مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

سليمان الأشقر، عمر

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981 م مكتبة الفلاح - الكويت - ص. ب 4848

بسم الله الرحمن الرحيم (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) "اللهم اجعل عملي كلَّه صالحًا ولوجهك خالصًا ولا تجعل فيه لأحد شيئًا"

أمَل "وددت أنّه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلّم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيّات ليس إلا، فإنَّه ما أتى على كثير من الناس إلاّ من تضييع ذلك". عبد الله بن أبي جمرة ***

كلمة الافتتاح

كلمة الافتتاح إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله، وبعد: فإنَّ مقاصد العباد ونياتهم محلُّ نظر الباري جلَّ وعلا، فالعبادة ما لم تقم على المقاصد الشرعية فإنها تعدُّ في ميزان الله هباء تذروه الرياح، وسرابًا إذا جاء صاحبه في اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لم يجده شيئًا، ووجد الله عنده، فوفَّاه حسابه، والله سريع الحساب. ومقاصد العباد تحتاج إلى تقويم وتشذيب ورعاية وعناية، ذلك أن النيات تقع موقع الأرواح من الأعمال، وتقوم مقام جذور الشجرة من السوق والفروع والأغصان، فكيف يكون حال الأجساد إذا نزعت منها الأرواح؟ وكيف يكون حال شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؟ ومن يطالع الكتاب الكريم، وسنة المصطفى المختار بتدبر وتأمل يعلم أنَّ الدّين الإسلامي عني بإصلاح مقاصد المكلفين ونياتهم عناية تفوق اهتمامه بأي مسألة أخرى، ذلك أن الأعمال تصبح مظاهر جوفاء، وصورًا صمّاء إذا خلت من المقاصد الصادقة الحقة. وقد حمدت الله كثيرًا على أن وفقني جل وعلا إلى اختيار هذا الموضوع: "مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين" كي يكون مجال بحثي في الرسالة التي أعدّها لنيل 'جازة (الدكتوراه) في الفقه المقارن من كلية الشريعة بجامعة الأزهر. وقد ألزمت نفسي في بداية الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة متدبرًا متأملاً، حتى إذا وقفت على النصوص التي تتصل بالموضوع عدت إلى ما تركه السلف الصالح من

كنوز خيرة تتحدث عن هذا الموضوع وتجليه. لم أشكُّ، والحمد لله من قلَّة المادة العلمية، فمباحث النيات من أوائل المسائل التي يتناولها العلماء والباحثون بالبسط والإيضاح، لأهميتها، ولأنَّ الترتيب الفقهي المنطقي يحتّم كون النيات في طليعة المسائل الفقهية. ومن الملاحظ أنَّ علماءنا الأوائل كانوا يفصِّلون في المباحث الأولى التي يتناولونها تفصيلا، لأنَّ عزائمهم في البدايات تكون قويَّة، وهممهم لا تزال تتطلع إلى تجلية الحقائق واستقصاء المسائل. إلا أن الذي عانيت منه كثيرًا تضارب الآراء واختلافها، وقد أحوجني ذلك إلى كثرة ترديد النظر في الحجج والبراهين التي يوردها المتنازعون، وقد أكثرت من الاستشهاد بنصوص الأدلَّة القرآنية والحديثية، كي أصل إلى النتيجة السليمة التي يطمئن لها القلب وترضى بها النفس، وهذا منهج أحرص عليه دائمًا، فهدي المسلمين الذي علمناه أن يقتفي التابعون نهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين ولا يُخْرَج عن أقوالهم بحالٍ من الأحوال. لم أكتف وأنا أقلِّب الكتب بالمطبوع منها، بل بذلت جهدي في الحصول على المخطوطات التي لم تر النور بعد، وصورت ونسخت ما تيسر لي منها، وبقيت مخطوطة (¬1) حرصت حرصًا شديدًا على الحصول عليها، وطال التطلاب لها ولم أعثر على مكانها إلا مد فترة وجيزة، فقد اطلعت على فهارس المكتبة العامة في المغرب الأقصى، فوجدتها ضمن خزانتها العامرة، فبادرت بطلبها ولم تصلني بعد. لقد نظرت في موضوع البحث فهديت إلى أنَّ البحث ينبغي أن يكون في مقدّمة وبابين: أما المقدمة فتعدُّ مدخلاً لا بدَّ منه للبحث، وقد عقدت لها ثلاثة مباحث، حدَّدت في الأول منها موضوع الرسالة من خلال تعريفي لمكونات عنوان الرسالة، فقد عرفت القصد والنية بإلقاء الضوء على معناهما اللغوي والاصطلاحي، وعرفت التكليف ¬

_ (¬1) هي "الأمنية في النية" للقرافي المالكي.

والمكلفين، وبينت مفهوم العبادة وحدودها وأصلها ومعناها، واصطلاح الفقهاء فيها. وقد خلصت إلى أنَّ موضوع الرسالة جزء من إرادات المكلفين، هو تلك الإِرادة الجازمة التي تتجه نحو أعمال شرعية معينة، هي العبادات دون غيرها لتحقيقها وإيجادها. وفي المبحث الثاني أوردت الأدلة النقلية والعقلية التي لا تبقي مجالاً للشك والارتياب في أنَّ القصود معتبرة في العبادات والتصرفات، وقد أوردت في هذا المبحث الاعتراضات على تلك الأدلة ودحضتها بالحجَّة والبرهان. أمّا المبحث الثالث من المقدمة فقد حوى فضائل المقاصد وعظيم أجرها. والناظر فيه ببصيرة سيعلم خطر هذا الموضوع وسيمضي -إن شاء الله تعالى- في العناية بمقاصده بجدّ وعزيمة وقادة يرنو من وراء ذلك إلى تحصيل ذلك الفضل العظيم الذي يحققه المصلحون لمقاصدهم. وقد عنونت للباب الأوّل بعنوان "النيّات"، ذلك أنَّ النيَّة هي المصطلح الذي ارتضاه الفقهاء، واستعملوه في مباحثهم، وقد مهدت للباب بإيضاح السبب الذي انقسم البحث -من أجله- إلى بابين: ذلك أنَّ المقاصد تتوجه إلى أمرين دائمًا، الأول: الفعل الذي تريد تحقيقه وإحرازه، وهذا خصصنا لمباحثه الباب الأول. والثاني: الغاية البعيدة التي يريدها القاصد من وراء عمله، فالإنسان لا ينطلق إلى العمل ما لم يلمح فيه ما يدعوه إلى فعله، وقد يطلق العلماء على هذا اسم الدافع أو الغاية، والمتأمل في نصوص الكتاب والسنَّة يعلم أنَّ خير ما يعنون له به اسم "الإِخلاص"، ومن أجل ذلك ارتضيناه على سواه. والباب الأوّل انتظم بعد التمهيد في ستة فصول: في الفصل الأول حققت القول في أنَّ مكان النيَّة القلب، وفاقا لأهل السنة، لا الدماغ كما تقوله العزلة ومن تابعهم من الفقهاء، وعرضت لمفهوم القلب، ورجحت أن المراد به تلك اللطيفة الربانية المتعلقة بالقلب الجِسْماني، وليس هو القلب الجسماني نفسه كما فهمه بعض العلماء.

وبحثت في هذا الفصل عدة مسائل تدور حول التلفظ بالنية: الأولى: حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب. الثانية: مخالفة اللسان لما نواه المرء في قلبه. الثالثة: حكم الجهر بالنية. الرابعة: حكم التلفظ بها همسًا. وقد بينت في كل مسألة منها آراء الفقهاء وأدلتهم والمناقشات التي وردت عليها، وأبرزت الرأي الراجح، والأدلة التي اقتضت رجحانه. وعقدت في الفصل الأوّل مبحثًا هامًّا للقصد المجرد الذي لم يتحقق في واقع الأمر، ذلك أنّه قد شاع عند كثير من العلماء أنَّ القصد المجرد لا عقوبة عليه، وإن بلغ مرتبة العزم الجازم. وخصصت الفصل الثاني بالمباحث التي تتعلق بوقت النيّة في كلِّ عبادة من العبادات، وقد طال البحث في وقت نيّة الصيام بسبب الخلاف الذي دار حول جواز الصيام بنيّة متأخرة من الليل. والفصل الثالث يتحدث عن صفة النيّة في كلِّ عادة من العبادات، وفيه أيضا ردٌّ على الذين يقولون بوجوب الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة حين الإحرام، وعلى من قال بوجوب استحضار قضايا الاعتقاد، وقد سبب القول بذلك إشكالات لا نزال نرى آثارها عندما ندخل بيوت الله لدى بعض المسلمين. وتناولت في الفصل الرابع شروط النية الثمانية، وضممت لكلَّ شرط من الشروط المسائل التي تتعلق به، وهي مسائل كثيرة، حاجة الناس إليها شديدة لكثرة وقوعها ودورانها. وتعرضت بالبحث والبيان لحكم العبادات التي فقدت هذه الشروط وبهذا نكون قد استغنينا عن عقد فصل مستقلٍّ لبيان مبطلات النيَّة ومفسداتها، وسنجد في الفصل الخامس عرضًا لمذاهب العلماء وآرائهم والراجح منها في مسألة النيابة في النية.

وفي هذا الفصل مسألة أخرى شديدة الارتباط بموضوع الفصل وهي إهداء ثواب العبادة للأموات، وقد ثار حول هذه المسألة جدل شديد في الماضي ولا يزال. وفي الفصل الأخير فصَّلت القول في العبادات التي تفتقر إلى النيَّة، والعبادات التي لا تفتقر إليها، وقد طال البحث والتقصي في لزوم النية لطهارتي الغسل والوضوء، ولعلي أكون قد وفرت على الباحث في هذا جهدًا ليس بالقليل إن شاء الله تعالى. وفي ختام الفصل مبحث متواضع عقدته لبيان حكم النيَّة في العبادات، أهي ركن أم شرط. وقد انتظمت مباحث الباب الثاني في أربعة فصول يسبقها تمهيد. التمهيد قصدت به بيان عظم الغاية وأهميتها، وبينت هنا أنَّ الغاية التي يتصورها الِإنسان هي المحرِّك له دائمًا إلى الفعل، ولذلك كانت الغايات التي تستقر في القلوب والنفوس ذات تأثير شديد في حياة الأفراد والجماعات. وفي التمهيد تفريق بين المقاصد الطبعية والشرعية. والفصل الأول مخصص لبحث الغاية التي يريد الإسلام إقرارها في النفوس، وهي الغاية التي ينبغي أن ترتسم في ذهن كل إنسان لتصلح الحياة والأحياء، وإذا ضلَّت عنها البشرية وقعت في مستنقع آسن، لا تغني عنها بعد ذلك حياة الترف، ولا نعيم الدنيا. وقد وضحت الأسباب المنطقية والعقلية والشرعية التي تجعل هذه الغاية هي الأمر الحتمي الذي لا غنى عنه. وكان لزامًا علَّي في الفصل الثاني أن أبين الزيف الذي أحاط بالغاية الإِسلامية التي أقرها الشارع ودعانا إليها، وذلك ببيان المفهومات الخاطئة التي كانت تشوه الغاية وتطمس معالمها. وعقدت الفصل الثالث لبيان المقاصد السيئة التي تزاحم الإخلاص وتضاده، وقد تناولت أربعة منها وهي: الهوى، والرياء، وقصد الاطلاع على العوالم المغيبة، والهروب من العبادة.

ولم أغفل حين بحثت هذه المقاصد أن أسلِّط الضوء على العلاج الذي يشفي متعاطيه من هذه الأدواء. وفي ختام الفصل وضحت الأمر الضابط لمقاصد المكلفين. وفي الفصل الرابع والأخير تحدثت عن مدى تأثير المقاصد في المباحات والمحرمات والمبتدعات، وتحدثت عما يسمى بالنية الحسنة التي يظن كثير من الناس أنها تجعل العمل السيء عملا مشروعا مقبولا. وقد ختمت الرسالة بملحق قصدت فيه إيراد إيضاحات مهمة تتعلق بالحديث الذي يكثر دورانه لدى الباحثين في المقاصد وفي كتاباتهم، وهو حديث "إِنمّا الأعْمَالُ بِالنيَّاتِ". وبعد: فإنني لا أدعي أنني بلغت الغاية التي ينبغي أن يصل البحث إليها، ولكنني أقول لقد بذلت ما في وسعي، وأعطيت البحث الكثير من وقتي وفكري، ولم يكن دوري دور الجامع المدون لآراء الفقهاء، ولم أكن حاطب ليل يسير على غير هدى، لقد كنت حريصا على أن أعرف أبعاد القضايا التي أتناولها، وكنت أجتهد في معرفة آراء الفقهاء بأدلتها، كما كنت أبذل الجهد في التعرف على مأخذهم من الأدلة، وأناقش الأدلة التِى أرى أن الاستدلال بها غير سديد، لضعف الدليل أو لعدم صلاحيته للاستدلال على تلك المسألة. وفي كثير من الأحيان حررت محلّ النزاع، كما كنت معنيًّا بترجيح الأقوال، حتى لا أترك القارىء حائرًا لا يدري ما يأخذ وما يدع. وإذا كان في هذه المباحث زلة جاءت من قصور في البحث، أو من غفلة القلب، أو من حيرة الفكر، فأنا عائد إلى الحق عندما يتبدى لي -بحول الله وقوته- أسرع من رجع الصدى، فالحقُّ قديم، والرجوع إليه خير من التمادي في الباطل، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها. وفي الختام أوجه الشكر إلى كلِّ من قدَّم لي عونًا، أو أسدى إليَّ يدًا وأخصُّ منهم فضيلة الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق الذي كان له فضل السبق في

الإشراف على هذه الرسالة، وفضيلة الشيخ عبد الجليل سعد القرنشاوي الذي ارتضى الإشراف عليها بعد أن حولت إليه، فجزاهما الله عني خير الجزاء عمّا قدماه لي من توجيه وتقويم ونصح وإرشاد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عمر سليمان الأشقر مدينة نصر القاهرة 15 من ربيع الأول 1400 هـ 2 من فبراير 1980م

المقدمة

المقدمة المبحث الأول: تحديد موضوع المبحث. المبحث الثاني: الأدلة على أنَّ المقاصد معتبرة في العبادات والتصرفات. المبحث الثالث: فضل المقاصد.

المبحث الأول تحديد موضوع البحث

المبحث الأول تحديدُ مَوضُوع البَحث 1 - تعريف القصد والنيّة، وبيان حقيقتهما 2 - التكليف والمكلفون 3 - العبادة وحدودها

تعريف القصد

تعريف القصد يستعمل العلماء القصد والنيَّة بمعنى واحد. وفي هذا المبحث سنلقي ضوءًا على المعنى اللغوي والاصطلاحي لهاتين الكلمتين. أصل "ق ص د" ومواقعها في لغة العرب: "الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور. والقصد استقامة الطريق، والقصد الاعتماد والأمّ" (¬1). فالقصد على ذلك نوع من الإرادة تبلغ في قوتها درجة الاعتزام، والإرادة لا تكون عزمًا ما لم تكن جازمة، والمتأمل في كلام العلماء يلحظ أنَّهم يذهبون إلى أنَّ القصد أعلى درجة من العزم، فالعزم عندهم قد يكون على فعل في المستقبل، وهذا العزم قد يضعف أو يحول، أما القصد عندهم فلا يكون إلا إذا كانت الإرادة جازمة مقارنة للفعل أو قريبة من المقارنة، ولذا فإنَّ العلماء يقولون: لا فرق بين النيّة والقصد، وكثير من العلماء يرى أنَّ النية لا بدّ أن تقارن المنوي (¬2). ¬

_ (¬1) لسان العرب، وتاج العروس، مادة (قصد). (¬2) سيأتي تحقيق القول في هذا، وسأرجح أنَّ القصد والنيَّة والعزم في درجة واحدة من القوة، فالمرء قد ينوي فعل أمر حاضر، أو فعل أمر مستقبل.

تعريف النية

تعريف النيّة ّلمّا كانت النيّة والقصد متقاربين في المعنى، وكانت النيَّة هي اللفظة التي كثر استعمالها لدى الفقهاء للدلالة على القصد خصصناها بمزيد من المبحث والنظر. الاشتقاق اللغوي: النيّة مصدر نوى الشيء ينويه نيّة ونواه، وأصلها نِوْية بكسر النون وسكون الواو، ووزنها فِعْلة، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء. فالنيَّة على ذلك واوية العين يائية الفاء، قال الشاعر: (¬1) صَرَمَتْ أمَيْمةُ خُلَّتيِ وَصِلَاتيِ ... وَنَوَتْ وِّلمَا تَنْتَوي كَنَواتيِ والنيّة مؤنث النوي، فالنيّة والنوي معناهما واحد (¬2). وذهب الماوردي (¬3) إلى أنَّ النيَّة مصدر نأى ينأى، بمعنى بعد، لاختصاصها بأنأى أعضاء الجسد، وهو القلب (¬4)، وما ذهب إليه بعيد عن الصواب، لأنَّ عين نأى ¬

_ (¬1) العيني على البخاري (1/ 23). (¬2) تهذيب اللغة (15/ 556)، وانظر لسان العرب مادة (نوي) (3/ 751) ومراد الشاعر في قوله: ونوت ولما تنتوي كنواتي، لم تنو فيَّ كما نويت في مودتها. راجع لسان العرب في الموضع المشار إليه. (¬3) هو علي بن حبيب الماوردي، ولد في البصرة، وانتقل إلى بغداد، وتوفي بها سنة (450 هـ)، عالم باحث له تصانيف منها: (أدب الدنيا والدين)، (والأحكام السلطانية)، و (الحاوي) في فقه الشافعية، اشتغل بالقضاء، وجعل أقضى القضاة في أيام القائم بأمر الله العباسي. (شذرات الذهب 3/ 285)، (وفيات الأعيان (3/ 282)، (الأعلام 5/ 146). (¬4) نهاية الإحكام (ص 7).

همز، وعلى ذلك فمصدرها النأي، وإجماع أهل اللغة على أنَّ عين (نيّة) واو (¬1)، ثم إننا لا نقول: نأيت كذا بمعنى نويته. والنِيَة بالتخفيف لغة في النيّة (¬2)، قال صاحب اللسان: "النيَّة بالتشديد هي النِيَة مخففة" (¬3). ويبدو أنَّ لام الكلمة حذفت على هذه اللغة، وقد أبعد بعض شراح الحديث عندما ذهب إلى أنَّ "النِيَة" بالتخفيف مصدر "ونى، يني"، إذا أبطأ وتأخر، وعلّلوا ذلك بأنَّ النيّة تحتاج في توجيهها وتصحيحها إلى إبطاء وتأخير (¬4). ولم يرتض المحققون من الشرّاح هذا القول وردّوه، يقول العيني: (¬5) "هذا بعيد، لأنَّ مصدر ونى يني ونيًا، قال الجوهري: يقال ونيت في الأمر أني ونيًا، أي ضعفت، فأنا وان" (¬6). وفي اللسان: "ونى يني ونيا وونيّا، وونى فهو وان" (¬7). والنيَّة وإن كانت مصدرًا، فإنهَّا تجمع على نيَّات باعتبار تنوعها، فقد تكون النيَّة فعلية موجودة، أو حكمية معدومة. أو باعتبار مقاصد الناوي؛ يقول الطيبي مبينا ما يمكن أن ينويه من أراد أن يفعل شيئًا: "فنيّة العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل؛ ونيَّة الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونيَّة أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونيَّة العلماء إقامة الطاعات .. " (¬8). ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة (15/ 556). (¬2) المصدر السابق. (¬3) لسان العرب (3/ 751). (¬4) نقل هذا العيني في شرحه على البخاري (1/ 23)، والصنعاني في العدة (1/ 56). (¬5) هو محمود بن أحمد بن موسى العيني الحنفي، أصله من حلب، وولد في (عينتاب) سنة (762 هـ)، من كتبه: (عمدة القاري في شرح صحيح البخاري)، و (مغني الأخيار في رجال معاني الآثار). توفي عام (855 هـ). (شذرات الذهب 7/ 286)، (الأعلام 8/ 38). (¬6) العيني على البخاري (1/ 23). (¬7) لسان العرب (3/ 990). (¬8) دليل الفالحين (1/ 54)، وفيض القدير (1/ 34).

مدلول "النيّة" في لغة العرب: الذي ينظر في استعمال العرب لهذه الكلمة يجد أنهَّا تدور في تصاريفها على القصد. فنجدهم يقولون: "نوى الشيء ينويه نيَّة ونِيَة .. وانتواه: قصده ونوى المنزل، وانتواه كذلك". ويقولون: "نواك الله بالخير قصدك به، وأوصلك إليه، وقال أعرابي من بني سليم لابن له سمّاه "إبراهيم": ناويت به إبراهيم، أي قصدت قصده، فتبركت باسمه". ويقولون: "فلان ينوي وجه كذا، أي يقصده من سفر أو عمل، وفي حديث عروة بن الزبير (¬1) في المرأة البدوية يتوفى عنها زوجها أنَّها تنتوي حيث انتوى أهلها". وقد يريدون بالنيّة الشيء المقصود إليه: "والنيَّة الوجه الذي يذهب فيه"، وقد يراد بها الشيء الذي يصاحبه القصد أو يسبقه. "والنوى: التحول من مكان إلى مكان، أو من دار إلى غيرها، كما تنتوي الأعراب في باديتها" (¬2). وقد يراد بالنيّة في اللغة: العزم، يقول صاحب المصباح المنير: "خُصَّت النيّة في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور" (¬3). ويقول صاحب اللسان: "نويت نيّة ونواة، أي عزمت، وانتويت مثله" (¬4). ¬

_ (¬1) هو عروة بن الزبير بن العوام، تابعي جليل، وأحد فقهاء المدينة السبعة، اعتزل الفتن التي جرت بين المسلمين، ولادته ووفاته في المدينة (22 - 92 هـ). (¬2) لسان العرب، مادة: "نوي". وما ذكره صاحب اللسان عن عروة ليس حديثًا مرفوعًا، بل ليس من قول عروة ابن الزبير، بل هو قول ابنه هشام، وقد أخرجه الإمام مالك في موطئه، عن هشام بن عروة بن الزبير من قوله، باب الطلاق (رقم 89 ص 366). (¬3) المصباح المنير (ص 632). (¬4) لسان العرب مادة "نوي".

النية في الاصطلاح

النيَّة في الاصطلاح 1 - تعريف النية بالعزم والقصد: ذهب جمع من العلماء إلى تعريف النيّة بمدلولها اللغوي، فمن هؤلاء النووي (¬1) رحمه الله، قال: "النيّة هي القصد إلى الشيء، والعزيمة على فعله، ومنه قول الجاهلية: نواك الله بحفظه، أي قصدك به" (¬2). ¬

_ (¬1) هو يحيى بن شرف النووي الشافعي، ولد في قرية (نوا) من قرى حوران سنة (631 هـ)، وبها توفي عام (676 هـ). كان علامة بالفقه والحديث، تعلم في دمشق، وأقام بها زمنا طويلا، من كتبة (شرح صحيح مسلم)، و (المجموع شرح المهذب)، و (رياض الصالحين)، وهي كتب لا غنى للعالم وطالب العلم عنها. (طبقات الحفاظ ص 510)، (شذرات الذهب 5/ 354)، (تذكرة الحفاظ 4/ 1470). (¬2) مواهب الجليل (2/ 230) وفيض القدير (1/ 30)، وذكر النووي في (المجموع) أنَّ ابن الصلاح أنكر أنَّ العرب تقول: نواك الله بحفظه، وعلل قوله: بأنَّ القصد مخصوص بالحادث لا يضاف إلى الله تعالى (المجموع 1/ 367). وهنا قضيتان: الأولى في ثبوت ذلك عن العرب، وهذا لا يجوز إنكاره؛ فإنَّ الثقات نقلوه عنها وأثبتوه، راجع أساس البلاغة للزمخشري، والمغني لابن قدامة (1/ 111)، وفيض القدير (2/ 230)، ومواهب الجليل، ولسان العرب، معاجم اللغة. والثانية: ليس جواز إطلاق ذلك على الله تعالى، فهذه يتوجه إنكار الشيخ أبي عمرو لها، وحجته في هذا القاعدة التي ينص عليها علماء التوحيد أن الأسماء والصفات توقيفية، فلا يجوز أن نطلق على الله صفة أو اسما لم يرد في الكتاب والسنة، إلا أنَّ بعض العلماء يرى أن هذا ليس من باب الأسماء والصفات، بل هو من باب إضافة الأفعال، والعجيب أنَّ الشيخ أبا عمرو رحمه الله أجاز ذلك في شرحه على مسلم، فتناقض قوله، يقول النووي رحمه الله: "هذا الذي أنكره أبو عمرو غير منكر، وأبو عمرو ممن اعتمده، فإنَّه في القطعة التي اعتمدها من أول صحيح مسلم. وذكر نصّ قول الشيخ أبي عمرو هناك وهو "يقدم عل هذا أنَّ الأمر في إضافة الأفعال إلى الله تعالى واسع، لا يتوقف فيه على توقيف، كما يتوقف عليه في أسماء الله تعالى وصفاته، ولذلك توسع الناس في ذلك في خطبهم وغيرها"، (المجموع 1/ 367).

ومنهم القرافي (¬1) -رحمه الله- قال: "هي قصد الِإنسان بقلبه ما يريده بفعله" (¬2). وقال الخطابي (¬3) رحمه الله: "النيَّة قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له، وقيل: عزيمة القلب" (¬4). وتعريف النية بالقصد والعزم مذهب قوي يدلّ عليه أنّه مدلول الكلمة في لغة العرب، فالقصد والعزم على ذلك قسمان للنية، وقد خصَّ إمام الحرمين العزم بالفعل المستقبل، والقصد بالفعل الحاضر المتحقق، يقول في ذلك: "النية إن تعلقت بفعل مستقبل فهي عزم، وإن تعلقت بفعل حاضر سميت قصدا تحقيقيا" (¬5). ويرى ابن قيم الجوزية (¬6) -رحمه الله تعالى- أنَّ النية هي القصد بعينه، إلاّ أنَّ بينها وبين القصد فرقين: أحدهما: أنَّ القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وبفعل غيره، والنية لا تتعلق إلاّ بفعل نفسه، فلا يتصور أن ينوي الرجل فعل غيره، ويتصور أن يقصده ويريده. ومن هذه الزاوية يكون القصد أعمَّ من النيّة. ¬

_ (¬1) هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المصري المالكي، أخذ عن العز بن عبد السلام، وعن ابن الحاجب، له مؤلفات نافعة مثل (التنقيح في الأصول)، و (شرح المحصول)، و (الذخيرة) في الفقه. توفي في عام (684 هـ)، وكانت ولادته سنة (626 هـ). (معجم المؤلفين 1/ 158). (¬2) الذخيرة (1/ 134)، مواهب الجيل (2/ 230). (¬3) هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي، فقيه محدّث، من نسل زيد بن الخطاب، له كتاب (معالم السنن)، و (غريب الحديث) - ولد في سنة (319 هـ)، وتوفي في (بست) من بلاد (كابل) سنة (388 هـ). (طبقات الحفاظ ص 403)، (الأعلام 2/ 204). (¬4) (العيني على البخاري (1/ 3)، منتهى الآمال. (¬5) نهاية الإحكام (ص 7). (¬6) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، عالم فقيه أديب مجاهد مصلح، تتلمذ على ابن تيمية، وانتصر له، وسجن معه بدمشق، من مصنفاته -وهي كثيرة جدا- "إعلام الموقعين"، و"مدارج السالكين". ولد في سنة (691 هـ) وتوفي في سنة (751 هـ). شذرات الذهب (8/ 434)، (الأعلام 1/ 189).

الثاني: أنَّ القصد لا يكون إلاّ بفعل مقدور يقصده الفاعل، وأمّا النيّة فينوي الإِنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه، ولهذا في حديث أبي كبشة الأنماري (¬1)، الذي رواه أحمد (¬2) في مسنده، والترمذي (¬3) في سننه، وغيرهما، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي في ماله ربَّه، ويصل رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل عند الله. وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علمًا، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه فذلك بشر منزلة عند الله. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أنَّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيَّته، وهما في الوزن سواء" (¬4). يقول ابن القيم معقبا على الحديث: "فالنيّة تتعلق بالمقدور عليه، والمعجوز عنه، بخلاف القصد والإِرادة، فإنهَّما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعل غيره" (¬5). فالنيَّة بناء على هذا أعمّ من القصد. ¬

_ (¬1) هو سعيد بن عمرو بن سعيد صحابي، نزل الشام، له أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن. راجع (الكاشف 3/ 370). (¬2) هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله، إمام المذهب الحنبلي، وأحد الأئمة الأربعة، له موقف مشهود في التصدي للذين قالوا بخلق القرآن، أصله من (مرو)، وولد بغداد سنة (164 هـ)، ورحل في طب العلم، وألّف، وصنف، من كتبه (المسند)، توفي في بغداد سنة (241 هـ). (طبقات الحفاظ ص 186)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 29)، (الكاشف 1/ 68). (¬3) هو محمد بن عيسى الترمذي، نسبة إلى (ترمذ) على نهر جيحون، من أئمة علماء الحديث، وكتابه (السنن) أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث، ولد في (ترمذ) سنة (209 هـ) وبها توفي سنة (279 هـ). (تهذيب التهذيب 9/ 387)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 447)، (طبقات الحفاظ 9/ 387). (¬4) بدائع الفرائد لابن القيم (3/ 189)، والحديث رواه أحمد (4/ 230 - 231)، والترمذي كتاب الزهد (17)، وقال حديث حسن صحيح، وابن ماجه (2/ 1413). (¬5) بدائع الفرائد (3/ 189).

