، حيث يتوجب على قادة الأمة من علمائها وأولي الرأي فيها أن يبينوا للناس ما وراء الأحداث، والحكم الشرعي في كل قضية حتى تُبنى عليها المواقف العملية، فالواقع المر أننا نقر في كثير من بياناتنا ونداءاتنا وترجياتنا، بشيء من شرعية ما تقوم به تلك النظم الدولية والإقليمية والمحلية، عندما نصر على إعطائها اعتبارًا ومصداقية، مهما صدر عنها من جنايات، وظهر من خيانات. وما دام الأمر يتعلق بمطالبات ومناشدات؛ فدعونا نطالب "أعلام الموقعين" على البيانات، ممن نعلم سمعهم ونرجو جوابهم، أن يفيدوا الجماهير الغاضبة الصاخبة، بالأمور الواجبة شرعًا وعقلًا، عندما يستحكم تحالف المنافقين مع الكافرين، ويظهر ما كان مخفيًّا من التآمر عبر سنين، فيبينوا لهم ما هو الحكم الشرعي الواضح في المُصرين على تطبيع العلاقات مع المعتدين، وتنسيق التحركات مع أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والتحالف مع الكفار الظاهرين ضد المسلمين المنافحين عن العرض والدين في فلسطين وغير فلسطين؟ نريد من (المبينين) المكلفين بالبلاغ المبين أن يدلوا عموم الأمة على سبل النصرة المتاحة، بعد أن صارت في غالبيتها غير مباحة بعد تحريم الأنظمة لها، وتجريمهم لمقترفها، بدءًا من غلق الحدود أمام المجاهدين، ومحاصرة طرق التواصل مع المقاومين، وإغلاق منافذ توصيل المساعدات والتبرعات المباشرة، ومرورًا بحرمان أصحاب المنابر حتى من النصرة بالحناجر، مع قمع المسيرات ومنع التظاهرات، ووصولًا إلى ما استمر طيلة فترة الحصار من منع القنوت العام في المساجد وتجريم التجمع فيها لمدارسة شئون المسلمين بدعوى عدم خلط السياسة بالدين!!

إن من أعاجيب السلوك الممنهج في أوساط العلماء والمفكرين وطلبة العلم مع قضية فلسطين، التي تتجدد فصول مصائبها كل حين، أنها عبر السنين (الستين) الماضية، لا تزال ملفاتها (الشرعية) شاغرة، إلا من أقل القليل من الدراسات الجادة المعمقة للنوازل المتعلقة بها، والوسائل الشرعية لتحريرها، والفتاوى الموضحة لبيان الفرق بين الباطل والحق في السياسات التي تدار بها، وكذلك الاستراتيجيات السياسية والعسكرية التي تليق بجلال قضيتها. وقد كان مغرقًا في العجب إلى حد الغضب تلك الضجة التي أحدثتها فتوى الدكتور عوض القرني في ضرورة توسيع دائرة الجهاد ضد اليهود إلى خارج فلسطين، لفتح المجال أمام المسلمين خارج الأرض المقدسة للقيام بواجب مساعدة إخوانهم في الدين في مواجهة المعتدين الكافرين المجرمين!! يا الله!! أبعد ستين عامًا من احتلال فلسطين ومناطق أخرى حول فلسطين، تطرح لأول مرة مثل تلك القضية في الأوساط العلمية فيثار لأجلها ذلك اللغط، لدرجة أن يتهم صاحبها بالغلط والشطط؟! لست هنا بصدد التأييد أو التنديد بالفتوى، فقد أتفق معها أو أخالفها بزيادة أو نقصان، ولكني أتساءل بل أسائل مجامعنا العلمية، ورموزنا الفقهية والفكرية، ألا يعد مجرد (بحث) هذه القضية وأمثالها في العقود الماضية على درجة من الأهمية بحيث تحتاج إلى مدارسة علمية ومعالجة فقهية ضمن مسائلنا في السياسة الشرعية؟ أم أن (فصل الدين عن السياسة) امتد أثره ليشمل أيضًا أمور السياسة الشرعية؟ أم أننا نقتصر على القريب من المسائل، ونبتعد عن العصيب من النوازل ثم نرمي من يتجرأ على تخطي الخطوط الحمر المسكوت عنها، بالجرأة التي قد تصنع الفتن وتغذي التهور والغلو! هناك كثير من أمثال تلك المسائل والنوازل تنتظر فتاوى مؤصلة ودراسات مفصلة، تزيل الحيرة، وتضبط المواقف بضوابط الشريعة ومحكمات العقيدة، دون تفريط أو إفراط، فكثير من المسائل (المعلقة) تتعلق بها أمور عقدية وواجبات شرعية، لا يسع تأخير بيانها عن وقت الحاجة، خاصة عندما تشتد الحاجة إليها في مثل أحوال أمتنا الراهنة التي تدهما الأحداث، وتدميها التحديات. نريد مثلاً فتاوى وبيانات علمية ـ وليست إعلامية ـ في أحكام التعامل مع ما يسمى بمقررات الشرعية الدولية، عندما تتعارض مع قواطع العقائد والشرائع الإسلامية، وعندما تقتطع بها قطاعات كبيرة من حقوقنا ومقدراتنا، ونريد دارسات تقويم شرعي وعقدي لكل ما أصبح شريعة واجبة الاحترام والالتزام من الاتفاقيات والمعاهدات العلنية والسرية التي يبرمها قادتنا السياسيون من وراء ظهر قادتنا الدينيين والفكريين، على الرغم من كونها تخص مستقبل أجيالنا والأجيال من بعدنا، والتي لم يطلب فيها رأي خاصة ولا عامة، قبل إخضاع الأمة لأحكامها، وتكبيلها بقيودها، كاتفاقية المعابر هذه التي صنعت محنة غزة، بحيث أصبح احترامها مقدمًا على محكمات القرآن والسنة وإجماع الأمة! ونريد تفصيلاً من أهل العلم في الأحكام المتعلقة بالآثار العملية لأحكام الولاء للكافرين والعداء للمؤمنين، وما موقع تلك العقيدة في تحديد من معنا ومن ضدنا؟ وهل تعد مسائل تطبيع العلاقات مع المحاربين وتقطيعها مع الموحدين؛ وكف السلاح عن المحاربين في معاهدات سلمية أبدية، بل التخندق معهم ضد المسلمين المقاومين هل كل ذلك من مسائل "الاجتهاد" الواسعة الأمر أمام ولاة الأمر؟ وهل طاعتهم في هذا الاجتهاد واجبة على عموم الرعية في قطاعاتها المدنية والعسكرية؟ وهل .. وهل .. وهل؟ من الكثير والكثير، مما لا تتسع هذة السطور؟!

إن البيان في هذا وغيره هو جهاد العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والبيان العلمي - لا الإعلامي ـ هو أول واجباتهم، وأسمى ما يُنتظر منهم، أما كتمانه أو إهماله فهو مكمن هوانهم وانصراف الناس عنهم، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، نسأل الله أن ينفع الأمة بعلمهم، وينشر الحق على ألسنتهم. أقول ختامًا في شأن محتوى أكثر البيانات والمناشدات والتصريحات والتحركات الصادرة مؤخرًا بشأن نازلة غزة: (أبشروا) .. فلن تغلق سفارات، ولن تقطع علاقات، ولن تتحرك جيوش، ولن يعلن جهاد، ولن يلغى تطبيع، بل ولن تنعقد مؤتمرات قمم لأولي الهمم، إلا بعد أن يطمئن (ولاة الأمر) إلى أن الأمر في غزة، قد انتهى إلى ما يريده الأمريكان وما يتمناه الصهاينة؛ الذين لن يأمروا بفك الحصار أو وقف إطلاق النار، إلا بعد أن يقع أحد أمرين: إسقاط حكومة حماس وإعادة عصابة عباس، أو إسقاط (مبادئ) حماس بجرها إلى التسوية المخزية، وفق شروط (اللجنة الرباعية) الطاغية. وعندها - أي عند التخلص من المشروع الاسلامي في فلسطين لا قدر الله ـ سوف يرى الجميع كيف ستفتح البوابات الحدودية، وتتدفق المساعدات الإنسانية، وتتوالى مكرمات المراسم الأميرية والملكية والجمهورية، على سكان الأراضي الفلسطينية، بعد رجوعها - لا سمح الله - لسلطة الحكومة العلمانية العميلة الهزيلة التي لم يصدر ـ بالمناسبة - بشأنها بيان أو فتوى، مع أن النظام العربي كله أعطاها الإذن كله، أن تتصرف كما تشاء، لا في شأن غزة وحدها، ولكن في ربوع الأرض المقدسة جميعها، وفوضها في تحديد مصير القدس والأقصى في مفوضاتها السرية، التي لا يدري بشأنها أحد من قياداتنا العلمية أو الفكرية، كما حدث ويحدث فى الاتفاقات والمعاهدات السابقة، وأخواتها اللاحقة التي تنتظر ما تسفر عنه نازلة غزة! المصدر: موقع لواء الشريعة.

أحكام شهر الله المحرم

أحكام شهر الله المحرم د. نهار العتيبي شهر الله المحرم هو أول شهر من الأشهر الهجرية وأحد الأربعة الأشهر الحرم وقد بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أحكام هذا الشهر الواردة في كتاب الله تعالى أو في السنة المطهرة ومن أهم هذه الأحكام مايلي: أولاً: فضل شهر الله المحرم: شهر المحرم هو من الشهور الحرم التي عظمها الله تعالى وذكرها في كتابه فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة - 36). وشرف الله تعالى هذا الشهر من بين سائر الشهور فسمي بشهر الله المحرم فأضافه إلى نفسه تشريفاً له وإشارة إلى أنه حرمه بنفسه وليس لأحد من الخلق تحليله. كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم الله تعالى لهذه الأشهر الحرم ومن بينها شهر المحرم لما رواه أَبو بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) (¬1) وقد رجح طائفة من العلماء أن محرم أفضل الأشهر الحرم، قال ابن رجب: وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم ورجحه طائفة من المتأخرين (¬2) ويدل على هذا ما أخرجه النسائي وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال: خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم) (¬3) قال ابن رجب رحمه الله: "وإطلاقه في هذا الحديث (أفضل الأشهر) محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة". ومن أهم أحكام هذا الشهر ما يلي: أولاً: تحريم القتال فيه: فمن أحكام شهر الله المحرم تحريم ابتداء القتال فيه قال ابن كثير رحمه الله: وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين: أحدهما: وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال ههنا {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} وأمر بقتال المشركين. والقول الآخر: أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية. وقال: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} الآية (¬4). وقد كانت العرب تعظمه في الجاهلية وكان يسمى بشهر الله الأصم من شدة تحريمه .. والصوم في شهر محرم من أفضل التطوع، فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل). ثانياً: فضل صيامه: ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) لطائف المعارف 70. (¬3) رواه عن أبي ذر النسائي في الكبرى وعن أبي هريرة رواه الدارمي وأحمد والطبراني والبيهقي وعن جندب بن سفيان النسائي والبيقي والحديث صحيح. (¬4) تفسير القرآن العظيم 2 - 468 - 469 وقد ذكر ابن كثير رحمه الله الأدلة والرد عليها فلتراجع هناك.

بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل صيام شهر الله المحرم بقوله: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) (¬1). واختلف أهل العلم رحمهم الله في مدلول الحديث؛ هل يدل الحديث على صيام الشهر كاملاً أم أكثره؟ وظاهر الحديث - والله أعلم- يدل على فضل صيام شهر المحرم كاملاً، وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر المحرم لا صومه كله، لقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) أخرجه مسلم (¬2)، ولكن قد يقال إن عائشة رضي الله عنها ذكرت ما رأته هنا ولكن النص يدل على صيام الشهر كاملاً. ثالثاً: شهر الله المحرم ويوم عاشوراء: عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم ولهذا اليوم مزية ولصومه فضل قد اختصه الله تعالى به وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1 - فضل يوم عاشوراء: عاشوراء هو اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً ثم صامه النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم، فأمر بصيامه) (¬3)، وفي رواية لمسلم: (فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه ... )، وللنبي صلى الله عليه وسلم في صيام عاشوراء أربع حالات (¬4): الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك صوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطر). (¬5) وفي رواية للبخاري وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شاء فليصم ومن شاء أفطر). (¬6). الحالة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له -وكان يحب موافقته فيما لم يؤمر به- صامه وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه وحث الناس عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم. الحالة الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بصيام يوم عاشوراء. لما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه) وفي رواية لمسلم أيضاً: (فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ومن كره فليدعه). الحالة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على ألا يصومه منفرداً بل يضم إليه يوم (التاسع) مخالفة لأهل الكتاب في صيامه لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع) قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬7). 2 - فضل صيام عاشوراء: ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه البخاري ومسلم. (¬4) انظر لطائف المعارف 96 - 102 (¬5) رواه البخاري ومسلم. (¬6) رواه البخاري. (¬7) رواه مسلم.

أما فضل صيام يوم عاشوراء فقد دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو قتادة رضي الله عنه وقال فيه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله). (¬1)، ولو صام المسلم اليوم العاشر لحصل على هذا الأجر العظيم حتى لو كان مفرداً له من غير كراهة خلافاً لما يراه بعض أهل العلم، ولو ضم إليه اليوم التاسع لكان أعظم في الأجر لما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن بقيت أو لأن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وأما الأحاديث التي وردت وفيها صيام يوم قبله وبعده أو صيام يوم قبله أو بعده فلم يصح رفعها للنبي صلى الله عليه وسلم والعبادات كما هو معلوم توقيفية لا يجوز فعلها إلا بدليل وقد يستأنس بما ورد في ذلك فقد صح بعض هذه الآثار موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه ولهذا لا يثرب على من صام عاشوراء ويوما قبله ويوماً بعده أو اكتفى بصيامه وصام يوماً بعده فقط. 3 - البدع في عاشوراء: قال العلامة الشيخ عبد الله الفوزان حفظه الله: وقد ضلَّ في هذا اليوم طائفتان: طائفة شابهت اليهود فاتخذت عاشوراء موسم عيد وسرور، تظهر فيه شعائر الفرح كالاختضاب والاكتحال، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك من عمل الجهال، الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والبدعة بالبدعة. وطائفة أخرى اتخذت عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- تُظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي كذبها أكثر من صدقها، والقصد منها فتح باب الفتنة، والتفريق بين الأمة، وهذا عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. وقد هدى الله تعالى أهل السنة ففعلوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من الصوم، مع رعاية عدم مشابهة اليهود فيه، واجتنبوا ما أمرهم الشيطان به من البدع، فلله الحمد والمنة. (¬2). وقد نص أهل العلم رحمهم الله أنه لم يثبت عبادة من العبادات في يوم عاشوراء إلا الصيام، ولم يثبت في قيام ليلته أو الاكتحال أو التطيب أو التوسعة على العيال أو غير ذلك لم يثبت في ذلك دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رسالة في أحاديث شهر الله المحرم 13.

قنوت النوازل

قنوت النوازل د. يوسف بن عبد الله الأحمد [كتب هذا الموضع في 8/ 1/1420 هـ ونشر في مجلة الدعوة (عدد 1700 - -- 2/ 4/1420هـ) وأضيف عليه بعض الزيادات اليسيرة بتاريخ 16/ 2/1425هـ.] الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد. فقد أصيبت الأمة الإسلامية بجراحات غائرة، في مشارق الأرض ومغاربها، فكان الواجب الشرعي هو: نصرة إخواننا المسلمين على عدوهم الكافر، ورفع الظلم عنهم، وإغاثتهم، وتعليمهم ما يجب عليهم في دينهم، والدعاء لهم؛ ومما يشرع من الدعاء (قنوت النوازل) (¬1). ونظراً لأهمية هذا الموضوع، وحاجتنا إليه، وخفاء بعض أحكامه على كثير من الناس، أردت بيان أحكامه بإيجاز وفق ما ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم مرتباً في الآتي: أولاً: يشرع القنوت في النوازل في الصلوات الخمس كلها. وقد ثبت في ذلك نصوص كثيرة منها: 1. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَلْعَنُ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) متفق عليه واللفظ لمسلم. 2. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ قَالَ أَنَسٌ فَقَرَأْنَا فِيهِمْ قُرْآنًا ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ "بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا"). أخرجه البخاري. 3. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ) أخرجه البخاري. 4. عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: (قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ) أخرجه مسلم. 5. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ) أخرجه البخاري. 6. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (لأقَرِّبَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ). متفق عليه. ¬

(¬1) النازلة: " هي الشديدة من شدائد الدهر ". (كشاف القناع 1/ 421).

7. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: (قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ) أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم كلهم من طريق ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس به، وهذا إسناد جيد. قال النووي: رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح (المجموع3/ 482). وقال ابن القيم: " حديث صحيح " (زاد المعاد 1/ 280). وقال ابن حجر: هذا حديث حسن (نتائج الأفكار 2/ 130) وحسنه الألباني (انظر صحيح سنن أبي داود ح1443). ويتبين من هذه الأحاديث أمور: 1. مشروعية القنوت في النوازل. قال ابن تيمية: " القنوت مسنون عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين ". (مجموع الفتاوى 23/ 108). 2. أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في النوازل في الصلوات الخمس كلها، وثبت في صحيح البخاري منها: الفجر والظهر والمغرب والعشاء. أما العصر فقد ثبت عند أحمد وأبي داود بسند جيد كما سبق. 3. أن أكثر ما رواه الصحابة في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يظهر من هذه الأحاديث وغيرها - كان في الفجر، ثم المغرب والعشاء، ثم الظهر، ثم العصر. قال ابن تيمية رحمه الله: " .. فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار في الفجر وغيرها من الصلوات، وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذي فيه (اللهم العن كفرة أهل الكتاب) " (مجموع الفتاوى 22/ 270). وقال أيضاً: " وأكثر قنوته - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - كان في الفجر ". (مجموع الفتاوى 22/ 269). وقال ابن القيم: " وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وترْكَه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها ". (زاد المعاد 1/ 273). 4. أن قنوت النوازل إنما يكون في الركعة الأخيرة، وأن محله بعد الرفع من الركوع. ثانياً: المشروع أن يكون القنوت يسيراً. فيبتعد عن الإطالة لحديث أَنَسٍ رضي الله عنه لما سئل: هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ: " نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا " أخرجه مسلم. وقد ظهر لنا من الأحاديث السابقة أن قنوت النبي صلى الله عليه وسلم كان جُملاً قليلة. والسعيد من وفق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: الاقتصار في الدعاء على النازلة. فلا يزيد في قنوته أدعية أخرى، وإنما يقتصر على النازلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. والذي يظهر من الأدلة السابقة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر الدعاء نفسه في قنوته حينما قنت شهراً، وربما كان بينها اختلاف يسير.

رابعاً: القنوت مشروع عند وجود سببه (وهو النازلة بالمسلمين) فإذا زال السبب ترك القنوت. أما قنوت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً فليس مقصوداً منه التحديد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القنوت لما زال سببه بقدوم من قنت لهم، كما يدل على ذلك حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ فِي صَلَاةٍ شَهْرًا إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ (¬1) اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ فَقُلْتُ أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ قَالَ فَقِيلَ وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا (¬2)). أخرجه مسلم. قال ابن القيم: " إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت ". (زاد المعاد 1/ 272). خامساً: قنوت النوازل ليس له صيغة معينة، وإنما يدعو في كل نازلة بما يناسب تلك النازلة. أما الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: " اللهم اهدنا فيمن هديت .. الخ " فإنما هو في قنوت الوتر، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت النوازل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فالسنة أن يقنت عند النازلة ويدعو فيها بما يناسب القوم المحاربين ". (مجموع الفتاوى 21/ 155). وقال أيضاً: " وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة. وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسناً ". (مجموع الفتاوى 22/ 271). وقال أيضاً: " عمر رضي الله عنه قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة، ودعا في قنوته دعاءً يناسب تلك النازلة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولاً على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده، ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء يناسب مقصوده. فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين: ¬

(¬1) (عياش والوليد وسلمة رضي الله عنه) حبسهم المشركون في مكة لما أسلموا ومنعوهم من الهجرة، وقد تواعدوا جميعاً للهروب من المشركين فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد (بالمستضعفين من المؤمنين) هم ضعفاء المؤمنين الذين حبسهم الكفار عن الهجرة، وآذوهم وعذبوهم. وقوله: (اللهم اشدد وطأتك على مضر) أصل الوطأة الدوس بالقدم، ومن وطأ الشيء برجله بشدة فقد استقصى في إهلاكه وإهانته، فيكون المعنى: اجعل بأسك وعذابك الشديد عليهم. وقوله: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) هي المشار إليها في قوله تعالى من سورة يوسف: " ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد " فكانت عليهم سبعة أعوام عمهم فيها القحط ونقص الطعام، فيكون المعنى هنا: هو الدعاء عليه بالقحط العظيم. (انظر في هذه المعاني: المنهل العذب المورود 8/ 82). (¬2) " أي أتسأل عن ذلك وما تعلم أن الوليد ومن معه قد قدموا إلى المدينة ونجاهم الله تعالى من عدوهم " (المنهل العذب المورود 8/ 82).

أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه، ليس بسنة دائمة في الصلاة. الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتباً، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولاً وثانياً، وكما دعا عمر رضي الله عنه لما حارب من حاربه في الفتنة، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده " (مجموع الفتاوى 23/ 109). ومن دعا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يناسب نازلة المسلمين كأن يقول في مثل مصابنا هذه الأيام: (اللهم أنج إخواننا المسلمين في كوسوفا، اللهم انصرهم، اللهم اشدد وطأتك على الصرب النصارى ومن شايعهم وأعانهم، اللهم العنهم، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فقد أحسن؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأجمع ما يدعى به سادساً: يسن جهر الإمام في القنوت للنازلة. لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لأحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ يَجْهَرُ بِذَلِكَ " أخرجه البخاري. قال النووي: " وحديث قنوت النبي صلى الله عليه وسلم حين قُتل القراء رضي الله عنهم يقتضي أنه كان يجهر به في جميع الصلوات، هذا كلام الرافعي. والصحيح أو الصواب استحباب الجهر ". (المجموع 3/ 482). قال ابن حجر: " وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة كما ثبت (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين، ومن ثمَّ اتفقوا على أنه يجهر به " (فتح الباري 2/ 570). سابعاً: يسن تأمين المأموم على دعاء الإمام في قنوت النازلة. لحديث ابن عباس رضي الله عنه في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " .. يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ " أخرجه أحمد، وأبو داود بإسناد جيد كما سبق. ثامناً: يسن رفع اليدين في دعاء قنوت النازلة. لحديث أنس رضي الله عنه قال " .. فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ وَجْدَهُ عَلَيْهِمْ - يعني القرَّاء - فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ ". أخرجه أحمد بإسناد صحيح. وقال النووي: " رواه - البيهقي - بإسناد له صحيح أو حسن " (المجموع 3/ 479). وعن أبي رافع قال: " صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقنت بعد الركوع، ورفع يديه، وجهر بالدعاء ". أخرجه البيهقي وقال " هذا عن عمر صحيح " (سنن البيهقي 2/ 212). قال النووي: " وعن أبي عثمان قال: كان عمر رضي الله عنه يرفع يديه في القنوت. وعن الأسود أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يرفع يديه في القنوت .. رواها البخاري في كتاب رفع اليدين (¬1) بأسانيد صحيحة، ثم قال في آخرها - يعني البخاري -: هذه الأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه " (المجموع 3/ 490). تنبيهات: أولاً: لا يشرع مسح الوجه بعد دعاء القنوت. لأن ما ورد في المسح ضعيف لا يحتج به. ¬

(¬1) وهو من مصنفات الإمام البخاري رحمه الله. (انظر هدي الساري ص 516).

قال البيهقي - رحمه الله -: " فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعف. وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت، ولا قياس. فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة وبالله التوفيق ". (سنن البيهقي 2/ 212). وبين النووي - رحمه الله - ضعف ما ورد في مسح الوجه بعد الدعاء في الصلاة. وقال: " وله - يعني البيهقي - رسالة مشهورة كتبها إلى الشيخ أبي محمد الجويني أنكر عليه فيها أشياء من جملتها مسحه وجهه بعد القنوت " (المجموع 3/ 480). وقال ابن تيمية: " وأما مسح وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة " (مجموع الفتاوى 22/ 519). ثانياً: مما يلحظ على بعض الناس في الدعاء قوله: (اللهم اشدد وطأتك على الصرب النصارى المجرمين برحمتك يا أرحم الراحمين، أو يا عفو يا غفور) لأن التوسل بصفة الرحمة والمغفرة قد لا يناسب الدعاء عليهم باللعن وأخذهم بالشدة. ثالثاً: من الخطأ التزام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في ختام دعاء قنوت النوازل، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء. والأصل في العبادات التوقيف، فلا يلتزم ذكر أو دعاء عند سبب أو زمن معين إلا بدليل. أما ما ورد عن بعض الصحابة فإنما هو في قنوت الوتر. رابعاً: الذي ثبت هو القنوت في الصلوات الخمس في الجماعة. أما القنوت في صلاة الجمعة، والنوافل، وللمنفرد فلم أقف للقنوت فيها للنازلة على حديث أو أثر صريح. وقد بوب عبد الرزاق في مصنفه (3/ 194): " باب القنوت يوم الجمعة "، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 46) بقوله: " في القنوت يوم الجمعة "، وابن المنذر في الأوسط (4/ 122) بقوله: " ذكر القنوت في الجمعة " وذكروا آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين عامتها في ترك القنوت وذمه في الجمعة. ولكن لم يرد في شيء منها أن القنوت المتروك أو المذموم فيها هو قنوت النوازل. فدلالتها على منع قنوت النوازل في صلاة الجمعة ليست صريحة. قال المرداوي: " وعنه يقنت في جميع الصلوات المكتوبات خلا الجمعة، وهو الصحيح من المذهب، نص عليه. اختاره المجد في شرحه، وابن عبدوس في تذكرته، والشيخ تقي الدين، وجزم به في الوجيز، وقدمه في الفروع، ... وقيل: يقنت في الجمعة أيضاً. اختاره القاضي، لكن المنصوص خلافه " (الإنصاف 2/ 175). واختار ابن تيمية مشروعية القنوت للمنفرد (انظر الإنصاف 2/ 175). والأصل في العبادات هو المنع حتى يتبين وجه المشروعية. وهذه المسألة (أي القنوت في صلاة الجمعة، والنوافل، وللمنفرد) بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر، والله أعلم. خامساً: قال ابن تيمية: " ينبغي للمأموم أن يتابع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد؛ فإذا قنت قنت معه، وإن ترك القنوت لم يقنت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وقال: (لا تختلفوا على أئمتكم) وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) " (مجموع الفتاوى 23/ 115 - 116). سادساً: قال بعض الفقهاء: إن قنوت النوازل إنما يفعله إمام المسلمين، أما عامة المسلمين فلا. وهذا القول فيه نظر؛ لأمور: الأول: أن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم العموم لجميع المسلمين، إلا إذا دل الدليل الصريح على التخصيص. ولم يثبت في ذلك دليل، فنبقى على الأصل وهو مشروعيته لجميع المسلمين.

الثاني: حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه مرفوعاً: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري. فهذا الحديث صريح في أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أنها لعموم المسلمين. الثالث: أن أبا هريرة رضي الله عنه قنت وهو ليس بإمام للمسلمين، كما ثبت في الصحيحين - وقد سبق - أن أَبا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " لأقَرِّبَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ وَصَلاةِ الْعِشَاءِ وَصَلاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ ". سابعاً: قال بعض أهل العلم المعاصرين بشرطية إذن الإمام لقنوت النازلة في الصلاة، وقد كثرت أسئلة الناس فيه جداً، وينبغي أن تطرح هذه المسألة طرحاً علمياً مجرداً عن الضغوط. ولم أقف بعد البحث والتتبع من اشترط هذا الشرط من العلماء المتقدمين، ولم أقف فيه كذلك على دليل، والأصل في العبادات التوقيف والحظر؛ فلا نضيف شرطاً ولاسبباً ولا عدداً ولا كيفية ولا أي وصف زائد في العبادة إلا بدليل من الكتاب أو السنة وإلا أصبحت الزيادة بدعة إضافية كما هو مقرر في قواعد البدعة. وبعض طلاب العلم قد تختلط عليه هذه المسألة بالتي قبلها، وبهذا البيان يتضح الفرق. وبالله التوفيق، والحمد لله رب العلمين.

من يحمي حقوق العلماء؟

من يحمي حقوق العلماء؟ عبد الرحيم بن صمايل السلمي العلماء في أي مجتمع يُقدّر المعرفة ويهتم بالعلم هم قادة الرأي وأولو الأمر فيه, وهذا ما قررته الشريعة ورسخه الإسلام, وجعله قيمة فكرية واجتماعية في الأمة المسلمة, فهم المبلغون عن الله تعالى, وحماة الإسلام من صولة المبدلين والمحرفين, وقد رفعهم الله تعالى على بقية الناس لحملهم هذه الرسالة العظيمة, يقول تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ويقول - أيضا -: {يا أيها الذين آمنو أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولو الأمر منكم} , إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الواضحة البينة. وأي مجتمع يعتدي على علمائه بأي شكل من أشكال الاعتداء, فهو يدل على المخاطر والمخاوف المحدقة به من تسوّد الجهال، وضعاف الرأي، وضياع العلوم والمعارف واحتقارها، وازدراء الفكر والثقافة والوعي, مما يهدد ذلك المجتمع في وجوده وبقائه واستمراره. وإذا كان من الضروري المحافظة على "حقوق الإنسان" فإن حفظ حقوق العلماء يقف على أولوياتها لأنهم يجمعون بين وصف "الإنسان" كصفة مشتركة , و"العلم" كصفة مميزة لهم دون غيرهم. ولا يخفى على المتابع للشأن الإعلامي المحلي, الجرأة المتنامية على أهل العلم والإفتاء والقضاء بصورة تدعو للاشمئزاز , وهذه الحملات الإعلامية المتكررة تدل على تزعم فئة فكرية لا يرضيها ما وصلنا إليه من العلم والمعرفة والثقافة (الإسلامية) , وتعمل جاهدة على أن يكون البديل هو ثقافة من نوع معين (الفن والغناء والرسم التشكيلي والثقافة الغربية). وهذه الفئة أٌطلقت يدها بالهجوم على العلماء باسم الحرية, لكنها حرية لطرف إيديولوجي صراعي لا يعجبه الاستقرار والسلم الاجتماعي. وهذه الحالة الاجتماعية والفكرية الغريبة في بلادنا, هي التي صنعت الفوضى والإرباك والخوف الاجتماعي, من طرح أي مشروع تنموي في شكله الظاهر إذا وقف هؤلاء وراءه. فالابتعاث وتوسيع عمل المرأة , والتنمية الاقتصادية, وتطوير القضاء , وحرية الصحافة والإعلام ,وتغيير المناهج، والانفتاح الثقافي ونحو ذلك لو طرحت في مجتمع آمن غير مختطف لاعتبرت مشاريع تنموية رائدة , لكنها إذا طرحت في مجتمع بطريقة موجهة, فإن من حق المجتمع رفضها, والاعتراض عليها وتعديل مسارها , وبعض الطيبين من المثقفين لا يدركون هذه المخاطر ويدعمون هذه المشاريع دون تحفظ ,لأنهم ينظرون لها بمثالية وينسون أنها ستوجه بطريقة فكرية سيئة. إن المطالبة بالحفاظ على "حقوق العلماء" لا تعني كهنوتاً أو طبقية, بقدر ما هي بيان لحق جزء سيادي في المجتمع, فالمجتمع متفاوت في قدراته وقواه المتحركة , ولا يمكن أن نقول بالمساواة المطلقة بين العالم والجاهل , والذكي والغبي , والقائد وغيره. ويتعاظم الخطب إذا تجرأ "البعض" على العلماء في قضية ضرورية يتفق عليها الكافة باعتبارها أصلاً راسخاً من أصول الدين , مع ضعف علمه وفقهه واغترابه عن ثقافة الأمة وهويتها. إن ما يدور في الصحافة والإعلام الفضائي من انتهاكات متكررة لـ "حقوق العلماء" يدل على ضرورة قيام مؤسسة مستقلة للحماية من هذه الاعتداءات ومقاضاة من يقوم بها , ورعاية حقوق هؤلاء القادة. وإذا كانت " الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان " مشغولة بدور الحماية النسائية فإن " حقوق العلماء " يجب أن تكون من مهام السلطات العليا لأنها قضية سيادية في هذه البلاد , وأنا أقول هذا ليس استجداء لأحد، أو استعداء على آخر, لكنها الحقيقة التي من الواجب إظهارها وبيانها. ومع كثرة الشعارات البراقة التي يرددها " البعض " حول احترام العلماء وتقديرهم, وكثرة استعمال الإعلام لعبارة "حقوق الإنسان" إلا أن الأمور لا تبشر بخير, وتدل على أن هذه الخطابات للاستهلاك ليس إلاّ. و "حقوق العلماء"على الأمة كثيرة فالاحترام والتقدير والصدور عن رأيهم والانتفاع بعلومهم, والرجوع إليهم في الملمات وبناء المؤسسات المعنية بمساعدتهم في القيام بدورهم, من أبسط الحقوق التي لهم على الدولة والمجتمع. وبكل أسف فإن هذه الجرأة على العلماء أصبحت ظاهرة, وبالذات على "علماء أهل السنة والجماعة"،وتصويرهم على أنهم شخصيات عادية أو أقل من عادية , هذا إن لم تكن الجرأة بالاحتقار والنقد البذي كالاتهام بالتكفير, ودعم التطرف والإرهاب والسطحية, والسذاجة في التفكير, وإرجاع الناس إلى القرون الوسطى (المظلمة أوروبياً) ونحو ذلك. ولعل هذه الحالة البائسة تدعونا إلى الاهتمام بـ " حقوق العلماء" في مناهج التعليم، والدروس العلمية، والخطب، والصحافة، والإعلام الفضائي، وتربية أبنائنا عليه , وإحياء فقه السلف الصالح في هذا الجانب من نسيجنا الاجتماعي الإسلامي. المصدر: شبكة القلم الفكرية

نقض دعاوى من استدل بيسر الشريعة على التيسير في الفتاوى

نقض دعاوى من استدل بيُسر الشريعة على التيسير في الفتاوى للدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب الطبعة الأولى 1423 للهجرة - 2002 للميلاد تقديم الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وبعد: ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء، عمَد بعض الميسِّرين إلى تكلّف إيجاد مرجعيّة شرعيّة، وتأصيل منهجيّة فقهيّة فجّةٍ، تعمَد إلى ما في نصوص الوحيين، وكلام السابقين، من أدلّة على أنّ الدين يُسرٌ لا مشقّةَ فيه، وتتذرّع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب، والإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة، إلى حدٍّ يبلغ حافّة الإفراط، ويخشى على من وَقَعَ فيها أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها، أو القول على الله بغير علم، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله ورسوله. وقد تأمّلت أدلّة القوم النقليّة، فإذا هي آيات مُحكمات، وأخبار صحيحة ثابتة، غير أنّي لم أجد فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه، بل بعضها يدلّ على خلاف مذهبهم، ورأيت من المناسب بيان ما بدا لي في هذا الباب على عُجالةٍ، في هذه المقالة الوجيزة، من خلال مقصِدَين وخاتمة. المقصد الأوّل نصوص التيسير من الكتاب والسنّة استدل دعاةُ التيسير بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير ورَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي، كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. وغفلوا عن الآية التي قَبلَها، وفيها رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم، وهو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها:) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ([البقرة: 184]. رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر ويَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا. قلتُ: وهذا من قبيل النسخ بالأشد، وهو من التشديد وليس من التيسير، في شيءٍ، فتأمّل! ومثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، متغافلين عن صدر الآية ذاتها، وهو قوله تعالى:) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ (مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد والتكليف به، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه، لا بآراء المُيَسّرين. ومن هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأبو داود في سننه , وأحمد في مسنده، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها، قَالَتْ: (مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ). وما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه، ومسلم في الجهاد والسير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَسِّرُوا ولاَ تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولاَ تُنَفِّرُوا». وفي روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب: «يَسِّرُوا ولاَ تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولاَ تُنَفِّرُوا». وروى مسلم وأبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: «بَشِّرُوا ولاَ تُنَفِّرُوا ويَسِّرُوا ولاَ تُعَسِّرُوا».

قلتُ: جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين، وكثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر ونفي الضرر، ورفع الحَرَج، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه، وحمّلوه ما لا يحتمل، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً، وفيما يلي نقضُ غَزلهم، وكشف شبههم إن شاء الله: أوّلاً: ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر والتيسير، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة، ومقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب والسنّة، وأنزله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والسلفُ الصالحُ منزلَتَه، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر، ويعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً، وهذا مَوطِنُ الخَلل. ثانياً: إن اختيار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ: النكتة الأولى: أنَّ الاختيار واقع منه - صلى الله عليه وسلم - فيما خُيّر فيه، وليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به، هو أو أمّته، ومثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان، وتكبيرات العيد، وما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما. والثانيّة: تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً، ولا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح، أو تعطيل (ومن باب أولى رد) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء. والثالثةُ: أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين، وهذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا، وقدّ أمِرنا بالردّ إليهم، ومنهم الحافظ ابن حجر، حيث قال رحمه الله في الفتح: (قولُه بين أمرين: أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح، وأمَّا من قبل الله ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين) [فتح الباري: 6/ 713]. والنكتة الرابعة والأخيرة: أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأشقَّ على نفسه، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال الحافظ في الفتح: (لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً، وبين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له) [فتح الباري: 6/ 713]. ثالثاً: لا تكليف بدون مشقّة، وإن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه، وهي متفاوتة، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة قال الشاطبي رحمه الله: (المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً) [الموافقات: 2/ 128]. وقال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله: (لو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية) [إعلام الموقعين 2/ 130].

وقال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر: (إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها، فإن كانت مشقة مرض وألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر والصلاة قاعداً أو على جنب، وذلك نظير قصر العدد، وإن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا والآخرة منوطةٌ بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومَنِّه) [إعلام الموقعين 2/ 131]. قلتُ: فمن آثر الراحة والدعةَ في مقام الجدّ والنصَب، فقد خالف الصواب، وغَفَل عمّا أريد منه، وما أنيط به، ولو كان في البعد عن الجدّ والجَهد في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار، لما قال تعالى لخير خلقه، وأحبّهم إليه: (فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ) [الانشراح: 7]. رابعاً: ما ورد في التحذير والتنفير من التشديد والتعسير والمشاقّة والتنطّع، والتعمّق - وما إلى ذلك - على النفس والغير، لا يدلُّ على التخيير (أو التخيُّر) في الأحكام الشرعيّة، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في مواضع كثيرة، ولأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق، فضلاً عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع ونحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع، كالوصال في الصيام، فهو ممّا نُهي عنه، وإن كان مقدوراً عليه بدون مشقّة، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى وإن ثبتت مشقّته، ما دام مقدوراً عليه، وقد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ الأصل في التكليف، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: (التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، ولا مستحب، بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارةً باتخاذ ما ليس بمُحرَّم، ولا مكروه، بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وعُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شَدَّد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، وفي هذا تنبيه على كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، وإن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك، متأولين معذورين، أو غير متأولين ولا معذورين) [اقتضاء الصراط: 1/ 103]. وقال ابن القيّم رحمه الله: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشديد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقدر، وإمَّا بالشَرْع؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم، فشُدِّدَ عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفةً لازمة لهم) [إغاثة اللهفان: 1/ 132]. ولا يقال: إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر، ولا من الأيسر إلى الأشد، باضطراد، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً، وهذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول، والأمثلة عليها كثيرة من الكتاب والسنّة، ومن استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ، وهو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما ذهَب إليه دعاة التيسير، ومؤصّلوه في هذا الزمان. لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه. ونحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد، حيث كان مباحاً على الأصل، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه على نفعه، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب، وحدُّ شاربه في السنّة.

وكذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان واليد، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً، ثمّ الجلد للبكر (والتغريب في بعض المذاهب)، والرجم للمحصن. ونحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر، ثمّ الإذن فيه، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة. والأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من الأيسر إلى الأشدّ كثيرة، ولو أردنا تتبُّعَها، وذِكرَ أدلّتها وما يتفرّع عنها من مسائل وأحكام، لطال بنا المقام، قبل أن نصير إلى التمام (¬1). وهذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون، يسَّر الله لنا ولهم سُبُلَ الهدى، ووقانا مضلات الهوى وموارد الردى. فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير، ظهر لنا الحق الصريح، وهو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح، ووجوب الردّ إلى الله تعالى ورسوله على وجه التسليم والقبول، والله أعلَم وأحكَم. المقصِد الثاني أقوال السلف في اختيار أيسَر المذاهب تذرّع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف والأئمة المتّبعين بإحسان، من استحباب الأخذ بالرُخص. ومن ذلك، قول قتادة رحمه الله: (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) [انظره في: تحفة المولود، ص: 8]. وقول سفيان الثوري رحمه الله: (إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد) [آداب الفتوى للنووي، ص: 37]. وقول شيخ الإسلام ابن تيميّة: (إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك) [مجموع الفتاوى: 7/ 48]. وقول ابن القيّم: (الرخص في العبادات أفضل من الشدائد) [شرح العمدة: 2/ 541]. وقول الكمال بن الهمّام في التحرير: (إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء، وإن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل. وكون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمّه عليه، وكان صلى الله عليه وسلّم يحبّ ما خفّف عن أمّته). وقول الشاطبي: (المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف، الحملُ على التوسط من غير إفراطٍ ولا تفريطٍ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين) [الموافقات: 4/ 285]. إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به، أو غاب عنهم فأغفلوه. ولو تأمّلنا ما أوردناه (ولا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة، فيقول: (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم)، ولا يقول: رخِّصوا باستحسانكم، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم. ¬

(¬1) كان التدرّج في التشريع في زمن الوحي، وانقطع بانقطاعه، حيث أكمَلَّ الله دينه، وأتمّ على عباده نعمته، فقال: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فليس لأحد بعد ذلك أن يجاري الشارع الحكيم سبحانه في التدرّج في تبليغ حكم الله تعالى، وحُكمِ رسولِه لحديثي العهد بالإسلام أو التوبة، إذ إنّ الأحكام قد استقرّت على ما قضى الله ورسوله، وبالله العصمة.

وابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام، وليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة، وإن ضَعُفَت حُجّته، ووَهت شُبهته. أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات، وهذا لا خلاف فيه، خلافاً لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام، ونفي الكراهة عن المكروه، وشتّان ما بين المذهبين. وما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب، أو تحليل المحرّم، ولكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه، لا ليُسقِطه عنه، وذلك كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات، وأداء النذور ونحوها. وما روي عن ابن عيينة، قال به غيره، ولكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره بالتمثيل له. قال النووي: (وأما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ ونحوها , فذلك حسن جميل، وعليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان: إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد) [آداب الفتوى للنووي، ص: 37]. وننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح، في الحث على التمسّك بالعزائم، والتحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل، أضعاف ما روي عنهم في التيسير والترخيص، والعدل أن يُجمَع بين أقوالهم، لا أن يُسقَط بعضها، أو يُضرَبَ بعضُها ببَعضٍ. وربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد والتيسير على النفس والغير، ومن أبرز تلك المعالم: أوّلاً: تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره. ولهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة، حيث أرشَد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ الناسَ في الصلاة، ويقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً، كما في الصحيحين وغيرهما. ثانياً: عُرِف عن السلف الصالح، من الصحابةِ الكرام ومن بَعدَهُم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه، وهذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر، من التيسير فيما كثُر وقوع الناس فيه. ومن ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه: (فلو أمضيناه عليهم) حينما حكمَ بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً، وأمضاه على الناس، لأنّهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة. وكذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع، بعد أن فسدت الذمم وتغيرت النفوس. ألا ترى أنّ عمرَ وعليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين، استحساناً، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً للتيسير، ومستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع، ورفعاً للحَرَج عن الناس. ثالثاً: أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى، أو يقضي بالقضاء، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلاً وأقوَم سبيلاً، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند الله، وثبت عن رسول الله، وليس بالتيسير أو التشديد.

أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل: رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس: من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له، فقال: أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال:) وَأَتِمُّوُا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله ([البقرة: 196]، وأن تأخذ بسنة رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، فإن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لم يحل حتى نحر الهدي). والأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرزَ السابقين، وينحو نحوَهُم، فيقف عند الدليل، ويرجع إليه إن بلغه، ولو بعد حين، ولا يجد غضاضةً في أن يقول: (تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي)؟ رابعاً: كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ، فمنهم الميسِّر ومنهم المشدد، ولكن عن علم وبصيرة ودليل. وكلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِسٌ ... غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ وإن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر، ولكنّ الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ الهُدى - صلى الله عليه وسلم -. ويحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان: عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فقد كان (أحدهما يميل إلى التشديد والآخر إلى الترخيص وذلك في غير مسألة، وعبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك، وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد، وكان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وابن عباس كان يدخل الحمام، وكان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه، وضربةٍ لليدين إلى المرفقين، ولا يقتصر على ضربة واحدة، ولا على الكفين، وكان ابن عباس يخالفه، ويقول: التيمم ضربةٌ للوجه، والكفين، وكان ابن عمر يتوضأ من قُبلةِ امرأتِه، ويُفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً، وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يُتِمَّها، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها ... والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط) [زاد المعاد: 2/ 47 و 48]. قلتُ: ومع كلِّ ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من التشديد ولزوم الأحوَط، لم يغمز قناته أحدٌ من السلف أو الخلف، ولم يصمه أحدٌ بوصمة التعسير، على وجه التخطئة والتنفير، بل غاية ما ذَهَبَ إليه مخالفوه هو عدَم موافقته في تشديداته، مع اعتبارها أمارةً على وَرَعه وحُسن اتّباعه، وعُذر مَن ذهبَ مذهبَه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مدارَه. ولم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلاً عن تبريره أو تسويغ القول والعمل به. قال أبو عبد الله الزركشي [في المنثور: 1/ 20، 21] وهو يُعدِّدُ أنواع التمني ويعرض حكم الشرع في كلٍّ منها: السابع: تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي ... قال الإمام الشافعي في (الأم) وقد روى عن عمر: (لا يُسترق عربي) قال الشافعي رحمه الله: لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا، وكأنه أراد تغير الأحكام ولم يرد أن التمني كله حرام).

قلت: فلله درّهم ما أبرَّهم، وما أنبلهم حيث لا يسوّغون مجرّد كون الحرام حلالاً، فضلاً عن تسويغه، والإفتاء بحلّه، ولو كان بليّ أعناق النصوص، وحشد الشواهد والشواذ من كلّ رطبٍ ويابِسٍ، من زلاّت المتقدّمين، وهفولت المتأخّرين، وسقطات المُتابِعين. إنّها والله الخشية من العَبدِ للمعبود، فمن أو تِيَها فقد أوتِيَ خيراً كثيراً، وهل العِلمُ إلاّ الخشية، وما مثل من كثر عِلمُه وقلّت خشيته إلا كمثل التاجر المدين، تكثر بين يديه العروض، ليس له منها شيء. خاتمة وبعد، فقد آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية، وهي جماع صفاة العالم الرباني، تسوقه إلى الحقّ، وتأطُرُه عليه أطراً. قال صاحب الآداب الشرعيّة: (ونقل المروزي عن أحمد أنه قيل له: لمن نسأل بعدك؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق، فقيل إنه ضيق العلم فقال: رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق .... وقال الأوزاعي كنا نمزح ونضحك، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم ... وروى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: إن الفقه ليس بسعة الهذر وكثرة الرواية إنما الفقه خشية الله ... وقال الأوزاعي: بلغني أنه يقال: ويل للمتفقهين لغير العبادة , والمستحلين المحرمات بالشبهات ... وقال الشافعي رضي الله عنه: زينة العلم الورع والحلم، وقال أيضا لا يجْمُل العلم، ولا يحسن إلا بثلاث خلال: تقوى الله , وإصابة السنة , والخشية). فما أحرى العاملين للإسلام؛ دعاةً وفقهاء ومُفتين إن يقفوا على الحقّ، ويقولوا به، ويردّوا عِلمَ ما اختُلِفَ فيه إلى عالمه. لتكون السبيل محجّةً بيضاء؛ كتاباً وسنةً، مع سلامةٍ في الصدر والمنهج. ففي ذلك السلامة، والنجاة من الندامة، وهذا غاية ما أردت بيانه في رسالتي هذه، باذلاً في طلب الحق وتقريبه للخلق وسعي، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإن أخطأتُ فمِن نفسي ومن الشيطان، واللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي، ويقيل عثرتي. وأفوّض أمري إلى الله، إنّ الله بصير بالعباد والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وآله، وصحبه أجمعين وكتب أحمد بن عبد الكريم نجيب (الملقّب بالشريف) دَبْلِن (إيرلندا) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة الموافق العاشر من يوليو (تمّوز) عام 2002 للميلاد

الليبراليون السعوديون: الأقلية الناطقة

الليبراليون السعوديون: الأقلية الناطقة إدريس أبو الحسن لطالما زعم رواد الاتجاه الليبرالي في المملكة بأنهم (الأغلبية الصامتة)، لكن إذا رجعنا مثلا إلى الانتخابات البلدية الأخيرة في المملكة، سنجدها أكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن مقولة "الأكثرية الصامتة"، التي يتغنى بها الليبراليون هي (أكذوبة)، لا تمت إلى الواقع بصلة. فلم يحظ اللبراليون، الذين رشحوا أنفسهم، إلا بأصوات قليلة جدا، اعتبرها المراقبون والصحافة السعودية علامة على نكسة هذا الاتجاه وخيبته. الشعور بالخزي والعزلة الشديدة على المستوى الشعبي، أصبح يلازم فئة الليبراليين، فعلى قناة الحرة، كثيرا ما تبرم كتاب وكاتبات سعوديات من "نفور" المرأة السعودية مثلا من (حقوقها)، حتى وصفت كاتبة سعودية المرأة في المملكة (في معرض الكلام عن قيادة المرأة للسيارة)، بأنها تعرضت لغسيل دماغ على مدى سنين، ويصعب تغيير ذلك!!! معبرة بذلك عن العجز في إقناعها هي نفسها بهذا الموضوع قبل إقناع الرجل!!! ومثل هذا الوصف، الذي يمثل شكلا من أشكال الاستعلاء واليأس، لا يجد معظمهم حرجا في التصريح به، رغم أنه يعتبر استخفافا بعقل وخيارات شعب ناضج واع مميز. المأزق الليبرالي مرده إلى الحصانة الفكرية والعقدية، التي نشأ عليها المجتمع السعودي، والتي تنظر إلى الاتجاهات الفكرية (المستوردة) نظرة شك وريبة، وإلى الليبرالية بالتحديد، نظرة استنكار واحتقار، خاصة وأنها تمثل الاتجاه الفكري الأمريكي، الذي يمثل محور الشر واحتلال الشعوب في ثقافة المسلمين جميعا. فالمجتمع السعودي يدرك أن الليبرالية في إطارها الفكري تقوم على حرية الاعتقاد والسلوك، وبرغم أن تلك الحرية قابلة للتقييد بالأسس القانونية (سواء كانت دينية أو غير دينية) المنظمة للحياة (كما يروج ليبراليو المملكة)، إلا أن تلك القوانين نفسها من المنظور الليبرالي الفكري، لا يمكن أن تكون عادلة ما لم تتح حرية الاعتقاد المطلق للفرد والمجتمع، فـ"الردة عن الإسلام"، مثلا هو حق من حقوق الإنسان بالمفهوم الليبرالي، واعتباره جرما يعاقب عليه فاعله مناقض لحرية الإنسان في اختيار معتقده, وبالتالي هو نقيض الليبرالية، وقس عليه الحجاب ونحو ذلك. فالليبرالية لا تعترف بالهيمنة المطلقة للقوانين والأديان، إنما تعترف بهيمنة تلك القوانين والأديان، ما دامت تحترم جوهر الفلسفة الليبرالية القائم على الحرية الشخصية، حتى لو اصطدمت تلك الحرية بالثوابت المطلقة للدين. وهو ما يعني أن الليبرالية اتجاه حاكم على النظم قبل أن تكون محكومة بها، وهذا هو الحد الأدنى والقاسم المشترك الذي تلتقي عليه الفلسفة الليبرالية في كل مراحل تطورها وبكل أشكالها، وهذا منشأ الرفض القطعي لهذا الفكر المستورد عند المجتمع السعودي. وبشكل عام، يولد الإحساس بالعزلة لدى الليبراليين إحباطا نفسيا، لا يفتأ مع توفر مقومات التأثير، يتحول إلى ثورة جامحة مصرة على اختراق المجتمع، وتجاهل مكوناته وخصوصياته وثوابته وطبيعته، مهما كلف الثمن. وباستقراء الوضع، يمكن إجمال ردة فعل الليبراليين الناجم عن العزلة في نقطتين: * النقطة الأولى: الاستعلاء على الداخل الاتجاه الليبرالي في المملكة وحتى قبل 11 سبتمبر، يمثل على ما هو عليه من القلة، مكونا من مكونات المجتمع السعودي، وإذا اعتبرنا الاتجاه الحداثي في بعض أشكاله تجليا للاتجاه الليبرالي، فإن التأريخ لوجود هذا الاتجاه سيكون بعد السبعينيات على أقل تقدير، أي مع بداية تشكل الاتجاه الحداثي في المملكة.

وإذا ما استثنينا بروز شكل من أشكال هذا الاتجاه على المستوى الرسمي، فيمكن أن نطلق على الليبراليين في مرحلة ما قبل 11 أحداث سبتمبر، اسم (الأقلية الصامتة)، حيث اتسمت هذه المرحلة بالصمت و (الكمون). أما بعد الأحداث، فقد صاروا (الأقلية الناطقة)، وهي مرحلة النطق والاستعلاء. وفي هذا المرحلة تحديدا، استفاد الاتجاه الليبرالي من الأجواء المحتقنة التي خلقتها المشاريع الأمريكية لمكافحة ما يسمى (الإرهاب)، فأصبحوا طرفا رئيسا في المعادلة تحت مضلة (مكافحة الإرهاب) و (مشروع الإصلاح)، مستفيدين من الرعاية الأمريكية لهم على المسرح السياسي، ومن انكماش الأصوات الغيورة خوفا من أن تنعت بـ (الإرهاب). وفي هذا المناخ لم يبال الليبراليون بحجم وضعهم في خريطة المكونات السياسية بالمملكة، فجردوا أقلامهم مستعلين على تلك الخريطة برمتها، وخاضوا (إلى يومنا هذا) معارك شرسة على مستوى الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، جسدت في نظر خصومهم الاستعلاء على الدين والقيم والثوابت والخصوصيات، وهو ما تجلى على صفحات الجرائد تحديدا في جدالات طويلة وردود تتنقل إلى الإعلام المرئي والمسموع، خاضها علماء ولأول مرة مع خريجي جامعات تكساس وكاليفورنيا. وبرغم استحواذ الليبراليين (الأقلية الناطقة) على نصيب الأسد في الإعلام، فالمتابعون للشأن يقررون أن منهجية الاستعلاء التي تبناها الاتجاه الليبرالي، زادت من عزلته في المجتمع، وانكشفت في خضمها حقائق خطيرة عن هذا الاتجاه، زل بها لسانه، عن الدين والمجتمع والقيم. وهذا في حد ذاته ولًّد شعورا بالنقمة على (التيار الديني)، كما ينعته الليبراليون. ومن تجليات تلك النقمة، وضع كافة رموز هذا التيار من دعاة وعلماء ومصلحين ومناشط ومدارس دعوية ومناهج تعليمية في سلة واحدة، هي سلة الإرهاب والتحريض عليه. وإذا أخذنا الدكتور سلمان العودة، كأنموذج وواحد من الدعاة الفاعلين على الساحة، سنجد موقفه واضحا من دعوى التحريض التي يدعيها اللبراليون على التيار الديني والمناهج وما إلى ذلك، فقد قال في مقال له بعنوان (حوار أم تصادم) ما نصه: "وأجد أنه بسبب أحداث العنف التي تشهدها البلاد، برزت أطروحات إعلامية مدعومة من بعض أطراف رسمية بصورة علنية؛ تحضّر ـ ولو بغير قصد ـ لنوع من الصدام داخل المجتمع تحت دعوى مكافحة الإرهاب، مع توسيع مصطلح الإرهاب؛ ليشمل مع العنف الأفكار المتشددة التي لا تخلق عنفًا, والاتجاهات المعتدلة التي لا تتفق مع مشربهم!! وثمة صوت جريء يُعلن الانقلاب على كثير من قيم وموروثات المجتمع، ويسعى لتمرير هذه الأجندة من خلال إدراجها ضمن مشروع ((مكافحة الإرهاب)) ". وممن تبنى هذا الاتجاه الاستعلائي الإقصائي الأكاديمي المثير للجدل حمزة بن قبلان المزيني، والذي أصبح ينعت بمحامي التيار الليبرالي، لكثرة كتاباته وجدالاته مع العلماء والدعاة، وآرائه الجريئة بخصوص ما ينعته بتيار الصحوة عموما. إذا أخذنا هذا الرجل كمثال، نجده يمثل حالة من الاستعلاء الليبرالي النادر، فهيئة كبار العلماء أو ما ينعته هو بـ (المؤسسة الدينية التقليدية) في نظره، مجرد حجر في طريق الإصلاح، بمفاهيمها التقليدية عن القضايا الاجتماعية، ومنها قضية المرأة كمثال.

وحتى مع قصوره الفاحش عن أهلية الفتوى والتمرس على علوم الشريعة، نجد له ردودا مطولة على العلماء (في قضايا العبادات)، يسفه فيها الآراء، ويمثل فيها التعالم والاستعلاء. وفي قضية المرأة، شن هجوما عنتريا على كتاب حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد، سفه فيه منهجيته، واتهمه بالقصور العلمي في طرح الخلاف بين العلماء، وبرغم تصريحه بأن الكتاب حطم أرقاما مهولة في المبيعات، إلا أنه نصح المسلمين بعدم شرائه، والله وحده يعلم هل لعلم أوتيه وحده وغاب عن المسلمين، أم لحالة استعلاء ولدها الحسد. وفي قضايا التعليم، عرف بهجومه الشرس، واتهامه بعض المعلمين والمناهج التعليمية بالتحريض على الإرهاب، بل اتهم السياسة التعليمية بكونها احتوت على بنود مستقاة من منهج الإخوان المسلمين، وأن التعليم اختطف من قبل (الصحويين) منذ بداية الثمانينيات، وذلك سبب ما يسميه (تفريخ الإرهاب). ويعتبر بعض المعلقين أن المزيني تجاوز الحد في اتهام المناهج إلى اتهام السياسات، وأن اعتباره فترة الثمانينيات بداية للتعليم المحرض على الإرهاب (في نظره)، فيه جناية على تاريخ المملكة وسياستها التعليمية واتهاما ضمنيا للدولة، سيما وأن المسؤولين في الدولة، كبارا وصغارا، في تصريحاتهم المنقولة، لا يرون لسياسة المملكة، سواء في التعليم أو في غيره، يدا في نشأة ما يسمى (الإرهاب). وحتى على مستوى الحوار الوطني، ثار المزيني مستعليا في وجه رئيسه الشيخ صالح الحصين، معربا عن تذمره من استحواذ التيار الديني على مقاليد الأمور، كما دخل في جدل مطول مع الشيخ صالح الفوزان، اعتبر فيه أن لا مجال لتصنيف المجتمعات إلى مسلمة وكافرة في زماننا هذا، متذرعا بوجود أقليات مسلمة في تلك المجتمعات، فكان استعلاؤه هذه المرة في أبواب العقيدة. ولم تقف به عقدة اتهام الدعاة والمصلحين والعلماء بالتحريض على الإرهاب إلى هذا الحد، فقد اعتبر كل من ساعد المجاهدين في البوسنة مثلا محرضا ومنظرا لهذا الفكر، فاتهم الشيخ الدكتور سعد البريك بالتحريض على الإرهاب، لأن له شريطا عن البوسنة والهرسك، وأنساه شيطانه الليبرالي أن في هذا اتهاما للمملكة برمتها، بقادتها وعلمائها وشعبها، فكلهم انخرطوا في مساعدة البوسنيين على دحر الصرب، والعالم بأسره، كان ولا يزال ضد إرهابه، وهي مسألة لا تحتاج إلى نقاش. وعقدة اتهام الآخر بالتحريض بلغت حدها عند المزيني، بعد أن اعتبر في مقال له تصريحات وزير الداخلية السعودي (زادا للمحرضين)، وطالب وزارة الداخلية بالتحقيق في المسألة، وكان الوزير أعلن في وقت سابق عن وجود كتاب لهم صلات مشبوهة بالسفارات، وهو ما أثار حفيظة الليبراليين في المملكة. * النقطة الثانية: الاستقواء بالخارج فرغم تنكره لوجود صلات له من قريب أو من بعيد بأمريكا، يبقى الاتجاه الليبرالي متهما من قبل العديد من الجهات المحلية، بوجود علاقة ما تربط بعض رموزه بسفارات محددة. وإذا صح أن للاتجاه الليبرالي في المملكة ارتباطا بسفارات توجهه (ولن تكون غير الأمريكية والبريطانية)، فإن مرد ارتماء هذا الاتجاه في أحضان الغرب، ما هو إلا تنفيس عن حالة العزلة الشعبية التي يعيشها في الوطن. ولا أحد من المتابعين لطبيعة الشراكة بين الليبراليين العرب وأمريكا، ينفي وجود تنسيق سري وعلني بين الليبراليين العرب والمشروع الأمريكي في المنطقة، فحتى العديد من الليبراليين لا يرون بأسا بتلقي الدعم الأمريكي بكل أشكاله، ويرون ذلك ضرورة من ضرورات الإصلاح.

وفي حالة العراق ولبنان وبعض الحركات الليبرالية في مصر، مثال واضح على ذلك. لكن هذا لا يعني خلو الاتجاه الليبرالي ـ على علاته ـ من الوطنيين الأحرار، وهم الذين لا تكاد تجد لهم نفوذا يُذكر على المستوى السياسي. جمال خاشقجي مدير جريدة الوطن، كان له مقال حذر فيه الليبراليين من أن يؤدي بهم الإحساس القاتل بالعزلة الجماهيرية إلى الاستقواء بأمريكا ماديا ومعنويا، فكتب نصيحة مطولة، بعنوان: (إلى السادة أعضاء حزب أمريكا في العالم العربي)، وخطابه وإن كان عاما، ففي ثناياه ما يدل على أنه موجه لبني قومه من الليبراليين السعوديين. وإذا رجعنا إلى فترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر، سنجد الصحافة السعودية تناولت وجود علاقات مشبوهة لكتًّاب سعوديين بالسفارات الأجنبية، بما فيها تلقي توجيهات محددة تؤطر مواضيع الكتابة لخدمة أهداف تلك السفارات، ولو كانت على حساب الوطن!! ومنذ ذلك الحين، ظل الاتجاه الليبرالي محط هذا الاتهام. حمزة المزيني نفسه، سئل في حوار له مع صحيفة الحياة: هل تعتقد بوجود كتاب لهم صلات بالسفارات، فأجاب: أنا قطعا لست منهم، برغم أن السؤال لم يكن: هل أنت منهم!! والمتتبع للحراك الفكري في المملكة، يلمس حضورا شبه يومي لهذا الموضوع في ثنايا المقالات والردود، فحتى بعد تصريح وزير الداخلية القديم بوجود تلك الصلات وتهديده لكتاب معينين بالعقاب جزاء علاقاتهم بجهات مشبوهة، فإن الموضوع بقي محط جدل كبير، لدرجة أن محامي الليبراليين (كما يوصف) حمزة بن قبلان المزيني، تحدى هذا التصريح، ناعتا إياه بـ"أسوء الاتهامات" و"الافتراء"، وطالب بفتح تحقيق في المسألة. ولم يقف حمزة عند الاستنكار والهجوم على كل من صرح بوجود تلك العلاقات، بل اعتبر تقرير مؤسسة "راند" لهذا العام بهذا الخصوص، مجرد ثرثرة. (في مقال له نشرته جريدة الوطن بعنوان "الثرثرة الراندية"). ففي نظره، أن ما تدعيه مؤسسة راند من دعمها لليبراليين العرب عموما في إطار مشروع حرب الأفكار الأمريكي، هو مجرد هراء وثرثرة، وهو ما يجسد حالة الهذيان الفعلي الذي انحدر إليه رموز التيار الليبرالي في المملكة. ما كانت الأقلية الليبرالية في العالم العربي لتنطق على هذا النحو، برغم عزلتها شعبيا وحجمها المحدود، لولا حاجة الحكومات العربية المغلوبة على أمرها إلى أدوات مناورة، تواجه بها الضغوط الأمريكية، التي ازدادت في السنين السبع الأخيرة، فمعيار الإصلاح إنما يكون برعايتهم، فالعلاقة بين الليبراليين (حزب أمريكا) وبين حكوماتهم إذن، ليست لوجه الله، وإنما هم شر لا بد منه، وهذا ليس مبررا لتمكينهم، بقدر ما هو توصيف دقيق لطبيعتها. المصدر: شبكة القلم الفكرية

من أسباب الانحراف الفكري قلة الفقه في دين الله

من أسباب الانحراف الفكري قلة الفقه في دين الله إبراهيم بن عبد الله الزهراني الدين الإسلامي مبناه على الوحي؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} (الأنبياء:45)،وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: من الآية113). وفرض الله على الناس اتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد دل القرآن على أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو مطيع لله؛ كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31). فإقامة الدين على الوجه المطلوب شرعا لا تحصل إلا بالعلم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال أبو حمزة البزاز: " من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلا متابعة الرسول في أقواله، وأفعاله، وأحواله" ولذلك أمر المولى تبارك وتعالى بطلب العلم؛ فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)، وندب المؤمنين إلى التفقه في الدين؛ فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122)، وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ). وللعلم بالكتاب والسنة طرق، وآلات، من يسرها الله له، وأراد به خيرا فَقُه في دين الله، ومن تنكب تلك الطرق، وحرم آلات العلم، لم يعرف دينه؛ ومن لم يعرف دينه، لا يكون فقيها، ولا طالب فقه. فمن طرق اكتساب العلم، التعلم؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122). وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه). فالعلم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم سبيله بذل الجهد في طلبه، والأخذ من أفواه العلماء الربانيين؛ المشهورين بالديانة، المعروفين بالستر والصيانة؛ الذين قد ارتقت في العلم درجتهم، وعلت فيه منزلتهم. ولا يكون العالم ربانيا إلا إذا عمل بعلمه؛ قال ابن الأعرابي: " إذا كان الرجل عالما، عاملا، معلما، قيل له رباني، فإن خرم خصلة منها، لم يقل له رباني " وكذلك يؤخذ العلم عن الأكابر؛ فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا" ولا يؤخذ عن مبتدع، ولا كذاب، ولا سفيه؛ كما قال الإمام مالك:"لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه، وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به ".

ومن آلات العلم، الذكاء، وسرعة الفهم؛ فإن الإنسان إذا رزقه الله تعالى الذكاء، سهل عليه طلب العلم، وعقل مسائله؛ وإذا لم يكن كذلك لا يستطيع أن يحقق بغيته. قال ابن المعتز: "كما لا ينبت المطرُ الكثيرُ الصخرَ، كذلك لا ينفع البليد كثرة التعليم" وبهذا نعلم أن قلة الفقه في الدين تحصل بسبب نقص الآلة، وعدم التفقه في نصوص الوحي، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالطرق المعتبرة. فالإنسان إذا طلب العلم ممن لم ترسخ في العلم قدمه، أو كان صاحب هوى وبدعة، أو استقل بنفسه في الطلب، واكتفى بمطالعة الكتب، كان حريا ألا يصل إلى مرتبة الفقه في دين الله روى الخطيب البغدادي عن سليمان بن موسى قال: "لا تقرؤا القرآن على المُصَحِّفين، ولا تأخذوا العلم من الصَّحفيين" وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، وبالإسناد القوي من الضعيف، فيجوز له أن يعمل بما شاء، ويتخير ما أحب منها؛ يفتي به ويعمل به؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم ". إن الإسلام دين يدان به لله عز وجل، وهذا الدين لا يتم إلا بعلم مستقى من مشكاة النبوة؛ ولذلك فإن من الواجب على الإنسان أن يجتهد في اختيار من يأخذ عنه العلم؛ كما قال الإمام مالك: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم ". بعض الآثار المترتبة على قلة الفقه في الدين: 1. ترؤس الجهّال: إن من أعظم ما تبتلى به الأمة، ويفرق كلمتها، ويشتت صفها أن يتصدى لإرشاد الناس، ودعوتهم، وتعليمهم أمور دينهم من لم يكن من الراسخين في العلم، أو كان صاحب هوى وبدعة؛ لأن مثل هذا يفسد أكثر مما يصلح. أخرج البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاص قال: سَمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتزِاعاً يَنتزِعُهُ من العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بقَبض العُلماءِ، حتى إِذا لم يُبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فسُئلوا فأفْتَوا بغير علمِ فضلُّوا وأضَلُّوا). 2. عدم معرفة مقاصد الشرع: وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا عندما قال له الرجل: اتق الله يا محمد!، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا - أَوْ في عَقِبِ هَذَا - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، فهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن، ولم يتفقهوا فيه، ولم يعرفوا مقاصده. إن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه بلسان عربي مبين، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ولذلك فإن طلب فهم القرآن إنما يكون من هذا الطريق، فإنه لا يعلم من إيضاح جُمَلِ عِلمِ الكتاب أحدٌ جهل لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانه. وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على من يتكلم في القرآن والسنة أن يكون له بصر بلسان العرب، ومعرفة بأساليبهم، وطرائق كلامهم. قال الشاطبي "فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي أديت به، وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل العربية بأنه يستحق النظر، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها. فإن ثبت على هذه الوصاة، كان ـ إن شاء الله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام".

إنَّ تكلُّم من لا يعرف لسان العرب في أمور الشرع، واستنباطه الأحكام دون أن يتمكن من آلة فهم الكتاب والسنة يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، والقول على الله بغير علم. 3. اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة وترك المحكم: قاعدة الشريعة، وطريقة الراسخين في العلم الإيمان بالكتاب كله محكمه ومتشابهه؛ كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} (آل عمران:7) أخرج الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: (لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً، قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم؛ باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه). فقد دلت هذه النصوص على أن في كتاب الله من لا يفهمه إلا من رزقه الله الفهم والبصيرة؛ فإن التشابه الذي لا تمييز معه، قد يكون من الأمور النسبية الإضافية؛ بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، فليس لكل أحد أن يقول فيه برأيه بل يكله إلى عالمه. قال الربيع بن خثيم: "يا عبد الله! ما علمك الله في كتابه من علم، فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم، فكله إلى عالمه، ولا تتكلف؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (صّ:86 ـ 88). إن ضلال كثير من أصحاب الغلو، وانحرافهم كان بسبب ردهم للمحكمات من النصوص، وأخذهم بالمتشابهات. قال عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله " وبين الشاطبي ذلك بقوله: " ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا: كيف رأي ابن عمر صلى الله عليه وسلم في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين. فسرّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: من الآية44)، ويقرنون معها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: من الآية1)، فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق، قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه، (ومن عدل بربه) فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون، فيخرجون فيقتلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية ". 4. الأخذ ببعض الأدلة وترك ما سواها:

إن طريق الأئمة الراسخين في العلم النظر في جملة أدلة الشريعة، ومن ثم استخراج الحكم؛ لأن أدلة الشرع كلية وجزئية، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، فاستخراج حكم قضية من القضايا يحتاج إلى النظر في الأدلة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها؛ لأن أخذ الحكم من دليلٍ دون نظرٍ إلى ما يعارضه، أو يقيده، أو يخصصه، أو تطبيق الحكم دون النظر في تحقق المناط، يؤدي إلى نتائج خاطئة، وأحكام غير صحيحة، وضرب للأدلة ببعضها. لقد كانت نتيجة مثل هذا النظر في الأدلة مؤلمة وقاسية على الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها، فقد أُخرِج أقوام من دين الله، وسُفكت دماء، واستحلت أموال، وانتهكت أعراض، وخُربت أوطان، وتسلط ظلوم غشوم طاغ على بلاد المسلمين، وأحال أمنهم خوفا، وعزهم ذلا، وغناهم فقرا. 5. عدم النظر إلى مآلات الأفعال: قاعدة الشريعة التي لا تنخرم، تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ ولذلك كان النظر إلى ما يؤول إليه الفعل، وهل يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة؟ من الفقه في دين الله. والأصل في ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108)، فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور. يقول الشاطبي - رحمه الله -: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا؛ كانت الأفعال موافقة، أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ (فقد يكون) مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة، أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي، أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة". وعملا بهذا الأصل لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم عَبْد اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ حينما قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، وعلل ذلك بقوله: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) ولم يهدم البيت ثم يعيده على بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال لعَائِشَةَ - رضي الله عنها-: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ في الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ في الأَرْضِ)، وحرُم تغيير المنكر إذا كان يستلزم ما هو أعظم منه شرا. ولو تأمل المنصف في كثير من الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية؛ في الماضي، والحاضر، لوجد أن سببها يرجع في الغالب إلى إهمال هذا الأصل. إن إهمال النظر إلى ما يؤول إليه الفعل، يفسر لنا ما نراه من بعض الناس من حماس زائد، واندفاع متهور، وعواطف ملتهبة، عند وقوع بعض الأحداث التي تعصف بالأمة؛ فترى أولئك يفقدون الحكمة، ويسارعون في رد الفعل دون تروٍّ، ويتسابقون في اقتحام الميادين الصعبة، والمسالك الوعرة، دون تثبت، ولا مشاورة كبير أو صغير. وبعد أن تنجلي الأحداث، وتهدأ العاصفة يتبين لأولئك الغيارى! أن عاقبة سعيهم لم تكن محمودة، وان ثمرة جهدهم لم تكن بقدر ما بذلوه من جهد، وأن الأمر لم يكن بمثل ما تصوروه، وأن العاقبة كانت أشد وقعا، وأعمق أثرا، وأكثرا ضررا. المصدر: شبكة القلم الفكرية

كيف تكون قارئا عظيما للكتب

كيف تكون قارئاً عظيما للكتب سلطان الدويفن هذه عشر خطوات؛ لتطوير مهاراتكَ في القراءة؛ حتى تكونَ منَ المتمَكِّنينَ فيها، ولتصبح منَ القُرَّاء الكبار، اخترتُها لك - عزيزي القارئ - من بين عشرات المقالات باللغة الإنجليزية المنشورة في هذا الموضوع، وقمْتُ بترجمتها بتصَرُّف، وهي للمدرب المتخصص في التنمية وتطوير المهارات السيد: ( Jim M. Allen جيم الين)، وتأتي على النحو التالي: 1 - ليس منَ الضروري أن تكونَ قارئًا سريعًاً لتحصلَ على الفائدة: فبعض الناس يقرأ بسرعات عالية، وآخرون يقرؤون بسرعات متوسطة، والبعض الآخر يقرأ ببُطْء؛ للحصول على كلِّ المعلومات، والسرعةُ في حقيقة الأمر ليست بالأهمية الكبيرة؛ بلِ المهم الحُصُول على الفائدة التي تريدها وتتوَخَّاها من قراءة الكتاب أوِ المقال أوِ المجلة، ودعوني أخبركم سرًّا، لا يُقال في دورات القراءة عمومًا، ودورات القراءة السريعة خصوصًا، وهو أن طبيعة وموضوع الكتاب تفرض عليك سرعة قراءته؛ حتى تستفيد منه الاستفادة المُثْلى، فالكُتُب التي تعتني بجمع المقالات مثلاً؛ ككتاب "مقالات لكبار كتَّاب العربية في العصر الحديث"؛ للشيخ محمد إبراهيم الحمد، والذي أنصح بقراءته؛ لما يَحْوِيه من فوائدَ جميلةٍ، ومقالات متميزة، والتي توجد نسخته الإلكترونية كاملة على بعض مواقع الإنترنت - يمكن قراءته بالطريقة السريعة، وأما عندما تتناول أحد الكُتُب الفقهيَّة المتخصصة، أو الكُتُب الفكريَّة العميقة لتقرأه، فطبيعة الكتاب تجبرك وتفرض عليك فرضًا أن تقرأه ببطْء، أو بسرعة متوسِّطة؛ حتى تستوعبَ ما فيه؛ لذلك فسرعة القراءة تتفاوت حسب طبيعة الكتاب وموضوعه، وتذَكَّر دائمًا أنَّ المهم هو الحُصُول على الفائدة، وليس إنهاء الكتاب بسرعة أو بسرعة عالية. 2 - اعرف: لماذا تقرأ؟ فيجب عليك أن تعرفَ هدفكَ قبل القراءة، والذي بناء عليه تقوم باختيار الكتب التي ترتقي بإدراككَ ومعارفكَ، فهل أنت تقرأ للتسلية والمتعة؟ أو تقرأ للتعلُّم المستمر، الذي يطوِّر من مفاهيمكَ ومعارفك وقدراتك، ونظرتك للحياة والكون، والحكم على الأشياء، وبناء وتكوين شخصيتك الثقافية والقيادية والفكرية التكوين المناسب؛ حتى تكون مؤثِّرًا في محيطكَ والمجتمع من حولكَ؟ 3 - أنت لا تحتاج أن تقرأ عنْ كلِّ شيءٍ: فليس كل كتاب، أو مجلة، أو بريد إلكتروني تحتاج إلى قراءته أو قراءتها، فمُعظم المجلاَّت والرسائل الإلكترونية في حقيقتها لا تحتوي على ما ينفعكَ؛ لذلك منَ المهم أن تتحكَّم فيما تقرأ، والوقت التي تبذله في القراءة، واخترِ الكتاب الذي يتناسب مع تخصصكَ واهتماماتكَ ومجالك الذي تريد أن تبرزَ فيه. 4 - ليس منَ المهم أن تقرأ الكتاب أو كل شيء يقع في يدك: فهل تقرأ كل المقالات في المجلة التي تقع تحت يدك؟ وهل تقرأ كل أجزاء وفُصُول الكتاب؟ في حقيقةِ الأمر إذا سرتَ بطريقة قراءة كل شيء، فأنت قد تقرأ فصولاً أو مقالات كثيرة لا تحتاجها فعلاً، فقط اخترِ الأجزاء المهمة منَ الكتاب، والتي يهمك قراءتها، وتتفق مع ما تبحث عنه من فوائد أو معلومات، وكذلك كنِ انتقائيًّا في قراءتك للمقالات، وقد ذَكَر أحد المفكِّرينَ الكبار أنَّ عقلكَ ينتج بحسب ما تضعه فيه، فهو كالطاحونة إن وضعتَ فيه قمْحًا جيدًا، أخرج دقيقًا جيدًا، وإن وضعتَ فيه غير ذلك، أخرج ما وضعته فيه، فاحرِص على ما تضعه في عقلك الذي يعتبر الأداة الرئيسة لك للحكم والتعامُل مع العالَم، والمشكلات، والتصوُّرات، والأفكار، وهو مصدر بناء شخصيتكَ، والأمر راجعٌ إليك، ولا يشارككَ فيه أحدٌ. 5 - اختبر حالتكَ النفسية والمزاجية قبل أن تبدأَ في القراءة:

فحالتُكَ النفسية والمزاجية مهمة جدًّا قبل البَدْء في القراءة، وفي الأوقات المخَصصة لها، فعندما تكون صافيًا ذهنيًّا وغير مرهقٍ، فيُمكنكَ قراءة الكتب الدسِمة التي تحتاج إلى تركيزٍ كبيرٍ، وإن كنتَ تحس بالإرهاق أوِ التَّعب، فاخْتر ما يناسبكَ منَ الكُتُب السهلة والخفيفة، والتي لا تحتاج إلى مجهودٍ في قراءتها. 6 - قمْ بترتيب أولوياتكَ في القراءة: اجْعل قراءتك حسب أولوياتكَ، فإذا كنتَ تنوي تأليف كتاب، أو كتابة بحث أو مقال، فيجب أن تكون قراءاتكَ في الموضوع الذي تنوي الكتابة فيه، وهذه نصيحة مهمة جدًّا لمن أراد أن يستمرَّ في القراءة، وهو أن تجعلَ من ضمن أهدافك منَ القراءة إنتاج أفكار ورؤًى وتصورات جديدة، قد تتَّصف بالإبداع لما قرأت فيه وعنه، وذلك من خلال تأليف الكتب أو كتابة البحوث والمقالات، وهذا - من واقع التجربة والخبرة من قِبَل كثيرينَ - يدفعكَ للاستمرار في القراءة، وهو من أهم الدوافع فيها. 7 - حَسِّن ورَتِّب وهَيئ مكان قراءتكَ: فأنتَ سوف تقرأ وتستوعب بشكلٍ أفضل، إذا كان المكان الذي تقرأ فيه مرتَّبًا ومُهَيَّأ بشكلٍ يساعدك على القراءة، وتعتبر راحتكَ في وضعيَّة الجلوس عاملاً مهمًّا للاستمرار في القراءة، وكان علي الطنطاوي - الشيخ، والداعية، والأديب، والمربِّي الفاضل، وأحد أكابر القرَّاء العرب في العصر الحديث - قد رَتَّب وسائد بأحجام مختلِفة يضعها خلف ظهره، أو يَتَّكئ عليها حسب الوضعيَّة التي تساعده أن يكونَ في راحة تامَّة أثناء القراءة. 8 - إذا بدأتَ في القراءة لا تتوقَّف: اقرأ مباشرةً، ولا تتوقَّف إلاَّ لسببٍ ضروري وقاهرٍ يجبركَ على التوقف عن القراءة، وإذا انتهيتَ منَ القراءة وكان لديك أسئلة، عُد مرَّة أخرى لفصول الكتاب؛ للبحث عن أجوبة للأسئلة التي وردت في ذهنكَ، أوِ ابْحث عنِ الإجابة في كُتُب أخرى، وإذا كنتَ لا تملك أسئلة، فأنتَ في حقيقة الأمر قد حصلتَ على ما تحتاج إليه، والأسئلة مفتاح خيرٍ عظيم لِمَن أراد التطوُّر المستمر في شخصيته وتكوينه الفكري والقيادي، وأذكر أنِّي حضرتُ ملتقى التميز والإبداع الإداري، الذي نظمتْه الجمعية السعودية للإدارة، وعقد في مدينة الرياض في الفترة 8 - 10 صفر 1428 هـ، وكان من ضمن المشاركين في البرنامج العلمي البروفسور مايكل ماركورت، من جامعة جورج واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي ألقى محاضرةً بعُنوان: "القيادة في القرن الحادي والعشرين: الأسئلة أولى منَ الإجابات"، ومع أن مدَّة مشاركة البروفسور كانت ربع ساعة تقريبًا؛ إلاَّ أنها من أجمل وأروع المشارَكات في ذلك الملتقى، وعادتْ عليَّ شخصيًّا بفوائدَ جميلةٍ؛ وذلك لسبب يسيرٍ جدًّا، وهو أنَّ المحاضَرة - وبصورةٍ أساسية - تعطي منهجًا، ولا تعطي معلومات، ومَن يمتلك معلومات فكأنما امتلك قطعة ذهبيَّة، وأما مَنِ امتلكَ منهجًا فكأنما امْتَلَكَ مَنْجَمًا منَ الذَّهَب، وما أريد أن أصل إليه من خلال هذه القصة هو التالي: مَن أراد التميُّز فعليه أن يدفعَ ثمن تكاليف أسئلة تبدأ بـ: "لماذا؟ وماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ وماذا لو؟ وهل؟ وغيرها منَ الأسئلة، ويبذل جهده، وتعبه، وعرق جبينه، وشيئًا من راحته النفسيَّة؛ للحُصُول على إجابات لتلك الأسئلة مقابل التميُّز والتفرُّد الذي ينشده؛ لأن ضريبته باهظة، خصوصًا مَن كان يريد نجاحًا وتميُّزًا ذا معنى حقيقيٍّ، وليس زائفًا، وفرق كبيرٌ بين المعنيينِ.

9 - رَكِّز: تذَكَّر جيدًا أنكَ تقرأ، ولديك هدف وغرض وغاية من قراءتك؛ لذا يجب عليك التركيز في المادة المقروءة، وإذا فقدتَ التركيز والاهتمام بعد فترة منَ القراءة، يمكنكَ أخْذ راحة، أو قراءة كتاب آخر، والمهم هو أن تحافظَ على مسارِكَ في القراءة، وحسب المادة التي تقْرَؤها وترجو منها الفائدة الفكرية والذهنية لعقلك، الذي يتطوَّر بشكلٍ مستمرٍّ مِن خلال القراءة، والتَّعلُّم بالطُّرق المختلفة، ولا تنسَ أنَّ القراءة أهم طرق التعلُّم؛ كما تشير إلى ذلك الكثيرُ منَ الدِّراسات. 10 - تدرب ومارس: إنَّ القُرَّاء الكبار لم يولدوا مِن بين يوم وليلة ورأوا أنفسهم قراءً عظامًا؛ ولكنهم تعبوا وبذلوا الأسباب، وتعلَّموا من أخطائهم؛ سواء في اختيار الكتب أم طريقة القراءة، وفهموا واستوعبوا الدروس من خلال التجربة والخبرة والممارسة، وهذه الطُّرق التي ذكرتُها تعطيكَ جزءًا مُهمًّا وكبيرًا لتطوير مهاراتك في القراءة؛ ولكن يبقى الدور المحوري والرئيس والمهم عليك أنتَ - عزيزي القارئ. القراءةُ ليستْ هواية كما يظن الكثيرون، ومِن سخف القول أن يجيبَ أحدُهم عندما يُسأل عن هوايته بأن هوايته القراءة، إنها منهج حياة متكامِل وضروري ومهم وحيوي، لمن أراد أن يكونَ مشعل نور وإضاءة، وقائدًا ذا أَثَرٍ في هذه الحياة. وقبل الرحيل، هذه دعوةٌ لقراءة كتاب "عاشق"؛ للشيخ الدكتور/ عائض القرني، والذي يتحدث فيه عن قصته مع القراءة، وفوائد القراءة، ويستعرض بعض النماذج المبرزة في القراءة منَ السلف الصالح، وهو كتاب يجمع بين المتعة والفائدة، كَتَبَه الشيخ بأسلوبِه الأدبي الرفيع. المصدر: موقع الألوكة

بحث في حكم إسبال الثياب

بحث في حكم إسبال الثياب علوي بن عبد القادر السقاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية 26 رجب 1429هـ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين أما بعد: اتفق العلماء على حرمة إسبال الثوب خيلاءً واختلفوا إذا لم يكن ذلك من باب المخيلة والتكبر على قولين: الأول: الجواز مع الكراهة وهو قول أغلب أتباع المذاهب الأربعة. الثاني: التحريم مطلقاً وهو رواية عن الإمام أحمد خلاف المشهور عنه، قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية 3/ 492): (قال أحمد رضي الله عنه أيضاً: ما أسفل من الكعبين في النار لا يجر شيئاً من ثيابه. وظاهر هذا التحريم) أ. هـ واختاره القاضي عياض وابن العربي من المالكية، ومن الشافعية الذهبي ومال إليه ابن حجر، وهو أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول الظاهرية وبه قال الصنعاني ومن المعاصرين ابن باز والألباني وابن عثيمين وغيرهم وهو ما تؤيده الأدلة، والواجب فيما ما يتنازع فيه الناس أن يرد إلى الكتاب والسنة، قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء/59. والأدلة على التحريم واضحة وصريحة منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) رواه البخاري، وحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو ساقه فقال: هذا موضع الإزار فإن أبيت فأسفل فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين) رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح، وغيرها من الأحاديث. وسبب صرف هذه الأدلة الصريحة الواضحة عن التحريم عند من لا يقول به وجود أحاديث علقت التحريم بالخيلاء كحديث: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) رواه البخاري ومسلم، فقالوا تلك أحاديث مطلقة وهذه مقيدة فحملوا المطلق على المقيد، وهذا غير صحيح، لأن حمل المطلق على المقيد إنما يكون إذا اتحدا في السبب والحكم وأما إذا اختلفا فالأصوليون متفقون على امتناع حمل أحدهما على الآخر، وهنا عندنا سببان وعقوبتان: الإسبال وعقوبته النار الجرُّ - وهو قدر زائدٌ عن الإسبال- وعقوبته ألا ينظر الله إليه أما القول بأنهما عقوبة واحدة وأن من دخل النار لم ينظر الله إليه ومن لم ينظر الله إليه فمأواه النار فغير صحيح؛ بل هما عقوبتان ولو كان أحدهما يستلزم الآخر، ونظير هذا في القرآن الكريم كثير، كقوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وغيرها من الآيات، وكذا السنة المطهرة. ومما يؤيد خطأ حمل المطلق على المقيد حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال سألت أبا سعيد الخدرى عن الإزار فقال على الخبير سقطت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج - أو لا جناح - فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو فى النار، من جرَّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه ومالك. وهو حديث صحيح، صححه النووي وابن دقيق العيد والألباني وغيرهم. فهذا الخبير بحكم إسبال الإزار رضي الله عنه يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه السببان والعقوبتان وقد فرق بينهما. كما أن إسبال الثوب وجره يستلزم الخيلاء كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لجابر بن سليم رضي الله عنه: (إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 264): (وحاصله: أن الإسبال يستلزم جرَّ الثوب، وجرُّ الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده: ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: (وإياك وجر الإزار؛ فإن جر الإزار من المخِيلة). وقال تعقيباً على حديث أم سلمة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ حيث فهمت أن الزجر عن الإسبال مطلقاً ولو من غير خيلاء: (ويستفاد من هذا الفهم التعقيب على من قال إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء ... ووجه التعقيب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا) (فتح الباري 10/ 259) وقال ابن العربي في (عارضة الأحوذي) (7/ 238): (لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول: لا أتكبر فيه؛ لأن النهي تناوله لفظاً، وتناول علته، ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكماً فيقال إني لست ممن يمتثله لأن العلة ليست فيَّ، فإنها مخالفة للشريعة، ودعوى لا تسلم له، بل مِن تكبره يطيل ثوبه وإزاره فكذبه معلوم في ذلك قطعًا) وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (3/ 234): رداً على من يسبل إزاره ويقول لا أفعل ذلك خيلاء: (وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فَرَجِيَّة (الفَرَجِيَّة: ثوب واسع فضفاض كان ملبوس العلماء والقضاة) تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء؛ فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري؛ فقال: (لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء)! فقلنا: أبو بكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولا على كعبيه أولاً، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي. وقد قال عليه السلام: (إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين)، فمثل هذا في النهي من فصَّل سراويل مغطياً لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداً، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس) انتهى وقال شيخ الإسلام ابن تيمية تعقيباً على من جعل الإسبال هو السدل: (وإن كان الإسبال والجر منهياً عنه بالاتفاق والأحاديث فيه أكثر، وهو محرم على الصحيح، لكن ليس هو السدل.) (اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 130) وقال الصنعاني في مقدمة كتابه (استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال): (وقد دلَّت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين في النار، وهو يفيد التحريم، ودل على أن من جَرَّ إزاره خيلاء لا يَنْظر الله إليه، وهو دال على التحريم، وعلى أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة هي عدم نظر الله إليه، وهو مما يُبْطل القول بأنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء) أما استشهاد بعضهم بفعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إنك لست تفعل ذلك خيلاء) فهو استشهاد في غير محله: أولاً: لأن هذا في جرِّ الثوب وحديثنا عن الإسبال والفرق بينهما لا يخفى، وثانياً: هذه تهمةٌ الصديقُ بريءٌ منها فلم لم يكن رضي الله عنه متعمداً الإسبال بدليل قوله: (إنَّ أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه) فانظر إلى قوله: أحد شقي ثوبي، فهل الإسبال المُتَعَمَّد يكون من شقٍّ واحد؟! وتأمل قوله: إلا أن أتعاهد ذلك منه - أي أرفعه-، وحديثنا عمن يُسبله ابتداءً لا عمن يرفعه كالصديق رضي الله عنه. والخلاصة: أن إسبال الثوب ومثله البنطال والسراويل إلى ما دون الكعبين محرَّمٌ بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله خيلاء يزيده حرمة. والله أعلم

التهنئة بالعام الهجري الجديد

التهنئة بالعام الهجري الجديد علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين أما بعد فإنَّ التهنئة تكون على أحوال: إمَّا أن تكون بما يُسَرُّ به المسلم مما يطرأ عليه من الأمور المباحة بكل ما فيه تجدد نعمة أو دفع مصيبة، كالتهنئة بالنكاح، والتهنئة بالمولود الجديد، والتهنئة بالنجاح في عمل أو دراسة، أوما شابه ذلك من المناسبات التي لا ارتباط لها بزمان معين، فهذا من الأمور العادية التي لا حرج فيها، ولعل صاحبها يؤجر عليها لإدخاله السرور على أخيه المسلم فالمباح -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((بالنية الحسنة يكون خيراً، وبالنية السيئة يكون شراً)) فهذا بين الإباحة والاستحباب. وإمَّا أن تكون التهنئة في أزمان معينة كالأعياد والأعوام والأشهر والأيام، وهذا يحتاج إلى بيان وتفصيل، وتفصيله كما يلي: - أمَّا الأعياد -عيد الأضحى وعيد الفطر- فهذا واضح لا إشكال فيه وهو ثابت عن جمع من الصحابة. - وأمَّا الأعوام فكالتهنئة بالعام الهجري الجديد أو ما يسمى رأس السنة الهجرية. - وأمَّا الأشهر فكالتهنئة بشهر رمضان، وهذا له أصل والخلاف فيه مشهور. - وأمَّا الأيام فكالتهنئة بيوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أو بيوم الإسراء والمعراج وما شابه ذلك والحكم فيه معروف وهو من البدع لارتباطه بمناسبات دينية مبتدعة. وكل هذه التهاني ماعدا الأول منها لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة الكرام ولا عن أحدٍ من السلف مع أن موجبها انعقد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم ولم يوجد المانع ومع ذلك لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه فعل ذلك بل قصروا التهنئة على العيدين فقط. والتهنئة بالعام الجديد لم تكن معروفة عند السلف لكنْ لما شاعت في الأزمنة المتأخرة وسئل العلماء المعاصرون عنها اختلفوا على قولين: الأول: الإباحة وأنها من العادات، ومن هؤلاء الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله حيث قال: ((أرى أن بداية التهنئة في قدوم العام الجديد لا بأس بها ولكنها ليست مشروعة بمعنى: أننا لا نقول للناس: إنه يسن لكم أن يهنئ بعضكم بعضاً، لكن لو فعلوه فلا بأس، وإنما ينبغي له أيضاً إذا هنأه في العام الجديد أن يسأل الله له أن يكون عام خيرٍ وبركة فالإنسان يرد التهنئة. هذا الذي نراه في هذه المسألة، وهي من الأمور العادية وليست من الأمور التعبدية)) (لقاء الباب المفتوح). وله رحمه الله كلامٌ آخر ضبط فيه المسألة فقال في ((اللقاء الشهري)): ((إن هنّأكَ أحد فَرُدَّ عليه، ولا تبتدئ أحداً بذلك هذا هو الصواب في هذه المسألة، لو قال لك إنسان مثلاً نهنئك بهذا العام الجديد قل: هنأك الله بخير وجعله عام خير وبركة. لكن لا تبتدئ الناس أنت لأنني لا أعلم أنه جاء عن السلف أنهم كانوا يهنئون بالعام الجديد بل اعلموا أن السلف لم يتخذوا المحرم أول العام الجديد إلا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه)) وقال في ((الضياء اللامع)) (ص702): ((ليس من السنة أن نُحدث عيداً لدخول السنة الهجرية أو نعتاد التهاني ببلوغه)).انتهى وقد نقل بعضهم في إباحة هذا الفعل كلاماً غير محرر للقمولي والسيوطي من متأخري الشافعية، ولأبي الحسن المقدسي من الحنابلة، أعرض عن ذكره خشية الإطالة.

الثاني: القول بالمنع مطلقاً، وهو الراجح، وممن قال به الشيخ صالح الفوزان حيث سئل عن التهنئة بالعام الهجري الجديد فأجاب: ((لا نعرف لهذا أصلاً، والتأريخ الهجري ليس المقصود منه هذا أن يجعل رأس السنة مناسبة وتُحيا ويصير فيها كلام وعيد وتهاني، وإنما جعل التأريخ الهجري من أجل تمييز العقود فقط، كما فعل عمر رضي الله عنه لما توسعت الخلافة في عهده، صارت تأتيه كتب غير مؤرخة، احتاج إلى أنه يضع تأريخاً تعرف به الرسائل وكتابتها، استشار الصحابة، فأشاروا عليه أن يجعل الهجرة مبدأ التأريخ الهجري، وعدلوا عن التأريخ الميلادي، مع أنه كان موجوداً في وقتهم، وأخذوا الهجرة وجعلوها مبدأ تاريخ المسلمين لأجل معرفة الوثائق والكتابة فقط، ليس من أجل أن تتخذ مناسبة ويتكلم فيها، هذا يتدرج إلى البدع. سؤال: إذا قال لي شخص: كل عام وأنتم بخير، فهل هذه الكلمة مشروعة في هذه الأيام؟ جواب: لا، ليست بمشروعة ولا يجوز هذا)) أ. هـ انظر: ((الإجابات المهمة في المشاكل الملمة)) (ص229) والناظر إلى هذه المسألة يجد أن القول بالمنع يتأيد بعدة وجوه فمن ذلك: 1 - أنها تهنئة بيوم معين في السنة يعود كل عام فالتهنئة به تُلحقه بالأعياد، وقد نُهينا أن يكون لنا عيد غير الفطر والأضحى، فتُمنع التهنئة من هذه الجهة. 2 - ومنها أن فيها تشبهاً باليهود والنصارى وقد أُمرنا بمخالفتهم، أما اليهود فيهنئون بعضهم برأس السنة العبرية والتي تبدأ بشهر تشري وهو أول الشهور عند اليهود ويحرم العمل فيه كما يحرم يوم السبت، وأما النصارى فيهنئ بعضهم البعض برأس السنة الميلادية. 3 - أن فيها تشبهاً بالمجوس ومشركي العرب، أما المجوس فيهنئون بعضهم في عيد النيروز وهو أول أيام السنة عندهم ومعنى (نيروز): اليوم الجديد، وأما العرب في الجاهلية فقد كانوا يهنئون ملوكهم في اليوم الأول من محرم كما ذكر ذلك القزويني في كتابه: ((عجائب المخلوقات)). وانظر لذلك كتاب: ((الأعياد وأثرها على المسلمين)) للدكتور سليمان السحيمي. 4 - ومنها أن جواز التهنئة بأول العام الهجري الجديد يفتح الباب على مصراعيه للتهنئة بأول العام الدراسي وبيوم الاستقلال وباليوم الوطني وما شابه ذلك، مما لا يقول به بعض من أجاز التهنئة بأول العام، بل إن جواز التهنئة بهذه أولى حيث لم يكن موجبها منعقداً في زمن الصحابة رضي الله عنهم بخلاف رأس السنة. 5 - ومنها أن القول بجواز التهنئة يفضي إلى التوسع فيها فتكثر رسائل الجوال وبطاقات المعايدة -وإن سموها بطاقات تهنئة- وعلى صفحات الجرائد ووسائل الإعلام، وربما صاحب ذلك زيارات للتهنئة واحتفالات وعطل رسمية كما هو حاصل في بعض الدول، وليس لمن أجاز التهنئة بأول العام الهجري الجديد وعدَّها من العادات حجة في منع هذا إذا اعتاده الناس وأصبح عندهم من العادات، فسدُّ هذا الباب أولى. 6 - ومنها أن التهنئة بالعام الهجري الجديد لا معنى لها أصلاً، إذ الأصل في معنى التهنئة تجدد نعمة أو دفع نقمة، فأي نعمة حصلت بانتهاء عام هجري؟ والأولى هو الاعتبار بذهاب الأعمار ونقص الآجال. وعليه فالقول بالمنع أولى وأحرى، وإن بدأك أحدٌ بالتهنئة فالأولى نُصحه وتعليمه لأن رد التهنئة فيه نوع إقرار له، وقياسها على التحية قياس مع الفارق! وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

الاشتغال بالتوافه

الاشتغال بالتوافه عبدالمجيد بن عبدالرحمن باحص تمرُّ بنا في حياتِنا اليوميَّة والعامَّة أمورٌ عدَّة، منها ما نصرِفُ النَّظر عنْها؛ لأنَّها لا تستحقُّ، وأخرى نلتفِتُ لَها؛ لِما تَحمِل من مهمَّات قد حوتْها. وهذه حالة عاديَّةٌ وطبعية، يَمرُّ بِها أيٌّ منَّا ولا يكاد يخلو، بيْدَ أنَّ الذي لا يُسْكَت عنْه، ويُسْتَقبح مَرْآه: أن تَجد أناسًا مِمَّن يعوَّل عليْهِم وتترقَّبهم الآمالُ مشتغلين بالتَّوافِه، مُستأْنِسينَ لها وبها، مهتمِّين لتواجُدِها، داعين لفَرْضِها وعرْضِها. وكلُّ ما أبعد عن همٍّ، أو أَلْهى عن جِدٍّ، أو اقترن بإثم، أو جاوزَ سدادًا، ولازم إسفافًا، أو التصق بذُلٍّ، فهو جدير أن لا يُوضَع عنده رحلٌ، أو يُبتاع منه متاع، فليس لظامئٍ من سرابٍ إلاَّ التَّزويق والخداع. إنَّها الرزية أن يُبتلى أحدُنا بالتَّوافه، فينشغل بها لتُلْهِيه عن عمله الأعظم، أو فكره الأفضل أو إصلاحه الأكْبر، فلا يكاد يُقَدِّر للأمور قدْرَها، أو يعرف للمصائب خطَرَها، فليس له ثَمَّة اهتمام، وقد يُشغل أحدُنا بالتَّوافه بِحُجَّة أنَّها من الضروريات أو من الأمور الواجبِ تدارُكها وتعلُّمها، ولو أنَّنا وضعناها في المقياس السَّليم لاتَّضحت التَّوافه من غيْرِها، ولعَلِمْنا ما الجِدّ من الهزْل، وما الصَّحيح من السقيم؟ ولو نظرتَ إلى حال ذلك المستغرق بالتَّوافه، لوجدتَه مُعْرِضًا عن الأمور العظيمة والقضايا الهامَّة؛ بِحُجَّة أنَّ تلك من المستحيلات، أو من الأمور الَّتي لا يُسْتطاع نوالُها، أو من الكماليَّات التي لا حاجةَ لها، أو من ضُروب الخيال التي لا تَكادُ تُوجد إلا في عصورٍ مَضَتْ، وتلك صورةٌ زيَّنها له شيطانُه وأمْلَتْ عليْهِ بِها همَّتُه القاصرة، فأضحى ذليلاً للتَّوافه. وإنَّك لتعجب، بل تحزن وتُساء، حين ترى جمعًا من النَّاس مِمَّن هم حولَك أو تسمع بهم أو ربَّما تُشاهدهم ـ مِمَّن يُرجى نوالُ عقْلِه أو استِدْرار فِكْره ـ قد غلبتْ عليْهِم تلك البليَّة، فتجِدُهم لاهثين خَلْفَ سخافاتٍ كانت الدُّنيا خيْرَ عارضٍ لها، وكانت فضائيَّات الفساد خيرَ مُلقية لهم، فاستبلدوا واستبلدوا وكان همّ أحدِهم لا يكاد يتجاوزُ شركَ نعلَيْه، من قِصَرِه وضعْفِه وهوانه، فيسرع ليلتقطَ فُتاتَ ما يَجده من توافِهَ؛ ليلقِيَ به على مَن حوله ليحدِّثَهم به، وكأنَّه شأنٌ عظيم قد عَرَض له، وأراد للنَّاس أن يُدْرِكوا حجْمَ ذلك وأن يُشاركوه. إنَّ الاشتِغال بالتَّوافه يُورثُ صَغار العقْل، وبلادةَ الفهْم، وسطحيَّة التَّفكير، وسذاجة الطَّرح؛ فلا مقياس لديْه كبير، ولا شأن لديْه عظيم، ولا همَّ وهمَّة تدفع طُموحًا، فيصغُر بصِغَر همِّه وعقله، وإقبالِه وشراهتِه على توافهه، فانعدم تَمييزُه، وانعدمت رؤيتُه، وقلَّت بركتُه. ولعلَّ ظاهرةَ الاشتِغال بالتَّوافه هي أبرزُ سِمةٍ غلبتْ على المجتمع، فأضعفت أصالتَه وأبردَتْ حميَّته، فكان كحملٍ وديعٍ لا يقوى من أَمْره على شيء، أمَّة تأنس ذِئْبَها وتأْمن عدوَّها؛ لتُصْبِح خاويةً خاملةً مخدَّرةً، لا تقدر على أن تَرُدَّ شرًّا أو تَجلب خيرًا، إلا ما شاء الله. إنَّ التَّاريخ يخبرنا عن رجالٍ مضَوْا، وأناسٍ رحلوا، كيف أنَّ أفعالهم كانت بعيدةً عن التَّوافه، فضلاً عن الاشتغال بها، فكانتْ حياتُهم جدًّا في جِدٍّ، وهمُّهم علوًّا في علو، فكانوا بحق من العُظماء ومن الذين يخلِّد التَّاريخ ذِكْرَهم، وتُمَجِّدُ الأُمَّة أفعالَهم، وشتَّان بينهم وبين مَنْ هُم في ضِدِّهم، وعلى قدْر أهل العزم تأتي العزائمُ. كم من مفرِّطٍ في أمر، ومتساهلٍ في قضيَّة، ومشتغلٍ بسخافةٍ، لم يشعر بمغبَّة عمله ذلك إلا حينما سبقه الجادُّون في جِدِّهم، وابتعد عنه الناجحون برُقِيِّهم، وارتفع الظَّاهرون بعِلْمهم وعقْلِهم، فكان ضحيَّة فِعْله، نزيلَ جهله، سقيطَ أمره. وما أصدقَ ما قاله الشَّاعر، حين نبَّه إلى وجوب التنبُّه إلى الأمور العظام، وترك ما دونَها؛ حيث يقول: إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ فَلا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ وآخر على طريقِه يسلُك طريقَ التَّنبيه، فيقول: قَدْ رَشَّحُوكَ لأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ فهل وعَى مَن وعى: أنَّ الاشتغال بالتَّوافه موتٌ للقلب، موتٌ للضَّمير، موت للأمَّة؟ وإنَّنا في زمن لا يسمح أن نشتغِل فيه بغير ما يَزيدنا قوَّة ورِفْعة ومنعةً وتقدُّمًا، ولو حاول الأعداءُ استِخْدام وسائِلهم في إيقاف ذلك المدِّ، ولو على حساب راحتِنا؛ لأجل أن نبلغ غايتَنا وما نصبو إليه، مطمئنِّين واثقين، ولن نبلُغَه إلا بالعمل الجادِّ، والتفكير السليم، والإيمان القوي.

المثقفون العرب .. المزورون العرب

المثقفون العرب .. المزورون العرب تأبين محمود درويش نموذجاً إبراهيم بن محمد الحقيل التزوير قديم في البشر، وتمجيد من لا يستحق التمجيد داء استبطن كثيرا منهم، وانتقاص من يستحق الثناء علة في أكثرهم، وأكثر من يتحدثون عن الحرية، وينادون بها، ويأسون على غيابها هم أكثر الناس تسلطا واستبدادا لو آل الأمر إليهم، ويخال للمرء وهو يقرأ تباكيهم على الحرية أنهم أول من يسحقها ويصادرها من خصومهم إن تمكنوا منهم، وأنهم لا يهتفون لها إلا ليصلوا بها إلى مصادرتها واحتكارها لهم وحدهم دون سواهم، وأنهم يرمون بصفاتهم القبيحة خصومهم. وأشهر طاغية مستبد في التاريخ البشري عبَّد الناس لشهواته وآرائه، وكبت حريتهم، وعلا في الأرض كان فرعون الطاغية الذي اتهم موسى عليه السلام بالعلو والكبرياء والفساد في الأرض، وخاطب هو وملؤه المستكبرون موسى وهارون عليهما السلام قائلين {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] وكانت أعظم وسيلة لهذا الطاغية المستبد وملئه هي الافتراء والكذب وقلب الحقائق والتدليس على الناس، والظهور بمظهر الناصح المشفق {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} [غافر:26] ولذا كان من نصح موسى عليه السلام لهذا الطاغية وملئه ترك الكذب والافتراء، والبعد عن التزوير على الناس {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى الله كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]. وفي عصرنا هذا فإن دهاقنة الإعلام، ومنسوبي الصحافة الموصوفين زورا بالمثقفين يمثلون فراعنة هذا العصر في مجال الكذب والافتراء وتزوير الحقائق؛ لفرض مذاهبهم الضيقة، وتمرير أفكارهم المنحرفة، وصنع الرموز المزورة، وتجاهل العظماء الذين يمثلون حقيقة الأمة ونبضها وثقافتها وفكرها. تأبين الزنديق محمود درويش: كان الإعلام العربي بصحفه ومجلاته وفضائياته ينوح ويبكي ويتلو المراثي، وقد توشح منسوبوه السواد حزنا على هلاك رمز من رموزهم المزورة أرادوا فرضه على الأمة، وجعله علما من أعلامها بالكذب والافتراء والاستبداد الإعلامي. قالوا فيه: (لقد كان صوتا إبداعيا وفكريا، وسيبقى شعره وأدبه وكفاحه مدرسة تلهم الملايين من أبناء شعبنا، انطفأ النجم الأكثر إشعاعا وانتصر الموت على شاعرنا الكبير) (النقش الأبدي) (كان رجلا فذا ورائدا مناضلا كبيرا) (شهيد الثورة الفلسطينية وشهيد القلم والبندقية وحامل هموم الوطن) (وفاته تعد جرحا عميقا في صدر الشعب الفلسطيني) (فاجأنا غيابك يا محمود درويش كما يفاجئنا القائد قبل أن تنتهي فصول المعركة) (شهيد القلم) هل قُتل بسبب شعره أو قلمه حين يوصف بذلك؟! ووصفته مريدة له طالما حاربت الطهر والفضيلة ودعت إلى الرذيلة في صحفنا فقالت (درويش خريطتي المعلنة التي لا أتوه فيها وأنا أبحث عن زاوية في قلبي لم يلمسها أحد، في المساءات القلقة يكون درويش بلورتي، وأفتح الديوان على صفحة ما بطريقة عشوائية لأجد درويش يرسم لي مسائي وفأله). ووصفه أحد رموز الفساد والإفساد بأنه في الشعر: (أعلى من كلِّ المقامات، أطول من كلِّ العمالقة، أبقى من كلِّ الفحول سيبقى والريح تحته يكتب كلاماً جميلاً على سفوح الزوابع). وقال عنه رمز من رموز الحداثة: (رجلٌ نُجمع على تبجيله .. وصاحب صيت هو الأكبر في ثقافتنا اليوم).

وكتب حدثي آخر يصفه بأنه (غاص في القضية الفلسطينية إلى أن رأى الجزء في الكل والمأساة الوطنية حيث الموت الغادر الذي يهدد الحياة بأسرها والعدم الذي يتربص بالوجود كله ... ) ولفت النظر إلى أن الجميع يجب أن يعزوا أنفسهم قبل أن يعزوا الآخرين. وقال آخر (إنه أحد أهم رموزنا) (احتل موقعا متقدما في الذاكرة الجماعية على امتداد الوطن العربي) ووصفوه بأنه شاعر العروبة الأول، وشاعر الإنسانية. ووصفته مريدة له بأنه (شمس هي إشعاع حياتنا) (الجميع في هيستيريا لا أحد يريد أن يصدق). وبعض الأفراخ الصغيرة المتزندقة تطاول في نفسه فوصف شاعرهم بالأخ أو الزميل، ومنهم من وصف نقل الخبر عبر شاشة التلفزة فقال: (كانت شاشة التلفاز صاعقة، والخبر رعد التواريخ).ثم يصف الموت قائلا: (الموت هذا الغامض الكوني، هذا الرابض السادي في ظلي). وصورت رسومهم الكركتيرية فلسطين في صورة امرأة تبكي على قبر هذا الهالك. أعز الله تعالى فلسطين، وأغناها بالصادقين والمجاهدين عن الزنادقة والمرتدين، وأراح العباد والبلاد والدواب والشجر منهم. والمؤسسة السياسية في فلسطين تعتزم إقامة ضريح له كونه رمزا فلسطينيا، وصرح بعضهم بنصب تمثال على صورته. وأعلن رئيس فلسطين عباس الحداد ثلاثة أيام واصفا إياه بقوله (نجم فلسطين وزينة شبابها وفارس فرسانها) وصدرت الصحف الفلسطينية يوم الاثنين التالي لهلاكه مكللة بالسواد) ونقلت بعض الصحف أن فتاة من مريديه ومدمني دواوينه الحداثية الإلحادية أغمي عليها حال علمها بوفاته، أيقظ الله تعالى غيبوبة قلبها قبل غيبوبة جسدها. وإليك أخي القارئ بعض المعلومات عن هذا الشاعر الهالك الذي مجده إعلامنا العربي الكاذب البائس: 1 - تبنى محمود درويش الفكر الماركسي الإلحادي منذ شبابه، وفي ذلك يقول أخزاه الله تعالى: (صرنا نقرأ مبادئ الماركسية التي أشعلتنا حماسا وأملا، وتعمَّق شعورنا بضرورة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعا عن الحقوق القومية، ودفاعا عن حقوق العمال الاجتماعية، وحين شعرت أني أملك القدرة على أن أكون عضوا في الحزب دخلت إليه في عام 1961م فتحددت معالم طريقي، وازدادت رؤيتي وضوحا، وصرت أنظر إلى المستقبل بثقة وإيمان، وتَرَكَ هذا الانتماء آثارا حاسمة على سلوكي وعلى شعري) (¬1) وانضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) وتولى رئاسة تحرير صحيفة (الاتحاد) الناطقة باسم الحزب، وفي عام 1981 أنشأ مجلة (الكرمل) وهي صوت للحداثيين الفلسطينيين والعرب. يقول صديقه رجاء النقاش: (وقد عمل محمود درويش في جريدة الاتحاد ومجلة الجديد وهما من صحف الحزب الشيوعي في إسرائيل) (¬2) ومن شدة ولعه بالماركسية كان يتغنى بكوبا الشيوعية فيقول: (حسنا .. حسنا .. حدث عن كوبا، هل تعرف شيئا عن شعب ما عاد مصلوبا). (¬3) وذكر الماركسي محمد دكروب أنه التقى به أول مرة في احتفالات الحزب الشيوعي في بلغاريا حيث جاء ممثلا للحزب مع وفد من إسرائيل ضم سميح القاسم أيضا، والتقى به مرة أخرى في معهد الماركسية اللينينية في موسكو (¬4) واستحق بشيوعيته الجلدة أن يحصل من موسكو في أوج الشيوعية على جوائز كان أهمها جائزة باسم الزعيم الشيوعي (لينين) عام 1983م. ¬

(¬1) مجلة الطريق، تشرين الثاني 1968م ص32 (¬2) محمود درويش شاعر الأرض المحتلة ص113 (¬3) ديوانه ص197، ط دار العودة. (¬4) صحيفة الشرق الأوسط عدد (10849) ص13

2 - عينه عرفات عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام1986، واستقال درويش من عضويتها عام1993، ومريدوه كانوا يوهمون الناس بأنه كان وطنيا وغير راض عن تنازلات عرفات، ويريد الحق الفلسطيني، كما أن استقالته كانت بناء على الفساد المالي والإداري الذي لم يكن درويش يرضى أن يسكت عنه. لكن درويش بين في مقابلة معه ما يفضح زعم مريديه، فذكر أن سبب استقالته أنه لم يتلق هو وزملاؤه مرتباتهم منذ عدة أشهر (¬1) ومما يدحض ذلك أن درويش يعد عند اليهود من المعتدلين، والمعتدلون في العرف الصهيوني هم المستسلمون لمشاريعهم، المنبطحون لسياساتهم الجائرة، والصحف اليهودية تنشر مقالات له في إسرائيل، وتجري حوارات معه، وكان يصرح بأن المفاوضات مع إسرائيل أصبحت خيارا استراتيجيا، ولا يجوز لأحد من الفلسطينيين أن يفكر بالانسحاب منها. والصحف اليهودية كتبت عنه بإعجاب، وحزنت لوفاته، حتى إن صحيفة الحياة خصصت زاوية لذلك عنوانها: الصحافة الاسرائيلية ترثي «شاعر الأمل» (¬2) ووزير التعليم اليهودي السابق يوسي سريد أصدر تعليماته عام 2000م بتدريس بعض قصائد درويش في المدارس اليهودية، لكن رئيس الحكومة ايهود باراك ألغى القرار بعد تهديد القوى اليمينية بإسقاط الحكومة. وذكر أحد الليبراليين المعجبين به أن درويش كان متذبذبا باستمرار بين القطب الإسرائيلي والقطب العربي، فتارة يميل كليا إلى هذه الجهة، وتارة يميل إلى تلك (¬3). قلت: هذه حقيقة هذا الثوري الهالك إزاء قضية فلسطين، واليهود يعرفون أصحاب القضية الحقيقين بها، المدافعين عنها؛ فيقتلونهم كما قتلوا الشيح أحمد ياسين والدكتور الرنتيسي والمهندس عياش وغيرهم من المجاهدين عليهم رحمة الله تعالى، ويعرفون مدعي المقاومة المزوَرين، فيكرمونهم ويفتحون الصحف لهم، ويحزنون لوفاتهم، كما حزنت صهيون على الزنديق درويش الذي سماه مريدوه شاعر القضية الفلسطينية، ومن العجب أن يُخدع الناس بالإعلام الكاذب، والصحف الأفاكة، وقد اعتادوا منها الكذب والتزوير. إلحاده الصارخ، وفساده الظاهر: انعكس الفكر الفاسد والعقيدة الماركسية الإلحادية لدرويش على شعره ونثره، فسَخِر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر والقرآن والعبادة في الإسلام، واستعار الرموز الوثنية والنصرانية الشركية والصوفية المغرقة في القول بوحدة الوجود، وتأثر بمذاهب أهل الشك والقلق والوجودية التي تكرسها العقيدة الإلحادية. وهذه فقرات من أشعاره وكتاباته ليست إلا مختارات يسيرة من كم كبير خلفه هذا الهالك في دواوينه ومقالاته ومقابلاته تنضح بالكفر والزندقة وتطفح بالإلحاد والتعدي على المقدسات والحرمات: أولا: الاعتداء على عظمة الله تعالى وقدسيته: 1 - قال أخزاه الله تعالى (إنا خُلقنا غلطة في غفلة من الزمان) (¬4) 2 - وقال (نامي فعين الله نائمة عنا) (¬5). 3 - له قصيدة بعنوان: (إلهي لماذا تخلَّيت عني) على لسان امرأة يقول فيها عليه من الله تعالى ما يستحق: (إلهي إلهي لماذا تخلَّيت عني؟ لماذا تزوجتَ مريم؟ لماذا وعدتَ الجنود بكرمي الوحيد لماذا؟ أنا الأرملة ... أطلَّقتني؟ أم ذهبتَ لتشفي سواي؟ عدوِّي من المقصلة أمن حق مَن هي مثلي أن تطلبَ الله زوجاً وأن تسأله؟ إلهي إلهي ... لماذا تخلَّيت عني؟ لماذا تزوجتني ياإلهي لماذا؟ ... لماذا تزوجت مريم؟) (¬6). ¬

(¬1) مجلة الأسبوع العربي عدد (1768) ص9 (¬2) الحياة عدد (16565) ص23 (¬3) صحيفة الشرق الأوسط عدد (10849) ص16 (¬4) ديوانه ص42 (¬5) ديوانه ص24 (¬6) ديوانه ص81

4 - وقال: (يا الله .. جربناك، جربناك .. من أعطاك هذ السر؟ من سمَّاك؟ من أعلانا فوق جراحنا ليراك؟ فاظهر مثل عنقاء الرماد من الدمار ... يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجلى .. لعل لي ربا أعبده لعل) وألقى ذات مرة هذه القصيدة في تلفزيون بغداد فقرأ آخرها هكذا (لعل لي حلما لأعبده لعل) (¬1) وكلا العبارتين قبيحتان، وفيهما شك وشرك نعوذ بالله تعالى من الضلال والزندقة والجرأة على صاحب الجبروت والعظمة سبحانه وتعالى. ثانيا: عبوديته لغير الله تعالى: 1 - قال عليه من الله تعالى ما يستحق: (عيونكِ شوكةٌ في القلب توجعني وأعبُدُها) (¬2). 2 - وقال: (أخي أحمد! وأنتَ العبد والمعبود والمعبد متى تشهد) (¬3) 3 - وقال: (عيناكِ يا معبودتي هجرة بين ليالي المجد والانكسار … وجئتِ يا معبودتي كل حلم يسألني عن عودة الآلهة ... عيناكِ يا معبودتي منفى نفيت أحلامي وأعيادي … معبودتي! ماذا يقول الصدى ماذا تقول الريح للوادي ... عيناكِ يا معبودتي عودة من موتنا الضائع تحت الحصار ... ونحن يا معبودتي أي دور نأخذه في فرحة المهرجان .. ) (¬4). مع العلم أن معبودته التي يعشقها هي فتاة يهودية تدعى (ريتا) وهكذا شعراء الثورية الماركسية معشوقاتهم بنات أعداء أوطانهم، ومن اغتصبوا أرضهم، ولعلهم بالعشق يخرجون المحتل!! 4 - وقال: (والذي يعرف ريتا ينحني ويُصلِّي لإله في العيون العسلية) (¬5) وهو شهواني لا يرضيه الزواج؛ ولذلك تزوج مرتين ولم يمكث مع كل زوجة سوى أشهر قليلة، وعادة هؤلاء المنحرفين الغرباء عن مجتمعاتهم أنهم يخضعون أحيانا لرغبات الوالدين والأسرة في مسألة الزواج، ولكن بعضهم يفشل في تكوين أسرة، ويبقى شريد النفس، طريد الهوى، أسير الشهوة، وهذا الشاعر من هذا النوع، وأحد أقرانه المعجبين به كتب كلاما إلحاديا شهوانيا في تأبينه، وعلل ذلك بقوله أخزاه الله تعالى (سوف يضحك محمود درويش كثيرا عندما يقرأ هذه المقالة، سوف يفرح بهذه الكلمات لأنه كان جميلا يحب الجمال وطالما استسلم لإغراء هذه أو تلك) (¬6) سخريته بالرسل عليهم السلام: 1 - يقول أخزاه الله تعالى: (صار جلدي حذاء للأساطير والأنبياء) (¬7). 2 - ويقول (من أي نبي كافر قد جاءك البعد النهائي؟) (¬8). 3 - ويقول (ولتحاول أيها الأخضر .. أن تأتي من اليأس إلى اليأس .. وحيداً يائساً كالأنبياء) (¬9) 4 - ويقول (رأيتُ الأنبياء يُؤجِّرون صليبهم، واستأجرتني آية الكرسي دهرا) (¬10). ¬

(¬1) الحداثة في الشعر المعاصر ص26 (¬2) ديوانه ص608 (¬3) ديوانه ص320 (¬4) ديوانه ص320 (¬5) ديوانه ص192 (¬6) الشرق الأوسط عدد (10849) ص16 (¬7) ديوانه ص292 (¬8) ديوانه ص591 (¬9) ديوانه ص634 (¬10) ديوانه 480

وسخر بالقرآن فاستعار رؤيا يوسف عليه السلام لنفسه، وطعن في نوح عليه السلام فجعله رمزا للجبن والهروب لما ركب السفينة (¬1) وقد طفح ديوانه باستعارة الرموز والشعارات الوثنية والنصرانية (¬2)، ويستعمل عقائد النصارى كقوله: (لا تقولوا: أبانا الذي في السموات، قولوا: أخانا الذي أخذ الأرض منا وعاد هو الآن يعدم) (¬3) وسبح بحمد غير الله تعالى في مواضع من ديوانه (¬4) وسخر بالقدر وشتمه، وأنكر الخلق (¬5) ومن أخريات مقالاته القبيحة مقال كتبه في إبريل2008 في المجلة الثقافية، التي تصدر عن الجامعة الأردنية عنوانه (عن المنفى) قسّم فيه المنفى إلى داخلي وخارجي، وقال: (المنفى الداخلي هو غُرْبَة المرء عن مجتمعه وثقافته، وتأمُّلٌ عميق في الذات، بسبب اختلاف منظوره عن العالم وعن معنى وجوده عن منظور الآخرين، لذلك يشعر بأنه مختلف وغريب، وهنا لا تكون للمنفى حدود مكانية. إنّه مقيم في الذات المحرومة من حريتها الشخصية في التفكير والتعبير) وهذا النص اعتراف واضح أن نظرة هذا الزنديق للحياة والوجود والحكمة من خلق الخلق غير نظرة المجتمع الفلسطيني المسلم، فنظرته إلحادية تنكر الغيب والخلق. ويوضح ذلك قوله أخزاه الله تعالى: (المنفيّ هو اللامُنتَمي بامتياز. لا ينتمي إلى أي مكان خارج ذاكرته الأولى. تصبح الذاكرة بلاداً وهُوية، وتتحوّل محتوياتُ الذاكرة إلى معبودات. باعتبار الوجود الإنساني كلّه شكلاً من أشكال المنفى، منذ أن عوقبنا نحن أحفاد حواء وآدم بالتاريخ!) تنبيهات مهمة: بعد معرفة حقيقة هذا الشاعر الهالك (محمود درويش) فإني أنبه على أمور مهمة: أولا: إذا كان الزنادقة والمنافقون ومن في قلوبهم مرض في بلاد المسلمين يرون أن من حقهم أن يُعجبوا بمن شاءوا من ملاحدة وزنادقة العرب والعجم؛ أخذا بالحرية الليبرالية الغربية التي اتخذوها دينا لهم؛ فليس من حقهم -حتى في باب الحرية التي ارتضوها- أن يكذبوا على الأمة ويدلسوا على الناس، ويخفوا كفريات هذا الزنديق؛ لأن جمهور الأمة المسلمة لا يرضون بهذا الخبال والضياع والإلحاد، ولا يقرون مدح من اتصف به. ثانيا: أن النفاق ملة واحدة كما أن الكفر ملة واحدة؛ فأغلب المؤبنين لدرويش في الصحف العربية هم من الليبراليين، ودرويش ماركسي جلد، والليبراليون أعداء للماركسيين. كما أن مهمة الصحافة الليبرالية تسويق المشاريع الاستعمارية الصهيونية والرأسمالية، ودعوة الشعوب العربية وحكوماتها إلى الانبطاح والاستسلام لهذه المشاريع، ومحاربة من رفضها أو قاومها سلما أو حربا، ولطالما حاربوا الإسلاميين والقوميين لأنهم ينحازون إلى الأمة وقضاياها، ويرمونهم بالجهل والتخلف والأدلجة وغير ذلك من المصطلحات التي يخترعونها. وهم يصفون شاعرهم بأنه ثوري كرس نفسه للقضية الفلسطينية، فكيف قَبِلوا ذلك منه وهو يتناقض مع دعوتهم الاستسلامية؛ لولا أنهم يتفقون معه في ثوريته على تراث الأمة، وتمرده على أصولها ومسلماتها، وطعنه في ربها تعالى، ورسله عليهم السلام، وسخريته بالدين، وهذا هو القاسم المشترك بين شاعرهم الماركسي وبين ليبراليتهم. ثالثا: ظهر في الأمة من الخير العظيم ما يبشر -إن شاء الله تعالى- بيقظة فكرية تقاوم الأفكار المنحرفة وأصحابها؛ فالمقالات التي بينت حقيقة هذا الشاعر حال العلم بهلاكه تتزايد على الشبكة العنكبوتية، ويكثر قراؤها وزوارها والمعلقون عليها، مما يبشر بفضح المنافقين، وهتك أستارهم للمسلمين. ¬

(¬1) انظر: ديوانه 77 - 116 (¬2) انظر على سبيل المثال في ديوانه: 40 - 64 - 104 - 172 - 174 - 228 - 240 - 322 - 349 (¬3) ديوانه ص237 - وأيضا403 (¬4) انظر: ديوانه:73 - 86 (¬5) ديوانه ص81

وكنت قد رصدت قبل أربعة عشر عاما هلاك زنديق من زنادقة الشعر، ناحت عليه الصحف ولطمت، وكان الإنكار آنذاك ضعيفا وتأثيره محدودا، ولذلك أسباب أهما: 1 - انتشار الوعي بين العلماء والدعاة بخطر أصحاب الأفكار المنحرفة، وكشف زيفهم، وبيان حقيقتهم، وتحذير الناس منهم. 2 - كانت الكتب عن المنحرفين قليلة جدا، وبعضها رسائل علمية حُجر عليها في أرفف الجامعات، ومُنعت من النشر في إرهاب فكري أُحادي لا مثيل له، كما أن وسائل الإعلام بأيدي المنحرفين الذين لا يمثلون الأمة ولا دينها ولا ثقافتها، ولا سيما الصحف والمجلات، فلما حصل الانفتاح في وسائل الاتصال، وخاصة في الشبكة العنكبوتية؛ وجد أهل الخير والصلاح متنفسا لنشر مقالاتهم وكتبهم في فضح الزنادقة، ووصل ذلك إلى العامة، وعرف كثير من الناس حقيقة المثقفين المزورين، والصحفيين الأفاكين. والواجب على العلماء والدعاة أن ينشطوا في تحذير الأمة من كل فكر دخيل يتعارض مع دينهم، وتحذير الناس منه ومن رموزه وأتباعه والمسوقين له؛ فإن ذلك يصيب الزنادقة والمرتدين والملحدين في مقتل. كما أن بيان حقيقة الزنادقة التي يخفيها الإعلام الفاسد والصحافة الكاذبة سبب لفضح الإعلام والصحافة عند العامة، ويزيد ذلك من ثقة الناس في علمائهم ودعاتهم. رابعا: مع اشتداد الهجمة العلمانية -وخاصة الليبرالية- على دين الأمة ومقدساتها وعلمائها، ومحاولتهم تبديل دينها، ومع كثرة ما يُكتب في الصحف، ويعرض في الفضائيات من تمجيد زنادقة العصر فإن كثيرا من الناس -ولا سيما المتعلمين منهم وحملة الشهادات العليا- يقفون مواقف المحايدين المتفرجين، وينأون بأنفسهم عن نصرة الدين وأهله، ودحر النفاق وأهله بحجج منها: 1 - أن في الأمة من قام بما يكفي فسقط الفرض عن البقية وارتفع الحرج، وهذه حجة باهتة لأنه لا توازيَ بين ما كُتب عن هذا الزنديق الهالك درويش من مقالات التأبين، وقصائد التوديع، وبين الرد عليهم، وبيان حقيقة زنديقهم التي أخفوها؛ فالمقالات والكتاب عنه بالمئات، والصفحات والملاحق المخصصة للإشادة به كثيرة جدا طيلة أسبوع أو أكثر، بينما المقالات الكاشفة لحقيقته في الشبكة العالمية قد لا تصل إلى عشر مقالات؛ وكثير من الناس تغره الكثرة، ويُخدع بسيل هذه المقالات الجارفة الغالية المتطرفة في مدح الملاحدة. 2 - يحتج البعض بأن فضح الزنادقة يُشهرهم، ويرفع ذكرهم، وتركهم أولى من فضحهم والرد عليهم، وتلك الدعوى يرددها بعض القاعدين عن نصرة الدين، وكأنهم يتحدثون عن زنديق مات في مجاهل إفريقية، أو جزر أستراليا لا يعرفه أحد! وكأنهم لا يرون ما في الصحف ولا يسمعون بما في يعرض في الفضائيات، ويفرض على الناس!! وهذا من الجهل المطبق بحال الإعلام، أو من التجاهل المقصود للتنصل من المسئولية، ولا يسع ذلك أهل العلم والدعوة الذين يجب عليهم الاحتساب على من يريد إضلال الناس، وتحريف دينهم؛ حماية للأمة، وقياما بواجب الدعوة. وقد راجعت بعد هلاك هذا الزنديق أربع صحف في يوم واحد فقط هو يوم الاثنين10/ 8/1429 فإذا المنشور فيها عنه من مقالات وتحقيقات وتعليقات تزيد على الثمانين، ويصل هذا إلى الناس؛ ليصوغ عقولهم، ويفسد أفكارهم، ويضعف انتماءهم لدينهم، فكيف لو أحصينا كل ما كتب عنه طيلة أسبوع في سائر الصحف العربية؟!

3 - يحتج البعض بأن من مات فقد أفضى إلى ربه، وقدم على عمله، وكأنهم بهذه الحجة يتورعون عن الخوض في الأموات، وتالله العلي العظيم إن هذا لهو الورع المقلوب، ويدل على موت القلب، وضعف الغيرة لله تعالى؛ إذ كيف يُترك زنادقة العصر وأذنابهم يجاهرون بشتم الله تعالى ورسله عليهم السلام، ويسخرون بالقرآن والشريعة، وتطفح دواوينهم بالكفر الصارخ، والإلحاد الظاهر، فإذا مات الواحد منهم، وناح عليه أتباعه ومريدوه تورع بعض الناس عن فضحه، وتحذير الناس منه؛ فأي ورع هذا؟ والقرآن مليء بالطعن في الأموات من المكذبين من قوم نوح وعاد وثمود وقوم شعيب وقوم إبراهيم وقوم لوط وفرعون وهامان وقارون وكفار مكة، ونزلت سورة تطعن في عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي لهب تُقرأ إلى آخر الزمان، مع أن المكذبين السابقين لم يقولوا ما قاله زنديقهم الهالك في الله تعالى ورسله عليهم السلام وكتبه وشريعته. وأُثني بِشَرٍّ على جنازة منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقرهم على ذلك، وأخبرهم أن النار قد وجبت له، ولا زال الصحابة والتابعون والأئمة المهديون والعلماء الربانيون يفضحون أهل الضلال والانحراف، ويبينون حقيقتهم للناس، ويحذرون من أتباعهم ومقولاتهم ولو كانوا أمواتا، فلا حرمة لزنديق يجاهر بزندقته حيا ولا ميتا. وبعض أهل الخير والعلم والدعوة يعتزل هذه المعتركات؛ إيثارا للسلامة، وطلبا للراحة، زعما منه أنه يشتغل بمجالات أهم وأولى، مع أن جهاد الكفار والمنافقين من أهم المهمات، وأعلى المقامات، وأمر الله تعالى به في قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التوبة:73] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا) اهـ (¬1) قلت: فكيف والفرض لا زال قائما، ولم يقم به من أهل العلم والدعوة من يكفي. والاستعمار العسكري والسياسي والاقصادي لبلاد المسلمين يرفده استعمار فكري ثقافي يؤدي أكثره المنافقون والمرتدون، والحرب الفكرية فيه توازي -إن لم تكن أشد- الحرب العسكرية السياسية، وهزيمتهم في الحرب الفكرية الثقافية مؤذنٌ بهزيمتهم في الميادين الأخرى؛ فلينفر العلماء والدعاة والكتاب لنصرة دين الله تعالى، وردِّ الشبهات عنه، وكشف الطاعنين فيه، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، كما جاء في الحديث، وحماية الثغور العقدية والفكرية التي يحاصرها الأعداء خير من الترف العلمي، وأهم من تحقيق بعض المسائل الخلافية التي يسوغ الاجتهاد فيها، وأفضل من نوافل العبادات، وهو ضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله تعالى. وأقبح من الساكتين المعتزلين من يجامل الزنادقة والمنحرفين؛ لقوتهم وعلوهم في الأرض؛ أو ليكون له يد عندهم، أو ليسوِّغ عجزه وخوره وعدم قيامه بشئ، ولا يكون تسويغه إلا بالطعن في إخوانه ممن ندبوا أنفسهم لمحاربة الأفكار المنحرفة، والاحتساب على الزنادقة والمنحرفين، وهتك أستارهم، فيرمي إخوانه بالتعجل، أو أنهم أصحاب أحكام مسبقة، أو أن لهم مآرب أخرى في كشف زنادقة العصر، أو غير ذلك. ونعوذ بالله تعالى من عجز أو هوى يحملان المصلين على الانحياز إلى صف الزنادقة والمرتدين، وترك إخوانهم، ولَأَنْ يكون الإنسان ذيلا في الحق خير من أن يكون رأسا في الباطل. ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 5

خامسا: ما نضح به الإعلام والصحافة من جرأة على تمجيد زنادقة العصر والاحتفاء بهم يدل على حاجة الأمة إلى إحياء الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكفر وأهله، كما يدل على أن هذا الركن الركين من الدين في حالة تقهقر وتراجع عند كثير من الناس، ويود المنافقون والمرتدون لو انتزعوه من قلوب الناس، ومقالات عدد منهم تصرح بذلك، وتدعو الناس إلى عدم التفرقة بين المسلمين والكفار، واستبدال المصطلحات الشرعية بمصطلحات حادثة مبتدعة كالآخر والتعايش السلمي، ووحدة الأديان السماوية أو الإبراهيمية، والأخوة الإنسانية أو الوطنية، وقد قال الله تعالى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. وكثيرا ما رأينا من زنادقة العصر جرأة في معاداة العلماء والدعاة والمصلحين مع إعلان الولاء للكفار والمرتدين، وهذا يوجب تكاتف الدعاة والعلماء والمحتسبين ليردوا هجمات هؤلاء المجرمين عن الإسلام وشريعته. سادسا: العتب كل العتب على التيارات الإسلامية الفلسطينية حين شاركت المزورين في نياحتهم على هذا الزنديق الهالك، وجاملت في سبيل الوطن أو السياسة على حساب دينها وعقيدتها التي كانت ولا زالت هي مصدر قوتها وتأييد الشعب الفلسطيني المسلم لها، فأين الولاء للمؤمنين؟ وأين البراءة من الزنادقة والمارقين؟ وإن مجاملة ملاحدة العرب وزنادقتهم والمرتدين منهم ليست أقل خطرا من الارتماء في أحضان الصهاينة وأذنابهم، والانتصار على العدو الصهيوني لن يأتي بالمداهنة في دين الله تعالى. وأهل الكفر والنفاق يفرحون بهذه المداهنة والملاينة من التيارات الإسلامية؛ لإماتت الغيرة والحمية الدينية في قلوب أتباعها، وإسقاطها في الحفر المظلمة للسياسات الملتوية، والله تعالى يقول في المنافقين {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال سبحانه في الكفار {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} {القلم:9} سابعا: منذ سنوات كثيرة وأنا أتعجب كثيرا ممن يُسمون بالأدباء الإسلاميين، ومنسوبي رابطة الأدب الإسلامي، والمتخصصين في الأدب والشعر من الهواة والأكاديميين في الجامعات والتعليم العام وغيره وهم يبلغون المئات، أين هم عن رد جهالات هؤلاء الشعراء المارقين، وفضح الزنادقة والمرتدين، وبيان حقيقتهم من دواوينهم وكتبهم ومذكراتهم ومقالاتهم ومقابلاتهم؟! فهم أهل التخصص والتذوق الأدبي، وهم أقدر على فك رموز الحداثيين وطلاسمهم، ويفهمون مراد هؤلاء الشعراء المنحرفين أكثر من غيرهم؟ ما فائدتهم؟ وما ثمرة تخصصهم ورابطتهم إذا لم تكن لنصرة الدين في ذات التخصص، ورد طعون الزنادقة من الشعراء والأدباء؟ مع أن من أهداف دراستهم للأدب الإسلامي حماية ذوق الأمة الشعري الأدبي، وتنقية الأدب والشعر من الانحراف، وإلا لما سُموا بالأدباء الإسلاميين، ثم لا نرى منهم سوى التنظير والتأصيل للأدب الإسلامي، وأما من يقومون بفضح زنادقة القلم والأدب والشعر والاحتساب عليهم فهم أهل التخصصات الشرعية!! وهذا الثغر ثغر أهل الأدب الإسلامي، وثغرُ كل من فيه غيرة على الدين والحرمات من المتخصصين في الأدب والشعر، والقادرين على الكتابة والنقد، فلماذا يتركونه لغيرهم مع مسيس الحاجة إليهم؟! إننا في أمس الحاجة إلى أمثال محمود شاكر ومحمد محمد حسين ومحمد مصطفى هدارة وأنور الجندي عليهم رحمة الله تعالى، حين قارعوا زنادقة عصرهم بسلاحهم، وانبروا لهم في مجالاتهم الأدبية، وكشفوا زيف دعاواهم، وحذروا الأمة من شرورهم.

لماذا لا تصدر رابطة الأدب الإسلامي بيانا للأمة يُنشر في الصحف الإسلامية والشبكة العالمية يوضحون فيه حقيقة كل شاعر وأديب وناقد وكاتب منحرف حال الإشادة به في الإعلام المنحرف؛ لوفاته أو حصوله على جائزة أو غير ذلك؛ حتى يعلم جمهور الأمة حقيقته، وحقيقة الإعلام الذي دلس عليهم وخدعهم. ثامنا: حين طعن الدنماركيون الصليبيون في النبي صلى الله عليه وسلم ثارت ثائرة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأنكروا ذلك بشدة، وهذا عمل طيب مشكور، ولكن زنادقة العرب يصولون ويجولون في الصحف والمجلات والإذاعات والفضائيات، ويطبعون الشعر والنثر والمقالات التي تمتلئ بشتم الله تعالى ورسله عليهم السلام وملائكته الكرام، وتسخر بالشريعة والقرآن، وتدعو للتمرد على الشريعة وأحكامها، ولا يحرك ذلك ساكنا في الناس، وكأن الطعن في مقدسات المسلمين حرام على الروم والعجم حلال للعرب، فأين هي الغيرة على الحرمات؟ ولماذا لا تبادر أسر الزنادقة والمرتدين، للإنكار عليهم، وطلب محاكمتهم، ومقاطعتهم، والتبرؤ منهم؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم قد تبرأوا من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشائرهم، وفارقوهم لأجل كفرهم، ورفعوا السيوف في وجوههم؛ غيرة لله تعالى، وانتصارا لدينه. وأين طعن هؤلاء المارقين الجدد في الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر من شرك العرب آنذاك، الذي اعتقدوا فيه أن شركهم يقربهم إلى الله تعالى زلفى، ومع ذلك فارقهم المؤمنون. ولو أن زنادقة العصر أنكر عليهم أقرب الناس إليهم، وهجروهم في الله تعالى لارعوى أكثرهم، ولم يجاهروا بإلحادهم وانحرافهم، ولا محاباة في دين الله تعالى، وقد قال سعد بن معاذ رضي الله عنه حين أراد الحكم على حلفائه وأصدقائه من يهود قريظة: (لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم) فحكم عليهم بالقتل والسبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله) فأين إحياء سنة سعد رضي الله عنه فينا بأن لا نحابي في دين الله تعالى أحدا مهما كان قربه منا، وصداقته لنا، فالله تعالى ورسوله ودينه أحب إلينا، وصدق الإيمان وحلاوته تنال بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كانالله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أنيعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار)) رواه الشيخان. أسأل الله تعالى أن يحيي في هذه الأمة المباركة غيرتها على دينها، واحتسابها على زنادقتها، وأن يكفي المسلمين كل زنديق ومرتد ومنافق، إنه سميع قريب، والحمد لله أولا وآخرا. المصدر: مجلة البيان / شوال1429هـ

الحوار بين الأديان (حقيقته وأنواعه)

الحوار بين الأديان (حقيقته وأنواعه) عبد الرحيم بن صمايل السلمي الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإنَّ اختلاف الناس في أديانهم وعقائدهم سنة قدرها وقضاها رب العالمين, لحكمة عظيمة وغاية جليلة وهي الابتلاء والاختبار يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119] , والمراد بالاختلاف هنا: الاختلاف في الدين (¬1) وليس في الألوان والأذواق واللغات ونحوها. وأعمق خلاف بين الأديان هو الخلاف الواقع بين المسلمين وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) على وجه الخصوص, فمنذ أن حاربهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وإلى آخر الزمان عندما ينزل عيسى عليه السلام، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والخلاف مستمر والصراع محتدم بأساليب متنوعة وطرق متباينة. وفي هذا الوقت وبالتحديد منذ منتصف القرن الماضي بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965م) ظهر تطور جديد في أسلوب التنصير والتبشير وهو التنصير تحت عباءة الحوار والتقارب وتفاهم الآخر والاعتراف به والتعاون على القضايا المشتركة بين الأديان, وهذا التطور الجديد عند النصارى هدفه بالدرجة الأولى تدارك النصرانية التي نُكِّست أعلامها بعد هزائمها المتتالية أمام العلمانيين، لا سيما وأن المجتمع الغربي يحمل تصوراً سلبياً عن الكنيسة في العصور الوسطى وعصر النهضة والعصر الحديث مما جعل العالم الغربي المفتوح - الآن - للأديان يشكل خطراً على الكنيسة في المستقبل, لا سيما مع الازدياد الملحوظ في الدخول في الإسلام بين النصارى. وقد جاء ت فكرة الحوار بين الأديان عند الكنيسة الكاثوليكية مع تجديدات أخرى في الدين النصراني ومنها: توسيع مفهوم الخلاص ليشمل النوع الإنساني بأكمله، وتبرئة اليهود من دم المسيح، والتعاون بين فرق النصرانية المختلفة (الأرثوذكس - والبروتستانت). ويعتبر هذا التطور في الديانة النصرانية أبرز التطورات بعد مجمع نيقية الذي عقد في سنة 325م, الذي قرروا فيه عقيدة التثليث، وأعلن ديناً رسمياً للدولة الرومانية بعد اعتناق قسطنطين للنصرانية. فهذه الفكرة "الحوار بين الأديان" منشؤها الأصلي من الكنيسة الكاثوليكيّة وأكثر جمعيات الحوار ومؤتمراته منها, وهذا في حدِّ ذاته مؤشرٌ للأهداف الخبيثة فيه, ومع كثرة المؤتمرات واللقاءات المعقودة في هذا الشأن إلا أنها لم تفد شيئاً يذكر في مجال التقارب الحقيقي وبناء أعمال مؤسسية لهذا الغرض, فبعد مفاوضات مرثونية طويلة ومملّة لم يتوصل الإسلاميون المشاركون فيها إلى الاعتراف من النصارى بأن محمد صلى الله عليه وسلم نبيناً من الأنبياء، وله رسالة صحيحة كغيره من الأنبياء، وهذا ما أغضب بعض المشاركين بدرجة كبيرة في المؤتمرات الأخيرة إلى درجة التلويح بمقاطعة هذه الحوارات العقيمة. ¬

(¬1) انظر: تفسير الجلالين ص/ 482

والحقيقة أنَّ نيل الاعتراف لسنا بحاجة له من أتباع دين محرف تلاعب به الأحبار والرهبان - باعترافاتهم - ولكن الهزيمة النفسية التي يعاني منها بعض الإسلاميين تنتج نماذج كهذه النماذج التي لا تشعر بعظمة دينها وقوته الحقيقية, ولو اشتغل المشاركون في هذه المؤتمرات بدعوة النصارى إلى دين الإسلام، وإقامة الحجة والحوار البناء الذي يوضح العقائد الصحيحة لأنتجوا فائدة عظيمة، لا سيما ونحن نرى أن الدخول في الإسلام من قبل عموم النصارى كثير جداً، ولكن الاشتغال فيما لا يعني ومنها هذه الحوارات أفقدتنا فرصة ثمينة للدعوة إلى الله تعالى والحوار البناء القائم على منهج النبوة. بل وصل الحال والمخالفة لمنهج النبوة إلى درجة الاتفاق في بعض هذه المحاورات على ترك الدعوة إلى الدين بين الطرفين، ولا شك أن الخاسر فيها هو الطرف الإسلامي لأن الأعداد المتكاثرة التي تدخل من النصارى في دين الإسلام لا تقارن بالذين ينسلخون من الإسلام إلى النصرانية، مع أن النصارى لم يلتزموا بهذا الشرط، فلا تزال إرساليات التنصير تجوب بلاد المسلمين طولاً وعرضاً، بل تقوم الحكومات اللادينية بدعمهم وزيادة إمكانياتهم، ويكثر وجودهم في النقاط الملتهبة في بلاد المسلمين مثل أفغانستان والعراق, أو الفقيرة مثل الدول الإسلامية الافريقية وغيرها، ولو التزم النصارى بهذا الشرط الجائر لما جاز للمسلمين الالتزام به، وإيقاف الدعوة وهداية الخلق باسم الحوار. فالفكرة الموجودة الآن التي تعقد المؤتمرات لها لم تكن في الأصل بمبادرة إسلامية ولم ترسم أهدافها وخطتها في بلاد المسلمين بل جاءت بطلب من الفاتيكان بعد الدراسة العميقة لها - عندهم - وتحديد أهدافها وغاياتها، فتقبلها بعض المسلمون وظنوا أنها تحقق بعض المصالح وترد بعض المفاسد، وأعطوا فكرة التقريب هذه مفهوماً فضفاضاً وعائماً وهو (الحوار) , وبهذا المفهوم العام يختلط على السامع الغاية من الحوار بين الدعوة وإقامة الحجة إلى التقريب والتعاون المشترك, أو التعايش أو الوحدة أو التوحيد بين الأديان. ولم يكن لدى العلماء المسلمين سابقاً في التعامل مع الأديان إلا الدعوة أو الجهاد بحسب الشروط الموضوعية والأحوال المتغيرة في التعامل مع أهل الأديان المختلفة التي واجهوها، ولم يكن هناك ثمة رأي يرى الحوار مع الأديان لتحقيق مصالح مشتركة مع الإهمال الكامل للدعوة وإقامة الحجة وبيان الحق وإبطال الشرك، لأن مهمة المفاوضات الدنيوية ليس لها علاقة بوصف الأديان, فهي متعلقة بالحكومات السياسية وليس بالأديان والمذاهب والأفكار, ولهذا فإنَّ من العدل والإنصاف عند الحكم على المفهوم العام الاستفصال والتفريق بين الأنواع المختلفة وإعطاء كل ذي حق حقه ووزن كلَّ نوعٍ على حدة ليتميز عن غيره، وقبل الحكم لابد من معرفة المنهج الشرعي في الحوار بين الأديان وتميزه عن المناهج المنحرفة فيه. وهذا هو موضوع هذا البحث، وقد قسمته إلى فكرتين رئيسيتين: المبحث الأول: في المنهج الشرعي للحوار بين الأديان. المبحث الثاني: في أنواع الحوار بين الأديان وأحكامها. ثم ختمت البحث بخاتمة بينت فيها أهم نتائج البحث والتوصيات المتعلقة به، وإنني اسأل الله تعالى أن يوفقني في عرضه ومناقشته ويوفقني لإتباع منهج أهل السنة والجماعة والالتزام فيه بكتاب الله والسنة إنه جواد كريم. المبحث الأول: المنهج الشرعي للحوار بين الأديان

معنى الحوار في اللغة: مراجعة الكلام وتداوله, والمحاورة: المجادلة، والتحاور: التجاوب, وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام, ومنه قولهم: لم يحر جوابا أي: لم يرد ولم يرجع الجواب فمرجع الحوار للتخاطب والكلام المتبادل بين اثنين فأكثر (¬1) , والمعنى اللغوي العام للحوار هو مراجعة الكلام والحديث بين طرفين فإذا أضيف إلى الأديان أصبح معناه ما يدور من الكلام والحديث والجدال والمناقشة بين اتباع الأديان، وهذا يدل على أن معناه عام متعدد الأشكال والصور والأنواع بحسب نوعية الكلام والمناقشة. أما مدلوله الاصطلاحي فهو غامض يستعمل بأكثر من صورة ويحتاج إلى بيان أنواعه والفروق بينها، وهذا ما سنبينه في المبحث الثاني بحول الله ومشيئته, وحينئذ فإن عبارة ((الحوار بين الأديان)) تشمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً يحتاج كل منهما إلى بيان وتوضيح, وقبل البدء ببيان المنهج الصحيح في الحوار بين الأديان, أودُّ الإشارة إلى أن "الحوار بين الأديان" - بالمنهج الصحيح - مطلبٌ ملحٌ لتوضيح الصورة الصحيحة لعقائد الإسلام وآدابه وأحكامه, وهو وسيلة من وسائل دعوة أهل الأديان عموماً, وأهل الكتاب بشكل خاص إلى الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى موجهةٌ لكل الناس، وإقناعهم بالحق هدف شرعي مطلوب. وقد قام بالحوار بين الأديان بمعناه الشرعي المطلوب الأنبياء الكرام في حواراتهم الكثيرة مع أقوامهم بطرق مختلفة وأساليب متعددة, والمسلمون هم أقوى الناس حجة وبياناً, لأن دينهم دين رباني موافق لعقل الإنسان ونفسه, يقول تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبيرُ} [سورة الملك: 14]. ولكن شعار "الحوار بين الأديان" أصبح مثقلاً بكثير من المعاني والأفكار الباطلة التي تنقدح في ذهن كل من يسمع به, ولا يصح أن ننفي المعنى الصحيح في الحوار بسبب استعمال البعض له في الباطل ولكن المنهج القويم هو ردُّ المعنى الباطل وإبراز المعنى الصحيح, خاصة إذا علمنا أنه يتعلق بأمر ضروري في دين الإسلام وهو (الدعوة إلى الله تعالى)، ولأن في ظهور المعنى الصحيح: تبيينٌ للحق وتصحيحٌ لما حصل في هذا الموضوع من الخلط والتخبط بسبب البعد عن مفهومه الشرعي الصحيح، وهذا يقتضي قيام مؤسسات إسلامية للحوار بمنهجية صحيحة وأسلوب حسن, وعقد المؤتمرات لهذا الغرض, وكتابة الدراسات العلمية والعملية المؤصلة له من الكتاب والسنة. والحقيقة أن المؤسسات الإسلامية القائمة بالحوار -الآن- قائمة على منهج مخالف للمنهج الرباني (¬2)، ولا يوجد مؤسسة قائمة بالمنهج الصحيح في الحوار (¬3) تحت هذا المسمى. ¬

(¬1) انظر في معنى الحوار في اللغة: مقاييس اللغة -لابن فارس2/ 117، والقاموس المحيط -للفيروز آبادي- مادة (حور) (¬2) سيأتي الإشارة إلى فكرة التقريب بين الأديان. (¬3) قام عدد من علماء الأزهر بمعارضة فكرة الحوار بين الأديان معارضة شديدة، وقد تزعم هذه المعارضة جبهة علماء الأزهر وخاصة الدكتور يحي إسماعيل الأمين العام للجبهة سابقا. انظر البيان الامارتية. الأربعاء 1 شعبان 1422هـ 17 أكتوبر 2001م.

ولعل من أبرز الأسباب: أن الدعوة للحوار جاءت من النصارى وليست من المسلمين (¬1)، ولأنها لا تناقش بيان الحق بالأدلة والبراهين المقبولة, بل أعرضت عن ذلك قصداً وأصبح الحوار عبارة عن تفاوض على القضايا المشتركة الذي يكون في العادة بين الدول في المصالح الدنيوية المشتركة، وهذا ما لا يوجد معناه في طبيعة الأديان التي جانبها الإيماني، ومقصدها الأخروي هو الأصل مع ضرورة التنبيه إلى شمولية الإسلام دون غيره من الأديان لأمور الدنيا والآخرة, وللأمور الإيمانية والعملية وجميع النشاط البشري. وقبل الدخول في بيان المنهج الشرعي في الحوار بين الأديان أودُّ أن أنبه إلى أنَّ الحوار مع الكفار له مجالان: 1) الحوار في أمور دنيوية بحتة: وهذا ما يسمى بالمفاوضات وهي خاضعة للسياسة الشرعية, ضمن إطار أحكام الإسلام في الصلح والمعاهدة, وما يتعلق بذلك من التعامل الدنيوي الذي ليس له ارتباط بالأديان والعقائد والمفاهيم، وبناء على ذلك فليس هناك مبرر في إضافة هذا النوع إلى الأديان، وقد يطلق على هذا اسم التعايش, وقد يراد بالتعايش التقارب الفكري المباشر والتفاهم الديني بالتنازل عن شيء من أحكام الدين لما يظن فيه أنه من المصلحة كما سيأتي بيانه. 2) الحوار في الأمور الدينية: وهذا ما يؤديه إضافة الحوار إلى الأديان, فيكون الحوار إذن في الأمور الدينية وحول مفاهيم العقائد والقضايا الدينية محل الاختلاف, مثل التوحيد والإيمان والبعث ونحو ذلك, وإذا كان الحوار في أمور دنيوية بحتة, فإنه لن يكون هناك مايبرر إضافة الموضوع إلى محمولة، فالإضافة والإسناد دليل على الاختصاص والتمييز، ويعتبر الخلط بين هذين المجالين هو السبب المباشر في الانحراف الحاصل في موضوع الحوار، وبيان ذلك هو أنّه تم تنزيل مقام المفاوضات السياسية في منزلة الحوار الديني, وأصبحت مؤتمرات الحوار تناقش قضايا دنيوية سياسية مع الإغفال التام والمقصود للقضايا الدينية، ومع ذلك تضاف هذه الحوارات إلى الأديان على اعتبار نوعية الحضور والشخصيات المشاركة وليس على اعتبار القضايا المطروحة للحوار، وحينئذ أصبحت الصورة هي شخصيات دينية (علماء وغيرهم) يناقشون قضايا سياسية ثم تسمى (حوار بين الأديان). وقام بهذا العمل جهتان: أحدهما: قامت به جهات معينة بخبث واستغلال للقضايا الدينية, في تحقيق مآرب سياسية ذات خلفية دينية، ويمثل هذه الجهة القوى الاستعمارية الكبرى، والكنيسة الكاثوليكية المتداعية (¬2). والثانية: قامت به جهات أخرى بحسن نية تحسب في ذلك مصلحة للأمة, وتحقيق مقاصد شرعية, ويمثل هذه الجهات بعض مؤسسات الحوار، والشخصيات الإسلامية المشاركة في المؤتمرات الحوارية, التي تسعى لتحقيق قضايا مشتركه لنفع الإنسانية, وتظن أنها تحقق مكاسب للأمة الإسلامية. 1 - الأصل الشرعي في الحوار بين الأديان: ¬

(¬1) ولهذا تكوّنت لجنة الحوار بين الأديان في الأزهر بعد طلب من الفاتيكان للحوار أكثر من مرة، رُفضت في بداية الأمر من شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود وقَبِل المشاركة بخطاب بعد ضغط من السادات ثم تم تشكيل اللجنة مؤخراً عندما تكرر الطلب من الفاتيكان في الحوار, فتم توقيع اتفاقية بين المؤسستين في مايو عام 1998م. وهذه اللجنة وفكرتها لم تكن موضع ترحيب من علماء الأزهر ولهذا رفضتْ الكليات الدينية وخاصة كلية أصول الدين استقبال مؤتمر حوار الأديان الذي يُراد عقده في نوفمبر 2000م (¬2) انظر الأبعاد السياسية للحوار بين الأديان -سامر أبو ريان- رسالة ماجستير في الجامعة الأردنية.

والأصل الشرعي في الحوار مع أهل الأديان, الدعوة إلى الله وبيان الحق ورد الباطل بالأدلة الصحيحة، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [يوسف: 18]، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 14]. وهذا الأصل الشرعي مأخوذٌ من بيان الله تعالى لدعوة الرسل الكرام لأقوامهم, وقد كان أقوامهم على أديان مختلفة ومتباينة، يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} [النحل: 36] , وكل نبيٍ يبعثه الله لقومٍ يقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} , ومن خلال تتبع الآيات والأحاديث المبينة لحوار الأنبياء والرسل مع أقوامهم, نجد أنها دعوة وبيان للحق وكشف للباطل وبيان لضرره في الدنيا والآخرة، ولم نجد شيئاً يدل على محاولة القرب من الأديان أو العمل معهم في القضايا المشتركة والبعد عن نقاط الخلاف, لا سيما العقائد كما هو حال أكثر مؤتمرات الحوار اليوم، بل نجد محاولة من المشركين للتقارب معهم ولكنه ترفض من الأنبياء الكرام كما حدث في عرض كفار قريش التقارب من الإسلام حيث قالوا: "يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر"، فنزلت سورة الكافرون (¬1). فليس في المنهج الرباني تحاور مع الأديان بمعنى التقارب فضلاً عن الوحدة, بل هو دعوة ومجادلة وبيان للحق على نحو ما سيأتي, وسوف أكتفي بتتبّع المنهج الشرعي في حوار أهل الكتاب بشكل خاص, لكثرة محاورة القرآن والسنة لهم، ولكونهم أهل الحوار الآن, ولعدم وجود ما يخالف طريقة القرآن في حواره معهم عن الحوار مع غيرهم، وقد قام المنهج الشرعي في حوار الأديان عموماً, وأهل الكتاب خصوصاً على أربع مراتب متنوعة, ومع ذلك فهي تلتقي في الدعوة العامة للإسلام, وهذه المراتب هي: أولاً: مرتبة الدعوة. يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] , هذه الآية الكريمة تعتبر نصاً في موضوع الحوار, ولا يمكن أن يتجاوزها من أراد معرفة حكم الله تعالى في الحوار بين الأديان، وقد بين مدلول الحوار في هذه الآية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطابه المرسل إلى هرقل, وهو يتضمن الدعوة إلى الإسلام لا التقريب بين دينهم ودين الإسلام, يقول صلى الله عليه وسلم: (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى, أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)، ثم قرأ الآية السابقة (¬2). ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره 30/ 331. (¬2) رواه البخاري في صحيحة برقم (7) عن ابن عباس رضي الله عنه في قصة طويلة عظيمة مشتملة على دلائل نبوته عليه السلام.

والآية السابقة هي ما يسمى بلغة العصر "ميثاق الوفاق"، ويتضح في الآية بجلاء تحديد موضوع الحوار، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة وترك الشرك, ولهذا فسَّر الصحابة ومن بعدهم (الكلمة السواء) في الآية بـ (لا إله إلا الله). ولذا فالمنهج الشرعي في حوار الأديان -من جهة الدعوة وبيان الحق- جاء من خلال ثلاث زوايا (¬1): 1) موضوع الحوار: ركّز الشارع الحوار مع أهل الأديان عامة, وأهل الكتاب خاصة, من الناحية الموضوعية في القضايا الحساسة التي تعتبر مفاصل مهمة, ومفارق خطيرة بين المسلمين وبينهم, ويمكن اختصارها على النحو التالي: أ) الدعوة إلى التوحيد وإبطال الشرك: يبين ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وكذلك كتب الرسول إلى أهل الأمصار تتضمن الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وهذا هو هدف بعثة الرسل الكرام. ب) الدعوة إلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والتزام دينه: يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:19]. ج) الدعوة إلى ترك الغلو والقول على الله بغير الحق في شأن الألوهية وعيسى عليه السلام وأمه: يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء:171]. د) الدعوة للإيمان بالقرآن: يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء: 47]، ويقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98]. 2) أسلوب الحوار: وأسلوب الحوار مع أهل الأديان -وأهل الكتاب خصوصاً- يختلف بحسب اختلاف أصناف الناس, فاختلاف الأساليب مبنية على اختلاف المخاطب بها وقد تنوعت أساليب القرآن على النحو التالي: أ) الأسلوب المباشر في الدعوة: يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. ب) أسلوب التذكير: يقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]. ¬

(¬1) انظر: دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1543وما بعده

ج) أسلوب الترغيب والترهيب: يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66]، ويقول تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]. د) أسلوب الإنكار: يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} [آل عمران: 71]. 3) وسائل الحوار التي استخدمها رسول تعددت الوسائل في الحوار مع أهل الأديان عموماً وأهل الكتاب خصوصاً ومنها: أ- الذهاب إليهم في نواديهم ومحافلهم وأسواقهم وبيوتهم. ب- دعوتهم إلى دار الإسلام. ج- الكتابة إلى زعمائهم وحكامهم. د- استقبال وفودهم. هـ- دعوتهم أثناء الغزو والجهاد. ومناقشة علمائهم والاطلاع على كتبهم للاحتجاج عليهم. ز- إسماعهم القرآن وتلاوته عليهم. ثانياً: مرتبة المجادلة. المناقشة والمجادلة تتضمن أمرين: 1 - إقامة البرهان والدليل القاطع على صدق الحق وصحته. 2 - والرد الصحيح على الشبهات المانعة من قبول الحق. ومع ورود آيات كثيرة في النهي عن الجدل وذمه كقوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: من الآية5]، إلاَّ أن ثمت آيات أخرى تأمر بالجدل كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. والجمع بينهما هو أن الجدل المذموم هو الجدل بالباطل ولنصرته, والجدل المحمود هو الجدل لنصرة الحق وإقامة الدليل عليه، وقد أمر الله تعالى بمجادلة أهل الكتاب بالأسلوب الحسن في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إَِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]. وهذه الآية تدل على أن أهل الكتاب وأصحاب الأديان نوعان: أحدهما: من يريد الحق ويسعى إليه: وهذا يُجادل ويُناقش بالتي هي أحسن, وهي: "الأدلة العقلية المقنعة" مثل الاستدلال بالآيات البينات (¬1). الثاني: المعاند المحارب المعرض عن الحق: وهذا لا يُجادل بل يُقاتل في سبيل الله (¬2) ,ولا شكَّ أن مناقشة أهل الأديان لا تكون بالنصوص الشرعية لأنه لا يؤمن بها من حيث المبدأ, بل تكون بالأدلة العقلية الصحيحة، والقرآن الكريم يتضمن الأدلة العقلية على قضايا العقائد بوضوح تام, فقد جاء بالحق في المسائل والدلائل. ولعل أبرز الأدلة العقلية التي تقرر إثبات النبوة ما يلي (¬3): 1 - تضمن الوحي لأدلة ثبوته من عدة جهات: ¬

(¬1) انظر: تفسير الجلالين (ص / 82). (¬2) انظر: تفسير الجلالين (ص / 82). (¬3) انظر: المعرفة في الإسلام ص / 131وما بعدها.

أ - من جهة التحدي بالإتيان بمثل القرآن أو سورة من سوره في بيانه وبلاغته. ب - ومن جهة ما ورد فيه من الأخبار الغيبية التي لا يمكن أن يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأي وسيلة بشرية مثل: حفظ القرآن, وظهور الإسلام على جميع الأديان ونحوهما من الغيبيات. ج- ومن جهة مطابقته للكشوف العلمية في جميع المجالات مثل الطب والفلك والطبيعة. 2 - دلالة المعجزات على النبوة. 3 - دلالة أحوال النبي وصفاته على نبوته صلى الله عليه وسلم، وأبرز مثالٍ له حديث هرقل الطويل وسؤاله عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته. وكل قضية عقدية فإنه يمكن الاستدلال العقلي عليها سواء بشكلٍ مباشر, أو غير مباشر، ويكون ذلك بإثبات النبوة عقلاً، وهي بدورها تدل على صدق ما يخبر به النبي من قضايا العقائد والأعمال، وفي قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم} [العنكبوت: من الآية 46] فائدتان في موضوع المجادلة لأهل الأديان عموماً وأهل الكتاب خصوصاً: الأولى: استعمال الأدب الحسن والخلق الرفيع قولاً وفعلاً أثناء المناقشة لأن ذلك أدعى للقبول والتأثير وهذا مأخوذ من قوله: {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. والثانية: الإعراض عن مجادلة المعاند الذي لا يريد الوصول إلى الحق أو المقاتل المحارب الذي يتحين الفرصة لإلحاق الأذى بالمسلمين. ثالثاً: مرتبة المباهلة. قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ونساءنا ونساءكم وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي: "نتداعى باللعن، يقال عليه بَهْلة الله وبُهْلَته أي لعنته" (¬1)، والابتهال هنا أي: التضرع في الدعاء باللعن (¬2). وهذه الرتبة في الحوار مع أهل الأديان إنما تكون لمن يجادل بالباطل, أو اتضح له الحق وقامت عليه الحجة وأعرض عنها, يقول ابن القيم رحمه الله في فقه قصة وفد نجران: "ومنها: أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله, ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة, وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله, ولم يقل: إن ذلك ليس لأمتك من بعدك" (¬3). وهذه درجة متقدمة في حوار أهل الكتاب ولها فائدة عظيمة من جهتين: 1 - إظهار التحدي, والثقة التامة بأن الداعي إلى المباهلة على الحق. 2 - تخويف المعاند بتعريضه للعنة الله تعالى فربما كان ذلك سبب في رجوعه (¬4). رابعاً: مرتبة المفاصلة والبراءة. ¬

(¬1) تفسير غريب القرآن - لابن قتيبة - ص / 106. (¬2) انظر: تفسير الجلالين ص / 127. (¬3) زاد المعاد 3/ 623. (¬4) دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1576

المفاصلة والبراءة بين المسلمين والكفار بكل أصنافهم ثابتة قبل الحوار، ولكن المراد بها هنا نوعاً خاصاً هو بمنزلة البيان الختامي للحوار الذي يتولى ويعرض فيه المحاور عن الحق, كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: من الآية 64)، ويقول تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. وبهذا يتبين أنه بعد الدعوة والبيان التام, وكشف الشبهة, وإقامة الحجة فإن المحاور يتحدد موقفه: إما الإسلام, وإما التولي، "وحينئذٍ فلابد من الحجة والإعلان والإشهاد بعد المحاورات والمفاوضات المنتهية بالتولي والإعراض: بأنَّا مسلمون, ومن سوانا ليسوا كذلك" (¬1). وهذا يدل على أنه لا تترك الأمور بدون توضيح وبيان. آية الحوار بين الفهم الصحيح والفهم الفاسد: أصرح آية في الحوار بين الأديان في القرآن هي آية آل عمران المتقدمة, وهي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وهذه الآية فهمها بعض المثقفين والكتَّاب على غير وجهها، واعتمدوا في فهمها على مجرَّد الرأي, بعيداً عن الرجوع لأقوال الصحابة والتابعين والمفسرين السابقين. والفهم الصحيح لها هو (¬2): أن في هذه الآية دعوة لأهل الكتاب - وهي شاملة لغيرهم أيضاً -إلى التوحيد الخالص, وعبادة الله تعالى وحده، فالكلمة السواء هي (شهادة أن لا اله إلا الله) ويبين ذلك قوله في الآية: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهذا يعني أنهم قبل هذه الدعوة ليسوا كذلك وهذا ما يدل عليه حالهم وواقعهم, وقوله (ألاّ تعبدوا إلا الله) تفسير لكلمة السواء فأصل (ألاّ) هو أن لا, وأن هنا تفسيرية حيث تقدمها ما يدل على معنى القول وهي (كلمة) وحينئذ تكون الجملة بعدها مفسرة لمعنى (الكلمة السواء) , وقد فهم البعض أنَّ الكلمة السواء هنا بمعنى أن حوارنا معكم لا بد له من قاعدة نقف نحن وإياكم عليها لنجاح الحوار, وهو أمر موجود فينا وفيكم قبل الحوار وهو قدر مشترك فيما بيننا وبينكم!! وهذا الفهم مناقض لمفهوم الآية التي دعت أهل الكتاب للوصول إلى نتيجة ليست موجودة عندهم وهي: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} كما أن اعتبار هذه الآية قدراً مشتركاً يجعل من الحوار معهم أمراً لا فائدة منه لأن التوحيد الخالص موجود فيهم حسب الفهم السابق. ¬

(¬1) دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1577 (¬2) انظر: جامع البيان - للطبري- 3/ 299, تفسير القرآن الكريم - لابن كثير- 2/ 45, (كتاب الشعب) , الدر المنثور - للسيوطي- 2/ 233.

ومن جهة أخرى فالواقع الواضح عند أهل الكتاب هو الوقوع في الشرك من جهة التوحيد, والكفر من جهة إنكار الرسالة, يقول الدكتور سلمان العودة في قواعد الحوار مع أهل الكتاب: "اعتبار القدر المشترك في الديانة السماوية المتمثل في صحة النبوة والوحي ولزوم الاتباع للأنبياء، وتحصيل لوازم هذا القدر المشترك، وهذا هو المذكور في قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً}، وهذه قاعدة عقلية فاصلة في مقام جمع المختلف أو رد الاثنين إلى الواحد، فيعتبر المختلف بالمؤتلف، والثنائية بالأحادية، وهذا معتبر أيضاً بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في الصحيحين، ويتبع هذا تصحيح المفاهيم المنحرفة، وردها إلى الصدق الذي جاءت به النبوة الخاتمة" (¬1). وهذا القول على أهميته في مجادلة أهل الكتاب والحوار معهم إلا أنه ليس هو معنى آية آل عمران المتقدمة فيما يظهر لي, فهي صريحة في الدعوة والحوار المباشر حول التوحيد وترك الشرك كما تقدم. وقد أوّل بعض الكتاب (الكلمة السواء) في الآية إلى أنها: "فعل الصالحات النافعات للبشرية, ومواجهة الطغيان, وتحقيق معرفة كل طرف بالآخر, وإزالة الفهم دون المحاولة إلى إلغاء الخصوصيات" (¬2) , وهذا تأويل بعيد عن معنى الآية ودلالتها، فالمتأمل في الآية يدرك أن كلمة السواء مفسرة, وليست مطلقة بحيث يتصور القارئ ما شاء في تحديدها, وهناك فرق كبير بين فهم الآية على أنها دعوة لأهل الكتاب إلى التوحيد ومناقشتهم للوصول إلى غاية عظيمة وهي التوحيد وترك الشرك، وبين فهمها على أنها قدر مشترك ينطلق منه لتصحيح ما عندهم من الباطل, أو أنها في الحث على التعاون المشترك للوصول لما فيه الخير للإنسانية، ومما يؤكد تفسير هذه الآية السلوك العملي للنبي حيث كان حواره لهم بهدف دعوتهم للتوحيد وهدايتهم إليه. قواعد مختصرة في الحوار مع أهل الكتاب: هناك جملة من القواعد التي ينبغي الاهتمام بها أثناء الحوار مع أهل الكتاب، يمكن أن نشير إلى نبذ يسيرة منها وهي بحاجة ماسة للبحث والمراجعة، خاصة ونحن نعيش في زمن الاحتكاك المباشر مع أهل الكتاب في مجال الصراع الفكري, أو الصراع المسلح المادي، لا سيما في هذا العصر على الخصوص الذي أصبح التواصل فيه بين أقاصي الدنيا وأدناها من أسهل الأمور في كل المجالات, وإذا لم نرسم - نحن دعاة أهل السنة - منهجية صحيحة في الحوار المفروض علينا معهم, فإن غيرنا من أصحاب الفكر المنحرف - الذي يحرف النصوص - سيأخذ قصب السبق في هذا المجال, وسيقّعد للأجيال القادمة قواعد فاسدة في التعامل مع أهل الكتاب في مجال الحوار, أو غيره من المجالات، ومن هذه القواعد التي ينبغي أخذها في الاعتبار: 1 - تحديد الهدف من الحوار معهم: وتنقيحه من شوائب الانهزامية, والتخاذل والغموض في محاورة أهل الكتاب، والهدف الرباني في الحوار هو دعوتهم إلى الله تعالى, وتمني هدايتهم للإسلام والحرص على تصوير الإسلام لهم كما أمر الله به, وتوضيح نقائه وصفائه لهم من غير محاولة لتشبيهه بالمناهج الأرضية المنحرفة, فهو أسمى وأعظم وأجل من كل المناهج الأرضية. ¬

(¬1) مقال: قواعد الحوار مع أهل الكتاب - د/سلمان العودة - موقع الإسلام اليوم. (¬2) انظر: الحوار الإسلامي المسيحي- د. يوسف الحسن- ص: 43 - 44.

2 - عدم التصدي للحوار بدون علم بدين الإسلام: أوعدم القدرة على توضيح غاياته بصورة صحيحة، فليس الحوار مطلوب من كل أحد, بل هو مطلوب من أهل القدرة علماً وبياناً، أما غيرهم فليس مطلوب منه الحوار, إلا إذا كان بشكل مبدئي في الحث على فضائل هذا الدين, أو كان المخاطب الكتابي عامي يمكن التأثير عليه دون علم دقيق بمناهج الجدل والمناقشة، فهذا يدخل في الدعوة العامة إلى دين الإسلام الذي هو مطلوب من كل مسلم. 3 - الاستفادة مما لدى أهل الكتاب من الإقرار بوجود الله تعالى وصحة وجود النبوة - في الجملة-, واليوم الآخر ونحوها للبناء عليها في بيان الحق لهم أو التدليل على باطلهم، وينبغي مراعاة الفروق الفردية والطائفية في دعوتهم فيوجد فيهم من يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه يقصرها على العرب فمناقشة هذا ودعوته أسهل من المنكر لها بالجملة. 4 - إقامة الأدلة العقلية على صحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-:فإقراره بنبوته يقتضي بالضرورة إقامة الأدلة العقلية على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , ويقتضي بالضرورة أن خبره صدق وقد أخبر أنه مرسل للعالمين, والطعن في ذلك إما قدح فيما أقر به وهو إثبات نبوته, أو طعن في خبر النبي وهو غير مستقيم لمن أثبت النبوة. وهنا أحب التنبيه إلى ضرورة الرجوع إلى المناهج العقلية القرآنية وتبنيها والحديث بها وان كان بدون الإشارة إلى كونها قرآنية لأن الخصم لا يقر بحجيتها، ولا بأس بالأدلة العقلية السالمة من اللوازم المبطلة لشيء من الدين، وقد وقع أهل الكلام في هذا لأنهم تصوروا أن القرآن جاء بالأدلة الخبرية المحضة دون الأدلة العقلية، فراحوا يخترعون أدلة يريدون بها نصر الدين فوقعوا في لوازم تقتضي تحريف بعض العقائد، فكانت النتيجة تقرير قواعد في الاستدلال والنظر مخالفة للمناهج المتفق عليها وتوصلوا إلى أغراضهم بالتأويل الفاسد للنصوص. 5 - الدراسة الدقيقة لمنهج الأنبياء في حوار أقوامهم: وبالذات منهج الرسالة الخاتمة للرسالات كلها وأخذ الأصول العلمية في الحوار مع أقوامهم ودعوتهم إلى الله تعالى. 6 - دراسة مناهج علماء السنة في مناقشاتهم وحوارهم مع أهل الكتاب: مع ضرورة التنبه إلى المناهج البدعية في حوار بعض أصحاب البدع مع الكتابيين مما سبب في وجود مناهج منحرفة في الفكر الإسلامي ظهرت فيما بعد على شكل فرق ضالة. 7 - إثبات تناقض كتبهم وضعف دينهم: من واقع هذه الكتب دون ذكر وسيط مما يجعلهم يعيدون النظر في حقيقة دينهم وإمكان بطلانه. 8 - إثبات دين الإسلام بالأدلة الصحيحة والمناهج القرآنية والنبوية المعتبرة بعيداً عن مناهج أهل الأهواء والبدع: ومن ذلك إثبات صحة القرآن والنبوة بالأدلة الحسية التي تضمنتها، مثل: الإخبار بالمغيبات وبموافقة الكشوف العلمية الثابتة دون تعسف وليَ للنص القرآني أو النبوي. 9 - إثبات مناقضة ديانتهم المحرفة للعقل والحس: مما جعل التطبيق لها في الواقع مناف للفطرة الإنسانية ولسنن الله في الاجتماع والحياة، وهنا ينبغي التنبه لمزلة وقعت في الفكر الإسلامي وهي تصور إمكان التعارض بين العقل والنقل وحصل بسببها عراك تاريخي ومازال مستمراً إلى اليوم، ولا يمكن التدليل على عدم التعارض بينهما بشكل صحيح موافق لمقتضى النص ولدلالة العقل إلا على منهج أهل السنة، أما من تخبط في مناهج الفرق فسوف يستأسد عليه أهل الأديان على قاعدة بعضهم: (خرافات النصرانية خير من خرافات الإسلام) يقصد التصوف والتشيع وكذلك سيكون الأمر هنا.