وفريق آخر من العلماء لا يمانع في تعريف النية بالقصد والعزم إلاّ أنّه لا يرى أنَّ القصد والعزم قسمان للنيّة، بل قسيمان (¬1) لها، وتعريفها بهما من باب "التوسع في الاستعمال، فإنَّ النية والعزم والقصد متقاربة المعاني" (¬2). وقد جعل القرافي النية والقصد والعزم والمشيئة ... من أقسام الإرادة (¬3)، وممن قال بذلك النووي فهو يقول: "الِإرادة والنية والعزم متقاربة، فيقام بعضها مقام بعض مجازا" (¬4). وقد رفض الكرماني (¬5) -رحمه الله- تعريف النية بالعزم، فقد نقل في شرحه لصحيح البخاري تعريف الِإمام النووي للنية: "والنية هي القصد وعزيمة االقلب"، ثم قال: "أقول ليس هو عزيمة للقلب"، وحجته ما قرره المتكلمون من أنَّ "القصد إلى الفعل هو ما نجده في أنفسنا حال الإيجاد، والعزم قد يتقدم عليه، ويقبل الشدَّة والضعف، بخلاف القصد" (¬6). والذي دعا الكرماني إلى رفض تعريف النية بالعزم أمران كما هو واضح من كلامه: الأول: أنَّ النيَّة يجب أن تقارن الفعل، ولا يجوز أن تتقدم عليه، والعزم قد يكون مقارنا، وقد يتقدم على الفعل. الثاني: أنَّ عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد. ¬

_ (¬1) هناك فرق بين قسمان وقسيمان، فالمراد بقسمان: أن العزم والقصد جزآن للنية، أما المراد بكونهما قسمين أي أن القصد والعزم والنية أقسام لكلمة أعم منها هي الإرادة. (¬2) نهاية الأحكام للسيوطي نقلا عن القرافي في (الأمنية) (14/ أ). (¬3) منتهى الآمال (14/ أ). (¬4) المجموع (1/ 367). (¬5) هو محمد بن يوسف بن علي الكرماني، أصله من كرمان، واشتهر بغداد، وأقام بمكة، له الكوكب الدراري شرح صحيح البخاري)، و (شرح مختصر ابن الحاجب)، ولد سنة (717 هـ) توفي بغداد سنة (786 هـ). (معجم المؤلفين 12/ 129)، (بغيه الوعاة 1/ 279). (¬6) الكرماني على البخاري (1/ 18)، ونقله عن العيني (1/ 23)، وانظر منتهى الآمال (13/ أ، ب).

وما ذهب إليه من أنَّ النية يجب أن تقارن الفعل، ولا يجوز أن تتقدمه، ليس له دليل عليه، فالعرب تطلق النيَّة على الفعل الحاضر المتحقق، كما تطلقها على الفعل المراد إتيانه مستقبلا، وقد سقنا فيما مضى قول إمام الحرمين (¬1) الذي يجعل النية شاملة للأمرين، وممن ذهب هذا المذهب الزركشي (¬2) في قواعده، فقد عدّ النيَّة مطلق القصد، يقول: "النية ربط القصد بمقصود معين، والمشهور أنَّها مطلق القصد إلى الفعل" (¬3). ولعل الذي حدا بالكرماني إلى القول بأن النية لا بد أن تكون مقترنة بالفعل ولا يجوز تقدّمها هو ما تقرر لديه من وجوب مقارنة النيّة لأول العبادة، وهذه مسألة ليست اتفاقية كما سيأتي تحقيقها (¬4)، فغاية ما يمكن أن يقال: إنَّ اشتراط اقتران النية بالفعل اصطلاح خاص لطائفة من العلماء، وليس لهم أن يلزموا غيرهم بقولهم هذا. ويردُّ ما فرق به ثانيًا من أنَّ العزم يقبل القوة والضعف، فهو أمر زائد على أصل النية- أن مدلول العزم والنيّة في اللغة متقارب، وقد نبَّه إلى ذلك العيني رحمه الله، فقد نقل تعقيب الكرماني على النووي، وخطأه في رفضه تفسير النيّة بالعزم، ثم قال: "العزم هو إرادة الفعل والقطع عليه، والمراد من النيّة هنا هذا المعنى، فلذلك فسَّر النووي القصد الذي هو النيّة بالعزم فافهم". ¬

_ (¬1) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي، ولد قرب نيسابور سنة (419 هـ)، ورحل إلى بغداد فمكة والمدينة، وعاد إلى نيسابور ليدرس في المدرسة النظامية حيث كان يحضر درسه أكابر العلماء، وتوفي في نيسابور سنة (478 هـ)، له مصنفات كثيرة. (شذرات الذهب 3/ 358)، (الأعلام 4/ 306). (¬2) هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، فقيه شافعي، عالم بالأصول، تركي الأصل، مصري المولد والوفاة (745 - 794 هـ)، له كتاب القواعد المسمى (بالمنثور)، وكتاب: (إعلام المساجد بأحكام المساجد)، (الأعلام 6/ 286). (¬3) منتهى الآمال (13/ ب). (¬4) انظر الباب الأول: فصل "وقت النيّة". ص: 163.

2 - تعريف النية بأنها الإرادة

ونقل عن "الحافظ أبي الحسن علي بن فضل المقدسي (¬1) أنه جعل النيَّة في أربعينه والِإرادة والقصد بمعنى" (¬2). 2 - تعريف النية بأنَّها الإرادة: عرف بعض السابقين النيّة بالِإرادة، وهذا غير صحيح لأنَّ الإرادة أعمّ من النيّة من ناحيتين: الأولى: من ناحية معناها، فالإِرادة تشمل النية وغيرها، وقد عدَّ القرافي أقسام الِإرادة فكانت ثمانية، والنيَّة واحدة منها، فالإرادة إذا اطلقت تشمل النية وغيرها، فتعريف النية بالإرادة على ذلك تعريف غير مانع. الثانية: أن النية لا تتعلق إلاَّ بفعل الناوي، والِإرادة تتعلق بفعله وفعل غيره، كما نريد معونة الله تعالى وإحسانه، وليست فعلنا (¬3). ويوجد فرق ثالث بينهما -أشرت إليه فيما مضى- إذ النيَّة تتعلق بالمقدور عليه والمعجوز عنه، ولا تتعلق الِإرادة إلاَّ بالمقدور عليه، وهذا يجعل النية أعمّ من الإرادة من هذه الحيثية. وإذا كانت الِإرادة أعمّ من النيَّة فإنَّه يجوز تعريف النيَّة بها إذا قيدت بما يخصصها بها دون غيرها، وهذا ما قاله ابن عابدين: "النيّة: العزم، والعزم هو الِإرادة الجازمة القاطعة، والإرادة صفة توجب تخصيص المفعول بوقت وحال دون غيرهما، أي ترجح أحد المستويين، وتخصصه بوقت وحال، أي كيفية وحالة ¬

_ (¬1) هو علي بن الفضل بن نصر الحافظ الجوال أبو الحسن البلخي، قال الخطيب: ثقه حافظ، صاحب غرائب، توفي في بغداد سنة (323 هـ). راجع: (تاريخ بغداد 12/ 47)، (تذكرة الحفاظ 3/ 87)، (طبقات الحفاظ ص 356). (¬2) العيني على البخاري (1/ 23). (¬3) القرافي، نقله عنه السيوطي في منتهى الآمال (13/ ب، 14/أ).

3 - تعريف النية بالإخلاص

مخصوصة، وبه علم أنَّ النية ليست مطلق الإرادة بل هي الإِرادة الجازمة" (¬1). ولا تثريب على من سلك هذا المسلك في تعريف النيَّة، كما فعل الجرجاني حيث يقول: "العزم جزم الإرادة بلا تردد" (¬2). وعرفها دراز (¬3) بقوله: "هي حركة تنزع بها الِإرادة نحو شيء معين لتحقيقه أو إحرازه" (¬4). 3 - تعريف النيّة بالإِخلاص: يأبى بعض العلماء أن يعرف النيّة بالإخلاص، ويعدُّ "الإخلاص أمرا زائدا على النيّة، لا يحصل بدونها، وقد تحصل بدونه" (¬5)، وهؤلاء يجعلون الإخلاص صفة في النية، فالإِخلاص هو تلك النيّة المتجهة لله وحده دون سواه، والنية قد تكون كذلك وقد لا تكون. ويرى آخرون أنَّ النيَّة هي تلك الإرادة التي تقصد الفعل، أمّا الإِخلاص فهو تلك التي تقصد الوجه بالفعل إلى الله، يقول الشيخ عماد الدين الإسنوي (¬6) رحمه الله: "الفرق بين النية والإخلاص هو أن النيَّة تتعلق بفعل العبادة، وأمّا إخلاص النية في العبادة فيتعلق بإضافة العبادة إلى الله تعالى" (¬7). والحق الذي تدل عليه الأدلة أن النية تطلق ويراد بها قصد العبادة، ويراد بها ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: (1/ 304). (¬2) التعريفات: (ص 10). (¬3) محمد عبد الله دراز عالم فاضل، له مؤلفات كثيرة، مولده ووفاته في مصر، وكانت وفاته في عام 1958. (¬4) دستور الأخلاق ص 421. (¬5) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 20). (¬6) هو محمد بن الحسن بن علي الإسنوي، ولد (بإسنا) "مصر" سنة (695)، وتفقه بالقاهرة والشام، واستوطن حماة، ثم عاد إلى القاهرة، وتوفي بها سنة (764 هـ)، من مؤلفاته: (حياة القلوب)، و (المعتبر في علم النظر). راجع (شذرات الذهب 6/ 202)، (الأعلام 6/ 319). (¬7) منتهى الآمال (25 /أ).

4 - تعريف النية بأنها عمل القلب ووجهته

قصد المعبود، بل دلالة النيّة على المعنى الثاني أوضح وأظهر كما في الحديث "إنّما الأعمال بالنيات" (¬1)، وبذلك يصح قول من قال:"وإخلاص الدين هو النية" (¬2)، وتخصيص النيّة بالِإرادة المتوجهة إلى العبادة لا يعدو أن يكون اصطلاحا خاصًّا لبعض العلماء، أما لغة العرب ونصوص السنة فلا تدلان على تخصيصها بذلك. 4 - تعريف النية بأنَّها عمل القلب ووجهته: يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "النية عمل القلب" (¬3) وعرفها التيمي (¬4) بأنَّها "وجهة القلب" (¬5). وتعريفها بذلك ليس مباينًا لتعريفها بالقصد والعزم، إذ القصد والعزم عملان من أعمال القلوب، إلا أن تعريفها بهما تعريف غير مانع، لأن وجهة القلب وعمله قد لا يكون إرادة، فقد تكون وجهة القلب وعمله رغبة، أو رهبة، أو حبا، أو كراهية، وما أشبه ذلك، وقد تكون إرادة، والإرادة قد لا تكون نيّة كالهمّ، والشهوة، والمشيئة، وقد تكون نيَّة: قصدا أو عزما. فتعريف النية بأنَّها عمل القلب أعم من المعرف. ¬

_ (¬1) الحديث مخرج في ملحق الكتاب. ص: 519. (¬2) مجموع الفتاوى (26/ 31). (¬3) بدائع الفوائد (3/ 192). (¬4) هو سليمان بن بلال التيمي مولاهم المدني أحد علماء البصرة، قال ابن سعد: كان بربريا جميلا حسن الهيئة عاقلا، وكان يفتي، وولي خراج المدينة، وكان ثقة كثير الحديث مات سنة (172 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب4/ 175)، (الكاشف 1/ 391). (¬5) الكرماني على البخاري (1/ 18).

فإذا قيد التعريف بما يميزه عما عداه فلا غبار على التعريف به، وهذا ما فعله القاضي البيضاوي (¬1) عندما عرَّف النية بقوله: "النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرّ حالا أو مالا" (¬2). ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن عمر الشيرازي البيضاوي، نسبة إلى المدينة التي ولد بها (البيضاء) بفارس، ولي قضاء شيراز مدة، ثم رحل إلى تبريز، وتوفي بها سنة (685 هـ)، من مؤلفاته: (تفسيره) المشهور، و (موضوعات العلوم وتعاريفها) راجع (البداية والنهاية 13/ 309)، (الأعلام 2/ 249). (¬2) الكرماني على البخاري: (1/ 18)، العيني على البخاري (1/ 23)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 30)، فيض القدير (1/ 30)، والعلماء يستحسنون تعريف البيضاوي ويتناقلونه.

النية شرعا

النيّة شرعًا هل نقل الشارع النية من معناها اللغوي إلى معنى شرعي يخصها؟ يجيب جماهير العلماء بالإيجاب. فالقاضي البيضاوي -رحمه الله- يعرِّف النية لغة، ثم يقول: "والشرع خصّها بالِإرادة والتوجه نحو الفعل ابتغاء لوجه الله -تعالى- وامتثالا لحكمه"، ثمَّ يقول: "والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي". وهذا الذي ذهب إليه القاضي البيضاوي تابعه عليه أكثر العلماء من بعده ناقلين ومقررين له (¬1). ومن حق الباحث أن يسأل عن المعنى الذي نقل إليه اللفظ. وأستطيع أن أقرر بعد التأمل في التعريفات التي أوردوها أنَّ لهم في هذا مذهبين: الأول: يقول "إنَّ المصطلح الشرعي للنية "قصد الشيء مقترنا بفعله" (¬2)، فهؤلاء يرون أنَّ النية في اللغة تطلق على القصد المقارن للفعل المتحقق، وعلى قصد الفعل الذي سيكون مستقبلا، فجاء الشارع وخصَّ النيَّة بالقصد المقترن بالفعل. وقد سبق أن بينت أنَّ الذين قالوا بهذا القول ليس لهم دليل يعضد ¬

_ (¬1) من الذين تابعوا القاضي البيضاوي على قوله ابن حجر العسقلاني والمناوي والسيوطي، والكرماني، والسندي، والشوكاني، وصاحب دليل الفالحين والطيبي، وصاحب التوضيح من الحنابلة. راجع: الفتح (1/ 13)، وفيض القدير (1/ 30)، ونيل الأوطار (1/ 148)، والكرماني على البخاري (1/ 18)، وحاشية السندي على النسائي (1/ 59)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 30)، والتوضيح (ص25)، ودليل الفالحين (1/ 52). (¬2) القسطلاني على البخاري (1/ 52).

مذهبهم، ويبدو أنَّ الذي ألجأهم إلى القول بذلك ما قام في نفوسهم من وجوب اقتران النيَّة بالعمل، وهو مذهب بعض العلماء في الصلاة والزكاة والحج ... ، فلما تقرَّر ذلك عندهم مذهبا وطريقا عمموا ذلك، وقالوا: لا بدَّ للنيّة -في اصطلاح الشرع- من أن تقترن بالفعل وإلا لم تكن نيَّة. وسيأتي تحقيق القول في هذه المسألة، وحسبنا أن نعلم هنا أن ما قرروه ليس أمرا اتفاقيا بل مختلف فيه. الثاني: أنَّ النيَّة في اللغة شاملة لقصد الفعل ابتغاء وجه الله، أو لمنفعة دنيوية وعرض زائل، فخصصها الشارع بالتوجه نحو الفعل ابتغاء مرضاة الله، وهذا يشعر به كلام القاضي البيضاوي ومن تابعه. وما ذهبوا إليه هنا يحتاج إلى نظر وتأمل، فالنية كما قرروا فعل من أفعال القلوب، وأفعال القلوب كأفعال الجوارح لم ينقل الشارع مسمّاها عن الاسم اللغوي إذا قصد بها وجه الله تعالى. لم ينقل الشارع حركة البدن بالسجود لله عن مسمّاها بالسجود للصنم، بل الكلّ سجود. ولم ينقل حركته بالطواف لله عن مسمّاه بالطواف للصنم، بل الكلّ باق على مسماه اللغوي. كل ما يمكن أن نقوله: السجود والطواف لله مأمور بهما، والسجود لغير الله والطواف بصنم منهيّ عنهما، وكذلك بالنسبة للنية التي هي حركة القلب وانبعاثه فإنها باقية على مسمّاها اللغوي لم ينقلها الشرع ولا خصصها، بل بين أن ما كان منها لله فهي المطلوبة المحبوبة، وما كان منها رياء وسمعة فهي مكروهة ممقوتة، وقد تنبَّه إلى هذا الصنعاني (¬1) ورجحه (¬2). ومما يؤيد هذا القول أن الذين قالوا بأنَّ ¬

_ (¬1) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني المعروف بالأمير، محدث فقيه أصولي متكلم من أئمة اليمن، له (سبل السلام شرح بلوغ المرام)، (والعدة) حاشية علي (إحكام الأحكام لابن دقيق العيد)، ولد عام (1099 هـ)، وتوفي عام 1182 هـ. (معجم المؤلفين 9/ 56)، (الأعلام 6/ 263). (¬2) العدة علي إحكام الأحكام (1/ 57).

للنية معنى شرعيا غير المعنى اللغوي -عندما فسّروا لفظ "النية" التي وردت في الأحاديث- لم يستطيعوا أن يحملوها على المعني الشرعي الذي افترضوه، بل حملوها على المعنى اللغوي، يقول القاضي البيضاوي عند تفسيره لحديث "إنَّما الأعمال بالنيّات" (¬1): "والنيَّة في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده" (¬2). وهذا متحتم في كل الأحاديث التي ورد فيها لفظ النية (¬3)، كحديث "إنَّما يبعث المقتولون على نيّاتهم" (¬4). وحديث: "ربَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيَّته" (¬5). وحديث: "من غزا ولا ينوي إلاَّ عقالا فله نيته" (¬6). ولا يمكن حمل هذه الأحاديث على المعنى الشرعي الذي فرضوه، بل إنَّ هؤلاء أنفسهم حملوها على المعنى اللغوي، فالصواب -إن شاء الله تعالى- أنَّ الشارع استعمل "النيَّة" في معناها اللغوي، ولم يضع لها معنى اصطلاحيا خاصا. وقد نص على هذا التحقيق الذي قررناه هنا أحمد الحسيني (¬7) من المتأخرين قال: "قول الفقهاء في تعريف النية: هي القصد، وشرعا قصد الشيء مقترنا بفعله، ليس المراد منه أنَّ هذا المعنى "القصد" خاص باللغة، وليس مستعملا في ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما وانظر تخريجه في ملحق الكتاب. ص 519 (¬2) ذكر قبل قليل من خرج هذا القول، باستيعاب ص 32. (¬3) إعمال الفكر والروايات (ص 4)، وقد انتصر المؤلف لهذا القول وأطال الكلام عليه. (¬4) صحيح البخاري (كتاب الصوم 6)، في صحيح مسلم (فتن 8)، الترمذي (فتن 10)، ابن ماجه (فتن 30، زهد 26). (¬5) مسند أحمد (1/ 397). (¬6) رواه أحمد في مسنده، (5/ 135، 320، 329)، والدارمي (جهاد 23). (¬7) هو أحمد بن أحمد بن يوسف الحسيني، محام من فقهاء الشافعية ولد وتوفي بالقاهرة (1271 - 1332 هـ)، له كتاب (مرشد الأنام)، شرح فيه قسم العبادات من كتاب الأم في (24 مجلدا)، وله كتب كثيرة غيره، منها: (نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام). (الأعلام 1/ 90)، معجم المؤلفين 1/ 157).

الشرع، بل هو مستعمل فيه، فكثيرا ما يستعمل لفظ النيّة في لسان الشرع مرادا منه القصد، كقولهم: تجب نيّة الصوم، فالنيّة فيه بمعنى قصد الصيام قبل دخول وقته الذي أوله طلوع الفجر، وهو العزم الذي هو أحد نوعي القصد الذي هو بمعنى النيَّة، فهذا المعنى شرعيّ أيضا" (¬1). ثم بين أن المعنى الشرعي هو المعنى اللغوي وليس مختصا بالشرع، قال: "قولهم: وشرعا قصد الشيء مقترنا بفعله؛ ليس المراد منه أنَّ هذا المعنى غير لغوي، كيف وهو أحد نوعي القصد المتقدم، وكثيرا ما تستعمل العرب لفظ النيّة مرادا به المعنى المذكور" (¬2). ثم يقرر بوضوح لا لبس فيه ما توصلنا إليه في ما سلف فيقول: "فهو "أي المعنى الشرعي"، لغوي وليس معنى جديدا مخترعا شرعا، وإنَّما نسبته إلى الشرع من حيث إنه معتبر في جميع أنواع العبادات ما عدا الصيام ... " (¬3). ¬

_ (¬1) نهاية الإحكام (ص 8، 9). (¬2) نهاية الإحكام (ص 8، 9). (¬3) المصدر السابق.

موقع النية من العلم والعمل

موقع النية من العلم والعمل (¬1) القصد حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يَقْدُمه، لأنّه أصله وركنه، والعمل يتبعه، لأنَّه ثمرته وفرعه. فالقصد حالة لا بدَّ منها لإيجاد الفعل، والقصد له متعلقان: الأول: الفعل المراد تحقيقه، فالقصد يجعله اختياريا كالهويّ إلى السجود مثلا، فإنه تارة يكون بقصد، وتارة يسقط الِإنسان على وجهه بصرعة أو صدمة. الثاني: المعنى الذي كان من أجله الفعل، والقصد يكون بمعنى العلّة التي وجد الفعل من أجلها، فيكون القصد هنا الانبعاث لإجابة الداعي والباعث، فالذي يقوم مختارا قد يكون قصده القيام احتراما لإنسان قادم، وقد يقصد الوقوف تعظيما لله في الصلاة، وقد يقصد تناول شيء ما، فالقيام لا يخلو عن باعث يدعو إلى تحقيقه، فالقصد هنا إجابة ذلك الداعي المحرك إلى الفعل. والعلم لا بد منه كي يتحقق القصد بمعنييه، فالقصد إلى الفعل لا يكون ما لم يكن الفعل المراد معلوما، فالذي لا يعلم أنَّ في الصلاة وقوفا وركوعا وسجودا كيف يتأتى منه أن يقصد ذلك؟ والقصد بمعنى الباعث يستدعي العلم أيضا، فإنَّ الغرض إنما يكون باعثا في حقِّ من علم الغرض، فمن لا يعلم معنى الاحترام والتعظيم لا يمكنه أن يقوم لغيره على نيَّة الاحترام والتعظيم. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (4/ 365)، منتهى الآمال (15/ ب)، تحسين الطوية (2/ ب)، إعمال الفكر والروايات (ص 3).

وقد بيَّن الغزالي افتقار القصد إلى العلم فقال: "يحتاج الِإنسان إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه ودفع الضار المنافي عن نفسه، فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا، ويهرب من هذا، فإنَّ من لا يبصر الغذاء ولا يعرفه لا يمكنه أن يتناول، ومن لا يبصر النّار لا يمكنه الهرب منها، فخلق الله الهداية والمعرفة، وجعل لها أسبابا وهي الحواس الظاهرة والباطنة ... " (¬1). ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (4/ 365).

جنس النية في الموجودات

جنس النيّة في الموجودات هل النيّة من جنس العلوم والاعتقادات؟ أو من جنس الِإرادات والعزوم؟ أو حقيقة مركبة منهما؟ ذهب بعض الشيعة (¬1) إلى أنَّ النيَّة من جنس العلوم، وخالف بعضهم، أمّا أهل السنة فيكادون يجمعون على أنَّ النية من جنس الِإرادات والعزوم، يدلّ على ذلك ما سقناه من قبل في تعريف النية حيث فسروها بأنها القصد أو العزم أو الِإرادة، وممن نص على ذلك صراحة القرافي -رحمه الله- قال: "والنيَّة من باب العزوم والِإرادات، لا من باب العلوم والاعتقادات" (¬2)، ويقول ابن تيمية: (¬3) "والنية من جنس القصد والِإرادة" (¬4) ويقول الطيبي من الأحناف: "النية معنى وراء العلم فهي نوع إرادة كالقصد" (¬5)، وقد فسر صاحب الهداية النية قائلا: "النيَّة هي الإرادة والشرط أن يعلم بقلبه أيّ صلاة يصلّي" (¬6)، فلم يرق هذا لبعض الشراح بحجة أن اشتراط العلم "ينزع إلى تفسير النية بالعلم وهو غير صحيح" (¬7). ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك منهم نصير الدين الطوسي (انظر كتاب تجريد الاعتقاد بشرحه القول السديد لمحمد المهدي). (¬2) الذخيرة (1/ 235)، والنووي أقر عبارة القرافي (نهاية الأحكام ص 35). (¬3) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ولد بحرّان سنة (661 هـ)، وانتقل مع أبيه إلى دمشق صغيرا، برع في علوم النقل والعقل، وكان مجاهدا ورعا، لا يخاف ولا يهاب، جاهر بالحق، بالحق، وأوذي، ومات بالسجن في دمشق، سنة (728 هـ)، له مصنفات كثيرة تبلغ مائتي مجلد، وقد طبعت فتاويه في الرياض بالسعودية في (37) مجلدا. (طبقات الحفاظ ص 516) (شذرات الذهب 6/ 81) (الأعلام 1/ 140). (¬4) مجموع الفتاوى (18/ 251)، شرح "إنما الأعمال" له أيضا (ص 12). (¬5) البحر الرائق (1/ 25). (¬6) حاشية على فتح القدير (1/ 186). (¬7) فتح القدير (1/ 186).

هل للإنسان سلطان على نيته وقصده

ولا أرى مأخذا على ما ذهب إليه صاحب الهداية فقد نصَّ على أنَّ النيَّة هي الِإرادة، وكون الناوي لا بد أن يعلم ما سينويه صحيح، لأنَّ النية وإن كانت إرادة وقصدا إلاّ أنها لا يمكن أن تحصل أو تقع مع الجهل، فالنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله فلا بد أن ينويه ضرورة، وإذا جهل الأمر فكيف ينويه؟ أمّا القول بأنَّ مطلق العلم بالشيء نية فهو خطأ بيِّن، وإلّا لزم من علم الكفر أن يكون كافرا، مع أنَّ الذي ينوي الكفر كافر (¬1). هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده هل يمكن للِإنسان أن يوجّه نيته الوجهة التي يريد، إذا شاء أن يكون مخلصا؟ وهل يتحقق ذلك تلقائيا؟ يقول الغزالي: (¬2) "اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرناه من الوصيّة بتحسين النيّة وتكثيرها مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأعْمَالُ بالنيّاتِ" فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله: نويت أن أدرس لله، أو آكل لله. ويظنّ أنَّ ذلك نيّة، وهيهات! فذلك حديث نفس، وحديث لسان وفكر أو انتقال من خاطر إلى خاطر، والنية بمعزل من جميع ذلك، وإنما النيَّة انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أنَّ فيه غرضها إمّا عاجلا وإمّا آجلا، والميل لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام، وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلانا وأحبه وأعظمه بقلبي، فذلك محال" (¬3). ¬

_ (¬1) راجع حاشية ابن عابدين (1/ 304 - 305). (¬2) هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي، ولد في خراسان سنة (450 هـ)، ونبغ في علوم عدة، وألف في فنون كثيرة، وأشهر كتبه (إحياء علوم الدين)، و (المستصفى) في الأصول، و (تهافت الفلاسفة). توفي عام (505 هـ) في بلده التي ولد بها. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 9/ 168)، (معجم المؤلفين 11/ 266). (¬3) إحياء علوم الدين (4/ 373).

وممن نصَّ على هذه الحقيقة وأدركها العلامة ابن خلدون (¬1)، قال: "الأعمال الظاهرة كلُّها في زمام الاختيار، وتحت طوع القدرة البشرية، وأعمال الباطن في الأكثر خارجة عن الاختيار متعاصية على الحكم البشري، إذ لا سلطان له على الباطن" (¬2) (¬3). فإذا كان العبد ليس له سلطان على نيته، فكيف يؤمر بأن يوجهها توجيها معينا؟! كيف يأمرنا الشارع بالِإخلاص ويجعله أعظم التكاليف الشرعية؟! ونحن نعلم أنَّ شرط التكليف أو سببه قدرة المكلف على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا، وإن جاز عقلا!! ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد الإشبيلي الحضرمي، فيلسوف مؤرخ، عمل في شؤون الدولة، وولي قضاء المالكية في مصر، اشتهر بكتابه: (العبر وديوان المبتدأ والخبر)، وتعد مقدمة الكتاب مرجعا هاما في علم الاجتماع، بل الكتاب الأول في هذا العلم، ولد في سنة (732 هـ)، وتوفي في سنة (808 هـ). (الأعلام 4/ 106). (¬2) شفاء السائل (ص 26). (¬3) إلا أن العلماء المحدثين اليوم يجادلون في صحة هذه النظرية، ويرون أن الإنسان يستطيع التحكم في كثير من الأمور التي كان يظن أنها (لا إرادية)، ففي عام 1962 اخترع (بيتر لانج) من جامعة (بيتسبرج) جهازا يسمح للإنسان بأن يتابع التغير في معدل ضربات قلبه على شاشة، طلب (لانج) من الأشخاص الذين يجري عليهم تجاربه؛ أن يتحكموا في معدل نبضهم بحيث يبقى عند حد معين، معتمدين على إراداتهم فقط، فحصل على نتائج مدهشة. وفي عام (1965) استطاع العالمان (ايلمد وجرين) من مؤسسة (فينجار) في ولاية كانساس) تدريب النساء والأطفال على تغيير حرارة الكف بالاعتماد على التحكم الإرادي في البدن، وقد ساعد على سرعة تعلم هذه القدرة جهاز يقرأ عن طريقه الشخص موضوع التجربة التغييرات التي تحدث في درجة حرارة الكف. عن طريق هذا الجهاز استطاع بعض هؤلاء الوصول إلى هذه المقدرة بعد عدة أيام .. ، وفي بعض الأحيان بعد عدة ساعات ... وقد قادت هذه الأبحاث الرائدة، إلى آلاف التجارب في جميع أنحاء العالم في المستشفيات ومراكز البحث العلمي والطبي والجامعات، وتم ابتكار العديد من الأجهزة المساعدة التي تظهر للشخص ما يحدث من تغيير في العمليات الحيوية (اللاإرادية) داخل جسمه .. ، وأثبتت هذه التجارب قدرة الإنسان على التحكم الإرادي في وظائف الجسم (اللاإرادية) ... ، وهذه الكشوف تستدعي أن نعيد النظر في بعض النظريات التي أصبحت لدينا مسلمة لا تقبل الجدل على الرغم أنه لم يدل عليها دليل شرعي صحيح (راجع مجلة العربي الكويتية عدد ذي الحجة 1396، ديسمبر 1976 ص 42).

أجاب الشاطبي (¬1) عن هذه القضية ووضحها قائلا: "إذا ظهر من الشارع في بادىء الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه، فقول الله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2)، وقوله في الحديث: "كُنْ عَبْد الله المَقْتولَ، ولاَ تكُنْ عَبْدَ الله القَاتِلَ" (¬3)، وقوله: "لا تَمُتْ وأنْتَ ظَالِم"، وما كان نحو ذلك، ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة، وهو الإسلام وترك الظلم والكفّ عن القتل والتسليم لأمر الله تعالى، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل" (¬4). وعلى ذلك فيكون التكليف بتوجيه العبد نيتة إلى الإِخلاص وقصد الله دون سواه باكتساب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، بأن يتعرف على الله، ويتملى في بديع صنعه، وعظيم نعمه، ويتعرّف إلى صفاته، وينظر في عظيم ثواب الطائع، وعظيم عقوبة العاصي، وينظر في الفوائد التي تعود عليه من الطاعات في الدنيا والآخرة، فعند ذلك تنبعث النفس إلى العمل بطاعة الله صادقة مخلصة. وإذا كان الغالب على العبد أمر الدين، وامتلأ قلبه بحب الله وخوفه ورجائه سهل عليه استحضار النيَّة، لأن قلبه مائل إلى الخير باستمرار، أما الذي يميل قلبه إلى الدنيا دائما فإنّه يصعب عليه الإخلاص. ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، أصولي حافظ من أئمة المالكية، له كتاب (الموافقات)، وكتاب (الاعتصام)، توفي سنة (790 هـ) (الأعلام1/ 71)، (معجم المؤلفين 1/ 128). (¬2) سورة آل عمران/ 102. (¬3) رواه أحمد في مسنده (5/ 101). (¬4) الموافقات (2/ 78).

التكليف

التكليف المكلفون جمع مكلف، والتكليف في اللغة: إلزام ما فيه كلفة أي مشقة، يقول صاحب القاموس المحيط: "التكليف الأمر بما يشقّ، وتكلفه: تجشمه. وقال: ألزمه إياه فالتزمه". قالت الخنساء (¬1) في أخيها صخر: يُكَلِّفه القَوْمُ مَا نَابَهُمْ ... وإنْ كان أَصغرَهُمْ مَوْلِدًا والمكلفون من المخلوقات ثلاثة أصناف: الملائكة والِإنس والجنُّ. ومرادنا هنا: البحث في مقصاد المكلفين من الإنس دون غيرهم. وليس كلُّ الإنس مكلفين، فالمكلفون منهم هم البالغون العقلاء الذين بلغتهم الدعوة. وقد ذكر الآمدي (¬2) اتفاق العقلاء على أنَّ شرط التكليف أن يكون عاقلا فاهما، لأنَّ التكليف خطاب، وخطاب من لا يعقل ولا يفهم محال، كالجماد والبهيمة (¬3). وشبيه بالجماد والبهيمة: المجنون والصغير الذي لا يميز، فهذان وإن وجد لهما أصل الفهم لأصل الخطاب، فليس عندهما فهم لتفاصيل الخطاب: من كونه أمرا أو نهيا، ومقتضيا للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى، وأنّه واجب الطاعة. ¬

_ (¬1) هي تماضر بنت عمرو بن الحارث الرياحية السلمية، أشهر شواعر العرب، وأشعرهن على الإطلاق، أدركت الإسلام فأسلمت وحسن إسلامها. (الأعلام 2/ 69). (¬2) هو علي بن محمد بن سالم التغلبي أصولي باحث، ولد في (آمد) من ديار بكر سنة (551 هـ)، وتعلم في بغداد والشام، واشتهر في القاهرة، وتوفي في دمشق سنة (631 هـ). له نحو عشرين مصنفا، أشهرها (الإحكام في أصول الأحكام). (شذرات الذهب 5/ 144)، (التكملة لوفيات النقلة 6/ 90)، (الأعلام 5/ 153). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 115).

فلما تعذر ذلك من المجنون والصغير استحال تكليفهما. أما الصبي المميز -وإن كان له فهم- فإنَّ فهمه غيركامل، ومن رحمة الله أنّه لم يكلفه حتى يكتمل عقله. ولما كان العقل والفهم خفيين، ولا يظهران دفعة واحدة، بل يبدوان على التدريج، فقد جعل الشارع ضابط العقل: البلوغ، وفي الحديث: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ المَجْنُونِ المَغْلُوب عَلَى عقْلِهِ حتى يَبْرأَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبَيِّ حَتَّى يَحْتَلِم" (¬1). ولما كان النائم والناسي والغافل لا يتأتى منهم الفهم كانوا غير مكلفين حال اتصافهم بذلك، لأن القصد لا يتأتى منهم في هذه الأحوال. "ووجوب الزكاة والغرامات في مال الصبي والمجنون ليس تكليفا لهما، وإنما معناه أنَّ الإِتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمتهما، بمعنى أنه سب لخطاب الولي بالأداء في الحال، وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ، وهذا ممكن" (¬2). والكفار مكلفون مخاطبون بفروع الشريعة على الصحيح، ولكنّ العبادات لا تصح منهم حال كفرهم. ¬

_ (¬1) قال السيوطي لا تخريج هذا الحديث: هذا حديث صحيح، أخرجه أبو داود بهذا اللفظ، من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه من حديث علي وعمر بلفظ: (عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يعقل). وأخرجه أيضا عنهما بلفظ: (عن المجنون حتى يفيق)، وبلفظ: (عن الصبي حتى يحتلم)، وبلفظ (حتى يبلغ) وذكر أبو داود أن ابن جريج رواه عن القاسم بن يزيد عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فزاد فيه "والخرف". وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس، وشدّاد بن أوس، وثوبان، وأخرجه البزار من طريق أبي هريرة. قال السيوطي: قد ألّف السبكي في شرح هذا الحديث كتابا سماه: "إبرار الحِكَم من حديث: رفع القلم". (الأشباه والنظائر للسيوطي ص 212)، وانظر صحيح الجامع (3/ 179). (¬2) روضة الناظر (ص 26).

مفهوم العبادة وحدودها

مفهوم العبادة وحدودها هذا الكون الذي نعيش فيه معبد رحب، تتجاوب جنباته بالتسبيح لخالقه ومنشئه. فالأرض والسماء وما فيهما وما بينهما كل ذلك مستسلم خاضع لله المبدع الموجد، قال تعالى: {بَلْ لَهُ مَا في السَموَاتِ واْلأرْض كلٌّ لَه قَانِتُون} (¬1) وقال: {أَفَغَيْرَ دِين الله يَبْغونَ وَلَهُ أَسْلَمَ منْ فِي السموَاتِ والَأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا وإلَيْهِ يرْجَعُونَ} (¬2). وهم -مع استسلامهم لربهم- يسجدون: {ولله يَسْجُدُ مَنْ في السَمواتِ وَاْلأرْضِ طَوْعًا وكَرهًا وظِلاَلُهُمْ بِالْغُدو واْلآصَالِ} (¬3) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السموَاتِ ومَنْ فِي الأرْضِ، والشمْسُ وَالقَمَر والنجُوم وَالْجبَال، والشَّجَرُ والدوَاب، وَكَثير مِنَ الناس، وَكَثِير حَق عَلَيْهِ الْعَذابُ} (¬4). ومع الاستسلام والسجود تسبيح وتقديس: {أَلَمْ تَرَ أَنّ الله يُسَبِّحُ لَه مَنْ فِي السمَوَاتِ والأرْض، والطيْر صَافَاتٍ كلٌّ قدْ عَلِمَ صَلَاتَه وتَسْبيحَهُ} (¬5). ولكننا نجهل كيف تسبح هذه العوالم {تُسِّبح لَهُ السمَوَات السبْعُ والأَرْضُ وَمَنْ فِيْهنَّ، وإنْ مِنْ شَيْءٍ إلَا يُسَبحُ بحَمْدِهِ، وَلَكِنْ لَا تفقهونَ تَسْبِيحَهُمْ} (¬6) والإنسان في هذا ¬

_ (¬1) سورة البقرة / 116. (¬2) سورة آل عمران / 83. (¬3) سورة الرعد / 15. (¬4) سورة الحج / 18. (¬5) سورة النور / 41. (¬6) سورة الإسراء / 44.

الكون عالَمٌ من هذه العوالم التي أوجدها الله سبحانه لتعبده وتتوجه إليه، قال تعالى: {وَما خَلَقْتُ الجن والإنْس إلاّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ منْ رِزْقٍ، وَمَا أرِيد أَنْ يطْعِمُونِ، إن الله هُوَ الرزّاق ذُو القُوةِ الْمَتِينُ} (¬1). فالعبادة هي غاية الوجود الإنساني (¬2)، بل الكون كله ما وجد إلاّ لذلك، فحريٌّ بنا أن نبذل وسعنا في التعرف على مفهوم هذه العبادة التي من أجلها خلقنا. ونحن عندما نحاول الكشف عن حقيقة العبادة يجب عينا أن نتوجه إلى كتاب ربِّنا وسنة نبينا، كي نتعرف من خلالهما على مفهوم العبادة، فما أنزل الله الكتب، ولا أرسل الرسل، إلاّ ليعرف الناس بالغاية التي خلقوا من أجلها، والسبيل الذي يحققون به تلك الغاية. والناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد أن مدلول العبادة فيهما شامل لا يقتصر على الفرائض، فالحياة في منهج الله وِحْدَة، كل ما فيها لله، والإسلام لا يفصل بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ولا يفرق بين الفرائض والسلوك، ويجعل كل حركة في حياة المسلم وثيقة الصلة بعقيدته، كي يتوجه بها إلى ربه، منفذا أمره، ومحققا رسالته، قال تعالى: {قل إنَّ صَلاتِي وَنسُكي وَمَحيايَ وَمَمَاتِي لله رب العَالَمِيْنَ، لا شَرِيْكَ لَهُ وَبذَلِك أمِرْت، وأَنَا أولُ الْمسلِمينَ} (¬3). والذي حققه ابن تيمية "أن العبادة: اسم جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة" (¬4). ويزيد الأمر وضوحا بيان أنواع العبادات: "فالصلاة والزكاة والصيام والحجّ، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر ¬

_ (¬1) سورة الذاريات / 56 - 58. (¬2) يوجد فرق بين عبادة الإنسان، وعبادة بقية الكون، فالكون مسخر يعبد ربه بلا كلفة، والإنسان عبادته باختيار وعناء. (¬3) سورة الأنعام / 162 - 163. (¬4) البرية (ص 38).

بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والِإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة" (¬1). ويعدّ من العبادة أيضا: "حب الله ورسوله، وخشية الله والِإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك" (¬2). ويتوسع في معنى العبادة فيعد منها كل ما أمر الله به عباده من الأسباب، واستدلّ على ذلك بأن القرآن يقرن العبادة بالتوكل: {فَاعبدْهُ وَتَوَكَلْ عَلَيْهِ} (¬3)، وقال تعالى: {قُلْ هًوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلاَّ هوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتَابِ} (¬4) (¬5). فالدين -على ذلك- كله داخل في العبادة. والدّين منهج الله جاء ليسع الحياة كلَّها، وينظم جميع أمورها: من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشؤون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب، ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفية، وأحكام شرعية تتناول جواب شتى من الحياة، وفي سورة واحدة هي سورة البقرة نجد مجموعة من التكاليف كلّها جاءت بصيغة واحدة: {كُتِبَ عَلَيْكمْ}، ولنقرأ هذه الآيات الكريمة: قال تعالى {يَا أيُهَا الَّذِينَ آمُنوا كتِبَ عَلَيْكمُ القِصَاصُ في القَتلَى} (¬6). ¬

_ (¬1) العبودية (ص 38)، (¬2) العبودية (ص 38). (¬3) سورة هود / 123. (¬4) سورة الرعد / 30. (¬5) العبودية (ص 73). (¬6) سورة البقرة / 178.

وقال: {كتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الْمَوْتُ إنْ تَرَك خَيْرا الْوَصِيَّة لِلْوَالِدَيْنِ والأقربينَ} (¬1). وقال: (يَا أيها الَّذِينَ آمنوا كتبَ عَليْكم الصِّيام} (¬2). قال: {كُتِبَ عَلَيْكم القِتَالُ وَهُوَ كره لَكمْ} (¬3). فهذه الأمور كلها: من القصاص، والوصية، والصيام، والقتال - مكتوبة من الله على عباده، أي مفروضة عليهم، فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها. وبهذا البيان تتضح لنا حقيقة مهمة، لا زال كثير من المسلمين يجهلها، فبعض الناس لا يفهم من كلمة العبادة إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أنَّ لها علاقة بالأخلاق والآداب، أو النظم، أو القوانين، أو العادات، والتقاليد (¬4). إنَّ عبادة الله ليست محصورة في الشعائر التعبدية كما يفهم بعض الناس، والذين يقومون بهذه الشعائر فحسب لم يفوا العبادة حقها، ولم يقوموا بواجبهم كاملاً (4). إنَّ الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة .. لها أهميتها ومكانتها، ولكنها ليست العبادة كلها، بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى. إنَّ مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان، أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقاته مع النّاس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإِسلامية، يفعل ذلك طاعة لله واستسلاما لأمره. وشعار المسلم ما أرشد الله إليه في قوله: {إنمَا كان قَوْل الْمُؤْمِنينَ إذَا دُعُوا إلَى الله وَرَسولِهِ ليِحْكُمَ بَيْنَهمْ ¬

_ (¬1) سورة البقرة / 180. (¬2) سورة البقرة / 183. (¬3) سورة البقرة / 216. (¬4) العبادة في الإسلام (ص 52).

أنْ يَقولُوا سَمِعْنَا وأطَعْنَا، وأولئِك همُ المُفْلِحُونَ} (¬1). ذلك أنَ العبد ليس له خيار إذا قضى مولاه قضاء، أو وجهه وجهة معينة: {وَمَا كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قضَى الله وَرَسُوله أَمرًا أنْ يَكُونَ لَهُم الخِيَرَة مَنْ أمرِهِمْ} (¬2). والاحتكام إلى شرع الله، والانقياد إلى أحكامه من العبادة، ففد أخبر القرآن أنّ أهل الكتاب: {اتخَذُوا أَحبارَهمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابا مِنْ دُونِ الله والْمَسِيِح ابنَ مَرْيَمٍ، وَمَا أُمرُوا إلاّ ليَعبدُوا إلَهًا واحِدًا، لا إلَهَ إلاَ هُوَ، سبحَانه عَما يشْرِكونَ} (¬3). وقد فسَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الاتخاذ هنا بمتابعة الأحبار والرهبان في تحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال. روى الِإمام أحمد والترمذي وابن جرير (¬4) -من طرق- عن عدي بن حاتم (¬5) -رضي الله عنه- أنه لما بلغته دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، وأسرت اخته وجماعة من قومه، ثم مَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الِإسلام، وفي القدوم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة ¬

_ (¬1) سورة النور / 51. (¬2) سورة الأحزاب / 36. (¬3) سورة التوبة / 31. (¬4) هو محمد بن جرير الطبري، كان بحرا في التفسير، والتأريخ، ومعرفة الخلاف، وعلوم الدين، مجتهدا لا يقلد أحدا، وكتابه في التفسير خير كتاب يقتنى في هذا العلم، ولد في (آمل) بطبرستان سنة (224 هـ)، وتوفي ببغداد سنة (310 هـ). (طبقات الحفاظ ص 307)، (شذرات الذهب 2/ 260)، (الأعلام 6/ 294). (¬5) هو عدي بن حاتم الطائي، سيد قبيلة طيء في الجاهية والإسلام، صحابي كريم، وشجاع جواد، ولد بأرض طيء، وتوفي بالكوفة سنة (68 هـ). (الاستيعاب 3/ 1057)، (الكاشف 2/ 259)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 223).

-وكان رئيسًا في قومه، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفي عنق عدي صليب من فضة- وهو يقرأ هذه الأية: {اتخَذوا أحْبَارَهُمْ وَرهابنَهمْ أَرْبَابَا مِنْ دونِ الله} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم! فقال: "بَلَى، إنهمْ حَرَّمُوا عَليْهِمُ الحَلاَلَ وأَحَلوا لَهم الحَرَامَ، فَاتبَعوهم، فتِلْكَ عِبَادَتهمْ إياهمْ" (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (3/ 385).

أصل العبادة ومبناها

أصل العبادة ومبناها "أصل العبودية: الحضوع والذل. وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي} (¬1)، أي في حزبي، والتعبيد: التذليل، وطريق معبَّد: مذلل. وأعبده: اتخذه عبدا، وأعبدني فلان فلانا: ملكني إيّاه. والتعبيد: الاستعباد، وهو أن تتخذه عبدا، وكذلك الاعتباد. وتعبدني: اتخذني عبدا. والعبادة: الطاعة، وهي أبلغ من العبودية، لأنَّها غاية التذلل لا يستحقها إلاّ من له غاية الأفضال، وهو الله تعالى" (¬2). هذا الذي ذكره الفيروز آبادي (¬3) خلاصة ما قاله أصحاب المعاجم في تفسير العبادة، فالعبادة أصلها الخضوع والتذلل، يقول ابن سيده (¬4) في المخصص: "أصل العبادة في اللغة: التذليل .. ، والعبادة والخضوع والتذليل والاستكانة قرائب في المعنى، ... وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكلّ طاعة لله على جهة الخضوع والتذليل فهي عبادة" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الفجر/ 29. (¬2) بصائر ذوي التمييز (4/ 9). (¬3) هو محمد بن يعقوب بن محمد الفيروزآبادي من أئمة اللغة والأدب، ولد (بكازارون)، من أعمال شيراز، كان مرجع عصره فى اللغة والحديث والتفسير، توفي في (زبيد) في اليمن سنة (817 هـ)، من كتبه: (القاموس المحيط)، و (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) انظر: (شذرات الذهب 7/ 126)، (معجم المؤلفين 12/ 118). (¬4) هو علي بن إسماعيل بن سيده، لغوي أديب، حافظ، ولادته ووفاته بالأندلس (398 - 458 هـ)، أهم كتبه (المحكم والمخصص). ترجمته في: (لسان الميزان 4/ 205)، (الأعلام 5/ 69)، (معجم المؤلفين 7/ 36). (¬5) المخصص (13/ 96).

ولم يصب الِإمام محمد عبده (¬1) -رحمه الله تعالى- عندما ذهب إلى أنَّ الذي يميز العبادة من غيرها من ألوان الخضوع والتذلل والانقياد ليس هو درجة الخضوع والطاعة، كما يقول اللغويون الذين يرون العبادة هي الطاعة والخضوع، وإنما الذي يميزها -في نظره- هو منشأ هذا الخضوع والانقياد، فإن كان منشؤه وسببه أمرا ظاهرا كالملك والقوة ونحوهما، فلا يسمى عبادة، وإن كان منشؤه الاعتقاد بأنَّ للمعبود عظمة وقدرة فوق الِإدراك والحس فهذا هو العبادة (¬2). ومما يدلنا على خطئه فيما ذهب إليه، أنَّ القرآن عدَّ الذين يطيعون الحكام الظالمين، ويأتمرون بأمرهم، وينتهون عما نهوهم عنه ويتبعون نهجهم- عدَّهم عابدين لهم وهذا بين من مفهوم قوله تعالى: {أن يعبدوها} في قوله تعالى: {والذِينَ اجْتَنبوا الطَّاغوتَ أنْ يَعْبُدوها وَأَنَابُوا إلَى الله لهُمُ الْبُشرَى} (¬3). والطاغوت قد يكون شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان إذا عند من دون الله (¬4). وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكمْ يَا بنَِي آدَمَ ألاَّ تعْبُدوا الشَيْطَانَ، إنَه لَكمْ عَدُو مبين} (¬5). وما عبادة الشيطان إن لم تكن إطاعة أمره، واتباع حكمه، والسير في الطرق التي اختطها! ¬

_ (¬1) هو محمد عبده بن حسن خير الله مفتي الديار المصرية، ومن رجال الإصلاح والتجديد في العصر الأخير، كان عالما بالتفسير والفلسفة والتصوف. له رسالة (التوحيد)،و (شرح نهج البلاغة)، و (الرد على الدهريين)، توفي في القاهرة سنة (1323 هـ). (الأعلام 7/ 131). (¬2) راجع تفسير المنار عند تفسير قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}. من سورة الفاتحة. (¬3) سورة الزمر / 17. (¬4) راجع الطبري في تفسيره (3/ 13). (¬5) سورة يس / 60.

ومن أوضح ما ينفي هذا القول قوله تعالى: {اتَّخَذوا أحْبَارَهم وَرُهْبَانَهمْ أَرْبَابًا مِنْ دونِ الله وَالْمسيحَ ابْنَ مَريَمَ} (¬1)، وقد سقنا فيما سبق تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للآية، وأن المراد بعبادتهم إياهم اتباعهم في التحليل والتحريم بعيدا عن شرع الله. واسمع إلى مقولة فرعون وملئه عندما طالبهم موسى وهارون بالإيمان. (فَقَالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثلْنِا وَقَوْمهما لَنَا عَابِدُونَ} (¬2). يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "لنا عابدون: يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون، يأتمرون لأمرهم، ويدينون لهم، والعرب تسمي كل من دان لملك عابدا له" (¬3). وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمنوا كلُوا مِنْ طيباتِ مَا رَزَقْنَاكمْ، واشْكروا لله إنْ كنتُمْ إياه تَعْبدونَ} (¬4). قال: "إنْ كنتم إيّاه تعبدون: يقول: إن كنتم منقادين لأمره، سامعين مطيعين، فكلوا مما أباح لكم أكله، وحلله وطيبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان" (¬5). وهذا الذي سقناه يردّ على ابن تيمية في قوله: "ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة التوبة / 31. (¬2) سورة المؤمنون / 47. (¬3) تفسير الطبري (18/ 19). (¬4) سورة البقرة / 172. (¬5) تفسير الطبري 2/ 50. (¬6) العبودية (ص 44).

فقد جعل القرآن طاعة الشيطان عبادة للشيطان، وجعل خضوع بنى إسرائيل لفرعون عبادة له، مع كونهم غير راضين بذلك، فقد قال بنو إسرائيل لموسى: {أوذِينَا مَنْ قَبْلِ أَنْ تَأتينا، ومَنْ بَعْد مَا جِئْتَنَا} (¬1). وهذا الإيذاء ذكر لنا القرآن صورا منه: {وإذْ نَجيناكْم مِنْ آل فِرْعَوْنَ يسُومونَكمْ سوءَ الْعَذَاب، يُذَبحونَ أبْنَاءَكمْ، وَيَستحْيونَ نِسَاءَكمْ، وَفِي ذَلِكُم بلَاء منْ رَبكُمْ عَظِيم} (¬2)، فمع هذا الإيذاء لا يمكن أن تصحب مذلة بنى إسرائيل وطاعتهم وانقيادهم لفرعون محبة أبدا. صحيح أن العبادة المأمور بها شرعا لا يمكن أن تتحقق إلا بأمرين كما يقول ابن تيمية: الأول: الخضوع والذلة لله عز وجل، وعنوان هذا الخضوع هو الاستسلام لأمره، واتباع نهجه، والانقياد لشرعه، فمن رفض ذلك كلَّه فليس بخاضع، ولا مطيع. الثاني: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله تعالى، فليس في الوجود من هو أجدر من الله تعالى بأن يحب. "فالعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له" (¬3). يقول ابن كثير (¬4) رحمه الله تعالى: "العبادة في الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف / 129. (¬2) سورة البقرة / 49. (¬3) العبودية (ص 44). (¬4) هو إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، حافظ مؤرخ فقيه، ولد في قرية من أعمال بصرى في الشام (701 هـ)! أكثر من التأليف، من كتبه: (البداية والنهاية)، (وتفسير القرآن العظيم)، توفي بدمشق عام (774 هـ). (¬5) تيسير العزيز الحميد (ص 30).

العبادة في مصطلح الفقهاء

العبادة في مصطلح الفقهاء أتينا على مفهوم العبادة وحدودها، ثم بينا أصلها ومبناها، وأوضحنا مدى شمول العادة التي خلق الله الِإنسان من أجلها، وعلمنا أنَّ العادة المرضية لله هي التي تجمع كمال المحبة والخضوع. ولكن العادة إذا أطلقت اليوم لا يكاد يفقه السامع منها إلاّ تلك الشعائر التعبدية التي شرعها الله لعباده، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والعمرة، والذكر ونحو ذلك. وقد فسر صاحب الذخيرة المرضية العادة: "بأنها ما يثاب على فعله، ويتوقف على نيته، كالوضوء، والغسل، والصلاة، والصوم ... " (¬1). ولم يعدَّ الذكر والتسبيح والوقف والعتق والصدقة ونحوها من باب العادات بل من باب القربة، وحدُّ القربة عنده: "ما يثاب عليه بعد معرفة من يتقرب إليه، وإن لم يتوقف على نيّته" (¬2). وعدَّ الطاعة: "ما يثاب عليه وإن لم توقف على نيّته، ولا عرف من يفعله لأجله، كالنظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى" (¬3). وعموم الفقهاء يقسِّمون الأحكام الشرعية إلى عبادات ومعاملات، وقد لاحظ الفقهاء فروقا عدة جعلتهم يذهبون هذا المذهب (¬4): ¬

_ (¬1) الذخيرة المرضية (ص 9). (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق. (¬4) راجع في هذا الموافقات للشاطبي (2/ 222)، مذكرة في أصول الفقه (ص 34)، العبادة في الإسلام (69).

الأول: العبادات عند الفقهاء تعبدية محضة، بينما المعاملات معقولة المعنى. الثاني: العبادات أنشأها الشارع وأمر بها وليس للعباد فيها إلا التلقي والتنفيذ، أما المعاملات فقد تكون موجودة قبل الشرع فيقرّ الصالح منها، ويلغي السَّيىء، ويهذب ما احتاج إلى تهذيب. الثالث: يشترط في التكليف بالعبادات العلم بأنّه مأمور بها من الله تعالى، إذ لابد للمكلف من نية التقرب بالعبادة إلى الله تعالى، وهذه النية لا تكون إلا بعد معرفة أنَّ العبادة المتقرب بها إليه أمر منه جلَّ وعلا، وأمّا المعاملات فلا يشترط في صحة فعلها نية التقرب، ولكن لا أجر له فيها إلا بنية التقرب إلى الله تعالى، كرد الأمانة، والمغصوب، وقضاء الديون، والإنفاق على الزوجة، فمتى فعل شيئًا من هذه خوفا من عقوبة السلطان ففعله صحيح دون النية، وتسقط المطالبة به، فلا يلزمه الحقّ في الآخرة بدعوى أنَّ قضاءه في الدنيا غير صحيح لعدم نية التقرب، بل القضاء صحيح، والمطالبة ساقطة على كلِّ حال، ولكن لا أجر له إلاّ بنيّة التقرب. فهذا التقسيم تقسيم اصطلاحي للتيسير والتبويب، كان مراد الفقهاء من سلفنا الصالح منه مرادا طيّبا، وهم مثابون على ذلك إن شاء الله تعالى. "إلا أنَّ هذا التقسيم الاصطلاحي الفنّي الذي هو طابع التأليف العلمي؛ أنشأ فيما بعد -كما ذكر بعض المعاصرين- آثارا سيئة في التصور، تبعته -بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الِإسلامية كلِّها، إذ جعل يترسب في تصورات الناس: أن صفة "العبادة" إنَّما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله "فقه العبادات"، بينما أخذت الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط الذي يتناوله فقه المعاملات. إن ذلك التقسيم -مع مرور الزمن- جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدَّوا نشاط "العبادات" وفق أحكام الإسلام، بينما هم

يزاولون "المعاملات" وفق منهج آخر، لا يتلقونه من الله، ولكن من إله آخر! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله (¬1). وهذا وهم كبير فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين -على هذا النحو- فإنّما يخرج من هذه الوحدة" (¬2). "ولا ريب أنَّ هذا الانحراف الذي وقع في تصور كثير من المسلمين لحقيقة الِإسلام، وحقيقة العبادة فيه، لم يكن مقصودا للفقهاء، ولا هم مسؤولون عنه، فإن ما صنعوه من التقسيم هو مقتضى التقسيم العلمي، ولم يستطع من ألَّف في الفقه في عصرنا أن يستغني عن هذا التقسيم" (¬3). وأنا لا أستطيع في هذه الرسالة إلاّ أن أمضي على النهج الذي اختطه فقهاؤنا، فأنا أعني بالعبادة ما عناه سلفنا الصالح، ومع هذا فإنَّ الجهود يجب أن تتجه لمحاربة الآثار السيئة التي نتجت عن سوء فهم بعض المسلمين لهذا التقسيم، أمَّا التقسيم نفسه فلا غبار عليه. ¬

_ (¬1) لا يفهم من هذا أننا نمنع من سن القوانين التي تنظم بعض جوانب الحياة التي لم يشرع لنا فيها الإسلام شرعا خاصا، كقواعد المرور، وتنظيم الزراعة، إنما المراد مخالفة هدي الإسلام فيما شرعه، بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، والاعتماد على قوانين البشر في هذه الأمور والإعراض عن هدي العليم الخبير. (¬2) خصائص التصور الإسلامي (ص 129، 130). (¬3) العبادة في الإسلام (ص 72).

"موضوع الرسالة"

"موضوع الرسالة" بعد تعريف مفردات عنوان الرسالة نستطيع أن نقول: إن هذه الرسالة تبحث في جزء من إرادات المكلفين، هو تلك الإِرادة الجازمة التي تتجه نحو أفعال شرعية معينة هي العبادات دون غيرها، لتحقيقها وإيجادها. فلا نعنى في رسالتنا هذه بالإرادات التي هي أدنى من القصد مرتبة، كما لا نعنى بمباحث القصود المتجهة إلى غير العبادات؛ إلاّ بالمقدار الضروري الذي لا بد منه لتوضيح قصود العبادات. ولا نعنى -أيضا- بأفعال غير المكلفين، وهي تلك التي تصدر من أصحابها حال كونهم غير داخلين تحت الأمر والنهي لفقدانهم العقل أو لعدم اكتمال عقولهم، أو لغفلتهم.