1 - لابد من مراعاة حسن التعامل والمناقشة: ليكون للدعوة قبول دون مخالفة شرعية، كالقول بإقرارهم على اعتبار دينهم والثناء عليهم بمثل ذلك باسم احترام الآخر، ولا يصح التسفيه له إذا طمع الداعية في هدا يته، فالحق وسط بين تفريط من يردد عدم الإقصائية ويقول باحترام دين الآخر، وكأن الخلاف هو في وجهات النظر لا في أصل الدين, وبين الإفراط الذي يجعل من إمكان هداية المحاور أمر في غاية الصعوبة. ومن خلال العرض المتقدم لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم للحوار مع أصحاب الأديان, يتبين أنَّ الأساس في الحوار هو الدعوة وإقامة الأدلة على صحة دين الإسلام, ووجوب الانقياد له ونبذ الأديان المحرفة، وبيان ما في دينهم المحرف من الباطل بلغة علمية, ومنهجية سليمة, وهذه حقيقة شرعية واضحة لمن استقرأ نصوص الكتاب والسنة, وطالع أخبار الأنبياء وعرف طبيعة رسالتهم. المبحث الثاني: أنواع الحوار بين الأديان وأحكامها. "الحوار بين الأديان" اسم عام يطلق على كل مخاطبة ومحاورة تتم بين طرفين أو أكثر من أهل الأديان والمؤمنين بها، فكلمة "حوار" كلمة عامة تشمل كل ما يقع عليه معنى التجاوب والتراجع والتخاطب, ولا شك أن مطلق الكلام لا يصح الحكم عليه دون معرفة خصائصه المميزة. والحوار من المصطلحات المجملة التي تحمل معنى حقاً ومعنى باطلاً, فلا يصح الحكم عليه وهو بهذه الحالة من الإجمال والإبهام, بل لابد من الاستفصال عن المعنى المراد بدقة, ثم النظر بعد ذلك في حكمه في ضوء النص الشرعي, ومن خلال التتبع لأحوال الحوارات المتعددة بين الأديان تبيّن أنها على أنواع مختلفة، ولكل نوعٍ خصائصه المحدَّدة له والمميزة له عن غيره، مع أن جميع الأنواع يصح إطلاق اسم "الحوار بين الأديان" عليها, وعليه فلابد من توضيح نوع الحوارات المجملة ,والاستفصال عنها ومعرفة أهدافها وخصائصها قبل الخوض فيها أو الحكم عليها, وبناء على ذلك فسأذكر كل نوعٍ على حدة، وأذكر الخصائص المميزة له باختصار, ثم أُبين الحكم الشرعي على كل نوعٍ على حدة. أولاً: حوار الدعوة: والمقصود به في -المفهوم الإسلامي-: الحوار مع أتباع الأديان الأخرى لبيان صحة هذا الدين، وأنه ناسخ لكل الأديان السابقة، وإيضاح صحة نبوة محمد ومحاسن الإسلام العظيمة، وبيان ما هم عليه من الباطل المنحرف, وهذا الحوار مطلوب شرعا, تدل عليه كل الآيات والأحاديث الدالة على فضيلة الدعوة إلى الله وبيان الحق ورد الباطل, وهذا النوع تقدم الكلام فيه في المبحث الأول، وهو موجود تمارسه جمعيات ومراكز, وجهات متعددة وأفراد كثيرون, ولايسمى في الاصطلاح باسم الحوار بين الأديان، فهو داخل في عموم اللفظ العام دون مدلوله الاصطلاحي الخاص وشعاره المعروف. أما الحوار التبشيري عند النصارى الذي تمارسه الكنيسة الكاثوليكية، ومجلس الكنائس العالمي وغيرها, فهو اتخاذ الحوار وسيلة للتنصير، وذريعة لتشكيك المسلمين في دينهم ونبيهم، وطريقاً مخادعاً لأخذ الشهادة والإقرار والموافقة بصحة دينهم, وأنه دين معتبر حتى بعد دخول التحريف فيه (¬1). ¬

(¬1) انظر: الحوار مع أهل الكتاب- خالد القاسم- ص/112 - 117.

ثانياً: حوار التعايش وحكمه: تعريفه: المقصود بحوار التعايش هو: الحوار الذي "يهدف إلى تحسين مستوى العلاقة بين شعوب أو طوائف، وربما تكون أقليات دينيّة، ويُعنى بالقضايا المجتمعيّة كالإنماء، والاقتصاد، والسلام، وأوضاع المهجّرين، واللاجئين ونحو ذلك، ومن أمثلة هذا اللون من الحوار: (الحوار العربي الأوروبي)، و (حوار الشمال والجنوب) " (¬1) , وقد يسمي البعض هذا النوع (التسامح) , وهذا التعريف هو معنى التعايش بالمفهوم العام, الذي يؤخذ من دلالة الكلمة دون ارتباطات بالمفاهيم اللاحقة. وهذا المفهوم العام لا يزيد على حسن المعاملة، والعيش بصورة ملائمة بين كافة المجتمعات مع الاختلاف الديني والفكري والثقافي, والتعايش بهذا المعنى بين اتباع الأديان المختلفة لا يرفضه الإسلام، ويدل عليه معنى البر والإحسان والقسط الوارد في مثل قوله تعالى: {َلا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة8]. ولهذا المفهوم ثلاثة ضوابط: أولاً: مراعاة الولاء والبراء: فلا تلازم بين الإحسان والعيش الكريم والتسامح في المعاملة وبين الموالاة للكفار, أو ترك البراءة منهم، فالولاء والبراءة أصل شرعي دلت عليه نصوص شرعية كثيرة (¬2). ثانياً: إقامة العدل: والإنصاف مع كل الناس، فالعدل أساس عظيم في نماء المجتمعات واستقرارها. ثالثاً: التزام الحكمة في المعاملة: وهي وضع الأمر في موضعه ومقامه الصحيح الائق به, الموافق للمنهج الرباني, ولطبيعة النفس الإنسانية. لكن هذه الكلمة (التعايش والتسامح) أخذت بعداً آخر غير المفهوم العام السابق, وذلك عندما رفعه العالم الغربي كشعار مع العرب والمسلمين بعد حرب 6 أكتوبر (1 رمضان عام 1973م) , وما تلاها من المقاطعة العربية في 17أكتوبر, بقرار من وزراء النفط العرب في الكويت, الذي يقضي بفرض الحصار النفطي على أميركا, وتخفيض مستوى الضخ حتى يتحقق الجلاء عن الأراضي العربية, وتؤمن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. فرفع الغرب هذا الشعار لتهدئة الوضع, ووقف القتال وتخفيف حدة الضغوط العربية إلى حين ترتيب أوراقه, وإعادة تنظيم أهدافه الاستراتيجية وقد تم ذلك وأصبح واضحاً للعيان, أن حوار التعايش والتسامح ما هو إلا شعار لأهداف سياسية بحتة, لا سيما بعد السيطرة الأمريكية على الخليج, ومنافذ البلاد العربية والإسلامية بعد أزمة الخليج الثانية، وأصبح الأمر أشد وضوحاً بعد الاجتياح الإسرائيلي الأخير للضفة الغربية، وعندما طرح خيار الضغط بمنع النفط عن أميركا ولو لوقت محدد, لم توافق عليه الدول العربية النفطية، لا لكونه يلحق الضرر بمصالحها, بل لكونها غيرقادرة عليه لضعف سيادتها أو زوالها عن النفط على أقل تقدير. وعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر وهاجت أمريكا ورفعت شعار (الحرب على الإرهاب) , عاد العرب والمسلمين لرفع شعار التعايش والتسامح بنفس المفهوم الغربي السابق الذي رفع إبان حرب 6 أكتوبر وتداعياتها. ¬

(¬1) دعوة التقريب بين الأديان 1/ 348. (¬2) انظر الولاء والبراء- د/محمد سعيدالقحطاني - كاملاً

لقد أصبحت فكرة (التعايش والتسامح) دعوة فكرية تحمل في طياتها مضامين فكرية وثقافية وحضارية واجتماعية, وقد تبنى هذه الفكرة ونظر لها من الطرف الإسلامي "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" (ايسسكو) حيث أصدرت كتابا بعنوان "مفهوم التعايش في الإسلام" تأليف د. عباس الجراري. والتعايش والتسامح بهذا المفهوم عرفه (اليونسكو) في بيان له بأنه "احترام الآخرين وحرياتهم والاعتراف بالاختلافات بين الأفراد والقبول بها, وهو تقدير التنوع الثقافي, وهو الانفتاح على الأفكار والفلسفات الأخرى بدافع الإطلاع وعدم رفض ما هو غير معروف". وسيأتي مزيد توضيح لمفهومه إن شاء الله. خصائصه: سبق في التعريف أن التعايش له مفهومان متغايران، أحدهما مأخوذ من المفهوم العام للكلمة, والآخر مأخوذ من شعار خاص, رفع في فترة من الفترات لأهداف سياسية ثم تطور إلى أن أصبح فكراً منظماً, تقوم على تصديره بعض المؤسسات الكبرى (اليونسكو - والايسسكو) , ثم عاد ليصبح شعاراً سياسياً للتخفيف من هيجان العالم الغربي بسبب أحداث 11 سبتمبر بنفس المضامين الفكرية, وبناءً على هذا فلابد من تمييز خصائص النوع الأول عن النوع الثاني, ثم بيان الحكم في كل واحدة على حدة, فخصائص (حوار التعايش) بالمفهوم الأول المميز له عن غيره هو: 1 - أنه حوار لا علاقة له بالدين. 2 - أنه يقتصر على الحوار فيما يتعلق بالمعيشة البحتة بين أهل الأديان التي تفرضها طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الفطرية. 3 - أنه لا يتضمن محبةً أو ولاءً, أو اعترافاً بصحة دين الآخر أو تزكيةً له أو مدحاً, بل هو قاصر على الأمور الدنيويّة وفي حدود الحاجة. 4 - أن لا يتضمن شيئاً من التنازل عن أمر من أمور الدين, بحجة الترغيب لهم في الدخول في الإسلام, أو اعطاء صورة حسنة عن الإسلام, أو بأي تعليل آخر. حكمه: هذا النوع من الحوار - إذا لم يصاحبه ما يعكِّر على خصائصه السابقة أو يزيد فيها - فهو جائز لا إشكال فيه، وهو خاضع للسياسة الشرعية العملية التي يقدرها أهل الحل والعقد من أهل الخبرة والعلم والدين, وقد تفاوض رسول الله مع اليهود وعاهدهم، وصالح المشركين في الحديبية، وكذلك الصحابة الكرام تفاوضوا مع أهل الأديان المختلفة فيما يخص دنياهم ومعاشهم، ولا يزال هذا الأمر موضع اتفاق, وقد "زخر الفقه الإسلامي المؤسس على الكتاب والسنة بتراث ضخم في مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين" (¬1). خصائص التعايش بالمفهوم المعاصر (¬2): لقد أعطي مصطلح (التعايش) بعداً آخر غير ما مضى من التوصيف, وأخذ مفهوم التعايش بعداً فكرياً جديداً وهو بهذا المعنى يندرج تحت التقارب الذي سيأتي الكلام عليه. وحوار التعايش يكون في العادة بين الدول التي تمارس الحياة العملية بحكم الاتصال المادي بينها, ولا مجال له بين الأديان إلا من هذه الزاوية, وإنما ذكرناه في موضوع الحوار بين الأديان, لأنه يدخل في العنوان العام بسبب عمومية لفظة (الحوار) ولأن البعض يخلط بينه وبين حوار التقارب, ثم إن حوار التعايش أخذ مدلولاً آخر غير ما سبق ذكره, في الخصائص العامة ليكون بذلك فكراً جديداً له خصائصه الفكرية المختلفة عن ما سبق ذكره. ويمكن تلخيص تلك الخصائص في النقاط التالية: ¬

(¬1) دعوة التقريب بين الأديان 1/ 348 (¬2) انظر في هذا النوع: التعايش السلمي - هيوكتسكل - , دراسات في التسامح - ناجي البكري وآخرون - , تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر - عبد اللطيف الحسين - , مفهوم التعايش في الإسلام - عباس الجراري- , المسلمون والأوربيون (نحو أسلوب أفضل للتعايش) - الخزندار-.

1 - القول بحرية التدين وإنكار حد الردة في الإسلام, باعتباره معارضاً لحرية اختيار الإنسان للدين الذي يقتنع به، وجعل القاسم المشترك بين كل الأديان البيان العالمي لحقوق الإنسان. 2 - منع كل ألوان الاعتداء على الآخر وإنكار الحرب باسم الدين, وتفسير الجهاد في الإسلام بأنه للدفاع عن النفس وإنكار جهاد الطلب. 3 - منع الكراهة الدينية والدعوة للإخاء الإنساني. 4 - المطالبة بالحرية الدينية للأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية, والتعامل معهم على أساس الوحدة الوطنية, وليس على أساس المعتقد الديني، واقتراح الغرب الحل العلماني كأفضل حل لمشكلة الأقليات, وان كان هذا لا يراه كل من يرى الحوار بهذا المفهوم. 5 - الإقرار بالأديان السماوية جميعاً وتفسير هيمنة الإسلام عليها بأنه (مراقب) عليها فهو يرصد ما تتعرض له الديانات من انحراف عن الحق. 6 - الاجتماع على تقوية الصلة بالله في النفوس، خاصة بعد طغيان المادية وتفشي قيمها المسيطرة على الشباب في العالم. 7 - البعد عن العنف والإرهاب والتطرف الديني والتكفير والتدخل في خصوصيات الآخر الدينية, وأن كل هذا مناف للاحترام الديني الذي يجب أن يكون بديلاً عن كل القيم السابقة (¬1). حكمه: من خلال الخصائص السابقة يتبين لنا أن التعايش تحول من تعايش مادي عن طريق المفاوضات بين الدول, إلى تقارب ديني وحضاري بين الدول والشعوب. والخصائص السابقة تتضمن انكار أمور معلومة في دين الإسلام وواضحة فيه، مثل: قضية إنكار الجهاد، والولاء والبراء، وحكم المرتد، والسماح للكافر بنشر كفره في المجتمعات الإسلامية باسم حقوق الأقليات، وكل هذا يعتبر إنكاره كفرٌ مخرج من الملة, لأنه تكذيب للنصوص الشرعية الدالة عليه, أما من تأوَّل بعض النصوص للوصول إلى قوله هذا, فهو بحسب طريقته في التأول, إن كانت شبهة وإشكالاً لها مسوِّغ في اللغة, فهو ينفي عنه التكفير، ويصبح مثل عامة المبتدعة، الذين تأولوا وصاروا إلى مقالات مناقضة لصريح الكتاب والسنة ولم يكفرهم العلماء بذلك, أما إن كان تأولاً بعيداً لا شبهة له في اللغة, أو قول لبعض العلماء, فهذا لا حجة في تأوله وغير معذور فيه, وبالجملة فهذا النوع من الحوار يعود إلى حوار التقارب الآتي ذكره. ثالثاً: حوار التقارب وحكمه: تعريفه: "التقارب بين الأديان" لا يحمل مدلولاً اصطلاحياً محدداً، فلفظ "التقارب" أو "التقريب" مأخوذٌ من القرب، وهو أمرٌ نسبي يتفاوت في حقيقته وتطبيقاته, فقد يقتصر على حدٍّ أدنى من المجاملات الشكلية، وقد يبالغ فيه إلى درجة الاندماج الكامل والوحدة التامة، وبين هاذين مراتب متعددة, وكلها داخلة في عموم اسم التقارب (¬2) , وهذا المفهوم أوسع نوع من أنواع الحوار بين الأديان، ولعله أشهر مفهوم له والذي تعقد له المؤتمرات المتعددة. خصائصه: ولعل الخصائص المميزة للتقارب الذي لا يصل إلى درجة الوحدة يمكن أن تجمل فيما يلي (¬3): 1 - اعتقاد "إيمان" الطرف الآخر، وإن لم يبلغ الإيمان التام الذي يعتقده هو، أما القول بكفر الآخر فقد يصرح به البعض، وينفيه الأكثر. 2 - الامتناع عن التلفيق بين عناصر الأديان، وتجنب البحث والمناقشة في المسائل العقدية الشائكة. 3 - التعرف على الآخر كما يريد أن يُعرف. 4 - نسيان الماضي التاريخي والتخلص من آثاره، والاعتذار عن أخطائه. 5 - إبراز أوجه الاتفاق، وترك نقاط الاختلاف. ¬

(¬1) هذه الخصائص ملخصة من الكتب المشار إليها في الحاشية السابقة. (¬2) انظر: دعوة التقريب بين الأديان 1/ 335. والحوار الإسلامي المسيحي ص/44 - 13 - 43. (¬3) المصدر السابق 1/ 336

6 - التعاون على تحقيق القيم المشتركة وهي تشمل ما يلي (¬1): أ - التعاون لصد الإلحاد في العقيدة. ب - الوقوف ضد دعاة الإباحية. ج- التعاون حول قضايا العدل والمستضعفين, والشعوب المضطهدة والأوطان المحتلة، والفقر والمرض ... الخ. 7 - الاعتراف بالآخر، واحترام عقائده وشعائره، وتبادل الزيارات والمجاملات في المناسبات الدينيّة المختلفة (¬2)، والمشاركة في عباداتهم أحياناً (¬3)، ويدخل في ذلك التأكيد على المحبة والمودة, والإخاء والصداقة, والثقة والاحترام المتبادل معهم. 8 - البعد عن جعل الحوار دعوة مبطنة سواء للإسلام أو النصرانية (¬4). ومن خلال ما سبق يتبين أن التقارب أمرٌ نسبي، فيمكن حصول التقارب إلى درجة الوحدة, ويمكن الاكتفاء بالتفاهم العام القريب من حوار التعايش. وقد ظهر لي أن دعاة التقريب نوعان: النوع الأول: تجتمع فيه الخصائص السابقة إلاّ عدم تكفير اليهود والنصارى, ويمكن التمثيل لهذا النوع بالشيخ يوسف القرضاوي, ولجنة الحوار في الأزهر. النوع الثاني: تجتمع فيه الخصائص السابقة مع قوله بعدم تكفير اليهود والنصارى, كما هو قول جمال الدين الأفغاني والدكتور محمد عمارة مثلاً. حكمه: حكم حوار التقارب يختلف بحسب نوع القرب، وقد سبق أن بينتُ أن دعاة التقريب على نوعين، والفارق بينهما هو تكفير اليهود والنصارى، فمن كفّرهم مع القول بالتقريب على نحو ما سبق فقوله بدعة مخالف لمنهج النبي في حواره مع أهل الكتاب، ومن لم يكفّرهم فقوله كفرٌ لأنه تكذيب لأمرٍ قطعي في القرآن والسنة، بغض النظر عن الأشخاص المعينين، لأن لهم شأن آخر فيما يتعلق بوجود الشروط وانتفاء الموانع, وليس هذا مجال بحثنا هنا. أما المودة والمحبة القلبية، فإن كانت لدينه فهي كفر أكبر بغير خلاف، وأما إن كانت المحبة القلبية لغير دينه بل لأمر دنيوي، ولم يقتض ذلك مظاهرته على المسلمين فهي من الكبائر ولا توصل للكفر الأكبر. وسأدلل على أن "حوار التقريب" مخالف لأصول الدين, ومناقض لمنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشكل عام من خلال الوجوه التالية: الوجه الأول: أنه موالاة للكفار ومخالفة لعقيدة الولاء والبراء، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]. ويقول تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } [المجادلة:22]. ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ... } [المائدة: من الآية51]. والمودة والموالاة في "حوار التقريب" هو الشعار البارز الذي يردد في اللقاءات والبيانات المشتركة. ¬

(¬1) انظر لقاء الشيخ يوسف القرضاوي حول (الحوار بين الأديان) في: قناة الجزيرة - برنامج الشريعة والحياة - الثلاثاء 19/ 8/ 1422هـ , الموافق 6/ 11/ 2001م. (¬2) انظر: خطاب الشيخ يوسف القرضاوي في ندوة الحوار بين الأديان - موقع إسلام أون لاين. نافذة الإسلام وقضايا العصر. ومقابلة مجلة ليلة القدر مع رئيس لجنة الحوار بين الأديان الشيخ فوزي الزفزاف. www. Lailatalqadr.Com زاوية حوارات. (¬3) الحوار مع أهل الكتاب ص / 124. (¬4) انظر: الحوار الإسلامي المسيحي ص/43 - 44

ولعلي أكتفي بالنقل عن أفضل المشاركين في هذه الحوارات والمنظرين لها وهو الشيخ يوسف القرضاوي حيث يقول في بيان أهداف الحوار: "تنقية العلاقات من رواسب الروح العدائية التي خلفتها الصليبية قديماً، والاستعمارية حديثاً، وإشاعة معاني الإخاء والإنسانية والرحمة، وفتح صفحة جديدة لعلاقات أنقى وأصفى" (¬1). الوجه الثاني: أنه مخالفة لمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في حوار الأديان، واتباع لغير سبيل المؤمنين، ومخالف لإجماع المسلمين, قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]. ولا شك في أن "حوار التقريب" مناقض لهدي الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وعلماء الإسلام, فأصحاب التقارب يتركون نقاط الاختلاف، ولاسيما مسائل العقائد, وهذه مناقضة لمنهج الدعوة النبوية، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا أهل الكتاب وغيرهم من أهل الأديان إلى تحقيق التوحيد ونبذ الشرك وجادلهم على ذلك، ولم يرد تركه لمخاطبتهم في العقائد والإعراض عن ذلك إلى قضايا مشتركة أخرى. فدعوة التقارب فيها تنكّب لطريق الأنبياء ومعاكسة له، وهذا من دلائل بطلانه. الوجه الثالث: أنه إعراض وترك لبعض الأحكام الشرعية. يقول تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك ... َ} [المائدة: 49]. وهذه الآية صريحة في ثلاثة أمور أثناء الحوار مع أهل الكتاب وهي: 1 - دعوتهم والحكم بينهم بحكم الله، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب, بالبعد عن نقاط الاختلاف, وتنزيل الدين الحق منزلة الدين المحرف بحجة اعتبار الآخر واحترامه. 2 - البعد عن مجاملتهم والتنزل معهم واتباع أهوائهم، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب في مشاركتهم لهم في أعيادهم وإثبات إيمانهم وتزكيتهم. 3 - الحذر من فتنتهم عن بعض ما أنزل الله تعالى، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب فانزلقوا في مخالفة بعض ما أنزل الله بحجة التقارب والحوار، ومن أمثلة ذلك: • الإعراض عن الولاء والبراء، والحب في الله والبغض في الله, تحت مسمَّى "المحبة والاحترام المتبادل" و "الأخوة الإنسانية" و "نبذ التعصب". • إلغاء أحكام أهل الذمة تحت مسمى "العدالة الاجتماعية" و "حقوق الإنسان". • ابطال حد الردة، وتمكين الكفار من الدعوة إلى دينهم وبناء معابدهم، ونشر كتبهم تحت مسمى "حرية التدين" و "التعددية الدينية" و "التعرف على الآخر". • الغاء الجهاد في سبيل الله وما يتبعه من أحكام, مثل استرقاق الأسرى والغنائم تحت مسمَّى "السلم العالمي"، وفكرة الجهاد من أصلها لا تناسب الحوار بين الأديان بمعنى التقريب المزعوم, وغير ما تقدم من الأحكام الشرعية أعرضوا عنها بسبب الحوار والتقريب (¬2). ¬

(¬1) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة ص / 176 (¬2) انظر: دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1448

الوجه الرابع: أنه يتضمن المساواة بين الكافرين والمسلمين، يقول تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]. ويقول تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صّ: 28]. ودعوة التقريب في أساسها تقرر مبدأ المساواة الدينيّة، وهذا رفع لما وضعه الله، وتنزيل لما رفعه الله تعالى, فالتقارب يفترض المساواة بين الأديان وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة لأي منها، وهذا شك في الإيمان والإسلام وتوسط بين الأديان وهذا يقتضي ترك الجزم بصحة الحقائق المطلقة في الإسلام ونظرته إلى أهل الأديان الأخرى. رابعاً: حوار وحدة الأديان وحكمه: تعريفه: وحدة الأديان هو "الاعتقاد بصحة جميع المعتقدات الدينيّة، وصواب جميع العبادات، وأنها طرق إلى غاية واحدة" (¬1) , ومن أبرز المنظرين لها في الوقت الحاضر "روجيه جارودي" تحت غطاء "الإبراهيميَّة" (¬2)، ومفتي سوريا الشيخ أحمد كفتارو (¬3) , وهما يتفقان في الدعوة إلى وحدة الأديان مع اختلافهما في منطلق ذلك، فالأول يدعو للوحدة من منطلق إنساني فهو يسعى لوحدة أديان الإنسانية ولكنه يرى أن المرحلة الأولى تبدأ بوحدة أديان الملل السماوية الثلاث، تحت مسمَّى (الإبراهيمية)، والثاني من منطلق صوفي وعلى فكرة صوفية وهي الوحدة والاتحاد، وهم الذين يرون العالم كله هو الإله وأن أفراده مثل موج البحر متعدد ولكنه من البحر نفسه، وبناءً على ذلك فكل الأديان صحيحة, لأنها صادرة عن الإله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. والأثر البالغ والكبير لهما هو من جهة مكانتهما وشهرتهما العالمية، فجارودي كان الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي الفرنسي بعد الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) , وأحمد كفتارو هو المفتي العام لدولة سوريا وله علاقات غامضة بكثير من المؤسسات المشبوهة, وقد نشطا بشكل كبير في بناء المؤسسات القائمة على هذه الأفكار الوحدويّة. خصائصه: وأبرز الخصائص الفكرية لهذا النوع من الحوار ما يلي: 1 - ما سبق ذكره من خصائص لحوار التقارب. 2 - اعتقاد صحة عقائد الأديان الأخرى وعباداتها، وأنها طرق موصلة إلى الله. 3 - اعتبار الخصائص المميزة بين الأديان ظواهر وتقاليد تاريخيّة لشعب معين أو حقبة زمنية معينة, أو اعتبارها أنواعاً مختلفة توصل إلى حقيقة واحدة. 4 - العمل على المساواة بين كتاب المسلمين وعباداتهم ومساجدهم, مع ما يقابلها عند أصحاب الأديان الأخرى. ومن ذلك (¬4): - الدعوة إلى طباعة المصحف الشريف والتوراة والإنجيل في كتاب واحد بين دفتين. - بناء مجمع لأماكن العبادة يضم مسجداً وكنيسة وكنيساً. - تبادل الزيارات بين عمار المساجد ومرتادي المعابد مما يزيل الجفوة ويولد المودة. - إقامة الصلوات المشتركة في أماكن العبادة لمختلف الأديان, سواء بابتداع صلاة يشترك فيها الجميع, أو بأن يصلي كل واحد صلاة الآخر وغيرها من الشعائر التعبديّة. حكمه: ومن خلال الخصائص السابقة لهذا النوع من الحوار يتبين أنه كفر خالص وردة عن الدين لأمور كثيرة منها: ¬

(¬1) دعوة التقريب بين الأديان 1/ 339. (¬2) انظر: التحليل المفصل لنظرية جارودي ونقدها في دعوة التقريب بين الأديان 2/ 839 - 937. (¬3) انظر دراسة كاملة عنه في المصدر السابق 3/ 136. (¬4) انظر: الإبطال لنظريه الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان ص /13 - 24 - 96, ودعوة التقريب بين الأديان 4/ 1465 - 1492

أولاً: أنه تكذيب للقرآن والسنة في تكفير اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان، وحصر الحق والنجاة في الآخرة في (الإسلام) فقط. يقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. ويقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19]. ومن أصول العقائد الإيمانيّة الضرورية في دين الإسلام: "اعتقاد كفر من لم يدخل في هذا الإسلام (¬1)، من اليهود والنصارى وغيرهم, وتسميته كافرا وأنه عدو لنا، وأنه من أهل النار (¬2) قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]. ومن نواقض الإيمان القطعية تكفير من لم يكفر الكافر الأصلي, كاليهود والنصارى وأهل الأديان؛ لأن عدم تكفيرهم تكذيب لخبر الله وخبر رسوله في كفرهم، ومعاندة لحكمه فيهم, ولا مجال للحديث التفصيلي عن أوجه كفر أهل الكتاب وغيرهم. ثانياً: أنه طعن في نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- من حيث شمولها وكفايتها وختمها لسائر النبوات (¬3). ثالثاً: أنه طعن في أصول الإسلام وجذوره الأساسية, مثل شهادة لا إله إلا الله التي تقتضي الكفر بالطاغوت, الذي هو من أبرز شروطها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل) (¬4) , وهذا الحديث يدل على أن قول لا إله إلا الله وحده دون اعتقاد أو عمل-غير عاصم للدم والمال الذي هو علامة على ثبوت الإسلام- ولا معرفة معناها مع لفظها, ولا الإقرار بذلك, بل لابد من الكفر بما يعبد من دون الله وهو الطاغوت، وكذلك طعن في شهادة أن محمداً رسول الله وقد تقدم. وتأسيساً على ما سبق: "فإن الدعوة إلى (وحدة الأديان) إنْ صدرت من مسلمٍ فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عز وجل، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناءً على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً, محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام، من قرآن وسنة وإجماع " (¬5). خامساً: حوار توحيد الأديان وحكمه: تعريفه: توحيد الأديان يقصد به "دمج جملة من الأديان والملل في دين واحد مستمد منها جميعاً، بحيث ينخلع أتباع تلك الأديان منها وينخرطون في الدين الملفق الجديد" (¬6) , والفرق بين هذا النوع والنوع السابق (وحدة الأديان) هو أن: النوع الأول: عبارة عن دين جديد مخلوط من عناصر الأديان مع الترك والخروج من الدين القديم والدخول في هذا الخليط الجديد. أما النوع السابق: فلا زال كل واحد على دينه القديم لكن كل دين, فهو صواب يوصل إلى المقصود, مع إبداع إطار عام يبرر توجهات الأديان جميعاً. وأن الخلاف بينهما مثل الاختلاف بين الآراء الاجتهادية الصحيحة في الدين الواحد. ¬

(¬1) أي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في العقائد والشرائع وهو عبادة الله وحده لا شريك له بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم (¬2) الإبطال لنظرية الخلط ص/ 93, وفتوى اللجنة الدائمة في (وحدة الأديان) برقم (1942) وتاريخ 25/ 1/ 1418هـ. (¬3) انظر تفصيل ذلك في دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1436. (¬4) رواه مسلم في صحيحة عن أبي مالك عن أبيه، رقم 23 (¬5) فتوى اللجنة الدائمة في (وحدة الأديان) برقم (1942) , وتاريخ 25/ 1/ 1418هـ. (¬6) دعوة التقريب بين الأديان 1/ 343.

خصائصه: ويميز علماء الأديان بين نوعين من أنواع الاندماج والتوحّد وهما: (1) الالتقاطية: وهي عملية دمج عناصر من الأديان دون إيجاد نسق منهجي بينها، ويُمثل لهذا النوع بالديانة "المونية" التي اخترعها المتنبي الكوري الشمالي (صن مون) (¬1). (2) التلفيقيّة: وهي عملية دمج بين عناصر من الأديان مع محاولة إيجاد نسق منهجي يربط بينها، ويمكن التمثيل بمحاولة الأب الأسباني (إيميليو غاليندور آغيلار) ومجموعته المسماة "كريسلام" (¬2). حكمه: والحكم على هذا النوع من الحوار واضح فهو دين آخر غير دين الإسلام، وهو كفر أكيد وردة لمن اعتقده من المسلمين, وحيثيات ذلك واضحة، حيث أنه مناقض لأصل الدين وأساسه والإقرار لله تعالى بالتوحيد ولرسوله- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة ولدين الإسلام بالانقياد والخضوع, وكل ما سبق في الكلام على (وحدة الأديان) يمكن ذكره هنا مع وضوح الكفر في هذا النوع أكثر من النوع السابق. الخاتمة والتوصيات: الحمد لله تعالى الذي بنعمته وبفضله تتم الصالحات وبعد: فما تقدم من العرض السابق هو رؤيتي حول هذا الموضوع، وفي ختامه لابد من الإشارة إلى أهم النتائج والتوصيات وهي على النحو التالي: أولاً: النتائج: - أن عبارة (الحوار بين الأديان) عامة تتضمن صورا وأشكالا متعددة تختلف في مدلولها من معنى لآخر، ولهذا فإن أحكامها تختلف تبعا لذلك. - أن (الحوار بين الأديان) بمعنى التداول للحديث والمناقشة والمجادلة يشمل ما دار بين الأنبياء وأهل الأديان من حوارات تدور حول الدعوة والمجادلة والمباهلة والبراءة. - أن المعنى الاصطلاحي للحوار الآن مخالف لمناهج الأنبياء في حواراتهم لأقوامهم. - إن الحوار بين الأديان الموجودة متنوع, منه حوار الدعوة والتعايش والتقارب والوحدة والتوحيد ولكل واحد خصائصه وأحكامه. - أن حوار التعايش منه الحق والصواب, وهو الموافق لمعنى البر والإحسان بضوابطه الشرعية, ومنه الباطل الذي يتضمن موالاتهم وانكار بعض الأحكام الشرعية, مثل الجهاد وحد الردة وبغض الكافرين ونحوه. - أن حوار التقارب يتضمن أمورا مخالفة ومناقضة لمنهج الأنبياء في الدعوة والحوار, مثل اعتقاد إيمان الطرف الآخر وغيرها مما تقدم. - أن حوار التوحيد والوحدة يتضمن أمور منافية لأصل الدين وهادمة له. ثانياً: التوصيات: - كشف أشكال الحوارات الباطلة, وبيان عدم انسجامها مع العقيدة الصحيحة, في دراسات وأبحاث متنوعة، وهنا أشيد بالدراسة القيمة للدكتور أحمد القاضي بعنوان ((دعوة التقارب بين الأديان)). - إيضاح الأبعاد والأهداف السياسية للحوار، واستعمال الأديان وسائل لتحقيق مآرب سياسية معينة. - إنشاء مراكز لحوار الأديان والحضارات, تظهر المفهوم الصحيح وتبطل المفاهيم الباطلة في هذا الصدد. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. ¬

(¬1) انظر الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الندوة العالمية للشباب الإسلامي). (¬2) انظر: تفصيلاً كاملاً لهذه المجموعة في دعوة التقريب بين الأديان 3/ 939 المصدر: شبكة القلم

الأعياد المحدثة

الأعياد المحدثة د. لطف الله بن ملا خوجه في هذا المبحث، ليس القصد بالذات تصديرَ حكمٍ، إنما بيان كيف بُني الحكم؛ أي هو بالأصالة جواب سؤال ابتدء بـ"لماذا"؟، وبالتبع جواب سؤال ابتدء بـ"ماذا"؟. الأعياد الطارئة على الأمة في قرون لاحقة، والتي لم تكن على علم ولا عمل بها، متعددة أهمها: المولد النبوي، وأعياد الميلاد، والأعياد الوطنية .. إلخ. وهنا نحن في محاولة معرفة العلل المؤدية لإنتاج حكم تخص هذه الطارئات، ليس مجرد معرفة الإباحة أو التحريم؛ لأن في بيان السبب، والداعي، والباعث، والعلة إقامة لبنيان الحكم مشيدة في النفوس والعقول، فلا تكون عرضة للتشكك والتقلب. لدينا قواعد قعّدتها الشريعة، تجري الأحكام وفقها، تحليلا وتحريما، فمن ذلك: 1 - العبادات توقيفية، فلا تعبد إلا بما أذن به الشارع. 2 - ما لم يكن في عهد النبوة من متعلقات الدين، مع توفر الداعي، وعدم المانع، فهو محظور. 3 - مضاهاة المشروع نوع من التشريع، والتشريع لله وحده. 4 - (من تشبه بقوم فهو منهم)، وعليه فالتشبه بالكافرين ممنوع، حتى لا يكون منهم. 5 - ما يفضي إلى محرم فهو محرم، فالعمل المباح إذا تضمن فسادا حرم. فكل عمل، كان دينيا أو دنيويا، وجدت فيه إحدى هذه العلل المانعة، أو أكثر، فهو محظور شرعا. وكل هذه دلت عليها الأدلة الكثيرة المعروفة، والتي يعرفها المشتغلون بالنصوص. والملاحظ فيها أنها جمعت بين العلل الدينية والدنيوية؛ أي منها ما هو ديني الصبغة، ومنها ما هو دنيوي الصبغة، ومنها ما يجمع بينهما. فالتعبد بما لم يرد، وفعل ما لم يفعل في عهد النبوة، هذه دينية. والفساد في الأرض هو دنيوي. وأما المضاهاة والتشبه فإنها تكون تارة في الدين، وتارة في الدنيا. * * * كل عيد محدث فيه نصيب من هذه العلل، بعضها أو كلها، فهو لا شك محظور ممنوع شرعا. لكن قبل أن نستطرد في هذا البيان للحكم، من المفيد تشخيص حالة الأعياد المشروعة في الإسلام بالوصف والنعت، لنعرف منه ما يشبهها، فيكون مضاهيا لها. فالأعياد اثنان هما: الفطر، والأضحى. وثمة عيد ثالث في معناهما من بعض الوجوه: الجمعة. ووصفنا سيكون للعيدين بالخصوص؛ لأن الكلام يدور عليهما، وعلى ما يضاهيهما، فالعيدان يضم كل واحد منهما ما يلي من الأحكام: 1 - الصلاة. وهي سنة مؤكدة فيهما على الأعيان، فرض كفاية على الأمة. 2 - الصدقة. وهي واجبة في الفطر ( .. زكاة الفطر)، وسنة في الأضحى الصدقة من الأضحية. 3 - الذبح. سنة مؤكدة في الأضحى. 4 - الفطر وعدم الصوم. واجب فيهما. 5 - التجمل، والتطهر، ولبس الجديد فيهما. 6 - اللعب واللهو المباح. 7 - الاجتماع على كل ذلك؛ أي إن كل المظاهر السابقة عامة في الجميع، إلا من كان له عذر. 8 - المعاودة كل: أسبوع، أو شهر، أو عام. 9 - ينتج من كل ما سبق: أن تلك المظاهر تدل على مشروعية تعظيم ذلك اليومين بهذه الأفعال. والجمعة فيها: الصلاة واجبة، والتنظف والتجمل سنة، وليس فيها ذبح، ولا صدقة مأمور بها، وفيها المنع من الصوم، إلا ما كان لسبب، وليس فيها اللهو واللعب. فهناك شعائر واجبة ( .. الاجتماع للصلاة، وصدقة الفطر، والفطر، وتعظيم اليوم)، ومسنونة ( .. الصدقة باللحم وغيره، والتنظف والتجمل)، ومباحات ( .. اللعب واللهو). قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط (1/ 442): "العيد يجمع أمورا: - منها: يوم عائد. كيوم الفطر، ويوم الجمعة. - ومنها: اجتماع فيه. - ومنها: أعمال تتبع ذلك: من العبادات، والعادات. وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا. وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا". فإذا عرفنا هذه المظاهر، فإن الذي يترتب على ذلك:

أن أي عيد محدث يتضمن هذه الشعائر كلها فهو يضاهي أعياد الإسلام، فيلحقه المنع بوصفه مضاهاة لما شرع الله تعالى، وفعلٌ لما لم يرد به إذن، ولم يفعل في عهد النبوة. لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد). فإن تضمن بعضها، فقد يتضمن الشعائر الواجبة أو المسنونة، فوجود هذه فيه يحظره ويمنع منه كذلك؛ لأنه وافقها في الأصول، وكفى بذلك مضاهاة، فيلحق النوع الآنف حكما. لكن إن تجاوز ذلك كله، فلا مضاهاة تامة، ولا في الأصول، لكن في اللهو واللعب والطعام والاجتماع؛ أي في المباحات، فما هذا؟. هنا خرج عن المضاهاة في الدين، وبذلك خرج من باب العبادات ليلج إلى العادات، فهل يلحقه حكم بالمنع .. هل ثمة ما يمنع من عيد يحدثه الناس، ليس فيه إلا اللهو واللعب والاجتماع؟. في العلل الآنفة الذكر، نجد أن مما هو علة للمنع: المضاهاة، والتشبه. وهاتان علتان تتعلقان بالأمور الدينية، كما تتعلق بالدنيوية. وثمة علة ثالثة للمنع: الفساد المصاحب لهذه الأعياد، إن وجد. توفر هذه العلل، أو بعضها، في أي عيد يكفي في الحظر. فإذا العيد المحدث احتوى على: اللعب واللهو، والاجتماع. فتخصيصه بهذه الأعمال من التعظيم لذلك اليوم، فيدخل بهذه الأمور الدنيوية تحت علة المضاهاة لأعياد الإسلام؛ لأن فيها كل ذلك. وإنشاء عيد ثالث أو رابع .. إلخ فيها هذه المظاهر، هي مزاحمة لأعياد الإسلام، وهذا مضاد لمقصد الشارع، حيث أراد ألا يكون ثمة عيد يزاحم أعياد الإسلام، كما روى أبو داود في سننه، في الصلاة، باب صلاة العيدين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما. فقال: ما هذان اليومان؟. قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر)). فقد كانوا فيهما يلعبون؛ أي إن فعلهم يقع في قسم المباحات، ولم يكونوا فيهما يتعبدون، ثم إنه نهاهم عنهما، يدل عليه تركهم لهما بالكلية، فلم يؤثر إعادتهم الاحتفاء بهما، فقد فهموا المنع، ولولا ذلك لبقي عليهما بعضهم؛ أولئك الذين يحبون اللهو واللعب؛ إذ العادات لا تتغير إلا بأمر حاسم. ثم إن هذا معنى البدل؛ فهو يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يُجمع بين البدل والمبدل منه، كما في قوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوا بئس للظالمين بدلا}، {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب}، {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم}، وكما في حديث المقبور: (فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به خيرا منه، مقعدا في الجنة) متفق عليه. (انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 433) إن مزاحمة أعياد الإسلام ينتج عنها من التهاون بالعيد المشروع، واللامبالاة به، ما يعني تضييع وخفوت شعائر الدين، فالعيدان من الشعائر. وهذه طبيعة في البشر والأمم، الإكثار من الشيء وكثرته يورثهم اللامبالاة به، وضعف الإقبال عليه، وهذا خطير!!، خصوصا وأن العيدين يرتبطان بركنين من أركان الإسلام، هما: الصوم، والحج. وتعظيمهما من تعظيمهما، ومثل هذه الآثار قد لا تحصل على المدى المنظور، لكن مع فهم طبيعة النفس البشرية، وتاريخ الأمم والمجتمعات، والبحث في أسباب التغيرات: ندرك أن النتيجة تلك ( .. اللامبالاة) حاصلة قطعا.

هنا دليل آخر، يمنع من الاحتفال بالأعياد المحدثة، لمجرد أنها ليست مشروعة، أو لكونها مضاهية للمشروع، هو حديث بوانة، فقد روى أبو داود في سننه، في الأيمان والنذور، في ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، عن ثابت بن الضحاك أن رجلا نذر أن يذبح إبلا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟، قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟، قالوا: لا. قال: أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم). بحسب مفهوم هذا الأثر وحدوده، من دون حصر، فإن: - العيد قد يكون زمانيا أو مكانيا .. - وقد يكون قائما، أو سابقا .. - والاحتفال به إما باتخاذه، أو بموافقة أهله بتخصيص عمل ما في ذلك العيد. ففي الأثر نهي عن: التخصيص بالذبح ( .. عبادة) .. مكانا كان عيدا .. في السابق؛ لأنه تعظيم لذلك المكان، وموافقة لأهله. ومنه نستنتج: أنه إذا كان العيد زمانيا، فله الحكم نفسه؛ إذ لا فرق بينهما ( .. المكاني والزماني) في المنع من الإحداث .. وإذا كان عيدا قائما، فأولى بالمنع من السابق الغابر .. وإذا منع من الموافقة، فاتخاذه أولى بالمنع. ثم إن هذا الحديث اختص بالمنع من الموافقة في الأعياد بالعبادات ( .. أن أذبح إبلاً .. )، والحديث السابق منع من العادات ( .. يلعبون فيهما .. ). وهكذا تكاملا. فهذا الأثر يمنع من التشبه بهم في الأعياد، وهذه العلة الأخرى للمنع من الأعياد، ولو خلت من المظاهر التعبدية ( .. الصلاة، الذبح، الصدقة)، فعلة التشبه - أيضا - مانعة من إحداث عيد جديد؛ لأن هذا العيد، بالوصف السابق المقتصر على اللهو واللعب والاجتماع: - إما أن يكون إحداثا، خاصا بالمسلمين، لم يبتدعه الكفار؛ فيدخل حينئذ في المضاهاة فيمنع. - أو يكون ابتدعه الكافرون فيكون الفاعل له متشبها بهم، فيمنع للعلتين: المضاهاة، والتشبه. وهكذا نجد: أن العلتين تتواردان على الأعياد المحدثة بالمنع، تارة إحداهما، وتارة كلتاهما، فإذا صاحبها الفساد بالإسراف، والتبرج والاختلاط، ونحو ذلك، انضمت إليهما علة ثالثة للمنع. فالعيد الذي يحدثه الكفار، لا تجوز مشابهتهم فيه للحديث المشهور: (من تشبه بقوم فهو منهم)، والتشبه في الأمور الدينية منهي عنه قطعا، هذا لا جدال فيه، والعيد من جملة الأمور الدينية، ولو لم تتخللها عبادات محضة؛ فذات الاجتماع ومظاهر الفرح يلحقها بالشعائر، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم من موافقتهم في أعيادهم باللعب والفرح، وقال: (قد أبدلكما الله بخير منهما). قال ابن تيمية: "الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، التي قال تعال عنها: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه}، كالقبلة، والصلاة، والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد، وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد، موافقة في الكفر. والموافقة في بعض فروعه، موافقة بعض شعب الكفر. بل الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع". (اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 470) قال الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاواه 3/ 106: "الأعياد كلها من باب العبادة". وهكذا نصل إلى معرفة أحكام هذه الأعياد المحدثة: المولد، والميلاد، العيد الوطني. فالمولد محدث في الدين؛ كونه مرتبطا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مظاهر تعبدية كالذكر، ولم يرد فيه نص، ولم يفعله الصحابة، مع تمكنهم وعدم المانع، كما أن فيه تشبه بالنصارى، فهم الذين يحتلفون بعيد ميلاد المسيح عليه السلام. هكذا تتوارد على هذا العيد أكثر من علة للمنع. والاحتفال بعيد الميلاد الشخصي فيه التشبه، وإن خلا من المضاهاة بالاجتماع.

والعيد الوطني إن كان فيه اللعب واللهو والاجتماع على ذلك، فيكون مظهرا عاما للجميع، تتعطل الأمور كلها لأجل ذلك: فإنه بذلك يضاهي أعياد الإسلام، من حيث هذه المظاهر كلها والتعظيم، فيدخل في باب الحظر. كما أنه يحظر لعلة أخرى هي: التشبه. فالأعياد الوطنية تقليد لم يعرفه المسلمون. لكن إن كان مجرد تذكير كلامي بالحال قبل وبعد، وكيف كان قيام الوطن خيرا على الناس، فذلك لا يدخل في باب المضاهاة، ولا تحت أية علة من العلل السابقة، بل هو كالتذكير بالأمجاد الإسلامية. هذا وتنمية حب الوطن وخدمته، له طرق كثيرة بديلة، ليس فيها شيء من المخالفات الشرعية. بقي التفريق بين هذه الأعياد المحدثة الممنوعة، وبين تخصيص يوم أو أيام في العام لأعمال تعم نفعها، مثل أسبوع الشجرة، أو بدء الدراسة، أو النظافة، أو المرور ونحو ذلك، فهذه لا تدخل تحت العلل المانعة عبادة، ولا تدخل تحت التشبه كذلك؛ لأن التشبه على نوعين: في العبادات، وهذا ممنوع. وفي العادات وهو على قسمين: - تشبه بهم في خصائصهم الدنيوية، من دون أن يكون من ورائه مصلحة راجحة، فيمنع لأن من مقاصد الشريعة، مخالفة أصحاب الجحيم. - تشبه بهم في الخصائص الدنيوية، لكن تجتنى من ورائه مصلحة راجحة، فلا مانع، ويدخل في هذا الباب كل وسائل العصر التنقية وغيرها. فإذا عرضنا تلك الأعمال، فقد لا يكون فيها أي تشبه، وليس فيها أية مظاهر ( .. مضاهاة) للعيد الشرعي، فلا وجه للمنع منها إذن؛ لأن المقصود بها التنظيم، والاستعانة على تحقيق مصالح راجحة، ليس فيها لهو ولا لعب، ولا اجتماع على ذلك، فإن الذي يعتني بها في العادة، قطاعات ومجموعات تختص بتلك الأعمال. فهي بالمختصر لا تشبه الأعياد في شيء، سوى تكرارها كل عام، وقد لا تتكرر في الوقت نفسه. وإن تكررت فلأن المصلحة لا تتحقق إلا بذلك، كبدء الدراسة. وقد وقفت على فتوى للشيخين: ابن باز، وعفيفي. في هذا المعنى، قالا فيها: "أولا: العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد، إما بعود السنة، أو الشهر، أو الأسبوع، أو نحو ذلك، فالعيد يجمع أمورا منها: يوم عائد، كيوم الفطر ويوم الجمعة. ومنها: الاجتماع في ذلك اليوم، ومنها: الأعمال التي يقام بها في ذلك اليوم من عبادات وعادات. ثانيا: ما كان من ذلك مقصودا به التنسك والتقرب أو التعظيم كسبا للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية، أو نحوهم من طوائف الكفار، فهو بدعة، محدثة، ممنوعة داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم. مثال ذلك: الاحتفال بعيد المولد، وعيد الأم، والعيد الوطني؛ لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله، ولما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة، ولما في الثاني والثالث من التشبه بالكفار. وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلا، لمصلحة الأمة وضبط أمورها كأسبوع المرور، وتنظيم مواعيد الدراسة، والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك، مما لا يفضي به إلى التقرب والعبادة والتعظيم بالأصالة، فهو من البدع العادية، التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فو رد)، فلا حرج فيه. فيكون مشروعا". فتاوى اللجنة 3/ 88 (9403) والله أعلم. * * *

مناهج الإسلاميين في مقاومة التغريب

مناهج الإسلاميين في مقاومة التغريب إبراهيم السكران أصبح هناك اليوم منهجان واضحان لصيانة الهوية ومقاومة تهديدات التغريب, وإذا شئنا أن نتجاوز المفاهيم الثقافية إلى جوهر الإشكالية في عبارة بسيطة، فإن الفتنة التي تعرض للشباب المسلم اليوم هي "استعظام دنيا الكفار", والمراد أن هذه الفتنة المعاصرة خلقت منهجين لمقاومتهما, كلاهما يحاولان الإجابة على إشكالية "مقاومة تهديدات التغريب" وهذان المنهجان: أولهما: منهج "تعظيم الدنيا" ويستهدف هذا المنهج إعادة عرض الوحي في صورة المعظِّم لشأن عمران الدنيا, وإعادة عرض التراث باعتباره ينشد الحضارة والمدنية الدنيوية, وهدف هذا المنهج من إعادة رسم المشهد بهذه الطريقة "تلافي الاصطدام بين سطوة الحضارة والدين" حتى لا يتخلى الناس عن عقيدتهم وإيمانهم وتراثهم إذا رأوها لا تدفع باتجاه الحضارة الدنيوية, وهذا المنهج أخذ به بعض المنتسبين للُّغة الدعوية الحديثة, ولا يشك الإنسان أن كثيراً منهم أخذ بهذا المنهج بحسن قصد بهدف تقريب الإسلام للناس وخصوصاً للطبقات المثقفة بالثقافة الغربية المعاصرة, حيث يردد كثيراً أصحاب هذا الاتجاه (إن آخر ما يمكن أن نقاوم به التغريب هو التزهيد في الدنيا). وثانيهما: منهج "تعظيم العبودية" ويستهدف هذا المنهج تربية الناس -والشباب خصوصاً- على ما تواتر عليه القرآن والسنة وفقه القرون المفضلة من "تعليق القلوب بالآخرة", والاستعلاء على حطام الدنيا وزهرتها, واعتبارها مجرد وسيلة نحرص عليها لننصر مبدأنا لا لكونها عظيمة في ذاتها, وترسيخ هذا المعنى في النفوس. فإذا امتلأ قلب الشاب المسلم بمعاني "تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا" أصبحت القرون المفضلة في وعيه أرقى المجتمعات وأشرفها بما بلغته من تنوير العلوم الإلهية ومنازل العبودية ثم الاجتهاد في تحصيل وسائلها الدنيوية مع عدم الركون إليها, وأصبح المجتمع الغربي في نظره حالة من الانحطاط والظلامية بسبب ما سُلِبه من تنوير العلوم الإلهية والإعراض عن الله, والاستغراق في تدبير المعاش الحاضر وعلم ظاهر الحياة والدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون, وهذا المنهج أخذ به جماهير الإسلاميين اليوم ولله الحمد. والواقع أنه عند التأمل والتدبر يكتشف الإنسان -بكل بداهة- أن المنهج الثاني هو المنهج الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم, وربّى أصحابه عليه. فإن أصحاب النبي رضوان الله عليهم لم يستطيعوا أن يدكوا حضارة فارس والروم إلا حين زكى النبي صلى الله عليه وسلم نفوسهم وربى فيهم تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا, والشموخ بالعلوم الإلهية, فرباهم على ذلك بكل حدث يمرون به, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغل الأحداث والوقائع لترسيخ معنى إرادة الله والدار الآخرة في نفوس أصحابه والاستعلاء على مظاهر الدنيا واعتبارها مجرد وسيلة لبناء المستقبل الأخروي. والشواهد والمستندات التي تؤكد أن هذا المنهج هو "المنهج النبوي" في مقاومة تهديدات الهوية كثيرة جداً, بل أكثرها يعرفها القارئ الكريم, ومنها على سبيل المثال أنه حين مر النبي صلى الله عليه وسلم بالجدي الأسك استغل الحادثة وربى في أصحابه حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة, فكما روى مسلم من حديث جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية, والناس كنفته, فمر بجدي أسك ميت, فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء, وما نصنع به. قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).

وحين أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية, أعاد ذات الدرس عليهم, فكما روى البخاري عن البراء بن عازب قال: (أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرقة من حرير, فجعل الناس يتداولونها بينهم ويعجبون من حسنها ولينها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون منها؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة خير منها). وحين تضايق عمر من بذاذة بيت رسول الله بالنسبة إلى قصور الحضارات الأخرى, رباه النبي صلى الله عليه وسلم بحزم على هذا المعنى, حيث روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب أنه قال: (رفعت رأسي في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أُهباً ثلاثة, فلما رأيت أثر الحصير في جنبه قلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله, فاستوى النبي جالسا ثم قال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا»). هذا الحوار العظيم بين النبي وعمر من أدق المشاهد التي تحكم بين المنهجين السابقين وتفصل فيهما, فحين عبَّر عمر عن تألمه وهو يقارن "المظاهر الدنيوية" في الحضارة الفارسية والرومية بمحدودية المجتمع الإسلامي, لم يعبر له صلى الله عليه وسلم عن "تعظيم الدنيا" ليداري سطوة الحضارة عليه, فلم يقل له النبي إن لدينا نصوصاً كثيرة في فضل عمران الدنيا ونحن نسعى لبنائها أيضاً. بل بالعكس من ذلك تماماً, فقد حذره من أن يغتر بتلك المظاهر المدنية الدنيوية, وأعاد تذكيره بقطب رحى الإسلام "مركزية الآخرة", وخاطبه بعبارة شديدة فيها استعظام لموقف عمر, فقال له: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) وفي رواية أخرى في الصحيحين أن النبي قال له: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟). هذه هي التربية النبوية, وهذا هو منهج النبوة في مقاومة سطوة الحضارات الأخرى, أما إذا أكدنا للمتسائل عظمة الدنيا فقد أججنا دوافع الانبهار أصلاً, وصببنا الزيت على النار, ذلك أن استعظام دنيا الكفار لا يعالج بـ"تعظيم الدنيا", لأنه وبكل بساطة لا يعالج الأثر السلبي بتكريس دوافعه! فهل عالج القرآن الركون بتأكيد احترام الإسلام للدعة؟ وهل عالج القرآن التثاقل إلى الأرض عن الجهاد بتأكيد احترام الإسلام لجبلَّة كراهية القتال؟ وتأمل في كل الآثار السلبية لا تجد القرآن يعالجها بتأكيد دوافعها, وهذا أمر ظاهر. وإنما يحسن بيان "أهمية الدنيا" في حالتين فقط: إما أن يوجد مثقف يظن أن الإسلام يدعو للرهبنة وتحريم الطيبات والرفاه, فهذا يبين له أن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين من أكل الطيبات, وأن الله لم يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق, وأنه من أَخذ المال بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع, وأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه, ونحو ذلك. وأما الحالة الثانية: فهي أن يوجد شاب متحمس يظن أن العمل للإسلام لا يستحق تحصيل الأسباب والسعي فيها وأنه ليس ثمة سنن كونية للنجاح الإصلاحي, فهذا يبين له أمر الله بإعداد القوة واتخاذ الأسباب, وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وأن النبي ظاهر بين درعين, وقال (ألا إن القوة الرمي) , وأن قوم شعيب قالوا: {ولولا رهطك لرجمناك} , ونحو ذلك.

فمثل هذين الحالين -وإن كانا ليسا شائعين بحمد الله- يحسن فيهما بيان أهمية الدنيا لا يخالف في ذلك أحد من فقهاء الإسلام, أما تحويل الخطاب الديني كله إلى شحن قلوب الناس والشباب المسلم بتعظيم الدنيا والمغالاة في قيمة المدنية المادية وإقرار كونها المعيار في تقييم المجتمعات والشخصيات فهذا انحراف مصادم للمنهج القرآني والتزكية النبوية وهدي القرون المفضلة. ومما يؤكد ما سبق أنه حين جاءت الجزية من البحرين صلى بعض الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم متعرضين له، علّه أن يصيبهم من المال، فأعاد النبي درس الدنيا/الآخرة فكما روى البخاري في الصحيح عن عمرو بن عوف الأنصاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي, فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين, فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم, فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ قالوا أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم, فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم). وهذا المعنى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الفقر على أمته, بل كان يخشى عليهم المنافسة في شؤون الدنيا, أعاده عليهم بحروفه, وذلك حين صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين, كما روى البخاري في الصحيح عن عقبة بن عامر قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات, ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط, وأنا عليكم شهيد, وإن موعدكم الحوض, وإني لأنظر إليه من مقامي هذا, وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها. قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). بل كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقارن بين قيمة الدنيا وقيمة الآخرة, فكما قارن بين مناديل سعد في الجنة والدنيا, فإنه قال كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها, ولقاب قوس أحدكم من الجنة, أو موضع قيد يعني سوطه, خير من الدنيا وما فيها). وقد كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أن الرفاه التام إنما هو في الآخرة, وأن الكفار هم الذين يتتبعون ألوان الرفاه في الدنيا كما نبههم على ذلك حين حرَّم الحرير وآنية الذهب فقال لهم: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها, فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) خرجاه من حديث حذيفة. بل تأمل في صورة الدنيا كلها كيف ضرب لها النبي صلى عليه وسلم مثلاً فريداً فقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر). وضرب لها مثلاً آخر فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء).

ومن وجه آخر لم يكتف الخطاب القرآني ببيان وسيلية الدنيا وخطر تعظيمها فقط, بل كانت آيات القرآن تتنزَّل على مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوالية في وقائع متتابعة تؤكد مرة بعد أخرى على تعميق الشعور بفرادة المجتمع المسلم وعلوهم على كل قوى المجتمعات الدنيوية الكافرة, انظر كيف تزكيهم آيات القرآن بهذا المعنى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] والخطاب في هذه الآية ليس لرسول الله بل هو لـ"المؤمنين" في مجتمع الصحابة ومن بعدهم, كم هي دلالة عميقة أن تكون هذه الآية نزلت أصلاً في لحظة "انكسار عسكري" أمام قوى الكفر, ومع ذلك يؤكد لهم تعالى أنهم "الأعلون", بل ولا يعتبر هذا المعنى مجرد "تشريف" بل هو "عقيدة" ولذلك ربط التمسك بها بصحة الإيمان فقال: {إن كنتم مؤمنين}. هذا المعنى لـ"علو الإيمان" لا يعقله التغريبيون المعاصرون, ولذلك إذا رأوا بعض الدول الإسلامية المستضعفة تتساقط تحت قوى الإمبريالية الغربية, يرددون: إن دعاة الإسلام هم باعة الوهم ومروجو التضليل وتغييب الوعي إذ خدرونا بشعار "استعلاء الإيمان" ونحن نتساقط تحت قوى الكفر. وهذا من أبين الأدلة وأظهرها على أن المعيار الإلهي لقيمة المجتمعات ليس هو "مظاهر القوة المدنية" بل المعيار الإلهي هو "العبودية" بمعناها الشامل, الذي تكون فيه التزكية الإيمانية وفروض الأعيان في هرمه, ويليها الفروض الكفائية ومصالح المسلمين العامة. وعلى أية حال، أمثال هذه النصوص الشرعية لا تخفى القارئ العزيز قطعاً, بل هو يعرف مثلها وزيادة, وإنما المقصود تذكير النفس والإخوان بها, والإشارة إلى طرف من البراهين الكثيرة على صحة المنهج الإسلامي في صيانة الهوية ومقاومة تهديدات التغريب, وضعف المناهج الحديثة. وكون الدنيا وسيلة للآخرة, يؤكده ما ذكره بعض محققي الأصوليين من أن وظيفة التشريع إقامة مصالح الدنيا لتقوم مصالح الآخرة, كما قال الإمام أبو حامد في الإحياء: (وأحكام الخلافة, والقضاء, والسياسات, بل أكثر أحكام الفقه, مقصودها: حفظ مصالح الدنيا, ليتم بها مصالح الدين). مع أن هذه بعض وظائفها, إلا أنه ربطها بالهدف النهائي وهو إقامة الدين, والكلام على تعليل الشريعة سبق في مقالة "مآلات الخطاب المدني". ومن تأمل في "تراجع الخيرية" في قرون الإسلام الأولى علم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة ما لا يحصل لسابقيهم, وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمن سبقهم, وما داخل القلوب من التثاقل إلى الأرض. بل إن من تأمل لحظة ارتطام الفكر الإسلامي بسطوة الحداثة اليونانية في تاريخ الإسلام المبكر وكيف سببت ارتجاجات وفقدان تماسك لدى كثير من العباقرة والأذكياء, علم أن أئمة الإسلام الذين ثبتوا في تلك المحنة لم يتمكنوا من مقاومة تلك الأعاصير الحداثية إلا حين كانت العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم الرسل أعظم في نفوسهم من كل ما سواها, فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين كل خير. وهذه البراهين السابقة إنما هي مستقاة من دروس القرآن والسنة وهدي القرون المفضلة, أما لو شئنا الانتقال إلى "النتائج الواقعية" وقارنَّا مثلاً بين "مخرجات المدرسة التربوية الإسلامية" وبين مخرجات الخطاب الديني المتبني لـ"تعظيم الدنيا" فسنرى البون الشاسع في الفعالية والنجاعة.

فمخرجات المدرسة التربوية الإسلامية عميقة الإيمان بمرجعية الوحي, وشديدة الاعتزاز بسلفها, متشبعة بقيم العمل للإسلام والغيرة على الدين, وراسخة الإيمان بظلامية الثقافة الغربية, وجادَّة في امتلاك الوسائل الحديثة كالتخصصات العلمية والمؤسسات الإعلامية وتوظيف التقنيات البرمجية والاتصالية, وغير ذلك مما هو ظاهر لكل أحد, فانظر كيف أن اتِّباع منهج الوحي وهدي القرون المفضلة في تعظيم الآخرة لم يقدها إلى الرهبانية كما يزعم غلاة المدنية, بل قادها إلى النجاح في تنظيم هرمية اهتماماتها بشكل صحيح, فكانت تلك المخرجات التربوية أنجح من غيرها في دينها ودنياها ولله الحمد. وبالمقابل قارن ذلك بمخرجات "خطاب التأويل الديني" المتبني لـ"تعظيم الدنيا" تجد من يتصالح معه من العلمانيين لم يتزحزحوا عن علمانيتهم قيد أنملة, ومن استمع له من الشباب الدعاة وتشبع بمفاهيمه تجد الكثير منهم اضطربت معاييره, فنقصت هيبة السلف في نظره, وارتفعت قيمة الكفار, وبدأ يشعر بسذاجة المشروعات الدعوية الإيمانية, ثم خسارة "المكتسبات السلوكية" الراقية التي تربى عليها, وغير ذلك من المظاهر المعروفة. فأين هذا المنهج من ذاك؟ وأساس الخلل الذي لم يتنبه له خطاب التأويل الديني المتبني لـ "أولوية المدنية المادية" هو أنه يمارس دون وعي "إعادة تشكيل داخلي للمعايير" بما يتناقض مع المعايير الإلهية لقيمة المجتمعات والشخصيات والثقافات والأمم. صحيح أن من اقترب من بعض النخب المثقفة -التي ابتلي بعضها بالتبرم بدين الله- فسيرى أن محاولة إبراز معاني المدنية في القرآن والسنة والتراث لهم يساهم في تخفيف احتقانهم, لكن هذا المنهج وإن كان يخفف بعض الاحتقان لدى أمثال هؤلاء؛ إلا أنه يدمر الشاب المسلم الذي تربى على معاني الإيمان، ووقر في قلبه إيثار الله والدار الآخرة. وأصدقك القول أيها القارئ الكريم أنني تأملت كثيراً في ظواهر الانحراف الثقافي في صحافتنا ومنتدياتنا -وخصوصاً في مستوياته الشبابية- فرأيت أنه إذا تشرب قلب الشاب "الغلو المطلق في أولوية المدنية المادية" بحيث أصبحت "معياره" في تقييم المجتمعات والشخصيات قاده ذلك "تدريجياً" إلى زهاء خمسة عشر كارثة: التحييد العملي للنص, والإزراء بالقرون المفضلة, والاستخفاف بقيمة علوم الشريعة, واللهج بتعظيم الكفار, والسرور بالحديث الفكري المجرد, والتدهور السلوكي, والعزوف الدعوي, والتحول للمشروعات الفكرية "الشخصية", واستسذاج الموعظة والخطاب الإيماني, والحدة في محاسبة الإسلاميين, والرحابة وحسن الظن تجاه الدراسات المنحرفة, وذبول الحَمية لله ورسوله تجاه الكتابات المنتهكة للمحكمات, والتركيز على زلات المحتسبين بما يفوق عدوان المجاهرين, والتلذذ بمناهضة الفتاوى, والولع برخص العلماء وشذوذات الفقهاء. وباختصار شديد: (إن خطاب التأويل الديني يبدأ بالتجديد وينتهي بالتجديف). ومن الإنصاف أن أؤكد أن أمثال هذه الكوارث لا يجمعها كل من غلا في المدنية وجعلها فوق الإيمان والفرائض, بل هناك تفاوت هائل لا ينضبط طرفاه, وهذا أمر يعرفه كل من تابع الساحة الثقافية, فبعضهم يقارف بعضها وبعضهم يزيد عليها, بل بعضهم فاضل في ذاته لكنه لم يحسم رؤيته تجاه هذه المظاهر نسأل الله أن يحفظ مثل هذا النمط. وإنما المراد أن أمثال هذه المظاهر الكارثية بمجموعها باتت مشاهد مؤلمة ومحزنة تستدعي استيقاظ الشعور وصعق إحساس الدعاة لإطفاء الحريق في منزلنا الداخلي, يجب أن نعمل سوياً بكل ما نملك لتحريك الوعي بهذه الأزمة, والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

والمقصود هاهنا أن الأمر المشاهد المعلوم الذي أكدته التجارب الحية أن بعض النخب المثقفة المحتقنة تجاه الدين حتى وإن خف احتقانها عن طريق خطاب التأويل الديني المتبني لـ"أولوية الدنيا" فإنها تستمر في فرض الرقابة على النص الديني, وتطالبه دوماً أن يكون مبرِّراً ومسوِّغاً لمنتجات الحضارة المعاصرة, ولا تقبل منه أن يمارس دوراً سيادياً حقيقياً. ولا يشك مؤمن أن هذه الحالة التي هي "فرض الرقابة على النص" ليست مكسباً دعوياً ولا منجزاً يتشرف الإنسان بتحقيقه, بل هذه الحالة لا يرضى بها من عقل حقيقة الإسلام الذي هو "امتلاء القلب بالاستسلام لله", فالانقياد والخضوع والانصياع والتسليم والامتثال هو جوهر حقيقة الإسلام, ولذلك اشتهر بين أهل العلم تعريف الإسلام بأنه "الاستسلام", وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى الجوهري في حقيقة الإسلام, كما جاء في قوله تعالى: {ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى} [لقمان:22]. كما أقسم الحق تبارك وتعالى على هذا المعنى في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا} [النساء:65]. فانظر كيف أقسم تعالى هذه المرة بذاته العظيمة-لا بشيء من مخلوقاته كما هي غالب أقسام القرآن- وما ذاك إلا تعظيماً للمُقسَم به, وهو نفي الإيمان على من لم يرض ويسلم لأوامر الشارع ونواهيه مع تنظيف القلب من كل حرج أو تردد في القبول. وأكد سبحانه أنه ليس للمؤمن اختيار أمام أوامر الله ونواهيه, كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فبالله عليك أخي القارئ تأمل هذا المعنى الذي علق الله عليه الإيمان, ثم قارنه بموقف بعض النخب المثقفة التي لا تبتهج بالوحي إلا إذا وافق الحضارة المعاصرة, فإذا لم يوافقها مارست أشد أساليب التعنت في تطلب الحسم الدلالي, وستجد حتماً أن ذلك نابع من شعبة خفية في القلب تعبر عن شرخ عميق في "أرضية الانقياد" التي يقف عليها إسلام المرء. ولذلك تجد بعضاً منهم لا يسأل أصلاً عن موقف الوحي من هذه المستجدات والمنتجات والتطبيقات والأفكار والفلسفات, بل يتمنى أن لا يثير أحد هذا الموضوع أصلاً, فإذا جُوبه بالدليل استنجد بصناع التأويلات. ألا يعكس ذلك ضمور الشغف بمرجعية الوحي؟!. وبعض آخر -من هذه النخب المثقفة- يشعر شعوراً عميقاً أن الوحي ليس لديه إضافة جوهرية للحضارة المعاصرة, بل يعتبر أن أعظم خدمة يسديها للوحي هو أن يؤكد للناس أنه موافق لإبداعات الحضارة المعاصرة, وأن الوحي ولله الحمد ليس ضدها, ونحو ذلك, وهذا جهل عميق بوظيفة النبوات أصلاً, فإن الله تعالى بين أنه بعث النبوات وأنزل معهم الكتب السماوية بهدف أن "تحكم" بين الناس في كل شؤون حياتهم, لا أن تسوِّغ لهم حياتهم, كما قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213].

وتأمل في هذا الشمول الذي ذكرته هذه الآية عن وظيفة الكتب السماوية {ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} حيث تؤكد هذه الدلالة الشاملة أن "الحاكمية" ليست مقتصرة على الجانب التشريعي فقط, بل يدخل في ذلك الحاكمية الفلسفية والفكرية والثقافية وكل ما يختلف الناس فيه, مما يبين أن الصراع مع العلمانية اليوم لا يتوقف على "العلمانية التشريعية" التي تدعوا لإقصاء الشريعة عن الأوعية القانونية والمؤسسة القضائية, بل هناك صراع أعمق مع "العلمانية الثقافية" التي تدعوا -نظرياً أو عملياً- لعزل الوحي عن الحاكمية في نقاش القضايا الفكرية والمنهجية والشؤون العامة. فإذا أعاد المؤمن تدبر قوله تعالى عن "وظيفة النبوات" {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} شعر بالهوة الكبيرة التي تفصل بين منهج "تبيئة الحضارة" بمعنى تسويغ منتجات الحضارة عبر التأويلات المتكلفة وشذوذات الفقهاء, وبين منهج "هداية الحضارة" الذي امتلأ باليقين بشدة حاجة أمراض هذه الحضارة إلى الدواء الإلهي. إنه بكل بساطة افتراق جذري متصاعد بين من يريد "تقليص" دور الوحي في حياة الناس, وبين من يريد "تفعيل" دور الوحي وبسط هيمنته على الحياة العامة. والمقصود هاهنا بيان أن هذه "الحالة الدينية" التي سبقت الإشارة إليها -وهي أن بعض المثقفين المحتقنين انتفعوا بخطاب التأويل الديني المتبني لـ"تعظيم الدنيا"- إنما تعبر في الحقيقة عن تدين "غير جاد" ذلك أنه مربوط بمقدار ما يقدمه الوحي من "معطيات دنيوية", فإذا نقصت هذه المعطيات الدنيوية أصابته فتنة, وهذه الحالة الدينية المهترئة حالة قديمة قد كشفها لنا القرآن بشكل مبكر, كما يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج: 11]. وقد استنبط ترجمان القرآن ابن عباس هذا المعنى أيضاً من قوله تعالى {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} حيث يقول رضي الله عنه في معنى هذه الآية: (كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر). فإذا وازن العاقل بين "مكسب" تخفيف احتقان بعض النخب المثقفة تجاه الدين, وبين "خسارة" حرارة التدين عند آلاف الطاقات الشبابية الدعوية, علم يقيناً أنه ليس من العقلانية في شيء أن نستصلح بضعة مثقفين محتقنين يعبدون الله على حرف, ونخسر آلاف الشباب المسلم الذين يعدون مكتسبات أضخم وأهم, إذ هم قاعدة الإسلام وأمله القادم. كم نحن بحاجة إلى التطعيم المسبق بمصل إيماني يحمي شباب الإسلام أن يجرفهم وهج الحضارة المادية ومعايير المدنية الدنيوية, ليواصلوا مسيرتهم النهضوية دون أن ينهار "سلم الأولويات", فتراهم في كل حقل يسبقون غيرهم مع امتلاء قلوبهم بعظمة الوحي وعبقرية القرون المفضلة ومتاعية الدنيا وانحطاط الكفار. والله الشاهد أنني ما كتبت المقالات السابقة إلا بهدف أن تكون "حصانة وقائية" للشاب المتدين أن ينجرف في طريق بات معروفاً لكل ذي بصيرة, ومعلوم كيف تدهور فيه عشرات من الشباب الذين كانوا طاقات دعوية ومشاعل هداية, فأصبحوا اليوم من أعظم المتثاقلين عن الفرائض, وأشد الناس ضيقاً بالذكرى والموعظة, وأكثر الناس هجراناً للوحي, فضلاً عن العمل للإسلام وحمل هم المسلمين.

سمات المرجئة والخوارج وأهل الغلو

سمات المرجئة والخوارج وأهل الغلو علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف المشرف العام على موقع الدرر السنية 26 رمضان 1429هـ اعلم أن من قال بإحدى هذه العبارات فقد وقع في الإرجاء أو دخلت عليه شبهته: 1 - الإيمان تصديق بالقلب فقط. (جهمية) 2 - الإيمان نطق باللسان فقط. (كرَّامية) 3 - الإيمان تصديق بالقلب ونطق باللسان (مرجئة الفقهاء) 4 - الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالقلب دون الجوارح. 5 - الإيمان لا يزيد ولا ينقص والناس في أصله سواء. 6 - الكفر تكذيب فقط (جهمية) 7 - الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد أوالجحود والاستحلال، ويستشهدون بقول الطحاوي رحمه الله في عقيدته: ((ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، مالم يستحله)). (والصواب أن يقال: الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب -دون الشرك أو الكفر-، مالم يستحله). 8 - ترك جميع أعمال الجوارح (جنس الأعمال كما يسميه ابن تيمية) ليس كفراً مخرجاً من الملة. (ووجه كونه إرجاءً لأنه يلزم منه أن أعمال الجوارح ليست ركناً في الإيمان بل ولا عمل القلب كذلك، وهذا باطل لارتباط الظاهر بالباطن فيمتنع وجود عمل القلب مع انتفاء عمل الجوارح). 9 - أعمال الجوارح شرط كمال في الإيمان وليست ركناً ولا شرط صحة. (والصواب في هذا أن يقال: جنس أعمال الجوارح ركنٌ في الإيمان، وآحادها - عدا الصلاة- من مكملاته) 10 - الأقوال والأعمال الكفرية ليست كفراً ولكنها تدل على الكفر. 11 - المكفرات القولية والعملية المخرجة من الملة هي ما كان مضاداً للإيمان من كل وجه أو ما كانت دليلاً على الكفر، وجَعْلُ مناط التكفير كونها مضادةً للإيمان من كل وجه أو كونها تدل على ذلك. (والصواب أن يقال: المكفرات القولية والعملية المخرجة من الملة هي ما دل الدليل على كونها كذلك، وهي مضادة للإيمان من كل وجه وتدل على كفر الباطن، ولا بد) فتأمل الفرق. 12 - جعلهم الشهوة وعدم القصد من موانع التكفير. (ووجه كونه إرجاءً أن مآله إلى حصر الكفر في الاعتقاد، أما إن عُني بالقصد: العمد المقابل للخطأ فنعم، فالخطأ من موانع التكفير، لكن ليُعلم أنه يكفي أن يقصد (يتعمد) عمل الكفر، ولا يلزم منه أن يقصد الوقوع في الكفر) 13 - ترك الصلاة ليس كفراً لأنه من أعمال الجوارح، وعمل الجوارح شرط في كمال الإيمان. (ووجه كونه إرجاءً أن قائله لا يكفِّر بالعمل وإنما الكفر عنده اعتقاد فقط، فمسألة الصلاة من أظهر المسائل التي أجمع الصحابة على كفر تاركها، أما لو رجَّح عدم كفر من يصلي تارة ويترك تارة لأدلة شرعية لديه -كما قد وقع من بعض السلف- أو أن الإجماع لم يبلغه، فهذا لا صلة له بالإرجاء). ومن هنا يُعلم خطأ ما يردده البعض من مقولةٍ لبعض السلف: ((من قال إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وأنه يزيد وينقص، فقد بريء من الإرجاء كله، أوله وآخره)). وهي مقولة حق ولا شك ولكن على فهم قائليها، وهو أنَّ العمل والقول والاعتقاد أركان في الإيمان لا يجزيء أحدها عن الآخر، وإلا فمن قال ذلك وهو لا يرى أعمال الجوارح ركناً في الإيمان، أو قال ذلك وهو يحصر الكفر في التكذيب والاستحلال فإنه قد نطق بما قاله السلف في تعريف الإيمان لكن لا على الوجه الذي أرادوه، وهذه العبارة شبيهة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" فما يقول هؤلاء فيمن قالها ولم ينطق بشطر الشهادة الآخر - محمد رسول الله-، أو قالها وارتكب ناقضاً من نواقضها، فهذه كتلك. ولهذا حذَّر أهل العلم من بعض الكتب وأنها تدعو إلى مذهب الإرجاء، مع تبنيها أن الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص. والله أعلم. انظر: هامش شرح ((العقيدة الواسطية)) للعلامة محمد خليل هراس الطبعة الرابعة (ص263) تعليقاً على كلام شيخ الإسلام في مسائل الإيمان. ******************* واعلم أن هناك سماتٍ من اتسم بها أو ببعضها فهو خارجي، أو وقع فيما وقعت فيه الخوارج من الغلو: 1 - تكفير صاحب الكبيرة 2 - تكفير من وقع في معصية وأصر عليها. 3 - القول بأن الإيمان شيء واحد لا ينقص، فإذا ذهب بعضه ذهب كله. 4 - جواز الخروج على الحاكم المسلم لجوره وظلمه، وإن لم يُرَ منه كفرٌ بواحٌ. ((ووجه كونه خارجية، أنه قد استقر رأي أهل السنة والجماعة على عدم جواز ذلك، وخالفت الخوارج)) 5 - عدم العذر بالجهل مطلقاً. ((والصواب أنَّ الجهل قد يكون عذراً وقد لا يكون؛ ففيه تفصيل)) 6 - تكفير كل من حكم بغير ما أنزل الله ولو في قضية معينة. ((والصواب: التفريق بين التشريع العام وجعله ديناً متبعاً وقانوناً ملزماً وبين جعل الشريعة الإسلامية هي الدين المُلْزِم، ومخالفتها وعدم الحكم بها في قضية أو قضايا معينة)) 7 - التسرع في تكفير المعين دون مراعاةٍ لتحقق الشروط وانتفاء الموانع. مقتبس من هامش شرح ((العقيدة الواسطية)) للعلامة محمد خليل هراس الطبعة الرابعة (ص267) تعليقاً على كلام شيخ الإسلام في مسائل الإيمان.

مآخذ على ما يفعله بعض الأئمة في دعاء القنوت

مآخذ على ما يفعله بعض الأئمة في دعاء القنوت علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين. أمَّا بعد فإن مما يُفرح قلوب المؤمنين ويُثلج صدورهم ويغيظ قلوب أعدائهم ما نراه اليوم من كثرة المساجد التي تُقام فيها صلاة التراويح مع أئمة نحسبهم والله حسيبهم من خيرة شباب الأمة حرصاً ونصحاً لها، وتزداد هذه الفرحة حينما يرون أن كثيراً من هؤلاء الأئمة من حملة المنهج السلفي الصحيح علماً وعملاً، لكن مما يؤسف له أن البعض منهم لا يسلم من أخطاء يرتكبها أثناء صلاته، ومن هذه الأخطاء ما هو متعلق بقنوت الوتر في صلاة التراويح، الأمر الذي يوجب التنبيه عليها لكثرة الوقوع فيها، وقلة المنبهين عليها، حتى أصبحت تلك الأخطاء سنة متبعة، مع أنها مما لا أعلم فيه خلافاً بين السلف في النهي عنه وكراهته، أمَّا ما فيه خلاف قديم مثل: كون دعاء القنوت في رمضان كله أم في النصف الأخير منه، وهل يكون قبل الركوع أم بعده؟ ونحو هذا فلن أتعرض إليه هنا. فمن هذه الأخطاء: 1 - المبالغة في رفع الإمام صوته في الدعاء، حتى يصل -أحياناً- إلى حد الصياح والصراخ. هذا يحدث مع أن الله عزَّ وجلَّ يقول: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فسمَّى الله سبحانه وتعالى رفع الصوت في الدعاء إعتداء، ويقول سبحانه: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيْلاً} وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: ((اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّاً ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً ... ))، ورفع الصوت بالدعاء بالإضافة إلى مخالفته للسنة، فهو مُذهبٌ للخشوع مجلبٌ للرياء والعياذ بالله. 2 - المبالغة في رفع الصوت بالبكاء. ينبغي للإمام إذا تأثر بالقرآن أو بالدعاء أن يدافع البكاء، فلم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبكي في الصلاة بصوت عالٍ ليبكي من خلفه، كما يفعله بعض الأئمة اليوم- هداهم الله- فيستدعون ببكائهم بكاء غيرهم، ناهيك أنهم يبكون بنحيب وعويل وشهيق، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يكتم بكاءه في صدره حتى يصبح له أزيز كأزيز المرجل- أي كغلي القدر -، قال ابن القيم رحمه الله عن هديه صلى الله عليه وسلم في البكاء: ((وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت))، ولم يشعر ابن مسعود رضي الله عنه ببكاء النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليه طرفًا من سورة النساء، إلا بعد أن نظر إليه فوجد عينيه تذرفان، والقصة في صحيح البخاري، فمدافعة البكاء إتباعٌ للسنة ومدعاة للإخلاص. 3 - الإطالة المفرطة في الدعاء.

بعض الأئمة ربما جعل دعاء قنوته أطول من صلاته، وهذا خلاف هديه صلى الله عليه وسلم إذ كان يدعو بجوامع الكلم، بخلاف ما عليه كثير من الأئمة في هذه الأيام، فمنهم من يجعل الدعاء موعظة يذكر فيها الجنة وصفاتها، والنار وما فيها من أهوال، وعذاب القبر وما فيه من وحشة وظلمة، في سجع متكَلفٍ يستثير به عواطف الناس ويستدعي بكاءهم لا تجد معشاره أثناء قراءة القرآن، كل هذا مع أنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت إلا حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: ((اللهم أهدنا فيمن هديت ... )) على خلاف في صحة ثبوت ذكر الوتر فيه، وقد ورد الدعاء على الكفرة بعد النصف من رمضان من فعل أبيّ بن كعب في عهد عمر رضي الله عنهما، ولست بمحرِّج على مَن دعا بغير ذلك لكنّ الكلام هنا في الإطالة المفرطة في الدعاء بصورة تشق على كثير من المصلين مع أن الغالب أن فيهم المريض والكبير والمرأة. 4 - الاعتداء في الدعاء وتكلف السجع فيه. من الآثار السيئة لترك السنة والاكتفاء بالدعاء بالمأثور والعدول عن ذلك باستعمال غرائب الأدعية المسجوعة والمتكلفة، ما يقع فيه بعض الأئمة من عبارات تُعد اعتداء في الدعاء، فمن ذلك قول بعضهم: ((يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون)) وإن كان هذا اللفظ قد ورد عند الطبراني في الأوسط، إلا أن إسناده ضعيف وهو مخالف لما أجمعت عليه الأمة من وصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أيضًا قول بعضهم: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، فهذا معارِض لما في الحديث الحسن: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء)) فكيف لا ندعو الله برد القضاء؟!، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ((فانظر السجع من الدعاء، فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب)). وقد يدخل التشقيق والتفصيل في الدعاء والذي يفعله كثير من الأئمة في هذه الأيام في هذا الاعتداء ففي سنن أبي داود أن ابناً لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يدعو، فسمعه سعد وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال: يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء فإياك أن تكون منهم، وإنك إن دخلت الجنة نلت ما فيها من الخير، وإن أُعذت من النار نجوت مما فيها من الشر)) حسنه الحافظ ابن حجر والألباني، فسمى التفصيل في الدعاء اعتداءً. 5 - المبالغة في التلحين والتطريب والتغني في الدعاء. إن مما يبعث على الأسى والحزن لجوءُ كثيرٍ ممن يُظن أنهم من مقتفي الأثر إلى المبالغة في الترنيم والتلحين والتطريب بل والتجويد أحياناً حتى كأن أحدهم يقرأ السورة من القرآن، فتجده يطبق أحكام التجويد كالإدغام والإخفاء والمدّ حتى يظن الظان أنه يتلوا آيات من الكتاب العزيز، وما هو من الكتاب، ويزداد الطين بله إذا ضمن دعاءه آياتٍ من كلام الله بحيث يعسر على العوام التفريق بينهما، ونتيجة لذلك فإن بعض الناس يتأثر بتلحين الإمام أكثر من تأثره بالدعاء نفسه، ولا يفهم من هذا أن لا يحسِّن الداعي صوته، فهذا لا بأس به، لكن الذي نراه اليوم من كثير من الأئمة مبالغة في التلحين والتطريب، بصورة إذا جمعت معها رفع الصوت وخفضه، واعتداء مذموم، ثم أخطاء قد تكون عقدية،، ذكرك ذلك بدعاء بعض أهل البدع في مناسباتهم. 6 - مواظبة بعض الأئمة على دعاء معين في كل قنوت.

ومن ذلك تجد أن كثيراً منهم يُلحق دعاء ((اللهم اهدنا فيمن هديت ... )) بدعاء ((اللهم اقسم لنا من خشيتك .. )) لا يكاد يترك ذلك ليلة واحدة، ولا يختم دعاءه إلا بقوله: ((اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك .... )) حتى ظنَّ كثيرٌ من العامة -بل من الأخيار- أن هذا من السنة، وهذا البدء والختم بهذه الطريقة والمواظبة عليها أول من ابتدأه أحد أئمة المسجد الحرام الفضلاء -رحمه الله- فتتابع الناس عليه، فالدعاء الأول سبق الكلام عليه والثاني لم يصح مطلقاً أنه من أدعية القنوت، والثالث ثبت من حديث عائشة عند مسلم أنه كان يقوله في سجوده، فقالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان -عند النسائي وأبي داود والترمذي: وهو ساجد- وهو يقول اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) وورد عند أحمد وغيره من أصحاب السنن أنه كان يقوله في آخر وتره ومعلوم أن القنوت في أول الوتر وليس في آخره، وعند النسائي وغيره: إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه، لذلك قال بعض العلماء في آخر وتره أي بعد السلام منه واستبعد ابن تيميه أنه كان يقوله في الوتر فقال في الفتاوى (17/ 91): ((وروى الترمذي أنه كان يقول ذلك في وتره لكن هذا فيه نظر))، فإذا كانت المواظبة على القنوت كل ليلة فيها إيهامٌ للعامة أنها السُّنَّة المستقرة، مع أن تركه أحياناً أفضل، فكيف بالمواظبة على دعاء معين في أوله وآخره؟! 7 - تخصيص بعضهم ليلة السابع أو التاسع والعشرين بدعاء مخصوص ربما سماه البعض دعاء ختم القرآن. وهذا مما أحدثه الناس، وليس عليه في داخل الصلاة سواء في القنوت أو غيره، دليل صحيح لا من فعله صلى الله عليه وسلم ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، ولعل ذهاب بعض كبار العلماء إلى جوازه دون دليل صحيح فيه اختبار وامتحان لمقتفي الأثر ومتبعي السنة؛ أيتبعون صاحبها أم يقلدون علماءهم؟ أمَّا العوام فحدِّث ولا حرج عن حرصهم على هذا الدعاء فهو يفوق حرصهم على فريضة العشاء نفسها والله المستعان. وختاماً أدعو الأئمة الذين وفقهم الله فهيأ لهم إمامة صلاة التراويح، أن يقتفوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى نرى المساجد وقد اكتظت بالمصلين والإمام يدعو لهم بدعاء مأثور لا يطيل فيه ولا يعتدي؛ يدعوه بقراءته المعتادة دون تلحين ولا تطريب ولا تجويد كتجويد القرآن، وإن تأثر فبكى وذرفت عيناه كتم بكاءه أو أخفاه فغلبه حتى خرج منه كأزيز المرجل بلا نحيب ولا شهيق لا يكاد يشعر به إلا القريبون منه، كما أدعوهم أن لا يغفلوا عن الدعاء على الكفرة من أهل الكتاب وأن ينصر الله المسلمين عليهم، وخاصة في النصف الأخير من رمضان، كما ثبت عن الصحابة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين. والله أعلم.

طلاب العلم والدعاة في رمضان

طلابُ العلمِ والدعاةُ في رمضان علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف المشرف العام على موقع الدرر السنية شهرُ رمضانَ شهرُ الصيامِ والقيامِ وقراءةِ القرآنِ، هذا ما يعرفهُ ويردِّدُهُ كثيرٌ من المسلمينَ، والجميعُ مشتركونَ فيه إلا مَنْ حَرَمَهُ اللهُ، فتجدَ الداعيةَ وغيرَ الداعيةِ وطالبَ العلمِ والعاميَّ يصومونَ رمضانَ ويصلونَ التراويحَ ويُكثرونَ من قراءةِ القرآن، فما الذي يُميِّزُ طالبَ العلمِ والداعيةِ إلى اللهِ في رمضانَ عن غيرِه؟ هل يكتفي بصيامِ النهارِ وصلاةِ التراويح التي لا تزيدُ مدتُها في أغلبِ المساجدِ عن ساعةٍ واحدةٍ؟! ويقرأُ جزءاً من القرآنِ يختمُ به المصحفَ آخرَ الشهرِ؟! إذا كانَ الأمرُ كذلكَ - وهذا حالُ الكثيرينَ منهمْ للأسفِ - فما الفرقُ بينَه وبينَ عامَّةِ النَّاسِ ونحنُ نراهم يفعلونَ ذلكَ في كلِّ رمضان؟! الأمرُ إذن يحتاجُ إلى وقفةِ تأملٍ ومحاسبةٍ، فإذا أضفنا إلى ذلكَ أن بعضَ الدعاةِ وطلبةَ العلمِ قدْ يشتركونَ معَ العامَّةِ أيضاً في السهرِ ليالي رمضانَ وضياعِ الأوقاتِ - لكنْ أولئكَ في المحرماتِ وهؤلاء في المباحاتِ- من خلالِ كثرةِ تصفحِ الانترنت ومشاهدةِ التلفازِ خاصَّةً بعدَ انتشارِ بعضِ القنواتِ النافعةِ، وهذا في حقِّهم قبيحٌ في غيرِ رمضانَ فكيفَ بهِ في رمضان؟! وأقبحُ منهُ ضياعُ صلاةِ الظهرِ جماعةً في المسجدِ بسببِ السَّهرِ! وبعضُهم ربما اقتصرَ الاجتهادَ في العبادةِ على أواخرَ شهرِ رمضانَ محتجاً بحديثِ: ((كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إذا دخلَ العشرُ الأواخرُ شدَّ المئزرَ وأيقظَ نساءَه)) والحديثُ فيه زيادةٌ الاجتهادِ في العبادةِ في العشرِ الأواخرِ وليسَ فيهِ اقتصارُها على العشر. ومنهم منْ يقدِّمُ بعضَ الشكلياتِ على الأساسياتِ، فتجدُه يتنقلُ يومياً من مسجدٍ إلى آخرَ بحثاً عن صاحبِ الصوتِ الجميلِ في القراءةِ فلا يقنعُ بهذا ولا ذاكَ زاعماً أنَّ الصلاةَ خلفَ صاحبِ الصوتِ الجميلِ أخشعُ للقلبِ، ونحنُ لا ننكرُ أنَّ القراءةَ الحسنةَ لها تأثيرٌ على النُّفوسِ، لكن ما بالُ صاحبِنا هذا يعزِفُ عنْ أصحابِ القراءاتِ والصلواتِ الخاشعةِ المؤثرةِ طلباً للصوتِ الجميلِ فحسب؟! وآخرَ يتنقلُ من مسجدٍ إلى آخرَ بحثاً عن صاحبِ القنوتِ الطويلِ المسَجَّعِ! أمَّا منْ يبحثُ منهم عنْ قِصَرِ الصلاةِ فهذا لهُ شأنٌ آخر! ومنَ المظاهرِ الجيدةِ التي انتشرتْ في السنواتِ الأخيرةِ بين الدعاةِ وطلابِ العلمِ إحياءُ سُنَّةِ الاعتكافِ بعدَ أنْ هَجَرَها كثيرٌ من المسلمين، لكنْ منَ الأخطاءِ في ممارسةِ هذهِ الشعيرةِ أنها تتحولُ أحياناً إلى مسامرةٍ يضيِّعونَ فيها أوقاتَهم ويخسرونَ بسببها لذةَ هذهِ العبادةِ. ومنَ المظاهرِ الجيدةِ أيضاً جِوارُ كثيرٍ منَ الدعاةِ لبيتِ اللهِ الحرامِ والحرصُ على الصلاةِ فيهِ طمعاً في مضاعفةِ الأجرِ، لكنْ لا ينقضي العجبُ من ظاهرةٍ كَثُرتْ في الآونةِ الأخيرةِ عندَ بعضهم، ألا وهيَ حرصُهم على الصلواتِ الجهريةِ في المسجدِ الحرامِ دون السِّرِّيَّةِ، بلْ حرصُهم على صلاةِ التراويحِ والقيامِ أكثرَ منْ حرصِهِم على بعضِ الصلاةِ المفروضةِ علماً أنَّ مضاعفةِ الأجرِ في صلاةِ التطوعِ فيها خلافٌ بين العلماءِ مشهورٌ بخلافِ الصلواتِ المفروضةِ، وأعجبُ منْ ذلكَ صلاةُ بعضهم الظهرَ مع العصرِ قصراً وجمعاً في سكنهم القريبِ منَ المسجدِ الحرامِ بحجةِ أنَّهم مسافرون! ولئنْ أفتى بعضُ العلماءِ بجوازِ ذلكَ فهوَ لا يليقُ لأصحابِ المراتبِ العاليةِ ولمن يُقْتدى بهم. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يجعلنا بعد رمضان خيراً مما كنا قبل رمضان. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

مآلات الخطاب المدني

بسم الله الرحمن الرحيم مآلات الخطاب المدني إبراهيم السكران [email protected] مدخل: عشية وداع التسعينات حَفَل الداخل الإسلامي من خلال مطبوعاته وندواته الخاصة بنقاش غزير ومعالجات متنوعة حول "الحاجة إلى التجديد" و "مشروعية المراجعة" وكان ثمة ترحيب متلهف بأية أطروحات أو استضافات في هذا السياق, وكانت تلك الأطروحات في مجملها أطروحات منتمية تتحاكم للمعايير الشرعية وتطرح "التجديد" مستهدفة تعزيز الحضور الإسلامي وامتداده إلى مناطق جديدة, لا التجديد بهدف إزاحة المحتوى الديني أو تقليص وجوده. إلا أنه وبعد أحداث سبتمبر 2001م بدأت نغمة الخطاب التجديدي تتغير حميميتها وإن بقيت تدور ضمن شروط الداخل الإسلامي, ولم يعلن سقوط بغداد مطلع العام 2003م إلا وقد سقطت كثير من رايات الانتماء وانسحبت كثير من تلك الأصوات التجديدية من الداخل الإسلامي إلى معسكر مختلف تماماً. صحيح أنه لا تزال هناك شخصيات تجديدية تحتفظ برزانتها الشرعية واستقلالها السياسي وينتصب أمامها المرء بإجلال صادق -وهم كثير ولله الحمد- إلا أننا يجب أن نعترف وبكل وضوح أنه قد تطور الأمر بكثير من أقلام الخطاب المدني إلى مآلات مؤلمة تكاد عيون المراقب تبيض من الحزن وهو يشاهد جموحها المتنامي. كثير من تلك الطاقات الشبابية المفعمة التي بدأت مشوارها بلغة دعوية دافئة أصبحت اليوم -ويالشديد الأسف- تتبنى مواقف علمانية صريحة, وتمارس التحييد العملي لدور النص في الحياة العامة, وانهمكت في مناهضة الفتاوى الدينية والتشغيب عليها, وانجرت إلى لعب دور كُتّاب البلاط فأراقت كرامتها ودبجت المديح, وأصبحت تتبرم باللغة الإيمانية وتستسذجها وتتحاشى البعد الغيبي في تفسير الأحداث, بل وصل بعضهم إلى التصريح باعتراضات تعكس قلقاً عميقاً حول أسئلة وجودية كبرى, واستبدلت هذه الشريحة بمرجعية "الدليل" مرجعية "الرخصة" أينما وجدت بغض النظر هل تحقق المراد الإلهي أم لا؟ وتحولت من كونها مهمومة بتنمية الخطاب الإسلامي إلى الوشاية السياسية ضده, والتعليق خلف كل حدث أمني بلغة تحريضية ضد كل ما هو "إسلامي", وغدت مولعة بالربط الجائر بين أحداث العنف والمؤسسات الدعوية, وبالغت في الاستخفاف بكل منجز تراثي, وتحتفي بالأدبيات الفرانكفونية في إعادة التفسير السياسي للتراث وأنه حصيلة صراعات المصالح وتوازنات القوى وليس مدفوعاً بأية دوافع أخلاقية أو دينية, بل ووصل بعضهم إلى اعتياد اللمز في مرويات السنة النبوية وخصوصاً مصادرها ذات الوزن التاريخي واعتبارها مصدر التشوش الاجتماعي المعاصر. وفي مقابل كل هذا الإجحاف في طرف النص والتراث والمؤسسات الإسلامية تجد اللغةَ الناعمةَ البشوشة في التعامل مع خصوم الحل الإسلامي، وحقهم في الحرية والتعبير, والتفهمَ الودودَ للدراسات التجديفية والروايات العبثية, والتصفيقَ المستمرَّ لكل ما هو "غربي" بطريقة لا يفعلها الغربي ذاته, وعَرْضَ الأعلام الغربية بلغة تفخيمية وَقُورة, وإسقاطَ التجارب العلمانية في التاريخ الأوروبي على مجتمعنا بشكل لا يليق بشاب مسلم -كصراع الكنيسة مع العلم والثورة الفرنسية وعصر الأنوار ونحوها- والتركيز على أخطاء المقاومة أكثر من أخطاء المحتل, والمطالبة المستمرة بمواجهة المشروع العسكري الغربي بورود السلام الغاندية .. إلى آخر سلسلة التطورات الموجعة والتي سنشير لها في المناقشات القادمة.

ويستطيع المراقب بكل بساطة أن يقرأ في الخط البياني لهذه المضاعفات المتنامية دور التابلويد الإلكتروني في تصعيد هذا الانحراف, بمعنى أن أكثر هذه التورمات تضخمت داخل هذا الخطاب في سياق التفاعلات الحادة والاستفزاز المتبادل مع المنتديات الإنترنتية المتخصصة في الإسفاف والتجني، والمتقنعة بلبوس الاحتساب الفكري, بحيث صار الخطاب المدني الجديد تدفعه مشاعر النكاية والعناد ضد البغي الإلكتروني إلى الإمعان في مناقضة الرؤية الإسلامية, ولا أظن عاقلاً ينتقم مِنْ ربِّ خصمه لكن هذا ما جرى للأسف! على أية حال .. أظن أن أبسط مقتضيات الوفاء والحب لهؤلاء الشباب هو المبادرة بالمصارحة بمخاطر هذه التطورات, علَّنا نستعيد وعينا في زحام السجال, ونستيقظ من أن تتجارى بنا مغاضبة الخصوم ومشاحنة الفرقاء إلى خدش علاقتنا بالله ورسوله وخسارة رأسمالنا الحقيقي. ولا سيما أن هذا الخطاب الجديد خطاب نشط ومتنامٍ في أوساط الشباب المولعين بالثقافة وذوي المنزع الفكري, ويحظى بحفاوة المؤسسات الإعلامية من صحف وفضائيات وغيرها, حيث ستظل فرص الشاشة والعمود الصحفي مشهداً خلاباً لا تقاومه غريزة تحقيق الذات المتوقدة بداية العمر فيرضخ المثقف/الشاب لشروطها ليحتفظ بها. هذه المشهد الأليم يفرض قراءته وتأمله, ومن ثم تحليل الفروض الداخلية لهذا الخطاب التي قادته إلى هذه المآلات الموحشة, بهدف إرضاء الله سبحانه وتعالى, وتواصياً بالحق مع كثير من متابعي هذا الاتجاه, وتعزيزاً للثقة الدعوية في الأوساط التربوية والعلمية للاتجاه الإسلامي أمام سلاطة هذا الخطاب وتجريحه المستمر ودعايته المضادة, ونشاطه في التعبئة الإعلامية وتأليب المؤسسات الأمنية ضد العمل الدعوي والتربوي الإسلامي. والواقع أن هذا الخطاب المدني الجديد يصفه بعض مراقبيه بتصنيفات لا يرضاها منتجو هذا الخطاب ويعدونها "شتيمة خصوم" أكثر من كونها "تصنيفاً إجرائياً" لذلك آثرنا أن نقفز هذه التصنيفات, ونتعرف إلى هذا الخطاب من خلال معجم مفاهيمه المحورية التي تشكل نسيجه الخاص, كمفهوم الحضارة والانفتاح والآخر والتسامح والنسبية والاستنارة والنهضة والمواطنة والأنسنة ونبذ الأدلجة والإقصاء والوصاية والتسييس والدوغمائية والراديكالية ... الخ حيث تحولت هذه المفاهيم من أدوات دلالية محضة إلى "لافتات فكرية" تدفع باتجاهٍ مشترَك ذي قسمات خاصة, حيث تم شحنها بدلالات جديدة ضمن سياق سجالنا المحلي بحيث صارت تحمل مضموناً مذهبياً مترابطاً أكثر من كونها مجرد تقنيات تفسيرية حرة. ولم نتجاوز تلك التصنيفات إلا بهدف تحاشي اللبس وسوء الفهم, إذ غرضنا هاهنا الاجتهاد في تقديم مناقشة علمية مختصرة للشبكة المفاهيمية التي تغذي هذا الخطاب وتمده بمنظوره الخاص, وليس هدف هذه الورقة النقدية -يعلم الله ذلك- التجريح والإيذاء, أو إسقاط شخصيات بعينها, أو الانحياز لجبهة ما, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للتجرد ويعيننا على تجنب الهوى والتحامل. ومما يعنينا الإشارة إليه هنا بشكل خاص أننا تجاوزنا التمثيل أو ذكر شخصيات بعينها من هذا الخطاب؛ تفادياً للتعميم، ذلك أننا سنناقش تصورات عامة يتفاوت كتّاب هذا التيار تفاوتاً كبيراً في تبنيها والاقتراب أو الابتعاد عنها, فمستقلٌ مِنْ هذه الظواهر ومستكثر, فحشر الأسماء وإقحامها في سياق واحد يوهم اشتراكها في التفاصيل, الأمر الذي يتناقض مع فريضة القسط ومقتضيات الإنصاف. وقد قسمت هذه الورقة إلى جزأين: أولهما: في قياس علاقة هذا الخطاب المدني بأصول الوحي. والجزء الثاني: في قياس علاقة هذا الخطاب المدني بالفكر الحديث.

فهذا هو الجزء الأول منهما وسيتبعه بإذن الله الجزء الثاني, ونبتدئ الجزء الأول بعرض موجز حول السياق التاريخي لهذه الظاهرة, وهذا هو أوان الشروع في المقصود. قسمات الانقلاب المعياري: آل الخطاب المدني -ضمن ديناميكية تطوراته المؤلمة التي أشرنا إليها- إلى حالة انقلاب معياري، حتى بتنا اليوم وكأننا نشهد "إعادة تقييم" جذرية وشاملة تمس العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية, فأمامنا اليوم حالة انقلاب حاد في "جدول القيم" لا نستطيع أن نغض أبصارنا عنها أو أن نتجاهلها, حتى أصبح "هرم الأولويات" يقف مقلوباً على رأسه! لقد طالت هذه الانقلابات المفاهيمية: الموقف من التراث, والموقف من الغرب, والموقف من المؤسسات الدعوية, والموقف من خصوم الحل الإسلامي, والموقف من واقع مجتمعنا المعاصر, والموقف من الدولة العربية الحديثة ... بما يعني أن إبرة البوصلة الفكرية قد فقدت قوتها المغناطيسية السابقة تماماً, وكأن دخان سبتمبر قد مد ذراعه إلينا وقلب ساعة الرمل ليعيد دبيبنا إلى الوراء. لقد تم إنزال التراث من كابينة القيادة إلى قفص الاتهام! فبعد أن كانت هذه الشريحة الشبابية تنظر إلى "التراث الإسلامي" باعتباره النموذج المشع الذي تستلهم منه المثل والقيم وينتصب أمامه المرء بسكينة الانتماء، أصبح بعض هؤلاء الشباب ينظرون إلى التراث باعتباره ألبوم التصرفات البدائية المخجلة الذي لا يجب أن يُفتح إلا مع ابتسامة اعتذار, مع استخفاف عميق بمواقف رجالاته وأعلامه. وفي أحسن الأحوال أصبح لا يُقبل من التراث الإسلامي الضخم أيُّ دور إلا أن يزودنا بالأسانيد والحيثيات التي تؤكد نتائج "عصر الأنوار" ليس إلا! ولذلك يدعو كثير من منتجي هذا الخطاب إلى قراءة "نصوص الوحي" ونصوص "التراث الإسلامي" قراءة مدنية, بمعنى قراءة "موجهة" تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم "المدنية" ثم تؤَوِّل ما يتعارض معها, وتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج, بدل أن تكون الدعوة إلى قراءة الوحي قراءة "صادقة" تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي! بمعنى آخر: تحويل الوحي من "حاكم على الحضارة" إلى مجرد "محام عن منتجاتها" يبررها ويدافع عنها ولا يُقبل منه دورٌ غير ذلك! وليس يخفى أن الحكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبع يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ. والسؤال المؤلم الذي يفرض نفسه هاهنا: ما هي المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدمها للعالم إذا كان قصارى ما نقوله للغرب هو إن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الأقوال الفقهية لدينا, أو يحتمل أن تدل عليها بعض الأدلة؟ هم يمارسون هذه الممارسات قبل أن يعرفونا أصلاً. كما قفزت صورة الغرب من شارع الانحطاط إلى منصة الأستاذ القديس الذي لا يراجع فيما يقول, وإذا لم نقتنع بما يقوله فذلك لعيب في فهمنا نحن لا لعيب فيه هو لا سمح الله! وبعد أن كان بعض هؤلاء الشباب يتشرفون بالانتماء للاتجاه الإسلامي ويبرزونه كهوية شخصية في الحياة العامة، أصبح بعضهم ينظر إليه باعتباره عبأً على المجتمع ليس يبهجهم كثيراً تناميه وتغلغله الاجتماعي!

(ملخص) مآلات الخطاب المدني

(ملخص) مآلات الخطاب المدني إبراهيم السكران [email protected] مدخل: بعد أحداث سبتمبر 2001م بدأت نغمة الخطاب التجديدي تتغير حميميتها وإن بقيت تدور ضمن شروط الداخل الإسلامي, ولم يعلن سقوط بغداد مطلع العام 2003م إلا وقد سقطت كثير من رايات الانتماء وانسحبت كثيرٌ من تلك الأصوات التجديدية من الداخل الإسلامي إلى معسكر مختلف تماماً. إننا يجب أن نعترف وبكل وضوح أنه قد تطور الأمر بكثير من أقلام الخطاب المدني إلى مآلات مؤلمة. كثير من تلك الطاقات الشبابية المفعمة التي بدأت مشوارها بلغة دعوية دافئة أصبحت اليوم - ويا لشديد الأسف - تتبنى مواقف علمانية صريحة, وتمارس التحييد العملي لدور النص في الحياة العامة, وانهمكت في مناهضة الفتاوى الدينية والتشغيب عليها, وانجرت إلى لعب دور كتاب البلاط فأراقت كرامتها ودبجت المديح, وأصبحت تتبرم باللغة الإيمانية وتستسذجها وتتحاشى البعد الغيبي في تفسير الأحداث, بل وصل بعضهم إلى التصريح باعتراضات تعكس قلقاً عميقاً حول أسئلة وجودية كبرى, واستبدلت هذه الشريحة بمرجعية "الدليل" مرجعية "الرخصة" أينما وجدت بغض النظر هل تحقق المراد الإلهي أم لا؟ وتحولت من كونها مهمومة بتنمية الخطاب الإسلامي إلى الوشاية السياسية ضده, والتعليق خلف كل حدث أمني بلغة تحريضية ضد كل ما هو "إسلامي", وغدت مولعة بالربط الجائر بين أحداث العنف والمؤسسات الدعوية, وبالغت في الاستخفاف بكل منجز تراثي, وتحتفي بالأدبيات الفرانكفونية في إعادة التفسير السياسي للتراث وأنه حصيلة صراعات المصالح وتوازنات القوى وليس مدفوعاً بأية دوافع أخلاقية أو دينية, بل ووصل بعضهم إلى اعتياد اللمز في مرويات السنة النبوية وخصوصاً مصادرها ذات الوزن التاريخي واعتبارها مصدر التشوش الاجتماعي المعاصر. وفي مقابل كل هذا الإجحاف في طرف النص والتراث والمؤسسات الإسلامية تجد اللغةَ الناعمةَ البشوشة في التعامل مع خصوم الحل الإسلامي، وحقهم في الحرية والتعبير, والتفهمَ الودودَ للدراسات التجديفية والروايات العبثية, والتصفيقَ المستمرَّ لكل ما هو "غربي" بطريقة لا يفعلها الغربي ذاته, وعَرْضَ الأعلام الغربية بلغة تفخيمية وَقُوْرة, وإسقاطَ التجارب العلمانية في التاريخ الأوروبي على مجتمعنا بشكل لا يليق بشاب مسلم -كصراع الكنيسة مع العلم والثورة الفرنسية وعصر الأنوار ونحوها- والتركيز على أخطاء المقاومة أكثر من أخطاء المحتل, والمطالبة المستمرة بمواجهة المشروع العسكري الغربي بورود السلام الغاندية .. إلى آخر سلسلة التطورات الموجعة. إن أكثر هذه التورمات تضخمت داخل هذا الخطاب في سياق التفاعلات الحادة والاستفزاز المتبادل مع المنتديات الإنترنتية المتخصصة في الإسفاف والتجني والمتقنعة بلبوس الاحتساب الفكري, بحيث صار الخطاب المدني الجديد تدفعه مشاعر النكاية والعناد ضد البغي الإلكتروني إلى الإمعان في مناقضة الرؤية الإسلامية, ولا أظن عاقلاً ينتقم مِنْ ربِّ خصمه لكن هذا ما جرى للأسف! هذا الخطاب الجديد خطاب نشط ومتنامٍ في أوساط الشباب المولعين بالثقافة وذوي المنزع الفكري, ويحظى بحفاوة المؤسسات الإعلامية من صحف وفضائيات وغيرها, حيث ستظل فرص الشاشة والعمود الصحفي مشهداً خلاباً لا تقاومه غريزة تحقيق الذات المتوقدة بداية العمر فيرضخ المثقف/الشاب لشروطها ليحتفظ بها. قسمات الانقلاب المعياري: بتنا اليوم وكأننا نشهد "إعادة تقييم" جذرية وشاملة تمس العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية, فأمامنا اليوم حالة انقلاب حاد في "جدول القيم", حتى أصبح "هرم الأولويات" يقف مقلوباً على رأسه!

لقد طالت هذه الانقلابات المفاهيمية: الموقف من التراث, والموقف من الغرب, والموقف من المؤسسات الدعوية, والموقف من خصوم الحل الإسلامي, والموقف من واقع مجتمعنا المعاصر, والموقف من الدولة العربية الحديثة يدعو كثير من منتجي هذا الخطاب إلى قراءة "نصوص الوحي" ونصوص "التراث الإسلامي" قراءة مدنية, بمعنى قراءة "موجهة" تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم "المدنية" ثم تؤَوِّل مايتعارض معها, وتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج, بدل أن تكون الدعوة إلى قراءة الوحي قراءة "صادقة" تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي! بمعنى آخر: تحويل الوحي من "حاكم على الحضارة" إلى مجرد "محام عن منتجاتها" يبررها ويدافع عنها ولا يُقْبَلُ منه دورٌ غير ذلك! وليس يخفى أن الحُكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبع يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ. والسؤال المؤلم الذي يفرض نفسه هاهنا: ما هي المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدمها للعالم إذا كان قصارى ما نقوله للغرب هو إن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الأقوال الفقهية لدينا, أو يحتمل أن تدل عليها بعض الأدلة؟ هم يمارسون هذه الممارسات قبل أن يعرفونا أصلاً. النماذج التفسيرية للظاهرة: الواقع أن المراقبين والنقاد طرحوا تفسيرات كثيرة لظاهرة الانقلاب المعياري هذه التي أشرنا إليها, ومحاولات متعددة لاستكشاف النواة الجوهرية التي انبثقت عنها تطبيقات ومواقف وإحداثيات هذا الخطاب المدني المتطرف, فبعض النقاد يرى أن السبب هو "الانبهار بالغرب", والواقع أن الانبهار بالغرب أحد النتائج وليس العامل الحاسم كما سيأتي توضيح ذلك. وبعض النقاد اعتقد أن الجذر الدفين في هذه الظاهرة هو "العقلانية"، والواقع أن هذه الظاهرة ليس لديها نظرية فعلية في "مصادر المعرفة" بحيث تقدم ما دلّ عليه العقل وترد ما عارضه, بل هي تارة مع العقل، وتارة مع النص، وتارة مع الذوق الشخصي، وتارة مع المألوف، وتارة ضد هذه كلها, فهي تدور مع المنتج الحضاري الجديد بغض النظر عن علاقته بمصادر المعرفة. وبعض النقاد اعتقد أن هذه الظاهرة هي امتداد تاريخي لمدرسة "المعتزلة"، والواقع أن هذا التفسير قد أبعد النجعة كثيراً, فمدرسة المعتزلة هي مدرسة دينية متزمتة أخرجت الفساق من الإسلام, وشرعت للمنابذة المسلحة لأئمة الجور , فالمعتزلة مدرسة غلو لا مدرسة تساهل, بل إن المعتزلة أشرف بكثير من الخطاب الفرانكفوني المعاصر الذي يحاول الوصول إلى تناقضات داخلية في التراث الإسلامي بهدف تحييد الوحي جملةً عن الحياة العامة. في تقديري أن النواة الخفية التي انطلقت منها كل هذه التحولات الجذرية والحادة في المواقف والرؤى هي "المغالاة في قيمة المدنية والحضارة", فالغلو في الحضارة والمدنية الدنيوية وتحويلها إلى القضية الأولوية وغاية الغايات، هو الجذر الرئيسي التي ابتدأت منه كل هذه الانقلابات المفاهيمية, بمعنى أن النموذج التفسيري الذي يقدم إجابة دقيقة حول تطبيقات هذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته "غائية الحضارة" و "مركزية المدنية".

فنحن إذا تتبعنا تطبيقات هذا الخطاب الجديد ومواقفه وآراءه وصيغ علاقاته وإحداثيات مواقعه التي اختارها على الخريطة الفكرية فسنتوصل حتماً -كما سبقت الإشارة لذلك- إلى أن القيمة المركزية التي تسيطر عليه وتجعله يدعم موقفاً ما أو يعارضه, أو يثمن قضية ما أو يحط منها, فسنجدها بكل تأكيد "مركزية المدنية", وبناءً على مركزية المدنية فقد تحددت صيغ العلاقات مع المجتمع والتراث والغرب والدولة العربية الحديثة على أساس القرب والبعد من "التمدن المادي". ينابيع الغلو المدني: هذا الخطاب الذي تطور بطريقة مؤلمة ووصل إلى حالة "غلو مدني" تتعارض مع أصول الوحي, اكتنفته أربعة ظروف رئيسية شكلت أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه, ألا وهي: مناخ سبتمبر والضخ الفرانكفوني وحفاوة وسائل الإعلام ورد الفعل تجاه البغي الإلكتروني فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدت من انسيابه ودويّه، وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس. وفي ظل هذا الفراغ الجزئي الذي خلفه انكماش الحالة الإسلامية، برزت أبحاث المدرسة الفرانكفونية/المغاربية كإجابة جديدة نجحت في استغلال الظرف الأمني الحالي وحققت اكتساحاً استثنائياً في فترة قصيرة. ويبدوا أن هذا الرواج السريع سيكون مؤقتاً ريثما يستعيد الاتجاه الإسلامي عافيته الأمنية, إذ لو كانت "المدرسة الفرانكفونية" تتكئ على عبقرية طروحاتها الخاصة لكان متحفها عامراً منذ الثمانينات وليس بعد العام 2001م! وإنما رواجها بعد كسادها كان تبعاً لزلزال الظرف السياسي السبتمبري الذي قلب توازنات القوى رأساً على عقب, وسمح لكثير من الأفكار السياسية المتشنجة أن تبتسم فوق الطاولات المستديرة. هذه الشريحة من الشباب الإسلامي اصطدمت في مقاعد المدرسة الفرانكفونية/المغاربية بـ "سؤال الحضارة" , فحاولت بادئ الأمر أن تقدم إجابة ترضي الطرفين فتتلافى الاصطدام بانتمائها العميق الذي يشدها, وتتودد للذوق الفكري الذي تقرأ له. هذه الشريحة الشبابية لم تستوعب أبداً -حتى هذه اللحظة- أن المدرسة الفرانكفونية/المغاربية أعادت تشكيل منطقها تماماً, وأعادت صياغة نمط تفكيرها وطريقة تعاطيها للأمور, وأسلوب نظرها للوقائع, وتقييمها للأحداث, من خلال امتصاص أدواتها الخاصة للقراءة والتفسير والملاحظة, وإعادة ترتيب الهرم الداخلي للقيم, وإعادة رسم الجدول الذهني للأولويات. السؤال الذي يملي نفسه في هذا الموضع: ما الفرق بين العلمانية العربية ما قبل (1984م) والعلمانية العربية ما بعد (1984م)؟ [هو العام الذي احتضن واقعة صدور أول حلقة من سلسلة "نقد العقل العربي" للمفكر المغربي ذائع الصيت محمد عابد الجابري والذي دشن العهد الجديد لتلمود العلمانية العربية التوفيقية] بمعنى: ما سر الجاذبية في دراسات العلمانية العربية الحديثة التي خلبت أذهان الشباب الإسلامي وجعلته يُقْبِلُ بنهم على هذا اللون من الدراسات والأبحاث؟ الحقيقة أن الفرق الأساسي هو التحول من "الاستهداف المباشر للشريعة" إلى "إعادة تفسير التراث" من خلال الأدوات التي تطرحها العلوم الإنسانية الحديثة, أو بشكل آخر القفز من الإشكالية الأنطولوجية إلى الإشكالية الإبستمولوجية.

هذا الفارق هو بالضبط مصدر الجاذبية والإثارة لدى القارئ الإسلامي, وهي اللغة التي يفهمها جيداً, لقد امتص وتشرب هؤلاء الشباب بصورة ضمنية كثيراً من المفاهيم المشبعة ببنية علمانية مضمرة, أو التي تدفع باتجاه تعزيز التصورات العلمانية, مثل مفهوم: عصر التدوين, والتنصيص السياسي, والعقل المستقيل, والأرثوذكسية الإسلامية, والنص كمنتج ثقافي, وميثية القرآن, وغيرها من أدوات التفكير العلماني. على أية حال تظل المدرسة الفرانكفونية/المغاربية المعاصرة هي الأكثر تعبيراً عن هذا الشكل من الخطاب, واهتمامها بموضوعيها الرئيسين -إعادة تأويل التراث والتحليل الأنثروبولوجي للحركة الإسلامية- كان مصدر الجاذبية والإغراء الذي حقق لها النفاذ إلى أسوار الداخل الإسلامي, لتنتهي بحالة استعمار ثقافي. والحقيقة أن لحظة انتقال هذه الشريحة الشبابية بين المدرستين لم تكن مجرد لحظة تفاعل طبيعي مع رافد ثقافي معين, بل شهدت ارتجاجات فكرية مذهلة كانت نتيجة لصدمة انقلاب السؤال المركزي بين المدرستين. فالسؤال المركزي في مدرسة الفكر الإسلامي كان سؤال "انتصار الإسلام" ويدخل في ذلك سائر ما تم تطويره من "مفاهيم دعوية" تشكل نسيج هذا الفكر: كمفهوم الحل الإسلامي, وتحكيم الشريعة, والتزكية الإيمانية, والعمل الجماعي, وفقه الواقع, والتعدد التنظيمي, والعمل التربوي, وإنكار المنكرات, وتوعية الجاليات, وتفعيل المساجد, والأمن الفكري, وحراسة الفضيلة, والإعلام الإسلامي, وتضميد جراحات المسلمين, وإعداد القوة, ونحوها من المفاهيم الإسلامية وصيغ العلاقات العريقة في هذا الخطاب. أما السؤال المركزي للمدرسة الفرانكفونية فقد كان "سؤال الحضارة" ومن ثم محاسبة التراث, والاتجاه الإسلامي, والمجتمع العربي, والدولة العربية الحديثة: على أساس الاقتراب والابتعاد عن "النموذج الغربي الحديث", حيث كان النموذج الغربي الحديث هو المعيار الضمني غير المعلن, وإن كان النص المغاربي في كثير من الأحيان يتظاهر بخلاف ذلك. هذه الصدمة بخطاب المدرسة الفرانكفونية, وسطوة جهازها المفاهيمي, واكتظاظ لغتها الباذخة, وترسانة شواهدها التراثية, وما يتناثر على جنبات نصوصها من أعلام أوروبية رنانة, وما تحيل إليه من تجربة غربية منتصرة, وما تنطوي عليه بعض فقراتها من هالة الغموض المبهر, وشحنها المستمر والمضمر ضد كل ما هو "لا غربي": نجحت في اختطاف التفكير المتوازن, وتصديع الانتماء الدعوي, وإخضاع القارئ لمنطلقاتها الضمنية, والاستسلام لزواياها الخاصة في النظر والقراءة وتقييم الأمور, والتفكير في العالم من خلال شبكتها المفاهيمية ذاتها. مما جعل انتقال هذه الشريحة الشبابية -موضع الدراسة- بين المدرستين ليس انتقالاً خطياً تراكمياً من مدرسة إلى التي تليها, بقدر ما كان استقالة فكرية غير ودية من معسكر سابق وتسجيل لعضوية جديدة في المعسكر المقابل. ويجب أن نعترف أن نزول الخطاب الإسلامي من "أعواد المنبر" فترة التسعينات إلى "قفص الاتهام" بعد سبتمبر بدد شيئاً من جاذبيته الاجتماعية, وفتح المجال لتسويق خطابات أخرى لا تتكئ على نجاحها الخاص, بقدر ما تتكئ على غياب منافسها العنيد. وهذا يعني -كما سبق- أن الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي بمجرد تجاوز هذه الأزمة والتخلص من الآثار الأمنية الحادة لحادثة سبتمبر. قانون المتوالية الفكرية:

الواقع أن "قانون المتوالية الفكرية" كنموذج تفسيري سيساعدنا كثيرا في فهم تطورات ظاهرة الخطاب المدني وكيف بدأت بإشكاليات تجديدية اجتهادية مشكورة ثم انتهى كثير من كتابها إلى مآلات مؤلمة مذمومة, فجمهور هؤلاء الشباب حين بدأ في قراءة إنتاجات المدرسة الفرانكفونية كان مدفوعاً في البداية بمقصد حسن نبيل، وهو تنمية إمكانياته التحليلية وامتلاك الأدوات الفكرية بهدف تعزيز الخطاب الإسلامي ودعم حجيته, ولم يفرغ كثير منهم من ازدراد هذه الأبحاث إلا وقد انقسموا فريقين: فأما الأول فتيقظ لبطلان الأساس الضمني الذي انبنت عليه هذه الأبحاث وهو غائية الحضارة أو مركزية المدنية, فانبنى على ذلك بطلان أكثر النتائج التي تضمنتها هذه الأبحاث من تبخيس التراث وتوقير الغرب, ومن ثم التنبه للأداتين الأثيرتين في هذه المدرسة لتهشيم التراث وهما أداتي (التسييس والمديونية). أما أداة "التسييس" فتعني إعادة التفسير السياسي للنظريات الشرعية وتحركات أعلام التراث ومحاولة ربطها بصراعات سياسية تحت شعار الأنسنة. أما أداة "المديونية" فتعني محاولة ربط سائر المفاهيم والأصول الشرعية التي صاغها فقهاء التراث بالثقافات السابقة للإسلام وتصويرها كمجرد اقتراض ثقافي من الثقافة الهرمسية أو الغنوصية أو الفارسية أو اليونانية. أما الفريق الآخر -وهم الأكثر- فقد استسلم لا شعورياً للأساس الضمني في هذه الأبحاث وهو مركزية المدنية لكنه حاول -بحسن نية أيضاً- أن يذب عن دينه وتراثه وأمته بإثبات أن الوحي والتراث يتضمنان أولوية المدنية والحضارة أصلاً, ومن ثم تحول إلى هاجس التفسير المدني للتراث فأخذ يبحث داخل مضامين الوحي والتراث عن أية مشاهد تتوافق مع المدنية الحديثة, وانساق في نقد كل ما لا يتوافق معها داخل التراث. فبداية كثير من هؤلاء الكتاب -شهادةً لله- كانت بداية حسنة وهي أنهم رأوا أنه لا يمكن نشر رسالتنا الإسلامية وعزة مجتمعنا إلا بالإمكانيات والقدرات الحديثة, ثم تجارى بهم البحث في الحضارة والنهضة والإمكانيات الحديثة حتى جعلوها غاية في حد ذاتها بشكل عملي ضمني, ثم لما رأوا نقد الغرب يحُوْل كثيراً بين الشاب وبين الحضارة الغربية ويهز مرجعيتها، بالغوا في التماس المعاذير لانحرافات الحضارة الغربية, وتلمسوا الأدلة التي توافق ما هم عليه, ثم لما انهمكوا في تكييف الأحكام وفق نتائج الغرب اصطدموا بكثير من المفاهيم الشرعية ذات المنزع الديني/الغيبي كالإيمانيات والشعائر والأحكام الشرعية التفصيلية والتصورات الغيبية ونحوها, فحاول الكثير منهم جعل كل هذه الشرائع مقصودها النهائي أصلاً عمارة الأرض وإقامة الحضارة, وهكذا بدأت هذه المفاهيم الشرعية تتناقص قيمتها في ظل "وسيليتها" المحضة, وتتضخم قيمة المدنية الغربية بحكم تحقيقها للمقصد النهائي وهو الحضارة, ثم تطور الأمر من الانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة إلى محاسبة الحركة الإسلامية والقسوة عليها طبقاً للاقتراب والابتعاد عن الحضارة الغربية المعاصرة, ونشأ عن ذلك ظواهر انفصال وانشقاق ترتب عليها الابتعاد عن مقابس الإيمان والتخول بالذكرى، فأخذت جذوة الإيمان تخبو يوماً بعد يوم, وارتخى الانقياد وفقدت العبودية معناها. ثم تطور الأمر بشكل أكثر سوءً، وأصبح البعض يلتمس العوائق في مضامين الشريعة ذاتها, حتى وصل بعضهم إلى أن المشكلة في "السنة النبوية" وأنها صرفت الناس عن قضية الحضارة إلى الإغراق في التفاصيل الصغيرة, وهكذا يتسلسل الأمر من سيء إلى أسوأ.

وكنتيجة مباشرة للمظالم الإنترنتية التي واجهها هؤلاء الكتاب في بدايات كتاباتهم -كنسبة لوازم لم يلتزموها وتضليلهم بها أو ربطهم بجهات خارجية فريةً وبهتاناً- فإن كثيراً منهم قادته مناكفة الخصوم تدريجياً إلى الانقلاب على الرؤية الإسلامية والرغبة الدفينة الملحة في تأكيد المباينة بمناسبة وبلا مناسبة, حتى آل الأمر بكلا الفريقين المتباغيين إلى الاستقواء بأحد جناحي السلطة ضد الفريق الآخر. والحقيقة أن وقوع بعض المنتسبين للاحتساب في بعض البغي هو مما جرت به سنة التاريخ, وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية في كثير من كتبه, ومنه قوله: (وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم, وإما على نوع من المبتدعة, بزيادة على ما أمر الله به, وهو الإسراف المذكور في قولهم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) الفتاوى (14/ 483) ثم إن مما زاد في تأجيج هذا الجموح الشبابي حفاوة كثير من المؤسسات الإعلامية بذلك مدفوعة بتصفية حسابات قديمة مع ما تسميه الإسلام السياسي, ومن يتصور أن المؤسسات الإعلامية مجرد مناخ معرفي بحت فهو يعيش وهماً كبيراً, فالمؤسسات الإعلامية كائنات سياسية لها أجندتها الخاصة وانحيازاتها العميقة, ولكن لها أدواتها الخاصة في الاستقطاب والتوظيف بما يتناغم مع بنيتها مثل: منصب كاتب عمود صحفي, أو مشرف صفحة الرأي, أو مقدم تلفزيوني, أو معد برامج, أو ضيفاً دائماً يوضع تحت اسمه خبير في الجماعات الإسلامية, ونحوها من المناصب الإعلامية التي تخطف لب الشاب في عصر الشاشة. ويمكن إجمال بعض الغايات والنتائج التي سعت إليها هذه الورقة في الخطوط التالية: -أن العبودية هي الغاية الكبرى, أما العلوم المدنية فهي وسيلة تابعة لها. -أن التنوير الحقيقي هو الاستنارة بالعلوم الإلهية التي تضمنها الوحي, وأن الظلامية والانحطاط الرئيسي هو الحرمان من أنوار الوحي مهما بلغت درجة العلوم المدنية. -أن أشرف مراتب العمارة هي العمارة الإيمانية, وأن جوهر وظيفة الاستخلاف هو تمكين الدين. -أن الغلو المدني هو ينبوع الانحراف الثقافي وجذر التخبطات الفكرية المعاصرة. -أن الإسلاميين ليسوا ضد المثاقفة, ولكن لديهم موقف تفصيلي يفرق بين الانتفاع والانبهار, ويفرق بين مستويات الإنتاج في الحضارات الأخرى. -أن خطاب أنسنة التراث آل إلى تغييب دور النص في تشكيل التراث, ورد العلوم الإسلامية إلى عنصرين: الثقافات السابقة وصراعات المصالح, بما ترتب عليه انفصال الشاب المسلم عن نماذجه الملهمة. -أن المغالاة في مفهوم الإنسان آلت إلى طمس المعايير القرآنية في التمييز على أساس الهوية الدينية. - أن التبرم بمرجعية الوحي, والإزراء بالقرون المفضلة, واللهج بتعظيم الكفار, من أكثر شعب النفاق المعاصرة التي تستدعي التحصين الإيماني. -أن المغالاة في النسبية يقود إلى العدمية, بما يترتب عليه خسارة فضيلة اليقين ومنزلة الإحسان, والإغراق في الارتياب والحيرة واللاحسم. -أن الغضب لله ورسوله إذا انتهكت محارمهما قيمة محمودة وليس توتراً ولا نزقا ولا دوغمائية ولا وصاية ولا إقصاء. -أن الاستغراق في ربط الشعائر بعلل سلوكية محضة, أو ربط التشريعات بحكم اجتماعية محضة, من أعظم أسباب توهين الانقياد وذبول الدافعية. -أن تعظيم الكلي مع تجميد تطبيقاته يؤول إلى تعظيم شكلي نظري لا حقيقة له, لأن الجزئي معتبر في إقامة الكلي. -أن الاستقامة الدينية ليست لمجرد السلامة من النار, بل لها آثار دنيوية كبرى في جلب الخيرات ودفع الكوارث. -أن الضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لا يستهان بسطوتها على العامل للإسلام الشغوف باستمالة المدعوين. -أن استفراغ الوسع والاستطاعة في إعداد القوة واتخاذ الإمكانيات من الواجبات الشرعية المحكمة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

اللبراليون الجدد .. عمالة تحت الطلب

اللبراليون الجدد .. عمالة تحت الطلب ترجمة: إبراهيم عرفة أحمد كتب جون بي آلترمان ( Jon B. Alterman) مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكي ( Center for Strategic and International Studies) مقالاً تحت هذا العنوان تحدث فيه عن تنامي الدعم الغربي لليبراليين العرب محذراً من أن تعاظم هذا الدعم سيضر الليبراليين العرب ولن يفيدهم، ومحذراً الغربيين من الرهان عليهم. ويعد هذا المقال اختصاراً لمقال آخر كان قد كتبه: ((أصبحت الحاجة ماسة إلى الليبراليين العرب أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يرى فيهم بعض الغربيين الأمل والقوى القادرة على مواجهة خطر «القاعدة» لذلك يدعوهم كبار مسؤولي الحكومات في واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم الغربية إلى موائد الأكل وشرب الخمر. لقد ازداد الدعم الغربي لليبراليين العرب، لكن يبدو أن تنامي هذا الدعم قد يحدث تأثيراً معاكساً؛ فبدلاً من أن يؤدي إلى تقويتهم فإنه سيؤدي إلى تهميشهم ووصمهم بالعمالة، بل جعل الكثيرين يتشككون في الإصلاح السياسي الذي يسعى الغرب إلى تحقيقه في المنطقة. يعتبر اتخاذ السياسة الغربية لليبراليين العرب قاعدة انطلاق لتنفيذ سياساتها في المنطقة أمراً منطقياً؛ بالنظر إلى التجانس الموجود بين الطرفين؛ فالليبراليون العرب على مستوى تعليمي جيد، ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وفي بعض الأحيان يتحدثون الفرنسية أيضاً. فالساسة الغربيون يجدون الراحة في التعامل معهم وهم كذاك يحبون التعامل مع الغرب. لكن إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فيجب أن نعترف أن الليبراليين العرب القدامى قد كبر سنهم وازدادت عزلتهم وتضاءل عددهم، ولم يعد لهم إلا تأثير محدود في مجتمعاتهم والقليل من الشرعية؛ فهم بالنسبة لمواطني بلدانهم وبخاصة الشباب منهم لا يمثلون أمل المستقبل، بل يمثلون الأفكار الغابرة التي لم تنجح في الماضي، ولم يعد لديهم القدرة على استمالة قلوب وعقول أبناء بلدانهم. إن اهتمام الغرب المتزايد بالليبراليين العرب يُنذر بتأزم موقفهم، ويجعلهم يوصَمون بالعمالة، ليس العمالة الهادفة إلى تحقيق الحرية والتقدم، ولكن العمالة للغرب ومساعدته في مساعيه لإضعاف وإخضاع العالم العربي. بل الأسوأ من ذلك جعلهم يتحولون إلى الغرب؛ حيث يجدون حفاوة الاستقبال تاركين بذلك مجتمعاتهم؛ لأنهم لا يجدون فيها تلك الحفاوة التي يجدونها في الغرب. إن الناظر إلى حال الليبراليين العرب يجد أن السواد الأعظم منهم ينتظر أن تأتي الولايات المتحدة لتسلمهم مفاتيح البلاد التي يعيشون فيها؛ في الوقت الذي تقوم فيه الجماعات المحافظة بعمل برامج نشطة إبداعية مبهرة يقدمون من خلالها مجموعة من الخدمات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين. مع هذا؛ فإن كثيراً من الليبراليين يعتقدون حتى الآن أن دورهم ينتهي بمجرد كتابة مقالة. وإن من غير المحتمل أن يؤدي هذا الدعم المتنامي إلى انغماس هؤلاء الأشخاص في مجتمعاتهم، بل على العكس؛ فإن ذلك الدعم سيشكل حافزاً لهم لتعلم كيفية الحصول على المساعدات من الهيئات الغربية التي تقدم المعونة. وقد ذكر لي أحد أصدقائي بالإدارة الأمريكية أن نموذج المتلقين للمعونة التي تقدمها الإدارة الأمريكية هو ابن لأحد السفراء من أم ألمانية وتصادف أنه يدير منظمة أهلية. إن تقديم المساعدات إلى تلك المنظمات لا يجعلها تبدو نبتاً للوطن بل على العكس يقلل من ذلك التصور. إن السياسة الحكيمة تقتضي تنفيذ النقاط الثلاث الأساسية التالية بدلاً من الرهان على الليبراليين العرب: أولاً: أن نستثمر الحرية؛ وذلك بأن ندعم الحرية للجميع ليس فقط لمن يدعمون أفكارنا، بل ولمن يعارضونها.

وقد يرى بعضنا أن الضغط على الحكومات العربية لإتاحة المجال أمام حرية التعبير وحرية إنشاء الجمعيات الأهلية والانضمام لها يشكل خطراً كبيراً، خاصة في ظل الحرب العالمية على الإرهاب. لكن ذلك أمر غاية في الأهمية؛ لأن تلك الحرية ستوجِدُ سوقاً حرة تُعرض فيها كل الأفكار، وهو الأمر الذي سيمكِّن الليبراليين من كسب الدعم الشعبي بدلاً من أن يُنظَر إليهم على أنهم قد اختيروا من الغرب ليكونوا بديلاً عن القوميين والمحافظين والراديكاليين. نحن دائماً ندعي أننا نرغب في أن تقوم دولة عظمى بإدارة الشرق الأوسط كي تتيح المجال للمنافسة. إذاً لماذا لا نرحب بتلك المنافسة بين الأفكار المبنية على مبدأ تكافؤ الفرص للجميع؟ ثانياً: يجب أن نقلل من الشروط والصفات المطلوبة في المنظمات التي نقدم لها الدعم، فعدم تقديم الدعم لمنظمات تقوم بأعمال إرهابية يعد أمراً طبيعياً، لكن سياسة منع الدعم عن المنظمات التي لا تقدم الدعم لسياستنا تعتبر هزيمة لأنفسنا، وستؤدي بنا إلى العزلة، كما ستضعف من مصداقية كل من نرغب في العمل معه. ثالثاً وأخيراً: يجب استحداث أنشطة جديدة لا تحمل ختم الإدارة الأمريكية؛ هذه الأنشطة الجديدة يمكن أن تنفذ بمشاركة من الحلفاء الأوروبيين الذين يشعر الكثير منهم بالقلق من تأزم الوضع السياسي والاجتماعي في العالم العربي. بعض الأنشطة الأخرى يمكن أن تقوم بها المنظمات الأهلية والجامعات ومؤسسات أخرى، الهدف من ذلك ليس إخفاء الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في هذه الأنشطة، بل الهدف هو جذب قطاع كبير من المجتمعات الشرق أوسطية إلى قطاع كبير من المجتمعات الغربية. كما يجب أن لا نتخلى عن الليبراليين العرب؛ فكثير منهم يقاتل بشجاعة في سبيل تحقيق أفكار ندعمها، والتخلي عنهم سيبعث برسائل خاطئة. لكن في الوقت نفسه يجب أن لا نعلق أملنا على نجاحهم؛ فالأفضل لنا أن نحقق نجاحات جزئية مع قطاع كبير من العامة بدلاً من أن نحقق نجاحاً كبيراً مع مجموعة من النخبة المنعزلة والتي لا تتمتع بأي تفويض شعبي. إننا نريد أن نروِّج للفكر التحرري بين جماهير العالم العربي الموجودة في القاهرة وبغداد وبيروت، وليس في واشنطن ولندن وباريس؛ لذلك يجب أن يأتي الدعم المقدم إليهم من حكومات تلك الدول وليس من الحكومات الغربية. وإذا نسينا ذلك فعندئذ لن نكون قد أسأنا لأنفسنا فقط، بل سنكون قد أسأنا في حقهم أيضاً.))

موقف العلامة محمد بن عثيمين من التصوير

موقف العلامة محمد بن عثيمين من التصوير 18/ 7/1428 هـ فضيلةَ الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر البراك وفقه الله سلام عليك ورحمة الله وبركاته ... أما بعد: فقد قرأتُ كلام الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله في التصوير في المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى له، وقد لحظتُ فيه أشياء أشكلتْ، مثل قوله: "إن التصوير الفوتوغرافي ليس تصويراً، ومع ذلك لا يجوز اقتناء الصور للذكرى"، ومع تردد في بعض المواضع في حكم التصوير، وفي حكم النظر إلى بعض الصور ... آمل تعليقكم على ذلك. الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنّ مَنْ يُمعن النظر في أجوبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في التصوير، والنظر إلى الصور واقتنائها، يلاحظ أن تصوُّره للواقع فيه تشوّش، أي: إنه لم يتصور الواقع تصوراً تاماً، ولهذا وقع في كلامه في هذا الموضوع بعض الأمور التي تُسْتَغربُ مِنْ مثله، عفا الله عنه، ويمكن أن يتخذ منها أهل الأهواء والشهوات طريقاً إلى ترويج ما يهوونه من برامج الإعلام المرئية، ونشر أنواع الصور في الصحف والمجلات. وأهم ما لدينا من كلام الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع أجوبته كما في مجموع الفتاوى له في ج 12 من صفحة 311 إلى 327 ومدار كلامه رحمه الله على ثلاث مسائل: 1 - حكم التصوير. 2 - اقتناء الصور. 3 - النظر إلى الصور. وحاصل كلامه في حكم التصوير أنه يختلف باختلاف المصوَّر، واختلافِ الوسيلة في التصوير، وعلى هذا فالتصوير باعتبار حكمه عند الشيخ ثلاثة أنواع: 1 - تصوير مباح على الصحيح، وهو تصوير الجمادات والنباتات. 2 - تصوير محرم، وهو تصوير ذوات الأرواح باليد. 3 - تصوير مختلف فيه، وهو تصوير ذوات الأرواح بالكاميرا. والشيخ رحمه الله في الأغلب من ظاهر كلامه يختار جواز هذا النوع ما لم يُتَوَصَل به إلى ما هو محرم فيحرم، واحتج الشيخ لما ذهب إليه: أولاً: بأن التصوير بالكاميرا ليس هو من فعل المكلف، فلا يكون تصويرا. ثانياً: أن التصوير الذي بالكاميرا ليس فيه مضاهاة لخلق الله، بل هو نقل للصورة التي خلقها الله بواسطة الآلة، وليس للإنسان في هذا فعل إلا توجيه الآلة وتحريكها، فنقل الصورة لا يتوقف على خبرة المحرك بالآلة ومعرفته بالرسم، وأيَّد رحمه الله ذلك بمَثَل، وهو أن تصوير الخط كما في الصكوك والوثائق ما هو إلا نقلٌ لخط الكاتب، وليس خطاً لمن نقله بالآلة، فيقال: هذا خط فلان الذي هو كاتب الأصل. هذا حاصل ما احتج به الشيخ رحمه الله، وهو مسبوق إلى هذا، وما سمَّاه الشيخ نقلاً للصورة هو ما سمَّاه غيره من المجيزين للتصوير بحبس الظل، ويسمون التصوير بالكاميرا التصوير الضوئي. والجواب عن الأول -وهو أن التصوير بالكاميرا ليس تصويراً لأن ذلك ليس من فعل المكلف- أن يقال: هذا غير مُسَلَّم، فإنه تصوير لغةً وعرفاً، فإنه يقال للآلة: آلة التصوير، ولمُشغِّلها: المُصور، ولفعله: التصوير، وللحاصل بها: صورة، وهذا التصوير من فعل المكلف ولكن بالوسيلة، وهو من فعل المكلَّف، ولكن بالوسيلة الحديثة ((الكاميرا))، ومما يدل على أنه من فعل المكلَّف أن له أحكاماً، فقد يكون مباحاً وقد يكون حراماً كما تقدم. ويجاب عن الثاني -وهو أن التصوير بالكاميرا ليس فيه مضاهاة لخلق الله تعالى ... إلخ- بأن ذلك ممنوع؛ فالمضاهاة مقصودة للمصور وحاصلة. وتسمية ذلك ((نقلاً)) تغيير لفظٍ لا يغير من الحقيقة شيئاً، فلا يؤثر في الحكم.

والصورة التي خلقها الله لا تنتقل عن محلها، فإنها لو انتقلت لخلا محلُّها، ومعلوم أن الصورة عَرَض لا يقوم بنفسه، فلا يوصف بالانتقال، بل الزوال، فالصورة الحاصلة بالكاميرا تضاهي الصورة القائمة بالمصوَّر وليست إياها، ولهذا يتصرف المصوِّر في الصورة بالتصغير والتكبير والتحسين والتقبيح. ولو كانت الصورة محضَ نقل لما أمكن التصرف فيها. فتبيَّن أن التصوير بالكاميرا تصويرٌ حقيقةً، لا نقلٌ للصورة التي خلقها الله، لأن ذلك متعذر. ولتصرف المصور في الصورة الحاصلة بالآلة. وأما صورة الخط فلا يقال فيها: إن هذا خط فلان، بل صورة خطه، ولهذا يفرق بين الأصل والصورة، فيقال في الوثيقة: هذا أصل وهذا صورة، ولا يُعوَّل في الإثبات على الصورة في الكثير من الأمور المهمة، بل لابُد من إحضار الأصل. والله أعلم. وأما المسألة الثانية، وهي حكم اقتناء الصور، فقد ذهب الشيخ رحمه الله إلى تحريم اقتنائها للذكرى، وتحريم تعليقها، وقد أشار في ذلك إلى دلالة السنة على تحريم اتخاذها واقتنائها في غير ما يُمتهن. (ج 12 ص 325) والسنة التي أشار إليها مثل حديث عائشة رضي الله عنها في قصة القرام التي سترت به سَهْوة لها، أي فُرْجة، وكان فيه تصاوير، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم هتكه وتَلَوَّن وجهه، وقال: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" قالت عائشة: فجعلناه وسادة أو وسادتين. متفق عليه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم" ثم قال: "إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" متفق عليه. وقد استوفى الشيخ رحمه الله ذكر الأدلة على حكم اقتناء الصور في الجواب المُطول المفصل الوارد في ج12 في الصفحات من 311 إلى 317. وسواء عنده أكانت الصورة كاملة أم غير كاملة إذا كان الرأس موجوداً لحديث أن جبريل عليه السلام لما امتنع من دخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم لوجود التمثال الذي بالباب، أمر أن يُقطع رأس التمثال حتى يكون كهيئة الشجرة، ونقل الشيخ رحمه الله عن الإمام أحمد قوله: "الصورة الرأس" ومثله عن ابن عباس رضي الله عنه. وأكد الشيخ أنه لا يزول حكم الصورة حتى يُبان الرأس إبانةً تامةً، وكأنه يشير إلى ما يفعله المحتالون على تحليل الحرام من تصوير الجسم وتصوير الرأس فوقه مع الفصل بينهما بخط، وقد نص رحمه الله على جواز اقتناء الصورة أو ما فيه صورة مما تدعو إليها الحاجة أو الضرورة، كالصورة لإثبات الشخصية، والصور التي في النقود. وبين رحمه الله أن ما يحرم اقتناؤه من الصور يتفاوت حكمه باعتبار مقصود مقتنيها، وباعتبار المصوَّر، كاقتناء صور العظماء وصور النساء، ولا سيما مع تعليقها أغلظ تحريماً من غيرها لما يتضمنه ذلك من المفاسد. وقد أجاد وأفاد رحمه الله في مسألة اقتناء الصور هذه، وإن كان تصويرها بالكاميرا. ولكن هذا يُضعف ما ذهب إليه من جواز تصوير ذوات الأرواح بالكاميرا. فإن القول بجواز التصوير بالكاميرا مع تحريم اقتناء الصورة فيه نوع تناقض. مما يدل على أن قوله بجواز التصوير ليس هو فيه على طمأنينة. ويؤيد ذلك أنه نص في جوابه المفصل المشار إليه على أن التصوير بالكاميرا من المتشابهات، حيث قال بعد ذكر الخلاف: "والاحتياط الامتناع من ذلك، لأنه من المتشابهات، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". (ج12/ 312)

وبناءً على ما تقدم يتبين أنه لا يصح إطلاق نسبة القول بجواز التصوير بالكاميرا إلى الشيخ، فإما أن يقال: (عنه في ذلك روايتان)، أو يقال: (إن قوله بالجواز لم يكن مطمئناً إليه وإن احتج له ببعض الشبهات العقلية، فقد ذكر القولين وحجج الفريقين، ومال في أغلب أجوبته إلى القول بالجواز). وقد اشتهر عنه القول بالجواز، وأخذ بذلك كثير من طلاب العلم وغيرهم تقليدا، كما تعلق به أصحاب الأهواء الذين لا يأخذون من أهل العلم إلا ما يوافق أهواءهم، فعمت البلوى بهذا التصوير واستباحه أكثر الناس؛ جهلاً وتقليداً وهوى، وهذا كله لا يضر الشيخ، فهو علامة مجتهد متحر ٍللحق، فأمره دائر بين الأجر والأجرين، إن شاء الله. فإن المجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. والمقلدون للشيخ لم يمعنوا النظر في سائر أجوبته، لذلك لم يعرفوا حقيقة مذهبه في هذه المسألة. وأما أصحاب الأهواء فلا يعنيهم التحقق من مذهب العالم وفتواه، بل يكفيهم أن يظفروا منه بما يوافق مرادهم ويصلح للتشبث به لترويح باطلهم. وفي كلام العلماء ما يُعد من المتشابه الذي يجب رده إلى الواضح من كلامهم، وسبيل أهل الزيغ اتباع المتشابه من كل كلام، كما قال تعالى: {فَأما الّذين فِي قُلُوبهمْ زيْغ فَيَتّبعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتغاءَ تَأوِيلِه} [آل عمران:7] وهذا منشأ ضلال فرق الضلال من هذه الأمة، فنعوذ بالله من سبيل الغي والضلال. وخلاصة القول أن المبيحين للتصوير بالكاميرا أو التصوير الضوئي أصناف: 1 - علماء مجتهدون في معرفة الحق بريئون من الهوى، فهم في التصوير متأولون، وهذا الصنف قليل. 2 - علماء مجتهدون متأثرون في اجتهادهم بضغط الواقع وشيء من الهوى. 3 - مقلدون بحسن نية. 4 - مقلدون مع شهوة وهوى، وهؤلاء يكثرون في المنتسبين إلى العلم والدين. 5 - متبعون لأهوائهم لا يعنيهم أن يكون التصوير حراماً أو حلالاً، لكنهم يدفعون بالشبهات وبالخلاف من أنكر عليهم، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون، فالناس في هذا المقام كما قال الله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَالله ُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون} [آل عمران:163]. وأما المسألة الثالثة، وهي حكم النظر إلى الصحف والمجلات والتلفاز فقد فصّل فيه الشيخ من جهة نوع المصوَّر ومن جهة أثر النظر: فعنده أن الصورة إذا كانت لحيوانات، أي لغير آدمي جاز النظر إليها، لكن لا يجوز اقتناء الصحف من أجلها وإن كانت لآدمي ففيه تفصيل، وهذا نص كلامه: "وإن كانت صور آدمي، فإن كان يشاهدها تلذذاً أو استمتاعاً بالنظر فهو حرام، وإن كان غير تلذذ ولا استمتاع، ولا يتحرك قلبه ولا شهوته بذلك، فإن كان ممن يحل النظر، كنظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة أو إلى الرجل أيضاً، على القول الراجح فلا بأس به، لكن لا يقتنيه من أجل هذه الصور" وهذا تفصيل حسن لا إشكال فيه، ولكنه رحمه الله قال بعد ذلك: ((وإن كان ممن لا يحل له النظر إليه، كنظر الرجل إلى المرأة الأجنبية فهذا موضوع شك وتردد)). (ج 12/ 326) وقد ذكر بعد ذلك منشأ هذا الشك والتردد عنده وهو أمران: الأول: تردده في دلالة حديث "لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتها لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" هل النهي عن نعت صورتها الظاهرة كمحاسن وجهها، أو النهي عن نعت ما تحت الثياب من العورة؟ والشيخ يميل إلى الاحتمال الثاني، من أجل لفظ المباشرة ومن أجل زيادة النسائي في الحديث ولفظه: "لا تباشر المرأةُ المرأةَ في الثوب الواحد".

فيقال: هب أن المراد من الحديث المعنى الثاني، فتحريم النظر إلى المرأة الأجنبية لا يتوقف على دلالة هذا الحديث، فقد جاء في الكتاب والسنة ما يدل على تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية، قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [المؤمنون:30] وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه الإمام أحمد وغيره عن علي رضي الله عنه، وهو صحيح بمجموع طرقه. وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري. الأمر الثاني -مما أوجب التردد في تحريم النظر إلى صورة المرأة الأجنبية بغير شهوة-: ما ذكره من الفرق العظيم في التأثير بين الحقيقة والصورة. فيقال: أولاً: هذا لا يُسلم على الإطلاق، فقد تكون الصورة أعظم تأثيراً لما يجري فيها من التحسين والتلوين، والعناية في تحديد مواضع الفتنة. وثانياً: دعوى الفرق في التأثير بين الحقيقة والصورة -وإن سُلِّم في الجملة- فإنه يرد على ما قرره رحمه الله في الاحتجاج لجواز التصوير بالكاميرا، حيث ذكر أن التصوير بالكاميرا نقلٌ للصورة التي خلقها الله، وهذا يقتضي أن تكون الصورة كالحقيقة في التأثير. نعم؛ إذا كانت المرأة الأجنبية حاضرة يُطمع في الوصول إليها، فهي من هذه الجهة أعظم تأثيراً على الناظر من الصورة. وبهذا يتبين أن النظر إلى صورة المرأة الأجنبية كالنظر إلى المرأة الأجنبية في التأثير والتحريم، وإن وُجد تفاوت بينها، فما كان أعظم تأثيراً كان النظر إليه أشد تحريما. هذا كله في النظر إلى المرأة الأجنبية أو صورتها بغير شهوة، أما إذا كان بشهوة فقد تقدم نص الشيخ على التحريم مطلقاً. وذكر رحمه الله في هذا المقام شيئاً من الفرق في النظر إلى صورة المرأة الأجنبية بين المعينة وغير المعينة فإن كان النظر بشهوة وتلذذ فهو حرام، وإن كان بغير شهوة؛ فإن كانت الصورة لامرأة معينة، فالقول بتحريم النظر حينئذ قال فيه الشيخ: ((فيه نظر)) جزء 12 ص 327 وإن كانت الصورة لغير معينة وبغير شهوة، ولا يخشى أن تجر إلى محظور شرعي، فالنظر في هذه الحال جائز. وهذا التفصيل من الشيخ رحمه الله لم يذكر عليه دليلا. وحاصل ما تقدم أن رأي الشيخ في حكم التصوير بالكاميرا ليس مستقراً ولا محرراً، وإن كان الغالب على كلامه ظاهرُه القول بالجواز، وما ذكره من الأدلة على ذلك ضعيفة ومنقوضة كما تقدم، وكذلك ما ذكره من التفصيل في مسألة النظر إلى صور الآدميين فيه ما لا يتجه، كالفرق في النظر إلى صور المرأة الأجنبية بين المعينة وغير المعينة. وكذلك تردده في حكم نظر الرجل إلى صورة المرأة الأجنبية بناءً على الفرق في تأثير النظر بين الحقيقة والصورة. وهذا التفصيل وهذا التردد يمكن أن يكون شبهة لأصحاب الأهواء والشّهوات، من مطالعي الصّحف والشّاشات بإطلاق أبصارهم فيما يُعرض ويُنشر. وإذا كان معظم ما ينشر ويعرض من صور النساء يقصد منه الإغراء وجذب الأنظار وإشباع الشهوات، والدعاية إلى ترويج الصور والمجلات والمبيعات. فلا متمسك لأهل الباطل في كلام الشيخ رحمه الله. فإن النظر إلى ما يُعرض وينشر في وسائل الإعلام من صور النساء الفاتنات لإمتاع القراء والمشاهدين كله حرام عند الشيخ. وأما ما قرره الشيخ في مسألة اقتناء الصور فهو واضح بيّن لا إشكال فيه. والذي أراه صواباً هو تحريم التصوير بالكاميرا، وأنه داخل في عموم أدلة تحريم التصوير، وتحريم اقتناء الصور، وتحريم النظر إلى صور ما يحرم النظر إليه من الرجال والنساء، وأن الصورة كالحقيقة في ذلك، ويحسُن هنا ذكر جملة من الأحاديث الوردة في حكم التصوير:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة) متفق عليه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله). ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم). ولهما عنه مرفوعاً: (من صور صورة في الدنيا كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ). وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَعَن المصورين). والأحاديث الدالة على تحريم تصوير ذوات الأرواح وأنه من كبائر الذنوب وتحريم اقتناء الصور كثيرة مشهورة محفوظة في دواوين السنة. وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة وباقية إلى قيام الساعة، لعموم رسالته وختم النبوة به صلى الله عليه وسلم، فأحكام شريعته وخصوصها لا تختص بزمانه بل هي دائمة إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى، ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، فنصوص تحريم التصوير شاملة لكل تصوير بأي وسيلة، مما كان في عهده صلى الله عليه وسلم أو يكون بعده، والله الذي أنزل هذه الشريعة يعلم ما سيحدث من وسائل التصوير، فيجب تحكيم نصوص الكتاب والسنة وإعمال عُموماتها وإطلاقاتها، ما لم يثبت ما يوجب التخصيص أو التقييد، كما يجب التحاكم إليها عند التنازع كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء:59]. وبعد؛ فعلى الجميع أن يتقوا الله ويلتمسوا رضاه، ويجتنبوا ما حرم عليهم وما يقرب إلى الحرام من المشتبهات. هذا ونسأل الله أن يلهمنا الصواب، ويهدينا سبيل الرشد في القول والعمل. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أملاه عبد الرحمن بن ناصر البراك الأستاذ (سابقا) بجامعة الإمام محمد بن سعود غرة رجب 1428 المصدر: موقع الشيح عبد الرحمن بن صالح البراك

خرافة السر (قراءة تحليلية لكتاب "السر" و"قانون الجذب")

خرافة السر (قراءة تحليلية لكتاب "السر" و"قانون الجذب") بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وقفت منذ مدة على كتاب (السر) ( the Secret) (¬1) لمؤلفته الاسترالية (روندا بايرن) (¬2) وذلك في نسخته الإنجليزية، وقد حقَّق الكتاب حينها ولا يزال مبيعات هائلة بلغت ملايين النسخ، وتصدَّر قوائم الكتب الأفضل مبيعاً في المجتمعات الغربية، وتُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة من لغات العالم الحية، وحصد في طريقه أناساً فأخذ من أموالهم وعقولهم ما أخذ. وزاد من حمى انتشار الكتاب ما حضي به من حفاوةٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ، حتى تنقَّلت مؤلفته ومشاركوها ليحلوا ضيوفاً في برامج فضائيةٍ واسعة الانتشار كبرنامج (لاري كنج) و (أوبرا) وغيرهما (¬3)، ليكون ذلك سبيل دعاية لفكرة الكتاب وتسويقاً علنياً (للسر). ولقد طالعت هذا (السر) وقرأته فوجدت كتابَ دجلٍ وخرافةٍ، يراد تمريرها عبر بهرجةٍ لفظيةٍ، وزخرفةٍ كلاميةٍ، ودعاوى فارغةٍ، فتركت الكتاب ولم أحفل به كونه من الباطل البين، ولم أُعنَ حينها بالكتابة حوله كونه مكتوباً بلغته الأم مما ساهم في تحجيم انتشاره وتضييق عدد قرائه عندنا (¬4). لكن حين تُرجم الكتاب إلى العربية، وأخذت إعلاناته تطل علينا في الشوارع، ويُسوَّق له على مستوى عالٍ، تغير الحالُ، وتبدَّلَ الرأي. فها هو الكتاب (يخبط خبطته) التجارية عندنا كما فعل في أماكن أخرى، وهاهو يزلزلُ بتلك (الخبطة) عقول أناسٍ وقلوبهم، ليحصد في طريقه المعجبين والمؤمنين. وما عليك إلا أن تبحث في الإنترنت باستعمال (اسم الكتاب= السر) أو (اسم المؤلفة=روندا بايرن) لترى حجم انتشار هذا العمل، وعظيم الاحتفاء به، وذلك في عشرات المواقع والمنتديات العربية، بل تسرب هذا الاحتفاء للصحافة المحلية، فأخذ بعض الصحفيين يمدح الكتاب ويروج له، فمثلاً: ¬

(¬1) وقد صدر أولاً على شكل فيلم تعليمي/وثائقي ظهر على بعض الفضائيات، ثم بيع على شكل DVD، ثم طُوّر العمل ووسعت المضامين بهذا الكتاب. وهذا الفلم والكتاب وملفاته الصوتية قد حقَّقت جميعاً مبيعات هائلة. (¬2) وهي كاتبة ومنتجة أفلام تلفزيونية، ولدت سنة 1955م، وقد عُرفت من خلال عملها الأشهر ( the Secret) ، والذي أوصلها لتكون من ضمن قائمة (المائة شخص الأكثر تأثيراً في العالم) بحسب تقرير مجلة التايمز لعالم 2007، ويتسق هذا الكتاب مع مبادئ (حركة الفكر الجديد) ( New Thought Movement) والتي يؤمن أصحابها -من مؤلفين وفلاسفة ومدربين وروحانيين وغيرهم- بمجموعة من المبادئ (الميتافيزيقية) والمختصة بطرائق العلاج، وتطوير الذات، وتأثير الفكرة في الماديات، وكتاب (السر) يدور حول هذه المفاهيم، ويروج لها وفق منظومة هذه الحركة، والتي انقسمت إلى جملة من المدارس المختلفة -كلها واقعة في انحرافات خطيرة- فيما يتصل بوجود الله وصلته بالإنسان، وبعضها أشد انحرافاً من بعض حيث تدعي أن الله في كل مكان، وأن روحه تسري في كل إنسان -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً-. (¬3) بل ظهرت (أوبرا وينفري) بنفسها في برنامج (لاري كنج) مبشرة بكتاب (السر)، ومروجة لفكرته. (¬4) وصرت اليوم مقتنعاً بضرورة دراسة تقلبات (الموضة الفكرية) (والصرعات العلمية) (والتقليعات العقدية) في المجتمعات الغربية، فإنها -للأسف- عن قريب سترد علينا، وستجد من يصدق ويؤمن ويروج لها، كون القوم مصدرين ولا زلنا مستوردين، والله المستعان!

• يقول أحد الكتاب في مقال له منشور بصحيفة عكاظ (العدد 2096) مثنياً على الكتاب، ومظهراً ابتهاجه بمضامينه: ("السر" لـ"روندا بيوني" واحد من سلسلة نادرة من الكتب فيه تألق ذهني محض يمدك ببهجة طويلة الأجل ويسهل عليك عملية التنفس ويثير فيك الرغبة في الحلم في معركة حياتية نحتاج فيها جميعاً أن نعيد برمجة أحلامنا بعد مراجعة الظروف). • ويقول كاتب آخر في مقال له في جريدة الرياض (العدد 14509) بعد أن عرض لخلاصة الكتاب: (هذا هو "السر" الذي حقق النجاح للكثيرين أعرضه لكم لأنني أحبكم وأتمنى أن تحققوا كل ما تصبون إليه، ولا أرجو من ذلك إلا أن تذكروا بالخير من كشفه لكم متمنياً للجميع النجاح). • وتقول إحدى الكاتبات في مقال لها (العمق والأثر) والمنشور بجريدة اليوم (العدد 12805): (لأول مرة في حياتي انتهي من قراءة كتاب وأقلبه لأقرأه من جديد في اللحظة ذاتها التي انتهيت فيها منه. قرأته في المرة الأولى لأفهم سر رواج ذلك الكتاب في أمريكا وكيفية عمل (السر) وهذا هو اسم الكتاب ( the Secret) وقرأته في المرة الثانية وأنا (زعلانه) وعدم رضاي لم يكن بسبب الكتاب ومحتواه ولكن بسبب فقداننا نحن العرب المسلمين لمن يكتب لنا بتلك الطريقة السهلة بقربها ووضوحها وبعدها عن أسلوب الوعظ ومفرداته المتكررة في كل الكتب والمحاضرات). وتقول في آخر مقالها مكمّلة نقمتها على المكتبة العربية: (نبحث في المكتبة العربية عن كتاب من ذلك النوع فلا نجد، لأنهم جميعا يخافون من مغبة التفكير، ويميلون إلى المنقول، فنكرر أنفسنا، ونكرر معارفنا، بالأسلوب الذي لا نجرؤ على تجاوزه. وهو أسلوب الأمر وأسلوب النهي الذي جاء به كتاب (لاتحزن) كمثال. فالكتاب رغم اختلافه عن غيره إلا أنه لم يتجاوز تلك الأساليب بدءاً من العنوان ومروراً بصيغ الأمر المتكرِّرة كثيراً في الكتاب. ربما كان اختلاف الكتاب في أنه بسط الأسلوب القديم ومزج في الأثر على القراء بين الآيات والأحاديث والتجارب الإنسانية من خلال أبيات من الشعر. ولكننا نبحث عن المزيد من العمق ومزيدٍ من القرب الذي يترك فينا أثراً قويا كما فعل كتاب السر). فهل كتاب (السر) جديرٌ حقيقة بمثل هذا الثناء، أم أنه نتاج التغيير ليس إلا. فإذا ما اعتدنا الأسلوب الجديد، انقلبنا عليه وصار محل نقمتنا. ومن غريب ما قالته في مقالها هذا وهي تحدثنا عن حقيقة (السر) قولها: (فكل ما وجدته في الكتاب الذي شارك فيه مجموعة من المسيحيين وربما اليهود هو التالي: ? إن الدعاء مخ العبادة فألحوا في الدعاء. ? لئن شكرتم لأزيدنكم. ? تفاءلوا بالخير تجدوه. ? الإيمان العميق بالله وبقدرته. هذه النقاط الأربع هي الأسس التي بنيت عليها فكرة الكتاب). فهل هذه هي الأسس التي بني عليها الكتاب فعلاً، أم أنه مبني على ضدها ونقيضها؟! كما ستراه إن شاء الله. إن مثل هذه القراءة السطحية تنم عن إشكاليةٍ عميقةٍ عند كثير من قرائنا الذين يقرؤون ولكن لا يفهمون ما يقرؤون، أو يفهمون حسب مزاجهم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهم حقيقة الكلام كما هو. بل جلُّ همهم البحث عن الجديد لمجرد كونه جديداً، ولمجرد خروجه عن المألوفِ، حتى لو كان المألوف حقاً لا مريةَ فيه، والجديد باطلاً!! • ويقال في كاتبة أخرى ما قيل هنا حيث ادعت ذات الدعوى في مقال لها معنون بـ (السر) وذلك في جريدة اليوم (العدد 12361)، قالت بعد ما تكلمت عن بعض أفكار الكتاب: (هي الأفكار الرئيسة في كل الأديان. الدعاء، الإيمان العميق بأن الكون مسخر لنا وبأن الخير غير محدود، وبأن الشعور بالرضا والشكر والحمد يولد خيرات أكثر. وهذا ما نجده في القانون القرآني أيضا: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، وأن التفاؤل يجلب فعلا المسرات، أي كما قال محمد (صلى الله عليه وسلم) (تفاءلوا بالخير تجدوه)) وتقول أيضاً مبينة منهجيتها في قراءة هذا الكتاب: (كلما كنت أقرأ فقرة أو قسما من الكتاب، بشكل لا شعوري أجد نفسي أفكر فيما يقابله في القرآن الكريم أو في التراث الإسلامي أو الإنجيل أو البوذية). ولقد ذهبت إلى إحدى مراكز البيع الرئيسة فهالني تهافت الناس على شرائه، ثم هالني أن الكتاب قد نفدت نسخه تماماً بعد أيام قلائل، ليس في الفرع الذي ذهبت إليه فحسب بل في مختلف الفروع وعلى مستوى مدنٍ مختلفة. فما السرُّ في انتشار (السر)، وما حقيقة السِّر المضمَّن في (السر)؟!

رؤية شرعية في الجدال والحوار مع أهل الكتاب

رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ في الجِدَالِ والحِوارِ مع أهْلِ الكِتَاب ِ راجعه وقدم له/ الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف تأليف/ الشريف محمد بن حسين الصمداني تقديم الحمد لله الذي أمر وأوجب جدال الكفار ومحاورتهم بقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل 16/ 125] والقائل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [سورة العنكبوت 29/ 46] والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي امتثل لأمر الله وجادلهم في مكة والمدينة وفي حال القوة والضعف وفي السلم والحرب وأمر بذلك وسماه جهاداً فقال عليه الصلاة والسلام: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) رواه أحمد وغيره. قال ابن حزم -رحمه الله- "وهذا حديث غاية في الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله"، وهذا الواجب قد فرَّط فيه كثيرٌ من الدعاة والمصلحين، ففي الوقت الذي نجد فيه دعاة التقريب بين الأديان ودعاة العصرانية ينشطون لذلك ويعقدون الندوات والمؤتمرات تارة باسم التعاون وأخرى باسم التسامح والتعايش وثالثة لتحاشي النزاعات وصدام الحضارات -زعموا- وغير ذلك من التُرَّهات؛ في الوقت نفسه نجد تقاعساً كبيراً وعزوفاً من دعاة الحق عن هذا النوع من الجهاد وأحسنهم حالاً من اهتم بدعوة أهل الكتاب -وفي هذا خيرٌ كبير- مع أن دعوة أهل الكتاب والمشركين ليست هي جدالهم ومحاورتهم وما يُدرأ من المفاسد والشرور بالجدال لا يمكن درؤه بمجرد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة التي أُمرنا بها، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- "أما الجدلُ فلا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل؛ فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن" والله عز وجل قد يدفع بالحجة واللسان ما لا يدفعه بالسنان قال العلامة ابن حزم -رحمه الله-: "ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة". وما أحوج من أراد أن يتصدى لهذا النوع من الجهاد أن تكون له رؤية شرعية يتسلح بها في جهاده لأعداء الله، هذا وقد تكفل أخونا الفاضل الشريف محمد بن حسين الصمداني بإيضاح هذه الرؤية من خلال كتابة هذا البحث الموسوم بـ ((رؤية شرعية في الجدال والحوار مع أهل الكتاب)) وقد قرأته ووجدته بحثاً قيماً يجدر بمن تصدى للحوار مع أهل الكتاب أن يستفيد منه وقد ذكر فيه مؤلفه -جزاه الله خيراً- مباحث مهمة استوقفني منها الشرط الأول من شروط المحاور المسلم ولوازمه وهو الأهلية وإعطاء الإسلام حقه من النصرة والبيان ومن لوازم هذا الشرط -كما ذكر -: 1 - العلم والعدل. 2 - معرفة ما ينكي وينجع في رد صيال الخصم وجداله. 3 - الصدع بالحق والجهر به. وقد علمت أنه أطلعه على عددٍ من المشايخ الفضلاء وطلاب العلم فاستحسنوه. أسأل الله عز وجل أن يجزي الباحث خير الجزاء، وأن يرزقنا وإياه الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا وأن ينصر جنده ويعلي كلمته إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ... أقوال ابن تيمية وابن حزم منقولة من أصل البحث فليرجع إليها.

التدين الجديد وأثره في تمرير ثقافة التغريب في مجتمعاتنا

التدين الجديد وأثره في تمرير ثقافة التغريب في مجتمعاتنا أنور قاسم الخضري مقدمة: استطاعت الصحوة الإسلامية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي فرض نفسها كواقع ملموس في الحياة العامة، والأوساط الاجتماعية المختلفة؛ ذلك أنها خاطبت كافة الشرائح والفئات والنخب - بغض النظر عن مدى مضمون هذا الخطاب وسلامته!! ونظراً لأن الإنسان متدين بالفطرة، فهناك تيار عام وظاهر اليوم ينحو باتجاه الشخصية المتدينة، بعد أن سادت لفترة من الفترات طبيعة اللامبالاة والإعراض والتخلي عن الدين، وذلك تحت وطأة التوجه العلماني الذي عمل على تغييب الخطاب الديني ومحاربته وصدِّ الناس عنه. والقارئ أو المستمع أو المشاهد أو الزائر - في العالم العربي والإسلامي- لا يخطئ مظاهر التدين التي تنتشر في أوساط المجتمع وتلوح على مؤسساته وأنشطته وتعاطيه مع الأحداث .. هنا وهناك. ويبقى من الضروري في ظل هذا الاتساع والانتشار السريع والمتزايد دراسة الظواهر المصاحبة لهذا التوجه (أو التيار) الديني .. أو ما اصطلح عليه "الصحوة الإسلامية". وهذه الضرورة لدراسة من هذا النوع تنبع من عدة جوانب: أولاً: أن توجه الناس نحو التدين يرافقه غالباً جهل بأحكام الدين ومقاصد الشريعة، الأمر الذي قد يوقع البعض في الغلو أو المحدثات أو إضافة شيء إلى العقائد والعبادات والشرائع، وهو ليس منها أصلاً! وبالتالي فيجب على العلماء والدعاة مواجهة أي خطأ من هذا النوع مع نشوء بوادره، كما كان هديه - صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه، فحديث "ذات أنواط"، وحديث الثلاثة نفر الذين سألوا عن عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتقالُّوها .. وغيرها، هي من باب حرص الشارع على ألاَّ تخرج طبيعة التدين الناشئ في النفس البشرية عن حدود الشرع ومقاصد الدين. ثانياً: أن هناك من شياطين الإنس والجن -في كل زمان ومكان ومجتمع- من يحاول أن يحرف توجه الناس إلى التدين إلى مسار مخالف، أو منحرف، مع كونه يبدو في مظهره أنه المسار الصحيح؛ وأغلب انحرافات الأمم عن التدين إنما وقعت في بداياتها الأولى بشيء يسير من المخالفات التي لبست عليهم الشياطين فيها، ليصبغوها بصبغة التدين، ثمَّ ما لبثت أن صارت طرقاً مضاهية للدين، ولكل طريقة أشياع، ولكل شيعة مطاع!! ثالثاً: أن التدين في غالبه هو استجابة لخطاب ديني موجه، وبحسب سلامة هذا الخطاب وصحة مضامينه تكون سلامة الأتباع وصحة أعمالهم وأقوالهم ومعتقداتهم. ونظراً لكثرة الخلاف وتعدد الاجتهادات على مدار أكثر من أربعة عشر قرناً، فإن من الصعب على العامة والجماهير الغفيرة المقبلة على التدين الوصول إلى الرؤية الصحيحة والمناهج الحقة والتغذية المتكاملة والمتزنة والمتدرجة، والتي يصلون بها إلى مراتب الكمال البشري بصوره المختلفة؛ وهذا قد يؤدي بهم إلى الانتقاء والاختيار من "المعروض" وبحسب الرغبة والحاجة، وبالتالي تصنع الجماهير لأنفسها في ظل غياب الخطاب والتوجيه الموحد "تديناً جديداً"، يحمل ملامح غير متجانسة وعناصر غير مترابطة ... وهو بدوره قد يشكل وعياً جمعياً ضاغطاً، وأخطر ما فيه أنه غير موجه ولا إرادي، ومع مرور الوقت يربوا فيه الصغير ويهرم فيه الكبير، ويصبح ديناً له مفاهيمه وقيمه وسننه وشرائعه!! فإذا أراد العالِم أن ينكر على أهله قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف:23]. التدين بين الجديد والقديم:

إن التدين باعتباره جهدا بشريا في جانب التعاطي مع الدين وتطبيقه في الحياة، يتغير ويتبدل ويتجدد، بحسب أحوال الناس وظروفهم المحيطة ووفرة القائمين بواجب الدعوة والتذكير والإرشاد والتعليم. ومن الطبيعي أن يعتريه نقص أو قصور أو خلل، لأن هذا شأن النفس الإنسانية والمجتمع البشري. ومن هنا فإن تسمية ما يحدثه الناس في واقعهم الديني بـ"التدين الجديد" أمر لا غبار عليه، وهو من باب الاصطلاح على الظواهر الجديدة؛ والمهم في الأمر هو التوصيف الموضوعي لهذا الاسم بما يتطابق مع واقعه؛ حتى لا تبنى بقية الأحكام بعيدا من الواقع وحقائق الأمور! ولست أول من يلتفت إلى هذه الظاهرة ويسميها بهذا الاسم، فهناك من كتب عن "الدعاة الجدد" وآخرون كتبوا عن "المتدينون الجدد"، وهي في مجموعها كتابات تتطرق إلى الظاهرة من رؤى مختلفة! وتحليلات متباعدة! فماذا نقصد بـ"التدين الجديد"؟! إن هذا المفهوم متصل بمصطلح "المتدينون الجدد" باعتبارهم النموذج المادي لهذا المفهوم! وعليه فما هي خصائص هذه الفئة من المتدينين، والتي تميزهم عن غيرهم ليحملوا هذا اللقب؟ خصائص "المتدينين الجدد": ظهر في الفترة الأخيرة من العقد الماضي دعاة: "استطاعوا أن ينتقلوا بالأفكار الدعوية والتربوية إلى مدارات جديدة ومختلفة، ومنها إعادة عرض الأفكار الدعوية بشكل جديد، معتمدين على تقنيات حديثة، وأساليب مستحدثة، ومن هذه المشروعات المزدهرة في مصر: مدارس القرآن التي انتشرت بمنهجية متطورة وأسلوب عمل محترف، واعتماد على تقنيات جديدة، وكذلك العدد الضخم من الجمعيات الخيرية والأهلية التي تدار بمجلس إدارة أقل من الثلاثين عمرا، وبأفكار تنموية رائدة". مرجع (3) وانطلق أتباعهم: "نحو عمل اجتماعي شبابي لا يقول: نحن إسلاميون، بل ينخرط فيه الجميع، محجبات وغير محجبات، متمسكون بالصلاة أو غير ذلك!!، ولم يجعل هدفه التغيير الكامل لهؤلاء الأفراد، ولكن التعاون على أهداف بعينها: زيارة لملجأ أو المشاركة في إنشاء مستشفى أو غير ذلك". مرجع (1) ومما يلاحظ على هؤلاء الأتباع وجود الهم للإسلام، لكن وكما يقول أحمد زين: "التعاطي ونمط المعيشة والتصورات تتم وفقا لنمط الحياة الغربية بصورة طاغية ولافتة، وأعتقد أن الرجوع للأحكام الفقهية يمكن أن يدين نموذجا هذا توجهه، كما أن هذه الفترة التي نحياها كفيلة من الناحية الحضارية أن تُوجه نحو أنماط أخرى من الحياة مختلفة عن هذا النموذج، كما أتصور أن التعاطي مع الأغاني والسينما -الغربية خاصة- وغير ذلك لا يُرضَى عنه فقهيا بجملته". مرجع (4) إنه جيل يتلقى ثقافته بنفسه عن طريق الكم الهائل من الفضائيات ومواقع الإنترنت! ويتمتع بقدر من المكانة الاجتماعية، باعتبار الطبقة التي نشأ فيها وظهر منها! كما أنه متمرد اجتماعيا نتيجة الحرية التي يتلقها في أسرته! وله علاقاته المنفتحة مع الجنس الآخر في العائلة والجيرة والدراسة والعمل! ويشكل مواقعه الخاصة على الإنترنت، والتي تجمع بين ما هو إسلامي وما هو مخالف للإسلام .. فصور مشاهير الممثلين والرياضيين والمغنيين .. إلخ، مع روابط الأغاني والموسيقى (المنتخبة)!! ويعد برامجه المتنوعة على القنوات الفضائية، وهي متأثرة إلى حد بعيد بالبرامج المختلطة الأخرى! إنه جيل منطلق يريد تحقيق الأفكار التي اقتنع بها، ونشر الآراء التي تبناها! مستغلا الوسائل العصرية كالفضائيات والإنترنت والصحافة والمجلات! وتتوفر له كافة وسائل الترفيه والمتعة! وإمكانيات الاستقلال بأعمال خاصة! وليس عند هذا الجيل إشكالية في التعايش مع المفهوم العلماني للدين! نظرا لمفهوم "الإرجاء" الشائع في أوساطه، ولاختلاط المفاهيم والأحكام الشرعية لديه.