المبحث الثاني الأدلة على أن المقاصد معتبرة في العبادات والتصرفات

المبحث الثاني الأدلّة على أنّ المقاصدَ مُعتبرة في العبادات والتصرفات

أولا: الأدلة القرآنية

الأدلة على اعتبار القصود في العبادات والتصرفات الأدلة على ذلك كثيرة منها: أولاً: الأدلة القرآنية: عندما يتناول الباحث معجم ألفاظ القرآن ويبحث عن لفظ "قصد"، و"نية" فإنه لا يعثر للكلمة الثانية على وجود في كتاب الله، وما يجده من كلمات للفظة الأولى قليل، وبالرجوع إلى الآيات التي ورد فيها "قصد" ومشتقاتها في القرآن ندرك أن القرآن لم يستعمل هذه الكلمات في المعنى الذي نبحثه هنا. (¬1) وقد يظن الباحث الذي لم يعش مع كتاب الله أن القرآن لم يتحدث عن المقاصد، ولم يعن بالنيات من أجل ذلك، وهذا قصور نظر، فالقرآن فضل القول في هذه المسألة تفصيلا، لأنها أصل الدين وأساس الاعتقاد، إلا أن القرآن له في هذا المجال تعبيرات تخصه أطلقها على المعنى الذي نعنيه من القصد والنية. وبالتأمل في آيات الكتاب نجد أن الآيات التي تتحدث عن القصد والنية هي تلك الآيات التي تتحدث عن الإرادة والإخلاص، وقد يعبر القرآن عن النية والقصد بلفظ "الابتغاء". ¬

_ (¬1) مما ورد فيه لفظ "قصد" قوله تعالي: {لو كان عرضا قريبا وسفَرا قاصدا لاتبعوك} سورة التوبة: 42، والمراد بالسفر القاصد هنا: غير شاق ولا بعيد. ومنها قوله: {وعلى الله قصد السبيل} سورة النحل: 9، أي تبيين الصراط المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبينات الواضحات. وقوله. {فمنهمْ ظالم لنفسه ومنِهمْ مقتصد} سورة فاطر: 32، أي لم يجاوز الحد، ورضي بالتوسط. (راجع بصائر ذوي التمييز 4/ 272).

فمن النصوص القرآنية التي تتحدث عن القصد والنية بلفظ الإرادة قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَن يُرِيدُ الدُنْيَا، ومِنكم مَن يُرِيدُ الآخرة} (¬1)، وقوله: {واصبر نفسك مع الّذِينَ يَدْعُونَ ربَّهُمْ بالْغَدَاةِ واْلعَشيّ يُرِيدُونَ وجهه} (¬2)، والمتأمل في هذين النصين يدرك أن المراد بالِإرادة هنا القصد والنية، والنصوص في ذلك كثيرة. والآيات القرآنية الآمرة بالاخلاص والحاثّة عليه كثيرة أيضا كقوله تعالى: {فَاعْبُدِ الله مخلِصًا لَهُ الدِّينَ}، (¬3) {وَمَا أمِرُوا إلاّ لِيَعبدُوا الله مُخْلصِين لَهُ الدِّينَ} (¬4). وقد استدل العلماء بهاتين الآيتين وأمثالهما على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص عمل القلب، وهو الذي يراد به وجه الله تعالى. (¬5) ويرى فريق من العلماء أنَّ الأحاديث التي حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها على إصلاح النية وتصفيتها استقاها -صلى الله عليه وسلم- من مثل قول الله تعالى {وَمَا أُمِروا إلاَّ لِيعبَدُوا الله مخْلِصِينَ لَهُ الدَينَ} (¬6). وقد فسر جملة من أهل العلم الشاكلة في قوله تعالى: {قلْ كُل يَعْمَلُ عَلىَ شَاكِلَتِهِ} بالنية. (¬7) والآيات الناهية عن الشرك تدلُّ دلالة أكيدة على وجوب تصفية النية وإصلاحها، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 152. (¬2) سورة الكهف: 28. (¬3) سورة الزمر: 2. (¬4) سورة البينة: 5. (¬5) راجع تفسير القرطبي عند تفسيره للآيتين السابقتين، وانظر بداية المجتهد (1/ 8). (¬6) سورة البينة: 5، وممن قال بهذا السيوطي في منتهى الآمال. (¬7) سورة الإسراء: 84، وقد نسب السيوطي وابن حجر القول بذلك إلى الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني، وقتادة (منتهى الآمال 6/ أ)، (فتح الباري 1/ 136).

ثانيا: الأحاديث النبوية

كقوله تعالى: {فمَنْ كَانَ يَرْجو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيعْمَلْ عَملاً صالحًا، وَلاَ يشْركْ بعبادَةِ رَبِّه أَحَدًا}. (¬1) وعبر القرآن عن النية والقصد بلفظ "الابتغاء"، كما في قواله تعالى: {وَمَا لأحَدٍ عِنْدة مِن نِعمَةٍ تُجْزَى، إلا ابْتِغَاء وجْه ربَه اْلأعْلىِ} (¬2)، وقوله: {وَمثلُ الَّذِينَ يُنْفِقونَ أمْوالَهُمْ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَتَثْبيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... }. (¬3) ودلالة الآيتين على المراد واضحة، فالممدوح في الآية إنما يفعل ما يفعل من خيرات وإسداء للمعروف طلبا لرضوان ربه، لا يجازى جميلا أسدى إليه، ولا معروفا صنع له. وفي الآية الثانية مديح للذين يبذلون أموالهم طالبين رضوان الله تعالى، فالإنفاق كما أمر الله يطفىء غضب الرب كما يطفىء الماء النار، ويجلب رضوان الله تعالى. ثانيًا: الأحاديث النبوية: وعمدة الأحاديث النبوية الحديث الذي يرويه أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب (¬4) -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". (¬5) ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 110، وممن احتج بهذه الآية على أن القصود معتبرة في العبادات والتصرفات الشاطبي في الموافقات: (2/ 238). (¬2) سورة الليل: 19، 20. (¬3) سورة البقرة: 265. (¬4) هو عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقب بأمير المؤمنين، صحابي جليل، بلغ في الشجاعة، والحزم، والعدل، والعبادة، والعلم، مبلغا عظيما، فتحت في عهده الفتوحات، وانتشر الإسلام، ولد بمكة قبل الهجرة بـ (40) سنة، وتوفي في المدينة سنة (23) هجرية شهيدا، قتله أبو لؤلؤة المجوسي. (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 268)، (الكاشف 2/ 309)، (طبقات الحفاظ ص3). (¬5) رواه البخارى ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم (انظر تخريجه في الملحق في آخر الرسالة).

وهذا الحديث يدل على أن الأعمال لا تصح شرعا ولا تعتبر إلا بالنية، وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح، وكلمة (إنما) وضعت للحصر، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها: أن العبادة إذا صحبتها النية صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح، ومقتضى حق العموم فيها يوجب ألا يصح عمل من الأعمال الدينية: أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها؛ إلا بنية. وظاهر الحديث ينفي وجود ذوات الأعمال التي تخلو من النية، وبما أن أعيان الأفعال الخالية من النيَّة موجودة في واقع الأمر فقد قرر كثير من الفقهاء (¬1) أن هذا الظاهر غير مراد، وأوجبوا تقدير محذوف، كي يستقيم الكلام، ثم إن بعض هؤلاء قدروا المحذوف: "صحة الأعمال"، وبعضهم قدره: (كمال الأعمال)، ذلك لأنهم رأوا أن بعض الأعمال لا تشترط في صحتها النيات كقضاء الحقوق الواجبة من الغصوب والعواري والديون، فإن مؤديها تبرأ ذمته منها، وإن لم يكن له في ذلك نية شرعية، بل تبرأ ذمته عنها من غير فعل منه. وحجة الذين ذهبوا إلى تقدير الصحة أن نفي الصحة يشبه نفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ يدل بالتصريح على نفي الذات، وبالتبع على نفي جميع الصفات، فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات بقي دلالته على نفي جميع الصفات. (¬2) والذي يظهر لي أن الحديث لا يحتاج إلى تقدير، لأن المراد بالأعمال: الأعمال الشرعية، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث لبيان الشرع، فالحديث يدل على أن الأعمال الشرعية توجد وتكون بالنيات، فإذا انتفت النيات من الأعمال انتفت الأعمال الشرعية، وهذا رأي نسبه صاحب دليل الفالحين إلى بعض المحققين، ¬

_ (¬1) أمثال الخطابي وابن حجر والبيضاوي. (¬2) راجع في هذا الموضوع: معالم السنن (3/ 129)، ومجموع الفتاوى (18/ 252)، وفيض القدير (1/ 30)، وفتح الباري (1/ 13).

ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري

وارتضاه، قال: "والأقرب -كما قال بعض المحققين، وقال: إنه التحقيق- أنَّه لا حاجة لتقدير في الخبر، وليس فيه دلالة اقتضاء، بل اللفظ باق على مدلوله من انتفاء الأعمال بانتفاء النية، لكن شرعا، إذ الكلام فيه، والتقدير إنما وجودها كائن بالنية فإذا انتفت انتفى العمل ونفي الحقيقة إنما ينتفي بانتفاء شرطها أو ركنها، فيفيد مذهبنا وجوبها في كلّ عمل إلا ما قام الدليل على خروجه، والعام المخصوص حجة" (¬1). وهذا الذي قاله صاحب دليل الفالحين في غاية الجودة والتحقيق. وليس هذا هو الحديث الوحيد الذي ورد في هذا الموضوع، بل وردت عشرات الأحاديث مما يدل على اعتناء الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتقرير هذا الأصل وإيضاحه. (¬2) ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري: ومما يدل على اعتبار القصود في العبادات والتصرفات أن الأفعال الاختيارية لا تصدر من الإنسان إلا بقصد وإرادة، وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن "أصدق الأسماء حارث وهمام"، (¬3) لأنهما يصدقان على كل إنسان حي، فكل إنسان حارث أي كاسب عامل، وكل إنسان همام، أي دائم الهم والإرادة لما يفعله. (¬4) ¬

_ (¬1) دليل الفالحين (1/ 49). (¬2) سيأتي في تضاعيف هذا البحث ذكر كثير من هذه الأحاديث. (¬3) الحديث رواه أبو داود في سننه: كتاب الأدب، باب تغيير الأسماء (4/ 394)، عن أبي وهب الجشمي، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمّام، وأقبحها حرب ومرّة" وانظر معالم السنن (7/ 251) وأخرجه النسائي في كتاب الحيل (6/ 218) بالإسناد الذي رواه به أبو داود دون قوله: "وأصدقها حارث وهمام ... الخ"، وقد ضعفه الألباني في تخريجه لمشكاة المصابيح (انظر المشكاة (2/ 570). (¬4) انظر تهذيب السنن (7/ 251).

رابعا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد

وقد نص ابن الهمام على أن "الفعل الاختياري لا بد في تحقيقه من القصد إليه" (¬1)، وعدَّ ابن تيمية "القصد إلى الفعل أمرا ضروريا في النفس" (¬2)، "ولو كلف العباد أن يعملوا عملا بغير نيّة كلفوا ما لا يستطيعون" (¬3). رابعًا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد: الأعمال الصادرة من المجنون والمعتوه والمخطىء والساهي والغافل والنائم لا يُعتدُّ بها إن كانت طاعات، ولا يعاقب عليها إن كانت معاصي، فالذي يستمع القرآن بغير قصد الاستماع لا يثاب على استماعه، والسامع للمحرَّم من الكلام من غير قصد لا عقوبة عليه. ومن جامع امرأة يظنها زوجته ثم تبين أنها ليست هي لا عقوبة عليه، ومن تزوج امرأة ثم بان أنها أخته من الرضاع فإنه يلزمه فراقها، ولا عقاب عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومن أكل أو شرب ناسيا وهو صائم فصومه صحيح. ومن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ولا تثريب عليه في تأخيرها، لأنه معذور في ذلك. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة متوافرة منها: 1 - قوله تعالى: {لاَ يُكَلَفُ الله نَفْسًا إلاّ وُسعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَعَلَيْهَا مَا اكتَسَبَت، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إن نَسِينَا أوْ أَخْطَأْنَا} (¬4). ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) مجموع الفتاوى (20/ 359). (¬3) مجموع الفتاوى (18/ 262). (¬4) سورة البقرة: 286.

وعندما نزلت هذه الآية من آخر سورة البقرة دعا الصحابة بها {رَبَّنا لا تُؤَاخِذنَا إن نسِيْنَا أَوْ أَخْطأْنَا} قال الله: "نعم" أو: "قد فعلت". (¬1) 2 - وقد نصّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عدم مؤاخذة من ليس له قصد، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده (انطر تفسير ابن كثير 1/ 600). (¬2) قال السيوطي في تخريج هذا الحديث (الأشباه والنظائر / 187) هذا حديث حسن، أخرجه ابن ماجه، وابن حبان فى صحيحه والحاكم في مستدركه بهذا اللفظ من حديث ابن عباس. وأخرجه الطبراني والدارقطني من حديثه بلفظ "تجاوز" بدل "وضع". وأخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمي في فوائده من حديثه بلفظ (رفع). وأخرجه ابن ماجه أيضا من طريق أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرجه بهذا اللفظ الطبراني في الكبير من حديث ثوبان. وأخرجه في الأوسط من حديث ابن عمر، وعقبة بن عامر، بلفظ "وضع عن أمتي" إلى آخره، وإسناد حديث ابن عمر صحيح. وأخرجه ابن عدي في الكامل، وأبو نعيم في التاريخ من حديث أبي بكرة بلفظ "رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والاستكراه" قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك قرآنا {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. وأبو بكر ضعيف، وكذا شهر، وأم الدرداء، إن كانت الصغرى فالحديث مرسل، وإن كانت الكبرى فهو منقطع وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا خالد بن عبد الله عن هشام، عن الحسن، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إن الله عفا لكم عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان، وما استكرهتم عليه" وقال أيضا: حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثني جعفر بن حبان العطاردي عن الحسن قال: سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجاوز الله لابن آدم عمّا أخطأ، وعما نسي، وعما أكره، وعما غلب عليه". وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة. "إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها ما لم تعمل، أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه". قال السيوطي بعد تخريجه للحديث: فهذه شواهد قوية تفضي للحديث بالصحة. وقد تكلم الحافظ ابن حجر على إسناده في الفتح (9/ 393)، وأورده الألباني في صحيح الجامع (2/ 132)، (3/ 179).

خامسا: النية سر العبودية وروحها

3 - وأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" (¬1). 4 - حديث أنس بن مالك (¬2) يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: "اللهمَّ أنت عبدي، وأنا ربّك، أخطأ من شدة الفرح" (¬3). فلو كان هذا الواجد لناقته قاصدا لقولته هذه لكان كافرا كفرا مخرجا من الملة، ولكن لما سبق لسانه إلى خلاف ما بقصده لشدة فرحه لم يؤاخذه الله بقولته. 5 - والناطق بكلمة الكفر مكرها، وقلبه مطمئن بالِإيمان، لا يؤاخذه الله: {إلاّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيَمانِ} (¬4). والنصوص في هذا كثيرة جدا، والأمر أوضح من أن نطيل في الاستدلال عليه. خامسًا: النيّة سر العبودية وروحها: وقد وضحنا هذه المسألة وبيناها في "فضل النّية"، فكيف يعتد بعبادة لا روح لها! يقول ابن حزم (¬5) في هذا "النية هي سر العبودية وروحها، ومحلها من العمل محل ¬

_ (¬1) انظر تخريج الحديث السابق. ص 43. (¬2) هو أنس بن مالك بن النضر النجاري الخزرجي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه. ولد في المدينة قبل الهجرة بعشر سنوات، وتوفي في البصرة عام (93 هـ). (¬3) رواه مسلم في صحيحه (انظر رياض الصالحين ص 13، 14). (¬4) سورة النحل/ 106. (¬5) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلس (384 - 456 هـ)، فقيه ظاهري، انتسب إليه بالأندلس خلق كثير، سموا، بالحزمية، أسندت إليه الوزارة ثم زهد فيها، واتجه إلى التأليف، كان سليط اللسان، قوي الحجة، طورد وأقصي عن بلده، من كتبه (المحلى) في الفقه، (الإحكام في أصول الأحكام) في الأصول. (لسان الميزان 4/ 198)، (طبقات الحفاظ ص 436)، (الأعلام 5/ 59).

الروح من الجسد، ومحال أن يعتبر في العبودية عمل لا روح له معه، بل هو بمنزلة الجسد الخراب" (¬1). والحق الذي يشهد له الكتاب والسنة أن المأمور بالتكاليف الشرعة هو النفس الإنسانية، وما الجسد إلاّ آلة لها، فإذا كانت فاقدة للعمل الذي أمرت به -وهو الإخلاص والنية- كان العمل الذي يقوم به البدن ضربًا من العبث والضلال. سادسًا: القصود تميّز العبادات عن العادات، كما تميز رتب العبادات: فمن تمييزها العبادات عن العادات: (¬2) 1 - الغسل: فإنه مردد بين ما يفعل قربة إلى الله، كالغسل من الأحداث، وما يفعل لأغراض العباد: من التبرد، والتنظيف، والاستحمام، والمداواة، وإزالة الأوضار والأقذار، فلماّ تردّد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب، عما يفعل لأغراض العباد. 2 - دفع الأموال مردّد بين أن يفعل هبة، أو هديّة، أو عطيّة، وبين أن يفعل قربة إلى الله، كالزكاة، والصدقات، والكفارات. فلما تردّد بين هذه الأغراض وجب أن تميز نية ما يفعل لله عما يفعل لغير الله. 3 - الإمساك عن المفطرات: تارة يفعل لغرض الإمساك عن المفطرات، وتارة يفعل قربة إلى رب الأرض والسموات، فوجب فيه النية، لتصرفه عن أغراض العباد إلى التقرب إلى المعبود. 4 - حضور المساجد: قد يكون للراحات، أو الصلوات، والقربة بالحضور فيها زيارة للرب سبحانه وتعالى. لما تردد بين هذه الجهات وجب أن يميز الحضور في المسجد زيارة للرب -سبحانه وتعالى- عما يفعل لغير ذلك من الأغراض. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام لابن حزم (2/ 706 - 707). (¬2) راجع في هذا الموضوع قواعد الأحكام (1/ 207)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 12)، والذخيرة (1/ 236)، والحطاب على خليل (1/ 234).

5 - الضحايا والهدايا: لما كان ذبح الذبائح في الغالب لغير الله، من ضيافة الضيفان، وتغذية الأبدان، ونادر أحواله أن يفعل تقربا إلى الملك الديان -شرطت فيه النية، تمييزا لذبح القربة عن الذبح للاقتيات والضيافات، لأن تطهير الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالمياه من الأحداث، تارة يكون لله، وتارة يكون لغير الله، فالنية واجبة كي يتميز الذي لله عما عداه. 6 - الحج: لما كانت أفعاله مردّدة بين العبادات والعادات وجب فيه النية تمييزا للعبادات عن العادات. فالعبادات لا تتميز عن العادات في الأمثلة التي ذكرناها إلا بالنية، لأن الصورة واحدة، فإذا عدمت النية كان العمل عاديا لا عباديا، والعادات لا يتقرب بها إلى بارىء البريات، وفاطر المخلوقات، فإذا عريَ العمل عن النية كان كالأكل والشرب والنوم البهيمي الحيواني، الذهب لا يكون عبادة بوجه، فضلا عن أن يؤمر به، ويرتب عليه الثواب والعقاب والمدح والذم، وما كان هذا سبيله لم يكن من المشروع المتقرب به إلى الرب تبارك وتعالى. ومن تمييزها رتب العبادات: (¬1) 1 - الصلاة: فالصلاة تنقسم إلى فرض ونفل. والنفل ينقسم إلى: راتب، وغير راتب. والفرض ينقسم إلى منذور وغير منذور. وغير المنذور ينقسم إلى: ظهر وعصر، ومغرب وعشاء، وصبح، وإلى قضاء وأداء. فيجب في النفل أن يميز الراتب عن غيره بالنية وكذلك تميز صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد، وكذلك في الفرض تميز الظهر عن العصر، والمنذورة عن المفروضة بأصل الشرع. 2 - وفي العبادة المالية تميز الصدقة الواجبة عن النافلة، والزكاة عن المنذورة والنافلة. ¬

_ (¬1) المصادر السابقة.

سابعا: تأثير النية فى الأعمال

3 - وفي الصوم تميز صوم النذر عن صوم النفل، وصوم الكفارة عنهما، وصوم رمضان عما سواه. 4 - وفي الحج تميز الحج عن العمرة، والحج المفروض عن المنذور والنافلة. سابعًا: تأثير النية فى الأعمال: النية تؤثر في الفعل، فيصير تارة حراما، وتارة حلالا، وصورته واحدة، كالذبح مثلا، فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لأجل الله، ويحرمه إذا ذبح لغير الله، والصورة واحدة. وكذلك القرض في الذمة، وبيع النقد بمثله إلى أجل، صورتهما واحدة، والأول قربة صحيحة، والثاني معصية باطلة. والرجل يشتري الجارية لموكله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحدة، وقال ابن القيم في كتاب الروح: "الشيء الواحد تكون صورته واحدة، وهو ينقسم إلى محمود ومذموم، فمن ذلك التوكل والعجز، والرجا والتمني، والحب لله والحب مع الله، والنصح والتأديب، وحب الدعوة إلى الله وحب الرياسة، وعلو أمر الله والعلو في الأرض، والعفو والذل، والتواضع والمهانة، والموجدة والحقد، والاحتراز وسوء الظن، والهدية والرشوة، والإخبار بالحال والشكوى، والتحدث بالنعم شكرا والفخر بها. فإن الأول من كل ما ذكر محمود، وقرينه مذموم، والصورة واحدة، ولا فارق بينهما إلا القصد" (¬1). ¬

_ (¬1) منتهى الآمال (20/ ب).

اعتراضات

اعتراضات أورد الشاطبي بعض الأدلة التي تدلّ على أنَّ المقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات. ثم أورد على نفسه دليلين يدلان على أنَّ المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق، وفي كلّ حال، ثم أجاب عما أورده. الأول: الأعمال التي يجب الِإكراه عليها شرعا، فإن المُكْرَه على الفعل يعطي ظاهره أنَّه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع، إذ لم يحصل الإكراه إلاّ لأجله، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به، لأنَّ الفرض أن العمل لا يصح إلَّا بالنية المشروعة فيه، وهو لم ينو ذلك، فيلزم ألا يصحّ، وإذا لم يصحّ كان وجوده وعدمه سواء، فكان يلزم أن يطالب بالعمل ثانيا، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول، ويتسلسل، أو يكون الِإكراه عبثا، وكلاهما محال، أو يصحّ العمل بلا نيّة، وهو المطلوب (¬1). وقد نصّ الفقهاء في أمور عدّة على ما قرّره الشاطبي هنا، فقد نص الشافعي (¬2) على أن للوالي أن يأخذ الزكاة من أهلها، ولو لم يكن لهم نيّة في دفعها إليه، يقول الشافعي في هذا الصدد: "وإذا أخذ الوالي من رجل زكاة بلا نيّة من الرجل في دفعها إليه أو بنيّته طائعا كان الرجل أو كارها، ولا نيّة للوالي الآخذ لها في أخذها من صاحب الزكاة أو له نية فهي تجزىء عنه" (¬3). ¬

_ (¬1) الموافقات: (2/ 239). (¬2) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي، أحد الأئمة الأربعة، عالم واسع العلم في القراءات والفقه والحديث والشعر والأدب وأيام العرب، وهو واضع علم أصول الفقه، ولد بغزة سنة (150 هـ)، وحمل إلى مكه صغيرا، وقصد مصر في آخر عمره، وتوفي بها سنة (204 هـ). (تهذيب التهذيب 9/ 25)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 377)، (طبقات الحفاظ ص 152). (¬3) الأم: (2/ 119).

وهذا الذي قرره يقول به جماهير العلماء، يقول المرداوي (¬1) من الحنابلة: "لا يجوز إخراج الزكاة إلَّا بنيَّة، إلاّ أن يأخذها الإمام قهرا، فإنَّها تجزىء عن ربها على الصحيح من المذهب. وقال المجد (¬2): هو ظاهر كلام الامام أحمد والخرقي لمن تأمله" (¬3). ثانيا: الاعتراض الثاني الذي أورده الشاطبي مما يستدل به على أن المقاصد لا تعتبر في كل فعل: أن الأعمال ضربان: عادات وعبادات، فأما العادات فقد قال الفقهاء: إنّها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نيّة، بل مجرد وقوعها كاف، كرد الودائع والغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها. وأما العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها. فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء، وكذلك الصوم والزكاة، وهي عبادات، وألزموا الهازل العتق والنذر، كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة. وذكر أن في مذهب مالك فمن رفض النية في الصوم أثناء اليوم ولم يفطر أن صومه صحيح. ومما أورده أيضا أن من الأعمال ما لا يمكن فيه الامتثال عقلا، وهو النظر الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع، والعلم بما لا يتم الإيمان إلاّ به؛ فإن قصد الامتثال فيه محال حسب ما قرره العلماء (¬4). وقد أجاب الشاطبي عن هذين الاعتراضين بوجهين: ¬

_ (¬1) هو علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، نسبة إلى (مردا)، قرية قرب نابلس بفلسطين، ولد بها سنة (817 هـ)، وانتقل إلى دمشق كبيرا، وتوفي بها سنة (885 هـ)، وهو من فقهاء الحنابلة، له كتاب (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف)، و (تحرير المنقول) (شذرات الذهب 7/ 340) (الأعلام 5/ 104). (¬2) هو مجد الدين ابن تيمية جدّ شيخ الإسلام ابن تيمية. (¬3) الإنصاف: (3/ 196). (¬4) الموافقات: (2/ 239).

الوجه الأول: إجمالي بيّن عموم القاعدة، وعدم جواز تخلفها بحال. والثاني: إجابة تفصيلية عن آحاد المسائل التي وردت في الاعتراض. والوجه الأول بين فيه أنَّ المقاصد ضربان: ضرب هو من ضرورة كلِّ فاعل مختار من حيث هو مختار، وهنا يصحّ أن يقال: إنَّ كلَّ عمل معتبر بنيّته شرعا، قصد به امتثال أمر الشارع أو لا، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية به، وعليه يدلّ ما تقدم من الأدلة، فإن كلّ فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا، مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، أو غير مطلوب شرعا، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين، فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة، فليس هذا النمط بمقصود للشارع، فبقي ما كان مفعولا بالاختيار لا بد فيه من القصد، وإذ ذاك تعلقت به الأحكام، ولا يتخلف عن هذه الكلية عمل البتة. وعلى هذا فكلّ ما أورده الشاطبي في الاعتراضات لا يعدو هذين القسمين: فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل، أو غير ذلك، فينزل على ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار وعدمه. وإمّا غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال، وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا التكليف، فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة وإن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع (¬1)، كان الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا. ثم تحدث الشاطبي عن الضرب الثاني: والضرب الثاني المقاصد التي هي من ¬

_ (¬1) يعرف الأصوليون خطاب الوضع بأنه "خطاب الله تعالى بجعل الشيء سببا، أو شرطا، أو مانعا، أو صحيحا أو فاسدا، مثل جعل الدلوك سببا لإيجاب الصلاة، وجعل الوضوء شرطا لصحتها، وجعل الحيض مانعا من صحة الصوم، وجعل الصلاة صحيحة إذا توفرت شروطها وأتي بجميع أركانها".

ضرورة التعبديات، من حيث هي تعبديات، فإن الأعمال كلّها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا بالقصد إلى ذلك. وهذا في الأمور التعبدية واضح، وفي العاديات لا تكون تعبديات إلاّ بالنيات. ثم بيَّن أنَّه لا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلاّ النظر الأوّل، لعدم إمكانه، لكنّه- في الحقيقة- راجع إلى أنَّ قصد التعبد فيه غير متوجه عليه، فلا يتعلق به الحكم التكليفي كلية بناء على منع التكليف بما لا يطاق، لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله، بخلاف قصد التعبد بالعمل فإنَّه محال، فصار في عداد ما لا قدرة عليه، فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا (¬1). ثم أخذ الشاطبي يتكلم عن الوجه الثاني، وهو الوجه الذي يجيب فيه إجابة تفصيلية عن الاعتراضات التى أوردها. وأهمّ هذه الاعتراضات أنَّ الحاكم ملزم شرعا بإكراه الناس، فكيف يجزىء عن المكره الفعل مع أنّه لا قصد له؟ وفي الجواب نحبُّ أن نفرق بين أمرين: الأول: أنَّ العبادات من حيث هي أفعال صادرة من المكلفين لا تجزىء عنهم ما لم يؤدوها بقصد نابع من ذوات أنفسهم، فإن لم يؤدوها كذلك فلا تجزىء عنهم بحال. وقد نقل ابن تيمية الِإجماع على أنَّ الذي يؤدي العبادة خوفا من الضرب أو من السلطان، أو تقليدا للآباء والأجداد لا تقبل منه (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات: (2/ 241). (¬2) مجموع الفتاوى: (26/ 30).

وقد قال تعالى: {ومَا منعهُمْ أنْ تقبل مِنْهمْ نَفَقَاتهُم إلا أنَّهُمْ كفَروا بالله وَبِرَسُوله، وَلاَ يَأتُونَ الصَّلاةَ إلاّ وَهُمْ كُسَالَى، وَلاَ ينْفِقُونَ إلاَّ وَهم كَارِهونَ} (¬1). فقد نصَّ في هذه الآية على عدم قبول الصدقة من الكاره. وقد نصَّ فقهاء الأحناف أنَّ المعتمد في المذهب عدم إجزاء أخذ الإمام الزكاة كرها، وإذا أخذت كرها لا يقع عن الزكاة، لكونها بلا اختيار (¬2). ويقول الشاطبي: وما افتقر منها إلى نيّة التعبد فلا يجزىء فعلها بالنسبة إلى المُكْرَه في خاصة نفسه، حتى ينوي القربة (¬3). الثاني: أن من واجب الدولة الِإسلامية أن تقيم شريعة الله، فإذا امتنع بعض الرّعية عن أداء الواجبات التي كلَّفهم الله بها، كالصلاة، والزكاة، والصوم، فمن واجبها إجبارهم على أدائها بالقوة، قال تعالى: {الّذِينَ إنْ مَكنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ، وآتَوا الزَّكَاةَ، وأَمَروا بالْمَعْرُوف، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر .. } (¬4)، وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك: {خُذْ مِن أَمْوَالهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكَيهِمْ بِهَا} (¬5). وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه أمر بقتال الناس حتى يؤدوا هذه التكاليف: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله" (¬6). وواضح من النصّ أن عدم إقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة يبيح سفك دمائهم من قبل الحاكم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 54. (¬2) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 22). (¬3) الموافقات (2/ 241). (¬4) سورة الحج: 41 (¬5) سورة التوبة: 103. (¬6) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فإنْ تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة} حديث (رقم 25) انظر فتح الباري (1/ 75)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، انظر النووي على مسلم (1/ 212).