وهؤلاء في الغالب هم نتاج فقهاء الرُّخص والتيسير والتسامح، ونتاج ما عرف بـ "الدعاة الجدد"، لذلك فلا غرابة أن تجد في سلوكياتهم الكثير من المخالفات الشرعية الظاهرة! وفيما ينظرون إلى أنفسهم بأنهم عاملين ودعاة للإسلام (الذي يحملونه)، تظهر على أشخاصهم وسلوكياتهم مخالفات شرعية، هي في نظرهم أمورا مباحة أو سهلة!! وبالتالي فإن أعمالهم العشوائية والمستقلة تأخذ طابعا منافسا للطابع التقليدي للجهود والأعمال القائمة! ومن الأمثلة على دعاة هذا التيار الأستاذ عمرو خالد: "فهو من هذا الوسط، الذي يذهب للنادي ويختلط مع فتيات عائلته، فهو لن يقدم وجهة نظر مثالية أو متخيَّلة، بل على العكس، سيقدم وجهة نظر واقعية تحاول أن تتحرك بالواقع بعض الشيء، لا أن تتجاوزه وتتخطاه، فليس ثمة فراغ اجتماعي، بل هو مجرد التعديل على النمط، فلا مشكلة أن تتحدث الفتاة في التليفون مع ابن عمها، ولا مانع أن ترافقه إلى عمل أو زيارة، ولا مشكلة أن يتصلا ببعضهما لترتيب زيارة إلى ملجأ أو رحلة جماعية مع بعض المسنين، أو ينزلا في سيارة أحدهما لشراء احتياجات هذه الرحلة، وهذا ما يمكن أن يفسر ابتعاد عمرو خالد عن هذه المساحة، وعدم محاولة أن يتدخل في مساحة لن يستجيب له أحد فيها؛ فالجانب الاجتماعي والفقهي سيتعرض لحراك كبير داخل الحركة تأثرًا بهذا الجيل الجديد". مرجع (1) "وعلى سبيل المثال فإن مفهوم عزل الرجل عن المرأة في الزيارات الاجتماعية قد اكتسح سلوكيات الأفراد، على الرغم من أن داعية كبيرًا بحجم مرشد الإخوان عمر التلمساني كان قد أصدر كتاب (المرأة ومكانتها السامية) سخر فيه من هذا المفهوم، وأثبت بأحاديث صحاح أن المرأة يمكن أن تقدم لضيوف زوجها واجب الضيافة، وحمل بشدة على موجبي النقاب على المرأة"!! مرجع (1)، بتصرف "إنني ألمح خلف هذه السلوكيات ثقة غير محدودة بالنفس، كما أشعر بتجاوز شديد للمرجعيات الفقهية، بالإضافة إلى عملية انتقاء مخلة، سواء بالنسبة لمصادر التلقي (الدعاة غالبا)، أو في الفتاوى التي تُختار، ولا شك أن تنامي معارف هؤلاء المتدينين الحياتية وقدرتهم المبهرة على التوصل للمعلومات (لا العلم)، والثقة الشديدة بالنفس تشعرهم بالقدرة - ولو الزائفة - على الاجتهاد .. فتكون المعادلة: اجتهاد العلماء الميسر + اجتهاد شبابي واثق بلا حدود ودون ثقافة شرعية = حالات تساهل وترخص". مرجع (4) يقول الدكتور صلاح عبد المتعال الخبير الاجتماعي المصري، المستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، وهو من المتابعين والمراقبين لهذه الظاهرة، في حوار له مع موقع "إسلام أون لاين": "في تصوري ظاهرة الدعاة الجدد ظاهرة محمودة، وعلينا تشجيعها ومباركتها، وإن كان لي عليها تحفظ؛ وهو أنها تبتسر الدين وتنتقص من شمولية الإسلام، وإن كان بعضهم لا يريد أن يتناول الإسلام بمفهومه الشامل، ولا يتطرق إلى أمور سياسية حتى لا تمنعه السلطات. غير أنه على أي حال جهد مشكور، وكلٌ يؤجر حسب نيته". مرجع (7) ويفسر نجاح تيار "الدعاة الجدد" في: " أنه يقدم للشباب وجبة شهية من (الدين اللذيذ)، دون (التكليف المر)؛ فلم يحمِّلهم هم هذا الدين؛ حيث عرض عليهم دينا "لا شوكة فيه". وقد ذكرني ذلك ببعض الفرق المتصوفة التي تتقرب إلى الله وتقوم الليل وتصوم وتتعبد، أما المسئولية السياسية ومعايشة مشكلات الناس .. فلا". مرجع (7)

أما الكاتب عاصف بيات، فيرى أن: "هناك تحولا من التركيز على فكرة "الحاكمية للإسلام" إلى التدين الشخصي والأخلاق في المعاملات اليومية، وهو تحول من فلسفة تستهدف الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة إلى استهداف الطبقات العليا في السلم الاجتماعي، وهذا التحول يجعل الإسلام ليس مشروعا سياسيا بقدر ما هو نشاط دعوي يهدف إلى الخلاص الذاتي". مرجع (8) إنهم "يتحركون في المساحات الممكنة بعيدا عن المشاكل، مفضلين ألا تهدر أوقاتهم في محاولة تغيير ما قد يبدو مستحيلا"؛ بحسب وجهة نظر نهى الإبياري .. وهي تكتب عن حالة أندونيسيا كمثال! وحول سؤال لصحيفة «الشرق الأوسط» لـ"باتريك هاني" عن مدى احتمال تحول خطاب عمرو خالد و"الدعاة الجدد" إلى وجهة سياسية؟! يجيب: "الابتعاد عن السياسة كان سر نجاح هذه الظاهرة، وما يميزها عن خطاب جماعات الإسلام السياسي الآخذ في الأفول، كما أن التدين الجديد ذا الطابع (المتعولم) والذي يتصاعد خطابه عالمياً دائماً ما يتكون وينمو خارج السياسة، إضافة إلى أن خطاب عمرو هو بالأساس خطاب للطبقات العليا والصاعدة التي لا مصلحة لها في أي تغيير سياسي ولا تملك تصوراً ولا رغبة فيه". راجع صحيفة "الشرق الأوسط" في 13/ 12/م، مرجع (9). مظاهر "التدين الجديد" وآثاره: إن جيل "المتدينين الجدد" ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد كما يبدو للتدين الذي بدأ في منتصف القرن الماضي وعاش دوامة الصراع السياسي بين العلمانية والإسلام، وبدا في حينه أنه لم يحقق شيئا فاتخذ طابع الكسب الجماهيري لمواجهة المد العلماني، ومن ثم ترخص في كثير من الأمور تماشيا مع الظروف والملابسات التي أحاطت به في ذلك الوقت! وهو كأي تغير ناشئ له مظاهره التي لا تخطئها العين أو السمع في المجتمع أو عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقرؤة، وهنا نضع سردا عاما لهذه الظواهر من خلال مشاهدات شخصية أو كتابات تطرقت للموضوع! ومن أول مظاهر "التدين الجديد" أنه تدين في أوساط اجتماعية ثرية ورفيعة ومثقفة بل ومنفتحة، يقول أحمد زين: "إذا ركزنا على المجتمع المصري كمثال؛ فسنجد تغيرًا يُلحَظ في المجتمع المصري -ربما منذ 1998م- في خريطة التدين به، فثمة انتقال لثقل التدين نحو طبقات أعلى اجتماعيًّا واقتصاديًّا وأقوى وأكثر تأثيرًا". مرجع (1) ويضيف: "لكن في العقد الذي نعيشه برزت مظاهر التدين وسط طبقات أكثر ثراءً، أو بشكل أدق: الطبقات "الأكثر ثراءً" .. مجتمعات (مارينا) التي غزاها الحجاب، ومساجد النوادي الراقية (الشمس والصيد وسبورتنج) التي امتلأت بجمهور كان قد تعود على ارتياد أماكن اللهو، وقد نشر هذا الجمهور في أنديته صلاة القيام والدروس الدينية، وشهدت الجامعة الأمريكية -وهي مكان نخبة النخبة ماديا في مصر- صعودًا لتيار إسلامي متعدد الوجهات والاتجاهات". مرجع (1) وهو تدين في أوساط الفتيان والفتيات، أي شريحة الشباب! ففي تونس: "يرى الباحثون أن هناك إقبالا متزايدا من قبل فئات الشباب على المساجد، ومن النساء والفتيات -خصوصا في المدن الكبرى- على ارتداء الحجاب، على الرغم من وجود نص قانوني صريح مانع له". مرجع (2) لكن طبيعة هذا الإقبال في تونس: "ترتبط بتوجه اجتماعي وأخلاقي محض، يقوم على وعي المتدينين بأهمية النأي بالتزامهم الديني عن أي صراع سياسي أو حزبي"؛ وهذا البعد عن الجانب السياسي ليس إلا نتيجة للحرب التي لاقتها الأجيال السابقة، إلى درجة ينتقدها الغرب على هذه الأنظمة العميلة له أصلا!

وقد صاحب تدين هذه الشريحة من الناس مظاهر غريبة عن الوسط المتدين حقا: "فلا مشكلة أن تتحدث الفتاة في التليفون مع ابن عمها، ولا مانع أن ترافقه إلى عمل أو زيارة، ولا مشكلة أن يتصلا ببعضهما لترتيب زيارة إلى ملجأ أو رحلة جماعية مع بعض المسنين، أو ينزلا في سيارة أحدهما لشراء احتياجات هذه الرحلة"! مرجع (1) وتجاوز الأمر إلى الفضائيات الرسمية وغير الرسمية: "فلم يعد التلفزيون الرسمي يظهر المتدين بالصورة الساذجة التي تلمز الدين وقيمه، بل ظهرت المحجبات في الأعمال الدرامية وانتشرت فيه البرامج الدينية حتى في أوقات ذروة المشاهدة، ووصل الأمر إلى أن تكون البرامج الدينية من السهرات الأساسية (نور على نور، ورب اشرح لي صدري) ".مرجع (1) وقد بلغت آثار هذا التيار على الصحوة الإسلامية، يقول أحمد زين: لقد بدأ التأثير في الحركة الإسلامية بالفعل خاصة في الجانب الاجتماعي الذي هو وثيق الصلة بالجانب الفقهي؛ فقد أصبح داخل الحركة الإسلامية الآن شبه حراك في هذين الجانبين، خاصة أن الحركة قد دعمت نمطًا معينا خلال الثمانينيات. مما يلفت النظر الآن - مثلا وليس حصرًا- أن كثيرا من السيدات والفتيات المنتسبات للحركة قد استبدلن بـ (الخمار التقليدي) الذي تعود عليه المجتمع المصري والذي كانت توصف كل من تلبسه بـ (الأخت) .. استبدلن به غطاء الرأس والصدر القصير المتعدد الأنماط والألوان. هذا التغير وإن أخذ شكلا مظهريا إلا أنه ينبئ عن حراك ما، هذا الحراك ربما يكون تم تحت ضغط الأناقة التي يبدو عليها حجاب المتدينات الجدد، وانخراط الكثيرات منهن في مناشط الحركة، وربما تحت ضغط الانفتاح على أشكال الحجاب المختلفة (الإيراني والخليجي والأوربي ... )، التي وسعت الخيارات أمام هذا الجمهور الذي تعود على نمط واحد من الاختيارات. ولكنه في رأيي يبقى تأثرا بالتدين الجديد، وثورة على النمط التقليدي الذي دعمته الحركة -ولو بطريق غير مباشر- في فترة الثمانينيات. ومن هذا التأثير تغير الأنماط السائدة في المناشط الاجتماعية؛ كالأفراح والزيارات؛ فأصبح من الطبيعي والمعتاد أن تكون هناك أفراح مختلطة أو رحلات مشتركة، أو ما شابه". مرجع (3) ويضيف قائلا: "ثانية هذه الملاحظات العابرة حول التأثيرات أيضا: التعامل مع الفنون؛ فالقطاعات الشبابية داخل الحركة الإسلامية أصبحت تتعامل مع الفنون بقوة؛ بل أصبحت بعض التزكيات داخل الحركة توصي بمشاهدة بعض الأفلام السينمائية والأعمال المسرحية، وكثيرة هي النقاشات حول الأعمال الفنية حتى الهوليودية منها داخل مواقع الإنترنت، وساحات الحوار المتعلقة بالحركات الإسلامية". مرجع (3) يقول أحمد زين من واقع تعامله مع هذا الوسط: "أعتقد أنني تعاملت كثيرا مع المتدينين الجدد فتيانا وفتيات، سواء في العمل أو الدراسة أو العمل الخيري وغير ذلك من مناشط، وفي كثير من هذه الاحتكاكات تولدت عندي بعض الملاحظات التي أثارت دهشتي؛ فهذه الشريحة التي ترى نفسها ملتزمة بالإسلام، وبعضهم يمارس بعض الواجبات الدعوية، وكثيرا ما يحدثك عن قصة التزامه، وعن روعة التدين الذي وجد نفسه من خلاله، ومع كل هذه المظاهر؛ فإن ثمة ترخصا تلاحظه على سلوكياتهم، وسأحاول وضع هذه المظاهر بين قوسين دون ترتيب: (فتيات يضعن الماكياج الخفيف- يتساهلن في التعطر والنمص- ملابس ضيقة أحيانا- مزاح وضحكات عالية بين الجنسين- حديث بين فتى وفتاة بعيدا عن المجموع، لا مانع أن يكون استشارة أو شكوى- متابعة أحدث الأفلام في السينما العربية والغربية- سماع الموسيقى الغربية ومتابعة أخبار الفنانين- عدم ظهور الاهتمام بغض البصر ... إلخ).

هذه المظاهر يمكن التأكيد عليها من خلال متابعة جمهور الدعاة الجدد من خلال الفضائيات، أو حتى من خلال التجمعات الشبابية في صلاة القيام أو الاعتكاف في رمضان". مرجع (4) ويضيف متابعا: "يحضرني مثال تعجبت له، وهو أن إحدى رموز المتدينات الجديدات وهي مذيعة شهيرة لبرنامج ديني؛ هو المصدر الأكثر شهرة وأهمية بالنسبة لمصادر التلقي للتدين الجديد -سأغفل دور هذه المذيعة في توجيه الظاهرة، لكنني سأعتبرها إحدى أفراد الظاهرة في التعريف بها- سردت بموقع برامجها على الإنترنت قائمة طويلة من المغنين والممثلين العرب والهوليوديين والأفلام والأغاني الأمريكية، ورغم أنها تقول في نهاية حوارها: (إن الحشمة تعطي للمرأة الجمال الحقيقي وهو جمال الأخلاق)، فإنها في بداية الحوار وصفت بـ (الجمال المبتسم) -لاحظ الدلالة، وأخيرا فإنها تحلم للإسلام، يقول الحوار: (أما أكثر حلم تتشوق لتحقيقه فهو تغيير شكل البرامج التي تقدم الإسلام ... )، وتقول: (أريد أن أعرض الإسلام بصورة تجعل كل فرد في العالم يفهم المعنى الصحيح لهذا الدين القويم) ". مرجع (4) ومن المظاهر المصاحبة -وربما تكون أيضا من الأسباب- في هذه الظاهرة: "القص واللصق من الفتاوى والاجتهادات والتي تجري على أشدها لإكساب المشروعية لكثير من الأفعال التي درج الشباب عليها؛ فبدلا من أن يتنازل عن عادات ما قبل التدين إذا به يحاول أن يجد لها مبررا شرعيا محترما". مرجع (4) وحتى لا نتجاوز في القول، ونعمم في الأحكام، فإن مظاهر "التدين الجديد" -الذي نحن بصدده- تختلف من بلد لآخر .. بحسب طبيعة الدعاة فيه، ومدى محافظة المجتمع أو انفتاحه، لكن هناك مظاهر مشتركة إلى حد ما؛ وهي في حد نظري: - تصنيف الفقهاء والعلماء إلى متشددين ومتسامحين، وأخذ الفتاوى عن الطرف الثاني بمبرر تسامحهم ليس إلا!! أي عدم الاعتماد على العلمية والموضوعية في انتقاء الأقوال، وإهمال النصوص والبحث عن الرخص بشكل واضح! - وجود مظاهر مخالفة للشريعة في السلوك أو إهمال واجبات بدعاوى تقسيم الدين إلى قشور ولباب!! فالأزياء ذات الزينة والجمال مع حجاب (الشعر فقط) لدى الفتيات أصبح مظهرا للتدين المقبول والمشجع عليه، بل خصصت إحدى القنوات الفضائية المنتسبة للإسلام برنامجا عن الأزياء لتقديم "الموضة" التي يمكن أن تظهر بها المرأة المسلمة في الشارع والعمل .. مع وجود مقدمة وعارضات أزياء "إسلاميات"!! ويا لها من طرفة!! - البرامج التلفزيونية التي يقوم عليها شباب من الجنسين ليتناولوا مسائل دينية ونفسية وتربوية من منظور "إسلامي"، مع تبادل الحوار والطرفة والجلسة "الأخوية"! من مثل برنامج "يللا شباب" على الـ M.B.C. - الاختلاط في أوساط الشباب والفتيات السالك في هذا السبيل من "التدين الجديد"، في الجامعات والمعاهد، إلى درجة خروج رحلات مشتركة .. في بعض الدول! وتعد هذه الرحلات برامج دعوية "يجدد فيها الإيمان"!

- صبغ المخالفات الواقعة في المجتمع بالصبغة الدينية في بعض الأحوال، أو إعطاءها الشرعية، وقد يصل الأمر إلى الحكم على أحوال شركية وأقوال كفرية بأنها صور من الإبداع الذي لا صلة للدين في الحكم عليه، وبالتالي يثنى على بعض المرتدين ويحكم لهم بالإسلام!! فالإسلام عند أتباع هذا الفريق قومية ينتسب إليها وليس دينا يلتزم به!! ففي اليمن مثلا، نشرت صحيفة منسوبة إلى الإسلام قصيدة كفرية، تحت مبرر الإبداع! فما كان من الحركة التي تقوم على هذه الصحيفة إلا أن شكلت لجنة شرعية للرقابة على الصحيفة، بعدما ترددت الانتقادات حول هذا الأمر، فاعترضت اللجنة بدورها على رئيس التحرير، فما كان منه إلا أن قدم استقالته .. رافضا تدخل العلماء فيما لا يحسنون! - نشر ثقافة التسامح مع الكفار فضلا عن المبتدعة، وهو تسامح يتجاوز الثوابت الشرعية في تأصيل الرؤية تجاههم وإبداء المواقف إزاء أعمالهم! والتعامل معهم! أحد دعاة هذا المسلك ظهر ليروي تجربته عند تعلمه اللغة في دولة غربية على نظام الالتحاق بالأسر .. فذكر تجربته هذه مشيدا -والحق يقال- (ببعض القيم)! لدى هذه الأسرة على مستوى الأبوين والأبناء .. دون أي تعليق على هذا المسلك في الدراسة والمخالفات التي تحيط به! بل قدمت التجربة كأنموذج للكيفية التي ينبغي أن نستفيد بها من الغرب وخبراته في العيش!! -هكذا!! كما أن بعض اللقاءات المتلفزة بين الشباب (مقدمي هذا النوع من البرامج) وبين شخصيات غربية تكسر الحواجز النفسية مع الكافر من خلال السلوك المقدم والثقافة المصاحبة لهذه اللقاءات!! - جمع المتناقضات في الشخصية المتدينة، في المظهر، وفي السلوك، وفي التصور .. ! خذ مثلا الزي والسيما الخارجية هي ذاتها عند هذا الفريق قبل وبعد "التدين"! في حين يتكلم هؤلاء عن الفن الإسلامي والموسيقى الإسلامية و .. و .. ، إلا أن الزي لا ينقسم فيما يبدو إلى زي إسلامي (أي بشروطه ومواصفاته) وغير إسلامي! مثال آخر، يحاول هذا الصنف من "المتدينين الجدد" الجمع بين العادات الخاطئة القديمة والعادات الجديدة، فالخدينات (أي الصاحبات) سلوك قائم قبل وبعد "التدين"!! الفارق هو (القشور) التي يحرص عليها الطرفين في التعامل! مشاهدة "الأفلام والمسلسلات" المحافظة وسماع الأغاني الكلاسيكية أو الموسيقى غير الصاخبة .. فوارق!! لكنها ليست جوهرية بين ما قبل "التدين" وما بعده!! - الاهتمام بجانب حسن السلوك مع الآخرين والإحسان إليهم بالعطاء والعون .. وببعض أعمال القلوب التي قد لا تخلو منها قلوب العامة على فطرتها، هذا مع شيء من الرقائق، وإغفال جوانب مهمة في مسائل العقيدة والإيمان والتوحيد والولاء والبراء، وحقيقة اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته، ومسائل الأحكام التي خالفها كثير من الناس اليوم حتى اندرست! وهذه المظاهر تتفاوت من شخص لآخر، لكنها بطبيعة الحال موجودة وقائمة ومنتشرة في هذه الأوساط. أسباب ظاهرة "التدين الجديد": 1) الدعاة الجدد: ظهر في الآونة الأخيرة طائفة من الدعاة الذين ينتسبون إلى النخب المتعلمة والمثقفة والطبقة الاجتماعية الثرية، يتقنون فنون الإلقاء والخطاب الوعظي والقصصي ويظهرون على الجماهير من خلال الشاشات الفضائية؛ (في وقت تعاني فيه الساحة الإعلامية من جفاف روحي وفراغ إيماني في برامجها الهابطة إلى مستوى الحضيض).

هؤلاء الدعاة الذين برزوا في الآونة الأخيرة، وأصبح الحديث والكتابة عنهم بمصطلح "الدعاة الجدد"، ليس لهم توجه واحد، أو منهج يجمعهم؛ فلكل منهم ثقافته واهتماماته وأفكاره، وليس من السهل الحكم عليهم إجمالا! وحديثنا عنهم في هذه السطور، هو من باب الكلام العام! وما قد نطلقه من أحكام ليست بالضرورة تشملهم جميعا! فمنهم من يستغرق في محاضراته ودروسه في الحديث عن الأمور الحياتية اليومية: اهتمامات الناس، واحتياجاتهم الخاصة؛ بلغة ميسرة، إنهم يجيبون الناس على سؤالين مهمين: ماذا أفعل؟ وكيف؟ والبعض منهم يقدم: "محمدا -عليه الصلاة والسلام- كرجل أعمال ناجح جدا" في حديثه عنه أمام الناس! لكن الدعاة الجدد رغم تنوعهم واختلاف مشاربهم، يلتقون في أربع نقاط: فهم جميعا قادمون من قطاعات التعليم العالي، واكتسبوا ثقافتهم الدينية بأنفسهم، وينتمون غالبا إلى أوساط ثرية وراقية، وفي حين يظهرون مستقلين عن "المؤسسة الدينية الرسمية" من جهة و"الجماعات الإسلامية". من جهة أخرى .. يسيرون في مسعى توفيقي بين الإسلام والواقع الذي تعيشه الشريحة المخاطبة، "فرسالتهم تعمل أساسا في وسط تسوده الثقافة الاستهلاكية؛ حيث لا محالة من خلق تناغم بين قيم الدين والمكانة في المجتمع. إن هذا النوع من الدعوة يشبه في ذلك اتجاه الكنيسة المثودية في أمريكا والتي يتبعها الأغنياء في الأساس؛ لأنه يمكنهم في ظلها الجمع ببساطة بين الإيمان والثروة وهذا ما يفعله "الدعاة الجدد": جعل الأغنياء يشعرون بالرضا عن ثرواتهم". مرجع (8)، بتصرف. إن هدفهم الرئيس هو "تصحيح القيم الأخلاقية لدى الأفراد فيما يتعلق بسلوكياتهم اليومية". مرجع (8) وليس لدى -هؤلاء- من مشروع سوى رفع المستوى الأخلاقي لدى الشباب المنفتحين على الحداثة، من خلال خطاب ديني يحمل قيم تحقيق الذات، على النمط الليبرالي الجديد: الطموح والثروة والنجاح والمثابرة في العمل والفاعلية والاهتمام بالذات. وهذه الطائفة من الدعاة تتميز بلغة سهلة ومظهر عصري غير تقليدي (!)، أي قريب لمظهر المتلقي، وتقدم استشارات نفسية وتربوية واجتماعية وإدارية، مازجة بين الثقافة الغربية والموروث الإسلامي .. وإلى هنا يظل الأمر طبيعياً، وليس فيه ما يمنع من سماع الناس لهؤلاء والاستفادة مما لديهم واستشارتهم في مجال تخصصهم؛ إلا أن الأمر تجاوز ذلك، إلى حدِّ الاقتداء بهذه الطائفة من الدعاة في مظهرها العام وسلوكها في الحياة وتعاطيها مع المسائل ورؤيتها للقضايا، ليصبحوا مرجعية للمتلقين عنهم وأسوة للأتباع المتأثرين بنجاحاتهم وشهرتهم الإعلامية. إن "الدعاة الجدد" يوصلون للشباب رسالة أنه "بإمكانهم أن يصبحوا متدينين، وفي الوقت نفسه أن يمارسوا حياتهم الطبيعية من عمل ودراسة وترفيه، كما يمكنهم أن يظهروا بمظهر عصري يشبه أبناء جيلهم، والأهم من ذلك أنه يمكن للشباب أن يكون متدينا ويحتفظ في الوقت نفسه بسلطته ومكانته الاجتماعية". مرجع (8)، بتصرف. إن تيار الدعاة الجدد لا يكتفي باختيار الأماكن التي تتناسب مع جمهوره؛ بل هو نفسه في مظهره يشبه هذا الجمهور؛ فبعكس الشيوخ التقليديين يرتدي هؤلاء الدعاة البدلة أو الجينز وربطة العنق، وهو أيضا حليق الذقن؛ في حين يقدمون للشباب إمكانية أن يجمع بين التدين والاستمتاع بالحياة العصرية، مع شيء من الضوابط الأخلاقية! فأصبحت طائفة "الدعاة الجدد" -إن صح التعبير- تزاحم دور علماء الدين وفقهاء الشريعة، أدركت ذلك أم لم تدرك، وشاركت فيه أو لم تشارك، وأصبحت المخالفات الظاهرة التي ترتكبها هذه الطائفة، أو الانحرافات التي تحملها أحياناً، محط اقتداء من الجماهير.

وقد وصل الأمر بالبعض إلى إلغاء الحقائق المعلومة من الدين والواقع تجاه مخالفة ظاهرة، كمخالفات فرقة كـ"الصوفية" مثلاً .. تحت تأثير بعض هؤلاء "الدعاة الجدد" من التيار الصوفي!! وأحيانا يعطي "الدعاة الجدد" صورة مشوهة عن العلماء والدعاة والفقهاء، وانطباعا عن توجه ناقد لهم .. باعتبار أنهم متشددون أو أنهم مختلفون أو غير مواكبين للحياة العصرية اليوم!! 2) دور بعض أهل العلم والفتيا في تتبع الرخص والتوسع في التسهيل: إن البداية تكون بفتاوى تيسر على الناس وترخص لهم في بعض المسائل، وشيئا فشيئا يتولد عند هؤلاء الأتباع فقه مبني على تتبع الأقوال والاجتهادات الموافقة للهوى، وإذا كانت إرادة الفقيه من التيسير تقريب الناس من الدين وتحبيبه إليهم .. فإن النتيجة تكون بابا يخرج منه الناس من الدين .. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً! يقول أحمد زين: إن "البراح في المساحات الفقهية للعلماء الذين ينتهجون التيسير والتسهيل على المسلمين؛ أوجد -عند هؤلاء المتدينين- رأيا متساهلا في كل قضية فقهية، وأنه لا جناح عليهم في انتهاجه؛ فهو رأي فقهي معتبر من عالم معتبر". بتصرف؛ ويضيف: "وأنا أرى أن ظاهرة القص واللصق من الفتاوى والاجتهادات تجري على أشدها لإكساب المشروعية لكثير من الأفعال التي درج الشباب عليها؛ فبدلا من أن يتنازل عن عادات ما قبل التدين إذا به يحاول أن يجد لها مبررا شرعيا محترما". مرجع (4) وهذا القول لأحمد زين جاء من استقراء: فـ "من خلال فتاوى المرأة على موقع "إسلام أون لاين. نت" نستطيع أن نرسم صورة لحركة المرأة في المجتمع؛ فهي تصافح ابن عمها أو ابن عمتها عند الضرورة (فتوى: مصافحة الرجل للمرأة .. الحكم والضوابط، د. القرضاوي)، وهي تقابل مطلقها لأغراض شريفة (هل يجوز للمرأة المطلقة أن تتقابل مع من طلقها بعد الطلاق لأغراض شريفة؟ د. القرضاوي)، وتستطيع أن تتابع رياضيين يرتدون الشورت (فتوى: ضوابط النظر بين الرجل والمرأة، د. القرضاوي)، كما أنه لا بأس أن ترقق المرأة حاجبيها (فتوى: ترقيق المرأة حواجبها، الشيخ عطية صقر)، وتستطيع أن تخطب لنفسها من أرادت (فتوى: ما حكم أن تخطب المرأة الرجل؟ د. علي جمعة)، ويجوز أن تضع العطر الخفيف (فتوى: حكم وضع المرأة للعطر، الشيخ عطية صقر)، وهي تخدم الضيوف (فتوى: خدمة الزوجة للضيوف، عطية صقر)، كما يجوز لها ركوب الدراجة (فتوى بدون اسم مفت)، كما يجوز لها العدو في الشارع (فيصل مولوي)، كما يجوز لها قراءة القرآن أمام الرجال (فتوى: د. نصر فريد واصل) ... إلخ"!! وهذه الفتاوى تستند في غالبها إلى دليل شرعي أو قاعدة شرعية أو قول سابق، وصادرة عن أشخاص منتسبين للفقه، لكنها في الحقيقة فتاوى تأخذ بالأقوال الشاذة والأدلة الضعيفة أو المرجوحة، وتفترض في بيئة المستفتي أنها محافظة .. سليمة من الفتن! وتشكل عند الجمهور المتساهل منهجا مبيحا للمحرمات، التي هي دون الكبائر المعدودة على أصابع اليدين!! ويقابل هذه الفتاوى المتساهلة: "إلحاح الدعاة الجدد على الرجاء ورحمة الله وغفران الذنوب مهما كانت، وهي مساحة لا شك فيها ولا إنكار لها، إن الإلحاح عليها كأنها المسار الوحيد .. والخيار الفذ أوجد خللا لدى المتعرضين لهذا الخطاب، ووجههم إلى مزيد من الجرأة على الحرام مع التأكد من مغفرة الله لهم، وكذلك من تركيز بعض الدعاة الجدد على مسألة أعمال القلوب وأهميتها والتقليل من شأن أعمال الجوارح والسلوكيات والأخلاق". مرجع (4) بتصرف 3) القنوات الفضائية:

إن وسائل الإعلام -اليوم- تقع تحت ضغط الجماهير التي بدأت تنفر من المستوى الهابط الذي وصلت إليه كثير من البرامج، وتطالب -في ذات الوقت- ببديل إسلامي يتفق مع الهوية الثقافية والحضارية للأمة في ظل احتفاء الآخر بقيمه وثقافته ومحاولة تمريرها بالقوة على مجتمعاتنا المسلمة. وفي محاولة منها لإرضاء التوجهات المختلفة إسلامية وعلمانية، فإن القنوات الفضائية تجد في هذا الصنف من "الدعاة الجدد" فرصة في تقديم البديل الإسلامي المطالب به جماهيرياً؛ بل هي تحاول صنع أمثال هؤلاء الدعاة "على أعينها" لأنهم في الغالب لا يتصادمون مع مضامين الرسالة الإعلامية لها. وتحاول بعض هذه القنوات ركوب الموجة واستغلال التيار .. فهي إما تقدم نفسها كبديل إسلامي، أو أنها تمزج بين هذا وذاك! خاصة وأن هناك قنوات إسلامية قوية بدأت تظهر في الساحة الإعلامية! يقول د. خالد شوكات في إيضاح العلاقة بين مظاهر التدين في تونس والقنوات الفضائية: "يؤكد المتابعون والمهتمون بالشأن الاجتماعي والثقافي في تونس وجود صحوة دينية كبيرة لدى شرائح اجتماعية واسعة داخل المجتمع التونسي، تتجلى بصورة خاصة في إقبال التونسيات على ارتداء الحجاب، كما يلحظون أن وجود القنوات الفضائية الإسلامية قد مثل بديلا جيدا للمعرفة الدينية بالنسبة للمتدينين في هذا البلد الذي يتعرض فيه التيار المتدين لقمع شديد، ويكاد يغيب فيه دور الدعاة". مرجع (2) إذن هذا الجمهور لابد له من بديل، وهذا البديل مع غياب الدعاة كان القنوات الفضائية! "وقالت الباحثة الجامعية التونسية سنية المنصوري في تصريح لـ (إسلام أون لاين. نت) بتاريخ 31/ 7/23م: إن وجود قنوات فضائية إسلامية أمثال اقرأ والمجد وغيرهما من الفضائيات، قد مثل مصدرا بديلا للمعرفة الإسلامية وللفتوى الدينية، خصوصا لدى الفتيات والنساء، في ظل غياب الدعاة والوعاظ الدينيين عن المساجد والبرامج الإذاعية والتلفزيونية المحلية (بسبب التضييق الأمني من جانب السلطات التونسية)، كما أن الدعاة الدينيين من أمثال عمرو خالد وحبيب علي الجفري قد تحولوا إلى شخصيات مؤثرة في أوساط اجتماعية كبيرة بتونس". مرجع (2) "إن هذا التيار الجديد من الدعوة ظهر ليوفِّي بمتطلبات الشباب الذين ينفتحون أكثر فأكثر على الثقافة الغربية؛ فهذا الشباب الممتلئ بالأفكار المختلفة غير المتناغمة أنتج هذه الثقافة الجديدة من التدين، التي تعبر عن نفسها من خلال تجديد في الأسلوب والذوق واللغة والرسالة". مرجع (8) "إن الشباب هو الذي خلق لنفسه هذه الثقافة الدينية الجديدة التي تتمحور حول ظاهرة (الدعاة الجدد) كنوع من (الموضة)؛ فهي منفذ للتنفيس عن احتياجات إنسانية متناقضة: احتياجات للتغيير والتأقلم، للتميز عن الآخر والتشابه معه، للتفرد والالتزام بالمعايير الاجتماعية، وبالتالي فإن التمسك بهذا النوع من التدين الإيجابي يسمح للشباب بأن يحافظ لنفسه على هوية تميزه، وفي الوقت نفسه يتعامل مع التغيير الحادث من حوله، وهو إذ يفعل ذلك يتحرك في إطار المعايير الاجتماعية ولا يضطر إلى خرقها". مرجع (8)

إن تعدد مصادر التلقي ووسائل الإعلام المتنوعة قدمت للشباب الراغبين للالتحاق بالصحوة قدرًا وافرًا من الاختيارات البديلة؛ وهو ما أدخل عناصر أخرى ساهمت في توجيههم وتشكيلهم، وغيرت مسار توجههم على خلاف الحقيقة أحيانا كثيرة، فقد أصبحت برامج الفضائيات تشكل أكبر رافد لتكوين أفكار "المتدينين الجدد" وثقافتهم الدينية، وبحكم سنهم وانفتاحهم على الإنترنت والفضائيات أصبحوا يتلقون المفاهيم والتصورات والآراء والاستشارات والسلوكيات منها، وحيث أن دعاة "المتدينين الجدد" ينفذون من هذه الوسائل والقنوات إلى جمهورهم فإنهم بلا شك يصنعون قاعدة عريضة من هذا التيار! ويبنون علاقتهم مع المتلقين عنهم بأسلوب التفاعل الحي والتواصل المباشر والحوار الثنائي -وهي أساليب محببة وجذابة لكثير من جيل اليوم- لا على التلقي والتوجيه! كما هو معتاد! 4) السياسات الحكومية: إن من أهم أسباب ظهور "التدين الجديد" هي تلك الحرب الإعلامية والدعائية التي مورست ضد "التدين الأصيل" في الصحوة، والذي يحتكم إلى الكتاب والسنة وفهم الصحابة والقرون المفضلة الأولى في الإيمان والاتباع، وهو المسمى بالتوجه السلفي! وهو ما شكل حاجزا نفسيا بين الناس وبين هذا الشكل من أشكال التدين المعروضة على الساحة! إضافة إلى ذلك، السياسات التي تتبنها بعض الدول لتضيق الخناق بها على المتدينين عموما، وتحرمهم من ممارسة حقوقهم الخاصة حتى في ظل الأنظمة الديموقراطية زورا!! تدفع بالبعض إلى البحث عن رخص الفتاوى في مقابلة البطش والتعذيب الذي قد تتعرض له. تقول الباحثة سنية المنصوري: "إن الصراع الذي شهدته تونس خلال عقد التسعينيات، بين النظام والحركة الإسلامية، قد أضر في حينها بوضع الالتزام الديني لدى التونسيين عامة، على الرغم من أن عددا كبيرا من أبناء المجتمع التونسي كانوا ملتزمين من الناحية الدينية، لكنهم لم يكونوا أعضاء في حركة أو جماعة إسلامية. وكان تقرير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان السنوي عن عام م قد تحدث عن الحملات الأمنية والإدارية ضد المحجبات التونسيات، وجاء فيه أن العديد من المحجبات تعرضن إلى المضايقات في الشوارع أو أماكن العمل، وتم تجريد العديد منهن من الحجاب عنوة في بعض مراكز الأمن بالعاصمة، وإجبارهن على التوقيع على تعهد بعدم العودة إلى ارتداء الحجاب. كما أن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان كانت قد ذكرت في 28/ 5/23م أن عددًا من طالبات التعليم الثانوي مُنعن من اجتياز امتحانات نهاية العام بسبب ارتدائهن للحجاب. يذكر أنه في عام 1981م أصدرت السلطات التونسية قانونا يعتبر الحجاب زيا طائفيا. ومنذ ذلك الحين والحكومة تلتزم بهذا القانون، إلا أنه تم التشديد على منع المحجبات من دخول الجامعات والإدارات الحكومية منذ مطلع العقد الماضي، وهو ما أثار انتقادات واسعة في الداخل والخارج، خصوصا من جانب المنظمات الحقوقية التي ترى في منع الحجاب والتضييق على المحجبات تدخلا في الحرية الشخصية للمواطنين". مرجع (2)

وعقب أحداث 11 سبتمبر، اتجهت السياسات الحكومية في الوطن العربي خاصة، في ظل فشل الخطاب الديني الرسمي على كسب ثقة الجماهير، وعدم قدرة هذه الدول على تحقيق نجاح قومي أو وطني، وزيادة الإقبال لدى الناس على التدين، وتصدر عدد من العلماء والدعاة بخطاب علمي مؤصل وفقه للواقع وتقديم رؤية شاملة للإصلاح السياسي والاجتماعي تقوم على أساس من الدين الإسلامي .. الأمر الذي هددَّ مستقبل هذه النظم العلمانية في هذه البلدان، وخروج الطاقات الشبابية عن سيطرتها وسيطرة العلماء .. اتجهت إلى صياغة بديل قادر على حرف مسار هذا التيار القادم والعارم -كما يبدو، وليس بالضرورة لديها أن يكون رسمياً، لكنه مسيطر عليه أو في أقل الأحوال "غير متمرد"!! وهذا البديل يشمل المناهج التعليمية والخطاب الدعوي والمؤسسات والقيادات الفاعلة في الأوساط الاجتماعية والشبابية. وربما تتم صياغته بالاتفاق مع أكثر من جهة تتصل مصالحها مع قيام "بديل" بهذا النوع والحجم!! "وفي وزارة الأوقاف -المصرية- تشدد مشاريع الإصلاح على الدور الاجتماعي للمسجد وعلى أهمية المجتمع المدني والاكتفاء الذاتي. إن إحدى حلقات الدراسة في الأزهر تطرقت إلى ضرورة إعادة صياغة الدعوة انطلاقا من تعاليم التسويق الأمريكية". مرجع (9) وفي فترة سابقة من تاريخ الأنظمة الحالية، كان لزاما على أجيال سابقة إذا أرادت أن تعبر عن مشاعرها الدينية، وتظهر ملامح هذا التدين .. أن تنضم إلى جماعة؛ أو هكذا كان يبدو الأمر عند الحركات الإسلامية ذاتها! فكان ذلك يكلفها بمقتضى التضييق الأمني ضريبة لا يستطيعها الكثيرون اليوم، لكن هذا "التدين الجديد" قدم طريقة مغايرة لما عليه فكر الحركة الإسلامية! فهو يمارس العمل الدعوي ويعبر عن تدينه وينشط اجتماعيا بل وربما سياسيا، دون أن يتعرض للملاحقة والاعتداء في الغالب، لا لشيء سوى لأن مطالبه لا ترتقي إلا مطالب الحركة، فهو يعمل في مجموعات صغيرة ذات أهداف محدودة يشارك فيها الجميع علانية، وتعالج -إن عالجت- ظواهر الأمور وشكليات المشاكل! وهو بالتأكيد يستحضر صورة الصراع الدامية التي حدثت لأجيال سابقة ويريد أن يتجنبها! 5) الغرب: وأقصد بالغرب هنا ذلك المزيج من التحالف الغربي الذي يستهدف العالم الإسلامي حضارة وأمة ومقدرات. فبعض أوجهه سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو عسكرية .. وتارة يتمثل في منظمات دولية وأخرى في مؤسسات ومساندات محلية. ومن مصلحته -في ظل هجمته على العالم الإسلامي- الانحراف بالتوجه والخطاب الديني الذي يكرس الندية بين العالمين الإسلامي والغربي، وتهدئة لغة التعبئة التي يقوم بها العلماء والدعاة ضد كل ما يخالف الدين الإسلامي واستقلالية الأمة. وقد احتلت مسألة مخاطبة العالم الإسلامي مؤخرا الأولوية في قائمة الاهتمامات الخارجية لدى الغرب، فالإذاعات العربية والقنوات الفضائية "المعربة" تنال الرعاية والتمويل من قبل الحكومات هناك. وليس أدل على ذلك من مشروعي قناة "الحرة" وإذاعة "سوا" اللتين افتتحتا مؤخراً في المنطقة. والملاحظ أن الغرب قلق من "الخطاب الديني الإسلامي" أياً كان، متطرفاً أو متساهلاً!! فالكل يخضع للرقابة والمتابعة والتحليل!! ومن المضحك أن شخصية كفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي -حفظه الله- وهو يُعدُّ عند الكثير من العلماء والدعاة من المتساهلين في أحكامه ومواقفه في المسائل الحادثة والأحكام الفقهية، لا يجد قبولاً في الأوساط السياسية والإعلامية، بل واجه مؤخراً حملة تصفه "بالتطرف" و "الإرهاب"!! لا لشيء سوى لمواقف الشيخ تجاه الاحتلالين الإسرائيلي لفلسطين والأمريكي للعراق!!

وهناك ضغوط تمارس ضد الدول الإسلامية لإيجاد بدائل للخطاب الديني القائم، بما يتفق مع النهج الديمقراطي والتعددية الفكرية والسياسية التي يراد للمنطقة أن تنفتح عليه! كما أن الحالة الأمنية التي أفرزتها هذه الضغوط في جانبها الأمني أفسحت المجال لـ"تدين" من هذا النوع في مقابل انحسار "التدين" التقليدي! وللعلم، فإن ظاهرة "الدعاة الجدد" حازت على اهتمام الغربيين، في إطار الاهتمام بحركات "التدين الجديد" عموما! فقد أصدرت الدورية الفرنسية "السياسة الأفريقية"، في عددها 87 ملفا خاصا .. بعنوان "موضوعات الرب"؛ لبحث التغيرات الجديدة على مستوى الدين في قارة أفريقيا السمراء. و"السياسة الأفريقية" واحدة من أهم الدوريات المتخصصة في الشئون الأفريقية، وتصدر عن مركز الأبحاث السياسية والقانونية في القارة الأفريقية بجامعة السوربون، ويرأس تحريرها "ريشار بانيا" و"رولان مارشال". وهي تعكس الاهتمام الفرنسي الكبير بالقارة السمراء التي شهدت منذ نهاية الثمانينيات نوعا من العودة للدين على كل المستويات. وقد ضم الملف دراسات ومقاربات مختلفة حول الدين والحياة في أفريقيا؛ وكانت أهم دراسات الملف تتحدث عن "الدعاة الجدد"، "لأنها ربما كانت الأولى والأهم عن ظاهرة جديدة على الحقل الديني الإسلامي" كما يقول حسام تمام. والدراسة وهي بعنوان: "الإسلام كظاهرة اجتماعية" أعدها "باتريك هاني" وهو باحث اجتماع سويسري يعيش في مصر وهو مختص في الظاهرة الإسلامية". وقد أشار إلى أن: "أهم نقاط الاختلاف التي ترصدها الدراسة -بين الدعاة الجدد ومن قبلهم- كانت الابتعاد عن السياسة والتزام خطاب أخلاقي يختلف مع خطاب هذه الجماعات والتنظيمات السياسية". مرجع (5) وترى الدراسة "أن نموذج عمرو خالد يمثل تلبية للاحتياجات الدينية للنخب والطبقات العليا في مصر، ومحاولة لتقديم إسلام بمواصفات خاصة لأبناء هذه الشرائح التي تستقر بأعلى الهرم الاجتماعي في مصر، بما يلبي رغبتها الحقيقية في التدين وفي ألا تحمل شعورا بالذنب أو إحساسا بالتقصير يدفعها إلى إعادة النظر في وضعها الاجتماعي وما يكفله لها من امتيازات لا تتاح للطبقات الأقل، وهو تدين ذو مواصفات خاصة لن تجده هذه الشرائح في خطاب الشيوخ التقليديين". مرجع (5) "وخطابه -عمر خالد- بالأساس رافض لانحلال الطبقة البرجوازية التي ينحدر منها، ولكنه أيضا متصالح مع هذه الطبقة، ويستجيب لرغباتها في تدين بمواصفات خاصة بها، وبالشباب منها بصفة خاصة باعتباره الحلقة الأضعف من هذه الطبقة، وهو تدين جديد .. الدنيا حاضرة فيه بقوة وليست على صِدام مع الدين، كما لا يتعرض فيه البناء الاجتماعي للطبقة والعلاقات الأسرية إلى خلخلة أو تفسخ أو صدام بين أطرافه كما يحدث في التدين السلفي الذي تقدمه جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي". مرجع (5)

وتقارن الدراسة "بين خطاب عمرو خالد من خلال تحليل مضمون درسه (الشباب والصيف) وبين خطاب الإصلاح البروتستانتي في أوائل القرن التاسع عشر لتتحدث عن أوجه تشابه كبيرة بينهما خاصة فيما يتعلق بالنظرة إلى الثروة الاقتصادية، فخطاب عمرو خالد يتحدث عنها باعتبارها ليست عيبا أو ذنبا بل هي نعمة من الله، ويؤكد على ذلك في كل دروسه مبررا التراكم الاقتصادي الذي حققته الطبقة البرجوازية في السنوات الأخيرة ويعطيه الشرعية الدينية مشروطة بأداء حقه، وهو خطاب موجه بالأساس إلى الطبقة المهيمنة أو الصاعدة اقتصاديا حتى في رؤيته للأخلاق والقيم الإسلامية، فالصبر مثلا في خطاب عمرو خالد يختلف عن الصبر في الخطاب الإسلامي التقليدي الذي يأخذ طابعا (قدريا) في حين يعني عند عمرو التواصل والاستمرار في العمل وتنظيم الوقت والمثابرة على النجاح". مرجع (5) و"ما اقترب منه الباحث ولم يقله أن المهم في ظاهرة الشيوخ الجدد هي الحالة التي يصنعونها وليس أشخاصهم ولا مضمون كلامهم. الحالة هنا هي الجو المحيط والوسيط الذي ينتقل عبره الكلام والجمهور الحاضر وهكذا .. فهذه الحالة تؤدي إلى تصالح شعوري بين الواقع المعيش وبين الدين الذي يمثل المرجعية الأساسية للشخص الحاضر المنتمي للبرجوازية الجديدة. ويصير السلوك الشخصي المعيش حياتيا المرفوض دينيا (مثل الاختلاط مع الفتيات غير المحجبات أو المحجبات والتعرف عليهن) سلوكا دينيا مطلوبا (فالشاب صار يدعو الفتاة للدين) ". مرجع (5) "وتضع الدراسة ظاهرة عمرو خالد في سياق عالمي تأثر بهيمنة خطاب الليبرالية الجديدة عالميا وعلى كافة الأديان، فيرى أنها تقترب كثيرا من جماعات الإيمان الجديدة المسيحية التي انتشرت مؤخرا في الغرب في رفضها للمؤسسات الدينية التقليدية واستقلالها عنها، وفي طابعها الفردي المستقل البعيد عن الجماعية، وفي تركيزها أيضا على المشاعر والعواطف". مرجع (5) وجمهور "الدعاة الجدد" بحسب وصف الدراسة:"في مجمله من غير المؤطرين تنظيميا أو سياسيا، ويتشكل من مجموعات صغيرة أقرب إلى مفهوم الشلة (الذي تنتظم وفق العلاقات بين أبناء النخبة) منه إلى مفهوم الجماعة والتنظيم؛ فحضور الدروس كان دائما ما يتم عن طريق مجموعة الأصدقاء أو (الشلة)، وهو جزء من تفاعلات العلاقة بين أعضاء هذه المجموعة التي مثلما تذهب لحضور الدروس تذهب أيضا إلى المصيف والنادي والسينما وأداء العمرة في الأراضي المقدسة". مرجع (5) و"تؤكد الدراسة أن ظاهرة عمرو خالد والشيوخ الجدد مرشحة للتكرار ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي والإسلامي بفعل التفاعلات المستمرة والمكثفة بين الخطاب الإسلامي وبين قيم وأفكار وتوجهات الليبرالية الجديدة". مرجع (5) هذا أنموذج للدراسات الغربية المتابعة للخطاب الديني في مجتمعاتنا، وأساليب هذا الخطاب وأبعاده وخلفياته، كل ذلك سعيا وراء استغلال أو توجيه أو مصادمة .. هذا أو ذاك التيار والتوجه! 6) رغبة الجماهير: إن الجماهير ميالة بطبعها إلى تدين غير باهظ التكاليف، وما توجيه موسى -عليه الصلاة والسلام- للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- (في قصة المعراج والإسراء) ليطالب ربه بالتخفيف في شأن الصلاة، نظراً لما قد عالج من بني إسرائيل، إلا دليل على ذلك. وإذا أضفنا إلى هذه الطبيعة الخوف على المصالح والمتع الدنيوية والميول إلى الترف والشهوات .. فإن الأمر يكون آكد؛ وتبقى هذه الجماهير تبحث عمن يسهل عليها التكاليف والتبعات.

"إن هذا التيار الجديد من الدعوة ظهر ليوفِّي بمتطلبات الشباب الذين ينفتحون أكثر فأكثر على الثقافة الغربية؛ فهذا الشباب الممتلئ بالأفكار المختلفة غير المتناغمة أنتج هذه الثقافة الجديدة من التدين، التي تعبر عن نفسها من خلال تجديد في الأسلوب والذوق واللغة والرسالة". مرجع (8) "إن الشباب هو الذي خلق لنفسه هذه الثقافة الدينية الجديدة التي تتمحور حول ظاهرة "الدعاة الجدد" كنوع من "الموضة"؛ فهي منفذ للتنفيس عن احتياجات إنسانية متناقضة: احتياجات للتغيير والتأقلم، للتميز عن الآخر والتشابه معه، للتفرد والالتزام بالمعايير الاجتماعية، وبالتالي فإن التمسك بهذا النوع من التدين الإيجابي يسمح للشباب بأن يحافظ لنفسه على هوية تميزه، وفي الوقت نفسه يتعامل مع التغيير الحادث من حوله، وهو إذ يفعل ذلك يتحرك في إطار المعايير الاجتماعية ولا يضطر إلى خرقها". مرجع (8) وترى دراسة "باتريك هاني" حول الإسلام كظاهرة اجتماعية: "أن نموذج عمرو خالد يمثل تلبية للاحتياجات الدينية للنخب والطبقات العليا في مصر، ومحاولة لتقديم إسلام بمواصفات خاصة لأبناء هذه الشرائح التي تستقر بأعلى الهرم الاجتماعي في مصر، بما يلبي رغبتها الحقيقية في التدين وفي ألا تحمل شعورا بالذنب أو إحساسا بالتقصير يدفعها إلى إعادة النظر في وضعها الاجتماعي وما يكفله لها من امتيازات لا تتاح للطبقات الأقل، وهو تدين ذو مواصفات خاصة لن تجده هذه الشرائح في خطاب الشيوخ التقليديين". مرجع (5) وأنا أكتب هذا المقال وأجمع مادته كنت حذرا تماما أن تكون لدي فكرة مسبقة أحاول التدليل عليها؛ لذا فقد حرصت بالغ الحرص على تجميع أكبر قدر من حديث هذه الشريحة عن نفسها من خلال تجاربهم واستشاراتهم التي يعرضونها على مشاكل وحلول للشباب في (إسلام أون لاين. نت)، فهذه فتاة مصرية في العشرين من عمرها تقول: تعرفت على شاب في الجامعة على مستوى عالٍ من (التربية) و (الأدب)، وقامت بيننا علاقة حب لكن في إطار "الاحترام" و"المحافظة" على (تقاليد ديننا). ولكن بعد (ارتباطنا) بعام ونصف تطورت العلاقة بيننا بدأت بلمسة ثم قُبل. وهذا حصل 3 مرات، والآن أنا وهو ندمنا على ما حصل وقررنا أن نتوب إلى الله، والحمد الله أننا الآن (محترمان)، لكن المشكلة أنني أخاف عقاب الله، وأريد أن أرضي ربي بأية طريقة، وقلت (لحبيبي): إنني أريد الانفصال عنه لكي نرضي ربنا، ملحوظة: أخلاقي أنا وحبيبي محترمة جدا، وكان من المستحيل أن نفكر في أن نفعل هذا الخطأ، ولكن كان غصبا عنا. والله العظيم ده مش من طبعنا أبدا. فالكلمات التي بين التنصيص - والتنصيص من عندي - يمكن أن تعطي مؤشرا واضحا على الارتباك في إدراك مدلولات هذه الكلمات، فالتربية والأدب والمحافظة وتقاليد الدين لا تتنافى تماما مع القبل واللمسات!! كما أن الاحترام لا يمنعها من إطلاق كلمة حبيبي عليه!! والمسوغ طبعا واضح؛ فهي ترى في علاقتهما المحرمة تلك" ارتباطا "، وهي كذلك تخلي مسئوليتهما عما حدث؛ فالأمر كان غصبا عنهما!. وشاب (ملتزم) آخر يقول: أنا شاب ولله الحمد ملتزم دينيا، أحببت فتاة منذ 3 سنوات، وهي تصغرني بعامين، ووعدتها بالخِطبة هذا العام، والكل وافق: والداها وأبي .. لكن أمي عارضت، وأنا أحاول إقناعها منذ عامين، ولم ترضَ، وأنا لا أرغب بالخروج عن رضا أمي خوفا من الله عز وجل.

ولكن للأسف حدث بيني وبين هذه الفتاة عدد من الخلوات في منزلهم، تخللها عدد من القبلات، بالإضافة إلى رؤيتي لصدرها مرتين، وقد أقلعنا عن هذا خوفا من الله، والحمد لله أنه لم يتطور الأمر أكثر من ذلك، وبعد صراعات مع أمي قررت ترك هذه الفتاة رغم حبي الشديد لها إرضاء لوالدتي، وأنا عازم على خطبة غيرها لأنساها وأبدأ حياتي من جديد بمباركة من والدتي .. وهذا مثال آخر صارخ؛ فالفتى تختلط عنده المفاهيم الدينية والأخلاقية ليخرج لنا خليطا من الالتزام الديني برائحة القبل وطعم اللمسات المحرمة، وهو يستدعي الدين في بر الوالدين وعدم الرغبة في الخروج عن رأي أمه، لكنه لا يتورع أن يركل أحكامه إذا رأى صدر فتاته، وهو دائما يشعر برضا طاغٍ عن نفسه؛ فهو -كما يصف نفسه - والحمد لله ملتزم دينيا، وإذا اقترف المحرمات فهو يحمد الله عن أن الأمر لم يتطور للزنة!!. ونموذج آخر هو شاب يرى أنه داعية ويعمل مع عدد من " الإخوة "، لكن هذه الدعوة لا يجد فيها أدنى مشكلة أن يمارسها مع بنتي عمته اللتين في مثل عمره تقريبا - المرحلة الجامعية - ويقول: طوال خمس سنوات مضت، وأنا أزور عمتي تلك، وأجلس مع ابنتها وأخواتها وإخوتها الرجال كصلة رحم، وبعد فترة أحسست أن الفتاتين تكبران، ودخلتا الجامعة فخفت عليهما من الفتن، وعزمت أن آخذ بيدهما إلى طريق الله - عز وجل - فبدأت أولى تلك المراحل، وهي كما تعلمنا: الحب في الله، فكنت أجتمع بهما وأحدثهما عن صلة الرحم، وأسأل عن علاقاتهما في الكلية وأنصحهما، ولكن كنت أركز على إحداهما أكثر؛ لما أجده فيها من استجابة وحسن فهم .. فالداعية الصغير يحب ابنة عمته في الله وينصحها .. وهو لا ينكر أنهما تعلقتا به، وهو نفسه يعترف أن هناك بعض التجاوزات!! يقول الشاب: كانتا دائما تنتظران مجيئي لنتحدث، ولكن كان هناك تجاوز أحيانا في مسألة الضحك معهما، وأنهما كانتا تجلسان بلا غطاء رأس، وكنا أحيانا نختلي أنا وهي ولكن في نفس البيت، والكل يمر علينا طلوعا ونزولا! لكن الداعية الهمام يتحمل كل هذه التجاوزات في سبيل الله!! فيقول: لكن كنت أجاهد (!!) حتى لا أنفرهما مني، وكنت أعمل على كسب ودهما وحبهما حتى يصل كل ما أقوله بسهولة. لقد درس الداعية الشاب مفاهيم الدعوة: الحب في الله والجهاد وعدم تنفير المدعوين وكسب ود المدعوين، لكنه في النهاية خرج من ذلك بنتيجة غاية في الغرابة ". مرجع (4) ويضيف أيضا: "وللتوضيح قد يكون المشهد الذي رأيته في أحد الشوارع القاهرية معبرا جدا: فتاة ترتدي حجابا سابغا، تقود سيارة حديثة، والمسجل عالي الصوت يبث أغنية عالية تقول فيها المغنية الشابة: محتاجة لك .. محتاجة لك ".مرجع (4) هذه بعض الآثار التي لمسها الكاتب من خلال قراءاته، والأمثلة في ظني أكثر من ذلك والآثار أعظم وأعمق، وقد سبق وأشرنا إلى بعض المظاهر التي تصاحب هذا التدين المزعوم، ولا حاجة لذكرها هنا!. وفي نظري أن هذا الأثر الذي يحدثه " المتدينون الجدد " في الأوساط الاجتماعية بتطبيع السلوكيات والمظاهر الغربية في مجتمعاتنا! يتم عبر عدة أمور منها! الكلام عن الحريات الخاصة وحقوق الإنسان (والمرأة)، بلهجة إسلامية ومضامين أجنبية تشربها هؤلاء من أوساطهم الاجتماعية، ومن خلال ثقافاتهم المتلقاة من الفضائيات والإنترنت والدراسة في معاهد اللغات وكليات الإدارة! ومن ذلك، ومما يلاحظ على هؤلاء المتدينين مع وجود الهم للإسلام.

كما يقول أحمد زين: " التعاطي ونمط المعيشة والتصورات تتم وفقا لنمط الحياة الغربية بصورة طاغية ولافتة، وأعتقد أن الرجوع للأحكام الفقهية يمكن أن يدين نموذجا هذا توجهه، كما أن هذه الفترة التي نحياها كفيلة من الناحية الحضارية أن تُوجه نحو أنماط أخرى من الحياة مختلفة عن هذا النموذج. كما أتصور أنا لتعاطي مع الأغاني والسينما - الغربية خاصة - وغير ذلك لا يُرضَى عنه فقهيا بجملته ". مرجع (4) وفي أقل الأحوال، أصبحنا اليوم نجد من الأناشيد الإسلامية ما لا تفرق بينها وبين الأغاني الغربية! وبعضها تقدم في قوالب " الفيديو كليب " بوجود المخالفات الشرعية المعلومة! ومن ذلك، الاهتمام بالثقافة الإدارية والتربوية والاجتماعية والنفسية تحت تأثير رؤية الغرب ونظرياته فيها! فمهارة مثل (لغة البرمجة العصبية) -أو ما اصطلح عليه بـ الـ ( N.L.P) - تقام لها الدورات باهظة التكاليف، ويحضرها المئات! وتنال من الاهتمام والمتابعة أضعاف ما تناله حلقات التحفيظ وحلق العلم! ومن ذلك، تحول الفنانات "التائبات" أو الفتيات "المتدينات" -من هذه الفئة- إلى تمثيل لأدوار إسلامية أو تقديم برامج دينية -زعموا- لخدمة الدعوة! "بل ظهرت المحجبات في الأعمال الدرامية وانتشرت فيه البرامج الدينية حتى في أوقات ذروة المشاهدة، ووصلا لأمر إلى أن تكون البرامج الدينية من السهرات الأساسية (نور على نور، ورب اشرح لي صدري) "!! مرجع (1). إن هذه المسائل والمظاهر لم تأت من فراغ، فهي حصيلة الفقه"الرخيص "! عندما يلتقي مع الشريحة المترفة والطبقة المتمتعة! وعندما لا تراعي الفتاوى طبيعة الانفتاح الإعلامي والتحرر الاجتماعي والهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون تحت وطأة الغزو الفكري والثقافي من الغرب والفشل الداخلي في بلداننا!. أما عن أثر هذا التيار في الحركة الإسلامية، يقول أحمد زين: "إنه كما أثرت الحركة الإسلامية على هذه الموجات الشبابية المتدينة؛ فإنني أزعم أن هؤلاء المتدينين الجدد يؤثرون وسيؤثرون على الحركة وبرامجها وخططها".مرجع (3) يشرح ذلك بقوله: " فقد بدأ التأثير في الحركة الإسلامية بالفعل خاصة في الجانب الاجتماعي الذي هو وثيق الصلة بالجانب الفقهي؛ فقد أصبح داخل الحركة الإسلامية الآن شبه حراك في هذين الجانبين، خاصة أن الحركة قد دعمت نمطًا معينا خلال الثمانينيات. مما يلفت النظر الآن - مثلا وليس حصرًا - أن كثيرا من السيدات والفتيات المنتسبات للحركة قد استبدلن بـ"الخمار" التقليدي الذي تعود عليه المجتمع المصري والذي كانت توصف كل من تلبسه بـ"الأخت" .. استبدلن به غطاء الرأس والصدر القصير المتعدد الأنماط والألوان. هذا التغير وإن أخذ شكلا مظهريا إلا أنه ينبئ عن حراك ما، هذا الحراك ربما يكون تم تحت ضغط الأناقة التي يبدو عليها حجاب المتدينات الجدد، وانخراط الكثيرات منهن في مناشط الحركة، وربما تحت ضغط الانفتاح على أشكال الحجاب المختلفة (الإيراني والخليجي والأوربي ... )، التي وسعت الخيارات أمام هذا الجمهور الذي تعود على نمط واحد من الاختيارات. ولكنه في رأيي يبقى تأثرا بالتدين الجديد، وثورة على النمط التقليدي الذي دعمته الحركة -ولو بطريق غير مباشر- في فترة الثمانينيات. ومن هذا التأثير تغير الأنماط السائدة في الناشط الاجتماعية؛ كالأفراح والزيارات؛ فأصبح من الطبيعي والمعتاد أن تكون هناك أفراح مختلطة أو رحلات مشتركة، أو ما شابه". مرجع (3)

ويضيف: "ثانية هذه الملاحظات العابرة حول التأثيرات أيضا: التعامل مع الفنون؛ فالقطاعات الشبابية داخل الحركة الإسلامية أصبحت تتعامل مع الفنون بقوة؛ بل أصبحت بعض التزكيات داخل الحركة توصي بمشاهدة بعض الأفلام السينمائية والأعمال المسرحية، وكثيرة هي النقاشات حول الأعمال الفنية حتى الهوليودية منها داخل مواقع الإنترنت، وساحات الحوار المتعلقة بالحركات الإسلامية". مرجع (3) ويؤكد الكاتب: "إن تدين بعض أفراد هذه الطبقة لا بد أن يغير -في ظني- خريطة الحركة الإسلامية واهتماماتها؛ فهؤلاء الأفراد لهم قدرات وطاقات ومهارات مختلفة كثيرا عن مهارات الأجيال التي يمكن أن نقول: إن الحركة الإسلامية قد تمرست في التعامل معها". مرجع (3) إن لهذا التيار زخمه الدعائي وحضوره الإعلامي، وهو سيشكل بالطبع تحديا أمام العلماء والدعاة في رد الناس إلى " التدين الصحيح "، وقد يشغل الساحة مرة أخرى في الحديث بقضايا فقهية ومسلمات عقائدية وآداب اجتماعية -تجاوزت الدعوة معالجتها! - لصالح الرؤية التي يقدمها! وسوف يعطي هذا الجو من التدين لضعفاء النفوس، والذين قال الله فيهم في سورة الأحزاب: "فيطمع الذي في قلبه مرض"! فرصة للاستفادة من هذه المظاهر واستغلالها في الحرام! وتطبيع " خطوات الشيطان " في نفوس الشباب والشابات! إن ما يقوم به "المتدينون الجدد" -من الجهود المتناثرة- لن يكون في أحسن أحواله مشروعا نهضويا للأمة! طالما وأنه ينحرف بقيم الدين وأحكامه ليطابقها ويطبعها مع المناهج الأرضية! ولن يكون بديلا عن العلاج العقائدي المرتكز على التوحيد والإيمان والاتباع! والواجب على هؤلاء الرجوع إلى مرجعية الأمة من العلماء والدعاة الذين عرف عنهم تحري الحق واتباع الدليل وسلوك جادة الصواب. ولهم على العلماء والدعاة النصح والتوجيه والمساندة والتعاون معهم في الخير والإحسان. وبعيدا عن تشاؤم البعض من مصير هذا التيار، فإن الواجب أن لا يبخس الناس حقهم ولا تغمط مواهبهم وقدراتهم، فالاستفادة من هذا المخزون الضخم من هؤلاء الشباب هو في صالح الأمة والدعوة معا! مع مراعاة أنهم بحاجة إلى حكمة في التعامل، وبلاغة في الأسلوب، واعتراف لأهل الفضل بفضلهم! وهنا كلمة جميلة أسجلها للكاتبة "نهى الإبياري" وهي تتحدث عن هذه الظاهرة: "إن علينا أن نتعلم أن نحب الأشخاص ونؤمن بالأفكار؛ لأننا عندما يختلط علينا الأمر فنؤمن بمن نحبهم ننسى أنهم بشر خطاءون، وعندما يسقطون نسقط معهم ويسقط ما آمنا به من أجل سواد عيونهم. الذي يحدث: أننا ننسى هل آمنا بما يقولون لأننا أحببناهم، أم أحببناهم لأننا آمنا بما قالوا، والفرق جد كبير". وهي تتفق مع الأثر المروي عن الإمام علي رضي الله عنه: "إعرف الحق تعرف أهله"! وختاما، فإنه يجب أن يبقى السؤال، الذي حاولت أن أجيب عنه: هل سيؤدي " التدين الجديد " إلى تمرير ثقافة التغريب في مجتمعاتنا؟، محل لاهتمام ورصد المتابعين للظاهرة! نماذج من الدعاة الجدد: - عبد الله جيمنستيار: داعية إسلامي من إندونيسيا، يبلغ من العمر 42 عاما، بدأ الظهور على شاشة التلفزيون منذ عدة أعوام، لكن شعبيته تصاعدت في وقت قصير جدا؛ ليزيد جمهوره عن 6 مليون شخص يتابعون محاضراته الأسبوعية عبر التلفزيون، إضافة إلى شرائط الكاسيت وأفلام الفيديو والكتب، وقد وصلت شعبيته إلى حد أن يصبح ثمن الساعة الواحدة التي يقدمها من البث التلفزيوني إلى 100 ألف دولار، وذلك بحسب جيمنس تيار نفسه. وهو يمتلك 18 شركات، من بينها قناة فضائية، ومحطة راديو، ودار نشر، واستوديو تسجيلات، ووكالة إعلان، ومكتب سياحة، تحقق واحدة فقط من شركاتها مكسبا يصل إلى أكثر من 300 ألف دولار شهريا.

انظر "الأخ جيمنستيار .. داعية أندونيسي .. نيولوك"! ترجمة وإعداد: نهى الإبياري؛ في موقع "إسلام أون لاين". - حمزة يوسف هانسن: أمريكي الأصل، ومن عائلة مثقفة؛ والده أستاذ لمادة الإنسانيات في جامعة هارفارد، وأمه خريجة جامعة بيركلي العريقة، أما جده فكان عمدة لإحدى مدن كاليفورنيا. وهو صاحب فكرة برنامج " يللا شباب " الذي يذاع على mbc، وهو البرنامج الذي نجح في مخاطبة جماهير الشباب من خلال محتوى ديني جذاب .. وهو ما أكده خالد طاش أحد معدي البرنامج لجريدة الوطن السعودية. انظر: "حمزة يوسف .. الداعية الأمريكاني المزدوج! " بقلم أحمد زين؛ في موقع "إسلام أون لاين". - عمرو خالد: من مواليد عام 1967، بمدينة الإسكندرية - مصر. حاصل على بكالوريوس تجارة من القاهرة عام 1988م، وعلى دبلوم في الدراسات الإسلامية، بمعهد الدراسات الإسلامية في القاهرة سنة 21م. وهو يحضر لدراسة الدكتوراه في السيرة النبوية من جامعة ويلز - إنجلترا. يعمل كمراجع حسابات، وشريك بمكتب مراجعة. وهو عضو بجمعية المحاسبين والمراجعين المصرية. بحلول عام 1999 مصار عمرو خالد يلقي 21 درسا أسبوعيا في منازل شخصيات مرموقة، وارتفع هذا العدد في رمضان ليصل إلى 99 درسا في الأسبوع الواحد، ولقد حققت شرائط الكاسيت المسجلة عليها دروسه رقما قياسيا في مبيعات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام م، ولم يقتصر رواج هذه الشرائط على القاهرة وحدها بل صارت توزع في فلسطين وبيروت ودول الخليج، وقد أسس شركات عدة لتوزيع الكاسيتات. قدم العديد من البرامج في القنوات الفضائية، ولا يزال، يعمل مستشارا لدى محطة "اقرأ" التلفزيونية السعودية، وطلب منه الانضمام إلى مجالس إدارة في بعض البنوك الإسلامية؛ ولديه موقعه الخاص على الإنترنت. - ماجدة عامر: داعية شابة من الطبقة الثرية في القاهرة، مشغوفة بالشاك راس واليوغا والحمية العضوية والممارسة التأملية. وتلقى محاضرتها في الإسلام والطب البديل صدى حماسي لدى نساء المجتمع الراقي اللاتي يقصدن مسجد أبو بكر الصديق القائم في ضاحية هليوب وليس المترفة. - الحبيب علي الجفري: من مواليد جدة بالمملكة العربية السعودية، في عام1971م. والده هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجفري، رئيس حزب رابطة أبناء اليمن (رأي)، عائلته تشتغل بالسياسة، تتلمذ الجفري على يد عدد من دعاة الصوفية في أرض الحجاز، وهو يدرس بدار المصطفى بتريم، أشعري المعتقد، شافعي المذهب، صوفي الطريقة! له العديد من البرامج التي يقدمها على القنوات الفضائية، وموقع خاص على الإنترنت. وهؤلاء الدعاة يحظون بما يلي: - كثافة الدروس. - كثرة المبيعات لهذه الدروس، والتي تنتج على الكاسيت وشريط الفيديو والسيديهات. - كثرة الحضور من الجنسين لهذه الدروس. - الحضور القوي في القنوات. كقناة "اقرأ" و"أوربت" و"دريم" و"إل بي سي" و"إم بي سي"! وهي قنوات في غالبها منحلة، وبعيدة عن الصورة الناصعة للإعلام الإسلامي الذي ينبغي أن تقدمه هذه القنوات! - بروز أعمال وواجهات عمل في أكثر من بلد. - أسلوب التسويق الذي يعتمدون عليه في مخاطبة الجماهير. - استخدام الإنترنت للتعامل مع المدعوين بشكل أكبر. - استخدام الهاتف الجوال، والرسائل. كثرة الجدل الدائر في الأوساط الاجتماعية والدعوية حول هذه الظاهرة. "التدين الجديد" .. و"الإصلاح الديني":

يربط البعض بين "التدين الجديد" في ظروف نشأته وطبيعة دعوته، بحركة "الإصلاح الديني" التي شاهدتها أوربا في القرن السادس عشر وما يليه، والتي بفعلها نشأت الكنيسة "البروتستانتية" كإحدى المذاهب العقائدية المستحدثة في النصرانية. و"البروتستانتية": حركة دينية نشأت عن حركة الإصلاح الديني ومبادئها. وهي تنطوي "على أفكار تحررية في الأمور الدنيوية والدينية، وكذلك في إعطاء الفرد حرية التقدير والحكم على الأمور، وفي التسامح الديني، وهذا مضاد للتقاليد وللسلطة الدينية. وروح البروتستانتية هي في مسؤولية الفرد تجاه الله وحده، وليس تجاه الكنيسة". انظر الموسوعة العربية الميسرة؛ ج1؛ ص (499). وتعرفها "موسوعة السياسة" بأنها: "مجموعة العقائد الدينية والكنسية المنبثقة عن حركة الإصلاح الديني في أوروبا، التي رافقت ظهور وتطور الثورة الصناعية فيها". انظر ج 1؛ ص (527 - 528). وقد ظهرت في ظل: "التسلط الديني والدنيوي للكنيسة، والنظام الإقطاعي المستبد في أوروبا، الذي كان يعيق نمو الثورة الصناعية والتجارية". موسوعة السياسة، ج 1 و"البروتستانت: فرقة من النصرانية احتجوا على الكنيسة الغربية باسم الإنجيل والعقل"، وتسمى -أيضا- بـ (الإنجيلية)، "ويعتقدون أن لكل قادر الحق في فهمه، فالكل متساوون ومسئولون أمامه". انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ج2؛ ص. وهم: "يستمدون إيمانهم مباشرة من خلال تفسيرهم الذاتي لنصوص الكتاب المقدس، ومن هنا تتعدد التأويلات وتباينت". موسوعة السياسة، ج 1؛ ص (528). وقد بدأت في الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، متأثرة بحركات الإصلاح السابقة لها؛ ومن ثمَّ تحولت من حركة إصلاحية داخل الكنيسة إلى حركة عقائدية مستقلة ومناهضة لها -أي الكنيسة. انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ج2؛ ص (615). و"نتيجة للحرية الفردية في فهم تفسير الكتاب المقدس لكل فردمن المؤمنين بالمذهب البروتستانتي انقسمت البروتستانتية إلى كنائس عدة". انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ج2؛ ص (618). وفي إحصائية عام 1982م وجدت 2 طائفة إنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ج2؛ ص (618). ومن بين الكنائس التي انقسمت على البروتستانتية "الأساسيون"وهي: "حركة دينية محافظة قامت بين الطوائف البروتستانتية في أوائل القرن2م. والغرض منها هو المحافظة على التفاسير التقليدية للكتاب المقدس، وحفظ عقائد الإيمان الأساسية من الأمور العصرية التي جاءت بها الاكتشافات العلمية". الموسوعة العربية الميسرة؛ ج1؛ ص (186). أبرز مؤسسي الحركة الإصلاحية بأوروبا: - مارثن لوثر: وهو ألماني كان يعمل أستاذ اللاهوت، كاثوليكي المذهب. وهو مؤسس المذهب البروتستانتي. انتقد الكنيسة وطالب بالإصلاح، لكن الكنيسة تواجهت معه، مما أدى إلى انفصال حركته عن الكنيسة الكاثوليكية، ودعا إلى الخضوع المباشر لسلطة الكتاب المقدس دون وسائط، بمعنى أن الكتاب المقدس من الوضوح للمؤمنين بحيث لا يختص القساوسة والبابوات بتفسيره، وقد قسمت آراءه العالم المسيحي بصورة جذرية. ولد "مارتن لوثر" في ألمانيا عام 1483م، وتحول من دراسته الجامعية إلى دراسات اللاهوت، ثمَّ عين قسيساً عام 157م. واجه انحرافات الكنيسة وطالب بإصلاحها، وألف في ذلك كتباً وجدت إقبالاً لدى الأوساط المتعلمة في ألمانيا. أصدرت الكنيسة قراراً بحرمانه من منصبه، وإحالته إلى محكمة تفتيش، وكان سيواجه حكماً بالإعدام، لكنه هرب.

انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ج2؛ ص (615). وقد "ارتبطت اللوثرية في ألمانيا ارتباطاً وثيقاً بالحالة السياسية منذ أن دعا لوثر إلى إشراف الدولة على الكنيسة، ولذلك فإن الحكومة الألمانية تدخلت أكثر من مرة لحل الخلافات بين أعضاء الكنيسة أو للاتفاق مع كنائس المصلحة". انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ج2؛ ص (618). - جون كالفن: ولد في فرنسا عام 159م، كان مثقفاً قانونياً، ثمَّ تحول إلى دراسات اللاهوت. خالف لورثن في عدد من القضايا منها: إشراف الحكومة على الكنائس، حيث طالب بأن تحكم الكنيسة نفسها بنفسها. انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ج2؛ ص (617). أسباب نجاح قيام حركة الإصلاح في أوروبا وانتشارها في العالم: يشير كتاب "موسوعة تاريخ أوروبا العام" إلى أربعة أسباب وراء الانتشار المكثف والسريع للحركة الإصلاحية في أوروبا، وهي: 1 - احتياجات المؤمنين الروحية: "ما يمكن في البداية تسميته (التدين الحديث)، هو الحاجة الماسة عند المؤمنين -في نهاية العصر الوسيط- إلى دين أكثر خصوصية، أقل إشكالية، وأقل طقوسية. حتى إن الحركة وجدت جذورها في إيطاليا، بين ظهراني بورجوازية المدن الكبرى التجارية، وسرعان ما انتشرت في الأراضي المنخفضة". موسوعة تاريخ أوروبا العام: ج2،ص (276). 2 - التبرئة بواسطة الإيمان: حيث أصبح "الإيمان ضرورياً وكافياً للخلاص والنجاة من عذاب الأبدية. ولا جدوى من الأعمال؛ لأنها لن تفيد في شيء. لهذا وقف (لوثر) ضد (استخدام الغفرانات) و (الحال أن مذهباً لاهوتياً مبنياً على التبرئة بالإيمان يتطابق مع حاجات ملايين النفوس القلقة). لقد راح هذا اللاهوت يناوئ مسيحية قائمة على الطقوس والممارسات، بيد أن (الإيمان الحديث) أثر في نفوس النخبة وأوغل داخل الكنيسة الرومانية". موسوعة تاريخ أوروبا العام: ج2، ص (276). 3 - الإنسانيون: الذين شرعوا "بقراءة الكتاب المقدس بطريقة ساذجة سطحية، مستندين في أفضل الحالات بعلوم راهب الكنيسة، القديس جيروم والقديس أوغسطين". موسوعة تاريخ أوروبا العام: ج2، ص (279). 4 - الأمراء: لقد كان التركيب الهرمي للسلطة في أوروبا - في ذلك الحين- والقائم على إمبراطوريات وممالك وأسر حاكمة ونبلاء .. مهيئاً لصراع على الثروات والسلطة تقوده طبقة الأمراء والنبلاء. "اضطر لوثر؛ بسبب حرب القرويين إلى التصلب في مواقفه، وإزاء حالات الفوضى المستشرية آثر قيام سلطة تمارسها سلطات مسيحية، وأعطى الأمراء سلطات الوصاية والإشراف. فيقدم بذلك هدية رائعة لأسياد الإمبراطورية المقدسة الذين امتلكوا منذ ذلك الحين حق مراقبة كنائسهم، وأصبحوا من فئات الأساقفة، مرسخي التحالف بين الأمراء الإقليميين والمذهب الجديد". موسوعة تاريخ أوروبا العام: ج2، ص (272). لقد "كانت طبقة النبلاء مصممة على الاستئثار بخيرات الكنيسة. في حين كان مجتمع الأرياف يرى في انتصار الإصلاح نهاية الاستبداد الإقطاعي وفجر عالم جديد". موسوعة تاريخ أوروبا العام: ج2، ص (275). وتركز المذهب الإصلاحي فيفرنسا: "بصورة خاصة في المدن، بين ظهراني البورجوازيين والفنانين، وجماعات الكنيسة، ورجال العلم والمعرفة". موسوعة تاريخ أوروبا العام: ج2، ص (288). لمزيد من الفائدة يمكن الاطلاع على: 1 - الموسوعة العربية الميسرة؛ ط2 - 21م، إصدار دار الجيل بيروت، بترخيص من الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية. 2 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة؛ ط 4 - 142هـ، إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي.

3 - موسوعة السياسة، المؤلف الرئيسي د. عبد الوهاب الكيالي؛ ط 4 - 1999م، إصدار المؤسسة العربية للدارسات والنشر. 4 - أوروبا منذ بداية القرن الرابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر- ضمن (موسوعة تاريخ أوروبا العام). إشراف: جورج ليفه، ورولان موسنييه .. المراجع: (وجميعها مقالات على موقع إسلام أون لاين)، هي: (1) المتدينون الجدد من الـ"تيك أواي" إلى الـ"وان كليك"، لأحمد زين. (2) تونس .. الفضائيات البديل الأمثل للدعاة، لـ د. خالد شوكات. (3) أثر المتدينين الجدد على الحركة الإسلامية، لأحمد زين. (4) المتدينون الجدد وفقه القص واللصق، لأحمد زين. (5) عمرو خالد .. الطبعة الإسلامية لليبرالية الجديدة!، لحسام تمام. (6) الأخ جيمنستيار .. داعية أندونيسي "نيو لوك"!، ترجمة وإعداد: نهى الإبياري. (7) "الدين اللذيذ" .. لغة الدعاة الجدد!، الدكتور صلاح عبد المتعال الخبير الاجتماعي المصري، المستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، وهو من المتابعين والمراقبين لهذه الظاهرة، في حوار له مع موقع "إسلام أون لاين"، إعداد: صباح هاشم. (8) الشباب المتدين بين عمرو خالد وعمرو دياب!، لعاصف بيات (9) تدين نيولوك .. إسلام البورجوازية في مصر!، لحسام تمّام وباتريك هايني. المصدر: شبكة القلم ( www.alqlm.com)

خدعة التحليل السياسي!

خدعة التحليل السياسي! 11 - 5 - 2007م بقلم: بندر الشويقي لم أجد أنسبَ من هذا العنوان لأكتب تحته هذه الخواطر المتعلِّقة بطريقة صديقنا أبي عمرو د. محمد بن حامد الأحمري في معالجة الإشكالات المتعلقة بالمسألة الشيعية. وفي البدء أودُّ القولَ: إن من أثقل المواقف على النفس أن يُضطر المرء ليكتب محذِّراً من رأيٍ بالغ الخطورة يتبناه فاضلٌ صادق النية، ناصحٌ لأمته، مريدٌ للخير والإصلاح. غير أن مما يهوِّن الموقف أن الدكتور - وفقه الله - اتَّخذ لنفسه نهجاً ثابتاً في تضعيف عقول مخالفيه، ووصْفِهم بالغفلة وعدم الإدراك والاستغراق - جهلاً وسذاجةً - في خدمة مصالح الصهيونية والعدو المحتل. ففي ظني أني مهما قلتُ - بعد هذا - وكتبتُ، فلن أبلغَ مبلغَ الدكتور، ولن أباريه في ازدراء عقل ورأي مخالفه. أثناء القصف اليهودي الأخير للبنان، كتب دكتورُنا الفاضل مقطوعةَ هجاءٍ شهيرةً عنوانها: "خدعة التحليل العقدي". رمى فيها حِمَماً بركانيةً على حمقى أغبياء مغفَّلين يقال لهم: "العقديون". ثم أتبع مقطوعته تلك بمعلَّقةٍ هجائيةٍ ثانيةٍ تدور حول المعنى نفسه عنوانها "حصاد التحليل العقدي". ولما سُئل في برنامج (إضاءات) عن فكرة هاتين المقالتين ذكر أن الوضع في لبنان كان وضعَ حربٍ مع اليهود، ولم يكن وقتَ إثارة قضايا عقدية. انتهت الحرب. وسكتت المدافع. وهدأت لبنان. لكن موقف الدكتور لم يتغيَّر، ومدافعه لم تسكُت. وكما كتبَ أثناء الحرب عن "خدعة التحليل العقدي"، وعن "حصاد التحليل العقدي"، إذا به يعود من جديد ليكتب لنا مقالةً مطولةً عنوانها "رؤية في المعضِلة الشيعية"، حذَّر فيها من خطورة "التهييج العقدي"!! فالدكتور - عافاه الله - ينتهي من "خدعة التحليل العقدي" ليكتُب عن "حصاد التحليل العقدي". وما إن يفرغ من ذلك حتى ينبري للحديث عن خطورة "التهييج العقدي". من غير أن يخطر له أن يمرَّ في طريقه بشيءٍ اسمه خطورة الإغضاء عن "الانحراف العقدي"، وعن أثر "التضليل العقدي" في ضياع الأمة. والحجة - دائماً - لدى الدكتور أن العدو يسعى لاستثمار الخلافات العقدية، فيجب ألا نخدم أهدافه بإثارتها!! فلتذهبْ - إذاً - عقائد المسلمين، وليأخُذ الشيعة وقتهم في نشر باطلهم، وليُمعِنوا في اختراق الوسط السني، وتشييع السذَّج الغافلين. وعلى "العقديين" مقابلَ ذلك أن يتجنبوا "التهييج العقدي" حتى لا يخدموا أمريكا وإسرائيل بوقوفهم في وجه إخوانهم الشيعة! هذا المنطق الذي يتحدث به د. الأحمريُّ هو الذي أوحى إليَّ بالحديث عن "خدعة التحليل السياسي". فقد رأيتُ الدكتور أغرقَ نفسه في تتبع السياسة وتفاصيلها حتى صار ينطبق عليه ما ذكره هو في مقالة "حصاد التحليل العقدي" حين قرَّرَ أن: "المندمِج بقضيةٍ ما ينغرسُ فيها، ويصعُب عليه الرؤية خارجها، لأنه كرَّر موقفه على نفسه مراراً، حتى لم يعُد يسمح لها بالتفكير خارج الصندوق الذي وضعها فيه". دكتورنا - أعزَّه الله - وضع نفسه في صندوق السياسة، فلم يعُد يستطيع السماح لعقله بالتفكير خارج ذلك الصندوق، حتى لو كان صندوقاً مشتملاً على أغلى ما تملكه الأمة، وهو عقيدتها وتوحيدها. وصاحبُ "التحليل السياسي" الذي لا يبصر إلا السياسية، كثيراً ما تتشبع نفسه بالتهوين من العامل العقدي ومدى تأثيره في تسيير المواقف من حيث لا يشعر. بل ربما رفع صوته معلناً (بلسانه) عن يقينه بدور العامل العقدي في تحليل بعض المواقف، لكن عند التطبيق فهو لا يبصر شيئاً سوى السياسة.

د. الأحمري يملك كمَّاً هائلاً من المعلومات والمعارف السياسية، غير أنه حين يكتب يَغرق في معلوماته تلك، فيعجز عن توظيفها للخروج بفكرةٍ متوازنةٍ، بسبب عدم قابليته للنظر برويةٍ فيما لدى الآخرين، مما له وقعٌ بالغ في القضية التي يتصدى للحديث عنها. وقد رأيته في واحدةٍ من مقاطع هجائه يذكر أن مِن الناس: مَنْ يُريح نفسه من عناء التفكير والفهم بوضع الآخرين في صناديق أو مجموعات، وأحزاب ومواقف، فيجعل هذا ليبرالياً، وذاك عقلانياً، ليسقط عن نفسه مشقة التفصيل والفهم، فليتَ دكتورنا تنبَّهَ - أيضاً - إلى أن من الناس من يريح نفسه من عناء التفكير والفهم بوضع مخالفيه في صندوقٍ كُتبتْ عليه عبارة: "عقديون مغفَّلون". دكتورنا الفاضل يرى أن "التحليل العقدي، والتفريق بين الناس بناءً عليه، كانَ ولم يزلْ أداةً مهمةً من أدوات المستعمرين". ويقول: "كم شيخٍ يقول وهو لا يدري أبعاد قوله، ويحلب في قدح المحتل الصهيوني أو غيره، وهو يرى أنه ينصر طائفةً أو عقيدةً أو مذهباً أو يدَّعي أنه ينير الطريق للأمة، بينما هو يرتكس بأتباعه في الظلمات، ويستعيدُ معارك الفرق والتاريخ ويغيب عن الشهود ومصالح الحاضر". فالدكتور - سلَّمه الله - منزعجٌ من شيوخٍ سُذَّجٍ يرتكسون بأتباعهم في الظلمات، ويحلبون في القدح الصُّهيوني من خلال إثارة معارك تاريخية تغيبهم عن مصالح الحاضر! وقد تعِبَ الناسُ ـ وكاتب هذه الأحرف منهم ـ ليشرحوا للدكتور أن استغلال العدو للخلاف السُّني الشيعي أمرٌ معروفٌ وليس بخافٍ عنهم. لكنهم يرون أن تجاهل أو تهوين الخطر الشيعي ليس حلاً. بل هو مما يزيد الواقع سوءً وتدهوراً. غير أن الدكتور يصرُّ - دائماً - على أن كلَّ من لا يرى رأيه فهو لا يعرف خطط الأعداء الصهاينة الأمريكان. وإنما هو "عقديٌّ مغفَّلٌ" يحرث التاريخ لينبش خلافاتٍ ميتةً، يتلهَّى بها عن مشاكل العصر الحقيقية. يقول الدكتور هذا مع علمه أن التشيُّع والرَّفض لم يكن في يومٍ من الأيام مشكلةً تاريخيةً تحتاج إلى نبشٍ وتفتيش، بل هي قضيةٌ حاضرةٌ أمام أعين الجميع، إلا إذا كان مِن رأي الدكتور أن الانحرافات العقدية تسقط بالتقادُم! في مقالته "حصاد التحليل العقدي" يقول د. الأحمري مخاطباً مخالفيه: "للنظر السياسي يا إخواننا تقسيماتٌ أُخَر، بعضها من بضاعتكم وبعضها تقع خارج ثقافتكم، وإلا لما صحَّ وجود سياسي وعقدي، ووجود رجل دين ورجل دولة أو سياسة". في هذا الكلام نرى د. الأحمري يسند موقفه ويعضد رأيَه بالتنبيه إلى قاعدة احترام التخصُّص. فبما أنه صاحب سياسة، فعليكم معاشر "العقديين" التنحِّي عن طريقه كي يشرح للناس رؤيته هو للمعضلة الشيعية. لكن لو سأْلنا دكتورنا: ماذا لو سلَّم لك "العقديون" نظرك السياسي، فهل ستسلِّم لهم نظرهم العقدي؟! الجواب بالتأكيد: لا .. فالدكتور يدرك استحالة فصل القضايا بهذه الصورة السَّطحية التي يطرحها ويعلم ضعفها. غير أنه يريد الوصول إلى إخراس من يسميهم "عقديين" وحسبْ، فمن أجل ذلك فزع للحديث عن التخصُّص. كلامُه في الظاهر معناه: (أنتم مجالكم "النظر العقدي" فدعوا عنكم السياسية). لكن حقيقة موقفه: (أنتم لا تفهمون السياسة، فاسكتوا حتى عن العقائد). وقد رأيتُه في كثيرٍ من كلامه لا يستطيع البعد عن "النظر العقدي"، ولا يقوى على تركه لأهله، مع أنه حين يتعرَّض لمناقشة مسائله يقع في أخطاء فادحة لها أثرها في تقييم الواقع، وبالتالي في معالجته. سمعتُه في برنامج (إضاءات) يقول: "كيف نُشغل الطالب مثلاً لمدة سنتين أو ثلاث في قضية خلق القرآن. ما عندنا أحد الآن يقول بهذه القضية. نحتاج أن نتحدث عن قضية من قضايا الحريات أو قضايا مفاهيم جديدة".

هذا ما قاله الأستاذ الدكتور - سامحه الله -. وعن نفسي فإني لا أعرفُ أحداً من لدُنْ آدم وإلى اليوم يشتغل سنتين أو ثلاث بتدريس قضية خلق القرآن! بل هي مسألة ضمن أبواب الاعتقاد يمرُّ عليها الطالب المتخصِّص ويتعلمها في مجالس معدودة. غير أن ضِيقَ صدر الأستاذ بالمباحث العقدية هو الذي يدفعه لمثل هذا التهويل. وأغرب من تهويله قوله بثقةٍ تامةٍ: " ما عندنا أحد يقول بهذه القضية "!! هذا الكلام من الدكتور يظهر منه أثر الاستغراق في "التحليل السياسي" وما يؤدي إليه من ضعفٍ في "النظر العقدي"، فالقول بخلق القرآن - لو علِمَ الدكتور - هو قولُ الشيعة الإمامية الذين منَعَنا من إزعاجه أثناء معالجته لمعضلتهم! الشيعة الإمامية، ومعهم الشيعة الزيدية، ومثلهم إباضية عمان والمغرب. دعْ عنك جملةً من زنادقة أدباء الحداثة الذين يعتبرون القرآن نصاً أدبياً مخلوقاً قابلاً للنقد. كل هؤلاء يقولون بخلق القرآن إلى اليوم. لكنَّ الأستاذ لا يدري عن ذلك شيئاً بسبب صندوق السياسة المحكم الإقفال الذي حبسَ نفسه فيه، فلم يعُدْ قادراً على معرفة ما في سائر الصناديق. على أني أقطع أن دكتورنا حتى لو علِمَ بذلك، فلن يختلفَ موقفه. لأن المسألة عنده في الأصل ليست ذاتَ بالٍ. والمشكلة لديه لا علاقة لها بوجود تلك الأقوال أو انقراضها. بل هي نابعةٌ من خصلةٍ واضحةٍ لدى الدكتور تتعلق بضيق صدره بالمباحث العقدية. عموماً، الدكتور يريد السياسة ولا شيءَ غير السياسة. هو يريد حديثاً عن (الحرية، وعن خطر الاستبداد السياسي، وعن الانتخابات والمشاركة الشعبية). فهذه القضايا هي العقائد القطعية والركائز اليقينية التي يقوم عليها بنيان الإسلام في نظر "المحلل السياسي". أما شهادةُ أن لا إله إلا الله، ونقضُ الشيعة لها بممارساتهم الشركية. وشهادةُ أن محمداً رسول الله، ونقضهم لها بعقيدة الإمامة والعصمة، فكلُّ هذا مما يمكن احتماله والتهوين من أمره، وبالإمكان اعتبار تفاصيله قضيةً تاريخيةً عفا عليها الزمن. لكن الذي لا يجوز السكوت عنه بحالٍ، هو "الانحراف السياسي"، وما يتفرَّع عنه. وقد رأينا القصور في "النظر العقدي" يبرُز أثناء معالجة الدكتور "للمعضلة الشيعية". فحين تطفَّل على صندوق "العقديين"، وعاب عليهم رميَ الشيعة بالقول بتحريف القرآن، رأيناه يقول: إن هذا الموقف " في غاية الخطأ، لأسبابٍ: منها أن القرآن الذي يقرأه الشيعة اليوم هو القرآن نفسه الذي بأيدي المسلمين في كلِّ مكان. ومن شكَّ فليذهب بنفسه لأقرب تجمُّعٍ أو مسجدٍ أو منزلٍ لهم وسيجده القرآن الذي عنده ". فها هو ضعف "النظر العقدي" يتحدث عن نفسه. فالدكتور دخل للتحكيم في مسألة لا يملك تصوراً لأبعادها الحقيقية لأنها غير موجودة في صندوق السياسة الذي يهوى الدوران فيه. هو ـ بالتأكيد ـ لن يستوعب مذاهب وآراء الشيعة في القرآن ما دام مستغرقاً في متابعة تصريحات "تشيني" و"مارتن إنديك"، وكتابات "فوكوياما"، ومقالات "فريدمان". الدكتور أتى هنا بحجةٍ يراها قاطعةً في تبرئة الشيعة من ظلم "العقديين". فهو يقترح أن يذهب "العقديون" لمساجد الشيعة وتجمعاتهم، وينظروا في مصاحف الشيعة ليتأكدوا أن الذي يقرأونه هو نفسه القرآن الذي يقرأه السنة. ولو أن دكتورنا أنصت قليلاً لإخوانه "العقديين" لربما أخذه الحياء من ذكر مثل تلك الحجة. فالعقديون يعلمون أن أكثر الشيعة القائلين بالتحريف يؤمنون بهذا القرآن الموجود عندنا. لكن موضع الإشكال أنهم يعتقدون نقصَه، وأن الصحابة الكرام حذفوا منه آيات ولاية علي بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ، وفضائل آل البيت، ومثالب الصحابة!

قد لا تعني هذه المسألة الكثير بالنسبة للدكتور، لكن لو أنه أعطى "العقديين" - الذين يعانون اضطهاده - فرصةً ليسمع منهم، لأراح نفسه من عناء الذهاب إلى مساجد وتجمعات الشيعة ومقارنة مصاحفهم بمصاحف أهل السنة. وقد رأيتُه في غمرة إصراره على تخطئة فرقة "العقديين"، وبيان ظلمهم للشيعة يذكرُ أن كتاب (فصل الخطاب في تحريف كلام رب الأرباب) كتابٌ منبوذٌ عند الشيعة، وغير متداوٍل حتى إنه لم يطبعْ إلا مرةً واحدةً، وفي الهند. ولو أن دكتورنا ـ غفر الله له ـ تواضع قليلاً لإخوانه "العقديين" هنا أيضاً، لعلمَ أن ذاك الكتاب القذر لم يُطبعْ في الهند قطْ. وإنما طُبعَ في إيران مركز التشيع والرَّفض. ولو أنه أرعى سمعه وعقله لشرح له "العقديون" أن المشكلة ليست محصورةً في كتاب (فصل الخطاب)، ولا في مكان طبعه. فسواءٌ طُبعَ الكتاب في الهند أو نجازاكي أو في زُحَل. وسواءٌ طُبعَ طبعةً واحدةً أو اثنتين. أو لم يُطبَع قطْ. بل لو أن ذاك الكتاب لم يُخلَق في هذه الدنيا، ولا خُلِق مؤلفه. كلُّ ذلك لا قيمة له ولا تأثير له في المسألة التي يدرك "العقديون" وحدهم أبعادها وخطورتها. كتاب (فصل الخطاب) - لو عَلِم الدكتور - لا جديدَ فيه، فمؤلفه لم يزدْ على جمع المتفرِّق في كتب أعيان الشيعة القائلين بتحريف القرآن. تلك الكتب التي لا زالتْ تطبع إلى اليوم بالآلاف في طهران وفي قُم من غير أن يشعر الدكتور. وهي كتبٌ متداولةٌ وليست منبوذةً. بل هي محلُّ حفاوة علماء الشيعة. ومؤلفوها محلُّ تقديرٍ وإجلالٍ. بل هم معدودون عندهم من أئمة الإسلام وأعيانه المبرَّزين. أقول هذا الكلام وأنا في شكٍّ كبيرٍ من فائدته في تغيير موقف الدكتور، فالتحقُّق من موقف الشيعة المعاصرين من القول بتحريف القرآن مبحثٌ "عقدي"، فهو - بالتالي - ليس من محتويات صندوق دكتورنا الفاضل. لكنَّ "العقديين" - باعتبارهم يتحدثون في فنِّهم، ولأنهم ينطلقون من قواعد شرعية محكمة - لا يكفيهم أن يقول المعمَّم الشيعي: (أنا لا أقول بالتحريف)، سواءٌ صدق في قوله أو كذب. بل يريدون موقفاً واضحاً وحازماً من كلِّ من تجرَّأ على الطعن في دستور الأمة. فلا أقلَّ من الاتفاق على كفر القائل بذلك الفجور والتبرِّي منه. قد يرى د. الأحمري في هذا الموقف شيئاً من المبالغة والتشدُّد، لكنَّ "العقديين" يريدون أن يفهم الدكتور أن للقرآن الكريم عندهم منزلةً عاليةً وأهميةً بالغةً. فهو عندهم أهمُّ من المفاعل النووي الإيراني الذي يُشفِق عليه الدكتور من الدَّمار، ويريد أن يكون له دورٌ في إحداث توازن في المنطقة، وردع إسرائيل عن أطماعها التوسعية، وتخفيف مذابحها ضد الفلسطينيين! وكما قلتُ في مسألة "خلق القرآن"، أقول في مسألة "تحريف القرآن"، فسواءٌ قال الشيعة بالتحريف أو لم يقولوا، فموقف الدكتور ـ غالباً ـ لن يتغير. بل لو أطبقَ الشيعة كلهم على القول بالتحريف، فالدكتور - وإن اعتبر هذا القول كفراً - فإنه سيوجب على "العقديين" الكفَّ عن "التهييج العقدي"، والبعد عن إثارة الخلاف المذهبي، لئلا يستفيد العدوُّ الصهيونيُّ الأمريكي من ذلك. فالموقف السياسي هو وحده الحاضر في عقل الأستاذ! من آثار "خدعة التحليل السياسي". احتفاء د. الأحمري ببروز فكرة "ولاية الفقيه" لدى الشيعة، فهي - في تصوره - "هدمٌ ذكيٌّ لركن الإمامة في المذهب الشيعي"! كما أنها تمثِّلُ "تجديداً واقتراباً من الحلول الإسلامية بل والفطرية الطبيعية". وقد استشهد في كلامه بقول أحد الكتاب: إن "ولاية الفقيه" خطوةٌ نحو التسنُّن!

هذا التصور الساذج الذي طرحه الدكتور ما هو إلا نتيجة مباشرة للاستغراق التام في "التحليل السياسي". فالدكتور - سلمه الله - نظر فقط للأثر السياسي لفكرة "ولاية الفقيه" على الواقع الشيعي، فأداه نظره إلى أنها تمثل هدماً ذكياً لركن الإمامة لدى الشيعة، بل وتمثل تجديداً وخطوةً نحو التسنُّن! ولو أن أستاذنا اعتنى بـ "النظر العقدي" لربما كان له رأيٌ ثانٍ. ولأدرك حينها أثر "خداع التحليل السياسي" في اختلال الموازين الشرعية، وفي تغييب أصول المعتقد! "ولاية الفقيه" عند من يعرف بعدها العقدي أبعد ما تكون عن المفاهيم السُّنية، بل هي - في ذروة نضجها - أقرب إلى المفهوم الكنسي منها إلى المفاهيم الإسلامية! قبل "ولاية الفقيه" كانَ الشيعة يقولون: (من ردَّ على الإمام المعصوم، فقد ردَّ على رسول الله، ومن ردَّ على رسول الله، فقد ردَّ على الله). أما بعد بروز فكرة ولاية الفقيه، فقد أصبح أنصارها يقولون: (الرَّد على الولي الفقيه، كالردِّ على الإمام المعصوم! والرَّد على الإمام كالرَّد على رسول الله، والرَّد على الرسول كالرَّد على الله)!! والنتيجة النهائية لهذا الزيغ أن من ردَّ قول "الولي الفقيه"، فقد ردَّ على الله!! فهل هذا هدمٌ ذكي لمبدأ الإمامة، أو أنه إحياء خبيثٌ لها؟! "ولاية الفقيه" في محصَّلها ترسيخٌ لمبدأ الإمامة في العقل الشيعي. والذين اخترعوا الفكرة إنما أرادوا تفعيل عقيدة الإمامة وتوظيفها لهدف إقامة دولة رافضية، يتمُّ فيها إحكام السيطرة على قطعان الشيعة الضالة بنَصب طاغوتٍ لهم يشركون به مع الله. وحسبَ هذه النظرية - عند أمثال الخميني - فإن "الولي الفقيه" له الطاعة المطلَقة، ليس في الشأن السياسي وحسبْ، بل حتى في جانب التشريع، فمن حقه تعليق وإيقاف أحكامٍ شرعيةٍ قطعيةٍ من مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج! فأينَ هُدِمَت فكرة الإمامة في مثل هذه الزندقة المكشوفة؟! هذه الضلالات المتراكمة لدى الشيعة الروافض من العسير جداً تصوير خطرها وحجمها الحقيقي لمن أغلق على نفسه صندوق السياسة. فمن أصعب المهام إقناع "المحلل السياسي" أن قوة الأمة في اجتماعها على معتقدها، وأن الخطر الخارجي - مهما يكن - فإنه لا يسوِّغ التهوين من شأن تلك الضلالات التي تستهدف الأمة في أعز ما تملك. شيءٌ واحدٌ يمكن أن يؤمن الدكتور بضرورة إثارته، وتفريق الأمة عليه، وتشتيت وحدتها من أجله، حتى لو كان في ذلك خدمةً للعدو الصهيوني الأمريكي! فإذا كان الدكتور يعتبر إثارة الخلاف العقدي مع الشيعة حلباً في قدح العدو المحتل، فلنجرِّب أن نقول له: يجب عليك - إذاً - أن تكفَّ عن انتقاد الاستبداد السياسي للحكومات، وأن تمسك قلمك ولسانك عن المطالبة بالانتخابات والمشاركة الشعبية. لأن هذه المطالب هي عينها مطالب العدو الغربي الصهيوني الذي يضغط ويبتزُّ الحكومات بإثارتها، ليحملها في النهاية على تقديم تنازلات تضر بشعوبها. بالطبع الدكتور لن يقبل مثل هذا الكلام، فهو لا يرى مانعاً أن يحلب في قدح العدو المحتل، لأجل تفعيل محتويات صندوقه. بل لا مانع لديه أن يهبَ عدوَّه البقرة كلها، متى ما تعلَّق الأمر بالرُّكن الأهم عنده: "السياسة"، و"الانتخاب". أما قضايا التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، والهدى والضلال، فالمغفَّل من يخدم العدو بإثارتها، وهي - في نظر دكتورنا - قضايا تاريخية تنتمي لعصر أحمد بن حنبل على حدِّ تعبيره في برنامج (إضاءات)! من مظاهر الضَّعف الكبرى في نهج "المحلل السياسي"، أنه يطرح أراءً واقتراحاتٍ من كدِّ عقله دون أن يكلِّفَ نفسه التوقف عند حكم الشرع فيها.

وقد رأيتُ د. الأحمري يقترح ـ من أجل حلِّ المعضلة الشيعية ـ دمجَ الشيعة في المجتمع السُّني عن طريق رفع ما سماه بـ "الحصار الثقافي" عنهم، وفسح الحرية لهم في ممارسة دينهم المنحرف والدعوة إليه، وعدم إشعارهم بفروق بينهم وبين أهل السنة. بل رأيته يتمنَّى لو وُجد في البلاد السُّنية مراجع شيعية محلية، حتى يخفَّ ولاء الشيعة للمراجع الخارجيين! ومع تقديري لحسن مقصد الدكتور، فإن الذي يقرأ مثل هذه المقترحات يشعر وكأنه يقرأ لمحللٍ ليبرالي أو علماني لا يرجعُ لأصلٍ ولا دينٍ، ولا تعنيه الانحرافات الدينية لدى الشيعة، إلا بقدر إضرارها بالجانب السياسي للدولة! هو يتحدث عن الشيعة وكأنه يتكلم عن قبيلةٍ أو عِرْقٍ أو حزبٍ سياسي يريد أن يدمجه في المجتمع وحسب، فلا يخطر ببال الدكتور - وهو يطرح رؤيته - أن الشيعة فرقة منحرفة ضالة يتعين ـ شرعاً ـ تحجيمها ما أمكن، والسَّعي في معالجة ضلالاتها بدلاً من تعميقها وترسيخ وجودها في المجتمع السُّني. أقول هذا وعجبي يطول من مناداة الدكتور بإقامة مرجع شيعي (طاغوت) من صنعٍ محلي، ليعلِّم الناس الضلال وعقائد الحقد الأسود على خيار الأمة. بدلاً من أن يتعلموها من طاغوت مستورد! فهل توقَّف الدكتور - قبل أن يتكلم بهذا - عند مدى شرعية مثل هذا المقترَح؟! وهل نظر في أدلة الكتاب والسنة ليعرفَ إن كان عقله أصاب ههنا أو أخطأ؟! أو أن النظر في الكتاب والسنة أصبح - أيضاً - نبشاً في التاريخ؟! على أن الحل الذي يقترحه الدكتور - مع مناقضته للشرع -، فإن الواقع يُثبت عدم جدواه. لأن انتماء الشيعي لمرجعه انتماءٌ دينيٌّ تحكمه عوامل واعتبارات كثيرة، تأتي الحدود السياسية في آخرها. فها هو العراق أمام ناظري الدكتور متشبِّعٌ بالمراجع الشيعية المحلية، فهل منع ذلك من تبعية الشيعة للمراجع الإيرانية؟! وهذا لبنان يوجد به مرجع محليٌّ معروفٌ، ومع ذلك فإن أكثر اللبنانيين ينتمون لمراجع خارجية معارِضة ومعادية للمرجع المحلي! أمرٌ آخر لا أدري هل تفطن له الدكتور أو لا. فتنصيب مرجع محلي ـ لو حصل ـ فلن يكون للشيعة المحليين رأيٌ في اختياره حسب النظام الداخلي للعصابات الشيعية. فالمراجع خارج الحدود هم من يملك حقَّ تنصيب وإضافة مراجع جدُد. وهم ـ بالتأكيد ـ لن يسمحوا بوجود مرجعٍ خارج عن منظومتهم. وبالتالي فإن الثمرة النهائية لاقتراح الدكتور ستكون فتح قاعدة متقدِّمة للروافض داخل العُمق السُّني! هذا الكلام أقوله على سبيل التنزل والاستطراد، وإلا فإن الميزان أولاً وآخراً للشرع الحنيف. وما كان الله ليرضى عن أمةٍ لا تمانع من ممارسة بعض أفرادها للكفر أو الفسوق العقدي علناً، بل والدعوة إليه بحمايةٍ من القانون كما هو مطلب الأستاذ. دكتورنا - سدَّد الله قلمه - كمَّمَ أفواه "العقديين"، ثم فشل في القيام مكانهم. فالخلل في كلامه لم يقتصر على ضعف "النظر العقدي"، بل تجاوز ذلك إلى ضعفٍ في معرفة واقع الشيعة القائم. وقد رأيته في تعريفه بالباحث الشيعي أحمد الكاتب يذكر أنه (نشأ شيعياً حركياً، ثم ذهب ليكمل دراسته العليا في قم، وسجَّل مسألة "الإمامة" موضوعاً لرسالة دكتوراه في الحوزة في قم). لا أدري كيف يتكلَّم بهذا من يتحدَّث دائماً عن جهل "العقديين" بواقع عصرهم. وكم أتمنى لو أن الشيعة لا يطَّلعون على مثل هذا الكلام لئلا يكون دكتورنا محلًَّ تندُّرهم.

أحمد الكاتب لم يتقدَّم - يوماً من الأيام - لنيل درجة الدكتوراه ولا الماجستير من حوزة قم، وذلك لسببٍ بسيط، وهو أن الحوزات الشيعية لا يوجد فيها شيء اسمه دكتوراه ولا دراسات عليا. هذه الألقاب - لو علمَ دكتورنا - لا وجود لها في عالم الحوزات الأسود. والذي يتخرَّج في الحوزة الشيعية إنما يتأهل لوضع العمامة على رأسه، والتزين بألقاب من مثل: حجة الإسلام، وآية الله. ونحو ذلك من ألقاب متعضد ومعتَمد. وكلام الدكتور عن دراسات عليا ودكتوراه في حوزات قم، يشبه قول القائل: إن فلاناً سجل أطروحة دكتوراه في جامع الرياض الكبير! الدكتور ـ غفر الله ـ سَخِر من "العقديين"، واتهمهم بالجهل بالواقع، ثم أقام نفسه مقامهم في علاج المسألة الشيعية، ليكشف بعد هذا عن ضعف معرفته بواقع الشيعة، ومعتقداتهم، ونظام المرجعية عندهم، فضلاً عن منهجية التعليم في حوزاتهم السوداء. بقي أنْ أنبِّهَ إلى أن د. الأحمري حين يشرح رؤيته للمعضلة الشيعية، فإنه لا يطرح أفكاره بصفتها حلولاً طارئة لوضعٍ استثنائي مؤقت. فهو حين ينادي بتطبيع التشيُّع داخل المجتمع السني، لا يفعل ذلك اضطراراً، وحذراً من الخطر الخارجي المحدِق. وإنما يقول هذا باعتباره الأصل، انطلاقاً من قاعدة كبرى يؤمن بها تمام الإيمان. الدكتور - غفر الله له - يؤمِن بالحرية الفكرية بمفهومها الغربي. فمن رأيه ومذهبه أن الحرية الفكرية وحرية التعبير يجب أن تكون مصانةً ومتاحةً للجميع. فليس الرافضيُّ وحده الذي يجب أن تتاحَ له الفرصة لممارسة ضلاله والدعوة إليه. بل حتى الكافر الصَّريح، والشيوعي الملحد، من حقه ألا يُقمَع ويُقصَى، بل يجب أن يكون حرَّاً في إبداء رأيه والدعوة إليه. بل إن دكتورنا يذهب لما هو أبعد من ذلك، فلا مانعَ لديه من أن تَفسحَ الدولة المسلمة لأحزابٍ سياسيةٍ تقوم على مبادئ الكفر والضلال!! فلا نهضة للأمة - حسب الدكتور - ما لم يتسع صدرها لمثل هذه الحرية المترامية الأطراف! هذا ما يقرِّره الأستاذ ويؤمن به. وقد سبقَ لي بحثٌ معه حول هذا المنحَى الخطير. ثم سمعته بعد ذلك ببرنامج (إضاءات) يذكر أن الإسلاميين "إذا كان عندهم استعدادٌ لوقف الآخرين وكبت حرياتهم فهذه قضية سيئة جداً"! فليتَ شعري إذا لم يكن من هدف الداعية والمصْلِح إيقاف الباطل وإقصاء أهله، فما فائدة دعوته وإصلاحه إذاً؟! حين أذكرُ هذا الكلام عن الدكتور - أصلح الله باله - فإني أريد بيان الزاوية التي نظر من خلالها وهو يتصدى لعلاج "المعضلة الشيعية". فهو لا يبني فكرته من خلال ملابسات الواقع القائم، بل من خلال قناعةٍ داخلية راسخةٍ لا علاقةَ لها بتآمر الغربيين ضدنا. الدكتور - رعاه الله - ينطلق من مجموعة تصورات ومفاهيم تجمعها كلمة "ديمقراطية". ويخطئ من يظنُّ أنه عالج "المعضلة الشيعية" من خلال معرفته الواسعة بتعقيدات الوضع القائم كما يبدو من ظاهر الأمر، بل وكما يجتهد الدكتور في تصوير ذلك. فحديثه الدائم عن الحرية، وعن العقديين وصناديقهم المقفَلة، وكلامه عن ضرورة استيعاب مشاكل العصر، والبعد عن الاستغراق والتعصُّب لآراء الأسلاف، والتشاغل بالخلافات التاريخية. كل هذا الكلام يتجه إلى مصبٍّ واحد، ينتهي عند دلتا "الديمقراطية".

ودكتورنا - سلمه الله - لم يكن الأول في هذا الطريق، ولا أظنه سيكون الأخير. فهو من أناسٍ أرهقهم ضغط الواقع السياسي لأمتهم، فالتبستْ عليهم المسالك، واشتبهتْ عليهم الدروب، فاستبدلوا بالدعوة للتوحيد الدعوةَ للتعددية، واعتاضوا عن تحكيم الشرع بتحكيم صناديق الاقتراع ورأي الأكثرية، فصاروا يركضون طلباً لدولة الحرية بدلاً من السعي لإقامة دولة الملة الحنيفية. وقد كان لستةَ عشر عاماً قضاها في أمريكا (أرضَ العدو المحتل) أبلغَ الأثر في تشبُّع نفسه بمثل هذا التوجُّه. ومن المفارقات أن تقرير مؤسسة (راند) الأخير جعلَ من أهم مواصفات الحليف والعميل الأمريكي: الإيمان بالديمقراطية والحرية الدينية والفكرية. والدكتور - بحسن نيةٍ - ممن يؤمن بذلك ويدعو إليه، وفي الوقت نفسه يتهم مخالفيه بخدمة مخططات العدو، والحلب في قدحه، وإلى الله المشتكى! مما توقفتُ عنده قول الدكتور في برنامج (إضاءات) إنه يتحفظ على السلفية المعاصرة لأنها " أصبحت تقليداً للمرحلة التي عاشها الإمام أحمد وخصومه ". ولأن "السلفيَّ في العصر الحديث لا بدَّ أن يبحثَ عن المعتزلة حتى يخاصمَهم، ولا بدَّ أن يبحث عن الأشعرية حتى يخاصمهم، ولا بد أن يبحث عن الشيعة حتى يخاصمهم". ومع ما في هذا الكلام من مبالغةٍ وخللٍ، فإني حين قرأته حمدتُ الله - عز وجلَّ - أن جعل النهج السَّلفي الأصيل هو الغالب والسائد بين أهل العلم وطلابه في بلدي، مع ما في تطبيقهم له من خللٍ وقصور ظاهرين. ولو أن الناس أطاعوا د. الأحمري لأضاعوا الدين ولم يصلحوا الدنيا. ولو آمن دعاة السنة بما يدعو إليه الدكتور لخسروا دولتهم، ولم يفلحوا في التخلُّص من النفوذ الأجنبي الذي يريد منا الدكتور تقديم السنة ثمناً للهرب منه. ومن خلال تتبعِ النشاط الشيعي في المنطقة، فأنا على يقينٍ من أن الطرح الذي يقدِّمه د. الأحمري لا يشكل أيَّ إزعاجٍ أو قلقٍ لا لدعاة الرفض والتشيع، ولا للصهاينة الأمريكان. بل إنه يمهد الأرضية التي يستطيعون غرس باطلهم فيها. فالشيعة يستطيعون التعامل مع أمثال الدكتور بيُسرٍ وسهولةٍ، ولا يجدون أدنى مشقةٍ في تلهيته بشعارات الاتحاد في وجه العدو المشترك. لأنه لا ينطلق من قواعد شرعية واضحةٍ في نظرته إليهم، وإنما يتعامل معهم وفقَ ألاعيب السياسة التي يتقن شياطين الشيعة فنونها. أما الدعوة السَّلفية - فمع ما فيها من ضعفٍ وانقسامٍ - فإنها تمثِّل الحاجز الأكبر، والسدَّ المنيع في وجه المدِّ الرافضي باعتراف أهله. فالروافض لا شكوى لهم اليوم إلا من "الوهابية" التي عجزوا عن اختراقها، فلجأوا للالتفاف عليها عن طريق العبث بأصحاب "التحليل السياسي" المبهورين ببطولات "حزب الله"، والمشفقين على مفاعل إيران النووي! ومن الجانب الآخر إذا نظرنا للهيمنة الأمريكية الصهيونية التي تشغل الدكتور، فإن العدوَّ يعترف ويقرُّ - والدكتور يعرف هذا - أن السلفية تمثل التحدي الأكبر له. في حين أنه لا يحسب حساباً لأمثال الدكتور، إلا بقدر اتفاقه مع الطريقة السلفية، وتقرير (راند) لم يكن الشاهد الأول على ذلك. بقيَ أن أقول في الختام: إني أؤيد الدكتور تماماً فيما ذكره في مقالته عن "المعضلة الشيعية" من التأكيد على ضرورة التوجه لعامة الشيعة بالدعوة والتوجيه. لكن هذا كله لا يلغي ضرورة تحصين المسلمين بتحذيرهم وتنفيرهم من الرَّفض وأئمته، فالمحافظة على رأس المال أولى من البحث عن مكاسب جديدة. المصدر: شبكة القلم

معالم ومنارات في تنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث

معالم ومنارات في تنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث راجعه عدد من طلبة العلم بقلم/ عبد الله بن صالح العجيري [email protected] المقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد .. قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، إن من عظمة هذا الدين الخاتم كماله، وإن من مظاهركماله تهيئته لنفوس أصحابه لما يستقبلونه من حوادث ووقائع، علوية وسفلية، كبار وصغار، ليسيروا من ثم على نور وبصيرة يعرفون من خلال خبر الصادق ما كان وما سيكون مما هو نافع لهم في دنياهم وأخراهم، يبتدأ تاريخهم من آدم بل ومن قبل آدم ويستمر إلى قيام الساعة وما يجري بعد قيام الساعة، وكان من جملة تلك النصوص الشرعية المتحدثة عن أمور المستقبل ما يتعلق بذكر الفتن والملاحم وأشراط الساعة، مما يعطي المسلم تصورا عما يستقبله منها ليحذر ويتقي فينجو، نعم إن أمة الإسلام اليوم تحتاج إلى أن تراجع هذه النصوص الشرعية لتجد السبيل للخروج مما هي فيه من أزمات وفتن يرقق بعضها بعضا، فـ (قد أحاطت هذا الزمان وأهله فتن كثيرة لا تحصى، خصوصا ذهاب دولة الإسلام، وحكومة الإيمان، وغربة الدين، وفشو البدع والمضلين، وقلة العلم، وكثرة الجهل، وإيثار الخلق على الحق، والعاجلة على الآجلة، وترك الغزو، والقنوع بما في أيدي الناس، والانهماك في أمر المعاش، والإعراض عن المعاد، وكثرة التحاسد، والمفاسد التي أسرت أفراح القلوب، وشقت قلوب المؤمنين قبل الجيوب، فأصبحوا في حال يعدون المنايا أمانيا، ويرون لضعف الدين ووهن اليقين الموت طبيبا شافيا، إذا عثرت خيول الفتن والنقم، وولت جنود الدعة والنعم، وصارت الدنيا كلها آفات وبلايا، وكم في الزوايا من رزايا) (¬1)، ومن الرزايا ما نراه من كتابات تخرج بين الفينة والأخرى قد اتخذت من نصوص الفتن والأشراط والملاحم مرتعا خصبا لعبث العابثين وظنون المتخرصين، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لايعرفون، في كهانة مقنعة تلبس لبوس النص، والنص ينادي عليها بالبراءة، قد رسموا صورة الحاضر والمستقبل بما جادت به عقولهم المريضة، ثم حاولوا أن يجعلوا من تلك النصوص أصباغا يلونون بها تلك الصور فأساؤوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قد ضمنوا صورهم تلك كتبا يلقونها على الناس مع كل فتنة ومع كل أزمة تمر بالأمة تقول لهم بلسان الحال هيت لكم فلا يجدون بدا من أن يقولوا: لبيك، إنه باب جديد من أبواب تحريف النصوص، يفتح بل يكسر لينفذ من خلاله من يريد حرف المسار الصحيح للإصلاح في تثبيط عجيب عن العمل ودعوة للقعود عن النصرة وفي ترقب لخروج مصلح من هنا أو مهدي من هناك، يبتدأ هو لا هُم مسيرة الإصلاح، فوا أسفا، أبالظنون الكاذبة والخيالات الباطلة تعطل الأعمال والشرائع، إنه هروب اليائس المحبط من واقعه إلى عالم من الأحلام والأماني يعيش فيه ويتعلل به مما هو فيه، يحسب أنه بذلك قد صنع شيئا، وحقيقة الأمر أنه قد صنع (لا شيء)!، ولا تستطل الكلام فإنها نفثة مصدور، والأمر من قبل ومن بعد فوق ما أقول، وليس راء كمن سمع ولا من وقف على تصانيف القوم كمن لم يقف عليها. وهذه كلمات في محاولة لتأصيل هذه المسألة، تنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع في ظل ضوابط مستنبطة من تصرفات أهل العلم في القديم والحديث عسى أن تكون محل نفع وإفادة، وقد قسمت البحث إلى جزئين مقدمات لا بد منها يتلوها المنارات والمعالم التي يجب مراعاتها في عملية تنزيل نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع، وليس المقصود تتبع ما كتب في هذه المسائل من كتابات هي محل للنقد والتخطئة فإن هذا يطول بل (لا مطمع لأحد في حصرها، لأنها خطأ وباطل، والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه، فاخط ما شئت، وإنما الذي تنحصر مداركه، وتنضبط مآخذه، فهو الحق، لأنه أمر واحد مقصود، يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه، وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف، فإن طرق الإصابة تنحصر وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع، وتسديد السهم، فأما من أراد أن يخطئ الهدف، فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط، إلا أن نذكر من ذلك حسب الإمكان) (¬2) .. والله أعلم .. وإلى المقصود ¬

(¬1) الإذاعة 218 (¬2) الحوادث والبدع للطرطوشي 22.

مسألة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

مسألة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه علوي بن عبد القادر السَّقَّاف 5 صفر 1422هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فقد كثر الكلام والأخذ والرد حول قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما أرسل برسالة إلى كفار قريش يُعلمهم فيها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهل يعد فعله الذي قام به من النفاق الأكبر أم من النفاق الأصغر؟ ووجه إلي أحد الأفاضل سؤالاً عن ذلك فأجبته: اعلم أخي الكريم -وفقني الله وإياك- أنَّ هذه المسألة -أعني هل فعل حاطب رضي الله عنه يُعدُّ كفراً أم لا؟ - من مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف، وأصل منشأ الخلاف هو: هل الموالاة بجميع صورها تُعدُّ كفراً أم أنَّ منها ما هو كفر ومنها ما دون ذلك؟ وهل هناك فرقٌ بين الموالاة والتولي؟ وهل قوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} أي كافر مثلهم، أم هو كقوله صلى الله عليه وسلم ((من تشبه بقوم فهو منهم)) ومعلوم أن ليس كلُّ تشبهٍ بالكفار يعد كفراً، فإذا علمت ذلك تبين لك خطأ من يجعل هذه المسألة من مسائل العقيدة ويبدع من لم يقل بقوله، فإما جعله مرجئاً أو خارجياً، وهذا مما ابتليت به الأمة في الآونة الأخيرة. أما مسألة الموالاة والمعاداة ومظاهرة الكافرين على المسلمين فهي من مسائل العقيدة بل أصلٌ من أصول التوحيد، وأما تكفير حاطب - رضي الله عنه- فلم يقل به أحدٌ من أهل السنة فهو صحابي بدري قد وجبت له الجنة، وإليك البيان بشيء من الإيجاز والاختصار: الموالاة: أصلها الحب كما أن المعاداة أصلها البغض، وتكون بالقلب والقول والفعل، ومن الموالاة النصرة والتأييد، فمن جعل الموالاة نوعاً واحداً مرادفاً لمظاهرة الكافرين عدَّ فعل حاطب - رضي الله عنه- كفراً، ومن جعلها صوراً مختلفة وأدخل فيها: مداهنتهم ومداراتهم، واستعمالهم، والبشاشة لهم ومصاحبتهم ومعاشرتهم وغيرها من الصور؛ جعلها نوعين موالاة مطلقة عامة أو (كبرى) وموالاة خاصة دون موالاة. ومن هؤلاء من عدَّ فعل حاطب - رضي الله عنه- من النوع الأول ومنهم من عَدَّه من النوع الثاني، وأكثر العلماء على أن الموالاة نوعان: مُكفِّرة وغير مُكفِّرة، وسواء قلنا هما نوعان أو نوع واحد فالذي يهمنا هنا هو هل فعل حاطب - رضي الله عنه- من النوع المُكفِّر أم لا؟ -وسيأتي-، كما أنَّ منهم من فرَّق بين الموالاة والتولي وجعل التولي موالاة مطلقة ومنهم عددٌ من علماء الدعوة النجدية -رحمهم الله-، وهناك من لم يفرق بينهما كالشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره وهذا أقرب والله أعلم، وعلى كلٍ فهذه مصطلحات لا مشاحة فيها، لأن الذين فرَّقوا بينهما يعنون بالتولي الموالاة المطلقة وأنها كفر ولا يقولون بتولي غير مُكفِّر بل يقولون أن هناك موالاة غير مُكفِّرة فآل الأمر إلى وجود موالاة مُكفِّرة يسميها البعض تولي وأخرى غير مُكفِّرة وهذا كله على قول من يقسم الموالاة إلى قسمين. وعمدة من يقول أن الموالاة نوع واحد وأنها كفر، قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فأؤلئك هم الظالمون} قالوا لم ترد الموالاة في القرآن إلا بوصف الكفر، قال ابن جرير: ((ومن يتولى اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا هو به وبدينه)) وقال ابن حزم في ((المحلى)) (11/ 138): ((وصح أنَّ قول الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حقٌ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين))

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 274): ((وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم)) ثم استشهد بالآيتين السابقتين. هذه مقدمة لابد منها قبل الإجابة على سؤالكم: هل فعل حاطبٍ - رضي الله عنه- كان كفراً أم لا؟ واعلم أن قصة حاطب - رضي الله عنه- رواها البخاري في الصحيح (3007،4272،4890،6259) ومسلم في الصحيح (4550) وأبو داود في السنن (3279) والترمذي في الجامع (3305) وأحمد في المسند (3/ 350) وأبو يعلىفي المسند (4/ 182) وابن حبان في صحيحه (11/ 121) والبزار في مسنده (1/ 308) والحاكم في المستدرك (4/ 87) والضياء في الأحاديث المختارة (1/ 286) وغيرهم، وقد جمعت لك ما صحَّ من رواياتهم في سياق واحد -وأصلها من صحيح البخاري- ليسهل تصور القصة واستنباط الأحكام منها، والذي يهمنا منها ألفاظ حاطب وعمر رضي الله عنهما أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا الْكِتَابُ فَقَالَتْ مَا مَعَنَا كِتَابٌ فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا فَقُلْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ عُمَرُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ)) ((دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ)) ((فَإِنَّهُ قَدْ كَفَرَ)) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْت. قَالَ حَاطِبٌ: ((وَاللَّهِ مَا بِي أَنْ لا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) ((وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلام)) ((وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا)) ((وَمَا غَيَّرْتُ وَلا بَدَّلْتُ)) ِ ((مَا كَانَ بِي مِنْ كُفْرٍ وَلا ارْتِدَادٍ)) ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا نِفَاقًا قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ)) ((فقلت أكتب كتاباً لا يضر الله ولا رسوله)) أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِه. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ وَلا تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ.

فَقَالَ: أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَال: لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.] فأنت ترى أنَّ حاطباً - رضي الله عنه- شعر بخطئه في إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاته لكفار قريش، وظهر له أنَّ هذا كفرٌ وردة لكنه يعلم من نفسه أنه لم يفعله ارتداداً عن دين الله فقال: ((ولم أفعله إرتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، وما غيرت ولا بدلت -أي ديني- أما إني لم أفعله غشاً يا رسول الله ولا نفاقاً)) إذن هذا العمل بمجرده يُعَدُّ كفراً وارتداداً وغشاً ونفاقاً، وكأنه - رضي الله عنه- ذُهل عن هذا الأمر أثناء الوقوع في المعصية بعذر قدَّمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ((أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي)) فإمَّا أن يقال كان جاهلاً وما تبين له هذا إلا بعد أن استجوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقال كان - رضي الله عنه- متأولاً وهذا أصوب بدليل أنه قال كما صحت به رواية أحمد وأبو يعلى وابن حبان: ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا نِفَاقًا قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ)) فهو يعلم أن المولاة كُفر لكنه لا يَعِدُّ ما فعله موالاة -تأولاً- لثقته أن الله ناصرٌ رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما صحت به رواية البزار والحاكم والضياء من قوله: ((كان أهلي فيهم فخشيت أن يغيروا عليهم فقلت أكتب كتاباً لا يضر الله ولا رسوله)) فهو لثقته الكبيرة بربه ونصره لرسوله صلى الله عليه وسلم وأن كتابه سيفرحُ به كفار قريش ويحموا له أهله لكن لن يضر الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الحافظ في الفتح (8/ 634): ((وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا لِكَوْنِهِ أَبْطَنَ خِلاف مَا أَظْهَرَ , وَعُذْر حَاطِب مَا ذَكَرَهُ , فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَنْ لا ضَرَر فِيهِ))، ويؤكد ذلك لفظ الخِطاب -إن صح- فقد قال الحافظ في الفتح (4274): ((وَذَكَرَ بَعْض أَهْل الْمَغَازِي وَهُوَ فِي (تَفْسِير يَحْيَى بْن سَلام) أَنَّ لَفْظ الْكِتَاب: ((أَمَّا بَعْد يَا مَعْشَر قُرَيْش فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ , يَسِير كَالسَّيْلِ , فَوَاَللَّهِ لَوْ جَاءَكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّه وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْده. فَانْظُرُوا لأَنْفُسِكُمْ وَالسَّلام)) كَذَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ)) وفيه كما ترى تخذيل وتخويف لقريش، كلُّ ذلك جعل حاطباً - رضي الله عنه- يتأول أن ليس في هذا موالاة لكفار قريش وكيف يواليهم وهوالصحابي البدري؟! والواقع أن قصة حاطب وقصة قدامة ابن مظعون - رضي الله عنهما- الذي استباح شرب الخمر متأولاً أنه لاجناح على الذين آمنوا أن يطعموها من أقوى ما يمكن أن يستشهد به على أنَّ التأويلَ مانعٌ من موانع التكفير.

أمَّا عمر - رضي الله عنه- فقد كفَّر حاطباً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ حاطباً لم يفعل الكفر، بل بيَّن له أنَّ حاطباً كان صادقاً ولم يكفر، ومعلوم لديك أنَّ ثَمَّتَ فرقٌ بين الحكم على الفعل بالكفر وتكفير المعين الذي صدر منه الكفر، وهذا مبسوط في كتب العقائد والتوحيد، وقد وصف عمر حاطباً - رضي الله عنهما- بأوصاف ثلاثة يكفي الواحدُ منها للقول بأنه كفَّره، فوصفه بأنه: منافق، كفر، خان الله ورسوله؛ وعمر -رضي الله عنه- وإن كان قد أخطأ في تكفير حاطب -رضي الله عنه- إلا أنَّ خطأه مغفورٌ له لأنه ناتج عن غيرة لله ورسوله وهذا معروف عن عمر -رضي الله عنه- ولأنه حكم بالظاهر وهذا هو الواجب على المسلم، ولم يكلفنا الله بالبواطن. قال ابن حزم في ((الفصل)) (3/ 143): ((وقد قال عمر رضي الله عنه - بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم - عن حاطب: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً بل كان مخطئاً متأولاً)) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 282): ((إذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك)) ثم استشهد بتكفير عمر لحاطب - رضي الله عنهما-. أمَّا تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لحاطب فليس فيه دلالة على أنَّه لم يفعل الكفر بل فيه أنَّه لم يكفر ولم يرتد لأن عمر -رضي الله عنه- قال عنه أنه كفر ونافق وخان الله ورسوله وحاطب يقول لم أكفر ولم أرتد وما غيرت وما بدلت -أي ديني- فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم في أنه لم يكفر ولم يرتد، أمَّا قتله وعقوبته فقد شفع له فيها شهوده بدراً. إذا علمت ذلك، فاعلم أنَّ هناك من العلماء من عَدَّ ما بدر من حاطب -رضي الله عنه- من الموالاة الخاصة غير المكفِّرة، ومن هؤلاء: شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى (7/ 523): ((وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة})) والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ كما في ((عيون الرسائل والأجوبة على المسائل)) (1/ 179). لكن ليُعلم أنَّ هذا النوع من الموالاة شيء ومظاهرة المشركين على المسلمين ونصرتهم وتأيدهم والقتال معهم شيء آخر، فكما سبق في أول الحديث أنَّ هذا (الثاني) كفر وردة والعياذ بالله ويكون بالقول والفعل كما يكون بالاعتقاد، قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام: ((الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} المائدة:51)) وقال الشيخ حمد بن عتيق في ((الدفاع عن أهل السنة والاتِّباع)) (ص32): ((وقد تقدم أنَّ مظاهرة المشركين ودلالتهم على عورات المسلمين أو الذب عنهم بلسان ٍ أو رضى بما هم عليه، كل هذه مُكفِّرات ممن صدرت منه من غير الإكراه المذكور فهو مرتد، وإن كان مع ذلك يُبْغض الكفار ويحب المسلمين)، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 274): ((وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم)) والخلاصة:

أنْ نقول إنَّ حاطباً - رضي الله عنه- حصل منه نوع موالاةٍ للكفار، فمن قال أنَّ الموالاة كلها كفر قال إنه وقع في الكفر ولم يكفُر لأنه كان متأولاً، ومن قال أنَّ هناك موالاة مُكفِّرة وموالاة غير مُكفِّرة عدَّ ما بدر منه - رضي الله عنه- من النوع غير المُكفِّر، وليعلم أنه لم يقل أحدٌ من أهل السنة أنَّ حاطباً - رضي الله عنه- كَفَر، أو أنَّ ما صدر منه ليس موالاةً أو ذنباً، أو أنَّ مظاهرة الكافرين على المسلمين ليست كفراً، فكلُّ ذلك متفقون عليه فلا ينبغي أنَّ يحدث نوع خلافٍ وشرٍ فيما كان من مسائل الاجتهاد طالما أنَّ الجميع متفقون على مسائل الاعتقاد، ولذلك لَمَّا سئل الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ عن مسألة سبَبت خلافاً بين أهل السنة في زمانه عن الموالاة والمعاداة هل هي من معنى لا إله إلا الله، أو من لوازمها؟ أجاب: ((الجواب أنَّ يقال: الله أعلم، لكن بحسب المسلم أنْ يعلم أنَّ الله افترض عليه عداوة المشركين، وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، 000وأمَّا كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، وإنما كلفنا بمعرفة أنَّ الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه، فمن عرف أنَّ ذلك من معناها، أو من لازمها، فهو خير، ومن لم يعرفه، فلم يُكلف بمعرفته، لاسيما إذا كان الجدل والمنازعة فيه مما يفضي إلى شرٍ واختلافٍ، ووقوع فرقة بين المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله وعادوا المشركين ووالوا المسلمين، فالسكوت عن ذلك متعين)) انتهى كلامه. انظر: ((مجموعة التوحيد)) (ص69) والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الداعية القدوة والسفر للسياحة

الداعية القدوة والسفر للسياحة علوي بن عبد القادر السَّقَّاف الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فقد ظهرت على بعض الدعاة في السنوات القليلة الماضية عددٌ من الظواهر السلبية، كان من أبرزها وربما أخطرها تراجع عدد منهم في أخذ الدين بقوة، ومجاهدة النفس على السير على خطى أسلافهم من أهل العلم والدعوة في القيام بأمر الشريعة، وتعظيم شعائر الله، الأمر الذي لا ينكره إلا مكابر، ولعل من أهم أسباب ذلك التراجع: تكالب أعداء الإسلام من خارج بلاد المسلمين ومن داخلها على شأن هذا الدين، وكثرة النقد اللاذع للمنهج الإسلامي الصحيح، ثم ما صاحب ذلك من نقدٍ آخر ذاتي، كان أكثر ميلاً إلى الهدم منه إلى البناء، لاسيما من بعض الدعاة الذين عتورهم شيء من الهزيمة النفسية، ناهيك عن شيوع فتاوى برامج الفضائيات والمعتمدة على ما يسمى بالتيسير بصرف النظر عن الدليل، الأمر الذي أنتج تراجعاً عند بعض الدعاة عن ذلك النهج الذي كانوا عليه إلى آخرَ هجين بين التميع والتميز؛ كل ذلك وغيره أدى إلى هذا الضعف العام الذي تشهده ساحة الدعوة، وخاصة فيما يتعلق بتميز أولئك الدعاة في عبادتهم وخلقهم ومظهرهم وربما طريقة تعاملهم مع قضايا الشريعة وأمور الدعوة، مما أدى إلى إفراز كثيرٍ من الظواهر المتعددة والمؤلمة والتي لم تكن تُعهد من قبل، وما ظاهرة السفر إلى خارج البلاد المحافظة التي يعيشون فيها، إلى أخرى مغايرة تماماً لتلك الطبيعة المحافظة، لا لشيء غير مجرد ما يعرف بالسياحة، أو الترويح عن النفس؛ إلا من هذه الظواهر. وهنا نقول، بأن مِن الدعاة إلى الله مَن لا يكترث لهذا التميز أصلاً، فليس هو مقصودنا بهذا الحديث، وإنما مقصودنا أولئك الإخوة الذين اعتادوا أخذ هذا الدين بقوة {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:145]، وأقاموا الشريعة بمأخذ الجد، فحملوا همَّ هذه الدعوة شهوراً متتابعة، طيلة العام باذلين أوقاتهم وجهدهم، منشغلين بدعوتهم عن ترفيه أنفسهم وأهل بيتهم وأبنائهم؛ فلا شك أن مثل هؤلاء قد يجدوا في أنفسهم، وفي من يعولون من أهلٍ وذرية، حاجة إلى شيء من الترفيه عن النفس بسفرٍ أو نزهةٍ أو ما شابه ذلك، وما من شك كذلك أن هذا أمر مباح لا بأس به، وقد يكون مطلوباً أحياناً، والأصل في السفر الإباحة، وقد يكون أحياناً مندوباً أو واجباً، ومرادنا في هذه المقالة ذلك السفر والانتقال إلى بلاد يكثر فيها الفساد والمنكر، من تبرجٍ وسفورٍ وتناول للخمور، وغيرها مما لا يخفى على أحد، كل ذلك وهذا الداعية والقدوة المسافر إلى تلك البلاد، يشهد ذلك كله أو بعضه، لكنه عاجز عن إنكار شيء منه، بل قد يلجأ إلى المكوث في موقع حدوث المنكر - كالمطارات، وأماكن التسوق، وبعض المطاعم، والطرقات - ساعات طوال، مشاهداً، أو مستمعاً، وترى كثيراً من هؤلاء الإخوة يتذرع بشبه واهية، لعل من أبرزها أنهم في رحلة إلى بلاد إسلامية، مع أن واقع كثيرٍ من هذه البلاد - للأسف - لا يختلف كثيراً عن أكثر بلاد الكفار من حيث مظاهر التبرج والسفور، والعري، وتناول الخمور، وفشو المنكرات.

ثم إن المرء ليعجب من قيام البعض منهم بحَثِّ الآخرين على الذهاب إلى تلك البلاد متذرعين بحجة المساهمة في تحسين الوضع الاقتصادي للمسلمين هناك!، ولم يفرق أولئك الإخوة بين ما يمكن أن يقال للمفرِّطين من المسلمين الذين يريدون الذهاب إلى بلاد الكفر، وبين ما لا ينبغي على الدعاة فعله لا سيما من هم في موطن القدوة، وكم هو نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن حضور الأماكن التي تكثر فيها المنكرات، مع العجز عن إنكارها، -وهذا يشمل السفر والحضر-، يقول رحمه الله في مجموع الفتاوى (28/ 239): ((ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار، إلا لموجب شرعي، مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره، أو يكون مكرهاً، فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضار امرأته تشاهد ذلك؛ فهذا مما يقدح في عدالته ومُروءته إذا أصرَّ عليه، والله أعلم)) انتهى. وهذا مبنيٌ على ما هو مستقر ومعلوم من الشريعة بأن الأصل وجوب الإنكار باليد، أو اللسان، - والغالب أن ذلك متعذرٌ في أكثر تلك البلاد- فإن لم يمكن، فإنكار القلب هو أضعف الإيمان، والإنكار بالقلب كما قال العلماء يكون ببغض المنكر وهجرانه والبعد عنه لا بالذهاب إليه اختياراً دون مصلحة دينية أو دنيوية راجحة، كما هو ظاهر من كلام شيخ الإسلام وغيره، فمن تلك المصالح الدينية طلب العلم والدعوة إلى الله، ومن الدنيوية العلاج المتعذر في بلاد تخلو من تلك المنكرات، والتجارة التي لا بد منها، ونحو ذلك، أمَّا مجرد الذهاب لغرض الفرجة، أو النزهة، أو السياحة، فليست من ذلك في شيء، فكيف بمن يذهب بزوجته وأبنائه وبناته الذين بلغ بعضهم سن المراهقة؟! ولو أن الداعية القدوة تأمل تلك المحاذير الشرعية والمفاسد الأخلاقية المترتبة على هذا النوع من السفر لأعاد النظر فيه، أو تردد قبل الإقدام عليه، لا سيما مع وجود نوع آخر من المنكرات، كاضطرار الداعية المسافر لوضع صور زوجته، وبناته، في جواز السفر ومن ثم رؤية الرجال لهن عند نقاط التفتيش، ومعابر الحدود وغيرها، ومن ذلك أيضاً اعتياد أبناء الدعاة وبناتهم واستمراؤهم مشاهدة تلك المنكرات، وهم مع ذلك يرون أباهم الداعية القدوة لا يحرك ساكناً، بل ربما اضطر أحياناً إلى محادثة نساء متبرجات والتعامل معهن!، ومن جهة أخرى فإن تكرار مثل هذا السفر، يولد لدى أسرة الداعية رغبة في مزيد منه حباً في التعرف على بلد جديد أو ثقافة مختلفة، ولذلك قلما ترى مسافراً لهذه الأماكن عاماً إلا وتراه يسافر العام أو الأعوام التي بعده، ومما يؤسف له أن ترى كثيراً من أبناء أولئك الدعاة وبناتهم وأسرهم يتفاخرون بأسفارهم تلك، وربما حثوا غيرهم على القيام بها، ولنا أن نتخيل حال ذلك الجيل الذي يمثِّلُ فيه أبناءُ الدعاة وبناتهم محط النظر، ومقصد الاقتداء. وهنا نخاطب إخواننا الدعاة قائلين: إذا كان لا يسوغ لنا التوسع في فعل المباح في بعض الأوقات، فكيف يسوغ لنا الإقدام على فعلٍ، أقل ما يقال فيه، أنه من المشتبهات المفضية إلى الحرام؟! قال الأوزاعي رحمه الله: (كنا نمزح ونضحك فلما صرنا يقتدى بنا , خشيت ألا يسعنا التبسم) (سير أعلام النبلاء: 7/ 132) وقال ابن القيم في (مدارج السالكين: 2/ 26): (قال لي يوماً شيخ الإسلام -قدس الله روحه- في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة).

فنصيحتي لهؤلاء الدعاة -وكذا الداعيات- أن يعيدوا النظر في أسفارهم تلك، وليتذكروا أن ثمَّت من يقتدي بهم، وربما قلدهم في أفعالهم وتصرفاتهم، وأنهم بتصرفهم هذا يسيئون لأنفسهم، ولأبنائهم وبناتهم، ولدعوتهم ولطلابهم ومن يقتدي بهم، وليبحثوا عن بدائل تتناسب مع مقامهم الذي وضعهم الله فيه، وهي كثيرة ومتوفرة ولله الحمد. وأخيراً قد يقول بعض هؤلاء إنَّ حجم التغيرات التي تشهدها الساحة تتجاوز الحديث في مثل هذه الموضوعات، فبلاد المسلمين تُحتَل وتُدَمَّر، وأنت تتحدث عن ظواهر سلبية عند بعض الدعاة وعن سفرهم للسياحة، فأقول: إن كان الأمرُ كذلك -وهو كذلك - فكيف يسوغ لكم السفر للسياحة والنزهة وصرف الأموال فيها؟!، أما كان الأولى صرفها لرفع الحصار، وإخماد الحرائق، وبناء ما دُمِّر؟، ثم ثانياً: ألأن غزة محاصرة، والعراق يحترق، وأفغانستان تدمَّر، نترك دعاتنا وأبناءنا تحاصرهم الشهوات، وتحرقهم الشبهات، وتدمرهم التنازلات، أم نسعى لإنقاذ هؤلاء وهؤلاء؟! وقد يقول آخرون: إن الزمان قد تغير والمنكرات موجودة في كل مكان، فأقول: هذا صحيح، وعين المرء لا تخطيء ذلك، لكن، هل السفر للسياحة ومخالطة المنكرات وضياع الأموال والأعمار تُصلح فساد المجتمعات؟ ألسنا الآن أحوج من ذي قبل إلى تميزنا وتمسكنا بديننا؟! اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

جريمة بناء الكنائس في الجزيرة العربية

جريمة بناء الكنائس في الجزيرة العربية علوي بن عبد القادر السَّقَّاف المشرف العام على موقع الدرر السنية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فهذه وريقات عن حرمة بناء الكنائس في جزيرة العرب دفعني لكتابتها ما يتردد بين الفينة والأخرى في المحافل والمؤتمرات (¬1) وما يسمى بمنظمات الحقوق العالمية وتقارير وزارة الخارجية الأمريكية (¬2) وغيرها من الدعوة لبناء الكنائس في الجزيرة العربية، يغيظهم كونها حرم الإسلام ومعقله وقاعدته الأولى، ويردد ذلك معهم في بعض وسائل الإعلام من أعاروا عقولهم لغيرهم وأثاروا الشبهات والشكوك حول هذه المسألة القطعية من دين الإسلام، نقلتُ فيه طرفاً من النصوص الدالة على تحريم ذلك، وأقوال العلماء في المسألة مع الرد على شبهات المعاصرين. و (جزيرة العرب أو شبه الجزيرة العربية يحدها غربا: بحر القُلْزُم، وهو المعروف الآن باسم: البحر الأحمر، وجنوباً: بحر العرب، ويقال له: بحر اليمن، وشرقاً: الخليج العربي، والتحديد من هذه الجهات الثلاث بالأبحر المذكورة محل اتفاق بين المحدثين، والفقهاء، والمؤرخين، والجغرافيين، وغيرهم. وممن أفصح عن هذا التحديد بالنص: ابن حَوْقَل، والاصطخري، والهمداني، والبكري، وياقوت، وهو منصوص الرواية عن الإمام مالكٍ، وتفيده الرواية عن الإمام أحمد؛ رحم الله الجميع، ويحدها شمالا ساحلُ البحرِ الأحمر الشرقيُّ الشماليُّ وما على مسامتته شرقاً؛ من مشارف الشام والأردن والعراق، وعليه؛ فالأردُنُّ، وسوريَّا، والعراقُ؛ ليست في محدود جزيرة العرب وهو ما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقال (¬3): (جزيرة العرب: هي من بحر القُلزم إلى بحر البصرة، ومن أقصى حِجْرِ اليمامة إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم، ولا تدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله (¬4). وهذا يعني أن دول مجلس التعاون كلها واليمن داخلة تحت مسمى الجزيرة العربية على الراجح من أقوال العلماء. وهناك أقوال أخرى فنَّدها الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في كتابه الماتع (خصائص الجزيرة العربية) فليراجعها من شاء. أما الأدلة: فقد وردت أحاديث صحيحة تحرِّم الإذنَ بوجود دين آخر مع الإسلام في جزيرة العرب وهي تقتضي تحريم بناء معابد لغير المسلمين من كنائس وغيرها من باب أولى، ومن ذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (لا تكون قبلتان في بلد واحد) وفي لفظ: (لا تصلح قبلتان في أرض واحدة) رواه أبو داود، وحديث عائشة رضي الله عنها: (لا يترك بجزيرة العرب دينان) رواه أحمد، وحديث أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه: (لا يبقين دينان بأرض العرب) رواه البيهقي. ¬

(¬1) هذه المؤتمرات تأخذ في كل وقت طابعاً أو لوناً مختلفاً، فتارة يسمونها مؤتمرات التقارب أو التقريب بين الأديان، وتارة الحوار بين الأديان، وهكذا (¬2) كان آخرها التقرير الصادر في شهر سبتمبر 2007م (¬3) (اقتضاء الصراط المستقيم) (ص 166). (¬4) خصائص الجزيرة العربية للشيخ بكر أبو زيد (بتصرف يسير)

وعلى هذا جرى عمل الأمة قروناً طويلة ابتداءً من عصر خير القرون، وحتى وقت متأخر من التاريخ الإسلامي، فأجلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهود خيبر ونجران وفدك، ووضع الشروط المشهورة بالعمرية (¬1) وفيها: (أنَّا شرطنا على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسةً ولا فيما حولها ديراً ولا قلايةً ولا صومعةً (¬2))، وفي كتاب (الأموال) (¬3) لأبي عبيد القاسم بن سلام، و (مصنف ابن أبي شيبة) (¬4) بإسناد ضعيف عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئاً؟ فقال: (أيُّما مِصر مَصَّرتْهُ العربُ فليسَ للعَجمِ أن يبنوا فيهِ بناءً ولا بيعة ولا يضربُوا فيه ناقوساً ... ). قال القاضي تقي الدين السبكي: (وقد أخذ العلماء بقول ابن عباس هذا وجعلوه مع قول عمر، وسكوت بقية الصحابة إجماعاً) (¬5) وفَهِمَ هذه الدلالة من أهل القرون المفضلة من غير الصحابة علماءُ التابعين وحكامُهم، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن عمه وهب بن نافع قال: (كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة بن محمد أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، قال: فشهدت عروة بن محمد ركب حتى وقف عليها ثم دعاني فشهدتُ كتابَ عمر وهدْمَ عروة إياها، فهدمها) (¬6)، وروى عن معمر عن إسماعيل بن أمية أخبره: (أنه مرَّ مع هشام بحدة وقد أُحدثت فيها كنيسة فاستشار في هدمها فهدمها هشام) (¬7). وروى عن الحسن البصري قال: (من السنة أن تُهدم الكنائس التي بالأمصار القديمة والحديثة) (¬8). والآثار في هذا كثيرة جداً، (لهذا أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفرية مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها، وأجمعوا على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أُحدثت في الإسلام) (¬9) بل وأجمعوا (على أن بناء المعابد الكفرية ومنها الكنائس في جزيرة العرب أشد إثماً وأعظم جرماً) (¬10) وأقوالهم في هذا كثيرة جداً، منها: 1 - قال الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: (ليس ينبغي أن تترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار) (¬11) 2 - وفي المدونة الكبرى (قلت: أرأيت هل كان مالك يقول: ليس للنصارى أن يحدثوا الكنائس في بلاد الإسلام؟ قال: نعم كان مالك يكره ذلك) (¬12) 3 - وقال الإمام الشافعي: (ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعاً لصلواتهم ... ) (¬13) ¬

(¬1) قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) (1/ 199) (اتفقت عليها الصحابة) وفي (مجموع الفتاوى) (28/ 651) (عليها العمل عند أئمة المسلمين)، وقال عنها الإمام ابن القيم في (أحكام أهل الذمة) (1/ 218): (وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها) (¬2) القلاية والصومعة من بيوت عبادة النصارى. انظر: (لسان العرب) (باب: قلا) (¬3) (ص269) (¬4) (7/ 634) (¬5) فتاوى السبكي (2/ 391) (¬6) (مصنف عبد الرزاق) (6/ 59) (¬7) (مصنف عبد الرزاق) (6/ 60) (¬8) (مصنف عبد الرزاق) (6/ 60) (¬9) فتاوى اللجنة الدائمة رقم (21413) وتاريخ 1/ 4 /1421 هـ (¬10) المرجع السابق (¬11) (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي الحنفي) (9/ 452) (¬12) (المدونة الكبرى) (3/ 435)، والكراهة عند مالك كثيراً ما تكون على التحريم، انظر: (أعلام الموقعين) (1/ 50) , و (المدخل لابن بدران) (1/ 128) (¬13) (الأم) (4/ 206)

4 - وقال الإمام أحمد: (ليس لليهود ولا للنصارى أن يحدثوا في مِصر مَصَّرَهُ المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس) (¬1) 5 - وقال أبو الحسن الأشعري: (إرادة الكفر كفر وبناء كنيسة يكفر فيها بالله كفر، لأنه إرادة الكفر) (¬2) 6 - وقال ابن قدامة: (ويُمنعون من إحداث البيع والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم) (¬3) 7 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرسالة القبرصية): (اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة (¬4) أن يحدثوا فيها كنيسة ... والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها) (¬5) وقال: (من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يُعبد فيها، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبَادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر) (¬6) 8 - وقال القاضي تقي الدين السبكي: (فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمها) (¬7) 9 - وقال الحافظ ابن القيم: (ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه ... وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى، وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى) (¬8) 10 - وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (لا يجوز أن يبنى في الجزيرة معابد للكفرة لا النصارى ولا غيرهم، وما بني فيها يجب أن يهدم مع القدرة. وعلى ولي الأمر أن يهدمها ويزيلها ولا يبقي في الجزيرة مبادئ أو معاقل للشرك لا كنائس ولا معابد، بل يجب أن تزال من الجزيرة، حتى لا يبقى فيها إلا المساجد والمسلمون) (¬9) وقال: (أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم بناء الكنائس في البلاد الإسلامية وعلى وجوب هدمها إذا أحدثت وعلى أن بناءها في الجزيرة العربية كنجد والحجاز وبلدان الخليج واليمن أشد إثما وأعظم جرماً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب ونهى أن يجتمع فيها دينان وتبعه أصحابه في ذلك ولما استُخْلِفَ عمر رضي الله عنه أجلى اليهود من خيبر عملا بهذه السنة ولأن الجزيرة العربية هي مهد الإسلام ومنطلق الدعاة إليه ومحل قبلة المسلمين فلا يجوز أن ينشأ فيها بيت لعبادة غير الله سبحانه كما لا يجوز أن يقر فيها من يعبد غيره) (¬10) ¬

(¬1) (أحكام أهل الذمة) (3/ 1182) (¬2) (أنوار البروق) للقرافي (1/ 225)، وانظر التعليق على قوله: لأنه إرادة الكفر، في كتاب: (التوسط والاقتصاد) (ص28) (¬3) (الكافي) (4/ 361) (¬4) والعمالة النصرانية من المعاهدين والمستأمنين من باب أولى. (¬5) (مجوع الفتاوى) (28/ 635) (¬6) انظر: (كشاف القناع) (5/ 3073) باب حكم المرتد (¬7) فتاوى السبكي (2/ 391) (¬8) (أحكام أهل الذمة) (3/ 1193) (¬9) (فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز) (3/ 282) (¬10) انظر: تقديم الشيخ لكتاب (حكم بناء الكنائس والمعابد الشركية في بلاد المسلمين) للشيخ إسماعيل الأنصاري

11 - وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية قولهم: (كل مكان يعدُّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال، إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها، وهذا مُجمع عليه بحمد الله تعالى .... ولهذا صار من ضروريات الدين: تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ ... فجزيرة العرب: حرمُ الإسلام وقاعدته التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها، ولا التجنس بجنسيتها، ولا التملك فيها، فضلاً عن إقامة كنيسة فيها لعبَّاد الصليب، فلا يجتمع فيها دينان، إلا ديناً واحداً هو دين الإسلام الذي بَعَثَ الله به نبيه ورسوله محمداً، ولا يكون فيها قبلتان إلا قبلة واحدة هي قبلة المسلمين إلى البيت العتيق، ... وبهذا يُعلم أن السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره ... عائذين بالله من الحور بعد الكَوْر، ومن الضلالة بعد الهداية، وليحذر المسلم أن يكون له نصيب من قول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} محمد: 25 - 28" وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.) (¬1) 12 - وجاء في فتوى وزارة الأوقاف الكويتية: (إنَّ إنشاء أي دار للعبادة لغير المسلمين في دار الإسلام لا يجوز، وكذلك لا يجوز تأجير الدور لتكون كنائس، ولا تحويل الدور السكنية لتكون كنائس أو معابد لغير المسلمين، وذلك لإجماع علماء المسلمين على أنه لا تبقى في دار الإسلام مكان عبادة لغير المسلمين) (¬2) 13 - وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله- (ومما يؤسف له أن بعض المسلمين استجابوا للكفار في بناء الكنائس، فها هي بعض البلاد الإسلامية في أطراف الجزيرة العربية؛ جزيرة الإسلام، ها هم أذِنوا للنصارى في بناء معابدهم، وقد جاء في الحديث لا تكون في أرض قبلتان، فلا تجتمع قبلة اليهود والنصارى مع قبلة المسلمين) (¬3) ¬

(¬1) فتوى رقم (21413) وتاريخ 1/ 4/1421هـ (بتصرف يسير) (¬2) (فتاوى قطاع الإفتاء الكويتي) (6/ 15) (¬3) موقع الشيخ -حفظه الله- على شبكة الإنترنت.

وهكذا، فأنت ترى أن علماء المسلمين وفقهاءهم قديماً وحديثاً أجمعوا على حرمة بناء الكنائس في البلدان الإسلامية وأنها في جزيرة العرب أشد إثماً لما تمتاز به هذه الجزيرة من خصائص فهي (وقف في الإسلام على أهل الإسلام، وهي وديعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته، التي استحفظهم عليها في آخر ما عهده النبي صلى الله عليه وسلم، فهي دارٌ طيبة، لا يقطنها إلا طيب، ولما كان المشرك خبيثاً بشركه؛ حُرِّمت عليه جزيرة العرب ... وإنه إذا ما عَدَّت يوماً نفسَها مثل أي قطرٍ من الأقطار، ترضى بمداخلة ما هو أجنبي عن الإسلام؛ فإنها تعمل على إسقاط نفسها من سجل التاريخ، وتقضي على ميزتها البارزة في خريطة العالم، فيخفت احترام العالم الإسلامي لها، وتفقد رهبة شراذم الكفر منها، وتفتح مجالاً فسيحاً للقوى الشريرة العاتية. وإنه إذا تقدمت الفتن، والبدع، والأهواء، والنِّحل، وضروب الغزو الفكري؛ تضرب فارهة على صخرة هذه الجزيرة؛ فقد تجللت حينئذ من كل ويلٍ تياراً، وأذنت بمشاكل ذات أحجام مختلفة في التمرد، وإذا تشربت النفوس بهذه الأنماط المتناثرة على جنبتي الصراط المستقيم؛ تشكلت الحياة إلى مزيجٍ من الأهواء والضلال البعيد، وهذا إيذانٌ بدك آخرِ حِصْنٍ للإسلام، وتقليصٍ لظلِّه عن معاقله في هذه الجزيرة المسكينة. فالله طَليبُ الفَعَلةِ لذلك، وهو حسيبهم ... وإن المتعيِّن على أهل هذه الجزيرةِ، وعلى من بسط اللهُ يده عليهم وعليها: المحافظةُ على هذه المَيِّزات والخصائصِ الشرعية؛ ليَظهر تميُّزُها، وتبقى الجزيرةُ وأهلُها مصدرَ الإشعاعِ لنور الإسلام على العالم. وليُعلَم أنه كلما قَوِيَ هذا النورُ؛ امتدَّ هذا الإشعاعُ، وكلما ضَعُفَ وتضاءَلَ في هذه الجزيرةِ وأهلِها؛ تقاصرَ. ولا حول ولا قوة إلا بالله) (¬1) ومما يثيره اليوم الجهلة تارة، والمغرضون تارة أخرى، في وسائل الإعلام وغيرها، قولهم: كيف لا نسمح لهم ببناء الكنائس في بلادنا وقد سمحوا لنا ببناء المساجد في بلادهم؟!، ولو منعناهم من ذلك فسيمنعون المسلمين من بناء المساجد والصلاة فيها، وأنه ينبغي أن نعطي رعاياهم حريتهم الدينية كما أعطوا رعايا المسلمين حريتهم الدينية، وأن من العلماء المعاصرين من أفتى بجواز ذلك اعتماداً على رأي أبي حنيفة في الجواز، ... إلخ وردُّ هذه الشُّبَه من وجوه: الأول: أنَّ المساجدَ دورٌ يُعبد فيها الله عز وجل وحده، أما الكنائس فهي معابدُ كفرية، يُكفر فيها بالله عز وجل ويعبد معه غيره -المسيح وأمه-، فهل يستويان؟! {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] الثاني: أن دعوى منحهم المسلمين الحرية في ممارسة تعاليمهم الدينية عارية عن الصحة، فهاهم يمنعون المسلمين من أقل حقوقهم الشخصية: كتعدد الزوجات، ولبس الحجاب، وإنشاء بنوك إسلامية، وتطبيق أحكام الإسلام عليهم، وغير ذلك، بحجة أنَّ أنظمة البلد العلمانية تحظر ذلك، أفلا يحق للمسلمين أن يمنعوهم من بناء الكنائس لأن تعاليم دينهم الإسلامي تمنع ذلك؟! الثالث: أن مواطني الدول الغربية قد اعتنق كثيرٌ منهم الإسلام، فالمساجد تعتبر عندهم من حقوق المواطنة وليس للوافدين من المسلمين، أما دول الجزيرة العربية فالأصل أنهم كلهم مسلمون ومن تنصَّرَ منهم فهو مرتَّدٌ عن دين الله وحكمه في الشرع معروف، فلمن تبنى الكنائس؟ أللعمالة الوافدة غير المستقرة؟! مالكم كيف تحكمون؟! ¬

(¬1) خصائص الجزيرة العربية للشيخ بكر أبو زيد (بتصرف يسير)

الرابع: أنَّ الإذنَ لهم ببناء كنائس في ديار الإسلام بحجة سماحهم للمسلمين ببناء المساجد في بلادهم يقودنا إلى قضية أخرى وهي الإذن لهم بالدعوة للنصرانية بين المسلمين بحجة أنهم يسمحون للمسلمين بأن يدعوا إلى الإسلام في بلادهم، فهل يقول بذلك مسلم؟! (بل من يجوِّز ذلك بحجة ما يسمى بحرية الاعتقاد فهو كافر مرتد وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) (¬1). كما أنه يقودنا إلى قضية ثالثة: وهي الإذن لأصحاب الديانات الأخرى كالبوذية والهندوسية وغيرها ببناء معابد لهم، بل قد يكون أتباع هذه الملل في بعض دول الخليج -من العمالة الوافدة- أكثر من النصارى، فتصبح الجزيرة العربية مسرحاً لديانات الكفر والشرك، وهي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يكون فيها دينان! الخامس: أنه لو ترتَّب على منعِ بناء الكنائس في بلاد المسلمين منعُ بناء المساجد في بلاد الكفار، فإنَّ درء مفسدة تلويث بلاد المسلمين وجزيرة العرب -خاصة- بدين النصارى المنسوخ، أولى من المحافظة على مصلحة مكاسب بعض المسلمين في بلاد الكفر، وعلى المسلمين القادرين على الهجرة أن يهاجروا، وعلى العاجزين أن يُصَلُّوا في بيوتهم، كما أفتى بذلك الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله. السادس: أنَّ مما يدل على اعتبار الخصوصية ومراعاتها وأنها قاعدة معتمدة عند العقلاء من كل ملة، أنَّ دولة الفاتيكان تمنع من بناء معابد غير الكنيسة فيه، وذلك لما يرونه من كون الفاتيكان معقلاً للنصرانية وملاذاً لأهلها، فالجزيرة العربية وفيها البلد الحرام والكعبة المشرفة أولى بذلك، كيف لا؟! وهي ملاذ المسلمين، ومنتهى مقاصدهم، وعلى هذا الأصل الذي يقِرُّ به عقلاءُ كل ملة، جاءتِ النصوصُ النبوية في بيان كون هذه الجزيرة جزيرة الإسلام لا يجتمع فيها دينان، ولكن لو سمح الفاتيكان ببناء المساجد فيه، هل يكون هذا مسوِّغاً لنا في الإذن ببناء الكنائس في جزيرة العرب؟ الجواب: لا، فلسنا تبعاً للفاتيكان، إنْ مَنَعَ مَنَعْنَا وإن بنى بنينا!، فالإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وقد تقدَّم أنَّ التسوية بين دور التوحيد ومعابد الكفر، سفهٌ وضلال نعيذ منه كل مسلم. ¬

(¬1) فتوى الشيخ عبد الرحمن البراك منشورة في موقعه على شبكة الإنترنت

السابع: أن حرمة بناء الكنائس في بلاد المسلمين مما انعقد عليها الإجماع، نقل ذلك كثير من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) وتقي الدين السبكي (¬2) والشيخ ابن باز (¬3) وغيرهم كثير، فلا وجه لما ذكره بعض المعاصرين عن تجويز الإمام أبي حنيفة ذلك مع أن القاضي تقي الدين السبكي قد أوضح المراد بكلام أبي حنيفة فقال: (ولعل أبا حنيفة إنما قال بإحداثها في القرى التي يتفردون بالسكنى فيها على عادتهم في ذلك المكان، وغيره من العلماء بمنعها لأنها في بلاد المسلمين وقبضتهم وإن انفردوا فيها فهم تحت يدهم فلا يُمكنون من إحداث الكنائس لأنها دار الإسلام ولا يريد أبو حنيفة أنَّ قريةً فيها مسلمون فيمكن أهل الذمة من بناء كنيسة فيها. فإن هذه في معنى الأمصار فتكون محل إجماع) (¬4) ¬

(¬1) نقله عنه المرداوي في (الإنصاف) (باب أحكام أهل الذمة) وابن مفلح في (الفروع) وقال في (مجموع الفتاوى) (28/ 651) عن الشروط العمرية والتي فيها منع النصارى من بناء الكنائس (فصلٌ: فى شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وعليها العمل عند أئمة المسلمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وقوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) لأن هذا صار إجماعاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) (¬2) تقدم النقل عنه (¬3) تقدم النقل عنه (¬4) (فتاوى السبكي) (2/ 388) - ومما يؤيد أن مراد أبي حنيفة خلاف ما زعمه هذا المعاصر أنه قول غير معتمد في المذهب، وجماهير علماء الأحناف بما فيهم صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن على عدم اعتبار هذا الفهم لكلام الإمام، ويرون حرمة بناء الكنائس في الأمصار -أي المدن- التي يقطنها مسلمون. وعلى هذا تضافرت كتبهم، ففي (الهداية شرح البداية للمرغيناني) (2/ 162): (ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام ... وقيل: في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضاً لأن فيها بعض الشعائر، والمروي عن صاحب المذهب [يعني أبا حنيفة] في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة، وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها لقوله عليه الصلاة والسلام لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) وفي (المبسوط للسرخسي) (15/ 134) و (بدائع الصنائع للكاساني) (4/ 176) قولهم: (فإنهم يمنعون من إحداث الكنائس في أمصار المسلمين)، ونقل الزيلعي الحنفي الإجماع في (تبيين الحقائق) (باب: العشر والخراج والجزية) فقال: (قال في الفتاوى الصغرى: إذا أرادوا إحداث البيع والكنائس في الأمصار يمنعون بالإجماع)، وفي (حاشية ابن عابدين) (4/ 202) [لا يجوز إحداث كنيسة في القرى، ومن أفتى بالجواز فهو مخطئ، ويحجر عليه ... وفي الوهبانية: إنه الصحيح من المذهب الذي عليه المحققون، إلى أن قال: فقد علم أنه لا يحل الإفتاء بالإحداث في القرى لأحد من أهل زماننا بعدما ذكرنا من التصحيح، والاختيار للفتوى وأخذ عامة المشايخ، ولا يلتفت إلى فتوى من أفتى بما يخالف هذا، ولا يحل العمل به ولا الأخذ بفتواه، ويحجر عليه في الفتوى، ويمنع، لأن ذلك منه مجرد إتباع هوى النفس، وهو حرام، لأنه ليس له قوة الترجيح، لو كان الكلام مطلقا، فكيف مع وجود النقل بالترجيح والفتوى؟!، فتنبه لذلك، والله الموفق. مطلب: تهدم الكنائس من جزيرة العرب ولا يمكنون من سكناها قال في (النهر): (والخلاف في غير جزيرة العرب، أما هي فيمنعون من قراها أيضا لخبر لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) اهـ. قلت: الكلام في الإحداث مع أن أرض العرب لا تقر فيها كنيسة ولو قديمة فضلا عن إحداثها] انتهى كلام ابن عابدين.

الثامن: أن المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة في جلسته المنعقدة بالقاهرة في 10/ 10/2000م أصدر بياناً قال فيه (التأكيد الحاسم بأن الجزيرة العربية وقلبها المملكة العربية السعودية هي الحصانة الجغرافية لعقيدة الإسلام، لا يجوز شرعاً أن يقوم فيها دينان، ولا يجوز بحال أن يشهر على أرضها غير دين الإسلام، كما تستنكر هيئة رئاسة المجلس العودة إلى المطالبة ببناء كنائس على أرض السعودية بعد أن حُسِمَ هذا الأمر سابقاً في حوار مطوَّلٍ مع الفاتيكان عبر اللجنة الإسلامية العالمية للحوار، واتفق على إغلاق هذا الملف وعدم إثارته ثانياً). وأخيراً، و (بناءً على جميع ما تقدم فإنه ليس لكافر إحداث كنيسة في [جزيرة العرب]، ولا بيعة، ولا صومعة، ولا بيت نار، ولا نَصْبِ صنمٍ؛ تطهيرا لها عن الدين الباطل، ولعموم الأحاديث، وعليه؛ فليس للإمام الإذن بشيء منها، ولا الإبقاء عليه؛ محدثاً كان أو قديماً) (¬1) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ¬

(¬1) خصائص الجزيرة العربية للشيخ بكر أبو زيد (بتصرف يسير)

من مقالات المشرف

من مقالات المشرف

لا لاعتذار البابا

لا لاعتذار البابا لم تكن مصادفة أن يعلن رئيس دولة الصليب أن الحرب في العراق حرب صليبية، ثم يُهان المصحف في سجونه في العراق وجوانتنامو، ثم يُساء إلى الإسلام ونبي الإسلام في رسوم كاريكاتيرية في أكثر من صحيفة غربية، ثم يُتهم الإسلام بالفاشية، وأخيراً يُساء إلى نبي الإسلام -عليه أفضل الصلاة والسلام- على لسان أكبر زعيم للنصارى -بابا الفاتيكان-، لم يكن ذلك كله مصادفة ولا مستغرباً عنهم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}، ولم يكن مُستغرباً أن يغضب المسلمون لنبيهم صلى الله عليه وسلم بل هذا هو الواجب عليهم، لكن المستغرب هو هذه الضجة الإعلامية التي انخدع بها الكثيرون وصاروا يُطالبونه بالاعتذار، مما كان سبباً في إعلاء شأنه، ولو أنهم تركوه لحقارته لما عبأ به أحد، فما كان منه إلا أن اتهمهم مرة بالغباء وأنهم لم يفقهوا قوله! ومرة بأسفه على الألم الذي سببته تعليقاته، وها نحن المسلمين صباح مساء نذمهم ونذم دينهم المحرَّف ونصمهم بالضلال يومياً في صلاتنا وخارجها ولم يُلقوا لنا بالاً ولم يطلبوا منا أن نعتذر، ولو أن أكبر علماء المسلمين قال إنَّ النصارى كفار وإنَّ دينهم محرَّف وليس هو الدين الذي أتى به عيسى عليه الصلاة والسلام، أتراهم سيأبهون به ويطالبونه بالاعتذار؟! أجزم أن عقلاءهم أعقل من عقلانينا الذين طاروا في العجة-كما تقول العامة- ولن يطالبوه بالاعتذار لأن ذلك يُعلي من شأنه، ثم ماذا لو قال لنا البابا أنا على استعداد أن أعتذر عن إساءتي لكم لكن بشرط أن تعتذروا أنتم أيضاًً عن إساءتكم لنا بوصمنا بالكفر والضلال في كتابكم وعلى ألسنة علمائكم؛ أكنَّا سنفعل؟! ومرة أخرى أقول إن غضب المسلمين أمرٌ واجب عليهم وغير مستغرب لكن المستغرب أن يطالِب بذلك من يستنكرون اليوم عليه وغداً يجلسون معه على طاولة الحوار لتقريب الأديان هؤلاء هم الذين جرءوه - جرَّأه الذين لا يكفرونهم ويزعمون أنهم أهل كتاب مؤمنون والله كفرهم من فوق سبع سماوات {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}. - جرَّأه من عدَّ النصارى إخواناً لنا في الإنسانية في حين يتهم باباهم نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- باللاإنسانية. - جرَّأه من أبلى بلاءً سيئاً في رفع المقاطعة عن دولة الدانمرك التي سبقته في الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ببعيد أن يأتي من يقبل اعتذاره الأخير كما قبل البعض اعتذار الصحيفة الآثمة صاحبة الكاريكاتير. - جرَّأه الذين ما زالوا يدعون إلى التسامح والتعايش والحوار مع الآخر والآخر هذا يشتمهم ويشتم نبيهم -صلى الله عليه وسلم-. هذا وغيره هو الذي جرَّأ هذا الكافر وأمثاله على الإساءة للإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. وإن من المزالق الخطيرة التي وقع فيها بعض الذين طالبوا البابا بالاعتذار ونُشرت في وسائل الإعلام قبول بعضهم اعتذاره الممجوج ونسي هؤلاء -وربما جهلوا- أنه لو اعتذر بأصرح عبارة ممكن أن يعتذر منها مخطيء لما قُبل اعتذاره لأن هذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم ليس لأحدٍ غيره، أرأيت لو أنَّ رجلاً شتم جارك ثم جاء ليعتذر إليك هل من حقك أن تقبل عذره أم تقول له هذا جاري دونك فاعتذر منه؟ فحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم أجلُّ وأعظم. ومن هذه المزالق دعوى بعضهم أن الجهاد في الإسلام للدفاع عن النفس ليدفع تهمة انتشار الإسلام بالسيف ونسي أن التاريخ الإسلامي مليءٌ بالفتوحات الإسلامية. فهؤلاء وأؤلئك هم الذين جرَّؤه وسيجرِّؤن غيره على الإساءة للإسلام ونبي الإسلام. ولهؤلاء أقول: إنْ كان الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتطلب منكم كل ذلك فلا حاجة إليه، والله حافظٌ دينه وكافٍ نبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}. [بقلم المشرف]

الفتن إذا أقبلت لا يعرفها إلا القليل وإذا أدبرت عرفها الجميع

الفتن إذا أقبلت لا يعرفها إلا القليل وإذا أدبرت عرفها الجميع كثيرٌ من الناس إذا أقبلتِ الفتن غفلوا عنها وذهلوا وأخذتهم العواطف وغرَّهم الجهل ونسوا التاريخ القريب فضلاً عن البعيد، وانخدعوا بالإعلام والفضائيات وبنوا بعد ذلك مواقفَ من هذه الفتن وتعصبوا لها ونافحوا عنها، فمن قائل: علينا أن ننس الخلافَ الآن، وآخر: نتوحدُ ضد العدو الأساس وهو لا يفرق بين عدوين، وثالثٍ: جعل التحليل العقدي للأحداث خدعةً وهو مخدوعٌ بالتحليل الإعلامي والفضائي، ورابعٍ: نادى بتوحيد الكلمة على حساب كلمة التوحيد، وخامسٍ حشد أدلة وشواهداً لو تمعن فيها المرء لوجد أنها عليه لا له، وهكذا نجدُ أنَّ أكثرَ الناس يجهل الفتن والموقف منها إذا أقبلت وأطلَّت برأسها، ولا يثبتُ إلا من ثبَّته الله وكان يرى بنور الله، لا تخدعه العواطفُ الزائفة، ولا الأهواءُ الزائغة، ولا ينجرُّ وراء الإعلام المشبوه والمسيَّس، ولا تجده يفصلُ بين الأحداث الراهنة والمبادئ الثابتة، ولا بين زمانٍ وزمان ولا مكانٍ ومكان - القريب منهما والبعيد- إذا كان العدو هُوَ هُوَ نفسه بالأمس واليوم وهنا وهناك؛ فإذا أدبرتِ الفتنة أو كادت عرف كثيرٌ من الناس الحقيقةَ، فيتراجع من يتراجع، ويصرُّ آخرون على مواقفهم استكباراً وعناداً، والناظرُ إلى فتن هذا الزمان يجدها من هذا القبيل، والحمد لله الذي جعل في الأمة أناساً يعرفون الفتن عند إقبالها قبل إدبارها ويحذِّرون منها وإلا لهلكَ الناس. بقلم المشرف

سنة الله فيمن لا يقدر المسلمون على الانتقام منه كمن سب الرسول أو آذاه

سنة الله فيمن لا يقدر المسلمون على الانتقام منه كمن سب الرسول أو آذاه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ومن سنة الله أن من لم يمكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله؛ فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه ... والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهل السير والتفسير، وهم على ما قيل نفر من رؤوس قريش: منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان بن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يُسْلم، لكن قيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فَثَبَتَ ملكه، فيقال: إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم (1)، وكسرى مَزَّقَ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل، ومزق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك، وهذا ـ والله أعلم ـ ومن الكلام السائر: "لحوم العلماء مسمومة" فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام. وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فقد بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ". فكيف بمن عادى الأنبياء؟ ومن حارب الله حُرِبَ، وإذا استقريت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة، وباؤوا بغضب من الله، ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضموماً إلى كفرهم، كما ذكر الله ذلك في كتابه، ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولابد أن يصيبه الله بقارعةٍ، وقد ذكرنا ما جرَّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة، وهذا باب واسع لا يحاط به، ولم نقصد قصده هنا، وإنما قصدنا بيان الحكم الشرعي. ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عِرْضِه، تعجلنا فتحه وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عَنْوَة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوه فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين وكان سبحانه يَحْميه ويَصْرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ تَرَونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ مُذَمَّماً وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّماً، وَأَنَا مُحَمَّدٌ"، فنزه الله اسمه ونعته عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مذمم، وإن كان المؤذي إنما قصد عينه. ومما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفراً وحراباً ـ وإن كان متضمناً لذلك ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه، وقد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره، ولو كان السب مجرد رِدَّةً لوجب قتله كالمرتد يجب قتله، فعلم أنه قد يغلَّب في السب حق النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجوز له العفو عنه. ومما يدل على أن السب جناية مفردة أن الذمي لو سب واحداً من المسلمين أو المعاهدين ونقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة مالا يستحقه بمجرد نقض العهد؛ فيكون سب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سب واحد من البشر؟! وقال رحمه الله: إن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب حسب الإمكان؛ لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبه ولم ينتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين ظاهراً ولا كلمة الله عالية، وهذا كما يجب تطهيرها من الزناة والسُّرَّاق وقُطَّاع الطريق بحسب الإمكان، بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب، لجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة لأن إقرارهم بالذمة ملتزمين جَرَيان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين وعلو الكلمة، وإنما تجوز مهادنة الكافر وأمانه عند العجز أو المصلحة المرجوة في ذلك، وكل جناية وجب تطهير الأرض منها بحسب القدرة يتعين عقوبة فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع إذا لم يكن لها مستحق معين، فوجب أن يتعين قتل هذا؛ لأنه ليس لهذه الجناية مستحق معين، لأنه تعلق بها حق الله ورسوله وجميع المؤمنين، وبهذا يظهر الفرق بين الساب وبين الكافر، لجواز إقرار ذلك على كفره مستخفياً به ملتزماً حكم الله ورسوله، بخلاف المظهر للسب.))

_ (1) هذا في زمنه رحمه الله وإن استهزاء أحفاد قيصر برسول الله صلى الله عليه وسلم في أيامنا هذه بشارة بزوال ملكهم وحكمهم بإذن الله. المصدر: (الصارم المسلول) (1/ 84) (1/ 113) (1/ 114) (1/ 201) بتصرف يسير.

فتاوى واستشارات

فتاوى واستشارات

حكم الدعاء بقولهم: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه)

حكم الدعاء بقولهم: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) قسم البحث العلمي ومراجعة المشرف العام السؤال: ما صحة أن يدعو الإنسان بهذا الدعاء: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه)؟ الجواب: الحمد لله أولاً: ينبغي على المسلم أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالأدعية المأثورة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسأل الله بعزم ورغبة، وأن يسأل الله حاجته كلها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم أرحمني إن شئت ليعزم في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له. وفي لفظ عند مسلم ((ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)). والدعاء المذكور غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عن السلف، وليس فيه عزيمة ورغبة، ويدل على استغناء الداعي وبعدم الافتقار بحاجته إلى الله. ثانياً: هذا الدعاء يخالف الأدعية المأثورة والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم: كحديث سلمان رضي الله عنه أنه مرفوعاً: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء .... )) رواه الترمذي. وهذا الحديث فيه دليل على أن الله سبحانه وتعالى يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وأن دعاء الله تعالى يرد ما يكرهه المرء من سوء القضاء. وقد بين العلماء أن الدعاء يرد القضاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (8/ 193): (الدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويُضْعِفه، ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق. والله أعلم). وقال ابن القيم في (الجواب الكافي) (فصلٌ: الدعاء من أنفع الأدوية): (والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدفعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن ........ ، وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه) ا. هـ وقال السيوطي في (الحاوي للفتاوى) (1/ 387): (وأما كونه سببا لدفع البلاء - أي الدعاء- فهو أمر لا مرية فيه فقد وردت أحاديث لا تحصى في أذكار مخصوصة من قالها عصم من البلاء، ومن الشيطان، ومن الضر، ومن السم، ومن لذعة العقرب، ومن أن يصيبه شيء يكرهه) ا. هـ .. وقال المناوي في (فيض القدير) (6/ 449) عند شرحه لحديث ((لا يرد القضاء إلا الدعاء)): (أراد بالقضاء هنا الأمر المقدر لولا دعاؤه، أو أراد برده وتسهيله فيه حتى يصير كأنه رد، وقال بعضهم: شرع الله الدعاء لعباده لينالوا الحظوظ التي جعلت لهم في الغيب، حتى إذا وصلت إليهم فظهرت عليهم توهم الخلق أنهم نالوها بالدعاء فصار للدعاء من السلطان ما يرد القضاء). وقال المباركفوري في (تحفة الأحوذي) (5/ 575) في شرحه لحديث ((لا يرد القضاء إلا الدعاء)): (القضاء هو الأمر المقدَّر وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه فإذا وفق للدعاء دفعه الله عنه فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقى عنه، يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في الرقى: ((هو من قدر الله))، وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المقدور كائن لخفائه على الناس وجوداً وعدماً ...... أو أراد برد القضاء إن كان المراد حقيقته تهوينه وتيسير الأمر حتى كأنه لم ينزل، يؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر ((أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل)). وقيل: الدعاء كالترس والبلاء كالسهم والقضاء أمر مبهم مقدر في الأزل) ا. هـ .. وممن أفتى بعدم جواز الدعاء المذكور الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتاوى نور على الدرب. والله أعلم.

ما الحكم لو صادف العيد يوم الجمعة؟

ما الحكم لو صادف العيد يوم الجمعة؟ الإمام عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز السؤال: ما الحكم لو صادف العيد يوم الجمعة, بالنسبة لصلاة الجمعة فقد سمعت أن صلاة الجمعة لا تجب على المأمومين بعكس الإمام , فكيف تجب على الإمام لوحده; وكيف يقيمها بمفرده؟. الجواب: إذا وافق العيد يوم الجمعة جاز لمن حضر العيد أن يصلي جمعة وأن يصلي ظهراً; لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في هذا, فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رخص في الجمعة لمن حضر العيد وقال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شهد العيد فلا جمعة عليه»، ولكن لا يدع صلاة الظهر, والأفضل أن يصلي مع الناس جمعة, فإن لم يصل الجمعة صلى ظهراً، أما الإمام فيصلي بمن حضر الجمعة إذا كانوا ثلاثة فأكثر منهم الإمام, فإن لم يحضر معه إلا واحد صليا ظهراً. المصدر: مجموع فتاوى ابن باز (13/ 13)

حكم أداء فريضة الحج مع الخشية من الإصابة بأنفلونزا الخنازير

حكم أداء فريضة الحج مع الخشية من الإصابة بأنفلونزا الخنازير علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: لم أحج حج الفرض وأخشى من الإصابة بأنفلونزا الخنازير فهل يسقط عني الحج هذا العام؟ علماً أنني مقيم بالسعودية؟ وأخي مقيم خارج السعودية ولم يحج من قبل ويخشى من لقاح الأنفلونزا لأضرارها الجانبية فهل يعذر لو تخلف عن حج هذا العام، علماً أننا قادرين على الحج والحمد لله. الجواب: الحمد لله بالنسبة لك فإن كنت صحيحاً نشيطاً ولا تشكو من مرض فلا عذر لك لأن هذا المرض لم يصل إلى حد أن يكون وباءً يخشى منه، وإن كنت شيخاً كبيراً أو مريضاً فاستشر الطبيب المسلم الحاذق المؤتمن وخذ بقوله. وأمَّا أخوك فقد كثُر الكلام عن أضرار هذا اللقاح وأنصحه باستشارة طبيب مسلم مؤتمن أو أكثر فإن حذروه ومنعوه منه فليمتنع، ولو اشترطوا عليه في بلده أخذ اللقاح فيسقط عنه الحج كالمريض الذي يمنعه الأطباء من أداء هذا المنسك. والله أعلم

حكم رقص النساء في الأفراح وغيرها من المناسبات

حكم رقص النساء في الأفراح وغيرها من المناسبات علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: ما حكم رقص النساء في الأفراح وغيرها من المناسبات؟ الجواب: الحمد لله إنَّ مما ابتليت به هذه الأمة وفُتنت به نساؤها نزع الحياء من كثير منهن، ومن مظاهر هذا الافتتان أنواع الألبسة والعري والتفسخ وتقليد الفاسقات والماجنات من الفنانات والممثلات وغيرهن في الأزياء والموضات ومن ذلك تقليدهن في الرقص والغناء، ومما يؤسف له أن هذا الافتتان ومنه الرقص لم يسلم منه حتى المحافظات بل وبعض الصالحات فنسأل الله السلامة وحسن الخاتمة. وهذا الرقص الذي يمارس اليوم في كثيرٍ من الأفراح والمناسبات من تكسرٍ وتمايلٍ وتثني في البدن وتحريكٍ للأكتاف والخصورِ والأردافِ والمؤخرةِ والذي غالباً ما يصحبه لباسٌ غير ساتر للبدن بحجة أنها بين النساء، لا يشك عاقلٌ أنه تقليدٌ للكافرات والفاسقات وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))، كما أنه تحصل به فتنة بين النساء فقد تكون الراقصة رشيقة وجميلة وفاتنة فتفتن بنات جنسها ومن المعروف أن هذا يقع بين النساء، وما كان سبباً للفتنة فإنه يحرم شرعاً. فإذا صاحب ذلك الرقص آلات موسيقية محرمة كان ذلك أعظم حرمة، وبعض النساء يستبدلن مؤثرات صوتية بهذه الآلات بينما هي شبيهة بها حتى لا تكاد تفرق بينهما، والأمور بمآلاتها، وبعض النساء قد لا يستخدمن هذه الآلات لحرمتها لكن يتساهلن في الكلمات والألحان، فتجد في الكلمات فحشاً وغزلاً وإثارةً للغرائز كأغاني الماجنات تجعل سامعتها في حالة غرام وهيام، وأسوأ من ذلك عندما تكون هذه الأغاني بصوت رجلٍ عبر أشرطة الكاسيت، فلكِ أن تتخيلي فتيات مراهقات يرقصن رقصاً شرقياً أو غربياً على صوت رجل لكلمات غرامية كيف سيكون شعورهن وهن يرقصن ولو لم يكن ذلك بآلات موسيقية محرمة. أما إذا كان هذا الرقص كرقص النساء قديماً بثياب فضفاضة ساترة تذهب إلى الأمام وتعود إلى الخلف فَرِحةً بمناسبتها دون ما يخدش الحياء، وخالٍ من آلات المعازف المحرمة؛ فلا بأس به إن شاء الله.

حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: ما الدليل على تحريم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ مع أنَّ حديث (لا تشد الرحال .. ) عام يشمل السفر لطلب العلم والتجارة وغير ذلك، وهل قال أحدٌ من العلماء بتحريمه قبل ابن تيمية؟ وهل قلَّده أحدٌ من المتأخرين غير علماء نجد؟ الجواب: الحمد لله أولاً لابد من التفريق بين زيارة القبور والسفر إليها، وكذا زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسفر إليه وهو ما يُعبر عنه بشد الرحال، فزيارة القبور قربة إلى الله عزَّ وجل ومأمور بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) أخرجه مسلم في صحيحه، وقبره صلى الله عليه وسلم وإن لم يثبت في فضل زيارته على وجه الخصوص حديثٌ صحيح ولا حسن بل كل ما ورد فيه ضعيفٌ جداً، أو موضوعٌ لا أصل له، إلا أنه يدخل دخولاً أولياً في الأحاديث العامة التي وردت في فضل زيارة القبور. إذا علمت ذلك فاعلم أن كثيراً من العلماء المتأخرين أجاز واستحب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل بعضهم أوجبه، لكن المتقدمين منهم وعلى رأسهم الصحابة والتابعون لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه فعله أو أباحه، وأصل الخلاف بين العلماء المتأخرين هو فهمهم لحديث: ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية عند مسلم ((لا تشدوا))، فالمجيزون قالوا: معنى الحديث لا تُشد الرحال إلى مسجد إلا هذه الثلاثة، وعليه يجوز الذهاب إلى أي بقعة كقبر ولي أو نبي قربة إلى الله تعالى وشبَّهوا ذلك بالسفر من أجل طلب العلم أو أي أمرٍ من أمور الدنيا أوالآخرة، والمانعون قالوا: معنى الحديث لا تُشد الرحال إلى أي بقعة تقرباً إلى الله عز وجل إلا هذه المساجد الثلاثة، وحجتهم أنه إذا كانت المساجد وهي أفضل بقاع الأرض وهي بيوت الله وأحبها إلى الله لا يجوز السفر إليها فغيرها من الأماكن من باب أولى، أما بقية أنواع السفر سواء لطلب علم أو غير ذلك فهو ليس سفراً لذات المكان بل لتحصيل غرضٍ ما. ولا شك أن من تأمل القولين بعدلٍ وإنصاف ظهر له قوة حجة المانعين وصواب فهمهم للحديث، وإلا فعلى فهم المجيزين يكون السفر إلى مسجد قباء لا يجوز لأنه ليس من المساجد الثلاثة ولكن لو قدَّرنا أن هناك قبراً لأحد الصالحين بجوار مسجد قباء فإنه يجوز السفر إليه وهذا فهم لا يستقيم، ومما يؤيد ذلك فهم ابن عمر رضي الله عنهما فعن قزعة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنه آتي الطور؟ فقال: (دع الطور ولا تأتها وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وبعضهم قصر الجواز على قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم وليس معهم دليل. أما سؤالك هل حرَّم ذلك أحد من العلماء قبل ابن تيمية؟ فالجواب: نعم، فشيخ الإسلام ابن تيمية توفي سنة 728هـ، وقد حرَّم السفر لزيارة القبور: من المالكية: الإمام مالك (ت:179هـ) والقاضي عياض (ت:544هـ) ومن الشافعية: أبو محمد الجويني (438هـ)، وابن الأثير صاحب جامع الأصول (ت:606هـ) ومن الحنابلة: ابن بطة العكبري (ت:387هـ) وابن عقيل (ت:513هـ) وغيرهم. قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (1/ 304): (وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي، فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته وان أراد المسجد فليأته ثم ذكر الحديث: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه) اهـ وقال المناوي في شرحه للجامع الصغير (6/ 140): ( ... ما نقل عن مالك من منع شد الرحل لمجرد زيارة القبر من غير إرادة إتيان المسجد للصلاة فيه) وقال ابن بطة في (الإبانة الصغرى) (ص 92): (ومن البدع البناء على القبور وتجصيصها وشد الرحل إلى زيارتها) اهـ وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (9/ 106): (واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره) اهـ وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (3/ 65) عند شرحه لحديث: ((لا تشد الرحال)): (قال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم شد الرحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة) اهـ وقال ابن قدامة في (المغني) (2/ 100): (فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) متفق عليه) اهـ وقال ابن الأثير في (جامع الأصول) (9/ 283) في شرح حديث ((لا تشد الرحال)): (هذا مثل قوله (لا تعمل المطي) وكنى به عن السير والنفر، والمراد: لا يقصد موضع من المواضع بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا إلى هذه الأماكن الثلاثة تعظيماً لشأنها وتشريفاً) أ. هـ وقال علامة حضرموت ومفتيها السيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف (ت:1300هـ) كما في كتابه (إدام القوت) (ص584): (نص إمام الحرمين - ومثله القاضي حسين - على تحريم السفر لزيارة القبور، واختاره القاضي عياض بن موسى بن عياش في (إكماله) وهو من أفضل متأخري المالكية. وقام وقعد في ذلك الشيخ الإمام ابن تيمية، وخَطَّأهُ قومٌ وصَوَّبَهُ آخرون، ومهما يكن من الأمر فَلْيَسَعَهُ ما وسع الجويني والقاضيين حسين وعياضاً، ولكنهم أفردوه باللوم! والقولُ واحدٌ. وقال مالك بن أنس: من نَذر المشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه كرهتُ ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). وقال ابن سريج - من كبار أصحاب الشافعي - إن الزيارة قربة تلزم بالنذر. والخطب يسير لم يُوَسِّعْهُ إلا الحسد والتعصب، وإلا فالتثريب في موضع الاختلاف ممنوع)) أما النووي وابن حجر وابن قدامة وغيرهم فقد قالوا بالجواز وقد تقدم أن كثيراً من المتأخرين قالوا بذلك لكن المقصود هنا هو الإجابة على سؤالك: هل قال بالتحريم أحدٌ قبل ابن تيمية؟ وقد علمتَ الجواب. أمَّا سؤالك: هل قلَّده أحدٌ من غير علماء نجد؟ فأظن بعد ما علمتَ أنه ليس أول من قال بتحريم السفر لزيارة القبور ظهر لك أن المسألة ليس فيها تقليدٌ لابن تيمية بل فيها اتباعٌ لدليلٍ بفهم عدد من العلماء قبل ابن تيمية، ولكن لشهرته ومكانته وكذلك لتشنيع خصومه عليه وادعائهم أنه أول من قال بذلك اشتُهرت هذه المسألة عنه. ومع ذلك فالجواب: نعم هناك من قال بقوله من غير علماء نجد وهم كُثُر، منهم: علامة اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت:1182هـ) قال في (سبل السلام) (3/ 394): (والحديث دليلٌ على فضيلة المساجد هذه ودلَّ بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة كزيارة الصالحين أحياءً وأمواتاً لقصد التقرب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها) اهـ وعلامة الهند السيد صديق حسن خان الحسيني (ت:1307هـ) قال في شرحه لصحيح مسلم (5/ 113): (وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة ووقع في عصره صلى الله عليه وآله وسلم وقرره النبي عليه السلام فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه، ولم يقر أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره، ولم يشرِّعه لأحدٍ من أمته لا قولاً ولا فعلاً، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزور أهل البقيع وغيرهم من غير سفر ورحلة إلى قبورهم، فسنته التي لا غبار عليها ولا شنار فيها: هي زيارة القبور من دون اختيار سفر لها، لتذكر الآخرة) أ. هـ وعلامة العراق السيد نعمان بن محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (ت:1317هـ) قال في (جلاء العينين) (ص518) بعد أن انتصر لرأي ابن تيمية: (ونهاية الكلام في هذا المقام: أن شيخ الإسلام لم ينفرد بهذا القول الذى شُنِّع به عليه، بل ذهب إليه غيره من الأئمة الأعلام) فهؤلاء ليس فيهم نجديٌّ واحد. إذا علمت ذلك، فاعلم أنني أعرضت عن أدلة يستشهد بها الطرفان لكن لا تُسلَّم لهما، وأُسُّ الخلاف هو ما ذكرته لك. فمن أدلة المجيزين أحاديث فضل زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وكلها ضعيفة لا يصح منها شيء ولو صحت فهي خارج محل النزاع، ومنها ما يروونه من (أن بلالاً رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الشام في منامه وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟!، فانتبه حزيناً خائفا فركب راحلته وقصد المدينة) قال الحافظ ابن حجر: (هذه قصة بينة الوضع)، وغيرها. ومن أدلة المانعين التي أعرضت عنها أثر أبي بصرة الغفاري وإنكاره على أبي هريرة رضي الله عنهما ذهابه إلى الطور وقد تتبعت روايات هذا الأثر فوجدته ليس في محل النزاع، فذهاب أبي هريرة رضي الله عنه إنما كان لمسجد هناك ثم إنه وافق أبا بصرة بعد ذلك. والله أعلم.

حكم الاستشهاد بهذين البيتين

حكم الاستشهاد بهذين البيتين علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: ما رأيكم في هذين البيتين؟ وهل يجوز الاستشهاد بهما وتردادهما في المناسبات وغيرها؟ أدمِ الصلاة على النبي محمد ... فقبولها حتما بغير تردد أعمالنا بين القبول وردها ... إلا الصلاة على النبي محمد الجواب: الحمد لله أما صدر البيت الأول: (أدم الصلاة على النبي محمد)، فهو حق إن شاء الله ففيه الحث على مداومة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة. وكذا صدر البيت الثاني: (أعمالنا بين القبول وردها) حقٌ كذلك، فكل عمل يعمله المرء فهو بين القبول وعدمه فما كان خالصاً لله وموافقاً للسنة فهو مقبول عند الله وما كان غير ذلك فهو مردود. وأما عجز البيت الأول والثاني فهو من أباطيل الصوفية المغالين في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد جعلوها أعظم من التهليل والتسبيح بل أعظم من الصلاة نفسها بسجودها وركوعها، لأنهم يقولون كل هذه الأعمال بين القبول والرد إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا خطأ بل كل العبادات بين القبول والرد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبادة وقربة يتقرب بها العبد إلى الله عزَّ وجلَّ تفتقر إلى النية والمتابعة كغيرها من العبادات، أما هذا الغلو في النبي والصلاة عليه وجعلها مقبولة حتى لو كانت رياءً أو مُبْتَدعةً فهو مرفوض في ميزان الشريعة، والصوفية يزعمون ذلك حتى يبرروا ما يفعلونه في احتفالات المولد وغيره فبعضهم إذا أنكر عليهم مُنكر ردَّ عليه قائلاً: هب أن ما نفعله بدعة لكن بما أننا نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقبول عند الله، ويستشهد بهذين البيتين: أدم الصلاة على النبي محمد ... فقبولها حتما بغير تردد فأعمالنا بين القبول وردها ... إلا الصلاة على النبي محمد وكأنهما آية أو حديث يُحتج به، ويقول بعض علمائهم: (إن الصلاة على النبي لا يدخلها الرياء ولا بأس أن يسِرّ المرء بها أو أن يعلنها. فهي تأدية حق له واجب علينا وليس تكرما منا عليه) وهذا خطأ أيضاً والصواب ما علمت. والله أعلم

حكم شراء وإهداء ما يسمى البطاقة العائلية للنبي صلى الله عليه وسلم

حكم شراء وإهداء ما يسمى البطاقة العائلية للنبي صلى الله عليه وسلم علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: انتشر في بعض البلدان والأسواق كتيب على أنه البطاقة العائلية للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه معلومات مفيدة عن حياته، فهل اطلعتم عليه؟ وما حكم شرائه وإهدائه؟ الجواب: الحمد لله: لا شك أن مقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نفوس المؤمنين مقامٌ عظيمٌ جليل، وكلُّ مؤمن يفديه بنفسه وماله ويجب أن يكون العالم كله محباً ومجلاً ومعظماً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتختلف أساليب الناس في التعبير عن هذا الحب، فمنهم من يؤلف كتاباً مطولاً في سيرته ومنهم من يختصر، ولكن الذي فاجأ العالم الإسلامي هو تدني أسلوب البعض في التعريف به صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى درجة السخف والسماجة حيث انتشر بين الناس هذا الكتيب الصغير والذي يشبه جواز السفر وكأنه بطاقة عائلية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجُعل لون الجواز وشكله يشبه جوازات السفر المستخدمة حالياً، وجُعل لهذا الجواز رقماً عالمياً، وعليه ختم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم المعروف "محمد رسول الله"، والكتيب مكون من 32 صفحة تتضمن معلومات شخصية عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعن أفراد أسرته، بل وفيه أيضاً فصيلة الدم وهي: (ن ور) من الله، ودُوِّن فيه تاريخ التسجيل "قيود ونفوس" الرسول صلى الله عليه وسلم وتاريخ ولادته في الثاني عشر من ربيعٍ الأول، وفي هذه الوثيقة أيضا التوثيق التالي: إصدار: أمين سجل يثرب مسؤول الإحصاء: حذيفة بن اليمان هذا ملخص ما في الكتيب والذي سموه بجواز سفر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزعموا أنه طريقة عصرية للتعريف به. والناظر إلى هذا الكتيب يجد فيه كثيراً من المغالطات والتي منها: 1 - تسمية المدينة بيثرب والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سماها المدينة كما في صحيح مسلم مرفوعاً: (يقولون يثرب، وهي المدينة). 2 - زعمهم أن حذيفة رضي الله عنه كان مسؤول الإحصاء في عهد النبي وهذا غير صحيح بل كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. 3 - زعمهم أن زمرة (أي: فصيلة) دم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي: (ن ور) من الله، وهذا من عقائد غلاة الصوفية الذين يعتقدون أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلق من نور الله وهذا باطل. 4 - إثباتهم لتاريخ ولادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنها في الثاني عشر من ربيع الأول، مع العلم أن فيها خلافاً مشهوراً والصواب عدم معرفتها بالتحديد. هذا وقد أعجبني قول الشيخ يوسف القرضاوي عن هذا الكتيب: (إنه من عجائب ما ولدته الليالي، مما لا يفهم له غرض، ولا يفقه له معنى، ولا يعرف له فائدة، إلا أنه من (تقاليع) الفارغين، الذين فرغت عقولهم من العلم، وقلوبهم من الآلام والآمال، فشُغلوا بهذه التوافه، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من العقل أو النقل برهان. وأقلَّ ما يُقال في هذا: إنه من البدع المرفوضة في الدين، أو من التقاليع المذمومة في الدنيا. ومن المقرَّر أن "كلَّ بدعة ضلالة"، وكلَّ ضلالة في النار. ثم إنه لم يحسن أن يعرِّف به أدنى تعريف، وقد وضع مبتدع الجواز المزعوم للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل صفحة الجواز: صفحة أخرى، يبدو أن المقصود منها: الدعوة إلى رسالة محمد، وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم، وكنا نتخيَّل أن تشتمل هذه الصفحة على أساسيات الرسالة، والمبادئ العامة لعقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه وقِيَمه، والمقاصد الكلية لهذا الدين. ولكن خاب أملنا، حيث لم نجد فيها دعوة إلى التوحيد، ولا إلى الإيمان بالآخرة، ولا الإيمان بكتب الله ورسله، ولا إلى العبادات والشعائرية الكبرى: من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولا إلى مكارم الأخلاق التي بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ليتمِّمها) أ. هـ ولا شك أن مثل هذا الفعل ليس فيه توقيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى يقول: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الصارم المسلول على شاتم الرسول): التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه منكل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. اهـ وقد أمر الله تعالى المسلمين أن لا يخاطبوا نبيهم كما يخاطبون بعضهم بعضاً فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] قال ابن كثير: فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه. أ. هـ وهؤلاء جعلوه كغيره من البشر. فليس من الأدب ولا التوقير صناعة مثل هذه الأشياء ونسبتها إلى نبي الأمة وعظيمها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمسلم عليه أن يتعالى عن مثل هذه السفاهات، فأيُّ فائدة في صناعة مثل هذا، مع وجود البدائل الكثيرة والكثيرة جداً مما يتفق العلماء والعقلاء على جوازه وحسنه: كطباعة ونشر الكتب، والكتيبات، والمطويات، وإلقاء الدروس، والمحاضرات، وتوزيع الأشرطة، وغير ذلك مما فيه الحديث عن سيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم، ثم إن جواز السفر المعروف اليوم لا يحصل عليه الفرد إلا بعد انتسابه وتجنسه بجنسية بلد معين فليت شعري إلى أي بلد ينتسب خليل الله وبأي جنسية يريد هؤلاء العابثون أن يجنسوه بها حاشاه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام. وعليه فلا يجوز شراء مثل هذا الكتيب ولا بيعه ولا نشره ولا توزيعه، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم المشرف

هل ينتهي القنوت بانتهاء النازلة؟

هل ينتهي القنوت بانتهاء النازلة؟ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: أشكل على بعض الأئمة الاستمرار في القنوت بعد توقف القصف على إخواننا في غزة هل يستمرون فيه أم يتوقفون لتوقف النازلة؟ فما هو القول الراجح في هذه المسألة؟ الجواب: الأصل في القنوت والذي عليه جمهور العلماء أن القنوات ينتهي بانتهاء النازلة. لكن الأمر فيه سعة فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: ((قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، حين قتل القراء، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن حزنا قط أشد منه)) وظاهر الحديث بيِّن حيث استمر صلى الله عليه وسلم يقنت على من قتل القراء شهراً مع أن النازلة انتهت بقتلهم وكان ذلك في ليلة واحدة، لذلك قال ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد): (وقنت رسول الله شهراً يدعو على الذين قتلوا القراء أصحاب بئر معونة بعد الركوع ثم تركه لما جاءوا تائبين مسلمين) وعلى أية حال فالقنوت سنة مستحبة فمن فعله فله أجر ومن تركه فلا شئ عليه. والله أعلم المشرف

حكم الجهاد في فلسطين

حكم الجهاد في فلسطين الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز السؤال: ما تقول الشريعة الإسلامية في جهاد الفلسطينيين الحالي، هل هو جهاد في سبيل الله، أم جهاد في سبيل الأرض والحرية؟ وهل يعتبر الجهاد من أجل تخليص الأرض جهادا في سبيل الله؟ الجواب: لقد ثبت لدينا بشهادة العدول الثقات أن الانتفاضة الفلسطينية والقائمين بها من خواص المسلمين هناك وأن جهادهم إسلامي؛ لأنهم مظلومون من اليهود؛ ولأن الواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوة. وقد أخبرنا الثقات الذين خالطوهم في جهادهم وشاركوهم في ذلك عن حماسهم الإسلامي وحرصهم على تطبيق الشريعة الإسلامية فيما بينهم، فالواجب على الدول الإسلامية وعلى بقية المسلمين تأييدهم ودعمهم ليتخلصوا من عدوهم وليرجعوا إلى بلادهم عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [1]. وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [2] الآيات وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [3]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) ولأنهم مظلومون، فالواجب على إخوانهم المسلمين نصرهم على من ظلمهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما قال: (تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه). والأحاديث في وجوب الجهاد في سبيل الله ونصر المظلوم وردع الظالم كثيرة جدا. فنسأل الله أن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في فلسطين وفي غيرها على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق المسلمين جميعا لمساعدتهم والوقوف في صفهم ضد عدوهم، وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا وينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين إنه سميع قريب. المصدر: فتاوى الشيخ عبدالعزيز ابن باز [1] سورة التوبة الآية123. [2] سورة التوبة الآية 41. [3] سورة الصف الآيات 10 - 13.

حكم تقصير المرأة شعرها

حكم تقصير المرأة شعرها علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: هل يجوز لي أن أقصر شعري؟ وما حدود التقصير؟ الجواب: نعم يجوز لك أن تقصري شعرك كما تشائين وليس في ذلك حدود معينة، بشرط أن يكون ذلك بموافقة الزوج وألا يكون فيه شهرة أو تشبهٌ بالكافرات أو الفاسقات أو الرجال، كما ينبغي على المرأة ألا تتشبه في قصات شعرها بالحيوانات. ومن صور التشبه بالكافرات أن تعمد إلى أن تقص قصة (ديانا) مثلاً ومن صور التشبه بالفاسقات أن تعمد إلى أن تقص شعرها كقصة المطربة أو الممثلة فلانة. ومن صور التشبه بالرجال أن تقصر شعرها جداً كشعر الرجال. ومن صور التشبه بالحيوانات أن تقص شعرها كقصة الأسد وقصة ذيل الحصان وما شابه ذلك. والله أعلم المشرف

حكم لبس شماغ البنات

حكم لبس شماغ البنات علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: قرأت في أحد مواقع الإنترنت حواراً بعنوان: (ظاهرة اختلف حولها الفقهاء بين الإجازة والمنع) وكان الكلام عن شماغ البنات وحكم لبسه وذكروا أن الفقهاء اختلفوا في حكمه، ولا أدري هل يجوز لي لبسه أم لا لأني لم أخرج بنتيجة واضحة؟ الجواب: الحمد لله أولاً قبل الحديث عن حكم هذا النوع من اللباس أحب أن أعلق على عبارة (اختلف حولها الفقهاء) الواردة في السؤال نقلاً عن أحد مواقع الإنترنت؛ وهو أنه ليس كل من أُطلق عليه فقيه أو عالم يكون كذلك خاصة في زمننا هذا فما أكثر من خرج علينا في السنوات الأخيرة في الفضائيات ومواقع الإنترنت ويصدر بالفقيه والعالم والعلامة وهو ليس كذلك، أما هذا الشماغ فأنا لم أطلع عليه لكن إن كان على هيئة أشمغة الرجال المعروفة الآن أياً كان لونها فلا يجوز للمرأة أن تلبسه لأنه تشبه بالرجال فيما يخصهم من اللباس ولا يشك عاقل أن الشماغ مما اختص بلبسه الرجال في مجتمعنا هنا، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وسواء لبسته المرأة بطريقة لبس الرجل أم لا فهذا لا يضر إذ مجرد لبس ما يخص الرجال يعد تشبها بهم أما استخدامه في غير اللبس فهذا يخرجه من التشبه، كما أن لبس النساء للشماغ يمكن أن يعتبر لباس شهرة فتُمنع المرأة منه. نعم قد يكون في بلدان أخرى تستخدمه بعض نساء البادية أو الفلاحات لربط أوساطهن عند الفلاحة أو غيرها فإذا اعتدن النساء هنالك على ذلك سواء بشماغ أو غيره ولا يقصدن الشماغ بذاته وانتشر هذا بينهن بحكم وفرة وجوده وربما لبسنه كبيرات السن قبل المراهقات فهذا واضح أنه لا تشبه فيه إن شاء الله، أما حالنا هنا فتهافت بنات المدارس والكليات على شرائه والتباهي به لا شك أنه من باب التشبه كما سبق ذكره. والله أعلم المشرف

حكم تشقير الحواجب

حكم تشقير الحواجب علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: ما حكم صبغ المرأة أعلى الحاجب وأسفله وهو ما يسمى بالتشقير علماً أن لونه يكون مطابقاً للون البشرة بحيث يظهر كأنه نمص؟ الجواب: الأصل في صبغ الشعر الإباحة ما لم يأت النهي بذلك كصبغ الشيب بالسواد، لكن بشرط ألا يكون في هذا الصبغ شهرة أو تشبه بالكافرات أو الفاسقات، والتشقير كما في السؤال هو صبغ وليس نمصاً لكن لما كان النمص محرماً ومن عمل الفاسقات والتشقير فيه نوع تشبه بهن فالذي أراه هو أن تبتعد الفتاة المسلمة عنه، خاصة إن كانت ممن يُقتدى بها لأن الناظر إليه قد يظنه نمصاً. لكني لا أجزم بتحريمه. والله أعلم المشرف

هل الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة؟

هل الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة؟ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف السؤال: هل الأشاعرة والماتريدية يعدون من أهل السنة والجماعة؟ فقد قرأت في أحد المواقع المشهورة أنهم من أهل السنة الجماعة. وسمعت أحد المشايخ يعترض على هذه التسمية ويضعف حديث كلها في النار إلا واحدة فما هو الحق فيها؟ الجواب: الحمد لله مصطلح أهل السنة والجماعة مصطلح حادث ويعنون به ما وافق السنة وجماعة السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة ومن تبعهم من التابعين، وإن الأشاعرة والماتريدية كغيرهم من فرق أهل السنة التي خالفت منهج السلف في عدد من مسائل الاعتقاد كمسائل الإيمان والأسماء والصفات وغيرها وعليه فلا يعدون من أهل السنة والجماعة وإن كانوا أقرب الفرق إلى أهل السنة والجماعة. أما مصطلح أهل السنة والجماعة فهو مصطلح صحيح وما اعترض به أحد الفضلاء من أنه مرتبط بزمن معين وأنه غير وارد اليوم ولم يعد له وجود فهذا غير صحيح وتكلف لم يقل به أحد قبله فيما أعلم، والصحيح ما ذكرنا من أن مصطلح أهل السنة والجماعة يقصد به من كان على منهج السلف الصالح وأياً كان الأمر فلا مشاحة في الاصطلاح، فالأشاعرة والماتريدية ليسو على منهج السلف الصالح في كثير من مسائل الاعتقاد سواء سميناهم من أهل السنة والجماعة أم لا. أما حديث الافتراق فهو حديث صحيح، وزيادة: (كلها في النار إلا واحدة) صححها غير واحد من أهل العلم منهم ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/ 347) وغيره. وتكلم عليها آخرون. والله أعلم المشرف

حكم السعي في المسعى الجديد

حكمُ السَّعْيِ في المسْعى الجديد علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف 12/ 9/1429هـ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على رسوله الأمين أما بعد فقد كنتُ كتبتُ قبلَ خمسةِ أشهرٍ بتاريخ 16/ 4/1429هـ مقالاً بعنوان (وقفاتٌ مع موضوعِ المسعى الجديد) تساءلتُ فيه عن موقفِ المسلم من هذه التغييرات الجديدة التي طرأت على المسعى، وعن تأثيرها على بعض أحكامِ الحجِّ والعمرةِ، ولم يكن من المناسبِ آنذاك الحديثُ عن إجابة محدَّدةٍ عن هذه التساؤلات، فلذا اكتفيتُ بإيرادِ أقوى الاحتمالاتِ التي يمكنُ أن يؤولَ الأمرُ إليها، فذكرتُ منها آنذاك: (الأول: أن يكون المسعى الجديد في اتجاهٍ واحدٍ من الصفا إلى المروة، والقديم في اتجاهٍ واحدٍ أيضاً من المروة إلى الصفا، وهذا هو ما صُمِّمَ له حسب اطلاعي على المخططات ... الثاني: أن يكون كلٌّ من المسعيين القديمِ والجديدِ باتجاهين، فيكون السَّعيُ في مبنى المسعى الجديد من بابِ الاختيار لا الإجبار). ولما لم يُحسم الأمرُ في ذلك الحين، وأملاً في تغيرِ الأحوال، أمسكتُ عن ذكرِ رأيٍ أو بيانِ حكمٍ فيما يتعلق بالسَّعي، أمَّا الآن وقد أسفرتِ الأمورُ عما كان الكثيرُ منا يخشاه- ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلا بُدَّ من الحديث عن هذه القضية؛ أعني كيفية أداءِ العمرةِ في ظلِّ هذا التغيير، وهو الذي تمَّ بِمُوجبه دمجُ المسعيين الجديد والقديم (بعد إعادة بنائه)، حتى أصبح المسعى الجديدُ كلُّه باتجاه (الصفا - المروة)، والقديمُ كلُّه (بعد إعادة بنائه) بالاتجاه الآخر (المروة - الصفا). خاصَّةً وقد ظهرتْ خِلالَ هذه المدةِ فتاوى وبياناتٌ من عددٍ من كبارِ العلماءِ: كالشيخ صالح اللحيدان والشيخ عبدالرحمن البراك والشيخ صالح الفوزان والشيخ عبدالمحسن العباد وغيرهم- وبحوثٌ علميةٌ مؤصَّلةٌ، منها: 1 - (حسنُ المسعى في الردِّ على القولِ المحدثِ في عرضِ المسعى) للشريف محمد الصَّمداني 2 - (كلمةُ حقٍّ في توسعة المسْعى) للدكتور صالح سندي 3 - (السَّعْيُ في المسْعى الجديد) للصادق بن عبدالرحمن الغرياني وهذه الفتاوى والبيانات والبحوث أجْلَتِ الأمرَ، وأظهرت بالأدلةِ الشرعيَّةِ والتاريخيَّةِ واللغويَّةِ أنَّ موضع المسعى الجديد خارج حدودِ الصفا والمروة عرضاً، وردَّت على جميع الشُّبهات التي استند إليها المجوِّزون، وعليه فلا عذرَ لأحدٍ أن يسعى في المسعى الجديد (المُحْدَث) إلا أن يكون عاميٍّا قلَّد غيره فهو على ذمةِ من قلَّده. وأُحِبُّ قبل ذلك أن أذكِّر إخواني المسلمين لاسيما من فريق المانعين، أنَّ ما يجري الآن لا يعدو أن يكون نازلةً، والنوازلُ لا تدوم، فكمْ من نازلةٍ نزلت بالمسلمين ثم رفعها الله عنهم، فظفرَ الصابرون، وكُتب أجرُهم عند الله، وخلَّد ذكرَهم التاريخُ، فنسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يعجِّلَ بالفرجِ ويكشفَ الكَرْبَ، وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (1252) بسنده عن حنظلة الأسلمي قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا) (أي: يقرن بينهما)؛ما يَدِلُّ على أنَّ نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام سينزلُ من السماءِ ويطوفُ ويسعى، ونحنُ على يقينٍ أنه سيسعى في مسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يسعى في مسعًى مُحْدَثٍ خارجَ حدودِ الصفا. ثم ليُعلم أنَّ كثرةَ القائلينَ بالجواز، وتراجع بعض من كان يقول بالمنع، لا ينبغي أن يؤثِّرَ على الحكمِ الشرعي؛ إذ إنَّ مناطَ صحةِ الأحكامِ موافقتُها للأدلةِ من الكتابِ والسُّنةِ وإجماعِ الأمَّةِ، وحيث إنَّه قد ثبتَ تتابع عملِ المسلمين، تبعاً لمنصوصِ علمائهم، قرناً بعد قرن، على أنَّ ما عُرفَ بالمسعى القديم (النبوي)، هو المساحةُ المستغرقةُ لشعيرةِ الصفا والمروة، فلا يسوغ إحداثُ تغييرٍ يأتي على ما استقرَّ في هذه الشعيرةِ بالنقض، إلا بيقينٍ، لاسيما أنه تأيَّد بعددٍ من القواعدِ الشرعيَّةِ؛ فالأصلُ استصحابُ الحالِ، والخروجُ من الخلاف، وطرحُ الشكِّ، ولاسيما في هذه الشعيرةِ التي يتعلَّقُ بها ركنٌ من أركانِ الإسلام، يؤدِّيهِ ملايينُ البشر، وربما جرى عليه عملُ الأجيالِ القادمة. ولهذا فإنَّ القولَ الصَّوابَ المؤيَّدَ بالدليل وأقوالِ العلماء لمن عزمَ على أداء العمرة أن يشترطَ على ربه عند عقدِ الإحرامِ قائلاً: إن حَبَسَنِي حابسٌ فَمَحِلِّي حيث حَبَسْتَنِي، ثم يتجِهُ إلى مكَّةَ ويَشْرَعُ في أداءِ العمرةِ؛ فإن استطاعَ أنْ يُتِمَّ كاملَ سعيهِ في المسعى القديم دونَ أن يُحْدِثَ ضرراً لنفسهِ، أو لغيره، ولم يمنعه أحدٌ من ذلك -وقد تيسَّر هذا لعددٍ من العمَّار- فليتِمَّ عمرتَه والحمد لله، فإنْ لم يستطعِ السعيَ، ولم يستطعِ البقاءَ لوقتٍ يتمكنُ فيه من إتمامِ نُسُكِهِ فهو مُحْصَرٌ حِيلَ بينه وبين إتمامِ النُّسُك، فيتحلَّل من عمرتهِ مجَّاناً لاشتراطهِ، ولا شيء عليه، كما دلَّ عليه حديثُ ضُبَاعَةَبنتِ الزُّبير رضي الله عنها، فإن لم يشترط فعليه دمٌ للإحصار يذبحه قبل أن يتحلَّل، ويوزعه على فقراء الحرم، ثم يحلق أو يقصِّر، هذا كلُّه على القولِ المعروفِ المشهورِ -وهو قولُ الجمهورِ-، وهو أنَّ السَّعيَ ركنٌ، ومن العلماءِ من يرى أنَّ السَّعيَ واجبٌ يسقطُ بالعجزِ، أو يُجبَرُ تركُهُ بدمٍ، لقولِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما المشهورِ، ومن سعى في المسعى الجديد (المُحْدَث) من العامَّةِ، إنْ كان قد أُفْتِيَ بذلك فهو على ذمَّةِ من أفتاه، وإلا فوجود المسعى وسعي جمهورِ الناسِ فيه أبلغُ من الفتوى بالقول، فيعذرُ على كلِّ حال. هذا واللهَ أسألُ أنْ يوفِّق القائمينَ على شؤونِ المسجدِ الحرامِ للحقِّ والصوابِ، وأنْ يشرحَ صدورَهم لما قرَّرتْهُ هيئةُ كبارِ العلماءِ في هذه البلاد، وأن يرفعوا الحرجَ عن كثيرٍ من المسلمين الذين ترجَّحَ لديهم عدمُ جوازِ السَّعيِ في المسعى الجديد. وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم قرأه كاملاً قبل نشره الشيخ عبدالمحسن بن عبدالعزيز العسكر على فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك وقد استحسنه الشيخ وأضاف إضافاتٍ قيمة أفدتُ منها، فجزاه الله خيراً.

من هم أهل الحديث؟

من هم أهل الحديث؟ السؤال: من هم أهل الحديث؟ وهل هناك فرق بينهم وبين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؟ الجواب: أهل الشيء أخص الناس به، ولقد جاء في اللغة: أهل الرجل أخص الناس به. - فأهل الحديث: هم أخص الناس به وأكثرهم تمسكاً به، واتباعاً له قولاً وعملاً في الأخلاق والسلوك والعبادة والمعاملة، وفي الاعتقاد ظاهراً وباطناً، ويدخل فيهم دخولاً أولياً من كان مشتغلاً به سماعاً وجمعاً وكتابةً وتعليماً، رواية ودراية، تصحيحاً وتضعيفاً. - وأهل الحديث هم أهل السنة والجماعة فالحديث هو السنة والجماعة هي الحق ولو كنت وحدك، ومن كان متبعاً للحديث فهو على الحق. - وأهل الحديث هم الفرقة الناجية فمن لم ينج باتباع الحديث فبما ينجو؟! (أحقّ الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) (مجموع الفتاوى 3/ 347). - وأهل الحديث هم الطائفة المنصورة بالحق فمن لم ينتصر بالحديث فبم ينتصر؟! قال الإمام أحمد: عن الطائفة المنصورة: (إن لم يكن هم أصحاب الحديث فما أدري من هم!) (فتح الباري 1/ 85). - وهم الظاهرون على الحق إلى قيام الساعة، فبالحديث ظهروا وبه انتصروا وبسببه نجوا، وهذه كلها ألفاظ ومصطلحات بينها عموم وخصوص أو إطلاق وتقييد، فإذا أطلق أحدها دخل فيه الآخر وأصبح اللفظ دالاً بمفرده على جميع طوائف الفرقة الناجية، وإذا اجتمع لفظ أهل الحديث مع لفظ آخر دلَّ على أن المقصود المشتغلين بالحديث، وهذا ما يفسر إطلاق كثير من السلف لفظ أهل الحديث على المشتغلين به خاصة. قال شيخ الإسلام (رحمه الله): (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه، أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً، واتباعه باطناً وظاهراً) (مجموع الفتاوى4/ 95). ومن هنا يُعلم سرُّ الخلاف بين من فرَّق بين هذه المصطلحات من المنتسبين لأهل الحديث في زماننا هذا وبين من لم يفرق. - و (أهل الحديث هم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف) (مجموع الفتاوى6/ 355). - وأهل الحديث هم أهل النبي وإن ... لم يصحبوا نفسَه، أنفاسه صحبوا - وأهل الحديث هم الذين (التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوه من مظانه، وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وطلبهم لآثاره براً وبحراً وشرقاً وغرباً) (تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص80). المشرف

كتاب الشهر [تعريف وتقييم]

كتاب الشهر [تعريف وتقييم]

كتاب أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة

كتاب أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة للدكتور محمود الرضواني 1 ربيع الثاني 1433هـ (إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية) كتاب هذا الشهر هو كتاب يتناول مسألة من أعظم المسائل وموضوعا من أهم الموضوعات، كتب فيها العلماء قديما وحديثا، وهو أسماء الله الحسنى، فالعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته أشرف العلوم، والكتاب الذي بين أيدينا في مجمله جيد، لكن مع ذلك لم يسلم من بعض المآخذ التي أخذت عليه، وها نحن نعرض الكتاب وأهم الموضوعات التي اشتمل عليها، ثم نثنِّي بذكر أهم هذه المآخذ التي خولف فيها المؤلف. أولاً عرض الكتاب: اشتمل هذا الكتاب على مقدمة وأربعة أبواب، فأما المقدمة فقد اشتملت على أهمية الموضوع، وخطة البحث، وأما أبواب الكتاب الأربعة فهذا تفصيلها: الباب الأول: تمييز الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة. وقد اشتمل على الموضوعات التالية: - أسماء الله الكلية وإحصاء الأسماء الحسنى. - الجمع بين رواية ابن مسعود ورواية أبي هريرة. - ظهور الأسماء الحسنى مرتبط بمقتضى الحكمة الإلهية. - رأي ابن القيم في مقتضى الأسماء الحسنى. ثم تكلم المؤلف عن شروط الإحصاء وجهود المعاصرين في جمع الأسماء، وذكر خمسة شروط، وهي: الشرط الأول: ثبوت النص في القرآن أو صحيح السنة. الشرط الثاني: عَلَمِية الاسم واستيفاء العلامات اللغوية. الشرط الثالث: إطلاق الاسم دون إضافة أو تقييد. الشرط الرابع: دلالة الاسم على الوصف. الشرط الخامس: دلالة الوصف على الكمال المطلق. ثم ختم هذا الباب بمبحث سماه: اللؤلؤة الفضلى في نظم أسماء الله الحسنى. وآخر بعنوان: الأسماء المدرجة في الروايات وتمييزها بشروط الإحصاء. وأما الباب الثاني فعنوانه: الإيمان بأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة. وقد اشتمل على: - منهج السلف في العقيدة وأثره في الإيمان بأسماء الله الحسنى. - موقف السلف ممن عطل دلالة الأسماء على الصفات. - أزلية الأسماء والصفات الإلهية. - القول في مسألة الاسم والمسمى. - دلالة الأسماء على العلمية والوصفية. - جلال أسماء الله الحسنى. - اسم الله الأعظم ودلالته على الصفات. - قصص واهية حول الاسم الأعظم. - الروايات الثابتة في الاسم الأعظم. - دلالة اقتران الأسماء الحسنى على الصفات. - هل الأسماء مشتقة من الصفات أم العكس؟ - أنواع الدلالات وتعلقها بالأسماء والصفات. - موقف المسلم من الأسماء المشهورة التي لم تثبت. وأما الباب الثالث فهو: الدعاء بأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة. وقد اشتمل على: - دعاء المسألة والعبادة لغة واصطلاحا. - المقصود بدعاء المسألة ودعاء العبادة. - دعاء المسألة أعلى أنواع التوسل إلى الله. - أنواع دعاء المسألة وتعلقها بالأسماء الحسنى. - آداب دعاء الله بأسمائه دعاء مسألة. - الشرك في الدعاء والإلحاد في الأسماء. - دعاء العبادة ومقتضى الأسماء الحسنى. - التفاضل والتكامل بين دعاء المسألة ودعاء العبادة. - حكم تسمية العباد بأسماء الله الحسنى. وقد تناول في الباب الرابع: مراتب الإحصاء لكل اسم من الأسماء. والذي اشتمل على دراسة لكل اسم من الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، وقد تضمنت خمسة أمور: - الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه. - شرح الاسم وتفسير معناه. - دلالة الاسم على أوصاف الله. - الدعاء بالاسم دعاء مسألة. - الدعاء بالاسم دعاء عبادة. وفي خاتمة البحث ذكر المؤلف النتائج التي توصل إليها وهي: - النتائج المتعلقة بتمييز الأسماء وكيفية التعرف عليها. - النتائج المتعلقة بشرح الأسماء وتفسير معانيها. - النتائج المتعلقة بدلالة الأسماء على الصفات. - النتائج المتعلقة بدعاء المسألة. - النتائج المتعلقة بدعاء العبادة. - تعقيبات وتعليقات على إحصاء الأسماء الحسنى. أما الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة حسب الضوابط التي وضعها المؤلف، والتي شملتها هذه الدراسة فهي: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَوْلَى النَّصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ الوِتْرُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُّ المُبِينُ القَوِيُّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشَّكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشَّهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشَّاكِرُ المَنانَّ القَادِرُ الخَلاَّقُ المَالِكُ الرَّزَّاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشَّافِي الرِّفيقُ المُعْطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطَّيِّبُ الحَكَمُ الأَكْرَمُ البَرُّ الغَفَّارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِثُ الرَّبُّ الأعْلى الإِلَهُ. وقد رتَّبها المؤلف ترتيباً اجتهاديًّا، حسب اقتران ورودها في النصوص القرآنية والنبوية، وراعى تقارب ألفاظها وسهولة حفظها. ثانياً نقد الكتاب: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وليس موضع النقد في الكتاب هو استخراج هذه الأسماء، والبحث عن الثابت منها، ولكن موضع النقد في الشروط والضوابط التي وضعها المؤلف، والتي خولف في بعضها، وادعائه أن هذه الشروط التي ذكرها في إحصاء الأسماء لا تنطبق إلا على تسعة وتسعين اسمًا فحسب، مع تكلفه في إدخال بعض الأسماء إلى جملة التسعة والتسعين، وفوات إدخال أسماء أخر تنطبق عليها الشروط. وسنقتصر على أهم المؤاخذات التي أخذت على هذا الكتاب: 1 - وقوعه في أخطاء تتعلق بعلم الحديث ومنها: - عدم قبوله للحديث الحسن في باب إثبات الأسماء الحسنى. قال المؤلف:) ولا يعتمد اعتماداً كاملاً على ما ثبت وخف ضبطه كالحسن؛ لأن الحسن على ما ترجَّح عند المحدثين من رواية الصدوق، أو هو ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خف ضبطه قليلاً، عن مثله إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة، ولربما يثير ذلك إنكار البعض، لكنهم لا يختلفون معنا في تطرق الاحتمال إلى ضبط النص، والتيقن منه في لفظ الاسم دون الوصف، ومن ثمَّ لم أعتمد على الحديث الحسن في إحصاء نص الأسماء الحسنى، وإن اعتمدته حجة في إثبات الأوصاف، وشرح معاني الأسماء، وبيان دلالة الاسم على المعنى مطابقة وتضمناً والتزاماً). انتهى. وهذه قاعدة غريبة لم يذكر المؤلف من سبقه بها. لذا يقول شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)): (وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام). - رده للحديث الموقوف الذي له حكم الرفع في إحصاء الأسماء. يقول المؤلف عن اسم الله الأعز: ((أما الأعز؛ فلم يرد مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنه: (رب اغفر وارحم أنت الأعز الأكرم). واعتباره الموقوف في حكم المرفوع عند بعض المحدثين لا يكفي لإثباته، وشأنه في ذلك شأن القراءة الشاذة)) اهـ. فقد ذهب المؤلف إلى أن الحديث الموقوف الذي له حكم الرفع ليس حجة في إثبات الأسماء الحسنى. وهذا قول لا دليل عليه، ولم يسبق إليه، ولا ذكر له سلفاً فيه. وأما قوله: ((وشأنه في ذلك شأن القراءة الشاذة ... )). فإن الحديث الموقوف الذي له حكم الرفع يختلف تماماً عن القراءة الشاذة؛ فالحديث الموقوف الذي له حكم الرفع، حجة ويجب العمل به، أما القراءة الشاذة فقد ذهب جمع من أهل العلم إلى عدم حجيتها. ومع تصريح المؤلف أنه مقلد في تصحيح وتضعيف الأحاديث وخاصة للشيخ لألباني، إذا به يجتهد في قواعد علم الحديث الشريف؛ فلا يحتج بالحديث الحسن، ولا بالحديث الموقوف الذي له حكم الرفع في إثبات الأسماء الحسنى، مع أن الألباني لم يقل بذلك ولم يذكر المؤلف سلفه في ذلك من المحدثين. 2 - اشتراطه في إحصاء أسماء الله الإحاطة بجميع السنة النبوية. يقول المؤلف: (لأن الشرط الأول والأساسي في إحصاء الأسماء الحسنى هو فحص جميع النصوص القرآنية، وجميع ما ورد في السنة النبوية، مما وصل إلينا في المكتبة الإسلامية، وهذا الأمر يتطلب استقصاءً شاملاً لكل اسم ورد في القرآن، وكذلك كل نص ثبت في السنة، ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية، وقراءتها كلمة كلمة للوصول إلى اسم واحد. اهـ. ثم يقول: (وهذا جهد خارج عن قدرة البشر المحدودة وأيامهم المعدودة). وهذا الكلام لا دليل عليه، ولم يشترط أحد من العلماء هذا الشرط. وقد أدى اشتراط المؤلف لهذا الشرط إلى القول بأن مسألة الإحصاء أكبر من طاقة البشر، وخارجة عن قدرتهم المحدودة وأيامهم المعدودة!! ويجاب عن ذلك بأن إحصاء الأسماء الحسنى التسعة والتسعين في وسع كل مؤمن ومقدوره، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رغَّب المؤمنين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى قيام الساعة على إحصائها، مما يدل على أن هذا الإحصاء في طاقتهم وداخل قدرتهم، وهل يرغّب النبي صلى الله عليه وسلم في أمر خارج عن قدرة البشر؟!! ولو كان هذا الإحصاء أكبر من طاقة الإنسان، ولا يستطاع إلا بفرز عشرات الآلاف من الأحاديث، واستخدام الحاسب الآلي، لم يكن لهذا الحديث فائدة بدون الحاسب الآلي، ولقصرت فائدة هذا الحديث على هذا العصر، أو على المؤلف خاصة، وهذا مردود. ثم إن أحكام الشريعة لا تتوقف على شيء من العلوم الكونية والاكتشافات العلمية، كالحاسب الآلي وغيره. فأحكام الشريعة يستوي في إمكانية معرفتها، والقيام بها جمهور الناس، وهذا مقتضى شمولية دعوة الإسلام لجميع البشر. وهل يُظن أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من أهل القرون الثلاثة الأولى المفضلة لم يستطيعوا إحصاء الأسماء التسعة والتسعين؛ لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم؟! وهل نفهم من ذلك أن الله عز وجل قد حَرَمَ السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم من هذه الفضيلة وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)). فهم خير الناس علمًا وعملًا. وأما قوله: ((ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية وقراءتها كلمة كلمة للوصول إلى اسم واحد ... )). فهذا حجة عليه؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك، فكثير من السلف الصالح والعلماء المتقدمين كانوا يحفظون أضعاف أضعاف هذا العدد من الأحاديث، فإحصاء الأسماء الحسنى أيسر عليهم بكثير. فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول عنه أبو زرعة الرازي: (كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث. فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب) وحفظهم السنة بأسانيدها شيء عجيب، يطول المقام بذكره. فإذا تبين أن الأئمة المتقدمين كانوا يحفظون مئات الآلاف من الأحاديث النبوية والآثار السلفية، تقرر أنهم كانوا أوسع إحاطة

إحياء علوم الدين

إحياء علوم الدين كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي كتاب (إحياء علوم الدين) من الكتب التي لقيت عناية كبيرة لدى أهل العلم، فهو كتاب جامع في الأخلاق والسلوك والمواعظ، ومؤلفه أبو حامد محمد الطوسي الغزالي المتوفي سنة (505هـ) الإمام صاحب التصانيف الكثيرة في كثير من الفنون: الفقه، والأصول، والفلسفة، والكلام، والتصوف. وكتابه (إحياء علوم الدين) تباينت تجاهه الآراء، فمدحه قوم حتى غلو في مدحه، وقالوا: (من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء). وذمه قوم حتى أفتوا بحرقه ومنعه. وسبب الاختلاف في كتاب (الإحياء) أن فيه نفعاً كثيراً، وفيه من الطامات والبلايا ما يمنع من قراءته، إلا ممن له خبرة ودراية بعقائد الصوفية والحلولية والفلاسفة، ممن تحصن بعقيدة السلف الصالح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًّا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبى حامد هذا في كتبه، وقالوا: مَرَّضَهُ (الشفاء) - يعنى شفاء ابن سينا في الفلسفة- وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترَّهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب، الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب، ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يردُّ منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه). انتهى. (مجموع الفتاوى) (10/ 551). وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (19/ 339): (أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب، ورسوم، وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علما نافعاً). ومما يؤخذ على الكتاب أيضاً ذكره لبعض شطحات المتصوفة وأغاليطهم, كما أنه يتضمن بعض المخالفات في العقائد والعبادات والأخلاق. وقد اختصره غير واحد من أهل العلم حرصاً على أن يستفاد مما فيه من خير بحذف ما سواه، ومنهم ابن الجوزي الذي حذف الأحاديث الموضوعة والواهية، وعمد إلى ما لا طائل من ورائه مما احتوى على بعض المخالفات، فحذفه، وسمى كتابه (منهاج القاصدين) وقال في مقدمته: (فاعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء وأقلها الأحاديث الموضوعة، والموقوفة قد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها .... ) ثم يقول: (وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه، وندب إلى العمل به ما لا حاصل له، من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد إلى غير ذلك .... ). ثم قال: (وسأكتب لك كتابا يخلو عن مفاسده ولا يخل بفوائده). انتهى. ثم اختصر المقدسي (منهاج القاصدين) هذا في كتابه (مختصر منهاج القاصدين)، وهناك مختصرات أخرى. ولسنا بصدد الكلام عن الكتاب نفسه، فقد تكلم عنه العلماء قديماً وحديثاً، وسبق ذكر طرف من كلامهم، ويمكن الرجوع لكتاب (وقفات مع كتاب إحياء علوم الدين) للشيخ عبد الرحمن دمشقيه، ففيه تفصيل لمن أراد الاستزادة. وإنما الذي يعنينا هو الكلام عن إحدى طبعات الكتاب التي ظهرت مؤخراً، بمناسبة مرور تسعمائة سنة على وفاة الغزالي رحمه الله، والتي استغرق العمل فيها سبع سنين متواصلة، وهي طبعة دار المنهاج بجدة، والتي قام بتحقيقها وضبطها وتوثيقها ومراجعتها لجنة علمية بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي، وتعتبر هذه الطبعة من أفضل طبعات الكتاب إن لم تكن أفضلها, فهي محقَّقة على نحو عشرين نسخة خطية, مضبوطة بالحركات الإعرابية, معزوة الأقوال والنصوص المنقولة, مخرجة الأحاديث والآثار، مع شرح بعض الكلمات الغريبة الغامضة، ووقعت هذه الطبعة في عشرة مجلدات، طبعت طباعة فاخرة ملونة، وأخرجت إخراجاً فنيًّا جيدًا، أُفْرِدَ مجلد كامل من الكتاب بمقدمات، تبيِّن منهج المحققين في تحقيق الكتاب، وسيرهم في إخراجه, مع إضافة كتابين آخرين في المقدمة هما: ((الإملاء على مشكل الإحياء)) للغزالي، وتم تحقيقه على سبع نسخ خطية، وكتاب ((تعريف الأحياء بفضائل الإحياء)) للعيدروس وتم تحقيقه على ثلاث نسخ خطية. ويؤخذ على هذه الطبعة عدة أمور منها: - عدم الإشارة في المقدمة إلى ما وقع في الكتاب من مخالفات، والإطناب في عبارات المدح والثناء على الكتاب، والاكتفاء من كلام العلماء بما يدل على فضله ومكانته، دون ما وُجِّه إليه من نقد، ليس ذلك فقط بل مهاجمة من انتقد كتاب (الإحياء). ولا شك أن الغزالي له مكانة ومنزلة لا تخفى على أحد، ولا يمنع ذلك من بيان ما وقع فيه من أخطاء ومخالفات، لاسيما إذا كانت تتعلق بالعقيدة والمنهج، فمن ذا الذي ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط، واللجنة العلمية التي حققت الكتاب تكلفت في رد ما استدرك على المؤلف، حتى مما اتفق عليه جمع من العلماء، ومما صرح به هو نفسه، من قلة بضاعته في علم الحديث، حيث قال: (بضاعتي في علم الحديث مزجاة). لذا شُحِن كتابه بالضعيف والموضوع، لكن في المقدمة حصل التكلف في حمل كلامه السابق على التواضع، وعلى أن الصحيح أضعاف أضعاف الضعيف، وأنه (تسربت بعض الأحاديث الضعيفة وقليل جدًّا دونها في فضائل الأعمال) ويكفي في رد هذا الكلام أن يطالعوا ما ذكره السبكي من الأحاديث التي لم يجد لها إسنادا فقط دون ذكر الموضوع أو الضعيف، ثم ما ذَكَرَتْه اللجنة في المقدمة في ترجمته أن خاتمة أمره كانت بإقباله على الحديث النبوي كالبخاري ومسلم وغيرهما. - عدم التعليق على الأحاديث والتي منها الضعيف والموضوع إلا أحيانا، معتمدين على كتاب العراقي واستدراكات ابن السبكي والزبيدي. ومن الأحاديث التي تركوا بيان ضعفها- على سبيل المثال- الأحاديث التي سردها الغزالي في العقل، ومنها حديث ((ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل))، وحديث ((إذا تقرب الناس بأبواب البر والأعمال الصالحة فتقرب أنت بعقلك)). وذكر بعدهما أحاديث أخرى في العقل، واكتفى المحققون فيها بالعزو فقط دون إشارة إلى ضعفها بل وضعها، مع أن أحاديث العقل كلها كذب، لا يصح منها شيء، كما قرر ذلك غير واحد من أهل العلم، قال ابن القيم: (أحاديث العقل كلها كذب). ثم إنه قد تمت الإشارة في المقدمة أنه سيتم الاعتماد على كتاب العراقي، فأين أحكام العراقي على هذه الأحاديث بالضعف، ولماذا لم تنقل؟ وهل يكفي فقط تخريج الحديث بعزوه دون بيان حكمه؟ وكأنهم خشوا لو فعلوا ذلك لظهر للقارئ كمُّ الأحاديث الضعيفة في (الإحياء). - ترك التنبيه على المخالفات العقدية والسلوكية وعدم التعليق عليها، وأحيانا يُعلَّق عليها بما يؤيدها. ونذكر على سبيل المثال: تأويل الغزالي لبعض الصفات، كما في الاستواء على العرش، قال الغزالي بعد أن نزه الله عن اختصاصه بالجهات، ومنها جهة العلو، يقول (1/ 392): (ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذيا له، وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر، وكل ذلك يحوج إلى مقدر، ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبر. فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء، وفيه أيضا إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء، تنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء، فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء). فيعلق المحققون بقولهم: (وانظر للمؤلف رحمه الله لطيفة في سر التوجه بالدعاء إلى السماء في (الاقتصاد) (ص 114)، وسبب اختيار المصنف لصفة القهر والاستيلاء بالذات كون هذه الصفة محكية في كتاب الله بحقه سبحانه، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]. وقال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. ثم يقول الغزالي عن صفة الاستواء (1/ 392): (العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراده تعالى بالاستواء، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث، وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ***** من غير سيف ودم مهراق. ويعلق المحققون على قوله: (بطريق القهر والاستيلاء) (1/ 392) بما يؤيد هذا القول، فيقولون: (كما قال المؤلف في (الاقتصاد) (ص 126)، ولذلك قال بعض السلف وهو سفيان الثوري: أفهم من قوله {استوى على العرش} ما فُهم من قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان}. ولما ذكر الإمام الغزالي حديث استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه والاستغفار لها، فأذن له بالزيارة، ولم يؤذن له في الاستغفار، علَّق المحققون بقولهم (9/ 442) في حاشية (1): (وقد ألف العلماء الكثير من المصنفات في تحقيق نجاة الأبوين الكريمين، ونجاة آباء المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين ماتوا في فترة الجاهلية، ولم تبلغهم الدعوة، وأثبتوا أنهم من أهل الجنة، وأقاموا على ذلك الأدلة الناصعة والبراهين الساطعة، فلتراجع). إذاً فهل أخطأ الغزالي عندما أورد هذا الحديث، ولطالما نافح عنه المحققون، مع الإيهام أن مسألة النجاة عليها من الأدلة الناصعة والبراهين الساطعة، والعجيب أن المحققين لم يقتصروا على نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل ذهبوا إلى نجاة آباء النبي صلى الله عليه وسلم الذين ماتوا في الجاهلية، ولا شك أن معتمدهم في ذلك الأحاديث الضعيفة المخالفة لما ورد في الصحيح، من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبي وأباك في النار). وحديث عدم الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه. وقد بوب النووي في شرحه لصحيح مسلم (باب: بيان أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تناله شفاعته، ولا تنفعه قرابة المقربين) وذكر تحته حديث (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) يقول الحافظ ابن كثير: (وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصمَّ يمتحنون في العرصات يوم القيامة؛ لأنه سيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء- أي الذين أخبر عنهم النبي- من جملة من لا يجيب، فلا منافاة) (البداية والنهاية) (2/ 342). بل نقل الملا علي القاري الإجماع على عدم نجاتهما في رسالة (أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام) (ص84) فقال: (وأما الإجماع فقد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك، من غير إظهار خلافٍ لما هُنالك، والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق، سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق). فهذه نماذج تبين المنهج الذي سلكه المحققون في تحقيق الكتاب، وأنه منهج خالف مذهب أهل السنة والجماعة، لا بالسكوت عن المخالفات التي وقع فيها الغزالي رحمه الله وعدم التعليق عليها فحسب، بل أيضاً بتقرير ما يذهب إليه وتأييده، فينبغي قراءة هذه الطبعة بحذر، والاستعانة بأحد الكتب التي بينت ما وقع في الكتاب من مآخذ، ولا ينصح بها للمبتدئين الذين لم يتمكنوا من معرفة عقيدة أهل السنة والجماعة، وشبهات المتكلمين، ومخالفات الصوفية، بل ينصحون باقتناء أحد مختصرات

مشاهد من المقاصد

مشاهد من المقاصد للشيخ عبد الله بن الشيخ محفوظ بن بيه عرض ونقد (إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية) كتاب هذا الشهر يتناول موضوعاً مهمًّا، وهو علم المقاصد، ويعتبر هذا الكتاب مكملًا لكتاب المؤلف ((أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات)). وأصل هذا الكتاب محاضرة ألقاها المؤلف بمكة المكرمة، نظمها مركز مقاصد الشريعة الإسلامية، وقصد به المؤلف التعريف بعلم المقاصد ومسيرة تشكُّله. وسماه المؤلف ((مشاهد من المقاصد))؛ لأنه لم يستوعب كل المقاصد، وسوف نعرض لأهم محتويات هذا الكتاب، وأهم المآخذ عليه. عرض الكتاب: يتكون هذا الكتاب من مدخل وستة فصول. الفصل الأول: تعريف المقاصد وخصصه المؤلف للكلام عن المقاصد، مبيناً أصلها اللغوي، ومعانيها التي تدور عليها في اللغة، ثم ذكر تصرفات (قَصَدَ) المستعملة في هذا الباب، وهي أربعة ألفاظ، وقد اشتمل هذا المبحث على فوائد لغوية. ثم انتقل إلى تعريف المقاصد في الاصطلاح بين الفقهاء والأصوليين، مع ذكر عبارات العلماء المختلفة والتعليق عليها، وعَقْد المقارنات بينها. لينتهي بعد ذلك إلى تعريف مختار للمقاصد. الفصل الثاني: مسيرة العمل والتعامل مع المقاصد وفيه تناول المؤلف فهم السلف لدعوة القرآن إلى كشف مقاصد الشريعة، واستشفاف حكمها، وتجلَّي ذلك في فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نماذج للصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم التابعين، ومن بعدهم من أئمة المذاهب. الفصل الثالث: المصلحة بين العقل والنقل وتناول من خلاله مسألة هل المصلحة التي تبنى عليها الأحكام عقلية أم شرعية، وتحدث عن دوران الشريعة بين معقولية المعنى والتعبد، والتجاذب بين الكلي والجزئي. الفصل الرابع: أصناف المقاصد بيَّنَ فيه المقاصد العامة التي ترجع إليها الشريعة والمقاصد الخاصة والمقاصد الجزئية والمقاصد الكبرى، وذكر معيار الانتماء إلى المقصد الضروري، وتذبذب الانتماء لبعض القضايا بين الضروري والحاجي. الفصل الخامس: استنباط المقاصد واستخراجها ومعناه الكيفية التي يتوصل بها إلى الحكم بأن مقصد الشارع من أمر أو نهي أو أي خطاب فيه أو فعل المعصوم أو تقريره، وتطرَّق إلى قضية (بدعة الترك) على حد تعبيره، وأطال فيها الكلام. الفصل السادس: الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها ومما تناوله في هذا الفصل الضوابط الخمسة المراعاة في التعامل مع المقاصد، ومجالات الاستنجاد بالمقاصد، ليختم بالكلام عن فقه الأقليات. نقد الكتاب: يؤخذ على هذا الكتاب عددٌ من المؤاخذات، وهي وإن كان بعضها ليس من صلب موضوع المقاصد، لكن لها دلالات على المنهج الذي سلكه المؤلف، والذي وظَّف من أجله موضوع المقاصد، وسنقتصر الحديث هنا عن مسألتين فقط. الأولى: مسألة الاستغاثة وأنها مسألة خلافية. يقول المؤلف - عفا الله عنه- ص 113: (فإن الاستسقاء عند القبر النبوي الشريف بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ (استسق) لنا يعتبر بدعة فاحشة [يعني عند من يرى بدعة الترك] أوصلها بعضهم إلى الكفر، مع ورود أثر عن فعل شخص له إما صحابي أو تابعي، وإبلاغ ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم ينكره). ثم ساق ما أخرجه ابن أبي شيبة بسنده عن مالك الدار قال: (وكان خازن عمر على الطعام، قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مسقيون، وقل له: عليك الكيس، عليك الكيس. فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه. وأخرجه البيهقي وصححه الحافظان ابن حجر في ((الفتح)) وابن كثير في ((البداية والنهاية)). وقد نازعوا بعضهم في عنعنة الأعمش بما هو معروف من الخلاف عند المحدثين في عنعنة المدلس إذا لم يكن غالبا عليه والأعمش ضابط لغلبة موافقة حديثه للضابطين ... وقالوا: إنه لو صح فإن ما فهم من أصول العقيدة ينفيه وإن الصحابة ما فعلوه وهنا يكون الإشكال بين المدرستين في ضبط ترك السلف وفي فهم ما هو عبادة لا تصرف إلا لله، وفي استعمال المجاز في الإسناد كقول عمر للنبي عليه الصلاة والسلام: هلا أمتعتنا بعامر كما في ((صحيح مسلم)) وذلك حين ترحم النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الأكوع ففهم عمر من ذلك الإشارة إلى موت عامر فقال تلك المقالة وهي في ظاهرها طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقي عامرا حيًّا وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله وما رأى عليه الصلاة والسلام ذلك منكرا فالنسب والإضافات والنوايا والطوايا هي التي تحكم في كلام الناس، ولعل الاختلاف هنا يرجع إلى مسألة الدعاء ومفهومه، بين ما يكون عبادة إذا وُجِّه إلى الباري جل وعلا، وبين ما يكون نداء إذا وُجِّه إلى غيره {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ومفهوم حياته عليه الصلاة والسلام في البرزخ بين حديث (حياتي خير لكم ... ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم .... ) وهو يدل على استمرار صلته بأمته وبين حديث الحوض الصحيح: (ما تدري ما أحدثوا بعدك) مما يفهم منه أنه عليه الصلاة والسلام لم تعد له علاقة بعالم الدنيا إلى غير ذلك من البناء العقدي الذي نشأ عنه في القرنين السابع والثامن خلاف شديد يراجع في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام السبكي وغيرهما، وعلى ذلك يحمل كثير من الآثار التي وردت كقصة الأعرابي عند محمد بن عبد الله العتبي .... وحكايات أخرى كثيرة). ثم يقول ص 119: (فلو منعت سدًّا للذريعة لما كان ذلك بعيدا حتى لا يقع العوام الذين يخفى عليهم، أما التكفير فهذا أمر فيه صعوبة كبيرة؛ لقيام هذه الاحتمالات، فلا يكفر إلا من اعتقد أن للشخص المستغاث به قدرة مستقلة عن قدرة الله تعالى وإرادة مستقلة عن قدره). والجواب: أنه لا شك أن مسألة الاستغاثة من المسائل الكبيرة، وذلك لما يترتب عليها من مفاسد خطيرة، وعلى رأسها فتح باب الشرك بالله تعالى، والمؤلف يرى جواز الاستغاثة بغير الله من حيث الأصل ويميل إلى منعها سداً للذريعة، وفي عرضه للمسألة تهوين من أمرها، وكأن المسألة من المسائل الاجتهادية التي يسع فيها الخلاف. أما الأثر الذي نقله عن استسقاء الرجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وإقرار عمر له ونقل تصحيح ابن حجر وابن كثير له والاعتراض عليه بعنعنة الأعمش وأن ذلك لا يضر، فالرد عليه من عدة أوجه: 1 - في السند جهالة مالك الدار المذكور. 2 - تفرد مالك الدار المجهول به، رغم جسامة الحادثة وشدتها. 3 - أن فيه ذكوان أبا صالح، ولا يعلم سماعه من مالك. 4 - مخالفة الأثر لأصول العقيدة وقد أشار هو أيضا إلى ذلك. 5 - أنه منكر لمخالفته ما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء. 6 - أنه يخالف ما اشتهر وتواتر عن الصحابة والتابعين من ترك الاستغاثة بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأموات عند نزول النوازل واشتداد القحط وغير ذلك، بل كانوا يرجعون إلى الله بالعبادة والتوبة ويستغفرونه، قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]. وهذا عمر يتوسل بدعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه ان أن يدعو الله ويستسقي لهم، ومثله معاوية مع أبي يزيد الجرشي. 7 - أما نقله لتصحيح ابن كثير وابن حجر له، فأما ابن حجر فقد قال: (بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار ... ) اهـ ومعنى هذا أن الحافظ صحح سنده إلى أبي صالح السمان، وهذا لا يمنع تعليله بجهالة مالك الدار وتفرده ولا بالانقطاع بينه وبين ذكوان. وأما تصحيح ابن كثير لسنده فلا يلزم منه تصحيح الحديث، وكل يؤخذ من قوله ويترك. وهناك ردود أخرى تُبطل الاستدلال بهذا الحديث على فرض ثبوته أعرضنا عنها اختصارًا. وأما قوله: (فلا يكفر إلا من اعتقد أن للشخص المستغاث به قدرة مستقلة عن قدرة الله تعالى وإرادة مستقلة عن قدره). فنقول: إن القرآن لما كشف حال العرب أعلم أنهم لم يكن شركهم إلا بقصد التسبب لا الاستقلالية، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، أي: وما يؤمن أكثرهم بأن الله هو خالقهم والمحي المميت، والذي يجير ولا يجار عليه إلا وهم مشركون به في اتخاذ الأصنام وسائط، وسبباً لتحصيل مقصودهم فيما يزعمون. فالكفر لا يقتصر على اعتقاد تأثيرهم استقلالاً، بل أيضا اعتقاد أن الله أعطاهم تصرفات في أمور الكون، أو أنهم أبواب حاجة إلى الله وشفعاؤه ووسائله، قال الله تعالى عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وقال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] مما يدل على أنهم لم يعتقدوا استقلاليتهم. وأمَّا مسألة استعمال المجاز في الإسناد، فينبغي أن نعلم أن تخريج أقوال عباد القبور المستغيثين بالموتى، الداعين إياهم ليشفعوا لهم عند ربهم - على المجاز العقلي منكر كبير، مخالف لحقيقة حالهم، ويترتب على هذا القول السيئ إلغاء أقوال الفقهاء في باب حكم المرتد؛ إذ كل من صدر منه قول شركي وكفري سيخرج من عهدته بالمجاز العقلي. والكلام في هذا الباب كثير، ودحض الشبهات التي عرضها المؤلف على أنها أدلة لأصحابها يطول، لذا نكتفي بهذا القدر. الثانية: التوسع في إعمال المقاصد والأخذ بها على حساب النصوص الصريحة، والأخذ بشواذ المسائل، وضعاف الأقوال بدعوى مراعاة المقاصد. - فالمؤلف يقرر (ص 175) أنه يمكن اختيار الأقوال المناسبة التي تحقق المقاصد الشرعية ولو كانت مهجورة، ما دامت نسبتها صحيحة، وصادرة عن ثقة، ودعت إليها حاجة. ويطبق هذه المعايير على الرمي قبل الزوال، فيجيز الرمي قبل الزوال؛ لكثرة الحجاج والزحام مع هلاك الأنفس وتضاعف المشقة، والمقصد هو المحافظة على الأنفس والتيسير، ويقول: (النتيجة القول المرجوح جعله المقصد الشرعي راجحاً ومتعيناً، فيجوز الرمي قبل الزوال). - قدم في فقه الأقليات كما في (ص 185) مسألة جواز بقاء المرأة التي أسلمت مع زوجها حتى وإن بقي على كفره، وهو قرار المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء خلافا للمجامع الفقهية الأخرى. - قال: (والقائمة طويلة، منها: اشتراء بيوت في الغرب بقروض من البنوك اعتماداً على مذهب أبي حنيفة والنخعي، وهناك قضايا جديدة أخرى من أنواع المعاملات وجواز تهنئة غير المسلمين وعيادتهم وتعزيتهم، اعتماداً على الرواية الثالثة في مذهب الإمام أحمد والتي أيدها ابن تيمية للمصلحة كما في الإنصاف للمرداوي. ولهذا فإني أدعو إلى مراجعة الفتاوى وضبطها بمعيار ثلاثي الأضلاع يقوم على فحص الواقع لوزن المشقة والحاجة التي تطبعه وتقويم العناصر المستحدثة ثم البحث عن حكم من خلال النص الجزئي الذي ينطبق عليه إذا وجد مع فحص درجته ومرتبة حكمه ثم إبراز المقصد الشرعي كليا أو عاما كقصد التيسير مثلا أو خاصا بالباب

كتاب "الدين والسياسة تمييز لا فصل"

كتاب "الدين والسياسة تمييز لا فصل" للدكتور سعد الدين العثماني عرض ونقد (إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية) كتاب "الدين والسياسة تمييز لا فصل" هو واحد من الكتب المهمة في الساحة الشرعية السياسية، التي حاول من خلالها مؤلفها تقديم وجهة نظر شرعية أصولية لسؤال العلاقة بين الدين والسياسة، ويمتاز الكتاب بلغته السهلة والواضحة والمباشرة، مما يوسع من دائرة انتشاره وسهولة تناول أفكاره. والكتاب عبارة عن خمسة مقالات سبق وأن تم نشرها في الصحافة وعلى شبكة الإنترنت، إضافة إلى مقالة زائدة قدَّمها المؤلف لقرائه في خاتمة الكتاب، والكتاب من تأليف الدكتور "سعد الدين العثماني" والذي يحتل عدداً من المواقع السياسية في المشهد المغربي فهو الأمين السابق لحزب العدالة والتنمية المغربي سابقاً، ورئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية حالياً، ونائب رئيس مجلس النواب للولاية التشريعية كذلك، والدكتور متخصص في الطب النفسي، إضافةً إلى حصوله على عدد من الشهادات في مجال علوم الشريعة، والكتاب بأفكاره يمثل مسألة شديدة الحضور في خطاب الدكتور العثماني، فقد حصل على درجة الماجستير في أصول الفقه ببحث (تصرفات الرسول صلى الله عليه بالإمامة وتطبيقاتها الأصولية)، وله بحث منشور بعنوان (تصرفات الرسول بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية) إضافة إلى عدد من المحاضرات والندوات وبعض المشاركات الفضائية التي تصب جميعاً في هذه المسألة. عرض الكتاب: الكتاب كما سبق عبارة عن ستة مقالات، وهي على النحو التالي: - المقالة الأولى: تصرفات الرسول بالإمامة أو طبيعة الممارسة السياسية في الإسلام: وهي تبحث في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم السياسية في محاولة لتمييزها عن تصرفاته الدينية، قدَّم لها بجملة من التنويهات الأولية حول واقع الحركات الإسلامية، ليدخل بعدها لبحث التصرفات النبوية وأنواعها، فقسمها إلى: - تصرفات تشريعية. - وتصرفات غير تشريعية. وجعل تحت كل قسمٍ تقاسيم وأنواعاً، ليبني عليها حكم تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى إمامته، والذي جعل له أربع سمات: 1 - تصرفات تشريعية خاصة: فهي تصرفات مرتبطة بتدبير الواقع وسياسة المجتمع، وهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها، فليس لها صفة الشرع الملزم إلى يوم القيامة. 2 - تصرفات مرتبطة بالمصلحة العامة: فتصرفاته صلى الله عليه وسلم يراد منها تحقيق المصالح العامة وتنميتها وتكثيرها. 3 - تصرفات اجتهادية: فهي تصرفات ناشئة عن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه إماماً وقائداً، لا باعتباره نبيًّا يصدر عن الوحي. 4 - تصرفات في أمور غير دينية: وقد بيَّن المؤلف أن الدين له إطلاقان: إطلاق عام يشمل سائر تصرفات المكلف، وإطلاق خاص في مقابل الدنيا، ومقصوده بالدينية في هذه السمة إنما هو معنى الدين الخاص، ليجعل من سمات التصرف النبوي بوصف الإمامة أنها تعمل في مجال الدنيا لتحقيق مصالحها لا في مجالا الدين. بعد ذلك بحث المؤلف على نحو مختصر عدداً من المسائل أهمها: - الدولة في الإسلام دولة مدنية. -وثيقة المدينة: أول دستور للمواطنة في الإسلام. -خلاصات في قضايا الإصلاح السياسي. -المرجعية الإسلامية. -تصور حزب العدالة والتمنية في المغرب. المقالة الثانية: التصرفات النبوية الإرشادية سمات ونماذج تكلم فيها عن عطاءات العلماء في تمييز مقامات التصرف النبوي، ثم فصل الكلام على تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم الإرشادية، وهي كما عبر: (التي ترشد إلى الأفضل من منافع الدنيا خاصة)، وضرب لهذا النوع جملة من الأمثلة على نحو مفصل، وبحث المسألة من كلام الأصوليين، وحدَّد لهذه التصرفات أربع سمات وهي: 1 - أنها مطلوبة لمصالح الدنيا لا لمصالح الآخرة. 2 - أنه لا قربة فيها ولا ثواب من جهة الأصل، إلا أن تكون على وجه الاتباع. 3 - أنه لا حرج في عدم الامتثال لها. 4 - أنها لا تسمى سنة بالمعنى الذي استعمله الصحابة والعلماء في القرون الخمسة الأولى. المقالة الثالثة: الدين والسياسة تمييز لا فصل وهي المقالة التي اكتسب الكتاب عنوانه من عنوانها، وهي المحاولة التي قدَّمها المؤلف لبحث الصلة بين الديني والسياسي، ففصل الكلام حول معنى الدين وإطلاقاته في الكتاب والسنة، وخلص إلى أن له اطلاقين: - عام يشمل مختلف أوجه نشاط المسلم. - خاص وهو التعبدي من الدين مقابل العادات أو الدنيا. ثم بحث مسألة التمييز بين الدين والدنيا في نصوص العلماء، وعرض لنماذج من التجربة التاريخية الإسلامية، ليخلص بعد ذلك إلى تمايز الدين والسياسة كجواب على سؤال صلة الدين بالسياسة، فلا هو اتصال به بإطلاق، ولا هو منفصل عنه بل هو متمايز عنه، وهذه المقالة تشترك مع المقالتين السابقتين في عدد من النقاط. - المقالة الرابعة: حزب العدالة والتنمية تفاعل خطابي الهوية والتدبير: ويحاول أن يبين علاقة الحزب بالمرجعية الإسلامية، فابتدأ الكلام عن جذور تجربة الحزب، وبيَّن طبيعة عمله، وأنه ليس حركة دينية ولا دعوية، بل هو حزب سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية، ثم فصل الكلام عن معنى هذه المرجعية وتطبيقاتها في الواقع على: - مستوى البرنامج السياسي. - مستوى الخطاب. - مستوى الشعارات المرفوعة. - العضوية والشروط. - برامج التكوين. - في العلاقة مع المواطنين والناخبين. المقالة الخامسة: حزب العدالة والتنمية بين الهوية والمرجعية: وهي مقالة مختصرة لتقديم جملة من الإجابات على بعض الإشكالات التي خلَّفها المقال السابق، وتدور تلك الإشكالات كما بيَّن المؤلف على أمرين: - أن الطرح تشبث بثنائية مزعومة بين الهوية والتدبير. - أن الحزب بدون الدفاع عن قضايا الهوية يناقض منطلقاته، وسيفقده الكثير. ويدور جواب المؤلف على ضرورة التمييز بين الهوية والمرجعية. المقالة السادسة: تمييز الديني والسياسي عند الأستاذ محمد عبده: وهي مقالة تنزل فكرة مقالة "الدين والسياسة تمييز لا فصل" على مشروع محمد عبده الفكري السياسي، ابتدأه بالتعريف بمحمد عبده وسياقه الزمني، ثم فصَّل الكلام على مفردات الفكر السياسي لدى محمد عبده، مبرزاً فكرة التمييز بين مقام الدين والسياسة من خلال فكره في جملة من المفردات والتطبيقات أهمها: - نفي وجود السلطة الدينية في الإسلام. - الحاكم في الإسلام حاكم مدني. - الوظائف الدينية ليست سلطات تمارس على الناس. - التمييز بين الرابطة الدينية والعقدية والرابطة السياسية. - عدم وجود شكل محدد لممارسة الحكم في الإسلام. - رفض استبداد الحكام، وطلب تقييد تصرفاتهم بالقانون. النقد: الكتاب وأفكاره جديرة بمناقشة مفصلة خصوصاً وأن كثيراً منها يراد أن يكون موضع التفعيل في الساحة السياسية مع التغيرات التي هبت على الوطن العربي بثوراته الأخيرة، وهذه بعض الملاحظات المختصرة على شيء مما اشتمل عليه الكتاب من ملاحظات: العلمانية بمفاهيم أصولية: أخطر ما في الكتاب أنه يجسر الهوة بين الإسلام والعلمانية، ويفتح الباب لقارع العلمانية للولوج للحياة السياسية بوجه شرعي، ويقدم الغطاء الشرعي الأصولي اللازم للخطاب العلماني، ففي علاقة الدين بالسياسة مستويان من الشريعة الملزمة: - القيم العامة مثل العدل، الصدق، الوفاء .. الخ. - والأحكام الجزئية التفصيلية مثل إقامة الصلاة، تحريم الربا، إقامة الحدود .. الخ. فعلى مستوى القيم الإسلامية العامة لا توجد مشكلة حقيقية لدى أكثر العلمانيين معها، بل هم يؤكدون دوماً على عظمة الجوهر الأخلاقي في الإسلام، وإنما أزمة العلمانية مع الإسلام غالباً ما تكون على مستوى إلزامية الأحكام الجزئية على المستوى التشريعي والقانوني، فهل هذه التشريعات ملزمة للسياسي؟ أم هي أحكام تاريخية مربوطة بظروفها المكانية والزمانية؟ أم هي مرتهنة بالمصلحة تتحرك وفقها بحسب ما يراه السياسي؟ فالعلمانيون يدعون إلى رفع الإلزامية التشريعية القانونية للأحكام القرآنية والنبوية، وهو حقيقة مفهوم (فصل الدين عن الدولة)، بخلاف الإسلاميين الذين يرون وجوب هيمنة الأحكام الشرعية على النظام السياسي، وأن هذه الأحكام لها صفة الإلزامية التي يجب على الدولة رعايتها، والإلزام بها في الواقع. فما ورد به النص من شأن السياسة فهو في دائرة الملزم شرعاً، وما لم يرد به النص فهو مجال اجتهاد السياسي المرهون بالمصلحة المعتبرة، فالتصرف على الرعية منوط بالمصلحة. هذا التمهيد ضروري جدًّا لمعرفة موقع الدكتور سعد الدين العثماني من هذه القضايا، فأما على: - مستوى القيم الدينية العامة فالدكتور يصرح بأن (الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية) ص32، وكرَّر العبارة نفسها ص113. - أما على مستوى الأحكام الشرعية التفصيلية المتعلقة بالمجال السياسي فهي عند الدكتور خارج دائرة الإلزام فهو يقول: (ومن جهة أولى لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض قانون على المجتمع. وإذا كان الإسلام يقرر أن {لا إكراه في الدين}، والذي يعني أن الإيمان نفسه لا يجوز إكراه أي كان عليه، فمن باب أولى أن ينطبق الأمر على ما دون الإيمان في شعائر الإيمان وشرائعه. ومن جهة ثانية فإن إيمان المؤمن بوجوب أمر ديني عليه لا يعطيه الحق بفرضه على الآخرين، فهو مكلف به ديناً. وذلك لا يكفي لجعله قانوناً عامًّا في المجتمع، بل عليه أن يحاول إقناع الآخرين به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية، فلا يمكن أن تعطى سلطة أو يعطى حاكم حق فرض أحكام على الناس بأي مسمى كان) ص40. ويقول متحدثاً عن مهمة الدولة: (ليس من مهمة الدولة أو أي جهة سياسية التدخل في شؤون اعتقاد الناس، وفرض تصورات أو اجتهادات دينية معينة عليهم، بل مهمتها تدبير الشأن العام في إطار نظام القيم العامة للمجتمع) ص41. فدائرة الفرض والإلزام متعلقة بدائرة القيم العامة دون التفاصيل التشريعية، وإنما تدخل هذه حيز الإلزام بالإرادة الشعبية، وفق آليات الديمقراطية التي يقع عليها توافق اجتماعي. هذا التصور الذي طرحه الدكتور لعلاقة الديني بالسياسي يتقاطع بشكل كبير مع كثير من الأطروحات العلمانية، الأمر الذي لفت نظر بعض الكتاب حتى وصفه أحدهم بأنه يقدم العلمانية بمفاهيم أصولية، ووصفه آخر بأنه إسلامي ونصف علماني، بل الدكتور نفسه واعٍ تماماً لحالة التقارب هذه مع الحالة العلمانية فيقول في أحد حواراته: (هُناك علمانية أقرب ما تكون إلى التصور الإسلامي) بل قال في أحد مناظراته التلفزيونية ما هو أصرح في بيان حالة التقارب هذه: (أقول: إن العلمانية ليست شيئاً واحداً، هناك علمانية متطرفة ضد الدين تريد إقصاءه فعلاً من الحياة، بحيث يصبح ممارسة معزولة في كنيسة أو في مسجد، هذا نموذج معين من العلمانية، وهناك العلمانية التي تعني تسيير المجالات الدنيوية انطلاقاً من الموضوعية والبراغماتية، وهذا النوع له وجود معين في الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى المدينة، ووجد سكانها يلقحون النخل فقال: (لو تركتموه لأثمر) فتركوه، فلم يثمر، فلما جاؤوه وحكوا له الأمر قال: (ما كان في أمر دينكم فإليَّ، وما كان من أمر دنياكم فشأنكم). فميَّز بين مجالين، وهذا فكر موجود في الإسلام، وبهذا

أدلة إثبات أن جدة ميقات

أدلة إثبات أن جدة ميقات للشيخ عدنان العرعور عرضٌ ونقد كتاب هذا الشهر يتناول مسألة من مسائل الحج تتعلق بالمواقيت، وهي الخلاف في اعتبار مدينة جدة ميقاتا، وكاتبه هو الشيخ الفاضل عدنان العرعور الذي انتهى إلى اعتبار جدة ميقاتا، وهذا الكتاب وإن كان قد صدر منذ فترة إلا أن الخلاف في المسألة ما زال باقيا، لذا سنعرض محتوى هذا الكتاب، ونذكر أهم ما أُخذ عليه. أولا: عرض الكتاب: بعد أن قدم المؤلف بين يدي كتابه بمقدمة، بيَّن فيها أن هذا البحث هو اختصار لبحث مطول، أودع فيه من التفاصيل الدقيقة التي يصعب تناولها من عموم المسلمين، لذا عمد إلى اختصاره في رسالة لا تتجاوز ستين صفحة. وذكر أن المسألة ليست اجتهادية بقدر ما هي تطبيقية، وأنها لا تتعدى معرفة المعنى الصحيح للمحاذاة، وإنزاله على الواقع. بعد المقدمة ذكر بعض الاصطلاحات المستخدمة في رسالته كالقاصد والميقات الأصلي والإضافي إلى غير ذلك مبينا تعريفها. وتحت عنوان (بين يدي المواقيت) ذكر المواقيت المحددة شرعا ومدى بعدها عن مكة. لينتقل بعد ذلك إلى ذكر بعض أحكام المواقيت والمقصود منها، فذكر سبعة أمور منها: أن المواقيت نقاط لإعلام القاصدين ببدء النسك ووجوب الإحرام منها، وأنها موزعة حول الحرم ليتشكل منها محيط المواقيت، وأنه ليس لها قدسية خاصة لذاتها، لذا تكلم عن جواز الإحرام مما يحاذي هذه المواقيت، وقسم المواقيت إلى قسمين أصلية وإضافية، ثم تكلم عن عدد المواقيت الإضافية وأنها بعدد النقاط المحاذية للمواقيت الأصلية. ثم تكلم عن أهمية تحديد المحاذاة، والدليل على جواز الإحرام من المحاذاة، وبيَّن معنى المحاذاة، وأنها تتحقق بوقوع الموضع بين مكانين وعلى خط واحد، وأيضا بمجاورة المكان أو الملاصقة له، وكذلك بكون مسافة الموضع من مكة تساوي أقرب المواقيت إليه. ثم تكلم عن كيفية تحديد محيط المواقيت، وقام بتطبيق معنى المحاذاة على الساحل الغربي. وذكر الشيخ أدلة ستة على أن جدة محاذية وهي: 1 - أنه بوصل خطوط بين المواقيت نجد أن جدة تقع على هذا المحيط. 2 - مساواة مسافة جدة عن مكة مع أقرب ميقات لها. 3 - اتفاق أهل العلم أن من لم يدرك المحاذاة يحرم من مسافة مرحلتين. 4 - أنه لا محاذاة في البحر البتة. 5 - أن كل بقعة على سطح الأرض لا تخلو من ثلاث حالات: * إما أن تكون داخل المواقيت. * أو خارج حدود المواقيت. * أو واقعة على المحيط نفسه. أما الحالة الأولى: فيعني هذا الزيادة على مسافة المحاذاة وهذا مردود شرعاً وواقعاً. وأما الحالة الثانية: فلا يقول بها أحد. وأما الحالة الثالثة: فهي المتعينة فتكون جدة ميقاتاً. 6 - قياس القادمين من الغرب على القادمين من الشرق. ثم ذكر الشيخ من قال بهذا من أهل العلم، وتكلم عن حكم من مرَّ من ميقات إلى ميقات آخر ثم أحرم منه، ثم ذكر مسألة مِن أيِّ مكان من جدة يحرم القاصد، وقد أصبحت مدينة كبيرة. هذا هو مضمون هذه الرسالة وأهم ما ورد فيها. ثانيا: النقد: فكرة الكتاب تقوم على إثبات أن مدينة جدة تعتبر من المواقيت؛ لأنها تحاذي أقرب المواقيت إليها، وعلى اصطلاح المؤلف من المواقيت الإضافية، وقد أصَّل لذلك بالكلام عن المحاذاة ثم سرد الأدلة على أن جدة محاذية، وسنذكر بعض المؤاخذات على ما ذكره مما نبه عليه أهل العلم: 1 - القاعدة في تحديد المواقيت غير المنصوص عليها بالمحاذاة صحيح، لكن حَد المحاذاة الذي ذكره المؤلف لا يسلم بإطلاق، فتفسيره للمحاذاة بكون الموضع المحاذي واقعاً بين ميقاتين على خط واحد، فهذا غير مسلم لغة وشرعاً وذلك للآتي: * أن كلمة (حذا) في اللغة لا تدل على تسمية المكان الواقع بين مكانين محاذياً. * أنه حتى لو صح هذا المعنى لغة، فإنه لا يصح شرعاً؛ لأنه سيؤدي إلي أنَّ أي مكان واقع بين مكة والمدينة يسمى محاذياً للمواقيت، فيجوز الإحرام منه؛ لأنه يصدق على مكة اسم مكان كما يصدق هذا الاسم على المواقيت أيضا. * أن هذا التفسير للمحاذاة وهو كون المكان واقعاً بين ميقاتين على خط واحد مخالف لتفسير أهل العلم، وفي وضع هذا الخط المحيط بالمواقيت ربط للمحاذاة بميقاتين وليس بميقات واحد، وهذا خطأ واضح في فهم المحاذاة. 2 - تفسير المحاذاة بكون مسافة المحاذي والمحاذى به عن مكة متساوية فصحيح، إلا أن تنزيله على مدينة جدة وكونها محاذية للجحفة أو يلملم غير صحيح، وذلك لأن مسافتها عن الحرم متفاوتة وليست سواء، فمسافة جدة عن الحرم تقارب سبعين كيلاً، بينما مسافة الجحفة عن مكة تقارب مائة وسبعة وثمانين كيلاً، ومسافة يلملم عن مكة أربع وتسعون كيلاً، فكيف نقول بالمحاذاة وهي تساوي بعد المكانين عن الحرم مع هذا التفاوت الظاهر، كما أن جدة تقع في جهة أخرى غير جهة يلملم. 2 - قوله: إنه لا محاذاة في البحر البتَّة. يجاب عنه: بعدم التسليم بأنه لا محاذاة في البحر فهذا مخالف لما ذهب إليه كثير من أهل العلم من وجوب الإحرام على من كان البحر طريقه إلى مكة إذا حاذى الجحفة أو يلملم, بل المحاذاة حاصلة لمن كان البحر طريقه ولا تتعذر المحاذاة في البحر، كما أننا نقول بأنه لا ميقات في البحر، ولكن يمكن محاذاة ميقات الجحفة ويلملم، وهما قريبان من البحر وليست محاذاتهما متعذرة للقادم من الشمال أو الجنوب. 3 - استدلاله بأنَّ مدينة جدة لا تخلو: إما أن تكون داخل المواقيت أو خارجها أو تقع على المحيط نفسه. وأن الحالة الثالثة هي المتعينة فتكون جدة ميقاتاً. فيجاب عنه: بأن هذا التقسيم قائم على تفسير أصحاب هذا القول للمحاذاة، وإثباتهم أن جدة محاذية لميقاتي الجحفة ويلملم، وهذا قد أجبنا عنه، ومدينة جدة واقعة داخل المواقيت، وليست محاذية لأحدها؛ لكونها أقرب إلى مكة من ميقاتي الجحفة ويلملم، ولذا فالواجب على القادم من الشام ومصر برًّا وبحراً وجوًّا الإحرام من الجحفة أو ما كان حذوها، وكذا القادم من اليمن سواء كان ذلك برًّا أو بحراً أو جواً فإنه يحرم من يلملم. 4 - قوله: (إذا عرف هذا وفهم ما قد سلف من المقصود من المواقيت وأن ليس لها قدسية في ذاتها وأنها للإحاطة والإعلام عرف أنه لو تجاوز متجاوز ثم رجع إلى ميقاته أو إلى ميقات آخر ثم أحرم منه فلا شيء عليه). وقوله: (إذ المقصود ألا يتجاوز القاصد المحيط إلا محرما من أي نقطة شاء). واحتج أن ابن عمر أحرم من الفرع وعائشة أحرمت من الجحفة وهذا لا يكون إلا بعد مجاوزة ذي الحليفة أو مجاوزة محاذاتها. وذكر أنه وقف على فتوى للشيخ ابن باز تؤيد ذلك. قوله هذا فيه نظر، فقوله صلى الله عليه وسلم: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) يفيد وجوب الإحرام من هذه المواقيت لأهل تلك الجهات ومن مر عليها من غير أهلها، فلا يجوز تجاوزها دون إحرام فإن جاوزها وجب الرجوع إليها والإحرام منها، أفتى بذلك: ابن عباس وابن الزبير وعليه الجمهور. أما احتجاجه بما ورد عن ابن عمر وعائشة وأنه لا يمكن لأهل المدينة أن يحرموا إلا من هذين المكانين فقد أجاب عن أثر ابن عمر وعائشة الإمام أحمد بأنهما خرجا من مكة إلى الجحفة للإحرام منها ولم يكتفيا بالخروج إلى التنعيم ولم يكن خروجهما من المدينة كما ظن الشيخ. وأما قوله: (لا يمكن لأهل المدينة أن يحرموا إلا من هذين المكانين). فيجاب عنه بأن هناك طرقا متعددة تسلك بين مكة والمدينة، يقول ابن قدامة: (فإن مَن مرَّ مِن غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة). أما ما ذكر عن ابن باز فلا يدل على ما ذهب إليه، وقد صرح الشيخ بغير ذلك في إحدى فتاويه فقال: (يلزمهم أن يعودوا إلى ميقاتهم إذا كانوا قادمين للحج أو العمرة، ولا يجوز لهم تجاوز الميقات بدون إحرام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما وقت المواقيت لأهل المدينة والشام ونجد واليمن وغيرهم قال: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)) فلا بد أن يحرموا من الميقات الذي يمرون عليه إذا كانوا قاصدين الحج أو العمرة فيحرموا منه، فإذا تجاوزوه فإن عليهم الرجوع إليه، فإن تجاوزوه ولم يرجعوا وأحرموا بعده لزمهم دم، وهكذا إن عجزوا عن الرجوع إليه أحرموا من مكانهم وعليهم دم). وبذلك أفتى أيضا الشيخ ابن عثيمين فقال: (وهذه المسألة التي ذكرها السائل أنه تجاوز الميقات بلا إحرام حتى وصل مكة ثم قيل له: ارجع إلى أقرب ميقات فأحرم منه، نقول له: إن هذه الفتوى ليست بصواب، وأن عليه أن يذهب إلى الميقات الذي مر به؛ لأنه الميقات الذي يجب الإحرام منه، كما يدل على ذلك حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما الذي أشرنا إليه آنفاً. يعني حديث: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة)). انتهى كلامه. هذا بعض ما تيسر نقله مما أخذ على هذه الرسالة، وقد قام بالرد عليها غير واحد من أهل العلم، منهم الشيخ ابن باز وهيئة كبار العلماء، ومن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع إلى: (توضيح المبهمات في مسألة كون جدة ميقات) كتاب (جدة داخل المواقيت ولن تكون ميقاتا لغير أهلها) كتاب (المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة) كتاب (النوازل في الحج) والله الهادي إلى الصواب، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب فقه العصر

كتاب فقه العصر (مفهوم أهل السنة والجماعة- البدعة وأحكامها - صناعة الفقيه في المحاضر الموريتانية) لمحمد بن الحسن الددو عرضٌ ونقد كتاب هذا الشهر للشيخ محمد بن الحسن الددو الشنقيطي، وأصله عبارة عن تفريغ لخمس حلقات من برنامج (فقه العصر) والذي كان قد أذيع من خلال أحد القنوات الفضائية، وقد حاوره الدكتور عادل بن أحمد باناعمة، واعتنى بالكتاب الدكتور علي بن حمزة العمري، وفيما يلي بيان أهم ما احتوى عليه الكتاب، وأهم المآخذ عليه. أولا: العرض المجموعة الأولى من فقه العصر اشتملت على ثلاثة محاور رئيسة: الأول: مفهوم أهل السنة والجماعة ودار الكلام فيه حول مفهوم كلمة السنة وإطلاقاتها، وتعريف كلمة الجماعة وبيان أصلها وعلاقتها بالسواد الأعظم. ثم تكلم عن حديث الافتراق والطائفة المنصورة والناجية، وهل تعد الجماعات الإسلامية المعاصرة من الفرق أم لا؟ إلى غير ذلك. الثاني: البدعة وأحكامها وتناول فيه عددًا من المسائل منها: الحد الشرعي للبدعة، ومدى إمكانية حد البدعة بحد جامع مانع، ينتهي به الخلاف، ويجتمع عليه الناس، وهل يصلح إطلاق أن كل ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر بدعة؟ وهل يصلح إطلاق أن البدعة شر من المعصية؟ ومعنى أن المبتدع لا توبة له، وكذلك تكلم عن بعض المسائل التي اختلف الناس في بدعيتها كختم القرآن والسبحة وغير ذلك. الثالث: صناعة الفقيه في المحاضر الموريتانية تكلم في هذا المحور أولًا عن كلمة المحاضر من الناحية اللغوية وتعريفها، وأعطى لمحة تاريخية عن العناية العلمية في شنقيط، وتكلم أيضا عن الأدوات التي يستخدمها الطلاب في التعلم، وذكر بعض الحكايات في المحاضر الموريتانية وبعض من تخرج على هذه المحاضر وعجائب حفظهم وعلمهم، ثم ألقى الضوء على المحضرة ومدة الدراسة فيها، مع ذكر نموذج من إحدى المحاضر، وكيف كانت تتم فيه الدراسة، وبيَّن بعض طرق الحفظ إلى غير ذلك. ثانياً: النقد 1 - ذكر أن مصطلح الجماعة ظهر عندما أصبح جمهور المسلمين وسوادهم الأعظم مع الخليفة لذا سموا جماعة ثم قال (ص 16): وهذا الإطلاق الآن لمصطلح الجماعة لم يعد وارادًا، وكثير من الناس تعودوا على إطلاق السنة مع الجماعة وظنوا أن السنة والجماعة مصطلح واحد يطلق على الناجين ... وأما لفظ الجماعة بمعناه الاصطلاحي فبعيد جدا عن زماننا وواقعنا. وبيان ذلك أن الجماعة ... تطلق على السواد الأعظم من المسلمين الملتزمين بالسنة المنضوين تحت راية الخليفة وقد عدم الخليفة الجامع اليوم. والجواب: أن ما ذكره الشيخ فيه قصور واضح، وذلك لأن لفظ الجماعة إذا ذكر مع السنة فقيل: (أهل السنة والجماعة) كان المراد به سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين الذين اجتمعوا على الحق الصريح من كتاب الله وسنة رسوله. أما الأحاديث التي أوجبت الالتزام بالجماعة وعدم الخروج عليها، فقد ذكر العلماء فيها عدة أقوال منها: - أن الجماعة المراد بهم الصحابة دون من بعدهم. - أنهم أهل العلم والفقه والحديث من الأئمة المجتهدين. - أنهم جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر من الأمور الشرعية. - أنهم السواد الأعظم وهو مروي عن أبي مسعود الأنصاري وابن مسعود. - أنهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، وهذا رأي الطبري. وكل هذه الأقوال ترجع إلى قولين: الأول: أنها الجماعة إذا اجتمعوا على إمام على مقتضى الشرع عندئذ يجب لزومها ويحرم الخروج عليها. الثاني: أنها ما عليه أهل السنة من الاتباع وترك الابتداع أو هي المذهب الحق وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة أو أهل العلم أو أهل الإجماع أو السواد العظم فكلها ترجع إلى أمر واحد وهو من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه سواء كانوا قليلا أو كثيرا. 2 - قوله (ص 22) إن الإمام أحمد لما ذكر أن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث كان يقصد أهل زمانه فقط المشتغلين بصنعة الحديث وكانوا إذ ذاك هم السواد الأعظم. ثم يقول لما سئل ألا يعني هذا إخراج الفقهاء وغيرهم من الطائفة المنصورة قال: لا فالفقهاء كلهم من أهل صنعة الحديث. ثم يقول: وإذا بحثت في ترجمة أي فقيه في زمن الإمام أحمد فستجده محدثا. والجواب: أن هذا الكلام فيه خلط عجيب، فالأول ظنه أن كلمة أهل الحديث المراد بها أهل الحديث المشتغلين به فقط، وثانيا أن الإمام أحمد إنما قاله لأهل زمانه فقط، وذلك لأن السواد الأعظم حينئذ كانوا من المحدثين وهذا عجيب، فأين باقي طوائف الأمة من أهل السنة هل كانوا محدثين؟!. ولا شك أن مصطلح أهل الحديث استخدمه الإمام أحمد وغيره أيضا فلا تصح دعوى أن ذلك خاص بأهل زمانه، ثم إن أهل الحديث المقصود بهم الذي يهتمون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية ويلتزمون بالسنة ويجتنبون البدعة لذا يقول عنهم الصابوني في كتابه الذي سماه (عقيدة السلف أصحاب الحديث) يقول (ص 99): ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الذين هم كالنجوم ويقتدون بالسلف الصالحين من أئمة الدين وعلماء المسلمين ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يصحبونهم. ويصحح شيخ الإسلام هذا الخطأ الذي وقع فيه صاحب الكتاب فيقول في (مجموع الفتاوى) (4/ 91): (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا واتباعه باطنًا وظاهرًا، وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبهما، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم). 3 - حمله للتكفير لبعض من قال بخلق القرآن على الإنكار الشديد والتغليظ فقط وقال (ص 23): كأن شيخ الإسلام يميل إلى هذا. والجواب: صرح علماء السلف بتكفير من قال بخلق القرآن، فعن أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك. فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم ..... ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة. (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي (1/ 176). وقال شيخ الإسلام: القول المتواتر عن أئمة السلف أنهم قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق وأنهم أنكروا مقالة الجهمية الذين جعلوا القرآن مخلوقا منفصلا عن الله بل كفروا من قال ذلك. (مجموع الفتاوى) (17/ 74). 4 - قوله (ص 50): أئمة أهل السنة كلهم درسوا علم الكلام ودرسوه وناظروا فيه. والجواب: إن ذم أهل السنة لعلم الكلام معلوم ومشهور، بل قال ابن عبد البر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء. ثم قال نقلا عن ابن خويز منداد: قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع, أشعريًّا كان أو غير أشعري. (جامع بيان العلم وفضله) (2/ 194، 195). 5 - قال (ص 102): إذا ذكر الاسم المفرد دون (يا) فهذا محل خلاف بين أهل العلم فبعض أهل العلم رأى أن الذكر بالاسم المنفرد من باب الثناء وأن الخبر محذوف، واستدلوا على ذلك بالحديث الوارد في أشراط الساعة وفيه ((حتى لا يبقى على الأرض من يقول الله الله)) فقالوا: هذا دليل على جواز الذكر بالاسم المفرد. والجواب: يقول شيخ الإسلام: والذكر بالاسم المفرد مظهرا ومضمرا بدعة في الشرع، وخطأ في القول واللغة فإن الاسم المجرد ليس هو كلاما لا إيمانا ولا كفرا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) وفي حديث آخر: ((أفضل الذكر لا إله إلا الله)) وقال: ((أفضل ما ققلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)). والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة. وأما ذكر الاسم المفرد فبدعة لم يشرع. (مجموع الفتاوى) (10/ 396). وأما الحديث الذي ذكره فيفسره الرواية الأخرى ((حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله)). وهناك مؤاخذات أخرى ننبه على بعضها دون تعليق، فمنها: - نسبته الأشاعرة والماتريدية لأهل السنة (وعنده أهل السنة = أهل السنة والجماعة) ومثلهم في ذلك مثل المذاهب الفقهية المالكي والحنبلي والشافعي كلها مذاهب من أهل السنة فيها أخطاء وفيها صواب وأخطاؤها لا تخرجها عن أن تكون مذاهب لأهل السنة. - قوله الافتراق ليس عيبا هنا والإخبار بافتراق اليهود إذا كان هذا قبل نسخ ملتهم ليس عيبا ومثل ذلك النصارى. - قوله إن اشتغال البغدادي بجمع هذه الفرق لم يكن موفقاً وكذلك ابن الجوزي. - أن هجر أهل البدع مشروع للتأديب ولا ينبغي أن يزيد عن ثلاثة أيام. - ادعاؤه أن التفريق بين الكلام النفسي واللفظي موجود عند أهل الحديث المتأخرين وهو مسألة اجتهادية، ولو علمه أحد على هذا الوجه لا شيء في ذلك، وقوله: فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي توصل إليه أن الكلام قديم النوع محدث الآحاد وهذا الذي قاله شيخ الإسلام هو عين التفريق بين الكلام اللفظي والكلام النفسي. - قوله عن ابن القيم إنه صوفي وهو شيخ صوفية الحق. - تهوينه من مسألة البدعة الإضافية وعرضها على أنها مسألة خلافية وعرضه للأدلة المؤيدة لمن قال بعدم دخول البدعة الإضافية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)). يشعر بميله إلى هذا الرأي. - تعريفه للترك الذي يعد فاعله مبتدعا بأنه عدم الفعل بعد الفعل. - أن الشخص إذا وقع في بدعة وهو لا يراها بدعة لا يوصف بالمبتدع. - قال في الذكر الجماعي: لا يضر إذا اتفقوا على ذلك تعليما أو إرشادا وحضورا حتى لا يغيب قلب أحد منهم إلا حضر غيره. وقال: هذه الأمور ليست بذاتها عبادة حتى يرد إليها النهي ولم يرد نهي بخصوصها. - حسَّن حديث قراءة يس على الموتى أي المحتضرين - لما سئل عن الدعاء عقب الصلاة بـ (تقبل الله) أو (حرما) أو (جمعا) قال: الدعاء كله في أدبار الصلاة لا حرج فيه. (ص113).

الأهلة نظرة شمولية ودراسات فلكية

الأهلة نظرة شمولية ودراسات فلكية لعدنان عبد المنعم القاضي عرض ونقد قبل بداية شهر رمضان تثار العديد من القضايا وتطرح للنقاش العديد من المسائل، ومنها مسألة الحساب الفلكي واعتباره في تحديد بداية شهر رمضان ونهايته، وكتاب هذا الشهر أحد الكتب التي تبنت مسألة اعتبار الحساب الفلكي وبالغت في الاعتداد به، ونزَّلت الحسابات الفلكية منزلة اليقين المقطوع به، وسنحاول عرض الكتاب بإيجاز، وطرح بعض آرائه مع بيان أهم المؤاخذات عليه. أولا: العرض الكتاب عبارة عن ستة فصول وهي: الفصل الأول: الظواهر الطبيعية. وناقش فيه المؤلف عدة موضوعات من خلال العناوين الآتية: العلاقة بين الخلق والتشريع- دور الظواهر الطبيعية - سببية الظواهر الطبيعية ونسبيتها واستخدامها. الفصل الثاني: مواقع الشمس والهلال وناقش فيه: مواقيت الصلاة: الرؤية (و/أو) الحساب، والهلال الرؤية (و/أو) الحساب- ومعنى (رؤيته) - الشرع لم يبين محددات الرؤية - آلية الرؤية وتطبيقها. الفصل الثالث: اختلاف المطالع. وناقش فيه اتفاق/اختلاف المطالع-الهلال الشمولية والحل. الفصل الرابع: آلية القمر. وناقش فيه الموضوعات الآتية: الاقتران المركزي والاقتران السطحي وكسوف الشمس - متى يبدأ اليوم والشهر- التوقيت الغروبي المنهجي والتوقيت الزوالي- أين يبدأ اليوم والشهر- مكة المكرمة مركز التوقيت- مطالع الشمس ومطالع القمر- اختلاف المطالع مرة أخرى- أولًا تأثير كروية الأرض- ثانيًا تأثير ميل محور الأرض- ثالثا تأثير فلك القمر - الهلال والبدر والمطالع - ولكنهما يشتركان في جزء من الليل- فلك وأوجه القمر- ولكن الهلال كبير- ولكن الهلال قريب- الاقتران وغروبا الشمس والقمر. الفصل الخامس: أهلة رمضان وشوال وذي الحجة. ناقش فيه الموضوعات الآتية: دراسة - تقويم أم القرى - دخول رمضان - هدف الدراسة - منهجية الدراسة - الحسابات الفلكية لتحديد بداية الشهر المفترض - نتائج الدراسة- إلى أين من هنا. الفصل السادس: علم الفلك والتنجيم ناقش فيه الموضوعات الآتية: هل هناك علاقة - اثنتا عشرة أم ثلاث عشرة شخصية- تأثير أي تأثير- نظرة تاريخية- الفرق بين العلم والهوى- ألا له الخلق والأمر. ثانياً: النقد 1 - ادعاؤه أن الرؤية وسيلة يمكن تغيرها بتغير الزمان وتقدم العلم فيمكن الاستعاضة عنها بالحساب الفلكي: وهذه خلاصة فكرة الكتاب أن الظواهر الطبيعية التي نصت الشريعة عليها لتحديد بدء زمن تكليف شرعي ليست مقصودة بذاتها، بل المقصود هو العبادة التي جاءت الظاهرة لتحديد بدايتها، وأن هذه الظاهرة الطبيعية ما هي إلا وسيلة أو أداة لتلك العبادة، ثم ذكر الأدلة على أن الظواهر الطبيعية وسائل وبلغت ثلاثين دليلًا، ومنها أن الرسل وسيلة لتبليغ دين الله فهل يتعبد بهم مع أنهم أتوا بكل العبادات لا برؤية الهلال فقط إلى غير ذلك. 2 - تأويله لحديث (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب). فقد تعرض لحديث (نحن أمة أمية ... ) ووجهه إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقر حالة ولا يشرع أمراً، ولا يدعو فيه إلى نبذ الحساب، متَّهمًا من يقول بالاعتماد على الرؤية فقط بأنه ينظر إلى الشرع نظرة انتقائية أحادية ظاهرية، وأنه يناقض آيات وأحاديث أخرى تلزم الحساب كحساب المواريث والكتابة كتابة الدين. 3 - قياسه حساب دخول الأشهر وخروجها على حساب مواقيت الصلاة. فيذكر أن مواقع الشمس استخدمت في تحديد أوقات الصلوات وأيضا لتحديد الإمساك والإفطار، مبيناً تطور الوسائل القديمة المستخدمة في تحديد ذلك بين ما كان في عهد الرسول وما وجد اليوم من جداول وساعات مبرمجة، ويستنكر بعد ذلك الإصرار على التفسير الظاهري لحديث مواقع الهلال والرؤية الطبيعية. 4 - تأويله لحديث (صوموا لرؤيته) ليشمل العلم به عن طريق الحساب الفلكي فإنه تحت عنوان (معنى رؤيته) يقرر أن من معاني (رؤيته) - أي الواردة في الحديث- النظر بالعين المجردة أي المشاهدة، والرؤية بالعين المجردة لكن غير حقيقية أي نفسية، أو التلاقي والاقتراب، أو الرؤية بالقلب أو بالعقل أو العلم بالشيء أو الإيمان بالخبر أو قال وأشار ونصح أو معرفة الحال وبمعنى الرؤيا في المنام إلى غير ذلك، ليدلِّل على أن هذا الحديث ليس معناه محصورا في رؤية العين المجردة بل أيضا العلم بالشيء أي الحساب بدخول الشهر. 5 - ادعاؤه قطعية الحساب الفلكي. فهو يذكر عدة آيات كقوله {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وقوله {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] إلى غير ذلك ويقول كيف يأخذ فرد ما بحساب الشمس ولا يأخذ بحساب القمر، ويدَّعي أن فلك القمر منتظم على مدى السنين، ومعرفة البشر لهذا الفلك دقيقة بشكل مدهش، منكرًا على من يدَّعي أن حساب مواقع القمر غير قطعي رغم قبوله بالحساب المتعلق بالشمس في أوقات الصلوات والإمساك والإفطار. ويقرر أن الاختلاف وارد بين علماء الفلك في إمكانية الرؤية لا في ولادة الهلال. ويقول: (وأما الاحتجاج على ردِّ علم الفلك بقوله: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب) متفق عليه فهو احتجاج فيه نظر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى رفع التكليف عنا في الأخذ بالحساب ومستلزماته من قراءة وكتابة، ويذكر تعليل ذلك بأننا أمة أمية، ولكن بعد أن تغيرت الحال وأخذنا بقسطنا من تعلم الحساب والقراءة والكتابة والعلوم المختلفة من فلك وعلوم طبيعية من هندسة وطب تقنيات مختلفة، هل يبقى العذر لنا قائمًا في انتفاء التكليف، والحال أننا بعلمائنا المختصين في علوم الفلك والقراءة والكتابة نستطيع). 6 - تشدده في موضوع توحيد الرؤية على الحساب الفلكي تحت عنوان (اختلاف المطالع) يذكر المشكلات المترتبة على اختلاف المطالع، كالاختلاف في مدة شهر رمضان للأمة الإسلامية والعشر الأواخر وليلة القدر وعيد الفطر وتعدد عيد الأضحى من جهة وتفرد يوم عرفة من جهة أخرى، ويتصور وجود أربع بدايات لدخول شهر رمضان، وما يترتب على ذلك، ويرتِّب على الخلاف في رمضان أن نختلف أيضا في دخول شهر ذي الحجة وبالتالي يكون هناك اختلاف في وقفة عرفة. يقول: (لقد أثبت الحديث ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدعيان رؤية الهلال بالعين المجردة حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم أو الكذب، كما أن الوسيلة متاحة للجميع وقابلة للفحص وسيلة الحساب العلمية بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكن أن تجتمع عليها أمة الإسلام في شرق الأرض وغربها، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقًا بين بلد وآخر، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم ولا بمنطق الدين، ومن المقطوع به أن أحدهما هو الصواب والباقي خطأ بلا جدال). والجواب عما ذكره المؤلف: 1 - أن الشرع علق الأحكام التعبدية الشهرية على الأهلة بالرؤية أو الإكمال وقد جاءت النصوص بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكي فيها التواتر. ومنها (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمِّي عليكم فأكملوا العدة). 2 - أن الشرع أناط الحكم بأول الشهر بوجود الهلال حقيقة لا بوجوده تقديرًا، فإذا انتفى العلم به بحاسة البصر فقد جعل الشرع المصير إلى تعليق الحكم بمناط آخر يستوي فيه عموم البشر، وهو إكمال شعبان مثلًا ثلاثين يومًا. 3 - مسألة اعتماد الحساب الفلكي نقل غير واحد الإجماع على المنع منه، وأنه غير معتبر، وممن نقل الإجماع على ذلك الجصاص الحنفي والباجي الشافعي وابن رشد الجد والحفيد المالكيان وابن تيمية الحنبلي والسبكي الشافعي وابن عابدين الحنفي. يقول شيخ الإسلام: (إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب، أنه يرى أو لا يرى، لا يجوز، والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلًا، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غمَّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حقِّ نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دلَّ على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًّا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مُسلِمٌ). وبهذا الإجماع يردُّ على ادعاء أن معنى الرؤية هنا لا يقتصر على الرؤية البصرية وأنه قد يكون المراد بها العلم عن طريق الحساب. 4 - أن كثيرًا من المجامع الفقهية منعت من الاعتماد على الحساب الفلكي، ومنها قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عام 1401هـ: (في مسألة الأهلة ذهب (المجمع) إلى إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب الفلكي كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة، كما ذهب إلى اختلاف المطالع، لما في ذلك من التخفيف على المكلفين مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعاً وعقلاً .. وعلى ضوء ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي إنه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي، لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد، وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية لأن ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة، وأن الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه سلم ـ في جميع شؤونهم، والله ولي التوفيق). ورفض العمل بالحساب الفلكي أيضا هيئة كبار العلماء بالسعودية. 5 - أما دعوى أن الحساب الفلكي يقيني قطعي، فلا دليل عليها يكسب إفادته اليقين إلا شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم يقيني، ومع ذلك فقد قامت الأدلة على أن الحساب أمر تقديري اجتهادي يدخله الغلط، وذلك في النتائج الحسابية التي ينشرها الحاسبون في الصحف من تعذر ولادة شهر رمضان أو شهر الفطر مثلًا ليلة كذا، ثم تثبت رؤية الهلال بشهادة شرعية معدلة، أو رؤية فاشية في ذات الليلة التي قرروا استحالته فيها. - ومنه ما حدث في هلال الفطر شهر شوال من هذا العام (1406هـ) ـ فإن الحاسبين أعلنوا النتيجة في الصحف باستحالة رؤية هلال شوال ليلة السبت (30) من شهر رمضان، فثبت شرعًا بعشرين شاهدًا في المملكة العربية السعودية في مناطق مختلفة، ورؤي في بلدان إسلامية أخرى. وكذلك ما حدث سنة (1413هـ) و (1425هـ) و (1428هـ) ـ. - ومن الشواهد أيضًا على ذلك أنا رأينا بعض البلدان الإسلامية تعلن الصوم والفطر بموجب الحساب الفلكي، والفارق بينها وبين البلدان التي تثبته بالرؤية يومان أو ثلاثة، فهل يكون في الدنيا فارق في الشهور القمرية الشرعية كهذه المدة. - ودليل آخر وهو: التضارب الحاصل بالنتائج والتقاويم المنتشرة بحساب المعاصرين، فإنها متفاوتة مختلفة في إثبات أوائل الشهور، وما زال اختلافها قائمًا في الولاية الواحدة ومن ولاية إلى أخرى، فهذا دليل على دفع يقينيته أو ظنيته الغالبة. - وكذلك فإن الطب مثلًا في العصر الراهن بلغ من الدق

كتاب المتشددون منهجهم ومناقشة أهم قضاياهم

كتاب المتشددون منهجهم ومناقشة أهم قضاياهم لعلي جمعة عرض ونقد بينما تُشن على الدعوة السلفية حملة شعواء ويُطعن في السلفيين من قبل العلمانيين والليبراليين وبعض التوجهات الأخرى، يؤثِر مفتي مصر علي جمعة أن يكون في صف هؤلاء كما كان غالبًا، فيخرج علينا بكتاب عن السلفيين واصفًا لهم بصفة التشدد. وإذا كان مفتي مصر يصف السلفيين بالتشدد فمن حق السلفيين أيضا أن يصفوه بالتساهل، وتتبع رخص العلماء وزلاتهم، والتمييع لقضايا الدين، إلا أن وصفه لهم- بالجملة- كذب وبهتان ووصفهم له حقٌّ ببرهان، ومن ذلك: 1 - فتواه بأن الاختلاط بين الشباب والفتيات في قاعة الجامعة ليس حرامًا. 2 - فتواه بأن طلاق المصريين لا يقع؛ لأنهم ينطقون كلمة طالق بالهمز. 3 - منعه من ختان الإناث بينما كان يجيزه قبل تولي منصب الإفتاء. 4 - مهاجمته النقاب وادعاؤه أنه عادة خلافًا لقوله قبل تولي المنصب. 5 - تجويزه فوائد البنوك الربوية. 6 - إباحته بيع المسلم الخمور في غير الدول الإسلامية. 7 - إباحته ترقيع غشاء البكارة. 8 - تجويزه تولي النصراني رئاسة بلد إسلامية. 9 - إنكاره الشديد هدم بعض الأضرحة لا خشية الفتنة بل لتجويزه بقاءها. فحُقَّ لمن هذا حاله أن يصف المستمسكين بالكتاب والسنة والسائرين على مذهب السلف بالتشدد. وقبل البدء في عرض بعض ما جاء في الكتاب نقول حتى يكون القارئ على بينة وحتى لا يستغرب ما جاء فيه من آراء نقول إن مؤلفه أشعري المعتقد صوفي المسلك. تحت عنوان (سمات المتشددين في العصر الحديث) يقول: ((نرى آراء أغلب من تسموا بالسلفيين واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة)). وفي هذا من البهتان مافيه. ويقول أيضا عن السلفيين: ((أنهم يتبنون فكراً صداميًّا، وهذا الفكر الصدامى يفترض أموراً ثلاثة وهى: أولا: أن العالم كله يكره المسلمين، وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم، وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفى العلن مرات، وأن هناك استنفاراً للقضاء علينا مللنا من الوقوف أمامه دون فعل مناسب. ثانيا: وجوب الصدام مع ذلك العالم حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإسلامي هنا وهناك، ووجود الصدام يأخذ صورتين الأولى: قتل الكفار الملاعين، والثانية: قتل المرتدين الفاسقين، أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين. وأما المرتدون الفاسدون فهم من شهد الشهادتين وحكم بغير ما أنزل الله وخالف فكرهم. ثالثا: أن فكرهم يراد له أن يكون من نمط الفكر الساري، وهذا معناه أنه لا يعمل من خلال منظمة أو مؤسسة يمكن تتبع خيوطها بقدر ما يعمل باعتباره فكراً طليقاً من كل قيد يقتنع به المتلقي له في أي مكان، ثم يقوم بما يستطيعه من غير أوامر أو ارتباط بمركز أو قائد. وعليه فإن الفوضى سوف تشيع بصورة أقوى وتنتشر بصورة أعمق)). انتهى كلامه. إن قول مفتي مصر في الفقرة الأولى مردود، فهل تعامى عن الحقيقة الشرعية والواقعية، فالله عز وجل يخبرنا عن هذه العداوة قائلا {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ويقول {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] ويقول {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] أما الواقع فهو خير شاهد على هذه العداوة قديمًا وحديثًا، فالحروب الصليبية قديمًا، والاحتلال الأجنبي حديثًا، والمجازر التي ارتكبت في البوسنة والهرسك وسراييفو وغيرها، وما يحدث للمسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان والشيشان. وما يحصل في فلسطين وموقف أمريكا والغرب من اليهود ومساندتهم لهم. هذا بالنسبة للعدو الخارجي أما التيار العلماني والليبرالي فموقفه من التيار الإسلامي واضح للعيان لا ينكره إلا أعمى البصر والبصيرة. ثم في الفقرة الثانية يقول إن السلفيين يرون وجوب الصدام مع ذلك العالم بقتل الكفار وقتل المرتدين. وهذا الكلام إنما صاغه بهذه الصورة ليشنع على السلفيين فهل ينكر المفتي الجهاد، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، ثم إن كان ينكر جهاد الطلب، فهل ينكر جهاد الدفع وحق المسلمين في الدفاع عن بلدانهم المحتلة، ثم إنه من المعلوم أن الكفار أنواع فمنهم محاربون، وأهل عهد، وأهل ذمة ولكل واحد حكمه، فتعميمه الكلام عن السلفيين في هذه المسألة بهذه الصورة غير مقبول وفيه من التلبيس ما فيه. أما المرتد فحكمه القتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) ويقول الحافظ في الفتح: وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر أحد عليه .... اهـ. ومسألة الردة والحكم بغير ما أنزل الله فيها تفصيل معروف والحكم فيها يتوقف على توفر الشروط وانتفاء الموانع، خلافا لما يدعيه هذا المفتي من أنهم يحكمون بالردة على مخالفيهم. ومن هرطقاته أيضاص في هذا الكتاب قوله: ((لقد أصبح توجه هؤلاء المتشددين عائقًا حقيقيًّا لتقدم المسلمين ولتجديد خطابهم الدينى وللتنمية الشاملة التى يحتاجها العالم الإسلامي عامة، ومصر على صفة الخصوص، وهذا التوجه المتعصب أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلًا للمشرب المتشدد الذي يدعو إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده في خياله الذي غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو مع من يحيط به من الناس. ويتميز هذا الفكر المتشدد بعدة خصائص تؤدى إلى ما ذكرنا، وترسم ذلك الموقف الذي يجب على الجميع الآن- خاصة- أن يقاوموه وأن يعملوا بكل وسيلة على إخراج أولئك من عزلتهم؛ لأنهم لم يعودوا ضارين لأنفسهم فقط، لكن ضررهم قد تعدى إلى من حولهم وإلى شباب الأمة ومستقبلها، وإلى المجتمع بأسره. هذا الفكر يريد أن يسحب مسائل الماضي في حاضرنا، وذلك تراه قد حول هذه المسائل إلى قضايا وإلى حدود فاصلة بينه وبين من حوله، وهذه القضايا يتعلق أغلبها بالعادات والتقاليد والأزياء والملابس والهيئات من طريقة الأكل والشرب إلى قضاء الحاجة واستعمال العطور. وتؤثر هذه الخصيصة التي يستجلب مسائل الماضي وتسحبها وتجرها إلى الحاضر من ناحية، وتحول مجرد المسألة التي كانت في نطاق الماضي لا تعدو مسألة إلى قضية ندافع عنها وننافح من أجلها، وتكون في عقليته معياراً للتقويم وللقبول والرد، فمن فعلها فهو معه، ومن لم يفعلها فهو ضده، يشمئز منه وينفر ويعاديه، ويعيش في هذا الوهم، فيشتد انعزاله عمن حوله. ... ويرى أنه لابد عليه أن يزيد من نسله وأن يملأ الأرض صياحاً بأطفاله محاولًا بذلك أن يسد ثغرة اختلال الكم، حيث أنه يشعر بأنه وحيد وبأنه قلة، وبأن الكثرة الخبيثة من حوله سوف تقضى عليه وتكتم على أنفاسه، فيحاول أن يفر من ذلك بزيادة النسل، بل ويشيع بين أتباعه وأصحابه هذا المفهوم الذي يحدث معه الانفجار السكاني والتخلف التنموي)). انتهى كلامه. والمفتي - علي جمعة- أولى بهذا من السلفيين فهو الذي يعيش في خياله بعيدا عن الحقيقة، فالسلفيون ليسوا في عزلة عن الحياة بل إنهم ينتمون إلى جميع التخصصات العلمية والمهنية ولو ذكر لنا مثالًا على ما يذكر ولكنه التعصب، نسأل الله السلامة والعافية. وكأن المفتي ما زال متأثرًا بهذه النعرة القديمة والتي كان فيها بوقًا للحكومة المصرية السابقة بمحاربة زيادة النسل بدلًا من الدعوة إلى التنمية. إن الحد من زيادة نسل المسلمين هدف للغرب يسعون إليه بشتى الطرق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة). بل إن كثرة الأمة نعمة يمتن الله عزو جل بها على عباده قال تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] ومن أقواله أيضًا: ((ومن خصائص هذا الفكر الانعزالي التشدد، فهو يرى أن الحياة خطيئة، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها، وان التطهر منها يكون بالبعد عن مفرداتها، سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هي المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة)). انتهى ولا أدري عن أي طائفة يتكلم المفتي فالسلفيون في منأى عن هذا الوصف، وهو كلام عار عن الصحة، بعيد عن الواقع، وما مراده بالفنون والآداب؟ هل الغناء والرقص والعري؟ وهل يقصد بالمشاركة الاجتماعية مثل الاحتفال بعيد ميلاده في أحد أندية الليونز الماسونية بين الممثلين والمغنين؟ إن كان يقصد ذلك فحُق للسلفيين أن ينعزلوا عن مثل هذه المشاركات. ويقول أيضا بعد أن يصفهم بامتلاك عقلية المؤامرة لمن حوله ضده مع اتصافهم بالكبر والعجب: ((من هذه الصفات أنهم يقفون ضد أي إصلاح في المجتمعات الإسلامية بدعوى أن كل جديد بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، ويبتعدون دائماً عن جوهر الموضوع إلى النظر في مجرد الشكليات، ويعملون الهوى في فهم النصوص، ويضيقون على المسلمين حياتهم بتوسيع دائرة الحرام، ويخرجون عن النظام المعهود من إجلال المشايخ، إلى نظام غريب عجيب يجتهدون فيه من عند أنفسهم في الفقهيات، ويقلدون في العقائد، ويعظمون غير العلماء، ويحطون من شأن العلماء، ويتصدرون بما لا يزيد عن مائة مسألة لتفسيق الناس وتكفيرهم والدعوة إلى منابذتهم ومحاربتهم. لقد آن الأوان وحان الوقت لان يكون مقاومة هذا الفكر المتنطع مطلباً قومياً)) اهـ. ثم بعد أن يفري هذا الكذب يستعدي الناس على مقاومة فكر السلفيين، فليته ذكر أمثلة لهذا الكلام الإنشائي الذي لا حقيقة له، فهل السلفيون يقفون ضد الإصلاح في المجتمعات الإسلامية بدعوى أن كل جديد بدعة، إن منهج السلفيين واضح في مسألة البدعة فهي محصورة في مجال العبادات وليس كما يدعي أن كل جديد عندهم بدعة. ثم يقول الدكتور علي جمعة تحت عنوان (أهم مسائل المتشددين التي جعلوها أصولا لهم وعنوانا عليهم): ((لقد تمسك المتشددون بمجموعة من المسائل التي لا تمثل هوية الأمة وكلها مسائل فرعية، وجعلوها معيارا لتصنيف المسلمين، وامتحانا لتقسيمهم، ورُوج لدى طوائف كثيرة من الناس أنها قطعية لا خلاف فيها، وأن الحق معهم وحدهم، وأن القائل بغير ما يقولونه مارق فاسق منحرف أو على أقل تقدير غير ملتزم ومتساهل، أو يتهم بأنه ليس متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم. فشغلوا المسلمين بهذه المسائل، التي مذهبهم فيها غالبا ما يكون ضعيفا أو شاذا)) وذكر (17) مسألة فقط ومنها: - أنهم يصفون الله بالمكان - ينتقصون الأشاعرة - ينكرون اتباع المذاهب الفقهية وتقليدها - غير مؤهلين للإفتاء ويحدثون فوضى فى المجتمع - يعدون أغلب تصرفات المسلمين بدعا وضلالات - يحرمون التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ويعدونه شركا بالله - يحرمون الصلاة في المساجد ذات الأضرحة ويصرحون بوجوب هدمها - يعدون التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين شركا بالله - يحرمون الاحتفال بالمولد النبوي الشريف - يحرمون السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء والصالحين - يتهمون من ترجى بالنبي صلى الله عليه وسلم بالشرك الأصغر - يحكمون على و

الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة - عرض وتحليل

الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة - عرض وتحليل للدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان الخميس 30جمادى الآخرة1432هـ كتاب هذا الشهر يتناول قضية كثر فيها الخلاف وهي قضية إحياء الآثار والحفاظ عليها وجواز زيارتها وقد حاول المؤلف تتبع هذه الأماكن وحصرها وإثبات تواترها مبينا حكم زيارتها وفيما يلي عرض للكتاب مع بيان أهم المؤاخذات عليه: أولا: العرض تناول المؤلف هذه الدراسة من خلال ستة فصول هذا بيانها: الفصل الأول: التأصيل في التدوين للأماكن المأثورة في مكة المكرمة: تناول هذا الفصل من خلال نقطتين الأولى رسالة التابعي الجليل الإمام أبي الحسن البصري رضي الله عنه والثانية من خلال نماذج من مواقف السلف الصالح من الأماكن المأثورة الفصل الثاني: المتواتر من الأماكن المأثورة في المدونات التاريخة: تناول في هذا الفصل المتواتر من الأماكن المأثورة في مؤلفات السيرة النبوية ومدونات التاريخ المكي الخاص ثم المتواتر من الأماكن المأثورة في مكة المكرمة سواء المنثور منها أو المنظوم الفصل الثالث: المتواتر من الأماكن المأثورة في المدونات الفقهية: عرض فيه لهذه الأماكن المأثورة في كتب المناسك ثم قام بالتحليل العلمي للعناوين الفقهية في كتابات الفقهاء للأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة. الفصل الرابع: شواهد التواتر المحلي للأماكن المأثورة في مكة المكرمة: تكلم فيه عن مظاهر التواتر المحلي معتبراً أن من طرق الإثبات النقل بالتوارث ثم تكلم عن عناية الملك عبد العزيز آل سعود بالأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة. الفصل الخامس: آراء العلماء في زيارة الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة: استعرض أقوال المعارضين لزيارة الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة مع ذكر أدلتهم ثم ذكر رأي المؤيدين لزيارة هذه الأماكن. الفصل السادس: الواقع المعاصر للأماكن المأثورة في مكة المكرمة: ذكر فيه المندثر من الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة في الوقت الحاضر مثل منزل السيدة خديجة ودار الأرقم ومولد علي بن أبي طالب إلى غير ذلك وبعدها تكلم عن الباقي من هذه الأماكن المأثورة في الوقت الحاضر مثل مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد الراية ومسجد الإجابة ومسجد البيعة إلى غير ذلك. وختم الكتاب بلاحقين اللاحق الأول في تراجم العلماء المذكورين في بحث الأماكن التاريخية المأثورة كالأزرق والفاكهي وابن الجوزي وغيرهم وأما اللاحق الثاني فهو وثائق الدراسة. ثانيا: النقد أجهد المؤلف نفسه في بيان الأماكن المأثورة في مكة المكرمة محاولا تتبعها في الكتب التاريخية والفقهية وغيرها ليثبت تواترها ولكن يبقى الانتفاع بها مترتباً على الإجابة على هذا السؤال وهو هل تشرع زيارة هذه الأماكن وهل يشرع أن تهيأ لتصبح مزارات يقصدها الناس وتكون ضمن برامج زياراتهم هذا هو الذي سيكون محلا للنقد في المقام الأول بغض النظر عن ثبوت هذه المزارات أو عدم ثبوتها. ومن المآخذ على الكتاب: أولا: تسمية هذه الأماكن المأثورة بأنها متواترة فكيف تكون متواترة وفيها خلاف ونضرب على ذلك مثالا بأحد هذه الأماكن وهو مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعي المؤلف أنه لا خلاف عليه. يقول الرحالة أبو سالم العياشي: (والعجب أنهم عينوا محلا من الدار مقدار مضجع وقالوا له موضع ولادته صلى الله عليه وسلم ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف لما تقدم من الخلاف في كونه في مكة أو غيرها وعلى القول بأنه فيها ففي أي شعابها وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور وعلى القول بتعيين الدار يبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار بعد مرور الزمان والأعصار وانقطاع الآثار). ثم قال مستبعدا صحة تحديد ذلك المكان: (والولادة وقعت في زمن الجاهلية وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك وبعد مجيء الإسلام فقد علم من حال الصحابة وتابعيهم ضعف اعتناقهم بالتقييد بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي لصرف اعتنائهم رضي الله عنهم لما هو أهم؛ من حفظ الشريعة والذب عنها بالسنان واللسان). نقلا من كتاب (التبرك أنواعه وأحكامه) (ص 356). ثانيا: يقول المؤلف (ص 134): (يستخلص من هذا أن كل مكان حل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مكان مبارك ولا يخالف في هذا مسلم جاهل فضلا عن عالم عاقل ... ثم يقول نقلا عن القرطبي: (وحيث تعليل كونها مباركة نتيجة لهذا يكون الدعاء فيها مستجابا بإذن الله عز وجل). وهذا كلام عجيب، وبناء عليه فكل مكان حل فيه الرسول فهو مبارك يستحب الدعاء عنده وهو مظنة الإجابة فهل يقول بذلك أحد، ولا أدل على ذلك من أنه لا يعلم أحد من الصحابة تتبع الأماكن التي حل فيها النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقا على كثرتها إلا ابن عمر ومع ذلك لم يكن قصده التبرك بها إنما كان حريصا على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك خالفه غيره من الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون المهديون. ثالثا: يقول (ص 135) نقلا عن ابن حجر ومؤيداً له، قوله: (وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين). والأدلة على المنع من ذلك مبسوطة في مظانها من كتب أهل السنة. رابعا: يقول المؤلف في (ص 136): (ثبوت زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض كبار أصحابه لغار حراء فقد جاء في صحيح مسلم تحت عنوان باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما الحديث التالي بروايته عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد) وبسند آخر إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسكن حراء ....... ) انتهى. وأعاد المؤلف الإشارة إلى ذلك ص 139 فقال في معرض ذكر حجج المؤيدين لزيارة الأماكن النبوية المأثورة: (ثبت صعود رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض كبار صحابته زيارة غار حراء وذلك متوافر في دواوين السنة النبوية). انتهى. وكلام المؤلف يوهم أن صعود النبي صلى الله عليه وسلم لحراء يعني إلى الغار وهذا فيه تلبيس ففرق بين جبل حراء وبين غار حراء الكائن في ذلك الجبل الذي هو أطول جبل بمكة وهو ظاهر من قول الراوي (كان على جبل حراء) وأيضا يقال: إن هذا الحديث حجة عليكم فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد جبل حراء لكن لم ينقل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخله أو وقف أمامه هو أو أحد ممن معه أو قال: نزل الوحي علي فيه أو كنت أتعبد فيه إلى غير ذلك. خامسا: يقول (ص 137) ناقلا عن عفيف الدين ميرغني فيما نقل عن الحسن البصري من قوله في إجابة الدعاء عند بعض هذه الأماكن المأثورة، قال: (واعلم أن الحسن البصري رضي الله عنه ذكر الإجابة في هذه الأماكن والظاهر أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف لأنه تابعي جليل بل سيد التابعين ..... ) قلت: وهذا كلام عار عن التحقيق فالحسن البصري سواء قلنا رفعه أم لم يرفعه فمراسيله غير مقبوله عند غير واحد من أهل العلم كابن سيرين والإمام أحمد وابن سعد بل نُقل عن أحمد أن مراسيل الحسن من أضعف المراسيل، والمؤلف نفسه نقل بعد ذلك (ص 144) ما ينقض كلامه فقد نقل بحثاً للفلواروي وفيه: (واعلم أن هذا الأثر [يقصد قطع عمر للشجرة] أولى ألا يقبل عند أهل الحديث فعندهم المراسيل والمنقطعات وآثار الصحابة كل هذا ليس بحجة). انتهى سادسا: قوله (ص 140) وعدم فعله لا يدل على الكراهة ... إنه ليس من الضروري أن يوجد نص من كتاب أو سنة على الاستحباب ذلك أنه مما هو مقرر فقهاً أن المندوب كما يستفاد من أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام فكذلك كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لدفع المشقة عن أمته. ثم ذكر كلام ابن القيم وفيه قول عائشة: وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. وهذا عجيب من المؤلف وفيه فتح لباب البدع فمن أين يستفاد الاستحباب إذا لم يرد في كتاب أو سنة نعم كان النبي صلى الله عليه وسلم يترك العمل خشية أن يفرض على أمته إذن فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وإنما منعه من المداومة عليه الخوف من أن يفرض ثم إذا كان الشيء وجد مقتضاه وانتفى المانع منه ثم لم يفعله النبي ولا أصحابه من بعده وهم أتبع الناس له فهل يقول المؤلف بمشروعيته بعد ذلك فما قرره المؤلف فيه نظر. سابعا: وتحت عنوان (الحديث المتصل لا يعارض بالحديث المنقطع) (ص 141) ذكر أن حديث قطع عمر لشجرة الرضوان مقطوع لا يقاوم ما ورد متصلاً في البخاري من أنها عميت عليهم ونقل كلاما مطولاً للفلواروي والذي ذكر فيه ما جاء في البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. وعن ابن عمر قال: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة. وإن سلمنا بضعف الأثر - وقد صحح إسناده ابن حجر- فكما يقول الشيخ الألباني في (تحذير الساجد) (ص 126، 127): لئن كنا خسرنا هذه الرواية المنقطعة كشاهد فيما نحن فيه من البحث بعد التأكد من ضعفها فقد كسبنا ما هو أقوى منها مما يصلح دليلاً لما نحن فيه وهو حديث المسيب هذا وحديث ابن عمر: فقد قال الحافظ في شرحه إياه: (والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم الأمر إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: (كانت رحمة من الله) أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى). ثامنا: ثم ينقل عن الفلواروي (ص 145) قوله: (فيا من يعزو إلى حكيم الأمة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يهدم الآثار وينهى الناس عن الصلاة في المآثر وحرق دار كتب الأسكندرية وغير ذلك من الخرافات والأباطيل ألا تنظرون كيف كان أمير المؤمنين يعظم آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكان يتمنى أن يتخذ مقام إبراهيم مصلى (أي آثار قدميه) فلبى الله دعوته وقال {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت .... ) انتهى وهذا ليس فيه حجة، وذلك للآتي: أولا: لأن هذا حكم خاص لا يجوز أن يقاس عليه غيره سواء أريد بالمقام مقام إبراهيم عند الكعبة أو المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى فقد خصت هذه الأماكن بعبادات لا يشركها فيها غيرها والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، فالحكم شرع بنص القرآن لا بمجرد تمني عمر رضي الله عنه. ثانيا: أن عمر رضي الله عنه ورد عنه النهي عن تعظيم آثار الأنبياء والغلو فيها فإن لم يثبت قطعه للشجرة فقد ثبت عن المعرور بن سويد أنه قال: (خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] فلما قضى حجه ورجع والناس يتبدرون، فقال: ما هذا؟ فقال: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فق

تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية

تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية أو (الفتح المبين في براءة الموحدين من عقائد المشبهين) لعيسى بن عبد الله مانع الحميري عرض ونقد 2جمادى الآخرة1432هـ كتاب (تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية) يحاول فيه مؤلفه عيسى الحميرى الانتصار لمذهب الأشاعرة والماتريدية في باب أسماء الله وصفاته، ويتكلف في تقريره مع تأويل صفات الله والاقتصار على صفات عشرين فقط هي التي تليق بذات الله وكماله - على حد زعمه - إليها ترجع بقية الصفات، مدعيًا أن ما ذهب إليه هو مذهب أهل السنة والجماعة، ولم ينس الصوفية فقد نقل ما يفيد الثناء عليهم من خلال حديث (فتح القسطنينية) وحاول الدفاع عنهم من خلال إنكار تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام. وفيما يلي نستعرض الكتاب مع بيان أهم المؤاخذات عليه: أولا: العرض الكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أبواب، عقد بعد التقدمة مدخلًا في معاني الصفات وانتهى فيها إلى أن عقيدة أهل السنة سلفًا وخلفًا هي تأويل في تفويض وتفويض في تأويل، وكلاهما مذهب واحد لا تناقض بينهما- على حد زعمه-. ثم من خلال مقدمات كلية في علم المنطق: تناول بيان الحكم وأنواعه وأقسام الحكم العقلي ونوع ماهية الحكم، ثم تكلم عن خصائص الذات والصفات العشرين المحكمة -عنده- مع تعريف الصفة والفرق بين الصفة والنعت والوصف، ثم خصائص الصفات الإلهية. ثم ذكر الصفات العشرين المحكمة من خلال أربعة أقسام: القسم الأول: الصفات النفسية. القسم الثاني: الصفات السلبية. القسم الثالث: صفات المعاني. القسم الرابع: الصفات المعنوية. تناول الباب الأول - وهو في النصوص الموهمة للتشبيه- من خلال أربعة فصول: الفصل الأول: في المحكم والمتشابه، وفيه بيَّن معنى المحكم والمتشابه من القرآن الكريم، وسرد أقوال العلماء في بيان المحكم والمتشابه ومذاهبهم في حكم المتشابه. الفصل الثاني: في بيان مذهب السلف والخلف في تفويض المتشابه، وذكر فيه معنى التفويض لغة واصطلاحًا، مع بيان مذهب السلف والخلف في التفويض. الفصل الثالث: في بيان مذهب السلف والخلف في تأويل المتشابه وذكر فيه معنى التأويل لغة واصطلاحًا مع بيان مذهب السلف في التأويل، ومذهب الخلف في تأويل المتشابه، وتكلم عن التأويل وحقيقته عند المتكلمين، وقرر أن مذهب الخلف هو عين مذهب السلف في التأويل. الفصل الرابع: في بيان تناقض ابن تيمية في المحكم والمتشابه والرد عليه وكذلك ابن القيم ثم قام بالرد على ابن تيمية في قوله: لله يد تليق بجلاله. وأما الباب الثاني وهو في الأخبار الإضافية وبيان وجوب تأويلها عند السلف والخلف، فقد سرد الأخبار الإضافية وذكر أقوال العلماء فيها، ويعني بالأخبار الإضافية الصفات التي يوهم ظاهرها النقص على حد زعمه. ثم تناول هذه الأخبار ومنها الخبر الوارد في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فذكر معنى الاستواء وأقوال العلماء فيه، وبيَّن مذهب ابن تيمية في الاستواء مع الرد عليه، وبيَّن عقيدة أهل السنة والجماعة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وأن ذلك لا يقتضي الجهة والفوقية الذاتية المكانية، وأنه يفوض المعنى إلا أنه لا ينكر على من فسر الاستواء بالاستيلاء إن كان يعني الاقتدار والهيمنة. وكذلك تناول الأخبار الواردة في النفس والوجه، والعين واليد والأصبع، والغيرة والشخص والشيء والصورة، والساق والقدم الرجل، والإتيان والسخرية والاستهزاء، والقرب والمشي والهرولة، والفرح والضحك والعجب والنظر، والملال أو الملل والاستحياء والإعراض والتردد والحب، والمكر والخداع والنسيان والسخرية، والمعية والجنب والغضب والفراغ والكلام، مع التصرف فيها بالتأويل أو التفويض. وأما الباب الثالث والأخير فكان في بيان موقف أهل السنة من تقسيم ابن تيمية للتوحيد مع الرد عليه، وبيان معنى العبادة وبراءة الموحدين من الشرك. ثانيًا: النقد هذه بعض المؤاخذات على الكتاب - وإن كانت كثيرة - ولم نطل في الرد عليها ولم نقصد إلى استيعابها؛ لأن هناك من الكتب التي أفردت لبيان عقائد الأشعرية والماتريدية المخالفة لعقيدة أهل السنة والرد عليها، والمؤلف في هذا الكتاب يخلع لفظ أهل السنة على الأشعرية والماتريدية، ويقصره عليهم، وسبق بيان خطأ ذلك ومجانبته للصواب. ودونك أيها القارئ بعض هذه المؤاخذات: - قال المؤلف في (ص 13): (وواضح كل الوضوح أن لكل فن مؤهلات، فمن خاض فيه بدونها كان خطؤه أكثر من صوابه، وضرره أقرب من نفعه، ولكل فن رجال، فإذا أردت التفسير فدونك المفسر، والحديث فخذه من المحدث، والفقه يعرفك به الفقيه، والعقيدة فقدوتك فيها علماء الأصول، فعليهم المعول في ذلك). انتهى كلامه. ومع أنه قرر في رسالته ذلك؛ فإننا نجده لم يلتزم بهذا المنهج؛ بل راح يدخل في كل فن بلا علم، فرسالته في العقيدة وهو غير متخصص فيها، وراح يصحح ما يشتهي من الأحاديث، ويرد تضعيف أهل الحديث لها، وهو ليس من أهل الحديث. - الحط من الذهبي ومكانته لمخالفته لمعتقده في الأسماء والصفات، فقال (ص 16): (والرجل كان حافظا مؤرخًا وبلغ فيهما مرتبة الإمامة، ولم يكن إمامًا في أصول الدين). - ذكر أن حامل لواء السنة في العقائد الإسلامية هو أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي، واستدل على تزكية معتقد الأشعري وأتباعه بحديث ((لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)) فقائد الجيش محمد الفاتح ماتريدي المعتقد صوفي المشرب، وجيشه كان من الأشاعرة والماتريدية. ويجاب عن هذه الشبهة بعدة أجوبة: الأول: أن الحديث ضعيف؛ فهو من رواية عبد الله بن بشر الخثعمي، وهو مجهول، لم يوثِّقه إلا ابن حبان، وفيه اختلاف في اسمه واسم أبيه، وفي نسبه. الثاني: أنه على فرض صحته، فقد يحمل على فتح آخر، وهو الذي يكون في آخر الزمان، والأحاديث المتضافِرة في فتح القسطنطينية كلها تذكر فتحًا غير هذا الفتح، والفتح المذكور في هذا الحديث مجمل، فيكون المقصود بهذا الحديث هو الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان، خاصةً وأنه قد ورد في السنَّة الثناء على جند هذا الجيش. ولا يعني ذلك تنقُّص محمد الفاتح ولا التقليل من عمله ذلك. الثالث: أنه لا حُجَّة في هذا الحديث لأهل البدع؛ إذ الحكم على عوام المسلمين أنهم يعتقدون في الله تعالى الكمال، ولا يعرفون ما أحدث أهل البدع من ضلالات؛ فالواقع أنهم من أهل السنة، ولو كان قادتهم وعلماؤهم من غير أهل السنة ممن انحرف في باب الأسماء والصفات. وما من شكٍّ في أن الجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية أكثره من عوامِّ المسلمين، ولربما كان أميره محمد الفاتح كذلك، وأن حكمه هو نفس حكم عوامِّ المسلمين. الرابع: أنه لو سلمنا أن الجيش العثماني كله أشاعرة، وأميره كذلك، وأقيمت الحجة عليهم - مع استبعاد ذلك - فإن الحديث لا يدلُّ على صحة مذهبهم؛ لما يلي: أولاً لأن متعلَّق المدح هو فتح القسطنطينية، وليس شيئًا آخر فلا تعرض فيه لعقيدتهم. كذلك فإن الشخص الواحد تكون فيه حسنات وسيئات؛ فيُثنى على حسناته، وتُذَمّ سيئاته، والفاتح وجيشه - وإن كانوا أشاعرة - فإنهم مجاهدون في سبيل الله تعالى، فيُحمدون على ذلك، ولا يَلزم من ذلك عصمتهم من الخطأ، والثناء عليهم من كل وجهٍ، ولا يُستدلُّ بتزكيتهم في الجملة على صحة ما أخطؤوا فيه. إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم في مقام الرد على هذه الشبهة. - وليت الحميري إذ دعا الناس إلى الأخذ بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري دعاهم لاعتماد عقيدته التي مات عليها، كما هو واضح في كتابه (الإبانة)، لكنه عدل عن الدعوة إلى ذلك إلى التشكيك في ثبوت هذا الكتاب عن الأشعري كما في (ص 25) مع أن كثيرًا من العلماء أثبتوا صحة نسبة كتاب (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري، ومنهم ابن عساكر في (تبيين كذب المفتري)، والبيهقي في كتاب (الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد) والذهبي في كتاب (العلو) وابن فرحون المالكي في (الديباج) وغيرهم من العلماء. وإذا ثبت لدينا أن هذه العقيدة التي ينافح عنها المؤلف اتباعًا للأشعري، أنه تراجع عنها انهدم بنيانه من الأساس. - طعنه في صحة نسبة كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد وكتاب (الرد على الجهمية) المنسوب إلى الإمام أحمد كما في (ص 26). وذلك لأنهما ينقضان مذهبه كما فعل مع كتاب (الإبانة). - ذكره لعشرين صفة محكمة كما في (ص53) حيث قال إن الأمة أجمعت عليها. فيقال: لا دليل على حصر صفات الله في هذا العدد، ومن أين لهم هذا التحديد؟! بل إن الأشاعرة أنفسهم قد اضطربوا في تحديد هذه الصفات، فمن الأشاعرة من أثبت سبع صفات، وبعضهم أثبت عشرًا، وبعضهم أثبت ثلاث عشرة صفة، وبعضهم أوصلها إلى عشرين صفة لله تعالى، فهذا نوع من الاضطراب. - في مبحث: (بيان مذهب السلف في التأويل)، جمع عن السلف من أقوال الصحابة وغيرهم ما يفيد أنه كان من مذهبهم التأويل، وقد أخطأ في عدة أمور ومنها: - أنه تكلف في تصحيح ما نسبه إلى السلف، ومثاله ما نقل عن ابن عباس من تفسير الكرسي بالعلم، فهذا لم يصح عن ابن عباس، وأيضا ما نقله عن البخاري لم يثبت عنه، مع كونه معارضًا بما ثبت واشتهر من عقيدة البخاري في إثبات أسماء الله وصفاته على ظاهرها، وعدم تأويلها. - أنه ينقل ما يوافق هواه من كلام بعض السلف دون جمع كل كلامهم في المسألة ليتبين معناه ويتضح مذهبهم، كما فعل في دعوى تأويل الإمام أحمد لصفة المجيء، ومع فرض ثبوته فإنما قاله الإمام أحمد حين ناظر الجهمية على سبيل المعارضة وإبطال حجة الخصم من كلامه وما يعتقده، وهذا من باب التنزل، فإن الجهمية كانت تتأول مجيئه سبحانه وإتيانه بمجيء وإتيان أمره، لا أنه يجيء بنفسه. - أنه ربما وضع كلام بعض السلف في غير موضعه، كأن يحتج بكلام لبعضهم فيما ليس من آيات الصفات، أو فيما اختلفوا على كونه من الصفات. فمثال الأول ما ذكر عن ابن عباس من تأويل لفظه (أيد) في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] فليست الأيد هنا جمعًا لليد، بل معناها القوة، فهي ليست من آيات الصفات أصلاً وكذلك الجنب. ومثال الثاني تأويل لفظة الساق في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، وقد اختلف فيها السلف، واختلافهم ليس في إثبات الصفة، لكن في كونها هل هي من آيات الصفات أم لا، وذلك لأن الساق جاءت في هذه الآية نكرة، ولم يضفها الله عز وجل لنفسه، كذلك قد اختلفوا في قوله {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] هل هو من آيات الصفات أم لا؟ - يجعل شيخ الإسلام ابن تيمية هو محور الرد في كثير من مسائل الكتاب، وابن تيمية لم يأت بعقيدة من قبل نفسه، وإنما يقرر شيخ الإسلام عقيدة أهل السنة والجماعة التي يدعمها بالأدلة من الكتاب والسنة مع صريح المعقول. - تبديعه لتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، ونسبته ذلك لابن تيمية متعللًا بحجج واهية، ومنها أنه لم يرد في السنة ولم يقل به أحد من الصحابة ولا الإمام أحمد، وأنه يلزم منه أن الله لم يكمل الدين ثم جاء من أكمله، وقد ادعى عدم التفرقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الألوهية في القرآن وأنه فيه الأمر بكلمة التوحيد مطلقة {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] والجواب عن ذلك من أوجه: الوجه الأول: أن هذه القسمة اصطلاحية، ولا مشاحة في الا

كتاب: المهدي المنتظر في روايات أهل السنة والشيعة الإمامية دراسة حديثية نقدية

كتاب: المهدي المنتظر في روايات أهل السنة والشيعة الإمامية دراسة حديثية نقدية للدكتور عداب محمود الحمش (عرض ونقد) جمادى الأولى 1432هـ كتاب هذا الشهر يتناول مسألة من مسائل المعتقد، وهي مسألة المهدي المنتظر من خلال عرض روايات أهل السنة والشيعة الإمامية عن المهدي ونقدها، وقد انتهى المؤلف من خلال دراسته تلك إلى ضعف جميع أحاديث المهدي، سواء المرفوع منها أو الموقوف، وإلى تصحيح مقالة أن ما ورد في المهدي صريحًا فغير صحيح وما صح مما ورد فغير صريح، خلافًا لما تقرر عند أهل السنة والجماعة من إثبات خروجه بل ذهب بعضهم إلى تواتر أحاديثه تواترا معنويًّا، وكان أصل هذا الكتاب بحثين للمؤلف: الأول (الروايات الواردة في ولادة المهدي المنتظر عند الشيعة الإمامية)، والثاني (الأحاديث التي صححها العلماء في مسألة المهدي المنتظر عند أهل السنة)، وكان هذان البحثان ضمن أبحاث الترقية لدرجة الأستاذية، ثم أعاد المؤلف النظر فيهما وراجعهما ليظهرا في هذه الصورة. أولاً: العرض يتكون هذا الكتاب من ستة فصول، اشتمل: الفصل الأول منها على البحوث والدراسات السابقة في المهدي المنتظر، سواء كانت مصنفات مفردة أو أدرج موضوع المهدي ضمن مباحثها، وذلك عند كل من أهل السنة والشيعة الإمامية. وفي الفصل الثاني تناول المؤلف الجوانب النظرية في مسألة المهدي المنتظر عند أهل السنة مبينًا دلالة كلمة (مهدي) في اللغة والاصطلاح، والعمق التاريخي لفكرة المهدي المنتظر، والجذور التاريخية، والتصور العام لعقيدة المهدي المنتظر عند أهل السنة، ثم تكلم عن المهدي المنتظر عند الصوفية، وحجية الأحاديث الواردة في المهدي عند أهل السنة إلى غير ذلك. وفي الفصل الثالث وهو بعنوان الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر عند أهل السنة تخريج ونقد، تناول أحاديث الإمامة القرشية والتجديد، والأحاديث المرفوعة المصرحة بالمهدي عند أهل السنة، وكذلك الآثار الموقوفة ثم الأحاديث المرفوعة غير الصريحة في المهدي. وقد اقتصر على الأحاديث التي صححها العلماء المتقدمون والمتأخرون ولاسيما الدكتور عبد العظيم عبد العليم البستوي في رسالته الجامعية (الأحاديثالواردة في المهدي في ميزان الجرح والتعديل). كما أعرض المؤلف عن الأحاديث الواردة في الصحيحين مما حمله العلماء على المهدي أيضًا. وأما في الفصل الرابع وهو الجوانب النظرية في عقيدة المهدي المنتظر عند الشيعة الإمامية فقد بدأ بتمهيد بيَّن فيه صلته بالشيعة الإمامية، ثم تكلم عن ولادة المنتظر بين العقيدة الدينية والثبوت التاريخي، وحجية مصادر الرواية عند الإمامية ومراتب الروايات الواردة في كتب الإمامية. وفي الفصل الخامس وهو تخريج ونقد الروايات الواردة، وبعد أن بيَّن منهجه في تقويم هذه الروايات ونقدها تحدث عن الإشارة والنص على إمامة الحسن العسكري ووالدة المهدي المنتظر، والإشارة والنص على إمامة المنتظر (صاحب الدار)، والروايات الواردة في تسمية من رآه والواردة في ولادة المنتظر. وفي الفصل السادس والأخير وهو تخريج ونقد حديث (لا مهدي إلا عيسى ابن مريم) تكلم عن الحديث وتخريجه ومن صححه من أهل العلم ومن ضعفه ثم قام بالموازنة بين أقوالهم والترجيح. ثانياً: النقد أخطأ المؤلف في النتيجة العامة للكتاب بتضعيفه كل أحاديث المهدي، خلافًا لما تقرر عند عامة أهل السنة من اعتقاد خروج المهدي، أضف إلى ذلك غمزه لعلماء أهل السنة، بينما على الجانب الآخر يمدح بعض أهل البدع ويدافع عنهم، كذلك فقد وقع المؤلف في أخطاء من ناحية الصناعة الحديثية، وهذه إشارة إلى بعض المؤاخذات على كتابه: 1 - دفاعه عن الصوفية ومهاجمة من ينكر عليهم انحرافهم فعندما نقل قول الألباني (ص 236): (من المسلمين اليوم من استقر في نفسه أن دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي وهذه خرافة وضلالة ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة وبخاصة الصوفية منهم). قال بعدها رادًّا عليه (ص 236): (غفر الله للشيخ الألباني فإن الذين استباحوا البيت الحرام مع مهدي جهيمان هم من تلامذته الذين يكفرون الصوفية في الجملة والمفرد). مع أن الشيخ الألباني كان من أوائل المبادرين بالإنكار عليهم. 2 - مدحه للصوفية والثناء عليهم وتزكية عقائدهم فقد قال (ص239): (إن منطلقات الصوفية في مسائل الاعتقاد هي منطلقات أهل السنة والجماعة ذاتها وليست شيئا آخر). وأطرى عليهم بعبارات المديح، منخدعًا بأساليبهم في التغرير بالمسلمين، من حيث تكلف الخشوع والرقة والأدب .. إلخ. ودفاعه عن ابن عربي ففي (ص 246) قال: (لقد ترجح عندي أن كل مخالفة عقدية في كتب الشيخ محيي الدين ابن عربي إنما هي من دس الزنادقة الذين كانوا يتظاهرون بالتصوف، ولاعتقادي هذا فإنني أترحم على الشيخ وأترضى عنه). 3 - دفاعه عن أحمد بن الصديق الغماري حيث قال في حاشية (ص 77): (وقول الألباني: قبوري ويحارب أهل التوحيد ... إلخ ... شنشنة غير مستغربة منه، والشيخ الألباني على منزلته لا يقارن بالشيخ السيد أحمد الغماري لسعة علومه وتعدد معارفه). مع أن الغماري يسمي أهل نجد بالقرنيين يعني أنهم قرن الشيطان ويهاجمهم ويفتري عليهم لا لشيء إلا لدعوتهم إلى التوحيد، ومنع التمسح بقبر النبي ودعائه. ويقول عن الغماري (ص 78) إنه سيده وشيخه ويدعو الله أن ينفعه بمحبته وعلمه. 4 - يقول عن أحاديث المهدي (ص 262): (لو صح شيء إلى واحد من علماء أهل البيت لقدرته واعتمدته في هذا البحث خاصة حتى لو كان مرسلًا أو معضلًا أو منقطعًا من فوق؛ لأن ثبوت الحديث إلى واحد من أئمة الحديث هو حجة شرعية بذاته لحجية سنة أهل البيت عند الإمامية). فانظر كيف يعتمد أصول الشيعة الإمامية. 5 - تهوينه للخلاف بين أهل السنة والشيعة مع احترامه لأئمة الشيعة كما في (ص 408،409،497). 6 - طعنه في علماء السنة بقوله (ص 115): (قد ظهر لي أن عقول علماء المسلمين حتى اليوم لا تستطيع الحياة خارج الإطار الطائفي الساذج). ولمزه الإمام ابن القيم والشيخ حمود التويجري والشيخ الألباني رحمهم الله، انظر: (ص 32، 52، 77، 83، 236). 7 - عدم وضوح انتمائه إلى أهل السنة، ويظهر ذلك في عرضه للخلاف الواقع في الأمة، حيث جعل تبعة ذلك على الفرق كلها، ولم يستثن منهم أهل السنة فقال (ص 11): (وإن صعوبة تحقق الأهداف وتجسد الطموحات المشتركة بين عقلاء هذه الأمة مرده إلى التشرذم الاجتماعي وفقدان أدب الحوار وتراشق التهم والترامي بالكفر والضلال والابتداع والانحراف، والرغبة العارمة في فرض الرأي الواحد والاحتكام إلى التاريخ، وكأن ما حدث من خطأ مضى يجب على جميع شرائح الأمة أن تتحمل آثاره السيئة إلى قيام الساعة). 8 - التبجح بعلاقاته الطيبة مع الروافض، وادعاؤه كذبا أن الخلاف بين أهل السنة وبينهم إنما هو في مسائل الفروع ولا يتجاوز 5% لذا فهو يدعو إلى التعايش السلمي بين الفريقين وعدم الحرص على دعوتهم للحق؛ لأنهم يدعون أنهم على الحق وأهل السنة يدعون أنهم على الحق، ولن يتراجع أحد الفريقين عن قوله كما في (ص409، 410). 9 - اغتراره بعلمه فقد قال عن الشيخ محمد الخضر حسين (ص80): (والذي ظهر لي أن الشيخ كغيره من علمائنا المعاصرين يستحيل في حقهم القدرة على تجاوز الأسماء اللامعة: ابن حجر، السخاوي، السيوطي، المناوي، البرزنجي، الشوكاني، الصنعاني، لاعتقاد قديم أن المتقدم أعلم وأحكم وأفضل وأعقل من المتأخر). وقال (ص 252): (إن كثيرا من علمائنا القدامى والمحدثين يقفون عاجزين أمام نقد الحديث من جهة الصناعة بينما تراهم بارعين في الكلام عن فقهه وفوائده). وقال (ص 538): (بعد الذي توصلنا إليه في هذا البحث لم يعد ثمة حاجة إلى التشنيع على الزيدية والإباضية ولا على من ينكر من أهل السنة أن تكون مسألة ظهور المهدي عقيدة واجبة التصديق). ركونًا إلى ما وصل إليه من نتائج. 10 - انحرافاته وأخطاؤه من الناحية الحديثية: - قال عن الحديث الحسن لذاته: (أما الصحيح في الدرجة الثالثة أعني الحسن لذاته على فرض وجوده وإمكان تخليصه ففي بناء عقيدة عليه صعوبة بالغة من جهة أن راويه إنما نزلت درجة حديثه إلى هذه المرتبة لخفة ضبطه فكيف نستوثق من ضبطه حديثا انفرد به). - رده للحديث الحسن لغيره كما في (ص 264،265) فقد قال: (الأحاديث التي حسنها بعض العلماء بشواهدها لا تصل إلى هذه المرتبة أبدًا لأن الحديث إنما حكمنا له بالحسن لورود شاهد له وهذا الشاهد نفسه إنما حسن بذاك الحديث وهذا دور مرفوض لا يقبل في حكم العقل ولا في علم الأصول، وما لو يأت حديث صالح للاحتجاج بذاته فلا يجوز أن يصحح به حديث أو يحسن البتة. ولقد مر علي زمن طويل وأنا أحسن بمثل هذا بل ربما أصحح ثم تبين لي من وراء النقد التطبيقي أن هذا منهج غلط بعض العلماء بتبنيه وتتابع من بعدهم على هذا المنهج تحسينا للظن بهم أو عجزا عن الاجتهاد في هذا العلم الذي قل نقاده والعارفون به). وقال (ص 259): (والذي أراه أن الحديث الصحيح يحتج به فيما وافق ظاهر القرآن من اعتقادات ويستأنس به فيما سكت عنه من ذلك ونرد ما خالف ظاهر القرآن أو دلالته الراجحة ومما يجب أن ينتبه له أن هذا في الحديث الصحيح فقط أما الأحاديث المصححة بترقيعات (حسن بشواهده) و (حسن لغيره) و (جيد في بابه) فهذه عندي لا تفيد علما ولا توجب عملا وغاية ما تفيده الأولى والأحوط في جانبي الفعل والترك إذا لم يكن في أبوابها ما يعارضها). - الجرأة في تضعيف الأحاديث حتى وإن تلقاها العلماء بالقبول، ومنها أحاديث المهدي وحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها). - اختراعه قواعد حديثية لم يسبق إليها مثل قوله (ص 330): (إطلاق الناقد لفظة التوثيق أو التعديل في تقويم شخصية الراوي إنما تعني منزلته العامة في سلم الجرح والتعديل ثم يأتي النظر في تطبيقاتهم العملية عند تخريج مروياته في الأبواب فقد يقولون هذا رجل ثقة ثم تجد لهم نقدا على كثير من رواياته فالتمسك بالإطلاق العام دون تتبع صنيع الحفاظ التطبيقي حيال مرويات كل راو؛ خطأ منهجي يقود إلى نتائج غير صحيحة). وهذا فتح باب لهدم علم الجرح والتعديل. - كلامه في بعض الرواة الثقات كأبي الصديق الناجي فقال فيه (ص 329): (إن الذي يخرج أحاديث في عقيدة تبني عليها الأمة آمالها لا يجوز أن يتعامل مع تلك الأحاديث كما يتعامل مع رواة الرغائب والمناقب والفضائل، بل يجب أن يعي ذلك بعيدًا عن الترقيع فأبو الصديق الناجي حديثه حسن في المتابعات إذا خلا من المغامز ولم ينفرد وههنا قد انفرد). قال هذا على الرغم من أن الشيخين البخاري ومسلمًا قد أخرجا له في صحيحهما ووثقه غير واحد. وقال في سليمان بن عبيد السلمي البصري (ص 330): (مقتضى ظواهر القواعد الحديثية أن الرجل معروف العين روى عنه ثلاثة من الحفاظ ولم يجرح ووثقه حافظان، وقال أبو حاتم المتشدد: صدوق فأقل أحواله أنه محتج به في مرتبة صدوق وحديثه حسن لذاته). ومع تقريره لذلك إلا أنه يتراجع ويحكم على سليمان بالجهالة فيقول (ص 333): (وبناء على فقه الجرح والتعديل فالرجل مجهول الحال بقطع النظر عن كل ما نقل في توثيقه؛ لأن توثيقهم ليس له مستند من سبر الروايات). هذه بعض المؤاخذات على الكتاب، ومن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع إلى كتاب (سل الهندي على تعسف من ضعف أحاديث المهدي) لأحمد بن إبراهيم بن أبي العينين. والله أعلم

في الطريق إلى الألفة الإسلامية

في الطريق إلى الألفة الإسلامية محاولة تأصيلية ورؤية جديدة لعبد الفتاح بن صالح بن قديش اليافعي (عرض ونقد) كتاب هذا الشهر هو كتاب (في الطريق إلى الألفة الإسلامية - محاولة تأصيلية ورؤية جديدة) وهو محاولة لتأصيل الطريق إلى الألفة بين المسلمين تأصيلاً علميًّا على حد تعبير مؤلفه، والمقصود تحقيق الألفة بين المختلفين في المجال الفكري؛ لأنه أكثر المجالات اختلافاً كما ذكر المؤلف، وقد حشد فيه مؤلفه ما يزيد على عشرين تقريظاً من بعض أهل السنة والرافضة والصوفية والأباضية وغيرها، مثل: أبي بكر العدني المشهور، وأحمد الخليلي، وحسن الصفار، وعمر بن حفيظ، ومحمد العمراني، وعصام البشير، وغيرهم، وهذا لا يغير شيئاً مما يتوجه إلى هذا الكتاب من نقد. أولاً: العرض تناول المؤلف موضوع الكتاب من خلال ثلاثة محاور: المحور الأول: تصحيح التصور عن الآخر وتضمن مبحثين: المبحث الأول: تصحيح النقل عن الآخر المبحث الثاني: تصحيح الفهم المحور الثاني: تصحيح الحكم على الآخر وفيه ستة مباحث وهي: 1 - أنواع الخلاف 2 - هل هناك فرق بين الخطأ في الاعتقاد والخطأ في العمل 3 - متى يعذر المخالف في الاعتقاد والعمل 4 - مسألة التكفير 5 - الاعتدال والتجرد والإنصاف في الحكم على الآخر 6 - إشكالات في حديث افتراق الأمة المحور الثالث: تصحيح المعاملة مع الآخر واشتمل على ستة مباحث: 1 - لا إنكار في مسائل الخلاف 2 - المنهج الشرعي في التعامل مع المخالف 3 - نماذج مشرقة ونماذج مظلمة من التاريخ في التعامل مع المخالف 4 - هو سماكم المسلمين 5 - لنتعاون فيما اتفقنا عليه 6 - تجنب الإرهاب الفكري وردود الأفعال ثانياً: النقد - ذكر المؤلف في مقدمة كتابه (ص57، 58) أنه سيحاول أن يكون متحرراً من كل سلطة في نقد الأفكار، ثم إنه يحاول ممارسة نوع من الإكراه على قبول فكرته وما يطرحه في هذا الكتاب برمي المعارضين لفكرته بالغلو ووصفهم بالغلاة بينما من يقبل فكرته يكون من العقلاء والمعتدلين. ولئن كان المؤلف في كتابه الذي سبق وأن عرضناه من قبل وهو كتاب (المنهجية العامة في العقيدة والفقه والسلوك) حاول التقريب بين أهل السنة والأشاعرة والماتريدية، بل جعل هاتين الفرقتين من أهل السنة، فالأمر هنا أكبر والخطب أشد، فهو يحاول التقريب بين أهل السنة والصوفية والمعتزلة والإباضية والشيعة بل والإسماعيلية والنصيرية وغيرهما من الفرق المنتسبة للإسلام. ولأن المؤلف يعلم حجم مخالفات بعض الفرق التي ذكرها بل مصادمتها مع أصول الإسلام ومسلماته يقول محاولاً تبرئة ساحته بعد ذكر الإسماعيلية فيما نسب إليها من القول بتناسخ الأرواح وإنكار البعث والجنة والنار يقول (ص 99): (ومما يجدر التنبيه عليه هنا أنني في هذا النموذج وفي بقية النماذج إنما كتبت ما اطلعت عليه، وأخلي مسئوليتي عما قد يوجد في كتب القوم مما لم أطلع عليه، أو عما إذا كان المنقول عنهم إنما قيل تقية، أو عما إذا كان واقع الأتباع اليوم على خلاف المنقول عن كتبهم). إذن فإلى أي شيء يدعو وهو ليس على ثقة من مذاهب هؤلاء القوم؟!. - في (ص 181) يقول: (وأحسن من رأيته تكلم في ضابط التكفير في العقائد وغيرها هو أبو حامد الغزالي في رسالته (فيصل التفرقة) ضمن رسائله (ص 78 - 84) حيث قال: (الكفر هو تكذيب الرسول في شيء مما جاء به، والإيمان هو تصديقه بكل ما جاء به ... ) إلخ. فتأمل كيف استحسن كلام الغزالي في حصر الكفر في التكذيب، مع كون الكفر يحصل أيضاً بالقول أو الفعل، وحصر التكفير في التكذيب هو من عقائد المرجئة. - ذكر المؤلف نماذج من معتقدات بعض الفرق وترك نماذج أخرى أهم، وبعضها فيه انحراف وبعد كبير عن منهج أهل السنة. - ولأن منهجه في التقريب بين المذاهب المختلفة بعد إذابة الفوارق بينهم أو تمييعها يعارضه حديث افتراق الأمة حاول أن يثير الشكوك حول هذا الحديث من ناحية صحته وضعفه ككل، وخاصة زيادة (كلها في النار إلا واحدة). ولأن أهل السنة من أكبر ما يميزهم عن أهل البدع هو اعتمادهم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة حاول أن يزعزع هذا الأصل بإيراد ثلاثة إشكالات عليه (ص 239) ومنها إشكال في تحديد السلف الصالح، حيث ذكر أن في تحديدهم أقوالاً كثيرة، ولم يذكر منها إلا ثلاثة، ثم قال: (كل طائفة تدعي أن لها سلفاً من تلك القرون الفاضلة بل كل طائفة تدعي أن ما هي عليه هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) إذن وعلى كلامه فلا يصح لأهل السنة أن يدعوا تميزهم بهذا الأصل. ثم ذكر إشكالين آخرين متهافتين الأول هو أننا إذا حددنا السلف الصالح فهم إما أن يجمعوا وإما أن يختلفوا، فإن أجمعوا فإجماعهم حجة، وإن اختلفوا فاختلافهم رحمة وسعة. ويتساءل ما الفائدة من قولنا على فهم السلف، والإجماع من أهل كل عصر حجة؟ فكأنه يسوي بين الصحابة وغيرهم ويقلل من منزلتهم ومكانتهم وما لهم من تميز عن سائر الأمة بدلالة نصوص الكتاب والسنة. ثم أتبع ذلك بإشكال آخر (ص 240) وهو أن الاختلاف في العقائد حصل في القرون المفضلة وأن هذا الخلاف يخرق الإجماع -على خلاف بين أهل السنة في ذلك كما يقول- وطالما أن المسألة ليس فيها إجماع فالخلاف فيه سعة حينئذ. وهو هنا يحاول أن يتحرر من أصول أهل السنة من أجل التقارب مع الفرق الضالة وتحقيق الألفة معهم. - وتحت عنوان من هي الفرقة الناجية أتى بشيء عجيب وهو أنه تحول من الكلام عن الفرقة الناجية والتي لها خصائص معينة وصفات معينة ليتكلم عن الناجي فقال: (إن الناجي هو المتقي من أي طائفة كان - عقدية أو فقهية أو دعوية - والناجي في مجال الفكر والعقيدة هو من بذل جهده للوصول إلى الحق بتجرد وإنصاف سواء أصاب الحق أم أخطأه من أي طائفة كان لأن ذلك وسعه ومستطاعه من التقوى {فاتقوا الله ما استطعتم} {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ومن لم يبذل جهده للوصول للحق أو بذله بلا تجرد وإنصاف فهو مقصر وصاحب هوى غير متقي وهو غير ناج سواء أصاب الحق أم أخطأه من أي طائفة كان ومن ذلك نعلم أن مناط النجاة هو الشخص لا الطائفة. ولما أورد اعتراضاً على نفسه بأن الحديث فيه أن الناجي طائفة قال (ص 242): (إن مجموع أولئك الناجين من كل المذاهب هم الفرقة الناجية). فمن سلفه في هذا الفهم العجيب الذي يجعل المتقي من السنة والشيعة والمعتزلة والخوارج والنصيرية وغيرهم يشكلون الفرقة الناجية بغض النظر عن المنهج والعقيدة؟!!. نعوذ بالله من الخذلان. - في آخر الكتاب (ص 323) وتحت عنوان مقتطفات من كلام بعض المشايخ في قضية التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية ذكر كلاماً للشيخ يوسف القرضاوي وغيره، وها هو الشيخ القرضاوي يعلن تراجعه عن التقارب مع الشيعة فيقول بلسان من عرف الواقع وبصَّرته التجربة: (لا يمكن أن نتفاهم ونتقارب فيما بيننا وأنا أقول أبو بكر رضي الله عنه، وأنت تقول أبو بكر لعنه الله، فكم الفرق بعيد بين الترضي عن شخص وقذفه باللعنة). وقد أعلن أن أغلب الشيعة يؤمنون بأن القرآن ناقص، وأنهم لا زالوا يتقربون إلى الله بسب ولعن الصحابة رضوان الله عليهم. كذلك اكتشف الشيخ القرضاوي حقيقة هامة وهي: أن محاولات التقريب من جانب الشيعة كانت ستاراً لنشر التشيع في ديار أهل السنة يدرك ذلك من وقف على ظواهر المد الشيعي في بلاد السنة. ثم إن المؤلف نفسه يعترف كما في (ص 272) بـ (أن التقية عند الإمامية تعد حاجزاً أمام تصديق أهل السنة لأي تصحيح أو تقارب من قبل الشيعة، ولكننا نقول: إن حَسَنَ المعاملة ولو تقية خير من سيئ المعاملة). انتهى كلامه، فكيف بعد ذلك نقول بالتقارب معهم وهم يتحينون الفرصة للانقضاض على أهل السنة والفتك بهم، وما فائدة حسن المعاملة في الظاهر تقية، وما يدريه أن ما قرأه أو سمعه منهم إنما كان على سبيل التقية. وتاريخ الشيعة مع السنة تاريخ حافل بالغدر والخيانة ومناصرة الأعداء ضد أهل السنة في القديم والحديث. - إن كلام المؤلف في موضوع تصحيح التصور عن الآخر وتصحيح الفهم عنه يصلح فيما يتعلق بالأفراد والجماعات التي لم تُعرف حقيقتها، أما الفرق المبتدعة التي ذكرها فإن كتب الفرق والملل والنحل قد تكفلت ببيان حقائقها وأفكارها ومعتقداتها المخالفة للعقيدة الصحيحة، وإن تحقيق الألفة لا يكون على حساب الدين والعقيدة، وكما قيل: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة. هذه بعض المؤاخذات على الكتاب والذي يحتاج إلى من يقوم بالرد عليه ردًّا شافياً، وبيان أخطائه بياناً تفصيليًّا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تحرير المرأة في عصر الرسالة

تحرير المرأة في عصر الرسالة لعبد الحليم محمد أبي شقة (عرض ونقد) 2 ربيع الأول 1432هـ كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) لعبد الحليم محمد أبي شقة، من أبرز كتابات المدرسة العصرانية، وقد طبع هذا الكتاب منذ أكثر من عشرين سنة، وانتشر في كثير من بلدان العالم، وأصبح مرجعًا لعدد كبير من العصرانيين، واعتمد في بعض جامعات الدول العربية. قدَّم لهذا الكتاب وأثنى عليه اثنان من أعلام العصر الحاضر؛ هما الشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي -غفر الله لهما- وهذا التقديم زاد من شهرة الكتاب وانتشاره. كما أقيم لهذا الكتاب وللفكر الذي يطرحه احتفالية كبيرة في مصر، بعد وفاة المؤلف، شارك فيها بعض المفكرين الذين أثنوا على الكتاب ومنهجه في طرح قضايا المرأة. ومما قد يلبس على بعض الناس أن المؤلف حشد في كتابه ما استطاع من نصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم مما يتعلق بالمرأة، وقام بتصنيفها وعنونتها والتعليق على بعضها. لذا أحببنا إلقاء الضوء على هذا الكتاب وبيان خطورته وما عليه من مآخذ: أولًا العرض: يتكون كتاب تحرير المرأة من ستة أجزاء، اشتمل كل جزء منها على العديد من الفصول وها هو تفصيلها: الجزء الأول معالم شخصية المرأة المسلمة وهذا الجزء تناوله المؤلف من خلال ثمان فصول وهي: - شخصية المرأة في القرآن الكريم الفصل الأول: بعض معالم شخصية المرأة في القرآن الكريم الفصل الثاني: مواقف طيبة للمرأة في القرآن الكريم. شخصيات نسائية في القرآن الكريم. الفصل الثالث: بعض معالم شخصية المرأة في صحيحي البخاري ومسلم. الفصل الرابع: مواقف نسائية كريمة. الفصل الخامس: نماذج من قوة شخصية المرأة المسلمة وحسن إدراكها لحقوقها وواجباتها. الفصل السادس: شخصيات نسائية. الفصل السابع: أحاديث صحيحة عن شخصية المرأة أساء البعض فهمها وتطبيقها. الفصل الثامن: تعقيبات على معالم شخصية المرأة المسلمة. الجزء الثاني: مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية وهذا الجزء تناوله المؤلف من خلال ثمانية فصول وهي: الفصل الأول: دواعي مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية في عصر الرسالة. الفصل الثاني: آداب اشتراك المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية ولقائها الرجال. الفصل الثالث: مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية في عهود الأنبياء عليهم السلام. الفصل الرابع: لقاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم الرجال في مجالات الحياة قبل فرض الحجاب. الفصل الخامس: وقائع مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية في عصر الرسالة. الفصل السادس: مشاركة المرأة المسلمة في العمل المهني والمعالم الشرعية للمشاركة. الفصل السابع: مشاركة المرأة المسلمة في النشاط الاجتماعي والمعالم الشرعية للمشاركة. الفصل الثامن: مشاركة المرأة المسلمة في النشاط السياسي والمعالم الشرعية للمشاركة. الجزء الثالث: حوارات مع المعارضين لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية وهذا الجزء تناوله المؤلف من خلال ثلاثة فصول وهي: الفصل الأول اشتمل على: أولاً: حوار حول اعتراضات على أدلة مشروعية المشاركة واللقاء. ثانياً: حوار حول أدلة تساق لحظر المشاركة واللقاء. ثالثاً: حوار حول بعض أقوال للمعارضين. الفصل الثاني: حوار حول الحجاب الوارد في قوله تعالى: {فاسألوهن من وراء حجاب} وإثبات خصوصيته بنساء النبي صلى الله عليه وسلم. الفصل الثالث: حوار حول الغلو في تطبيق قاعدة سد الذريعة الجزء الرابع: لباس المرأة المسلمة وزينتها عند لقائها الرجال الأجانب وهذا الجزء تناوله المؤلف من خلال أحد عشر فصلًا وهي: الفصل الأول: مقدمات الفصل الثاني: الشرط الأول في لباس المرأة. - معالم ستر بدن المرأة في القرآن الكريم. الفصل الثالث: سفور وجه المرأة كان هو الغالب في مجتمع المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. الفصل الرابع: قرائن إضافية على مشروعية سفور وجه المرأة. الفصل الخامس: اتفاق الفقهاء المتقدمين على مشروعية سفور وجه المرأة. الفصل السادس: النقاب بين الجاهلية والإسلام. الفصل السابع: وجوب كشف المرأة وجهها في الإحرام. الفصل الثامن: الشرط الثاني في لباس المرأة وزينتها: التزام الاعتدال في زينة الوجه والكفين والقديم والثياب. الفصل التاسع: واشتمل على ذكر ثلاثة شروط أخرى في لباس المرأة وهي: الشرط الثالث: أن يكون لباس المرأة وزينتها مما تعارف عليه مجتمع المسلمين. الشرط الرابع: أن يكون لباس المرأة مخالفًا في مجموعه للباس الرجال. الشرط الخامس: أن تكون ثياب المرأة وزينتها مخالفة في مجموعها لما تتميز به الكافرات. الفصل العاشر: حوار مع المعارضين القائلين بوجوب ستر الوجه. الفصل الحادي عشر: حوار مع المعارضين القائلين بندب ستر الوجه. الجزء الخامس: مكانة المرأة المسلمة في الأسرة وهذا الجزء تناوله المؤلف من خلال تسعة فصول وهي: الفصل الأول: الزواج في شريعة الإسلام. الفصل الثاني: الخطبة الفصل الثالث: المهر الفصل الرابع: عقد النكاح الفصل الخامس: الحقوق المتماثلة للزوجين: أولًا: الحق الأساسي الشامل: حق الرعاية الفصل السادس: الحقوق المتماثلة للزوجين ثانيًا: الحقوق الجزئية. الفصل السابع: الخلاف بين الزوجين ومعالجته الفصل الثامن: حق المفارقة لكل من الزوجين. الفصل التاسع: تعدد الزوجات الجزء السادس: الثقافة الجنسية بين الزوجين وهذا الجزء تناوله المؤلف من خلال ثمان فصول وهي: الفصل الأول: مقدمات الفصل الثاني: الثقافة الجنسية والحياء الفصل الثالث: تقرير الشريعة قوة الشهوة الجنسية الفصل الرابع: تيسير الشريعة مجالات ممارسة المتعة الجنسية الفصل الخامس: الآداب الواجبة المتعلقة بالمتعة الجنسية الفصل السادس: الشريعة وفنون الاستمتاع الفصل السابع: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج والاستمتاع الفصل الثامن: نماذج من أقوال الفقهاء في الثقافة الجنسية. ثانيًا النقد: حاول المؤلف إثبات بعض القضايا المصادمة لتعاليم الإسلام من خلال كتابه هذا، ومنها: 1 - مشروعية الاختلاط بين الرجال والنساء. فقد ذهب المؤلف إلى مشروعية الاختلاط بين الرجال والنساء، وأنه الأصل، وأن أدلة السنة المتكاثرة قد دلت عليه، وقد سماه الاختلاط المشروع. 2 - أن الأصل هو كشف الوجه، وأما النقاب فهو عادة من عادات التجمل قبل الإسلام. لذا فهو يروج لكشف الوجه ويجعل النقاب فيه تضييق على المرأة فيقول عنه أنه (تضييق على ما منحها الله من قوة الإبصار وتضييق حريتها في تنفس الهواء). 3 - جواز تزيين المرأة في وجهها وكفيها أمام الرجال الأجانب. فيقول: (على المرأة المسلمة أن تلتزم بقدر من الزينة الظاهرة طول حياتها، سواء جلست في بيتها أو خرجت للمشاركة في الحياة الاجتماعية) ويقول: (أما أنواع الطيب والأصباغ كالصفرة والخلوق والزعفران والخمرة، فلابد من مضي بعض الوقت لتزول، خاصة وأنها من طيب النساء الذي من خواصه ظهور لونه وخفاء ريحه. وهذا يعني أن المرأة إذا تزينت بمثل تلك الزينة وهي في بيتها بين زوجها وأولادها ومحارمها، ثم دخل على الأسرة رجال من غير المحارم أو خرجت المرأة لقضاء مصلحة لها، فلابد أن يرى الرجال ما ظهر من زينتها التي تزينت بها وهي في بيتها. وسبحان ربنا الرءوف الرحيم، فإنه لم يحرج مثل تلك المرأة، ولم يفرض عليها الامتناع عن لقاء الرجال أو إزالة تلك الزينة، بل استثناها سبحانه مما يجب أن تخفيه من زينتها وقال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]) 4 - أن القرار في البيت والحجاب، من خصوصيات أمهات المؤمنين. 6 - تساوي المرأة مع الرجل في ميادين العمل، وإلغاء خصوصية كلٍّ منهما بعملٍ يختلف عن الآخر. منهجه في التعامل مع النصوص: 1 - اتباع المؤلف للمتشابه وتركه للمحكم من النصوص، فعلى سبيل المثال قام المؤلف بسرد الأدلة في موضوع غض البصر، ووقف مع بعض هذه الأدلة ليقرر أن النظر إلى النساء ليس كله حرام، إلا إذا اقترن بشهوة ولم يجب عن الأدلة الصريحة في المنع من نظر الرجال إلى النساء. 2 - اختلال الأمانة العلمية عند المؤلف. ومنها على سبيل المثال بتر المؤلف للأحاديث النبوية كما في حديث إهداء أم سليم للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث حديث دخول الرجال على أسماء بنت عميس. وبتره لكلام العلماء كما في كلام ابن حجر في تثبت المرأة من الفتوى، ونسبته لابن أبي شيبة ما لم يقله إلى غير ذلك. 3 - تحميل النص ما لا يحتمل والتكلف في الاستدلال. ومنها على سبيل المثال استدلال المؤلف على مشاركة المرأة في العهد النبوي في الاحتفالات العامة المختلطة: بحديث أنسٍ رضي الله عنه، قال: رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم النساء والصِّبيان مقبلين من عرسٍ فقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ممثلاً فقال: ((اللَّهمَّ أنتم من أحبِّ النَّاس إليَّ)). قالها ثلاث مرارٍ. فأين وجه الاستدلال من هذا الحديث؟ لم يذكره المؤلف. ومنها استدلاله بحديث ابن عباس قال: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. فيستدل به على (أن تعود رؤية الجنس الآخر في مناسبات جادة، وفي جو عائلي رصين يسوده الاحتشام، مما يبعد الخجل الْمَرَضي عن التقي والإنسان العاقل السوي، ويخفف من حدة الشره الجنسي عند الشقي والإنسان الضعيف صاحب القلب المريض). 4 - تحريفه لمعاني أحاديث المرأة. كما في حديث أن أكثر أهل النار من النساء وحديث نقصان عقل المرأة وغير ذلك. 5 - وقوعه في التناقض: أ- فهو يسخر من ستر الوجه، ومع ذلك يقر بوقوع ستر الوجه بالنقاب من بعض المؤمنات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ب- دعواه بأنه سيعتمد على نصوص الصحيحين فقط، وأنه سيؤيد كلامه بالدليل، ثم تجده عند اختياره جواز أن تلبس المرأة ما يصف حجم بعض أعضائها يقول: (إن عامة الصالحات من نساء الأتراك في عصرنا يبدو شيء من أسافل سوقهن مما يلي الكعبين، لكنه مغطى بجوارب سميكة، وذلك دون إنكار من العلماء). فأين الدليل من الكتاب والسنة على ذلك؟! هذه بعض المؤاخذات على الكتاب، ومن أراد الاستزادة فيمكن أن يراجع نقد الشيخ سليمان الخراشي للكتاب وهو في رسالة صغيرة، وكذلك كتاب (تحرير المرأة عند العصرانيين كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة أنموذجاً) للدكتور عادل بن حسن الحمد، وهو من إصدارات مؤسسة الدرر السنية للنشر، ويطبع لأول مرة.

مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتوى المعاصرة

مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتوى المعاصرة (عرض ونقد) 4 صفر 1432هـ البدعة خطرها عظيم وضررها جسيم، والابتداع في الدين في حقيقته هجر للمشروع، واستدراك على الشرع، ويفضي في نهاية الأمر إلى شرع محرف مبدل؛ لذا كانت البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية. وقد ألف العلماء في البدع قديماً وحديثاً، ومن المؤلفات الجديدة كتاب (مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة- دراسة تأصيلية تطبيقية) للدكتور عبد الإله بن حسين العرفج، والكتاب يحاول تقرير أن ليس كل بدعة ضلالة وأن البدع تنقسم إلى خمسة أقسام: واجب ومستحب وجائز ومكروه ومحرم، ولئن كان هذا التقسيم وهذا القول ليس بجديد وقد سبقه غيره إليه إلا أن الجديد في هذا الكتاب هو الأمثلة والشواهد التي حصرها واجتهد في جمعها. عرض محتويات الكتاب: عقد المؤلف كتابه في أحد عشر فصلاً، وهذا تفصيلها: الفصل الأول: مقدمة في كمال الدين الفصل الثاني: أنواع النوازل المستجدات وكيفية التعامل معها الفصل الثالث: معنى البدعة في اللغة والشرع الفصل الرابع: حكم الترك وأنواعه الفصل الخامس: هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما أحدثه الصحابة رضي الله عنهم الفصل السادس: هدي الصحابة رضي الله عنهم في المحدثات بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصل السابع: التوقيف في العبادات والقياس عليها الفصل الثامن: نماذج من اختلاف السلف في الحكم التطبيقي للبدعة الفصل التاسع: نماذج لاختلاف المضيقين لمعنى البدعة في حكم بعض المحدثات الفصل العاشر: مقارنة بين محدثات المولد النبوي وصلاة القيام وعشاء الوالدين الفصل الحادي عشر: صفات البدعة المذمومة في الشرع المؤاخذات على الكتاب: ا- الخلط بين المحدثات في العبادات والمحدثات في الوسائل كمساند الصف أو المحدثات الدنيوية كالمهرجانات الشعبية والتراثية. ومن تأمل بعض الأمثلة التي ذكرها وجد أنها خارجة عن موضوع البدعة ومفهومها. 2 - قصر المؤلف فهم حديث (من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة ... ) على معنى واحد فقط، وهو إحياء السنن المهجورة بينما له معان أخرى كابتداء عمل مشروع أو فعل وسيلة لأمر مشروع إلى غير ذلك وليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وابتداء المرء شيئا من تلقاء نفسه كما حاول أن يثبت المؤلف. 3 - ربط المؤلف بين الحكم بالبدعية والتبديع. وقد أغفل المؤلف قاعدة مشهورة وهي التفريق بين الحكم على الفعل أنه بدعة وبين تبديع الفاعل، وهو قد ذكر في كتابه مسائل عديدة لكبار العلماء المعاصرين وحُكم بعضهم عليها بالبدعة، ومع هذا لم نسمع أن أحداً منهم بدَّع الآخر. 4 - الاضطرب في تحرير مفهوم الترك - أي ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه - وما يقتضيه عند المضيِّقين لمعنى البدعة، فيحاول أن ينسب إليهم القول بأن الترك يقتضي التحريم بينما هم يشترطون قيد انتفاء الموانع وقيام المقتضي ولاشك أن هناك فرقاً بين القول بأن (الترك يقتضي التحريم) مطلقاً، وبين تقييد ذلك بـ (مع قيام المقتضي وانتفاء المانع). 5 - احتجاجه بأن الصحابة أحدثوا عبادات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. فأما في حياته فيجاب عنه بأن هذا كان في زمن التشريع وقبل اكتمال الدين، وكان الصحابة يفعلون ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم وربما اجتهد الواحد منهم اجتهاداً، فإن أصاب أقره النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره أصبح سنة مستحبة، وإن أخطأ أنكر عليه، حتى نزل قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} وهي من آخر ما نزل من الآيات. كذلك فإن الصحابة بشر يجتهد الواحد منهم فقد يصيب وقد يخطئ، وفعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة حتى يقره عليه صلوات الله عليه وسلامه. وأما بعد وفاته فجميع الأمثلة التي أوردها المؤلف لا تخرج عن أحد حالات أربع: إما أنها لا تصح سنداً. أو هي وسيلة وليست عبادة بذاتها. أو هي مما لم يكن مقتضاه وموجبه موجوداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو هي من الأذكار والنوافل المطلقة التي لم يقل ببدعيتها أحد. 6 - احتجاجه باختلاف السلف في الحكم على بعض المحدثات بالبدعية على أن البدعة ليست كلها ضلالة ومحاولته تقرير أن تقسيم البدعة إلى الأقسام الخمسة يفسر اختلاف العلماء في الحكم على بدعية مسألة ما، أما تضييقهم لمعنى البدعة، وأنها كلها ضلالة فليس فيه مسوغ لاختلافهم في الحكم. ويجاب عنه بأن الحكم بالبدعة من الأمور التي يجتهد فيها العالم أو الفقيه، كالحكم بالكراهة والتحريم، ولكن ينبغي أن يُعلم أيضاً أن الحكم على الشيء بأنه بدعة لا يكون في الأمور الاجتهادية؛ لأن التبديع إنكار ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، أما المسائل الخلافية فلا حرج من الإنكار فيها والحكم على بعضها بالبدعة، ولكن مع التحلي بالأدب. 7 - مقارنته بين ثلاث محدثات مستجدات (المولد النبوي، وصلاة القيام، وعشاء الوالدين) لمحاولة إثبات مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي والذي أكثر من ذكره في كتابه ليلزم من أفتى بجواز بعضها القول بجواز الباقي، ويجاب عن ذلك بأن صلاة القيام لها أصل، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها الصحابة من بعده، أما تقسيمها قسمين أو ثلاثة وفي أول الليل أو وسطه أو آخره فهذا حسب ظروف الناس وأحوالهم. كذلك فإن عشاء الوالدين الذي أجازه العلماء هو التصدق عنهما، وليس مجرد الذبح كما يوهم كلام المؤلف. لكن ما هو أصل الاحتفال بالمولد؟! وهل فعله الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؟! هذه بعض المؤاخذات على هذا الكتاب مع إجمال الرد عليها، ومن أراد الاستزادة في التعرف على هذه المؤاخذات مع تفصيل الرد عليها فليرجع إلى كتاب (كل بدعة ضلالة قراءة ناقدة وهادئة لكتاب مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة) للشيخ علوي بن عبد القادر السقاف المشرف العام على موقع الدرر السنية، والكتاب من إصدارات مؤسسة الدرر السنية.

كتاب: المنهجية العامة في العقيدة والفقه والسلوك

كتاب: المنهجية العامة في العقيدة والفقه والسلوك والإعلام بأن الأشعرية والماتريدية من أهل السنة (عرض ونقد) 3 محرم 1432هـ كتاب هذا الشهر هو كتاب (المنهجية العامة في العقيدة والفقه والسلوك والإعلام بأن الأشعرية والماتريدية من أهل السنة) لعبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي، والكتاب سبق عرض نظيره في تقرير أن التفويض مذهب السلف وأهل الحديث، وأن الأشاعرة هم أهل السنة كما في كتاب (القول التمام) و (أهل السنة الأشاعرة) لكن يزيد المؤلف هنا إلى الأشاعرة الماتريدية، ويزيد أيضا جديداً في مجال التربية والتزكية بجعلها على طريقة المتصوفة، وسنستعرض الكتاب، ونبين ما عليه من مؤاخذات. أولا: عرض الكتاب 1 - تحت عنوان: أولاً: في التوحيد والعقيدة قرر المؤلف أن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة، واحتج بأنه بعد ظهور الأشعري والماتريدي لا تكاد تجد أحدا من أهل العلم من المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والمتكلمين واللغويين والمؤرخين والقادة والمصلحين- وذكر جملة من أهل العلم وغيرهم- إلا وهو من المنتسبين لهذين المذهبين، فكيف يكونون مبتدعين ضالين خارجين عن أهل السنة والجماعة، وذكر أقوالاً لطائفة من أهل الحديث والحنابلة في أن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة. 2 - ثم انتقل المؤلف إلى عنوان جديد باسم: متى بدأت الفتنة بين الفريقين وذكر فيه تعاون أهل الحديث والحنابلة مع الأشعرية والماتريدية تجاه المبتدعة والزنادقة، ومظاهر الفساد والانحلال إلى حدثت الفتنة بين الطائفتين في القرن الخامس الهجري، والتي عرفت بفتنة ابن القشيرى وذكر أمثلة للعلاقة الطيبة بين الحنابلة والأشاعرة، وأن الفتنة التي حصلت تلقي بظلالها على العلاقة بين أهل السنة في وقتنا المعاصر مع أننا في حاجة إلى الألفة والاتحاد في وجه أعدائنا الذين تكالبوا علينا. 3 - وفي ختام المبحث السابق قال المؤلف: تنبيه مهم جدًّا. وأورد فيه سؤالين وأجاب عنهما الأول أنه كيف تجعل الفرقة الناجية ثلاث فرق مع أن الفرقة الناجية لا بد أن تكون واحدة فأجاب بأن التعدد لا يمنع من الانتماء للفرقة الناجية فيمكن أن يكون المنتمون إليها محدثين وفقهاء ومفسرين وحنفية ومالكية ومصريين وشاميين ... إلخ ثم أورد على نفسه سؤالاً ثانياً بأن هذا التعدد ليس في العقائد بل في الفروع فأجاب أن الاختلاف بين المذاهب الثلاثة ليس في أصول العقائد بل بعضه في الفرعيات والبعض الآخر- وهو الأكثر- اختلاف لفظي لا حقيقي وأراد أن يدلل على ذلك باستعراض أحد مسائل الخلاف بين الطائفتين وهي مسألة الأسماء والصفات، وأفردها بالبحث تحت عنوان: مسألة الصفات أنموذجاً. 4 - في المبحث المشار إليه آنفا ذكر ما اتفق عليه الحنابلة وأهل الحديث والأشاعرة والماتريدية في باب الأسماء والصفات من أن الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا وأنه منزه عن صفات النقص بأي وجه من الوجوه، وأنه واحد في أسمائه وصفاته لا يشابه خلقه في شيء إلى غير ذلك، ثم ذكر بعض كلام الحنابلة وأهل الحديث في نفي الجسمية عن الله ولوازمها، ثم ذكر طائفة من أقوال الأشاعرة والماتريدية في ذلك، ثم بعد ذلك قال: إنهم اختلفوا في مسألة جزئية فرعية وهي أن هناك آيات وأحاديث يوهم ظاهرها التجسيم أو التشبيه كالوجه واليد والمجيء فالمجسمة حملوها على مقتضى الحس وظاهر اللغة وأهل الحديث والحنابلة قالوا: نثبتها لله مع تنزيهه عن الجسمية ونكل العلم بحقيقتها إلى الله تعالى وبعضهم يسمي ذلك إثباتاً وبعضهم يسميه تفويضاً، وبعضهم يسميه تفويض معنى، وآخرون يسمونه تفويض كيفية، وغيرهم يسميه تفويض حقيقة وكنه، ثم ذكر طائفة من أقوالهم في التفويض ثم ذكر أن للأشاعرة طريقتين: الأولى كطريقة أهل الحديث والحنابلة والثانية هي التأويل لهذه النصوص بما يليق بالله تعالى ويتناسب مع اللغة، وذكر جملة من أقوال الأشاعرة في ذلك، وختم هذا المبحث بذكر نماذج من تأويلات السلف. وفي القسم الثاني من الكتاب وهو في الفقه والأحكام تناول عدة مسائل وهي: 1 - بين الفقه والحديث 2 - الفقه ثمرة الحديث 3 - أهمية معرفة فقه الحديث 4 - فوضى فقهية معاصرة، وذكر صوراً من هذه الفوضى الفقهية في هذا الزمان كهجر كتب الفقه المذهبي إلى كتب الظاهرية أو إلى استنباط الأحكام من كتب الحديث، أو تدريس كتب الفقه دون مراعاة ما كان عليه الأئمة من التدرج في سلم التعلم أو التوسع في المسائل، وبيان الراجح في كل مسألة إلى غير ذلك. ثم انتقل المؤلف إلى بيان المنهجية العامة في الفقه بدراسة الفقه على أحد المذاهب الأربعة بتدرج، فيبدأ بمتن مختصر ثم متوسط ثم مطول ثم الشروح والحواشي ثم الفقه المقارن، ثم تناول مسألتين الأولى حكم الخروج عن المذاهب الربعة والثانية حكم خروج المرء عن مذهبه. ثم قال المؤلف: تنبيه مهم جدًّا. وذكر أنه توجد مسائل كثيرة من مسائل الفروع والأحكام والفقه يظنها البعض من مسائل المعتقد والأصول، وأخذ نموذجاً على ذلك موضوع التوسل، وذكر أنه ثلاثة أقسام مشروع باتفاق وممنوع باتفاق ومختلف فيه، وهذا الذي توسع فيه فذكر اختلاف العلماء فيه على ثلاثة أقوال المشروعية والمنع والثالث مشروعيته في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سرد أقوال المذاهب الأربعة ونقل كلاماً للشوكاني في جوازه، وختم المبحث بأن المسألة خلافية وأنه لا إنكار في مسائل الخلاف. وأما القسم الثالث من أقسام الكتاب فكان عن التزكية والسلوك وذكر فيه أن الطريق لتحقيق مقام الإحسان يكون بالتزكية والسلوك وأن الأئمة على مر العصور كانوا يسمونه بعلم التصوف، ثم ذكر معناه وأهميته وذكر المنحرفين عن التصوف الحق ثم ذكر جملة من أقوال العلماء في مدح التصوف الحق وأهله، ثم تحدث عن موضوع كرامات الأولياء وذكر بعض كرامات الأولياء ثم ذكر الخلاصة في المنهجية العامة في السلوك بالاهتمام بتربية النفس وتزكيتها بالعلم والعمل والتخلية والتحلية حتى يصل إلى مقام الإحسان وأن ذلك لابد أن يكون على يد شيخ مربي. ثانيا المؤاخذات على الكتاب 1 - دعواه أن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة وهذه مغالطة؛ لأن الأشاعرة والماتريدية يخالفان السلف في مسائل عديدة من مسائل الاعتقاد كمسائل الإيمان والأسماء والصفات وغيرها، ولذلك فلا يعدون من أهل السنة والجماعة وإن كانوا أقرب الفرق إليهم. 2 - ما ادعاه بأن أكثر أهل العلم بعد ظهور الأشعري والماتريدي كانوا إما أشاعرة أو ماتريدية قول فيه نظر. وقد كانت هناك أسباب معينة ساهمت في نشر هذين المذهبين وانتشارهما كتبني بعض الدول والخلافات لهذه المذاهب واعتناق بعض الأمراء لها. ثم لنتساءل على أي المذاهب كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم وعلى أي المذاهب كان الأئمة الأربعة والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم الكثير والكثير قبل ظهور مذهب الأشاعرة والماتريدية وبعده؟ هؤلاء جميعا وغيرهم كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة. 3 - ثم إن قول المؤلف: إن الأشاعرة والماتريدية هم نقلة الدين والطعن فيهم طعن في الدين. ويقيسهم على الصحابة في ذلك، فهذا غير صحيح، فإذا كان الأشعري نفسه تراجع عن عقيدته التي يتمسك بها الأشاعرة، وإذا كان بعض أئمة المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم اعترفوا بالحيرة والاضطراب وأعلنوا الرجوع والتوبة، فعن أي شيء تراجعوا ومن أي شيء تابوا؟! يقول ابن خويز منداد من المالكية: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها. [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 96] وقال أبو العباس بن سريج الشافعي: لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا تمثيل [اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم]. وقال أبو الحسن الكرجي الشافعي: لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرءون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت من عدة من المشايخ والأئمة. [درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/ 96] وقد بدَّع الإمام أحمد بن حنبل ابن كلاب وأمر بهجره، ويعد ابن كلاب المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري، وموقف الحنابلة منهم وخلافهم معهم مشهور. لذا فمحاولة المؤلف إظهار أن سبب الخلاف بين أهل الحديث والحنابلة من جهة والأشعرية والماتريدية من جهة أخرى هو فتنة ابن القشيري كلام مردود فالخلاف قبله. 4 - محاولة المؤلف الإجابة على جعل الفرقة الناجية فرقاً ثلاثة كلام لا يسلم له فكون الشخص منتسباً إلى علم من العلوم كمفسر أو فقيه أو أصولي أو إلى بلد كمصري ومكي وشامي لا ينافي كونه من الفرقة الناجية لاتحاد المنهج، بخلاف انتساب فرقة تباين منهج الفرقة الناجية في كثير من معتقداتها، وهذا الاختلاف ليس كما قال خلاف في الفروع أو خلاف لفظي بل هو خلاف في الأصول وهو خلاف حقيقي. ثم ذكر مسألة الأسماء والصفات أنموذجاً، ووقع فيها خلط في جعل مذهب أهل الحديث هو التفويض والتسوية بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية وتفويض الحقيقة وبين الإثبات وقال: لا تهمنا التسمية. وذكر أقوالاً جعلها في التفويض، وهي في الإثبات ليذيب الفارق بين مذهب أهل السنة وغيرهم، ويميع معالم معتقدهم في أسماء الله وصفاته، ويدل على ذلك أنه قال: وأما الأشاعرة فلهم في ذلك طريقان: الأولى كطريقة أهل الحديث والحنابلة [يعني التفويض] والثانية: هي تأويل هذه النصوص ... إلخ والكلام عن التفويض والتأويل معروف، وسبق الكلام عنه والرد على الادعاء بأن السلف أولوا بعض الصفات. 5 - في القسم الثاني من الكتاب وهو المنهجية في الفقه والأحكام تكلم تحت عنوان: تنبيه مهم جدًّا. ما حاصله أن هناك مسائل كثيرة من الفروع والأحكام والفقه يظنها البعض من مسائل المعتقد والأصول وليست كذلك وضرب مثالا بالتوسل وبعد عرض المسألة وخلاف أهل العلم فيها ونقل بعض أقوال من المذاهب الأربعة قال: وإذا كان الأمر كذلك فالقاعدة في ذلك هي: لا إنكار في مسائل الخلاف. ومقصد المؤلف واضح من هذا العرض، ويكفي أن نقول: إن جمهور أهل العلم على عدم الجواز وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا الذي تشهد له الأدلة وتسد به ذرائع الشرك. والقاعدة التي ذكرها صوابها: لا إنكار في مسائل الاجتهاد وهي التي ليس فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً، أما مسائل الخلاف فإن كانت تخالف سنة أو إجماعاً وجب الإنكار، وإن لم تكن كذلك فإنه ينكر بمعنى أن يبين ضعفه، كما قرر ذلك شيخ الإسلام. 6 - في القسم الثالث من الكتاب وهو المنهجية في التزكية والسلوك حصر طريق التزكية في التصوف وقرر أن الأئمة كانوا يسمون ذلك بعلم التصوف على مر العصور، وأخذ يذكر أهمية التصوف وثناء بعض العلماء عليه مع أن هذا قد يكون منطبقاً على طائفة متقدمة من الزهاد والعباد لم تخرج عن حدود الشرع، أما حال كثير من المتأخرين- على حد تعبير المؤلف- فالغالب عليه الانحراف، كما قرر هو ذلك، ليس في السلوك فحسب بل في المعتقد أيضاً

كتاب: افعل ولا حرج

كتاب: افعل ولا حرج (عرض ونقد) كلما أهلت أشهر الحج حنت الأفئدة إلى بيت الله، واشتاقت إليه الأنفس، وتجددت الرغبة في أداء مناسك الحج، وأقبلت الوفود من كل مكان يجمعها زمان واحد ومكان واحد. وكتاب هذا الشهر متعلق بالحج وهو كتاب (افعل ولا حرج) للشيخ سلمان بن فهد العودة- حفظه الله- أراد به مؤلفه رفع الحرج عن المسلمين في موسم الحج، والحفاظ على أنفسهم، نظراً لما يتعرضون له من التزاحم الشديد، والذي ينتج عنه المشقة الشديدة والضرر الجسيم، فانتهج منهج التيسير في مناسك الحج، واختيار الأسهل من أقوال العلماء في مسائل الحج، والتوسعة على الحجيج، وهذا المنهج لم يرتضه كثير من أهل العلم لما يترتب عليه من آثار سيئة وعواقب وخيمة كضياع معالم الحج وعدم تعظيم شعائر الله خاصة مع ضعف التدين في هذا الزمان. والكتاب قد قدم له الشيخ عبد الله بن منيع والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ عبد الله بن بيه والذي بسط القول في مقدمته- التي بلغت قرابة 30 صفحة- عن مقصد التيسير في الشريعة وفي الحج على وجه الخصوص وتوظيف اختلاف العلماء لرفع الحرج والمشقة. عرض محتويات الكتاب: بعد المقدمة- التي أشار فيها المؤلف إلى أن رسالته هذه ورقة مختصرة في مسائل الحج وتيسيراته، وأنها منتزعة من شرح كتاب الحج من (عمدة الفقه) - تناول المؤلف موضوع تيسيرات الحج من خلال سبعة عناوين: 1 - (ليشهدوا منافع لهم) أبرز فيه حِكَم الحج ومقاصده الشرعية، ومنها: إقامة ذكر الله، والتربية الربانية على أداء الواجب بإتقان وإخلاص، ورعاية حقوق الآخرين ومنازلهم، والتخفف من الدنيا وحظوظها إلى غير ذلك، وتعجب المؤلف من غفلة كثير من المسلمين عن قيم الحج ومراميه وآثاره في النفس والسلوك والحياة. 2 - (تكرار الحج) ناقش المؤلف فيه مسألة تكرار الحج لمن سبق له الحج ومدى ما يحدثه من آثار صعبة على المسلمين الذين يؤدون حج الفريضة- وليس النافلة- من شيوخ ونساء وضعفاء ومرضى، خاصة وأن المشاعر محدودة والزمان موقوت لا يتقدم ولا يتأخر، وأنه قد يرتكب بعض المسلمين مخالفات في سبيل تكرار الحج، وقد دعا المؤلف من أراد تكرار الحج أن يتصدق بقيمة حجة النافلة على إخوانه المسلمين، ويتصدق أيضا بمكانه بين المناسك لغيره؛ ليسهم في تخفيف الازدحام وتيسير الحج. 3 - (افعل ولا حرج) وقرر فيه أن الله عز وجل جعل في الحج سعة لا توجد في غيره من العبادات مستحسناً أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه أو في جنس ما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم (افعل ولا حرج)، ثم ذكر صوراً من هذا التيسير في الحج، بل ذكر أن محظورات الحج فيها توسعة أيضاً، وضرب أمثلة على ذلك. 4 - (التيسير في أركان الحج) وانتهى فيه إلى أن المتفق عليه من أركان الحج ركنان هما الوقوف بعرفة والطواف، فأما الوقوف بعرفة فقال: إنه يحصل أداؤه بلحظة، وأنه لو دفع قبل الغروب أجزأه عند الأئمة خلافا لمالك مرجحاً أن الأقرب أنه لا شيء عليه، وأن خطأ الناس في الوقوف بعرفة في غير يومه يجزئ إذا أطبق الناس عليه. وذكر عن الركن الثاني- وهو طواف الإفاضة- أنه لا يكون إلا بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، وأن وقته يبدأ بعد نصف الليل باعتبار المعذورين من الضعفة والنساء ومن معهم أو في حكمهم، وذكر أن للعلماء قولين في بداية الطواف: أحدهما بعد الفجر، والثاني بعد منتصف الليل، وأن الأمر في ذلك واسع. وذكر أنه يجوز تأخير الطواف مع طواف الوداع ويجزئ عنهما طواف واحد، وأنه يجوز تأخير الطواف إلى نهاية ذي الحجة ولو فعله بعده أجزأ. ثم بيَّن أن القول بجواز الطواف على غير طهارة يخفف على الناس في الزحام، وأن الحاج إذا لم يتطهر وطاف أو أحدث أثناء الطواف فلا شيء عليه، وأما الحائض فإنها تطوف للضرورة إذا تأخر طهرها وخافت ذهاب رفقتها ولحقها الحرج. 5 - (التيسير في الرمي) وذكر فيه أنواعاً من التيسير: أ- التيسير في موضع الرمي وذكر كلاماً للسرخسي حاصله: أن الحصاة إذا لم تقع عند الجمرة، ووقعت قريباً منها أجزأه، خصوصاً عند كثرة الزحام، وإن وقعت بعيداً منها لم يجزئه. ب- التيسير في وقت الرمي، وفيه قرر أن للحاج أن يرمي ليلاً، وأن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وأن له أن يؤخر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير للرعاة ومن في معناهم ممن كان مشغولاً أو منزله بعيداً عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها، وألحق بذلك التأخير لتجنب الزحام والمشقة، فهؤلاء يجوز لهم التأخير لرمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز تأخيره إلى ما بعد يوم الثالث عشر. ج- التيسير في الإنابة في الرمي: فأجاز للضعفة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي. 6 - (التيسير في التحلل والمبيت) ذكر أن من التيسير القول بوقوع التحلل الأول برمي جمرة العقبة، فإذا رماها يوم العيد حل له كل شيء إلا النساء، بل يحل بمجرد دخول وقت الرمي ولو لم يرم. وذكر أن الأدلة على سقوط المبيت عمن لم يجد مكاناً يليق به وليس عليه شيء، وأن له أن يبيت حيث شاء في مكة أو مزدلفة أو العزيزية أو غيرها، ولا يلزمه المبيت حيث انتهت الخيام بمنى. 7 - (التيسير في الدماء) ووضح فيه أن من التيسير عدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء. المؤاخذات على الكتاب: وبعد استعراض مضمون الكتاب نذكر مجمل ما أخذ عليه مع إيراد رد مختصر على بعضها: فأما المؤاخذات العامة فمنها: 1 - العنوان: فتسمية الكتاب باسم (افعل ولا حرج) يدل على توسع المؤلف في الاستدلال بهذا الحديث، بينما سبب ورود الحديث أن بعض الصحابة جاء ببعض أعمال يوم النحر على خلاف ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأخر، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أجابهم بقوله: (افعل ولا حرج)، وقال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد وجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لكون الذين خالفوها لما علموا سألوه عن حكم ذلك. اهـ. فينبغي أن يكون الأصل في الحج هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) وأما ما جاء على خلاف الأصل استثناء ورخصة ورفعا للحرج فيقدر بقدره. 2 - المبالغة في الأخذ بالرخص والتسهيل في مسائل الحج، حتى صار الاستثناء أصلاً، وتعدى الأخذ بالتيسير على الحاج عند الحرج إلى التيسير عليه حتى ولو لم يقع الحرج. 3 - تعامل المؤلف مع أحكام المناسك في بعض المواضع كما لو أن الأصل فيها الإباحة، فطالما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن شيء من المناسك فإنه يجوز فعله، وهذا خلاف الأصل المتقرر أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف. 4 - عدم الاستدلال بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ولا بحديث ((خذوا عني مناسككم)) إلا مرة واحدة في وجوب أصل الرمي. أما المؤاخذات على مسائل الكتاب: فنذكر بعضها، وإن كانت بعض المسائل التي ذكرها المؤلف لها حظ من النظر، ووقع فيها خلاف معتبر، لكن تتبع المؤلف لكل قول فيه رخصة أو تيسير في موضع واحد لم يقل به أحد من الأئمة، ويفضي إلى تضييع معالم الحج والتفريط فيه، فمن هذه المسائل: 1 - قصره لأركان الحج على ركنين فقط، وهما الوقوف بعرفة والطواف باعتبارهما القدر المتفق عليه بين العلماء، وفي هذا تساهل شديد، فأين السعي بين الصفا والمروة والذي على ركنيته جمهور أهل العلم، وأين الإحرام. 2 - قوله بإجزاء الدفع من عرفة قبل الغروب ولا شيء عليه، بينما ذهب جماهير أهل العلم إلى أن الوقوف إلى ما بعد الغروب واجب، ويلزمه دم إذا تركه، بل قال بعضهم إنه ركن. وأما احتجاجه بحديث عروة بن المضرس فهو لا يدل على جواز الانصراف من عرفة قبل الغروب، وإنما يدل على الحج المجزئ. بالإضافة إلى أنه قد ورد ما يعارضه، ثم إن مشكلة الزحام الرئيسة والتي يُتعلل بها في تجويز الدفع قبل الغروب الأقرب أن حلها يتمثل في تنظيم طريقة انصراف الناس وتهيئة الطرق فهي مسألة تتعلق بالتنظيم أكثر منها بالفتوى. 3 - نقله عن النووي أن من نسي الإفاضة وطاف للوداع من غير نية الإفاضة أو بجهل بوجوب الطواف أجزأه طوافه عنهما، بينما أكثر أهل العلم على أنه لا يجزئ طواف الإفاضة بنية غيره، كما نقله النووي نفسه في شرح مسلم. 4 - قوله بعدم اشتراط الطهارة للطواف على الرغم من أنه رأي الجمهور وتعضده الأدلة ولا معارض له، وأما قوله عن حديث عائشة: وهذا الحديث ليس نصًّا في اشتراط الطهارة. فهذا غريب منه فقد قال الحافظ ابن حجر: والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور. 5 - إقراره لقول السرخسي بأن من رمى فوقع ما رماه قريباً من الجمرة صح رميه، وكلام السرخسي محمول على أن ذلك في حدود مساحة الأحواض، ومن المعلوم أن الأحواض كانت إلى وقت قريب صغيرة ثم تم توسيعها بحيث تسقط الحجارة في موضع الرمي، وتستقر في مكان في السفل، ومع هذا التوسيع فإن القول بإجزاء الرمي ولو وقع الحصى خارج الأحواض خطأ. 6 - تجويزه للرمي قبل الزوال أيام التشريق خلافاً لما ذهب إليه الجمهور وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لذا قال الترمذي بعد إيراده حديث جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس. قال: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم أنه لا يرمي بعد يوم النحر إلا بعد الزوال. وأما عزوه هذا القول إلى ابن عباس فلا يصح سنده إليه، وأما عطاء فقد صح عنه قول ثان يوافق فيه الجمهور وهو أولى؛ لأنه أقرب للدليل. وأما الأدلة التي استدل بها فمنها ما هو ضعيف لا يصح، والصحيح منها غير صريح. والذي دفع المؤلف إلى تبني هذا القول الأضرار الحاصلة بسبب الزحام، أما اليوم وبعد الأعمال الإنشائية الأخيرة من توسيع المرمى، وتعدد الطوابق للرمي، والتنظيم في الذهاب والإياب زالت هذه الأضرار أو قلَّت، وبالتالي زال موجب الأخذ بهذا القول. 7 - جوز المؤلف الرمي عن النساء، واستدل بأحاديث ليس فيها شاهد لما ذهب إليه، ففيها الرمي عن الصبيان فقط دون ذكر لغيرهم، وأما حديث التلبية عن النساء فمنكر، فتجويز الرمي عن النساء مطلقاً قول غريب، لاسيما بعد التيسيرات الأخيرة في الرمي. 8 - وبالإضافة لما سبق فهذه جملة مما أجازه المؤلف ورخص فيه، فقد قال بجواز مبيت الحاج حيث يشاء إذا لم يجد مكانا يليق به، وعدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء عند ترك واجب من الواجبات، وجوز لبس ما يعرف بالتنورة (وهو أن تخاط للإزار تكة ويرسل دون أن يفصل منه كم عن آخر) من باب التوسعة في لبس الإزار ولو كان مخيطا. وجوز لبس الخفين من غير قطع. وجوز التحلل الأول بالرمي وحده. ومن أراد التفصيل في بيان الرد على هذه الأقوال وبيان ما عليها فليراجع: 1 - كتاب (كيف نفهم التيسير) لفهد بن سعد أبا حسين. 2 - كتاب (حتى لا يقع الحرج) للدكتور إبراهيم بن محمد الصبيحي. 3 - رسالة (تنبيهات في الحج) للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد. والله الموفق للصواب، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

القول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام

القول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام (عرض ونقد) هذا هو الكتاب الثاني من سلسلة (كتاب الشهر - عرض ونقد)، والكتاب يدندن- كما هو ظاهر من عنوانه- حول نسبة التفويض للسلف، وهو من تأليف سيف بن علي العصري. وقد أصدرته دار البشائر الإسلامية - دار الفقيه. وقد قرظ الكتاب خمسة من المشايخ، وهم الشيخ يوسف القرضاوي وهبي غاوجي وحسن الأهدل وجمال أبو حسان وخالد هنداوي، ولكن كما قيل: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله. ولن نتعرض لما كتبه هؤلاء الخمسة في تقريظهم للكتاب، وإنما سيكون الكلام عن محتوى كتاب (القول التمام) نفسه. وقد قسمه المؤلف إلى مقدمة وسبعة فصول: ذكر في مقدمة الكتاب اختلاف أهل القبلة في الصفات الخبرية وأن لقب أهل السنة تنازعه فريقان: فريق يمثل السواد الأعظم من العلماء على حد زعمه، وينسبون التفويض للسلف، والفريق الثاني ويمثله شيخ الإسلام وبعض تلاميذه وينسبون للسلف إثبات الصفات الخبرية بمعانيها اللغوية الحقيقة. وحاول مناقشة الفريق الثاني والرد عليهم. وفي الفصل الأول: الذي كان بعنوان (حقيقة مذهب السلف) تناول تعريف التفويض لغة واصطلاحاً ومحله، مع محاولة إثبات بطلان مقولة (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر). وفي الفصل الثاني (أدلة مذهب السلف) أخذ يدلل على أن مذهب السلف هو التفويض من الكتاب والسنة والإجماع. وفي الفصل الثالث ذكر أقوال أهل العلم في تقرير مذهب السلف- حسب زعمه- وحشد ما يزيد على مائة قول. وفي الفصل الرابع بيَّن المراد بالكيف، وذكر مقولة الإمام مالك: (الاستواء معلوم ... ) جامعاً لألفاظها وموجهاً لها. وفي الفصل الخامس بيَّن المراد بالتجسيم والتمثيل والتشبيه، ثم بيَّن حكم التجسيم من خلال المذاهب الأربعة. وفي الفصل السادس: رد شبهات قيلت عن مذهب السلف- على حد زعمه- وهي أن التفويض تعطيل لصفات الله، والثانية: كيف نتعبد بفهم ما لم نعلم معناه، والثالثة: أن في نسبة التفويض إلى السلف تجهيلاً لهم، والرابعة: أنه لو كان مراد الله بنصوص الصفات غير ظواهرها، لكان في التعبير بتلك الظواهر تلبيساً على العباد. وفي الفصل السابع بيَّن سبب تأويل الخلف مبيناً حقيقة التأويل وشروطه، وأقسام من ذهبوا إلى التأويل، ثم بيَّن المعنى السديد- على حد زعمه- لمقولة: (مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم). والكتاب في مضمونه وغايته يحاول إثبات أن مذهب السلف هو أن صفات الله الخبرية التي توهم التشبيه لها معان لا يعلمها إلا الله، فيفوض الكيف والمعنى، كما يمدح أصحاب التأويل ويدافع عنهم، والذي دفعه إلى ذلك هو ما توهمه من التمثيل والتشبيه، وهذا هو الذي أوقع أكثر الفرق المخالفة في هذا الباب في الضلال، وجرهم إلى التفويض أو التأويل. وهذه بعض المؤاخذات على هذا الكتاب ومنها: 1 - التشنيع على بعض العلماء، ورمي بعضهم بالميل إلى التجسيم، كما ذكر عن الشيخ محمد خليل هراس في (ص 42)، وكذا ما نقله مِن نَقْدٍ لكلام الشيخ ابن باز والشيخ صالح الفوزان، وأنهما لا ينفيان عن الله النقص إلا بنص خاص كما في (ص53)، وكذلك تغليط الذهبي والتشنيع عليه في نفس المسألة عندما نقل قوله في مسألة الحد (ص 260)، ويرمي شيخ الإسلام بالاضطراب كما في (ص 49) حيث قال: وعموما فكلام العلامة ابن تيمية في هذا المقام مضطرب. ويعرض بابن تيمية ومن سار على نهجه في قوله: وكل فهم لمذهب السلف جاء من غير طريق حذام فحرام تصديقه وواجب رده. 2 - في المقدمة يقرر المؤلف أن أهل السنة مصطلح يشمل فريقين: - كثرة، وهم أهل الحديث ومذهبهم التفويض على زعمه، والأشاعرة والماتريدية ومذهبهم التأويل. - وقلة وعلى رأسهم ابن تيمية وبعض تلامذته، ومذهبهم إثبات الصفات الخبرية بمعانيها اللغوية الحقيقية كما في (ص40، 41) ولا شك أن إظهار مذهب السلف على أن القائلين به قلة يمثلها شيخ الإسلام وبعض تلامذته مغالطة كبيرة، فكثيراً ما ينقل شيخ الإسلام عن السلف وأئمة المسلمين من مختلف الطوائف تقريرهم لمذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، وينظر على سبيل المثال (الفتوى الحموية). 3 - يجعل المؤلف ظاهِر بعض صفات الله - كاليد، والوجْه، والعين، والعلو يوهم النقْص، فيجب فيه تفويض المعنى مع عدم اعتقاد ظاهره، ويدعي وقوع الإجماع عليه بين السلَف، فيقال: لم يأت نص واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص أو فوضوا معناها. وهو الذي ما ترك شيئاً من أمور الدين إلا ودلنا عليه حتى الخراءة، فكيف يترك نصوصاً ظاهرها ضلال، وتوهم النقص دون بيانها. فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يدل عليه ولم يجعل قرينة تدل عَلَى صرفه عن المعنى الذي يفهمه النَّاس منه، ولم يبينه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون كلامه حينئذ هدًى ولا بياناً. ويستدلُّ المؤلف بالنصوص التي جاءت عن السلَف بمنْع التفسير لنصوص الصفات على أن المراد بها عدم التعرُّض للمعنى، مع أنَّ المراد بها عندهم منع التأويل الباطل المذموم كما هو مبسوط بأدلته في كثير من كتب العقيدة. 4 - في الفصل الأول ذكر إيراداً لأهل السنة، وهو أن بعض الأئمة يذكرون الصفات العقلية كالسمع والبصر مع الصفات الخبرية كاليد والوجه في مورد واحد معقبين بقولهم لا تفسر أو تفسيرها تلاوتها أو لا كيف ولا معنى، وحاول أن يجاوب عن هذا الإيراد بكلام غير مقنع، وتلبيس في التفريق بين المفهوم والماصدق، بل أورد في آخر كلامه نصا لإسحاق ابن راهويه هو حجة عليه. وتحت عنوان (تنبيه: بطلان مقولة القول في الصفات كالقول في البعض الآخر) أوهم كلامه أن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم انفردا بجعل هذه المقولة قاعدة وأصلاً. ولم ينفرد الشيخان بالاستدلال بهذه القاعدة فقد أشار إليها الأشعري في (الإبانة)، وابن الزاغوني في (الإيضاح في أصول الدين) , والباقلاني في الإبانة (انظر الفتوى الحموية لابن تيمية) (ص508) وابن قدامة في (تحريم النظر في كتاب الكلام) (ص57، 64). 5 - وفي الفصل الثاني حاول أن يثبت أن نفي المماثلة نفي للمشابهة، وذكر بعض النقولات التي تؤيد قوله من كتب اللغة متغاضياً عن الأقوال المعارضة لقوله، نعم قد تكون المشابهة بمعنى المماثلة، وذلك إذا كانت مشابهة تامة، وعليها يحمل ما نقل عن السلف من نفي المشابهة، يقول إسحاق ابن راهويه مبيناً حقيقة التشبيه المنفي عن الله: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد. أو: مثل يد. أو: سمع كسمع. أو: مثل سمع. فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [ذكره الترمذي في سننه عقب حديث (662)]. 6 - عقَد الفصل الثالث من كتابه لبيان أقوال أهل العلم في تقرير مذهب السلف، وحشد ما يزيد على مائة قول، والنقولات التي ساقها عن السلف المعتبرين في ذلك لا تساعده عند التحقيق والنظر. 7 - في الفصل الرابع وجَّه مقالة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، والتي تهدم مذهب المفوضة وأصحاب التأويل، وجهها توجيهًا غير مقبول، فقال إنَّ المراد بقوله: غير مجهول: يعني وروده في الشرع. 8 - وفي (ص 255) شنع الكاتبُ على ابن تيمية ومَن أثبت العلوَّ الحقيقي لله، وجعل لازم هذا القول إثبات الحد لله، وأبدل لفظ الحقيقي بالحسي؛ مبالغة في التشنيع. فماذا يقول المؤلف ومن نفي العلو الحقيقي عن الله سبحانه في الفطرة التي تجعل الإنسان إذا نزلت به شدة، أو كربه أمر يرفع يديه إلى السماء، ويتوجه بوجهه إلى العلو داعياً ربه مستغيثاً به؟! وماذا يقول في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]؟! وماذا يقول في عُروج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فلا يمكن القولُ فيه بغير العلو الحقيقيِّ. وقد حاول المؤلف التمويه بأنَّ نفيَ العلوِّ الحقيقي لا يستلزم نفيَ العُلوِّ المطلق، لكنَّه اعترف بعد ذلك أنَّ العلو المطلق عنده هو علوُّ الملك والسلطان، وهل ينكر أحدٌ ذلك العلوَّ؟! 9 - في الفصل الخامس يقرر أنَّ مذهب السلَف هو نفي الجسمية عن الله، ثم ينقل أقوال بعض السلف في باب الصفات، وبعض من عنده اضطراب في هذا الباب ويجعلها في سياق واحد، وهذا تلبيس؛ إذ إن مُراد من نفى الجسم من السلف نفي التشبيه، بينما مرادُ من نفى الجسم من غيرهم هو نفي الصفات، وهذا ظاهر في سياق النصوص التي نقلها. 10 - وفي الفصل السادس الذي سماه المؤلف (رد شبهات قيلت عن مذهب السلف) وفي الحقيقة هي لوازم القول بالتفويض، وقد ذكر في الأولى منها والتي عنون لها بـ (أن التفويض تعطيل لصفات الله تعالى) ذكر فيها كلام ابن الجوزي ومذهبه في هذا الباب مضطرب، وفي كلام ابن الجوزي رد على ابن عبد البر في إثبات استواء الله على عرشه، وهو نفس ما استدل به الأشعري في كتاب (الإبانة) على إثبات الاستواء، ثم يحاول المؤلف أن يصوب كلام ابن عبد البر ويوجهه بما يتناسب مع ما ذهب هو إليه، مع تخطئته فيما يخالف ما يقرره. 11 - أجاب الكاتب عن الاعتراض الوارد على القول بتفويض المعنى بـ (أنَّه حينئذٍ نكون قد تعبَّدْنا بفَهْم ما لم نعلمْ معناه) قائلا: إن لنصوص الصفات معنيين: الأول قطعي، وهو المعني العام، والثاني ظني، وهو المعنى الخاص. وهذا التقسيم لا دليل عليه، ويبقى أن هذه الصفات بالمعنى الخاص لا يفهم معناها، فلم يدفع جواب المؤلف هذا الإلزام. 12 - أراد الكاتبُ الجوابَ عن القول بأنَّ تفويض المعنى فيه تجهيلٌ للسلف، بجواب غير مقنع، وأورد بعض النصوص عن العُلماء التي تحثُّ على وجوب الإيمان بصِفات الله، ومِثلُ هذا لا يدفع عن ذلك المذهبِ الشنيع هذا الإلزام. 13 - في الفصل السابع المسمَّى (سبب تأويل الخَلَف) دافع فيه عن القائلين بالتأويل من الأشاعرة والماتريديَّة، وأرجع سبب التشنيع عليهم في تأويلهم، إلى عدم معرفة المشنع بأمرين: أ- عدم معرفته بلغة العرب. ب- عدم معرفته بمذهب الأشاعرة والماتريديَّة الذين خطُّوا بأيديهم معاجم اللغة وكتب النحو والبلاغة وغيرها. وهذا الكلام فيه تنقُّص لِمَن تَرَك التأويل من سَلَف الأمَّة، وأنهم على عدم معرفة بلغة العرب. وهل تفوقُ الزمخشري والقاضي عبد الجبار المعتزلي في اللُّغة مثلا يكون داعياً لقَبول ما ذهبا إليه في تأويل النصوص. هذا ما تيسر ذكره في هذه العجالة، ويمكن لمن أراد الاستزادة في التعرف على مذهب التفويض الرجوع إلى كتاب (مذهب أهل التفويض لنصوص الصفات) للدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي وكتاب (الأشاعرة في ميزان أهل السنة) لفيصل بن قزاز الجاسم، بالإضافة إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وينظر التعليق على كتاب الشهر الماضي (أهل السنة الأشاعرة). وهذا رابط لمقالتين عن هذا الكتاب قد استفدنا منهما: مقالة الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف (عثار القول التمام) http://almoslim.net/node/116254 ورابط مقالة الدكتور إبراهيم بن عبد الله الحماد (انتقاد القول التمام) http://www.dorar.net/art/318 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتاب (أهل السنة الأشاعرة: شهادة علماء الأمة وأدلتهم)

كتاب (أهل السنة الأشاعرة: شهادة علماء الأمة وأدلتهم) (عرض ونقد) 9 شوال 1431هـ ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الكتب التي تحاول أن تلصق بالسلف القول بالتفويض والتأويل، وتنسب القول به إلى أهل السنة والجماعة، زعماً أن المراد بهذا الوصف هم الأشاعرة والماتريدية، ومنها كتاب (القول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام) وكتاب (أهل السنة الأشاعرة) وسنقوم بعرضهما تباعا وبيان ما عليهما من مآخذ. وكتاب هذا الشهر هو (أهل السنة الأشاعرة: شهادة علماء الأمة وأدلتهم) جمع وإعداد حمد السنان وفوزي العنجري، إصدار دار الضياء، وقد قدَّم للكتاب وقرَّظه عدد من المشايخ ممن ينتمون إلى المذهب الأشعري، ومنهم محمد حسن هيتو، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وعلي جمعة، ووهبة الزحيلي، وعلي الجفري، وغيرهم. في المقدمة كان الكلام عن سبب تأليف الكتاب وأصله وعن مصطلح الأشاعرة مع التعريف بالأشعري، ثم تناول المؤلفان تحت عنوان (هل مات الإمام على عقيدة غير العقيدة التي كان عليها بعد توبته من الاعتزال) تناولا ثلاثة أمور: أولا: المراحل التي مر بها أبو الحسن الأشعري، وهل هي اثنان أم ثلاثة. وثانيا: اتباعه في المرحلة الثانية لابن كلاب، وهل كان ابن كلاب من أهل السنة. وثالثا: المرحلة الثالثة من حياة أبي الحسن وكتابه (الإبانة). وتكلما بعد ذلك عن دعوى رجوع بعض الأئمة عن عقيدة الأشاعرة. وتحت عنوان (أهل السنة والجماعة) حشد الكاتبان كثيراً من النقول ليثبتا بها أن الأشاعرة من أهل السنة، ثم أردفا ذلك بنقولات عن بعض المشايخ المعاصرين كحسن أيوب وسعيد حوى. وبعد ذلك تكلما عن موضوع المتشابه عند السلف والخلف ومعناه، وذلك لتعلقه بمسألة التأويل لصفات الله، والتي يجيزها جمهور الأشاعرة والماتريدية. ثم انتقل المؤلفان إلى موضوع آخر، وهو الخلاف في العقيدة، وهل كل خلاف في العقيدة يترتب عليه التفسيق والتكفير أو التبديع والتضليل، سواء كان في الأصول أو في الفروع، ومن خلاله تعرضا لمسألة الاتصال والانفصال بالنسبة لله، وكونه بائناً من خلقه بذاته، وذكرا أقوال العلماء في نفي الجهة عن الله وتنزيهه عن المكان. ولما كانت مسألتا التأويل والتفويض من الموضوعات التي كثر فيها الخصام، واحتدم بسببها الخلاف تعرض المؤلفان لهما مع تقرير أن مذهب جمهور السلف هو التفويض، وبيَّنا بعده أن التأويل هو مذهب سلفي وعربي صحيح، وذكرا نماذج من تأويل العلماء لنصوص الصفات، وبعده نفيا التهمة التي ألصقت بالأشاعرة من التعطيل لصفات رب العالمين، وبيَّن المؤلفان حقيقة التعطيل، وقررا أن الأشاعرة برآء من التعطيل، وذكرا تأويلات للسلف لنصوص آيات الصفات. وتدعيماً لمذهب الأشاعرة والماتريدية بيَّن المؤلفان أن الأشاعرة والماتريدية هم غالب الأمة، وذكرا بعض الأشاعرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء واللغويين والأدباء وغيرهم، ثم ذكرا شيئا من فضائل الأشاعرة والماتريدية وجهودهم في الدفاع عن الدين والرد على المبتدعين، وذكرا الفتاوى والأقوال في فضلهم، ثم ذكرا عقيدة أهل السنة والجماعة- يقصدان الأشاعرة والماتريدية- في أسماء الله وصفاته، ثم كانت الخاتمة والتي قرر فيها المؤلفان أهل النتائج التي توصلا إليها ومنها: - أن مصطلح أهل السنة والجماعة يراد به أهل الحديث والأشاعرة والماتريدية. - أن المتشابه من نصوص الصفات ليس فيه إلا مذهبان صحيحان للعلماء هما التفويض والتأويل والاختلاف بينهما من الاختلاف الجائز. - التأويل بشروطه شعار سني وهو ليس تعطيلاً. هذه أهم النتائج التي توصل إليها المؤلفان. ولا شك أن الكتاب عليه مؤاخذات كثيرة ولا يهولنك الأسماء التي قدمت له مقرظة لما يحتويه فكما قيل: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله. فابتداء إدخال الأشاعرة والماتريدية في مصطلح أهل السنة والجماعة وإلصاق ما ذهبوا إليه بالسلف فيه نظر وذلك لمخالفتهم للسنة ومباينتهم لمذهب السلف في مسائل كثيرة كحقيقة الإيمان وما يتعلق به والأسماء والصفات ومصدر التلقي وغيرها، ويراجع كتاب (منهج الأشاعرة في العقيدة) للوقوف على هذه المخالفات. ثم إن قولهما: إن السلف ليس لهم إلا مذهبان فقط في المتشابه من نصوص الصفات الأول التفويض وعليه جمهورهم والثاني التأويل وهو مذهب لبعضهم، وكلاهما يتفق على عدم حمل الكلام على حقيقته. يجاب عنه بما نقله ابن عبد البر في (التمهيد) (7/ 145) من إجماع السلف على غير ذلك فقد قال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله) بل إن كلام أبي الحسن الأشعري ناقض لكلامهما فقد قال في (الإبانة) (ص 139): حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ... كذلك قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين ... بل واجب أن يكون قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم: فعلت بيدي. وهو يعني النعمتين. انتهى كلامه رحمه الله، وهو كاف في إبطال ما قرره الكاتبان. وهل كان خلاف السلف مع خصومهم من أهل البدع إلا على إثبات حقائق صفات الله تعالى، فلو كان الجميع متفقين على كونها من المجاز لما كان بين السلف والمعطلة خصومة. ومن ظنَّ أن حقيقة الصفة الثابتة لله هي حقيقة صفة المخلوق فقد ضل، وذهب إلى ما لا يقره عقل ولا نقل، ولا تؤيده لغة، فالصفة تابعة للموصوف، فإذا كان لله ذات حقيقة وللمخلوق ذات حقيقة لم يلزم أن تكون حقيقة ذات الله هي حقيقة ذات المخلوق، ولا وجوده هو حقيقة وجود المخلوق؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء. كذلك فإن نسبة المؤلفين التفويض إلى السلف خطأ عليهم فنصوص الكتاب والسنة وعبارات السلف صريحة في إثبات معاني الصفات، وقد أمر الله بتدبر كتابه وعاب على اليهود الذين لا يعرفون منه إلا مجرد التلاوة من غير فهم ولا فقه فقال: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون}، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لأصحابه بلفظه ومعناه، ولم يكن الواحد من الصحابة يجاوز العشر آيات من القرآن حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل، وإذا كان الصحابة أحرص الناس على معرفة الحلال والحرام فهم لمعرفة صفات خالقهم أشد حرصاً. كذلك فإن القول بالتفويض يستلزم تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة. والعجب أن المؤلفين يصرفان قول السلف (بلا كيف) إلى أنه يفهم منه (بلا معنى) ويقولان: لأن لفظ الـ (كيف) هنا مستفهم به عن المعنى. وهذا عجيب فـ (كيف) يستفهم بها عن الحال والكيفية والماهية لا الاستفهام عن المعاني. وكذلك فإن قولهم هذا مخالف للعقل فإثباتنا معنى الصفة لا يستلزم العلم بكيفيتها وحقيقة ما هي عليه في الخارج، كما أن الجهل بكيفيتها لا يستلزم الجهل بالمعنى، فلا تلازم بين الأمرين، فالله عز وجل قد أخبرنا عن الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والمساكن وغيرها هذا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. وقال الله في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) [البخاري (3244) ومسلم (2824)]. فجهلنا بالكيفيات لا يستلزم جهلنا بمعاني ما وصفت به وإثبات حقيقتها، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها توافق في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا ومع ذلك ليست مماثلة لها، بل وبينهما من المباينة ما لا يعلمه إلا الله، فالخالق سبحانه أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق. ومنشأ قولهم بالتفويض هو ظنهم أن آيات الصفات من المتشابه. ولا يعلم عن أحد من السلف ولا من الأئمة أنه جعل صفات الله من المتشابه كذلك مما يؤخذ على الكاتبين تحريف بعض صفات الله وتعطيلها بزعم تنزيه الله سبحانه، ومن ذلك إنكار علو الله على عرشه حقيقة بذاته، مع أنه منقول عن كثير من السلف، بل حكى غير واحد الإجماع على ذلك منهم السجزي والمزني وغيرهما. وقد تنوعت الدلالات في القرآن على علو الله، فمنها التصريح بالفوقية، والعروج إليه، والصعود إليه، ورفع بعض المخلوقات إليه، والتصريح بالعلو المطلق، وتنزيل الكتاب، وأن الله في السماء، والتصريح بالاستواء إلى غير ذلك. وقد حاول المؤلفان التدليل على ما ذهبا إليه من إثبات التأويل بجمع ما أمكن من أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فوقعا في العديد من الأخطاء ومنها: - أنهما لم ينقلا عن السلف من الكتب المسندة، وإنما اكتفيا بالنقل من كتب المتأخرين بلا إسناد ولا عزو إلى مصدر هذه النقولات، ومثاله ما نقلا عن ابن عباس من تأويل مجيء الله سبحانه، فليس له أصل ولا إسناد ولا ذكره أحد من المصنفين أصحاب الرواية. - أنهما لم يتحققا من ثبوت ما نسباه إلى السلف وصحته، ومثاله ما نقلا عن ابن عباس من تفسير الكرسي بالعلم فهذا لم يصح عن ابن عباس. - أنهما ينقلان ما يوافق هواهما من كلام بعض السلف دون جمع كل كلامه في المسألة ليتبين معنى كلامه ويتضح مذهبه، كما فعلا في دعوى تأويل الإمام أحمد لصفة المجيء. - أنهما ربما وضعا كلام بعض السلف في غير موضعه، كأن ينقلا كلاماً لبعضهم فيما ليس من آيات الصفات أو فيما اختلف على كونه من الصفات. فمثال الأول ما أوردا عن ابن عباس من تأويل لفظه (أيد) في قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} فليست الأيد هنا جمعاً لليد، بل معناها القوة، فهي ليست من آيات الصفات أصلاً وكذلك الجنب. ومثال الثاني تأويل لفظة الساق في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق}، وقد اختلف فيها السلف، واختلافهم ليس في إثبات الصفة لكن في كونها من آيات الصفات أم لا، وذلك لأن الساق جاءت في هذه الآية نكرة ولم يضفها الله عز وجل لنفسه. كذلك مما يؤخذ على الكاتبين إلصاق مذهب الأشاعرة والكلابية بأئمة أهل السنة كالبخاري والطبري وغيرهما دون تحقيق وتمحيص، وإنما يعتمدان على حكاية أو قصة أو سلام وحفاوة بشخص معين ونحو ذلك، وليتهما رجعا إلى ما صنَّفه هؤلاء الأئمة ليعرفا عقيدتهم من خلال كتبهم. كذلك مما يؤخذ على الكاتبين ادعاء أن عبد الله بن سعيد بن كلاب كان من أئمة أهل السنة، وأن الخلاف بينه وبين الإمام أحمد والسلف كان لفظيًّا، وهذه مغالطة، فالإمام أحمد اشتد نكيره على الكلابية، وقد بيَّن الأشعري في (مقالات الإسلاميين) (ص 5) أن الكلابية فرقة مباينة لأهل الحديث، بل قد صرح كثير من أهل العلم بمخالفة الأشعرية والكلابية لأهل السنة. كذلك مما يؤخذ على الكاتبين التشكيك في صحة المطبوع من كتاب (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري بعد أن أثبتاه من حيث أصله، لكن زعما أن أيدي التحريف قد نالته. وسبب دعواهما أن كتاب (الإبانة) يخالف ما استقر عليه مذهب الأشاعرة ويبطل طريقتهم. فأما دعواهما هذه فيبطلها اتفاق النسخ الخطية المحفوظة لكتاب (ا

كتاب الأسبوع [تعريف وتقييم]

كتاب الأسبوع [تعريف وتقييم]

خزانة الكتب لعامي 1431هـ - 1432هـ

خزانة الكتب لعامي 1431هـ - 1432هـ اسم المؤلف القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية إشراف الشيخ/ علوي عبد القادر السقاف الناشر مؤسسة الدرر السنية ــ الظهران سنة الطبع 1433هـ عدد الصفحات: 565 التعريف بموضوع الكتاب: إن أصعب ما يواجه محبي الكتب وعشاق القراءة عند شراء الكتب هو اختيار الكتاب الذي يستحق أن يوهب في شرائه المال, ويبذل في قراءته الوقت, فربما يتردد طالب العلم ومريد المعرفة كثيراً عند شراء كتاب ما, فيظل واقفاً وقتاً يقلب صفحاته دون أن يبت الرأي في شرائه, فاختيار الكتاب المتميز مادة ومضموناً, والرائع شكلاً ومظهراً يحتاج إلى نوع معرفة بالكتب, وخبرة في جيدها ورديئها, وغثها وسمينها, وهذا ما جاء هذا الكتاب ليوفره. كتاب ((خزانة الكتب لعامي 1431هـ - 1432هـ)) هو الإصدار الثالث والجديد من سلسلة خزانة الكتب والتي وعدت مؤسسة الدرر السنية أن يطل على قرائها بالجديد مع إطلالة كل عام جديد , فتُخُيِّر فيه من ثمار المطابع أطيبها, ومن حصاد المكتبات أزكاها, ومن جهود الكتاب والمؤلفين أفضلها. وذلك توفيراً لجهد البحث والاستقصاء عن جديد الدور والمكتبات وآخر إصداراتها. الكتاب جمع فيه ما صدر خلال العام المنصرم (1432هـ) (2011م) , بالإضافة إلى بعض الكتب الجيدة والمفيدة التي صدرت في عام (1431هـ) (2010م) والتي لم تضف في الكتاب السابق, وبهذا نعلم أن هذا الكتاب ليس حصراً ولا استيعاباً لجميع ما طبع في هذا العام, وإنما هو ما أدى إليه الجهد, لمعرفة أهم ما طبع, وأجود ما نشر فيه. ولا يختلف هذا الكتاب في نهجه عن سابقه, فهو جولة تعريفية في ثنايا الكتب وبين سطورها, لوضع القارئ أمام تصور كامل للكتاب وفحواه, ومقصود مؤلفه وغايته, فيذكر بيانات الكتاب, وأهم المباحث التي ناقشها المؤلف, ونتائجه التي استخلصها أثناء بحثه, مع التنبيه إلى الكتب التي في أصلها رسائل جامعية, كما ينبه الكتاب إلى الكتب التي تم إعادة طباعتها أو تحقيقها ويذكر الفروق بين الطبعات أو التحقيقات, إلى غير ذلك من الفوائد التي تجدها في هذا الإصدار من هذا الكتاب الجديد. وتسهيلاً لمتصفحي الخزانة وقرائها, فقد رتبت ترتيباً هجائياً على حروف المعجم, وأردفت بمجموعة من الفهارس العلمية, تجعل البحث فيها سهلاً لا يحتاج إلى كثير عناء ولا جهد. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الكتاب نافعاً لكل من اقتناه, وأن يكتب الأجر والمثوبة لكل من ساهم في إعداده ونشره.

العقيدة الواسطية

العقيدة الواسطية عنوان الكتاب العقيدة الواسطية اسم المؤلف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية المحقق علوي بن عبد القادر السقاف الناشر الدرر السنية - الظهران سنة الطبع ط 1 - 1433هـ عدد الصفحات 143 التعريف بموضوع الكتاب: لا يخفى على أحد ما تتمتع به العقيدة الواسطية من قبول في أوساط طلاب العلم, وانتشار واسع بين مريديه, وذلك لما تتصف به من سهولة ويسر في أسلوب عرضها لمسائل المعتقد, ووضوح في عباراتها, وصحة في استدلالها, بالإضافة إلى اختصارها وقلة عباراتها, مع غزارة فوائدها وحسن سباكتها, فهي بحق يصدق عليها وصف أجمع وأخصر متن في العقيدة على منهج أهل السنة والجماعة. كل ذلك وغيره من المميزات جعلها تتربع على عرش متون العقيدة السلفية لتصبح من أكثر المتون انتشارا وتداولاً, مما حدا بأهل العلم وطلبته إلى تحقيق نصها وشرح ألفاظها والاعتناء بها اعتناء بليغاً. الكتاب الذي نسلط عليه الضوء هذا الأسبوع هو متن العقيدة الواسطية نفسه, ولعل ما يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم هو السؤال عما يميز هذا النص المحقق عن غيره من تحقيقات سابقة للمتن مفرداً أو مقترناً بشروحه, وهذا ما سنبينه أثناء قراءتنا لهذا الكتاب. هذا المتن قد قابله المحقق على اثنتي عشرة مخطوطة, وليست الميزة في كثرة المخطوطات المقابل عليها وإنما في نوعية هذه المخطوطات, إذ أن واحدة منها قد قرئت على شيخ الإسلام ابن تيمية مباشرة, وهي تعتبر أوثق نسخة للعقيدة الواسطية أمكن الحصول عليها حتى اللحظة, وتحقق لأول مرة, وقد جعلها المحقق أصلاً للنص. أما بقية النسخ للمخطوطات فهي متفاوتة في جودتها وتميزها, وقد عرضها المؤلف في مقدمته مخطوطة مخطوطة وتعرض لأوصافها وبعض ميزاتها. أما عن منهج المحقق في تحقيق النص فقد جعل النسخة المقروؤة على شيخ الإسلام أصلاً كما أسلفنا, ويليها في الترجيح النسخة التي رمز لها بـ (أ) وذلك لتميزها وتقدمها في تاريخ النسخ, كما قام بإهمال الفروق التي انفردت بها نسخة واحدة من نسخ المخطوطات عن الأصل, وأثبت في متن العقيدة ما لم يرد في الأصل وترجح لديه إثباته, أو كان خطؤه أو سقطه واضحاً ووجد في أغلب النسخ, وقام بإثبات ما اتفقت عليه نسختان أو أكثر وإن لم يكن موجوداً في الأصل. ومما أهمله المحقق أثناء إثباته للفروق عبارات الثناء والدعاء وما لا فائدة من ذكره, ولم يشر إلى الأخطاء التي وردت في الآيات الموجودة في المخطوط. وعن الاعتناء بالأحاديث الواردة في المتن فقد خرجها المحقق تخريجاً مختصراً يفي بالغرض ويؤدي المطلوب. ومما يميز هذا التحقيق أنه انفرد ببعض الفوائد والفرائد التي وجدت في النسخة المقروؤة على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولم توجدت في أي نسخة مطبوعة حتى الآن, وهي من تعديلات شيخ الإسلام واستدراكاته أثناء القراءة عليه. وبهذا نكون قد أتينا على أهم ما يميز هذه الطبعة الفريدة من متن العقيدة الواسطية, فجزى الله المؤلف والمحقق خير الجزاء ونفعهما بما كتبا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

معالم ومنارات في تنزيل نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث

معالم ومنارات في تنزيل نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث عنوان الكتاب ... معالم ومنارات في تنزيل نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث اسم المؤلف ... عبد الله بن صالح العجيري تقديم ... عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف الناشر ... الدرر السنية - الظهران سنة الطبع ... ط 1 - 1433هـ عدد الصفحات: ... 223 التعريف بموضوع الكتاب: الحديث عن الأمور المستقبلية والتنبوء بها, أمر تتشوف له نفوس كثير من الناس فتراهم يفتشون عن أدلة الفتن والملاحم, ويبحثون عن نصوص أشراط الساعة وعلاماتها, ومن ثم يحاولون تنزيلها على ما يحدث من وقائع, وما يحصل من نوازل تصيب الأمة, دون أي ضابط أوقيد, أو قواعد تحكم هذه الاستدلالات, وتضبط هذه الإطلاقات, ونتيجة لذلك جاء الكثير منهم بالعجائب فأتوا بتأويلات متكلفة, وتنزيلات باطلة, وأسقطوا هذه النصوص على الواقع بأسلوب مستكره إذا تأمله متأمل وجد أنه يفتقد للفهم الصحيح, ويفتقر للتحقيق الواعي, والأدهى من ذلك أن يستدل على ذلك بأدلة باطلة, وأحاديث موضوعة أو ضعيفة فيجمع في ذلك حشفاً وسوء كيلة. كتاب ((معالم ومنارات في تنزيل نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث)) جاء ليأصل فقه أشراط الساعة, ويبين الضوابط الشرعية لتنزيل نصوصها على الوقائع والأحداث, كما جاء ليبين الموقف الشرعي من نصوص الفتن والملاحم, ويكشف الانحراف الواضح الذي وقع فيه المعاصرون عند تعاطيهم مع نصوص أشراط الساعة. ابتدأ المؤلف كتابه بمقدمات تسع رأى أنها لا بد منها في بداية الكتاب, واشتملت المقدمة الأولى من هذه المقدمات على بيان ماهية الفتن والملاحم وأشراط الساعة فعرف كل مفردة منهم على حدة تعريفاً لغوياً واصطلاحياً, وأما المقدمة الثانية فكانت لبيان حكم الشريعة وغاياتها في إيراد نصوص الفتن والأشراط, وعدد من هذه الحكم خمس حكم, فبين أن إيراد هذه النصوص قد يكون للابتلاء والامتحان, أو للتحذير مما يستقبل الناس وإرشادهم إلى ما يفعلونه, ومن الحكم أيضاً الاستعداد لقيام الساعة, وإظهار أن هذه الأخبار من دلائل النبوة فمتى تحققت زاد إيمان العبد ويقينه بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن الحكم أيضاً تغذية فضول الإنسان الذي يدفعه للتعرف على المستقبل. في المقدمتين الثالثة والرابعة تناول المؤلف المقصود بتنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع, وحكم هذا التنزيل من جهة الأصل, حيث أوضح أن تنزيل هذه النصوص على الوقائع والأحداث مشروع ولكن بضوابطه الشرعية وهذا ما درج عليه جماعة من أهل العلم. وبين المؤلف أنه ليس من شروط أشراط الساعة أن تكون قبيل قيامها, بل قد تتقدمها بدهر طويل, وهذا ما ذكره في المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب, أما المقدمة السادسة فقسم فيها المؤلف أشراط الساعة بعدة اعتبارات وبين علاقة هذه الأقسام بعملية التنزيل. وعن العبث الحاصل من الكتاب المعاصرين حيال نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة تحدث المؤلف في المقدمة السابعة, وضرب أمثلة على هذا العبث. وبين في المقدمة الثامنة الأسباب التي أدت إلى بروز هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة, ليختم بمقدمة أظهر فيها خطورة التنزيل الخاطئ لهذه النصوص, فذكر من ذلك أنه قول على الله بغير علم, وأنه سبب للقيام بعمل غير مشروع أو ترك عمل مشروع, وفيه تهيئة للجو لتصديق دعاة الضلالة, وغيرها من مكامن الخطورة في هذا الموضوع. وبعد الانتهاء من مقدماته التسع شرع المؤلف في الحديث عن المعالم والمنارات التي لا بد منها لمريدي تنزيل النصوص على الواقع, وهذا المبحث عده المؤلف أمَّ البحث, وأصله ومقصوده الأول, حيث ذكر من هذه المعالم أربعةً وعشرين معلماً نذكرها هنا سرداً: المعلم الأول: الاقتصار على نصوص الوحيين في الاستدلال. المعلم الثاني: التحقق من ثبوت النص. المعلم الثالث: التحقق من معنى النص. المعلم الرابع: الأصل حمل النص على ظاهره المعلم الخامس: أن يكون التنزيل عارياً عن التكلف. المعلم السادس: التحقق من طبيعة الواقع. المعلم السابع: النظر في استكمال الواقعة للأوصاف الواردة في النص من عدمه. المعلم الثامن: التفريق بين الصفات المشتركة والصفات الخاصة. المعلم التاسع: أن يكون النص حكماً على الواقع لا العكس. المعلم العاشر: مراعاة ألفاظ الشريعة. العلم الحادي عشر: التأني في التنزيل. المعلم الثاني عشر: مراجعة العلماء في هذا الباب. المعلم الثالث عشر: التجرد في البحث والخروج عن الهوى. المعلم الرابع عشر: عدم محاكمة نصوص المستقبل للوقع الحالي. المعلم الخامس عشر: محاولة افتعال واقع يمكن أن تنزل عليه النصوص. المعلم السادس عشر: إعطاء كل تنزيل حقه من القطع والظن. المعلم السابع عشر: مراعاة البعد الزمني وترتيب الأشراط. المعلم الثامن عشر: تحديث الناس بما يعقلون. المعلم التاسع عشر: وقفة مع اعتراض المتأخر على المتقدم في هذا الباب. المعلم العشرون: الموقف من الوقائع المتكررة وتنزيل النصوص عليها. المعلم الحادي والعشرون: الاشتراك في الاسم بين النص والواقع لا يلزم أن ينزل النص على هذا الواقع. المعلم الثاني والعشرون: ليس شرطاً أن نربط كل فتنة وحادثة بالنصوص الشرعية. المعلم الثالث والعشرون: عدم استحداث صفات لم ترد في النصوص الشرعية. المعلم الرابع والعشرون: عدم تحديد تواريخ وأوقات معينة لوقوع الفتنة أو الملحمة أو الشرط. الكتاب يقدم نظرة متوازنة في عملية تنزيل نصوص أشراط الساعة على الواقع بين الغالي والجافي, فجزى الله المؤلف خير الجزاء وأعلى منازله في عليين.

صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة

عنوان الكتاب صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة اسم المؤلف علوي بن عبد القادر السقاف الناشر الدرر السنية - الظهران سنة الطبع ط 4 - 1432هـ عدد الصفحات: 463 التعريف بموضوع الكتاب معرفة الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أجل المعارف وأشرفها, وأعلى العلوم وأفضلها, كيف لا, وهي تقود العبد إلى معرفة ربه وخالقه, فيزداد منه قرباً وبه أنساً, ويحقق له العبودية الكاملة والخضوع المطلق. والكتاب الذي بين أيدينا هذا الأسبوع عبارة عن موسوعة ضمت صفات الله تبارك وتعالى التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, حيث أنه ومع كثرة الكتب التي أفردت أسماء الله تبارك وتعالى بالذكر والإحصاء والشرح إلا أنه لم يوجد كتاب خص الصفات بالذكر والإحصاء على معتقد أهل السنة والجماعة, وإن كان هناك من ذكر جملة منها. الكتاب بدأه المؤلف بأربعة مباحث كمدخل مهم لا بد منه قبل الشروع في الكتاب, أول هذه المباحث تناول الفرق بين الصفة والوصف والنعت والاسم والفرق بينهما, مبيناً أن الثلاثة الأولى تأتي بمعنى واحد, إلا أن الاسم هو ما دل على معنى في نفسه, ثم ذكر لكل من الاسم والصفة مميزات تميز كل واحد منهما على الآخر, تلى ذلك مبحث ثانٍ استعرض فيه المؤلف إحدى وعشرين قاعدة عامة من قواعد الصفات, أما أنواع الصفات فقد أفردها بالحديث في مبحث ثالث, حيث قرر المؤلف أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبارات مختلفة وهي: باعتبار إثباتها ونفيها, وباعتبار تعلقها بذات الله وأفعاله, وباعتبار ثبوتها وأدلتها, وكل واحد من هذه الاعتبارات ينقسم إلى قسمين. بعد ذلك أتى المؤلف بمبحث رابع تناول فيه مجموعة من الثمرات المجنية من الإيمان بصفات الله تبارك وتعالى. ليفتتح بعد ذلك الصفات المجموعة والتي رتبها على حروف الهجاء , وذكر أدلتها من الكتاب والسنة الصحيحة, ومن كلام السلف, وقد اشترط المؤلف على نفسه ألا يورد في هذا الكتاب إلا ما صح من الأحاديث, وأن يكتفي بما روي في الصحيحين أو أحدهما مما تثبت به الصفة فإن لم يجد أورد من غيرهما حديثاً أو أكثر, كما اشترط ألا يثبت من الصفات إلا ما أثبته سلف الأمة إلا أن يكون دليلها ظاهر الدلالة. وقد أحصى جميع الصفات الذاتية خبرية كانت أو سمعية عقلية, كما أحصى جميع الصفات المشتقة من أسماء الله تعالى الذاتية منها والفعلية, وجميع الصفات الفعلية الخبرية وبعضاً من الصفات السمعية. وأورد ما ليس بصفة ويصح الإخبار عن الله به, وما ليس بصفة ويصح الإخبار عن الله به بعد التفصيل, وما ثبتت إضافته إلى الله عز وجل وظنه بعضهم إضافة صفة إلى موصوف, كما قام بتحرير بعض المسائل التي وقع فيها الخلاف من قديم. بقي أن ننوه أن المؤلف قد أضاف في هذه الطبعة عدداً من الصفات كصفة الاطلاع والإعراض والساعد وغيرها, كما أضاف بعضاً مما عده بعض أهل العلم صفات وهو ليس كذلك, وإن كان بعضه يصح الإخبار به عن الله, كما أعاد تخريج جميع أحاديث الكتاب. والكتاب يعد موسوعة حوت قرابة 250 صفة من صفات الله تبارك وتعالى التي ذكرت في الكتاب والسنة, فجزى الله المؤلف خير الجزاء.

الفكر الليبرالي تحت المجهر الشرعي

عنوان الكتاب الفكر الليبرالي تحت المجهر الشرعي اسم المؤلف محمود الصاوي الناشر دار بلال بن رباح- مصر, ودار ابن حزم - مصر سنة الطبع ط 1 - 1432هـ عدد الصفحات 491 التعريف بموضوع الكتاب: كثيرة هي تلك المذاهب الدخيلة والمستوردة التي هبت رياحها من الشرق والغرب, هادفة إلى زعزعة العقائد, والعبث بالأفكار, واستبدال قيمنا الأصيلة العريقة بأخرى مستوردة لا تمت إلينا ولا إلى ديننا وثقافتنا بصلة. ومن تلك الأفكار الهدامة والمذاهب الدخيلة القادمة إلينا من خلف الحدود الفكر الليبرالي الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وجعجعة, تسانده في ذلك القوى الغربية وتدعمه العديد من المنافذ الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية. وهذا الكتاب الذي نسلط الضوء عليه هذا الأسبوع يضع الفكر الليبرالي تحت المجهر الشرعي مقدماً رؤية نقدية واضحة لأهم المبادئ الأساسية لليبرالية. الكتاب تألف من فصلين اثنين: أما الأول منهما فقد خصصه المؤلف لعرض الملامح العامة لهذا الفكر الدخيل, وقد اشتمل هذا الفصل على أربعة مباحث: فعن مفهوم الفكر الليبرالي واتجاهاته تحدث المؤلف في المبحث الأول فعرفه لغة واصطلاحاً موضحاً أن المفكرين قد اختلفوا في ضبط تعريفه وإن اتفقوا على وصفه بالحرية, ليتطرق بعد ذلك إلى ذكر اتجهاته المتعددة من ليبرالية كلاسيكية, أو راديكالية فلسفية, أو فكرية, أو دينية, أو اجتماعية, أو براجماتية, أو ليبرالية جديدة, ذاكراً لكل اتجاه من هذه الاتجهات تعريفه الخاص به. أما المبحث الثاني فتناول فيه الحديث عن نشأة الليبرالية المصرية باعتبارها الأولى في النشأة والميلاد بالنسبة لمحيطها العربي, وكونها استوردت هذا الفكر من الغرب ولم يكن صنيعة مصرية, ثم انتقل للحديث عن المراحل التي مرت بها الليبرالية المصرية, ثم عوامل ظهورها ومنافذ تسللها إلى مصر فذكر من تلك المنافذ الحملة الفرنسية على مصر, والخبراء الأجانب الذين قدموا إليها, والبعثات العلمية إلى أوروبا, وحركة الترجمة. ثم يحدثنا المؤلف عن قنوات الفكر الليبرالي في المجتمع المصري في المبحث الثالث من هذا الفصل, فعدد مجموعة من تلك القنوات كالشخصيات التي حملت فكرة الليبرالية ونظرت لها, وقد ذكر مجموعة منهم وترجم لهم, ومن ضمن القنوات التي تطرق لها أيضاً الأحزاب السياسية التي انتهجت النهج الليبرالي كحزب الأمة, وحزب الوفد, وحزب الجبهة الديمقراطية, وحزب الغد الليبرالي, ومن القنوات التي تكلم عنها المؤلف أيضاً منظمات المجتمع المدني, والمنابر الإعلامية والمواقع الإلكترونية. ثم ختم المؤلف هذا الفصل بمبحث رابع ذكر فيه أبرز مبادئ الفكر الليبرالي. أما الفصل الثاني فيقوم أساساً على تقديم رؤية كلية للمبادئ الأساسية للفكر الليبرالي ناقداٌ هذه المبادئ مع بيان ما يقابلها من مبادئ إسلامية تتميز عنها, وتتفوق عليها, وقد اشتمل هذا الفصل على عشرة مباحث تناولت الحرية الفردية والتعددية, والمجتمع المدني, والمواطنة, والعقلانية, والإنسانية, والنفعية, والتسامح, ونظرية السيادة والأخلاق, كل هذه الأمور قدمها المؤلف بين رؤيتين الرؤية الليبرالية والرؤية الإسلامية. بقي أن نذكر أن هذا الكتاب طبع طبعة أولى سابقاً, وهذا طبعته الثانية والتي زاد فيها المؤلف ونقحها, كما أجاز هذا البحث وحكمه مجموعة من كبار أساتذة الأزهر الشريف, فجزى الله المؤلف خير الجزاء ونفع بكتابه الإسلام والمسلمين.

التربية الجماعية في الإسلام

عنوان الكتاب التربية الجماعية في الإسلام اسم المؤلف نايف بن محمد القرشي الناشر دار ابن الجوزي سنة الطبع ط1 - 1432هـ عدد الصفحات: 206 نوع الكتاب أصل الكتاب بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في التربية الإسلامية والمقارنة. التعريف بموضوع الكتاب التربية الجماعية هي أحد أساليب التربية الإسلامية التي تسهم في بناء شخصية الفرد المسلم في جوانب متعددة، لا يمكن أن تُبنى إلا من خلال جماعة يتربى معهم هذا الفرد، فعلى الرغم من أهمية التربية الذاتية إلا أنها لا تنشئ كياناً سوياً للإنسان، بل لابد من التربية الجماعية حتى يتربى الإنسان تربية حقيقية متكاملة، ولأهمية هذا التربية، ولكونها يحتاج إليها في جميع طبقات المجتمع، كان مهماً أن يُدرس هذا الموضوع دراسة علمية توضحه وتبينه جلياً للناس، لهذا كان هذا الكتاب. الكتاب تناول بالدراسة التفصيلية التأصيلية موضوع التربية الجماعية؛ كأسلوب من أساليب التربية الناجحة الملبية لحاجات الفرد النفسية, كحاجته للعيش في جماعة. وقد تألف من ستة فصول: الأول منها كان فصلاً تمهيدياً لأظهار أهمية الموضوع المطروق, حيث بين المؤلف أن الحديث عن التربية الجماعية بات أمراً مهما يحتاج إليه جميع المجتمع بلا استثناء, فهو جهد يقوم على تطبيق منهاج الله في الأرض, فكان لزاماً على الجميع أن يقوم به ويسعى فيه, كما أتى بمجموعة من نقاط أبرز فيها أهمية هذه الدراسة. أما الحديث عن الإطار المفهومي للتربية الجماعية فتناوله المؤلف في فصل الكتاب الثاني حيث أتى بمفهوم التربية الجماعية, فعرَّف مفرداتها كلًّا على حدة لغويًّا واصطلاحياً, ثم عرفها كمصطلح ومفهوم قائم بذاته, فبين أن التربية الجماعية هي: تنمية الشخصية الإسلامية للفرد من جميع الجوانب الإيمانية, والعقلية, والجسمية, والنفسية, والاجتماعية من خلال وسط تربوي يضم مربٍّ ومجموعة متربين, يحدث بينهم تفاعل إيجابي, وتبادل للخبرات, وذلك من خلال منهج معين, وأساليب متبعة تهدف إلى تقوية مشاعر الأخوة الإسلامية والحب في الله بينهم، ثم تناول في حديثه المكانة التي تتسنمها الجماعية في واقع الحياة عموماً وفي الإسلام على وجه الخصوص. وفي العلاقة التربوية بين الفردية والجماعية رأى المؤلف أنَّ على التربية السليمة المبنية على الكتاب والسنة أن تلاحظ النزعتين المتضادتين في حياة الإنسان, وهي النزعة الفردية والجماعية, وأن تلبي مطالب كل منهما باتزان, وبين أيضاً في هذا الفصل كيفية تعامل المذاهب الوضعية مع هاتين النزعتين في الإنسان, وأنه تعامل متناقض, فبعضها يغلب الجانب الفردي ليصل إلى حد الأنانية البغيضة, والبعض الآخر يغلب الجانب الجماعي على الفردي فيقضي على الفرد ويلغيه, موضحاً أن منهج الإسلام هو وسط بينهما, فهو يوفق بين الفردية والجماعية. أما الفصل الثالث من هذا الكتاب فعرض فيه المؤلف مكانة هذا النوع من أنواع التربية في الإسلام, فتحدث عن التربية الجماعية من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة, وعند سلف هذه الأمة ومربيها, ليسرد بعد ذلك مجموعة من الفوائد التي تجنى من التربية الجماعية. وعن أركان التربية الجماعية يحدثنا المؤلف في فصل الكتاب الرابع , فيقرر أن هذه التربية ترتكز على خمسة أركان أساسية هي: المنهج, والمربي, والمتربين, والمنهجية, والأسلوب, تكلم عن ثلاثة منها في هذا الفصل, فبدأ بالمربي والذي اعتبره الركن المهم في هذه العملية التربوية, وذكر أهم صفاته, والأخطاء التي يقع فيها. ثم انتقل للحديث عن ركن آخر لا يقل أهمية عن سابقه وهم المتربون, فجاء بأهم الجوانب التي تكون شخصية المتربي, والتي ينبغي على المربي أن يهتم بها ويركز عليها أثناء بناء شخصية المتربي, ثم تحدث بعد ذلك عن المنهجية التي تقوم عليها التربية الجماعية وتدار بها. وكركنٍ مهمٍّ من أركان التربية الجماعية تحدث المؤلف في الفصل الخامس عن أساليب التربية الجماعية, والتي اعتبرها نصف النجاح في هذه العملية التربوية, فبين مفهوم الأسلوب, ذاكراً الأسلوب في القرآن والسنة, ليسرد بعدها أهم أساليب التربية الجماعية فذكر منها التربية بالقدوة, وبالقصة, وبالحوار وغيرها, ليعدد منها عشرة أساليب. ولتوضيح الكثير من الملامح العامة للمجموعة التربوية الفعالة ختم المؤلف كتابه بفصل أخير تحدث فيه عنها, وعن خصائصها، وضوابطها، والعوامل التي تعيق أداءها. الكتاب يؤصل لمنهجية تربوية إسلامية راقية, يستفيد منها المعلمون والمربون, سواء كانوا آباء وأمهات أو مؤسسات تربوية, كما أن هذا الكتاب يساهم في إعداد جيل مبني على أطر تربوية صحيحة, جيل قادر على تحمل مسؤلياته على أكمل وجه, مستعد للبذل والعطاء من أجل هذا الدين, فجزى الله مؤلفه خير الجزاء وكتب منازله في عليين.

فقه الفتن – دراسة في ضوء نصوص الوحي والمعطيات التأريخية لسلف الأمة

عنوان الكتاب فقه الفتن - دراسة في ضوء نصوص الوحي والمعطيات التأريخية لسلف الأمة اسم المؤلف عبد الواحد إدريس الإدريسي الناشر مكتبة دار المنهاج - الرياض سنة الطبع ط 2 - 1431هـ عدد الصفحات: 776 نوع الكتاب أصل الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه من جامعة ابن زهر كلية الآداب والعلوم الإنسانية شعبة الدراسات الإسلامية. التعريف بموضوع الكتاب: حينما تموج الفتن وتنزل بالأمة, تتنزل معها جميع أنواع البلايا, وتعصف بالأمة على جميع المستويات, وتستجلب معها الهزائم على جميع الصُعد وفي شتى الميادين, وقلما يتنبه شخص للفتن ويحذر منها, لأنها إذا أقبلت لم يعرفها إلا خواص الناس, وإذا أدبرت عرفها الجميع, فكان لزاماً أن يتعرف المسلم على الفتن وفقهها, وأنواعها, وأصولها, وأسبابها, وآثارها, وعواقبها وغير ذلك, وهذا ما جاء هذا الكتاب ليبينه ويوضحه. تناول الكتاب في الباب التمهيدي: مفهوم الفتن في اللغة وأهم معانيها اللغوية, كما تناول فيه أيضاً الفتنة في القرآن ومدلولاتها فيه, وأوضح عناية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في بيان الفتن, وعناية السلف من بعده بها, حيث أنها قد ألفت فيها الكتب العديدة, وأفردت فيها المصنفات, وكل ذلك يظهر اهتمام العلماء البالغ بالموضوع على مر المراحل التاريخية. وفي الباب الأول من الكتاب ذكر المؤلف الأصول التي تقوم عليها الفتنة, ولمَّا كان المؤلف يرى أن أصول الفتنة وجذورها إنما كان في عهد الصحابة الكرام بدأ هذا الباب بفصل تناول فيه منزلة الصحابة والشرف الذي كانوا يتبوؤنه, والمكانة السامية التي كانوا يتسنمونها, وذلك تمهيداً للنظر فيما شجر بينهم, فبين عقيدة أهل السنة تجاههم, وأنهم يسلمون ألسنتهم عن الخوض فيما شجر بينهم ويمسكون عنه, بل ويثنون عليهم ويستغفرون لهم إلى غير ذلك مما ينبغي للمسلم أن يعتقده في حق الصحابة رضوان الله عليهم. ثم ثنى المؤلف بفصل ثانٍ تناول فيه خلافة النبوة التي خلت من الفتن, وقصد بها خلافة الشيخين أبي بكر وعمر وخلافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين, وفي الفصل الثالث تناول القسم الثاني من الخلافة الراشدة والتي صحبتها الفتنة وقصد بها خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وما حصل فيها من الفتن كفتنة الجمل وصفين, وما تلاها من الفتن في ولاية معاوية رضي الله عنه وابنه يزيد وغيرها. ثم تكلم المؤلف عن اتجاهات الناس ومذاهبهم في الفتن وأنهم ثلاثة اتجاهات فصنف يقاتل مع الإمام, وآخر يقاتله, وثالث لا يقاتله ولا يقاتل معه, وبين أن لكل طائفة من هؤلاء ما تستند إليه من أدلة وحجج. ليذكر بعد ذلك مذاهب العلماء في الحكم على ما وقع بين الصحابة وأن الناس منقسمون في ذلك إلى قسمين: فالقسم الأول هو الذي يعتقد أن كلا الطائفتين على صواب, والقسم الثاني من يصوب إحدى الطائفتين دون الأخرى. أما الباب الثاني فبحث فيه المؤلف فقه الفتن من خلال مسالك الشريعة ومجالاتها، واحتوى هذا الباب على أربعة فصول, أولها تناول فيه فقه الفتن في سياق مسلك العقيدة, وسياق مسلك العبادات الشرعية, وأما الفصل الثاني فكان الحديث فيه عن فقه الفتن في سياق مكارم الشريعة, وفي الفصل الثالث تناول المؤلف فقه الفتن في سياق مقاصد الشريعة, ليختم هذا الباب بفصل أخير تحدث فيه عن فقه الفتن في سياق السياسة الشرعية. أما الباب الثالث والأخير من الكتاب فقد خصصه المؤلف للحديث عن الأحكام المتعلقة بالفتن والتي يحتاج إليها المسلمون قبل الفتنة وأثنائها، وبعد تطايرها وذهابها, وكان ذلك في ثلاثة فصول: الفصل الأول عن ما يلزم المسلمين فعله لدفع وقوع الفتن قبل وقوعها, كمعرفة أسباب الفتن حتى تُدافع وتُقاوم, وذكر من تلك الأسباب جملة: كقلة العلم وانتشار الجهل, والظلم, وضعف التدين وسوء الخلق وغيرها. واعتبر المؤلف تعظيم حرمة المسلم, ولزوم جماعة المسلمين, وطاعة من اجتمعت عليه كلمتهم مما يلزم المسلمين فعله أيضاً لدفع الفتن قبل وقوعها. وأوضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم يحجز المسلمين عن الوقوع في الفتن. وفي الفصل الثاني تناول ما يلزم المسلمين فعله إذا وقعت الفتن, كمعرفة حكم البغي وأصناف البغاة, ومعرفة أحكام القتال الدائر بين المسلمين أنفسهم, وما يسن فعله عند حلول الفتن. ليأتي بفصل ثالث وأخير ذكر فيه أهم الأحكام الكلية والأصول الفقهية مع جملة من الضوابط التي تندرج ضمن فقه الفتن, وتناول تحت هذا الموضوع بعض القواعد الأصولية التي يستفاد منها في فقه الفتن كقاعدة الإجماع, وقاعدة اعتبار المآل, وقاعدة سد الذرائع. ثم أتى المؤلف بمجموعة من القواعد الفقهية التي يستفاد منها في فقه الفتن كقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, وقاعدة درء المفسدة المجمع على درئها مقدم على درء المفسدة المختلف على درئها, وغيرها من القواعد. ليذكر بعد ذلك بعضاً من الضوابط المهمة والمبادئ الضرورية في فقه الفتن, كالحجية القاطعة للقرآن والسنة وإجماع الأمة, ومعرفة أن مسائل الاجتهاد لا يصح فيها الإنكار على المخالفين, وألا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الضوابط والمبادئ. الكتاب قراءة متعمقة ومؤصلة لفقه الفتن .. نسأل الله أن يكتب لمؤلفه الأجر والثواب, وأن يقي المسلمين من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن.

الإسلام الذي يريده الغرب – قراءة في وثيقة أمريكية

الإسلام الذي يريده الغرب - قراءة في وثيقة أمريكية عنوان الكتاب ... الإسلام الذي يريده الغرب - قراءة في وثيقة أمريكية اسم المؤلف ... صالح بن عبد الله الحسَّاب الغامدي تقديم ... عبد الرحمن بن صالح المحمود الناشر ... مركز الفكر المعاصر- الرياض سنة الطبع ... ط 1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 358 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير التعريف بموضوع الكتاب: لا يفتأ أعداء الله يحيكون الدسائس, ويدبرون المؤامرات ليلا ونهاراً, سراً وجهارا, وكل غايتهم هو أن يروا هذا الدين كسيراً, جامداً, حتى يستطيعوا أن يحققوا مكاسبهم الدنيئة, وأغراضهم المشبوهة, ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون. يتناول كتاب هذا الأسبوع بالدراسة تقريراً مهماً أصدرته مؤسسة: (راند للأبحاث والتنمية) والتي تعد من أشهروأبرز المؤسسات البحثية في أمريكا, هذا التقرير الخطير أطلقت عليه المؤسسة اسم: (إسلام حضاري ديمقراطي شركاء وموارد واستراتيجيات) وأعلنت فيه صراحة ولأول مرة عن ضرورة تغيير العالم الإسلامي فكرياً عن طريق التأثير المباشر على الدين الإسلامي وبفعل أيدٍ إسلامية, وقد جاء هذا الكتاب ليتصدى لهذا التقرير علمياً, ويوضح ما فيه من أخطاء ومغالطات كثيرة فيما يخص ديينا الحنيف. الكتاب بدأه المؤلف بتمهيد تحدث فيه بالتفصيل عن تاريخ مراكز البحوث الغربية ومراحل التطور التي مرت بها والتي تكونت من خمس مراحل ابتداء من عام 1865م إلى الوقت الحاضر الذي نعيش فيه, كما سلط الضوء على أهميتها المتمثلة في جانبين اثنين: أحدهما: الأهداف التي تسعى إليها هذه المراكز. والآخر: الواقع العملي النشط لها والذي يعطيها مزيداً من الأهمية. وتناول أيضاً في هذا التمهيد علاقة هذه المراكز بالاستشراق حيث أنها تتفق معه في الاهتمام بدراسة ومعرفة العالمين العربي والإسلامي, كما تتفق معه أيضاً في الارتباط الوثيق والعلاقة الحميمة بالسياسة والسياسين, وعن علاقتها القوية بمراكز القرار السياسي في الغرب خصوصاً فيما يتعلق بالسياسات المتعلقة بالشرق الأوسط. ثم شرع المؤلف في فصول الكتاب الأربعة: فتناول في الفصل الأول: بالدراسة مؤسسة راند, تحدث من خلاله عن تاريخ نشأتها في منتصف القرن الماضي, ونموها وتطورها, والأهمية التي تختص بها في أمريكا, إذ تعتبر أكبر مراكز الدراسات الاستراتيجية فيها, كما تناول مجموعة من أبرز باحثيها, ومدى اهتمامها بالعالمين العربي والإسلامي, وكيف أنها ساهمت في رسم السياسات الأمريكية تجاههما, ذاكراً أهم التقارير الصادرة عنها والتي من ضمنها التقرير المعني بهذه الدراسة, والذي عرفه تعريفاً موسعاً, فقام بتوصيفه توصيفاً عاماً, متحدثاً عن مصادره ومراجعه, مترجماً لمؤلفته (شيريل بينارد). أما الفصل الثاني: فقد تناول موقف التقرير من القرآن الكريم, حيث أثار حوله مجموعة من الشبه والأباطيل التي دحضها المؤلف وناقشها, مقيِّماً ذلك الموقف وموضحاً أن هذا التقرير يسير وفق معتقدات كنسية استشراقية وليس وفق موضوعية أو حيادية. ليستعرض بعد ذلك موقف هذا التقرير من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث بين أنه لم يسئ مباشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما أساء إليه بأسلوب غير مباشر, وأنه تعامل مع شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بحذر شديد, ووظف سيرته بشكل ملتوي للوصول إلى غايته وهي إعادة صياغة الإسلام. كما تناول المؤلف موقف التقرير من السنة النبوية الشريفة مبيناً أنه لا يختلف في مضمونه عن موقف المستشرقين المتضمن للقدح والتشكيك والتنقص, بل زاد التقرير على الاستشراق باستخدام السنّة النبوية ضمن أدواته الاستراتيجية في مشروعه لبناء إسلام حضاري ديمقراطي يرضى عنه الغرب. ثم شرع المؤلف بعد ذلك في الحديث عن موقف التقرير من المجتمع المسلم واهتمامه به, وكيف صنفه فكرياً, وقسمه إلى أربع مجموعات رئيسية وهي: الأصوليون, والتقليديون, والمجددون, والعلمانيون, موضحاً أهدافه الرامية وراء هذا التصنيف وهو أنه يريد أن يكرس مبدأ التفوق والهيمنة الغربية على العالم الإسلامي, ويدعم استمرارها على المدى البعيد بالإضافة إلى بعض الأهداف القريبة والتي منها بث سياسة فرق تسد, ومحاولة إقحام العلمانين في أهل السنة ليتسلموا مقاليد الأمور في يوم ما. وتكلم المؤلف في الفصل الثالث: عن موقف هذا التقرير من قضايا المرأة والذي يعتبر امتداداً طبيعياً لمشروع تغريب المرأة المسلمة بشقيه النظري والعملي, وموقفه من العقوبات الجنائية والتشريع الإسلامي, والذي لم يخرج عن موقف الغرب بوجه عام والمستشرقين بوجه خاص في التقليل من شأن الشريعة الإسلامية, والافتراء والتجني عليها بجعلها سبباً رئيساً في تقهقر العالم الإسلامي وتراجعه عن الركب الغربي, بالإضافة إلى أن مؤسسة راند زادت عن موقف الغرب والمستشرقين أنها ابتكرت منهجاً فريداً لم تسبق إليه وهو التخطيط العلني لتغيير الشريعة الإسلامية حتى تتماشى مع مصالح الغرب ومتطلباته, وبأيدٍ إسلامية تتولى كبر هذا الموضوع وتقوم بالمهمة بالنيابة. وأما آخر فصل من فصول الكتاب فتناول فيه المؤلف بالدراسة تلك المقترحات الصادرة عن التقرير وآثارها في واقع المسلمين, فتحدث عن هذه المقترحات من الناحية النظرية والتطبيقية, حيث أوضح الخطة الاستراتيجية الرئيسية التي وضعها التقرير والتي تتألف من خمسة بنود وهي: دعم المجددين, ودعم العلمانيين بحذر, وتشجيع المجتمع المدني, ودعم التقليدين في مواجهة العلمانيين, ومعارضة الأصوليين, متحدثاً بعد ذلك عن الأثر الذي ينعكس على واقع المسلمين من هذا التقرير, ليختم بذكر الفائدة المجنية من هذه الدراسة عن تقرير راند في واقع المسلمين. وبعد،، فهذا الكتاب المهم والماتع يسلط الضوء على تقرير من التقارير الكثيرة والخطيرة التي تصدرها مراكز الدراسات في الغرب - وما أكثرها - بغرض دك معاقل الإسلام, وهدم حصونه من الداخل وبأيدي أبنائه ومن ينسبون إليه, إلا أن الله بتكفله بحفظ دينه وكتابه يقيض من يذود عن حياض الدين ويدافع عن معاقله من أبنائه كما فعل المؤلف جزاه الله خيراً. والكتاب ننصح بقراءته والاستفادة منه.

الأحكام الشرعية للنوازل السياسية

الأحكام الشرعية للنوازل السياسية عنوان الكتاب الأحكام الشرعية للنوازل السياسية اسم المؤلف الدكتور عطية عدلان الناشر دار اليسر - القاهرة سنة الطبع 1432هـ عدد الصفحات 781 نوع الكتاب رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه من الجامعة الأمريكية المفتوحة. التعريف بموضوع الكتاب: جدت على الساحة العلمية والعملية للأمة الإسلامية كثير من النوازل المتعلقة بكثير من مناحي الحياة، ومنها الناحية السياسية التي تتعلَّق بنظام الحكم في الإسلام، والتي تستدعي نظراً فقهيًّا عميقاً وبحثاً علميًّا جادًّا للوصول إلى أحكام شرعية لها، وقد تناول بعض الباحثين المعاصرين دراسة بعض هذه المستجدات من خلال عدد من الأطروحات العلمية، وحققوا من خلال ذلك نتائج طيبة، ومنها هذا البحث الذي بين أيدينا. ولما كانت النوازل التي تمسُّ الحاجة إلى معرفة أحكامها الشرعية كثيرة ومتنوعة، ومنها ما يتعلَّق بنظام الحكم نفسه، ومنها ما يتعلق بعلاقته بغيره، فقد قسَّم الباحث كتابه إلى بابين: تناول في الباب الأول: أهم النوازل المتعلقة بنظام الحكم وضم الموضوعات التالية: 1 - حكم العمل بالديمقراطية كنظام للدولة الإسلامية، وانتهى بعد استعراض الخلاف في المسألة، وأدلة كل فريق ومناقشتها- إلى أن الراجح هو عدم جواز العمل بالديمقراطية، وأنها ليست من الإسلام؛ لضعف أدلة المجيزين وقوة أدلة المانعين، لكن لا يمنع ذلك من إيثارها على الديكتاتورية وعلى النظم الشمولية، على سبيل اختيار أهون الشرين، ودفع أعظم المفسدتين، وذلك في حال الضرورة والاقتهار، وعدم القدرة على تطبيق النظام الإسلامي، فهي خير من الديكتاتورية الطاغية، وهي مناخ ملائم لانتشار الدعوة وضمان حرية العقيدة والعبادة، وحرية الدعوة والتعبير عن الرأي. 2 - حكم التعددية السياسية وقيام الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية، وقد استعرض المؤلف الخلاف في هذه المسألة، وأدلة كل قول مع مناقشتها، ليقول في نهاية المبحث، بعد أن ذكر بعض مفاسد قيام الأحزاب والتعددية السياسية: (إن هذه المفاسد التي تغلب على الأحزاب لو لم يكن لدينا البديل الأصيل الإسلامي، لكان من الممكن القول باحتمال هذه المفاسد في سبيل دفع ما قد يربو عليها من مفاسد الأحادية في الحكم، لكن مع وجود مؤسسة أهل الحل والعقد، ومع صلاحيتها للقيام بالحراسة والرقابة والحسبة والتولية والعزل والشورى وغير ذلك، لا يمكن القول بجواز التعددية السياسية في ظل الدولة الإسلامية، أما في ظل الأنظمة العلمانية فالحكم مختلف؛ إذ إن فقه السياسة الشرعية يتسع في حالات الاستضعاف وفي ظروف القهر والاضطراب للقبول بفكرة التعددية السياسية بكل مقوماتها، دفعاً لأعظم الشرين وارتكاباً لأخف الضررين) اهـ. 3 - حكم المشاركة النيابية في ظل الأنظمة الوضعية العلمانية، وترجح لدى المؤلف بعد استعراض أقوال المانعين والمجيزين ومناقشتها، أن المشاركة قد تكون ممنوعة في زمان ما أو مكان ما، وقد تكون جائزة، بل قد تكون واجبة إذا عادت بالنفع العميم على المسلمين، أو منعت فساداً كبيراً أو ضرراً مصيريًّا يحيق بهم ويهدد وجودهم، وهذا المترجح لدى المؤلف هو ما انتهى إليه مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا. 4 - ثم تطرق لبعض المسائل الفرعية، كحكم المظاهرات كوسيلة من وسائل الحسبة السياسية، وحكم مشاركة المرأة في المجالس النيابية، وحكم مشاركة غير المسلمين في المجالس النيابية في البلاد الإسلامية. وأما الباب الثاني: فتحدَّث فيه عن النوازل المتعلقة بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وقد بيَّن من خلاله الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وحكم معاهدات السلام مع دار الحرب، وحكم الاستعانة بالدول الكافرة على محاربة دولة إسلامية، وحكم التحالف بين الدول الإسلامية وغيرها، وحكم التجنس بجنسيات الدول غير الإسلامية، وحكم العمليات الاستشهادية. وقد قدَّم المؤلف بين يدي بحثه بفصل تمهيدي، بحث من خلاله تعريف السياسة واستعمالاتها والنوازل والمقصود منها، ثم بيَّن أن الإسلام دين ودولة مدعماً ذلك بذكر الأدلة من القرآن والسنة- سواء القولية أو العملية- والإجماع، ثم دفع الشبهات التي أثارها العلمانيون، ودحَض مفترياتهم، وتطرَّق الباحث أيضاً إلى أسس نظام الحكم العامة في الإسلام، كسيادة الشرع، والسلطان للأمة، وكون الشورى منهج الحكم، وإقامة العدل، وحراسة الحريات، ورعاية المبادئ، وحقوق الإنسان، إلى غير ذلك، مدعماً كل ذلك بالدليل، ثم تكلَّم عن مؤسسات النظام السياسي الإسلامي، مثل مؤسسة أهل الحل والعقد، ومؤسسات السلطة الحاكمة، كالسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية. والكتاب إسهام جيد في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالجوانب السياسية، خاصة بعد الانتصارات التي حققها الإسلاميون في المجال السياسي، ووصولهم إلى سدة الحكم في بعض البلدان العربية، بعد أن ظلوا مغيبين فترة طويلة في ظل الأنظمة الديكتاتورية الغاشمة، فجزى الله المؤلف خيراً، والأمة بحاجة إلى المزيد من الدراسات التي تسلط الضوء على مثل هذه الجوانب لتنير الطريق للأمة الإسلامية للعودة إلى دينها، والحكم بشريعة الإسلام.

نوازل العقار- دراسة فقهية تأصيلية لأهم قضايا العقار المعاصرة

عنوان الكتاب نوازل العقار- دراسة فقهية تأصيلية لأهم قضايا العقار المعاصرة اسم المؤلف أحمد بن عبد العزيز العميرة الناشر دار الميمان - الرياض سنة الطبع ط1 - 1432هـ عدد الصفحات: 606 نوع الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في الفقه الإسلامي من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. التعريف بموضوع الكتاب: مع حاجة الناس للسكنى، أصبح العقار أحد طرق الاستثمار بل من أهمها وأكثرها انتشاراً، ولكثرة حاجة الناس إليه وكثرة نوازله، خاصة مع الانفتاح التجاري على العالم وللعدد المتزايد من المتعاملين في سوق العقار وتعدد الاستثمار العقاري، فلهذه الأسباب وغيرها ناقش المؤلف هذا الموضوع، وأفرده بهذه الدراسة. وقد قسم المؤلف كتابه إلى تمهيد وستة فصول. فأما التمهيد: فتطرق فيه المؤلف إلى تعريف نوازل العقار، وعناية الشريعة الإسلامية بأحكام العقار، وتطور العقار على مر العصور، وأهمية العقار الاقتصادية، وأنواع العقار. وفي الفصل الأول: ناقش مسألة تملك العقار، فعرَّف التملك، وذكر طرق التملك، ونوازل التملك، وتكلم عن تملك الكافر للعقار في جزيرة العرب. وفي الفصل الثاني: تحدث عن تملك الشقق والطوابق، فعرَّف تمليك الشقق والطوابق، والحكم الفقهي والإجراء النظامي لتملك الشقق والطوابق، وذكر حقوق الملاك في الأجزاء المفرزة، وحقوق الملاك في الأجزاء المشتركة، وحق الشفعة في تمليك الشقق والطوابق، وحق الملاك في بناء الشقق والطوابق بعد انهدامها. وفي الفصل الثالث: كان الكلام عن التوثيق العقاري وتناول فيه معنى التوثيق العقاري، والتوثيق العقاري في الإسلام، والتوثيق العقاري في العصر الحديث، واعتبار التوثيق العقاري قبضاً. وفي الفصل الرابع: تكلم المؤلف عن المساهمات العقارية، وذكر فيه تعريف المساهمات العقارية، وأحكام المساهمات العقارية. وأما الفصل الخامس: فتناول فيه زكاة العقار، مبيناً زكاة المساهمات العقارية، وزكاة العقار المشاع، وزكاة العقار المعد للسكن، وزكاة العقار المؤجر، وزكاة العقار المعد للتجارة إذا كان مما ينشأ، وزكاة العقار المعد للتجارة إذا كان مما لا يُنشأ، وزكاة العقار المتربص، وزكاة المال المتوفر من صندوق التنمية العقاري. وتكلم في الفصل السادس: عن عقود المشاركة بالوقت، عرف فيه عقد المشاركة ثم تكلم عن نشأة عقد المشاركة بالوقت وتطوره، وصور هذا العقد، وحكمه وشروطه، والآثار المترتبة عليه. ثم ختم بخاتمة تشتمل على أهم نتائج البحث. ولا شك أن موضع دراسة النوازل من الأهمية بمكان؛ ليعرف الناس الحكم الشرعي فيما يستجد من مسائل لاسيما التي تتعلق بحياتهم، وهذه الدراسة من الدراسات الجادة حاول المؤلف استيفاء الكلام فيها، فجزاه الله خيراً.

التمايز العادل بين الرجل والمرأة في الإسلام

عنوان الكتاب التمايز العادل بين الرجل والمرأة في الإسلام. اسم المؤلف محمود بن أحمد الدوسري الناشر دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ط1 - 1432هـ عدد الصفحات: 864 نوع الكتاب أصل هذا الكتاب (بحوث علمية محكمة) تقدم بها المؤلف لنيل درجة (الأستاذية). التعريف بموضوع الكتاب: لما تواجهه أمة الإسلام من هجمات تشويه شرسة، ودعوات تغريب هدامة يراد منها طمس معالم الشريعة الإسلامية، وهدم أركانها، متخذين من قضايا المرأة، وموقف الإسلام منها مع مطالبتهم مساواتها بالرجل في كافة مجالات الحياة، دون مراعاة طبيعتها ووظيفتها المناسبة؛ متخذين هذا كله ذريعة يتذرعون بها في دعاويهم؛ جاء هذا الكتاب ليبن مكانة المرأة في الإسلام وحقيقة التمايز العادل بينها وبين الرجل. جاء الكتاب مقسماً على خمسة أبواب، وكل باب أشتمل على فصول مفرعة إلى مباحث فرعية. ففي الباب الأول: الذي كان عنوانه المساواة العادلة بين الرجل والمرأة قسمه المؤلف إلى ثلاثة فصول تكلم في الأول عن الفرق بين المساواة والعدل، وفي الثاني عن المساواة الإنسانية العادلة في النشأة والأصل، والاعتبار البشري، والكرامة الإنسانية، وفي حق الحياة، وفي الفصل الأخير كان الحديث عن المساواة العادلة في الإسلام، وذلك من خلال المساواة في الإيمان والتكاليف الشرعية، وفي صيغ الخطاب، والمساواة في التملك والتصرفات المالية، وفي العقوبات الشرعية، والجزاء يوم القيامة. في الباب الثاني: كان الحديث عن التمايز العادل في العبادات وتحدث فيه عن مسائل من مسائل العبادات تمايز فيها الرجل والمرأة تمايزاً عادلاً، وذلك في ثمانية فصول في الطهارة، وخصال الفطرة، والزينة، واللباس، والصلاة، والجنائز، والزكاة والصوم والاعتكاف، والمناسك، والعقيقة. ثم تطرق في الباب الثالث: عن التمايز العادل في الجهاد في ثلاثة فصول كان الأول منها عن حكم الجهاد ذكر فيه حكم جهاد الرجل وحكم جهاد المرأة، والفصل الثاني في قتل الرجل دون المرأة، والثالث في الجزية. ثم جاء الباب الرابع: في التمايز العادل في الولايات وأشتمل على ثمانية فصول تحدث فيها عن التمايز في الإمامة العظمى، والوزارة، والقضاء، والشهادة، والشورى والانتخاب، وتولي الوظائف والأعمال، وفي ولايتي النكاح والحضانة. وأخيراً الباب الخامس: كان الكلام فيه عن التمايز العادل في الأحوال الأسرية في فصلين هما التمايز في الميراث، والتمايز في النكاح. وختمه بخاتمة ذكر فيها الخلاصة التي توصل إليها ونتائج بحثه. ومنهج المؤلف في هذه الأبواب الاقتصار على القول الراجح في كل مسألة يذكرها مع إيراده أهم الأدلة من الكتاب والسنة وما يتبع من ذلك أحياناً من الأثر والمعقول ثم إيراد دليل الإجماع إن وجد مع ذكر شيء من الحكم والفوائد المستنبطة من الأدلة، والرد على الشبهات المثارة وتفنيدها. والكتاب جيد ونافع، جزى الله مؤلفه خيراً.

جلاء الظلمة في التحذير من سيادة الشعب والأمة

عنوان الكتاب جلاء الظلمة في التحذير من سيادة الشعب والأمة اسم المؤلف أحمد الشريف الناشر مكتبة الصحابة - جدة سنة الطبع ط1 - 1415هـ عدد الصفحات: 112 التعريف بموضوع الكتاب: مما لا ريب فيه أن هناك نظريات جاءت لتضر بالنظام الإسلامي، وفي مقدمتها نظرية السيادة الرامية إلى تسويد الأمم والشعوب حيث يطير بهذه النظرية فرحاً الكثيرون من الكتاب المعاصرين، وإن من ينادي بتبني النظام الديمقراطي في البلدان الإسلامية لم ينطلق إلى هذه المناداة من منطلق العطف أو الشفقة على الأمة، بل انطلق إليها بحماس شديد لعلمه أن تسويد الأمة هو قاطع الطريق على النظام السياسي الإسلامي، حيث يحاول دعاة هذه النظرية تبريرها بأنها إسلامية، وباسم سيادة الأمة التي يراد لها أن تكون إسلامية يتم إقصاء شريعة الإسلام عن الساحة، فلا غرو إذن أن نسمع مصطلحات لا منطقية تنادي بديمقراطية إسلامية، أو اشتراكية إسلامية. وجاء هذا الكتاب ليكشف عوار دعوى سيادة الأمة وليزيح الستار عن زيغها وباطلها. وقد قسم الباحث الكتاب إلى بابين، عَنْوَن: للباب الأول: بـ نظرية السيادة في الفكر الغربي، واشتمل على فصلين: حاول في الفصل الأول: أن يسلط الضوء على جذور الفكر الديمقراطي ونظرية السيادة. أما الفصل الثاني: تناول فيه نظرية السيادة كما يراها دعاتها؛ تحدث عن خصائص السيادة ونظرياتها، كنظرية تعدد السيادة، ونظرية سيادة الأمة، ونظرية سيادة الشعب، ونظرية سيادة القانون. وخصص الباب الثاني: بالحديث عن نظرية السيادة في ميزان الإسلام، واشتمل على أربعة فصول. في الفصل الأول: قارن بين خصائص السيادة في مفهومها الغربي وصفات الألوهية. أما الفصل الثاني: فعرض فيه الأقوال والآراء التي تبحث حول صاحب السيادة في الدولة الإسلامية، تكلم في هذا الفصل عن الرأي القائل بسيادة الأمة وساق أدلتهم ثم وزن هذه النظرية بميزان الإسلام، كما تناول الرأي القائل بسيادة الإنسان، والقول بازدواجية السيادة بين الخالق والمخلوق، وأيضاً تناول في هذا الفصل بالتفصيل الرأي القائل بأن السيادة لله وحده. وفي الفصل الثالث: ساق الأدلة الشرعية على أن السيادة والتشريع لا يكونان إلا لله وذلك من خلال أربعة مباحث. وتناول في الفصل الرابع: لوازم القول بأن السيادة لله في باب الولاء والبراء ثم في باب النصيحة لله ولرسوله وللمسلمين، وأخيراً في مسألة الحكم بما أنزل الله، وحكم الإسلام في من لم يحكم بما أنزل الله، كما تناول بالحديث عن شرعية الأنظمة القائمة على أساس نظرية السيادة، ثم تناول لوازم القول بعدم شرعيتها. وختم الكتاب بنصيحة إلى الأمة لتعي جيداً ما يراد لها وما يحاك ضدها في الظلمات. نسال الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية

عنوان الكتاب نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية اسم المؤلف صلاح الصاوي الناشر دار طيبة - الرياض سنة الطبع الأولى 1412هـ عدد الصفحات: 150 التعريف بموضوع الكتاب: إنَّ الإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسُّلطة التي تهيمن على جميع السلطات هي إرادة الله عز وجل، ولقد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار إجماعاً لم يشذَّ عنه كبير، ولا صغير، ولا ذكر، ولا أنثى، ولا حر، ولا عبد، ولا طائع، ولا عاص أنه لا دين إلا ما أوجبه الله، ولا شرع إلا ما شرعه الله، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرَّمه، وأنَّ من جادل في هذه البدهيَّة فأحلَّ ما حرَّمه الله أو حرَّم ما أحلَّه، أو ردَّ شيئاً من حكمه، أو أعطى غيره حقَّ التحليل، والتحريم، والإيجاب، والندب، فهو مارق من الدين، كافر بإجماع المسلمين. والمؤلف في هذا الكتاب تحدث عن نظرية السيادة على الصعيد العلماني، والسيادة في المنهج الإسلامي، واشتمل الكتاب على ثلاثة فصول ومقدمة، ففي المقدمة عرَّف بالسيادة وبيَّن مضمونها وخصائصها، وعرض في: الفصل الأول: قضية السيادة في الفكر الغربي، وبيَّن أنَّها السلطة العليا المطلقة، التي تحدد نفسها بنفسها، وأنها السلطة التي تهيمن على كافة السلطات، وبيَّن انتقال هذه النَّظرية إلى الدَّساتير العربية، مع ما صاحَبها من تأكيد إقصاء الشريعة، وتحكيم القوانين الوضعية. وفي: الفصل الثاني: أوضح تفرد الشرع بالسيادة العليا في المنهج الإسلامي، وذكر أنَّ هذا الأمر هو مفرق الطرق بين التَّوحيد والشِّرك، أو بين الإسلام والكفر، كما بيَّن أنَّ هذا الأمر موضع إجماع لم ينازع فيه أحد عبر تاريخ الإسلام كلَّه. وأورد في: الفصل الثالث: مقارنة بين السيادة في المناهج الغربية، وبين السيادة في الشريعة الإسلامية، وبطلان النظم الوضعية القائمة على نظرية إرجاع الأمر إلى إرادة الأمة، وعلى تقرير الحرية المطلقة والسُّلطان الأعلى لهذه الإرادة، وأنَّ الإمامة عقد من العقود، موضوعه حراسة الدين وسياسة الدُّنيا به. ثمَّ ذكر العديد من الشبهات وأجاب عنها، ومنها شبهة (أنَّ بعض الدساتير قد نصَّ على أنَّ مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي في التشريع)، وشبهة أن (الشَّريعة الإسلامية مطبَّقة بالفعل). وغيرها من الشبه التي أوردها المؤلف وأجاب عنها. ثمَّ ختم بالكلام على الآثار المترتبة على انعدام شرعية الأنظمة الوضعية، ومنها؛ سقوط واجب الطاعة والنصرة، وسقوط الشَّرعية عن جميع ما يصدر عن هذه الولايات من النُّظم والقرارات، وعدم تمثيل هذه الولايات لجماعة المسلمين، وخلو الزمان من السلطان الشرعي، وغيرها من الآثار التي ذكرها.

موقف الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر من قضايا الولاء والبراء

عنوان الكتاب موقف الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر من قضايا الولاء والبراء اسم المؤلف مضاوي بنت سليمان البسام تقديم الشيخ صالح بن فوزان الفوزان - والشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود الناشر دار الهدى النبوي - المنصورة، دار الفضيلة - الرياض سنة الطبع ط1 - 1432هـ عدد الصفحات 634 نوع الكتاب أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدمت بها الباحثة لنيل درجة الماجستير التعريف بموضوع الكتاب الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض فيه)، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس مبدأ الحب والولاء والنصرة لأولياء الله وحزبه، والبغض والبراء من الشيطان وأوليائه الأشقياء، وهكذا فهمت الأجيال الأول هذه العقيدة وطبقتها في حياتها تطبيقاً كاملاً. إلا أنه ظهر في ساحة الإسلام أقوال شاذة واتجاهات منحرفة همشت عقيدة الولاء والبراء وجعلتها من المسائل الجزئية التي لا أثر لها على عقيدة المسلم ومن هؤلاء أصحاب الاتجاه العقلي المعاصر، الذين اصطلحوا على تسمية البراءة من أعداء الله تشويهاً لتعاليم الإسلام وعدواناً على حدود الله، فلا ولاء ولا براء ولا تقسيم للناس إلى مسلم وكافر، بدعوى نبذ التعصب الديني والتقارب الديني؛ فلهذا كله جاء هذا الكتاب ليوضح هذا الموقف وليبن خطر هذا التوجه، خاصة وأن هناك ممن ينهجون هذا النهج رموزاً لهم مكانتهم عند بعض الناس ممن جهل حقيقتهم، وأيضاً أن هذا التيار بدأ يمتد وينتشر في أماكن مختلفة. الكتاب يشتمل على تمهيد وخمسة فصول تحت كل من التمهيد والفصول تندرج عدة مباحث. فالتمهيد: أدرجت المؤلفة تحته ثلاثة مباحث: جاء في الأول: الكلام عن الولاء والبراء في الشرع. بينما المبحث الثاني: كان عن الولاء والبراء في العقل، والثالث تحدثت فيه عن مفهوم الولاء والبراء عند أهل السنة. أما الفصل الأول: فكان موضوعه بداية انحراف العقل الإسلامي المعاصر في قضايا الولاء والبراء وأسبابه، وفيه مبحثان: المبحث الأول خصصته الكاتبة عن بداية انحراف الاتجاه العقلي المعاصر في قضايا الولاء والبراء، وتطوراته. والمبحث الثاني: جاء الحديث فيه عن أسباب هذا الانحراف. والفصل الثاني: تحدثت المؤلفة عن مكانة الولاء والبراء لدى الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر. وفي الفصل الثالث: الذي كان بعنوان موقف الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر من أهل الولاء ونقده قسمت هذا الفصل إلى مبحثين: الأول: عن موقفهم من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم-، والثاني: عن موقفهم من العلماء والصالحين. والفصل الرابع: هو بعنوان موقف الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر من أهل البراء ونقده، وأيضا انقسم إلى مبحثين: المبحث الأول: عن موقفهم من عموم الكفار، والمبحث الثاني: عن موقفهم من أهل الأهواء والبدع. والفصل الخامس: كان الحديث فيه عن لوازم ومفاسد موقف الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر من قضايا الولاء والبراء ووسائل مقاومته، وانقسم إلى مبحثين: الأول: لوازم ومفاسد موقفهم من قضايا الولاء والبراء. والثاني: وسائل مقاومة الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر في قضايا الولاء والبراء. ثم ختمت بحثها بخاتمة ذكرت فيها النتائج التي توصلت إليها، مع بعض التوصيات. والكتاب جيِّد في بابه جعل الله ذلك في ميزان حسناتها ونفع بما كتبته.

مجلة التأصيل للدراسات الفكرية المعاصرة

عنوان الكتاب ... مجلة التأصيل للدراسات الفكرية المعاصرة اسم المؤلف ... بدون الناشر ... مركز التأصيل للدراسات والبحوث - جدة سنة الطبع ... 1432هـ العدد ... الثالث نوع الكتاب ... مجلة علمية محكمة (نصف سنوية) التعريف بموضوع الكتاب لا أحد يجهل أهمية المجلات الإسلامية ودورها في التأثير الإيجابي على المتلقي وحماية معتقداته وسلوكه وأخلاقه. والمتأمل في خضم هذا الزخم الهائل من الإعلام المقروء بين الغث والسمين والهراء المستبين يجد أن هناك كثيراً من المجلات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ومن هنا كانت محاولات لإيجاد بدائل نافعة تلتزم بأحكام الإسلام، وترفع لواء التأصيل العميق. وقد أدرك الكثيرون من الغيورين أهمية إنشاء وإصدار المجلات الإسلامية وأثرها في المجتمع ونشر الوعي، وتصحيح المفاهيم، ومن تلك المجلات (مجلة التأصيل للدراسات الفكرية المعاصرة) وهي مجلة علمية محكمة (نصف سنوية) تُعنى بدراسة القضايا الفكرية والعقدية من منظور أهل السنة والجماعة، تصدر عن مركز التأصيل للدراسات والبحوث في جدة. وقد حفل هذا العدد بالمواد التالية: مقال علمي بعنوان: ظاهرة تقديم العقل على النقل في الفكر الإسلامي، للدكتور صالح بن درباش الزهراني بحث بعنوان: القراءة التأويلية عند حسن حنفي للدكتور فهد بن محمد القرشي بحث بعنوان: الإمامة وأثرها في التأويل عند الشيعة الاثني عشرية للدكتور أحمد قوشتي. بحث بعنوان: الخرافات والأساطير مفهومها التراثي والغربي وموقف الإسلام منها للدكتور سعود العريفي. قراءة في كتاب: التعبير عن الرأي في الشريعة الإسلامية. من إعداد الأستاذ سلطان العرابي. مراجعة نقدية لكتاب: مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة. من إعداد المكتب العلمي بمؤسسة الدرر السنية بإشراف الشيخ علوي بن عبد القادر السَّقَّاف.

اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية

عنوان الكتاب: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية اسم المؤلف مجموعة من المؤلفين الناشر كنوز أشبيليا للنشر والتوزيع سنة الطبع 1430 هـ/ط أولى نوع الكتاب ست رسائل دكتوراه قدمت لقسم الفقه في كلية الشريعة بالرياض عدد الأجزاء: عشرة أجزاء التعريف بموضوع الكتاب: لقد خلف شيخ الإسلام ابن تيمية ثروة علمية عظيمة ليس في العقيدة والرد على أهل البدع بمختلف أنواعهم فحسب، بل في شتى مجالات العلوم الإسلامية والتي لا زال أهل العلم ينهلون من معينها ويفيدون منها لما تميز به شيخ الإسلام من سعة في الاطلاع, ومعرفة بالدليل المنقول والمعقول, وتمكن من الأصول, وعناية بالمقاصد الشرعية, لذا كانت اختياراته الفقهية مما ينبغي العناية به لمعرفة الراجح من أقوال أهل العلم في المسائل الخلافية والتي يخفى معرفة الصواب في كثير منها. ولقد قام ستة من الباحثين بالاعتناء باختيارات شيخ الإسلام من خلال ست رسائل دكتوراه تضافرت على دراسة اختيارات شيخ الإسلام مقتسمين الكتب والأبواب الفقهية بينهم. وهذه الدراسة تعد من أوسع الدراسات حول اختيارات شيخ الإسلام فقد حصرت اختيارات الشيخ من جميع كتبه وكتب تلامذته وغيرهم, فاستدركت القصور الذي وقع في المؤلفات السابقة التي جمعت اختيارات الشيخ رحمه الله، ولقد كان منهج الدراسة هو الاقتصار على اختيارات شيخ الإسلام التي خالف فيها المشهور من مذهب الحنابلة أو خالف فيها الأئمة الأربعة أو التي وفق فيها بين أقوال مختلفة. فجمعت الاختيارات بناء على الضابط السابق ووثقت من الكتب المعتبرة ورتبت حسب تصنيف كتاب المقنع لابن قدامة وحرر محل النزاع إن كانت بعض صور المسألة محل خلاف وبعضها محل اتفاق. واهتم الباحثون بذكر أقوال أهل العلم في كل مسألة مع الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة وذكر أقوال السلف مع التوثيق وذكر أدلة الأقوال ووجه الدلالة فيها وما يرد عليها وما يجاب عنها ثم في النهاية الترجيح وذكر ثمرة الخلاف إن وجدت. بالإضافة إلى مكملات الرسالة من تعريف للغريب وترجمة للأعلام غير المشهورين وتخريج الأحاديث إلى غير ذلك. فلا شك أن هذه الدراسة تأتي متواصلة مع العناية بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية والتي تتابع أهل العلم على الاستفادة منها والعكوف عليها، وقد بذل الباحثون جهدهم في الجمع والتوثيق لهذه الاختيارات بل والترجيح بين اختيارات شيخ الإسلام المتعارضة فجزى الله الباحثين خيرا.

أحكام الطواف بالبيت الحرام

أحكام الطواف بالبيت الحرام عنوان الكتاب أحكام الطواف بالبيت الحرام اسم المؤلف وليد بن عبد الله الهويريني الناشر دار ابن الجوزي سنة الطبع 1430هـ - الطبعة الأولى عدد الصفحات 320 نوع الكتاب رسالة جامعية تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير من الجامعة الوطنية في تعز قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون. التعريف بموضوع الكتاب: لما كانت فريضة الحج من أهم العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه, وهي أحد أركان الإسلام العظام التي بني عليها الدين, وجب على المسلم أن يتحرى الصواب في أركانها, وواجباتها, ولزمه أن يتابع فيها نبيه محمد صلى عليه وسلم امتثالاً لقوله: (خذوا عني مناسككم). كتابنا لهذا الأسبوع يتحدث عن ركن من أهم أركان هذه العبادة العظيمة, والشعيرة الجليلة, وهو الطواف ببيت الله الحرام, إسهاماً من المؤلف في توضيح هذا الركن, ومحاولة منه لإثراء هذا الموضوع, واستشعاراً منه بأن البحث في هذه الأحكام بحثاً علمياً سيكون عوناً في إيجاد حلول شرعية لبعض المسائل المشكلة كالازدحام الشديد الذي أدى في بعض الأحوال إلى هلاك الأرواح. بدأ المؤلف كتابه بتمهيد تطرق فيه إلى تعريف الطواف, وتوضيح صفته, وأدلة مشروعيته, وذكر الحكمة منه, مبيناً فضله ومكانته. وفي الباب الأول من الكتاب والذي اشتمل على أربعة فصول كان الحديث في أولها عن أنواع الطواف وحكم كل نوع, حيث أفرد لكل نوع منها مبحثاً, تحدث في هذه المباحث عن كل نوع بالتفصيل ذاكراً حكمها وما يتعلق بها من مسائل. أما الفصل الثاني فاشتمل على ثلاثة مباحث تناولت أنواع النسك وما يجب فيها من الطواف بدءاً بالمفرد ثم القارن خاتما بالمتمتع. بعد ذلك تكلم المؤلف في الفصل الثالث عن شروط الطواف وواجباته, وهنا ذكر المؤلف للطواف ثمانية شروط وخمسة واجبات حشد فيها أقوال أهل العلم وأدلتهم ذاكراً ما ترجح لديه. ثم ختم هذا الباب بعقد فصل رابع للحديث عن سنن الطواف من الاضطباع, والرمل, واستلام الحجر, واستلام الركن اليماني, وغير ذلك من السنن. أما الباب الثاني من الكتاب والذي تكون من أربعة فصول تناول المؤلف في الفصل الأول منه مكروهات ومحرمات الطواف, فبدأ بالمكروهات وعد منها ست مكروهات منها على سبيل المثال التشبيك بين الأصابع, والأكل, والشرب, والكلام في الطواف وغيرها. ثم تناول بالذكر المحرمات فذكر منها الطواف بالبيت عرياناً, وطواف المرأة في حال الحيض, ولبسها للزينة, واستعمالها ما تقوى رائحته من الطيب, وغير ذلك من المحرمات. الفصل الثاني من الباب الثاني لهذا الكتاب خصصه المؤلف للحديث عن مسألة الشك في الطواف, فذكر حالات الشك وحكم كل حالة منها, وناقش أقوال أهل العلم في إحدى مسائل الشك في الطواف وهي حصول الشك في أثناء الطواف ذاكراً ما ترجح لديه في المسألة. ثم شرع المؤلف في الفصل الثالث وتكلم فيه عن حكم العاجز عن الطواف, وما حكم استنابة العاجز غيره ليطوف عنه, وإذا ما طيف بالمعذور محمولاً فلمن يكون الطواف للحامل أو المحمول؟ ليختم المؤلف كتابه بفصل رابع تحدث فيه عن استحباب دخول الكعبة, واستحباب دخول الحجر, والصلاة فيه والدعاء, وعن استحباب الشرب من ماء زمزم والتضلع منه. هذه نظرة إجمالية لمحتوى الكتاب, وهو كتاب جيد في بابه قيم في موضوعه نسأل الله أن يكتب لصاحبه الأجر والمثوبة ويوفقه لما يحبه ويرضاه.

مشكل لباس الإحرام

مشكل لباس الإحرام عنوان الكتاب: مشكل لباس الإحرام - دراسة ست مسائل من أحكام لباس الإحرام مع تخريج الأحاديث والتعريف بأسماء الألبسة. اسم المؤلف: الدكتور إبراهيم بن محمد الصبيحي. سنة الطبع: 1430هـ عدد الأجزاء: 1 عدد الصفحات: 264 التعريف بموضوع الكتاب: يعتبر الحج إلى بيت الله الحرام وقصد البقاع المقدسة من أجل العبادات, وأفضل القربات, وكما هو الحال في كل العبادات فقد تكلم أهل العلم عن جميع متعلقاته من شروط, وواجبات, ومحرمات, ومكروهات, وبينوا الأمر فيه بياناً شافياً, إلا أنه قد وقع منهم الاختلاف في بعض مسائله, ومن تلك المسائل مسائل لباس الإحرام. وقد قام الدكتور إبراهيم بن محمد الصبيحي في كتابه (مشكل لباس الإحرام) بدراسة ست مسائل مما أشكل على أهل العلم في أحكام لباس الإحرام, وتنوعت أقوالهم فيها. بدأ المؤلف كتابه بتوطئة تعرض فيها لأدب الخلاف, مبيناً أن العصمة لم يكتبها الله إلا لأنبيائه ورسله وما عداهم من الخلق عرضة للصواب والخطأ في كل ما يقولون ويفعلون. ثم أتبع ذلك بالكلام عن تعريف الألبسة في اللغة لكي يتبين من خلالها الألبسة التي تعلق بها النهي, والألبسة التي جاء الأمر بلبسها. فذكر منها على سبيل المثال الإزار, واللحاف, والملاءة, والربطة وغيرها. ثم قام بدراسة الأحاديث التي وردت في شأن اللباس دراسة حديثية, جامعاً لطرق الاحاديث, مورداً ما قاله أهل العلم فيها, ثم مبيناً الحكم عليها, وكان مجموعها ستة أحاديث, خرج منها بنتيجة وهي أن الأحاديث الواردة في لباس الإحرام أربعة أنواع كلها صحيحة, وهي منها الأوامر ومنها النواهي وبين بعد ذلك تفصيلها, ثم عرض بعض ذلك للمسائل المختلف فيها من لباس الإحرام وهي ست مسائل: أولها: الإحرام بالمخيط. ثانيها: الأمر بقطع الخفاف. ثالثها: لبس الخفاف المقطوعة ووصف النعال. رابعها: تغطية المحرم وجهه. خامسها: أحكام لبس الأردية. سادسها: حكم لبس الأقبية والبشوت. فقام بعرض أقوال أهل العلم في جميع هذه المسائل, دارساً كل قول منها, ذاكراً بعد ذلك ما ترجح لديه فيها.

المبالغة في التيسير الفقهي

المبالغة في التيسير الفقهي عنوان الكتاب: المبالغة في التيسير الفقهي اسم المؤلف: خالد بن عبد الله المزيني الناشر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث. سنة الطبع: الطبعة الأولى 1432هـ. عدد الصفحات: 69 التعريف بموضوع الكتاب: ينتقد هذا الكتاب إحدى الظواهر المنهجية التي أسهمت في صياغة الفقه المعاصر، وهي ظاهرة المبالغة في التيسير في مجال الفقه والفتوى، والمنتسبون إلى هذا المنهج يختلفون باختلاف مشاربهم، فمنهم من يتوخى مقاصد الشرع ويستند إلى مرجعيته الراسخة، ومنهم من يطالب استباحة الممنوع الشرعي بحجة القضاء على التشدد وفتح آفاق التنمية والانفتاح على الآخر، ومما ساعد على ظهور هذه الأصوات تبني الإعلام بعض هذه الأقلام التي لا تفتأ تبث الكراهية ضد كثير من الأحكام الفقهية المستقرة. افتتح مؤلف الكتاب بعد المقدمة بالتمهيد، بيَّن فيه مفهوم المبالغة في التيسير، وعرَّفه بأنه التزام التيسير على الدوام، بحيث يلفق مذهبه من طائفة من أسهل الأقاويل. وليس المقصود به الأخذ بالتيسير عند وجود مقتضيه من الأدلة الناهضة. ثم تناول في المبحث الأول أنواع التيسير الفقهي عند المعاصرين، وقسمه إلى قسمين: التيسير المنضبط، والتيسير المبالغ فيه. تحدث فيه عن مفهوم التيسير المنضبط، ودعا بالتوجه إلى هذا النوع من التيسير. كما تحدث في المبحث الثاني عن مفهوم مظاهر المبالغة في التيسير الفقهي، ذكر فيه عدة مظاهر أولها؛ المبالغة في اعتبار المقاصد في مقابلة النصوص والأصول، وثانيها: تتبع الرخص، وثالثها: تطويع الفقه للواقع. وبيَّن في المبحث الثالث أسباب المبالغة في التيسير الفقهي، وذكر خمسة أسباب؛ السبب الأول: الجهل بالشريعة، والسبب الثاني: الجهل بمعاني أدلة الشريعة، والسبب الثالث: وقوع التشدد في الفتيا، والسبب الرابع: الخضوع لضغط الواقع، والسبب الخامس: التشوف إلى الشهرة. وتحدث في المبحث الرابع والأخير عن آثار المبالغة في التيسير الفقهي، ذكر من الآثار، أثر الإخلال بصورة الشريعة، وأن من لوازمه التهوين من الشرائع الجزئية في الدين. ثم بين الأثر الثاني من الآثار وهو التقليل من أهمية الفرعيات، والحط من شأن البحث في جزئيات الشريعة. ثم ذكر الأثر الثالث؛ وهو الإخلال بمقاصد الشريعة، كسد الذرائع، واستصلاح الخلق بحجزهم عن التهاون في المحرمات وغيرها. وختم الرسالة بخاتمة خَلُص فيها إلى أن أحسن السبل في فهم الشريعة والوعي بأحكامها سلوك منهج الوسط والاعتدال، دون غلو ولا تقصير. وأن المبالغة في التسهيل على المستفتين ليست من شأن العلماء الراسخين، وأن لهذه الطريقة في تقديم الدين آثاراً غير حميدة.

المرأة والحقوق السياسية في الإسلام

المرأة والحقوق السياسية في الإسلام عنوان الكتاب: المرأة والحقوق السياسية في الإسلام اسم المؤلف: مجيد محمود ابو حجير الناشر: مكتبة الرشد - الرياض سنة الطبع: ط1 - 1417هـ عدد الصفحات: 582 نوع الكتاب: رسالة علمية لنيل درجة الماجستير في القضاء الشرعي بكلية الدراسات العليا بالجامعة الأردنية التعريف بموضوع الكتاب: موضوع المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام من المواضيع التي شغلت الكثير من الكتاب والمفكرين الداعين إلى حقوق المرأة والباحثين عن حريتها المزعومة, والمتباكين على أوضاعها وحقوقها المهضومة - بزعمهم- وقد كثر الحديث عن هذه القضية منذ مطلع القرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر وما زالت هي القضية الأهم في نظر هؤلاء. والسؤال الذي يطرح نفسه هل أضاع الإسلام حقوق المرأة السياسية, وهل توليها للمناصب السياسية يعد حقاً من حقوقها التي كفلها لها الدين كما كفلها للرجال؟ هذا السؤال وغيره من الأسئلة المطروحة في الساحة يجيب عليها كتابنا لهذا الأسبوع. تألف الكتاب من بابين: الباب الأول: تناول في فصلين حقوق المرأة السياسية في تشريعات الأمم, فتكلم عن حقوقها في الشرائع القديمة التي أهدرت مكانتها وهضمتها أقل حقوقها, وعن المرأة في الجاهلية وكيف كانت تعامل أنها من سقط المتاع, وعن المرأة وحقوقها السياسية في الشرائع الوضعية الحديثة، كما تحدث فيه عن مكانة المرأة في الإسلام, وعن موجز من حقوقها الأخرى المصونة شرعاً, فتكلم عن حقوقها الإنسانية, والاجتماعية, والاقتصادية, ليعقد بعد ذلك مبحثاً يخرج فيه بنتيجة المقارنة بين ما كانت عليه المرأة في الشرائع السابقة أو ما هي عليه اليوم في القوانين الوضعية, وبين حقوقها المصانة في الإسلام والتي لا تعدلها حقوق ولا ترتقي إليها قوانين. الباب الثاني: هو الجزء الأكبر من الدراسة وخصصه المؤلف للحديث عن المرأة والولايات العامة في التشريع الإسلامي. حيث عرف المؤلف في الفصل الأول من هذا الباب الولايات العامة في الشريعة الإسلامية, ذاكراً أنواعها, ومفرقاً بينها وبين الولاية الخاصة, كما تحدث عن الولاية العظمى وشروطها, وحكم تولي المرأة لها. ومن ضمن الولايات التي تحدث عنها في هذا الفصل أيضاً الوزارة والقضاء وحكم تولي المرأة لهما, كما تحدث عن الانتخابات وحكم انتخاب المرأة. وخلص المؤلف فيه إلى عدم جواز المرأة تولي رئاسة الدولة، أو الوزارة، أو القضاء، أو أن ترشح نفسها لعضوية مجلس الشورى، لكون هذه المناصب من الولايات العامة. أما في الفصل الثاني من هذا الباب تحدث عن توظيف المرأة توظيفاً سياسياً في وظائف الدولة الأخرى, فبين المقصود بالوظيفة السياسية وصلتها بالولاية العامة والخاصة, وعدد أنواع وظائف الدولة السياسية والشروط الواجب توافرها في كل نوع, ليختم المؤلف بالحديث عن عدم جواز تولي المرأة للوظائف السياسية والتي هي عينها الولايات العامة وأن هذا هو رأي جمهور الفقهاء القدامى وأكثر المعاصرين.

ولاية المرأة في الفقه الإسلامي

ولاية المرأة في الفقه الإسلامي عنوان الكتاب: ولاية المرأة في الفقه الإسلامي اسم المؤلف: حافظ محمد أنور الناشر: دار بلنسية - الرياض سنة الطبع: ط1 - 1420هـ عدد الصفحات: 813 نوع الكتاب: أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير بإشراف الشيخ صالح بن غانم السدلان. التعريف بموضوع الكتاب: لم يحفظ دين ولا شريعة ولا مذهب حقوق المرأة كما حفظها الإسلام, فجاء بكل ما يهمها, وما تحتاج إليه في شئون حياتها كلها من دخولها إلى هذه الدنيا, إلى خروجها منها, دون ظلم لها في شأن من الشئون, وكل من بحث عن ذلك في شريعتنا وفتش سيجده واضح للعيان لا يخفى إلا على مغرض أو جاهل. إلا أن أعداء الفضيلة وعباد الشهوات من الغرب ومن سعى سعيهم من المتغربين لم يكتفوا بذلك بل أرادوا لها أن تخلع ثوباً كساها الله لها من العفاف والستر, لتزاحم الرجال في مجالات عملهم المختلفة, وأنماط حياتهم التي لا تصلح إلا لهم ولا يقوى عليها إلا هم, بل أبعد من ذلك إرادتهم لها أن تكون ممن يتحكم في مصير الأمة, ويتسنم مواضع صنع القرار, لتكون رئيساً, أو وزيراً, أو سفيراً، .. كتابنا لهذا الأسبوع يتناول قضية ولاية المرأة في الفقه الإسلامي , حيث توسع المؤلف في بحث هذه القضية وجلاها للناظرين وبينها أوضح بيان وأكمله. مهد المؤلف كتابه بتمهيد عرف فيه الولاية وبين أقسامها, ليلج بعد ذلك في صلب الكتاب المؤلف من بابين اثنين: أما الباب الأول من الكتاب فكان الحديث فيه عن ولاية المرأة العامة والذي بدوره انقسم إلى أربعة فصول: الفصل الأول: تحدث فيه المؤلف عن الإمامة العظمى وشروط ولايتها , وحكم تولي المرأة لها, كما تناول الحديث ولاية الإمارة والوزارة. وتحدث أيضاً في هذا الفصل عن الإمامة الصغرى, فعرفها وبيَّن حكم أذان المرأة وإقامتها, وحكم ولايتها لإمامة الصلاة سواءً كان ذلك للرجال أو للنساء. الفصل الثاني: كان الحديث فيه عن ولاية القضاء, وحكم تولي المرأة لهذه الولاية ليخرج بنتيجة, وهي أن المرأة لا يجوز لها تولي منصب القضاء, ولا يصح القضاء منها, كما تناول الحديث أيضاً شهادة المرأة وما يتعلق بها. ثم تناول وفي نفس الفصل قضيتي الحسبة والإفتاء وحكم تولي المرأة لهما, أما الحسبة فبين أن للمرأة أن تتولاها سواءً كانت غير رسمية أو بطلب من الإمام فيما يخص أمور النساء, وأما الفتوى فللمرأة أن تفتي في حال كونها أهلاً لذلك. الفصل الثالث: تحدث فيه المؤلف عن اشتراك المرأة في الانتخابات ومؤسسات الشورى, فخلص المؤلف إلى أنه لا يجوز للمرأة الدخول في مجلس الشورى أو البرلمان كعضوة من أعضائه لأن ذلك من الولايات العامة, التي لا يتولاها إلا الرجال. انتقل المؤلف بعد ذلك إلى الباب الثاني للحديث عن ولاية المرأة الخاصة, واشتمل هذا الباب على فصلين: الفصل الأول: تضمن الحديث عن ولاية المرأة الخاصة بنفسها كولايتها على نكاح نفسها, وولايتها لمالها. الفصل الثاني: تناول الحديث عن ولاية المرأة الخاصة لغيرها كولاية الحضانة, وولاية كفالة الصغار, وولاية التزويج لغيرها, وولاية مال غيرها, وولاية النظر على الوقف. يعتبر هذا الكتاب من أوسع الكتب التي ناقشت هذا الموضوع, وأوضحته بمزيد من التفصيل والتحقيق فجزى الله المؤلف خير الجزاء وكتب أجره.

الحقيقة المفقودة

الحقيقة المفقودة عنوان الكتاب ... الحقيقة المفقودة اسم المؤلف ... إياد الجلاد سنة الطبع ... ط 1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 410 التعريف بموضوع الكتاب: لم يعد العالم قرية واحدة .. فالجميع يقطنون اليوم منزلا واحدا .. منزل أَلْفرِدْ، لكنه بالرغم من ذلك تظل هناك حقيقة مفقودة فيه!. بهذه العبارة الموجودة على الغلاف الخلفي، يمكن للقاريء أن ينظر للرواية بشمولية، وعمق أكبر، وذلك قبل الدخول في معمعة أحداثها المتتالية. الحقيقة المفقودة رواية مبتكرة، صاغها المؤلف بطريقة جذابة، وأضفى على أحداثها شكلاً فلسفيا رائعا، وهي رواية تفاعلية .. مفعمة بالحيوية، وزاخرة بالأحداث المثيرة، وتجمع بين المتعة والعمق الفكري، وتمتزج فيها المغامرة بالرمزية البارعة. تتسارع فيها الأحداث تارة، وتتباطأ فيها تارة أخرى، كما تتصاعد وتيرتها، وتتشابك خيوط القضية فيها إلى درجة تبدو شديدة التعقيد؛ فتصيب القارئ بالحيرة؛ وتدخله في تحد خاص. وقد نوَّه المؤلف في البداية على أن كافة ما ورد في الرواية من معلومات تتعلق بأماكن، أو بأمور علمية، أو خاصة بالديانات والطوائف وغير ذلك، نوَّه إلى أنها حقائق صحيحة وواقعية. وافتتح كتابه بعد ذلك بعبارة مثيرة قال فيها: "هناك حقيقة مفقودة .. حين تلوح لك .. تبصر أمامك مفترق طرق .. لا مجال للتردد .. عليك أن تحدد وجهتك سريعا .. " واحتوت الرواية على سبعة فصول, الستة الأولى منها متقاربة في الحجم، بينما كانت خيوط القضية فيها تتشابك أكثر فأكثر، حتى وصل تعقيد الأمور إلى الذروة في الفصل السادس، لكن ظلت الحقيقة مفقودة إلى نهايات الفصل السابع. واستخدم المؤلف الأسلوب البوليسي التشويقي الذي يدفع القاريء لمواصلة القراءة، ويجعله في حالة بحث دؤوب كي يعثر على الحقيقة المفقودة إلى نهاية القصة، كما تمكن المؤلف من خلال هذا الأسلوب من تمرير عدة رسائل. وبالرغم من تشعب الأحداث وتشابكها، وبث المؤلف في ثناياها لعدد من الرسائل الفكرية التي قد تبدو متنوعة للوهلة الأولى، إلا أن كل ذلك يجتمع في شيء واحد، ويصب في الهدف الأساسي الذي سعى المؤلف إلى إيصاله للقاريء. لكن استخدام الأسلوب البوليسي، واستخدام الرمزية في القصص، له ضريبته؛ فهي أساليب تحتِّم على القاريء، أن يواصل قراءة الرواية دون انقطاع، وبتركيز عال؛ حتى يتسنى له ربط الأحداث؛ وتحليلها بدقة، وإلا تشتت ذهنه، وربما فقد رأس الخيط الذي يعينه على التقاط بقية الخيوط وجمعها لفهم روح القصة؛ فيغرق في لجَّة الوقائع السريعة المتتابعة، والمشاهد الكثيرة المتنوعة، دون أن يعي حقيقة ما يدور من أحداث. وفي النهاية .. تبقى هذه الرواية عملا مميزا بحق في عالم الروايات الهادفة.

كفاية النبيه شرح التنبيه في فقه الإمام الشافعي

كفاية النبيه شرح التنبيه في فقه الإمام الشافعي عنوان الكتاب: كفاية النبيه شرح التنبيه في فقه الإمام الشافعي ويليه الهداية إلى أوهام الكفاية للإسنوي. اسم المؤلف: أحمد بن محمد ابن الرفعة. المحقق: الدكتور مجدي محمد سرور باسلوم. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. سنة الطبع: 2009م - الطبعة الأولى. عدد المجلدات: 21 مجلد. التعريف بموضوع الكتاب: كتاب التنبيه للشيرازي من متون الشافعية التي نالت شهرة كبيرة وكثر تداولها وزادت أهميتها؛ وذلك لأنه جمع أصول مذهب الشافعي، فمع اختصاره تميَّز بالشمول، وكيف لا ينال هذه المكانة ومؤلفه هو الشيرازي أحد أعلام المذهب الشافعي يقول عنه النووي وعن كتابه: (كتاب نفيس حفيل، صنفه إمام معتمد جليل). وقد اهتم العلماء بهذا المتن حتى عدَّ بعضهم له أربعين شرحًا، بالإضافة إلى من قام باختصاره ونظمه والتعليق عليه إلى غير ذلك. ومن شروحه الفائقة شرح (كفاية النبيه) لابن الرفعة الذي حمل لواء الشافعية في عصره حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (رأيت شيخًا تتقاطر فروع الشافعية من لحيته). فاق (كفاية النبيه) غيره من شروح (التنبيه)، وذلك لما تميَّز به من مزايا متعددة، والتي منها: - كثرة الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة والإجماع. - التوسع في المسائل وكثرة التفريع. - الاهتمام بأقوال الشافعي، والتمييز بين القديم منها والجديد، وكذلك وجوه الأصحاب وتخريجاتهم. - له اختيارات وتصحيحات يخالف فيها النووي. - الإكثار من النقل عمن سبقه من الفقهاء، والتحري في النقل عنهم. - وضوح عبارته، والابتعاد عن الألفاظ الغامضة. ومنهج المؤلف في كتابه أنه يفتتح الكتاب أو الباب بمقدمة تتضمن عدة أمور منها التعريف باسم الكتاب أو الباب لغة واصطلاحًا، ثم يذكر أدلة المشروعية من الكتاب والسنة. ويقوي شرحه رحمه الله بالاستدلال بالكتاب والسنة كثيرًا، ومنهجه في ذلك أنه يجمع بين الكتاب والسنة، وإذا استدلَّ بالحديث فإنه يخرجه غالبًا، وأحيانًا يذكر حكمه من خلال أقوال علماء الحديث، ويتعقب صاحب المتن بذكر أقوال أو أوجه حكيت في المسألة لم يذكرها، ويصدرها غالبًا بقوله: (ووراء ما ذكره الشيخ وجهان أو أوجه). ونحو ذلك. وكثيرًا ما إذا ذكر قولًا أو وجهًا في مسألة يقول: (ويتجه أو ينبغي طرد ذلك في كذا). مما هو شبيه بالمسألة، وهو يفعل ذلك كما قال: (تقويةً للجمع بين المسألتين، وطلبًا للفرق بين المأخذين). ويعرف بالغريب من ألفاظ المتن، مع إيراد الأوجه اللغوية في بعضها، وأحيانًا يضبطها، وأحيانًا يورد بعض الاعتراضات على كلام المؤلف ويجيب عنها. وقد سلك المؤلف في كتابه مسلكًا متوسطًا، فلا هو بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل. والكتاب قام بدراسته وتحقيقه والتعليق عليه الدكتور مجدي محمد سرور باسلوم معتمدًا على عدة نسخ خطية، قام بمقابلتها مع إثبات الفروق بينها، وتخريج الأحاديث والآثار، وتوثيق النقولات والأقوال، وشرح الغريب، وترجمة الأعلام، وشرح المصطلحات الفقهية والأصولية في الكتاب، مع المقدمة والفهارس العلمية، وقد أشار المحقق إلى أنه ألحق بهامش هذا الكتاب كتابا آخر وهو (الهداية إلى أوهام الكفاية) للإسنوي ورمز له بـ[أو] ومع قوله ذلك فقد تم إفراد كتاب الهداية في المجلد العشرين. ونشير أيضا إلى أن كتاب (كفاية النبيه) قد شارك في تحقيقه مجموعة كبيرة من الطلبة لنيل درجة الماجستير بكلية الشريعة جامعة أم القرى.

شبهات المبتدعة في توحيد العبادة

شبهات المبتدعة في توحيد العبادة عنوان الكتاب: شبهات المبتدعة في توحيد العبادة اسم المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن الهذيل الناشر: مكتبة الرشد سنة الطبع: الطبعة الأولى - 1432هـ عدد الأجزاء: 3 عدد الصفحات: 1463 نوع الكتاب: رسالة جامعية التعريف بموضوع الكتاب: مما لا شك فيه أنَّ أهل البدع جعلوا الشبه دليلاً لهم في تقرير مخالفاتهم المتعلقة بتوحيد العبادة، ليلبسوا الحق بالباطل، سواء كان استدلالاً نقلياً أو عقلياً، أو ما يجعلونه شاهدا على صحة ما هم عليه وليس هو كذلك، فانبرى لهم العلماء فكشفوا زيف تلك الشبه، وبينوا عوارها، حتى يتضح الحق من الباطل، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة. وجاء هذا الكتاب ليساهم في كشف زيف تلك الشبه، وقد قسمه مؤلفه على خمسة أبواب مع المقدمة والتمهيد، ذكر في التمهيد معنى توحيد العبادة وعوامل الانحراف فيه، ومعنى الشبهة وتعريف المبتدعة، والمراد بالمبتدعة، ومنهجهم في عرض شبههم. ثم تناول في الباب الأول، شبهات المبتدعة في معنى العبادة وأول واجب على المكلف، ففي الفصل الأول من الباب ذكر شبهاتهم في أول واجب على المكلف، وفي الفصل الثاني بيَّن شبهاتهم في تعريف العبادة، وفي الفصل الثالث تحدث عن شبهاتهم في الخلط بين توحيد العبادة وتوحيد الربوبية، وتقرير أهل السنة للتفريق بين توحيد العبادة وتوحيد الربوبية ومذهبهم في العلاقة بينهما، وموقف المبتدعة من التفريق بين نوعي التوحيد. وخصص الباب الثاني في الحديث عن شبهاتهم في معنى الشرك، تحدث في الفصل الأول منه عن معنى الشرك وأنواعه عند أهل السنة، وفي الفصل الثاني بين معنى الشرك عند المبتدعة، وذكر في الفصل الثالث شبهات المبتدعة في أن شرك الأمم كان في الربوبية، وفي الفصل الرابع بيَّن شبهاتهم في نفي وقوع الشرك في هذه الأمة. ثم تحدث في الباب الثالث عن شبهاتهم في أنواع الشرك الأكبر، ففي الفصل الأول من الباب ذكر شبهاتهم في تجويز دعاء الأموات والاستغاثة بهم، مع بيان المراد بالدعاء والاستغاثة والاستعانة، ومذهب أهل السنة، ومذهب المبتدعة في ذلك. وذكر في الفصل الثاني مذهب أهل السنة في الذبح والنذر، ومذهب المبتدعة وشبهاتهم في تجويز الذبح والنذر لغير الله، وبيَّن في الفصل الثالث أحوال الركوع والسجود، والنهي عن صرفهما لغير الله، وشبهات المبتدعة في صرف الركوع والسجود لغير الله. وفي الباب الرابع بيَّن شبهاتهم في أنواع من الشرك الأصغر، فتحدث في الفصل الأول من الباب في الرقى والتمائم؛ في تعريف الرقى والتمائم، والرقى الشرعية، والرقى البدعية وشبهات أصحابها. وفي الفصل الثاني تحدث عن الطيرة والتشاؤم؛ تعريفهما، ومذهب أهل السنة في ذلك، وشبهات المبتدعة في تقرير الطيرة والتشاؤم. ثم ذكر في الفصل الثالث الحلف بغير الله؛ أدلة النهي عن الحلف بغير الله، وشبهات المبتدعة في تجويز الحلف بغير الله. وفي الباب الخامس والأخير تحدث عن شبهات المبتدعة في وسائل الشرك، ففي الفصل الأول منه بيَّن التوسل غير المشروع؛ تعريفه، ومذهب أهل السنة، ومذهب المبتدعة فيه، وشبهاتهم في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالأولياء عامة، وفي الفصل الثاني تناول شبهات المبتدعة في الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في قبره، وشبهاتهم في الاستشفاع بغيره من أهل القبور. وذكر في الفصل الثالث التبرك المشروع والتبرك الممنوع وشبهات المبتدعة فيه. ثم بيَّن في الفصل الرابع الغلو في الأنبياء والصالحين. وفي الفصل الخامس من الباب تحدث عن البناء على القبور والعكوف عندها، وزيارة القبور الشرعية والبدعية، وشبهات المبتدعة في البناء على القبور والعكوف عندها وشد الرحل إليها. والكتاب مذيَّل بتراجم الأعلام والفهارس العامة.

التشيع في البحرين – تاريخه - اهدافه

التشيع في البحرين - تاريخه - اهدافه عنوان الكتاب: التشيع في البحرين - تاريخه - اهدافه اسم المؤلف: عبد العزيز بن أحمد البداح سنة الطبع: ط1 - 1432هـ عدد الصفحات: 151 التعريف بموضوع الكتاب: لا تزال الحركات الباطنية منذ نشوئها تشن حرباً على الدين وأهله, وتسعى إلى إثارة الفتن والقلاقل في بلاد الإسلام للسيطرة عليها والتمكن منها, وهذا يشهد به التاريخ وتثبته الوقائع, وإن من أخطر الفرق الباطنية التي ظهر لها نشاط واضح في السنوات الأخير فرقة الشيعة الرافضية الصفوية والتي تستهدف بالمقام الأول جزيرة الإسلام من خلال وسائل وأساليب شتى, وقد جعل هذا المارد القبيح من جزيرة البحرين بوابة للنفوذ إلى الجزيرة العربية. كتاب ((التشيع في البحرين - تاريخه - أهدافه)) يسلط الضوء على هذه الفرقة في هذا البلد العربي. ويتألف من أربعة فصول وخاتمة: الفصل الأول: عرف فيه المؤلف دولة البحرين, فتحدث عن موقعها, وتاريخها,, وسكانها, كما تحدث عن الأحوال فيها فتطرق للأحوال السياسية, والحياة الاجتماعية. الفصل الثاني: تكلم فيه المؤلف عن الوجود الشيعي في البحرين, وتاريخ هذا الوجود , كما تناول الحديث عن الأسر الشيعية وأصولها. وفي نفس الفصل تكلم عن التيارات الفكرية في المجتمع الشيعي, فذكر التيار البعثي والتيار الشيوعي, ليتحدث بعد ذلك عن الأحوال في المجتمع الشيعي فتناول الأحوال السياسية, والأحوال العلمية, والأحوال الدينية, والأحوال الاجتماعية. الفصل الثالث: خصه المؤلف للحديث عن عقائد الشيعة في البحرين, فتكلم عن أهم عقائدهم كالإمامة، والولاية, والعصمة, والغيبة, والرجعة, والبداء. الفصل الرابع: وأفرده للحديث عن محددات التشيع في البحرين, فتكلم عن علاقة المجتمع الشيعي البحريني بإيران, كما تكلم عن ولاية الفقيه والتقليد كمحدد آخر, والذي عده المؤلف المحرك الأساسي والدافع القوي لمواقف المجتمع الشيعي وتوجهاته. ثم تحدث عن مكونات الشخصية الشيعية كمحدد آخر, مبيناً أن الشخصية الشيعية لها مكونات أساسية تتجلى في التقية, ودعوى المظلومية, والعنف والثورة. وفي نفس الفصل تحدث عن المراحل التي مر بها التشيع في البحرين وعدد فيه ثلاث مراحل. ثم ختم المؤلف كتابه بخاتمة لخص فيها نتائج البحث, وأردفها ببعض التوصيات. جزى الله المؤلف خير الجزاء وكتب أجره ونفع به الإسلام والمسلمين.

المناسبات الموسمية بين الفضائل والبدع والأحكام

المناسبات الموسمية بين الفضائل والبدع والأحكام عنوان الكتاب: المناسبات الموسمية بين الفضائل والبدع والأحكام اسم المؤلف حنان بنت علي بن محمد اليماني الناشر مكتبة الأسدي - مكة المكرمة سنة الطبع 1431هـ عدد الصفحات: 446 التعريف بموضوع الكتاب يمتلئ العام بالكثير من المناسبات والأعياد بعضها شرعي كعيدي الفطر والأضحى وبعضها بدعي ما أنزل الله بها من سلطان كالأعياد المحدثة والمناسبات المبتدعة التي تتفرق في سائر أيام العام, والتي يرتكب فيها كثير من الناس مخالفات شرعية لا تعد ولا تحصى متعبدين الله بها بأنواع العبادات والطاعات المحدثة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. لذا وجب على أهل العلم والدعاة أن ينبهوا الناس إلى مثل هذه الأمور وذلك لحاجة الناس الماسة إلى معرفة ما شرع وما لم يشرع من هذه المناسبات. كتابنا لهذا الأسبوع يسلط الضوء على هذه المناسبات والأعياد ويبين أحكامها وأحكام بعض الأعمال فيها. الكتاب يتألف من فصلين أفردت المؤلفة الأول منهما للمناسبات الموسمية الحولية, حيث تألف هذا الفصل من تسعة مباحث كل مبحث تحدث عن شهر من شهور العام الهجري وما فيه من مناسبات فتحدثت عن المناسبات في شهر الله المحرم , وشهر صفر, وشهر ربيع الأول, وشهر رجب, وشهر شعبان, وشهر رمضان, وشهر شوال, وشهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة, وفي كل شهر تكلمت المؤلفة عن المناسبات التي فيه سواء المشروعة منها أو البدعية, كما تكلمت عن فضائله وأحكامه إن وجدت, وذيلت ذلك بفتاوى العلماء. أما الفصل الثاني فتحدثت فيه المؤلفة عن المناسبات الموسمية المتنوعة خلال العام واشتمل هذا الفصل على خمسة مباحث , كل مبحث يحتوي على موسم من المواسم, فتكلمت عن موسم الأمطار, وموسم الأعياد البدعية, وموسم العام الدراسي, وموسم الاختبارات, وموسم الإجازات, وكل موسم من هذه المواسم تحدثت فيه المؤلفة عما فيه من الأحكام والفضائل أو البدع والمحدثات مع إرداف ذلك بفتاوى أهل العلم. الكتاب جديد في بابه, نسأل الله أن يكتب أجر المؤلفة ويجزيها خير الجزاء.