ومن هنا همَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتحريق بيوت الذين لا يشهدون الجمع والجماعات، والهمّ لا يكون إلا لتركهم واجبا. هذا واجب الدولة الِإسلامة أن تجبر بالقوة هؤلاء الذين يتهربون من أداء الواجبات، شاؤوا أم أبوا، وهذا يكفينا منهم، إذ لنا ظواهر الأمور، ولا نطالبهم بأكثر من هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلا خلاق لهم ما لم يؤدوها بنفس رضيّة إيمانا واحتسابا. يقول الشاطبي في هذا الموضوع: "لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم، فلا يطالبه الحاكم بإعادتها، لأنَّ باطن الأمور غير معلوم للعباد، فلم يطالوا بالشقِّ عن القلوب" (¬1). ويشكل على هذا ما ذهب إليه الشافعي من أن المكرَه على أداء الزكاة من قبل الحاكم تجزىء الزكاة عنه، ولو أمكننا أن نفهم عنه أن هذا الإجزاء في ظاهر الأمر في الدنيا لما كان هناك إشكال (¬2)، لكنَّه في موضع آخر يبيّن أنَّ الإجزاء الذي يريده في الدنيا والآخرة، لأنه فرق بين الصلاة والزكاة في هذا الجانب، يقول في الأمِّ: "وإنما منعني أن أجعل النيّة في الزكاة كالنية في الصلاة لافتراق الصلاة والزكاة في بعض حالهما، ألا ترى أنّه يجزىء أن يؤدي الزكاة قبل وقتها، ويجزيه أن يأخذها الوالي منه بلا طيب نفسه، فتجزىء عنه، وهذا لا يجزىء في الصلاة" (¬3). وقد حاول بعض أهل العلم توجيه قول الشافعي هذا زاعما أنَّ الشافعي يرى عدم وجوب النيّة في الزكاة، لأنها شبيهة بالغرامات المالية. وهذا زعم مرفوض، وادعاء لا يقوم على دليل، فالشافعي ينص صراحة على وجوب النيّة في الزكاة، فهو يقول: "لما كان في الصدقة فرض وتطوع، لم يجز -الله أعلم- أن يجزىء عن رجل زكاة يتولى قسمها إلاّ بنية أنه فرض" (¬4). ¬

_ (¬1) الموافقات (2/ 242). (¬2) وقد تأوله النووي على هذا النحو: المجموع (6/ 190). (¬3) الأم: (1/ 19). (¬4) الأم: (1/ 18).

وقد علَّل ابن حجر (¬1) سبب الإجزاء الذي يدلُّ عليه كلام الشافعي أنَّ السلطان قائم مقام صاحب المال (¬2). والذي يظهر لي -والله أعلم- أنَّ الشافعيّ لا يرى أنَّ المكره الذي يمتنع من أداء الزكاة أصلا- يجزىء ذلك عنه، وإنِّما مراده به هنا ذلك الرجل الذي يريد الزكاة، ولكنَّه لا يريد أداءها إلى الحاكم بسبب ظلمه، أو لأنه يريد توزيعها بنفسه، فيكرهه السلطان على أدائها إليه هو، فهذا هو الذي تجزيه. وقد تكلَّم الفقهاء في الزكاة التي يأخذها الخوارج هل تجزىء عن أربابها؟ ثالث الأقوال، أنَّها إن أخذت على وجه القهر والغلبة أجزأت عمَّن أخذت منه، وبه قال مالك (¬3)، وقد ادعى ابن بطال (¬4) الإجماع على أن أحذ الِإمام الظالم الزكاة مجزىء عمن أخذت منه (¬5). وممن قال بعدم إجزاء الزكاة ممن أخذت مه قهرا فقهاء الأحناف، وجمع من الحنابلة منهم ابن عقيل (¬6)، والشيخ تقي الدين (¬7)، وقال: هذا هو الصواب (¬8). ¬

_ (¬1) هو أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، علامة عصره في الحديث، انتشرت مصنفاته في حياته، وتهادتها الملوك والأكابر، ولي قضاء مصر مرات، ثم اعتزل، من مصنفاته: (فتح الباري شرح صحيح البخاري) ولد في سنة (773 هـ)، وتوفي سنة (852 هـ). (طبقات الحفاظ ص 547) (الأعلام 1/ 173). (¬2) فتح الباري (1/ 135). (¬3) هو مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة وعالمها، وأحد الأئمة الأربعة، مولده ووفاته في المدينة (93 - 179 هـ)، كان صلبا في دينه، بعيدا عن الأمراء والملوك، له كتاب (الموطأ)، وكتاب في (المسائل)، و (تفسير غريب القرآن). (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 3)، (طبقات الحفاظ ص89)، (الكاشف 3/ 112). (¬4) هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، عالم بالحديث من أهل قرطبة، له كتاب (شرح البخاري)، توفي سنة (449 هـ). (شذرات الذهب 3/ 283)، (الأعلام 3/ 283). (¬5) العيني على البخاري: (10/ 32). (¬6) هو علي بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي شيخ الحنابلة في وقته، كان قوي الحجة، أعظم تصانيفه (الفنون) في أربعمائة جزء، ولد في سنة (431 هـ)، وتوفي سنة (513 هـ). (لسان الميزان 4/ 243)، (شذرات الذهب 4/ 35)، (الأعلام 5/ 129) (¬7) هو عبد الغني المقدسي الجماعيلي الحنبلي. (¬8) الإنصاف (3/ 196)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 22).

أما الجزئيات التي أوردها الشاطبي في الاعتراض الثاني فالجواب عنها من وجوه: الأول: ليس معنى أن يخالف بعض العلماء في هذه الأمور أن تنخرم القاعدة بقولهم هذا، فقد حققنا في مبحث "الأفعال التي تفتقر إلى النية" ضعف حجة الذين قالوا بعدم وجوب النية في الوضوء والغسل، وشذوذ الذين قالوا بعدم وجوبها في الزكاة والصوم. الثاني: أنّ بعض الذين قالوا بعدم وجوب النية في بعض الأفعال عدّوا هذه الأفعال من العاديات التي لا تلزمها النيّات، كأداء الديون ورد الغصوب، والودائع، فالعبد يبرأ بمجرد الردّ. والأحناف جعلوا الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر مفتاحا للصلاة بمثابة اللباس واستقبال القبلة وبقية الشروط، وهي بذلك ليست عبادة، وقد نصوا على أنّها لا تكون عبادة إلاّ بالنيّة. الثالث: أنّ من قال: إن الهازل يلزمه مقتضى قوله، ليس من باب عدم الاعتداد بالقصد والنيّة، ولكن عقوبة له بسبب هزله في هذه الأمور الخطيرة التي لا تصلح مجالا للهزل، وكثير من الفقهاء يرى أنَّ هذا من باب خطاب الوضع، فالتفريق بين الزوجين (سببه) لفظ الطلاق، فليس في الأمر (على هذا القول) عقوبة أصلا.

المبحث الثالث فضل المقاصد وعظيم خطرها

المبحث الثالث فَضل المقَاصد وعظيم خَطرهَا

1 - يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله

فضَل المقاصد وَعظيم خَطرهَا 1 - يبلغ المرء بنيّته ما لا يبلغه بعمله: لو أراد أحدنا أن يحصي ما يستطيع تحقيقه من الإِرادات التي تثور في قلبه، لوجد أن الذي يتحقق منها نسبة ضئيلة بجانب ما لا يستطيع تحقيقه. ولا نريد بالنيّات التي تدخل في الِإحصاء تلك الخواطر العابرة، وأحاديث النفس المارة، بل نريد تلك النيّات التي بلغت مرتبة العزم والتصميم. والسبب في قلة الإِرادة التي نستطيع تحقيقها: أنَّ الأعمال التي نروم تحقيقها لا تتوقف على مجرد إرادتنا لها، فهناك حوائل ذاتية وخارجية تمنعنا من تحقيق ما نعزم على فعله، فالأجساد قد تضعف عن تحقيق المراد بسبب عظم المراد كما قال الشاعر: وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام وقد يمنع المرء من تحقيق مراده مرض مسهد، أو هرم مقعد، أو فقر مجهد، أو عدو قاطع للطريق، أو ظالم يحبسه في داره. هذه الموانع والحوائل الذاتية والخارجية التي تمنعنا من كثير من الأفعال الخيّرة التي تقربنا إلى ربنا وترفع منزلتنا عنده، لا تمنع النية من التحقق والوجود، إذ النيّة طليقة من القيود التي تكبل الأجساد. النية عمل القلب، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه: إنْ يسْلُب الْقَوْمُ العِدَا مُْلـ ... كِي وَتسْلِمُنِي الجْمُوع فَالْقلْبُ بَيْنَ ضُلو ... عِهِ لَمْ تُسْلِمِ القَلَبَ الضُّلُوع

فمهما ضعفت الأجساد، ومهما اشتدَّ ظلم الظالمين فقلب الِإنسان يبقى حرا طليقا، يتوجه إلى الله في السراء والضراء راغبا راهبا، يريده بالخير، ويقصده بالطاعة. ولكن ما قيمة النيّة التي لا نستطيع تحقيقها في واقع الأمر؟ هل يثيبنا أصحاب الأعمال الدنيوية إذا نحن قصدنا أن نحقق أعمالهم، ولكننا لم نستطع أن نفعل ذلك في الواقع بسبب حوائل قاهرة؟ نخطىء خطأ فادحا إذا سوينا بين المقاصد التي نتجه بها إلى ربِّ البرية، والمقاصد التي نقصد بها العباد، فالنيّة التي نريد بها أعمال النّاس ولا نستطيع تحقيقها لا يعترف الغالبية العظمى من النّاس بها، ولا يجزون عليها، ولا يعترفون إلاّ بما تحقق منها في واقع الأمر، وإن كان بعض الذين نبل معدنهم، وسمت نفوسهم يقدِّرون ذلك، ويعظمونه، كما قال الشاعر: لأشْكُرنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ بِه ... إنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعَروفِ مَعْروف أما النيّة التي نريد بها العمل الصالح الذي فرضه الله علينا ابتغاء رضوان الله فلها قيمة كبيرة عند الله، بل هي محلّ نظر الله -سبحانه- كما قال تعالى مبيّنا أهمية العمل الباطن: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لَحُوُمها وَلاَ دِمَاؤُها، وَلَكنْ يَنَالُهُ التقْوَى منْكُمْ} (¬1). فالله ينظر إلى حقيقة العمل الذي في القلب لا إلى صورته. ولذا فإنَّ العبد الذي ينوي نيَّة صادقة ولا يستطيع تنفيذها في الواقع ينال ثواب الناوي الفاعل لما نوى، ففي الحديث: "من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الحج / 37. (¬2) رواه مسلم في صحيحه (13/ 55، 56 مسلم بشرح النووي)، ورواه أبو داود في كتاب الصلاة باب الوتر (2/ 114)، والنسائي في كتاب الجهاد، باب تمني القتل في سبيل الله (6/ 37)، وابن ماجه في كتاب الجهاد، باب القتال في سبيل الله (2/ 935).

وتوفي أحد الصحابة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان قد تجهَّز للخروج للحرب وقتال الكفار، فقالت ابنته متحسِّرة: "إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا، قد كنت قضيت جهازك". فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "قد أوقع الله أجره على قدر نيته" (¬1). وتخلف رجال في غزوة تبوك، كانوا يتحرَّقون شوقا إلى صحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك المعركة، ولكن حبسهم العذر، بعضهم لم يكن عنده الزاد والراحلة، ولم يجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه، وبعضهم لعلَّه كان مريضا، ومنهم من تخلف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليَليَ شؤون المدينة، ويقوم على حمايتها، فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الذين كانوا معه في تلك الغزوة أن أولئك المتخلفين المعذورين يشاركونهم في الأجر، ونصّ كلامه -صلى الله عليه وسلم- فيهم: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر" (¬2). وقد أشار القرآن إلى مساواة أصحاب الأعذار للمجاهدين إذا منعهم الضرر من المسير والحرب والطعان، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدونَ فِي سبِيل الله بأَمْوالِهمْ وَأنفُسهِمْ} (¬3). وقد نزلت هذه الآية كما يقول ابن كثير أولا بدون "أُولي الضَّرَرِ" وكان عند الله ابن أمّ مكتوم قريبا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: أَنا ضرير، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت: {غيْرُ أولي الضَّرَر} (¬4)، فالآية كما يقول ابن كثير، ويرويه عن ابن عباس (¬5): تدلُّ على أنَّ "أولي الضرر" يساوون ¬

_ (¬1) رواه النسائي في سننه (4/ 14)، ومالك في موطئه (كتاب الجنائز 36)، وأحمد في مسنده (5/ 446)، ورواه ابن حبان والحاكم، وإسناده صحيح. (¬2) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. انظر مسلم بشرح النووي (13/ 56)، كنز العمال (1/ 242). (¬3) سورة النساء / 95. (¬4) تفسير ابن كثير (2/ 366)، والحديث تفرد بروايته البخاري دون مسلم كما يقول ابن كثير. (¬5) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم الرسول صلى الله عيه وسلم، حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وشهد له الصحابة، وأدخله عمر في مجلس الشورى مع كبار الصحابه، توفي بالطائف سنة (68 هـ). (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 70)، (طبقات الحفاظ ص 10) (الأعلام 4/ 228).

المجاهدين، ما دام الضَّرر قاهرا، والنية مستقرة في القلوب (¬1). فإذا صدقت النيّات من العباد، وحالت دون القيام بالعمل المراد الحوائل. فإن صاحب النية يعدّ في عداد العاملين، وما أحسن قول القائل: (¬2) يَا رَاحليِنَ إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ ... سِرْتُمْ جُسوماً وَسِرنَا نَحْنُ أَرْواحا إِنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْر وَعَنْ قَدَرٍ ... وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذرٍ فَقَدْ رَاحَا وقد مضى ذكر الحديث الذي يخبر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- "أنَّ الدنيا لأربعة نفر"، وفيه أن الذي لا يملك المال ثم يتمنى أن يكون كفلان الغني كي ينفق ويتصدّق مثله فإنّه يستوي مع الغني المنفق في الأجر والثواب، قال فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فهما في الأجر سواء"، وقال في الفقير الذي يريد مثل مال الغني الجائر الظالم الذي ينفق المال في الذنوب والمعاصي، ليفعل مثل فعله- قال فيه: "هما في الوزر سواء" (¬3). والعبد الذي ينوي استدامة عبادة من العبادات كصلاة الليل، أو صيام أيام من كل شهر أو من كل أسبوع، ثم يغلبه على هذه العبادة أمر ما، كأن يغلبه النوم، أو يشغله السفر أو المرض، يكتب له ما كان يعمله، فعن عائشة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من امرىء تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم، إلاّ كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (2/ 367). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 368). (¬3) رواه الترمذي فى سننه (كتاب الزهد: 17). ورواه ابن ماجه في سننه: كتاب الزهد، باب النية (2/ 1413)، وأحمد في مسنده (4/ 230، 231). (¬4) رواه النسائي في السنن: كتاب قيام الليل، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم (3/ 257)، ورواه مالك في موطئه: كتاب صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل (ص 93)، وأبو داود في سننه: كتاب صلاة التطوع، باب من نوى القيام فنام (2/ 47).

2 - الخلود في الجنة أو النار بالنيات

وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري (¬1)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل مقيما صحيحا" (¬2). وروى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا، حتى أطلقه، أو أكفته إليّ" (¬3). وعن أنس أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ابتلي المسلم ببلاء في جسده، قيل للملك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه" (¬4). من أجل ذلك كان عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ديمة، ففي الحديث المتفق عليه عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الأعمال إلى الله أدومها، وإن قل" (¬5). 2 - الخلود في الجنّة أو النّار بالنيّات: هناك شبهة تقول: لِمَ يعذّب الله الكافر بالخلود في النّار مددا لا نهاية لها مع أنَّ العدل يقتضي أن يعذبه بمقدار المدّة التي كفرها. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن قيس بن سليمان من بني الأشعر من قحطان، صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين، وأحد الحكمين بين علي ومعاولة، ولد باليمن سنة (21) قبل الهجرة، وأسلم وهاجر الهجرتين، توفي بالكوفة سنة (44) هجرية. (خلاصه تذهيب الكمال (ص 7)، (الكاشف 2/ 119) (طبقات الحفاظ ص 7). (¬2) رواه البخاري في صحيحه، انظر مشكاة المصابيح (1/ 490). (¬3) كفته أي ضمه إليه، ويكون ذلك بأن يتوفاه الله. (¬4) قال التبريزي في مشكاة المصابيح (1/ 494): "رواهما في شرح السنة"، وقال محقق الكتاب: "لقد أبعد النجعة، فالحديثان في المسند بإسنادين حسنين، وروي الأول منهما بطريق أخرى نحوه (2/ 184، 194، 198، 205) وإسناده صحيح. (¬5) قال التبريزي في مشكاة المصالح (1/ 391): رواه البخاري ومسلم.

3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية

ولم يخلد المؤمن في الجنّة، مع أنّه لم يؤمن ولم يطع إلاّ مدة معلومة محددة من الزمان. قالوا: السبب في ذلك أنَّ المؤمن يخلد في الجنَّة، لأنَّه ينوي أن يطيع الله أبدا، ولذلك جوزي بالخلود في الجنة. والكافر كان -في الدنيا- عازما على الكفر أبد الآبدين، وإن لم يعص الله إلاّ مدَّة حياته (¬1)، ومما يدلّ على تصميم الكافر على الكفر أبدا، قوله تعالى في الكفرة الذين يطلبون العودة إلى الدنيا كي يؤمنوا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نهُوا عنه وإنّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬2). وهذا أمر عظيم يدلّ على عظيم خطر النية وأهميتها. 3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية: قد تتوقف بعض الأعمال البدنية المطلوبة شرعا كالهجرة، وذلك عندما ينتشر الِإسلام، وتصبح كلمة الله هي العليا، وكصلة الأرحام إذا لم يكن للمرء رحم يصله، ولكن نية العمل الخير باقية دائمة لا تتوقف أبدا، يقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة" (¬3). وذكر الغزالي عن أحد الذين كانوا يعنون بفعل الخير، أنه كان يطوف على العلماء يقول: "من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى، فإني لا أحب أن يأتي عليَّ ساعة من ليل أو نهار إلاّ وأنا عامل من عمال الله، فقيل له: قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهمَّ بعمله، فإنَّ الهامّ بعمله كعامله" (¬4). ¬

_ (¬1) ممن تعرض لهذه المسألة السيوطي في أشباهه (ص 11)، والكرماني في شرحه على البخاري (1/ 21)، والأزهري في تهذيب اللغة (1/ 556)، وانظر كلام الحسن البصري في إحياء علوم الدين (4/ 364)، وتحسين الطوية (2/ أ). (¬2) سورة الأنعام / 28. (¬3) رواه البخاري في صحيحه في كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، (4/ 46 فتح الباري)، ومسلم في كتاب الإمارة: مسلم بشرح النووي (13/ 8)، وأبو داود في سننه: كتاب الجهاد، باب الهجرة هل انقطعت (3/ 7). (¬4) إحياء علوم الدين (4/ 364).

4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد

4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد: إذا قصد العبد القيام بفعل خير شرعه الله، إلاّ أنَّ هذا الفعل لم يقع الموقع المناسب فإنّ صاحبه يثاب بقصده ونيّته. يروي البخاري (¬1) في صحيحه عن معن بن يزيد (¬2)، قال: كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدّق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إيّاك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن" (¬3). فالأب لم يقصد توجيه المال الذي أخرجه إلى ابنه، ولكنَّ الله أثابه بنيّته الصالحة، وكتب له الأجر، وإن عاد المال إليه. وأوضح من هذا ما حدّثنا عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن رجل صالح من الأمم الماضية، قال صلى الله عليه وسلم: "قال رجل لأتصدَّقنَّ الليلة بصدقة، فخرج فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدَّثون: تصدق الليلة على زانية، قال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدَّثون: تصدّق على غني، قال: اللهَم لك الحمد على غني! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فقال: اللهمّ لك الحمد: على زانية، وعلى غني، وعلى سارق! ¬

_ (¬1) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، صاحب الجامع الصحيح، أصح كتاب بعد كتاب الله، ولد فى بخارى سنة (194 هـ)، ونشأ يتيما، ورحل في طلب الحديث، توفي في قرية من قرى سمرقند سنة (256 هـ) (تهذيب التهذيب 9/ 7)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 379)، (طبقات الحفاظ ص 248). (¬2) معن بن يزيد بن الأخنس من بني سليم، هو وأبوه وجدّه كلّهم صحابة، كانت لمعن مكانة عند عمر بن الخطاب، قتل معن في معركة (مرج راهط) سنة (54 هـ). (تهذيب التهذيب 10/ 253)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 29)، (الكاشف 3/ 166). (¬3) صحيح البخاري، انظر فتح الباري (3/ 291)، وأحمد في مسنده (3/ 470).

5 - اهتمام العلماء بأمر النيات

فأُتي، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أمّا الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعلَّ الغني يعتبر، فينفق ممّا أعطاه الله، ولعلَّ السارق يستعف بها عن سرقته" (¬1). 5 - اهتمام العلماء بأمر النيّات: ومما يدلّ على فضل النيّات اهتمام العلماء على اختلاف تخصصاتهم بأمرها، فالنيّات تشكل مباحث هامّة في علم: الأخلاق، والفقه، والأصول، والتوحيد، واعتنى بها شراح الحديث ومفسّرو القرآن. ومما يدلّ على تعظيمهم لأمرها اعتناؤهم بالحديث الذي يعتبر الأصل في موضوع النيّات: حديث "إنَّما الأعمال بالنيّات" (¬2)، وقد تواتر النقل عن الأئمة الأعلام بعموم نفعه وعظم موقعه، قال أبو عبيد: "ليس في الأحاديث أجمع ولا أغنى ولا أنفع ولا أكثر فائدة منه". عَدْوه ربع العلم أو ثلثه أو نصفه: واتفق العلماء أمثال الشافعي وأحمد وابن المديني (¬3) وأبي داود (¬4) والدارقطني (¬5) والبيهقي (¬6) وغيرهم على عدّه ربع الِإسلام أو ثلثه أو نصفه. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم. انظر شرح النووي (7/ 110)، وسنن النسائي: (زكاة 47)، ومسند أحمد (2/ 322، 350). (¬2) صحيح البخاري ومسلم وغيرهما (انطر الملحق). (¬3) هو علي بن عبد الله بن جعفر السعدي بالولاء، المديني البصري محدّث مؤرخ، حافظ عصره، له نحو مائتي مصنف، ولد بالبصرة سنة (161 هـ)، وتوفي بسامراء سنة (234 هـ)، من كتبه (الأسامي والكنى) و (الطبقات)، و (قبائل العرب)، و (التاريخ). (تهذيب التهذيب 7/ 349)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 253)، (طبقات الحفاظ ص 184)، (الأعلام 5/ 118). (¬4) هو سليمان بن الأشعث أصله من سجستان، ولد سنة (202 هـ)، وتوفي بالبصرة سنة (275 هـ)، إمام أهل الحديث في زمانه، وكتابه (السنن) أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث. (طبقات الحفاظ ص 26)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 408) (الكاشف 1/ 390). (¬5) هو علي بن عمر الدارقطني نسبة إلى الحي الذي ولد فيه (دار قطن) ببغداد، حافظ عصره في الحديث، له كتاب (السنن)، و (المؤتلف والمختلف)، ولد سنة (306 هـ)، وتوفي سنة (385 هـ). (¬6) أحمد بن حسين بن علي من أئمة الحديث، ولد بنيسابور سنة (384)، ورحل إلى بغداد ثم الكوفة ومكة، له تصانيف كثيرة أشهرها: (السنن الكبرى)، و (السنن الصغرى)، و (الأسماء والصفات). توفي في سنة (458 هـ). ترجمته في (شذرات الذهب 3/ 304)، (طبقات الحفاظ ص 433). (وفيات الأعيان 1/ 75)، (الأعلام 1/ 113).

فهذا أبو داود صاحب السنن يقول: "كتبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب "يعني كتاب السنن" جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ويكفي الِإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله -صلى الله عليه وسلم: "إنّما الأعمال بالنيّات" (¬1). والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬2). ْوالثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه إلاّ ما يرضى لنفسه" (¬3). والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيّن والحرام بيّن" (¬4). وفي رواية أخرى عن أبي داود قال: أصول السنن في أربعة أحاديث: وذكرها إلاّ أنّه جعل حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس يحبك النّاس" (¬5) أحد هذه الأصول. وقد وافق الدارقطني أبا داود في روايته الأخيرة فعدّها أربعة وهي نفس الأحاديث التي أوردها أبو داود (¬6). وعدّها ابن المديني وابن مهدي (¬7) أربعة أيضا (¬8)، ولكن خالفوا في ذكر بعض الأحاديث، فهم يرون أن أصول الأحاديث الأربعة هي حديث: "إنما الأعمال"، ¬

_ (¬1) البخاري ومسلم وكتب السنن. (¬2) قال ابن رجب: أخرجه الترمذي وابن ماجه وحسنه النووي (جامع العلوم ص 105). (¬3) الحديث المشهور "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، رواه البخاري ومسلم (جامع العلوم ص 111). (¬4) عزاه ابن رجب إلى البخاري ومسلم (جامع العلوم ص 63). (¬5) روايتا أبي داود أوردهما ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 6)، والرواية الأولى أوردها العيني (1/ 22)، وصاحب إرشاد الساري (1/ 56). (¬6) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 9). (¬7) هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان البصري، من كبار حفاظ الحديث ببغداد. مولده ووفاته بالبصرة (135 - 198 هـ)، قال الشافعي: "لا اعرف له نظيرا". (تهذيب التهذيب 6/ 279)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 154)، (طبقات الحفاظ ص 139)، (الأعلام ص 139). (¬8) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 9).

وحديث: "لا يحلُّ دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث" (¬1)، وحديث: "بني الإسلام على خمس" (¬2)، وحديث "البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر" (¬3). وواضح أن مرادهم من كون حديث "إنما الأعمال" ربع الإسلام: أنَّه أحد أربعة أحاديث عليها مدار الإسلام. والِإمام أحمد يرى أن حديث "إنَّما الأعمال" أحد قواعد الِإسلام ولكنَّه عدَّ الأحاديث التي هي قواعد الِإسلام ثلاثة، حديث:"إنّما الأعمال". وحديث: "الحلال بيّن والحرام بيّن" (¬4)، وحديث "مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬5). ووجه ما قاله الإِمام أحمد أنَّ الدين فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، فحديث "الحلال بيّن، والحرام بيّن" فيه بيان ما نهى الله عنه. والذي أمر به نوعان: أحدهما: العمل الظاهر، وهو ما كان واجبا أو مستحبا. الثاني: العمل الباطن، وهو إخلاص الدّين لله. فقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ" ينفي التقرب إلى الله بغير ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب. وقوله: "إنّما الأعمال بالنيّات" يبين العمل الباطن، وأنَّ التقرب إنّما يكون بالِإخلاص في الدّين لله" (¬6). ¬

_ (¬1) عزاه النووي إلى البخاري ومسلم (جامع العلوم ص 115). (¬2) عزاه ابن رجب إلى البخاري ومسلم (جامع العلوم ص 40). (¬3) قال النووي: "حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين" (جامع العلوم ص 294). (¬4) عزاه ابن رجب إلى البخاري ومسلم (جامع العلوم ص 63). (¬5) قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 56): هذا الحديث خرجاه في الصحيحين. (¬6) مجموع فتاوى ابن تيمية (18/ 249)، وممن نقل عن الإمام أحمد أنه عدّها ثلث الإسلام ابن حجر في الفتح (1/ 10)، والمناوي في فيض القدير (1/ 32)، والسيوطي في الأشباه (ص 9).

هذا الحديث من جوامع الكلم

ووجّه البيهقي كون حديث "إنما الأعمال" ثلث العلم بأنَّ كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنَّها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها محتاج إليها (¬1). وقد يقال إنَّ القول مندرج في العمل الظاهر، وبذا يكون الحديث نصف العلم لا ثلثه، وهذا منقول عن الإِمام الشافعي رحمه الله، قال: "يدخل فيه نصف العلم" ووجه ما قاله: "أن للدّين ظاهرا وباطنا، والنيّة متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، والنيّة عبودية القلب والعمل عبودية الجوارح" (¬2). والذي يلفت النظر أنَّ العلماء وإن اختلفوا في تحديد الأحاديث التي هي قواعد الإسلام ومدار الدين، وفي تعليل كونها كذلك، إلاّ أنّهم اتفقوا جميعا على أن حديث "إنما الأعمال" أحد قواعد الإسلام، وأصل من أصوله (¬3). بل هو كما يقول النووي: "أعظم هذه الأحاديث" (¬4). هذا الحديث من جوامع الكلم: وهذا الحديث من جوامع الكلم، وهو يدخل في غالب مسائل الفقه وأبوابه، فابن مهدي يرى أنه يدخل في ثلاثين بابا من العلم، أما الشافعي فإنّه يرى أن "حديث النية يدخل في سبعين بابا من الفقه، وما ترك لمبطل، ولا مضار، ولا محتال حجّة إلى لقاء الله تعالى" (¬5). وقد أخطأ الذين ظنوا أنَّ الشافعي أراد المبالغة عندما قال: إنَّ هذا الحديث يدخل في سبعين بابا (¬6)، ولا أدل على خطئهم من الإِحصاء الذي قام به ¬

_ (¬1) فيض القدير (1/ 32)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 9)، فتح الباري (1/ 10)،منتهى الآمال (6/ ب). (¬2) إرشاد الساري (1/ 56). (¬3) جمع النووي -رحمه الله- الأحاديث التي عليها مدار الإسلام في جزء فبلغت أربعين حديثا، لا يستغنى عن معرفتها، لأنها كلها صحيحة جامعة قواعد الإسلام فى الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك. (¬4) المجموع (1/ 361). (¬5) فيض القدير (1/ 32)، العيني على البخاري (1/ 22). (¬6) ممن قال بذلك ابن حجر في الفتح (1/ 11).