التحفة في أحكام العمرة والمسجد الحرام

التحفة في أحكام العمرة والمسجد الحرام عنوان الكتاب ... التحفة في أحكام العمرة والمسجد الحرام اسم المؤلف ... فهد بن يحيى العماري الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ... ط1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 152 التعريف بموضوع الكتاب: لا عجب أن ترى جموع أهل الإيمان وهي تقبل على بيت الله الحرام في شوق ولهفة, فهو بيت خالقها وباريها, البيت الذي تتحرك إليه النفوس, وتتلهف له القلوب, وتحن إليه الأرواح, فهي تأنس فيه بالرحمن, وتنزل على ضيافة الديان, وتتخلص فيه من الأحزان, وتنطلق فيه من العصيان. في كتابنا لهذا الأسبوع يتحدث المؤلف عن هذا البيت العظيم فيحدثنا عن فضله ومنزلته, ويوضح لنا مسائله, ويبين لنا أحكامه, خاصة وأن الناس في حاجة إلى مثل هذه التوضيح والبيان. تكلم المؤلف في بداية كتابه عن التوحيد لأنه أساس الإسلام وركنه وشرطه, وقبل أن ينتقل إلى الحديث عن موضوع الكتاب, مهد بمبحثين مهمين تكلم في الأول عن أحكام المواقيت ومسائلها, وفي الثاني عن محظورات الإحرام. انتقل بعد ذلك إلى فصول الكتاب والذي تألف من فصلين, أما الأول منهما فخصصه للحديث عن العمرة وأحكامها, واشتمل هذا الفصل على ثماني عشر مبحثاً, تحدث فيها عن تعريف العمرة, وفضلها وحكمها, ومتى شرعت وفرضت, كما تحدث فيها عن عدد عمرات الرسول صلى الله عليه وسلم, وعن وقت العمرة ومتى تؤدى, وعن شروطها, وأركانها, وواجباتها, وعن حكم تكرار العمرة. كما تحدث عن حكم إهداء العمل الصالح للغير, وحكم تكرار العمرة عن الغير, ثم تكلم بعد ذلك عن شروط الطواف ومسائله, وعن السعي ومسائله, وعن مسائل في التحلل, وعن أحكام العمرة للصبي, وعن عمرة التمتع والقران في الحج, ثم تحدث بعد ذلك عن فضائل طواف النافلة ومسائله, ليختم مباحث الفصل بالحديث عن طواف الوداع. أما الفصل الثاني من الكتاب والذي خصصه للحديث عن بعض أحكام المسجد الحرام فقد ذكر فيه ستاً وثلاثين مسألة وحكماً, كمضاعفة الحسنات والسيئات في المسجد الحرام, ومضاعفة الصلاة فيه وفي مكة كلها, وعن أفضيلة الطواف أو الصلاة, وحكم دخول الكافر مكة وغيرها من المسائل. ثم ختم المؤلف كتابه بذكر بعض المسائل التي يكثر السؤال عنها من قبل الزائرين والمعتمرين. جزى الله المؤلف خيرا على هذا الجهد المبارك ونفع به الإسلام والمسلمين.

من فقه رمضان والصيام - آداب وأحكام

من فقه رمضان والصيام - آداب وأحكام عنوان الكتاب ... من فقه رمضان والصيام - آداب وأحكام اسم المؤلف ... فالح بن محمد بن فالح الصغير الناشر ... دار ابن الأثير سنة الطبع ... 1432هـ عدد الصفحات: ... 160 التعريف بموضوع الكتاب: إن الله جل وعلا جعل لعباده مواسم ومحطات في الأيام والأسابيع والشهور والأعوام؛ ليتزودوا فيها من الحسنات ويتنافسوا في الخيرات، ويتسابقوا لعمل الصالحات. ومن هذه المحطات والمواسم؛ موسم شهر رمضان الذي يعتبر أحد أركان الإسلام الخمسة، حيث أمر الله سبحانه بصيام نهاره, وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام ليله, ورغب فيه بعمل الصالحات، فضاعف الأجر عليها والمثوبات. وكتابنا لهذا الأسبوع للدكتور/ فالح بن محمد بن فالح الصغير، الذي عنوانه (من فقه رمضان والصيام آداب وأحكام)، من الكتب التي تحدثت عن الدروس والأحكام المتعلقة بشهر رمضان وفريضة الصيام، وما ينبغي أن يتعامل به المسلم مع هذا الشهر الكريم، ومع تلك الفريضة العظيمة. وأصل هذا الكتاب عبارة عن دروس كان يلقيها المؤلف في إذاعة القرآن الكريم في الرياض، فطلب منه بعض المستمعين طباعتها لتعم فائدتها ويتسع نشرها، فجمعها وأجرى عليها بعض التعديلات والتنقيحات وجعلها على شكل دروس بلغت ثلاثين درساً على أيام شهر رمضان، وكل موضوع أخذ درساً أو أكثر حسب ما يقتضيه المقام، واقتصر فيها على المهمات من الأحكام والآداب التي تذكر المتعلم, وتنبه الغافل, وترشد الشارد. وافتتح الكتاب في الدرس الأول بالحديث حول التهيئة بدخول شهر رمضان، ثم تدرج في الدروس التالية بذكر الآداب والأحكام، فذكر حكم صيام رمضان وبيان فضائله، ثم ذكر مقاصد الصيام وشروطه، ومفسداته ومفطراته، وآدابه، ثم نقل لنا صوراً من واقع الناس في رمضان، ووقف وقفات مع الأطفال والتجار، ومع المرأة المسلمة في رمضان، وبيّن آداب الإفطار والسحور، وعرج بذكر أحكام وآداب التراويح وقيام رمضان، وأحكام وآداب القرآن الكريم، وتحدث عن الذكر وأحكامه وآدابه، والدعاء وفضائله وآدابه، ثم تحدث عن العشر الأواخر وليلة القدر، وبعض المواقف في رمضان، وذكر أحكام وآداب الزكاة والإنفاق، وبيّن علاقة الصحة بالصيام، وتكلم عن علاقة المخلوق بالخالق، وعلاقة المخلوق بالمخلوق، وختم الكتاب بالحديث عن وداع رمضان، وختام رمضان وصدقة الفطر، وآداب العيد. أثاب الله كاتبه، ونفع به قارئه.

مسائل صلاة الليل

مسائل صلاة الليل عنوان الكتاب ... مسائل صلاة الليل اسم المؤلف ... محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح تقديم ... الشيخ صالح بن فوزان الفوزان الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ... ط1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 120 التعريف بموضوع الكتاب: للسلف مع الليل أحوال عجيبة، فالليل فيه يخلو أهل الإيمان بربهم يناجونه ويشكون إليه أحوالهم، وتلهج ألسنتهم بالدعاء والثناء عليه، يستغفرونه من ذنوبهم, ويلجؤون إليه في حاجاتهم, يسألونه من فضله، ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وفي القيام الذي هو تجارة المؤمنين, ودأب الصالحين، وعمل الفائزين. ولما كان لقيام الليل أحكام لابد للمسلم أن يعرفها أفرد الشيخ محمد بن فهد الفريح له كتاب ((مسائل صلاة الليل)) ليحدثنا عن هذه العبادة العظيمة والشعيرة الجليلة, ويوضح مسائلها, ويبين أحكامها. الكتاب اشتمل على عشرين مسألة سنتحدث عنها بإيجاز: المسألة الأولى: هي مشروعية قيام الليل ودلل على مشروعيته من الكتاب والسنة, كما تحدث تحت هذه المسألة عن صلاة القيام جماعة في رمضان وأنها أفضل من فعلها منفردا في البيت. أما في غير رمضان فصلاة التطوع جماعة تشرع أيضا بشرط ألا تتخذ سنة راتبة. المسألة الثانية: تحدث فيها المؤلف عن فضل صلاة الليل مستشهدًا بالأحاديث والآثار التي تدل على ذلك. المسألة الثالثة: حدد فيها وقت بداية صلاة الليل ونهايته, فحكى الإجماع على أن بداية وقتها من بعد صلاة العشاء, مبيناً أن أفضل أوقات الليل آخره. المسألة الرابعة: تحدث فيها عن عدد ركعات صلاة الليل, مبيناً أن من كان يقوم الليل بالصفة التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام بالقراءة, والركوع, والسجود فالأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة, وإلا فالزيادة في عدد الركعات أفضل. المسألة الخامسة: وتكلم فيها عن الفصل بين التراويح والقيام مبينًا أن التفريق في الحكم بناء على التسمية لا دليل عليه, ولا ينبني عليها شيء من الأحكام, فالتراويح والقيام كلاهما صلاة ليل. المسألة السادسة: كان الحديث فيها عن صفة صلاة الليل وأنها مثنى مثنى, فهو الأفضل والأرفق بالناس. المسألة السابعة: وهي جواز أداء صلاة الليل جالساً، وصفة هذا الجلوس. المسألة الثامنة: وتحدث فيها عن الاستفتاح في صلاة القيام, هل تكون في أول الصلاة, أم يستفتح لكل تسليمة, موضحاً أن النافلة في ذلك كالفريضة يستفتح فيها لكل صلاة. المسألة التاسعة: ذكر فيها أنه يستحب للمصلي أن يقرأ القرآن كله, ويتأكد الاستحباب في حق الإمام في صلاة التراويح لإسماعه المصلين القرآن كاملاً. المسألة العاشرة: تكلم فيها عما يستحب أن يقرأه المصلي في الشفع والوتر. المسألة الحادية عشر: ذكر فيها جواز القراءة من المصحف في صلاة الليل. المسألة الثانية عشرة: بين فيها أن القنوت في الوتر لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, كما ذكر أن القنوت في صلاة الوتر في غير رمضان مشروع عند جماهير أهل العلم, بينما قنوت الوتر في رمضان مختلف فيه هل يكون في جميع الشهر أو في النصف الثاني من رمضان. المسألة الثالثة عشرة: تحدث فيه عن موضع القنوت في الوتر وأنه في الركعة الأخيرة, مع الاختلاف في موضعه فيها هل هو قبل الركوع أو بعده. المسألة الرابعة عشرة: كان الكلام فيها عن صفة القنوت ومقداره, موضحاً أن صفته ليس فيها شيء محدد, وأما مقداره فليس له حد يمكن جعل الإمام ينتهي إليه لكن الضابط عدم المشقة على الناس. المسألة الخامسة العاشرة: ذكر فيها أن رفع اليدين بالدعاء في حال القنوت مستحب. المسألة السادسة عشرة: خصص هذه المسألة لذكر ما يستحب فعله بعد الفراغ من الوتر وما يشرع أن يقال. المسألة السابعة عشرة: تحدث فيها المؤلف عن مسألة نقض الوتر (وهو الإتيان بركعة ليشفع بها وتره) وحكم فعل ذلك مع ذكر الخلاف في المسألة. المسألة الثامنة عاشرة: وتكلم في هذه المسألة عن دعاء ختم القرآن, وأن له حالتين إما أن يكون خارج الصلاة وهذا مشروع, أو داخلها وهذا ورد عن جمع من السلف. المسألة التاسعة عشرة: وهي صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح. المسألة العشرون: سرد المؤلف فيها بعض المخالفات الواقعة من بعض الناس في صلاة الليل. مع ما أضافه في ثنايا هذه المسائل من فوائد وتنبيهات مع تدعيم كلامه بالأدلة وذكر أقوال أهل العلم وفتاويهم. وأخيرا فالكتاب جيد في بابه نسأل الله أن ينفع به ويكتب الأجر لمؤلفه.

تعظيم قدر الصلاة

تعظيم قدر الصلاة عنوان الكتاب ... تعظيم قدر الصلاة اسم المؤلف ... الإمام أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي المحقق ... محمد بن سليمان بن صالح الربيش الناشر ... دار الهدي النبوي ــ مصر، دار الفضيلة ــ الرياض سنة الطبع ... 1432هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 688 نوع الكتاب ... رسالة دكتوراه التعريف بموضوع الكتاب: يعتبر القرن الثالث الهجري بحق هو العصر الذهبي لخدمة السنة النبوية تدويناً وتمحيصاً وتصنيفاً وشرحاً، وذلك لانبراء كثير من علماء ذلك القرن، واجتهادهم في خدمة السنة وتنقيتها مما شابها من أحاديث موضوعة وضعيفة، وإخراجها نقية صافية، وأشهر ما صدر في هذا المضمار في ذلك القرن: الجامع الصحيح للإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم وغيره من الكتب الحديث الستة المشهورة. وتتابعت المؤلفات في مختلف العلوم، كالجهاد والزهد والصلاة والإيمان وغيرها من الموضوعات، التي حاول مؤلفوها تيسير وصول السنة النبوية إلى الناس للاستفادة منها، فكانوا يتفقهون باستمرار عن الجديد في هذا المجال. ومن أبرز أولئك المؤلفين: الإمام محمد بن نصر المروزي، الذي كان له النصيب الأوفر من المؤلفات في كل من: الإيمان والصيام والقسامة وقيام رمضان وقيام الليل والوتر، وغيرها، وكان من أهم كتبه كتاب (تعظيم قدر الصلاة) وهذا الكتاب مؤلفاً كبيراً سريعاً ما تحول إلى مصدر يرجع إليه الباحثون فيستمدون منه ويحيلوه عليه. ونظراً لكون موضوع هذا الكتاب يتعلق بعمود الدين وقوام الإيمان، فكان حرياً أن يبقى محل اهتمام لدى الباحثين والدارسين. ومن هذا المنطلق فإن الباحث/ محمد بن سليمان بن صالح الربيش، اهتم بهذا الكتاب - لمنزلته ومكانته - واعتنى به، وقام بدراسته وتحقيقه، وبذل جهداً يشكر عليه. وقد قسم الباحث كتابه إلى مقدمة وقسمين وخاتمة. فخص المقدمة للحديث عن أهمية الموضوع وسبب اختياره له. وأما القسم الأول فهو عبارة عن دراسة عن المؤلف والكتاب، وقد احتوى على بابين: الباب الأول منه عرّف فيه بحياة المؤلف، وقسمه إلى ثلاثة فصول تناول فيها عصر المؤلف من الناحية السياسية والعلمية، وتحدث عن حياته, وكنيته, ونسبته, ومولده, ونشأته, وصفاته, وحالته الاجتماعية, ووفاته، ثم عقب بذكر حياته العلمية فذكر طلبه للعلم, ومكانته العلمية, وثناء العلماء عليه, وعقيدته, وآراؤه, ومشايخه, وتلاميذه, وأشهر مؤلفاته. وعرج في الباب الثاني من هذا القسم إلى دراسة مفصلة عن الكتاب، وذلك في ثلاثة فصول، فناقش توثيق تسمية الكتاب وإثبات نسبته، وناقش موضوعه ومشتملاته، وبيّن منهج المؤلف في ضوء القسم المحقق. بينما جعل القسم الثاني لتحقيق ودراسة نص الكتاب، وقد قام الباحث أثناء تحقيقه للكتاب بتوثيق النص وذلك بمقابلة النسخ بعضها ببعض, ووضع علامات ورموز تبين بداية كل لوحة ونهايتها، كما عزا الآيات القرآنية إلى سورها، والأحاديث إلى مصادرها، والأقوال والنصوص إلى أصحابها، وعلق على بعض الأحاديث، ورقم الأحاديث والآثار ترقيماً مسلسلاً، وترجم للأعلام ورجال المسانيد، وعرف بالأماكن والبلدان، وضبط ما يحتاج إلى ضبط. ثم ختم الكتاب ببعض النتائج التي توصل إليها من خلال البحث، وأعقبها بفهارس فنية شاملة للأحاديث والآثار والمصادر والمراجع والموضوعات.

تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية الجامع لكلام الإمام ابن تيمية في التفسير

تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية الجامع لكلام الإمام ابن تيمية في التفسير عنوان الكتاب ... تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية الجامع لكلام الإمام ابن تيمية في التفسير اسم المؤلف ... إياد بن عبد اللطيف القيسي الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ... ط 1 - 1432هـ عدد الأجزاء: ... 7 التعريف بموضوع الكتاب: ((كان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظه, وحسن إيراده, وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال)) بهذه العبارة العظيمة وصف البرزالي شيخ الإسلام ابن تيمية وحاله مع علم التفسير, مبيناً ما يتمتع به هذا الإمام من علم جمٍّ, واطلاع كبير بما يتعلق بكتاب الله تبارك وتعالى وفهمه, وليس هذا بمستغرب على شيخ الإسلام فهو لم يكد يترك علماً من العلوم إلا وتكلم فيه فأبدع, وجاء فيه بما لم يأت به أهل الفن أنفسهم. بين يدينا هذا الأسبوع سِفر عظيم, وتفسير جليل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, ومن المعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يؤلف مصنفاً مستقلاً في علم التفسير بالطريقة التقليدية, إذ أنه لم يكن يرى ذلك, فهو يعتبر أن القرآن منه ما هو بيِّنٌ بذاته فهذا لا يحتاج إلى تفسير, ومنه ما يحتاج إلى تفسير وزيادة بيان وهذا قد بينه أهل العلم ووضحوه, ومنه ما هو مشكل, قد أشكل على العلماء من قبل, وهذا الذي تصدى له شيخ الإسلام وفسره وبينه وأوضح مشكله, إلا أن القارئ لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية يجد فيها الكثير من المواضع التي فسَّر فيها شيخ الإسلام بعض الآيات والسور, فقام الشيخ إياد القيسي بتتبع هذه المواضع واستقرائها من كتب الشيخ المطبوعة وجزء من كتبه المخطوطة, فجمعها وحققها وأخرجها للنور في هذا الكتاب الجليل, فجمع كل ما يتعلق بالتفسير سواءاً كان تفسيراً مقصوداً أصالة, كتفسير الشيخ لبعض الآيات والسور خاصة, أو كان هذا التفسير تبعاً, كالتفسير الذي يذكره الشيخ استطراداً في بعض المسائل, أو ما يكون من قبيل الإجابة عن سؤال عن معنى آية من آيات الكتاب العزيز, أو ما يكون من قبيل المناقشة لمن استدل ببعض الآيات على معنى باطل فيفسرها ليظهر الحق فيها ويبطل الباطل وغير ذلك. وتكمن قوة تفسير شيخ الإسلام فيما يتميز به من مميزات ربما لا تتوفر في غيره من كتب التفسير, ومما يميز الشيخ في تفسيره التزامه بما رسمه في مقدمته في أصول التفسير من أن أمثل طريقة للتفسير هي تفسير القرآن بالقرآن, ثم بالحديث, ثم بما جاء عن الصحابة, ثم بأقوال التابعين ثم بالرجوع إلى لغة القرآن التي نزل بها, ومما يميزه أيضاً أنه لا يجعل القارئ محتاراً بين الأقوال المتخالفة بل يقوم بالترجيح بين الأقوال المأثورة عن أهل التفسير, كما يتميز أيضاً باحترامه لأقوال أئمة السلف في التفسير, وترجيحه بعض التفاسير على بعض. الجدير بالذكر هنا أن هذا الكتاب قد سبقته كتب حاولت أن تجمع تفسير شيخ الإسلام وتنظمها في سلك واحد, ومن ذلك (تفسيرات شيخ الإسلام ابن تيمية) لإقبال أحمد الأعظمي, وكتاب التفسير ضمن مجموعة الفتاوى التي جمعها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم, و (دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية) للدكتور محمد السيد الجليند, و (التفسير الكبير للإمام العلامة تقي الدين ابن تيمية) للدكتور عبد الرحمن عميرة وغيرها, إلا أن هذه المحاولات جميعها شابها الكثير من النقص ولم تستوعب تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وهذا ما جعل الكتاب الذي بين أيدينا يتميز عن سابقيه, فهو أوعب ما جُمع في تفسير شيخ الإسلام, فقد شمل تفسيره في جميع كتبه المطبوعة مع بعض المخطوطات، بالإضافة إلى كتب تلاميذه كابن القيم، وابن كثير وغيرهما, ولم يفته من تفسيره إلا القليل أو النادر. ومما يميز هذا الكتاب أيضاً أن جامعه قد قام بخدمة النص بتوثيق النقولات, وتخريج الأحاديث, وترجمة الأعلام, وعزو الشعر, والتعليق على بعض المواضع اليسيرة. وقد اعتنى الناشر بطباعة الكتاب اعتناءاً جيداً من حيث جودة الإخراج, وحسن الصف, وجمال الديباجة, فكان إخراجه متميزاً. جزى الله الجامع والناشر خير الجزاء على الخدمة التي أسدوها للمدرسة التفسيرية, ونفع بهم الإسلام والمسلمين.

شرح العقيدة الطحاوية

شرح العقيدة الطحاوية عنوان الكتاب ... شرح العقيدة الطحاوية اسم المؤلف ... عبد الله بن محمد الغنيمان الناشر ... مركز النخب العلمية سنة الطبع ... 1432هـ عدد الصفحات: ... 302 التعريف بموضوع الكتاب: إن الدين الإسلامي بناء متكامل يشمل جميع مناحي حياة المسلم منذ ولادته وحتى مماته ثم ما يؤول إليه بعد مماته، وهذا البناء الضخم يقوم على أساس متين هو العقيدة الإسلامية التي تتخذ من وحدانية الخالق منطلقا لها. وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للأمة على مر الأيام والأعصار وفي كل الأماكن والأمصار، كوكبة من العلماء، الذين نذروا أنفسهم وأوقاتهم للحفاظ على هذه العقيدة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فيسر الله لهم حفظها، وظهرت في أبهى حلة من الإتقان والحفظ والصيانة، وكل ذلك بفضل الله ثم بفضل هؤلاء الأئمة الأعلام. وقد ألفوا الكثير حول موضوع العقيدة الذي هو الأصل الذي يقام عليه بناء الإسلام الشامخ العظيم، فألفوا المتون وشرحوا عليها الشروح في القديم والحديث، ومن هذه المؤلفات كتاب العقيدة الطحاوية لمؤلفها الإمام أبي جعفر الطحاوي، وهي عقيدة سهلة في عبارتها، واضحة في معناها، يسيرة في مبناها, تتصف بأنها جامعة لمسائل العقيدة مع اتسامها بالاختصار والإيجاز، وقد اجتمع على مجمل ما فيها أهل السنة والجماعة، فكانت - في معظمها - محل إجماع واتفاق بينهم, عدا بعض الأحرف التي خالف فيها الماتن عقيدة أهل السنة والجماعة كقوله في حد الإيمان (الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان) إذا أن الاقتصار في تعريف الإيمان بهذا التعريف هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين يخرجون العمل عن مسمى الإيمان. ومما يؤخذ عليه أيضاً استخدامه لبعض العبارات المجملة والتي تحتمل معاني باطلة, ويكثر استعمالها عند المبتدعة. لذا كان لزاما على طالب العلم أن يأخذ شرح هذه العقيدة ممن صفت عقيدته, ووضح منهجه, وكان على منهج السلف الصالح, وهم كثر ولله الحمد فقد حظي هذا المتن بشرح كثير من العلماء وطلاب العلم من أهل السنة والجماعة، في القديم والحديث، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو أحد هذه الكتب التي شرحت العقيدة الطحاوية على المنهج الصحيح. وأصل هذا الكتاب دروس ألقاها فضيلة الشيخ عبدلله بن محمد الغنيمان بمسجد الراجحي ببريدة، تم تفريغها وترتيبها ومراجعتها وإخراجها في هذه الحلة القشيبة. ويتميز هذا الشرح بأنه يوصل إلى المقصود بعبارة سهلة واضحة, ويفك ألفاظ المتن ويبين كلماته بطريقة مبسطة, ويقف عند العبارات الملبسة والتي خالف فيها المؤلف منهج أهل السنة والجماعة فيبين الحق فيها. جزى الله مؤلفه خير الجزاء ونفع به الإسلام والمسلمين.

سنن الله في الأمم من خلال آيات القرآن الكريم

سنن الله في الأمم من خلال آيات القرآن الكريم عنوان الكتاب ... سنن الله في الأمم من خلال آيات القرآن الكريم اسم المؤلف ... حسن بن صالح الحميد الناشر ... دار الفضيلة للنشر والتوزيع سنة الطبع ... 1432هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 732 نوع الكتاب ... رسالة دكتوراه التعريف بموضوع الكتاب: إن استيعاب سنن الله في الأمم السابقة، واستحضارها في بداية الطريق، يسهم بشكل كبير في تقليل الأخطاء في مستقبل المجتمعات المعتبرة بهذه السنن، يعني ذلك الاستفادة من تجارب البشرية، في مجالات النجاح, واستخلاصها في دورات الإخفاق، فما إن تظهر مقدمات أمر ما حتى يعلم من واقع التجربة أن عواقبه إن استمر كذا وكذا، وذلك بموجب قانون وسنة لا تتغير. والقرآن الكريم قد احتوى بين جنباته الحديث عن الأمم السابقة، وسرد لنا الكثير من القصص التي بينت حال تلك الأمم، وما آل إليه أمرها، كما اشتمل على منهج شامل, وتصوير كامل لموضوع السنن التي تحكم حياة الأمم, وتسيير شؤونها، في الجانبين النظري والتطبيقي. والقليل من الدراسات التي اهتمت بهذا الجانب ذي الأهمية البالغة في حياة الأمة المسلمة خاصة, والبشرية عامة، ولا زالت الحاجة ماسة إلى طرْق مثل هذا الموضوع ودراسته دراسة مستفيضة. الكتاب الذي بين أيدنا تكلم عن هذا الموضوع , حيث وقف المؤلف فيه وقفات موفقة مع سنن الله في الأمم، وذلك من خلال الآيات القرآنية، فتناول خصائص سنن الله في الأمم, ومنهج القرآن في عرضها، ثم تحدث عن مجالات سنن الله في الأمم كالحماية, والوقاية, والابتلاء, والتمحيص وغيرها، ثم عرج إلى ذكر آثار رعاية هذه السنن وعواقب الإعراض عنها، وختم ذلك بالحديث عن فقه هذه السنن. وقد تناول ذلك في تمهيد وأربعة أبواب وخاتمة. تضمن التمهيد أربعة مباحث احتوت على التعريف بعنوان الدراسة، وأهم الفروق بين سنن الله في الكون المادي وسننه في الحياة الإنسانية، وكذلك أهم الفروق بين سنن الله في الأمم وسننه في الأفراد، وتبيان أهمية مثل هذه الدراسة، والجهود التي بذلت في هذا السبيل في القديم والحديث. وتناول في الباب الأول خصائص سنن الله في الأمم, ومنهج القرآن الكريم في عرضها، وذلك من خلال فصلين، جعل الفصل الأول منها حول خصائص سنن الله في الأمم كالثبات, والاطراد, والعموم, والشمول. بينما جعل الفصل الثاني حول منهج القرآن في عرض السنن. وتحدث في الباب الثاني عن مجالات سنن الله في الأمم: مجزأة في تمهيد وخمسة فصول، فكان التمهيد حول شمول السنن لكل مجالات الحياة، وأن الله قد أقام الحجة على خلقه قبل أن يجعل هذه السنن تعمل فيهم، أما الفصل الأول فجعله في مجال الحماية والوقاية، وتناول فيه بعض السنن بالتفصيل، وأما الفصل الثاني فكان في مجال الابتلاء والتمحيص، وذكر فيه صور الابتلاء التي تقع عادة على الأمم، وفصّل القول في بعض السنن المتعلقة بهذا المجال، والفصل الثالث تكلم عن مجال التحذير والتهديد، وشرح فيه ما هو متقرر من أن سنة الله في الأمم أنه ينوع لهم في أساليب التحذير ويعظهم بالأمم السابقة، وخصص الفصل الرابع منها للحديث عن مجال الجزاء بشقيه: جزاء المطيعين المؤمنين، وجزاء المخالفين والكافرين. وختم الباب بالفصل الخامس الذي جعله للحديث في مجال الكشف والإبانة، وذلك بالحديث عن منهج القرآن في الكشف عن طبائع النفوس والإبانة عن المواقف والتصرفات، وأنها منسجمة مع تلك الطبائع. وناقش في الباب الثالث آثار رعاية السنن وعواقب الإعراض عنها، وذلك في فصلين: تحدث في الفصل الأول عن آثار رعاية السنن، فذكر الآثار الحسنة والعواقب الحميدة التي تحققت للأمة الإسلامية في القرون الأولى، وذكر أيضاً الجوانب الحسنة عند الأمم الجاهلية المعاصرة، وأما الفصل الثاني فتحدث فيه عن عواقب الإعراض عن السنن، والواقع المؤسف للأمة الإسلامية في العصر الحاضر، وكذلك الجوانب المظلمة في الحياة الجاهلية المعاصرة. وخصص الباب الرابع للحديث عن طريق الخلاص الذي ينبغي على الأمة أن تسلكه للنجاة في الدنيا والآخرة، وتناول هذا الباب في ثلاثة فصول، ابتدأ فصلها الأول بالحديث عن فقه السنن الإلهية، وثنى في فصلها الثاني بالحديث عن التفاعل مع السنن وتطبيقاتها، وختم هذه الباب بالحديث عن ضمان استمرار عطاء الأمة والمحافظة على ثمار العلم النافع والعمل الصالح، وكذلك استمرار قوتها وتماسكها. والكتاب بمجموعه قيم، جدير بالقراءة والتأمل، وهو إضافة جميلة إلى المكتبة القرآنية، كتب الله أجر مؤلفه، ونفع به الإسلام والمسلمين.

إتحاف القاري بالرد على مبيح الموسيقى والأغاني - رد علمي مؤصل على الجديع

إتحاف القاري بالرد على مبيح الموسيقى والأغاني - رد علمي مؤصل على الجديع عنوان الكتاب ... إتحاف القاري بالرد على مبيح الموسيقى والأغاني - رد علمي مؤصل على الجديع اسم المؤلف ... النميري بن محمد الصبار تقديم ... الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد الناشر ... دار التوحيد - الرياض سنة الطبع ... ط 1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 600 التعريف بموضوع الكتاب: لم يعد خاف على بصير ما تشهده الأمة الإسلامية اليوم من حملة بل حملات شعواء تستهدف أخلاقها وقيمها ومقدساتها, وترميها في دينها وشرعها وقصدها من ذلك زعزعة العقائد والعبث بالأخلاق وشغل الأمة - وخاصة شبابها - عما يحاك لها من مخططات تهدف إلى إنهائها وتدميرها. وليس هذا الأمر - على خطره - هو ما يؤلم القلب ويدميه, بل ما يؤلمه ويدميه أن يساهم في هذه الحملة التدميرية أبناء الأمة وفلذات كبدها الذين من شأنهم أن يحموا بيضتها ويذودوا عن حياضها .. فكيف إذا كان من يساعد على إضعاف الأمة - بقصد أو بغير قصد - هم المنتسبون إلى علمائها والمحسوبون على قرائها. وذلك بفتاويهم المميعة لقضايا الدين المضللة للعامة, المخالفة لما عليه سلف الأمة وخلفها. بين أيدينا كتاب (إتحاف القاري بالرد على مبيح الموسيقى والأغاني) قام فيه مؤلفه - مشكوراً - بالرد على الشيخ عبدالله الجديع الذي أباح الغناء وآلاته وألف في ذلك وأفتى به. بدأ المؤلف كتابه بمقدمة تمهيدية تكلم فيها عن تعريفات مهمة كتعريف الغناء والحداء, كما وتكلم عن قواعد وأصول منهج السلف في النظر والاستدلال, وتكلم عن الفهم الصحيح للقاعدة الشرعية (التيسير ورفع الحرج) والتي اتخذت مطية لكل صاحب شبهة أو شهوة يقرر بها ما أراد ويبيح بها ما شاء أما الفصل الأول والثاني فعقدهما المؤلف لسرد الأدلة على تحريم الغناء من الكتاب والسنة, وطريقته في ذلك أن يذكر الدليل من الكتاب أو السنة ويذكر وجه الاستدلال منه ويرد الشبهات التي ترد على هذا الاستدلال. الفصل الثالث كان الكلام فيه عن إجماع أهل العلم المنعقد على تحريم الغناء فعرض أسماء العلماء الذي حكوا الإجماع ونقلوه, ورد على شبهات الجديع التي أثارها حول هذا الإجماع. أما الفصل الرابع فتكلم فيه عن إثبات تحريم الغناء بآلات اللهو بالقواعد الشرعية, فأثبت التحريم من خلال قاعدة (المصالح والمفاسد) ورد على الشبهات التي أوردت في هذا المقام. والفصل الخامس خصصه المؤلف لبيان مذهب السلف في تحريم الغناء بآلات الطرب والموسيقى فذكر مذهب الصحابة رضوان الله عليهم, ثم مذهب من بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم, وختم بمذهب الأئمة الأربعة في تحريم الغناء بآلات الطرب. وفي الفصل السادس والأخير تكلم المؤلف عن حكم الغناء بآلات الطرب والموسيقى, ورد على الشبهات المثارة في هذا المقام ثم ختم بمسائل مهمة تتعلق بتحريم الغناء بآلات الطرب والموسيقى كالتداوي بسماع الغناء, وسماع المرأة الغناء من الرجل مع إيراد الشبه في ذلك والرد عليها.

الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي

الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي عنوان الكتاب ... الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي اسم المؤلف ... حسان محمود عرار تقديم ... الدكتور يوسف بن عبد الله الشبيلي الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ... ط 1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 496 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير التعريف بموضوع الكتاب إن من أهم وأبرز ما يتميز به الدين الإسلامي اتصافه بالشمولية, ومعالجته لجميع نواحي الحياة ومفرداتها, سواء ما يتعلق بالجوانب التعبدية والروحية, أو ما يتعلق بالجوانب المادية والتعاملات. ولقد اهتم الشارع بالأمور المالية والاقتصادية اهتماماً بالغاً, واعتنى بتفصيلاتها وجزئياتها, فلا تكاد تجد مسألة من مسائل المال والأعمال إلا ووجدت فيها حكماً شرعيًّا إما بنص أو اجتهاد. وكتاب ((الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي)) أراد مؤلفه بيان الوجه الشرعي لهذه القضية الاقتصادية المهمة, وتحديد الضوابط الشرعية التي يجب مراعاتها, والأخلاق الإسلامية التي ينبغي التحلي بها، وذلك من خلال ثلاثة أبواب: الباب الأول: كان الحديث فيه عن المفاهيم الأساسية للاستثمار, وقد تألف هذا الباب من أربعة فصول تكلم في الفصل الأول منها عن مفهوم الاستثمار, فعرَّفه وبيَّن المراد منه في هذا البحث, وماذا يقصد به في المفهوم الإسلامي, وفي اصطلاح الفقهاء, والفرق بينه وبين غيره من المفردات الاقتصادية كالاستهلاك والادخار وغيرهما. كما تناول أيضاً أنواع الاستثمار. أما الفصل الثاني فكان حديث المؤلف فيه عن منهج الإسلام في تشجيع الاستثمار ذاكراً إحدى عشرة طريقة اتخذها الإسلام للحث على الاستثمار والتشجيع عليه. وفي الفصل الثالث تكلم المؤلف عن تمويل الاستثمار في النظام الإسلامي مبيناً صيغ التمويل وخصائصه في النظام الإسلامي, والضوابط التي يجب مراعاتها في تمويل الاستثمار. أما الفصل الرابع فعدَّد فيه المؤلف أهداف الاستثمار في الإسلام وذكر فيه نوعين من أنواع الأهداف وهي الأهداف الخاصة والتي تخص المستثمر نفسه, والأهداف العامة التي تتعدى إلى غيره. وأما الباب الثاني فقد خصه المؤلف بالحديث عن صيغ الاستثمار الشرعية, وهو أيضاً تألف من أربعة فصول, تكلم في أولها عن عقود الاتجار وقسمها إلى قسمين: العقود المشروعة والعقود الممنوعة وتكلم عن كل نوع بتفصيل يناسب المقام. ثم انتقل إلى الفصل الثاني فتكلم فيه عن عقود الإيجار، معرفاً الإجارة ومبيناً مشروعيتها وشروطها وأقسام عملياتها. ثم تكلم في الفصل الثالث عن عقود الاشتراك, فعرَّف الشركة وبيَّن أقسامها, ومشروعيتها, وشروطها العامة, ليتكلم بعد ذلك عن الشركات في الفقه الإسلامي, والشركات في القانون الوضعي, وعن شركات التأمين. أما الفصل الرابع فكان الحديث فيه عن عقود الاسترباح كالمضاربة والمزارعة والمساقاة وقد تكلم عنها بتفصيل. وفي الباب الثالث والذي أفرده المؤلف بالحديث عن أدوات الاستثمار وقطاعاته, وتألف هذا الباب من فصلين اثنين, الفصل الأول تحدَّث فيه المؤلف عن أدوات الاستثمار, فذكر منها الأوراق المالية, والعقار , والسلع, والمشروعات الاقتصادية وغيرها وفصل الكلام عن كل ذلك. وفي الفصل الثاني تكلم المؤلف عن قطاعات الاستثمار وضرورة التوازن بين القطاعات, ومن قطاعات الاستثمار التي ذكرها: القطاع الزراعي, والصناعي, والتجاري, وقطاع السياحة, والقطاع المصرفي, وقطاع الإعلام. ويعتبر الكتاب مرجعاً مهمًّا في فقه المعاملات المالية وبالأخص ما كان له تعلق بموضوع الاستثمار فقد أجاد المؤلف في عرض المادة, ولمِّ شتاتها, فجزاه الله خيراً, وكتب أجره, ونفع به الإسلام والمسلمين.

قراءة في الاستراتيجية الغربية لحرب الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م

قراءة في الاستراتيجية الغربية لحرب الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م عنوان الكتاب ... قراءة في الاستراتيجية الغربية لحرب الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م اسم المؤلف ... محمد يسري إبراهيم الناشر ... دار اليسر - القاهرة سنة الطبع ... 1432هـ عدد الصفحات: ... 224 التعريف بموضوع الكتاب: تعيش الأمة الإسلامية صراعاً محموماً, وحرباً ضروساً, تقودها قوى الاستكبار العالمي, تستهدف جميع أصقاع الأمة الإسلامية على مختلف الصعد, وتستخدم جميع الوسائل والطرق, وتجيش من أجل هذه الحرب جميع القوى والمؤسسات التنفيذية السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية. إذن هي حرب على كل ما هو إسلامي, حرب عقدية أيدلوجية هدفها وغايتها أن يمحى الدين وتزول العقيدة وهو ما أخبر الله تبارك وتعالى عنه بقوله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} , ولكن الله غالب على أمره, متكفل بحفظ دينه. كتابنا لهذا الأسبوع يقرأ ويحلل هذه الاستراتيجية الغربية لحرب الإسلام قراءة متمعنة, ليجلو الغمة عما يحاك للأمة, وليظهر مدى شناعة هذه الحرب, {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}. بدأ المؤلف حديثه في الفصل الأول من الكتاب عن عقدة الصراع عند الغرب وعقيدته, أوضح فيه حقيقة شرعية أثبتتها الوقائع, وشهدت عليها الأيام, وسطرها المولى عز وجل في كتابه فقال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} , فالغرب لا غاية له ولا هدف إلا أن يحول المسلمين عن دينهم, ويردهم عن ملتهم, إذن ليست بداية المشكلة من يوم الحادي عشر من سبتمبر بل بدايتها من مبعث محمد صلى الله عليه وسلم, وأصبح الاتجاه العدائي للإسلام هو جزء من المنظومة الغربية, وأراد المؤلف بهذا الفصل أيضاً أن يكشف عن النفسية الدموية التي يتصف بها الغرب على مدى التاريخ معرجاً على حروبه وصراعاته منذ الزمن الإغريقي القديم, مارّا بالإمبراطورية الرومانية, والحروب المسيحية المسيحية, والإبادة الجماعية لسكان أمريكا الأصليين, وانتهاءا بالعدوانية الغربية في القرن العشرين والحروب الدموية التي قام بها الغرب وكان ضحايها ملايين البشر. الفصل الثاني من الكتاب أراد به المؤلف أن يسلط الضوء أكثر على ملامح المنظومة الغربية في محاولة لفهمها, إذ يترتب على هذا الفهم معرفة صورة الإسلام في الخطاب الغربي, فقام ببيان مصادر ومكونات الثقافة الغربية, فتحدث عن الفلسفة والحضارة اليونانية, وعن الديانتين اليهودية والنصرانية, وعن حركات الإصلاح والتنوير, والعلوم والتقنية المعاصرة, ليتحدث بعد ذلك وفي نقاط عن الغرب ونظرته للإسلام وخطابه عنه. في الفصل الثالث من الكتاب والذي عنون له بـ (ملامح ما قبل الحادي عشر من سبتمبر) بين المؤلف أنه من الخطأ أن يتوهم متوهم أن المؤجج الأول للغرب في حملتهم على الإسلام هي أحداث الحادي عشر من سبتمبر, فهناك من المواقف والتصريحات والكلمات من قبل القادة الغربيين على المستويين الديني والسياسي تدلل على ما تخفي صدورهم على الإسلام وأهله قبل هذه الحادثة, ودلل على ذلك ببعض المواقف السياسية والدينية والإعلامية, والتعليمية والعلمية التي وقعت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر. أما الفصل الرابع والذي خصصه المؤلف للحديث عن الحدث الجلل ونقطة التحول الفارقة وقصد به أحداث الحادي عشر من سبتمبر, وبين المؤلف أن الغرب قد أعلن الإسلام عدوا جديدا منذ سقوط الشيوعية متمثلة بالإتحاد السوفيتي, ليظهر الإسلام المقاوم للهيمنة الغربية كعدو مستهدف من الغرب, وأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تصنع عداءا لم يكن موجوداً من قبل, ولكنها جاءت متسقة مع الرغبة الأمريكية العارمة والخطة الاستراتيجية الجامحة لتسلم زمام السيطرة على العالم, ليذكر المؤلف بعد ذلك بعض الآثار والتداعيات لهذه الحادثة فذكر من سلبياتها الحرب العسكرية الاستعمارية, وتغيير الهوية, واستبدال قيم المجتمعات الإسلامية, والتضييق على المقاومة الإسلامية وغيرها من السلبيات, كما أنه لم ينس أن يذكر الإيجابيات لهذا الحدث, فذكر على سبيل المثال من الإيجابيات استبانة سبيل المجرمين, وسقوط هيبة جيوش الكفار وغيرها. في الفصل الخامس تكلم المؤلف عن التوجهات والاستراتيجيات الغربية الحديثة ضد الأمة الإسلامية فذكر من ذلك اعتماد خيار القوة الضاربة, وفرض مشاريع الهيمنة الغربية المتمثلة بـ (مبادرة الشراكة الإمريكية الشرق أوسطية) والتي هدفت إلى محاربة الإرهاب ووأده, وتغيير أنظمة ومناهج التعليم في البلاد العربية والإسلامية, والعناية بالتدريب الموجه وغيرها, كما ذكر من الاستراتيجيات الغربية الحديثة ضد الإسلام خيار الفوضى الخلاقة, وتطبيق استراتيجية القوة الناعمة وغيرها من الاستراتيجيات. وفي الفصل السادس بين المؤلف كيف اهتدى الغربيون بعد الحادي عشر من سبتمبر وظهور نذر الفشل في الحروب التي شنوها على بلاد المسلمين أن حرب الأفكار أيضاً لا يمكن أن يكسبوها ما لم يوجد هناك وسائط وعملاء يروجون لأفكارهم, ويخوضوا عنهم حرباً بالنيابة, فاختاروا الطرقية الصوفية ودعموها حتى تقف في وجه الدعوة الإسلامية. الفصل السابع أوضح فيه المؤلف كيف يسعى الغرب إلى ضرب السلفية بالطرق الكلامية, حيث يعتبرالغربيون أن أهل الكلام هم أقدر الناس من غيرهم على التصدي لأهل السنة على اختلاف أطيافهم, فبدؤا بنفخ وقود الحرب الفكرية والكلامية بين السلفيين بالمفهوم الأوسع من جهة وبين الأشاعرة والمعتزلة والرافضة من جهة أخرى. وفي الفصل الثامن تكلم المؤلف عن الاستراتيجية الإسلامية في مواجهة الهجمة الغربية فذكر من ذلك خطوطاً عريضة أهمها ما يلي: التأكيد على الحقائق, والاستمساك بالأصول والثوابت والتي منها معرفة أن عقيدة الغرب هي بغض الإسلام وأهله, وأن غاية عدائهم ونهاية حربهم ردة المسلمين, وأن مولاة الكفار تبطل الإسلام وتنقضه, وأن قتالهم ماض إلى يوم القيامة. ومن الاستراتيجيات العامة أيضاً أهمية الوعي والبصيرة بالمكائد الموجهة ضد الأمة, وكذلك اليقين أن تنسم فجر النصر ولو طال ليل بهيم, ومن ذلك وجوب إيجاد اتحاد لأهل السنة لصد هذه الحرب الفكرية, ومن ذلك العناية بدعوة المخالفين, والدعوة إلى تعظيم الشريعة وتطبيقها, وإشاعة روح التسديد والمناصحة, وأيضاً المرابطة على الثغور العلمية والعملية, وكذلك استنهاض المؤسسات الإسلامية الدولية والإقليمية, ومناصحة ومخاطبة الحكومات والأنظمة. والفصل التاسع والأخير خصصه المؤلف لاستشراف المستقبل, وبين فيه أنه وبناءا على الحقائق الشرعية والمنهجية والتاريخية يتبين أن ما يراهن عليه الغرب إنما هو وهم وسراب لن يلبث أن يزول, ملقياً نظرة على مستقبل تلك المخططات كمستقبل التحالف الغربي البدعي, ومستقبل الحرب الباردة. فالكتاب تشخيص وتحليل للاستراتيجية الغربية في حرب الإسلام, وبيان لأهدافها وغاياتها, وهو كما قال مؤلفه (يهدف إلى دق ناقوس خطر واقع أو متوقع يهدف إلى تحذير المسلمين جميعاً من الانحراف عن صحيح دينهم, وصافي معتقدهم) {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}.

نقد التسامح الليبرالي

نقد التسامح الليبرالي عنوان الكتاب ... نقد التسامح الليبرالي اسم المؤلف ... محمد بن أحمد مفتي الناشر ... مجلة البيان سنة الطبع ... 1431هـ التعريف بموضوع الكتاب: ما أجمل التسامح إذا كان وفق تعاليم الدين وبالضوابط التي جاءت بها الشريعة، لكن في الآونة الأخيرة ظهر مفهوم التسامح مرتبطاً بالليبرالية والديمقراطية والعلمنة, وسعت الولايات المتحدة نحو فرضه على الأمم والشعوب, وقد تلقف هذه الفكرة أناس من أبناء جلدتنا وحاولوا صبغها بالصبغة الإسلامية حتى يكون هذا التسامح إسلامياً كما أن هناك ليبرالية إسلامية وديمقراطية إسلامية. وهذه الدراسة التي بين أيدينا تلقي الضوء على هذا التسامح الليبرالي, وتؤكد على أن التسامح الليبرالي يحتاج إلى توافر شروط أساسية ينتفي التسامح بغيابها أو فقد أحدها وهي العلمانية والنسبية والتعددية والديمقراطية. ابتدأ المؤلف كتابه بعد المقدمة بتعريف التسامح الذي يذهبون إليه من خلال كتبهم, وعرض عدة تعريفات والتي خلاصتها أنه فضيلة الإمساك عن ممارسة المرء سلطته في التدخل بآراء الآخرين وأعمالهم. ثم انتقل المؤلف إلى الكلام عن نشأة التسامح وأنه نشأ كفكرة قامت على أنقاض الحروب الدينية في أوربا بعد عهود من الطغيان الكنسي والاضطهاد الديني. ولما كان من شروط التسامح العلمنة كما سبق فقد تناول هذا الموضوع تحت عنوان التسامح وفصل الدين عن الدولة, مبيناً كيف بدأ الربط المباشر بين تحقيق التسامح في المجتمع بالمطالبة بإرساء دعائم مجتمع مدني سياسي منفصل عن السلطة الدينية, حتى صار مطلباً أساسياً لدعاة التسامح من الليبراليين, والعلمانيين, وبدأت بواكير فصل الدين عن الدولة سنة 1667م ببحث عن التسامح كتبه لوك ثم تطور الأمر حتى إن الكتابات التي تلت كتابه عن التسامح نادت بنقد الدين الذي أصبح ينظر إليه بوصفه أحد مسببات التعصب الرئيسة. ثم قرر المؤلف أن التسامح العلماني نتاج غربي, معبر عن حضارة الغرب, ومفاهيمه, وظروفه, التي أحاطت به حتى صار حاجة ملحة لمواجهة الحروب الدينية, والتعصب الديني الذي اجتاح أوروبا من القرن السادس عشر, وحتى منتصف القرن السابع عشر. ثم إن بروز الحداثة, وظهور مفاهيم سياسية جديدة ومنها دولة القانون, والمجتمع المدني, والعلمانية أدت إلى توسع مفهوم التسامح ليشمل حرية الرأي والتفكير, بعد أن كان مقتصراً على حرية العبادة, وليصبح تسامحاً سياسياً, وعرقياً, وقومياً, واجتماعياً, وجنسياً. وتحت عنوان التسامح والنسبية بيَّن المؤلف ارتباط التسامح بالنسبية التي تعني أن المعتقدات والقيم مرتبطة بحاملها, ولا يصح فرضها على الآخرين, لأن الحقيقة نسبية وليست لها صفة العمومية, ولما كانت القيم ليست مطلقة الصحة عند الليبراليين والعلمانيين فلابد من ترك الأفراد وما يعتقدون دون تدخل من أي جهة أخرى, لأن المجتمع حتى يصبح متسامحاً لابد له من الاعتراف بأن الحق حق عند حامله فقط, والباطل باطل عند ناقده فقط, وعلى هذه الرؤية يتأسس التسامح العلماني المبني على الشك والنسبية. وناقش المؤلف الشرط الثالث للتسامح وهو التعددية والديمقراطية، والتعددية هي الحق المشروع في الاختلاف, فقاعدة التعددية قائمة على احترام الاختلاف, والاعتراف للآخر بآخريته, وعدم التمييز بين الأفراد والجماعات المتباينة عقدياً, وسلوكياً من منطلق حرية الأفراد والجماعات في تبني ما يشاءون والتمسك بما يرون من آراء. وفي ظل هذا الوضع التعددي لا بد للتسامح حتى يثمر أن يستند إلى دولة ديمقراطية محايدة علمانية, لا تفرض قيماً, ولا ترتكز على أخلاقيات عليا خارجة عن المجتمع التعددي. ثم ختم المؤلف كتابه بثلاثة أسئلة مثارة وهي: هل يصلح التسامح في المجتمعات التي تبني نظام حياتها على المنفعة والمصلحة الفردية؟ وهل يمكن تطبيق التسامح في دولة تحمل عقيدة دون أن يؤدي ذلك على التأثير السلبي على عقيدة الأمة؟ وهل التعددية حق يجب اتباعه وإخضاع المجتمعات كافة له؟ وأجاب المؤلف عن هذه الأسئلة, ليقرر بعدها أن قبول التسامح الليبرالي يعني قبول المنظومة الفكرية المتكاملة والتي نشأ التسامح الليبرالي فيها, والتي ترتكز على إحلال الطبيعي محل الإلهي, والعقل محل الوحي, والإنسان محل الله, والقانون الوضعي محل القانون السماوي, وهي مرتكزات تهدف إلى تقويض دعائم الإسلام, وتفرض أفكاراً مناقضة لتعاليمه. والكتاب على صغره قد أحاط بجوانب الموضوع وبين حقيقة التسامح الليبرالي، فأجاد وأفاد، وإن كان قد أجمل في الرد.

الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي

الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي عنوان الكتاب ... الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي اسم المؤلف ... حسان محمود عرار تقديم ... الدكتور يوسف بن عبد الله الشبيلي الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ... ط 1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 496 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير التعريف بموضوع الكتاب: إن من أهم وأبرز ما يتميز به الدين الإسلامي اتصافه بالشمولية, ومعالجته لجميع نواحي الحياة ومفرداتها, سواء ما يتعلق بالجوانب التعبدية والروحية, أو ما يتعلق بالجوانب المادية والتعاملات. ولقد اهتم الشارع بالأمور المالية والاقتصادية اهتماماً بالغاً, واعتنى بتفصيلاتها وجزئياتها, فلا تكاد تجد مسألة من مسائل المال والأعمال إلا ووجدت فيها حكماً شرعيًّا إما بنص أو اجتهاد. وكتاب ((الاستثمار وضوابطه في الفقه الإسلامي)) أراد مؤلفه بيان الوجه الشرعي لهذه القضية الاقتصادية المهمة, وتحديد الضوابط الشرعية التي يجب مراعاتها, والأخلاق الإسلامية التي ينبغي التحلي بها، وذلك من خلال ثلاثة أبواب: الباب الأول: كان الحديث فيه عن المفاهيم الأساسية للاستثمار, وقد تألف هذا الباب من أربعة فصول تكلم في الفصل الأول منها عن مفهوم الاستثمار, فعرَّفه وبيَّن المراد منه في هذا البحث, وماذا يقصد به في المفهوم الإسلامي, وفي اصطلاح الفقهاء, والفرق بينه وبين غيره من المفردات الاقتصادية كالاستهلاك والادخار وغيرهما. كما تناول أيضاً أنواع الاستثمار. أما الفصل الثاني فكان حديث المؤلف فيه عن منهج الإسلام في تشجيع الاستثمار ذاكراً إحدى عشرة طريقة اتخذها الإسلام للحث على الاستثمار والتشجيع عليه. وفي الفصل الثالث تكلم المؤلف عن تمويل الاستثمار في النظام الإسلامي مبيناً صيغ التمويل وخصائصه في النظام الإسلامي, والضوابط التي يجب مراعاتها في تمويل الاستثمار. أما الفصل الرابع فعدَّد فيه المؤلف أهداف الاستثمار في الإسلام وذكر فيه نوعين من أنواع الأهداف وهي الأهداف الخاصة والتي تخص المستثمر نفسه, والأهداف العامة التي تتعدى إلى غيره. وأما الباب الثاني فقد خصه المؤلف بالحديث عن صيغ الاستثمار الشرعية, وهو أيضاً تألف من أربعة فصول, تكلم في أولها عن عقود الاتجار وقسمها إلى قسمين: العقود المشروعة والعقود الممنوعة وتكلم عن كل نوع بتفصيل يناسب المقام. ثم انتقل إلى الفصل الثاني فتكلم فيه عن عقود الإيجار، معرفاً الإجارة ومبيناً مشروعيتها وشروطها وأقسام عملياتها. ثم تكلم في الفصل الثالث عن عقود الاشتراك, فعرَّف الشركة وبيَّن أقسامها, ومشروعيتها, وشروطها العامة, ليتكلم بعد ذلك عن الشركات في الفقه الإسلامي, والشركات في القانون الوضعي, وعن شركات التأمين. أما الفصل الرابع فكان الحديث فيه عن عقود الاسترباح كالمضاربة والمزارعة والمساقاة وقد تكلم عنها بتفصيل. وفي الباب الثالث والذي أفرده المؤلف بالحديث عن أدوات الاستثمار وقطاعاته, وتألف هذا الباب من فصلين اثنين, الفصل الأول تحدَّث فيه المؤلف عن أدوات الاستثمار, فذكر منها الأوراق المالية, والعقار , والسلع, والمشروعات الاقتصادية وغيرها وفصل الكلام عن كل ذلك. وفي الفصل الثاني تكلم المؤلف عن قطاعات الاستثمار وضرورة التوازن بين القطاعات, ومن قطاعات الاستثمار التي ذكرها: القطاع الزراعي, والصناعي, والتجاري, وقطاع السياحة, والقطاع المصرفي, وقطاع الإعلام. ويعتبر الكتاب مرجعاً مهمًّا في فقه المعاملات المالية وبالأخص ما كان له تعلق بموضوع الاستثمار فقد أجاد المؤلف في عرض المادة, ولمِّ شتاتها, فجزاه الله خيراً, وكتب أجره, ونفع به الإسلام والمسلمين.

التجارة الإلكترونية وأحكامها في الفقه الإسلامي

التجارة الإلكترونية وأحكامها في الفقه الإسلامي عنوان الكتاب ... التجارة الإلكترونية وأحكامها في الفقه الإسلامي اسم المؤلف ... سلطان بن إبراهيم الهاشمي الناشر ... دار كنوز إشبيليا - الرياض سنة الطبع ... ط 1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 750 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه من قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التعريف بموضوع الكتاب: لا يكاد يمر يوم من الأيام إلا ويشهد العالم تطوراً جديداً في مجال من مجالات الحياة, ومع هذا التطور المتسارع والمتزايد تطرأ بعض المستجدات التي نحتاج فيها إلى بيان حكمها الشرعي, حتى نتعامل معها على بينة من الأمر, بعيداً عن الحرج والمخالفات الشرعية. ومن الأمور التي أصابتها رياح التطور سوق المعاملات التجارية، والتي أصبح المتعاملون فيه قادرين على إبرام العقود في ثوان أو دقائق معدودات بواسطة وسائل التعاقد الالكترونية الحديثة؛ والتي أصبحت وسائل لا يمكن الاستغناء عنها, وأصبحت مفروضة على نطاق واسع، فسهلت الكثير من الإجراءات التعاقدية مع اتسامها بالسرعة والدقة والأمان. كتاب هذا الأسبوع يناقش موضوع التجارة الإلكترونية من الناحية الشرعية ويبين حكم الشرع فيها. والكتاب يتألف من تمهيد وخمسة أبواب, أما التمهيد فقد تناول فيه أهمية التجارة المعاصرة, والتغيرات التي طرأت عليها, ليشرع بعد ذلك في أبواب الكتاب الخمسة وهي كالتالي: الباب الأول: والذي اشتمل على فصلين خصهما المؤلف بالحديث عن التعريف بالشبكات والتجارة الإلكترونية وأنواعها وخصائصها ومقوماتها ومجالاتها. الباب الثاني: أما هذا الباب فتألف من ثلاثة فصول, الفصل الأول تكلم عن حكم التعاقد الإلكتروني, فتناول حقيقته وما يميزه عن غيره من وسائل الاتصال الحديثة, كما تناول حكم التعاقد الإلكتروني بالكتابة. أما الفصل الثاني فكان الحديث فيه عن صيغة التعاقد الإلكتروني, فتكلم عن كيفية إجراء العقود إلكترونيًّا, وتحرير الإيجاب والقبول فيهما, وعن مطابقة القبول للإيجاب, وتقدمه عليه, واشتراط الاتصال بينهما وفوريته. وفي الفصل الثالث من الكتاب تحدث المؤلف عن صفة المبيع, وأنواع الخيارات في التعاقد الإلكتروني فمما ذكره من أنواع الخيارات: خيار الرجوع عن الإيجاب, وخيار القبول, وخيار المجلس, وخيار الشرط, وخيار الرؤية, وخيار العيب, وخيار خلف الصفة, وخيار التدليس, وعن حضور المبيع وغيابه في التعاقد الإلكتروني. الفصل الرابع من هذا الباب أفرده المؤلف للحديث عن التوقيع الإلكتروني وأثره على العقد فعرفه وذكر صوره وحكمه وضوابطه. الباب الثالث: تحدث فيه عن العاقدين في التعاقد الإلكتروني وذلك في ثلاثة فصول, أولها كان الحديث فيه عن أهلية المتعاقدين, فتحدث عن اشتراطها وكيفية التحقق منها. وفي الفصل الثاني تناول المؤلف التزامات العاقدين, فتكلم عن التزامات البائع , والتزامات المشتري كل ذلك من الناحية الفقهية والإلكترونية. أما الفصل الثالث فكان الحديث فيه عن الخلاف بين العاقدين إلكترونيًّا, فذكر صور الخلاف ومحل التقاضي ومرجعيته وكيفية فض النزاع. الباب الرابع: وهذا الباب أفرده المؤلف للحديث عن المعقود عليه في التعاقد الإلكتروني وذلك في ثلاثة فصول, أما الفصل الأول فتناول فيه المثمن, فعرفه, وذكر شروطه وأنواعه, كما تناول السلع المنقولة والعقارات, والسلع الإلكترونية. أما الفصل الثاني فتناول الثمن فعرفه وذكر شروطه وأنواعه, وتحدث عن طرائق دفع الثمن في التعاقد الإلكتروني. وفي الفصل الثالث تناول المؤلف مسألة قبض العوضين في التعاقد الإلكتروني, فعرف القبض وبين المرجع في تحديده, وحقيقته في التعاقد الإلكتروني وحكم القبض الإلكتروني. الباب الخامس: كان الحديث فيه عن الشروط في التعاقد الإلكتروني والطوارئ فيه وانتهاؤه وفيه ثلاثة فصول, الفصل الأول: تناول الشروط في التعاقد الإلكتروني, وأنواعها وصورها وحكمها عند الفقهاء. أما الفصل الثاني فتناول الطوارئ في التعاقد الإلكتروني فبين المقصود بها وصورها, وفي الفصل الثالث والأخير تناول المؤلف مسألة الانتهاء في التعاقد الإلكتروني, فتكلم عن فقدان أهلية أحد العاقدين, وعن هلاك المعقود عليه, وعن فسخ العقد من أحد العاقدين. وأخيرا فقد ألقى هذا الكتاب الضوء على التعاملات الإلكترونية من الناحية الفقهية وذلك لأهمية هذه الموضوع الذي بلغ عدد الممارسين له عبر الإنترنت ما يزيد على 800 مليون مما يؤكد على مرونة هذه الشريعة وشمولها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان. جزى اللهُ المؤلفَ خيرَ الجزاءِ على ما قدم، وكتب اللهُ أجرَه ونفع به الإسلامَ والمسلمين.

اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي

اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي عنوان الكتاب ... اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي اسم المؤلف ... وليد بن علي الحسين الناشر ... دار التدمرية سنة الطبع ... 1429هـ عدد الصفحات: ... 413 نوع الكتاب ... رسالة دكتوراه التعريف بموضوع الكتاب: لقد جاءت الشريعة الإسلامية في أصولها وفروعها بمقاصد تشريعية عظمى تنظم الحياة الإنسانية في جميع مجالاتها، فلكل حكم شرعي غاية ومصلحة قد شُرعَ من أجلها. ومن قواعد التشريع المتعلقة بالمقاصد قاعدة اعتبار مآلات الأفعال التي تهدف إلى تحقيق موافقة الأفعال في الظاهر والباطن والحال والمآل للمقاصد والغايات التي قصدها الشارع، فعند تنزيل الأحكام على الواقع وتطبيقها على الوقائع والمكلفين ينظر إلى المآلات والعواقب التي يفضي إليها التطبيق لمعرفة تداعيات تنزيل الحكم المستقبلية والبناء عليها في الحكم على الفعل. ولاعتبار مآلات الأفعال أصول وقواعد يسير عليه المجتهد، تناولتها بعض الأبحاث بالدراسة والمناقشة، ومن تلك الأبحاث؛ البحث الموسوم بـ: (اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي) لمؤلفه وليد بن علي الحسين، حيث تناول فيه بيان تلك الأصول والقواعد التي تتعلق بالنظر في مآلات الأفعال والتي يبنى عليها عند الحكم على الأفعال بما يضمن تحقيق موافقة مقاصد التشريع. وقد اجتهد الباحث في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في البحث مع توثيق النصوص المنقولة عن العلماء والمذاهب الفقهية وبيّن المعاني اللغوية للألفاظ الغريبة، وترجم للأعلام عدا المشهورين منهم إلى غير ذلك. وقد اشتمل البحث على أربعة أبواب: الباب الأول: أشار إلى بيان حقيقة مآلات الأفعال: وذلك من خلال فصلين، في الأول منهما: ذكر تعريف مآلات الأفعال ونشأتها: معرِّفًا المآلات، والأفعال، ومآلات الأفعال في الاصطلاح، وتحدث عن نشأة المصطلح، والألفاظ ذات الصلة به، وصلة النظر في مآلات الأفعال بعلم المقاصد. وفي الفصل الثاني: ذكر أنواع مآلات الأفعال من حيث الحكم، وقصد المكلف، والتأثير، والتوقع، والوقوع، وزمن وقوعها، والعموم والخصوص، والظهور والخفاء. الباب الثاني: اعتبار مآلات الأفعال: وتناوله من خلال ستة فصول: في الفصل الأول: بيَّن أدلة اعتبار مآلات الأفعال من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن الآثار الواردة عن الصحابة، ومن العقل. وفي الفصل الثاني: بيَّن حكم اعتبار مآلات الأفعال، وتناول في الفصل الثالث: حكمة اعتبار مآلات الأفعال. أما الفصل الرابع: فكان في شروط اعتبار مآلات الأفعال وهي: كون المآل متحقق الوقوع، محققاً لمقصد شرعي، منضبطاً، وأن لا يؤدي اعتباره إلى تفويت مصلحة راجحة أو إلى ضرر أشد. وذكر في الفصل الخامس موانع اعتبار مآلات الأفعال وهي: ندرة وقوع المآل، ومناقضة مقاصد الشريعة، وإفضاء اعتبار المآل إلى تفويت مصلحة راجحة، أو إلى ضرر أشد. والفصل السادس كان في بيان طرق كشف مآلات الأفعال وهي: التصريح بالمآل، والقرائن المحتفة، والظن الغالب، والتجربة. الباب الثالث: أفرد فيه قواعد اعتبار مآلات الأفعال وذلك من خلال فصلين: الأول: في قواعد اعتبار مآلات الأفعال المتعلقة بالأدلة الشرعية: وهي المصلحة، وسد الذرائع، وفتح الذرائع، ومراعاة الخلاف، والضرورة، ورفع الحرج، والتعليل لما يؤول إليه الحكم، مع بيان معنى كل دليل منها، وصلته بالمآلات، وكيفية اعتباره لمآلات الأفعال، وتطبيقاته الفقهية. والفصل الثاني: في قواعد اعتبار مآلات الأفعال المتعلقة بالاجتهاد والتعارض: وقد اشتمل الاجتهاد على صلة الاجتهاد بالمآلات، وكيفية الاجتهاد في الفتوى، وفي حال المستفتي، وفي حال المفتي، وفي الفعل المفتى فيه، واشتمل التعارض على بيان صلته بالمآلات، واعتبار المآلات فيه، وتطبيقاته الفقهية. الباب الرابع: كان في بيان أثر اعتبار مآلات الأفعال: واشتمل على تمهيد وثلاثة فصول: في التمهيد: تناول أنواع الأحكام الشرعية بالنسبة إلى مآلات الأفعال. وأما في الفصل الأول: فبيَّن أثر اعتبار مآلات الأفعال على الأحكام التكليفية، وهي الواجب، والمندوب، والمباح، والمحرم، والمكروه، من حيث تأثير اعتبار المآل على تغير الحكم التكليفي من حكم لآخر، أو على اعتباره من حيث الكلية والجزئية. وفي الفصل الثاني: بيَّن أثر اعتبار مآلات الأفعال على الأحكام الوضعية، وهي الأسباب، والشروط، والموانع، والعزائم، والرخص. أما الفصل الثالث: فجعله في بيان أثر اعتبار مآلات الأفعال على الترجيح باعتبار مآل ما يقتضيه الحكم. وهذا البحث جاء متمماً لما سبقه من الأبحاث في هذا الباب، ومكملاً للجوانب التي لم يُتعرض لها. والكتاب جيد في بابه. أثاب الله مؤلفه، ونفع به قارئه.

ملاحم آخر الزمان عند المسلمين وأهل الكتاب وآثارها الفكرية

ملاحم آخر الزمان عند المسلمين وأهل الكتاب وآثارها الفكرية عنوان الكتاب ... ملاحم آخر الزمان عند المسلمين وأهل الكتاب وآثارها الفكرية اسم المؤلف ... ياسر بن عبد الرحمن بن عبد القادر الأحمدي الناشر ... مجلة البيان - الرياض سنة الطبع ... ط 1 - 1432هـ عدد الصفحات: ... 576 نوع الكتاب ... رسالة علمية قدمها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه من قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة التعريف بموضوع الكتاب: الصراع بين الحق والباطل باق ما بقي الليل والنهار, وما دام أن هناك فريقان للخير والشر فإن المعركة التي شنها الشيطان على بني آدم مستمرة حتى يأذن الله - تبارك وتعالى - بذهاب هذه الدنيا ومن عليها, ولقد بشرنا رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بمعارك حاسمة وملاحم قوية تقع في آخر الزمان تكون الغلبة فيها للحق وأهله, وتديل دولة الباطل وأهله. وكما أن لنا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بشائر مستقبلية, فإن لأعدائنا من اليهود والنصارى ومن نحى نحوهم أيضاً نبوءات مستقبلية تحدثت عن هذه الملاحم في كتبهم, صورتهم أنهم من يمثل جانب الحق من الصراع أو هكذا يظنون, وبدؤوا في الاستعداد لحدوث هذه النبوءات والعمل بمقدماتها وازادوا تمسكاً بها كلما أحسوا أنهم قريبون من تحقيق أهدافهم. من أجل هذا وغيره من الأسباب كان الحديث عن ملاحم آخر الزمان أمراً مهما يجدر العناية به وتوضيحه لا سيما وقد ظهر في المسلمين بعض العابثين بنصوص الفتن والملاحم, تكلموا فيه بغير علم ولا هدى فجاؤوا بالعجائب وانتشرت كتبهم فأثرت في الأمة تأثيرا سلبياً بالغاً. الكتاب الذي بين أيدينا ناقش هذه القضية نقاشاً علمياً, فبعد تمهيد عرف فيه المؤلف مفردات العنوان وتكلم فيه عن الجانب العقدي من الموضوع وأنه من مسائل الإيمان بالغيب, وتحدث عن موقف الأديان السماوية من مبدأ القتال. شرع المؤلف في الكتاب والذي تألف من ثلاثة أبواب رئيسية: الباب الأول: كان الحديث فيه عن الأصول المنهجية في دراسة الفتن والملاحم واحتوى هذا الباب على ثلاثة فصول, تحدث المؤلف في الأول عن المصادر التي يستقي منها أهل السنة أخبار الفتن والملاحم, وعن منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع هذه الأخبار, وعن الموقف الذي يتبناه أهل السنة تجاه أخبار الملاحم عند أهل الكتاب. وفي الفصل الثاني من نفس الباب كان الحديث عن المخالفات التي يرتكبها بعض المسلمين عند دراستهم للملاحم, فتكلم عن المخالفات في إثبات هذه الملاحم, والمخالفات في الاستدلال بنصوصها, والمخالفات في تنزيل أخبار الفتن والملاحم على الواقع. الفصل الثالث تكلم فيه المؤلف عن الأصول المعتمدة في دراسة الملاحم عند أهل الكتاب, فتكلم عن مصادرهم التي يأخذون منها هذه الأخبار, وعن المناهج العلمية والعملية التي يتبعها أهل الكتاب في التعامل معها. الباب الثاني: كان الحديث فيه عن ملاحم آخر الزمان عند المسلمين وآثارها الفكرية, واشتمل هذا الباب على ثلاثة فصول , الفصل الأول تناول الملحمة الكبرى, وهي الملحمة التي تكون بين المسلمين والنصارى, فتحدث عن أحوال المسلمين وعلاقتهم مع النصارى قبيل هذه الملحمة , وعن أحداث الملحمة الكبرى, وفتح القسطنطينية. أما الفصل الثاني فكان الحديث فيه عن الملحمة مع المسيح الدجال وأتباعه, وتناول فيه ظهوره في آخر الزمان, والقضاء عليه وعلى اتباعه, وأحوال العالم بعد القضاء عليه إلى وفاة عيسى عليه السلام. أما الفصل الثالث فتناول فيه الآثار الفكرية لملاحم آخر الزمان عند المسلمين من حيث نظرتهم للمستقبل, وآثارها على موقفهم الفكري من أهل الكتاب, وآثارها في تعزيز بعض المفاهيم الإسلامية. الباب الثالث: تحدث فيه المؤلف عن ملاحم آخر الزمان عند أهل الكتاب وآثارها الفكرية, وأحتوى هذا الفصل على ثلاثة فصول, الأول منها تناول ملاحم آخر الزمان عند اليهود كملحمة يوم غضب الرب وملحمة جوج وماجوج والملك الألفي عند اليهود. أما الفصل الثاني فتناول ملاحم آخر الزمان عند النصارى كمقدمات ملحمة هرمجدون وأحداثها, والملك الألفي وملحمة جوج وماجوج. وفي الفصل الثالث والأخير تناول المؤلف الآثار الفكرية لملاحم آخر الزمان عند أهل الكتاب, فتحدث عن الآثار الفكرية لملاحم آخر الزمان عند اليهود وكذلك عند النصارى, وتحدث أيضاً عن توظيف بعض أهل الكتاب نصوص الملاحم وآثارها توظيفاً نفعياً. القارئ للكتاب يخرج بتصور صحيح عن أحداث وملاحم آخر الزمان بعيداً عن التخرصات والظنون والإسقاطات الخاطئة للنصوص على أحداث الواقع, فجزى الله المؤلف خير الجزاء.

كل بدعة ضلالة – قراءة ناقدة وهادئة لكتاب مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة

كل بدعة ضلالة - قراءة ناقدة وهادئة لكتاب مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة عنوان الكتاب ... كل بدعة ضلالة - قراءة ناقدة وهادئة لكتاب مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة اسم المؤلف ... علوي بن عبد القادر السقاف الناشر ... مؤسسة الدرر السنية للنشر سنة الطبع ... 1432هـ - ط الأولى التعريف بموضوع الكتاب: ما أخطر البدع, وما أعظم ضررها على الدين, لذا حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتتابع العلماء من بعده على التحذير منها, وبيان خطورتها, من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، وقد كتبت فيها المؤلفات قديماً وحديثاً, ومن هذه المؤلفات المعاصرة كتاب (كل بدعة ضلالة) لفضيلة الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف، والكتاب عبارة عن قراءة ناقدة وهادئة لكتاب (مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة) للدكتور عبدالإله العرفج. والذي ذهب فيه إلى أن البدع تنقسم إلى واجب, ومستحب, وجائز, ومكروه, ومحرم. وقد رد عليه المؤلف مقررًا أن البدعة من حيث معناها اللغوي منها الحسن ومنها السيئ وهذا ما عليه عامة العلماء، ومن حيث معناها الشرعي فلم يُنقل عن أحد من المتقدمين القول بهذا التقسيم، وكلهم متفقون على أنَّ كل بدعة ضلالة، وأول من قال بهذا التقسيم هو العز بن عبد السلام. وذكر طائفة ممن يرون أن كل بدعة ضلالة؛ منهم ابن عمر, وأبو حنيفة, ومالك, والشافعي, وأحمد بن حنبل, وأبو عبيد القاسم بن سلام, وابن تيمية, وابن رجب, وابن حجر, وإبراهيم بن محمد الحلبي الحنفي, وابن حجر الهيتمي, ومحمد عبد الحي اللكنوي, ومحمد رشيد رضا, ومحمد عبد السلام الشقيري, ومحمد خليل هراس, وغيرهم. وهذا خلافاً لصاحب كتاب (مفهوم البدعة) الذي ذكر في الفصل الثالث: وهو (معنى البدعة في اللغة والشرع): أن من العلماء من ذمَّ جميع البدع، وهم على حد تسميته (المضيقون لمعنى البدعة)، ومنهم من ذمَّ بعضها ومدح بعضها، وهم أكثر العلماء على حد تعبيره، وهم من سماهم (الموسعون لمعنى البدعة). ثم سرد الدكتور العرفج نصوص الموسعين، وبلغوا سبعة عشر عالمًا، وذكر نصوص المضيقين لمعنى البدعة، ولم يذكر إلا نصوص أربعة فقط، وأكثرهم من المتأخرين. وبين المؤلف من خلال رده أن صنيعه هذا قد يوهم أن جُلَّ العلماء من الموسعين لمعنى البدعة، بالإضافة إلى أن بعض من ذكرهم في الموسعين لم ينقل عنهم نصًّا صريحًا بتقسيم البدعة إلى خمسة أقسام؛ كابن رجب, وابن كثير, وابن حجر؛ فعدهم من الموسعين لمعنى البدعة فيه نظر. وذكر صاحب مفهوم البدعة في الفصل الخامس: وهو (هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما أحدثه الصحابة رضي الله عنهم)، وهو من أهم فصول الكتاب، ذكر فيه عددًا من الأمثلة يثبت فيها أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أحدثوا عبادات أقرَّهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: إحداث بلال ركعتين بعد الوضوء، وغيرها من الأمثلة، وأورد أمثلة أخرى في إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة أفعالًا أحدثوها، وانتهى المؤلف إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل من الصحابة ما أحدثوه، إن كان من أفعال الخير ومن جنس المشروع، ولم تتصادم مع نص شرعي، ولم يترتب عليها مفسدة، ولم تكن منافية أو مخالفة لهديه، ويَرُدُّ ما سوى ذلك. وقد أجاب المؤلف عن ذلك بعدة أمور منها: أولا: أن هذا كان في زمن التشريع، وقبل اكتمال الدين؛ فكان الصحابة يجتهد الواحد منهم؛ فإن أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم أصبح فعله بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم سنة مستحبة، وإن أنكر عليه أصبح فعله غير مشروع، حتى نزل قول الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. [المائدة: 3]، ولم يثبت أن أحدًا من الصحابة أحدث أمرًا من عند نفسه بعد نزول هذه الآية. ثانيا: أن الصحابة بشر قد يصيب الواحد منهم وقد يخطئ، وفعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة حتى يقرَّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثا: أنه على مذهب القائلين بحجية إقرار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في زمن النبوة، فلا إشكال ولا شبهة حينئذ. رابعا: أن فعل الصحابة في زمن النبوة كانوا يرجعون فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فما أقرَّه فعلوه، وما أنكره تركوه؛ فإلى من يرجع اليوم من أحدث في عبادة؟ خامسا: أن الصحابة بلغوا منزلة من العلم والإيمان ومعرفة أحكام الشريعة والقدرة على الاجتهاد فيها لم يبلغها غيرهم، فكيف يسوي بينهم وبين غيرهم في ذلك؟ ولما ذكر صاحب (مفهوم البدعة) في الفصل السادس: وهو (هدي الصحابة رضي الله عنهم في المحدثات بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أحد عشر مثالًا على ذلك؛ كجمع أبي بكر للقرآن، وجمع عمر الناس جماعة على إمام واحد في رمضان، وزيادة عثمان الأذان قبل دخول وقت الجمعة، وزيادة ألفاظ يسيرة في صيغة التلبية المشهورة، إلى غير ذلك أجاب المؤلف عما ذكره الدكتور بأنه لا يخرج عن أحد حالات أربع وهي: الحالة الأولى: إما أنها لا تصح سندًا. الحالة الثانية: أنها وسيلة وليست عبادة بذاتها. الحالة الثالثة: أنها مما لم يكن مقتضاه وموجبه موجوداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحالة الرابعة: أنها من الأذكار والنوافل المطلقة التي لم يقل ببدعيتها أحد. وذكر صاحب مفهوم البدعة في الفصل التاسع: وهو (نماذج لاختلاف المضيقين لمعنى البدعة في حكم بعض المحدثات)، ما مضمونه أن تقسيم البدعة إلى الأقسام الخمسة يفسر اختلاف العلماء في الحكم على بدعية مسألة ما، أما تضييقهم لمعنى البدعة وأنها كلها ضلالة فليس فيه مسوغ لاختلافهم في الحكم، لذا فقد جمع عددًا من الأمثلة التي اختلف فيها المضيقون لمعنى البدعة؛ ما بين قائل ببدعيتها وقائل بجوازها. وسرد المسائل التي اختلف فيها العلماء الذين يصفهم بالمضيقين لمعنى البدعة كابن باز والألباني وابن عثيمين والفوزان وابن جبرين، وبلغ عدد المسائل التي أوردها عشرين مسألة، ومنها: إقامة مجلس العزاء لثلاثة أيام ــ عَشاء الوالدين ــ تخصيص يوم الجمعة لزيارة القبور .. إلخ. وأنشأ جدولًا من ثلاثة أعمدة فيه المسألة, وحكمها, والقائل به؛ حتى يظهر الخلاف بين العلماء في الحكم عليها، وكيف خالف ابن باز ابن عثيمين، وابن عثيمين الألباني، والألباني ابن باز، وهكذا ليصل في النهاية إلى أن هذا يؤدي إلى تبديع بعضهم بعضًا، فمن حكم بالبدعية على مسألة ما فإنه يلزم منه تبديع من يُجوِّزها على حد فهمه. وقد أجاب المؤلف على ذلك بأن هناك فرقًا بين الحكم على مسألة ما بالبدعة، والحكم على من عملها بأنه مبتدع، وبين أنه لا يعلم أحدًا من هؤلاء العلماء بدَّع مخالفيه في هذه المسائل. مع كون جميع الأمثلة التي ذكرها هي من المسائل الفقهية التي اختلف فيها العلماء قديمًا وحديثًا، المضيقون لمعنى البدعة والموسعون. وأن جُلُّ العلماء الذين ذكرهم تأصيلهم وتقعيدهم واحد، وإن اختلفوا في تنزيل وتطبيق بعض القواعد على بعض المسائل. وقد أجاب المؤلف عن إحدى عشرة مسألة مما ذكره، وأعرض عن بقية المسائل لتشابهها مع ما أجاب عنه. وفي الفصل العاشر: وهو (مقارنة بين ثلاث محدثات مستجدات: المولد النبوي ــ وصلاة القيام ــ وعشاء الوالدين). قارن صاحب كتاب (مفهوم البدعة) بين هذه المسائل الثلاث، ووضعها في جدول ليبرهن على أنه لا فرق بينها، وأن من أجاز واحدة منها يلزمه أن يجيز الباقي، بل زاد على ذلك بأن المنع من الاجتماع لصلاة القيام في رمضان أولى. وأجاب المؤلف عن ذلك بأن صلاة القيام لها أصل، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها الصحابة من بعده، أما تقسيمها قسمين أو ثلاثة، وفي أول الليل أو وسطه أو آخره؛ فهذه حسب ظروف الناس وأحوالهم. وأن عَشاء الوالدين الذي أجازه العلماء هو التَّصدُّق عنهما، وهذا له أصل في الشرع، وليس مجرد الذبح كما يوهم كلام صاحب (مفهوم البدعة). وأن الاحتفال بالمولد النبوي ليس له أصل في الشرع، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة بعد موته، بخلاف صلاة القيام. وختم المؤلف كتابه بوقفات ثلاث: الأولى: دعوة صاحب كتاب (مفهوم البدعة) للرفق مع المخالف ومخالفته لذلك. الثانية: كتاب (مفهوم البدعة) والمولد النبوي. الثالثة: حجية قول وفعل الصحابة رضي الله عنهم. وقد أجاد المؤلف في نقده لكتاب (مفهوم البدعة) مبينا أن كل بدعة ضلالة، مع الرد على الشبه المستدل بها في هذا الباب، فجزاه الله خيرا.

حركة التشيع في الخليج العربي – دراسة تحليلية نقدية

حركة التشيع في الخليج العربي - دراسة تحليلية نقدية عنوان الكتاب ... حركة التشيع في الخليج العربي - دراسة تحليلية نقدية اسم المؤلف ... عبد العزيز بن أحمد البداح الناشر ... المركز العربي للدراسات الإنسانية سنة الطبع ... ط 1 - 1431هـ عدد الصفحات: ... 502 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في الدعوة والثقافة الإسلامية من جامعة أم درمان الإسلامية التعريف بموضوع الكتاب: الافتراق أمر محتوم وسنة من سنن الله تبارك وتعالى في الأمم والأديان, فما من دين إلا وانقسم على نفسه, وتولدت عنه نحل وملل متعددة, وطوائف وفرق متباينة, ولم يكن الإسلام في منأى عن هذه الانقسامات ولا عن تعدد الفرق التي انشقت عنه, سالكة مسالك بعيدة عن هديه, منتحلة لعقائد قصية عن نهجه, فكان من نتائجها أن فرقت الأمة وشتت الشمل, فضلت وأضلت عن سواء السبيل. ومن أخطر الفرق المنشقة عن الإسلام البعيدة عن هديه الطائفة الشيعية, والذين قويت حركة اتباعها في السنوات الأخيرة, ونشطوا في نشر مشاريعهم, وأصبح لهذه المشاريع تأثيراً واضحاً على الصعيد السياسي والعسكري والدعوي. في هذا الكتاب يسلط المؤلف الضوء على هذه الفرقة وتحركاتها في الخليج العربي في دراسة تحليلية نقدية هدف من ورائها إلى كشف هذه الحركة وبيان أحوالها السياسية والدينية والعلمية والاجتماعية, وكشف أهدافها وسماتها, وأسباب نجاحها وقوتها, والطرق الممكنة لمواجهتها والحد من نفوذها. تألف الكتاب من ستة فصول سبقها مقدمة وتمهيد, وفصوله كالتالي: الفصل الأول: تحدث المؤلف فيه عن أهداف حركة التشيع وذلك في خمسة مباحث تكلم كل مبحث عن هدف من أهداف هذه الحركة, فتكلم عن هدف نشر التشيع واستخدام عدة وسائل في ذلك أجملها المؤلف في عشرة وسائل, وعن الاستيلاء على الحكم والتحكم في البلد المستهدف, وعن إثارة الفوضى والاضطراب في المجتمع, وعن استهداف أهل السنة والذين يعتبرونهم نواصباً كفرة يستحلون دماءهم وأموالهم, وعن ترسيخ النفوذ الإيراني في المنطقة. الفصل الثاني: تحدث فيه عن وسائل وأساليب حركة التشيع وقد فصلها في ثمانية مباحث, فذكر من ذلك: التغلغل في مفاصل الدولة واستغلال المواقف والأحداث، والاتصال بالمنظمات الخارجية والسفارات الأجنبية, والعمل على الشحن العاطفي والنفسي لتجييش الأتباع، والظهور بمظهر المضطهد المظلوم, والتشجيع والحث على التكاثر وزيادة النسل وشمولية العمل الخيري, والتوسع في بناء المساجد والحسينيات، ورفع شعار الوحدة الوطنية واتهام المخالفين بالطائفية, واستغلال موسمي الحج والعمرة لتحقيق مآربها وأغراضها. الفصل الثالث: كان الحديث فيه عن سمات هذه الحركة فعدد المؤلف هذه السمات في اثني عشر مبحثاً تكلم في كل مبحث عن سمة منها, فذكر من تلك السمات قوة التنظيم والتخطيط, وعملية التكافل بين أطياف الحركة، وانحراف التديّن بين أبنائها, واتسامهم بالإقصاء لمن خالفهم؛ والتجني بادعائهم الظلم والتهميش, كما أنهم يتسمون بتوزيع المهام فتتغاير أساليبهم مع اتفاقهم في الأهداف، ويتسمون بالتعصب المذهبي, واحترام مرجعياتهم الدينية, والعنف, والانغلاق وصعوبة التعايش معهم, والانحراف الأخلاقي المستشري بينهم, والمغالطة وتجاهل الحقائق. الفصل الرابع: خصصه المؤلف لذكر نشاط هذه الحركة وذلك في ستة مباحث, فذكر من الأسباب تنويع وسائل وأساليب المواجهة لدى الحركة، والدعم الخارجي المتثمثل بالدعم الإيراني, ومن الأسباب أيضاً الأثر الإيجابي للأثرياء وأداء الخُمس، ومنها وثوق العامة بالمرجعيات الدينية, ومنها غياب استراتيجية المواجهة لدى أهل السنة، وبروز الفكر العلماني وأدبياته, وتراجع العمل الدعوي السني, وتجاوز حركة التشيع للخلافات الداخلية. الفصل الخامس: هذا الفصل كان حديث المؤلف فيه عن التحول المذهبي والعلاقة بطوائف المجتمع والموقف من الأحداث وذكر فيه المؤلف ثلاثة مباحث تحدث فيها عن التحول المذهبي من وإلى الحركة الشيعية وأسباب هذا التحول, كما تناول المؤلف علاقة الحركة بطوائف المجتمع وقواه السياسية, كالصوفية, والسلفية, والإخوان المسلمين, وبالعلمانية, والنصارى, كما تحدث عن موقف حركة التشيع من الأحداث التي وقعت في المنطقة كحادثة الحرم المكي، والتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها. الفصل السادس: تناول فيه المؤلف سبل مواجهة حركة التشيع, وتناول الموضوع في اثني عشر مبحثاً, فذكر من تلك السبل إيجاد مرجعية دينية سنية واحترامها، وتفعيل العمل الجماعي بين الجمعيات السنية, ودعوة الشيعة إلى السنة, وبيان موقف أهل السنة من آل البيت, واستخدام وسائل الإعلام, وتكثيف برامج الحوار مع الشيعة، وكشف جوانب ضعف وقصور المذهب الشيعي، وكشف أحوال أهل السنة في إيران؛ وتطوير الجهات والمؤسسات الإسلامية؛ ودعم التيار السلفي، وإنشاء مراكز للدراسات والبحوث، وترسيخ العدل والقضاء على الانحراف في المجتمع، وأخيراً ترسيخ العدل والقضاء على الانحراف في المجتمع. الكتاب جاء حافلاً بالمعلومات مليئاً بالاستبانات التي تخدم البحث وتعزز من قوته, كما وأردفه بمجموعة من الوثائق والصور المهمة التي تمس الموضوع, فنسأل الله أن ينفعه بما كتب وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.

آفاق الاستثمار في الجهات الخيرية

آفاق الاستثمار في الجهات الخيرية عنوان الكتاب ... آفاق الاستثمار في الجهات الخيرية اسم المؤلف ... محمد بن يحيى آل مفرح تقديم ... الدكتور عبد الرحمن بن صالح الأطرم والدكتور سامي تيسير سلمان الناشر ... الدرر السنية - الظهران سنة الطبع ... ط1 - 1432هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 270 التعريف بموضوع الكتاب: كثيرة هي تلك الجهات الخيرية التي تتبنى العمل التطوعي الخيري الذي يعتمد في موارده المالية على ما يجمعه بطرق تقليدية من زكوات وصدقات وتبرعات وغيرها, لكنها قليلة - وقليلة جداً - تلك الجهات الخيرية التي تعتمد على نفسها في تقوية مواردها المالية باستثمار ما لديها من أموال استثماراً يعود عليها بالنفع وينعكس إيجاباً على مناشطها وبرامجها. (آفاق الاستثمار في الجهات الخيرية) كتاب عني بطرق الاستثمار النافعة والمفيدة للجهات الخيرية بنموذج مبتكر وأفكار واقعية من شأنها أن تعزز القدرات المالية لدى هذه الجهات وتحل كثيراً من مشكلات العجز في ميزانياتها, بل وتضخ في أنشطتها الحياة وتحميها من التعثر. الكتاب تألف من أربعة فصول سنقف مع كل فصل منها وقفة مختصرة توضح محتواه وهي كالتالي: الفصل الأول: كان الحديث فيه عن التأطير النظري للاستثمار تحدث فيه عن المبادئ الأساسية في الاستثمار بمفهومه العام وتطبيقاته على الجهات الخيرية , فتناول فيه المفهوم الأساسي للاستثمار, وتطور نظريات الفكر الاستثماري وعن تأثير عدم اليقين في اتخاذ قرارات الاستثمار في الجهات الخيرية, كما تناول الضوابط التي تنظم عملية الاستثمار وغيرها من الجوانب النظرية للاستثمار. الفصل الثاني: خصصه المؤلف للحديث عن الإطار الميداني للاستثمار فتحدث فيه عن دراسات استثمارية ترتبط بالعمل الخيري وهي: الدراسة الأولى: عناصر يجب التنبه لها عند اتخاذ قرار استثماري في الجهة الخيرية. الدراسة الثانية: الاستفادة من المتخصصين وخبراء الاستثمار. الدراسة الثالثة: معايير عامة لقبول الاستثمارات والمشاريع. الدراسة الرابعة: عقبات تنمية الموارد المالية في الجهات الخيرية. الفصل الثالث: عرض فيه المؤلف نموذج (أساس) وتطبيقاته العملية في الجهات الخيرية, كما قام بشرح عناصرالنموذج وترابطاتها, كما تحدث خلال هذا الفصل عن الأسباب التي تمنع الجهات الخيرية من الاستثمار, وعن الأسس الرئيسية والأفكار العملية للاستثمار. الفصل الرابع: كان الحديث فيه عن التنظيم الإداري والمالي وفق منهج أساس فتكلم فيه عن التنظيم الإداري, والتنظيم المالي, ونظام الحوافز التي تدعم الاستثمار, وعن أثر الصورة الذهنية في بناء وتنمية الاستثمار, ومحاكاة نماذج امتياز الجهات الربحية تجاه المجتمع. وتطبيقاتها في الجهات الخيرية. وقد أُردف الكتاب بملحقين الأول أعده الدكتور سامي تيسير سلمان تناول فيه بعض المصطلحات المتداولة في الاستثمار وبعض مبادئه, كتعريف الاستثمار وأنواعه وماهية صناديق الاستثمار ومزاياها, وعن المناخ الاستثماري ومكوناته, كما تناول الأسس التي يبنى عليها الاستثمار السليم, وبعض التوجيهات التي تساعد على الحصول على أفكار استثمارية فعالة. وأما الملحق الثاني فقد أعده القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية تناول فيه الاستثمار من الناحية الشرعية فذكر أقسام أموال الجهات الخيرية وما يجوز استثماره منها وما لا يجوز, وبعض فتاوى العلماء المتعلقة باستثمارها. يعتبر هذا الكتاب منهجاً متكاملاً للعمل الاستثماري الخيري بجانبيه التنظيري والتطبيقي العملي, نسأل الله أن يكتب لمؤلفه الأجر وينفع به الإسلام والمسلمين.

البحرين بركان على جزيرة

البحرين بركان على جزيرة عنوان الكتاب ... البحرين بركان على جزيرة اسم المؤلف ... أحمد فهمي الناشر ... مجلة البيان - الرياض عدد الصفحات: ... 346 التعريف بموضوع الكتاب: لم تكن مملكة البحرين بمنأى عن حركات الاحتجاج والمسيرات والمظاهرات التي شهدتها وتشهدها المنطقة في الآونة الأخيرة, إلا أن احتجاجات البحرين اختلفت عن جميع ما سبقها أو تبعها من احتجاجات ومظاهرات وإن حاول أصحابها إظهارها بمظهر السلمية والتحرر, بينما هي ظاهرة لكل ذي لب أنها ثورة شيعية تهدف إلى الاستيلاء على الحكم وتنفيذ المخططات الإيرانية في المنطقة والمتمثلة بتصدير الثورة الإسلامية - كما يدعون - ونشر المذهب الشيعي الصفوي. كتابنا لهذا الأسبوع يتناول الحركات الدينية الشيعية في البحرين بدراسة تحليلية دقيقة, يسلط فيه الضوء على هذه الحركات وعلاقاتها الخارجية. الكتاب يتألف من أربعة فصول, حمل الفصل الأول عنوان (أصليون وغرباء) تحدث فيه المؤلف عن التركيبة السكانية للبحرين وعن نسبة كل من الشيعة والسنة من إجمالي عدد السكان في مملكة البحرين, والاختلاف الحاصل بين هذه النسب, كما تحدث عن السكان الأصليين والوافدين إلى المنطقة وعن الأصل التاريخي للبحارنة وهي التسمية التي يحلو للشيعة البحرينين أن يطلقوها على أنفسهم , ليتكلم عن بقية مكونات المجتمع الشيعي غير البحارنة كالشيعة الإيرانيين, وشيعة المنطقة الشرقية بالسعودية, ليخلص المؤلف فيما بعد أن بيئة البحرين بيئة متحركة ديموغرافياً تعرضت لكثير من الهجرات منها وإليها مما يجعل من العبث إطلاق مصطلح السكان الأصليين على بقعة جغرافية محدودة مثل البحرين. وفي نفس الفصل أثار المؤلف تساؤلاً مهما وهو: لماذا لم يحكم البحارنة البحرين؟ إذ لم يثبت على مر التاريخ وجود قبائل أو زعامات منهم أسست دولة على هذه الجزيرة, موضحاً أهم التفسيرات التي جعلت البحارنة يعزفون عن إقامة دولة مستقلة لهم في البحرين أو السعي للحكم, ليتحدث بعد ذلك عن تغيير التركيبة السكانية والذي تناول فيه مسألة التجنيس باعتبارها من أهم مشاكل المعارضة الشيعية. في الفصل الثاني من فصول الكتاب تحدث المؤلف عن الخريطة الدينية للمجتمع الشيعي في البحرين وقد تألف هذا الفصل من أربعة مباحث, كان الحديث في أولها عن الإخبارية والأصولية وتاريخهما وانتشارهما, كما تحدث عن وضع الشيعة في البحرين بناءا على الانتماء لإحدى المدرستين, مبيناً أن النفوذ في بداية الأمر كان للإخباريين, ثم لم يلبث نفوذهم أن انحسر ليشيع بعد ذلك المنهج الأصولي في الجزيرة, ليتحدث بعد ذلك عن العلاقة بين المنهجين, وعلاقة الإخباريين مع التيارات الأخرى, كما تحدث عن تيار ثالث هجين نتج عن تزاوج بين مكونات ثقافية للشيعة في البحرين وهي التاريخ, والتعلم, والمرجعية والتقليد, والمنهج السياسي. وفي المبحث الثاني من مباحث الكتاب تكلم عن التيار الرسالي, أما المبحث الثالث فقد تكلم فيه عن الحالة الدينية في البحرين قبل مرحلة الأحزاب, ليختم بمبحث رابع تحدث فيه عن تأثير التحزبات على الخريطة الدينية البحرانية. أما الفصل الثالث فكان الحديث فيه عن الخريطة السياسية للمجتمع الشيعي في البحرين , تناول فيه الأحزاب الشيعية في البحرين في ثلاثة مباحث كل مبحث حوى مرحلة من مراحل تلك الأحزاب, ففي المبحث الأول تحدث عن الأحزاب السياسية الشيعية في المرحلة الأولى فتكلم عن حزبين أساسيين وهما الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين وحزب الدعوة. ثم انتقل إلى المبحث الثاني والذي تناول فيه المرحلة الثانية من مراحل هذه الأحزاب وهي الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة النهج الثوري وهو نهج الخميني , لينتقل إلى المبحث الثالث والذي تحدث فيه عن المرحلة السياسية للأحزاب الشيعية. وفي الفصل الرابع من فصول الكتاب كان الحديث عن العلاقات الخارجية لشيعة البحرين, إما مع إيران والتي تتحد معهم في المعتقد والمنهج, أو بالاستقواء بالخارج وإن كان الخارج يمارس أجندة استعمارية, فهذا في نظرهم لا يهم ما دام أن العدو عدوا واحداً متمثلاً في القوى السنية العربية. هذه بعض الخطوط العريضة في هذا الكتاب الحافل والمميز, والذي تناول الحركة الشيعية البحرينية من الداخل بتحليل عميق, يكشف فيه الكثير من خفايا هذه الحركة, فنسأل الله أن يكتب أجره وينفع به الإسلام والمسلمين.

تحرير المرأة عند العصرانيين – كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) أنموذجا

تحرير المرأة عند العصرانيين - كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) أنموذجاً عنوان الكتاب ... تحرير المرأة عند العصرانيين - كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) أنموذجاً اسم المؤلف ... الدكتور عادل بن حسن الحمد الناشر ... الدرر السنية - الظهران سنة الطبع ... ط1 - 1432هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 467 التعريف بموضوع الكتاب: ليس غريباً .. أن نستمع إلى أصوات قادمة من جهة الغرب تنادي بتحرير المرأة المسلمة من رقها - كما يزعمون - كما أننا لا نستغرب أن نجد من يردد هذه الأصوات من المحسوبين على هذه الأمة ممن تربوا في محاضن الغرب ورضعوا من لبانه, وأصبحوا يتحدثون بلسانه ويتكلمون باسمه, لكن ما يثير الاستغراب حقاً أن تظهر طائفة تتحدث باسم الدين وتوقع عن رب العالمين تلبس الباطل بثوب الحق وتزين الضلال بزينة الهدى كل ذلك باسم العصرنة والاستنارة ومواكبة للتقدم والحضارة. لقد ظل كتاب عبد الحليم أبو شقة المسمى بـ (تحرير المرأة في عصر الرسالة) ما يربو عن العقدين من الزمان يتداوله العصرانيون ويوصي بعضهم بعضاً به كما أصبح مرجعاً لكثير من الكتابات الحديثة عن المرأة وتحريرها, ولم يوجد طوال هذه الفترة من تصدى لهذا الكتاب ليوضح ما فيه من غبش ويعري ما فيه من لبس, ويبين ما فيه من أفكار تضاد هدي الإسلام وشرعه, حتى هيأ الله له الدكتور عادل بن حسن الحمد ليخرج لنا بهذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم. يتألف الكتاب من خمسة فصول تناول الأول منها في عدة مباحث قضايا عامة تؤخذ عن الكتاب كالإشكالية الرئيسية للكتاب وصورة المرأة التي يريدها المؤلف, وكيف تعامل مع المصطلحات المعاصرة, وقضية أمن الفتنة وموقفه منها. وفي الفصل الثاني: كان الحديث فيه عن منهج المؤلف في الاستدلال على الموضوعات التي تطرق لها في الكتاب فتحدث في المبحث الأول عن طريقته في اتباع المتشابه وترك المحكم, وفي المبحث الثاني تكلم عن اختلال الأمانة العلمية لديه عند التعامل مع النصوص , وفي الثالث من هذه المباحث عرى طريقته في التكلف في الاستدلال وتحميل النصوص ما لا تحتمل, أما المبحث الرابع فبين فيه موقف المؤلف من بعض الأحاديث المتعلقة بالمرأة. وتناول المؤلف في الفصل الثالث وفي ثلاثة مباحث أبرز القضايا التي حاول أبو شقة إثباتها والتأصيل لها كدعوى سنية الاختلاط بين الرجال والنساء في شتى ميادين الحياة وتجويزه للمرأة أن تظهر زينتها للرجال , وادعائه أن الحجاب مما اختصت به أمهات المؤمنين دون غيرهن, وعدم جوازه لبقية نساء المسلمين. أما الفصل الرابع فعقده المؤلف لإظهار وجه الشبه بين كتاب أبي شقة هذا وكتاب قاسم أمين المسمى بـ (تحرير المرأة) ليظهر اثنين وعشرين وجهاً من أوجه التشابه بين الكتابين. وختم المؤلف كتابه بفصل خامس أخير وقف فيه عدة وقفات مع تقديم الشيخ يوسف القرضاوي لكتاب أبي شقة. جزى الله المؤلف خير الجزاء على هذا الكتاب ونفعه به في الدارين.

خزانة الكتب لعامي 1430 - 1431هـ

خزانة الكتب لعامي 1430 - 1431هـ عنوان الكتاب ... خزانة الكتب لعامي 1430 - 1431هـ اسم المؤلف ... القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية إشراف ... الشيخ/ علوي عبدالقادر السقاف الناشر ... مؤسسة الدرر السنية ــ الظهران سنة الطبع ... 1432هـ عدد الصفحات: ... 563 نوع الكتاب ... تعريف بخمسمائة كتاب طبعت في الفترة (1430 - 1431هـ). التعريف بموضوع الكتاب: كان الكتاب ولا يزال هو المصدر الرئيسي، والنبع الأصيل لتقييد العلوم وانتقائها، وتنقيح الأفكار واتصالها، وهو من الضرورات الملحة لبناء حضارة المجتمعات على أسس سليمة. وقد ألف العلماء وطلاب العلم المؤلفات العديدة، وتواصل التأليف في مختلف العصور بمختلف الفنون، تصنيفاً وتحقيقاً ودراسة، وانتشرت طباعة الكتب، وتسابقت دور النشر في طباعتها، بغثها وسمينها؛ حتى طفحت المكتبات بها. ولا بد لطالب العلم من معرفة سمين الكتب من غثها، ونافعها من ضارها، ولن يتسنى له ذلك إلا بجهد جهيد، ووقت مديد، لكثرت المؤلفات واختلاف الطبعات. وكتاب (خزانة الكتب لعامي 1430هـ-1431هـ) الصادر عن القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية، وفّر على الباحثين وطلاب العلم الجهد والوقت لمعرفة ما استجد في الساحة العلمية من إصدارات جديدة، وتمييز حسن الكتب من سيئها، وسهّل لهم الاطلاع على كوكبة من هذه الإصدارات التي طبعت خلال عامي (1430هـ-1431هـ). والكتاب يحمل بين دفتيه تعريف بخمسمائة كتاب جديد، وهو جولة تعريفية عن الكتب التي صدرت خلال عامي (1430 - 1431هـ) ولم يحصر كل الكتب التي صدرت خلال هذين العامين، بل هو خلاصة لأهم ما طبع، وأجود ما نشر، مع ذكر عدد يسير من الكتب المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة أو احتوت على أقوال مغلوطة أو أفكار غير سديدة، لما لها من رواج وانتشار، وما أحاط بها من بهرجة وزخرفة، فبُينت حقيقة هذه المؤلفات لقارئيها. وهذا الكتاب ما هو إلا لبنة من لبنات بناء (خزانة الكتب)، الذي وضع أساسه في الماضي (1431هـ)، حيث صدر الجزء الأول منه، وسيستمر بناؤه بإصدار كتاب في كل عام, يحوي في طياته ما استجد من كتب خلال ذلك العام امتداداً لهذه السلسلة. وكانت الطريقة المتبعة في التعريف بالكتاب؛ أن تذكر بيانات الكتاب، بدءاً بعنوانه المثبت عليه، مروراً بأسماء الأعلام الذين شاركوا في الكتاب بالتأليف, أو التحقيق, أو التقديم، ثم دار النشر وسنة الطبع، ورقم الطبعة، وعدد الصفحات أو المجلدات إن كان الكتاب أكثر من مجلد. ثم بيان هدف المؤلف من كتابه، وأهم المباحث التي احتوى عليها، وربما ذُكرت بعض النتائج التي توصل إليها، مع الاعتناء بذكر الكتب التي أصلها رسائل جامعية؛ وذلك بذكر الدرجة العلمية، والجامعة التي ناقشت تلك الرسالة، والمشرف عليها، وذكر الفروق بين الطبعات في الكتب التي أعيد طبعها أو تحقيقها، والتنبيه على ما تميز به الكتاب أو لوحظ عليه. ومما يميز الكتاب توسطه في العرض، دون الإطناب الممل أو الاختصار المخل، ومراعاة أن يكون تعريف كل كتاب في صفحة مستقلة، مما يسهل على القارئ الإلمام بأهم عناصر التعريف، دون أن تختلط عليه بيانات كتاب بكتاب آخر. كما أن ترتيب الكتب كان حسب الحروف الهجائية. وختم الكتاب بفهارس علمية اشتملت على فهرس موضوعي للكتب، ثم فهرس آخر للرسائل الجامعية التي تم التعريف بها، وفهرس آخر للكتب المميزة من حيث أهمية الموضوع، أو جودة الدراسة، أو عموم النفع، أو كثرة الفوائد، أو النصح بها، ثم أُرْدِفَت بفهارس للكتب التي أعيدها طبعها أو تحقيقها، وختمت بفهارس للمؤلفين والمحققين والمشاركين. والكتاب مهم ومفيد لطالب العلم، فهو دليل له للاطلاع على أحدث ما صدر في العام (1430هـ-1431هـ)، ومعيناً له على انتقاء الكتب المفيدة وشرائها.

ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر

ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر عنوان الكتاب ... ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر اسم المؤلف ... خالد بن عبد العزيز السيف الناشر ... مركز التأصيل للدراسات والبحوث سنة الطبع ... الطبعة الأولى 1431هـ - 2010م التعريف بموضوع الكتاب: لا شك أن السعي المحموم للتجديد يدفعه ضحالة المعرفة الحقيقية بالتراث الإسلامي، والجهل بأساسيات الدين والشريعة الإسلامية ساعد على تشكّل المشاريع الثقافية المشهورة والمتبنية لنظرية التأويل الحديثة في دراسة الإسلام والنصوص الدينية، وهذه المشاريع الثقافية وغيرها السالكة على نفس الخط التأويلي الحديث اعتمدت في بنيتها الأساسية على ما أسسته المدارس الفلسفية الغربية في مرحلة ما بعد الحداثة، حتى لتبدو النظريات المستخدمة عربياً على النصوص الدينية صورة طبق الأصل لما قررته الفلسفة الغربية. وأن رسالة الوحي الموجهة إلى الإنسان والمتساوقة مع عقله رسالة ممتدة عبر الزمان والمكان، ومنهج الاستدلال من نصوص الوحي إنما يخضع لمعهود اللغة التي نزل بها النص، والآلية التي تنتج الدلالات الصحيحة من النصوص لا بد أن تخضع للمعايير والضوابط التي تحددها لغة النص. وطريقة فهم النصوص الشرعية في الفكر العربي المعاصر هي جزء من عمليات معقدة يعود في كثير منها إلى استعارة منهجيات وآليات في فهم النص ليست نابعة من المنظومة العربية التي نزل بلسانها النص القرآني. وقد قدم الباحث هذه الدراسة ليناقش هذا الفكر بنفس أسلوبه وآلياته، وقسم البحث إلى تمهيد وبابين وتحت كل باب فصول ومباحث. تناول في التمهيد مكانة النصوص الشرعية، وتعريف التأويل وتأريخه من حيث المصطلح والمنهج. ثم تناول في الباب الأول أصول النظرية الحديثة للتأويل وأسباب ظهورها، مبيناً في الفصل الأول جذور وروافد وامتدادات نظرية التأويل الحديثة. وبين في الفصل الثاني أسباب ظهور المنهج التأويلي الحديث في الفكر العربي المعاصر، وتعرض لأهم مشاريع المنهج التأويلي الحديث في قراءة النصوص الشرعية، مشروع محمد أركون: (النص وتجاذبات المناهج). ومشروع حسن حنفي: (الاغتراب الديني). ومشروع نصر حامد أبو زيد: (النص في السياق الماركسي). ومشروع محمد شحرور: (النص في السياق الرياضي). ثم ذكر في الفصل الثالث دراسة لأهم النظريات التأويلية العاملة في النص الشرعي؛ نظرية تاريخية النص، ونظرية المقاصد. ثم تناول في الفصل الأول من الباب الثاني نقد الظاهرة الحديثة للتأويل وتطبيقاتها على النصوص الشرعية في باب العقائد؛ كالألوهية، والنبوة، والوحي، والملائكة، والمعاد، والأسماء والأحكام. وتطبيقات الظاهرة الحديثة للتأويل في باب الأحكام؛ كالشريعة، والحدود، وأحكام الأسرة، والعلاقات الدولية وحقوق الإنسان. ثم بين أثر تطبيق المناهج الحديثة للتأويل على المفاهيم الشرعية؛ كالتشكيك في وثيقة النص، وأسبقية العقل على النص، وسلطة الواقع، ونزع القداسة عن النصوص الشرعية. وفي الفصل الثاني والأخير بين الموقف العلمي النقدي من نظرية التأويل الحديثة، تناول فيه نقد أساس النظرية، ونقد تطبيق النظرية على النصوص الشرعية.

تدوين علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة

تدوين علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة عنوان الكتاب: ... تدوين علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة اسم المؤلف: ... د. يوسف بن علي الطريف الناشر: ... دار ابن خزيمة للنشر والتوزيع سنة الطبع: ... 1430هـ - 2009م عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 443 نوع الكتاب: ... رسالة الدكتوراه التعريف بموضوع الكتاب: إن تدوين العلوم وتقييدها يحفظها من الزوال ويصونها من الضياع والنسيان، والتدوين من أيسر الطرق وأفضل السبل في نشر المعارف بين الناس مهما تباعدت أماكنهم، وتناءت ديارهم، وبالتدوين تنتقل العلوم عبر الأجيال، وإن طالت الأزمان ولقد حظي العلم الشرعي باهتمام علماء المسلمين منذ ظهور التدوين في العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، فأقبلوا على التأليف في العلوم الشرعية في فنونها المتنوعة، وكان من ذلك تدوينهم للعقيدة الإسلامية، فخرجت مؤلفات كثيرة، وكان التأليف في علم العقيدة قد مر بمراحل وأطوار مختلفة، وكانت للمتغيرات الزمنية والفكرية أثر بالغ في ذلك. وكان غالب مؤلفات السابقين من السلف-ممن عاشوا في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة-جامعة لأبواب الدين كله، لا يفرقون بين ما يختص بالأحكام وبين ما يختص بالعقائد، ثم ظهرت دوافع وأسباب أحوجت إلى إفراد علم العقائد بمؤلفات خاصة. وإن المتأمل في تلك المؤلفات في العقيدة الإسلامية مما تركه علماؤنا الكرام ليقف لها وقفة إجلال وتقدير، من كثرتها وتنوعها واستيعابها لمسائل علم العقيدة جليله ودقيقه. ولأجل كثرة مؤلفات العقيدة، وتنوعها وتعدد مناهج التأليف فيها، رأى المؤلف أن يحدد لتتبع تلك المؤلفات ودراستها مدة زمنية، تبدأ من الثالث الهجري إلى نهاية القرن السادس (301هـ - 600هـ) عالج المؤلف من خلال هذا البحث: محاولة تتبع من ألف من العلماء في علم العقيدة، ودراسة تلك المؤلفات، ببيان موضوعها، وقيمتها العلمية، وطبعاتها وقد تناول المؤلف من خلال بحثه أبرز أسباب التدوين في العقيدة، وذكر منها: 1 - إبراز المصادر العلمية الأصيلة للعقيدة الإسلامية، لا سيما ما يعتمد منها على الأسانيد. 2 - بيان كثرة ما ألفه علماء أهل السنة من كتب في العقيدة. وقد قسم المؤلف كتابه إلى: تمهيد وبابين وخاتمة. وذكر في التمهيد عن أهمية التدوين، والأسباب التي أدت إلى إفراد علم العقيدة بالتأليف. ولمحة موجزة عن الحالة السياسية والدينية والعلمية، في القرون الثلاثة من (301هـ-600هـ) وأما البابان فذكر في الأول منهما: قراءة لمناهج العلماء في التأليف في علم العقيدة من بداية القرن الرابع حتى نهاية القرن الخامس، وهذه المناهج قسمها إلى: مناهج المؤلفين في علم العقيدة بطريقة الأسانيد، ومناهج المؤلفين في علم العقيدة بطريقة حذف الأسانيد. وذكر في الباب الثاني: أنواع المؤلفات في علم العقيدة، وقسم هذه المؤلفات إلى: المؤلفات الشاملة لأبواب العقيدة الإسلامية، والمؤلفات في باب معين من أبواب الاعتقاد، أو مسألة خاصة من مسائله، والمؤلفات في ذكر البدع والتحذير منها والرد على المبتدعة.

التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي

التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي عنوان الكتاب ... التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي اسم المؤلف ... سلطان عبدالرحمن العميري الناشر ... مركز التأصيل للدراسات والبحوث - جدة سنة الطبع ... ط 1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 234 التعريف بموضوع الكتاب: تعددت المناهج المستخدمة في التعامل مع التراث, واختلفت الآليات الفكرية في تحليله وتفكيكه تبعاً لاختلاف المرجعيات, وتعدد المشارب, وتنوع الثقافات المعرفية التي عمد المفكرون العرب إلى الانطلاق منها مما أدى إلى تعدد بل وتناقض الإفرازات العلمية والعملية الناتجة عن تلك البحوث. ومن تلك المناهج المستخدمة في التعامل مع التراث من قبل المفكرين العرب المنهج السياسي في تفسير قضايا التراث والذي سيتناول كتاب هذه الأسبوع نوعاً منه وهو التفسير السياسي للقضايا العقدية, حيث أراد الباحث من خلال بحثه الإجابة عن حزمة من الأسئلة: ما المراد بالتفسير السياسي؟ ومتى كانت بدايته؟ وما أصناف القائلين به؟ والأهداف المتوخاة منه؟ وهل هو مطابق للأدلة التاريخية والشرعية؟ وأي من القضايا العقدية التي أُدعي فيها الدخول تحت التأثير السياسي؟ وما الأدلة على صواب أو خطأ ذلك؟ بدأ الكتاب بتمهيد عقده المؤلف لبيان الإشكاليات الأخلاقية والمنهجية في الخطاب العربي المعاصر حول التراث والذي يعد التفسير السياسي جزءً منه تشمله الإخلالات والإخفاقات الذي يعاني منها الخطاب العربي ككل, فذكر على سبيل المثال غرابة هذا المنهج واعتماده الكلي على المناهج الغربية في دراسة التراث بدعوى أن الحضارة الغربية كونية, وأن التراث الإسلامي فقير. وذكر كذلك من مواطن الخلل خفوت اللغة الاستدلالية فهو يعج بالدعاوى النظرية المفتقرة إلى أدلة تثبت صحتها, ومن ذلك الخلل أيضاً التعميم في النتائج والأحكام, وشيوع اللغة التهكمية والاستخفافية بالفكر الإسلامي والعلماء والفقهاء, والانتقائية المبعثرة الخالية من المنهجية والمعايير الواضحة في التعامل مع الأفكار والانتقاء منها وغير ذلك. وانتقل المؤلف في الفصل الأول للحديث عن حقيقة التفسير السياسي للفكر ومفهومه وتاريخه, ومنتهاه الذي يؤول إلى تجريد الفكر الإسلامي من الصبغة الدينية والمعرفية وكذلك أفعال الصحابة والحكومات الإسلامية. ثم تحدث أيضاً عن القائلين بهذا التفسير فذكر منهم أصحاب الفكر الماركسي, وأصحاب الرؤية العلمانية, وبعض اتباع الفرق الإسلامية الذين فشلت مناهجهم أمام المنهج السلفي. ثم ذكر المؤلف عدداً من أهداف هذا التفسير كالقدح في موضوعية الحقائق العقدية, ومدح الاتجاهات التي يرون أنها تسند أفكارهم, وتبرير إخفاقات الأفكار التي يرون فيها مستنداً لمناهجهم في التراث وغير ذلك. أما الفصل الثاني فعقده لبيان المضامين المعرفية الكلية التي تبطل التفسير السياسي وتقف عقبة في طريق قبوله, وذكر عدة وجوه لبيان ذلك, كما عرض في أثناء هذا الفصل لنقد التفسير المادي للتاريخ, وبين الأدلة التاريخية على استقلال علوم الإسلام عن السياسة وفي الفصل الثالث عرض المؤلف لنقد التفسير السياسي للمضامين التي اشتملت عليها عقيدة أهل السنة والجماعة, فذكر من ذلك تسييس مفهوم أهل السنة, وتسييس مصادر الاستدلال من قرآن وسنة وإجماع, وتسييس أقوال أئمة السلف في إثبات الصفات , وتسييس مواقف السلف من دعاة البدعة, وتسييس فتنة القول بخلق القرآن. وفي الفصل الرابع قام المؤلف بنقد التفسير السياسي لظاهرة الافتراق وعلم الكلام في الفكر الإسلامي, وقام بمناقشتها, ثم ذكر بعض الفرق التي سيست أقوالها كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية والجبرية والفصل القول فيها. والكتاب ماتع وننصح بقراءته.

المراكز الإسلامية في أمريكا الشمالية نشأتها – أنشطتها والأحكام الفقهية المتعلقة بها

المراكز الإسلامية في أمريكا الشمالية نشأتها - أنشطتها والأحكام الفقهية المتعلقة بها عنوان الكتاب ... المراكز الإسلامية في أمريكا الشمالية نشأتها - أنشطتها والأحكام الفقهية المتعلقة بها اسم المؤلف ... محمد موفق بن عبد الله الغلاييني تقديم ... صلاح الصاوي الناشر ... دار عمار - عمَّان سنة الطبع ... ط 1 - 1430هـ عدد الصفحات: ... 518 التعريف بموضوع الكتاب: منذ وضع المسلمون أقدامهم على أرض أمريكا الشمالية والإسلام يتنامى على تلك الأرض ويزداد انتشاره يوماً بعد يوم, ويقبل عليه الناس أفواجاً يرتضونه ديناً لهم, ويقبلونه منهجاً يسير حياتهم, حتى أصبح - بفضل الله - الدين الأوسع انتشاراً عالمياً وثاني أكبر ديانتين من حيث عدد المنتمين إليه. ولما كان العيش في بلاد كأمريكا - التي تعج بالتيارات المختلفة والأفكار المتباينة بالإضافة إلى ما فيها من تفلت عن ربقة الأخلاق بدعوى الحرية - لما كان العيش فيها له مغارمه كان لزاماً على علماء الأمة أن يحثوا الخطى إلى إيجاد سبل للمحافظة على الجاليات المسلمة من الذوبان في تلك المجتمعات, فأسست المراكز الإسلامية في عرض البلاد وطولها وأصبحت لها أنشطتها المختلفة وفعالياتها المتنوعة التي ساهمت في الحفاظ على هوية أبناء الجاليات في أمريكا. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا يتناول بالتحليل والتقويم أنشطة هذه المراكز الإسلامية تقويماً على ضوء القيم الإسلامية وأحكام الشريعة الغراء. بدأ المؤلف كتابه بإعطاء فكرة عامة عن هذه المراكز والمساجد الإسلامية الموجودة في أمريكا الشمالية, ففي الفصل الأول من الباب الأول تكلم في نبذة تاريخية عن نشأتها وتاريخ هذه النشأة, وعن تناميها في أمريكا كماً وكيفاً , كما تناول في حديثه الحالة العامة للمسلمين في تلك البلاد, وعن المنظمات والجمعيات الإسلامية فيها. وفي الفصل الثاني من نفس الباب ناقش فيه المؤلف التكييف الشرعي لملكية تلك المساجد والمراكز من حيث كونها وقفاً إسلامياً لا يجوز التصرف فيه إلا بما يتفق مع أحكام الشريعة. أما الباب الثاني والذي عدَّه المؤلف الباب الرئيسي في الكتاب فتحدث فيه عن مجموعة من المناشط التي تمارس في هذه المراكز بغرض تقييمها تقييماً إسلامياً, وقد تألف هذا الباب من سبعة فصول, فالأول منها عبارة عن مقدمة شرعية لإعطاء فكرة عامة عن المرتكزات الشرعية التي استندت إليها عملية التقويم التي قام بها المؤلف وقد اشتملت هذه المرتكزات على ثلاثة مباحث وهي: مصادر الاستنباط في الشريعة الإسلامية, وفقه الواقع, وفقه الموازنات. وأما الفصول الستة الباقية فكان الحديث فيها عن تقويم مجموعة من الأنشطة على وفق المرتكزات السابقة وهذه الأنشطة هي: الجانب الإداري, والنشاط المتعلق بشعائر العبادة, والنشاط الاجتماعي, والنشاط الدعوي والإعلامي, والنشاط السياسي, والنشاط الترفيهي. وفي الباب الثالث - وهو آخر أبواب الكتاب - فأفرده المؤلف للحديث عن الإمام من حيث واقعه والمسؤولية المنوطة به واشتمل هذا الباب على ثلاثة فصول, ففي الفصل الأول منها تحدث المؤلف عن التوصيف الشرعي لمكانة الإمام كشروط صحة إمامته, وأحقية الإمامة عند التعدد, والحديث عمن تكره إمامته وغيرها من الأحكام الشريعة. أما الفصل الثاني فكان الحديث فيه عن دور الإمام في توجيه أنشطة المساجد والمراكز, وفي الفصل الثالث تكلم المؤلف عن أحوال الإمام الراهنة فتكلم عن موقعه في دساتير المراكز الإسلامية, وعن أسباب الضعف في موقع الإمام وعلاج ذلك الضعف. والكتاب في مجمله جيد ومفيد.

ابن عربي عقيدته وموقف علماء المسلمين منه

كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ابن عربي عقيدته وموقف علماء المسلمين منه اسم المؤلف دغش بن شبيب العجمي الناشر مكتبة أهل الأثر - الكويت سنة الطبع ط1 - 1432هـ عدد الصفحات: 927 التعريف بموضوع الكتاب: إنَّ من أعظم المصائب التي أصابت الأمة الإسلامية ظهور أئمة الضلالة الذين نشروا أفكارهم وعقائدهم باسم الإسلام وهدموا أركانه، ومن هؤلاء ابن عربي الصوفي المشهور بالقول بالحلول ووحدة الوجود، وقد كان له أنصار في كل زمان ومكان يروِّجون لفكره، ويبشِّرون بمذهبه، حتى يُلبِّسوا على الناس. وجاء هذا الكتاب ليكشف عقيدة ابن عربي وأقوال العلماء في تكفيره أو التحذير منه من القرن السادس إلى القرن الثالث عشر. تناول المؤلف الدراسة في بابين، الباب الأول تضمن أحد عشر فصلاً؛ فعرَّف بابن عربي في التمهيد تعريفاً موجزا، ثم تحدث في الفصل الأول عن عقيدة ابن عربي في الله جل جلاله، وفي الفصل الثاني في عقيدته في علو الله عز وجل، وذكر في الفصل الثالث عقيدته في المشركين وعبَّاد الأوثان واليهود والنصارى، وخصص الفصل الرابع في عقيدة ابن عربي في ألوهية فرعون، والفصل الخامس جعله في عقيدته في إيمان فرعون، والفصل السادس بيَّن فيه عقيدة ابن عربي في النبوة والأنبياء والولاية، بيَّن فيه طعنه في الأنبياء منهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإلياس عليهم السلام، وذكر في الفصل السابع عقيدة ابن عربي في حقيقة النار وزعمه بأن النار تنقلب لذةً ونعيماً للكفار، ثم بيَّن في الفصل الثامن عقيدته في الجهاد، وأنه لا يرى الجهاد وقتال الكفار مطلقاً، وفي الفصل التاسع تناول التأويل الباطني عند ابن عربي، وأما الفصل العاشر فخصصه في إيراد أقوال العلماء في بيان كذب ابن عربي، والفصل الحادي عشر أثبت فيه أن ابن عربي كان يأكل الحشيش. وتناول في الباب الثاني، في الفصل الأول منه أقوال العلماء في تكفير أو تضليل أو التحذير من ابن عربي، وفي الفصل الثاني تحدث عن الكتب التي أُلِّفت في التحذير من ابن عربي، وذكر في الفصل الثالث كلام العلماء في إحراق أو إتلاف كتب ابن عربي، وأنكر في الفصل الرابع على من زعم أنَّ ثمة تأويلاً لكلام ابن عربي، وأورد فيه الردَّ على هذه المزاعم، ثم في الفصل الخامس أثبت أنَّ كتابه (الفتوحات المكية) و (الفصوص) لم يُدس فيهما شيء وأنه من كلامه، وفي الفصل السابع تحدث عن سبب اهتمام النصارى بالصوفية وبكتب ابن عربي، وخصص الفصل الثامن في من يتولى ابن عربي، ويدافع عنه. ثم ختم الكتاب برسالة وجهها إلى العلماء وطلاب العلم في بيان الحق وكشف حقيقة الباطل. وذيَّل الكتاب بفهارس علمية.

أحكام الكتب في الفقه الإسلامي

أحكام الكتب في الفقه الإسلامي كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... أحكام الكتب اسم المؤلف ... ياسين بن كرامة الله مخدوم تقديم ... الشيخ/ صالح بن عثمان الهليّل الناشر ... دار كنوز أشبيليا للنشر والتوزيع - الرياض سنة الطبع ... ط1 ـ 1431 عدد الأجزاء: ... 2 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة ماجستير قدمت إلى كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية التعريف بموضوع الكتاب: يعتبر الكتاب من أفضل ما أبدع الإنسان، وهو وسيلة تعامل وتخاطب بين الشعوب، وهو خير جليس في كل زمان ومكان، ونعم الذخيرة والعدة، وهو يمتع في الخلوة ويؤنس في الوحشة ويضحك بنوادره ويعطي ولا يأخذ، ولذلك اعتنى به الناس قديماً وحديثاً، وصار له عشاقاً، ونظموا فيه القصائد والأشعار، وألفوا فيه المؤلفات، وصار لها أحكاماً وآداباً. وكتاب: (أحكام الكتب في الفقه الإسلامي) للدكتور/ ياسين بن كرامة الله مخدوم، من الكتب التي ألّفت في هذا الصدد، حيث جمعت أحكام ومسائل الكتب في الفقه الإسلامي, وقد احتوى الكتاب على مقدمة, وتمهيد, وخمسة فصول, وخاتمة, ففي المقدمة تحدث عن عنوان الموضوع وأهميته, والهدف منه وذكر الدراسات السابقة, وأسباب اختيار الموضوع وطريقة السير في البحث. وفي التمهيد ذكر تعريف الكتب وتاريخها وأقسامها. أما في الفصل الأول فتكلم المؤلف عن أحكام الكتب في فقه العبادات، فذكر أحكامها المتعلقة بالطهارة, والصلاة, والزكاة، وتحدث عن بيعها لتحصيل الزاد في الحج، وأحكامها في الجهاد. وفي الفصل الثاني فتحدث عن أحكام الكتب في المعاملات، فذكر أحكامها في البيوع وما يتعلق بها من بيع وشراء، وأحكامها في الرهن، وحكم بيع المحجور عليه، وأحكامها في الضمان, والإجارة والعارية، وحكم جعلها في عقد الجعالة، وأحكامها في الوقف، وحكم هبتها، وبيعها للكفار، وأحكامها في الوصايا، وفي فقه الأسرة. وفي الفصل الثالث فكان الحديث فيه عن أحكام الكتب في الحدود والتعزيرات كإثبات حد القطع بسرقة الكتب والتعزير، وحكم من تبرأ من كتب العلم الشرعية, ليتحدث بعد ذلك في الفصل الرابع عن أحكام الكتب في باب الأدب والزينة، فذكر حكم افتتاح الكتب بخطبة الحاجة, وحكم تقبيلها, واستعمالها للتبرك, وتوسدها والاتكاء عليها، وحكم حرقها أو دفنها, وكيفية التخلص منها، وحكم الفتوى منها، وحكم النظر في كتب الغير, والكتب المحرمة والمبدلة, وحكم تحلية كتب العلم. ثم ذكر في الفصل الخامس حقوق التأليف والنشر والتوزيع والترجمة، فتحدث عن حقوق التأليف في التاريخ الإسلامي والتاريخ الحديث, وعرف حق التأليف, وحكمه، وأنواع الحقوق الواردة على التأليف, وحقوق النشر والتوزيع والترجمة, وما يتعلق بهم من أحكام. ثم ختم الكتاب بخاتمة احتوت على أهم نتائج البحث التي توصل إليها. والكتاب نافع ومفيد لمن أراد أن يطلع على أحكام الكتب ويعرف آدابها، نسأل الله أن يأجر مؤلفه، وينفع بكتابه الإسلام والمسلمين.

دراسة وتحقيق قاعدة الأصل في العبادات المنع

دراسة وتحقيق قاعدة الأصل في العبادات المنع كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... دراسة وتحقيق قاعدة الأصل في العبادات المنع اسم المؤلف ... محمد بن حسين الجيزاني الناشر ... دار ابن الجوزي ــ الدمام سنة الطبع ... ط1 ـ 1431هـ عدد الصفحات: ... 111 التعريف بموضوع الكتاب: لا ريب أنَّ الغاية المقصودة من الخلق عبودية الله سبحانه وتعالى، وحقيقة هذه العبودية إنما تكون باتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، والأصل في هذه العبادات الحظر والمنع، وهذا عام في أصل العبادة وشرطها وصفتها، فلا يجوز المجيء بعبادةٍ لا أصل لها، ولا اختراع صفةٍ لها، ولا اشتراط شرط فيها إلا بدليل صحيح صريح، ومن هذا المنطلق سطَّر أهل العلم قاعدة شرعية جامعة في هذا الباب ألا وهي قاعدة: (الأصل في العبادات المنع). والمؤلف في هذا الكتاب تحدث عن هذه القاعدة وحققها في دراسة جمع فيها ما تناثر من كلام العلماء حولها. تناول المؤلف دراسة هذه القاعدة في تمهيد وأربعة فصول، جعل التمهيد في بيان هل الأصل في الشريعة التعبد أو التعليل؟ وبين في الفصل الأول معنى القاعدة بشقيه الإفرادي والإجمالي وما اندرج تحتهما من معنى للأصل والعبادة والمنع، كما تناول في الفصل الثاني توثيق القاعدة، فتحدث عن صيغ القاعدة والقواعد الأصولية والفقهية ذات الصلة بالقاعدة، وأدلتها، وسياق كلام أهل العلم حولها. ثم تطرق في الفصل الثالث إلى الحديث في أثر القاعدة وتطبيقاتها؛ فبين أن أسماء الله وصفاته توقيفية وكذلك ألفاظ الأذكار، وأن الشارع نهى عن الغلو في الدين، ثم ناقش القواعد المندرجة تحت القاعدة، فذكر قاعدة لا تثبت العبادة إلا بتوقيف، وقاعدة الأصل في العبادات المقيدة الإتيان بها مقيدة، وقاعدة الأصل في العبادات المطلقة التوسعة، وقاعدة ما شرع من العبادات على وجه العموم لا يدل على مشروعيته على وجه الخصوص، ثم ذيل دراسته بخاتمة تضمنت خلاصة للدراسة. والكتاب عبارة عن غلاف صغير وهو مفيد في بابه.

أحكام الدف في الفقه الإسلامي - دراسة فقهية مقارنة

أحكام الدف في الفقه الإسلامي - دراسة فقهية مقارنة كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... أحكام الدف في الفقه الإسلامي - دراسة فقهية مقارنة اسم المؤلف ... مريم بنت ولي علي أحمد حكمي سنة الطبع ... ط1 ــ 1431هـ عدد الصفحات: ... 320 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة ماجستير تقدمت بها المؤلفة إلى جامعة الملك خالد بأبها. التعريف بموضوع الكتاب: إن ديننا الإسلامي الحنيف دين شامل كامل، صالح لكل زمان ومكان، يهتم بالفرد ويفي بجميع حاجاته ومصالحه، وكل ما من شأنه أن يعمل على سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ومما اهتم به الإسلام مسألة السماع وما خالطها من آلات لهو وطرب وغيرها، فبين الحكم الشرعي لهذه الآلات، ومنها الدف الذي وردت فيه أدلة تحدثت عن الحكم الشرعي فيه وبينت الضوابط المتعلقة به. الكتاب الذي بين أيدينا تحدثت فيه مؤلفته عن الدف بشكل دقيق ومفصل وسردت الأدلة المتعلقة به، والأحكام الشرعية, والأقوال الواردة فيه. الكتاب يتألف من تمهيد وأربعة فصول وخاتمة، ففي التمهيد ذكرت تعريف المعازف، والأقوال الواردة في حكمها, مع ذكر الراجح منها، كما تحدثت عن مدى دخول الدف في مسمى المعازف. وفي الفصل الأول: ذكرت تعريف الدف، وأنواعه, وحكم كل نوع منها، والآلات المشابهة للدف وحكمها، والفرق بين الدف وغيره من الآلات المشابهة، كما ذكرت صفة الدف عند العرب, وصفة الدف المستحدث، وشروط الدف المباح. وأما الفصل الثاني: فذكرت فيه حكم ضرب الدف وحكم اتخاذه، وحكم الدف مع غيره، وحكم ضرب الدف للرجال والنساء، وحكم سماع الدف واستماعه، وحكم احتراف ضربه، وحكم صناعته. وفي الفصل الثالث تناولت المناسبات التي يضرب فيها الدف؛ فذكرت المناسبات المتفق على جواز ضرب الدف فيها، والمناسبات المختلف على جواز ضرب الدف فيها، وذكرت أيضاً حكم الدف في المناسبات الدينية والبرامج الدعوية والإعلامية وغيرها. ثم بينت في الفصل الرابع أحكام العبادات المتعلقة بالدف من إمامة ضارب الدف, وزكاة الدفوف المعدة للتجارة، وحكم النذر بضرب الدف والوفاء به، وذكرت أيضاً أحكام المعاوضات المتعلقة به, فذكرت حكم بيع الدف وشرائه وإجارته، وحكم الشركة في ضربه وأخذ العوض عليه، كما بينت أحكام التبرعات المتعلقة به من إعارة, ووقف, ووصية، ذكرت أحكام العقوبات المتعلقة بالدف من ضمان, وحكم القطع بسرقته. ثم أنهت الفصل بذكر حكم شهادة ضارب الدف وحكم شهادة مستمعه. وختمت الكتاب بمجموعة من التوصيات، أردفتها بملاحق احتوت على صور لأنواع الدفوف، وفتاوى لبعض العلماء حول الحكم الشرعي للدف. والكتاب يعتبر مرجع في بابه، وننصح باقتنائه لما يحويه من الفائدة الجمة. سائلين المولى عزوجل أن يعظم الأجر للمؤلفة لما بذلته من جهد مشكور، وأن ينفع الله به قارئه.

الضوابط الشرعية لوقف العمل بنصوص القرآن والسنة

الضوابط الشرعية لوقف العمل بنصوص القرآن والسنة كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... الضوابط الشرعية لوقف العمل بنصوص القرآن والسنة اسم المؤلف ... عزت روبي مجاور سليم الجرحي الناشر ... دار التدمرية - الرياض سنة الطبع ... ط1 ــ 1431هـ عدد الصفحات: ... 615 نوع الكتاب ... أصل الكتاب رسالة ماجستير في الشريعة الإسلامية قدمت لكلية دار العلوم ــ جامعة القاهرة ــ قسم الشريعة. التعريف بموضوع الكتاب: إن الشريعة الإسلامية جاءت لجلب المصالح للإنسان, ودرء المفاسد عنه، فهي نور يبصر به السائرون، وهداية يهتدي به المهتدون، وفي تعطيل أحكامها اضطراب أحوال الأمة وشقاؤها، فلا يجوز لبشر من البشر أن يعطلها أو يلغيها, أو يوقف العمل بها وقفاً نهائياً، إنما توقف وقفاً مؤقتاً بضوابط شرعية، وهذا الوقف لا يملكه إلا الأمراء والعلماء من مفتين وقضاة بشروطهم. وقد اهتم بعض العلماء والباحثين بدراسة هذه الضوابط, وتبيين شروطها ومناقشتها، بأدلة شرعية مستقاة من الكتاب والسنة، ومن ضمن الكتب المؤلفة في هذا الجانب هذا الكتاب الذي بين أيدينا, حيث بيّن فيه المؤلف أن الوقف الدائم للنص هو تعطيله وإلغاؤه وهذا غير متحقق، وأن شرط الوقف المؤقت هو كي لا يزل الناس، كما بيّن الضوابط التي على أساسها يمكن إيقاف بعض النصوص وقفاً مؤقتاً إذا تحقق شرط الوقف. وقد سار الباحث في تقسمه للكتاب على الطريقة العلمية المتبعة فقسمه إلى مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة، متفرعة إلى فصول, ومباحث, ومطالب, فتحدث في الباب الأول - الذي احتوى على خمسة فصول- عن مقدمات أصولية على طريق الدراسة، فابتدأها بمدخل بيّن فيه سبب إيراد هذه المقدمات، ثم عرف ببعض المصطلحات المهمة مثل النص والقياس والاجتهاد والتأويل وغيرها. ثم تحدث عن القرآن الكريم فعرفه, وذكر حجيته وخصائصه، وثبوته وقراءاته، ووجوه إعجازه، ودلالاته على الأحكام، ليتطرق بعد ذلك إلى الحديث عن السنة, فعرفها وذكر حجيتها وأقسامها، وأعقب ذلك بذكر المصلحة المرسلة فعرفها في اللغة والاصطلاح، وذكر حجيتها وشروط العمل بها، ثم ذكر مقاصد الشريعة, وعلاقة المصلحة المرسلة بها, وإمكانية تعارضهما، ثم أردف ذلك بالحديث عن العرف؛ فعرفه, وذكر أنواعه, وأحكامه, وعلاقته بالمصلحة. لينتقل بعد ذلك إلى الباب الثاني فقسمه إلى تمهيد وأربعة فصول، وبدأ بتعرّيف الوقف لغة واصطلاحاً وذكر مقصود البحث منه، ثم ذكر مفهوم الوقف قديماً وحديثاً، فذكر مفهومه عند الصحابة والفقهاء، وبين علاقته بالمصلحة المرسلة, وعلاقته بذهاب المحل وفقد الشرط، وعلاقته بالتأويل والعرف، وتحدث عن مفهومه عند المعاصرين، وذكر شبه القائلين بالوقف الدائم، ثم أردف ذلك بذكر عدم تطرق القدامى للوقف الدائم لا لفظاً ولا معنى، ثم ذكر حجية الوقف، وعدّد شروط حجية الوقف المؤقت، وبيّن أن الوقف الدائم لا حجية له وأنه محرم وأن القائل به يكفر، ثم تحدث عن مدى الوقف المشروع, وذكر الوقف في المعاملات ومقاصدها المختلفة, وأورد أمثلة على الوقف في المعاملات، وناقش الوقف في السياسة الشرعية ومثل له. وتحدث في الباب الثالث عن ضوابط الوقف الشرعي, وشروط الواقف؛ وذلك في فصلين، ابتدأ الفصل الأول منها بتمهيد عرّف فيه كل من الضابط والقاعدة والنظرية في اللغة والاصطلاح، وبيّن الفرق بينها، ثم ثنى ذلك بمناقشة ضوابط الوقف الشرعية، وأفرد كل ضابط بمبحث مستقل ناقش فيه كل ضابط بصورة جيدة، ثم ختم ذلك بذكر الموقفون وشروطهم، وبيّن فيه الذين في سلطتهم الوقف وهم الأمراء والعلماء، وسرد الشروط الواجب توافرها في كل من أولي الأمر والقضاة وأهل الفتوى. ثم ختم كتابه بخاتمة ذكر فيها أهم النتائج والتوصيات. والكتاب ثمرة جهد ملموس، نرجو من الله يكتبه في ميزان حسنات مؤلفه، وأن ينفع به.

السرقة الإلكترونية

السرقة الإلكترونية كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... السرقة الإلكترونية اسم المؤلف ... ضياء مصطفى عثمان تقديم ... د/ حسام الدين عفانة الناشر ... دار النفائس سنة الطبع ... ط1 ــ 1432هـ عدد الصفحات: ... 223 نوع الكتاب ... أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير في كلية الشريعة بجامعة اليرموك. التعريف بموضوع الكتاب: جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، فأباحت للفرد ما فيه مصلحته ونفعه، وحرمت عليه ما فيه ضرره، وحفظت حقوق الناس وأعراضهم، وعاقبت من يعتدي عليها، وجعلت لذلك الضوابط والحدود، فمن الأشياء التي حرمتها الشريعة وجعلت لها حداً، السرقة؛ فقد أمر الشارع بقطع يد السارق، إذا تحققت فيه الشروط، أياً كان، لكننا في العصر الحديث مع التطور العلمي والتقني، ظهرت سرقة من نوع جديد، وهي (السرقة الإلكترونية)، لذا فالناس بحاجة ماسة لمعرفة أحكامها الشرعية، فأخذت اهتمام بعض الباحثين، وتناولوها من الجوانب الشرعية. وكتابنا هذا أبرز مفهوم السرقة الإلكترونية، وبين خطورتها، وذكر أهم صورها وتطبيقاتها وحكم كل صورة، كما تطرقت الدراسة للسمات الأساسية للسرقة الإلكترونية، وأظهرت أهم أركان جريمة السرقة. وقد قسم المؤلف الكتاب إلى فصلين تسبقهما المقدمة فالتمهيد، تناول في التمهيد شبكة المعلومات الدولية والجرائم الإلكترونية؛ تعريفها، وخصائصها، ومجالاتها، ونشأتها، وذكر في الفصل الأول السمات الأساسية للسرقة الإلكترونية، عرَّف فيه السرقة وأنواعها وحكمها وأركانها وشروطها، وعرَّف السرقة الإلكترونية، ودوافعها، وذكر خصائصها، وبين أركان جريمة السرقة الإلكترونية وطرقها، وعرَّف المال وأقسامه، وعلاقة المنافع به، ومدى وصف المال على المعلومات. أما الفصل الثاني خصصه في أنواع السرقة الإلكترونية ومدى انطباق شروط السرقة عليها؛ تحدث فيه عن حق التأليف وتعريفه ومدى اعتباره شرعا، وعرَّف بالحرز، ومدى اعتبار الحاسب الآلي حرزا، كما تناول سرقة البرامج ومدى انطباق شروط السرقة عليها، وتناول بطاقة الائتمان، وسرقة البريد الإلكتروني، وخدمة الشبكة اللاسلكية، ومدى انطباق شروط السرقة على هذه الأنواع. ثم توصل الباحث إلى أن المعلومات تعد أموالاً متقوّمة لها قيمة عند الناس ويجوز الانتفاع بها، ويعد الحاسب الآلي ببرامج الحماية حرزاً يحرم انتهاكه، وأن شروط السرقة يمكن أن تنطبق على سرقة البرامج، وكذلك على بطاقات الائتمان وخدمة الشبكة اللاسلكية. والدراسة مهمة كونها من الدراسات التي تتحدث عن موضوع مستحدث، يجهل أحكامه الكثير من أفراد المجتمع. نسأل الله أن ينفع بها.

نظرية الوسائل في الشريعة الإسلامية

نظرية الوسائل في الشريعة الإسلامية كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... نظرية الوسائل في الشريعة الإسلامية اسم المؤلف ... أم نائل محمد العيدبركاني الناشر ... دار ابن الجوزي ـ بيروت سنة الطبع ... ط1 ــ 1430هـ عدد الصفحات: ... 585 التعريف بموضوع الكتاب: لا شك أن للوسائل أهمية بالغة لا تقل عن أهمية المقاصد، إذ أنها هي الموصلة والمحققة لها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لذلك فللوسائل علاقة وطيدة بالمقاصد، وتعد أحد دعائم نظريتها، كما أن لها علاقة بالعلم الشرعي سواء كان تكليفياً أو وضعياً. ويقصد بالوسائل الطرق المفضية إلى المقاصد. وقد تناولت المؤلفة موضوع الوسائل وموقعه في منظومة أصول الفقه، وبيان أهمية العلاقة بين الوسائل والمقاصد وأنه لا غنى للمقاصد عن الوسائل. واعتمدت في دراستها على منهج متعدد الجوانب، حيث استقرأت ما كتبه العلماء بخصوص الوسائل قديماً وحديثاً، وحللتها من مختلف الجوانب، وبينت علاقتها ببعض المباحث الأصولية كالحكم الشرعي والمقاصد والاجتهاد والأدلة التبعية، وغيرها. وعلى الطريقة العلمية المتبعة فقد قسمت المؤلفة هذا الكتاب إلى مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة، فابتدأت بمقدمة تمهيدية ذكرت فيها أسئلة البحث وأهدافه وأسباب اختياره، وذكرت منهجيتها في البحث وتطرقت لبعض التعريفات. أما الباب الأول فتناولت فيه التأصيل الأصولي للوسائل في الشريعة الإسلامية، وقسمته إلى فصول، ذكرت في الفصل الأول تعريف الوسائل والذرائع وحجيتها والفرق بينها وبين المقدمة والتوابع، وفي الفصل الثاني عددت أقسام الوسائل وتطرقت لذكر حكم هذه الوسائل، أما الفصل الثالث فتناولت فيه خصائص الوسائل وشروط اعتبارها وإلغائها. وكان الباب الثاني حول أبعاد نظرية الوسائل على مستوى الحكم الشرعي ومقاصد الشريعة، وفرَّعت الباب إلى فصول، احتوى الفصل الأول منها على تعريف للحكم الشرعي، وعلاقة الوسائل بكل من الحكم التكليفي والوضعي، بينما احتوى الفصل الثاني على تعريف للمقاصد والفرق بينها وبين الوسائل وبيان أهميتها، وعلاقتها بها، وذكرت خصائص الوسائل مع المقاصد، وفي الفصل الثالث ذكرت تعريف كل من النية والعزم والإرادة والقصد، وعلاقة الوسائل بمقاصد المكلف، وختمت الباب بالحديث عن الوسائل والحيل فعرفت الحيل، وذكرت الفرق بينها وبين المخارج والمعاريض، وعددت أقسام الحيل وذكرت ضوابط العمل بالمخارج. وكان الباب الثالث حول أبعاد نظرية الوسائل على مستوى الاجتهاد والأدلة المختلف فيها، واندرجت تحته فصول تناول الفصل الأول الوسائل والاجتهاد فعرفت الاجتهاد وذكرت أقسامه ووسائله، وتطرقت لذكر الاجتهاد الجماعي، ثم ذكرت في الفصل الثاني: تعريف سد الذرائع وأقسامها وتعريف الاحتياط وموقف ابن حزم منه وتحرير محل النزاع في سد الذريعة، وعلاقة سد الذريعة بالوسائل، وعرّفت المصلحة المرسلة والاستصحاب وبيّنت علاقة كل منهما بالوسائل، ثم عرفت الاستحسان وذكرت أقسامه، وحررت محل النزاع فيه، وبينت علاقته بالوسائل، ثم ذكرت تعريف العرف والاحتجاج به وعلاقته بالمصلحة وعلاقته بالوسائل. أما الباب الرابع فناقشت فيه مذهب (الغاية تبرر الوسيلة) وجاءت بتطبيقات وقواعد للوسائل، فناقشت في الفصل الأول من الباب مذهب الغاية تبرر الوسيلة، وذكرت مفهومها عند ميكافيللي، وذكرت علاقة الضرورة والحاجة بـ (الغاية تبرر الوسيلة)، وعلاقة الوسائل بالمشقة والرخص، وحكم كل من المشقة والرخص، وفي الفصل الثاني ذكرت نماذج تطبيقية معاصرة على وسائل حفظ الكليات الخمس، فتحدثت عن إثبات الهلال بالحساب الفلكي، وزراعة الأعضاء، والتلقيح الاصطناعي، وتوجيه العلم، والاستثمار الإسلامي، أما الفصل الثالث فقد ذكرت فيه قواعد الوسائل الخاصة بكل من المقاصد والمقاصد التابعة ومقاصد المكلف، والحكم الشرعي والاجتهاد، ثم تطرقت لذكر قواعد متنوعة. وذكرت ما توصلت إليه من النتائج، وأردفت الكتاب ببعض الملاحق ذكرت فيه قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، وتضم هذه الملاحق؛ توحيد بداية الشهور القمرية، وزراعة الأعضاء، وانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، والتلقيح الاصطناعي، وأطفال الأنابيب، وبيع المرابحة. شكر الله للمؤلفة وأجزل لها المثوبة، ونفع بها الإسلام والمسلمين.

مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية.

مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية. عنوان الكتاب ... مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية. اسم المؤلف ... د. محمد بن عبد الهادي الشيباني. الناشر ... دار طيبة للنشر والتوزيع. سنة الطبع ... ط 2/ 1430. عدد الصفحات: ... 819. نوع الكتاب ... رسالة ماجستير مقدمة إلى قسم: التاريخ الإسلامي، بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وكانت بإشراف د. أكرم ضياء العمري، ونوقشت بتاريخ 13/ 7 / 1413، وأجيزت بتقدير ممتاز. التعريف بموضوع الكتاب: تاريخ المسلمين مثل غيره من تواريخ الأمم والشعوب، يتأثر ببعض المنعطفات المهمة، والحوادث الخطيرة، التي تشكل مسارا في تحديد المستقبل، ومثل تلك الأحداث ربما تكون أكثر من غيرها عرضة لتغيير الحقائق وتشويهها، وتلفيق الأكاذيب والافتراءات، وذلك حتى يتم للحاقدين مرادهم، وتتحقق لهم مقاصدهم. ولقد كان الخلاف قائما على أشده حول يزيد بن معاوية، فبين مادح وقادح، وبين مترحم ولاعن، وكان الاختلاف أيضا يدور حول معركة الحرة ونتائجها وأسبابها، وكانت أغلب المؤلفات تورد هذه الحوادث باقتضاب شديد، أو يكون بحثا يعالج تلك الفترة بدافع العاطفة دون اتباع منهج معين في الحكم على الحوادث. لذا جاء هذا البحث بعنوان: مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية: دراسة نقدية للروايات. وكانت الغاية من هذا البحث، بيان كل الجوانب المتعددة المتعلقة بشخصية يزيد، ومدى الصحة والخطأ في تعامله مع الأحداث ومجابهته لها. وقد جاء هذا المبحث في خمسة فصول .. وقد مهَّد المؤلف لذلك ببيان منهج دراسة التاريخ الإسلامي. ثم تناول في الفصل الأول حياة يزيد بن معاوية وصفاته، وتحدث عن أعمال يزيد في حياة والده. وأما الفصل الثاني فقد كان عن بيعة يزيد بن معاوية، من حيث بداية التفكير في بيعته من قِبَلِ والده معاوية رضي الله عنه، وأخذه البيعة لابنه من أهل الشام والمدينة، كما أوضح المؤلف الأسباب التي دعت معاوية رضي الله عنه لأخذ البيعة لابنه يزيد، وذلك من الناحية السياسية والاجتماعية والشخصية، ثم تناول الانتقادات الموجهة لمعاوية بشأن هذه البيعة وفند كل اتهام. وتحدث المؤلف في الفصل الثالث عن معارضة الحسين بن علي رضي الله عنهما، وذلك من عدة جوانب، فأوضح موقف الحسين من تنازل أخيه الحسن بالخلافة لمعاوية. وكذلك خروج الحسين إلى مكة بعد وفاة معاوية، والرسائل التي تبادلها الحسين مع الكوفيين. وكذلك تمصير الكوفة وتطورها السكاني، ثم تحدث عن خروج الحسين إلى الكوفة، وموقف يزيد من الأحداث والتطورات التي تجري في الكوفة، وأوضح التدابير التي اتخذها أمير الكوفة عبيد الله بن زياد، للقضاء على بوادر التمرد الشيعي في الكوفة. وتكلم عن معركة كربلاء، وموقف يزيد من مقتل الحسين، ومن أبنائه وذريته، وتحدث عن مكان وجود رأس الحسين، ثم ختم هذا الفصل بالكلام عن نتائج معارضة الحسين رضي الله عنه. جاء الحديث في الفصل الرابع عن معركة الحرة، حيث تحدث فيه المؤلف عن معارضة أهل المدينة وأسبابها، وذكر مطالب أهل المدينة، وكيفية مواجهتها، وتعرض أيضا لأعمال مسلم بن عقبة المري - قائد الجيش الشامي- بأهل المدينة، وعن تقويم حركة أهل المدينة على إثر نتائج معركة الحرة، وعن العبر التي تستفاد من معركة الحرة. وتكلم المؤلف في الفصل الخامس عن معارضة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه مبينا موقف ابن الزبير من بيعة يزيد بن معاوية، وبين أسباب خروج ابن الزبير إلى مكة، وتحدث عن جهود يزيد السلمية لاحتواء معارضة ابن الزبير، كما تحدث عن حملة عمرو بن الزبير، وحملة مسلم بن عقبة، وحادثة حريق الكعبة، ثم بين المؤلف النتائج والعبر المستفادة من معارضة ابن الزبير، وختم الفصل بمناقشة مجمل الاتهامات التي وجهت إلى يزيد بن معاوية ووالده رضي الله عنه، والتي شككت في إسلامهما .. ثم جعل الخاتمة محتوية على نتائج هذا البحث.

قراءة في خطاب النهضة إشكالات وتساؤلات

قراءة في خطاب النهضة إشكالات وتساؤلات عنوان الكتاب ... قراءة في خطاب النهضة إشكالات وتساؤلات اسم المؤلف ... الدكتور محمد الفقيه الناشر ... مركز التأصيل للدراسات والبحوث - جدة سنة الطبع ... ط 1 - 1430هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 151 التعريف بموضوع الكتاب: ظهرت النهضة في العالم الإسلامي وظهرت معها كثيرٌ من الأطروحات التي كانت في مجملها تشكل سجالاً بين تيارين التيار المحافظ المتمسك بالهوية, وتيار المستنيرين الذين يرون أن التيار الأول يشكل عقبة كؤوداً أمام التقدم والتحضر, وسار هذان التياران في خطين متوازيين دون أي محاولة للالتقاء, أو تجديد الخطاب والبحث عن مفاصله المؤثرة بعيداً عن السجال الذي أنهك القوى واستنفذ الطاقات. (قراءة في خطاب النهضة إشكالات وتساؤلات) كتاب أراد منه مؤلفه أن يعيد النظر ويجدد القراءة بشيء من التأني لخطاب النهضة, بهدف الوصول إلى مفاصله ومثار الإشكالات فيه. ومن ثم بناء منهجية واضحة لهذا الخطاب. نستطيع من خلالها فهم هويتنا وتحديد موقعها وعلاقتها من الإشكالات المعاصرة, ما لم فإننا سنبقى مرتهنين لدوامة السجال الغير منقطع دون أن نخرج برؤية واضحة أو نخطو خطوة للأمام. وقد تحدث المؤلف عن الصدمة التي حصلت مع أول اتصال بالغرب والتي أشعرتنا بالدونية والانبهار والمبالغة في تعظيم الغرب وبين أننا ما زلنا نعيش مع الواقع معاملة المصدوم الذي لم يستفق بعد. كما تكلم عن الغرب الذي اعتبره الخصم والنموذج , فهو الخصم الذي يحاول أن يذيبنا فيه, وهو النموذج الذي يحاول كثير من أبناء الأمة الذوبان فيه ولو على حساب الدين. كما تكلم عن السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وبين أننا اختزلنا المشكلات في دوائر ضيقة وتوسعنا في الإجابات كل من منظوره وعقليته التي يفكر بها. وبين أن من أهم الأشياء التي أضرت بخطاب النهضة انعدام النظريات والرؤى الكلية التي تنطلق منها الفروع الجزئية. وبين أن من أهم ما جعل موجة التغريب تنجح في مجتمعاتنا هو انعدام النظريات المستقاة من الدين والمتوافقة مع متطلبات العصر. وأظهر المؤلف استغرابه من وجود الانفصام بين النهضة والهوية بحيث ظن البعض أن النهضة لا تتأتى مع تمسك المجتمعات بهويتها. وتكلم المؤلف عن شكل الدولة الذي اتخذ محوراً رئيساً في خطابات النهضة, والذي كان محل اهتمام جميع الأطياف بدون استثناء وأردف ذلك بالدعوة للدراسة المستوعبة لطبيعة المجتمع المسلم, حيث أنه وبمعرفة طبيعة المجتمع من جميع جوانبها نستطيع أن نصل إلى مشكلاته الرئيسية التي أعاقته على وجه الخصوص, لنضع لها الحلول الملائمة. بعد ذلك أوضح المؤلف أن قراءة التاريخ لا تقتصر على المتعة أو الثقافة بل تتعداها إلى ما هو أنفع وأجدى وهو دراسة التاريخ والتعلم من التجربة التي أوصلت إلى نتيجة حسنة أو سيئة, ونقوم بربط الحاضر بالماضي وأن لا نحاول استنساخ النتيجة دون وعي بالتجربة. ثم تكلم عن الطبقية الثقافية والتي ترى أن عجلة الحياة بدون أفكارها لن تسير ولن تتقدم, وأنهم هم الحلقة الأهم في المجتمع ودعاهم إلى النظر إلى قضايا الناس واحترام عقولهم وتحديثهم بما يفهمون, واحترام دين الأمة وثوابتها. ثم ختم المؤلف كتابه بالحديث عن الفجوة التقنية والتي أشعرت المجتمع المسلم بالدونية وهو يقارن نفسه مع غيره, وبين أن التقنية لها أثر واضح في تغيير الهوية إذ أن التقنية تحمل هوية صانعها وذوقه وشكل حياته, ولقد كان تأثيرها واضحاً جداً على مجتمعاتنا, وأصبح كل من تحدث عن أثر التقنية على هوية المجتمع يرمى بالتخلف والرجعية. والكتاب فريد في بابه.

الجامع لأحكام الحج والعمرة

الجامع لأحكام الحج والعمرة عنوان الكتاب ... الجامع لأحكام الحج والعمرة (ابن قدامة - النووي - ابن تيمية - ابن القيم - ابن سعدي - محمد بن إبراهيم - الشنقيطي - ابن باز- ابن عثيمين) المؤلف ... عبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي تقديم ... الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ الناشر ... دار الذخائر - دار ابن الجوزي سنة الطبع ... 1428هـ / ط الثانية عدد الصفحات ... 755 التعريف بموضوع الكتاب: إن للحج والعمرة أحكاماً كثيرة، وعلى من أراد أداء مناسك الحج والعمرة أن يتعلمها، لكي لا يرتكب خطأ أو يقع في محظور أثناء أداء تلك المناسك، وليكون حجه مبروراً، وعمله مقبولا. وقد صنف كثير من العلماء كتباً جمعوا فيها شتات المسائل المتعلقة بالحج والعمرة وقربوها لطلابها؛ وقد حاول الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن علي الهرفي في كتابه (الجامع لأحكام الحج والعمرة) جمع وتلخيص آراء واجتهادات العديد من جهابذة العلماء المعتبرين والمقتدى بهم، بغرض تيسير الوصول إلى أقوال العلماء المعتبرين في أحكام مناسك الحج والعمرة. فقام المؤلف بقراءة مجموعة من الكتب التي تناولت أحكام الحج والعمرة؛ سواء كانت مفردة في الحج والعمرة أو غير مفردة، مما تكثر عناية طلبة العلم بها؛ ملخصاً لها، وهي: المغني لابن قدامة المقدسي، ومنسك النووي، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ومنسكه، وكتب ابن قيم الجوزية، ومؤلفات عبدالرحمن السعدي، وما كتبه محمد بن إبراهيم آل الشيخ في مسائل الحج والعمرة، وأضواء البيان للشنقيطي، وفتاوى ابن باز، وكتاب الشرح الممتع لابن عثيمين. وقد قسم الباحث كتابه إلى تسعة مباحث، وأفرد كل مبحث من المباحث بذكر اجتهادات كل عالم، وقدم هذه المسائل بترجمة للعالم تتضمن اسمه ونسبه ومولده ونشأته العلمية وشيخه ومؤلفاته ونشاطه العلمي إلى غير ذلك. وقام المؤلف بجمع الفوائد التي يراها مناسبة على هيئة فقرات لتظهر كل مسألة على حدة. كما كان حريصاً على إظهار ما يدل على رأي العالم مثل قوله: (الراجح) أو (الصحيح)، أو (هذا الذي يقتضيه النظر) أو (الأقرب) وغيرها من العبارات، وكان يثبتها في بداية الكلام. ولم يتطرق إلى ذكر الأدلة إلا فيما ندر للاختصار، وأحال من أراد الدليل على أصل الكتاب المنقول عنه. وكان حريصاً على عزو كل فقرة ينقلها إلى صفحتها من نفس الكتاب وطبعته، فوثّق النقل وقرب المسائل. كما راعى في التلخيص أن يكون وفق ترتيب الكتاب المنقول عنه بغض النظر عن ترتيب المسائل. وبالنسبة لتخريجه للأحاديث فقد قام بتخريجها تخريجاً يسيراً، بعزو الأحاديث لمن أخرجها، وتطرق لذكر حكم بعض العلماء على الأحاديث إن وجد. وقد أحسن المؤلف حين عمل للكتاب فهرسا للفوائد، ورتبه على المسائل العامة في الحج، وتحت كل مسألة عامة ما يتفرع منها من المسائل، كما أشار إلى كل عالم تكلم في هذه المسألة في نهايتها. وليت المؤلف قام بترتيب كتابه وفق ما جاء في هذا الفهرس، فجمع في كل مسألة قول كل عالم واختياراته ليستطيع القارئ المقارنة بين الأقوال، ومعرفة ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، بدلاً من إفراد اختيارات واجتهادات كل عالم على حدة، مع ترتيب مسائله. وعلى كل حال فالكتاب مفيد في بابه، ويحتاج إليه كل من قصد بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة، لاحتوائه على شتات المسائل المهمة، والتي تبين حكمها الشرعي ورأي العلماء المعتبرين فيها والتي بلغت 1996مسألة. نسأل الله أن يثيب المؤلف، وأن ينفع بكتابه الإسلام والمسلمين.

الموسوعة الميسرة لقاصد مكة المكرمة

الموسوعة الميسرة لقاصد مكة المكرمة عنوان الكتاب ... الموسوعة الميسرة لقاصد مكة المكرمة اسم المؤلف ... وليد بن صالح الحجاج تقديم ... د/ خالد بن علي المشيقح - د/ خالد بن عبد الله المصلح سنة الطبع ... 1430/ ط الأولى عدد الأجزاء: ... 2 التعريف بموضوع الكتاب: الحج ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه العظام، وقد أفرده كثير من أهل العلم بالتأليف، بياناً لأحكامه وتفصيلا لمسائله، فضلاً عما احتوته كتب الفقه من أبواب الحج، ومن الكتب المعاصرة المفردة في الحج كتاب (الموسوعة الميسرة لقاصد مكة المكرمة) لوليد بن صالح الحجاج، ويتميز هذا الكتاب بأنه يشتمل على أكثر من ألف مسألة من مسائل الحج والعمرة عدا المعلومات التاريخية والجغرافية وغيرهما، فهو كتاب جامع لمسائل الحج وأحكامه وغير ذلك، مع حسن الترتيب وسهولة العبارة، واستخدامه للجداول الميسرة التي تشتمل على مسائل الحج والعمرة وأحكامها وأدلتها أو تعليلها ومن قال بها من أهل العلم. وعن الطريقة الإجمالية لترتيب محتويات هذا الكتاب، فقد قسمه المؤلف إلى أقسام بدأها بالمقدمات ثم المسائل والأحكام ثم الفوائد والتوجيهات ثم الملحقات. وهذا تفصيل لهذه المحتويات: في المقدمات والتي يمثلها الباب الأول وهو: ما قبل السفر إلى مكة وتحته أربعة فصول وهي: الفصل الأول: من آداب السفر للحج والعمرة. وفيه ثلاثة مباحث تشتمل على آداب ما قبل السفر للحج والعمرة وأثناء السفر وعند الرجوع من السفر. الفصل الثاني: مقدمات في الحج والعمرة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: مقدمات في الحج، واشتمل على تعريف الحج وبعض المعلومات عن حج النبي صلى الله عليه وسلم وحكم الحج وحكمته وشروط الحج والعمرة وأركان الحج وواجباته وسننه وتكراره بالإضافة إلى مسائل أخرى زادت على الثلاثين. والمبحث الثاني: مقدمات في العمرة، واشتمل على تعريف العمرة وفضلها وحكمها وأركانها وواجباتها وسننها ووقتها وتكرارها إلى غير ذلك من مسائل، والتي بلغت سبع عشرة مسألة. وفي الفصل الثالث وهو: موسوعة الأماكن والمواضع للحاج والمعتمر، ذكر فيه المواقيت والمشاعر والحرم ومكة والمسجد الحرام والكعبة. وفي الفصل الرابع وهو بعنوان: موسوعة الأيام والأعمال للحاج والمعتمر، تكلم فيه عن أيام الحاج وأوقاته كالأيام المعلومات والمعدودات وأيام التشريق والتروية وعرفة إلى غير ذلك، وفي أعمال الحاج والمعتمر توسع في الكلام عن الإحرام والتلبية والإهلال والاضطباع والرمل والطواف إلى غير ذلك. ثم انتقل المؤلف إلى القسم الثاني من الكتاب وهو المسائل والأحكام والذي جعله تحت الباب الثاني وفيه ستة فصول: الفصل الأول: نصوص في المناسك وذلك من القرآن ومن السنة. والفصل الثاني: مسائل وأحكام في المواقيت والإحرام، وناقش فيه ما يتعلق بالمواقيت والإحرام والتلبية والاشتراط عند الإحرام ووجوه الإحرام. وأما الفصل الثالث فهو مسائل وأحكام في محظورات الإحرام. وأما الفصل الرابع فهو مسائل وأحكام في: الطواف - السعي - الحلق والتقصير. والفصل الخامس مسائل وأحكام في يوم عرفة وما بعده. والفصل السادس مسائل وأحكام في الحائض والنفساء - الصبي في المناسك - الفوات والإحصار. ثم انتقل المؤلف إلى القسم الثالث من أقسام الكتاب وهو فوائد وتوجيهات للحجاج والمعتمرين، وخصص لها الباب الثالث من كتابه واشتمل على أذكار وأدعية في الحج والعمرة وأيضا فوائد وفرائد في المناسك، وذكر جملة من أحاديث المناسك التي ظاهرها التعارض، وبيَّن بعض حكم المناسك والوقفات التربوية في المناسك، ونبَّه على أخطاء الحجاج والمعتمرين والبدع الواقعة في المناسك. وفي الباب الرابع وهو ملحقات الكتاب تناول فيه- من خلال مبحثين- أحكام زيارة المدينة النبوية، ومراجع في المناسك من كتب- أشرطة- أقراص حاسوبية- مواقع على الشبكة، وذلك لمن أراد التوسع. وبعد هذا العرض لمحتويات الكتاب نقول: إن الكتاب كاسمه موسوعة في الحج والعمرة، جمع فيه مؤلفه كثيرا مما يتعلق بالحج والعمرة من أحكام وفوائد وآداب ومعلومات تاريخية وجغرافية وغير ذلك، فهو كتاب جامع ومفيد، نسأل الله أن ينفع به.

النوازل في الحج

النوازل في الحج عنوان الكتاب: ... النوازل في الحج اسم المؤلف: ... علي بن ناصر الشلعان الناشر: ... دار التوحيد - الرياض سنة الطبع: ... ط 1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 704 نوع الكتاب: ... أصل هذا الكتاب رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه من قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التعريف بموضوع الكتاب: مما لا شك فيه أن كل عصر من العصور لا يخلو من مسألة حادثة، ومعضلة نازلة، في كل ركن من أركان الدين، ينبري لها أهل العلم بالشرع لحل ما غمض، وإلحاقها بأصلها، وبيان حكمها، ومن ذلك ما حصل في هذا العصر من نوازل شملت أكثر أبواب الفقه، ومن هذه الأبواب ((كتاب الحج)) الذي كثرت فيه المسائل وتفرعت. أشار مؤلف الكتاب إلى أسباب كثرة النوازل في الحج، فذكر منها: 1 - ما أوجدته هذه القفزة الحضارية الهائلة من تطور في وسائل المواصلات أدى إلى كثرة الحجاج واكتظاظ المشاعر بهم. 2 - ما ترتب على ذلك من الحاجة الماسة للمشاريع والتحسينات في مشاعر الحج لاستيعاب هذه الأعداد الهائلة. 3 - وقوع كثير من الحجاج في أنواع من المخالفات نتيجة الجهل والزحام الشديد. 4 - وجوب اجتماع الحجاج في مكان واحد محصور كما أن بعض المناسك محددة بزمن معين ابتداء وانتهاء مما أدى إلى كثرة النوازل. ثم تكلم المؤلف عن أهمية الموضوع في نقاط أبرزها: 1 - أن هذا الموضوع يتعلق بركن من أركان الإسلام, وله أثر على المستويات المختلفة. 2 - يتميز الحج عن سائر الأركان الأخرى بكثرة نوازله وتجددها. 3 - أن بعض هذه النوازل تسبب في عدم قدرة المسلمين على أداء هذا النسك بسبب كثرة الحجاج، مما أدى إلى وضع نسب معينة لأعداد الحجاج واشتراط سن معين لمن يحج، فلزم بيان الحكم الشرعي في ذلك، وبيان حد القدرة على الحج والاستطاعة عليه. وقد تناول المؤلف المسائل والمستجدات الطارئة التي لم توجد في العصور السابقة، والمسائل التي تكلم عنها الفقهاء السابقون، ولكن طرأ عليها ما يستدعي إعادة النظر والاجتهاد فيها. فذكر تعريف النوازل وبيان ضابطها، وأثر النوازل في تغير الجتهاد، ثم ذكر نوازل الاستعداد للحج، ونوازل المواقيت والإحرام، ونوازل الطواف والسعي -وتوسع في الحديث عن السعي في المسعى الجديد-، ونوازل عرفة ومزدلفة ومنى، ونوازل أعمال يوم العيد وأيام التشريق، ونوازل شدة الزحام وأسبابه. إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق ذكر حكمها بدليلها مع توثيق الاتفاق من مظانه المعتبرة. وإذا كانت المسألة من مسائل الخلاف: حرر محل الخلاف وبيَّن من قال بها من أهل العلم، وذكر الأقوال في المسألة وبيَّن من قال بها من أهل العلم، واقتصر على المذاهب الفقهية المعتبرة، ووثق الأقوال من كتب المذهب نفسه، وتجنب الأقواال الشاذة، وعند ترجيحه لمسألة ما يذكر سببه، وكذلك ثمرة الخلاف إن وجدت.

تفسير القرآن العظيم

تفسير القرآن العظيم عنوان الكتاب ... تفسير القرآن العظيم اسم المؤلف ... إسماعيل بن عمر عماد الدين بن كثير المحقق ... الدكتور حكمت بن بشير بن ياسين الناشر ... دار ابن الجوزي - السعودية سنة الطبع ... ط 1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 7 التعريف بموضوع الكتاب: ((من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها)) .. بهذه الكلمات القليلة المبنى العظيمة المعنى وصف الإمام الشوكاني رحمه الله كتاب تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير رحمه الله , ولا غرابة في ذلك فابن كثير رحمه الله يعد فقيه المفسرين ومفسر المحدثين, وقد اتسم تفسيره بسمات ومميزات قد لا تتوفر في غيره من كتب التفسير سواء التي تقدمته أو التي جاءت من بعده, فهو دائما ما يقدم تفسيره بالبيان القرآني للآية فلا يجد آية مبينة للآية التي يفسرها إلا وذكرها بما يتمتع به من حُسن استحضار للآيات المتَّفِقة, وهذا من أجلِّ ضروب التفسير وأعظمها، تفسير القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان قد بسط في مكان آخر , كما أنه يهتم اهتماماً عظيماً بالتفسير النبوي لآي القرآن, فنراه يحشد الأحاديث الكثيرة في تفسير الآية من كتاب الله, ولو أحصيت الأحاديث التي سردها في تفسيره لبلغت آلاف الأحاديث, وكيف لا والسنة هي الشارحة والمبينة للكتاب، أضف إلى ذلك اهتمامه البالغ بآثار الصحابة والتابعين الواردة في تفسير الآيات فهم الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل. وطريقة ابن كثير في التفسير أن يذكر الآية ثم يذكر معناها العام بأسلوب سهل واضح ثم يورد تفسيرها من القرآن ثم من السنة ثم من أقوال الصحابة والتابعين مع ما يتعلق بالآية من أحكام فقهية إلى غير ذلك. وقد كان لابن كثير في تفسيره منهج قويم في الترجيح عند الآيات التي اختلف فيها المفسرون, فتراه يقف مع هذه الأقوال وقفة دراسة متأنية ثم ينتقي أقواها معتمداً في ذلك على الأدلة الثابتة والقواعد الراسخة. وبما تقدم من منهج علمي راق, إضافة إلى سلامة التفسير من التأويل والتحريف في مسائل المعتقد والمسلك السلفي الواضح الذي يتمتع به أصبح تفسير ابن كثير من أفضل كتب التفسير وأوسعها انتشاراً, وأكثرها تداولاً بين طلاب العلم والباحثين عن التفسير بالمأثور عن سلف الأمة رحمهم الله. وقد طبع تفسير ابن كثير طبعات كثيرة منها الجيد النفيس ومنها دون ذلك, وهذه الطبعة التي نحن بصدد التعريف بها صدرت عن دار ابن الجوزي، مؤلفة من سبعة مجلدات كبار بتحقيق الدكتور حكمت بن بشير بن ياسين, والذي دعاه إلى إخراج هذا التحقيق هو وجود الكثير من الآثار لم يحكم عليها من قِبَل من حقَّق هذا التفسير بالإضافة إلى وقوع أخطاء في كثير من طبعات التفسير الموجودة. لذا تميز هذا التحقيق بتخريج الأحاديث والحكم عليها اعتمادا على أقوال النقاد من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين ليس ذلك فقط بل وتخريج هذا الكم الهائل من الآثار والحكم عليها وقد نقل ما قام به الشيخ أبو إسحاق الحويني من تحقيق وتخريج لأول تفسير ابن كثير، نقله وضمه إلى تحقيقه مختصرا له حيث إن الشيخ لم يتم تحقيقه. ولعل هذا هو أهم ما يميز هذه الطبعة عن غيرها من الطبعات، مع خدمة النص بتوثيق النقولات وعزو الشعر وبيان القراءات والتعليق على بعض الروايات والتنبيه على الإسرائيليات وبيان الغريب وضبط ما يحتاج إلى الضبط. ويضاف إلى ذلك جودة الإخراج وحسن الصف وجمال الديباجة، فهذه الطبعة بهذا التحقيق تعد من الطبعات المتميزة لهذا الكتاب المبارك.

حركة التغريب في السعودية .. تغريب المرأة أنموذجا

حركة التغريب في السعودية .. تغريب المرأة أنموذجًا عنوان الكتاب ... حركة التغريب في السعودية .. المرأة أنموذجًا اسم المؤلف ... د. عبد العزيز بن أحمد البداح الناشر ... المركز العربي للدراسات الإنسانية - القاهرة عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 705 نوع الكتاب ... رسالة عالمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه من كلية الدعوة الإسلامية قسم الأديان والمذاهب بجامعة الأزهر. التعريف بموضوع الكتاب: منذ أشرقت شمس الإسلام وأضاء نوره المعمورة واستطاع بربانيته أن يغطي ويكتسح جميع الأديان والمذاهب والنحل, منذ ذلك الحين وأعداؤه يخططون ويدبرون ليضعفوا قوته, ويعكروا صفاءه, ويشككوا أتباعه فيه, فكثر الكيد, واشتدت الهجمات والأزمات, لتتكسر جميع تلك المعاول فوق صخرة الإسلام القوية, وتبوء جميع تلك المحاولات بالفشل الذريع وترتد إلى أصحابها خاسئة حسيرة. واليوم .. واستمراراً لتك الجهود الخائبة أراد أعداء الملة أن يواصلوا المحاولة, علهم يصيبوا الإسلام في مقتل, فأجلبوا بخيلم ورجلهم وحدهم وحديدهم, وتشكلت خطاباتهم, وتنوعت دعواتهم وحركاتهم, وكان من أخطر هذه الحركات حركة التغريب في السعودية، والتي لم تألوا جهداً إلا وبذلته من أجل تغريب المجتمع السعودي بما فيهم المرأة التي كانت لها أوفر الحظ من هذه الهجمة الشعواء. ((التغريب في السعودية، المرأة أنموذجًا)) كتاب جاء ليرصد هذه الحركة رصداً دقيقاً, متحدثاً عن تاريخ نشأتها, ومراحل تطورها, وعن رموزها وشخصياتها, مستنداً على مراجع موثقة, ومنهجية علمية في الوصف والتحليل. مهَّد المؤلف بتمهيد في مطلبين أوضح في الأول مكانة المرأة في الدين الإسلامي الحنيف, وكيف أنه حفظ حقوقها, وأعلى مكانتها, وبيَّن في الثاني مكانة المرأة في المجتمعات الغربية التي آل بها الحال إلى أن أصبحت سلعة رخيصة متداولة تحت أسس الحرية والمساواة المطلقتين, وتحت أساس العلمانية التي أقصت الدين عن حياة الناس وواقعهم. أما الفصل الأول فكان لمحة عن واقع السعودية السياسي, والديني، والاجتماعي، ثم الحديث عن حركة التغريب من حيث ماهيتها, ونشأتها, ومراحل التطور التي مرت بها. الفصل الثاني من فصول الكتاب اشتمل على ثلاثة مباحث تحدث المؤلف في أولها عن أهداف حركة التغريب, فكان مما ذكره من أهدافها خلع الحجاب والاختلاط, ورفع القوامة عن المرأة, وعمل المرأة في جميع المجالات, أما المبحث الثاني من هذا الفصل فتحدث عن الأسباب التي ساعدت على نهوض الحركة التغريبية والمتمثلة في أسباب داخلية, وأسباب خارجية. ثم ختم هذا الفصل بمبحث ثالث تحدث فيه عن العوائق التي تقف كحجر عثرة أمام حركة التغريب والتي منها: المكانة الدينية للبلاد, والتحالف القائم بين المؤسسة الدينية والقيادة السياسية, والرعاية التي تقوم بها الدولة ورموزها للنشاط الإسلامي وغيرها. انتقل الكاتب بعد ذلك إلى الفصل الثالث ليتحدث عن الأساليب التي تتبعها الحركة لتغريب المرأة معرجاً على وسائلها وسماتها وذلك في ثلاثة مباحث, فذكر في المبحث الأول أن من أهم وأبرز الأساليب التي تتبعها الحركة التغريبية مهاجمة المنهج السلفي والمؤسسة القضائية, وتشويه المؤسسات الدينية, واتهام النشاطات والمراكز الدعوية, ورفع شعار الوطنية، ودعوى الإصلاح وغير ذلك من الأساليب. أما في المبحث الثاني: فشرع الكاتب في تعداد وسائل حركة التغريب, فذكر منها التعليم, واستغلال الإعلام، والسياحة والترفيه، والجمعيات النسائية والمؤتمرات وغيرها من الوسائل التي تستخدمها للوصول إلى أهدافها. وفي المبحث الثالث ذكر الكاتب سمات وصفات هذه الحركة التغريبية, فوصفها بأنها منظمة، تقوم بتوزيع مهامها بصورة متقنة, وتراعي في ذلك التدرج في الخطوات التي تتخذها نحو تغريب المرأة، كما أنها تقوم بدعم رموزها مادياً ومعنوياً وتوجيههم لخدمة الحركة وأهدافها. كما أنها تقوم بإقصاء مخالفيها وذلك برفض المناقشة، وتسفيه الرأي الآخر, إلى ما هنالك من السمات والصفات. وفي الفصل الرابع تحدث المؤلف عن الآثار التي خلفتها الحركة التغريب في أربعة مباحث, المبحث الأول: تناول الآثار السياسية للحركة التغريبية، متمثلة في الجرأة في مواجهة الدولة، وتقوية الأقليات داخل المملكة، ودعم المعارضة الخارجية, وتقويض الأصول التي قام عليها النظام. وفي المبحث الثاني عرض المؤلف الآثار الثقافية التي خلفتها الحركة التغريبية والتي منها: تغيير المفاهيم والمصطلحات، وإضعاف الثقافة الشرعية في البلاد، والتشبع بالفكرة الغربية. أما المبحث الثالث: فخصصه المؤلف لمناقشة الآثار الاجتماعية, فذكر منها التفكك الأسري, والتمرد على الأسرة, وارتفاع معدلات الطلاق والعنوسة في المجتمع, واستقدام الخادمات والمربيات, وتهيئة ظروف وأجواء التشدد والغلو. ثم ختم هذا الفصل بمبحث رابع استعرض فيه بعض الآثار الأخلاقية لحركة التغريب فذكر منها: الابتزاز والتحرش الجنسي, وارتفاع معدلات الجريمة الخلقية في المجتمع. وأخيراً ختم المؤلف كتابه بفصل خامس مهم اشتمل على مبحثين, تناول الأول الموقف من حركة التغريب, فبيَّن موقف الأنظمة والتعليمات من الحركة, وكذلك موقف الشخصيات السياسية والمؤسسات الدينية, وموقف العلماء والدعاة, والكتاب والمثقفين, وأخيراً موقف المجتمع من هذا التيار التغريبي, وتناول في الثاني أهم السبل لمواجهة حركة التغريب ومنها: الاستغلال الإيجابي لوسائل الإعلام, وإنشاء مراكز الدراسات الأسرية والاجتماعية, وتشجيع محاضن التربية والتوجيه النسائية, وكشف التيار التغريبي ورموزه والتحذير منه, والتعريف بحقوق المرأة في الإسلام, ورفع المظالم الواقعة على المرأة, وغيرها من الوسائل التي من شأنها أن تقف في وجه هذا المد التغريبي العاتي. هذه بعض النقاط الأساسية للكتاب إلا أنها لاتغني عن قراءته وتصفحه فهو عمل علمي حافل بالمعلومات القيمة والتي تعكس الجهد المبذول في إعداده, فجزى الله مؤلفه خير الجزاء وكتب أجره وأجزل مثوبته.

الفتيا المعاصرة دراسة تأصيلية تطبيقية في ضوء السياسة الشرعية

الفتيا المعاصرة دراسة تأصيلية تطبيقية في ضوء السياسة الشرعية عنوان الكتاب ... الفتيا المعاصرة دراسة تأصيلية تطبيقية في ضوء السياسة الشرعية اسم المؤلف ... د. خالد بن عبد الله بن علي المزيني الناشر ... دار ابن الجوزي سنة الطبع ... الطبعة الأولى 1430هـ عدد الصفحات: ... 904 نوع الكتاب ... رسالة علمية قدمت لنيل درجة الدكتوراه، في الفقه والسياسة الشرعية من المعهد العالي للقضاء, بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض, وطبعت في مجلد واحد يقع في (900) صفحة التعريف بموضوع الكتاب: لا بد للناس من معرفة أحكام الشرع المطهر, فيما يجد لهم من حوادث ونوازل, بحيث يتمكنون من إقامة دينهم كما أمرهم ربهم في قوله تعالى {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} , فإن جهلوا ذلك لزمهم سؤال أهل العلم قال تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} ولكن الفتوى لها ضوابط لابد أن تراعى لا سيما في هذه الآونة لما عرى الفتيا من بعض تغيرات واضطرابات فمن العوامل المؤثرة في الفتيا المعاصرة ما طرأ في هذه الحقبة من تغيرات اجتماعية وإدارية وتنظيمية في العالم الإسلامي, ولا شك أن هذه التغيرات تستتبع في العادة تغيرا في الأوضاع والتنظيمات والتراتيب الإدارية, لمواكبة التحولات الطارئة في المجتمع. وقد قام مؤلف الكتاب بدارسة الفتيا المعاصرة دراسة تأصيلية تطبيقية في ضوء السياسة الشرعية, وقسم الكتاب بعد التمهيد إلى أربعة أبواب: الباب الأول: ذكر فيه أصول الفتيا المعاصرة وتضمن ثلاثة فصول الأول عن مصادر الفتيا كالكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة إلى غير ذلك. والثاني: عن الأسس العامة للفتيا كمقاصد الشريعة والقواعد الأصولية والقواعد والضوابط الفقهية. والثالث: عن خصائص الفتيا المعاصرة كالتغير والاضطراب. وفي الباب الثاني تحدث عن مناهج الفتيا المعاصرة: من خلال ثلاثة فصول الأول عن منهج التشدد في الفتيا المعاصرة. والثاني عن منهج التساهل فيها. والثالث عن التوسط في الفتيا المعاصرة. وبين في الباب الثالث وسائل الفتيا المعاصرة: واشتمل على ثلاثة فصول الأول عن حكم الفتيا في وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة والثاني في واقع الفتيا فيها والثالث عن مستقبلها. وتحدث في الباب الرابع عن أساليب الفتيا المعاصرة: وتناوله في أربعة فصول الأول في الفتيا الفردية والثاني في الفتيا الجماعية ومدى الحاجة إليها في العصر الحاضر, وفي الثالث ذكر نماذج من مؤسسات الفتيا الجماعية المعاصرة مثل هيئة كبار العلماء, واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ... , وفي الفصل الرابع تناول مشروع نظام مقترح لضبط معايير الاختلاف في الفتيا المعاصرة. والكتاب مفيد ومهم لطالب العلم وخاصة لمن يتصدر للفتيا. فجزى الله المؤلف خيرا.

حكم تقنين الشريعة الإسلامية

حكم تقنين الشريعة الإسلامية عنوان الكتاب ... حكم تقنين الشريعة الإسلامية. اسم المؤلف ... عبد الرحمن بن سعد الشثري. الناشر ... مكتبة الرضوان للنشر والتوزيع. سنة الطبع ... ط 3/ 1430. عدد الصفحات: ... 128. نوع الكتاب ... غلاف صغير التعريف بموضوع الكتاب: ظهرت الدعوة في الصحف إلى صياغة الأحكام الشرعية على هيئة مواد، (كما هو الحال في الدول الغربية، والدول التي تحكم بالقوانين الوضعية)، وهو ما يسمى بتقنين الأحكام الشرعية. فجاء هذا الكتاب كاشفا ومبينا لهذه المسألة .. وقد جعله مؤلفه في أربعة فصول .. ومهد قبل الخوض في هذه المسألة بمطلبين، أولهما المراد بالتقنين، وثانيهما تاريخ الدعوة إلى تقنين الأحكام الشرعية. ثم ذكر المؤلف في الفصل الأول الأدلة على تحريم تقنين الأحكام الشرعية. وذكر في الفصل الثاني أدلة القائلين بجواز التقنين والجواب عنها.

منهج أهل السنة والجماعة في تدوين علم العقيدة (إلى نهاية القرن الثالث الهجري)

منهج أهل السنة والجماعة في تدوين علم العقيدة (إلى نهاية القرن الثالث الهجري) عنوان الكتاب: ... منهج أهل السنة والجماعة في تدوين علم العقيدة (إلى نهاية القرن الثالث الهجري). اسم المؤلف: ... الدكتور ناصر بن يحيى الحنيني. الناشر: ... مركز الفكر المعاصر. سنة الطبع: ... ط1 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 668 نوع الكتاب: ... رسالة الدكتوراه. التعريف بموضوع الكتاب: إن الله قد تكفل بحفظ هذا الدين إلى قيام الساعة وهيأ الأسباب لهذا الحفظ, ومن وسائل وأسباب حفظ الدين كتابة الشريعة من كتاب وسنة وما فيهما من أحكام وغير ذلك مما هو تبع لهما، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بتدوين العلم في وقت مبكر، وكانت مظاهر هذا الاهتمام هو تدوين كتاب الله عزوجل، ثم تلاه تدوين السنة المطهرة فظهر في عصر الصحابة ما يسمى بـ (صحائف الصحابة) ثم تطور الأمر وزاد الاهتمام بالتدوين لما جد في عصر التابعين وتابعيهم من أمور وأحداث ككثرة الفتوحات وظهور البدع فاحتاج السلف لتدوين مسائل العلم خاصة في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث وكان من أبرز العوامل هو كثرة وانتشار مصنفات أهل البدع مما اضطر أهل السنة للتفنن في التدوين والتصنيف في شتى العلوم ومن أهمها علم العقيدة. فقضية تدوين العقيدة من القضايا التي أولاها السلف عناية فائقة أثناء جهودهم العلمية من خلال تفننهم في تصنيف المصنفات الخاصة بالاعتقاد، فتارة يختصرون وتارة يتوسعمون وتارة يصنفون على طريقة كتب الحديث فيسردون الروايات، وتارة يصنفونها مجردة عن الأسانيد، وتارة يصنفونها في تقرير المسائل، وتارة في الرد على المخلفين وهكذا. وقد تناول المؤلف من خلال بحثه أبرز أسباب منهج أهل السنة والجماعة في تدوين علم العقيدة، وذكر منها: 1 - أن كتب السلف خلال القرون الثلاثة الأولى هي مصدر من مصادر تلقي الأمة لدينها. 2 - أن دراسة منهج أهل السلف في تدوين علم العقيدة وإبرازها أصبح ضرورة ملحة خاصة مع كثرة المخالفين من أهل البدع والطاعنين في عقيدة أهل السنة. 3 - أهمية تلك المصنفات في القرون المفضلة لوضوح عظيم أثرها عل كل من أتى بعدهم إلى يومنا هذا. 4 - إزالة كثير من الشبهات الباطلة والدعاوى الكاذبة التي تقال وتتناقل عن مصنفات السلف ووصمها بالجمود وخلوها من الاستدلال العقلي ونحو ذلك. وقد تكلم المؤلف في كتابه عن تعريف التدوين، وتعريف مجمل بالحالة السياسية والاجتماعية والعلمية خلال القرون الثلاثة الأولى، ومنهج أهل السنة في تدوين الاعتقاد من خلال الجوامع الحديثية، ومنهج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد من خلال الجوامع الحديثية، ومنهجهم في الرد على أهل البدع من خلال الجوامع، ومنهج أهل السنة في تدوين علم العقيدة من خلال كتب العقيدة المستقلة, ومنهجهم في عرض قضايا الاعتقاد، ومنهجهم في الترتيب والتبويب، ومنهجهم في التصنيف في الرد على أهل البدع، وطرائق أهل السنة في التصنيف، وأنواع المصنفات التي دونت مسائل الاعتقاد، وشبهات المخالفين حول تصانيف السلف ومناقشتها.

آراء أبي الحسن السبكي الاعتقادية - عرض ونقد في ضوء عقيدة السلف الصالح

آراء أبي الحسن السبكي الاعتقادية - عرض ونقد في ضوء عقيدة السلف الصالح عنوان الكتاب: ... آراء أبي الحسن السبكي الاعتقادية - عرض ونقد في ضوء عقيدة السلف الصالح اسم المؤلف: ... عجلان بن محمد العجلان الناشر: ... كنوز إشبيليا سنة الطبع: ... 1430هـ/ الطبعة الأولى عدد الصفحات: ... 680 نوع الكتاب: ... رسالة ماجستير التعريف بموضوع الكتاب: تقي الدين أبو الحسن السبكي أحد العلماء الذين يشهد لهم بالعلم والذين برزوا في كثير من العلوم، لكنه لم يكن على مذهب أهل السنة والجماعة بل كان على مذهب الأشاعرة في الجملة، تبنى بعض البدع والأقوال الباطلة المخالفة لما عليه أهل السنة وروج لها ودافع عنها وانتصر لها، فتعلق بشبهه كثير ممن أتى بعده، لذا جعل الشيخ عجلان بن محمد العجلان رسالته التي تقدم بها لنيل درجة الماجستير عن آراء أبي الحسن السبكي الاعتقادية. عقد المؤلف كتابه في تمهيد وأربعة أبواب فأما التمهيد فقد تناول فيه منهج السلف في تقرير العقيدة والرد على المبتدعة على سبيل الإجمال. وأما الباب الأول فقد أفرده لترجمة أبي الحسن السبكي معرفا به وبعصره وحياته الشخصية والعلمية ومبينا منهجه في تقرير العقيدة ومصادره في تلقيها. وفي الباب الثاني عرض آراء السبكي المتعلقة بالإيمان بالله من خلال الأقسام الثلاثة للتوحيد؛ توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. وفي الباب الثالث عرض آراءه في بقية أركان الإيمان كالإيمان بالكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر. وأما الباب الرابع فعرض فيه آراءه في مسائل الأسماء والأحكام مبينا رأيه في مسائل الإيمان كتعريفه وزيادته ونقصانه وكذلك بين رأيه في مسائل الكفر والبدعة. والكتاب وإن كان يستعرض عقيدة السبكي إلا أنه يناقش أغلب آراء الأشاعرة من خلاله ويرد شبهاتهم وينقدها وفق منهج أهل السنة والجماعة، وذلك لأن السبكي يعتبر أحد أعلام الأشاعرة والذي صار عمدة لكثير ممن أتى بعده، كذلك فإن هذا الكتاب ينتصر لمذهب السلف الصالح ولأئمة أهل السنة والجماعة خصوصا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. وطريقته في الكتاب أنه يذكر رأي السبكي في المسألة فإن وافق السلف ذكر ما يدل على ذلك من كلام السلف مع ذكر أدلتهم باختصار وإيجاز. وإن خالفهم السلف ذكر ما يدل على ذلك مع نقده ومناقشته باستعراض أدلته وتفنيدها. ولا شك أن الكتاب يجلي عقيدة أهل السنة والجماعة وينتصر لها ويبين موافقتها للنصوص الشرعية، ويدحض شبهات أهل البدع ويدفع ما شنعوا به على أئمة أهل السنة كشيخ الإسلام في مسائل التوسل وشد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهما، فجزى الله مؤلفه خيرا.

بدعة إعادة فهم النص

بدعة إعادة فهم النص عنوان الكتاب ... بدعة إعادة فهم النص اسم المؤلف ... محمد صالح المنجد تقديم ... الشيخ صالح بن فوزان الفوزان الناشر ... مجموعة زاد سنة الطبع ... ط1 - 1431 هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 144 التعريف بموضوع الكتاب: إن التلاعب بالنص الشرعي تحريفاً وتأويلاً معركة قديمة جديدة بدأت بذورها في صدر الإسلام الأول واستمرت عبر العصور حتى وصلت إلينا بلباس جديد متحضر يتقمصه فئام من الكتاب والمفكرين تحت شعارات مختلفة ودعوات متباينة يجمعهم هدف واحد هو التطاول على شرع الله عز وجل، وتأويل النصوص الشرعية إلى غير ما شرعت له بحجة تجديد الفكر الإسلامي والخطاب الديني .. فجاء هذا الكتاب (بدعة إعادة فهم النص) ليبين أن النصوص التي فهمها الصحابة ومن سار على نهجهم لابد أن يفهمها كل مسلم في كل زمان ومكان؛ فيسلّم للنصوص الشرعية تسليما تامًّا، ولا يُعمل عقله أو فكره في صرفها عن ما جاءت به وله. وبالجملة .. فقد تناول الكتاب عدة نقاط في بيان بدعة إعادة فهم النص، ابتدأها المؤلف بتمهيد يبين فيه نشأة هذه البدعة العظيمة، وكون الخوارج أول من أشعل فتيلها في الأمة، وأنها لا تزال باقية إلى زماننا هذا؛ مع ذكر الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على ذلك. ثم عرّج المؤلف على ذكر أهمية التسليم للنصوص الشرعية وتلقيها بالقبول؛ مبيّنًا معنى التسليم، وأن المؤمن الحق من يكون كامل الانقياد والإذعان لكلام الله سبحانه وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر على ذلك نماذج عديدة من تسليم سلف الأمة للنصوص الشرعية. وفي المقابل - كما عطف بعد ذلك صاحب الكتاب- يوجد مواقف للمعادين للنصوص الشرعية والمغيّرين لفهمها، وأكبر مثال على ذلك: مانعوا الزكاة في عهد الصديق رضي الله عنه، ثم من حذا حذوهم من الباطنية والمعتزلة والفلاسفة وبعض غلاة الصوفية. كما قام المؤلف ببيان خطر الدعوات المنادية بإعادة فهم النص الشرعي، وبيان الأسس التي بنيت عليها هذه الدعوات؛ مشيرًا في عنوان مستقل إلى النتائج الخطيرة للقراءة المعاصرة لنصوص الشرع. ثم ذكر أسلوب أصحاب القراءة الجديدة للنصوص ومصطلحاتهم الغريبة المتشدقة، وشيئاً من طرقهم الشائعة في كتبهم ومصنفاتهم، ثم أصول وقواعد أهل السنة في فهم النصوص، من تمسّك بها لم تزل قدمه أو يضل فهمه، ثم من يُرجع إليه عند اختلاف الأفهام، ومن المؤهل لفهم النصوص الشرعية. واختتم كتابه بتوجيهات عامة في هذا الباب. نسأل الله أن يجزي الكاتب على جهده وبذله لبيان هذه البدعة ..

الانتخابات وأحكامها في الفقه الإسلامي

الانتخابات وأحكامها في الفقه الإسلامي عنوان الكتاب: ... الانتخابات وأحكامها في الفقه الإسلامي. اسم المؤلف: ... فهد بن صالح بن عبد العزيز العجلان. الناشر: ... دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع. سنة الطبع: ... ط 1/ 1430. عدد الصفحات: ... 514. نوع الكتاب: ... رسالةٌ علميةٌ تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير بكلية التربية - قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الملك سعود بالرياض عام 1428. التعريف بموضوع الكتاب إنَّ من صلاحية هذه الشريعة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ أنَّ لها في كل واقعةٍ حكماً، وفي كل نازلةٍ بياناً، وفي قواعدها وأصولها بيانٌ لكل المشكلات، وحلٌّ لكل المعضلات. والناس بحاجةٍ ماسَّةٍ لبيان الحكم الشرعي لكل الوقائع والمستجدات الحادثة. ومن ضمن القضايا الفقهية في العصر الحاضر، ما يتعلق بالطرق والوسائل في السياسة والحكم، ومن أشهرها: الانتخابات، فهي وسيلةٌ عصريةٌ جديدةٌ؛ للوصول إلى مختلف الولايات من رئاسةٍ أوبرلمان أو غير ذلك. وقد انتشر تطبيقها في العصر الحاضر انتشاراً كبيراً، فطبقته جميع الأنظمة الديمقراطية الغربية المعاصرة، وجرى العمل بها في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فكان من المهم أن تتم دراسة هذه الطريقة وبحث نوازلها ليتوصل من خلال ذلك إلى معرفة الحكم الشرعي فيها، وفي المسائل والأحكام المتعلقة بها. إن أهمية هذا الموضوع تتجلى بأهمية متعلَّقها وهو الحكم والولاية، وهما من الأمور الضرورية لأيِّ مجتمع. ثم إن موضوع الانتخابات مما يهم عامة الناس حيث يشاركون فيها جميعاً، وتظهر آثارها على المجتمع كله، كما أن انتقال طريقة الانتخابات من البلاد الغربية للأمة الإسلامية يستدعي دراسةً عميقةً ودقيقةً لها، لمعرفة الحكم الشرعي فيها. فهذا الموضوع من المسائل الجديدة التي تحتاج إلى دراسةٍ تأصيليةٍ تفصيليةٍ، تتناول الانتخابات استقلالاً، إذ إنَّ كثيراً من الدراسات حولها إنما تتطرق إليها تبعاً لبحث الديمقراطية. وقد قسَّم المؤلف البحث إلى ستة فصولٍ، بدأها بمقدمةٍ تمهيديةٍ تضمنت تعريف الانتخابات وأنواعها ونشأتها وطرقها، وقسم الفصل الأول إلى مبحثين، تحدث في الأول عن التخريج الشرعي للانتخابات، وفي الثاني عن حكم الانتخابات. وذكر في الفصل الثاني ستة مباحث، تحدث عبرها عن الأحكام المتعلقة بالمنتخِب، فذكر حكم المشاركة في الانتخابات، ومشاركة المرأة، ومشاركة غير المسلم، ومشاركة أهل البدع والأهواء، ومشاركة ناقص الأهلية في الانتخابات، وشروط المنتخب. وقسم المؤلف الفصل الثالث إلى ستة مباحث أيضاً، تحدث من خلالها عن الأحكام المتعلقة بالمنتخَب (المرشَّح)، فتكلم عن ترشيح المرأة، وترشيح غير المسلم، وترشيح أهل البدع والأهواء، وتحدث أيضاً عن طلب الولاية، وولاية المفضول، وولاية غير المؤهَّل. ثم عقد المؤلف الفصل الرابع للحديث عن الأحكام المتعلقة بالمنتخَب فيه، وذلك عبر أربعة مباحث، تحدث فيها عن الانتخابات الرئاسية، والانتخابات البرلمانية، والاستفتاء الشعبي، والانتخابات الفرعية. وجعل المؤلف الفصل الخامس عن الأحكام المتعلقة بكيفية الانتخابات، من خلال ثلاثة مباحث، تكلم فيها عن إذن الإمام، وتغيير نتائج الانتخابات، والدعاية الانتخابية. ثم خصص المؤلف الفصل السادس والأخير للحديث عن الآثار المترتبة على الانتخابات، وذلك في مبحثين، تحدث في الأول منهما عن المصالح المترتبة على الانتخابات، وفي الثاني عن المفاسد المترتبة عليها. وختم المؤلف الكتاب بذكر نتائج البحث، وأهم التوصيات ثم الفهارس. وبغض النظر عن رأينا فيما توصل إليه المؤلف من نتائج فإن الكتاب نافع ومفيد.

منهج الشيخ ابن باز في الفقه والفتوى

منهج الشيخ ابن باز في الفقه والفتوى عنوا ن الكتاب: ... منهج الشيخ ابن باز في الفقه والفتوى اسـ ـم المؤلف: ... الدكتور خالد بن مفلح بن عبدالله آل حامد الناشر: ... دار الفضيلة - الرياض سنة الطبع: ... 1431هـ عدد الصفحات: ... 134 نوع الكتاب: ... رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التعريف بموضوع الكتاب: العلماء .. مصابيح الهدى, ومنائر الهداية, وورثة الأنبياء, وحراس الدين وحماة العقيدة وحفاظ الملة ولا خير في أمة لم تبجل علماءها ولم تحفل بهم أو تنشر تراثهم أو تهتم بعلومهم. والإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله- أحد الأعلام الأفذاذ والعلماء العظام الذين ملؤا الدنيا علماً وخيراً وخلفوا تراثاً عظيماً يستحق الدراسة والتنقيح والتحقيق, وقد اهتم طلاب العلم بتراث الشيخ وعلومه سواء في حياته أو بعد مماته, ومما صدر حديثاً في هذا الشأن كتاب (منهج الشيخ ابن باز في الفقه والفتوى) لخالد بن مفلح آل حامد والذي تتبع فيه المنهج الذي اتبعه الشيخ في فتاواه وأصوله في الفقه والفتوى. وقد جاء الكتاب في ثمانية مباحث كان الحديث في أولها عن أصول الشيخ في الفقه والفتوى فتكلم فيه عن أهم أصوله التي بنى عليها فتاواه والتي منها: الوصول والشمولية, ومراعاة قاعدة سد الذرائع, ومراعاة الأحوال والأشخاص والأماكن وغيرها من الأصول. كما تحدث فيه أيضاً عن أصوله العامة في الفقه وذكر منها: قول الشيخ ((الله أعلم)) , وتقديمه للكتاب والسنة, وبعده عن التقليد والتبعية المطلقة , ومداومته على البحث والتحصيل وغير ذلك. ثم استعرض المؤلف - وفي نفس المبحث- قواعد الشيخ الأصولية في الفقه وذكر من تلك الأصول: أن النهي يقتضي التحريم, والأمر يقتضي الوجوب, وأن العبادات لا تثبت بالأحاديث الضعيفة, والأوامر مع الفور, والنهي يقتضي الفساد .... الخ، ثم تكلم المؤلف بعد ذلك عن قواعد الشيخ الفقهية. أما المبحث الثاني فأفرده المؤلف لمصطلحات الشيخ ومنهجه عند الترجيح فذكر من ذلك ألفاظه التي تقتضي الترجيح مطلقاً, وألفاظه التي لا تقتضي الترجيح مطلقاً, والألفاظ التي لا تقتضي الترجيح مطلقاً إلا في حالات نادرة, والألفاظ لتي تقتضي التوقف في المسألة, ثم أردف بعد ذلك بأصول الشيخ في الترجيح عند التعارض بين الأدلة. وفي المبحث الثالث من الكتاب ذكر المؤلف الأسباب التي بموجبها تختلف أقوال الشيخ في فتاويه وذكر من ذلك: ظهور الدليل, واختلاف الأحوال والأشخاص والأماكن, وفهم السؤال على غير الوجه الذي أراده السائل, وغيرها من الأسباب. في المبحث الرابع تحدث المؤلف عن المسائل التي خالف فيها الشيخ ابن باز شيخ الإسلام ابن تيمية, فسرد عدة مسائل في الطهارة والصلاة والزكاة والصوم وغيرها. وفي المبحث الخامس كان الحديث عن المسائل التي تفرد بها الشيخ ابن باز وذكر في ذلك عدداً من المسائل. وفي المبحثين السادس والسابع كان الحديث عن اختيارات الشيخ الفقهية, والمسائل التي وافق فيها المذهب الحنبلي, ليختم بعد ذلك بمبحث أخير تكلم فيه عن المسائل التي وافق فيها المذهب وليست من مفرداته - رحمه الله تعالى-

الغلو في التكفير بين أهل السنة والجماعة وغلاة الشيعة الاثني عشرية

الغلو في التكفير بين أهل السنة والجماعة وغلاة الشيعة الاثني عشرية عنوان الكتاب: ... الغلو في التكفير بين أهل السنة والجماعة وغلاة الشيعة الاثني عشرية اسم المؤلف: ... خالد بن أحمد الزهراني المحقق: ... بدون ... الناشر: ... مركز الفكر المعاصر - الرياض سنة الطبع: ... 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 100 التعريف بموضوع الكتاب: لقد كثر الكلام في هذا الزمان وارتفعت الأصوات حول مسألة هي من أخطر المسائل في دين الإسلام ألا وهي مسألة التكفير داخل دائرة من ينتسبون إلى الإسلام وكان أكبر ذلك وأعظمه ما تنادى به بعض الغلاة ممن ينتسب لطائفة الشيعة الإمامية الاثني عشرية في دعواهم أن أهل السنة والجماعة يكفرون المسلمين!. ومن هنا جمع المؤلف جزاه الله خيراً في هذا الكتاب شتات هذه المادة التي تتمحور حول هذه المسألة الخطيرة مستدلاً من أقوال علماء الطرفين (أهل السنة، والشيعة الاثني عشرية) وقد جعل كل مسألة إلى نظائرها؛ حتى اجتمعت مادة هذا الورقات الذي أسماها (الغلو في التكفير بين أهل السنة والجماعة وغلاة الشيعة الاثني عشرية) وسوف يدرك القارئ الكريم معتقد كلا الطرفين في مسألة (التكفير) وسيتبين له بإذن الله من خلال هذا البحث من هو المكفر بعلم على ضوء من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هو الذي أسرف في التكفير واتهم المسلمين بلا علم؟!!. وقد جعل المؤلف أثابه الله هذا البحث في ثلاثة فصول وخاتمة. تحدث في الفصل الأول: عن خطورة التكفير، وحرمة القول فيه بلا علم. وفي الفصل الثاني: في بيان ضوابط وقواعد التكفير عند أهل السنة والجماعة. وفي الفصل الثالث: في ذكر أقوال ونصوص علماء غلاة الشيعة الاثني عشرية في تكفير المخالف لهم. هذا ونسأل الله العلي القدير أن يثيب المؤلف على ما قدم وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.

مكانة الكتب وأحكامها في الفقه الإسلامي

مكانة الكتب وأحكامها في الفقه الإسلامي عنوان الكتاب: ... مكانة الكتب وأحكامها في الفقه الإسلامي اسم المؤلف: ... خالد بن عبدالرحمن الشنو الناشر: ... دار البشائر الإسلامية سنة الطبع: ... ط1 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 255 نوع الكتاب: ... أصل هذا الكتاب دراسة نال بها المؤلف درجة الماجتسير في تخصص الفقه الإسلامي وأصوله من جامعة اليرموك- الأردن التعريف بموضوع الكتاب: إن من فضل الله عز وجل ومنّته على هذه الأمة أن أنعم عليها بنعم كثيرة شتى تجل عن الوصف والإحصاء، ومن أعظم هذه النعم وأشدها أثراً وتأثيراً نعمة التعلم والتعليم، وتتجلى أهم مظاهر الاهتمام بهذه النعمة فيما أوردته النصوص الشرعية من حث وإرشاد وتوجيه العباد إلى القراءة والكتابة والفقه في الدين، (مكانة الكتب وأحكامها في الفقه الإسلامي) لخالد بن عبدالرحمن الشنو، كتاب يشرق بنوره وسط هذا الفضاء الواسع مع تقدم العلم وعلو التقنية وحاجة الناس إلى الإطلاع والقراءة، تحدث المؤلف في مطلع كتابه عن أهمية الكتب وتدوينها وطباعتها ومكانتها عند العلماء وآداب التعامل معها، ففي الفصل الأول تطرق إلى الأحكام الفقيه المتعلقة بالكتب في العبادات والجهاد مع ذكر القول الراجح منها، وفي الفصل الثاني تحدث عن الأحكام الفقهية المتعلقة بالكتب في المعاملات وغيرها ويدور محورها حول بيع الكتب وإجارتها وإعارتها ووقفها وتأليفها. والكتاب ماتع ومفيد.

اليسوعية والفاتيكان والنظام العالمي الجديد

اليسوعية والفاتيكان والنظام العالمي الجديد عنوان الكتاب: ... اليسوعية والفاتيكان والنظام العالمي الجديد اسم المؤلف: ... فيصل بن علي الكاملي الناشر: ... مجلة البيان - مركز البحوث والدراسات - الرياض سنة الطبع: ... 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 367 التعريف بموضوع الكتاب: أصبح الكلام عن مؤامرة معدة من قبل أعداء الله نوع من الهذيان عند كثير من أبناء الأمة, بل صار يصفون كل من يتكلم عن المؤامرة بأنه واهم مرجف مصاب بثقافة المؤامرة التي لا وجود لها إلا في الأذهان, إلا أنه مع مرور الأيام , وتتابع الحوادث وما يحصل في الواقع ليؤكد كل التأكيد أن هناك مؤامرة خطيرة تحاك لهذه الأمة من زمن ويسعى أصحابها إلى تنفيذها مستغلين الغفلة التي مني بها أبناء هذه الأمة. (اليسوعية والفاتيكان والنظام العالمي الجديد) كتاب يوضح بما لا يدع مجالاً للشك هذه المؤامرة الخطيرة التي يتولى كبر قيادتها عتاولة الكنائس وقسسها ويقوم على تنفيذه كبار الساسة والمتنفذين في العالم. الكتاب كما يقول مؤلفه يتتبع خيوط المؤامرة - والتي تعيش اليوم في مراحلها المتأخرة - يتتبعها بدءا من دهاليز الفاتيكان وأروقته وانتهاء بالبيت الأبيض مروراً ببلاط زعماء أوروبا, في شبكة أوسع مما يتصور, ومؤامرة تحاك منذ خمسمائة عام وهم جادون وساعون في تحقيقها على أرض الواقع. هذا الكتاب يرد على كل من اعتبر المؤامرة وهماً والحديث عنها هذياناً, حتى يكشف المستور ويتنبه أبناء الأمة إلى ما يحاك في دهاليز الكنائس وأروقة الساسة. تكلم المؤلف في البداية عن الباطنية وعبادة الشمس والتي تعد اليسوعية امتداداً تاريخياً لها وكان لها أثر واضح على عقائد اليهود والنصارى. في الفصل الثاني بين المؤلف مدى الارتباط الوثيق بين الوثينة المتمثلة بعبادة الشمس وبين اليهودية. وكذلك فعل في الفصل الثالث مع النصرانية وعلاقتها بعبادة الشمس. الفصل الرابع كان الحديث فيه عن نشأة اليسوعية وعن مؤسسها (إغناطيوس لويولا) في جملة تاريخية عن حياته وطريقة تأسيسه لليسوعية والقوانين التي وضعها لأتباعه. متحدثاً كذلك عن هرمية التنظيم اليسوعي, ومراسيم التجنيد والقسم المغلظ لديهم وما إلى ذلك. وفي الفصل الخامس تحدث عن اليسوعية في أوربا وبعض الأحداث التي مرت بها. ثم عقد فصلاً سادساً تكلم فيه عن الماسونية ونشأتها والذي بين فيه رومية الماسونية بخلاف من قال بيهوديتها مقيماً على ذلك أدلته. وفي فصل تاريخي بين كيف قام ملوك أوروبا بمطاردة اليسوعيين, ثم بين في الفصل الذي يليه كيف استطاع اليسوعيون بمساعدة ومساندة (آل روثتشايلد) بإعادة تنظيم المتنورين. وفي الفصل التاسع من الكتاب تحدث المؤلف عن الثورة الفرنسية والحروب النابليونية باعتبارها نتيجة لهندسة يسوعية. وفي الفصل العاشر تحدث عن مؤتمر فينا والذي قام فيه التحالف المقدس الذي كان من نتائجه اصطفاف أمم أوروبا خلف الإمبراطور الرومي بهدف القضاء على الحريات في أوربا وأمريكا. وفي الفصلين الحادي عشر والثاني عشر تحدث عن الحربين العالميتين الأولى والثانية وما سبقهما من أحداث ليتبعها بفصل آخر تكلم فيه عن الحرب الأمريكية الفيتنامية والحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي ودور اليسوعين في ذلك كله. ثم ختم كتابه بفصل سماه (النظام العالمي الجديد) بين فيه دور الكنيسة اليسوعية في رسم سياسته والتخطيط له وأياديها الخفية والظاهرة في كل ما يحدث اليوم على أرض الواقع من سياسات وحروب.

المصالحات والعهود في السياسة الشرعية

المصالحات والعهود في السياسة الشرعية عنوان الكتاب ... المصالحات والعهود في السياسة الشرعية اسم المؤلف ... محيي الدين إبراهيم عيسى الناشر ... دار طيبة سنة الطبع ... الطبعة الأولى 1430هـ - 2009م نوع الكتاب ... رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الماجستير من جامعة إفريقيا العالمية بجمهورية السودان- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - قسم الشريعة والقانون. التعريف بموضوع الكتاب: لا ريب أن فقه المصالحات بمعناه الشامل سياسة نبوية راشدة، وحل استراتيجي عوّل عليه الإسلام كثيراً؛ إذ يعد عنصراً فعَّالاً لفضّ المنازعات وإحداث التوازنات في المجتمع، كما يعتبر سياسة حكيمة. فالحياة في عمومها، لا سيما في هذا العصر والمسلمون جزء منها، تقوم على التزامات ومواثيق ومعاهدات مع الآخرين. والمؤلف في هذا البحث بين أهمية المصالحات كسياسة مرعية؛ وتأكيد دورها الفاعل في توطيد دعائم الحكم والمجتمع، وتحرير المسائل المتعلقة بذلك. ويحتوي البحث على مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب؛ مقسمة إلى فصول ومباحث ومطالب. ذكر في التمهيد السلام وموقف الإسلام منه، وأقسام الناس بالنسبة إلى العهود. ثم تطرق في الباب الأول عن المصالحات في الإسلام، اشتمل على فصلين، بين في الفصل الأول مشروعية وحكم المصالحات والعهود؛ عرف فيه الصلح، والعهد، ومشروعية العهود والمصالحات، والإجابة عن الشبهات الواردة فيه، وتوثيق العهود والمصالحات، وشروط صحة الصلح، ومتى تنتقض أو تنتهى العهود. وفي الفصل الثاني ذكر الآثار المترتبة على المصالحات والعهود، بين فيه الآثار القانونية، والآثار الاجتماعية والسياسية. ثم تحدث في الباب الثاني عن المصالحات الداخلية والخارجية في الدولة المسلمة، واشتمل على فصلين، تحدث في الفصل الأول منه عن أهمية الصلح في توطيد دعائم الدولة المسلمة، والمصالحات في حياة المسلمين المدنية والاجتماعية، وحكمها وهل للحاكم أن يشير بها، وذكر نماذج للمصالحات في الأموال، والدماء، والأعراض، والصلح بين طوائف المسلمين إذا تنازعوا. كما تحدث عن العهود في حياة المسلمين السياسية، كمشروعية حقن الدماء عند التنازع والصراع على السلطة بالحوار والإصلاح. وعقد البيعة وماهيتها، وأبدية وخلع البيعة. وتحدث عن عهد الأمان، تعريفه ومشروعيته، ومدته. وبين عقد الذمة، تعريفه ومشروعيته، والتكييف الشرعي والقانوني لهذا العقد، ووضع الذميين وصفتهم في الدولة المسلمة، وما يتعلق بأحكام أهل الذمة؛ كالوصية بأهل الذمة، والجزية وماهيتها، وناقش الشبه الواردة لنفي وإبطال حكم الجزية. وتناول في الفصل الثاني المصالحات الخارجية، بين فيه فاعلية الاستقرار والسلام مع الأعداء في نشر الإسلام، والهدنة بين المسلمين والأعداء الحربيين، ومدة المهادنة. كما تناول التحالف بين المسلمين والكفار لتحصيل الخير، ولدفع الشر والعدوان. وفي الباب الثالث والأخير تناول دراسة لنماذج من المصالحات والعهود في القديم والحاضر، في الفصل الأول منه ذكر نماذج من مصالحات النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، وقارن ذلك بما يحدث في فلسطين في هذا الزمان، وتحدث عن صلح الحديبية. كما ذكر نماذج من مصالحات فترة الخلافة الراشدة؛ صلح سقيفة بني ساعدة، وصلح عام الجماعة. وتناول في الفصل الثاني دراسة موجزة لنماذج من العهود الدولية المعاصرة، ذكر فيه لمحة تاريخية موجزة عن نشأة العهود الدولية المعاصرة، وموقف الدولة المسلمة منها. كما تناول دراسة لنموذجي ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ذكر فيه مبادئ ومقاصد ميثاق هيئة الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ولاية الفقيه وتطورها

ولاية الفقيه وتطورها عنوان الكتاب: ... ولاية الفقيه وتطورها اسم المؤلف: ... خالد بن عبدالمحسن التويجري الناشر: ... البيان مركز البحوث والدراسات سنة الطبع: ... 1431هـ عدد الصفحات: ... 65 التعريف بموضوع الكتاب: إن المتأمل في فكرة الولاية في عمق تأويلها المذهبي مرتبط بالأئمة، وتعتقد الشيعة الإثني عشرية وجوب الإمامة، وأنها أصل من أصول الدين. وقد جاءت هذه الصفحات المباركة (ولاية الفقيه وتطورها) للشيخ خالد بن عبدالمحسن التويجري، لتكشف الغبار عن خفايا هذا الموضوع، فتحدث الشيخ عن تعريف الولاية وتعريف الفقيه، ثم ذكر مراحل تطور ولاية الفقيه في الفكر الشيعي، وأن من أبرز ما ساعد على تطورها هم السفراء وفتح باب الاجتهاد بالإعلان الغيبة الكبرى لإمامهم المنتظر، ومن أهم مراحل التطور دور (الكركي والنراقي) في تطوير ولاية الفقيه، ثم بين المؤلف معنى ولاية الفقيه عند الخميني وأنها امتداد للفكر الشيعي وتطوره وكيف جعلها أكثر ظهورا وقد تمثل ذلك بعدة أمور منها: أهمية ولاية الفقيه وتنفيذها عند الخميني، وأن الحاكم الحقيقي هو الفقيه، وأن الفقيه له السلطة المطلقة على البلاد والعباد، واستخدام أهم الوسائل لإقامة دولة الفقيه، ثم تطرق المؤلف لذكر أبرز المعارضين لولاية الفقيه من داخل الصف الشيعي، ثم أوضح المؤلف نقد ولاية الفقيه وأنها بنيت على أساس باطل مستدلا بعدة محاور، واختتم المؤلف بحثه بأثر قول الخميني بولاية الفقيه عند الشيعة وكيف كان أثرها عند الشيعة. فجزى الله المؤلف خير الجزاء على هذا البحث ونفع به. والكتاب رسالة لطيفة نافعة.

شرح مختصر الطحاوي

شرح مختصر الطحاوي عنوان الكتاب: ... شرح مختصر الطحاوي اسم المؤلف: ... أبو بكر الرازي الجصَّاص المحقق: ... د. عصمت الله عنايت الله محمد، ود. سائد محمد يحي بكداش، ود. محمد عبيد الله خان، ود. زينب محمد حسن فلاته. تقديم: ... د. سائد محمد يحي بكداش الناشر: ... شركة دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت، ودار السراج بالمدينة. سنة الطبع: ... 1431 عدد الأجزاء: ... 8 نوع الكتاب: ... رسائل علمية أربعة، نيل بكل منها درجة الدكتوراه في الفقه الإسلامي من كلية الشريعة بجامعة أم القرى بمكة. التعريف بموضوع الكتاب: ألَّف أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطَّحَاوي الفقيه الشهير (ت: 321)، في مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه كتاب (المختصر)، الذي يُعَدُّ من أهم المتون المعتبرة والمعتمدة في المذهب وأقدمها، وقد جمع فيه خلاصة كُتُب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة رحمهم الله تعالى جميعاً. ولمكانة كتاب المختصر العالية، اهتم كبار أئمة المذهب بتدريسه وشرحه والتعليق عليه، وكان من أهم هذه الشروح وأنفسها روايةً ودرايةً شرح أبي بكر أحمد بن علي الرازي الشهير بالجصاص (ت: 370). دعم الجصاص في شرحه للمختصر أقوال أئمة المذهب بالأدلة، وذكر مبانيها من الكتاب والسنة والنظر مع بيان وجه الدلالة منها. كل ذلك جاء في هذا الشرح بشكل مختصر غير موسع، فقد قال مؤلفه الجصاص في مقدمته: (وأتحرى في جميع ذلك الاختصار والإيجاز). إلا أنه يطيل أحياناً في بعض المسائل بسبب سعة الخلاف الموجود فيها. والكتاب بهذا يُعَدُّ من أفضل كتب الحنفية التي تُعنى بذكر الدليل، هذا مع ذكر أقوال المخالفين للحنفية، وعرض أهم أدلتهم، حيث يوردها الشارح على سبيل الاعتراض بقوله: (فإن قيل)، ولا يصرح باسمهم إلا قليلا، ثم يخوض في غمار معارك النقاش العلمي، والأخذ والرد، ويجيب عنها بقوله: (قيل له)، فهو بهذا يعد أيضا من كتب الفقه المقارن التي تعنى بالأدلة والمناقشات. ومن مزايا هذا الشرح إمامة كل من صاحب المختصر، والشارح، واعتمادهما الكبير في المذهب. ثم إن الطحاوي رحمه الله تعالى في تأليفه لهذا المختصر يمثل طوراً جديدا في المذهب، حيث ضمن معظم مسائل المذهب التي لا يسع جهلها ولا التخلف عنها، فحررها بين دفتي هذا المختصر مع بيان أقوال أئمة المذهب فيها. ثم جاء الجصاص ليعمل طوراً آخر في المذهب، حيث بين مأخذ ومبنى تلك المسائل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها، مع التعليل والمناقشة، ومع زيادةٍ في تحرير المذهب وتدقيقه فيما تعقبه على الطحاوي، ولم يخل أيضا من تفريعات ومسائل جديدة أضافها. وقد قسم الجصاص كلام الطحاوي إلى مسائل، وعنون في الغالب لكل منها بقوله: (مسألة)، وأحيانا يورد بعضاً من كلامه الذي يصلح لأن يكون مسألةً بذاتها، فلا يعنون له، فوضع له محققوا هذا الشرح عنوان (مسألة) أيضا، إلحاقاً بأمثاله، كما وضع المحققون لتلك المسائل عناوين فقهية مناسبة لها، وجعلت بين معكوفيتن فوق نص الطحاوي، إلا إذا كان نص المسألة صالحاً لأن يكون عنواناً بذاته. ومن الجدير بالذكر أنه قد مضى على هذا الكتاب أكثر من ألف سنة وهو حبيس رفوف المخطوطات، إلى أن يسَّر الله تعالى إخراجه محققاً ومعتنىً به من قبل أربعة باحثين خدم كل منهم ربع الكتاب في رسائل جامعية، والكتاب لا يستغني عنه طالب علم مهتم بعلم الفقه.

الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف

الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف عنوان الكتاب ... الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف اسم المؤلف ... أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر تحقيق ... مجموعة محققين - وراجعه وعلق عليه أحمد بن سليمان الناشر ... دار الفلاح سنة الطبع ... 1430هـ عدد الأجزاء: ... 15 التعريف بموضوع الكتاب: من أعلام العلماء المطلعين على اختلاف الفقهاء وإجماعهم، العارفين بمذاهبهم وأقوالهم- الإمام ابن المنذر، وهذا أمر لا ينازع فيه أحد، فهذا الإمام النووي يقول عنه: وقد عَلِمَ كلُّ منصف ممن له أدنى عناية: أن ابن المنذر إمام هذا الفن، أعني: نَقل مذاهب العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وأنّ معول الطوائف في نقل المذاهب عليه. وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: عليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع والخلاف. ولما كان ابن المنذر بهذه المكانة اهتم العلماء بكتبه، خاصة ما يتعلق منها بذكر اختلاف الفقهاء ومذاهبهم، وله في هذا الفن العديد من المؤلفات ومنها كتابه (الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف) الذي اختصره من كتاب له كبير يقال: إنه كتاب (المبسوط). وقد تميز كتاب (الأوسط) بمزايا منها أنه يعد موسوعة فقيهة حديثية خاصة فيما يتعلق بمذاهب العلماء ومواطن اتفاقهم واختلافهم، وقد رتب كتابه على الأبواب الفقهية ويصدر الترجمة بذكر المسائل المجمع عليها والمسائل المختلف فيها والتي تندرج تحت الباب فيذكر مذاهب الصحابة والتابعين ومن دونهم ومنهم الأئمة الأربعة مع ذكر الأحاديث والآثار التي يستدل بها كل فريق. ومما يميز كتاب الأوسط أنه يوثق ما ينقله عن العلماء إما بإسناد إليهم يرويه أو نقل من كتبهم أو بواسطة تلامذتهم إلى غير ذلك. ويتميز ابن المنذر في كتابه الأوسط بأنه لا يميل إلى عالم دون عالم ولا يتعصب لمذهب دون مذهب وإنما يرجح ما يرى أنه موافق للدليل الصحيح فيقول به ويدور معه. كذلك يتميز بسعة روايته فقد انفرد بإخراج آثار ربما لا تجدها عند غيره، ليس ذلك فقط بل يتكلم على الأحاديث والآثار صحة وضعفا وعلى الرجال جرحا وتعديلا. وقد نقل في كتابه من مصنفات لم تصل إلينا، إلى غير ذلك من مزايا هذا الكتاب. وكان الكتاب قد طبع بدار طيبة بتحقيق الدكتور صغير أحمد بن محمد حنيف - الذي حصل على رسالة الماجستير بتحقيق كتاب الحدود منه، وحصل على الدكتوراه بتحقيق كتاب القصاص منه - طبع الكتاب بتحقيقه في ستة مجلدات من الجزء الأول إلى الخامس ثم المجلد الحادي عشر ونقص منه كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف والحج والضحايا والذبائح وعدة أبواب من كتاب الجهاد، وكان قد أعلن أن الكتاب سيصدر في عشرين مجلدا لكنه توقف عند القدر المطبوع المذكور آنفا. ثم قام مجموعة من المحققين بدار الفلاح بتحقيق الكتاب مستدركين ما وقع في طبعة دار طيبة من أخطاء وتصحيفات ومستكملين ما لم يطبع من الكتاب وبلغ قدر ما زادوه قرابة سبع مجلدات ونصف ابتداء من النصف الثاني من المجلد السادس إلى الربع الأول من المجلد الرابع عشر وباقيه مع المجلد الخامس عشر كان للفهارس العلمية، ومع ذلك لا تزال هناك فجوة في الكتابين فجزء من الكتاب ناقص وهو الذي يتضمن كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف والحج والضحايا والذبائح وبعض أبواب الجهاد، وذلك في الطبعتين. ولكن قد أحسن القائمون على كتاب الأوسط طبعة دار الفلاح بالمسارعة في إخراج الأجزاء الموجودة من نسخ الكتاب الخطية، حتى يستفيد منه المسلمون، مع ما قاموا به من خدمة للكتاب بتحقيق نصوصه والتعليق عليه فجزاهم الله خيرا.

الدرر البازية في الرد على الانحرافات العقدية والشرعية

الدرر البازية في الرد على الانحرافات العقدية والشرعية كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... الدرر البازية في الرد على الانحرافات العقدية والشرعية اسم المؤلف ... أبو العلا بن راشد بن أبي العلا الراشد تقديم ... المشايخ: عبدالرحمن البراك وعابد السفياني وعلوي السقاف الناشر ... مكتبة الرشد - السعودية سنة الطبع ... ط 1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 529 التعريف بموضوع الكتاب: من حفظ الله لهذا الدين أن يسر في كل زمان من أهل العلم من لم يزالوا درعاً حصينة لدين الله, يذودون عن حياضه, ويحمون بيضته, ((ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) , ويردون عنه هجمات أعداء الله سواء من داخل الأمة أو من خارجها. ويدحرون كل من أراد الدين وأهله بسوء بالحجة والبرهان, والتوضيح والبيان. وإن من العلماء البارزين الذين كانوا شجى في حلوق أهل الباطل في هذا العصر الإمام عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز - رحمه الله - العالم الذي لم يفتأ مجاهداً لله بكلمة الحق, يدافع عن دين الله بكل ما آتاه الله من علم وبصيرة, فرد الله على يديه الكثير من المؤامرات التي تحاك لهذه الأمة داخلية كانت أو خارجية. ((الدرر البازية في الرد على الانحرافات العقدية والشرعية)) كتاب تتبع فيه المؤلف جهود سماحة الشيخ في الرد على انحرافات الكتاب والصحفيين في المسائل الاعتقادية والشرعية ووثق هذه الردود وقسمها تقسيماً بديعاً ومهَّد لها وقدَّم بمقدمات رائعة تكشف حيل الصحفيين وجهلهم بمسائل الشريعة والعقيدة. في بداية هذا البحث ترجم المؤلف لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - بترجمة موجزة ثم شرع في خطوة تمهيدية تطرق فيها لنقطتين مهمتين: الأولى دور الصحافة وتأثيرها في واقع الأمة, والثانية كيف كان الإمام - رحمه الله - يتعامل مع الصحافة ووسائل الإعلام. ثم شرع المؤلف بالدخول في فصول الكتاب العشرة فتحدث في أولها عن ردود الشيخ - رحمه الله - على الانحرافات في مسائل التوحيد والعقيدة, وكيف كان الشيخ - رحمه الله - يعتني بهذا الموضوع عناية كبيرة, وذكر المؤلف بعض الردود التي كتبها الشيخ - رحمه الله - رادًّا بها على مقالات تخالف العقيدة الصحيحة وتناقضها. وفي الفصل الثاني عرض المؤلف مجموعة من الردود التي كتبها الشيخ على بعض من طعن في أحكام القرآن الكريم أو السنة النبوية أو من قدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ به. أما الفصل الثالث فخصصه المؤلف لذكر جهود الشيخ في كشف الغزو الفكري في بلاد المسلمين, وتصديه له, وبيانه للأساليب التي يواجه بها هذا التيار الجارف الذي يستهدف الأمة في ثوابتها وأخلاقها. ثم عرض المؤلف في الفصل الرابع جهود الشيخ ابن باز في محاربة فكرة وحدة الأديان والتقارب بينها والرد على دعاتها وكشف عوارهم, وبيان كساد ما يدعون إليه. وفي الفصل الخامس كان الحديث فيه عن القومية العربية وجهود الشيخ في منابذتها والرد على دعاتها ونقدها نقداً واضحاً على ضوء الكتاب والسنة. وتكلم في الفصل السادس عن دور الشيخ في الرد على الاشتراكية ودعاة تطبيقها كنظام تسير عليه الأمة, ومراسلة بعض الأنظمة العربية التي جعلت من الاشتراكية منهجاً لها. وعقد المؤلف الفصل السابع للحديث عن جهود الشيخ في بيان مسألة تحكيم الشريعة والردود على الداعين إلى تحكيم القوانين والأحكام الوضعية في بلاد المسلمين. أما الفصلان الثامن والتاسع فعرض المؤلف فيهما جهود الشيخ في الردود على بعض الانحرافات العقدية والبدع المحدثة. ثم ختم المؤلف كتابه بفصل عاشر أظهر فيه جهود الشيخ - رحمه الله - في الرد على الانحرافات المتعلقة بقضية تغريب المرأة المسلمة وبعض القضايا الأخرى كتحديد النسل, وحكم الغناء في الإسلام, وبعض الأعياد المبتدعة. فالكتاب يعرض لنا أنموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه العالم السلفي الذي يهتم بقضايا الأمة ولا يشغله شيء عن شيء, بل يكون مضمار علمه وعمله وجهاده الأمة بكل قضاياها واهتماماتها وما يستجد فيها. فهو جدير بالقراءة والاطلاع خاصة في ظل الحملة الشرسة والمركزة من حملة الأقلام الصحفية المسمومة في الهجوم على الإسلام وشريعته وثوابته ومحاولة تضليل الأمة.

نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار

نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار عنوان الكتاب ... نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار اسم المؤلف ... بدر الدين محمود بن أحمد العيني تحقيق ... ياسر بن إبراهيم الناشر ... وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - قطر سنة الطبع ... 1429هـ عدد الأجزاء: ... 19 التعريف بموضوع الكتاب: كتاب (شرح معاني الآثار) من أعظم مؤلفات العلامة أبي جعفر الطحاوي وذلك لما احتوى عليه هذا الكتاب من فوائد تتعلق بالأحاديث سندا ومتنا واستنباط الأحكام منها مع حسن ترتيبه وتبويبه وقد صار هذا الكتاب من المراجع المهمة في المذهب الحنفي وذلك لأنه يثبت مذهب الأحناف مع إيراد أدلتهم وينفي ما ألصق بهم من رد الأحاديث وتقديم الرأي عليها، ولا يفوت الطحاوي أن يذكر أدلة المخالفين وينتصر لمذهبه الحنفي غالبا باستثناء مواضع يسيرة، لذا اشتدت عناية العلماء بهذا الكتاب بروايته وتدريسه وشرحه وتلخيصه والترجمة لرجاله. وكان من هؤلاء الذين اعتنوا بهذا الكتاب العلامة بدر الدين العيني حيث شرحه في كتابين الأول (مباني الأخبار في شرح معاني الآثار) وهو خال من الكلام عن الرجال حيث أفردهم في كتاب خاص سماه (مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار) أما الكتاب الثاني وهو كتابنا هذا (نخب الأفكار في تنقيح معاني الآثار). ويصدر العيني بكلام الطحاوي رامزا له بحرف (ص) أي أصل ويضعه أمام كل قطعة من كلام الطحاوي أراد شرحها ثم يضع بين يدي شرحه حرف (ش) أي شرح تمييزا له عن كلام الطحاوي. ويتميز شرح العيني هذا بأنه يذكر مناسبة الحديث بالباب ومناسبة الباب بما قبله من الأبواب ويطيل الكلام عن الرجال في أسانيد الأحاديث فيترجم لكل راو مقتصرا على اسمه ونسبه ولقبه ومرتبته في الجرح أو التعديل ومن وثقه ومن ضعفه ويضبط ما أشكل من الأسماء بالشكل أو بالحروف وبعدها يخرج الحديث ذاكرا من أخرجه من أصحاب الكتب المشهورة ولا يكتفي بذلك بل يحكم على الحديث صحة وضعفا ويتعرض أيضا للحديث ببيان ما فيه من اللغات والإعراب ووجوه المعاني والبيان والأسئلة والاعتراضات والأجوبة. أما من الناحية الفقهية فينقل المذاهب الفقهية المتعلقة بالمسألة وأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم مع ذكر الأدلة المحتج بها ثم يقوم بالترجيح مع الانتصار غالبا للمذهب الحنفي. ويكثر المؤلف من إيراد الاعتراضات والإشكالات مصدرا لها بقوله فإن قيل ..... ثم يسرد الاعتراض ويجيب عنه بقوله: قلت .... ثم يسرد الجواب. ويكثر أيضا في الغالب من ذكر الفوائد والاستنباطات المستخرجة من الأحاديث. ويتميز الكتاب بأنه يرفع الإبهام في كلام الطحاوي عند عرضه للأقوال دون أن ينسبها لقائل فيسميهم العيني. كذلك يتميز هذا الكتاب بأنه يكمل كتاب الطحاوي بذكر ما فاته من الأحاديث. لكن يؤخذ على الكتاب أنه يترك بياضا لما لم يجد تخريجه من الأحاديث أو ترجمته من الرجال في كثير من الأحيان، كذلك الانتصار للمذهب الحنفي والتكلف في دفع أدلة المخالفين، مع بعض الأوهام التي وقعت فيه وأكثرها في تعيين الرواة أو تخريج بعض الأحاديث. يبقى أن الكتاب عظيم الأهمية كبير النفع خاصة وأنه يطبع لأول مرة مع حسن إخراج وجودة تحقيق فجزى الله القائمين على إخراجه وتحقيقه خيرا.

قوادح الاستدلال بالإجماع

قوادح الاستدلال بالإجماع عنوان الكتاب ... قوادح الاستدلال بالإجماع الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع والجواب عنها اسم المؤلف ... د. سعد بن ناصر الشثري الناشر ... كنوز إشبيليا - الرياض سنة الطبع ... الطبعة الثانية 1425هـ - 2004م التعريف بموضوع الكتاب: لا ريب أن الإجماع مصدر من مصادر الأحكام الشرعية، ودليل مستقل تثبت به الأحكام، ومصدر مستمر إلى يوم القيامة، ومن هنا جاء الاهتمام به من قبل العلماء، وحظي لديهم مكانة مرموقة. فجاء المستشرقون وأذنابهم فشككوا في هذا الدليل استناداً على بعض الاعتراضات، مع غض النظر عن أجوبتها، ومن المعلوم أن الإجماع ثابت بنصوص الكتاب والسنة بأنه دليل مستقل لتشريع الأحكام، ويكثر الاستدلال به في كثير من الأحكام الشرعية، وقد يرد على هذا الاستدلال اعتراضات لا يمكن الجواب عنها، فتضعف الأخذ به في ذلك الموضع. وعرف الاعتراض بما يمنع به المعترض استدلال المستدل بدليله. فجاء هذا الكتاب ليبين لنا توضيح هذه الاعتراضات والجواب عنها. وقد بدأه المؤلف بمقدمة وتمهيد بين فيها تعريف الإجماع والاعتراضات، مقسماً الكتاب إلى ثمانية أبواب، ذكر في الباب الأول الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة ذاته، وفيه عدة فصول، منها: الاعتراضات بعدم تصور انعقاد الإجماع والجواب عنه، والاعتراض بالاستفسار والجواب عنه، والاعتراض بكون الأخذ بأقل ما قيل ليس إجماعاً والجواب عنه، مبيناً مقصود الاعتراضات مع ذكر أمثلة تطبيقية لها، ثم تحدث في الباب الثاني عن الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة عدم حجيته، ذكر فيه فصلين، الفصل الأول في الاعتراض بعدم حجية الإجماع والجواب عنه، والفصل الثاني في الاعتراض بعدم حجية الإجماع السكوتي والجواب عنه، وسرد تحتهما مباحث يبين فيها المقصود بالاعتراضات مع ذكر أمثلة تطبيقية لها، وبين في الباب الثالث الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة مستنده، وأورد تحته فصول ومباحث، تحدث فيه عن الاعتراض بكون الإجماع لا مستند له، وبعدم قطعية المستند، وبكون مستند الإجماع خبر آحاد، وبكون مستنده القياس مع ذكر الجواب عن هذه الاعتراضات، ثم تناول في الباب الرابع الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة المخالفة، وتحته فصول ومباحث، وذكر في الباب الخامس الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة صفته، وفيه فصول ومباحث، وتطرق في الباب السادس عن الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة سنده، وتحته فصول ومباحث، ثم ذكر بعد ذلك في الباب السابع الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة وجه الاستدلال وقسمه إلى فصول ومباحث، وفي الباب الأخير والثامن، تحدث عن الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالدليل من الإجماع من جهة معارضة غيره من الأدلة له، مبيناً المراد بذلك بأن يكون الدليل من الإجماع دالا على معنى، لكن هناك دليل من الكتاب يخالف معناه ومقتضاه، فالكتاب هنا يخالف الإجماع ويعارضه، ذاكراً المقصود بهذا الاعتراض، وموقف المعترض، وجواب المستدل، مع التمثيل لهذا الاعتراض. ثم تناول الاعتراض بمعارضة السنة للدليل من الإجماع، والاعتراض بمعارضة الدليل من الإجماع للإجماع، والاعتراض بكون القياس معارضاً للدليل من الإجماع، والجواب عن هذه الاعتراضات، والمقصود بها، وموقف المعترض، وجواب المستدل، مع ذكر التمثيل لهذه الاعتراضات. والكتاب يعتبر بحث جامع في بابه.

الصهيونية النصرانية دراسة في ضوء العقيدة الإسلامية

الصهيونية النصرانية دراسة في ضوء العقيدة الإسلامية عنوان الكتاب ... الصهيونية النصرانية دراسة في ضوء العقيدة الإسلامية اسم المؤلف ... محمد بن عبدالعزيز العلي الناشر ... دار كنوز إشبيليا سنة الطبع ... 1430 عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 519 التعريف بموضوع الكتاب: منذ بزوغ فجر الإسلام، وأعداؤه من اليهود والنصارى وسائر المشركين يكيدون له ولأهله المكائد والفتن، إذ تداعت الأمم الكافرة على المسلمين كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وفي زماننا هذا نرى تعاون النصارى مع اليهود بشكل سافر، في احتلال بلاد المسلمين، وبذلت طوائف نصرانية كثيرة جهدها في خدمة الصهاينة اليهود؛ لإقامة دولة لهم في فلسطين، وتلك الطوائف هي في الحقيقة اتجاه واحد وهو ما يعبر عنه بالصهيونية النصرانية، فما هي الصهيونية النصرانية؟ ومتى نشأت وما مصادرها؟ وما هي أهم مبادئها وأفكارها؟ وما العقائد التي تشترك فيها مع الصهيونية اليهودية؟ وما هي وسائلها التي تسلكها في العمل لتحقيق أهدافها، وما واجب المسلمين تجاهها؟ كل هذه الأسئلة والتساؤلات يجيب عنها الشيخ محمد بن عبدالعزيز العلي في كتابه (الصهيونية النصرانية دراسة في ضوء العقيدة الإسلامية) وهذا الكتاب هو دراسة عقدية تأصيلية لمذهب (الصهيونية النصرانية) بيّن فيه المؤلف ماهيته ومصادره، وأهم مبادئه وأفكاره، وقد قسم المؤلف كتابه إلى عدة فصول، تحدث في الفصل الأول عن مفهوم الصهيونية النصرانية نشأتها وأهم الأمور التي ساهمت في نشرها، ثم تحدث عن مصادر الصهيونية النصرانية في العهد القديم والجديد، وما هي مبادئ الصهيونية النصرانية، ودعوى النصارى لعصمة الكتاب المقدس ودعواهم بأن المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك، والعقائد المشتركة يبن الصهيونية النصرانية والصهيونية اليهودية، وقولهم بأن اليهود شعب الله المختار، وحقدهم الدفين لإزالة المسجد الأقصى وبناء معبد يهودي مكانه، ثم بين المؤلف عن وسائل الصهيونية النصرانية، وأهم الوسائل التي يستعملونها ومنها المؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام والهيمنة الاقتصادية، ثم تابع المؤلف بحثه عن موقف الصهيونية النصرانية من أتباع بعض الأديان والطوائف الأخرى وموقفهم منها، وفي الفصل الأخير تحدث عن واجب المسلمين تجاه الصهيونية النصرانية وكشف حقيقة الأعداء ومخططاتهم وتفنيد عقائدهم. والكتاب دراسة جادة تستحق التقدير

مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث

مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث عنوان الكتاب ... مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث اسم المؤلف ... الدكتور شاكير أحمد السحمودي الناشر ... مركز التأصيل للدراسات والبحوث - جدة سنة الطبع ... ط 1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 257 التعريف بموضوع الكتاب: ارتفعت الكثير من الأصوات, وتزايدت الدعوات إلى دراسة التراث وتمحيصه, سواء كانت هذه الدراسة على المستوى النظري أو المستوى التطبيقي, وطرحت كثير من الأسئلة والإشكالات حول هذا التراث للإجابة عليها, والكتاب الذي في أيدينا هذا الأسبوع ((مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث)) يبحث في القضية المنهجية التي حكمت هذه الدراسات. يتكون الكتاب من أربعة فصول, تحدث الفصل الأول عن أهم الإشكالات والأسئلة الكبرى التي شغلت الفكر العربي والإسلامي المعاصر وقد تم ترتيبها بحسب موضوعها إلى ثلاثة إشكالات: إشكال الإلوهية والوجود الإنساني والذي أخذ مظهرين متكاملين العقدي والمعرفي, وإشكالية النهضة والصحوة والذي عرض فيه لعدة إشكالات, وإشكالية المنهاج والقراءة في دراسة النص والتاريخ. أما الفصل الثاني فكان الحديث فيه عن الإجابات ذات المرجعية المنهجية التاريخية بصورها الثلاث والتي ظهرت تباعاً وهي: الصورة الوثائقية والتي بدأت اسشراقية غربية وانتهت مدافعة عن الروح والحضارة الإسلامية. ثم الصورة المادية الجدلية والتي بدأت اسشراقية ماركسية ليحمل عدد من المفكرين فيما بعد ثم الصورة البنيوية والتي نشأت في ظلال الفكر الفرنسي المعاصر. وفي الفصل الثالث تكلم المؤلف عن الإجابات ذات المرجعيات المنهجية النفسية وهذه أيضاً كانت لها ثلاث صور ظهرت متتابعة وهي: الصورة الجوانية والتي كانت في بدايتها مدافعة عن العقائد الإيمانية والروحية للإسلام لكن بمرجعية تخلط بين عدة اتجاهات كالعقلانية والتصوف والاشتراكية الناصرية. والصورة التحليلية المتخذة من علم النفس الفرويدي أرضية أولية لتفسيراتها النفسية للعقائد والقيم الثقافية الإسلامية. ثم الصورة الثالثة والأخيرة وهي الظاهراتية المدعمة بتحليل نقدي مادي للدين والتراث مستمد من فلسفة التنوير المادي وماديي القرن التاسع عشر. وفي الفصل الرابع والأخير تحدث المؤلف حول أزمة المنهجية وصعود المنهج التكاملي في ثلاثة مقاصد: أولها: في بيان أزمة الخطاب العربي المعاصر, وتعليلها, ووصف مظاهرها. ثانيها: في الصورة الأولى المنهج التكاملي, ويمثلها أصحاب النزوع المنطقي الحجاجي ذوو النزوع الصوفي. والثالث في الصورة الثانية لهذا المنهج والتي يمثلها تيار الإحياء الإسلامي المعاصر, والذي ربط بين مناهج التفكير والتدبير وبين مشروع البناء الحضاري المستقبلي للأمة الإسلامية.

الأعياد المحدثة وموقف الإسلام منها

الأعياد المحدثة وموقف الإسلام منها عنوان الكتاب ... الأعياد المحدثة وموقف الإسلام منها اسم المؤلف ... الدكتورعبدالله بن سليمان آل مهنا الناشر ... دار التوحيد - الرياض سنة الطبع ... ط1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 392 نوع الكتاب ... رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه التعريف بموضوع الكتاب: خص الله الأمة الإسلامية بعيدين هما عيد الفطر وعيد الأضحى ليكونا بديلين عما كان يتخذه الجاهليون من أعياد يمارسون فيها شعائر الشرك, وطقوس الوثنية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى)) فكان هذان العيدان قائمين على ذكر الله وشكره, وشرع لنا فيها مظاهر الاجتماع, والتعظيم لله, وإظهار الابتهاج والسرور, والتوسيع على النفس, والأهل, والولد في المطعم, والمشرب, والملبس, واللعب المباح, مما جعل لها تعظيماً للنفوس, وأضحى المسلمون ينتظرونها بشوق ولهفة, فأغنى ذلك عن جميع الأعياد المبتدعة, والاحتفالات المحدثة. إلا أنها ومع ضعف التدين, وهجر العلم ظهرت الكثير من الأعياد المبتدعة المرتبطة ببعض الأزمنة والأمكنة بل والوافدة علينا من الأمم الكافرة, فأقبل الناس عليها, وشرعوا في مشاركة أهل الشرك في أعيادهم, وطقوسهم, فكان لزاماً على أهل العلم توضيح الحكم الشرعي في هذه الأعياد, وما موقف الإسلام في الاحتفال بها وتهنئة أهلها بقدومها. (الأعياد المحدثة وموقف الإسلام منها) للدكتور عبدالله آل مهنا كتاب ناقش هذه الأعياد, ووضح حكم الاحتفال بها, فبعد التمهيد الذي عرف فيه العيد, وذكر ضابطه, وبين منزلة العيد في الإسلام, وما هي الأعياد الإسلامية, وما يشرع فيها, وعن التشبه بالكفار, وما ضابطه, وحكمه, والمفاسد المترتبة عليه, شرع بعد ذلك في الكتاب والذي تألف من ثلاثة أبواب: ففي الباب الأول تحدث عن أعياد الأمم الكافرة, موضحاً أهمية معرفة هذه الأعياد, ثم سرد مجموعة من أعيادهم, كأعياد المجوس, واليهود, والنصارى, وأعياد الجاهليين العرب, والأعياد العالمية. وفي الباب الثاني كان الحديث فيه عن الأعياد البدعية عند المسلمين, فبدأ بتمهيد ذكر فيه تعريف البدعة, وهل في البدعة ما هو حسن وما هو سيء؟ ثم ذكر أنواع البدع وذمها, والمفاسد التي تنتج عنها, والأضرار الناجمة عن اتباعها, ثم أتبع ذلك بثلاث فصول, خص الأول بالحديث عن الأعياد البدعية الزمانية والمكانية, وتكلم فيه عن معناها وأقسامها, وعلة النهي عن الاحتفال بها وممارستها. والفصل الثاني تكلم فيه عن الأعياد الزمانية, فذكر أنواع الأزمنة, وأمثلة من الاحتفالات الزمانية المبتدعة كالاحتفال بالهجرة, والمولد النبوي, وعاشوراء, والإسراء والمعراج وغيرها, وبين أحكامها الشرعية, مستنداً في ذلك على أقوال أهل العلم. وفي الفصل الثالث من هذا الباب كان الحديث عن الأعياد المكانية, فذكر أنواع الأمكنة, وأمثلة للأعياد المكانية, كزيارة قبور بعض الصالحين ومقامات الأنبياء وغيرها. أما الباب الثالث والأخير فعقد فيه فصلين الأول عن مظاهر مشاركة الكفار في أعيادهم وأحكامها وذكر مجموعة من هذه المظاهر كصوم أعيادهم, والأكل من ذبائحهم وحضور أعيادهم وغيرها. أما الثاني فكان الحديث فيه عن الاحتساب على الأعياد المحدثة وأهميته, ذاكراً أمثلة على ذلك, مع بعض الطرق والأساليب في الاحتساب على هذه الأعياد.

تكوين المفكر - خطوات عملية

تكوين المفكر - خطوات عملية كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... تكوين المفكر - خطوات عملية اسم المؤلف ... أ. د. عبدالكريم بكار الناشر ... الإسلام اليوم - الإنتاج والنشر سنة الطبع ... 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 289 التعريف بموضوع الكتاب: كما أن أمتنا تحتاج إلى علماء ربانيين يحملون العلم ويبلغونه, وتحتاج إلى دعاة يرشدون ويربون ويوجهون, فهي كذلك تحتاج إلى مفكرين واعين يقدمون للأمة زاداً فكرياً ومعرفياً, ويتلمسون من الماضي الغابر, والمستقبل الحاضر ما يستخلصونه من العبر والدروس التي من شأنها أن توجد الحلول للكثير من المشاكل الفكرية والأزمات المعرفية. كتاب ((تكوين المفكر-خطوات عملية)) وضع مؤلفه الأسس والقواعد التي يبني عليها المفكر نفسه, والخطوات التي توصله إلى غايته. من هو المفكر؟ سؤال ابتدء به المؤلف كتابه ليصل من خلاله إلى تعريف المفكر, والفرق بينه وبين غيره ممن يشتغلون في حقل العلم والمعرفة, ويستخدمون الأفكار والمفاهيم المتعلقة بالحضارة والاصطلاح كالمتخصص, والعالم, والمصلح, والداعية, وغيرهم. ثم تكلم عن الصفات التي لابد أن تتوفر في المفكر, وأن هناك من الصفات ما تتوفر فيه وفي غيره ومنها ما يكون خاصاً به دون سواه. وذكر منها حبه للمعرفة واحتفاله بالجديد منها, وأنه نسيج وحده يختلف مع غيره من المفكرين بناء على اختلاف النظر, وكونه كل يوم يتعرف على أشياء من شأنها أن تغير قناعاته القديمة بأخرى جديدة, ومن صفاته شعوره بالمسؤولية وبذله الجهد ليكون عقلية مستقلة متحررة إلى غير ذلك من الصفات. بعد ذلك استعرض الحديث عن العقل والدماغ لما لهما من ارتباط وثيق بموضوع المفكر والتفكير, مبيناً أن العقل عقلان متكلماً عن كل نوع منهما. وفي عنوان بارز تحدث المؤلف عن الحقيقة وأنها والحق ركنا الحياة الإنسانية, ذاكراً بعض القواعد التي تساعد على بناء مجتمع الحقيقة الذي يتحلى بها ويبحث عنها, ثم شرع في الحديث عن التفكير مجيباً عن سؤال طرحه عن ماهيته بعدة نقاط. ثم ذكر المؤلف بعد ذلك أساساً من أسس تكوين المفكر وهو تنمية الابداع وأن الإنسان إذا لم يستغل إمكانياته فسيجد له متسعاً في مقابر الموهوبين الذين خرجوا من الحياة دون أن يعلم أحد عن مواهبهم شيئاً, مبيناً أن تنمية الإبداع تكون بالتغلب على المعوقات, وأن طريق الإبداع يتطلب السير فيه وجود الدافع, والتركيز والاهتمام, وأن يكون هناك مجالاً رحباً للإبداع وغير ذلك. ثم تعرض المؤلف للتفكير النقدي كأساس من أسس صناعة المفكر, موضحاً أهمية الممارسة النقدية, وكيفية تأسيس العقلية النقدية. ثم أوضح المؤلف الكيفية التي من خلالها نفهم الواقع, ذاكراً مفاهيم تساعد على مقاربة الواقع, وكيفية الحكم عليه, ثم تحدث عن المطلق والنسبي وماهيتهما. وكأساس من أسس تكوين المفكر تكلم المؤلف عن المعرفة, وأنها وقود العقل وأهمية الاستزادة المستمرة منها وكيفية ذلك. ثم أردف بأمور تستحق أن يحذر المفكر منها كالجزم حيث ينبغي التوقف, وكالمجاملة على حساب الحقيقة, وكتحجيم الخيارات وغيرها, ليختتم كتابه بالحديث عن تطوير الأفكار والأساليب المساعدة على ذلك.

أثر التحول المصرفي في العقود الربوية

أثر التحول المصرفي في العقود الربوية عنوان الكتاب ... أثر التحول المصرفي في العقود الربوية. اسم المؤلف ... عمار أحمد عبد الله. الناشر ... دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع بالرياض. سنة الطبع ... ط 1/ 1430 عدد الصفحات: ... 654 نوع الكتاب ... رسالة جامعية قدمها المؤلف لنيل درجة الماجستير في الفقه المقارن، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الجنان في طرابلس - لبنان. التعريف بموضوع الكتاب: ليست الأعمال المصرفية وليدة اليوم والأمس، فقد عرفت الحضارات القديمة أشكالا من الأعمال المصرفية، ومع تقدم الحياة المدنية ازدادت وتطورت عما كانت عليه من قبل، حتى أصبحت أحد الدعائم الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي في العصر الحديث، وقد انتقلت هذه المصارف الربوية إلى البلاد الإسلامية بفعل الاستعمار الغربي، ثم كان من نتائج الصحوة الإسلامية ظهور بعض التجارب المصرفية الإسلامية في بعض البلدان الإسلامية، ونتج عن هذا الوعي أن تحولت بعض البنوك الربوية إلى بنوك إسلامية بشكل كامل. وأهم تغيير يواجه هذه العملية هو التخلص من الربا، أو الفوائد المصرفية الربوية التي نشأت من العقود الربوية قبل مرحلة التحول. ويهدف هذا الكتاب إلى تجلية الحكم الشرعي للفوائد المصرفية المترتبة على العقود الربوية، لمصرفٍ بدأ عملية التحول إلى مصرف إسلامي. والكتاب يتألف من أربعة أبواب، تكلم المؤلف في الباب الأول منه عن العقود الربوية في المصرف الربوي في مرحلة ما قبل التحول، وذلك من خلال أربعة فصول أوضح من خلالها، عقود الاقتراض الربوية وما يتعلق بها من حسابات التوفير والادخار، والحسابات الثابتة (لأجل)، والحسابات الخاضعة لإشعار (ودائع بإخطار)، وشهادات الاستثمار، كما تكلم عن أساليب الاستثمار الربوية، متحدثا عن القروض الاستهلاكية للفرد، والقروض الإنتاجية والاستثمارية للشركات والمؤسسات، وتسهيلات الجاري مدين، والاعتماد البسيط، والاستثمار في السندات الحكومية، وأوضح الخدمات المشتملة على الربا، مبينا حسم الأوراق التجارية، والاعتمادات السندية، وخطابات الضمان، وتكلم عن العلاقات الربوية بين المصرف والمصارف الأخرى، كالمصرف المركزي في حالة الإقراض والاقتراض، والعلاقة مع المصارف الأخرى في حالتي الإقراض والاقتراض كذلك. وأوضح المؤلف في الباب الثاني الحكم الشرعي فيما يترتب على العقود والخدمات الربوية من عوائد عند التحول، متحدثا عن الحكم الشرعي في الفوائد المترتبة على عقود الاقتراض، سواء كانت فوائد ربوية مستلمة سابقا وموجودة في خزينة المصرف، أو تم توزيعها على حملة الأسهم والمستثمرين في المصرف، وكذلك الحكم الشرعي في الفوائد الربوية المستحقة على عقود ربوية قائمة لم يتم تسلمها بعد. كما تحدث في هذا الباب أيضا عن الحكم الشرعي لعقود الاقتراض المنتهية والقائمة عند التحول، وكذلك عن الربح الناتج عن استثمار أموال تم الحصول عليها بعقود اقتراض ربوية. وفي الباب الثالث تكلم المؤلف عن البدائل الشرعية لمصادر الحصول على الأموال كحسابات التوفير والادخار، وحسابات الاستثمار، وتحدث عن البدائل الشرعية لأساليب استثمار الأموال، كالمرابحة، والبيع المؤجل، وعقد السلم، وعقد الاستصناع، والمشاركات، والإجارة العادية، والإجارة المنتهية بالتمليك. وفي الباب الرابع تكلم المؤلف عن البدائل الشرعية في مجال الخدمات المصرفية والتعامل مع المصارف الأخرى، متحدثا عن ضوابط الاعتمادات السندية، وضوابط خطابات الضمان أو الكفالات المصرفية وضوابط تعامل المصرف الإسلامي مع المصارف الأخرى.

إضاءات في طريق العلم

إضاءات في طريق العلم عنوان الكتاب ... إضاءات في طريق العلم اسم المؤلف ... القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية الناشر ... مؤسسة الدرر السنية - الظهران سنة الطبع ... 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 149 التعريف بموضوع الكتاب: لا بد لطالب العلم خلال سيره على طريق التحصيل من إرشادات وإضاءات يستنير بها في طريقه, ويستدل بها على منهجه, ويشحذ بها همته, ويستصحبها خلال رحلته في الطلب, وما أروع هذه الإشارات والإضاءات حينما تكون ممن سبقه على هذه الطريق من العلماء والفضلاء الذين بذلوا فيه المشقة والعناء وضربوا أروع الأمثلة في التفاني في التحصيل, ليستفيد من تجاربهم, وينهل من معينهم, ويتزود من حكمهم ويستلهم منهم ما يكون معيناً ورافداً له على الطريق. (إضاءات في طريق العلم) كتاب جديد من إصدارات مؤسسة الدرر السنية, جمع بعضاً من هذه الإضاءات فابتدء بإضاءات في فضل العلم وأهله, مارّاً ببعض الإضاءات التربوية التي لابد منها لطالب العلم, ثم إضاءات على أولى الخطوات في طلب العلم وبداية طريقه, ثم ذكر بعض الإضاءات لطالب العلم من أجل ثباته على الطريق حتى لا تزل قدمه وينحرف عن الجادة ويترك الطلب, ومن ثم عرج على إضاءات حول رفيق دربه وأنيس رحلته (الكتاب) لتبيين قيمته, وللإشعار بأهميته, ولشحذ الهمة للاستزادة من الاطلاع والقراءة, ثم أتبع ذلك بإضاءات حول ورثة الأنبياء, وحمَّال الأمانة وأهل العلم والديانة, وذكر نماذج من حياتهم وسيرهم مع العلم وتحصيله, ثم ذكر إضاءات على أنواع العلوم والفنون من ناحية نفعها ومن ناحية غايتها ووسيلتها, وأهمية التخصص في نوع منها, بعد ذلك ذكر إضاءات على التصنيف والتحقيق وعلو الهمة فيه لمن وصل من العلم ما يؤهله إليه, ومنهجية التأليف وأغراضه, وتنبيهات ومحاذير تتعلق بالتحقيق وغيرها مما يتعلق بهذا الشأن. ثم سلط الكتاب إضاءاته على التعليم وآداب المعلم التي ينبغي له أن يتحلى بها ويتنبه لها, وبيان مهمات التعليم وغاياته, ليختم الكتاب بتسليط الضوء على نهايات الطريق - وإن لم يكن له نهاية - وبعض التنبيهات لمن بلغ فيه مبلغ العلماء ووصل في طريقه إلى مدارك الفضلاء. نسأل الله أن ينفع به جامعه ومقتنيه وأن يجعله في ميزان حسنات الجميع

خزانة الكتب

خزانة الكتب عنوان الكتاب ... خزانة الكتب اسم المؤلف ... القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية - إشراف الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف الناشر ... مؤسسة الدرر السنية - الظهران سنة الطبع ... 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 678 التعريف بموضوع الكتاب: العلم بحر لا يعرف غوره .. وساحل لا يقاس حده .. وما من فن من فنون العلم إلا وقد أشبعه أهل العلم دراسة وبحثاً, وتحقيقاً, وتصنيفاً .. فكثرت المصنفات, وتعددت التحقيقات, وتشعبت العلوم والفنون, وأصبح من الصعب على طالب العلم في خضم هذا البحر الزاخر من الكتب أن يعرف غثها من سمينها, وحسنها من سيئها, فرأت مؤسسة الدرر السنية أن تعمد إلى هذه المصنفات في شتى الفنون فتلم شعثها, وتجمع متفرقها, فتسلكه في نظام متسق, يسهل على طالب العلم من خلاله معرفة الكتب والمصنفات في فنون عدة, ويتعرف على نبذة عنها, وعن تحقيقاتها, وشروحها, وأفضل طبعاتها, وأشياء أخر, فجمعتها في كتاب واحد أسمته خزانة الكتب .. لتكون هذه الخزانة دليلاً لطالب العلم عند شرائه واقتنائه للكتاب. وأصل هذه الخزانة رسائل كانت ترسل للمشتركين في جوال الدرر السنية لعامي 1429هـ - 1430هـ , ومن ثم قام القسم العلمي في مؤسسة الدرر وبإشراف من الشيخ علوي بن عبد القادر السّقّاف بجمعها وترتيبها, وتبويبها, وفهرستها, وسد الخلل الواقع فيها, وإكمال نقصها, لتظهر في آخر المطاف خزانة حافلة بالكتب والمصنفات, مرتبة ترتيباً يسهل فيها الوصول إلى الكتاب, ومعرفة محتواه, وبعضاً من المعلومات المتعلقة به, وقد احتوت هذه الخزانة على ما يقارب من ألفي كتاب ومصنف في سائر العلوم, كالتفسير, والعقيدة, والفرق, والحديث, واللغة, والتاريخ وغيرها. وإن من أهم ما يميز هذا الكتاب: • ذكره لأفضل الكتب في موضوعات معينة. • تعريجه على بعض الكتب التي ينصح بها والاستفادة منها. • ذكره لبعض الفوائد والتنبيهات المهمة والمفيدة لطالب العلم والتي لا تكاد توجد إلا فيه. . إردافه بمجموعة من الفهارس لتسهيل الوصول إلى محتويات الكتاب كفهرس الكتب والمؤلفين والمحققين, وفهرس للكتب التي ينصح بها , وفهرس لأجود وأفضل الطبعات.

الإيجاز في بعض ما اختلف فيه الألباني وابن عثيمين وابن باز

الإيجاز في بعض ما اختلف فيه الألباني وابن عثيمين وابن باز عنوان الكتاب ... الإيجاز في بعض ما اختلف فيه الألباني وابن عثيمين وابن باز اسم المؤلف ... د. سعد بن عبد الله البريك تقديم ... الشيخ عبد الله بن جبرين، والدكتور سلمان العودة، والشيخ عبد العزيز بن قاسم، والشيخ أبي الحسن السليماني، وعبد الله بن مانع الروقي سنة الطبع ... الطبعة الأولى /1430 عدد الأجزاء: ... 2 التعريف بموضوع الكتاب: يقول الله عز وجل: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ويقول أيضا: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تدعوا إلى اجتماع الكلمة وتحذر من الافتراق. وقد قضت سنة الله أن يقع الاختلاف بين أهل العلم، وأسباب ذلك كثيرة معلومة، ولكن أهل العلم ينبغي أن يكونوا أحرص الناس على اتحاد الكلمة ونبذ الفرقة حتى وإن اختلفوا فيما يسعهم الاختلاف فيه. وقد حاول الدكتور سعد البريك أن يقدم تطبيقا عمليا في كتابه (الإيجاز في بعض ما اختلف فيه الألباني وابن عثيمين وابن باز) ببيان أن الاختلاف أمر لا مفر منه ولكن كيف يكون التعامل مع المخالف، وذلك باختيار ثلاثة من أئمة أهل السنة من العلماء الموثوق في علمهم وهم العلامة المحدث الفقيه عبد الله بن باز، والعلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والعلامة الفقيه الأصولي محمد بن صالح بن عثيمين، رحمهم الله تعالى، مستعرضا بعض ما اختلفوا فيه في كثير من المسائل، ومع ذلك لم يحصل بينهم تهاجر ولا تقاطع ولا مهاترات أو خصام وإنما كان يثني بعضهم على بعض ويشهد بعضهم لبعض بالعلم والفضل، مع سلامة الصدور وحسن الظن، ولم يكن اختلافهم طريقا للتباغض والتنافر فيما بينهم أو الطعن أو التجريح، وذكر في المقدمة ثناء بعضهم على بعض وذكر من أقوالهم التي تضمنت توجيهات تربوية في كيفية التعامل في مسائل الخلاف. وقد جمع المؤلف المسائل التي اختلفوا فيها سواء كان الاختلاف في المسائل العلمية أو العملية فكان يسرد أقوالهم وما استدل به كل واحد منهم، مبتدئا بالشيخ ابن باز، في جميع مسائل الكتاب، ثم من وافقه ومن خالفه، ولم يتعرض للترجيح بين الأقوال، كما أنه لم يخرج الأحاديث والآثار الواردة في المسائل. وبدأ في سرد المسائل التي تتعلق بالعقيدة، كمرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله آدم على صورته))، ثم بالمناهي اللفظية، كحكم قول القائل: (لا سمح الله)، ثم ذكر المسائل التي تتعلق بكتاب الطهارة، ذكر فيها ما يتعلق بالآنية، كمسألة ما يطهر من جلود الميتة بالدباغ. وباب الاستنجاء، وباب سنن الفطرة، ومسائل باب الوضوء كمسألة حكم التسمية والترتيب في الوضوء، وفي باب المسح على الخفين، كحكم المسح على الخف أو الجورب الرقيق، وغيرها من الأبواب. ثم تناول في كتاب الصلاة، المسائل التي تتعلق بالأذان والإقامة، والتي تتعلق بشروط الصلاة، وبصفة الصلاة، ومسائل صلاة التطوع، كحكم الزيادة عن عدد الركعات الثابتة في السنة النبوية في صلاة التراويح. ومسائل صلاة الجماعة، كحكم صلاة الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب ومؤذن راتب، وغيرها من المسائل. والكتاب وإن كان فقهيا في مضمونه إلا أنه تربوي في أصوله ونتائجه، وهو جيد في بابه ومهم لطلاب العلم.

الاختلاط تحرير وتقرير وتعقيب

الاختلاط تحرير وتقرير وتعقيب عنوان الكتاب ... الاختلاط تحرير وتقرير وتعقيب اسم المؤلف ... عبد العزيز بن مرزوق الطريفي عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 82 التعريف بموضوع الكتاب: الاختلاط .. الداء الخطير والشر المستطير الذي ما وجد في أمة إلا كان نذيراً لهلاكها .. وطريقاً إلى ضياع أخلاقها, وانتهاك أعراضها .. هذا المرض الذي وجد فيه أعداء الأمة مناخاً مناسباً لنشر الرذائل .. ورأوه سبيلاً مختصراً لدك حصون الأمة من داخلها, فأوعزوا إلى بعض المحسوبين على الأمة بحمل الراية والقيام بمهمة الدعوة إلى الاختلاط وتزيينه والترويج له وإلباسه لباسأ شرعياً .. وهيهات لهم ذلك. (الاختلاط تحرير .. وتقرير .. وتعقيب .. ) كتاب تكلم عن هذه الظاهرة الخطيرة, وقد قام المؤلف في بدايته بتحرير محل النزاع في هذه المسألة مبيناً أنه لا يوجد عالم من علماء المسلمين تحدث عن تحريم مرور المرأة في الأسواق والميادين العامة التي لا قرار فيها ولا جلوس ولا ممازجة , وأن من يثير هذه المسألة في وسائل الإعلام لا يُرِيد هذه الصورة وإنما يذكرها على سبيل جر العلماء والفضلاء إلى إطلاقات وعمومات يريدونها تسقط على مقاصد أخرى محرمة. كما يبن أن احتراز العلماء للاختلاط العابر في الأسواق وغيرها من غير قرار فيه واستثنائه من الاختلاط المحذور لا حاجة إلى بيانه وعدم وروده عند العلماء, إلا عندما أراد البعض أن يلزم العلماء به, ويقيس عليه غيره ليخلط الأنواع المتفرقة هروباً من النص إلى القياس. وأوضح المؤلف من هم المخاطبون بنصوص الشرع , وأن الخطاب لا يتوجه إلى من لا يرى مقاماً للشرع في حياة الناس ويعتقد انفصال الدين والدنيا عن بعضهما, وتكلم عن الصوارف عن طريق الصواب والتي من أهمها مخالطة الباطل حساً ومعنى بلا معرفة سابقة للحق وهذا هو حال كثيرٍ من الداعين إلى الاختلاط , وموضحاً أنه قلما يُعْمِلُ الإنسان عقله المتجرد لسبر الحقائق وتمحيصها بلا مؤثر .. وإذا كان الإنسان متلبس بعمل ما كره أن يخالف قوله فعله فيبحث عن الأقوال الموافقة لفعله وإن كانت شاذة. ثم تحدث عن حقيقة الاختلاط , وأنها حقيقة واضحة وبينة بحيث لا تخفى على أحد, وبين أن الفطرة البشرية والشرائع السماوية السابقة تعرف خطره,, وذكر ما يدل على ذلك. ورد المؤلف على من قال أن مصطلح الاختلاط حادث مبتدع, وبين أنه قد ورد في دوواين السنة وآثار السلف وكتب الفقهاء , ونقل الاجماع على عدم جواز الاختلاط في مجالس التعليم والعمل, كما ذكر أقوال الأئمة الأربعة في التحذير منه والاحتراز له. ثم شرع في ذكر نصوص السنة التي بينت خطر هذا الداء والتي بلغت حد التواتر, ومن ثَمَّ ذكر أقوال أهل العلم عبر القرون رادّاً بذلك على من قال أن مصطلح الاختلاط حادث مبتدع لا تعرفه قواميس الشريعة ولا مدونات العلماء. كما أوضح أن كثيراً ممن يتحدثون في هذا الموضوع يحشدون أدلة لا يعلمون موضعها من الشرع, ومن ذلك جهلهم بالناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر. بعد ذلك ذكر المؤلف مجموعة من الأدلة والوقائع التي يستدل بها المبيحون للاختلاط وقام بمناقشتها والرد عليهم في استدلالهم بها. كتب الله للمؤلف أجره, وأجزل له مثوبته, ونفع به الإسلام والمسلمين.

اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية وآراؤه في قضايا معاصرة

اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية وآراؤه في قضايا معاصرة عنوان الكتاب ... اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية وآراؤه في قضايا معاصرة اسم المؤلف ... الدكتور خالد بن مفلح بن عبدالله آل حامد الناشر ... دار الفضيلة - الرياض سنة الطبع ... 1431هـ عدد الصفحات: ... 1806 نوع الكتاب ... رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التعريف بموضوع الكتاب: إن العلماء هم أهل الفضل والرفعة والمكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة التي لا تساويها منزلة ولا تساميها مرتبة مهما علت, وإن أقل ما يُقدم لعلماء الأمة الأفذاذ العظماء أن يبين فضلهم, وينشر علمهم, ليستمر نفعهم وعطاؤهم حتى بعد موتهم. والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله - من هؤلاء العلماء الذين نشروا العلم والدعوة, وذادوا عن حياض الدين والتوحيد حتى أتاهم أمر الله وهم على ذلك. وفي كتابنا لهذا الأسبوع والذي يحمل اسم (اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية وآراؤه في القضايا المعاصرة) قام الدكتور خالد بن مفلح آل حامد بجمع اختيارات الشيخ ابن باز - رحمه الله تعالى - والتي خالف فيها المشهور من مذهب الإمام أحمد- رحمه الله تعالى -، مع بيان العلاقة بين آراء الشيخ وآراء الفقهاء من الأئمة الأربعة وغيرهم، واستعرض آراءه الفقهية في بعض القضايا المعاصرة مع ذكر من وافقه أو خالفه من علماء الإسلام المعاصرين، مع اعتماد المتأخر من آرائه عند تعارض أقواله في المسألة الواحدة، وقد قام المؤلف بجمعها من كتبه ورسائله المنشورة أو من الأشرطة المسموعة, ورتب ذلك كله على الأبواب الفقهية, كما أردف في نهاية كل باب من الأبواب بعض المسائل التي وافق فيها الشيخ ابن باز مذهب الإمام أحمد - رحمهما الله- فيقوم بذكر النص من كلام الشيخ في المسألة ثم يذكر النص الذي يدل عليه عند المذهب الحنبلي.

معيار البدعة - ضوابط البدعة على طريقة القواعد الفقهية

معيار البدعة - ضوابط البدعة على طريقة القواعد الفقهية عنوان الكتاب ... معيار البدعة - ضوابط البدعة على طريقة القواعد الفقهية اسم المؤلف ... محمد بن حسين الجيزاني الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ... ط1 - 1431هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 335 التعريف بموضوع الكتاب: البدعة .. معول هدم استغله أعداء الله لتقويض بنيان الدين الحنيف, وتشتيت كلمة المسلمين وتفريق شملهم وذلك لما علموه من أثر سيء لها .. وأنها تفسد الفكر ولا تصلحه وتفرق الشمل ولا تجمعه, فانطلقوا جادين يدعمون أهل البدع والخرافات ليكونوا سفراء لتنفيذ مخططاتهم في البلاد الإسلامية. و (معيار البدع) كتاب ضبط فيه صاحبه البدعة على طريقة التقعيد الفقهي ليجمع الشبيه إلى شبيهه, ويلم المتفرق من مسائل البدعة لتكون أسهل متناولاً, وأوضح تقسيماً وحكماً. فبعد التمهيد الذي ذكر فيه تعريف البدعة وخصائصها والأصول الجامعة للابتداع والقواعد التي عن طريقها تعرف البدعة, بنى كتابه على أربع قواعد كبرى كلية يتفرع من خلالها عدة قواعد في ضوابط البدعة وما يتعلق بها وهي كالآتي: القاعدة الأولى: ((كل بدعة في الشرع ضلالة)) وأدرج تحت هذه القاعدة عشر قواعد وهي: 1. كل بدعة في الشرع ضلالة 2. كثرة الجزئيات بمنزلة البدع الكليات 3. صغائر البدع من المتشابهات 4. البدعة الإضافية كالحقيقية 5. الابتداع مذموم على الإطلاق والعموم 6. البدع مراكب والذم مراتب 7. رد البدعة والتأثيم يقتضي التحريم 8. البدعة والاستحسان لا يجتمعان 9. إن تحمل المعنى الشرعي المتين فلا تخصيص ولا تقسيم ولا تحسين 10. البدعة الحسنة لا تقوم مقام البدعة الإضافية. القاعدة الثانية: ((لا تبديع في مسائل الاجتهاد)) وأدرج تحت هذه القاعدة خمس قواعد وهي: 1. لا تبديع في مسائل الاجتهاد 2. الاشتباه في البدعة وارد 3. لا منافاة بين البدعة والخلاف 4. الاجتهاد في تحقيق المناط لا ينافي الابتداع 5. لا بد للمبتدع من بدعة ولا عكس. القاعدة الثالثة: ((قيد العبادات واحذر الآفات)) وأدرج تحت هذه القاعدة سبع قواعد وهي: 1. الأصل في العبادات الحظر 2. لا قربة إلا بطاعة 3. عدم قصد القربة ممتنع في القربة المقصودة 4. الأصل في العبادات المطلقة: التوسعة 5. الأمر المطلق لا يمكن امتثاله إلا بتحصيل المعين 6. ما شرع من العبادات على وجه العموم لا يدل على مشروعيته على وجه الخصوص 7. قيد العبادات واحذر الآفات. القاعدة الرابعة: ((العادات المجردة لا بدعة فيها)) وأدرج تحت هذه القاعدة ثمان قواعد وهي: 1. العادات المجردة لا بدعة فيها 2. الأصل في العادات الحل 3. الإحداث في العادة: بالمشاقة والعبادة 4. الترك الضلال: التدين بترك الحلال 5. الوسائل التعبدية: مقاصد تقصد 6. الوسائل محكومة لا حاكمة 7. مشابهة الكافرين بدعة في الدين 8. الأعياد توقيفية. وبهذا يكون ما جمعه المؤلف من القواعد ثلاثين قاعدة تضبط البدعة وتعرف أحكامها وأحوالها. جزى الله المؤلف خير الجزاء وجعل ما كتب في ميزان حسناته ونفع به الإسلام والمسلمين.

الاختلاط بين الجنسين

الاختلاط بين الجنسين كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... الاختلاط بين الجنسين - في ضوء الكتاب والسنة من خلال أصول الفقه ومقاصد الشريعة مع أقوال علماء المذاهب الإسلامية المختلفة اسم المؤلف ... عامر بن محمد فداء بهجت سنة الطبع ... ط 1 - 1430هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 80 التعريف بموضوع الكتاب: تعتبر الدعوة إلى الاختلاط بين الجنسين حلقة من سلسلة الهجمات التي يشنها أعداء الأمة الإسلامية على كل ما هو إسلامي, فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن هذه القضية, ووجد المتغربون من أبناء جلدتنا فرصة تمكنهم من الاصطياد في المياه العكرة - كما يقال - فأخذوا ينشرون أطروحاتهم, ويكتبون مقالاتهم والتي مؤداها أن الإسلام لا يحرم الاختلاط ولا يمنعه, وأن هذه الكلمة - أي الاختلاط - غريبة على قاموس المصطلحات الإسلامية, والعجيب أن تجد هذه الدعوات صداها في المجتمع, والأعجب من ذلك أن يتبناها من يحسب على أهل العلم والصلاح ويروج لها, ويبدأ في التنظير لها ليلبسها لباساً شرعياً. كتاب هذا الأسبوع هو: (الاختلاط بين الجنسين - في ضوء الكتاب والسنة من خلال أصول الفقه ومقاصد الشريعة مع أقوال علماء المذاهب الإسلامية المختلفة) تناول هذه القضية, وفصل فيها وأجاب على كثير من التساؤلات المثارة حولها. في بداية الكتاب وفي الباب الأول منه تكلم المؤلف عن مفهوم الاختلاط في ضوء نصوص القرآن وأورد الآيات التي تحذر من الاختلاط ووجه الاستدلال بها وكلام أهل التفسير حولها. ثم انتقل المؤلف في الباب الثاني من الكتاب للحديث عن الاختلاط في ضوء السنة النبوية, وحشد مجموعة من الأحاديث التي حذر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختلاط, وأوضح وجوه الاستدلال بها, ناقلاً ما قاله أهل العلم في شرحها وتبيينها. والباب الثالث تكلم عن الاختلاط في ضوء مقاصد الشريعة وغاياتها, فبعد أن نقل كلام إمام المقاصد أبي إسحاق الشاطبي في المسالك التي يعرف بها ما هو مقصود مما ليس هو مقصود للشارع, قام بتطبيق كلامه على النصوص الواردة في الاختلاط, وأوضح أن الفصل بين الرجال والنساء وعدم الاختلاط من مقاصد الشريعة الغراء. أما الباب الرابع فجمع فيه أقوال أهل العلم من شتى المذاهب الإسلامية والتي تلتقي كلها على منع الاختلاط بين الجنسين, ليخلص المؤلف بعد ذلك إلى خلاصة تجيب على التساؤلات والشبه التي طرحها دعاة الاختلاط, وهي أن منع الاختلاط مما توافرت الأدلة عليه, وأن لفظة الاختلاط معروفة منذ الصدر الأول وليست دخيلة كما يقال, وأن مقاصد الشريعة وغاياتها شاهدة بمنع الاختلاط وتحريمه, وأن منع الاختلاط وذمه هو ما عليه علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم, وعصورهم وبلدانهم. فجزى الله المؤلف خير الجزاء على ما تفضل به ووضحه ونسأ ل الله أن ينفع به الإسلام والمسلمين.

حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها

حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها عنوان الكتاب ... حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها اسم المؤلف ... الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي الناشر ... مركز التأصيل للدراسات والبحوث سنة الطبع ... 1430هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 648 نوع الكتاب ... رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة أم القرى التعريف بموضوع الكتاب: كثيرة هي تلك المذاهب الفكرية التي فرضت على الأمة الإسلامية, وأجبرت الأمة على تبنيها إما بالاحتلال المباشر وإما بالضغوط السياسية والاقتصادية, وإما بالإعلام الموجَّه والهزيمة النفسية والفراغ العقدي, والأدهى من ذلك والأمر أن تجد هذه المذاهب من يتبناها من أبناء الأمة ويدافع عنها ويدَّعي أنها لا تتنافى مع الإسلام ولا تضاده. ومن هذه المذاهب الفكرية الدخيلة علينا (الليبرالية) والذي تمثل الجاهلية الغربية في أقبح صورها, وقد أجاد الدكتورعبد الرحيم السلمي في كتابه (الليبرالية وموقف الإسلام منها) في توضيح حقيقة الليبرالية وربط الجانب الفكري والشرعي حولها. والكتاب مؤلف من خمسة أبواب تكلم المؤلف في بابه الأول عن نشأة هذا المذهب وتطوره من خلال أربعة فصول أوضح من خلالها عن حالة أوربا قبل ظهور هذه الفكرة وكيف كانت تتأرجح بين الانحراف الديني والاستبداد السياسي إلى أن بدأت التحولات الفكرية تتجه صوب (الليبرالية) عن طريق الحركة الأدبية ذات النزعة الإنسانية وحركة الإصلاح الديني والفكر التجريبي المادي, مبيناً دور الطبقة الوسطى في ظهور هذا المذهب, وكيف مرت (الليبرالية) بمراحل عدة من التكون ثم صعود (الليبرالية) الكلاسيكية ثم هبوط الليبرالية الاجتماعية إلى ظهور (الليبرالية) الجديدة. ثم تعرض في الباب الثاني لمفهوم مصطلح (الليبرالية) والأسس الفكرية لها واتجاهاتها وما ينضوي تحت هذه الاتجاهات من مدارس. ثم أشار المؤلف في الباب الثالث عن مجالات الليبرالية فتكلم عن الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية مبيناً أن لكل جانب من هذه الجوانب أزمة من الناحية التطبيقية العملية. أما الباب الرابع فكان الحديث فيه عن نفوذ الليبرالية في العالم الإسلامي كوجودها في الحكم والسياسة وفي المال والاقتصاد, ثم ظهور (الإسلام الليبرالي) ووجود التيارات الليبرالية كالليبرالية الإسلامية والقومية وتيار الليبرالين الجدد. وفي الباب الخامس والأخير شرع المؤلف في بيان موقف الإسلام من الليبرالية في فصلين, موضحاً موقف الإسلام من الحريات والفرق بين مفهوم الحرية من المنظور الإسلامي ومفهومه من المنظور الليبرالي, ليوضح بعد ذلك حكم الشرع في هذا المذهب عارضا حقيقته على أصول الإسلام.

شبهات عصرانية مع أجوبتها

شبهات عصرانية مع أجوبتها عنوان الكتاب ... شبهات عصرانية مع أجوبتها اسم المؤلف ... سليمان بن صالح الخراشي تقديم ... الدكتور سعد بن عبد الله الحميد الناشر ... دار الوحيين سنة الطبع ... 1430/ الطبعة الأولى عدد الأجزاء ... 1 عدد الصفحات: ... 200 التعريف بموضوع الكتاب: العصرانية تمتد جذورها إلى مدرسة المعتزلة التى من أظهر سماتها تعظيم العقل حتى قدموه على النصوص الشرعية وأضافت العصرانية إلى جانب ذلك المبالغة في موافقة العصر فأولوا من أجل ذلك كثيرا من حقائق الإسلام من جراء الهزيمة النفسية التى التصقت بهم ولازمتهم نتيجة للتفوق الغربي الحضاري، وقد تعلقوا بشبهات دعموا بها أفكارهم وبنوا عليها مبادئهم، وقد جمع هذه الشبهات الشيخ سليمان الخراشي مع الرد عليها وتفنيدها في كتابه (شبهات عصرانية مع أجوبتها). وقد ذكر من شبهات العصرانيين عشر شبهات منها قولهم: لماذا تلزموننا بفهم السلف، دعواهم تغير الأحكام تبعا لتغير الزمان، تقسيمهم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية ومنها مغالطتهم في الفهم المقاصدي للإسلام وتمسكهم بمقولة: إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله. واحتجاجهم بكلام لابن القيم، إلى غير ذلك من شبهات. وقد تولى المؤلف الرد عليهم ردا شافيا فأما الإلزام بفهم السلف فقد أورد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ما يدل دلالة بينة على وجوب الالتزام بفهم الإسلام وفق فهم الصحابة بل نقل الإجماع على ذلك. وأما دعواهم تغير الأحكام تبعا لتغير الزمان فقد بين المؤلف الحق فيها وأن ذلك ليس على إطلاقه بل هو خاص بالأحكام الاجتهادية التي لا نص فيها أما التي فيها نص كحرمة الربا والسرقة فلا يدخلها التبديل والتغيير وأن هذه القاعدة يذكرها الفقهاء مقيدين لها بالأعراف. واستعرض المؤلف شبهاتهم حول هذه القاعدة وناقشها. كذلك رد على شبهتهم المتعلقة بتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية فالأولى يلزم العمل بها والثانية لا، وقد أبطل المؤلف هذا التقسيم ذاكرا بعض الأدلة ومنها قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ثم ساق شبهاتهم كاحتجاجهم بأفعال الرسول الجبلية وخطط الرسول الحربية إلى غير ذلك وقد رد عليها المؤلف وبين زيفها. دعوتهم إلى الاجتهاد في أصول الفقه وبين المؤلف أنه لو كان بمعنى عدم التقليد في أصول الفقه لكان مقبولا أما أن يكون بمعنى استحداث قواعد جديدة في الأصول فعندها نطالبهم بإظهارها لنعلم إن كانت قواعد علمية أم أنها مجرد أهواء شخصية، واستعرض المؤلف بعض دعاواهم في هذا الباب مفندا لها. وذكر المؤلف أيضا مفهومهم للجهاد وأنه لم يشرع إلا للدفاع فقط، وبين بطلان ذلك وحقق أن الآيات التي استدلوا بها نزلت في مرحلة من المراحل المتعلقة بمشروعية القتال، ثم استقر الأمر على فرض الجهاد لمقاتلة المشركين كافة وكذلك مقاتلة أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. إلى غير ذلك من الشبهات التى أجاب عنها المؤلف, نسأل الله أن يجزيه خير الجزاء.

الحوثية في اليمن في ظل الأطماع المذهبية والتحولات الدولية

الحوثية في اليمن في ظل الأطماع المذهبية والتحولات الدولية عنوان الكتاب ... الحوثية في اليمن في ظل الأطماع المذهبية والتحولات الدولية اسم المؤلف ... مجموعة من الباحثين من مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث بصنعاء الناشر ... المركز العربي للدراسات الإنسانية-القاهرة سنة الطبع ... 2008م عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 372 التعريف بموضوع الكتاب: في عالم ملتهب يضج بالأحداث الساخنة والحروب الطاحنة, وتتوالى فيه الفتن والقلاقل على مختلف الأصعدة, وفي ظل التحولات الدولية والأطماع الاستعمارية المحمومة والتي جعلت من العالمين العربي والإسلامي ميدان عملها ومضمار سباقها, في ظل هذا كله ظهرت هناك أيضا أطماعا مذهبية شيعية تسعى للسيطرة والنفوذ وتعمل لتحقق مآرب سياسية وأطماع توسعية فأشعلت أتون الحرب في أكثر من جهة, لتظهر الحركات الشيعية المسلحة في الدول العربية تهدد أمنها واستقرارها. (الحوثية في اليمن الأطماع المذهبية في ظل التحولات الدولية) كتاب يسلط الضوء على حركة من هذه الحركات الشيعية المسلحة أعده مجموعة من الباحثين بمركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث وقد تناول الكتاب هذه القضية في أربعة أبواب. فبعد مدخل تعرض فيه لليمن من حيث التاريخ والجغرافيا الطائفية وعن المنطقة العربية ودوامات الصراع الداخلية والتآمر الخارجي, تكلم الكتاب في الباب الأول من الكتاب عن الحوثية نشأتها ومسارها في أربعة فصول: في الفصل الأول تكلم في عدة مباحث عن الزيدية والإمامية ومواطن الافتراق ومحطات الالتقاء, وموقف الحوثين من أهل السنة والجماعة, وماذا أثر سقوط دولة الإمامة على أتباع المذهب, وعن ولاية الفقيه ومشروع الدولة الإمامية , وما موقف الجمهورية اليمنية من المذهب الإثني عشري ودولة الإمامة وفي الفصل الثاني كان الحديث عن الحركة الحوثية وكيف ولدت ونشأت وكان ذلك أيضا في عدة مباحث, منها: تصدير الثورة الإيرانية إلى اليمن وبواعث القبول, وملامح التغلغل الإيراني في اليمن ومراحل تطور الحوثية, والخلاف الزيدي الحوثي ومنعطف الافتراق. أما الفصل الثالث من الباب كان الحديث فيه عن منهج الحركة والفكر والمسار فتكلم في عدة مباحث عن الأبعاد المذهبية والطائفية في حركة الحوثي وانتمائها الفكري وولائها السياسي, وعن أهدافها وأجندتها السياسية, وعن الملامح العامة لها. وفي الفصل الرابع في الكتاب كان الحديث عن مصادر القوة لدى الحركة: فتحدث عن نقاط القوة الذاتية والفرص المتاحة لها وعن نقاط الضعف لدى الحكومة اليمنية والمخاطر التي تجاهلتها الحركة في الباب الثاني من أبواب الكتاب كان الحديث عن المواجهة والمجريات والنتائج والمواقف والآثار: فتكلم في الفصل الأول عن الحرب وجهود المصالح والنتائج , وفي الفصل الثاني عن مواقف الأطراف الداخلية , وفي الفصل الثالث عن مواقف الأطراف الخارجية أما الفصل الرابع فكان الحديث فيه عن الآثار التي خلفتها الحرب على اليمن في الباب الثالث كان الحديث عن المستفيد من هذه الأحداث وما هو المستقبل , فتكلم في الفصل الأول عن الأطراف المستفيدة من بقاء الأزمة, وفي الفصل الثاني عن العوامل المساعدة على بقاء الأزمة, بينما كان الفصل الثالث والرابع يتحدثان عن مستقبل الحرب وآثارها في المنطقة ومستقبل الطائفية في اليمن على خلفية الحوثية, ليختم بفصل خامس تكلم فيه عن الأسس الكفيلة لإنهاء الحرب ومعالجة الأزمة. أما الباب الرابع فأُفرد لمجموعة من النتائج والتوصيات لحل الأزمة. والكتاب جيد وننصح به.

العلامة المحدث المباركفوري ومنهجه في كتابه تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي

العلامة المحدث المباركفوري ومنهجه في كتابه تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي عنوان الكتاب ... العلامة المحدث المباركفوري ومنهجه في كتابه تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي وفي آخره نصوص وثائقية حول المباركفوري وفيها: إجازاته للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ اسم المؤلف ... عبد الله بن رفدان الشهراني الناشر ... دائر البشائر الإسلامية - بيروت سنة الطبع ... 1430هـ - الطبعة الأولى عدد الصفحات: ... 415 نوع الكتاب ... رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير التعريف بموضوع الكتاب: لا ريب أن الأمة الإسلامية قد فخرت بعلماء نالوا من العلم نصيبا ليس بالقليل، اجتهدوا في طلبه فركبوا البحار، وقطعوا الفيافي، وصبروا على شدائد تحصيله، فهم حماة الدين وحراسه، نشروه بعد أن امتثلوه، فجزاهم الله عنا خير الجزاء. وقد قام مؤلف هذا الكتاب بدراسة أحد كتب هؤلاء العلماء ليبين لنا منهج مصنفه ويشرح لنا مآثره، قسمه إلى أربعة أبواب وكل باب يشتمل على فصول، مع ذكر مقدمة وتمهيد بين فيه أهمية جامع الترمذي وشروحه، ثم ذكر في الباب الأول التعريف بالمباركفوري، في فصلين، الفصل الأول عصر المباركفوري من الناحية السياسية، والاجتماعية، والعلمية، والفصل الثاني عن حياته، وتناول في الباب الثاني، منهج الشارح فيما يتعلق بدراسة الأسانيد، واشتمل على ستة فصول، تحدث في الفصل الأول، عن منهجه فيما يتعلق بالتعريف بالرواة، وقسمه إلى خمسة مباحث، من حيث اعتماده على النقل، ومسلكه في ذلك، واعتناؤه ببيان المبهمات، واعتناؤه بالتنبيه على أخطاء النسخ، وأوهام المصنفين، واعتناؤه بضبط أسماء الرواة، وذكر في المبحث الأخير من الفصل، بعض المؤاخذات على المباركفوري، وفي الفصل الثاني، ذكر منهجه في تخريج الأحاديث في مبحثين، المبحث الأول، في استفادته من الكتب التي اهتمت بعزو الأحاديث إلى من خرجها، والمبحث الثاني، عن تخريجه من دواوين السنة، كما تناول في الفصل الثالث، منهجه في الحكم على الأحاديث، وبيان عللها في مبحثين، المبحث الأول ذكر فيه منهجه في الحكم على الأحاديث، والثاني في بيان منهجه في علل الحديث، والفصل الرابع ذكر فيه منهجه فيما يتعلق بقول الترمذي (وفي الباب عن فلان وفلان)، وتضمن الفصل الخامس منهجه في بيان مصطلحات الترمذي، كما تناول في الفصل السادس موقفه من أحكام الترمذي على الأحاديث، ذكر فيه ثلاثة مباحث، تحدث في المبحث الأول عن إجلاله للترمذي وإحسان الظن به في مسألة التصحيح والتحسين، وتحدث في المبحث الثاني عن اكتفائه بذكر إقرار العلماء، أو سكوتهم، وذكر في المبحث الثالث عدم موافقته للترمذي، ثم تناول في الباب الثالث منهج المباركفوري في شرح الأحاديث، واشتمل على خمسة فصول، فذكر في الفصل الأول منهج المباركفوري في بيان غريب الحديث، وفي الفصل الثاني منهجه في بيان معنى الأحاديث. وتناول في الفصل الثالث منهجه فيما يتعلق بمباحث العقيدة، وأكد على أن المباركفوري كان على عقيدة السلف وذكر أمثلة لذلك منها: في بيان منهجه في صفات الله سبحانه وتعالى، ومنهجه فيما يتعلق بالتوسل، والشفاعة، والأمور الغيبية، ثم أورد المؤاخذات على المباركفوري في باب الأسماء والصفات، وأنه أخل في بعض المواطن القليلة، حيث يورد تفسيرا مخالفا لمنهجه، أو ينقل كلاما لأحد الشراح أو اللغويين يفسر أو يبين أصل الإطلاق من الجانب اللغوي، دون إيضاح المراد الصحيح والموقف الشرعي. وبين في الفصل الرابع منهجه في فقه الأحاديث، وفي الفصل الخامس موقفه من الفرق المنحرفة، وتناول في الباب الرابع شرح المباركفوري بين التأثر والتأثير، وتضمن أربعة فصول، ذكر في الفصل الأول أهم مصادر المباركفوري في شرحه، وفي الفصل الثاني شخصيته في شرحه، وفي الفصل الثالث ذكر تأثير المباركفوري فيمن أتى بعده، فأورد المصنفات التي استفادت من التحفة، والتخريجات التي تعقبت المباركفوري، ثم ذكر في الفصل الرابع موازنة بين شرحه والشروح السابقة، وختمه بملحق الوثائق من إجازات ورسائل وردت إلى المباركفوري، وبعض عناوين مؤلفاته.

مصادر التلقي وأصول الاستدلال العقدية عند الإمامية الاثني عشرية عرض ونقد

مصادر التلقي وأصول الاستدلال العقدية عند الإمامية الاثني عشرية عرض ونقد عنوان الكتاب ... مصادر التلقي وأصول الاستدلال العقدية عند الإمامية الاثني عشرية عرض ونقد اسم المؤلف ... إيمان صالح العلواني الناشر ... دار التدمرية سنة الطبع ... 1429هـ عدد الأجزاء: ... 2 مجلد ... نوع الكتاب ... رسالة علمية أعدت لنيل درجة التخصص الماجستير التعريف بموضوع الكتاب: إن الاختلاف في الفروع ربما يكون مستساغا إذا كانت الأصول واحدة لكن إذا كان الخلاف في الأصول- لاسيما الأصول العقدية- فإن الأمر يختلف وينقسم الخلاف حينئذ إلى حق وباطل وهدى وضلال، هذا وإن خلافنا مع الشيعة ليس كما يدعي دعاة التقريب أنه خلاف في الفروع بل هو خلاف في الأصول ومصادر التلقي وهذا ما حاولت الباحثة إيمان العلواني إثباته من خلال رسالتها (مصادر التلقي وأصول الاستدلال العقدية عند الإمامية الاثني عشرية) والذي قسمته إلى تمهيد وخمسة فصول وخاتمه وقد أفردت كل مصدر من مصادر التلقي وأصل من أصول الاستدلال العقدية بفصل. فالفصل الأول كان مع المصدر الأول القرآن وأثبتت الباحثة انحرافهم في هذا الأصل من خلال موقفهم من سلامة النص القرآني وادعائهم نقص القرآن وأن القرآن كاملا جمعه علي رضي الله عنه وأن الإمام الثاني عشر سيظهره في آخر الزمان وبينت انحرافهم في تفسير القرآن بل وسقوط الاحتجاج بالقرآن بالكلية لغياب الإمام والذي يعتبرونه القرآن الناطق إلى غير ذلك من انحرافاتهم في مصدر التلقي الأول القرآن. وفي الفصل الثاني ذكرت انحرافهم تجاه الأصل الثاني وهو السنة فناقشت تعريفهم للسنة ومدى حجية مرويات كتب الحديث عندهم وتقسيم السنة لديهم ثم موقفهم من الصحابة والسنة التي رووها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكفيرهم إلا قليلا منهم وبالتالي رد مروياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرضت لموقفهم من خبر الواحد وناقشته. وفي الفصل الثالث ناقشت مفهوم الإجماع عند الإمامية ومدى حجيته واستقلاليته بالاستدلال ليظهر مدى الاختلاف بين مفهوم الإجماع عند أهل السنة والإمامية. وفي الفصل الرابع ذكرت المصدر الرابع وهو العقل ومفهوم الدليل العقلي عند الإمامية ومكانته في الاستدلال ومدى حجيته ثم تحدثت عن موقفهم عند تعارض الأدلة النقلية والعقلية ومبدأ الترجيح عندهم واختلافهم في ذلك مع تأثرهم بالمنطق الأرسطي. وفي الفصل الخامس وهو آخر فصول الكتاب تكلمت على المصادر العرفانية من خلال معنى العرفان والمؤيدين والمعارضين لهذا المنهج عند الإمامية ومدى تأثرهم بالفلسفة الإشراقية وأفكار الإشراقيين والتي يعتبرها بعض مفكري الإمامية مدخلا للاستدلال العرفاني في مسائل العقيدة كذلك تناولت في هذا الفصل الكشف عند الإمامية مع ذكر أنواعه ومراتب وصول الإمامي إلى مرتبة الحضور والمشاهدة مع التعرض لنماذج من هذه المكاشفات ثم تحدثت عن الإلهام وأنواعه ومدى حجيته في الاستدلال وبعد ذلك تكلمت عن الرؤى المنامية وأقسامها وحجيتها في الاستدلال على مسائل العقيدة عند الإمامية ثم كانت الخاتمة وفيها أهم النتائج وقد قامت الباحثة بعرض آرائهم من كتبهم ثم أتت عليها بالتفنيد والنقد. إن المتأمل لهذه الرسالة يرى شدة البون واتساع الفرق بين أهل السنة والشيعة الإمامية للاختلاف في الأصول فكيف يمكن التقارب بينهما إن الأولى تكثيف الكتابات وعقد المناظرات التي تبين عوار هذا المذهب وتظهر بطلانه فعسى أن يكون ذلك هاديا لهم ومرشدا إلى العودة إلى المنهج الصحيح.

نقد الليبرالية

نقد الليبرالية عنوان الكتاب ... نقد الليبرالية اسم المؤلف ... د/ الطيب بو عزة الناشر ... مجلة البيان - السعودية سنة الطبع ... 1430هـ / الطبعة الأولى عدد الصفحات ... 190 التعريف بموضوع الكتاب: تعج مجتمعات المسلمين بكثير من الحركات والمذاهب والأفكار التي تصادم الشرع في كثير مما تحتويه من مبادئ وأفكار ولا شك أن من واجب أهل العلم والدعاة بيان حقيقة هذه المذاهب وإظهار زيفها وإبطال دعاويها المخالفة للإسلام حتى لا تروج أمثال هذه المذاهب والحركات بين المسلمين لجهل كثير منهم بحقيقتها. ومن هذه المذاهب ما عرف بالليبرالية والذي انبرى كثير من أهل العلم للتعريف بحقيقتها وإظهار عوارها ليحذر منها المسلمون ومن هذه المؤلفات كتاب نقد الليبرالية للدكتور الطيب بو عزة الذي جعل كتابه هذا في ستة فصول تناول فيها مفهوم الليبرالية والدلالة المذهبية لليبرالية ثم السياق التاريخي والثقافي لنشأة الليبرالية ثم انتقل الكلام إلى النظرة السياسية الليبرالية وذكر ثلاثة نماذج يراها المؤلف مؤسسة لليبرالية ومساهمة في التنظير والتقعيد لها وهذه النماذج الثلاثة هي ميكيافيللي وجون لوك ومونتيسكيو. وتناول المؤلف كذلك النظرية الاقتصادية الليبرالية بحث من خلالها الرؤية الليبرالية للإنسان وذلك بوصفه كائنا اقتصاديا وقام بتحليل التيارات والرؤى المرجعية للاقتصاد السياسي الليبرالي. وانتقل الحديث بعد ذلك إلى الليبرالية الجديدة من خلال السياق التاريخي لنشأتها ومدارسها إلى غير ذلك. وذكر المؤلف ما يتعلق بالليبرالية والحرية والسؤال الأخلاقي فتناول بالدراسة المدلول الليبرالي للحرية والأخلاق الليبرالية. وختم فصول الكتاب بالخطاب الليبرالي العربي الكلاسيكي والخطاب الذي سماه النيوليبرالي العربي (الليبرالية الجديدة) وفي الخاتمة طرح هذا التساؤل هل حقا لا بديل عن الليبرالية؟ محاولا الإجابة عنه. فجزى الله المؤلف خيرا ونسأل الله أن يرد كيد أصحاب هذه الدعاوى في نحورهم وأن يكفي المسلمين شرهم.

دراسات في أهل البيت النبوي

دراسات في أهل البيت النبوي عنوان الكتاب ... دراسات في أهل البيت النبوي اسم المؤلف ... د. خالد بن أحمد الصُّمِّي بابطين الناشر ... مكتبة الأسدي - مكة المكرمة سنة الطبع ... 1430هـ / الأولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 194 التعريف بموضوع الكتاب: آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. تعددت فيهم المشارب وتضاربت فيهم الآراء , وجفاهم من جفاهم وقد جانب في جفائه لهم الصواب, وغلا في تعظيمهم من غلا حتى أوصلهم إلى المنزلة التي لا تنبغي لهم, وتوسط فيهم أهل الحق فأحبوهم بلا غلو وامتثلوا فيهم وصية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. و (دراسات في أهل البيت النبوي) كتاب جاء ليلقي الضوء أكثر على هذه القضية والتي - كما يقول مؤلفه - تحاشى عن الكلام فيها بعض أهل الحق بدعوى أن ذلك ذريعة للغلو فيهم وتعظيمهم إلى درجة الشطط , وبعضهم أنكر ما ثبت لهم من فضائل جملة وتفصيلا فأدى بهم الحال إلى جفوتهم والصدود عنهم. والكتاب عبارة عن دراسة قام بها المؤلف عند تحقيقه لكتاب الحافظ السخاوي (استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف) ثم ارتأى أن يفردها ويجعلها مؤلفا مستقلا مع شيء من الزيادات والترتيب والتنسيق. جاء الكتاب في ثمانية فصول ابتدأها المؤلف بالتعريف بأهل البيت والمراد بهم وبين مشارب الناس وأقوالهم في ذلك. ثم ثنى المؤلف في الفصل الثاني بذكر مذاهب الناس في أهل البيت في ثلاثة مباحث وذكر أنهم طرفان ووسط , , فذكر مذهب الجفاة في آل البيت وهم النواصب ثم ذكر مذهب الغلاة فيهم وهم الروافض ومن وافقهم من الصوفية ثم بين مذهب أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة في آل البيت حاشدا أقوال أئمة السلف وأهل العلم والإيمان من بعدهم في آل البيت. وفي الفصل الثالث من الكتاب ذكر المؤلف شرطين ولاية أهل السنة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لا يوالى منهم إلا من كان مؤمنا مستقيما على الملة ومن كان متبعا للسنة النبوية الصحيحة. أما الفصل الرابع فابتدأه المؤلف بسؤال وهو: هل القول بتفضيل بني هاشم يعد تفضيلا مطلقا على جميع الأشخاص وفي كل الأحوال؟ ثم أجاب على السؤال بالنفي مبينا أن هذا القول ليس على إطلاقه بل يوجد في آحاد الناس من هو أفضل من آحاد بني هاشم لزيادة التقوى والإيمان والعمل الصالح. أما الفصل الخامس فذكر فيه المؤلف جزئيتين الأولى وضح فيها تاريخ الشرافة ومتى ظهر مصطلح الشريف وعلى من يطلق. أما الجزئية الثانية فبين فيها ما يتعلق بنقابة الأشراف ومن هو النقيب وما هي أعماله. وأما الفصل السادس فعقده المؤلف لمسألة فقهية وهي حكم أخذ أهل البيت من الزكاة بين فيها أقوال أهل العلم في المسألة , خاتما الفصل بمسألة ما إذا منع أهل البيت من سهم ذوي القربى مع احتياجهم , فإنه يجوز إعطاؤهم من الزكاة الواجبة والمستحبة على حد سواء. وفي الفصل السابع سرد المؤلف مجموعة من الكتب المصنفة في فضائل آل البيت, ليختم كتابه بفصل أخير سماه (قراءة نقدية في أشهر الكتب المؤلفة في فضائل آل البيت) استعرض فيه خمسة مصنفات في الموضوع يمثل أصحابها شتى الطوائف والفرق من أهل السنة والجماعة والشيعة والصوفية وأطال النفس في مناقشة تلك الكتب مبينا مآخذه وملاحظاته عليها. شكر الله للمؤلف هذا الجهد ونفعه الله به في الدارين.

شعاع الذكرى في أسماء الله وصفاته الحسنى وأثرها في حياة العبد

شعاع الذكرى في أسماء الله وصفاته الحسنى وأثرها في حياة العبد عنوان الكتاب ... شعاع الذكرى في أسماء الله وصفاته الحسنى وأثرها في حياة العبد اسم المؤلف ... عائشة بنت عبد الرحمن بن علي القرني الناشر ... بدون سنة الطبع ... 1430/ط الأولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 581 التعريف بموضوع الكتاب: إن التعرف على الله سبحانه وتعالى بدراسة أسمائه وصفاته من أعظم أبواب زيادة الإيمان وقد تنوعت المؤلفات في باب الأسماء والصفات فمنها ما يتعرض لذكر اعتقاد أهل السنة فيها والرد على أهل البدع في باب الأسماء والصفات ومنها ما يعرض للضوابط والقواعد ومنها ما يهتم بشرح الأسماء والصفات والتعريف بها وبمعانيها ومن هذه الكتب التي اعتنت بهذا الجانب كتاب (شعاع الذكرى في أسماء الله وصفاته الحسنى وأثرها في حياة العبد). ومنهج الكتاب الاهتمام بتعريف أسماء الله من الناحية الشرعية دون التطرق للناحية اللغوية ودون الاهتمام بسرد نقولات أهل العلم في الكلام على الأسماء ودون العزو إلى المصادر وإنما يصاغ التعريف من مجموع أقوال العلماء توضيحا للمعنى بطريقة ميسرة وذلك على سبيل الاختصار، وقد جمع الكتاب تسعة وتسعين اسما من أسماء الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع تمهيد فيه شيء يسير من الضوابط والقواعد الضرورية. والكتاب يهدف في المقام الأول إلى بيان الآثار الإيمانية والسلوكية لأسماء الله عز وجل والتي غابت عن أذهان كثير من الناس فظنوا أن المراد بالإحصاء (الذي ورد في الحديث والذي رتب عليه دخول الجنة) مجرد حفظ الأسماء وترديد ألفاظها بلا فهم ولا تدبر فأدى ذلك إلى الانصراف عن فهم المعنى وعدم إدراك ما لأسماء الله وصفاته من أثر في حياة الأفراد والجماعات ونشأ على أثر ذلك- كما تقول المؤلفة - مظاهر مؤسفة أبعدت كثيرا من المسلمين عن حقائق الإسلام وأهدافه ومثله العليا وأصبحت بعض حقائق التوحيد نظريات لا رصيد لها في الواقع ولا أثر لها في الوجود عند بعض المسلمين. ما أحوج المسلمين إلى العودة إلى ربهم تعالى والإقبال على طاعته وترك معصيته ولن يكون ذلك إلا بالتعرف على ربهم بتعلم أسمائه وصفاته والتعبد لله بمقتضاها حتى تظهر آثارها عليهم محبة ورجاء وإجلالا وخشية ورغبة ورهبة ومراقبة وخوفا إلى غير ذلك من الآثار الإيمانية. فجزى الله المؤلفة خيرا

الشجرة الزكية في أنساب بني هاشم

الشجرة الزكية في أنساب بني هاشم عنوان الكتاب ... الشجرة الزكية في أنساب بني هاشم اسم المؤلف ... اللواء الركن / السيد يوسف بن عبد الله جمل الليل تقديم ... الشيخ عبد الله بن عبد العزيز عقيل العُقيل والدكتور إبراهيم بن أحمد مسلم الطميسي الحارثي الناشر ... مكتبة جل المعرفة - الرياض - مكتبة التوبة - الرياض سنة الطبع ... 1430هـ - الطبعة الأولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 1207 التعريف بموضوع الكتاب: يعتبر علم الأنساب من العلوم المهمة التي اشتغل بها علماء الإسلام قديماً وحديثاً, فدونوا فيها الكتب, وصنفوا فيها المصنفات, حرصا منهم على حفظ الأنساب, وخوفا من ضياعها، فتضيع معها الحقوق والواجبات, وتقطع باندثارها الأرحام والصلات. وهذا الكتاب (الشجرة الزكية في أنساب بني هاشم) يعد الجزء الثاني في أنساب آل البيت للمؤلف نفسه, حيث سبقه كتاب تحدث فيه المؤلف عن أنساب آل بيت النبوة وسماه: (الشجرة الزكية في الأنساب وسير آل بيت النبوة). الكتاب مطبوع في مجلد كبير, يحتوي على ثمانية فصول, جمع فيها المؤلف بين علم الأنساب, والسير والتاريخ, وتخلل بين ثنايا الكتاب الكثير من المشجرات المثبتة لأنساب الهاشميين. في الفصل الأول تحدث عن هاشم بن عبد مناف, وعن نسبه, وسيرته معقبا بعقبه وذريته. وفي الفصل ذاته ساق المؤلف ترجمة عن الإمام الشافعي رحمه الله, مبينا فيها نسبه, وشيوخه, وطلبه للعلم, ووفاته, وفضائله. ثم تحدث المؤلف بعد ذلك عن عبد المطلب بن هاشم, ذاكرا شيئا من سيرته, معرجا على ذكر أبنائه وبناته. وفي الفصل الثاني ساق المؤلف الحديث عن أبناء عبد المطلب بن هاشم, مبينا تراجمهم, وشيئا من أخبارهم, وأخبار أبنائهم. والفصل الثالث كان الحديث فيه عن أصحاب الكساء, والمقصود بهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم, ذكر المؤلف فيه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم, ودلائل نبوته, وفضائله, ومنزلته, ذاكرا أعلى مراتب كماله, والتأدب معه, والاقتداء بهديه, معرجا على شيء من سيرته العطرة, وصفاته, وأخلاقه الكريمة. وفي نفس الفصل تحدث عن علي بن أبي طالب, وفاطمة الزهراء, وابنيهما سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. أما الفصل الرابع فتحدث فيه المؤلف عن العقيليين, وهم كل من انحدر من ذرية عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه. فبدأ بالحديث عن عقيل رضي الله عنه, ثم تحدث عن أبنائه وما تفرع عنهم, ليتحدث بعد ذلك عن العقيليين في جزيرة العرب, فذكر العقيليين في مكة المكرمة, وفي الحجاز, وفي نجد الوسطى, وفي اليمن وحضرموت, ليختم الحديث عن العقيليين في مصر. بعد ذلك تحدث المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وذريته, ذاكرا بعض الشخصيات والأسر المنحدرة من ذريته, فمن الشخصيات ذكر إسحاق بن أبي علي محمد أمير المدينة النبوية وما تفرع من ذريته, ومن الأسر ذكر أسرة الطيار, وترجم لبعض فروعها وشخصياتها. وأما الفصل السادس من الكتاب فقد أفرده المؤلف لذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه, مترجما له, وذاكرا فضائله, وصفاته, وأخلاقه, متحدثا بعد ذلك عن أبنائه وذريته. وفي الفصل السابع كان الحديث فيه عن أبناء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه, فبدأ الحديث عن العباس رضي الله عنه, ثم عقب بذكر بنيه وما تفرع عنهم. ثم ترجم بعد ذلك لبعض الأسر من آل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. وأما الفصل الأخير من الكتاب فأفرده المؤلف للحديث عن الخلافة العباسية وعن خلفائها. وقد ألحق المؤلف في آخر الكتاب مجموعة من المشجرات لأنساب الهاشميين.

العمولات المصرفية حقيقتها وأحكامها الفقهية

العمولات المصرفية حقيقتها وأحكامها الفقهية عنوان الكتاب ... العمولات المصرفية حقيقتها وأحكامها الفقهية اسم المؤلف ... الدكتور عبدالكريم بن محمد بن أحمد السماعيل الناشر ... دار كنوز إشبيليا سنة الطبع ... 1430هـ - الطبعة الأولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 759 نوع الكتاب ... رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في قسم الفقه بكلية الشريعة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض التعريف بموضوع الكتاب: من نعمة الله على الأمة أن جعل الشريعة وافية الأحكام والأركان ومهيمنة على كل الشرائع والأديان ومناسبة لسائر الأماكن والأزمان, فما من نازلة من النوازل أو حادثة مستجدة إلا وتجد لها في الشريعة ما يوضح حكمها ويبينها بيانا كافيا شافيا. ولما كان التعامل المصرفي المعاصر من الأمور المستجدة التي تقوم بدور فعال ومهم في الحياة التجارية والاقتصادية للمجتمع احتاج هذا الموضوع لمزيد من البحث والإيضاح والبيان حتى يعلم المتعامل بهذه العمليات المصرفية حكم الشرع في كل مسألة من مسائلها فيسهل عليه اجتناب المحاذير الشرعية إن وجدت. قدم لنا الدكتور عبدالكريم بن محمد بن أحمد السماعيل كتابا مميزا في هذا الجانب أسماه (العمولات المصرفية حقيقتها وأحكامها الفقهية) , حيث بدأه بتمهيد ذكر فيه الأصل في المعاملات المالية وضوابطها الشرعية, وحقيقة الأعمال المصرفية, والموارد المالية للأعمال المصرفية. وفي الباب الأول من الكتاب كان الحديث في أول فصوله عن ماهية العمولات المصرفية والمراد منها ومن ثم أنواعها باعتبارات متعددة, والأسباب المنشئة لها وحكم أخذ العمولة على هذه الأسباب. وفي الفصل الثاني تطرق المؤلف لشروط العمولات المصرفية , وتقديرها وتركه, وكيفية قبض العمولات المصرفية. وأما الباب الثاني فتكلم فيه المؤلف عن عمولات الخدمات المصرفية في تسعة فصول أفرد كل نوع من العمولات بفصل بحثه فيه بحثا مستوفيا من حيث تعريفها والتكييف الفقهي لها وكل ما يتعلق بها من معاملات, فمن ذلك عمولات الودائع المصرفية الجارية , وعمولات الحولات المصرفية, وعمولات تحصيل الأوراق التجارية وغيرها من العمولات. وفي الباب الثالث كان الحديث عن عمولات الخدمات الاستثمارية والتسهيلات المصرفية , ففي الفصل الأول منه تكلم عن عمولات الاستشارات الاستثمارية, وعمولات شهادة الوحدة الاستثمارية, وعمولات شهادة القيمة الاسمية , وعمولات سندات المقارضة وعند كل عمولة كان المؤلف يعرفها ويبين التكييف الفقهي لها وأما الفصل الثاني فكان الحديث فيه عن عمولات التسهيلات المصرفية , كعمولات القروض المباشرة , وعمولات خصم الأوراق التجارية, وعمولات خطاب الضمان, وعمولات الاعتمادات المستندية, وعمولات البطاقات المصرفية , حيث عرف المؤلف كل نوع من هذه العمولات ووضح ما يتصل بها من معاملات مبينا التكييف الفقهي لها. والفصل الثالث والأخير عقده المؤلف للحديث عن أثر فسخ العقد على عمولات الخدمات المصرفية والتسهيلات المصرفية, فتكلم عن أثر فسخ العقد قبل الشروع في الخدمة, وأثر فسخ العقد بعد الشروع في الخدمة وقبل إتمامها. يعتبر الكتاب مرجعا في بابه, وهو كتاب قيم في موضوعه نسأل الله أن يبارك في جهود كاتبه وينفع به الإسلام والمسلمين.

إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام.

إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام. عنوان الكتاب ... إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام. اسم المؤلف ... عبد الله بن محمد الغازي المكي الحنفي. (1290 - 1365 هـ) المحقق ... عبد الملك بن عبد الله بن دهيش الناشر ... مكتبة الأسدي - مكة المكرمة. سنة الطبع ... 1430 هـ عدد الأجزاء: ... 7 أجزاء. التعريف بموضوع الكتاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا مكة المكرمة: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) أخرجه الترمذي والحاكم ولما كانت مكة مهبطا للوحي وموضع ولادة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، وهجرته وفتحه، فقد اهتم المسلمون اهتماما كبيرا بتدوين تاريخها، وكتابة سير ولاتها وقضاتها وعلمائها ووجهائها وعظمائها والواردين إلى الحجاز، كيف لا وهي مبعث النور، ومنبع الجلال والجمال، وهي دعوة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام:} فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون {[إبراهيم: 37]. وهي مقصد كل عابد وذاكر، وبها بيت الله، فكفاها شرفاً ورفعة. وقد أُلفتْ كتب كثيرة تناولت تاريخ مكة، منها كتاب (أخبار مكة) للأزرقي، و (أخبار مكة) للفاكهي، و (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) و (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) كلاهما للفاسي. ومما صدر مؤخرا في هذا الباب كتاب عبد الله الغازي وسماه (إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام). يقع هذا السفر في سبعة مجلدات ضخام، وخصص الأخير منه للفهارس العامة. وقد جمع مؤلفه الشيخ عبد الله الغازي رحمه (ت: 1365) ما تفرق من كتب العلماء الذين كتبوا في التاريخ المكي عن مكة والبيت الحرام من القرن الثالث للهجرة النبوية إلى وفاة المؤلف رحمه الله، فجاء كتابه كالأم لما قبله من الأفراد فقد جمع ما كتبه الأولون وزاد، فكان موسوعياً في التصنيف. وقد قدم المحقق بين يدي الكتاب دراسة وافية عنه، وقسم هذه الدراسة إلى مقدمة وستة مباحث وخاتمة. ففي المقدمة تكلم عن مقاصد البحث في الكتاب. وذكر ترجمة لطيفة للمؤلف في المبحث الأول اشتملت على نشأته وطلبه للعلم ورحلاته وأعماله وشيوخه وتلامذته ومؤلفاته وغير ذلك. كما ذكر في المبحث الثاني تعريفا شاملا لكتابنا هذا، حيث ضمنه مقدمة في الكتب التاريخية عن مكة، وذكر فيها قرابة الخمسين كتابا عبر التاريخ في هذا الباب. وأبرز فيه مدى أهمية الكتاب، ومنهج المؤلف في كتابه، ووازن فيه بين كتابنا (إفادة الأنام) وبين كتاب جاء بعده لمحمد طاهر كردي سماه (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) وهو موسوعي أيضا يقارب كتاب الغازي في حجمه، ورجح فيها كتاب الغازي. وفي المبحث الثالث تعرض لموارد الغازي في كتابه (إفادة الأنام) حيث ذكر أن الغازي ذكر في مقدمة كتابه مصادره التي اعتمدها في جمع المادة العلمية لكتابه، حيث أورد ما يقرب مائة وثمانين كتابا اعتمد عليها في إخراج هذه الموسوعة التاريخية الشاملة لتاريخ مكة حتى وفاته. ثم ذكر في المبحث الرابع منهج العمل في التحقيق. وفي المبحث الخامس منهج العمل في التعليق. وعرف في المبحث السادس بالنسخ الخطية للكتاب وقد اعتمد على نسخة خطية واحدة من سبعة مجلدات. ثم أثبت المحقق نص الكتاب فأجاد في تحقيقه فجزى الله المؤلف والمحقق خيرا على هذا الكتاب العظيم.

الكلام على حديث ابن عمر في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

الكلام على حديث ابن عمر في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عنوان الكتاب ... الكلام على حديث ابن عمر في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم اسم المؤلف ... عبدالله بن عبدالرحمن السعد الناشر ... دار المحدث سنة الطبع ... 1430هـ - الطبعة الأولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 219 التعريف بموضوع الكتاب: معلوم أن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة بقصد التعبد والتقرب إلى الله محرم وممنوع كما دلت على ذك أحاديث السنة النبوية , وكما جاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يعلم أن في الصحابة من خالف في هذه المسألة. إلا أن هناك من خالف وأجاز شد الرحال إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد القربة والتعبد واستدل على جواز قوله بمجموعة من الأحاديث إما ضعيفة لا تثبت, أو صحيحة ولكنها لا تدل على ذلك ومن أقوى الأحاديث التي استدل بها القائلون بمشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث ابن عمر: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) , وكتاب هذا الأسبوع دراسة حديثية مفصلة لهذا الحديث. قبل أن يتكلم المؤلف عن علل الحديث ذكر أنه من خلال بحثه لم يجد من أهل الحديث المتقدمين من قوى هذا الحديث, وأما المتأخرون فمنهم من قواه ومنهم من ضعفه وكان ممن قواه تقي الدين السبكي في كتابه ((شفاء السقام)) وساق المؤلف كلام السبكي في ذلك ثم جاء بعده بكلام ابن عبد الهادي في كتابه ((الصارم المنكي)) والذي رد فيه على السبكي وضعف فيه حديث الزيارة. ثم بدأ المؤلف بعد ذلك - بعد أن رجح كلام ابن عبد الهادي بأن هذا الحديث منكر ولا يصح بحال - بدأ يشرح علل الحديث وذكر أنه معلول بأربع علل وهي: 1. ضعف موسى بن هلال 2. ضعف عبدالله بن عمر العمري 3. تفردهما برواية الحديث 4. أن أصله لعله حديث ابن عمر رضي الله عنه في فضل المدينة. وقد تكلم المؤلف عن كل علة من هذه العلل بالتفصيل وبينها بيانا كافيا, وتوسع في ذلك ونقل كلام الحفاظ في الحكم عليه, فكان الكتاب دراسة حديثية تفصيلية لهذا الحديث , فجزى الله المؤلف خير الجزاء وبارك في جهوده ونفع به الإسلام والمسلمين.

المسائل المستجدة في نوازل الزكاة المعاصرة

المسائل المستجدة في نوازل الزكاة المعاصرة عنوان الكتاب ... المسائل المستجدة في نوازل الزكاة المعاصرة اسم المؤلف ... أيمن بن سعود العنقري الناشر ... دار الميمان - الرياض سنة الطبع ... 1430 هـ عدد الصفحات: ... 224 التعريف بموضوع الكتاب: الزكاة ثالث ركن من أركان الإسلام، كثيرة منافعها، فهي تزكي صاحبها وماله، ولما كثر سؤال الناس عن كثير من مسائل الزكاة المستجدة أراد المؤلف أن يجمع المسائل المستجدة في نوازل الزكاة المعاصرة، وذلك بأسلوب يسير يمتاز بكثرة الأمثلة المضروبة حتى تتضح تلك المسائل. وقد تناول المؤلف الموضوع من خلال عناوين رئيسة أدرج تحتها ما يتعلق بها من المستجدات، وقدم بتعريف الزكاة لغة وشرعا، ثم تعرض لزكاة عروض التجارة، وزكاة الخارج من الأرض، وزكاة بهيمة الأنعام، وزكاة الفطر، وختمها بالكلام على مصارف الزكاة. إلا أن الجديد في الكتاب إنما هو في مادته والتي تُعنى بالمسائل المستجدة غالبا، فقد تناول المؤلف عدة من هذه المسائل منها: زكاة الأسهم والسندات والصناديق الاستثمارية (الأوراق المالية)، وزكاة المستغلات، وزكاة الراتب، وزكاة الحسابات البنكية (الجارية، والاستثمارية)، وبيوع التقسيط وكيفية تزكيتها، والإجارة المنتهية بالتمليك وكيفية زكاتها، ومعاشات التقاعد ومكافأة نهاية الخدمة والتأمينات الاجتماعية كيف تزكى، والأوراق النقدية وكيفية زكاتها، والأوراق التجارية (الشيكات، الكمبيالات، السند الإذني) وكيفية زكاتها، ومصارف الزكاة المستجدة، ومصرف (في سبيل الله) وما صدر حوله من قرارات وتوصيات، وزكاة العقارات، وزكاة الأراضي، وزكاة صكوك الإجارة، وزكاة المساهمات العقارية المتعثرة .. إلى غير ذلك من المسائل المستجدات التي تعرض لبيانها المؤلف. فالكتاب في جملته جدير بالاطلاع عليه والإفادة منه وذلك لحاجة المسلم الماسة لمعرفة الحكم الشرعي في هذه المسائل المستجدات.

أحكام العبادات المترتبة على طلوع الفجر الثاني دراسة فقهية تأصيلية موازنة

أحكام العبادات المترتبة على طلوع الفجر الثاني دراسة فقهية تأصيلية موازنة عنوان الكتاب ... أحكام العبادات المترتبة على طلوع الفجر الثاني دراسة فقهية تأصيلية موازنة اسم المؤلف ... ناصر بن محمد بن مشري الغامدي الناشر ... دار ابن الجوزي سنة الطبع ... 1429هـ نوع الكتاب ... مؤلف خاص التعريف بموضوع الكتاب: إن الله عز وجل ربط كثيرا من العبادات بمواقيت زمانية معلومة، محددة بداياتها ونهاياتها، ورتب عليه جملة من الأحكام، وأمر المسلم بأداء العبادات فيها لذا لا يجوز أداء العبادة الموقتة قبل دخول وقتها ولا تعمد إخراجها عن وقتها، ولما كان طلوع الفجر الثاني (الصادق) قد تعلقت به جملة من أحكام العبادات جمع ناصر الغامدي هذه الأحكام في رسالة سماها (أحكام العبادات المترتبة على طلوع الفجر الثاني) وقد جعلها في مقدمة وخمسة مطالب وخاتمة. وكان لابد قبل بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بطلوع الفجر الصادق أن يعرف الفجر ونوعيه الكاذب والصادق مفرقا بينهما بذكر أوصاف كل منهما وقد انتهى إلى أن معظم التقاويم المستخدمة بالنسبة لصلاة الفجر لم تبن على دراسات ميدانية وأن هناك خللا فيها يدل على ذلك التفاوت الكبير بين هذه التقاويم. ثم انتقل إلى الكلام عن أحكام الصلاة المترتبة على طلوع الفجر الثاني فتكلم على أول وقت صلاة الفجر وآخر وقت الضرورة لصلاة العشاء وتكلم عن وقت سنة الفجر وبداية النهي عن صلاة التطوع وانتهاء النزول الإلهي إلى السماء الدنيا. ومن المعلوم أيضا أن الصيام يبدأ بطلوع الفجر لذا تكلم عن أول وقت إمساك الصائم والحكم فيما إذا شك في طلوع الفجر وتكلم عن طهارة المرأة من الحيض والنفاس قبل طلوعه وما يلزم المجامع في رمضان عند طلوعه وتأخير الجنب للغسل إلى ما بعد طلوع الفجر وتبييت النية قبل طلوعه وتأخير السحور إلى قبيل طلوع الفجر. وكذلك تتعلق بعض مناسك الحج بطلوع الفجر فذكر المؤلف منها ابتداء وقت الوقوف بعرفة وانتهاءه وبداية وقت الدفع من مزدلفة ووقت الوقوف بها لمن يجب عليه المبيت بها وبداية وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر وأول وقت طواف الإفاضة. ثم ختم مطالب الكتاب بذكر مسائل متفرقة تترتب على طلوع الفجر الصادق كغسل الجمعة والعيدين وبداية وقت وجوب زكاة الفطر وبداية وقت ذبح الأضحية مستعرضا في جميع مسائله أقوال أهل العلم وأدلتهم مع بيان الراجح منها ثم كانت الخاتمة بأهم نتائج البحث. إن هذه الرسالة على صغرها قد حوت أهم المسائل المتعلقة بطلوع الفجر فجزى الله المؤلف خيرا.

الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن (عرض ودراسة)

الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن (عرض ودراسة) عنوان الكتاب ... الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن (عرض ودراسة) اسم المؤلف ... أحمد بن عبد العزيز بن مقرن القصير الناشر ... دار ابن الجوزي سنة الطبع ... 1430 هـ / ط أولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 190 نوع الكتاب ... أصل هذا الكتاب دراسة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن من جامعة أم القرى بمكة المكرمة - كلية الدعوة وأصول الدين قسم الكتاب والسنة التعريف بموضوع الكتاب: لما أنزل الله عز وجل كتابه (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ببيانه، فجاءت السنة شارحة للقرآن ومبينة له، إلا أنه ربما ورد حديث يوهم معارضة آية، أو ربما ورد في حديث تفسير لآية يوهم معنى مشكلا مما يدخل في حكم المتشابه. فنفذ من تلك النصوص أعداء الإسلام ليثيروا الشبهات حول القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله سبحانه هيأ من أهل العلم رجالا أفذاذا كشفوا زيف تلك الشبهات. ولما لم يفرد أهل العلم الأحاديث المشكلة -المتعلقة بالتفسير- بالدراسة، بل كان كلامهم في ذلك مبثوثا في ثنايا كتبهم، فأراد المؤلف إفراد هذا الموضوع بالتصنيف على منهج السلف. وقد تناول المؤلف هذا الموضوع مقسما كتابه إلى قسمين كل قسم تحته عدة فصول. فيعنى في القسم الأول - من خلال فصوله الثلاثة- بالجانب النظري، فيبتدئ بتعريفات هامة من خلالها يوضح مفهوم الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن وأن هذا النوع من الأحاديث ما هو إلا نوع خاص من مشكل الأحاديث، ثم يعرج على مفهوم التعارض بين النصوص الشرعية مبينا أن التعارض الحقيقي بين النصوص الشرعية لا يكاد يوجد البتة، ثم يبين أسباب وقوعه ومسالك العلماء في دفع هذا التعارض المتوهم كالجمع والنسخ والترجيح. ثم يختم هذا القسم بفصل عقده لبيان عناية العلماء بهذا النوع من الأحاديث عادّاً لكتبهم التي تعنى في ثنايا أبحاثها بمعالجة هذا النوع من الأحاديث سواء من كتب التفسير أو كتب الحديث وشروحها. ثم ينتقل إلى القسم الثاني والذي خصه بالجانب التطبيقي، فقسمه إلى ثلاثة فصول حاصرا دائرة البحث في أحاديث الكتب التسعة فقط، الصحيحة أو المختلف في صحتها. وقد جعل المؤلف الفصل الأول للأحاديث التي يوهم ظاهرها التعارض مع القرآن، والفصل الثاني للأحاديث التي ترد في تفسير آية ما، ويوهم ظاهرها التعارض فيما بينها، والفصل الثالث للأحاديث التي ترد في تفسير آية ما، ويوهم ظاهرها معنى مشكلا. فالكتاب جدير بالاطلاع فهو يكاد يكون موسوعة في بابه.

تجديد الدين (مفهومه وضوابطه وآثاره)

تجديد الدين (مفهومه وضوابطه وآثاره) عنوان الكتاب ... تجديد الدين (مفهومه وضوابطه وآثاره) اسم المؤلف ... أ. د. محمد بن عبد العزيز بن أحمد العلي الناشر ... دار كنوز إشبيليا (الرياض). سنة الطبع ... 1430هـ/ط أولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 209 التعريف بموضوع الكتاب: إن من سنن الله الكونية ظهور البدع، ووقوع المخالفات، وحدوث الافتراق في الأمة، وذلك لحكم عظيمة أرادها الله عز وجل. وإن من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة أنه عز وجل يبعث لها على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ضل بعض الناس في فهم هذا المصطلح (تجديد الدين)، فقام بعض المنتسبين إلى الإسلام بمحاولات تجديدية، أصاب فيها بعضهم، وأخطأ فيها كثير منهم، حتى إن منهم من أثار الجدل حول الثوابت العقدية والمسلمات الشرعية بدعوى التجديد والإصلاح. لذا أراد المؤلف في هذا الكتاب أن يجلي مفهوم التجديد وضوابطه ومجالاته وآثاره في الماضي وأهميته في المستقبل. فهو بحث تأصيلي أراد به مؤلفه توضيح الضوابط الشرعية للعمل التجديدي. ولقد قسم المؤلف هذا البحث إلى تمهيد وأربعة فصول، فذكر في التمهيد حاجة العباد إلى الدين الحق. أما الفصل الأول فقد تكلم المؤلف فيه عن مفهوم تجديد الدين ومصادره، فعرف التجديد لغة وشرعًا، وذكر أقوال أهل العلم في تعريف تجديد الدين، وذكر أن مصادر الدين هي القرآن والسنة والفقه الإسلامي. وتكلم في الفصل الثاني عن ضوابط تجديد الدين ومجالاته. وذكر في الفصل الثالث آثار تجديد الدين في الماضي وأهميته في المستقبل. وتكلم في الفصل الرابع عن المفاهيم الخاطئة في دعاوى التجديد وناقشها وعقب عليها.

التنوع المشروع في صفة الصلاة

التنوع المشروع في صفة الصلاة عنوان الكتاب ... التنوع المشروع في صفة الصلاة اسم المؤلف ... سلمان بن عمر السنيدي تقديم ... سليمان بن فهد العيسى وسليمان بن عبدالله الماجد الناشر ... دار طيبة - الرياض سنة الطبع ... 1429هـ عدد الصفحات ... 206 نوع الكتاب ... مؤلف خاص يقع في 206 صفحات التعريف بموضوع الكتاب: لقد أكرم الله تعالى عباده بأن جعل لهم صلة وصلٍ به، بل وأي صلة، إنها خمس من الصلوات التي يقف العبد فيها يناجي ربه عز وجل، وليس يشك أحد في أهمية هذه الصلوات وفضلها، وإذ هي بهذه الأهمية وبهذا التكرار الذي لم يكن لركن عملي غيرها، كان الاهتمام بنقل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وقد ورد في موضع واحد منها أكثر من صفة، وحتى يكون حكم مثل هذه التنوعات معروفاً، جاء هذا الكتاب ليوضح مدى هذا التنوع والموقف منه. وقد قسم المؤلف كتابه إلى بابين. الأول: (فصول تمهيدية)، تكلم فيها عن معنى التنوع والألفاظ ذات الصلة، وعن التنوع في أحكام الشرع واجتهادات العلماء، وعن بيان العمل بالتنوع المشروع وأن ذلك من اتباع السنة، كما بين ما ينبغي فعله إحياءً للسنن المهجورة، وتكلم في هذا الباب أيضاً عن شروط العمل بالصفات المتنوعة، والطرق التي جاء بها التنوع ومراتب هذا التنوع وأقسام مواطنه، كما ذكر اهتمام العلماء بالتنوع، ثم ختم هذا الباب بالآثار المترتبة على العمل بهذا التنوع والتي كانت عشراً من الآثار كحفظ العلم وحضور القلب وغيرها من الآثار الحميدة. الباب الثاني: كان في (مواطن التنوع في الصلاة) وهي ثلاثة أقسام الأول: في المواطن التي لا يشرع فيها جمع الصفات المتنوعة، كألفاظ الأذان والإقامة، وصفة رفع اليدين عند التكبير للصلاة، وأدعية الاستفتاح، ومثل محل القنوت، ومثل هيئة التورك في التشهد، والإشارة في التشهد، ومثل صفة صلاة الخوف، وصلاة الكسوف وصلاة الجنازة، وقد وصلت هذه المواطن إلى إحدى وثلاثين موطناً. القسم الثاني: في المواطن التي تشرع فيها صفة واحدة تفعل أحياناً، كالقراءة في الركعة الثالثة والرابعة، ومثل الصلاة بالنعال، وقد عد المؤلف هنا خمسة مواطن فقط. القسم الثالث: في المواطن التي تجمع فيها الصفات المتنوعة، مثل أذكار الأذان وأذكار الركوع والسجود، والدعاء قبل السلام، وقد ذكر المؤلف هنا أحد عشر موطناً من المواطن التي تجمع فها الصفات المتنوعة. وقد كان منهجه في كل الأقسام السابقة أنه في كل موطن من المواطن التي يأتي بها يذكر الأنواع المشروعة مقرونة بالأحاديث الثابتة الدالة على مشروعيتها، مع بيان صحة الحديث، كما عضد ذلك بذكر نماذج من أقوال العلماء تبين التخيير بين تلك الأنواع ومن قال به، مرتباً تلك المواطن قدر الإمكان بحسب موطنها في الصلاة. وبهذا ينتهي الكتاب، الذي سعى المؤلف فيه جزاه الله خيرا، أن ينشر هذا العلم حتى لا يصبح مجهولا، فيوصف من يعمل ببعض هذه السنن بالجهل أو الابتداع، مع أن الأمر من اختلاف التنوع المشروع. سائلين الله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا ويوحد صفوفنا، ويجمع شملنا.

الآراء الشاذة في أصول الفقه، دراسة استقرائية نقدية

الآراء الشاذة في أصول الفقه، دراسة استقرائية نقدية عنوان الكتاب ... الآراء الشاذة في أصول الفقه، دراسة استقرائية نقدية اسم المؤلف ... د. عبد العزيز بن عبد الله بن علي النملة الناشر ... دار التدمرية (الرياض) سنة الطبع ... 1430هـ/ط أولى عدد الأجزاء: ... 2 نوع الكتاب ... رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه في أصول الفقه التعريف بموضوع الكتاب: لما كانت الأمة لا تخلو من علماء مخلصين ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين نادى بعض الأصوليين بأهمية تنقية علم أصول الفقه من الآراء التي لا تعتمد على دليل، ولذلك ذكر علماء أصول الفقه الآراء الشاذة في مصنفاتهم منبهين عليها، رادين على أصحابها. ومن خلال تتبع المؤلف لجملة من مواطن الخلاف عند الأصوليين ظهرت له أهمية البحث فيما وقع شاذا من الخلاف، وكذا ما نسب إلى هذا الوصف عند أحد منهم، فرأى أن يكون موضوع رسالته للدكتوراه: الآراء الشاذة في أصول الفقه، دراسة استقرائية نقدية. وتتلخص أهداف موضوع الكتاب في الأمور التالية: أولا: إجراء دراسة نظرية تتعلق بكل ما يتعلق بالشاذ، نشأة، ونسبة، سواء أكان في أصول الفقه، أو غيره من العلوم الشرعية. ثانيًا: العمل على جمع الآراء الشاذة في أصول الفقه، والمسائل المتعلقة بالشاذ، وما نقل فيه أنه شاذ، مع دراستها وتحليلها، وبيان مدى صحة نسبتها إلى هذا الوصف. ثالثًا: من خلال دراسة الآراء الشاذة تتضح الآراء المعتبرة في مسائل أصول الفقه فيساعد ذلك في الوصول إلى الرأي الراجح. رابعًا: بيان الأسباب التي أدت إلى ظهور آراء شاذة في أصول الفقه، وأثر ذلك. خامسًا: أن في هذا الموضوع تنقية لمسائل أصول الفقه من بعض الآراء التي أدخلت في هذا العلم وهي ليست منه، وكذلك ما سببته من وجود الآراء الشاذة. سادسًا: ذكر بعض التطبيقات الفقهية للمسائل المتعلقة بالشاذ، وما بني على الآراء الشاذة في أصول الفقه من الفروع الفقهية. وقد قسم المؤلف هذا البحث إلى تمهيد وأربعة أبواب: تكلم في التمهيد عن نشأة الشاذ وظهوره في العلوم الشرعية، وفيه وضح تعريف مصطلح الشاذ، عند القراء، والمفسرين، وعند الأصوليين، وعند الفقهاء، وعند المحدثين، وعند اللغويين. أما الباب الأول فقد ذكر فيه المؤلف حقيقة الرأي الشاذ، وأسبابه، وحكمه، والقواعد المتعلقة به، أنواعه وطرق معرفته، وفي الفصل الثاني ذكر أسباب وجود الشاذ وشروطه، وفي الفصل الثالث بيّن حكمه والفتوى به والبناء عليه، وفي الفصل الرابع ذكر قواعد أصولية وفقهية متعلقة بالشاذ، أما الفصل الخامس فذكر أثر الآراء الشاذة في أصول الفقه، وطرق دفعها. وفي الباب الثاني تكلم عن الآراء الشاذة في الحكم الشرعي، والأدلة، وقسم هذا الباب إلى أربعة فصول، تكلم في الفصل الأول عن الآراء الشاذة في مباحث الحكم الشرعي، وفي الفصل الثاني ذكر الآراء الشاذة في مباحث الكتاب والسنة، وذكر في الفصل الثالث الآراء الشاذة في مباحث الإجماع، والقياس، وفي الفصل الرابع ذكر الآراء الشاذة في مباحث الأدلة المختلفة فيها. وفي الباب الثالث تكلم عن الآراء الشاذة في دلالات الألفاظ، وفيه ثلاثة فصول، الأول تكلم فيه عن الآراء الشاذة في العموم والخصوص، وفي الفصل الثاني ذكر الآراء الشاذة في مباحث الأمر والنهي، وفي الفصل الثالث ذكر الآراء الشاذة في مباحث متفرقة في الدلالات. أما الباب الرابع والأخير فتكلم في عن الآراء الشاذة في مباحث الاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح، وقسمه إلى فصلين. فهو بحث جامع في بابه يوقف القارئ على الآراء الضعيفة والشاذة فجزى الله مؤلفه خيرا.

تصحيح أحاديث المستدرك بين الحاكم النيسابوري والحافظ الذهبي

تصحيح أحاديث المستدرك بين الحاكم النيسابوري والحافظ الذهبي عنوان الكتاب ... تصحيح أحاديث المستدرك بين الحاكم النيسابوري والحافظ الذهبي اسم المؤلف ... عزيز رشيد محمد الدايني المحقق ... بشار عواد معروف الناشر ... دار الكتب العلمية - بيروت سنة الطبع ... ط1/ 1427هـ نوع الكتاب ... رسالة جامعية تقدم بها الباحث في الجامعة الإسلامية في بغداد، لنيل درجة الماجستير، بإشرف الدكتور حارث سليمان الضاري أولاً، ثم الدكتور بشار عواد معروف ثانياً، وقد نوقشت وحصلت على درجة امتياز، ثم طبعت في كتاب من (256) صفحة. التعريف بموضوع الكتاب: التعريف بموضوع الكتاب: ليس خافٍ على أحد ما بذله العلماء والمحدثون في نقلهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجتهدين في خدمة السنة النبوية، بين تدوين وتصحيح وتصنيف وإسناد، وغير ذلك، ومن هؤلاء مَنْ عُني بجمع ما صَحَّ عنده كالبخاري ومسلم، وقد كان لهذين الكتابين من قبول في الأمة ما لم يكن لغيرها، لِما عرف من دقة مصنفيهما وشرطهما في كتابيهما، فقام الكثير من العلماء بَعدهم بالاهتمام بصحيحيهما، وكان من أشكال ذلك الاهتمام هو الاستدراك، ومن هؤلاء الحاكم النيسابوري أبو عبدالله (ت 405هـ)، الذي وضع كتابه المستدرك على الصحيحين وأورد فيه ما رآه موافقاً على شروطهما ولم يذكراه في كتابيهما، وسار كتابه هذا بين الناس، ولكن لما كان من خِلْقَةِ البشر الخطأ، وجد العلماء أن الحاكم أخطأ في استدراكه هذا أشياء، ومنهم من لخصه وعلق عليه كالذهبي، وهو أشهر مَنْ خدم الكتاب، ولكن هناك مسألة أراد الباحث هنا في رسالته هذه كشفها وتبيين حقيقتها، وخاصة أن هناك كثيراً من العلماء يعتبرون سكوت الذهبي في تلخيصه للمستدرك، موافقة له على حكم الحاكم، مع أن الحديث لا يخفى ضعفه أو وهاؤه على مثل الذهبي، ولذا شمر المؤلف ساعد الجد، وجعلها رسالته الجامعية هذه، التي سيتبين لنا ما آل إليه اجتهاده، فلنبدأ بعون الله. ككل الرسائل الجامعية التي تهتم بشخصيات معينة لابد للباحث من التعريف بتلك الشخصيات، فترجم المؤلف للحكام النيسابوري ترجمة موجزة، ثم ذكر منزلة كتابه المستدرك الذي بلغت عدد أحاديثه مع المكرر (9588) حديثاً، وخرج المؤلف بأن الحاكم متساهل في التصحيح ومتساهل في اعتبار شرطي البخاري ومسلم، وأن أحكامه لا يعول عليها إلا بعد التمحيص. ثم انتقل المؤلف ليترجم لنا الإمام الذهبي ترجمة مبسطة أيضاً، ثم انتقل بنا ليعرفنا بمنهج الذهبي في مختصراته عموماً، فالذهبي اختصر كثيراً من الكتب، ولكن اختصاراته لم تقف عند النقل المجرد بل كان يُضْفِي عليها اجتهاداته العلمية وانتقاداته المفيدة. أما عن بيان منهج الذهبي في تلخيص المستدرك فكان له حظ أكبر، بإفراده في فصل خاص تحته خمسة مباحث تبين منهجه ذاك وهي: 1. الإتيان بمتون الأحاديث وحذف بعض أسانيدها 2. نقل بعض ألفاظ الحاكم النقدية بنصها وحذف ألفاظ أخرى 3. موقفه من اختصار المتون 4. موقفه من اختصار عبارات الحاكم 5. الإضافات والتعقبات وقد أتى المؤلف في كل مبحث منها بالأمثلة المُدَلِّلَة على كلامه، وقد أحصى الباحث الأحاديث التي تكلم عليها الذهبي في تلخيصه للمستدرك، جرحاً وتعديلاً وتصحيحاً وتضعيفاً وتعليلاً فكانت (1224) حديثاً تقريباً، وهو قليل مقارنة مع عدد أحاديث المستدرك كلها، وسبب هذا كما ذكر المؤلف أن الذهبي لم يكن منهجه في هذا التلخيص الكلام على كل حديث على الاستقصاء والدوام. وأما تعقبات الذهبي في التلخيص فقسمها المؤلف إلى: 1. كلامه على بعض الرواة جرحاً أو تعديلاً 2. كلامه على تقوية بعض أحاديث المستدرك 3. كلامه في بيان بعض علل الأحاديث الظاهرة والخفية 4. كلامه على الشروط 5. عيبه على الحاكم استدراكه على الشيخين أحاديث قد أخرجاها أو أحدهما وكل ذلك أيضا بالأمثلة الموضحة. ثم جاء دور الباب الثاني وهو عمود البحث (تصحيح أحاديث المستدرك بين الحاكم والذهبي) مهد الباحث لفصول هذا الباب بأنْ بيَّن مجدداً أن مصطلح موافقة الذهبي للحاكم هو اصطلاح متأخر حيث ذكر الباحث أنه لم يجد قبل ملا علي القاري (ت 1014هـ) من استعمل هذا المصطلح، سوى نقل وحيد في نصب الراية للزيلعي (ت 761هـ) وشكك الباحث أن يكون من النساخ لا من الزيلعي نفسه. أما الفصل الأول من هذا الباب فكان في: ما صححه الحاكم على شرط الشيخين ورقم عليه الذهبي في التلخيص (خ م) مع أن فيهما من لم يخرجا له أو أحدهما وكما بين الذهبي نفسه ذلك في كتبه الأخرى. والفصل الثاني في: ما صححه الحاكم على شرط البخاري ورقم عليه الذهبي في التلخيص (خ) أو قال (على شرط البخاري) مع أن في أسانيدها من لم يحتج بهم البخاري وكما بين ذلك الذهبي نفسه في كتبه الأخرى. والفصل الثالث في: ما صححه الحاكم على شرط مسلم ورقم عليه الذهبي في التلخيص (م) أو قال (على شرط مسلم أو م) مع في أسانيدها من لم يحتج به الإمام مسلم وكما بين ذلك الذهبي نفسه في الكاشف. والفصل الرابع في: ما صححه الحاكم في المستدرك وقال الذهبي في التلخيص (صحيح) مع أن الذهبي نفسه قد حكم على قسم منها في كتبه الأخرى بالضعف أو النكارة أو جرح رواتها بأنواع الجرح المختلفة كالكذب أو الترك أو الضعف ... الخ. وقد أتى الباحث مجتهدا بنماذج واضحة مشروحة دالة على مقصود كل فصل من هذه الفصول، ليثبت لنا ما يريده في كل فصل، مع وضعه في نهاية كل فصل لجدول يضم نماذج إضافية غير النماذج المشروحة. وبهذا الجهد الكبير، ينتهي الكتاب الذي ختمه مؤلفه بخاتمة لخص فيها أهم نتائج رسالته هذه في ست نقاط. والباحث - جزاه الله خيراً- بذل جهدا مشكوراً في هذه الرسالة القيمة، مثبتاً بالأدلة والأمثلة خطأ اعتقاد سكوت الذهبي في التلخيص إقراراً لحكم الحاكم في المستدرك، وهو أمر يعرف قيمته المهتمون بعلم الحديث والمصطلح. وليس أمامنا بعد هذا التعريف إلا أن نقول: إن رسالته هذه لتعتبر ذخيرة علمية في بابها، لها وزنها وقيمتها في الدفاع عن الذهبي، وتصحيح خطأ حديثي شائع، فجزاه الله خيراً.

الصوفية في حضرموت نشأتها أصولها آثارها (عرض ونقد)

الصوفية في حضرموت نشأتها أصولها آثارها (عرض ونقد) عنوان الكتاب ... الصوفية في حضرموت نشأتها أصولها آثارها (عرض ونقد) اسم المؤلف ... أمين بن أحمد بن عبدالله السعدي الناشر ... دار التوحيد - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ عدد الصفحات: ... 1135 نوع الكتاب ... رسالة جامعية تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية قسم العقيدة كلية الدعوة وأصول الدين، بإشراف الدكتور محمد بن عبدالرحمن الجهني، ثم طبعت في مجلد ضخم يقع في (1135) صفحة التعريف بموضوع الكتاب: إن الله تعالى بحكمته وعلمه، كتب على هذه الأمة الافتراق والاختلاف، وهذا الافتراق يمحص الذين يتبعون الحق ممن يتبعون الشبهات أو الشهوات، واليوم ونحن نرى بأعيننا هذا الافتراق وآثاره، وانتشار الفرق المخالفة لفرقة أهل السنة والجماعة وما لها من آثار وتأثيرات، ومن هذه الفرق التي لها أكبر انتشار في العالم، الصوفية، وما أدراك ما الصوفية، فمؤلفنا فيعرف صوفية بلده حق المعرفة، وهي صوفية حضرموت، ولما كان الأمر كذلك فقد آثر أن يكونوا موضوع رسالته الجامعية، رغبة منه في كشف جانب كبير من حقيقتهم دفاعاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وإسهاماً منه في كشف هذه الفرقة في تلك البلاد لمن لا يعرفون حقيقتهم ممن اغتر بهم وبمشايخهم وطريقتهم. فبدأ المؤلف بالتعريف بأرض حضرموت وتاريخ دخول الإسلام إليها وأنّ ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عرَّف المؤلف بالتصوف ونشأته وتطوره بشكل موجز، وبعدها بدأت أبواب الكتاب لتفتح لنا آفاقاً جديدة, وتُفَصِّل بفصولها مشارب القوم ومواردهم، وتبحث بمباحثها أدلتهم واستدلالاتهم وترد عليهم شبهاتهم. فكان أول تلك الأبواب (تاريخ التصوف في حضرموت) حيث أوضح المؤلف نشأة الصوفية في حضرموت وأسباب نشأة هذا التصوف فيها، وكيف بدأ دخول التصوف إليها، وأنّ ذلك كان بدخول العلويين - نسبة إلى علوي بن عبيدالله بن أحمد المهاجر الحسيني - القادمين من العراق، ثم تطور الحال وأصبح له أصوله ومنهجه بعد ذلك، ثم عرَّفَنا المؤلف بأبرز أعلام صوفية حضرموت من أول القرن الرابع الهجري إلى القرن الثاني عشر، وقد بلغ عدد الذين ترجم لهم (31) صوفياً، ثم عرَّفَنا بالطرق الصوفية التي انتشرت في حضرموت وقد بلغت (8) طرق بين أصل وفرع، وإتْباعاً لما سبق فقد أفرد لنا المؤلف فصلاً كاملاً في أعلام صوفية حضرموت في القرون الثلاثة الأخيرة ودورهم في نشر التصوف، ففي القرنين الثالث عشر والرابع عشر ترجم المؤلف لثمان من أبرز أعلامهم، وفي القرن الخامس عشر ترجم لخمس من أبرز أعلامهم. أما الباب الثاني من الكتاب فكان في (أبرز عقائد الصوفية في حضرموت ومناقشتهم فيها وبيان أثرها) وأورد تحته سبعة فصول. 1. مصادر التلقي عند صوفية حضرموت ومناقشتهم فيها 2. وقولهم في توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ومناقشتهم فيه 3. وقولهم في توحيد الألوهية ومناقشتهم فيه 4. وقولهم في النبوة ومناقشتهم فيه 5. وقولهم في القدر ومناقشتهم فيه 6. وقولهم في اليوم الآخر ومناقشتهم فيه 7. أثر الصوفية في حضرموت وجهود أهل العلم وبعض الولاة في مواجهة الآثار السلبية لصوفية حضرموت قد يستغرب القارئ من هذه العناوين وهل يمكن أن يصل الانحراف في الصوفية إلى توحيد الربوبية والألوهية وإلى مسألة النبوة واليوم الآخر؟ لكن هذا الاستغراب الذي في الصدور سيزول بعد أن تقرأ ما في السطور. فمصادر التلقي عندهم على ما بَيَّنَه المؤلف تختلف عما هو عند أهل السنة والجماعة، فما لم يوافق عقولهم - بل أهواءهم - أوَّلوه أو فسروه تفسيراً باطنياً لا يخطر على بال موحد، أو رَدُّوه، وزادوا مصادرَ للتلقي أخرى، كالأخذ عن الله تعالى مباشرة بدون رسول، والكشف وهو من مصادرهم الوثيقة، وقد يدخل تحته أنواع عديدة كرؤية الأنبياء والأولياء بعد موتهم!! والمنامات والإلهام والهواتف والذوق، بل والإسراءات والمعراجات أيضاً، كل هذا بالأدلة الواضحة من كتب القوم ومن أقوالهم وأحوالهم دون افتراء عليهم أو افتئات. أما قولهم في توحيد الربوبية فهم يقولون بوحدة الوجود، وأثبتوا كثيراً من صفات الربوبية الخاصة بالله لأوليائهم وأقطابهم، كالتصرف في الكون والإحياء والإماتة كالذي ذكروه في ترجمة عبدالله بن أبي بكر العيدروس وأنه أحيا زوجته بعد موتها، ومثل إعطاء الولد لمن طلب هذا منهم، هذا فضلاً عن ادعاء علم الغيب وإنزال المطر وإجابة استغاثة المستغيثين بهم، بل والتصرف في أمور الآخرة كضمان دخول الجنة. كل هذا بالأدلة من كتب القوم كما أسلفنا. أما في توحيد الأسماء والصفات فهم أشعرية عموماً، مع التلفيق بين الجانب العلمي عند المتكلمين منهم، وبين الجانب العملي عند الصوفية، وقد حرر المؤلف أقوال صوفية حضرموت في العلو والاستواء وصفة الكلام لله تعالى ومسألة الرؤية مبيناً انحرافهم في كل هذا عن المنهج الحق، كما أوضح المؤلف تقديم العقل على النقل عندهم وموقفهم من خبر الآحاد. وأما توحيد الألوهية فقد بيَّن المؤلف أيضاً اضطرابهم فيه وعدم معرفتهم لحقيقة هذا النوع من التوحيد ووقوع الشرك الأكبر منهم، بسبب ذلك، وانحرافهم في تفسير كلمة التوحيد، وفي ما يناقض (لا إله إلا الله)، أما انحرافهم في التوسل والدعاء والشفاعة، فحدِّث ولا حرج، فليس أكثر من صرفهم هذه الأنواع لغير الله تعالى، بدعوى اختصاص الأولياء والأقطاب بها، ونحن إذ نقول هذا الكلام لسنا نتأول على القوم أو نتجنى عليهم، فالمؤلف نقل العديد والعديد من النقولات التي تثبت هذا الانحراف من أقوالهم وأشعارهم ومقالاتهم، ومن شاء الاستزادة فليرجع للكتاب ليجد بغيته فيه. أما قولهم في النبوة، فيتضح انحرافهم فيه في مسألة الوحي وموقفهم منها، فقد زعموا نزول الوحي على أوليائهم ومشايخهم، وزعموا أن الإلهام للولي هو كالوحي للنبي، وأما انحرافهم واضطرابهم في مقام النبوة، فمنهم من زعم كما زعمت الفلاسفة أنها مكتسبة بالرياضة، ومنهم من زعم مساواة أفعال مشايخهم بمقام النبوة، كما نقل عن الحسن بن عبدالله الحداد أنه حصل له شق لصدره ووضع له المعراج وعرج به ووقف بين يدي الله وخاطبه بل وألبسه تاج العلم، نعم هكذا نقل عنه حفيده علوي في الرسالة النافعة!! أما قولهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فهم يزعمون أنه أول الموجودات وهذا ما يعبرون عنه بالحقيقة المحمدية، وغير ذلك من الغلو الذي أثبتوه أيضا لأوليائهم ومشايخهم، بل فَضَّلوا علوم مشايخهم على علوم الأنبياء. أما قولهم في القدر فلم يَأْلُ المؤلف جهداً أيضا في بيان انحرافهم فيه، كقولهم في استقلال أوليائهم بأفعالهم كالإماتة والإحياء، وبالمقابل تجد التناقض فتراهم يقولون بعقيدة الجبر مستعملين طرقاً ملتوية، وَاسِمِيْنَ بِدعتهم تلك بـ (الكسب)، وكذلك بين انحرافهم في مسألة الأسباب وتأثيرها، وكذلك في التوكل، وقولهم أيضاً بالتحسين والتقبيح والتعليل. أما قولهم في الإيمان باليوم الآخر، فهو واضح في انحرافهم في مسائل الشفاعة وصفة الحشر وزعمهم لأوليائهم كثيراً من الغيبيات في تلك المواقف الأخروية، وكذلك افتراءاتهم في الصراط والمارِّين عليه، بل استثنوا مَنْ أرادوا مِنْ قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم:71] فزعم شيخ إسلامهم أبو الحسن البكري الصديقي أن أهل حضرموت مستثنون من هذه الآية، وكذلك قولهم في الجنة ومكانها ومن يدخلها أو دخلها من أوليائهم وتصرفهم فيها كما يشاؤون، ومثل ذلك في النار، وكذلك أمر البرزخ وتصرف أوليائهم فيه والاطلاع على أمره. إن كل ما سبق لم يتركه المؤلف - جزاه الله خيرا - دون أن يرده ويناقشه، بل هذا غاية الكتاب أصلا، فهو ينقل كلامهم ويثبت دعاويهم ثم يبيِّن خطأهم ووجه الانحراف، مبيِّناً الصواب والحق، مستدلاً بالأدلة الشرعية، مردفاً بأقوال الأئمة القوية. وبعد كل هذا الزخم الكبير من العرض والمناقشة نصل إلى الفصل الأخير في هذا الباب وهو (أثر الصوفية في حضرموت وجهود أهل العلم وبعض الولاة في مواجهتها) ففي الغلو في الصالحين، فهُم كما سبق منحرفون في مفهوم الولاية، وبالتالي كان منهم الذبح للأولياء والصالحين، والنذر لهم، وجعلهم واسطة بين الله وخلقه، وكذلك انحرافهم في علاقة الشيخ بالمريد. وفي الغلو في القبور، ليس الأمر مختلفاً عن سابقه، فحضرموت تعتبر من أكثر محافظات اليمن تشييداً للقبور وبناء القبب عليها، واتخاذها بَعْدُ مساجد، وأما شد الرحال والزيارات الشركية فقد جوزوها بل زعموا فيها البركة وزعموا قضاء الحاجات عند قبور معينة، وأجوراً وثواباً لزيارات أخرى. وفي العبادات الشركية والبدعية، فقد سلكت صوفية حضرموت في عباداتها مناهج وطرقاً للتعبد للوصول إلى المراتب التي يسعون لنيلها، مثل المجاهدة أو الرياضة والخلوة الصوفية، والفناء مع اضطرابهم في تعريفه، والأوراد والأذكار والصلوات البدعية، وقد ذكر المؤلف نماذج منها، وكذلك الحضرات والسماع والاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بزيارة القبور والمشاهد، وأشهر ذلك زيارة قبر هود عليه السلام. وقد استعمل الصوفية في حضرموت لنشر تصوفهم وسائل عديدة، منها التأليف والنشر، كتباً أو مجلات أو صحفاً أو بإنشاء المكتبات، وكذلك بالرحلات وبواسطة التلاميذ والأتباع، والتدريس، وأيضا بالتأثير على بعض الولاة، حيث وطَّدوا علاقتهم بالحكام والولاة في فترات من التاريخ، لاسيما عند وجود الفرص السانحة، وقد سعوا عن طريقهم لنشر التصوف في حضرموت، وكذلك بنشر الزوايا والأربطة. وبالمقابل كانت هناك جهود لأهل العلم وبعض الولاة في مواجهة الآثار السلبية لصوفية حضرموت، والتي لم يغفلها المؤلف بل ذكر منها مثلاُ جهود بعض علماء الحضارمة بمواجهتهم مثل الشيخ علوي بن سقاف الجفري، والشيخ محمد العماري، وغيرهم من غير الحضارمة كالشيخ صالح المقبلي والشيخ محمد بن سالم البيحاني، وكذلك الجهود المبذولة في القرن الخامس عشر الهجري ومن أشهرهم الشيخ مقبل الوادعي. ومن تلك الجهود الخارجية أيضا جمعية الإصلاح والإرشاد بأندونيسيا. أما جهود بعض الولاة وبعض القبائل، فقد ذكر المؤلف ما قامت به بعض القبائل من مساهمة في نشر الدعوة السلفية ومحاربة التصوف، وبيَّن ما لدخول النجديين من أثر طيب في نشر دعوة التوحيد. وبعد كل هذا الجهد الكبير الذي قام به المؤلف جزاه الله خيرا، وبعد كل تلك الحجج والبراهين التي أتى بها لدمغ الباطل وإزهاقه، ختم الرسالة بخاتمة لخَّص فيها بحثه. ونحن بعد أن مررنا بالكتاب مُقَلِّبِيْنَ صفحاته وأبوابه وفصوله ومباحثه، معرِّفين به، فإننا نعتبر هذا الكتاب إحدى الموسوعات المرجعية في التصوف الحضرمي، وقد يدلك عدد المراجع التي اعتمد عليها المؤلف والتي زادت على (630) مرجعا على مدى موسوعية هذه الرسالة التي تعتبر مثالاً يمكن أن يحتذيه الباحثون من طلاب الدراسات وغيرهم في كشف الصوفية في مناطق أخرى من هذا العالم المليء بهم، والله الهادي إلى سواء الصراط.