البداءة به في المهمات

السيوطي (¬1)، وفعل مثله المناوي (¬2)، فقد عَدَّا مسائل الفقه التي للنيّة فيها مدخل فنافت على السبعين (¬3). وقد قال النووي بحق: "لم يرد الشافعي -رحمه الله تعالى- أنحصار أبوابه في هذا العدد، فإنَّها أكثر من ذلك" (¬4). وقال السيوطي في آخر قاعدة الأمور بمقاصدها: "اشتملت هذه القاعدة على عدة قواعد كما تبين ذلك مشروحا، وقد أتينا على عيون مسائلها، وإلا فمسائلها لا تحصى، وفروعها لا تستقصى" (¬5). وبين ابن دقيق العيد (¬6) السبب في دخول حديث "إنَّما الأعمال" في مسائل كثيرة، فقال: "كل مسألة خلافية حصلت فيها نيّة فلك أن تستدلَّ بهذا على حصول المنوي، وكل مسألة خلافية لم تحصل فيها نية فلك أن تستدل بهذا على عدم حصول ما وقع فيه النزاع" (¬7). البداءة به في المهمات: ومن تعظيم العلماء لهذا الحديث أن رغبوا في البداءة به في خطب الدفاتر والمنابر، وفي مجالس الدروس والوعظ. يقول أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "لو صنفت كتابا بدأت في ¬

_ (¬1) هو جلال الدين: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين، إمام حافظ مؤرخ أديب له نحو (600) مصنف، نشأ في القاهرة يتيما، وتوفي بها (849 هـ 911 هـ). (مقدمة طبقات الحفاظ)، (شذرات الذهب 8/ 51). (¬2) هو محمد عند الرؤوف بن علي الحدادي ثم المناوي القاهري، من كبار العلماء بالدّين والفنون، له نحو ثمانين مصنفا، منها: (كنوز الحقائق) في الحديث، و (فيض القدير شرح الجامع الصغير). ولد سنة (952 هـ). وتوفي في القاهرة سنة (1032 هـ). (الأعلام 7/ 75). (¬3) فيض القدير (1/ 32) والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 10). (¬4) العيني على البخاري (1/ 22). (¬5) الأشباه والنظائر (ص 49). (¬6) هو محمد بن علي بن وهب القشيري، من أكابر العلماء بالأصول، أصله من (منفلوط)، وولد في مدينة (ينبع)، سنة (625 هـ)، وتعلم في دمشق والإسكندرية والقاهرة، ولي قضاء الديار المصرية، وتوفي في القاهرة سنة (702 هـ). (شذرات الذهب 6/ 5)، (طبقات الحفاظ ص 513)، (الأعلام 7/ 173). (¬7) إحكام الأحكام مع حاشية الصنعاني (العدة) (1/ 76 - 77).

أول كلّ باب منه بحديث "إنما الأعمال" (¬1)، وأوصى -رحمه الله- بذلك، فقال: "مَنْ أراد أن يصنّف كتابا فليبدأ بهذا الحديث" (¬2). وقد تناقل العلماء وصية هذا العالم الجليل مقرين لها، وآخذين بها، وداعين إخوانهم إلى تطبيقها والالتزام بها. ومما يشهد لذلك أنَّ عمر بن الخطاب خطب بهذا الحديث على المنبر في المدينة (¬3)، وذكر المناوي: أن الخلفاء الأربعة خطوا به على المنابر (¬4)، فلما صلح أن يخطبوا به على المنابر، صلح أن يجعل في خطب الدفاتر. وقد ذكر العيني (¬5) أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطب بهذا الحديث بعد هجرته وقدومه المدينة، أما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطب به فيومىء إليه إحدى روايات الحديث سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يا أيها الناس: "إنما الأعمال بالنية" (¬6)، ففي هذه إشارة إلى أنَّه كان حال الخطبة. أما أنَّ الحديث كان عند قدومه المدينة فلا يوجد ما يدلّ عليه كما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني (¬7). إلاّ أن السيوطي ذكر أنه وقع على رواية مصرحة بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاله عقب وصوله المدينة، أوردها الزبير بن بكار في أخبار المدينة (¬8). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 28)، (العيني على البخاري (1/ 22) منتهى الآمال (5/ ب). (¬2) نقل هذا القول عنه البخاري والترمذي، انظر العدة (1/ 62)، وانظر المصادر السابقة. (¬3) رواه البخاري عن علقمة بن وقاص الليثي، قال سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول. فذكره. (¬4) فيض القدير (1/ 29)، ولكنه لم يذكر مصدرا معتمدا يصدق ما أورده، ويرد قوله أن المحدثين قد أجمعوا على أن الحديث لم يروه غير عمر بن الخطاب عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - فيما وصل إلينا بطريق صحيح. (¬5) العيني على البخاري (1/ 17). (¬6) رواه البخاري في صحيحه في باب ترك الحيل. (¬7) فتح الباري (1/ 10). (¬8) الرواية التي أوردها الزبير بن بكار، وذكرها السيوطي غير صحيحة، لما سبق بيانه أن هذا الحديث لم يروه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - فيما وصل إلينا بإسناد صحيح إلا عمر بن الخطاب، وسيأتي تحقيق ذلك.

ومناسبة الخطبة لهذا الحديث أول قدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- المدينة، كما يقول السيوطي: "أن الأحكام، وغالب العبادات إنّما شرعت بعد الهجرة، وكلُّها متوقفة على النيّة، والنيّة محلّها أول كلّ عمل، فبدأ -صلى الله عليه وسلم- ببيان النيّة للإشارة إلى وجوب تقديمها على كل عمل من الأعمال، وأنها أول الأركان" (¬1). وممن عمل بوصية ابن مهدي الِإمام البخاري رحمه الله تعالى، فإنَّه بدأ جامعه الصحيح الذي هو أصح كتاب في الحديث، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله - بحديث "إنما الأعمال بالنيات". ومنهم تقي الدين عند الغني المقدسي الجماعيلي (¬2) في كتابه (عمدة الأحكام) وقد شرح هذا الكتاب ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام". وابتدأ به السيوطي جامعه الصغير مع أنه ليس على وفق ترتيبه. والنووي ابتدأ كتابه "المجموع" به، قال: "وإنما بدأت به تأسيا بأئمتنا ومتقدمي أسلافنا" (¬3). وقام السيوطي بشرح هذا الحديث في كتاب كامل (¬4) وألف في النيّات جماعة من العلماء (¬5). ¬

_ (¬1) منتهى الآمال (5/ ب، 6/أ). (¬2) هو عبد الغني بن عبد الواحد، ولد بجماعيل قرب نابلس، سنة (541 هـ)، وانتقل إلى دمشق صغيرا، ونبغ في الحديث ورجاله، له (الكمال في أسماء الرجال)، و (عمدة الأحكام في كلام خير الأنام)، توفي بمصر سنة (600 هـ) راجع: (تذكرة الحفاظ 4/ 1372)، (شذرات الذهب 4/ 345)، و (طبقات الحفاظ ص 458). (¬3) المجموع (1/ 28). (¬4) الكتاب هو: منتهى الآمال شرح حديث: "إنما الأعمال"، وهو لا يزال مخطوطا حتى إعداد هذا البحث. (¬5) منهم القرافي له كتاب: "الأمنية في إدراك النية"، وللقرافي كلام طويل في كتابه الذخيرة في باب الوضوء، ومنهم ابن تيمية له كتاب في شرح حدث "إنما الأعمال"، ولأحد تلاميذ ابن حجر كتاب بعنوان الأجوبة الزكية عن تأخر العمل وتقدم النية، وممن شرح حديث "إنما الأعمال" إبراهيم الكوراني، ومحيي الدين محمد بن سليمان المتوفى 875 هـ، ومحمد عارف الدمشقي المتوفى في القرن الماضي، ولمحمد الطاهر بن عاشور كتاب مقاصد الشريعة.

6 - شرفت النيات بموجدها

وكل هذا يدل على مدى اعتناء العلماء بها، حتى أن عبد الله بن أبي جمرة (¬1) لعظم معرفته بشأن النيّات تمنى على العلماء أن يتخصص بعضهم في هذا الأمر كي يعلم الناس ويرشدهم، يقول: "وددت أنه لوكان من الفقهاء من ليس له شغل إلاّ أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد إلى التدريس في أعمال النيّات ليس إلاّ، فإنّه ما أتي على كثير من النَّاس إلاّ من تضيع ذلك" (¬2). وقال الثوري (¬3) رحمه الله: "كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل" وقال بعض العلماء: "اطلب النية للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير" (¬4). 6 - شرفت النيات بموجدها: إذا حق للأبناء أن يفخروا بالآباء الكرام، وأن يشرف الفرع بأصله الطيّب على حدّ قول الشاعر: وَهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّيَ إلاّ وشِيجُهُ ... وَتَنبُتُ إلاَّ في مغارِسِه النَخْلُ فيحقّ للنيّات أن تشرف بموجدها وباعثها وهو القلب. فالقلب سيد الأعضاء ومليكها، وهو محل العقل والبصيرة، ومناط التكليف، وهو يقوم بأخطر الأعمال من إيمان وكفر، وحب وبغض، وما الأعمال الخارجة إلا صورة ظاهرة لما استقر في الضمائر الخفية الباطنة. والقلب هو الآمر الناهي، والأعضاء تطيعه طاعة الجند لقائدها، لا تعصي له أمرا، ولا تخرج عن حكمه، فهو منها بمكان الراعي من الرعّية، والقائد من ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن سعد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، محدث مالكي المذهب، من كتبه (جمع النهاية)، اختصر به صحيح البخاري، و (بهجة النفوس)،في شرح المختصر، توفي بمصر سنة 695 هـ. راجع (الأعلام 4/ 211). (¬2) المدخل (1/ 3). (¬3) هو سفيان بن سعيد الثوري، ولد في الكوفة ت (97 هـ)، وتوفي في البصرة سنة (161 هـ)، يدعى أمير المؤمنين في الحديث، من كتبه (الجامع الكبير)، و (الجامع الصغير)، وكتاب في (الفرائض). (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 396)، (طبقات الحفاظ ص 88)، (الأعلام 3/ 158). (¬4) إحياء علوم الدين (4/ 364).

7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها

الأتباع، والحاكم من المحكومين، فإذا صلح القلب صلح بقيّة الحسد، وإذا فسد فسدت، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقرِّرا هذه الحقيقة: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب" (¬1). والجسد الِإنساني كالوعاء، فإذا طاب ما في أسفل الِإناء طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه وإذا فسد أسفله فسد أعلاه" (¬2). فإذا كان هذا شأن القلب فالنية وهي عمل قلبي لها فضل على الأعمال الظاهرة، وفضلها عليها كفضل القلب على الأعضاء الظاهرة. يقول علي قاري (¬3) في هذا: "قال سهل: "ما خلق الله تعالى مكانا أعز وأشرف عنده من قلب عبده المؤمن، وما أعطى كرامة للخلق أعز عنده من معرفته، فجعل الأعزّ في الأعزّ، فما نشأ من أعزّ الأمكنة يكون أعز مما نشأ من غيره ... " (¬4). 7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها: لا يقبل العمل الذي يتقرب به إلى الله إلاّ بأمرين: الأول: أن تبعث على العمل نيّة صالحة صادقة. الثاني: أن تكون صورة العمل الظاهر مشروعة، غير مبتدعة. وفي هذا يقول ابن مسعود (¬5): "لا ينفع قول إلاّ بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلاّ ¬

_ (¬1) أورده صاحب كنز العمال (3/ 245) وعزاه إلى الستة. (¬2) أورده في صحيح الجامع (2/ 2316)، وعزاه إلى ابن ماجه ومسند أحمد. (¬3) هو علي بن محمد سلطان الهروي القاري، فقيه حنفي، سكن مكة، وتوفي بها سنة (1014 هـ) من مؤلفاته: (تفسير القرآن)، و (شرح مشكاة المصابيح) - (الأعلام 5/ 166). (¬4) تحسين الطوية 1/ ب. (¬5) هو عبد الله بن مسعود من هذيل، أحد السابقين إلى الإسلام هاجر الهجرتين، وهو من المكثرين في رواية الحديث، توفي بالمدينة سنة (32 هـ). (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 99)، (طبقات الحفاظ ص 5)، (الأعلام 4/ 280).

بنيّة، ولا ينفع قول وعمل ونيّة إلا بما يوافق السنة" (¬1). والأمر الثاني لا قيمة له إذا فقد الأمر الأول. وبذلك يتبيّن مدى حاجة الأعمال الظاهرة إلى النيات، فالعبادات التي تخلو من النية لا قيمة لها أبدا (¬2)، كالعبادات التي يؤديها المرء نسيانا أو سهوا، أو وهو نائم، أو غافل. والعبادات التي تنبعث بنيّة غير صادقة لا تعتبر باطلة فحسب، بل يعذَّب صاحبها بسبب قصده الفاسد. فالعبادات التي يقوم بها المراؤون والمنافقون وعباد الدينار والدرهم وزرها عظيم، وحسابها شديد، وصدق الله إذ يقول: في، {وَقَدمنْا إِلى ما عَمِلُوا منْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباءً منثورا} (¬3). وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬4). فالكفرة والمراؤون والمنافقون لا تنفعهم عبادتهم شيئًا لأن نياتهم فاسدة. ولذلك رتَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الثواب والمغفرة في أكثر من عمل على القيام بالأعمال بنيّة صالحة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه" (¬5)، فالصوم الذي تغفر به الذنوب هو الذّي يقوم به العبد استجابة لأمر الله الذي فرض عليه الصيام، وطلبا للأجر والثواب. ¬

_ (¬1) العدّة (1/ 8)، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا وأورده ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 18)، بلفظ قريب من الرواية التي أوردناها، إلا أنه جعلها من قول سفيان. (¬2) ومع أن الأحناف يصححون الوضوء والغسل بغير نية إلا أنهم يقولون: (لا ثواب فيها بغير نية). غمز عيون البصائر (1/ 23). (¬3) سورة الفرقان / 23. (¬4) سورة النور / 39. (¬5) أورده فى صحيح الجامع (5/ 309)، وعزاه إلى البخاري ومسلم وأحمد والنسائي.

وفي الحديث الآخر: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدَّم من ذنبه" (¬1). وفي الصلاة يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لا ينهزه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة ... " (¬2) الحديث. وفي اتباع الجنازة يقول: "من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معها حتى يصلي عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين" (¬3). وفي المساهمة في الحرب يقول: "من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، كان شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" (¬4). ولو أردنا أن نستقصي النصوص في هذا الموضوع لطال المبحث، والذي يعنينا هنا أن نعلم أنَّ النيَّة الصالحة روح العمل ولبّه، والعمل بدونها كالجثة الهامدة التي لا روح فيها. ومما يدلّ على ذلك صراحة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلٍّ امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬5). وفي يوم القيامة تكون النية هي المقياس الذي يحاسب العباد على أساسه ففي الحديث "أن جيشًا يغزو الكعبة، فيخسف الله بأولهم وآخرهم"، فقالت عائشة: يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم المكره .... ؟ فقال: "يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نيّاتهم" (¬6). ¬

_ (¬1) أورده في صحيح الجامع (5/ 334) وعزاه إلى البخاري ومسلم. (¬2) رواه البخاري في صحيحه. الفتح (4/ 338). (¬3) صحيح الجامع (5/ 267)، وعزاه إلى البخاري والنسائي. (¬4) صحيح البخاري. الفتح (6/ 56). (¬5) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وانظر تخريجه ملحق الكتاب. ص 519. (¬6) رواه مسلم في صحيحه. شرح النووي (18/ 704).

8 - النيات تميز الأعمال

8 - النيّات تميز الأعمال: (¬1) في كثير من الأحيان تتفق الأعمال في الصورة والمظهر، ويتميز بعضها عن بعض بالنيات، فقد يكون الفعل الواحد من أعظم الطاعات إذا نوى به صاحبه نيّة صالحة، ويكون أعظم الذنوب إذا نوى به نية سيئة، كالناطق بالشهادتين يريد الإسلام حقًّا فهذا بأفضل المنازل، فإذا نطق بهما نفاقا بريد إحراز ماله ودمه كان بشر المنازل. والساجد لله فعله من أعظم القربات، والساجد لغير الله فعله من أعظم الذنوب، وذبح البهائم صورته واحدة، فالذي يذبحه لغير الله فقد أذنب وعصى، والذي يذبحه لله فقد بر وأطاع. والنيات تميز رتب العبادات: فالنية هي التي تميز راتبة الفجر عن فرض الفجر إذا صلاهما المصلي منفردا، وبها يتميز القضاء عن الأداء، والصدقة المستحبة عن الصدقة الواجبة، وحج الفريضة عن حج النافلة، وتميز بين النوافل: فهذه نافلة العشاء، وهذه نافلة الفجر، وتلك قيام ليل ... وهكذا. وتميز بين العبادات والعادات: فالإمساك عن الطعام والشراب والنكاح قد يكون عبادة وطاعة، وقد يكون حمية وعلاجا. وغسل أعضاء الوضوء قد يكون قربة، وقد يكون عادة وتنظفا. 9 - المحوِّل العجيب: كثيرا ما راود بعض الناس في الماضي حلم لذيذ، وهو إيجاد محول يستطيع أن يحول المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، وقد شغلت هذه الفكرة الناس في بعض العصور، وأخذت قسطا وافرا من تفكيرهم وجهدهم. ¬

_ (¬1) سبق بحث هذا الموضوع في مبحث (الأدلة على اعتبار القصد في العبادات والتصرفات). ص (61).

10 - النية عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية

ولم يفطن كثير من الناس إلى أنَّ النيّة هي المحول العجيب، إلاّ أنَّها لا تحول الجماد إلى نوع آخر من الجماد، ولكنَّها تحول الأعمال العادية التي تضمحل وتزول بمجرد الانتهاء منها إلى أعمال باقية خالدة، فالطعام والشراب والنكاح .. كل ذلك زائل ذاهب فإذا قصد العبد به نيّة صالحة، كأن ينوي التقوي بالطعام والشراب على طاعة الله، وكأن يعفَّ نفسه عن الزنى بالنكاح، ويطلب الولد الصالح الذي يعبد الله ويجاهد في سبيله -فإنَّ هذه الأعمال تتحول إلى أعمال باقية صالحة، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة" (¬1)، فالإنفاق بنيّة الاحتساب يتحول إلى صدقة يدّخر لصاحبها أجرها وثوابها. 10 - النيّة عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية: النية خفية غير ظاهرة، فلا يستطيع العبد أن يرائي بنيته، لأنَّ النّاس لا اطلاع لهم على المستتر في القلوب، بخلاف الأعمال الظاهرة البينة فقد يداخلها الرياء، وكثير من الآفات التي تعرض للعمل الظاهر تأتي من هذا المرض الخطير والآفة الماحقة، فالرياء يبطل الأعمال ويفسدها، ويخبث النفوس ويدسِّيها. 11 - تربية على اليقظة: الغفلة داء موبق للنفس، يوردها موارد التهلكة، فالحيوان يسير في حياته وفق ما فطر عليه لا يحيد، ولا ينحرف، وقد ميز الِإنسان بإرادته ووعيه، فإذا غفل، وتداعى، وعطل قصده ونيته، وعاش أسير أهوائه وشهواته، هبط دون مستوى الحيوان، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬2). وفي النيّة علاج لهذه الغفلة، وتربية على اليقظة والِإرادة الواعية التي تخلص ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، الفتح (1/ 136، 9/ 497). (¬2) سورة الأعراف / 179.

النية أفضل من العمل

العمل لله، فالنية عزم وتصميم وجمع للهمة، وتركيز للِإرادة، وإعمال للفكر، بحيث يدخل العبد في العبادة مرهف الحس محدّد الإِرادة والاتجاه، يقظا واعيا مخلصا في اتجاهه إلى الله. قال رجل للرسول -صلى الله عليه وسلم- "إنيّ أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه حتى نزلت. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1) (¬2) " فاعتبر إفساد النية إفسادا للعمل وإشراكا بالله، وهذا يجعل العبد يقظا دائما يسائل نفسه كلما أقدم على العبادة: لم أعبد؟ لم أصلي؟ لم أصوم؟ لم أتصدق؟. وقد قرر علماء التربية أن الفعل الواعي المبصر هو ميزة الإِنسان الذي يسعون إلى تكوينه، فالإِنسان ليس آلة صمّاء تؤدي أعمالاً بغير وعي وفهم وحضور قلب. النية أفضل من العمل: وخلاصة القول أنَّ النية أفضل من العمل، وفي الحديث: "نِيَّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نِيّته". وفي الحديث الآخر "نيّة المؤمن أبلَغ من عمله" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الكهف: / 110. (¬2) رواه ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاووس ورواه غيره مرسلا (تفسير ابن كثير 4/ 432). (¬3) حقق السخاوى في المقاصد الحسنة (ص 450) القول في هذين الحديثين، قال: حديث "نية المؤمن أبلغ من عمله"، أخرجه العسكري في الأمثال، والبيهقي في الشعب من جهة ثابت عن أنس به مرفوعا، وقال ابن دحية لا يصح، وقال البيهقي: إسناده ضعيف، انتهى. وله شواهد منها: عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا "نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته، فإذا عمل المؤمن عملا ثار في قلبه نور" أخرجه الطبراني، وكذا هو عنده وعند العسكري من حديث النواس بن سمعان، ولفظ العسكري: "نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله"، وأخرجه الديلمي من حديث أبي موسي الأشعري بالجملة الأولى، وزاد: "وإن الله -عز وجل- ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله، وذلك أن النية لا رياء فيها، والعمل يخالطه الرياء". ثم قال السخاوي: وهي وإن كانت ضعيفة فبمجموعها يتقوى الحديث، وقد أفردت فيه وفي معناه جزءا، بل في عاشر المجالسة للدينوي إلمام ببعض ما وجه به فيراجع. أ. هـ. من المقاصد بنصه. وقال علي قاري: قال الزركشي: سنده ضعيف، ثم قال: "وله طرق يتقوى بها" (تحسين الطوية 1/أ).

وأفضلية النيّة على العمل قد تبينت مما مضى والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) لا يجوز أن يفهم من هذا المبحث أنني أؤيد أولئك الذين يتهربون من العمل، زاعمين صلاح نياتهم، وأن هذا يكفيهم عند ربهم، فالبحث هنا فى أفضلية النية على العمل، وليس دعوة لترك العمل.

الباب الأول النيات وما يتعلق بها من أحكام

الباب الأول النيات وما يتعلق بها من أحكام تمهيد: السبب في انقسام المبحث إلى بابين. الفصل الأول: محل النية. الفصل الثاني: وقت النية. الفصل الثالث: صفة النية. الفصل الرابع: شروط النية ومبطلاتها. الفصل الخامس: النيابة في النية. الفصل السادس: ما يفتقر إلى النية وما لا يفتقر إليها.

تمهيد

تمهيد لماذا انقسم المبحث إلى بابين

تمهيد السبب في انقسام المبحث إلى بابين انقسم هذا البحث إلى بابين لأن المقاصد الصادرة من المكلفين تهدف إلى أمرين دائما: الأول: الفعل الذي تريد تحقيقه وإحرازه، وهي في ذلك تتجه إلى تحديده وتمييزه عما عداه. الثاني: الهدف الذي تريد الوصول إليه من وراء هذا الفعل. فالذي يدفع من ماله للآخرين، يوجه قصده إلى هذا الفعل، ولو لم يقصده لمَا كان، وهو إذ يخرج المال الحبيب إلى نفسه لا بدَّ أنه يرمي إلى تحقيق هدف معين، فبعض الناس يريد ما عند الله، وآخرون يريدون مديح الناس وثناءهم. والقصود التي تتجه إلى العبادة لفعلها وتمييزها وتحديدها هي موضوع الباب الأول. وهذا النوع من القصد عني بمباحثه الفقهاء، فنرى كلامهم في القصد يدور حوله. وقد عنونا له "بالنيّات"، لأنه الاصطلاح الذي يدور على ألسنة الفقهاء وفي كتبهم كثيرا، وهم يطلقون ذلك بدون تقييد. وبعض الباحثين يحلو له أن يسمي هذا النوع من المقاصد بالنية المباشرة، أو النية الأولى، تمييزا له عن مباحث القسم الثاني حيث أسموه: النية غير المباشرة، أو النية الثانية.

أما القصود التي تتجه إلى تحقيق أهداف معيّنة من وراء الفعل فهذه خصصنا لها الباب الثاني. وقد عني بهذه المباحث علماء التوحيد والسلوك والأخلاق، ولم يهملها الفقهاء. وقد عنونا لهذا الباب "بالِإخلاص" لأنَّه الاصطلاح الذي استعمله القرآن، والسنة النبويّة، ولأنَّ مدلوله واضح عند من له صلة بعلوم الشريعة. وبعض الباحثين يطلق على مباحث الباب الثاني: الدوافع والبواعث، أو الأهداف والغايات، أو النيّة غير المباشرة، أو النية الثانية. والباحثون في هذا المجال أدركوا أنَّ مباحث المقاصد تقسم إلى هذين القسمين، فالحارث المحاسبي (¬1) يصرح بهذا وهو يعرف النية، فيقول: "النية هي إرادة العبد أن يعمل بمعنى من المعاني، إذا أراد أن يعمل ذلك العمل لذلك المعنى، فتلك الإرادة نيّة، إمّا لله عز وجل، وإما لغيره، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإنَّما لامرىء ما نوى"، لأنَّها نيّة لمعنيين: نية أن يعمل العمل، ونيّة أن يعمله لمعنى من المعاني دنيا أو آخرة" (¬2). فكلام الحارث هنا صريح في صحة التقسيم الذي ذهبنا إليه ومن أجله جعلنا الموضوع منقسما إلى بابين، إلا أنَّه سمّى القسم الثاني "بالنية لمعنى من المعاني"، وهو الذي أسماه بعضهم بالهدف، وأسميناه بالإخلاص. وممن تعرض لهذا التقسيم ابن تيمية في الفتاوى، يقول في هذا الأمر: ¬

_ (¬1) هو الحارث بن أسد المحاسبي عالم بالأصول والمعاملات واعظ، له مؤلفات كثيرة. منها (الرعاية لحقوق الله)، توفي في سنة (243 هـ). (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 181)، (الأعلام 2/ 153)، (معجم المؤلفين 3/ 174). (¬2) الرعاية لحقوق الله (ص 205).

"النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين: على قصد العبادة، وقصد المعبود" (¬1). ويقول: "قصد العبادة بها تتميز أنواع العبادات وأجناس الشرائع ... ، وقصد المعبود هو الأصل الذي دلّ عليه قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2)، وبه يتميز من يعبد الله مخلصا له الدين ممن يعبد الطاغوت، وهو الدين الخالص الذي تشترك فيه جميع الشرائع (¬3) (¬4). لماذا بدأنا بقصد العبادة في قصد المعبود؟ لا يتقدم المرء إلى الفعل إلاّ إذا وضح الهدف الذي يجعله يقدم على القيام به، ولذلك كان حريا بنا أن نبدأ بمباحث (الإخلاص)، لأنها تمثل الهدف والغاية، إلا أن العامل وإن كان الهدف البعيد هو الذي يحركه- أول ما يبدأ به من الناحية الفعلية العمل، وهذا معنى قولهم: "أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل"، يقول ابن خلدون: "فلا يتمّ فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض، ثم يشرع في فعلها، وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير، وهو آخرها في العمل، وأولها في العمل هو المسبب الأول، وهو آخرها في الفكر، ولأجل الحصول على هذا الترتيب يحصل الانتظام في أفعال البشر". وكان قد ضرب مثلاً من قبل كلامه هذا يوضح الأمر بشيء محسوس، فقال: "لو فكّر في إيجاد سقف يكنّه انتقل بذهنه إلى الحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط، فهو آخر الفكر، ثم يبدأ في العمل بالأساس ثم بالحائط ثم بالسقف وهو آخر العمل، وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل" (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (26/ 23)، وراجع (18/ 256) منه. (¬2) سورة البينة/ 5. (¬3) مجموع الفتاوى (26/ 23). (¬4) وراجع في المسألة علاوة على ما تقدم: (الذخيرة 1/ 236). (الأشباه والنظائر للسيوطي ص 12)، (قواعد الأحكام 1/ 177، 207) (دستور الأخلاق ص421 - 422). (¬5) العبر وديوان المبتدأ والخبر (1/ 839).

الفصل الأول محل النية

الفصل الأول مَحَلّ النِّية

محل النية

مَحَلّ النِّيَّة بالتأمل في تعريفات العلماء للنية يظهر لنا أنَّ محل النية عندهم القلب، فقد عرَّفها بعضهم بأنَّها "عزيمة القلب"، أو "وجهة القلب"، أو "قصده"، أو "انبعاثه" (¬1). وقد نقل ابن تيمية اتفاق علماء الشريعة على أنَّ القلب محل النية (¬2)، وحكى السيوطي أنَّ الشافعية قد أطبقوا على أن النيّة محلها القلب وهو قول مالك رحمه الله (¬3). والذي جعلهم يذهبون هذا المذهب أنهم وجدوا كتاب الله ينسب العقل والفقه والإِيمان والزيغ ونحو ذلك إلى القلب. كما قال تعالى: {أَفلمْ يسيِرُوا في الَأرْض، فتكُون لهُمْ قُلُوب يعْقلونَ بِهَا} (¬4)، وقال: {وطُبع علَى قُلُوبهمْ فهُمْ لا يَفقَهُون} (¬5)، وقال: (أولئك كتب في قُلُوبِهِمُ الإيمَان} (¬6)، وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ الله قُلُوبهُمْ} (¬7). والقلب الذي عناه الله تعالى في هذه الآيات محله الصدر، وقد نصّ الله -تعالى- على ذلك: {وَلكِن تَعْمى الْقُلُوبُ الَّتي فِي الصدُورِ} (¬8). ¬

_ (¬1) سبق ذكر هذه التعريفات في المقدمة ص (20). (¬2) مجموع الفتاوى (18/ 262). (¬3) منتهى الآمال (17/ أ) الحدود في الأصول (ص 34). (¬4) سورة الحج / 46. (¬5) سورة التوبة / 87. (¬6) سورة المجادلة / 22. (¬7) سورة الصف / 5. (¬8) سورة الحج / 46.

وقد فهم القرطبي (¬1) هذه النصوص على ظاهرها، فالقلب الذي عناه الله هو "بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا، للعلم، فيحصي به العبد ما لا يسع في الأسفار، يكتبه تعالى بالخط الإلهي، ويضبطه بالحفظ الرّباني، حتى يحصيه، ولا ينسى منه شيئًا" (¬2). ويذكر القرطبي أيضا: "أن القلب في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته، وقلبت الإِناء رددته على وجهه، ثم نقل هذا اللفظ فسمى به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر إليه، ولتردّدها عليه كما قيل: ما سُمِّي الْقَلْبُ قَلْبًا إلاّ مِن تقلبه ... فَاحْذرْ على الْقَلبِ منْ قلْبٍ وَتَحْويلِ" (¬3) إلاّ أنَّ كثيرا من العلماء يرى أنَّ القلب المعني في الآيات القرآنية هو: "لطيفة ربانية، لها بهذا القلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلّق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الِإنسان، ويسميها الحكيم النفس الناطقة، والروح الباطنة" (¬4). وعلى هذا فالقلب هو الروح أو النفس، ويشهد لهذا أن البحوث التي أجريت على القلوب من الباحثين في العصر الحديث دلت على أن القلب الجسماني ليس إلاّ مضغة من اللحم، ونحن نصدق ربّا في أن القلب محلّ العقل والفقه، إلاّ أن المراد به تلك اللطيفة المتعلقة بالقلب. والله أعلم. وقد ذهب غالبية الفلاسفة إلى أن الدماغ محلّ العقل، ويلزم على قولهم هذا ¬

_ (¬1) هو محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المالكي، من كبار المفسرين، له (الجامع لأحكام القرآن) في التفسير، وفاته سنة (671 هـ). (مقدمة تفسير القرطبي)، (الأعلام 5/ 218). (¬2) تفسير القرطبي (14/ 117). (¬3) تفسير القرطبي (1/ 187). (¬4) التعريفات للجرجاني (ص 156).

أن يكون الدماغ محل النيّة والعلوم والاعتقادات، لأن هذه الأعراض أعراض النفس والعقل، فحيث وجدت النفس وجد الجميع، فالعقل سجية النفس، والعلوم والإرادات صفاتها (¬1). وحجتهم على مدعاهم، أن من أصيب دماغه فسد عقله، وبطلت العلوم والفكر وأحوال النفس. ولا نريد أن نخوض فيما خاض فيه الأوائل والأواخر في هذا الموضوع، فقد اختلف الناس في تحديد معنى العقل ومكانه، وكيفية العقل ... الخ، وحسبنا هنا أن نقرر في هذا ما قرره القرآن من أنَّ محل العقل والفقه والإِيمان والزيغ هو القلب، ومكان القلب الصدر. ¬

_ (¬1) الذخيرة (1/ 235)، الحطاب على خليل (1/ 231)، وقد وافق المعتزلة في قولهم أن العقل في الدماغ أبو حنيفة (الحدود في الأصول 34 - 35)، وتابعه أصحابه. (ابن الجوزي في ذم الهوى ص 5)، (والقرافي في الذخيرة 1/ 235)، وقال به عند الملك من المالكية مخالفا إمام المذهب (ابن الجوزي في ذم الهوى)، نسب القول بذلك إلى الإمام أحمد (ذم الهوى ص 5).

حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب

حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب لم يخالف أحد من العلماء في أن التلفظ بالنيّة لا يجزىء العابد إن لم تحصل النيّة في القلب إلاّ القفال (¬1) من الشافعية، فقد قال بإجزائها في الزكاة، ونقل الصيدلاني والغزالي وإمام الحرمين عن الشافعي أنه يقول بذلك (¬2). مناقشة القفال: والتلفظ بالنيّة له مع نيّة القلب ثلاث صور: الأولى: أن يتلفظ بلسانه مع كونه قاصدا لذلك في قلبه، وهذه الحالة لا خلاف عند العلماء في إجزائها، وإن حصل خلاف حول استحباب التلفظ، أو عدم استحبابه، أو كراهيته، كما سيأتي بيانه. الثانية: أنَّ يتلفظ بلسانه مع كونه لا يريد ذلك في قلبه، وإنما يخرج الزكاة خوفا من الحاكم أو غيره أو طلبا لأمر دنيوي كنيل رضوان الناس وحسن الثناء منهم، وهذا لا خلاف في عدم إجزائه، لأنَّ اللفظ إذا خالف ما في القلب فالعبرة بما في القلب. الثالثة: أن يتلفظ بلسانه ولا تحصل النية في قلبه، وهذه هي المسألة التي نازع القفال في إجزائها، ولا يتصور حصولها إلا في حالة الغافل والساهي، وتصور وقوع ذلك في الزكاة بيد، إذ يصعب أن يخرج المرء مالاً يضعه في مصارف الزكاة التي حدّدها الشارع، ويتلفط لذلك بلسانه -كل هذا- وهو غافل لا يدري ما ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمد بن الحسين الشاشي القفال رئيس الشافعية بالعراق في عصره، كان متوليا التدريس في المدرسة النظامية، وتوفي ببغداد سنة (507 هـ)، له (حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء)، و (المعتمد)، و (الشافعي في شرح مختصر المزني). انظر: (شذرات الذهب 4/ 16)، (معجم المؤلفين 8/ 253). (¬2) المجموع (6/ 185).

يفعل وما يقول؛ خاصة والنفوس في الأموال شحيحة، وهي عليه جدّ حريصة. أما وقوع التلفظ باللّسان وعدم حصول ذلك بالقلب من واع مدرك لما يفعل وما يقول فهو أمر لا يتصور حصوله، لأنَّ المرء متى علم بوجوب فعل أمر عليه، ثم توجّه إلى الفعل فإنَّه لا بد أن ينويه، فكيف يتصور منه أن يتلفظ به، ولا ينويه بقلبه! هذا محال. إذا وضح هذا اتضح أن ما ذهب إليه القفال غير صحيح، لأنه لا يمكن حصوله، وما استدل به لا ينهض للاحتجاج على المدعى. فقد احتج بأنَّ الزكاة تخرج من مال المرتد ولا تصحّ نيته، فالتلفظ من غير نيّة جائز من باب أولى، والجواب: أن إخراج الزكاة من مال المرتد من غير نية أمر ممكن الحصول، وهذا غير ممكن، وكون ذلك يجزىء المرتد مسألة خلافية. وأمّا استدلاله بجواز النيابة في أداء الزكاة، ولو كانت نيّة القلب متعينة لوجب على المكلف بها مباشرتها، لأن النيات سر العبادات والإِخلاص فيها، فإنه منقوض بالحج والعمرة، فالنيابة فيهما جائزة، ولا تصحان إلاّ بالنية باتفاق. وأما أنَّ القول بذلك هو مذهب الشافعي فعندي فيه نظر، وسأنقل نصّ عبارة الشافعيّ في الأم، ثم أبين مأخذهم منها، وما تبين لي فيها. يقول الشافعي رحمه الله: "وإنما قلت: لا تجزىء الزكاة إلاّ بنية؛ لأنَّ له أن يعطي ما له فرضا ونافلة، فلم يجز أن يكون ما أعطى فرضا إلا بنية. وسواء نوى في نفسه أو تكلم بأن ما أعطى فرض". ثم (قال الشافعي رحمه الله): "وإنما منعني أن أجعل النية في الزكاة كنيّة الصلاة لافتراق الزكاة والصلاة في بعض حالهما، ألا ترى أنه يجزىء أن يؤدي الزكاة قبل

وقتها، ويجزيه أن يأخذها الوالي منه بلا طيب نفسه، فتجزىء عنه، وهذا لا يجزىء في الصلاة" (¬1). فقد فهموا أنَّ الاكتفاء باللفظ فحسب مذهب للشافعي في قوله: "وسواء نوى في نفسه أو تكلم"، ومن قوله: "وإنما منعني أن أجعل النيَّة في الزكاة كنيّة الصلاة لافتراق حالهما" (¬2). وعندي أن كلام الشافعي هذا ليس نصا في الدلالة على الاكتفاء باللفظ، لاحتمال أن يكون مراد الشافعي لفظ اللسان مع نيّة القلب، وهذا ما فهمه صاحب التقريب من الشافعية من عبارة الشافعي هذه (¬3)، ويدلّ على أنَّ هذا هو مقصوده نصّه قبل ذلك على أن الزكاة لا تقبل في أكثر من مسألة، لأنه لم يخلص القصد للفرضية. فمن ذلك قوله: "ولو أخرج عشرة دراهم فقال: إن كان مالي الغائب سالما فهده العشرة من زكاته أو نافلة، وإن في يكن سالما فهو نافلة. فكان ماله الغائب سالما لم تجزىء عنه (¬4) "، ثم علَّل عدم الِإجزاء بقوله: "لأنه لم يقصد بالنية فيها قصد فرض خالصا" (¬5)، ومعلوم أنَّ القصد هو النية، ومحله القلب. وأما أنّه فرق بين نيّة الصلاة والزكاة فقد وضّح نفسه -رحمه الله- أنّ الفرق منحصر في جواز إخراج الزكاة قبل وقتها، وفي إجزائها إذا أخذها الِإمام من المالك بغير طيب نفس منه. ولذا كان القول الأشهر والأصح في مذهب الشافعية أنه لا بد من تعيين نيَّة القلب، ولا يكفي التلفظ باللسان، بل نصّ إمام الحرمين على أنَّ المذهب هو تعيين نية القلب (¬6). ¬

_ (¬1) الأم (2/ 19). (¬2) المصدر السابق. (¬3) المجموع (6/ 185). (¬4) الأم (2/ 19). (¬5) الأم (2/ 19). (¬6) المجموع (6/ 186).

وإذا اتضح لنا بعد العرض السابق أنّ التلفظ بالنية من غير وجود لها في القلب أمر مستحيل حال اليقظة والعلم، تبيّن لنا ما في قول بعض الحنفية: "من لا يقدر أن يحضر قلبه لينوي بقلبه، أو يشك في النية، يكفيه التكلم بلسانه" (¬1) من مجافاة للصواب، فإنَّ هذا أخطأ إذ زعم أنَّ استحضار النيَّة في القلب غير مقدور، كما أخطأ في زعمه أنَّ المتكلم بالنيّة من غير استحضار لها في القلب يجزىء والرد عليه علم مما مضى. والخلاصة: أن القول بإجزاء التلفظ بالنيَّة من غير قصد قلبي قول ضعيف كما قال السيوطي (¬2)، بل هو شاذ كما نصَّ على ذلك العيني (¬3). وبذلك صحَّ قول ابن تيمية: "ولو تكلم بلسانه، ولم تحصل النية في قلبه، لم يجزىء ذلك باتفاق أئمة المسلمين" (¬4). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 45). (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 32). (¬3) العيني على البخاري (1/ 33). (¬4) مجموع الفتاوى (22/ 218).

مخالفة اللسان لما نواه في قلبه

مخالفة اللسان لما نواه في قلبه ليس بين العلماء نزاع في أن العابد إذا تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى في قلبه، ذلك لأنَّ النيَّة عمل القلب كما سبق أن بيناه، فإذا قال بلسانه: نويت التبرد (أي في الوضوء)، ونوى بقلبه رفع الحديث، أو بالعكس فالاعتبار بما في القلب بلا خلاف. ومثله ما قاله الشافعي في الحجّ: لو نوى بقلبه حجّا، وجري على لسانه عمرة أو عكسه، انعقد ما في قلبه دون لسانه (¬1). وما ذكره ابن نجيم (¬2): أنَّ من سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد انعقدت الكفارة به، وكذا من قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره (¬3) - غير صحيح ولا تنعقد الكفارة به، وليس مستثنى من القاعدة. كيف وقد نص القرآن على أن الله لا يؤاخذنا باللغو في أيماننا، واللغو ما صدر من المرء بدون قصد اليمين، وأخبر أنَّ المؤاخذة إنما تكون على اليمين المقصودة المرادة: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكمُ بمَا كَسبتْ قُلُوبكُم} (¬4). {وَلكِن يُؤاخذُكُمْ بمَا عَقّدْتمُ الأيْمَان} (¬5)، لذا كان السيوطي محقّا عندما جزم "بأنَّ من سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد فلا تنعقد، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره" (¬6). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 366)، وممن نص على ذلك ابن قدامة في المغني (1/ 111). (¬2) هو زين العابدين بن إبراهيم الشهير بابن نجيم، فقيه حنفي مصري، له تصانيف منها: (الأشباه والنظائر)، و (البحر الرائق في شرح كنز الدقائق)، توفي في عام (970 هـ). (شذرات الذهب 3/ 104)، (الأعلام 3/ 104). (¬3) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 46). (¬4) سورة البقرة / 225. (¬5) سورة المائدة / 89. (¬6) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 301).

الجهر بالنية

الجهر بالنيّة الجهر بالنيّة لا يجب ولا يستحب باتفاق علماء المسلمين، بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة، وإذا فعل ذلك معتقدا أنَّه من الشرع فهو جاهل ضال، يستحق التعزير وإلا فالعقوبة على ذلك، إذا أصرَّ عليه بعد التعريف والبيان له، لا سيما إذا آذى من إلى جنبه برفع صوته، أو كرّر ذلك مرة بعد مرة. وقد أفتى غير واحد من علماء المسلمين بذلك، فمنهم قاضي القضاة جمال الدين أبو الربيع سليمان بن عمر (¬1) الشافعي قال "الجهر بالنية وبالقراءة خلف الإِمام ليس من السنة، بل مكروه. فإن حصل به تشويش على الصلين فحرام، ومن قال بأنَّ الجهر بلفظ النية من السنة فهو مخطىء، ولا يحلّ له ولا لغيره أن يقول في دين الله تعالى بغير علم". ومنهم أبو عبد الله محمد بن القاسم التونسي المالكي، قال: "النيّة من أعمال القلوب فالجهر بها بدعة مع ما في ذلك من التشويش على النّاس". ومنهم الشيخ علاء الدين بن العطار عفا الله عنه قال: "ورفع الصوت بالنية مع التشويش على المصلين حرام إجماعًا، ومع عدمه بدعة قبيحة، فإن قصد به الرياء كان حراما من وجهين كبيرة من الكبائر، والمُنكر على من قال بأن ذلك من السنة مصيب، ومصوّبه مخطىء. ونسبته إلى دين الله اعتقادا كفر، وغير اعتقاد معصية. ويجب على كل مؤمن تمكَّن من زجره زجره، ومنعه وردعه، ولم ينقل هذا النقل ¬

_ (¬1) هو أبو الربيع سليمان بن عمر الشافعي، من فقهاء الشافعية، أصله من المغرب، ولد بأذرعات قرب الشام سنة (645 هـ)، وتعلم بدمشق، وولي القضاء في أكثر من مكان، توفي في مصر سنة (734 هـ). راجع: (الأعلام 3/ 194).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد ممن يقتدى به من علماء الِإسلام". ومنهم الشيخ العلَّامة أبو عبد الله محمد بن الحريري الأنصاري، قال في هذه المسألة: "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم، ولا أحد من الأئمة الأربعة ولا علماء المسلمين يفعل مثل ذلك ... ، فإن زعم الفاعل لذلك أن هذا هو دين الله تعالى فقد كذب على الله تعالى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخل في دين الله ما ليس منه، يستتاب بعد التعريف وتزاح عنه الشبهة التي عرضت له، فإن تاب وإلّا قتل بذلك". والمتأمل في هذه النقول (¬1) يعرف أنها تتحدَّث عن مقولة صدرت من أحد أهل العلم في زمن هؤلاء الأعلام فأعظموا عليه النكير. وأنا وأن كنت لا أوافق هؤلاء الأفاضل على أنَّ القول بذلك يستوجب القتل وإن كان يستحق التعزير إذا أصرَّ على قولته، إلاّ أنّ فتاويهم هذه تدلّ بوضوح على أن هذه القولة بعيدة جدًّا عن تعاليم الِإسلام. ¬

_ (¬1) انظر هذه النقول في مجموعة الرسائل الكبرى (1/ 254 - 257).

التلفظ بها همسا

التلفظ بها همسًا التلفظ بالنيّة سرّا لا يجب عند الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فلم يقل أحد من الأئمة بوجوب ذلك، لا في الطهارة ولا في الصلاة ولا الصوم، .. الخ. وغلط أبو عبد الله الزبيري (¬1) من الشافعية على الشافعي -رحمه الله- إذ خرّج وجها من كلام الشافعي زاعما أنه يوجب التلفظ بالنية في الصلاة. والسبب في غلطه سوء فهمه لعبارة الشافعي، فالشافعي قال في كتاب الحج: "إذا نوى حجّا وعمرة أجزأ، وإن لم يتلفظ، وليس كالصلاة لا تصح إلاّ بالنطق" (¬2). قال النووي: "قال أصحابنا: غلط هذا القائل، وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا، بل مراده التكبير" (¬3). وحتى ينقطع القول بأن للشافعي قولا يوجب التلفظ بالنيّة في الصلاة أسوق عبارته الناصة على أنّه لا يرى ذلك لا في الصلاة ولا في غيرها؛ يقول رحمه الله تعالى في كتاب الأم: "فيما حكينا من أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دليل على أنّ نيّة الملبي كافية له من أن يظهر ما يحرم به، كما تكون نيّة المصلي مكتوبة أو نافلة أو نذرا كافية له من إظهار ما ينوي منها بأيِّ إحرام نوى، ونيّة الصائم كذلك، وكذلك لو اعتمر أو حج عن غيره كفته نيته من أن يسمي أنَّ حجه هذا عن غيره" (¬4). ¬

_ (¬1) هو الزبير بن أحمد الزبيري، من أحفاد الزبير بن العوام فقيه شافعي، كان إمام أهل البصرة في عصره. توفي عام (317 هـ). (تاريخ بغداد 8/ 471)، (الأعلام 3/ 74). (¬2) (المجموع (3/ 243). (¬3) المصدر السابق. (¬4) الأم (2/ 132).

ولم يذكر الفقهاء عن أحد قبل الزبيري أو بعده لا من الشافعية ولا من غيرهم أنّه قال بوجوب التلفظ بالنية، فيكون قوله هذا خرقا للإجماع، ولا يحل الأحد متابعته في القول بذلك أو بالإفتاء به. أما القول باستحباب التلفظ فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة السابقين، بل المنصوص عن الِإمام مالك وأحمد أنّه لا يستحب التلفظ بذلك (¬1). وأتباع الِإمام مالك لا يستحبون التلفظ بالنية (¬2)، واختلف أصحاب الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة (¬3)، فمنهم من رأى أنَّ التلفظ بالنية مستحب، ومنهم من لم ير الاستحباب بل قال: هو مكروه وبدعة. وكلّ الذي احتج به القائلون بالاستحباب على اختلاف مذاهبهم أنه يستحب "لاجتماع عزيمته" (¬4)، أو "لأنه آكد" (¬5)، أو "ليساعد اللسان القلب" (¬6)، أو "ليكون أوفى وطأ، وأقوم قيلا" (¬7)، هذه عباراتهم وهي متقاربة في معناها. أما الذين كرهوا التلفظ ولم يستحبوه فلهم أدلة على مدّعاهم، وردود على القائلين بالاستحباب نوجزها فيما يلي: 1 - الاستحباب لا يكون إلاّ بدليل، ولا دليل: قالوا: إن الاستحباب حكم شرعي لا يثبت بمجرد النظر والتشهي، فلا واجب ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 56)، الإنصاف للمرداوي (1/ 142)، مجموع الفتاوي لابن تيمية (22/ 221). (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 358). (¬3) هو النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، الكوفي، الفقيه المجتهد، إمام الحفية، أصله من فارس، له كتاب "المسند"، جمعه أحد تلامذته، وتنسب إليه رسالة "الفقه الأكبر" ولد وتوفي بالكوفة (80 - 150 هـ). (تهذب التهذيب 10/ 449)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 95)، (الكاشف 3/ 205)، (طبقات الحفاظ ص 73). (¬4) الهداية (1/ 186). (¬5) المجموع للنووي (1/ 366). (¬6) إرشار الساري للقسطلاني (1/ 54). (¬7) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 56).

إلاّ ما أوجبه الله ورسوله، ولا مستحب إلا ما أرشد الله ورسوله إلى استحبابه. ولم يأتنا دليل يرشدنا إلى استحباب التلفظ بالنيّة. وقد تنبه بعض الأحناف إلى هذه الحقيقة فوجه الاستحباب على غير معناه الأصولي: فقال: "التلفظ بالنية مستحب، وقيل سنة، يعني أحبّه السلف أو سنه علماؤنا، إذ لم ينقل عن المصطفى ولا الصحابة ولا التابعين، سمّي مستحبّا باعتبار أنه أحبّه علماؤنا، وسنة باعتبار أنّه طريقة، حسنة لهم" (¬1). وهذا التوجيه غير سديد، فإنَّ المستحب أو السنة إذا أطلقا انصرفا إلى المصطلح المعروف. 2 - وقالوا: هو بدعة: وعللوا ذلك بأنه لم ينقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه فعله لا في طهارة ولا صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك، ولم يعلمه أحدا من أصحابه ولا أمر به. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنّه فعل ذلك أو علّمه أو أمر به، ولا التابعين ولا أتباعهم، ولا الأئمة الأربعة ولا أحد من الأئمة المعتبرين (¬2). ومعلوم أن كل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدعة من وجهين: الوجه الأول: من حيث اعتقاد المعتقد أنَّ ذلك مشروع مستحب، أي يكون فعله خيرا من تركه مع أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله البتّة، فتبقى حقيقة هذا القول: أنَّ ما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإِحرام قبل الميقات، فقال: "أخاف عليك الفتنة"، فقال السائل: أيُّ فتنة في ذلك؟ وإنما زيادة أميال في طاعة الله عز وجل! قال: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 305). (¬2) فتح القدير لابن همام (1/ 186)، حكى أن التلفظ بدعة إذ لم يرد بإسناد صحيح ولا ضعيف، وممن نص على ذلك ابن القيم في زاد المعاد، (1/ 51).

"وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنّك خصصت بفضل لم يفعله رسول الله صلى الله على وسلم" (¬1). وقد ثبت في الصحيحين أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من رغب عن سنتي فليس مني". والمعنى أن من ظن أن سنة ما أفضل من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، فرغب عما سنّه الرسول صلى الله عليه وسلم، معتقدا أنّ ما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني، لأن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يخطب بذلك يوم الجمعة. ولا يحتجّ محتجّ بجمع التراويح، وبقول عمر: "نعمت البدعة هذه" فإنَّها بدعة في اللغة، أي أمر بديع جميل، يدلّنا على ذلك أنَّ صلاة التراويح سنة في الشريعة، يقول ابن بطَّال: "قيام رمضان سنَّة، لأنَّ عمر إنَّما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما تركه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خشية الافتراض" (¬2)، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عائشة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ليلة في جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلَّى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدَّثوا، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بصلاته، فلمَّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى أقبل على النّاس، فتشهد، ثمَّ قال: "أما بعد: فإنه لم يخفَ علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك" (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 223). (¬2) فتح الباري (3/ 252). (¬3) صحيح البخاري (1 - كتاب صلاة التراويح)، انظر فتح الباري (3/ 251).

فالحديث واضح فيه أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- سنَّ لنا قيام رمضان جماعة، وأنه ترك المداومة على ذلك خشية أن يفرض علينا فلا نستطيع القيام به، فلمَّا توفي صلى الله عليه وسلم، وانقطع الوحي، زالت الخشية التي خشيها صلى الله عليه وسلم. ولو لم يأت دليل بذلك لكان لنا أسوة بعمر بن الخطاب عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (¬1). وما أبعد ما قاله القسطلاني (¬2) متحكما في هذه القضية برأيه حيث زعم بلا دليل أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتلفظ بالنية، يقول القسطلاني: "ولئن سلمنا أنّه لم يرو عنه -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه النطق بها، لكنا نجزم بأنَّه عليه السلام نطق بها، لأنّه لا شك أن الوضوء المنوي مع النطق به أفضل، والعلم الضروري حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره أنّه أتى بالوضوء المنوي مع النطق، ولم يثبت عندنا أنَّه أتى بالوضوء العاري عنه، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنّه أتى بالوضوء المنوي مع النطق" (¬3). هذا كلام القسطلاني، وعجيب أن يصدر مثل هذا من عالم محدِّث فاضل مثله. فهو يقرّر أن التلفظ بالنية أفضل، ولا يأتي بدليل يدلُّ على هذه الأفضلية، ثم يبني على هذا الأمر الذي لم يدلّل عليه -والذي أصبح عنده يقينا- أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يترك الأفضل، فيلزم من ذلك أنّه كان يتلفظ بالنية. ¬

_ (¬1) رواه أحد وأبو داود والترمذي وابن ماجه (مشكاة المصابيح 1/ 58)، وقال محقق الكتاب: وسنده صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) هو محمد بن أحمد بن علي، ولد بمصر سنة (614 هـ)، ونشأ بمكة، وتوفي في القاهرة سنة (686 هـ)، كان عالما بالحديث ورجاله، وتولى مشيخة دار الحد: الكاملية، بالقاهرة، له شرح على صحيح البخاري. (طبقات الحفاظ ص 547)، (الأعلام 1/ 173). (¬3) إرشاد الساري (1/ 54).

ونحن نقول له: أثبت الأصل أولا قبل أن تقيم عليه البناء، ونقول له: إنّه يبعد كلّ البعد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان ينطق بالنية في فعل كان يتكرر في كل يوم مرات ومرات من وضوء وصلاة، على مشهد من أصحابه وأزواجه ثم لا ينتبهون إليه، ولا ينقلونه لنا، أما القول بأنَّهم عرفوا ذلك وكتموه أو أهملوا نقله فهذا بعيد، لأنَّ في ذلك كتمانا للعلم، وتضييعا للأمانة، ولا يقول مسلم إنَّ أحدا من الصحابة كان كذلك. فلما لم ينقل علمنا أنه لم يكن، وإذ لم يكن فعلينا أن نقول: إنَّ الأفضل تركه. الوجه الثاني: أن التلفظ بها بدعة من حيث المداومة على خلاف ما داوم عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في العبادات، فإنَّ هذا بدعة باتفاق الأئمة. والمحْدِث لذلك يظنُّ أنَّ في الزيادة خيرا، ولكنّه في واقع الأمر ليس كذلك، فقد أحدث مروان بن الحكم (¬1) الأذان والِإقامة لصلاة العيد، فأنكر عليه الصحابة والعلماء ذلك. 3 - ثبت في السنة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتلفظ بذلك. أ- فمن ذلك حديث عائشة (¬2) قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستفتح الصلاة بالتكبير (¬3). ب- وفي حديث أبي هريرة (¬4) أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال للمسيء ¬

_ (¬1) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص خليفة أموي، ولد بمكة، وسكن المدينة، وكان واليا لها فى عهد معاوية، تولى الخلافة بعد اعتزال معاوية بن يزيد، توفي بدمشق سنة (65 هـ). (تهذيب التهذيب 10/ 91)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 19)، (الكاشف 3/ 132). (¬2) هي عائشة بنت أبي بكر، الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفقه نساء المسلمين، وأعلمهن بالدين والأدب، من المكثرات في الرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولدت بمكة قبل الهجرة بتسع سنوات، وتوفيت، بالمدينة سنة (58 هـ) (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 387)، (الكاشف 3/ 476) (طبقات الحفاظ ص 8). (¬3) رواه مسلم (انظر مشكاة المصابيح 1/ 246). (¬4) اختلف في اسمه على أقوال كثيرة، أصحها عبد الرحمن بن صخر، واشتهر بكنيته، أكثر الصحابة حفظا للحديث، قدم المدينة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خيبر، ولزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، توفى سنة (59 هـ). (تذكرة الحفاظ 1/ 32)، (شذرات الذهب 1/ 63)، (طبقات الحفاظ ص 9).

صلاته -عندما قال له: علمني يا رسول الله- قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثمَّ اقرأ بما تيسر معك من القرآن" (¬1). جـ وقيل لعبد الله بن عاصم (¬2): توضّأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه ومسلم، فدعا بإناء فأكفأ منه على يديه، فغسلهما ثلاثا ... الحديث (¬3). د- وثبت مثله عن علي بن أبي طالب، فعن أبي حَيَّة، قال: "رأيت عليا توضأ، فغسل كفيه حتى أنقاهما .. " الحديث. فهذه النصوص ومثلها كثير عن الرسول -صلى الله عليه ومسلم- وأصحابه أنهم كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير، ولا يقولون قبل التكبير شيئًا، وكذلك في الوضوء يبدؤون بغسل الكفين، وفي الحج كانوا يبدؤونه بالتلبية، ولم يكونوا يقولون: اللهم إنّي أريد الحجّ أو العمرة والحجّ، بل كانوا أول ما يفعلون الإهلال بالحج، والِإهلال رفع الصوت بالتلبية. "وقد سأل أبو داود الِإمام أحمد، فقال: يقول المصلي قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا" (¬4). 4 - إذا خالف اللسان القلب فالعبرة بما في القلب: وهذا ممّا لم يختلفوا فيه، يقول النووي: "إذا قال بلسانه نويت التبرد، ونوى بقلبه الحديث، أو بالعكس- فالاعتبار بما في القلب بلا خلاف. ومثله ما قاله الشافعي في الحج: "لو نوى بقلبه حجّا، وجرى على لسانه عمرة أو عكسه، انعقد ما في قلبه دون لسانه" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم (انطر المشكاة 1/ 241). (¬2) هو عبد الله بن عاصم الحماني (بكسر الحاء وتشديد الميم نسبة إلى حمّان، وهي قبيلة من تميم، وهو حمان بن عبد العزى) أبو سعيد البصري، قال أبو حاتم صدوق. راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 68)، (الكاشف 2/ 99). (¬3) متفق عليه (انظر المشكاة 1/ 125). (¬4) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 28). (¬5) المجموع للنووي (1/ 367).