دليل الأفكار للمؤسسات التطوعية – مراكز الأحياء أنموذجا

دليل الأفكار للمؤسسات التطوعية - مراكز الأحياء أنموذجا عنوان الكتاب ... دليل الأفكار للمؤسسات التطوعية - مراكز الأحياء أنموذجا اسم المؤلف ... رائد عبد العزيز المهيدب تقديم ... سامر سليمان حماد -راجعه سامي تيسير سلمان الناشر ... لجنة التنمية الاجتماعية الأهلية بحي السويدي سنة الطبع ... 1428هـ عدد الصفحات ... التعريف بموضوع الكتاب: إن العمل الاجتماعي التطوعي داخل الأحياء وبين الناس يحتاج إلى مزيد من العناية والرعاية والجهد، وذلك لما للعمل التطوعي من أثر كبير في توجيه سلوك الأفراد نحو العمل البناء الهادف والتخلص من السلوكيات الخاطئة، والتخلي عن السلبية في الحياة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها ولا شك أن مراكز الأحياء ولجان التنمية في حاجة إلى التطور وطرح المزيد من الأفكار والخطط لتدعيم العمل الاجتماعي، وكتاب (دليل الأفكار للمؤسسات التطوعية - مراكز الأحياء أنموذجا) لرائد عبد العزيز المهيدب ما هو إلا محاولة تطوير العمل الاجتماعي في هذه المراكز عن طريق طرح أفكار ومقترحات في هذا المجال. قدم المؤلف بمقدمة مختصرة في فضل العمل الاجتماعي وفوائده ثم طرح أفكارا عند بدء العمل ثم تناول ما يتعلق بصناعة الرؤية والرسالة والأهداف ثم انتقل إلى ما يتعلق بالهيكل التنظيمي وخطوات عمله واللجان الإدارية العاملة بالمركز ثم تكلم عن العلاقات العامة والفئات المستهدفة في الحي ثم لما كان هذا العمل لابد له من مقر ومكان ذكر الأفكار المقترحة لمقر المركز أو المؤسسة ثم انتقل إلى الأعمال الإدارية وذكر أسباب نجاح العمل الإداري والأعمال الإدارية التي ينبغي الاهتمام بها باستمرار ثم ذكر أفكارا للجان العامة كاللجنة الثقافية والاجتماعية ولجنة خدمة الحي وغيرها من اللجان ثم تناول ما يتعلق بحوارات مجالس الحي ثم عرض أفكارا إدارية هامة للعمل. والكتاب على صغر حجمه قد حوى أفكارا في غاية الأهمية للارتقاء بالعمل الاجتماعي التطوعي جعلها المؤلف كالدليل بين يدي العاملين في هذا المجال يأخذ بأيديهم وينير لهم الطريق فجزاه الله خيرا.

التعامل مع غير المسلمين أصول معاملتهم واستعمالهم دراسة فقهية

التعامل مع غير المسلمين أصول معاملتهم واستعمالهم دراسة فقهية عنوان الكتاب ... التعامل مع غير المسلمين أصول معاملتهم واستعمالهم دراسة فقهية اسم المؤلف ... عبدالله بن إبراهيم الطريقي الناشر ... دار الفضيلة - الرياض سنة الطبع ... 1428هـ نوع الكتاب ... رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء التعريف بموضوع الكتاب: يمتاز الإسلام بشموليته، فهو ما جاء لينظم علاقة المسلم بربه فقط بل نظم أيضا علاقة المسلم بالمسلم وعلاقة المسلم بغير المسلم، وقد حدث خلط في قضية علاقة المسلم بغير المسلمين وكان الناس ما بين متساهل قد تأثر بدعوات التقارب والتعايش السلمي والعولمة نتيجة شعوره بضعف المسلمين وهيمنة غير المسلمين وتسلطهم، وبين متشدد غلبته حماسته وعاطفته فخرج عن حدود الاعتدال كرد فعل لما يمر به المسلمون. فحاول المؤلف في هذا الكتاب معالجة قضية معاملة غير المسلمين واستعمالهم بموضوعية واعتدال. وقد قسم المؤلف كتابه إلى بابين: الباب الأول (أصول العلاقة مع غير المسلمين) وتحته أربعة فصول: الفصل الأول في أسس عامة في علاقة المسلمين بغيرهم كسماحة الإسلام وكونه دينا عالميا خاتما والعدل والوفاء بالعهود والمواثيق ومنع الفساد في الأرض ومنع موالاة الكفار والقاعدة في معاملة الكافر وتوثيقه وقبول خبره. والفصل الثاني هو: الأصل في العلاقة بالأمم السلم أم الحرب وأما الفصل الثالث فهو حقيقة علاقة الأمة الإسلامية بالأمم الأخرى وتناوله في خمسة مباحث فذكر العلاقة بالحربيين وبالذميين والمستأمنين والعلاقة بأهل الهدنة والصلح والعلاقة بأهل الحياد والاعتزال والمعاهدات والتنظيم الدولي. وفي الفصل الرابع ناقش حقوق غير المسلمين في دار الإسلام وواجباتهم وجعله في مبحثين الأول في الحقوق من حقوق شخصية وعقدية وفكرية وسياسية واقتصادية والمبحث الثاني في الواجبات كأداء الجزية بالنسبة للذمي وما في معناها من خراج وعشور، والتزام أحكام الإسلام. ثم ننتقل إلى الباب الثاني وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول دار الحرب ودار الإسلام وعقده في ثلاثة مباحث تناولت تعريف معنى دار الإسلام ودار الحرب وتناولت دار العهد والموادعة ثم نظرة في الواقع المعاصر. والفصل الثاني وهو التجاء المسلم إلى الكفار واستعانته بهم عقده في مبحثين الأول في التجاء المسلم إلى الكفار وبين فيه حكم السفر إلى بلاد المشركين وفي المبحث الثاني تعرض لاستعانة المسلم بغير الذميين. والفصل الثالث استعانة الدولة المسلمة بغير المسلمين واستعمالهم وعقده في مبحثين الأول في استعانة الدولة المسلمة بأفراد الكفار وتناول حكم هذه الاستعانة من الناحية الدينية ومن الناحية الدنيوية والمبحث الثاني استعانة الدولة المسلمة بالدول الكافرة سواء الاستعانة بها على مثلها من الدول الكافرة أو الاستعانة بها ضد بغاة مسلمين أو ضد دولة مسلمة وتناول أيضا بالدراسة استعانة الدولة المسلمة بدولة كافرة في شؤون الحياة والتعاون بينهما وذكر صور هذا التعاون من التمثيل السياسي الخارجي والتحالف السياسي وتبادل المجرمين والأسرى وتسليم اللاجئين وتبادل المعلومات والأسرار. والكتاب رغم توسط حجمه إلا أنه حوى شتات هذه المسألة الشائكة الحرجة مستعرضا لها باعتدال وموضوعية، وقد استعان في كتابه هذا كما أشار في المقدمة بالمنهج التأصيلي وذلك في النوازل والمستجدات، وبالمنهج الاستنباطي عند بيان فقه النصوص الشرعية أو قياس فرع بأصل أو تخريج على قول ومذهب وبمنهج المقارنة في عرض المسائل المختلف فيها والموازنة بينها ثم الترجيح والمنهج النقدي عند عرض الآراء الضعيفة أو الشاذة، مع توثيق النقولات وترجمة الأعلام وتخريج الايات والأحاديث وتعريف الغريب وإن كان الكتاب ينقصه الفهارس الكاشفة سواء كانت فهارس آيات أو أحاديث أو أعلام ... إلخ. فجزى الله المؤلف خيرا على ما بذله من جهد، ونفع بما في هذا الكتاب لا سيما مع ما تمر به الأمة الإسلامية من ضعف وهوان وما تتعرض له من هجمات ومؤامرات تريد النيل منها ومن ثوابتها.

الإمام محمد بن عبدالوهاب وأئمة الدعوة النجدية وموقفهم من آل البيت عليهم السلام

الإمام محمد بن عبدالوهاب وأئمة الدعوة النجدية وموقفهم من آل البيت عليهم السلام عنوان الكتاب ... الإمام محمد بن عبدالوهاب وأئمة الدعوة النجدية وموقفهم من آل البيت عليهم السلام اسم المؤلف ... خالد بن أحمد الزهراني تقديم ... علوي بن عبدالقادر السقاف الناشر ... الدرر السنية سنة الطبع ... 1426هـ عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 108 التعريف بموضوع الكتاب: إن الناظر إلى الفِرقِ المختلفة وموقفهم من آل البيت ليجد أنهم طرفان، فمنهم من جفاهم ولم يعرف قدرهم، ومنهم من غلا في محبتهم فأنزلهم فوق منزلتهم، وإن من نعم الله تعالى أن جعل أهل السنة والجماعة وسطاً بين تلك الفِرق، فلا إفراط ولا تفريط، وإن من أعلام أهل السنة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب ويأبى أهل البدع إلا أن يصموا الشيخ وأئمة الدعوة النجدية زورا وبهتانا بالعداوة لآل البيت وهم من ذلك برآء، لذا قام الشيخ خالد بن أحمد الزهراني بتجلية موقف الشيخ وأئمة الدعوة النجدية، موثقا ما يقول من كتب ورسائل أئمة الدعوة النجدية وعلى رأسهم الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، فقام المؤلف بنقل أقوال وتقريرات الإمام محمد بن عبدالوهاب في فضائل آل البيت عليهم السلام، ليبيّن موقف هذا الإمام المصلح وأبنائه وأحفاده وأتباعه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما خرجوا عن منهج أهل السنة الذي من دعائم هـ وأسسه تولي آل البيت ومحبتهم ومعرفة قدرهم وفضلهم. والمتأمل لهذه الرسالة يجد أن المؤلف قسمها قسمين أفرد الأول للإمام محمد بن عبد الوهاب مبتدئا بترجمة موجزة له ثم استعرض لنقولات من كتب الشيخ تبين عقيدته تجاه أهل البيت كنقله لأحاديث الوصية بآل البيت في كتبه ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته في كل صلاة، وتلقيبه عليا بالمرتضى إلى غير ذلك بل ذكر المؤلف أن الإمام سمى أبناءه بعلي وحسن وحسين بأسماء آل البيت. وأما القسم الثاني فكان عن أئمة الدعوة فذكر أيضا من كتبهم ما يبين عقيدتهم في آل البيت ومنهم عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الذي بين وجوب محبة آل البيت ومودتهم ومنهم سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الذي ذكر أن محبة علي علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق وكذلك جاء المؤلف بنقولات عن عبد الرحمن بن حسن وهو من أحفاد الإمام ونقولات عن غيرة تؤكد كذب هذه الدعاوى التي ألصقت بهذه الدعوة المباركة وتبين سلامة معتقد أصحابها تجاه آل البيت. فجزى الله المؤلف خيرا على هذا الجهد الطيب ونفع به.

الرواة المختلف في صحبتهم ممن لهم رواية في الكتب الستة

الرواة المختلف في صحبتهم ممن لهم رواية في الكتب الستة عنوان الكتاب ... الرواة المختلف في صحبتهم ممن لهم رواية في الكتب الستة اسم المؤلف ... الدكتور كمال قالمي الجزائري الناشر ... الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة الطبع ... 1428هـ/ الطبعة الأولى نوع الكتاب ... أصله رسالة دكتوراه عدد الأجزاء: ... 4 أجزاء التعريف بموضوع الكتاب: إن من أهم مباحث علوم الحديث معرفة الرواة الذين يترتب على معرفة أحوالهم جرحا وتعديلا الحكم على الحديث بالرد أو القبول، ولا شك أن التوثق من كون الراوي صحابيا يخرجه من دائرة البحث عن حاله؛ لأن الصحابة كلهم عدول، أما الخلاف في كون الراوي صحابيا فإنه يجعل الحديث مترددا بين الاتصال والإرسال، وبين قبول الراوي- إن كان صحابيا- أو البحث عن حاله إن كان ممن دون الصحابة. وقد قام الدكتور كمال قالمي الجزائري بجمع الرواة المختلف في صحبتهم ممن وجدت لهم رواية في الأصول الستة وتناولهم بالدراسة. وقدم المؤلف كتابه بمدخل تضمن عشرة مباحث تناول فيها ما يتعلق بتعريف الصحابي وطرق إثبات صحبته وعدالة الصحابة وطبقاتهم ومراسيلهم ثم تعرض لبعض المؤلفات في الصحابة وعرف المخضرم والتابعي ثم ختم هذه المباحث بالمؤلفات في المختلف في صحبتهم وهو الموضع الرئيس لكتابه وتناول هذا المبحث من خلال ثلاثة مطالب المطلب الأول في ذكر بعض أسباب اختلاف أهل العلم في صحبة الراوي، وأما المطلب الثاني ففي ذكر قرائن الترجيح في إثبات الصحبة أو نفيها ولعله بذلك يرسم المنهج الذي يسير عليه في كتابه في دراسة المختلف في صحبتهم وكيفية الترجيح بين إثبات الصحبة أو نفيها، وأما المطلب الثالث فجعله في المؤلفات في المختلف في صحبتهم. ثم بعد هذه الدراسة النظرية للصحبة وما يتعلق بها أخذ يترجم للمختلف في صحبتهم فذكر 187 راويا ممن اختلف في صحبتهم وطريقته في عرض تراجمهم أنه يذكر الراوي المختلف فيه معرفا باسمه ونسبه ومن روى عنه ومن روى له ثم يتعرض للاختلاف في الصحبة بذكر أقوال المثبتين للصحبة وأقوال غير المثبتين لها ويذكر ما رواه الراوي المختلف فيه من أحاديث مع تخريجها والحكم عليها ثم تأتي الخلاصة وفيها إجمال ما ذكره من خلاف والترجيح بين الأقوال المختلفة. والكتاب جهد مشكور للمؤلف في هذا الموضوع الذي يترتب عليه قبول أو رد جملة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمأمول أن توجه العناية لإكمال دراسة هذا الباب وتتبع باقي الرواة المختلف فيهم خارج الكتب الستة.

المدخل إلى علم المختصرات- المختصرات الفقهية نموذجا

المدخل إلى علم المختصرات- المختصرات الفقهية نموذجا عنوان الكتاب ... المدخل إلى علم المختصرات- المختصرات الفقهية نموذجا اسم المؤلف ... عبد الله بن محمد الشمراني الناشر ... دار طيبة - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ عدد الصفحات ... 395 التعريف بموضوع الكتاب: الاختصار فن من فنون الكلام اهتم به العرب في كلامهم, وما استخدامهم للضمائر, إلا دليل على رغبتهم في الاختصار, ولذلك افتخر النبي صلى الله عليه وسلم بما حباه الله تعالى من الفضائل ومنها أن الله فضله على غيره بأمور منها: أنه أعطي جوامع الكلم, ولم يعطها أحد قبله, فقال صلى الله عليه وسلم ((بعثت بجوامع الكلم)). والاختصار في الكلام: أن تدع الفضول وتستوجز الذي يأتي على المعنى. وقد عرف العلماء المعنى الاصطلاحي للاختصار فقال ابن فارس: الاختصار أخذ أوساط الكلام وترك شعبه, وقصد معانيه. وقال ابن قدامة المقدسي: اختصرت هذا الكتاب: يعني قربته, وقللت ألفاظه, وأوجزته. وكلمة المختصر تعني أن يختصر الكتاب وتستل مادته من كتاب آخر مطول, ولكن لا تعني هذا المعنى دائما فقد يطلق على الكتاب مختصرا وهو ليس بالمعنى السابق. وقد قام المؤلف بدراسة علمية منهجية حول علم المختصرات, ركز فيها على المختصرات الفقهية, واعتبرها نموذجا للمختصرات, وقد كان الكتاب في صورته الأولى مقسما على دروس بدلا من المباحث, وجاء الكتاب مقسما على عشرة مباحث: المبحث الأول: تعريف المختصر والمتن, المبحث الثاني: نشأة المختصرات الفقهية, وأنواعها وأغراضها, المبحث الثالث: محاسن المختصرات الفقهية, المبحث الرابع: المآخذ على المختصرات الفقهية, المبحث الخامس: أسباب شرح المختصرات, وأساليب الشرح, وآدابه, ومهمته, المبحث السادس: نماذج لأشهر المختصرات الفقهية في المذاهب الأربعة, المبحث السابع: سعة المادة العلمية في المختصرات الفقهية, المبحث الثامن: حكم الافتاء من المختصرات الفقهية, المبحث التاسع: مقابلة المختصر على الأصل عند التحقيق, المبحث العاشر: المصادر العامة والخاصة لدراسة المتون الفقهية وذكر في آخره ملحق أورد فيه إشكال وجوابه حول الشهاب الرملي, وابنيه الشمس والجمال.

الفتوى المعاصرة ما لها وما عليها

الفتوى المعاصرة ما لها وما عليها عنوان الكتاب ... الفتوى المعاصرة ما لها وما عليها اسم المؤلف ... د/ محمد يسري الناشر ... دار اليسر- مصر سنة الطبع ... 1429هـ/ ط أولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 89 التعريف بموضوع الكتاب: لئن كانت الحاجة إلى الفتوى شديدة فهي في هذا العصر أشد، نظرا لهذا الكم الهائل من النوازل والمستجدات التي تتابعت على ديار المسلمين، ولما اتسعت الفتيا من المتأهلين وغيرهم، ووجد من الفتاوى ما جانب الحق وانحرف عن جادة الصواب مع ما وجد من وسائل إذاعتها ونشرها مما لا عهد للسابقين به، كان لابد من وضع الضوابط للفتيا المعاصرة مع بيان ما لها وما عليها. وقد ألم بهذا الموضع الدكتور محمد يسري في رسالته (الفتوى المعاصرة ما لها وما عليها). وقد جعلها المؤلف في ست وقفات تضمنت هذا الموضوع. فالوقفة الأولى: معنى الفتيا وبيان منزلتها ومسيرتها، فذكر تعريف الفتيا والمفتي والمستفتي والاستفتاء، مبينا فضل الفتيا وخطورتها ومنزلتها من الدين ثم استعرض مسيرة الفتيا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوقت الحاضر بإيجاز. الوقفة الثانية: من يملك حق الفتيا، ذكر فيها شروطا متعلقة بشخصية المفتي وإمكاناته العلمية ثم تكلم عن أقسام المجتهدين وشروط الاجتهاد. الوقفة الثالثة: الفتيا المعاصرة ملاحظات وتأملات، وفي هذه الوقفة تناول وسائل تبليغ الفتيا والتعبير عنها ولاسيما وسائل الاتصالات الحديثة، وبين الإقبال الشديد على السؤال والاستفتاء، وعرض الشيخ لجملة من التأملات في الفتاوى المعاصرة من ناحية موضوعاتها وطريقة الإجابة عليها. الوقفة الرابعة: ضوابط الفتيا المعاصرة، فذكر منها ضوابط تتعلق بالمفتي وبالمستفتي وبإدارة الفتيا المعاصرة وتقنياتها. الوقفة الخامسة: الفتيا في نوازل الأقليات المسلمة، فقدم بتعريف الأقليات الإسلامية وتقسيمها وخصائها ومفهوم فتاوى ونوازل الأقليات المسلمة والتأصيل لفقهها ونوازلها وذكر أصول ومقاصد فقه النوازل للأقليات المسلمة وعرض نماذج من نوازل هذه الأقليات. الوقفة السادسة: الفتيا آفاق وطموحات، وتضمنت هذه الوقفة ثلاثة عناصر وهي تأهيل المفتين وتوعية المستفتي وآليات الإفتاء ومرجعياته. وبعد هذا العرض فما أحرى المتصدرين للفتوى أن يراجعوا أنفسهم وأن يلتزموا بضوابط الفتوى منعا من هذا التخبط وهذه الفوضى في جانب الفتاوى، ولا شك أن رسالتنا هذه التي عرضناها على وجازتها تبين الطريق وتحدد الضوابط، فجزى الله مؤلفها خيرا.

صوت المرأة – بحث فقهي

صوت المرأة - بحث فقهي عنوان الكتاب ... صوت المرأة - بحث فقهي اسم المؤلف ... الدكتور يوسف بن عبد الله الأحمد تقديم ... الدكتور صالح الفوزان الناشر ... مؤسسة الدرر السنية سنة الطبع ... 1429هـ/ الطبعة الأولى عدد الأجزاء: ... 1 عدد الصفحات: ... 70 التعريف بموضوع الكتاب: المرأة لها مكانتها في الإسلام، حقوقها مرعية، وكرامتها محفوظة، ولم تحظ المرأة في عصر من العصور بمثل ما حظيت به المرأة في الإسلام، وعلى الرغم من ذلك تخرج دعوات في بلاد الإسلام تريد ابتذال المرأة واستخدامها في كثير من نواحي الحياة، ومن هذه الدعوات دعوة مشاركة المرأة بصوتها في أجهزة الإعلام لاسيما في الأمور النافعة كالدروس والمحاضرات وقراءة القرآن، وأثيرت هذه القضية وأصبحت محل اهتمام الكثيرين لذا كتب الدكتور يوسف الأحمد رسالة (صوت المرأة- بحث فقهي) ليجيب عن مسألة صوت المرأة وهل هو عورة أم لا. ملتزما استقصاء أقوال العلماء وأدلتهم مع المناقشة والترجيح بعيدا عن الاستطرادات. تناول المؤلف هذا الموضوع من خلال خمسة مطالب: المطلب الأول تحرير محل النزاع فذكر المؤلف أن العلماء اتفقوا على حرمة ظهور صوت المرأة عند الرجال الأجانب إذا خضعت بالقول أو سماع الرجال لصوتها سماع افتتان وما عدا ذلك هو محل خلاف بين العلماء هل صورتها عورة أم لا على ثلاثة أقوال. والمطلب الثاني الأقوال في محل النزاع وفيه ذكر الأقوال الثلاثة وهي تتلخص في قول بأن صوتها عورة ويقابله قول أنه ليس بعورة والثالث أن رفع صوتها عورة مع ذكر القائلين بكل قول والمطلب الثالث أدلة الأقوال وفيه استعرض المؤلف أدلة كل قول من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم من الصحابة وغيرهم. والمطلب الرابع سبب الخلاف بين العلماء وأنه يرجع إلى أمرين الأول ما ظاهره التعارض بين الأدلة والثاني الخلاف في تحديد معنى العورة في الصوت والمطلب الخامس الجمع والموازنة بين الأدلة والترجيح بين الأقوال انتهى فيه المؤلف إلى أن الأقرب إلى الرجحان هو أن الأقرب إلى الرجحان أن رفع صوت المرأة عورة وأنه يجوز حديثها إلى الرجل بشرط الاقتصار على قدر الحاجة وأمن الفتنة والمطلب السادس ثمرة البحث بالأمثلة الواقعية ذكر المؤلف فيه أربعة أمثلة للحال المتفق على تحريمها مثل توظيف خضوع المرأة بصوتها لجذب الرجال كما في الإعلانات التجارية أو الغناء وثلاثة أخرى على القول الراجح وهو حال رفع صوتها وكونه عورة على الراجح مثل إلقاء الدروس والمحاضرات أو المشاركة في الإذاعة والتلفاز وذكر أن الجهر العارض له حالان حال جائزة وذلك عند الحاجة كإنكار منكر أو سؤال عاجل وأخرى مكروهة وذلك إذا كان لغير حاجة. أما ما عدا الأحوال الثلاثة فإنه يجوز بشرط الاقتصار على قدر الحاجة وأمن الفتنة مثل الفتاوى وحاجة البيع والشراء إلى غير ذلك. والكتاب على الرغم من صغر حجمه إلا أنه استوفى المسألة وأجاد في عرضها فجزاه الله خيرا ونفع بما كتب.

الأحاديث الواردة في شأن السبطين الحسن والحسين

الأحاديث الواردة في شأن السبطين الحسن والحسين عنوان الكتاب ... الأحاديث الواردة في شأن السبطين الحسن والحسين رضي الله جمعا وتخريجاً ودراسة وحكماً اسم المؤلف ... عثمان بن محمد الحمد الخميس الناشر ... مؤسسة دار الآل والصحب سنة الطبع ... الطبعة الأولى 1430هـ عدد المجلدات ... 1 عدد الصفحات ... 488 صفحة نوع الكتاب ... رسالة جامعية لنيل درجة الماجستير التعريف بموضوع الكتاب: اختار الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم من سائر خلقه ليختم به نبواته , وينهي به رسالاته , وليكون سيد المرسلين وإمامهم , واختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفوة خلقه وخلص عباده ليكونوا عوناً له على هذه المهمة , فيحملوا أعباء الدعوة ويقوموا بتكاليف الدين .. وكان من هؤلاء المصطفين من جمع الله له فضيلتين وقرن له بين ميزتين هما الصحبة القرابة ومن هؤلاء سبطا رسول الله وريحانتاه , وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين ابنا ابنته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين. ولما كان الناس من هذين العلمين على طرفي نقيض - طرف استهان بقدرهما وعلو شأنهما , بل وصل به الأمر إلى بغضهما , وطرف غلا فيهما غلواً فاحشاً أوصلهما فيه إلى حد لا ينبغي لهما ولا لغيرهما من الأنبياء والصالحين مما حدا بهؤلاء وهؤلاء على حد سواء إلى نشر كل ما يوافق هواهم فيهما من أحاديث سقيمة وآثار موضوعة تؤيد ما هم عليه من باطل وتقوي ما هم فيه من زيغ. لما كان الأمر قد وصل إلى هذه الحالة احتاجت المكتبة الإسلامية إلى مثل هذا الكتاب الذي يجلي مثل هذه النصوص ويبين الصحيح من عدمه , وليكون مرجعاً لمن أراد أن يقف من هذين العلمين موقفاً شرعياً لا غلو فيه ولا إفراط , كما لا استهانة فيه ولا تفريط. عقد المؤلف كتابه في ثلاثة أبواب: أولها تكلم فيه عن ماهية الصحبة والقرابة وفضل كل منهما , فتكلم في الفصل الأول عن تعريف الصحبة ومكانتها وفضلها , وتحدث فيه عن عدالة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يعتقده المرء فيهم. وتكلم في الفصل الثاني عن تعريف قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان فضلهم ومكانتهم , وما يخصهم من أحكام دون غيرهم. وفي الباب الثاني من الكتاب ترجم المؤلف فيه للسبطين رضي الله عنهما فتحدث في الفصل الأول عن الحسن: اسمه ومولده ومكانته , وعن صفاته الخَلقية والخُلقية , وعرج على مكانته وكرمه وعبادته ليختم الفصل بالحديث عن سبب وفاته , وعن زوجاته وأولاده. والفصل الثاني ذكر ترجمة الحسين رضي الله عنه فتحدث عن اسمه ومولده ومكانته , وصفاته الخَلقية الخُلقية. ليتكلم بعد ذلك عن خروجه من مكة لمَّا طلب منه مبايعة يزيد , ثم ما جرى بينه وبين أهل العراق من مراسلات انتهت بخروجه من مكة إلى الكوفة , وما لقيه رضي الله عنه من معارضة الصحابة لخروجه , وما انتهى إليه الأمر من وقوع موقعة الطف في كربلاء التي استشهد رضي الله عنه فيها. أما في الباب الثالث فقد ساق المؤلف الأحاديث التي وردت في الحسن والحسين رضي الله عنهما , ولم يكتف بجمعها وسردها , بل قام بتخريج كل حديث أورده , ومن ثم دراسة سنده دراسة حديثية مفصلة ليخرج في آخر الأمر بحكم على الحديث وبيان درجته. واشتمل هذا الباب على أربعة فصول , أورد في أولها الأحاديث التي وردت في شأن الحسن رضي الله عنه. ثم في الفصل الثاني أورد الأحاديث التي وردت في الحسين رضي الله عنه , وفي الفصل الثالث أورد الأحاديث التي وردت في شأنهما معاً ليختم الباب بفصل ذكر فيه ما ورد في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة. بعد هذا العرض المجمل لمحتويات الكتاب يتبين لنا أنه قيم في موضوعه , بل يمكن أن نأخذ منه إشارة إلى حاجتنا لدراسة أعلامنا دراسة علمية متفحصة ومتأنية ننقي فيها تاريخهم من عبث المتقولين , وزيادات الغالين. فجزى الله المؤلف خير الجزاء على هذا الكتاب.

ثم أبصرت الحقيقة – دراسة موضوعية لأبرز نقاط الخلاف السني الشيعي

ثم أبصرت الحقيقة - دراسة موضوعية لأبرز نقاط الخلاف السني الشيعي عنوان الكتاب ... ثم أبصرت الحقيقة - دراسة موضوعية لأبرز نقاط الخلاف السني الشيعي اسم المؤلف ... محمد سالم الخضر الناشر ... شبكة أنصار أهل البيت سنة الطبع ... 1428هـ التعريف بموضوع الكتاب: يعد هذا الكتاب نتاجا تراكمياً لتأثر المؤلف -منذ صغره- ببيئته التي نشأ فيها والتي كانت مزيجا من السنة والشيعة، فموضوع الكتاب قد نشأ معه منذ صغره نتيجة مروره بمواقف تمخضت عن تساؤلات مثيرة لدى المؤلف ساقته للبحث عن حقيقة الخلاف بين السنة والشيعة، ولذلك فقد غلب على الكاتب في بعض المواطن من مؤلفه ذلك الأسلوب الأدبي، فتراه يفرغ كماً كبيراً من مشاعره وأحاسيسه بين سطور كتابه، ذاكراً الباعث عليها من مواقفه تلك ذات الأثر الكبير في هذا الكتاب. ولقد جعل المؤلف الفصل الأول من كتابه متنفساً لتلك المشاعر مازجا إياها بجملة من المواقف التي مر بها في حياته، جاعلا من ذلك كله توطئة لكتابه. وفي الفصل الثاني يتكلم عن أهل البيت، فقام بتعريف هذا المصطلح مبينا أهمية تلك الخطوة في الوصول إلى الحق، وأوضح أن هذا المصطلح يشتمل على مقامين: أولاهما: مقام الاتباع والنصرة، والثاني: مقام من تحرم عليهم الصدقة، وهذا الأخير يشمل: أصلا وهم الذين تحرم عليهم الصدقة وهم بنو هاشم، وفرعا لا تحرم عليهم الصدقة وهم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأورد الأدلة على ذلك من القرآن والسنة وكلام أهل العلم، ومؤيدا ذلك بنصوص من كتب الشيعة أنفسهم. ثم بين شرفهم ووجوب حبهم، وأوضح أن حبهم يكون من غير غلو فيه، وختاما لهذا الفصل نقل من كتب الشيعة صورا مستشنعة من غلوهم في أهل البيت والأئمة الإثني عشر. ثم ينتقل في الفصل الثالث إلى الكلام عن الخلافة والإمامة مبينا مواطن الاتفاق والخلاف بين السنة والشيعة في هذه القضية، وأن الفريقين يقران بضرورة وجود الخلافة، لكن الشيعة غالوا في أئمتهم، بل جعلوا مقام الإمامة أعلى من مقام النبوة والرسالة، وسرد نصوصا عن علمائهم تظهر ذلك الغلو في الأئمة أسهمت بشكل مباشر في جعل مسألة الإمامة النصية - إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه - مسألة إيمان وكفر. ثم ينتقل المؤلف إلى إظهار الحق في هذه المسألة مؤكدا على أن القرآن الذي هو تبيان لكل شيء لم يذكر شيئا مما يذكره الشيعة حول الإمامة رغم خطر ما يدعون، مما يدل بداهة على بطلان قولهم، ثم يؤكد على أن من يستقرئ التاريخ الشيعي وتطوره عبر العصور سيدرك تهاوي النظرية الإمامية أمام حقائق النصوص الشيعية وأنها نتيجة متأخرة لتطورات طرأت على الحركات الشيعية. ثم ختم هذا الفصل بمناقشة أدلة الشيعة التي استدلوا بها من القرآن والسنة لإثبات مذهبهم. ثم ينتقل المؤلف في الفصل الرابع للكلام حول الصحابة مبينا فضل الصحبة وشرفها ومؤكدا على أن الطعن في الصحابة طعن في الدين لأنهم هم الذين نقلوه لنا، رادا على افتراءات الشيعة عليهم وبخاصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأبيها وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم، مؤكدا على سماجة تلك الافتراءات وكونها من الكذب غير المعقول، ثم يعقد مقارنة بين مدح القرآن للصحابة وذم الشيعة لهم. والكتاب جيد في بابه.

قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية – دراسة نقدية في ضوء الإسلام

قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية - دراسة نقدية في ضوء الإسلام عنوان الكتاب ... قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية - دراسة نقدية في ضوء الإسلام اسم المؤلف ... د / فؤاد بن عبد الكريم العبد الكريم الناشر ... مركز باحثات لدراسات المرأة سنة الطبع ... 1430 هـ عدد المجلدات ... 2 نوع الكتاب ... الكتاب أصله رسالة دكتوراه التعريف بموضوع الكتاب: إن للمرأة في الإسلام مكانة كريمة فقد كفل لها جميع حقوقها، ورعاها في جميع أطوار حياتها موصيا بها الأب في حال كونها ابنة - والزوج في حال كونها زوجة - والابن في حال كونها أما. وإن المتتبع لأحداث المرحلة الزمنية الراهنة التي تعيشها مجتمعاتنا الإسلامية وما يشن من غارات فكرية وهجمات شرسة لنشر المفاهيم الغربية الفاسدة لاسيما ما يتعلق بالمرأة - ليدرك خطورة الوضع الراهن، خاصة مع هيمنة الحضارات الغربية، وتعلق دعاة التغريب بها. وقد اضطلع الدكتور فؤاد بن عبد الكريم بكشف أحد جوانب هذه المؤامرات التي تحاك من خلال المؤتمرات التي تقوم عليها الأمم المتحدة وأجهزتها مع وكالات دولية أخرى انطلاقا من بعض المفاهيم والمبادئ والأفكار كالعلمانية والحرية والعالمية والعولمة. وبعد أن عرف المؤلف بهذه الأسس التي تقوم عليها قضايا المرأة في هذه المؤتمرات وقام بنقدها وذلك من خلال الباب الأول التمهيدي تعرض في الباب الثاني لنقد " العقد الأممي "، وهو العقد الذي اتفق عليه في المؤتمر العالمي الأول للمرأة المنعقد في المكسيك عام (1975م) والذي اعتمدت فيه خطة العمل العالمية حول قضايا المساواة والتنمية والسلم، فذكر موجزا لتاريخ هذه المؤتمرات ثم تعرض لمفهوم المساواة وعلاقته بالمرأة وقام بنقده مبينا أوجه الخلاف بين الرجل والمرأة وموقف الإسلام من قضية المساواة وصور المساواة وما يستثنى منها وذكر موقف المرأة الغربية نفسها من هذه القضية في الحضارة الغربية وتكلم عن التنمية ومفهومها وعلاقتها بالمرأة والضوابط الإسلامية لأنظمة التنمية ثم قام بنقد هذا المفهوم وعلاقته بالمرأة مع ذكر ضوابط مشاركة المرأة في التنمية وكذلك تكلم عن السلم وعلاقته بالمرأة وتولى نقده. وفي الباب الثالث استعرض مع النقد الإجراءات التنفيذية الموصى بها في تلك المؤتمرات والتي هي: إجراءات في المجال الخلقي: كالدعوة إلى حرية العلاقات الجنسية المحرمة والاعتراف بالشذوذ، وفي المجال الاجتماعي: كالسماح بأنواع من الاقتران غير الزواج، وسلب قوامة الرجل، وسلب ولاية الآباء على الأبناء إلى غير ذلك، وفي المجال التعليمي: كإجراءات التعليم المختلط والتثقيف والتربية الجنسي، وفي المجال الصحي: كاتخاذ إجراءات تحول دون انتشار الأمراض الناتجة عن الممارسات الجنسية المحرمة وتقبل المصابين بأمراض ناتجة عن هذه الممارسات ورعايتهم وعدم تجريم الإجهاض وجعله من حقوق المرأة وتيسير سبله وفي المقابل تجريم الختان وتضخيم آثاره السلبية، وفي المجال الاقتصادي: كالدعوة إلى خروج المرأة للعمل والاختلاط ومساواتها بالرجل حتى في الميراث، وفي المجال السياسي: كإجراءات مشاركة المرأة في الولايات العظمى كالرئاسة وما دونها والدعوة إلى مزيد من مشاركات المرأة السياسية. وقد عني المؤلف بإلحاق نماذج من وثائق المؤتمرات والاتفاقيات الصادرة عن الأمم المتحدة وما يرتبط بذلك في المجلد الثاني تمثل ثلثه. وأما عن منهج المؤلف في كتابه فقد استخدم المنهج الوصفي في عرض القضايا الأساسية للمرأة، ومنطلقاتها من خلال وثائق المؤتمرات، كما استخدم المنهج التاريخي في تتبع بعض قضايا المرأة في هذه المؤتمرات، كقضية تقديم الثقافة الجنسية للجنسين في المدارس الغربية، وقضية خروج المرأة للعمل، وكذلك قضية الحقوق السياسية للمرأة الأوربية، وغيرها من القضايا، واستخدم المنهج التحليلي النقدي في تحليل وثائق المؤتمرات المتعلقة بالمرأة، ونقدها في ضوء المصادر الإسلامية، مبرزاً الموقف الإسلامي من هذه القضايا فالكتاب موسوعة في بابه، جديد في موضوعه، نفع الله به، وجزى مؤلفه خير ا.

أحكام المجاهرين بالكبائر

أحكام المجاهرين بالكبائر عنوان الكتاب ... أحكام المجاهرين بالكبائر. اسم المؤلف ... ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي. الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام. عدد الصفحات: ... 607 سنة الطبع ... ط1 لدار ابن الجوزي والأصل ط2/ 1429هـ نوع الكتاب ... تأليف خاص , وقد أجيز من الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ. والكتاب راجعه وقرظه الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين. التعريف بموضوع الكتاب: لا شك أن الناس في عبودية الله تعالى متفاوتون؛ فألوهية الله تعالى في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص , كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} (فاطر:32) , فدل ذلك على أن المسلمين ليسوا درجة واحدة؛ بل ثلاث كما هو ظاهر الآية الكريمة: -الظالم لنفسه: وهو الذي يظلم نفسه بارتكاب المعاصي والآثام التي هي دون الكفر , وفوقه المقتصد , وفوقهما السابق بالخيرات. والمؤلف يتحدث عن الظالم لنفسه لا غير , وهو أيضا لا يخلو من حالات ثلاث: إما أن يفعل الكبائر مستترا بها , أو مجاهرا بها , أو أن يزيد على المجاهرة بها الدعوة إليها؛ عياذا بالله. والأخيران هما محل البحث في هذا الكتاب الذي سماه مؤلفه: "أحكام المجاهرين بالكبائر". وقد أدار المؤلف رؤوس رسالته على خمسة أبواب , وتحت كل باب فصول. قبل هذه الأبواب بدأ المؤلف بمقدمة موجزة فيها توطئة للموضوع وتنبيه على ما كتب أهل العلم في هذا الباب وإيقاظ للقارئ بأن الطائفة المنصورة لم تزل ظاهرة قائمة بأمر ربها. بعد ذلك بدأ المؤلف في الباب الأول وأودع فيه فصلين: الأول يتكلم عن علاقة البدعة بالمعصية وقرر فيه أن أحكام أهل الأهواء والبدع في الجملة مأخوذة من أحكام أهل الفسق , والثاني يتكلم عن الفوارق بين المعاصي والبدع وذكر فيه بإيجاز ثمان مفارقات وثلاث موافقات. وأما الباب الثاني ففيه عشرة فصول: تحدث في الأول عن تعريف المعصية وفي الثاني عن تعريف الفسق , ثم أردفهما بفصل ثالث عن أقسام المعاصي وأنها تنقسم إلى كبائر وصغائر كما ذهب إليه جماهير السلف والخلف. ثم ناسب أن يأتي بفصل يتكلم فيه عن تعريف الكبائر. وتحدث في الفصل الخامس عن متعلقات الذنوب من حيث تكفير الحسنات لها , وتعديها , وإباحتها للضرورات , وغلظها. والفصل السادس عن تعريف الصغائر , وذكر فيه خطر التهاون بها. وعرف بالمجاهرة بالذنوب , وإشاعتها في فصل مستقل. وفرق في الفصل الذي بعده بين المجاهرة بالمعاصي , والاستتار بها , وذكر فيها خمسة عشر فرقا. وعقد الفصل التاسع للتحذير من الذنوب. والأخير كان عن آثار ترك الذنوب في الحياة وبعد الممات. وكان عنوان الباب الثالث مصادر الكبائر وهي ستة مصادر أشبه ما تكون بالقواعد , رأى المؤلف أن الكبائر جميعها تندرج تحتها ولا تخرج عنها. أما الباب الرابع فيتكون من فصلين , سمى الفصل الأول جريدة الكبائر وذكر فيها ما استطاع أن يحصيه من منظومة الكبائر التي اتفق أهل العلم على حرمتها. والفصل الثاني عن آثار المعاصي ذكر فيها جملة من الآثار. ولم يطل في هذا الفصل كعادته في الفصول الثلاثة الأول , بخلاف الباب الخامس والأخير فقد استغرق أكثر من نصف الكتاب لأنه هو المراد من تأليفه والذي عنون له بـ: أحكام أهل الكبائر في الحياة وبعد الممات , وفيه ستة وأربعون حكما , عرضها عرضا جيدا متميزا , حيث أنه يدعم الحكم الواحد منها بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف وأهل العلم المعتبرين وبعض التعليقات التي توضح كلامهم. وحث في آخر الباب الخامس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالعلاج بعد تشخيص هذا الداء العضال , جعله على شكل مسائل وضوابط وتنبيهات , وهي من الأهمية بمكان خاصة أن بعضها فهم على غير وجهه الشرعي , لاسيما عند بعض طلبة العلم! ولما فيها أيضا من أمور تحتاج بيانا شافيا لانتشارها في أوساط مجتمعاتنا. بعد ذلك ختم بخاتمة مختصرة , أردفها بسرد قائمة أحكام المجاهرين بالكبائر التي ذكرها في الباب الخامس مجردة من الدليل والتعليل , والتخصيص والتقييد , تقريبا للأحكام , وتنبيها للأنام , وتبصرة لأهل الإسلام , فجزى الله المؤلف خيرا على ما قدم في هذا السفر , ونفع الله به الإسلام والمسلمين.

الموسوعة الشعرية للكاتب والأديب والواعظ

الموسوعة الشعرية للكاتب والأديب والواعظ عنوان الكتاب ... الموسوعة الشعرية للكاتب والأديب والواعظ والخطيب اسم المؤلف ... بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر الناشر ... دار العاصمة - الرياض سنة الطبع ... الطبعة الثانية 1429هـ - 2009م عدد الصفحات: ... 894 التعريف بموضوع الكتاب: كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم, فجاء الإسلام فأجاز حسنه, وحرم قبيحه, ورغب في صالحه ورهب من فاسده, فما كان منه دالا على معالي الأمور من إقرار بوحدانية الله تعالى أو ذكر أو تعظيم له سبحانه أو فعل لأوامره أو ترك لمعاصيه, أو كان مرشدا إلى كريم الأخلاق ومحاسن الآداب فهو حسن مرغوب فيه, وما كان كفرا أو فسوقا أو عصيانا, كصنيع أهل الفسق والعلمنة والحداثة والمبتدعة ومن نحى نحوهم فهو مذموم منهي عنه. ولما لحسن الشعر من مزايا وما له من الأثر البالغ في النفوس تعين على المنتسبين للعلم إيجاد مؤلف موسوعي جامع للشواهد المتضمنة ذكر الله وتوحيده والثناء عليه والحكمة والموعظة وفضل العلم وشرفه والزهد والأخلاق والآداب والرقائق .... ليدعم بها المتكلم كلامه ويجمل بها الكاتب خطابه. وجاء هذا الكتاب الموسوعي ليسد ثغرة في التأليف في هذا الباب, وقد جمع فيه المؤلف أكثر من خمسة آلاف بيت منها الأمثال والشوارد والمختارات والشواهد, استخرجها من أمهات كتب الأدب ومصادر الشعر, والمصادر اللغوية والشرعية والتاريخية, وكتب الطبقات والتراجم والأخلاق والآداب والرقائق وغيرها .... وقسمها إلى ثلاثة عشر كتابا حوت أكثر من خمسمائة موضوع, وهي: كتاب الإيمان وفيه سبعة وعشرون بابا, كتاب العلم وفيه خمسة وعشرون بابا, كتاب الأخلاق وفيه سبعون بابا, كتاب الأدب وفيه خمسة وعشرون بابا, كتاب الرقائق وفيه تسعة وعشرون بابا, كتاب النساء وفيه ثمانية أبواب, كتاب الحرب والجهاد وفيه ستة أبواب, كتاب السلطان وفيه اثنا عشر بابا, كتاب خلق الإنسان وفيه أحد عشر بابا, كتاب الطب وفيه خمسة أبواب, كتاب الصناعات والمكاسب وفيه عشرة أبواب, كتاب الأزمنة والأمكنة وفيه ستة أبواب, كتاب المنثورات والمتنوعات وفيه أربعة وثمانون بابا. وقد اعتنى بعزو الأبيات إلى أصولها ومصادرها وشرح الغريب منها والترجمة لبعض الشعراء.

موقف ابن تيمية من الصوفية

موقف ابن تيمية من الصوفية عنوان الكتاب ... موقف ابن تيمية من الصوفية اسم المؤلف ... محمد بن عبد الرحمن العريفي الناشر ... مكتبة دار المنهاج- الرياض سنة الطبع ... 1430هـ/ ط أولى نوع الكتاب ... أصله رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عدد الأجزاء: ... 2 جزء التعريف بموضوع الكتاب: ما زالت الصوفية قائمة في بلدان المسلمين لها أتباعها ومريدوها الذين ينضوون تحت طرقها الكثيرة التي عمت بلدان المسلمين ولقد خدع بها الكثيرون يظنون أن الصوفية هي الباب إلى الزهد والتخلي عن الدنيا والإقبال على الله فكان لابد من تجلية حقيقة الصوفية وما آل إليه أمر التصوف لا سيما إذا كان ذلك صادرا عن أحد الأئمة الراسخين في العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وقد جمع الدكتور محمد العريفي كلام شيخ الإسلام فيما يتعلق بالصوفية في كتابه (موقف ابن تيمية من الصوفية) في دراسة واسعة ومهد لدراسته بترجمة موجزة لشيخ الإسلام ثم الكلام عن الفرق نشأتها وأصولها عند شيخ الإسلام. وعقد الكتاب في خمسة أبواب فأما الباب الأول فكان عن مصادر ابن تيمية ومنهجه في عرض آراء الفرق الإسلامية ومناقشتها وتقويمه لكتب المقالات. ثم في الباب الثاني التعريف بالصوفية تناول ما يتعلق بالصوفية ونسبتها ونشأتها والأطوار التي مرت بها وأهم فرقها وأبرز رجالها ومصادرهم في التلقي. وفي الباب الثالث عرض لآراء الصوفية في الاعتقاد مرورا بتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات والنبوة والولاية والكرامات واليوم الآخر والقدر وموقفهم من المعاصي ودرجاتها وفي الباب الرابع تناول وسائل الطريق الصوفي كالخلوة والصمت والعزلة والجوع والسهر والأوراد والأذكار وتناول معالم الطريق الصوفي فتكلم عن المريد وآدابه والعهد والبيعة والتلقين والخرق والمرقعات والتعري وفي الباب الخامس وهو آخر أبواب الكتاب تكلم عن موقف شيخ الإسلام من الصوفية عموما فذكر موقفه من مصنفاتهم وشخصياتهم وموقفه من رواياتهم ومروياتهم ثم عقد مقارنة إجمالية بين منهج ابن تيمية ومنهج غيره من المصنفين في عرض الصوفية. وقد خلص المؤلف من خلال بحثه إلى أن الصوفية ابتغوا الهداية في غير الكتاب والسنة لذا ضلوا وأن تقديسهم للأشخاص كان السبب الرئيس في الوقوع في كثير من الضلالات والشركيات والبدع وهذه البدع نوعان إما عقدية أو سلوكية وأن شيخ الإسلام تولى الرد عليهم فيما خالفوا فيه أهل السنة مع إنصافه لخصومه وتفصيل لأحوالهم وعدم تعميم الأحكام عليهم وقبول ما لديهم من حق وإن كان قليلا. وبعد هذا العرض لأبواب الكتاب ومباحثه التي بذل فيها المؤلف جهدا مشكورا في بيان حقيقة التصوف وموقف شيخ الإسلام منه نقول ما أحوج الأمة الإسلامية إلى أن تعود لكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ونبذ البدع التي فرقت الأمة إلى فرق وطرق وجماعات فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

القمار حقيقته وأحكامه

القمار حقيقته وأحكامه عنوان الكتاب ... القمار حقيقته وأحكامه اسم المؤلف ... سليمان بن أحمد الملحم تقديم الناشر ... كنوز أشبيليا للنشر والتوزيع - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ نوع الكتاب: ... هي رسالة جامعية قدمها المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، وقد نوقشت بتاريخ 25/ 8/1417هـ وحصلت على درجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وطبعت عام 1429هـ في مجلد واحد يقع في 634 صفحة. التعريف بموضوع الكتاب: ليس خافٍ على أحد ما يموج به العالم اليوم من المعاملات المالية المحرمة، منها القديم ومنها الحديث، وربما قديم بصور مستحدثة تحايلاً على الشرع الحنيف، ومن تلك المعاملات القديمة (الميسر) أو القمار. وقبل الشروع في صلب الموضوع، لابد من تعريف الميسر فقد عرف لنا المؤلف الميسر وأصل اشتقاقه، وأنواع الميسر التي عُرفت في الجاهلية، وما له تعلق بميسر الجاهلية من آلات وأشخاص، كالقداح والأيسار والجزور والرِّبابة والحُرْضة وغيرها، وبين جزاه الله خيراً أوجه المقامرة في ميسر الجاهلية، وبعد هذا التعريف الماتع، أتى دور التعريف بالقمار وبيان حقيقته وحكمه وما يترتب عليه، جاءت كل منها في فصل مستقل. فعرف المؤلف القمار والأصل الذي أخذ منه، ومعناه في الشريعة وتعريفات العلماء له، مع ترجيحه لتعريف القمار بما يتلاءم مع ما قدمه في هذا المبحث، وبعدها انتقل بنا المؤلف ليبين لنا العلاقة بين القمار وما يشتبه به، فبيّن العلاقة بينه وبين الرهان، وبينه وبين الاستقسام بالأزلام، وبينه وبين القرعة، وبينه وبين الغرر. ثم وصل إلى بيت القصيد، وهو حكم القمار، موضحاً بالأدلة الوافية من الكتاب والسنة والإجماع، حرمة القمار، ثم أخذ في بيان الحكمة في تحريمه معدداً مفاسده الإحدى عشرة، كما أفرد مبحثاً شرح فيه متى حرم الميسر. والآن جاء دور الحكم على ما يترتب على القمار، كعقوبة المقامر وتبين أنها التعزير، وأما ما يتعلق بآلات القمار فإن كانت آلات محرمة فبين أن حقها التغيير إما بالكسر أو التفكيك أو التخريق، وأما من طلب من غيره المقامرة فعليه بالصدقة، أما مقدارها ووجه جعلها كفارة وما إلى ذلك فهو في مبحث مفيد لمن أراد المزيد. وأما من تورَّط وقامر وكسب أموالاً من طريق القمار، فكيف له بالخروج منها؟ هذا ما كشف عنه المؤلف جزاه الله خيراً في المبحث الأخير من هذا الفصل. ثم بعد أن تعرف القارئ في هذا البحث على ما سبق ذكره، فمن المناسب أن يتعرف على المغالبات (المسابقات) التي يدخلها القمار، حيث أصبحت المغالبات مرتعاً خصباً للمقامرين، ينصبون فيها أفخاخهم ليصيدوا بها أموال الناس بالباطل، فقد عرَّف المؤلف في هذا الباب القواعد الضابطة لما يشرع ويمنع من اللهو والمغالبة، فهناك مغالبات محمودة، كالسبق بالخيل والإبل وكالرمي بالسهم، وهناك مغالبات مذمومة، وضابطه كما قال المؤلف كل لهو ألهى عن واجب أو اشتمل على فعل محرم أو غلب على الظن إفضاؤه إلى شيء من ذلك فهو محرم، ومن أراد أن يعرف حكم اللعب بالنرد والشطرنج، فقد فصل المؤلف فيها القول في أكثر من (40) صفحة، وكذلك الألعاب التي فيها أذى سواءً للآدميين أو للحيوانات كمصارعة الثيران والتحريش بين الحيوانات، أما المغالبات المباحة فهي المغالبات التي ليس فيها جعل وليست مما سبق من أنواع. أما ما يجوز فيه بذل المال من المغالبات، فهو ما حرره المؤلف بمباحث شافية كافية، فحرر أولاً المسائل الإجماعية والمسائل الخلافية في هذا الموضوع، مستدلاً بالأدلة الشرعية ومستنداً إلى كلام الأئمة والفقهاء، ونحب هنا أن نعطي بعض الأمثلة المنتشرة اليوم والتي وضعها المؤلف في المسائل الخلافية فيما يجوز بذل السبق فيه، فمنها السبق بالأقدام والسباحة والمصارعة والمسايفة والمسابقة في حفظ القرآن، وغيرها من أمثلة، حرر فيها القول بالأدلة مع الترجيح، خاتماً الفصل بضوابط جامعة نافعة. إذاً متى يكون بذل المال في المغالبات قماراً؟ الجواب - عزيزي القارئ - في الفصل التالي من كتاب المؤلف، فقال المؤلف في تقسيمه: أن المال إما أن يكون مبذولاً من غير المتسابقين وهذا ما أجازه العلماء كافة، وإما أن يكون المال مبذولاً من أحد المتسابقين دون الآخر، وهي جائزة أيضاً على ما بينه المؤلف، وإما أن يكون المال المبذول من كل طرف من المتسابقين، وهذا النوع الأخير فصَّله المؤلف وبيّن مذاهب العلماء فيه، وكذلك إذا دخل في الموضوع طرف ثالث يقال له محلل، فناقش المؤلف رأي شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في هذه المسألة، ذاكراً الأدلة ومناقشاً لها ومرجحاً لما يراه الصواب، وقد وقع بحثه هذا لوحده في (75) صفحة، فيها علم كثير. وختم المؤلف كتابه هذا بباب مهم جداً وهو (القمار في المعاملات المالية) القديمة منها والمعاصرة. فمن المعاملات المالية المعروفة قديماً: الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة، والمزابنة وبيع الحيوان باللحم وبيع ما لا يقدر على تسليمه بأقل من ثمن مثله، وغيرها من المعاملات الأخرى التي فيها غرر، وقد درس المؤلف كل نوع من هذه الأنواع مبيناً حكمها الشرعي. أما المعاملات المالية المعاصرة، كعقود التأمين والبورصات، واليانصيب، والحوافز المالية في المعاملات التجارية، ولا شك أن هذا الفصل من أهم فصول الكتاب، لما يعلمه الجميع من انتشار هذه المعاملات بين الناس بما لا يكاد يسلم منه أحد كالتأمين، وملامسته للواقع المعاصر. ففي كلامه عن التأمين، عرفه لنا أولاً ثم نقل كلام الجمهور في حكم عقود التأمين، ثم دخل في موضوع دخول القمار في هذه العقود. ثم عرف البورصات، وما يدخله القمار في هذه المعاملة، والعقود المرتبطة بها، وأحكامها كبيع حق اختيار البيع والشراء مثلاً. ثم عرف باليانصيب وحكمه، ونماذج من صوره الحديثة، حيث تفنن المحتالون في مخادعة الناس والتغرير بهم واستدراجهم إلى القمار تحت شعارات براقة وآمال خادعة. ثم الحوافز المالية في المعاملات التجارية، فبين المقصود منها وأنواع هذه الحوافز والجوائز، مع نقله لفتاوى اللجنة الدائمة في هذه الأنواع وتأصيله الجيد للمسألة، وبهذا المبحث ينتهي الكتاب، لتأتي الخاتمة التي لخص فيها المؤلف بحثه كاملاً مع نتائجه في (51) نقطة. وبعد هذا الإبحار في هذا السفر الزخار، وما رأيناه من جهد كبير وتأصيل جيد، لامس فيه المؤلف الواقع المعاصر وما يدور فيه من معاملات دخلها القمار دون أن يشعر بذلك كثير من الناس، فجزاه الله خيراً، وجعل ما كتبه نافعاً لقارئه، والحمد لله رب العالمين.

فلسطين - دراسات منهجية في القضية الفلسطينية

فلسطين - دراسات منهجية في القضية الفلسطينية عنوان الكتاب ... فلسطين دراسات منهجية في القضية الفلسطينية. اسم المؤلف ... د. محسن محمد صالح. الناشر ... مركز الأعلام العربي. سنة الطبع ... 1424 هـ. ... التعريف بموضوع الكتاب: لقد كُتبت آلاف الكتب والدراسات حول القضية الفلسطينية من مختلف زواياها، غير أن الدراسات العلمية تميل عادة إلى تغطية أحد جوانب الموضوع أو فروع من فروعه. أما الدراسات المنهجية التي تقدم القضية بصورة مركزة شاملة بين دفتي كتاب واحد فهي قليلة محدودة. وفي هذا الكتاب النفيس اعتمد المؤلف التصنيف حسب المواضيع أو الخطوط العامة للقضية الفلسطينية، فقد وضع في أول الكتاب تمهيدا ناظماً لما بعده من فصول. وهو تمهيد يقدم نظرة سريعة حول فلسطين عبر التاريخ وخلفيات ظهور القضية الفلسطينية؛ بحيث يُقدم لمن يقرؤه أرضية عامة، تُسهِّل استيعاب الفصول المتخصصة التي فصلها المؤلف تفصيلاً شافياً. ثم بدأ في صلب الموضوع ويحتوي على سبعة فصول، أولها أرض فلسطين وقد تكلم عنها من الناحية الجغرافية والتاريخية وكذلك عن مكانتها الإسلامية، والحق الديني والتاريخي في أرض فلسطين وما يتعلق بها من أمور، وتحدث أيضا عن القدس والوضع الحالي. وفي الفصل الثاني كان الحديث عن شعب فلسطين وجذورهم العرقية وهجرتهم إلى هذه الأرض المقدسة وتجمعهم فيها، وما إلى ذلك من الفتح الإسلامي وما لحقه، وتكلم أيضا عن الشعب الفلسطيني في عام 1948م، وخصص الكلام أيضا في مبحث مستقل عن الشعب في الضفة الغربية وقطاع غزة، والأقليات الفلسطينية المهجرة التي تسكن في شتى دول العالم، كما أورد جميع المجازر التي تعرض لها الشعب الفلسطيني. وأفرد فصلاً عن الحركة الصهيونية والفكر الصهيوني، تحدث فيه عن الديانة اليهودية، وعن اليهود في القرآن، وعن المنظمة الصهيونية العالمية ومفكروها وروادها الأوائل، وإنشاء تلك المنظمة ومسارها حتى قيام الكيان الصهيوني 1948 م، إلى عام 2000م. كما تحدث عن مدراسها واتجاهاتها. وقد توسع المؤلف في الكلام عن الكيان اليهودي الصهيوني خصوصا ويهود العالم عموما، وأفرد لهما فصلا كاملا، متحدثا عن أوضاعهم العسكرية ونفوذهم العالمي. وكان موضوع الفصل الخامس المقاومة المسلحة ضد المشروع الصهيوني والكيان الإسرائيلي، حيث تطرق للمقاومة أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين (1917 - 1948) م، وتطرق أيضا إلى عدة انتفاضات وثورات مهمة على مر التاريخ الفلسطيني، كما تحدث عن الحروب العربية الإسرائيلية، وأورد الكلام على حركة الإخوان المسلمين وعلاقتهم بقضية فلسطين ودورهم في حروبها. وفي الفصل السادس والسابع سرد أسماء المنظمات والحركات الفلسطينية، الإسلامية منها والجهادية والعلمانية وغيرها، وتكلم على بعضها بإسهاب واختصر الكلام في البعض الآخر، وسرد أيضا مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية والاتفاقات الدولية وتحدث عن أهم ما فيها. وختم المؤلف هذا الكتاب بتقويم وخلاصات في ست صفحات، هي خلاصة ما في الكتاب، ورؤية المؤلف واضحة في أن فلسطين أرض إسلامية يشرع فيها الجهاد الإسلامي لتحريرها بالكامل، والكتاب له أسلوب علمي واضح ومركز يناسب المثقفين والمهتمين بالقضية الفلسطينية، ننصح باقتنائه وقراءته لقلة من كتب في هذه القضية بهذه المنهجية الواضحة. ولا يسلم جهد بشري من نقص. شكر الله للمؤلف هذا الجهد ونفعه الله به في الدارين.

الغيرة على المرأة

الغيرة على المرأة عنوان الكتاب ... الغيرة على المرأة اسم المؤلف ... عبدالله بن عبدالرحمن المانع المحقق ... عبدالستار قاسم الناشر ... دار الفرقان - الرياض سنة الطبع ... 1429هـ نوع الكتاب ... مؤلف خاص يقع في مجلد واحد من 307 صفحات التعريف بموضوع الكتاب: إن الغيرة- كما يقول ابن القيم- هي أصل الدين، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة، فمثلها في القلب مثل المناعة التي تدفع المرض وتقاومه فإذا ذهبت وجدَ المرض المحل قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك. لذا فلا عجب أن يفرد هذا الموضوع بالتأليف، والغيرة أنواع: منها الغيرة على محارم الله وحدوده، ومنها الغيرة على المرأة، وهذا هو موضوع كتابنا، حيث عقد المؤلف هذا الكتاب في بابين: فأما الباب الأول: فأفرده لتعريف الغيرة لغة واصطلاحا. وأما الباب الثاني: فقد قسمه إلى أربعة فصول: الفصل الأول: تناول فيه الغيرة باعتبار من تصدر عنه، فتكلم عن غيرة الله كصفة من صفاته، وذكر وجوه هذه الغيرة، كالغيرة على محارمه والغيرة على أوليائه وصورها. وأما الفصل الثاني: فذكر فيه الغيرة المتعلقة بالعبد وقدم لها بتمهيد ثم ذكر أقسام غيرة العبد كغيرته لربه سبحانه وتعالى، وغيرته لنفسه. وفي الفصل الثالث: وهو بيت القصيد فتكلم فيه على الغيرة على المرأة ممهدا بذكر حال المرأة في الجاهلية عند الأمم السابقة كاليونان والفرس والرومان والهنود والصينيين واليهود والنصارى، وعند العرب قبل الإسلام، ثم حالها في الإسلام، وصيانة الإسلام لها من خلال الإجراءات الوقائية والتدابير الإيجابية. وفي المبحث الثالث من هذا الفصل والذي أفرده لـ (الغيرة على المرأة) ذكر حقيقة الغيرة وأنها فطرة الله تعالى وأنها من صميم أخلاق الإسلام، ثم تكلم عن الغيرة المحمودة ذاكرا نماذج من غيرة الأنبياء، فذكر غيرة موسى وغيرة نبينا عليهما السلام، وغيرة الصحابة والسلف، كما ذكر غيرة بعض الكفار، ثم تكلم على الدياثة وذمها وكونها من الكبائر، وذكر نماذج من قلة الغيرة قديما، ثم تناول قلة الغيرة في واقعنا المعاصر ذاكرا صورها الكثيرة الظاهرة المنتشرة والتي تدل إما على انعدام الغيرة أو ضعفها في النفوس. ولم يغفل المؤلف أن يشخص الداء ليصف الدواء، فذكر أسباب ضعف الغيرة وكيفية تنمية الغيرة. ولما كانت الغيرة ليست كلها محمودة، بل منها المذموم، فقد تكلم على الغيرة المذمومة وصورها، مع ذكر نماذج للغيرة المفرطة وما يترتب عليها. ثم تحدث عن الاعتدال في الغيرة وذم الإفراط فيها وضوابط هذا الاعتدال. وأما آخر الفصول، الفصل الرابع فعقده في غيرة النساء، وهل غيرتهن أعظم أم غيرة الرجال، وذكر نماذج من غيرة النساء، وبين أن الغيرة المفرطة هي مفتاح الطلاق ثم ذكر نماذج من هذه الغيرة المذمومة. أما تحقيق الكتاب فقد قام المحقق جزاه الله خيرا بجهد مشكور، حيث اتسم تحقيقه بالتوسط، فقد خرج الأحاديث النبوية من مصادرها الأصلية مبينا درجة هذه الأحاديث صحة وضعفا، ناقلا أحكام المحدثين المعتبرين في ذلك، ولكن مما يؤخذ عليه في هذا التخريج أنه لم يسر فيه على طريقة واحدة وخاصة في ترتيب ذكر المصادر وفي ذكر درجة الحديث قبل تخريجه، أما الأثار التي عن الصحابة فإنه يكتفي بتخريجها، وقام أيضا بعزو كثير من النصوص المذكورة في الكتاب إلى مصادرها المنقولة منها. وأخيرا نقول: لقد عالج الكتاب موضوعا من الموضوعات المهمة في إصلاح جماعة المسلمين، لا سيما في هذا العصر التي تشن فيه الهجمات على المرأة لتخرجها عن حجابها وعفتها وصلاحها، وتبقى الغيرة سياجا حافظا للمرأة مما يراد بها، فنسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب وأن يجزي مؤلفه خيرا.

فقه المتغيرات في علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين

فقه المتغيرات في علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين عنوان الكتاب ... فقه المتغيرات في علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين. اسم المؤلف ... الدكتور سعد بن مطر العتيبي. تقديم ... الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد والدكتور عبد الله الطريقي والدكتورعبد الرحمن المحمود. الناشر ... دار الفضيلة سنة الطبع ... 1430هـ / ط أولى نوع الكتاب ... رسالة دكتوراه التعريف بموضوع الكتاب: إن الإسلام يتميز بالشمول الذي يستوعب علاقات الأفراد بعضهم ببعض على اختلاف صورها وعلاقات الدول بعضها ببعض، وفي ظل هذا التخبط الذي تعيشه الأمة الإسلامية نتيجة بعدها عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لاسيما فيما يتعلق بالعلاقات الدولية والتي أصبحت محكومة بالقوانين الدولية، تأتي هذه الرسالة وهي (فقه المتغيرات في علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين) لتبين علاقة الدولة الإسلامية بغير المسلمين من خلال موازنة بقواعد القانون الدولي وقد قسمه المؤلف إلى الآتي: فصل تمهيدي تناول فيه السياسة الشرعية تعريفها ومجالاتها واعتبار الفقهاء لها، وما يتعلق بعلم السير تعريفه ومسماه عند المعاصرين ومفهوم المجتمع الدولي في علم السير. وفي الباب الأول تناول فقه السياسة الشرعية في أحكام السلم مما يتعلق بالجزية والأمان والهدنة والمعاهدات السلمية وما يتعلق بالرسل والسفراء مع ذكر الأحكام الشرعية فيما سبق مقارنة بالقانون الدولي. وفي الباب الثاني تناول فقه السياسة الشرعية في أحكام الحرب فتناول ما يتعلق بمقدمات الحرب من تجهيز الجيش وإجراءات الحذر وإعلان القتال مقارنة بالقانون الدولي وذكر فقه السياسة الشرعية أثناء القتال في العمليات القتالية والخدع والتجسس ومعاملة الأشخاص في الحرب مقارنة بالقانون الدولي ثم ذكر فقه السياسة الشرعية بعد وقف القتال فيما يتعلق بالجيش الإسلامي والأسرى وأموال العدو كل ذلك مقارنة بالقانون الدولي. والكتاب دراسة جيدة توقف الأمة على أصالة هذه الشريعة وقوتها واستيعابها للأحداث فعسى أن يأخذ المسلمون بتعاليم دينهم ويعتزوا بها فشريعتهم شريعة ربانية تكفل لهم بل للعالم كله السعادة والرخاء، والكتاب ننصح به.

موقف الصحابة من الفرقة والتفرق

موقف الصحابة من الفرقة والتفرق عنوان الكتاب ... موقف الصحابة من الفرقة والفرق اسم المؤلف ... أسماء بنت سليمان السويلم تقديم ... ناصر بن عبدالكريم العقل أستاذ العقيدة بجامعة الإمام، وعبدالله بن عمر الدميجي أستاذ العقيدة المشارك بجامعة أم القرى. الناشر ... دار الفضيلة - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1426هـ نوع الكتاب ... رسالة جامعية، تقدمت بها الباحثة لنيل درجة الدكتوراة، بإشراف الأستاذ الكتور ناصر بن عبدالكريم العقل، وقد نوقشت الرسالة عام 1426هـ وأجيزت بتميز، ثم طبعت في مجلد واحد يقع في (657) صفحة. التعريف بموضوع الكتاب: لقد أمر الله تعالى بالاجتماع على الحق، والتمسك بصراطه المستقيم، ونهى عن التفرق واتباع السبل، ولكن أبى كثير من الناس إلا أن يسلكوا تلك السبل، وبدأ يظهر أول هذا في زمن الصحب الكرام رضي الله عنهم، ولم يقف ذلك الجيل الذي رباه المصطفى صلى الله عليه وسلم أمام هذه النزعات الجديدة من الفرقة موقف المتفرج، بل كان لهم دورهم الفاعل، وهذا ما كشفته لنا جلياً الباحثة جزاها الله خيراً، في رسالتها هذه، وفق منهج علمي جيد، بالاستدلال بالأحاديث والآثار الصحيحة محاولة جهدها ألا تستدل إلا بما صح، معتمدة في ذلك على تصحيح العلماء والباحثين على حد قولها. فقد قامت في تمهيدها للرسالة في المبحث الأول، بالتعريف بالصحابي لغة واصطلاحاً، والطرق التي يعرف بها الصحابي، ثم أتبعته بمبحثِ (فضل الصحابة وفقههم رضي الله عنهم) أوضحت فيه فضلهم من الكتاب والسنة، وأوقفتنا على شيء من الآثار الدالة على فقههم، ثم بينت عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، وعدالتهم ووجوب احترامهم وحرمة الوقوع في أعراضهم. وهذه المباحث كانت بوابة الولوج للرسالة، التي بدأتها بالباب الأول (موقف الصحابة رضي الله عنهم من الفرقة) وقد حو ى هذا الباب على أربعة فصول: الأول: (تعريف الاختلاف والفُرقة والفرق) عرّفت فيه المؤلفة بالاختلاف وأنواعه بين تنوع وتضاد وبين مذموم وغير مذموم، مع الأمثلة المبينة لكل نوع من هذه الأنواع، ثم عرّفت الفُرقة والفرق لغة اصطلاحاً وأنواع الفُرقة، ثم بينت في مبحث مستقل العلاقة بين الاختلاف والفُرقة وأنها علاقة عموم وخصوص مطلق. الثاني: النهي عن الفرقة والتحذير منها في الكتاب والسنة والآثار، وقد أوفت المؤلفة الكلام على هذا الفصل في اثنا عشرة نقطة بالأدلة مع شروح العلماء وأقوالهم، ومن أمثلة ما ورد في هذا الفصل بيان حال أهل الفرقة والاختلاف من التنازع والشقاق في الدنيا والوعيد الشديد في الآخرة، ومثل تبرئة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من أهل الافتراق ذما للفرقة ونهياً عنها، ومثل النهي عن مشابهو المشركين وأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم. الثالث: أسباب الفرقة في الكتاب والسنة والآثار المروية، وقد جعلت لكل سبب من هذه الأسباب مبحثاً مستقلاً، فجاءت في أحد عشر مبحثاً ماتعاً، مليئة بالأدلة والأقوال والتنبيهات، بما لا يكاد يدع مجالاً للزيادة عليه، ومن هذه الأسباب: الجهل، والابتداع وعدم الاتباع، والغلو في الدين، والتعصب المذهبي والطائفي، والخروج عن الطاعة، والتشبه بالكافرين، واتباع الهوى. الرابع: مضار الفرقة في الكتاب والسنة والآثار المروية، وقد ذكرت فيه المؤلفة كل ما يتعلق بهذا الفصل من المضار على الفرد المفارق من وعيد شديد وبعد عن التوبة وحرمان من الحوض والشفاعة وتسلط الشياطين عليه، وعلى المجتمع المسلم من تعطيل للجهاد وتسلط الأعداء وذهاب القوة ثم الهزيمة والفشل وظهور الفتن، ثم بينت سلامة الصحابة رضي الله عنهم من الفرقة، وأقوالهم في هذا الشأن مع عملهم على جمع كلمة المسلمين. وبعد تتابع الفصول الأربعة نصل إلى الباب الثاني من الكتاب (موقف الصحابة رضي الله عنهم من الفراق) مهدت فيه بالكلام عن الفرق وجهود العلماء في بيانها والتعريف بها وطريقة تصنيفها وأصولها، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ((كلها في النار)) ثم أفردت مبحثاً للتعريف بالفرقة الناجية وصفاتهم، وبعد ذلك أفردت لكل فرقة من الفرق التي ظهرت في زمن الصحابة رضي الله عنهم فصلاً خاصاً. ففصل في (الخوارج وموقف الصحابة منهم) حيث عرّفت بهم وبفرقهم وألقابهم ونشأتهم وأبرز معتقداتهم وأصلهم وكيف كان خروجهم وصفاتهم، ثم بينت موقف الصحابة منهم، وأنهم رضي الله عنهم اتبعوا معهم طرقاً شتى، وصلت إلى عشرة طرق، من الحوار والمناقشة إلى الوعظ والنصيحة إلى الترغيب والترهيب إلى التحذير منهم وهجرهم إلى آخر الحلول وهو القتال، كل ذلك بالأدلة من الآثار المخرجة من مصادرها الأصلية. وأما فصل (الشيعة موقف الصحابة منهم) فعلى نفس ترتيب الفصل السابق بالتعريف بهم وبمعتقداتهم وفرقهم ونشأتهم، وأما موقف الصحابية منهم فكان في إحدى عشرة نقطة، كلها تحت: (قواعد التعامل مع الشيعة عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه) حيث بدأ بالرفض للتشيع مطلقاً والرد على شبهاتهم والمناقشة والمحاجة والتحذير وإعلان البراءة والوصية بالاعتدال بالحب. وأما فصل (القدرية وموقف الصحابة منهم)، فأيضاً تم التعريف بهم وبأصنافهم ومعتقداتهم ونشأتهم، ثم موقف الصحابة منهم وجعلته في اثنا عشرة نقطة، بين نشر العلم بالإيمان بالقدر وبيان خطورة الخوض في القدر، وإعلان البراءة من القدرية ولعنهم والدعاء عليهم وتهديدهم والتشهير بهم. ثم آخر الفصول (المرجئة وموقف الصحابة منهم)، عرّفت أيضا بهم وبفرقهم وأهم معتقداتهم وأقسامهم ما بين مرجئة الفقهاء ومرجئة المتكلمين، ونشأة المرجئة والقول به، ثم موقف الصحابة منهم. ونذكر هنا أن المؤلفة قامت بوضع مبحث مستقل في كل من الفصول السابقة في بيان حكم كل فرقة من هذه الفرق، من أقوال وفتاوى العلماء. وبهذا تنتهي أبواب وفصول الكتاب، خاتمةً له بخاتمة حوت أهم نتائج هذه الرسالة في خمسة عشر نقطة. وقد بذلت الكاتبة جزاها الله خيراً جهداً كبيراً واضحاً أثمر ثمرة يانعة حقاً في هذا الباب الفريد الهام، الذي أوضح نهج الصحب الكرام تجاه الفرقة والفرق، ليكون نبراساً لمن بعدهم في اقتفاء آثارهم، فهم تلاميذ النبي المعلم الكريم صلى الله عليه وسلم. وإن كنا نود لو أن المؤلفة لم تكتفِ بمجرد تخريج الآثار المروية عن الصحابة، بل بينت حكم هذه الآثار من صحة وضعف، وإن كنا نلتمس لها عذرا في أنها قالت في المقدمة "وحاولت جاهدة ألا أستدل إلا بما صح من الآثار المعتمدة على تصحيح العلماء والباحثين لها عند تحقيقهم لكتب السنة والسنن، وأما ما ذكر ولم يعلق عليه بصحة ولا ضعف فقد أذكره عند الحاجة إليه" ولكن كثرة تلك الآثار التي لم يحكم عليها جلعتنا ندون هذه الملاحظة. إن هذا الجهد المشكور ليعتبر ذخيرة ثمينة للمكتبة الإسلامية في هذا الباب الخطير، فجزى الله خيراً المؤلفة وكل من ساهم معها على إخراج الكتاب بهذا الشكل المتقن. والحمد لله رب العالمين.

المقاطعة الاقتصادية تأصيلها الشرعي واقعها والمأمول لها

المقاطعة الاقتصادية تأصيلها الشرعي واقعها والمأمول لها عنوان الكتاب ... المقاطعة الاقتصادية تأصيلها الشرعي واقعها والمأمول لها اسم المؤلف ... عابد بن عبد الله السعدون الناشر ... دار التابعين - الرياض سنة الطبع ... 1429هـ نوع الكتاب ... رسالة أعدت لنيل درجة التخصص الماجستير التعريف بموضوع الكتاب: لازالت اعتداءات الكافرين على الإسلام والمسلمين مستمرة بلا رادع ولا دافع وفي ظل غياب فريضة الجهاد لدفع هذه الاعتداءات رأى بعض المسلمين في مقاطعة الكافرين مقاطعة اقتصادية وسيلة فعالة لرد عدوانهم أو على الأقل التخفيف منه فما هي المقاطعة الاقتصادية وما مدى أهميتها وما هي الأدلة على مشروعيتها هذه التساؤلات وغيرها حاول عابد بن عبد الله السعدون الإجابة عليها من خلال كتابه (المقاطعة الاقتصادية تأصيلها الشرعي - واقعها المأمول). وقد جاء الكتاب في تمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة فأما التمهيد فعرف فيه المقاطعة الاقتصادية وأنواعها وأسبابها وكان أهم ما تناوله في الباب الأول أهمية المقاطعة وتطورها التاريخي قبل الإسلام وبعده إلى العصر الحديث. وفي الباب الثاني وهو أهم أبواب الكتاب ناقش المقاطعة الاقتصادية من منظور الفقه الإسلامي بذكر الأحكام الشرعية للمعاملات المالية مع الكفار ثم حاول تكييف المقاطعة الاقتصادية تكييفا فقهيا فذكر أنه يمكن تصنيفها على أنها من ضروب الجهاد أو من المصالح المرسلة ثم حقق مناط هذه المسألة وبين تخريجها الشرعي ثم تناول حكم المقاطعة من خلال أقوال المعاصرين من العلماء وعلاقة المقاطعة بولي الأمر وانتهى إلى ما ترجح لديه في حكمها وذكر الضوابط الشرعية في تطبيقاتها وناقش المعارضين للمقاطعة مناقشة علمية. ثم لا يمكن أن يكون الحكم الشرعي بمعزل عن واقع المسلمين لذا تكلم عن تطبيقات المقاطعة مع حالات المسلمين الواقعية وموقف المسلمين من الحصار الاقتصادي المفروض عليهم والمقاطعة فيما بينهم وأمد المقاطعة الاقتصادية والتعامل مع الأموال في حالة وجودها. وكان آخر هذه الأبواب باب تقويم واقع المقاطعة على مستوى الأمة العربية والإسلامية والإطار المقترح لترشيدها وتفعليها تناوله من خلال التقويم على المستوى الرسمي على مستوى جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وعلى مستوى الدول العربية والإسلامية. ثم التقويم على المستوى الشعبي على مستوى مؤسسات المجتمع المدني ومستوى الأفراد ثم أخيرا إطار مقترح لترشيد وتفعيل المقاطعة الاقتصادية من خلال: - تحديد الأهداف الاستراتيجية للمقاطعة الاقتصادية. - وضع الخطط والسياسات الاستراتيجية للمقاطعة الاقتصادية. - وضع النظم التنفيذية للمقاطعة الاقتصادية في ضوء الخطط والاستراتيجيات. - المتابعة والتوجيه والتطوير للمقاطعة الاقتصادية. ثم خاتمة تتضمن أهم النتائج والتوصيات وبعد هذا العرض لمضمون الكتاب الذي استوعب أهم جوانب هذا الموضوع نؤكد على الحاجة الماسة إلى أمثال هذه الدراسات التي تعنى بواقع المسلمين وتحاول بيان الحكم الشرعي في أمثال هذه القضايا التي تتعلق بالإسلام والمسلمين من خلال دراسات شاملة متكاملة.

تعليم تدبر القرآن الكريم أساليب عملية ومراحل منهجية

تعليم تدبر القرآن الكريم أساليب عملية ومراحل منهجية عنوان الكتاب ... تعليم تدبر القرآن الكريم أساليب عملية ومراحل منهجية اسم المؤلف ... د. هاشم بن علي الأهدل تقديم ... أ. د ناصر بن سليمان العمر الناشر ... مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي التابع للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة سنة الطبع ... 1429هـ / الطبعة الأولى نوع الكتاب ... مؤلف خاص التعريف بموضوع الكتاب: إن الله عز وجل أنزل هذا القرآن ليعمل الناس به ولن يتم ذلك إلا بمعرفة معانيه وتدبره لذا قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته} وقال: {أفلا يتدبرون القرآن} ولما رأى الدكتور هاشم الأهدل أن أكثر المقبلين على قراءة القرآن لا يعنون بتدبره ولا يهتمون بمعرفة معانيه حاول أن يضع خطوات ومراحل منهجية في تعلم وتعليم التدبر مع الاستفادة من النظريات التربوية المعاصرة وبعض نظريات علم النفس فألف كتاباً بعنوان (تعليم تدبر القرآن الكريم أساليب عملية ومراحل منهجية) وقد قسمه إلى خمسة فصول: الفصل الأول: الجوانب المعرفية لموضوع التدبر ذكر فيه مفهوم التدبر وأهميته وغايته. الفصل الثاني: قواعد أساسية في تعليم التدبر ذكر خمس قواعد تتعلق بطرق التدريس وهي العناية بالتمهيد التربوي والتدرج والتحضير واستخدام أسلوب التعلم التعاوني والوسائل التعليمية المناسبة وذكر قواعد أساسية تتعلق بالمحتوى الدراسي كالاستعاذة وشرح الآيات ومفرداتها وربط أحكام التجويد بالمعاني والتحذير من الذنوب المانعة من التدبر وإدراج حصة التدبر في الدرس القرآني والتربية على شكر نعمة التدبر. وفي الفصل الثالث وهو التدبر وتعليم الاستماع التربوي ذكر أهمية الاستماع للتدبر وأسس وآثار الاستماع التربوي ووسائل تربية ملكة الاستماع. وفي الفصل الرابع وهو مراحل تعليم التدبر ذكر مراحل هذا التعليم وهي ثلاث مراحل الأولى مرحلة التهيئة القلبية وذكر تحتها ثماني وسائل ثم المرحلة الوسطى وهي مرحلة الممارسة العملية وذكر أيضا ثماني وسائل لها ثم المرحلة المتقدمة وهي مرحلة التدبر المتقن وذكر ست وسائل لها. وفي الفصل الخامس وهو طرق تربية الذات على التدبر ذكر سبعة طرق ذاتية في تعلم التدبر ومنها الإخلاص والاستعداد النفسي والدعاء والمراقبة والمحاسبة والتأني في القراءة واستشعار أن الفرد هو المقصود بخطاب القرآن مع ملازمة الورد القرآني. ثم في الخاتمة ذكر النتائج المتعلقة بكل فصل من فصول الكتاب والتوصيات. فالكتاب محاولة لتيسير عملية التدبر من خلال جعلها في خطوات متدرجة تتناسب مع مراحل نضج المتعلمين وبيان أسباب التدبر وطرق تحصيله مع توعية المربين بوسائل وأساليب تربية الأجيال على التدبر فجزى الله المؤلف خيراً.

الأحكام الفقهية المتعلقة بالداخل في الإسلام جمعا وتوثيقا ودراسة

الأحكام الفقهية المتعلقة بالداخل في الإسلام جمعاً وتوثيقاً ودراسة عنوان الكتاب ... الأحكام الفقهية المتعلقة بالداخل في الإسلام جمعاً وتوثيقاً ودراسة اسم المؤلف ... علي بن عبدالله بن مسفر آل شويل الغامدي الناشر ... بدون سنة الطبع ... ط1/ 1427هـ نوع الكتاب ... رسالة جامعية تقدم بها الباحث لنيل شهادة الدكتوراه في كلية الشريعة والقانون قسم الفقه المقارن بجامعة أم درمان الإسلامية، وأشرف على الرسالة البرفسور أحمد علي الأزرق، وقد تمت مناقشتها عام 1425هـ وحصلت على تقدير ممتاز، ثم طبعت بعد حذف بعض الفهارس والتراجم والحواشي، في مجلد واحد يقع في (459) صفحة التعريف بموضوع الكتاب: رغم كل الجهود التي يبذلها أعداء الله تعالى للحيلولة دون انتشار الإسلام، إلا أن الله تعالى سخر دعاة إليه صالحين، فكتب لأناس على أيديهم الهداية، وما زلنا نسمع ولله الحمد أخبار الداخلين إلى الإسلام - وما أكثرهم -، وما أحوج هؤلاء الجدد للوقوف بجنبهم ومتابعة تعليمهم شرائع الدين الحنيف، وليس أهم من أن يتعلم أولئك الداخلون الجدد للإسلام ما يحتاجون إليه من أحكام، وخاصة التي يترتب عليها تغيير في جوانب من حياتهم عقيدة وعبادة وسلوكاً، وإذ الأمر كذلك، ومع ندرة المؤلفات الخاصة بهذا الشأن - بل ذكر المؤلف أنه لم يقف على بحث يحصر تلك الأحكام -، فقد أخذ المؤلف على عاتقه هذه المهمة الهامة، فجعلها رسالته الجامعية، ليبين لنا (الأحكام الفقهية المتعلقة بالداخل في الإسلام) مهد المؤلف لرسالته بتعريف عام بالإسلام فيه توضيح لمراتب الدين ونواقض الإسلام وفضل الإسلام على غيره من الأديان، وأن الإسلام ناسخ لكل الأديان، ثم الدعوة إلى الدخول في الإسلام، وأخيراً عرَّف بالمقصود بالداخل في الإسلام، فقال هو: (من كان كافرا كفرا أصليا فأسلم ولا يزال في أول زمن إسلامه في أي مكان) وبعد هذا ننتقل إلى القسم الثاني من الكتاب وهو (أحكام الداخل في الإسلام) وهو مشتمل على سبعة أبواب: 1. العقيدة 2. العبادات 3. أحكام الأسرة 4. العقود 5. الجنايات 6. الهجرة والجهاد والجزية 7. الولاء أما العقيدة ففيها فصلان الأول في النطق بالشهادتين والتبرؤ من الكفر، وقد بحث فيه المؤلف عدة مسائل هامة، مثل اشتراط التبرؤ من الكفر ومثل النطق بالشهادة بغير العربية، أو نطقها بغير اللفظ المعروف. أما الفصل الثاني فهو فيمن يصح إسلامه، كإسلام الصبي أو إسلام الأولاد إذا أسلم أحد الأبوين، أو إسلام الصبي المسبي، وكذلك إسلام السكران أو المكره. وطريقة المؤلف في كل هذا هو أن يأتي بالأقوال في المسألة من كتب الفقه المذهبية المعروفة بأدلتهم واستدلالاتهم ثم يقوم هو بتبيين القول الراجح مع سبب ترجيحه. أما العبادات فقد جعل لكل ركن من أركان الإسلام - سوى ما سبق في الشهادتين - في فصل زائداً عليها فصلاً خاصاً في الطهارة، حيث حرر حكم الغسل لمن أسلم، وحكم الختان، وحلق الشعر، ثم أفرد كما ذكرنا لكل ركن فصلاً، فبحث في فصل الصلاة ما يجب عليه من صلوات إذا أسلم قبل طلوع الفجر أو قبل المغيب، وكذلك حكم قضاء الصلوات التي تركها من أسلم، كما ذكر مسألتين من المسائل التي اختلف في حكم إسلام من فعلهما - دون نطقه بالشهادتين - وهما إذا صلى أو إذا أذن فهل يحكم بإسلامه بمجردهما؟ ثم في فصل الزكاة، حرر حكم من أسلم في دار الحرب وأقام سنين لا يؤدي الزكاة، وحكم زكاة الفطر على من أسلم يوم الفطر أو ليلته، أما في فصل الصيام فكانت مسألة الحكم إذا أسلم في شهر رمضان، وحكم الإمساك والقضاء لليوم الذي أسلم فيه، وفي فصل الحج، كانت مسألة إذا أسلم في الحج، وحكم إذا أسلم وأوصى بأن يحج ومات قبل إدراك الوقت، ثم حكم الأضحية على من أسلم يوم النحر. أما أحكام الأسرة، فاشتملت على أحكام النكاح والطلاق والخلع والعدة والإرث. ففي أحكام النكاح هناك حكم من يتولى عقد نكاح المرأة إذا أسلمت وليس لها ولي، وهل يكون من أسلمت على يده وليها، ومسألة الكفاءة، وحكم النكاح إذا أسلم من بدلت امرأته دينها كأن تتهود بعد أن كانت نصرانية أو العكس، والحكم إذا تزوج امرأة في عدة مِنْ غيره ثم أسلم، وحكم نكاح الزوجين إذا أسلما وكان قد طلقها قبل إسلامه ثلاثاً، وحكم نكاح الزوجين إذا أسلما معا، ثم مسألة من أهم المسائل وهي إذا أسلم أحد الزوجين هل يفرق بينهما؟ وذكر تحتها الصور الكثيرة المتحصلة من هذه المسألة، ونذكر هنا أن المؤلف رجح القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ذكر المؤلف مسألة حكم المهر إذا حصلت الفرقة بإسلام أحد الزوجين، وحكم النفقة إذا حصلت الفرقة بإسلام أحدهما، وكذلك حكم إذا أسلم وله أكثر من أربع زوجات أو تحته من يحرم الجمع بينهما، وما يتعلق بهذه المسألة من صور كثيرة ذكرها مستوفاة مع أحكامها بأقوال العلماء وأدلتهم والترجيح، وكذلك مسألة الفرق بين أنكحة أهل الحرب وأهل الذمة إذا أسلموا، وغيرها من الصور الكثيرة تحت هذا الفصل التي وصلت إلى ثلاثين مسألة، جديرة بالاطلاع. وكذلك في مباحث الطلاق والخلع، حرر مسألة هل الفرقة بإسلام أحد الزوجين طلاق أو فسخ، وحكم خلعهم الذي سبق إسلامهم، وكذلك مسال العدة وحكم النكاح والفراق في العدة إذا أسلم أحدهما فيها. أما مباحث الإرث، فكانت مسائل: الحكم إذا أسلم على ميراث قبل أن يقسم، وإذا أسلم على يد آخر هل يرثه بذلك، والأنكحة التي يتوارثون بها إذا أسلموا، وإرث الحمل من الأب غير المسلم إذا أسلمت الأم، وإرث من اجتمع فيه قرابتان محرمتان ثم أسلم، وغيرها من مباحث أخرى تتعلق بالإرث. وأما في العقود ففيه حكم ما عقده غير المسلمين قبل إسلامهم. وفي الجنايات كانت المسائل: إذا أسلم وقتله مسلم آخر، والقصاص ممن جنى ثم أسلم، وضمان جناية من جنى قبل إسلامه، وإذا جرح مسلم آخر فأسلم ومات بجراحه. وفي باب الهجرة والجهاد والجزية، اشتمل على ثمان مسائل، وهي من المسائل المهمة جدا لمن أسلم وهو في دار الكفر، وهذه المسائل هي: حكم الهجرة لمن أسلم، وترجيحه أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة، ثم حكم رد من أسلم وهاجر إذا اشترط الكفار على الإمام في عقد الهدنة أن يردهم، ثم حكم إذن الأبوين للابن بالجهاد إذا كانا غير مسلمين فأسلما، ثم حرمة أموال الحربي وأولاده وزوجه إذا أسلم وتحته صور شتى، وحكم إذا حاصر الإمام كفارا فأسلموا أو قبلوا تحكيم مسلم، وحكم لو جعل الإمام لمن يدله من غير المسلمين جارية معينة فأسلمت، ثم الحكم إذا أسلم الأسير، ثم حكم إذا أسلم من وجبت عليه الجزية قبل دفعها. وآخر المواضيع هو موضوع الولاء، وتحته ولاء المعتق إذا أسلم، وولاء المكاتب إذا أسلم، والولاء إذا أسلم المدبر، وأم الولد إذا أسلمت. وبهذا تنتهي مباحث الكتاب ومسائله الكثيرة النافعة بأدلتها وترجيحاتها، مع أقوال العلماء والأئمة، حيث بذل المؤلف جهده الواضح في الرسالة، والتي ختمها بخاتمة بسيطة أكد فيها أهم نتائج بحثه. وختاما نكرر التنبيه على أهمية هذه الرسالة بملامستها للواقع الذي نعيشه، فلا تزال منن الله تعالى تنزل فيخرج من يشاء من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ويبقى هؤلاء محتاجون إلى أن يتعرفوا على دينهم وعلى ما يجب عليهم في دخولهم لهذا الإسلام الحنيف، والحمد لله أولاً وآخراً. ونحن إذ نعرف بهذا الكتاب فإننا نحث طلاب العلم من أصحاب الدراسات إلى الاهتمام بهذا الموضوع، كأن يدرسوا بعض المسائل الأخرى المتعلقة بالداخلين الجدد في الإسلام والتي لم تتم دراستها في هذا الكتاب، كحكم التخلي عن جنسياتهم، أو التزاماتهم مع دولهم الكافرة كالجندية وغيرها، وأحكام الولاء والبراء المتعلقة بهم، وأحكام البقاء في الأعمال التي هم فيها وخاصة إذا كانت حساسة وفيها تعلق بدول الإسلام كالسفراء وأمثالهم، وغيرها من مسائل معاصرة كثيرة.

عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين

عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين عنوان الكتاب ... عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين اسم المؤلف ... محمد محمود لطيف الفهداوي المحقق ... بدون الناشر ... مكتبة الرشد - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1428هـ نوع الكتاب ... رسالة جامعية تقدم بها الباحث في قسم الدراسات العليا كلية العلوم الإسلامية، وطبعت عام 1428هـ في مجلد يقع في (464) صفحة التعريف بموضوع الكتاب: إن مسألة عدالة الصحابة، ليست مسألة جديدة، ولكن في هذا العصر مع تزايد ظهور المبتدعة والزنادقة الذين أباحوا لأنفسهم التهجم على الصحب الكرام والطعن فيهم، ومع وجود المُرَوِّجين لمثل هذه الطعونات والمخازي، تأتي أهمية هذا الكتاب ليثبت أن أولئك الركب الأُوَل، ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم هم من أعدل الناس، وليس هذا شيئاً جديداً ولكن ظهور وفشو هذا الأمر هو ما اضطر أهل العلم بالرد عليهم كل بما يستطيعه، وموضوع الرسالة والتعريف بها هو ما سيبين لنا كل ما يتعلق بهذا الموضوع الخطير الشأن. حتى تكون على دراية بأصل الموضوع، عرَّف المؤلف الصحابي لغة واصطلاحاً، وذكر الاختلاف بين تعريف المحدثين وتعريف الأصوليين، وبعض التعريفات الأخرى، ثم رجح تعريف أهل الحديث وهو تعريف جمهور أهل العلم أيضاً. ثم ذكر لنا المؤلف في الباب الأول من هذه الرسالة (مذاهب المسلمين في عدالة الصحابة) عند أهل السنة والجماعة ثم عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية ثم عند الخوارج والمعتزلة والزيدية ففي مذهب أهل السنة والجماعة حشد المؤلف الأدلة على عدالة الصحابة من الكتاب ومن السنة، مع إثبات تفسير المفسرين لها والشراح من العلماء والأئمة، وكذلك أتى بالأدلة العقلية الدالة على عدالتهم رضي الله عنهم. وفي مذهب الشيعة الإمامية، نقل لنا المؤلف مذهبهم، ناقلاُ كلام علمائهم في كتبهم ومؤلفاتهم، وبيَّن أنهم قديماً وحديثاً يطعنون في الصحابة إلا من استثنوهم، فالعدالة عندهم إنما تختص بمن بايع علياً أو الصفوة من أهل بيته، وبمن أنكر بيعة غيره. وفي مذهب الخوارج عرَّف بهم وبنشأتهم، ثم بيَّن مذهبهم في عدالة الصحابة رضي الله عنهم، وبيَّن أنهم يقولون بعدالة الصحابة إلى انقضاء السنوات الست الأُوَل من حكم عثمان، ثم أخرجوا عثمان ومن وافقه وأهل الجمل ومن شايعهم ومعاوية ومن ناصره وعلياً ومن تابعه بعد التحكيم، بل عَدُّوهُم كفاراً خالدين في النار، والعياذ بالله. أما عدالة الصحابة عند المعتزلة، فقد عرَّف بالمعتزلة أولاً وبنشأتهم، ثم بيَّن مذهبهم في عدالة الصحابة وأنه على أربعة أقوال، ولكن يُذْكر أنهم مجمعون على عدالة أبي بكر وعمر، وجمهورهم على عدالة عثمان وعلي. أما عدالة الصحابة عند الزيدية، فقد عرَّف أيضاً بهم وبنشأتهم، ثم وضَّح مذهبهم في عدالة الصحابة، وبيَّن أنهم على ثلاثة أقوال فيهم. ثم بعد عرض مذاهب هذه الفرق، أفرد المؤلف باباً خاصاً في (تفنيد أبرز الشبهات التي أثيرت على عدالة الصحابة) وهذه الشبهات هي: 1. غصب الخلافة من علي رضي الله عنه وعدم العمل بالنص الوارد في تعيينه. 2. القتال الذي دار بين الصحابة وأنه يتنافى مع عدالتهم. 3. اتهام الصحابة بتحريف القرآن والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4. مخالفة الصحابة لتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الشبهة الأولى فقد رد المؤلف عليها بإثبات صحة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بالأدلة الكافية والشافية، ناقلاً كلام العلماء والأئمة في ذلك، وأثبت أن علياً والزبير بايعا أبا بكر الصديق، أما مذهب الإمامية في هذا فهو معروف وقد كَرَّ المؤلف على أدلتهم وفنَّدها ورد شبهاتهم بأن الإمامة منصوص عليها لعلي رضي الله عنه، وأنها غصبت منه غصباً. وأما الشبهة الثانية فهي من شقين، الأول في بيان قاتلي عثمان رضي الله عنه، وبراءة الصحابة جميعا من دمه، والشق الآخر هو في ذكر السبب الذي دعا الصحابة إلى القتال، وبيان أن ذلك لا يتنافى مع عدالتهم رضي الله عنهم. وأما الشبهة الثالثة، فقد أجاد المؤلف - جزاه الله خيرا - في رد هذه المزاعم السخيفة من تحريف الصحابة للقرآن الكريم، وكذلك المزاعم الكاذبة في أنهم كذبوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم لمآرب دنيوية أو شخصية أو حتى مادية، وكل تلك المزاعم جاءت أصلاً من طرف الرافضة. وأما الشبهة الأخيرة فقد ردَّها أيضاً بإثباته حرص الصحابة على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفته، ورد الشبهات التي أثيرت على أن الصحابة لم يمتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، ولا في إنفاذ جيش أسامة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابة الكتاب في مرض موته صلى الله عليه وسلم، ويعتبر هذا المبحث من أهم المباحث، خاصة لانتشار هذه الشبهات في العصر الحاضر عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، وعلى الشبكة العالمية، وهو مبحث جدير بالاطلاع، والقراءة. وبهذا تنتهي أبحاث الكتاب، خاتماً المؤلف بخاتمة موجزة أبرز فيها أهم نتائج البحث من خلال ثمانٍ وعشرين نقطة. إن المكتبة الإسلامية تحتاج إلى مثل هذه الكتب التي تدافع عن الصحابة حول ما يثار في كل زمان ومكان ضدهم، حتى يبقى الجيل على بيِّنة من أمرهم، فلا يقع في أعراضهم فيسكب آثاماً إلى آثامه، ونشكر المؤلف على الجهد الذي بذله في هذه الرسالة القيمة، ونود أن نذكر الراغبين في معرفة قيمة البحث أيضا إلى أن مراجع المؤلف بلغت (371) مرجعاً، والحمد لله رب العالمين.

وقت الرمي أيام التشريق

وقت الرمي أيام التشريق عنوان الكتاب ... وقت الرمي أيام التشريق اسم المؤلف ... فهد بن عبد الرحمن اليحيى الناشر ... كنوز إشبيليا سنة الطبع ... 1430 هـ نوع الكتاب ... مؤلف خاص التعريف بموضوع الكتاب: إن مسائل الحج كثيرة ومتنوعة وقد وقع الخلاف بين العلماء في كثير منها ومن مسائل الحج التي وقع فيها الخلاف مسألة وقت رمي الجمرات في أيام التشريق وقد جمع الدكتور فهد بن عبدالرحمن اليحيى ما يتعلق بهذه المسألة في كتابٍ سماه (وقت الرمي أيام التشريق) بحث فيه ست مسائل: المسألة الأولى: في الوقت المشروع للرمي أيام التشريق ونقل اتفاق العلماء على صحة الرمي فيما بين زوال الشمس إلى غروبها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرات أيام التشريق بعد الزوال. المسألة الثانية: تحدث فيها عن حكم الرمي قبل الزوال أيام التشريق ونقل أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال قول بعدم الصحة مطلقا وهو رأي الجمهور وقول بالصحة مطلقا وهو رواية عن أبي حنيفة وقول بعدم الصحة إلا في اليوم الذي يرحل فيه الحاج من منى سواء كان الثاني عشر أو الثالث عشر وقد استعرض المؤلف أدلة كل قول مع مناقشة ما يحتاج لمناقشة وسرد الإيرادات عليه، وذكر الراجح في المسألة وهو رأي الجمهور مؤيدا ما رجحه بعدة أدلة: - منها أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحج أنها للوجوب إلا إذا وجد صارف وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بعد الزوال ولا صارف له إلى الاستحباب. - ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بالعبادات في أول وقتها فلو كان الرمي يبدأ من طلوع الفجر أو الشمس لبادر إليه ولم يؤخره للزوال كذلك فإنه كان يرمي بعد الزوال وقبل صلاة الظهر فإذا استصحبنا مبادرته لأداء العبادة في أول وقتها فإن ذلك يدل على أن أول وقت الرمي يكون بعد الزوال إلى غير ذلك مما ذكره من الأدلة. وقد ناقش ما احتج به البعض للرمي قبل الزوال من تفادي الزحام الشديد ناقشه مناقشة جيدة من خلال خمس وقفات. المسألة الثالثة: بداية الرمي عند القائلين بالرمي قبل الزوال وذكر اختلافهم في بدايته. المسألة الرابعة: وهي مسألة جمع الرمي فبدأ بسرد ما جاء من أحاديث ترخص فيه ثم ذكر صور الجمع وذكر أن العلماء اختلفوا في حكم تأخير رمي يوم إلى ما بعده أو جمع الرمي كله في آخر يوم وهل على من فعله دم وذكر ثلاثة أقوال للعلماء قول بجواز الجمع والتأخير إلى آخر يوم وقول بعدم الجواز ومن فعله فلا دم عليه وقول بعدم الجواز لكن يلزمه دم والذي رجحه المؤلف أن المعذور له أن يجمع لكن يرتب كل يوم بيومه بمعنى أن يبدأ برمي اليوم الأول للجمرات ثم يعود فيبدأ بالجمرة الأولى لليوم الثاني وهكذا. أما من لم يكن له عذر فليس له الجمع لقوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم" ولأن الرخصة جاءت للرعاة. ومن جمع الرمي بلا عذر فقد خالف ولا دم عليه لأن الإذن للرعاة دليل على أن وقت الرمي باق إلا إذا غربت شمس آخر أيام التشريق دون رمي فيلزمه حينئذ دم. ثم عرض لمسألة جمع الرمي جمع تقديم بناء على ما جاء في بعض الروايات وذكر أقوال أهل العلم وانتهى إلى أن الرواية بالتقديم لو صحت وسلمت من الاعتراض لكانت رخصة تيسر على من احتاج إليها وتكون أولى من الرمي قبل الزوال لأن لها أصلا من النصوص لكنها مسألة تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة. المسألة الخامسة: وهي الرمي ليلا ذكر أن للفقهاء قولين الأول بجوازه وهو رأي الجمهور والثاني بالمنع وهو رأي الحنابلة ثم استعرض أدلة القولين ورجح القول الأول وأيد ترجيحه بالأدلة التالية: - أن الرمي حددت بدايته ولم تحدد نهايته. - ما جاء في الرخصة للرعاة فهذا يدل على بقاء وقت الرمي. - ورود بعض الآثار عن الصحابة تؤيد ذلك. المسألة السادسة: وهي هل مشروع الجمرات الجديد يمكن أن تتغير به بعض الفتاوى في الجمرات وانتهى إلى أن الفتاوى التي بنيت على المشقة الحاصلة بسبب الزحام- كمسألة الرمي قبل الزوال والرمي ليلا وجمع الرمي- ينبغي أن يعاد فيها النظر مع اعتبار هذه التسهيلات التي سيقدمها هذا المشروع. هذه مقتطفات مما في الكتاب وهو كتاب جيد جدير بالقراءة والوقوف على ما فيه لاسيما وفيه من المسائل المهمة كمسألة الاختيار من الأقوال وفقه التيسير إلى غير ذلك فجزى الله المؤلف خيرا.

كيف نفهم التيسير? وقفات مع كتاب (افعل ولا حرج)

كيف نفهم التيسير? وقفات مع كتاب (افعل ولا حرج) عنوان الكتاب ... كيف نفهم التيسير؟ وقفات مع كتاب (افعل ولا حرج) اسم المؤلف ... فهد بن سعد أبا حسين تقديم ... صالح الفوزان وعبد العزيز الراجحي وعبد الله السعد الناشر ... دار المحدث - الرياض سنة الطبع ... 1428هـ نوع الكتاب ... مؤلف خاص التعريف بموضوع الكتاب: إن ضعف تعظيم شعائر الله ظاهرة تفشت بين كثير من المسلمين تحت دعاوى التيسير على الناس والأخذ بالرخصة وسماحة الإسلام إلى غير ذلك وأصبح الخلاف بين العلماء ذريعة لانتقاء ما يوافق هوى كل إنسان ومن العجيب أن يتوسع بعض الدعاة في هذا الأمر على الرغم من ضعف التدين وتضييع حدود الله وعدم تعظيم أوامره، هذا التوسع الذي يزيد من استحكام المرض وتفشي أعراضه بين المسلمين. ولما رأى الشيخ فهد بن سعد أبا حسين أن الشيخ سلمان العودة سلك مسلكا له عواقبه الوخيمة وآثاره السيئة من التوسع في الأخذ بالرخصة والتساهل في أحكام الحج في كتابه (افعل ولا حرج) والذي ربما يؤدي إلى انفلات الناس في أحكام الحج لما رأى الشيخ فهد ذلك ناقش كلام الشيخ سلمان في رسالة سماها (كيف نفهم التيسير- وقفات مع كتاب افعل ولا حرج) وكان هم المؤلف التركيز على نقد المنهج الذي انتهجه الشيخ سلمان في كتابه أكثر من مناقشة المسائل الفقهية فانتقد طريقة التعامل مع النص الشرعي والخلط بين مشروعية الرخصة وتتبع الرخص إلى غير ذلك. وقد ناقش كتاب (افعل ولا حرج) من خلال سبعة وعشرين وقفة وكانت بداية المناقشة مع المقدمة التي كتبها الشيخ عبد الله بن بيه لهذا الكتاب ناقشه في عدة أمور منها اختلاف العلماء وتوظيفه لرفع الحرج والمشقة على الناس وأن اختلافهم رحمة وفي بيان الأخذ بالأخف وكون التيسير من مقاصد الإسلام ثم التيسير في الحج على وجه الخصوص إلى غير ذلك ثم ناقش الشيخ سلمان مبينا أثر التساهل في أحكام الدين على سلوك الناس ومعنى التشديد المنهي عنه وما يجب على المفتي وأن الاهتمام بتفاصيل أحكام الحج لا يعارض الاعتناء بمقاصده ومراميه وتوجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "افعل ولا حرج" إلى غير ذلك ولم يتعرض لمناقشة المؤلف في الأحكام الفقهية الفرعية إلا في القليل منها كمسألة استواء الأنساك الثلاثة في الفضيلة ومسألة الدفع من عرفة قبل الغروب وحكم رمي الجمار إلى غير ذلك. هذا وقد قدم للكتاب كل من الشيخ صالح الفوزان والشيخ عبد العزيز الراجحي والشيخ عبد الله السعد بمقدمات نافعة لاسيما مقدمة الأخير التي أطال فيه النفس بذكر بعض المسائل التي يترخص فيها البعض مع مخالفتها للنصوص الشرعية. والمؤلف إذ كتب هذا الكتاب يبين أنه ليس بدعا فيه بل سبقه من العلماء من انتقد هذا المسلك حين ألفوا ردودا على من جمع تيسيرات الحج بالإضافة إلى ما لمسه من واقع الناس ومدى خطورة هذا المسلك على تدينهم. فجزى الله المؤلف خيرا ووفقنا للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

منهج التيسير المعاصر دراسة تحليلية

منهج التيسير المعاصر دراسة تحليلية عنوان الكتاب ... منهج التيسير المعاصر دراسة تحليلية اسم المؤلف ... عبدالله بن إبراهيم الطويل المحقق ... الناشر ... دار الهدي النبوي - مصر سنة الطبع ... ط1/ 1426هـ نوع الكتاب ... رسالة جامعية تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير، في قسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، بإشراف الدكتور إبراهيم بن محمد الفايز، وقد نوقشت الرسالة في 12/ 4/1425هـ وحصلت على درجة الامتياز، ثم طبعت عام 1426هـ في مجلد واحد يقع في (363) صفحة. التعريف بموضوع الكتاب: إن من أبرز ما تميَّز به ديننا الحنيف، هو اليسر الذي جاء به، فهو من أشهر مقاصد الشريعة السمحاء، ولكن خرج البعض بفهم خاطئ لهذا المقصد العظيم، فجعله له منهجاً في كل شؤونه، ملتمساً التيسير - بزعمه - فوسع قدر ما يشاء وفي كل ما يشاء، ولما بدأ هذا المنهج بالانتشار في العصر الحاضر، لما يلاقيه من قبول من العوام وغيرهم، كان لابد من التأصيل السليم لمعنى التيسير الذي أتت به الشريعة، وهذا ما قام به مؤلف هذه الرسالة، جزاه الله خيراً، وإليك التعريف. بدأ المؤلف أولاً بلمحة عن مقاصد الشريعة، وأنَّ من أشهر مقاصدها العدل والمصلحة واليسر ورفع الحرج، ثم انتقل بنا إلى بيان أصول اليسر في الإسلام: في القرآن الكريم وفي السنة النبوية وفي منهج الصحابة الكرام ومن بعدهم، مستشهداً في كل ذلك بالأدلة المناسبة لكل قسم. ثم بيّن أهداف اليسر في الإسلام، سواء كانت أهدافاً عقدية أو تعبدية أو اجتماعية أو جنائية أو سلوكية أو فكرية. وبعد هذه الجولة لابد من توضيح ضوابط هذا اليسر، فقد وضع المؤلف أربعة ضوابط، وهي: أن يكون ثابتا بالكتاب أو السنة. وأن لا يتجاوز النص في الأخذ بالتيسير. وألا يعارض التيسير نصا من الكتاب أو السنة. وأخيرا أن يكون مقيدا بمقاصد الشريعة. ولكي يكون القارئ على دراية من هذا المنهج أفرد المؤلف فصلاً للتعريف بجذور منهج التيسير المعاصر ومفهومه وأبرز مدارسه، كل منها احتل مبحثاً من هذا الفصل الشيّق، وقد أوضح المؤلف أن جذور هذا المنهج ليست جديدة، فقد حذر العلماء قديماً من مثل هذا التمييع والترخص بكل رخصة من غير ضابط، وعرَّف لنا أيضا مفهوم هذا المنهج عند المعاصرين، لينتقل بعدها للرد عليهم من خلال نقولات العلماء المعاصرين أنفسهم في نقدهم لهذا المنهج، وقد أحسن المؤلف أيضا بالتعريف بمنهج التيسير عند العلمانيين المعاصرين حيث اغتر بهم فئام من الناس ممن يتبع كل ناعق. أما مدارس منهج التيسير المعاصر فذكر المؤلف أنها مدرستان: الإسلاميون والعلمانيون، وذكر لكل مدرسة أشهر أعلامها المعاصرين، كالغزالي والقرضاوي والغنوشي من المدرسة الأولى، وفؤاد زكريا وفرج فودة وحسن أمين من المدرسة الثانية. ثم نأتي لأسِّ الكتاب، وهو الفصل الثاني الذي بحث فيه المؤلف (أصول منهج التيسير المعاصر وتطبيقاته عرضا ونقدا) فأصول هذا المنهج كما أوضحها المؤلف ترتكز على سبعة أصول، عرَّفها كلها مستشهدا بأقوال أصحاب هذا المنهج، مع نقده لما يعرضه من تلك الآراء، ثم عرض تطبيقات هذا المنهج سواء في العبادات أو المعاملات أو في مجال التعاملات الاجتماعية الأسرية وغيرها أو في مجال العقوبات، أتى فيها بأمثلة من فتاوى ومقالات أصحاب هذا المنهج، مع رده عليهم بالأدلة المناسبة، وبأسلوب علمي رفيع، وقد كان نصيب هذا الفصل ثلث الكتاب تقريبا. أما الفصل الذي ختم به المؤلف كتابه فهو فصل هام أيضاً لا يقل أهمية عن سابقه، وهو (أسباب ظهور التيسير المعاصر وآثاره)، وقسم المؤلف هذه الأسباب إلى داخلية وخارجية. فمن أمثلة الداخلية: الجهل بأحكام الشريعة ومقاصدها كسوء الفهم أو الجهل بمآلات الحكم، ومثل مسايرة الواقع، أو ردة فعل ضد الغلو، وربما كان للمؤثرات البيئية دورها الفاعل في ظهور هذا المنهج عند البعض كما ذكر المؤلف، كالمؤثرات المكانية أو العرفية أو حتى العلمية. أما الأسباب الخارجية فأهمها الترغيب في الإسلام. ولكي تتعرف أخي القارئ على آثار هذا المنهج المعاصر، أفرد لك المؤلف مبحثاً خاصاً له، بَيْن آثارٍ تشريعية كالتفلت من بعض الأحكام الشرعية أو سنِّ تشريعات غير منضبطة، أو آثارٍ سلوكية كالوقوع في المحظورات والتقليد والتبعية، أو آثارٍ فكرية كالتجرؤ على الاجتهاد من غير أهله أو استفتاء من ليس أهلا أو من عرف أصلا بالتساهل. ثم ختم المؤلف رسالته بخاتمة موجزة من نقاط ثمانية، موجهاً رسالة إلى الباحثين بأن الموضوع لا يزال غضاً طرياً، يحتاج إلى مزيد دراسة وبحث. لقد بذل المؤلف - جزاه الله خيرا - جهداً مشكوراً، ونحن إذ نُعرِّف القراء بهذا الكتاب، نود أن نلفت انتباههم إلى أن هذا الكتاب إنما هو نموذج من كتب أخرى اهتمت بكشف هذا المنهج الخطير الذي استشرى بالأمة وصار له أنصاره بل وقنواته وعلماؤه، وليس أسهل على المرء من التفلت، وليس أسهل على العوام من اتباع رخصة كل عالم، ظانِّين أنهم بذلك متبعون لا مبتدعون، والله المستعان.

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز عنوان الكتاب ... رموز الكنوز في تفسير الكتابالعزيز اسم المؤلف ... عز الدين عبدالرازق بنرزق الله الرسعني الحنبلي المحقق ... عبدالملك بن عبدالله بن دهيش الناشر ... الناشر: مكتبة الأسدي - مكةالمكرمة سنة الطبع ... 1429هـ التعريف بموضوع الكتاب: ما يزال المسلمون ولله الحمد يهتمون بكتاب ربهم، يتدارسونه ويحفظونه ويتلونه، كيف لا وهو كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقد كان هذا الاهتمام في تفسير هذا القرآن من أيام نزوله، ولا يزال علماء الإسلام يفسرونه كلٌ على ما آتاه الله. ومن هذه التفاسير القيّمة كتاب (رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز) حيث اعتمد مؤلفه رحمه الله في بيان معاني الآيات أحسن طرق التفسير، فهو يفسر الآية بالقرآن وقِراءاته، ثم بالأحاديث الواردة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، مع إيراد أسباب النزول المروية عنهم، ثم باللغة العربية، بل ويسوق الأحاديث النبوية بأسانيده المتصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن المؤلف الرسعني توفي في القرن السابع الهجري سنة (661هـ) فهو تفسير حافل بأنواع شتى من فنون التفسير، وهي كفيلة في إيضاح معاني الآيات وأحكامها. ولكن هذا التفسير فيه جزء مفقود وهو: المقدمة وتفسير سورة الفاتحة وسورة البقرة وصدر من سورة آل عمران (أول 12 آية) وسورة المائدة كلها، ومائة وسبع وعشرين آية من سورة الأنعام أما تحقيق الكتاب فقد قام محققه جزاه الله خيرا بجهد مشكور، حيث وضع مقدمة للكتاب فيها ترجمة وافية للمؤلف تناول فيها حياته الشخصية العلمية، ثم عرف بهذا التفسير وقيمته العلمية وعناية العلماء به، ثم تكلم عن منهج المؤلف في تفسيره. أما منهج المحقق في تحقيقه فقد حاول أن يُخرج لنا نصاً متكاملاً قدر الإمكان وخاصة أنه ليس هناك أي نسخة خطية كاملة، وأما التعليقات والتخريجات فكانت في تخريج الأحاديث من مظانها دون أن يبين درجتها وهذا مما يؤخذ عليه، وكذا خرج الأقوال والأمثال والنصوص المقتبسة من مصادرها ومراجعها، وفسر بعض الكلمات الغريبة، وعرَّف ببعض الأعلام والأماكن والبلدان، وكذلك عرَّف ببعض المصطلحات المختلفة التي وردت أثناء التفسير، وقد أتبع الكتاب بفهارس علمية للأحاديث والآثار والرواة والأعلام والمسائل الفقهية والمسائل اللغوية والكتب والأشعار والمقطعات والأمثال. وقد طبع الكتاب في تسع مجلدات. وهو عمل وجهد كبير يشكر عليه المحقق.

التوضيح لشرح الجامع الصحيح

التوضيح لشرح الجامع الصحيح عنوان الكتاب ... التوضيح لشرح الجامع الصحيح اسم المؤلف ... سراج الدين أبو حفص عمر بن علي الأنصاري الشافعي (ابن الملقن) المحقق ... دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث تقديم ... أحمد معبد عبد الكريم الناشر ... وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر سنة الطبع ... 1429هـ عدد الأجزاء ... 36 عدد الصفحات ... نوع الكتاب ... مؤلف خاص، شرح فيه المؤلف صحيح البخاري وقد طبع الكتاب في ستة وثلاثين مجلدا مع الفهارس التعريف بموضوع الكتاب: تزخر المكتبة الإسلامية بكم هائل من المؤلفات التي لا تزال في عالم المخطوطات، تنتظر تكثيف الجهود وتواصل العمل لإخراجها وطباعتها وإن مما يثلج الصدور ويملؤها بالفرح والسرور، خروج نفائس الكتب، لعلماء الأمة الواحد تلو الآخر، فكيف إذا كان هذا الكتاب يتعلق بأصح الكتب بعد كتاب الله وهو صحيح البخاري الذي عُلّقت عليه مئات الشروح فخرج إلينا اليوم شرح جديد هو (التوضيح لشرح الجامع الصحيح) لأحد العلماء المعروفين شيخ المشايخ ابن الملقن رحمه الله. وتأتي أهمية الكتاب في أنه يُعد موسوعة علمية شاملة لشتى فروع العلم من الفقه وقواعده وأصوله والمعتقد وعلم الحديث رواية ودراية وغير ذلك، فهو كما قال عنه مؤلفه: (نخبة عمر المتقدمين والمتأخرين إلى يومنا هذا، فإني نظرت عليه جل كتب هذا الفن من كل نوع) ثم سرد هذه الكتب التي اعتمد عليها ومنها كتب في عداد المفقودات كشرح القطب الحلبي ومغلطاي وابن التين، والعديد من المصادر التي ذكرها أو عزا إليها كتاريخ نيسابور وسنن ابن السكن والصحابة للعسكري وتفسير ابن مردوية وغيرها الكثير والتي تعتبر من المفقودات فحفظ علينا شيئا من هذه الكتب بنقله منها والعزو إليها وهذه ميزة أخرى للكتاب، ولم يكتف بذلك بل استدرك ما حقه الاستدراك منها وزاد من القواعد والفوائد في الحديث والفقه والأصول واللغة وغيرها، وله مقدمة نافعة في علوم الحديث لذا استفاد منه من جاء بعده وفي مقدمتهم تلميذه الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري حيث يصرح باسمه أحياناً، وأحياناً أخرى يصفه بـ (شيخنا) ومما يزيد هذا الكتاب جمالاً حسن تحقيقه وجودة إخراجه فقد خُدم الكتاب من قبل ثلة من طلبة العلم معتمدين على سبع نسخ خطية فحققوا النص تحقيقاً علمياً مع تخريج أحاديثه وآثاره وتراجم الأعلام وعزو الأقوال والاستدراك على ما خالف فيه ابن الملقن أهل السنة والجماعة إلى غير ذلك. ثم فهارس علمية اشتملت على ستة وعشرين نوعاً من الفهارس المختلفة للآيات والأحاديث والآثار والأعلام والمسائل الفقهية والعقدية واللغة والغريب وغيرها الكثير. والناظر في هذا الكتاب ليدرك حقاً أن هذا العلم بحر لا يدرك ساحله، وليدرك أيضاً كم من الجهد بذل فيه، تأليفاً وتحقيقاً وتخريجاً، حتى وصل إلى عالم النور بين أيدي الطبلة والقراء. فجزى الله خيرا كل من عمل على إخراج هذا الكتاب بهذه الحلة الجميلة، ونفع به قارئيه وأثاب عليه مؤلفه رحمه الله.

نوازل الزكاة دراسة فقهية تأصيلية لمستجدات الزكاة

نوازل الزكاة دراسة فقهية تأصيلية لمستجدات الزكاة عنوان الكتاب ... نوازل الزكاة دراسة فقهية تأصيلية لمستجدات الزكاة اسم المؤلف ... عبدالله بن منصور الغفيلي المحقق ... الناشر ... دار الميمان - الرياض سنة الطبع ... 1429 هـ نوع الكتاب ... رسالة علمية قدمها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في الفقه من كلية الشريعة بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بإشراف الأستاذ الدكتور صالح بن عثمان الهليل وقد نوقشت الرسالة في سنة 1428هـ وأجيزت بمرتبة الشرف الأولى التعريف بموضوع الكتاب: يمتاز الفقه الإسلامي بمرونة تجعله قادرا على التعامل مع المستجدات واستيعاب النوازل وبيان الحكم الشرعي فيها، ولما كانت الزكاة - وهي من أركان هذا الدين ودعائمه التي بني عليها - تتميز بأحكام جليلة ومسائل كثيرة تتجدد صورها وتتنوع وقائعها مع تغير المعاملات المالية وتطورات الحياة المادية استدعى ذلك العناية ببحث مستجداتها وبيان أحكامها. وقد عني بهذا الأمر كثير من الباحثين وطلاب العلم والعلماء، وخاصة في المجامع الفقهية، ولكن تبقى هذه الأمور في تطور مستمر، كما أن كثيرا منها يحتاج إلى لم شمله، وهذه الأمور هي من الأسباب التي جعلت المؤلف يشمر عن ساعد الجد مستعينا بالله ليجمع شتات هذا الموضوع مركزا على التأصيل الفقهي دون التفاصيل التي يطول معها البحث. حيث بدأ بتمهيد عرّف فيه النوازل وضابطها، والألفاظ ذات الصلة بها، وأثرها في تغيير الاجتهاد، ثم عرف الزكاة مع ذكر مكانتها والمقاصد الشرعية منها. ثم بعد ذلك بدأت فصول الكتاب فكان الفصل الأول: عن (النوازل في شروط الزكاة) وفيه مبحثان، بحث في أولهما النوازل في ملك النصاب وتأثير الديون الاستثمارية والإسكانية في بلوغه، وكذلك أثر التضخم النقدي في بلوغ النصاب، وفي ثاني المبحثين تكلم عن النوازل في الحول واعتباره بالحول الشمسي. وفي الفصل الثاني: وهو أطول فصول هذا الكتاب حيث جاء في ستة عشر مبحثا، تحدث فيه عن المستجدات في زكاة الزروع والثمار والماشية، كمقدار نصابها بالمقاييس الحديثة، ومقدار الزكاة فيما يستعمل الآلات الحديثة في إنتاجه، وزكاة الثمار المعدة للتجارة، كما تكلم عن زكاة المصانع ومواد التصنيع، ثم عن زكاة الأوراق النقدية وزكاة الحساب الجاري وزكاة أسهم الشركات وزكاة الشركات المتعددة الجنسيات، وزكاة السندات والصناديق الاستثمارية وزكاة المال العام الذي تملكه الدولة، وزكاة مال التأمين، ومكافأة نهاية الخدمة والراتب الشهري والحقوق المعنوية، وزكاة مال الإجارة المنتهية بالتمليك، وزكاة مال الاستصناع، وحكم احتساب الضريبة من الزكاة. وأما الفصل الثالث: فتحدث فيه عن (النوازل في مصارف الزكاة) وعقده في ستة مباحث وأهم المستجدات في كل مصرف من مصارف الزكاة. وفي الفصل الرابع: (استثمار أموال الزكاة) عقد ثلاثة مباحث تشتمل على استثمار أموال الزكاة، وتكاليف هذا الاستثمار، وزكاة مال الزكاة المستثمر. وآخر الفصول الخامس: كان في (نوازل زكاة الفطر) وعقده في أربعة مباحث وهي: توكيل الجمعيات الخيرية والمراكز الإسلامية لإخراجها، ثم إخراج القيمة في زكاة الفطر، ثم حكم نقل زكاة الفطر للبلدان البعيدة، وأخيرا صرف المؤسسة الزكوية لزكاة الفطر بالمبالغ المتوقعة قبل استلامها لها. كل هذه الفصول والمباحث جَهَدَ المؤلف في عرض أقوال أهل العلم فيها، مع ذكر أدلتهم، مع العزو للمصادر الأصلية وأمهات الكتب، ومما يدل على عنايته ببحثه مراجعه التي فاقت الأربعمائة مرجعا، ولم يكتف الباحث بذكر الأقوال والآراء بل ناقشها مرجحا الرأي الذي يراه أقرب إلى الصواب. ثم ختم المؤلف بحثه بخاتمة ذكر فيها أهم النتائج والتوصيات. لا شك أن هذا الموضوع سيبقى محتاجا إلى مزيدٍ من العناية والمتابعة المستمرة، لمواكبة مستجدات الحياة والنوازل الطارئة في حياة الناس ومعاملاتهم، لبيان الحكم الشرعي في هذه النوازل.

أحكام فن التمثيل في الفقه الإسلامي

أحكام فن التمثيل في الفقه الإسلامي عنوان الكتاب ... أحكام فن التمثيل في الفقه الإسلامي اسم المؤلف ... محمد بن موسى بن مصطفى الدالي الناشر ... مكتبة الرشد - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ نوع الكتاب ... رسالة جامعية تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير في كلية الشريعة قسم الفقه، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وقد نوقشت الرسالة في 19/ 3/1428هـ وحصلت على تقدير ممتاز، ثم طبعت عام 1429 هـ في مجلد ضخم يقع في (861) صفحة. التعريف بموضوع الكتاب: لا يكاد يخلو بيت من تلفاز، فلقد غزى هذا الاختراع كل قطر وكل بيت - إلا ما ندر - ثم ازداد الأمر باختراع وسائل البث الحديثة من أقمار صناعية وما إلى ذلك، فأصبح هذا الجهاز مخزناً لمئات القنوات، غثها وسمينها - إن وجد فيها السمين - ومن جملة ما يعرض من فنون على تلك الشاشات فن التمثيل، الذي فرض نفسه بسائر ألوانه وأهدافه، وقد تنازع العلماء في حكمه، إنَّ كل هذه الأسباب وأسباب أخرى جعلت مؤلفنا يختار رسالته الجامعية في هذا المجال، فجاءت رسالته هذه لتضيف لنا بياناً كاملاً لغالب ما يتعلق بفن التمثيل مع بيان حكمه الإجمالي ومناقشة الأصول التي يدور عليها، مروراً على جزئيات التمثيل مع أحكامها، وغير ذلك من مباحث ماتعة، سيتعرف عليها القارئ في هذا التعريف إن شاء الله تعالى. كمدخل لهذه الرسالة، بدأ المؤلف بحكم اللهو في الشريعة الإسلامية، وحكم المزاح وحَدِّه في الشريعة الإسلامية. وبعدها جاء الباب الأول في (حقيقة التمثيل وحكمه)، فعرَّف التمثيل مع ترجيحه لتعريف مختار جامع، كما عرَّف الألفاظ ذات الصلة بالتمثيل كالتقليد والمحاكاة والتشخيص وغيرها، وبعدها أتى المؤلف بالآيات والأحاديث التي وردت بلفظ التمثيل أو ما له صلة بالتمثيل، مع نقله لتفاسير المفسرين وشروح العلماء لها. ثم عرَّفنا المؤلف بـ (نشأة التمثيل)، وأنها نشأت قبل الميلاد بقرون، أما عند العرب فلم يكن له ظهور لأسباب بيَّنها المؤلف في هذا المبحث، وأنَّ بداياته كانت متأخرة وشهدت نهضته - إن صح التعبير - في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي. ولهذا التمثيل أهداف أجملها المؤلف في ستة أهداف، مع عدم إغفاله للأهداف السيئة والتي أجملها في خمسة أهداف. ولهذا التمثيل أنواعاً عرَّف بها المؤلف، بين تمثيليات محزنة أو مضحكة أو موسيقية، أو اجتماعية أو دينية أو تاريخية أو سياسية، وقد تتنوع بحسب العرض أيضا إلى مسرح أو سينما أو إذاعة أو تلفاز. وكما لهذا التمثيل من أنواع فله أيضا عناصر أفرد لها المؤلف أيضا مبحثاً صغيراً لينتقل بعدها إلى حكم التمثيل، فذكر أولا مصالح التمثيل ومفاسده، ثم (حكم التمثيل)، وهو مبحث مهم للغاية ذكر فيه المؤلف أدلة المجيزين من القرآن والسنة، ومناقشته لاستدلالاتهم بها، وكذلك الأمر لأدلة المحرمين مطلقاً، ليخلص الكاتب إلى ترجيح جواز التمثيل بضوابط سبعة، ذكرها في رسالته. كان هذا هو الحكم الإجمالي للتمثيل، أما (الأحكام التفصيلية للتمثيل) فهي في مبحث مستقل، كحكم تمثيل الذات الإلهية أو تمثيل الأنبياء أو الملائكة أو الصحابة أو الأئمة والعلماء أو القادة والزعماء أو القصص القرآني أو الأسطورات الخيالية، وحكم التمثيل للدعوة أو للإصلاح أو للتعليم، ثم حكم إنشاء معاهد خاصة لتعليم التمثيل، وأخيرا حكم اتخاذ التمثيل تجارة، كل هذه المباحث الماتعة بمناقشاتها وأدلتها وترجيحاته كانت من نصيب هذا الجزء الهام. أما ما يتعلق بالأشخاص الذين يقومون بالتمثيل وحكم ما يفعلونه، فقد بيَّن لنا المؤلف ما يتعلق من ذلك بأقوال الممثل كتلفظ الممثل المسلم بالكفر - من باب التمثيل - كسب الله تعالى أو سب القرآن أو الدين أو النبي أو الصحابة أو غيرها من ألفاظ الكفر المعروفة، أو تلفظ الكافر - من باب التمثيل - بالشهادتين، وكذلك حكم ما يقوم به الممثل من معاملات - من باب التمثيل - سواء كانت معاملات مالية أو زواج أو طلاق أو ادعاء نسب لغير آبائه أو الحلف أو تقليد الحيوانات وغيرها، وكذلك الأمر في أفعال الممثلين كأداء الممثل لدور الكافر أو العكس، والتزيي بزي الكفار أو التشبه بالنساء والعكس أو الرقص أو السخرية والابتذال وغيرها من الأمور الواقعة والموجودة في واقع التمثيل، لقد أخذ هذا الفصل حيزاً كبيراً لأهميته الكبيرة فهو من صلب الكتاب وأساسه فقد وقع في (320) صفحة تحمل في طياتها الكثير الكثير من الفوائد والفرائد، الجديرة بالاطلاع. وبما أن التمثيل ليس حكراً على الرجال، ودخل هذا المضمار النساء والأطفال، فقد خصص المؤلف فصلاً كاملاً في (أحكام المرأة والطفل في التمثيل)، فذكر حكم ظهور المرأة - شابة كانت أو عجوزاً - وحكم مشاهدة الرجال لها وحكم تمثيلها مع المرأة ومع محارمها وحكم الاختلاط في التمثيل، مرجحاً أيضا ما يراه صواباً في هذه المسائل. ثم جعل فصلاً في (أحكام الأموال في الأعمال التمثيلية)، وفصلاً في أحكام مواضع التمثيل ودور العرض ووسائله، كأخذ الأجرة على التمثيل أو زكاة تلك الأموال أو الأموال التي اكتسبها من تمثيل محرم ثم تاب، وغيرها من أحكام شرعية. لابد للتمثيل من أماكن خاصة، فلم ينس مؤلفنا جزاه الله خيراً أن يعرفنا بالأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الخصوص، كالتمثيل في المساجد أو المعابد والكنائس، وكذلك الأحكام المتعلقة بوسائل التمثيل كالوسائل المحرمة أصلاً وحكم التخلص منها، وحكم التصوير في الفيديو وحكم استعمال الأناشيد، ثم حكم ارتياد دور العرض - المسرح والسينما - لغرض مشاهدة التمثيليات. بعد كل تلك الفصول والمباحث القيمة، اختتم المؤلف الرسالة بخاتمة أشار فيها باختصار إلى ما توصل إليه من نتائج حصرها في خمسين نقطة. إن هذه الرسالة إضافة فريدة للمكتبة الإسلامية في بابها الهام، فجزى الله المؤلف خيراً على ما بذله من جهد، مذكرين القراء بأن مراجع هذا البحث زادت على الـ (420) مرجعاً، وليس الخبر كالمعاينة.

الدعاء وأحكامه الفقهية

الدعاء وأحكامه الفقهية عنوان الكتاب ... الدعاء وأحكامه الفقهية اسم المؤلف ... خلود بنت عبدالرحمن المهيزع الناشر ... دار الصميعي - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ نوع الكتاب ... رسالة جامعية مقدمة لنيل درجة الماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية الشريعة، قسم الفقه، بإشراف الدكتور عبدالعزيز الغامدي، وطبع في مجلدين يقعان في (806) صفحة. التعريف بموضوع الكتاب: إنّ من نعم الله تعالى على عباده أنْ أذن لهم بدعائه مباشرة بغير وسائط، بل أمرهم بذلك حتى إنه ليغضب على عبده التارك للدعاء، لأن ((الدعاء هو العبادة))، ولمّا كانت هذه العبادة العظيمة بهذه المرتبة العالية، فلابد من الاهتمام بها وبآدابها وشروطها، وقد ألفت مؤلفات قديمة وحديثة في الموضوع كالتعريف بآدابه وشروطه وفضائله، وأما كتابنا هذا (الدعاء وأحكامه الفقهية) فهو متعلق بالجانب الفقهي، حيث قالت الباحثة أنها بالتتبع لم تجد من أفرده في بحث مستقل، فاجتهدت في جمع كل ما يتعلق بالدعاء من الناحية الفقهية، مع التوثيق العلمي لهذه المسائل والأدلة وتخريجها حسب استطاعتها، وبيان وجه الخلاف وأدلته وثمرته والراجح فيه، معتمدة على كتب المذاهب الفقهية المعتمدة. فبدأت الباحثة بتمهيدٍ قصيرٍ في فضل الدعاء، لتنتقل بعده إلى: أول فصول الكتاب: (حقيقة الدعاء) الذي اشتمل على تسعة مباحث: أولها كان لتعريف الدعاء لغة واصطلاحاً، ثم تعريف بالألفاظ ذات الصلة بلفظ الدعاء مما هو مرادف له كالعبادة والذكر والصلاة، ومن ألفاظ خاصة بنوع من الدعاء، كالسلام والسؤال والاستعاذة والاستغفار والاستغاثة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى حكم الدعاء وأقوال العلماء فيه ما بين قائل بالوجوب وبين قائل بالاستحباب وبين قائل بدوران الأحكام الخمسة عليه، وقد فصلت الباحثة الأدلة ووجه الاستدلال مع الترجيح لما تراه الصواب. ثم عرّفتنا بأنواع الدعاء بحسب اعتباراته، حيث جعلت الأنواع بناءً على تسعة اعتبارات هي: المعنى والصيغة والحكم والمدعو والورود والمدعو به والداعي والمدعو له والمدعو عليه، وإن كان في أي منها خلافٌ فقهي فقد بيّنته كما ذكرنا من منهجها سابقاً بذكر الأقوال منسوبة إلى أصحابها موثقة من مصادرها مع الأدلة وتخريجها ووجه الاستدلال والترجيح. وبعدها تكلمت المؤلفة عن أركان الدعاء، ثم شروط الدعاء الخاصة بالداعي والخاصة بالمدعو به، ثم آداب الدعاء، وبعدها فصلت القول في هيئة الداعي الفعلية من رفع لليدين وحكمه، والدعاء بظهور الكفين، وبرفع يد واحدة، والإشارة بالأصابع، والدعاء قائما، ورفع البصر إلى السماء، كما بحثت مسألة مسح اليدين بعد الفراغ من الدعاء، والجثو على الركب عند الدعاء، والسجود للدعاء، وأخيراً قطع الدعاء. أما الفصل الثاني فهو: (أحكام الدعاء) وفيه تمت دراسة موضوعين كل منهما في مبحث: الأول: (الدعاء المتعلق بالصلاة) وهو في ثمانٍ وعشرين مطلباً بدءً من الدعاء عند سماع الأذان والإقامة، ثم الدعاء في الطهارة وأثناء قضاء الحاجة، ثم دعاء المشي إلى الصلاة، ثم الدعاء قبل تكبيرة الإحرام، ثم الدعاء بعد تكبيرة الإحرام، ثم الدعاء عند قراءة الفاتحة، ثم الدعاء أثناء قراءة السورة، ثم الدعاء في الركوع، ثم الدعاء في الاعتدال، ثم الدعاء في السجود، ثم الدعاء في الجلوس بين السجدتين، ثم الدعاء بعد التشهد الأول، ثم الدعاء بعد التشهد الثاني وقبل السلام، ثم الدعاء بين التسليمتين، ثم الدعاء بغير لفظ القرآن والسنة في الصلاة، وهي من المسائل المشهورُ الخلافُ فيها بين العلماء علماً أن المؤلفة رجحت جوازه، ثم الدعاء لمعين في الصلاة، ثم الدعاء بغير لفظ العربية، ثم الدعاء في سجود التلاوة، ثم دعاء ختم القرآن في الصلاة، ثم القنوت في الصلاة، ثم الدعاء في صلاة التراويح، ثم الدعاء في صلاة العيدين، ثم الدعاء في صلاة الكسوف، ثم الدعاء في صلاة الاستسقاء، ثم الدعاء في صلاة الحاجة، ثم الدعاء في صلاة الاستخارة، ثم الدعاء في صلاة الجنازة، ثم الدعاء بعد السلام. الثاني من المباحث: (الدعاء غير المتعلق بالصلاة) وهو في ثمانية عشر مطلباً، بدءً من الدعاء المتعلق بالمسجد في الدخول والخروج، ثم الدعاء يوم الجمعة قبل الخطبة وبعدها وفي آخر ساعة من الجمعة، ثم الدعاء يوم العيد، ثم الدعاء في الجنائز، ثم الدعاء في اللباس والمسكن والمركب، ثم دعاء الاستخارة في غير صلاة، ثم الدعاء في الزكاة لمؤديها، ثم الدعاء في الصيام عند السحور وأثناء الصوم والإفطار، ثم الدعاء في الحج والعمرة، ثم الدعاء في الجهاد، ثم الدعاء في السفر، ثم الدعاء عند قراءة القرآن في غير الصلاة، ثم الدعاء في المعاملات كالبيع والشراء والقرض ودخول السوق، ثم الدعاء في النكاح، ثم الدعاء في القضاء والحكم، ثم الدعاء في الصباح والمساء والنوم، ثم الدعاء عند الفزع وسماع الأصوات المزعجة، ثم الدعاء عند العطاس والتشميت. وبهذا تنتهي مباحث هذا الفصل المليء بالمسائل الفقهية بالأدلة والترجيحات الموجهة. لنصل إلى آخر فصول الكتاب: (آثار الدعاء) وهو في ثلاث مباحث: الأول: (التأمين على الدعاء) ويشمل الكلام على ما هو داخل الصلاة، وعلى التأمين في غير الصلاة، وبيان مواطن ذلك في كلا الموضعين مع صيغة هذا التأمين وحكمه. الثاني من المباحث: (إجابة الدعاء) عرّفت المؤلفة فيه بمعنى الإجابة للدعاء وأنواع هذه الإجابة، ومواطنها وعلاماتها وموانعها. الثالث من المباحث: (فوائد الدعاء) بيّنت فيه باقتضاب هذه الفوائد مستدلة ببعض الشواهد من الكتاب والسنة. وبعد هذا ختمت المؤلفة الرسالة بخاتمة فيها أهم نتائج البحث رتبتها في ستٍ وسبعين نقطة مختصرة. إن من قدر له قراءة هذا الكتاب سيلمس الجهد المبذول فيه، مِنْ تحرٍ للمسائل الفقهية المتعلقة بالموضوع، وتحرٍ لعزو تلك المسائل إلى كتب أصحابها على حسب مذاهبهم، وتخريج للأحاديث ونقل لكلام المحدثين عليها، فجزاها الله خيرا، ونفع بما قدمته للقراء الكرام. ونحن إذ انتهينا من التعريف بهذا الكتاب الزاخر، نود أن نلفت انتباه القراء إلى أنه يوجد كما أسلفنا كتب علمية أخرى عن الدعاء لها تعلق بغير الناحية الفقهية، ونريد أن نبينها هنا ليتعرف القارئ على شيء من الفرق بينها. فهناك كتاب (الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية) تأليف جيلان بن خضر العروسي، وهي رسالة جامعية مقدمة في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، وقد حوت هذه الرسالة على قسم لا بأس به مشترك مع هذه الرسالة التي قمنا بالتعريف بها أعلاه، وهو القسم المتعلق بالتعريف بالدعاء وأنواعه وآدابه وما إلى ذلك، ويختلف في أنه يتعلق بالجانب العقدي لا الفقهي، فقد اهتمت رسالة الأخ جيلان بجانب تعلق الدعاء بالتوحيد والقدر والأدعية المبتدعة من دعاء لغير الله مما يدخل في الشرك وما إلى ذلك من مباحث مبثوثة في رسالته العلمية. وهناك كتاب آخر أيضا هو (تصحيح الدعاء) للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله، فقد جعله مؤلفه لتصحيح ما ارتبط ببعض الأدعية من أخطاء، وطريقته في ذلك أن يورد المسألة بأدلتها من الكتاب والسنة، ويفصلها ويشرحها، ثم بعد ذلك يتكلم عن الأخطاء التي ارتبطت بها وتصحيح هذه الأخطاء ببيان وجه الخطأ وكيفية التصحيح، وحكم الخطأ أيضاً، فهو إذا كتاب لا يتعلق بحكم الدعاء وارتباطه بالفقه كالكتاب المعرف به، ولا يتعلق بحكم الدعاء وارتباطه بالعقيدة، ككتاب الأخ جيلان، وإنما اهتم بجانب آخر من الجوانب المهمة والمتعلقة بالدعاء. وفي كل كتاب منها ما ليس في غيره، وفي كل منها فوائد هامة، ليست في الأخرى، وجدير بالطالب النهم أن يحاول قراءتها جميعاً أو حتى الاطلاع عليها. والحمد لله رب العالمين.

التميز التربوي والإيماني في البلد الأمين مكة

التميز التربوي والإيماني في البلد الأمين مكة كتاب الأسبوع عنوان الكتاب ... التميزالتربوي والإيماني في البلد الأمين مكة اسم المؤلف ... هاشم بن السيد عليالأهدل الناشر ... دار طيبة الخضراء سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ نوع الكتاب ... مؤلفخاص متوسط الحجم يقع في 259 صفحة التعريف بموضوع الكتاب: إننا بحاجة ماسة إلى تربية النشء تربية إيمانية تربطهم بخالقهم وتهذب سلوكهم وتقوي إيمانهم، ولا شك أن هذه التربية تؤتي ثمرتها إذا توفرت البيئة الصالحة والأجواء الإيمانية التي يتربى فيها هذا النشء، فكيف إذا كانت هذه البيئة الصالحة هي مكة بما لها من قداسة وبما تحتويه من مقدسات وبما يقام فيها من عبادات، لذا يأخذ مؤلفنا بأيدي المربين- سواء كانوا آباء أو معلمين أو مربين- للاستفادة من مكة في التربية الإيمانية للنشء المسلم، وانتهاز فرصة وجودهم فيها سواء بصورة دائمة للمقيمين أو طارئة للوافدين. فألف كتابه هذا وجعله في عشرة فصول: فأما الفصل الأول فبين فيه أهداف التربية الدينية من الناحية الدنيوية والأخروية وأهمية الحفاظ على نوافل الطاعات واغتنام ثمراتها ثم ذكر أهمية التربية في البيئات الصالحة ولاسيما مكة وما للبيئة المكية من دوافع إيمانية وتربوية وأثر في زيادة الإيمان ثم ختم هذا الفصل بالتنشئة الاجتماعية في مكة. وأما الفصل الثاني فكان التركيز فيه على أعمال القلوب لما لها من أهمية في التربية الإيمانية وبيَّن التلازم والتكامل بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فبصلاح القلب تصلح الجوارح، ثم ذكر جملة من أعمال القلوب التي يمكن تفعليها والقيام بها عمليا في مكة كالإخلاص والمحبة والتوكل والمراقبة والشكر والرضا والصبر ... إلخ ثم ذكر أساليب التربية على العناية بأعمال القلوب. ويذكر المؤلف جملة من العبادات التي يتقلب فيها المسلم في مكة وكيفية الاستفادة منها في التربية الإيمانية وذلك من الفصل الثالث إلى الفصل العاشر. فذكر الطواف وتعظيم مكانته في نفوس المتربين وبيان أنواعه والحث على الإكثار منه ولفت أنظار المتربين إلى البيت المعمور ودخول الملائكة له وطوافهم به .... وكيف نستفيد من جميع ما سبق في التربية الإيمانية. ثم ذكر التقبيل للحجر الأسود والاستلام للركن اليماني والتربية الإيمانية من خلال ذلك على الاتباع والتعلق ببلاد الأفراح الجنة، والتربية على أسلوب المحاسبة للنفس وعلى المثابرة والاجتهاد وانتهاز الفرص قبل فواتها. ثم ذكر الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام مع بيان مكانة هذا المقام والتربية الإيمانية على الاقتداء بالصالحين والتذكير بشكر النعمة ... إلخ ثم ذكر التربية الإيمانية في ماء زمزم بتعريف المتربين بفضله وتربيتهم على الالتزام بآداب الشرب منه والتضلع منه والدعاء عند شربه ... إلخ ثم ذكر السعي بين الصفا والمروة والتربية على الاجتهاد في العبادة والانقياد والخضوع للشرع ..... إلخ ولما كانت الصلاة تضاعف في المسجد الحرام كان لابد من بيان التربية من خلال اغتنام هذه الفرصة والحرص على الجماعة والصف الأول ... إلخ ولما كان لا يكاد يخلو وقت من أوقات الصلوات في المسجد الحرام من وجود جنازة ذكر المؤلف التربية الإيمانية من خلال تذكر حسن الخاتمة على الطاعات والدعاء للأموات والوقوف على المقابر والتفكر والاعتبار. ثم ختم فصول هذا الكتاب بالتربية الإيمانية في الاعتكاف في المسجد الحرام وما له من آثار تربوية. ولا شك أن الكتاب بالغ الأهمية للمربين في تربية النشء المسلم تربية إيمانية صادقة من خلال وجودهم بمكة. فحري بالمسلم المقيم في مكة والوافد عليها أن يقرأ هذا الكتاب ففيه بيان عملي لهذه التربية وخطواتها ومجالاتها حتى يخرج المسلم من هذه البلد وبعد أداء نسكه والقيام بعباداته بزيادة في الإيمان وتحصيل للتقوى، فيترك في نفسه بالغ الأثر

أحكام الأهلة والآثار المترتبة عليها

أحكام الأهلة والآثار المترتبة عليها عنوان الكتاب ... أحكام الأهلة والآثار المترتبة عليها اسم المؤلف ... أحمد بن عبدالله بن محمد الفريح الناشر ... دار ابن الجوزي - الدمام سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ نوع الكتاب ... بحث تكميلي تقدم به الباحث إلى معهد القضاء العالي لنيل درجة الماجستير، وكان بإشراف الدكتور محمد بن جبر الألفي، حيث سجل البحث في عام 1424هـ. التعريف بموضوع الكتاب: إن مما تميز به المسلمون هو اعتمادهم على الأشهر القمرية في حسابهم التاريخي، لا على الأشهر الشمسية، وقد ثبت أن هذا التاريخ أثبت وأدق من التاريخ بالأشهر الشمسية، ولما كان هذا الحساب مرتبطا ليس فقط بالتاريخ وحسب، بل له ارتباطات أخرى عديدة في شرعنا، من أحكام فقهية ومعاملات وما إلى ذلك، فقد أخذ هذا الموضوع أهمية كبيرة، ولكن قلما تجد كل ما يتعلق بهذا الموضوع مجموعا في مكان واحد، ولما كان الأمر كذلك، فقد قام المؤلف بالبحث عن كتاب مستقل يجمع شتات هذا الموضوع، وذكر أنه لم يجد، فقرر أن يكون هذا هو أصل بحثه الجامعي، فوضع منهجا للبحث من تصوير للمسائل تصويرا دقيقا لبيان المقصود من دراستها، مع ذكر الأدلة والأقوال في المسألة ومن قال بها من أهل العلم وتوثيق كل ذلك من المصادر الأصلية، مع الاستقصاء لأدلة هذه الأقوال وبيان وجه الدلالة والمناقشات والردود، والترجيح مع بيان السبب، ولم يغفل الباحث العناية بدراسة ما جدَّ من قضايا مما له صلة واضحة بالبحث، وقد بدأ المؤلف بحثه بتمهيد جيد في ستة مباحث: أولها كان في بيان حقيقة الأهلة لغة واصطلاحا، والثاني في مشروعية العمل بالأهلة حيث بين باختصار العمل به عند أهل الشرائع قبلنا، ثم العمل به في شرعنا، وثالثها في الأدعية المأثورة عند رؤية الهلال، وهو مبحث صغير وددنا من المؤلف لو توسع فيه أكثر مع استقصاء للأحاديث الواردة فيه وأقوال المحدثين عليها، أو اعتماد ما صح منها فقط، ورابعها في الفرق بين الشهر الشمسي والشهر القمري، وبين خصائص كل منهما، وخامسها أوضح فيه الفرق بين الهلال عند أهل الشرع والهلال عند الفلكيين والتي منها أن الشهر شرعا يبتدئ من رؤية الهلال بعد الغروب في أول مفارقته وضع الاقتران ومنها إثبات الابتداء، وسادس مباحث التمهيد وآخرها كان للحكمة من خلق الهلال. وبعد هذا التمهيد اللطيف، بدأت فصول الكتاب، والتي كان أولها: (أثر الأهلة في ثبوت دخول الشهر) حيث كان الكلام في هذا الفصل عن: (طرق ثبوت الشهر) والتي أولها: الرؤية وقسمها المؤلف إلى فروع: أولها الرؤية البصرية وبحَث فيه ثبوت الدخول برؤية الجم الغفير ثم برؤية عدلين ثم برؤية عدل واحد، وفي كل هذا سار على المنهج الذي ذكرناه له في البداية من ذكر الأقوال وأدلتها ومناقشاتها والترجيح وسببه، مع التوثيق للمراجع من الأصول وأمَّات الكتب والمصادر. ثم الفرع الثاني في (الرؤية عبر المراصد الفلكية) وقد عدد فيه المؤلف المراصد الفلكية في المملكة المعدة لهذا الغرض وهي ستة مراصد، ثم شرع في الكلام على حكم ثبوت الشهر عبر المراصد الفلكية. أما الفرع الثالث فهو في (الرؤية من خلال الطائرة) مرجحا جوازه بشروط ذكرها في كتابه. والفرع الرابع في (الرؤية عبر الأقمار الصناعية) وبين عدم الاعتداد به. أما ثاني الطرق في إثبات دخول الشهر فهو بـ (إكمال العدة) وهذا يكون عند: حدوث الغيم والقتر، أو بعدم رؤية الهلال رغم عدم وجود الغيم، وكل هذه المسائل ناقشها المؤلف وبين اختلاف العلماء فيها مع الترجيح. وأما ثالث الطرق في إثبات دخول الشهر (الحساب الفلكي) وفيه عرفنا المؤلف بطريقة الحساب والفرق بينه وبين التنجيم، ثم أتى إلى حكم العمل بالحساب ونقل نصوص الفقهاء في المنع من العمل بالحساب، ونقل أيضا الإجماع على ذلك. وبعدها انتقل المؤلف إلى مبحث جديد وهو (اختلاف المطالع وتوحيد الرؤية) حيث حرر محل النزاع في مسألة اختلاف المطالع ثم تكلم عن توحيد الرؤية. ثم انتقل بعدها إلى مبحث (ما له تعلق بالرؤية) شمل تسعة نقاط هي: القطع باستحالة الرؤية، والقطع بإمكان الرؤية، ومن اشتبهت عله الأشهر، ومسؤولية الإمام والإعلام، وأثر الخطأ في الرؤية، وارتباط الكسوف برؤية الهلال، ووقت الرؤية، وتوالي الغيم، والدعوة إلى الترائي. وبعد كل هذه المباحث أتى المؤلف إلى أهم الفصول وأصل البحث كله، وهو (أثر الأهله في الأحكام الشرعية) وجعله على مباحث: أولها في (أثر الأهلة فقه العبادات) فذكر أثر الأهلة في الزكاة وأثر الأهلة في الصيام وأثر الأهلة في الحج وأثر الأهلة الأشهر الحرم. وثاني المباحث في (أثر الأهلة في فقه الأسرة) كالبلوغ والطلاق والعدة والإيلاء والإحداد والحضانة والنفقة والحمد وميراث المفقود. وثالث المباحث في (أثر الأهلة في فقه المعاملات) في البيوع وفي السلم وفي الإجارة وفي المساقاة والمزارعة وفي المكاتبة. وأما رابع المباحث فكان في (أثر الأهلة في فقه الأيمان والنذور والكفارات) على نوعيها كفارة الظهار وكفارة القتل. ثم وكمبحث مكمل لهذا الكتاب، أدرج المؤلف فصلا خاصا في (طريقة العمل بالأهلة في المملكة العربية السعودية) بيّن فيه ما هو المعتمد في دخول الشهر وخروجه ولجان تحري الرؤية وهي مأخوذة من لائحة الأهلة التي أصدرتها وزارة العدل باسم (لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور العربية) وهي عبارة عما تقوم به اللجان المكلفة من وزارة الداخلية، وقد ذكر المؤلف ملاحظاته على هذه اللائحة في الحواشي في هذين المبحثين، ثم أتبع ذلك بمبحث فيه تطبيقات قضائية حول أثبات دخول الشهر. وبهذه الفصول المتميزة بالتوثيق من كتب الفقه المعتمدة من المذاهب المعتبرة، مع عدم إغفال الأدلة من الكتاب والسنة، ختم المؤلف الكتاب بخاتمة بأبرز النتائج جعلها في ثلاثين نقطة، لخص فيها بحثه القيم. فجزى الله خيرا مؤلفه ونفع الله به قارئه.

الدعاء في خطبة الجمعة حكمه وصوره

الدعاء في خطبة الجمعة حكمه وصوره عنوان الكتاب ... الدعاء في خطبة الجمعة حكمه وصوره اسم المؤلف ... سعود بن إبراهيم الشريم الناشر ... دار البشائر الإسلامية سنة الطبع ... ط1/ 1428هـ نوع الكتاب ... تأليف خاص، وهو كتيب من الحجم الوسط في 96 صفحة التعريف بموضوع الكتاب: في هذا الكتيب الصغير، جمع لنا فيه مؤلفه - جزاه الله خيرا - جل ما يتعلق بمسألة الدعاء في خطبة الجمعة والتي كان كثير من مباحثها مثار أخذ ورد بين بعض الفقهاء، فبدأ - حفظه الله - بحكم الدعاء عموما في خطبة الجمعة، وخلص فيه إلى استحباب الدعاء في الخطبة بشكل عام، مع نقله لكلام بعض الفقهاء من متقدمين ومعاصرين لحكم هذه المسألة سلبا أو إيجابا، ثم أخذ في بحث مسألة خاصة، وهي الدعاء للسلطان، أو ولي الأمر، سواء كان ذلك بالتصريح باسمه أو بغير تصريح، ورجح جواز ذلك مستشهدا بأقوال ثلة من العلماء والفقهاء، كما نقل كلام الأئمة أيضا بحرمة المبالغة والمجازفة في أوصاف السلطان والثناء عليه في هذا الدعاء، ثم ختم المؤلف رسالته اللطيفة بمبحث رفع اليدين في الدعاء في الخطبة، وهي مسألة دقيقة وحساسة مبينا بالأدلة جواز رفع اليدين في الدعاء عموما دون تخصيصه بخطبة الجمعة، ثم دخل في مسألة الرفع في الخطبة مرجحا بالدليل عدم مشروعية هذا الرفع حال الخطبة إلا إذا كان للاستسقاء، جمعا بين الأدلة وإعمالا لها كلها. ونود هنا أن نلفت انتباه القراء إلى أن للمؤلف، كتاب خاص في الخطبة هو (الشامل في فقه الخطبة والخطيب) والكتاب نافع جدا في بابه وهو كاسمه، شمل كل ما يتعلق بمسائل الخطبة الفقهية والفنية، وهو جدير بالقراءة، لمن له اهتمام أو ارتباط بالخطبة والخطابة.

التعامل المشروع للمرأة مع الرجل الأجنبي في ضوء السنة

التعامل المشروع للمرأة مع الرجل الأجنبي في ضوء السنة عنوان الكتاب ... التعامل المشروع للمرأة مع الرجل الأجنبي في ضوء السنة اسم المؤلف ... نبيلة بنت زيد بن سعد الحليبة تقديم ... عبدالله بن ناصر الشقاري، الأستاذ المشارك بقسم السنة وعلومها بجامعة الإمام بالرياض الناشر ... مكتبة الرشد - الرياض سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ نوع الكتاب ... نوع الكتاب: رسالة جامعية تقدمت بها الباحثة، لنيل شهادة الماجستير في جامعة الإمام بالرياض، بإشراف الدكتور: عبدالله بن ناصر بن محمد الشقاري، الأستاذ المشارك بقسم السنة وعلومها بجامعة الإمام بالرياض، وقد نوقشت الرسالة بتاريخ 2/ 1/1428هـ وحصلت على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بالطبع. وقد طبع البحث في مجلد واحد في 576 صفحة. التعريف بموضوع الكتاب: لا يخفى على أحد مدى انتشار اختلاط النساء بالرجال، سواء في العمل أو السوق أو غيرها من المرافق، والأمر في ازدياد - ولا حول ولا قوة إلا بالله-، وخاصة مع انتشار الدعوات الخبيثة والدعايات الزائفة التي تزين للنساء الخروج من خدرها، لاهثين وراء هتك الأستار ليطلعوا على سوءة العورات، ويخربوا البيوت العامرات، وتأتي أهمية البحث عموما وللنساء اللواتي يردن فعلا أن يكن على حيطة وحذر، ويظللن تحت ظل الشريعة السمحاء، فالكاتبة - جزاها الله خيرا - بينت في بحثها هذا ما يتعلق بتعامل المرأة مع الرجال الأجانب من النواحي الشرعية، بأسلوب علمي رصين، وبما أن البحث هو عن المرأة فقد أحسنت الباحثة باستهلال رسالتها وبحثها القيم، ببيان المكانة الرفيعة التي شرف الإسلام بها المرأة وحفظ لها كرامتها أيما حفظ، فبينت حقوق المرأة وواجباتها سواء كانت أما أو أختا أو زوجة أو بنتا، وسواء كان في إطار العلم أو العمل، كل ذلك بأدلة وافية من الكتاب والسنة. وبعد تلك المقدمة شرعت الباحثة في باب جديد أفردته لبيان الضوابط الشرعية لتعامل المرأة مع الرجل الأجنبي، مبتدئة بالكلام عن لزوم المرأة لبيتها، وأنه الأصل الذي جاءت به الشريعة الغراء، مع بيان متى لها أن تخرج من مخدعها ذاك، فكان من ضمن ما أوردته من ضوابط شرعية في هذا الباب هو التزام المرأة بالحجاب الشرعي وغض البصر، وكذلك ضوابط خروج المرأة من بيتها، والتحذير من الخلوة ومن المس والمصافحة، وأنهت الباب بفصل النهي عن الخضوع بالقول، مستدلة في كل فصل من الفصول السابقة بالأدلة الشرعية مع تخريج واف لكل حديث مع الحكم عليه، وهذا مما يزيد من قيمة البحث ويرفع درجته، وبعد هذا الباب الذي يعتبر مدخلا للباب الذي بعده وهو باب: مجالات تعامل المرأة مع الرجل الأجنبي في ضوء السنة، جعلت الباحثة كل مجال منها في فصل على حدة، فجاءت المجالات على الترتيب الآتي: التعليم، العبادات، السياسة والجهاد، العلاقات الاجتماعية، الرضاع، البيع والمهن، التقاضي والشهادة والشفاعة، إقامة الحدود، السفر. وكان نصيب هذه الفصول هو إبراز دور المرأة وخوضها هذه المجالات، مستشهدة في تلك الفصول بعصر النبوة الأولى وأن المرأة خاضت في زمنه صلى الله عليه وسلم كل هذه الميادين، دون أن ينكر عليها ذلك، فبينت أن المرأة كانت متعلمة فقد طلبت نساء الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرد لهن يوما ليعلمهن كما يعلم الرجال، وكذلك كانت المرأة معلمة، فها هن الصحابيات يعلمن الحديث وينقلن لمن بعدهن الشرع الذي تعلمنه، وكذلك الشأن في العبادات فقد كانت مصلية في المسجد بل ومعتكفة أيضا، وشاركت في رحلات الحج والعمرة، ولم يقف أمر النساء عند هذا بل خضن مشاق الهجرة، بل وبايعن النبي صلى الله عليه وسلم، بل وأكثر من ذلك كله، خاضت في أبعد الميادين عن طبيعتها، ألا وهو ميدان الجهاد، فقد ثبت عن أكثر من امرأة من الصحابيات خروجهن مع الرجال في الجهاد، بل منهن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين، وقد بينت الباحثة أن خوض النساء في ميادين السياسة والقضاء وأمثال ذلك لا يعني جواز توليها الولايات العامة فقد رجحت في فصل (السياسة والجهاد) أنه ليس لها شرعا تولي تلك الولايات العامة، ولا عضويتها في مجالس الشورى، كما تكلمت في فصل (التقاضي والشهادة) حكم تولي المرأة للقضاء. ومن المباحث الهامة في هذا الباب والجديرة بالمطالعة، الفصل الذي تكلمت فيه الباحثة عن العلاقات الاجتماعية، من زيارة أو عيادة أو تحية أو حديث وكلام وغير ذلك من الأمور الاجتماعية، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعد كل هذا العرض الشيق من الباحثة والمدعم كما أسلفنا بالأدلة والأحاديث المخرجة تخريجا تاما، ختمت الباحثة رسالتها بخاتمة لخصت فيها نتائج بحثها في عشرين نقطة. وإن مما يثمن جهد الباحثة ويبين قيمتها ليس فقط ما أشرنا إليه في هذا التعريف من جودة في الترتيب والتنسيق بل إن الناظر في الكم الكبير من المراجع التي ذكرتها الباحثة يعرف قدر الجهد التي بذلته، حيث بلغ عدد المراجع إلى أكثر من 280 مرجعا.

الاتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر وبلاد الشام

الاتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر وبلاد الشام عنوان الكتاب ... الاتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر وبلاد الشام اسم المؤلف ... محمد عبدالرزاق أسود المحقق ... بدون الناشر ... دار الكلم الطيب - دمشق سنة الطبع ... ط1/ 1429هـ نوع الكتاب ... نوع الكتاب: رسالة علمية لنيل شهادة الدكتوراة من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة قسم الشريعة الإسلامية، بإشراف الدكتور محمد نبيل غنايم، وقد نوقشت الرسالة في سنة 1426هـ، وطبعت سنة 1429هـ في 688 صفحة التعريف بمو ضوع الكتاب: يعتبر هذا السفر إضافة ثمينة للمكتبة الإسلامية في مجال الدفاع عن السنة وعلومها، فقد بذل المؤلف في رسالته هذه جهدا كبيراً مشكوراً، لا يخفى على كل من اطلع على الكتاب، فقد جاءت رسالته لتتناول ما يتعلق بدراسة السنة النبوية وعلومها في نحو قرن من الزمان، ممتد من عام 1325هـ إلى عام 1425هـ، ولا يخفى أن هذه الفترة الزمنية شهدت ثورة كبيرة في علوم السنة وظهور الكثير من المهتمين بها سواء في مجال الرواية أو مجال الدراية، وحتى في مجال التشكيك، وظهور الكثير من المؤلفات تحقيقاً وتصنيفاً، فكان اختيار الباحث لهذه الفترة اختياراً موفقاً، كشف لنا فيه عن تلك الاتجاهات التي انتشرت في هذا القرن. فبعد أن بدأ رسالته بعرض آراء العلماء حول تقسيم الاتجاهات في دراسة السنة النبوية رجح المؤلف تقسيمها إلى أربعة اتجاهات وهي: الأول: اتجاه جمهور علماء الحديث في دراسة السنة النبوية الثاني: الاتجاه السلفي ودراسته للسنة النبوية الثالث: الاتجاه العقلي ودراسته للسنة النبوية الرابع: الاتجاه المنحرف ودراسته للسنة النبوية بعد ذلك أخذ في الكلام عن كل اتجاه في باب مستقل، بتقسيم جيد لفصوله وأبوابه، محررا لكثير من الجزئيات المتعلقة بكل اتجاه. ففي الباب الأول بدأ بالتعريف باتجاه جمهور علماء الحديث، معرفا في البداية علم الرواية والدراية وأقسام دراسات علم الدراية من دراسات لتاريخ الحديث وتدوينه وغير ذلك، بل إنه لم يغفل ذكر الدراسات الخاصة بجهود المرأة في الحديث، ثم تكلم عن المعاجم والموسوعات والفهارس المتصلة بالعلوم الحديثية والدراسات عنها، ثم أفرد مطلباً لدراسات أصول الحديث ومصطلحه، أتبعه ببيان دراسات مناهج علماء الحديث وجهودهم فيه، سواءً ما كان متعلقاً بمحدث واحد أو منهج محدث في كتاب معين أو في أكثر من كتاب وهو مع كل هذا ينتقي نماذج من تلك الدراسات التي ألفت في هذا القرن، دون أن يذكرها كلها، وذكر أيضا بعض المؤلفات المتعلقة بدراسات مختلف الحديث ومشكله، ثم الدراسات المتعلقة بالجرح والتعديل وعلم الرجال، ثم المتعلقة بالمنهج النقدي عند المحدثين، وبعدها المتعلقة بعلم تخريج الحديث، ثم انتقل إلى الدراسات المتعلقة بعلم رواية الحديث من ناحية الرواة ومن ناحية المرويات، وكذلك الموسوعات والفهارس والأطالس المتصلة بالموضوع، متبعا له بمطلب في الدراسات المتصلة بحجية السنة والدفاع عنها وعن الصحابة، كما ذكر المؤلف في هذا الاتجاه الدراسات الفقهية المتصلة بالسنة والمتصلة بالصحابة والتابعين ومن بعدهم، وغيرها من الدراسات الفقهية المتعلقة بالحديث، وحتى الدراسات المتعلقة بالمباحث الأصولية واللغوية والأدبية في الحديث وعلومه. وبعد كل هذا الكم الكبير من المؤلفات، انتقل الكاتب إلى ذكر المؤتمرات والندوات المختصة بدراسة السنة النبوية وبين أنها بلغت منذ نهاية القرن الرابع عشر الهجري (38) مؤتمراً وندوة في السنة والسيرة النبوية، ذكرها جميعها مرتبة حسب تاريخ انعقادها، ومن المفيد أن نذكر هنا أن الباحث ذكر بعض المآخذ على هذه المؤتمرات والندوات، غير متغاض عن ميزاتها، ثم شرع في ذكر أهم تلك البحوث الناتجة عن تلك المؤتمرات والندوات، مقسما لها حسب اتجاهها بما يشبه ما ذكرناه سابقا في اتجاه جمهور علماء الحديث، ولكنه هنا أفرد الأبحاث المتعلقة بالسيرة النبوية لكثرتها، وبعدها انتقل إلى فصل جديد أفرده للأبحاث المحكمة المختصة بدراسة السنة النبوية، ذاكراً ميزاتها والمآخذ عليها، ومما يمتاز به هذا الفصل هو ذكره للأبحاث المختصة بالدفاع عن السنة والسيرة رداً على المستشرقين وحملاتهم التشكيكية مثل شبههم في نقد المتون أو كلامهم على الرواة أو على الكتب الحديثية، أو الطعن في الصحابة، وأما الفصل الرابع من هذا الباب، فهو من الفصول المميزة حيث جعله لدراسات الإعجاز العلمي في السنة النبوية، ولدراسات الهدي النبوي في الطب وهما موضوعان طالما كان لهما وزنهما في هذا العصر الذي تباهى فيه الغرب بعلومهم وتقنياتهم، فأتت هذه البحوث لتثبت لهم أن كثيراً مما يكتشفونه الآن مثبت عندنا منذ قرون، وتكلم أيضا المؤلف عن جهود المؤسسات العلمية المختصة بالإعجاز العلمي في السنة النبوية، كالهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وجمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فمن أراد الوقوف على المؤلفات والبحوث المتعلقة بموضوع الإعجاز وبموضوع الطب النبوي فعليه مراجعة هذا الفصل فإنه مكنوز بها. وبما أن الحديث كان عن الإعجاز والعلم، فكان من المناسب ذكر جهود المؤسسات العلمية ونتاج الحاسب الآلي ومواقع الشبكة الدولية للمعلومات، المختصة بالسنة النبوية، فلا غرو أن يكون لها نصيب من هذه الرسالة، فالتقنية الحديثة وخاصة الحاسب الآلي، مع ما انضاف إليه من برامج علمية، ثم الشبكة العالمية، فلا يجهل طالب علم ما تزخر به تلك الشبكة من مواقع تهتم بالسنة، وإذ الأمر كذلك فقد قام كاتبنا بالكلام عليها في فصل خاص بين فيه هذه الجهود وثمَّنها، فذكر نتاج تلك المؤسسات وبحوثها وبرامجها المتنوعة، وقد أفرد الكاتب مطلبا في الملاحظات والمآخذ على نتاج الحاسب الآلي المختصة بالسنة، ثم تحدث في فصل مستقل عن (أبرز مواقع الشبكة الدولية للمعلومات المختصة بالسنة) وكان منها موقع الدرر السنية وخاصة الموسوعة الحديثية، وإلى هنا انتهى كاتبنا من الاتجاه الأول، ودخل في التعريف بالاتجاه الثاني (الاتجاه السلفي ودراسته للسنة النبوية) وقد آثر المؤلف أن تكون دراسته لهذا الاتجاه بدراسة نموذج واحد لهذا الاتجاه فاختار الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله، فهو أبرز من ظهر في القرن الذي يدرسه كاتبنا، وليس هذا فحسب بل إن جهوده الكبيرة ومؤلفاته وتخريجاته تؤهله فعلا أن يكون نموذجاً لهذا الاتجاه، وقد ذكر الكاتب هذه الأسباب التي دعته لاتخاذ الشيخ نموذجاً ووصفه بـ (محيي علم السنة في بلاد الشام) ثم بدأ الكاتب بالتعريف بالاتجاه السلفي والمبادئ التي يقوم عليها وأبرز أعلامها والمتأثرين بهذا الاتجاه، ثم بين جهود الشيخ الألباني رحمه الله في السنة النبوية من خلال كتبه المطبوعة سواء التي ألفها الشيخ أو التي قام بتحقيقها أو أشرطته السمعية التي تم تفريغها وطبعت في كتب مستقلة، وأيضا من خلال كتب الشيخ المخطوطة تأليفا وتحقيقا، ثم بعد ذلك تكلم عن منهج الشيخ في كتبه ومقالاته، ووضع فصلاً في مناقشة العلماء لجهود الشيخ الألباني في السنة. وبعد هذا الفصل كان دور التعريف بالاتجاه العقلي ودراسته للسنة النبوية والتعريف بمبادئه وتأصيلاته، وأبرز أعلامه المعاصرين والمتأثرين بهذا الاتجاه، ثم ناقش أدلتهم في حجية خبر الآحاد وجعل مبحثاً كاملاً في أدلة العلماء في حجية خبر الآحاد والرد على أدلة الاتجاه العقلي، أما الفصل التالي فقد جعله في آراء أصحاب الاتجاه العقلي في الأحاديث النبوية والرد عليها، فذكر كلامهم في مسألة الشفاعة كنموذج لأحاديث العقيدة، ورأيهم في مسألة سحر النبي صلى الله عليه وسلم كنموذج لأحاديث السيرة، ورأيهم في مسألة حد الردة كنموذج لأحاديث الأحكام، وهذا كله يبين طريقة هذا الاتجاه في دراسته للسنة النبوية من خلال هذه النماذج، حيث يحكِّمون عقولهم - على اختلاف بينهم فيها - في توجيه الأحاديث أو نقدها ونقد أسانيدها أحياناً. وكان ختام الكتاب بالباب الرابع وهو للتعريف بالاتجاه المنحرف ودراسته للسنة النبوية، فكما في كل الأبواب السابقة، عرف هذا الاتجاه وجذوره ومبادءه وأبرز تياراته المعاصرة، مع ذكره لأهم مخاطر هذا الانحراف، وقد بين الكاتب جزاه الله خيراً أن جذور هذا الاتجاه كانت بداياتها من البعثات العلمية إلى أوربا ومن الغزو العسكري ومن الاستشراق كذلك، أما تياراته فهي: التغريبي والعلماني والماركسي والحداثي، كما بين مزاعم أصحاب هذا الاتجاه في عدم حجية السنة النبوية وشبهاتهم في هذا الزعم، والرد عليها بالأدلة وأقوال العلماء، وذكر أهم سماتهم وصفاتهم، ومما يميز هذا المبحث الأخير هو الرد عليهم في مزاعهم التشكيكية حول تدوين السنة النبوية وتأخر هذا التدوين وأنه من خلطهم بين مفهوم التدوين ومفهوم كتابة السنة. ثم في الختام وضع خاتمة لخص فيها أهم نقاط الرسالة، والكتاب في جملته فريد في بابه، واف في موضوعه، وإن كنا نود منه أن يكون له بعض الترجيحات الواضحة في بعض المسائل التي أبرز فيها أكثر من رأي أو أكثر من تعريف، ولكننا مع هذا لسنا ننقص من قدر الكتاب، ولا الكاتب جزاه الله خيرا، فقد بذل الكاتب جهدا كبيراً يشكر عليه، ويكفيك أن مراجع بحثه زادت على الـ 560 مرجعاً. وبعد هذا العرض المبسط للكتاب، يتبين مدى أهميته في المكتبة الإسلامية في توضيح الاتجاهات المنتشرة في دراسة السنة النبوية، وأنه أحد غنائمها، وقد تكون هذه الرسالة حافزا لطلاب الدراسات العليا لإكمال المسيرة في بيان الاتجاهات في غير مصر وبلاد الشام، كالجزيرة العربية والعراق والمغرب العربي.

§1/1