فما الفائدة من النطق بالنيّة إذا كان الإجماع قد انعقد على أنَّه لا عبرة به إذا خالف ما استقرَّ في القلب؟ 5 - لا مدخل للتلفظ في حصول النية في القلب، والتلفظ بها عبث، والقصد أمر ضروري لفعل الفاعل: لقد ظن القائلون بالاستحباب أن للتلفظ مدخلا في تحصيل النية بأن يؤكد عزيمة القلب، وهذا خطأ، فإنَّ القائل -إذا قال: نويت صلاة الظهر، أو نويت رفع الحديث- إمّا أن يكون مخبرا، أو منشئا. فإن كان مخبرا فإمّا أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره، وكل ذلك عبث لا فائدة فيه، لأنَّ الِإخبار إنّما يفيد إذا تضمَّن تعريف المخْبَر ما لم يكن عارفا، وهذا محال في إخباره لنفسه. وإن كان إخبارا لغيره بالنيّة فهو عبث محض، وهو غير مشروع ولا مفيد، وهو بمثابة إخباره بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجّه وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحبّه وبغضه، بل قد يكون في هذه الأخبار فائدة، وأما إخبار المأمومين أو الإمام بالنية فعبث محض. ولا يصحّ أن يكون ذلك إنشاء، فإن اللفظ لا ينشىء وجود النيّة، وإنّما إنشاؤها إحضار حقيقتها في القلب، لا إنشاء اللفظ الدالّ عيها. والذي يُوجِد حقيقتها في القلب العلمُ الذي يتقدمها ويسبقها، فالنيّة تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله لا بد أن ينويه ضرورة، كمن قدّم بين يديه طعام ليأكله، فإذا علم أنه يريد الأكل فلا بد أن ينويه، وكذلك الركوب وغيره. ولو كلّف العباد أن يعملوا بغير نية كلفوا ما لا يطيقون، فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملا مشروعا أو غير مشروع، فعلمه سابق إلى قلبه، وذلك هو النية، وإذا علم الإنسان أنَّه يريد صلاة أو صوما أو طهارة فلا بد أن ينويه -إذا علمه- ضرورة، وإنَّما يتصور عدم النيّة إذا لم يعلم ما يريد، مثل من نسي الجنابة، واغتسل للنظافة أو للتبرد، أو من يريد أن يعلّم غيره الوضوء، ولم يرد أن يتوضأ لنفسه، أو من لا يعلم أن غدا من رمضان فيصبح ناويا للصوم، وأمَّا الذي يعلم أن غدا من رمضان

وهو يريد الصوم فهذا لا بدَّ أن ينويه ضرورة، ولا يحتاج أن يتكلم به (¬1). 6 - القول بالوجوب أو الاستحباب له آثار سيئة: ظن القائلون باستحسان التلفظ أنه أجمع لعزيمة القلب، ولكن الواقع المشاهد أن القول بوجوب التلفظ أو باستحبابه أنشأ آثارا سيئة، فقد أوقع كثيرا من النّاس في الوسوسة، فترى المصلي ينطق بنيَّة الصلاة واضحة مفسرة، ثم يهم بالتكبير، فيظن أنَّه لم يستحضر النية، فيعيد النطق مرة أخرى، بل منهم من يكبر، وينقض تكبيرته مرَّة ومرَّة (¬2)، حتى يصل الأمر ببعضهم أن يقسم بالله، أو يحلف بالطلاق لا كبّرت غير هذه، وسب هذا الوسواس أن النية تكون حاضرة في قلب هذا الموسوس، ويعتقد أنَّها ليست في قلبه، فيريد تحصيلها بلسانه، وتحصيل الحاصل محال. 7 - تناقض: والذين يوجبون مقارنة النية للتكبير في الصلاة كالشافعية، ثم يقولون بوجوب التلفظ بالنية أو يستحبون ذلك يتناقضون، إذ كيف سينطق بالنية في الوقت الذي يكون لسانه مشغولا بالتكبير؟! هذا محال. وقد تنبه إلى ذلك ابن الصباغ من الشافعية فقال: "يستحب التلفظ بالنية مقارنا لها في غير الصلاة، ولا يتصوّر ذلك في الصلاة" (¬3). إلاّ أنه قال -مع ذلك- باستحباب التلفظ، واستصحاب ذكرها بقلبه، وعلى ذلك يكون من القائلين بتقدم النية على التكبير، وإن لم يعترف بذلك. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (18/ 262 - 263). (¬2) تلبيس إبليس (ص 153). (¬3) الجواهر للقمولي (نهاية الإحكام ص 87).

هل ينعقد العمل بالنية فحسب؟

هل ينعقد العمل بالنيّة فحسب؟ هل تكفي النية للتلبس بالعبادة أم لا بد من شيء آخر معها؟ العبادات ليست على درجة واحدة في هذا الموضوع، فمنها ما يجب فيه مع النية شيء آخر، ومنها ما يكفي فيه مجرد النيّة. فالصلاة لا تكفي فيها النية المجردة، بل يجب التكبير، وخالف أبو بكر الأصم من الأحناف فقال: "يصح الشروع في الصلاة بمجرد النية دون التكبير" (¬1)، وهو قول فاسد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬2). وبقية العبادات لا يشترط لها قول، وخالف ابن حبيب من المالكية في الحجّ والعمرة، فقال لا بدَّ فيها "من النيّة قصدا باطنا، والإحرام فعلا ظاهرا، والتلبية نطقا مسموعا" (¬3)، فقد اشترط مع النية الفعل والتلبية، وأبو حنيفة اشترط مع النية فعلا من خصائص الِإحرام كالتلبية أو سوق الهدي (¬4). والأئمة الثلاثة مالك والشافعيّ وأحمد لا يشترطون مع النيّة شيئًا، لا تلبية ولا غيره (¬5)، لأنه لا دليل على اشتراط شيء من ذلك، واحتجاجا بقوله -صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) تحفة الفقهاء (1/ 217). (¬2) قال المجد ابن تيمية (نيل الأوطار 2/ 178): رواه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: هذا أصح شيء في هذا الباب. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 133). (¬4) أحكام القرآن (1/ 133)، (المغني 3/ 281)، بدائع الصنائع (2/ 161). (¬5) المغني لابن قدامة (3/ 281).

"إنّما الأعمال بالنيات"، يقول ابن المنذر (¬1) -وهو ممن يقول بقول الأئمة الثلاثة- معلّلا عدم وجوب شيء مع النية: "لأن الواجب النية، وعليها الاعتماد، واللفظ لا عبرة به، فلم يؤثر كما لا يؤثر اختلاف النيّة فيما يعتبر له اللفظ دون النية" (¬2). وقد استدلَّ الاحناف بأدلة منها: 1 - مجرد النيّة لا عبرة به لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "إنّ الله عفا لي عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" (¬3). 2 - الإحرام عقد على أداء عبادة تشتمل على أركان مختلفة كالصلاة، وكلّ ما كان كذلك فلا بدّ للشروع فيه من ذكر يقصد به التعظيم، سواء أكان تلبية أم غيرها، أو ما يقوم مقام الذكر كتقليد الهدي (¬4). 3 - واحتجوا بما رواه السائب يزيد (¬5) الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاءني جبريل فقال: يا محمد، مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" (¬6). 4 - وقاسوا الحج على الهدي والأضحية، فهما لا يجبان بمجرد النيّة، فالنسك ينبغي أن يكون كذلك (¬7). ¬

_ (¬1) هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، فقيه مجتهد، كان شيخ الحرم بمكة، له (تفسير القرآن)، و (اختلاف الحديث)، عاش ما بين (242 - 319 هـ). (طبقات الحفاظ ص 328)، (الأعلام 6/ 184). (¬2) المغني لابن قدامة (1/ 282). (¬3) تحفة الفقهاء (1/ 609)، والحديث سبق تخريجه. (¬4) شرح العناية (2/ 139). (¬5) هو السائب بن يزيد بن سعد الكندى، صحابي حج مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- صغيرا، وهو آخر من توفي من الصحابة في المدينة (سنة 91 هـ). (تهذيب التهذيب 3/ 450)، (الكاشف 1/ 387). (¬6) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ومالك وأبو داود وابن ماجه والدارمي (مشكاة المصابيح 2/ 12)، وقال محقق المشكاة إسناده صحيح. (¬7) المغني لابن قدامة (3/ 282).

وهذه الأدلة التي ساقوها لا تنهض على الاستدلال للمسألة: أولا: لأن حديث "إن الله عفا لي عن أمتي ... " استدلال في غير محله، فالمعفو عنه حديث النفس، والنيّة في الحج ليست حديث نفس، بل هي عزم مصمم، والعزم المصمم غير معفو عنه، كما سيأتي تحقيقه. ثانيا: وعلى فرض أن النيَّة داخلة في الحديث، فالشرط ألَّا تتكلم أو تعمل، والحاجّ لا بد له من العمل من سفر، وترك لما حرم عليه فعله، فالناوي داخل في الحديث. ثالثا: قولهم إن ما كان مثل الحج لا بد له من ذكر في أوله حتى يصح الشروع فيه، وقياسهم الحج على الصلاة، كل ذلك منقوض: 1 - بإجازتهم عملاً من خصوصيات الإحرام، فإنه ينوب عندهم عن الذكر، وهذا لا يجوز في الصلاة. 2 - بأن الصلاة في آخرها ذكر يخرج به المصلي من صلاته، فيلزمهم أن يقولوا مثل ذلك في الحجِّ، وإن جاز لهم أن يقيسوا الحج على الصلاة، فكيف يكون ردّهم على من قاس الحج على الصيام، والصيام لا ذكر في أوله ولا في آخره! رابعا: خبر السائب بن يزيد ليس مرادا به الوجوب بل الاستحباب، فإنَّ منطوقه رفع الصوت، ولا خلاف في أنه غير واجب، فما هو من ضرورته أولى، ولو وجب النطق لما لزم كونه شرطا، فإن كثيرا من واجبات الحج غير مشترطة فيه (¬1). خامسا: إننا نفرق بين الحج، والأضحية والهدي، إذ الحج عبادة بدنية، والأضحية والهدي إيجاب مال فأشبها النذر (¬2). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (3/ 281). (¬2) المغني لابن قدامة (3/ 281).

القصد المجرد عن العمل

القصد المجرد عن العمل مما له علاقة بهذا الفصل المقاصد التي بقيت حبيسة في الصدور سواء أكانت خيرة أم شريرة، ما حكمها؟ وهل يثاب ويعاقب صاحبها؟ مراتب الإرادة القصد نوع من الإرادة، والإِرادة مراتب متفاوتة، وهكذا كل صفة من صفات الحي، فالعلم مراتب: الشك، ثمّ الظنّ، ثمّ اليقين ومراتبه. وقد قسّم ابن أبي جمرة الوارد على القلب إلى ست مراتب: الهمَّة، ثم اللمة، ثم الخطرة، ثم النية، ثم الإرادة، ثم العزيمة، وهذا التقسيم غير مرتضى: 1 - لأنَّ الخطرة في الحقيقة أقلّ مرتبة من الهمّة، فالخاطر يمر في الذهن مرورا عابرا، ولا يتوقف، أما الهمّ فإنه يتردَّد في النفس. 2 - لأنَّه جعل الِإرادة مرتبة من المراتب، وارتأى أنها أعلى من النية، والحق أن الإرادة جنس للهمِّ والخاطر والنيّة. 3 - لأنه جعل العزم في مرتبة أعلى من النيَّة، وليس الأمركذلك، فقد حققنا من قبل أنَّ النية جزم الإرادة، فعلى ذلك النيّة والعزم في درجة واحدة، بل يرى كثير من العلماء أن النيّة أعلى رتبة من العزم كما سبق بيانه. والترتيب الذي نختاره هو ذلك الترتيب الذي وضعه السبكي، فقد قسَّم ما يقع في النفس إلى خمس مراتب، وقد رتبها ترتيبا تصاعديا: الأول: الهاجس: وهو أضعف هذه المراتب، وهو ما يلقى في النفس.

الثاني: الخاطر: وهو ما يجري في النفس ثم يذهب في الحال بلا تردد. الثالث: حديث النفس: وهو ما يقع من التردد، هل يفعك أم لا؟ فمرة يميل إلى الفعل، وأخرى ينفر عنه، ولا يستقر على حال. الرابع: الهمُّ: وهو أن يميل إلى الفعل، ولا ينفر عنه، لكنّه لا يصمم على فعله، وقد عرّفه ابن حجر العسقلاني بأنَّه "ترجيح قصد الفعل" (¬1). الخامس: العزم: وهو أن يميل إلى الفعل، ولا ينفر مه، بل يصمِّم عليه، وهو قوة ذلك القصد، والجزم به ومنتهى الهم (¬2). وهذا التفاوت في مراتب الإرادة يلزم الباحث بألا يعطي حكما واحدا لكلِّ أنواع الإِرادة التى لم تتمثل في قول أو عمل، لاختلافها قوة وضعفا، إلا أنَّنا سنكتفي بتقسيم هذه المراتب إلى قسمين، جاعلين الفيصل في هذا التقسيم هو الجزم في الإرادة والتصميم على الفعل أو عدم ذلك، وحسب هذا التقسيم تدخل المراتب الأربع الأولى التي ذكرها السبكي في القسم الأول الذي لا تصميم فيه، بينما يشتمل القسم الثاني على المرتبة الخامسة فقط وهي العزم. ¬

_ (¬1) فتح الباري (11/ 323). (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 33)، فتح الباري (11/ 327)، ولم يذكر في الفتح المرتبة الثانية.

الإرادة غير الجازمة

الإِرادة غير الجازمة نستطيع أن نقّسم الإِرادة غير الجازمة إذا لم تتمثل في فعل من حيث العقاب والإثابة عليها إلى قسمين: الأول- ما لا ثواب عليه ولا عقوبة فيه: وهذا يشتمل على المرتبة الأولى والثانية من المراتب التي ذكرها السبكي "الهاجس والخاطر"، ومن الذين نصُّوا على عدم المؤاخذة على الخواطر العزّ بن عبد السلام، وقد علّل ذلك بغلبة الخواطر على الناس (¬1)، وذكر السبكي الإجماع على عدم المؤاخذة بهما، ونص على أنه لا ثواب عليهما (¬2)، إلاّ أَن السبكي جعل "حديث النفس" من هذا القسم، والصواب أن نعدّه من القسم الثاني، لما ورد في بعض الأحاديث من أن فيه الثواب وسيأتي إيضاح ذلك. الثاني- ما يثاب صاحبه إذا كان خيرا، ولا يعاقب إن كان شرا: وهذا القسم يضمّ حديث النفس والهمّ، أما الهمّ فلم يختلف العلماء فيه، فالهام بالحسنة إذا لم يفعلها ينال حسنة تامة، والهام بالسيئة لا تكتب عليه سيئة، وينظر: فإن تركها لله كتبت حسنة، وإن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة، كما أنها لا تكتب له حسنة. والأدلة على ذلك صحيحة صريحة: فقد روى ابن عباس رضي الله عنه: عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام (1/ 139). (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 33).

عن ربه عزَّ وجل قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثمَّ بَينَ ذلك: فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عده حسنة كاملة، فإنْ هو هَمَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة" (¬1). وهذا الحديث صريح في الدِّلالة على الِإثابة على الهمِّ الخيّر إذا لم يقترن به فعل، وإن كان غير صريح في الدلالة على أن الهام بسوء لا ينال شيئا إذا ترك المعصية لغير خوف الله، وإنما فيه أنَّه ينال حسنة بتركها. وأكثر صراحة منه حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قالت الملائكة: يا ربّ، ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: "ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جراي"، وفي رواية "من أجلي" (¬2). فمفهوم المخالفة لقوله "من جراي"، أو "من أجلي"، أنّه لا تكتب له حسنة إن تركها لغير مخافة الله تعالى. وقد صرَّح بذلك في الرواية الأخرى "وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه" (¬3). فيفهم من الجمع بين الروايتين أنّه إن ترك المعصية خوفا من الله كتبت له حسنة كاملة، فإن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه كما أنّها لا تكتب له. أما أنَّ "حديث النفس" لا يؤاخذ عليه فلأنه أقلّ رتبة من الهمّ، فإذا كان الهم -وهو أقوى منه - لا عقوبة فيه، فحديث النفس من باب أولى. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: (31 - كتاب الرقاق)، انظر الفتح (11/ 323). (¬2) صحيح البخاري: (في كتابي الرقاق والتوحيد). (¬3) صحيح مسلم: انظره بشرح النووي (2/ 148).

لم أثيب الهام بالحسنة ولم يعاقب على الهم بالسيئة؟

ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم "، وفي لفظ: "ما حدثت به أنفسها" (¬1)، وهو اللفظ المشهور. والوسوسة وحديث النفس متقاربان، إذ المعنى في كليهما: تردّد في النفس من غير اطمئنان إليه واستقرار عليه. ولم يرد حديث صريح في أن حديث النفس الخير ينال به العبد ثوابا إذا لم يفعل ما حدَّث نفسه به، إلّا أنه يستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق" (¬2)، فمفهوم المخالفة أن حديث النفس يدفع النفاق، وذلك لا يكون إلاّ مأجورا عليه. إلاّ أن يقال: إن المراد بحديث النفس هنا العزم، فنقول: هذا خلاف ظاهر. لم أثيب الهامّ بالحسنة ولم يُعاقب على الهم بالسيئة؟ قد يقال: لم أثيب الذي هم بالخير أو حدَّث به نفسه، ولم يعاقب الذي هم بالشر، أو حدث نفسه به؟ فالجواب: أن إرادة الخير خير في ذاتها، ولقد أحسن القائل حيث يقول: لَأشْكُرنكَ معْرُوفًا هَمَمْتَ بِهِ ... إن اهْتِمَامَكَ بالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفُ وَلَا أَلُومكَ إنْ لَمْ يُمْضهِ قَدَرٌ ... فَالشيء بِالْقَدَرِ الْمَحْتُومِ مَصْروفُ (¬3) وإرادة الخير عمل القلب، وعمل القلب فيه الثواب، وإرادة السيئة يكفرها تركها، فإن كان الترك خوفا من الله، فالخوف عبادة يستحق الإِثابة. ثم الإثابة على إرادة الخير مقتضى رحمة الله، وعدم العقوبة على إرادة الشر مقتضى عفو الله، وحسبنا هذا دليلا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، ذكره في عدة مواضع منها: (6 - العتق)، انظر الفتح (5/ 160). (¬2) رواه مسلم عن أبي هريرة (مشكاة المصابيح 2/ 353). (¬3) مجموع الفتاوى (10/ 737).

الإرادة الجازمة

الإِرادة الجازمة تحدثنا عن الإرادة غير الجازمة إذا لم تتمثل في فعل، وبقيت حبيسة في النفس من حيث الِإثابة والعقوبة عليها. ونريد أن نبين هنا حكم الإرادة الجازمة من الحيثية نفسها، والإرادة الجازمة وهي "القصد أو العزم" تكون على أحد أمرين: الأول: الجزم على فعل من أفعال القلوب: فهذا لم يخالف أحد من العلماء في أن العزم عليه مثاب صاحبه، إن كان المعزوم عليه خيرا، كالعزم على الإيمان، أو محبة الله ونحو ذلك. وأن المقاصد فعلا قلبيا سيئا مؤاخذ معاقب، كالذي يصمم على الكفر، وترك الإيمان، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنكار البعث، فهذا كافر بعزمه وتصميمه (¬1)، وعن مالك رواية قوّاها ابن العربي (¬2): "من اعتقد الكفر كفر، ومن أصرَّ على المعصية أثم" (¬3). الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح: وهذا وقع فيه النزاع، فذهبت طائفة إلى أنَّ المقاصد لعمل ما كشرب الخمر، أو ترك الصلاة لا يؤاخذ على قصده، وقد ذكر ابن حجر أنَّ القول بذلك هو نصّ الشافعي رحمه الله تعالى (¬4)، وقال السبكي: "خالف بعضهم -أي في أن العزم لا ¬

_ (¬1) فتح الباري (11/ 328). (¬2) هو محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، من أعيان المالكية في الأندلس، فقيه محدث محقق، تولى قضاء إشبيلية مدّة، له (شرح الترمذي)، و (أحكام القرآن)، عاش ما بين (468 - 543 هـ). (العبر في أخبار من غبر 4/ 125)، (طبقات الحفاظ ص 467)، (الأعلام 7/ 106). (¬3) فتح الباري (9/ 394). (¬4) فتح الباري: (11/ 328).

يؤاخذ به- وقال: إنه من الهمّ المرفوع" (¬1)، ومن هؤلاء المازري (¬2)، فقد حكى قول ابن الباقلاني (¬3) في أن العزم مؤاخذ به، ثم ردَّه، وقال: "وخالفه كثير من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين، واحتج على ما ذهب إليه بحديث أبي هريرة القدسي: "فأنا أغفرها له ما لم يعملها" (¬4). وقد استدل القائلون بعدم المؤاخذة بالأدلّة الناطقة بعدم المؤاخذة على الهمّ، وقد سبق إيرادها، وقالوا: إن الهمّ في لغة العرب هو العزم، فهم يقولون: "هم بالشيء يهمّ همّا، نواه وأراده" (¬5). فإذا صحّ أنَّ الهمّ هو العزم صحّ أنّه لا مؤاخذة عليه بنص الأحاديث القدسية والأقوال النبوية. ونحن لا ننكر في مجال الحجاج أنَّ العرب تفسر الهم بالعزم، بل نقول: لقد ورد ذلك في كتاب الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (¬6)، والشاهد في الآية أنه سمّى الإِرادة المصممة التي كانت من امرأة العزيز هما، ولا خلاف في كونها عزما، وليست عزما مجردا، بل عزما حاولت معه تنفيذ ما عزمت عليه بإغلاق الأبواب، ودعوته إلى الفاحشة، والإِمساك به، وقد قميصه من دبر، وغير ذلك. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَهَموا بِمَا لمْ يَنَالُوا} (¬7)، فإنَّ سبب نزول هذه ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 34). (¬2) هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، محدث من فقهاء المالكة، نسبة إلى (مازر) بجزيرة صقلية، ولد سنة (453 هـ)، ووفاته بالمهدية سنة (536 هـ)، من مؤلفاته: (المعلم بفوائد مسلم)، (إيضاح المحصول في الأصول). راجع: (شذرات الذهب 4/ 114)، (الأعلام 7/ 164). (¬3) هو محمد بن الطيب الباقلاني، قاض من كبار علماء الكلام، ولد في البصرة ت (338 هـ)، وسكن بغداد، وتوفي بها سنة (403 هـ)، من كتبه (إعجاز القرآن)، و (الملل والنحل)، و (كشف أسرار الباطنية). راجع: (تاريخ بغداد 7/ 46) (شذرات الذهب 3/ 168) (الأعلام 7/ 46). (¬4) فتح الباري (11/ 327)، وحديث (أنا أغفرها له .. ) رواه مسلم. (¬5) لسان العرب لابن منظور. (¬6) سورة يوسف: 24. (¬7) سورة التوبة: 74.

الآية أنَّ بعض المنافقين حاولوا اغتيال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الغزوات. أقول: لا ينكر أن الهمَّ قد يفسر بالعزم في لغة العرب، ولكنّ الذي يستنكر ولا يوافق عليه أن يقال: إنَّ كلّ همّ عزم، فهذا غير صحيح. فالهمّ منه ما يكون عزما كما سبق بيانه، ومنه ما ليس بعزم، يقول الِإمام أحمد: "الهم همان: همّ خطرات، وهم إصرار" (¬1). فمن الهمّ الذي ليس بعزم همّ يوسف -عليه السّلام- على القول بأنّه همّ، إذ لم يكن همه عزما بالتأكيد. ومنه هم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتحريق بيوت الذين لا يشهدون الجماعة "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثمَّ أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم" (¬2). ومنه همّ عبد الله بن مسعود عندما همَّ بالجلوس وتَرْك الرسول -صلى الله عليه وسلم- واقفا في صلاة الليل: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم" (¬3). فهمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم عند الله، لم يكن عزما، إذ لو كان عزما لوقع مرادهما، لأن العبد إذا أراد إرادة جازمة، وكان الفعل المراد مقدورا، فلا بد من وقوع الفعل المراد. فلمّا لم يقع ما هم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما هم به عبد الله - علمنا أن الإرادة عندهما لم تصل إلى درجة الجزم. ومما اختلف فيه العلماء قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الاستخارة: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمَّ ليقل ... " (¬4) الحديث. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 740). (¬2) صحيح البخاري (5 - الخصومات)، الفتح (5/ 74). (¬3) صحيح البخاري (9 - تهجد)، الفتح (3/ 19). (¬4) صحيح البخاري (25 - تهجد).

ففريق ذهب إلى أنَّ المراد بالهم هنا: الوارد أول ما يرد على القلب، فيستخير العبد عند وروده، فينظر ببركة الدّعاء والصلاة ما الخير، وهؤلاء يعلّلون تفسيرهم هذا بأنّه لو تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته- فإنَّه يخشى أن يخفى عليه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه. وفريق يرى أنَّ الهمّ في الحديث العزم: لأنَّ الخاطر لا يثبت، فلا يستمرّ إلاّ على ما يقصد التصميم على فعله، وإلّا لو استخار في كلّ خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته (¬1). والذي يظهر لي أن الهم هنا ليس مجرد الخاطر، ولا العزيمة، وإنّما أراد به الميل إلى الفعل قبل أن يصل إلى مرحلة العزم والتصميم، إذ الخاطر ماض عابر، وما عزم على فعله لا يستخار فيه. إذا ثبت أن الهمَّ نوعان: هم عزم وتصميم، وهمّ ليس كذلك، وثبت أنَّ العزم لا يكون إلا جازما، لأنَّ العزم في لسان العرب: "ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله" (¬2) -إذا ثبت ذلك؛ بطل استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ... ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتَبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها، فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة" (¬3) - على أن العزم معفو عنه، وممّا يدلّ على بطلان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فعملها"، "فلم يعملها"، ففيهما دلالة على أن هذا التقسيم في الحديث هو في رجل يمكنه الفعل فلم يفعل، وهذا ليس بجازم الإرادة، فالإرادة الجازمة لا تتخلف إذا وجدت القدرة التامة. ومما يدل على أن الهم في الحديث ليس هو العزم قوله -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) فتح الباري (11/ 185). (¬2) لسان العرب مادة (عزم). (¬3) سبق تخريجه.

في حديث خريم بن فاتك الأسدي (¬1): "ومن هم بحسنة يعلم الله أنّه قد أشعر بها قلبه، وحرص عليها ... " (¬2) قال ابن حجر معلّقا على الحديث: "هذا الحديث يدلُّ على أنَّ مطلق الهمّ والإرادة لا يكفي" (¬3). ومما يدل على التفريق بن العزم والهمّ، أن من خطر في قلبه أن يقطع الصلاة فإنها لا تنقطع، فإن صمّم على قطعها بطلت. رأينا كيف أنَّ القائلين بعدم المؤاخذة على القصد المجرد عن الفعل لم يستطيعوا أن يدللوا على ما ذهبوا إليه، وأن دليلهم الذي أتوا به لم يثبت في مجال التمحيص والنقاش، لذا فقد ذهب القاضي ابن الباقلاني إلى القول بالمؤاخذة على العزم، وتابعه القاضي عياض وقال: "عامّة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني، لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب" (¬4). ومثل ذلك قال القرطبي: "وهذا المذهب الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين" (¬5). ووصف ابن السبكي القائلين به بأنَّهم أهل التحقيق "وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به" (¬6). وسأل ابن المبارك سفيان الثوري: "أيؤاخذ العبد بما يهمّ به؟ قال: إذا جزم بذلك" (¬7). ¬

_ (¬1) هو خريم بن فاتك الأسدي، صحابي شهد الحديبية، ولم يشهد بدرا، مات بالرفة في خلافة معاوية. (تقريب التهذيب 2/ 223)، (الكاشف 1/ 279). (¬2) قال الحافظ في فتح الباري: (1/ 324): رواه أحمد، وصححه ابن حبان والحاكم. (¬3) فتح الباري: (11/ 324). (¬4) فتح الباري: (11/ 327). (¬5) تفسير القرطبي (4/ 215)، وبه قال الكرماني في شرحه على البخاري (1/ 21)، وصاحب دليل الفالحين (1/ 82). (¬6) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 34). (¬7) فتح الباري (11/ 328).

أدلة القائلين بالمؤاخذة

أدلّة القائلين بالمؤاخذة قبل أن نذكر أدلتهم نقول: إن مرادنا بالإرادة الجازمة ما نسمّيه القصد والنية، والعزم. والإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم. ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة، ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة. وبعض النّاس قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شيء من الفعل، وهذا لا يكون. وإنَّما يكون في العزم على أن يفعل، فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئًا في الحال، والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل، بل لا بد عند وجوده من حدوث تمام الِإرادة المستلزمة للفعل، وهذه هي الإِرادة الجازمة. وقد استدل القائلون بالمؤاخذة على القصد الجازم الذي لا فعل معه بأدلَّة كثيرة تدل على أنه بمنزلة الفاعل التامّ في الإثابة والعقوبة، ومن هذه الأدلّة: 1 - قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (¬1). قال القرطبي: "استدلّ بهذه الآية على أنَّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم" (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة القلم (17 - 20). (¬2) تفسير القرطبي (18/ 241). (¬3) وعندى فى الاحتجاج بهذه الآية نظر، لأن هؤلاء تكلموا بما عزمرا على فعله {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ}، (سورة القلم: 17) والذي فيه البحث هو الهم الذي لا كلام ولا فعل معه، فأما العزم الذي حصل معه كلام كفعل هؤلاء فلا يدخل في دائرة البحث.

2 - قوله عليه السلام: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنّه كان حريصا على قتل صاحبه" (¬1). قالوا: دلَّ الحديث على المؤاخذة بالعزم على الفعل، لأن الرجل المقتول لم يقع منه فعل القتل، ولتعليل الرسول صلى الله عليه وسلم "إنه كان حريصا على قتل صاحبه" (¬2). 3 - قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (¬3). قال المخالفون: لا حجّة في هذه الآية، لأنَّها نسخت بقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إلاّ وُسْعَهَا} (¬4)، وقد قال بذلك جمع من الصحابة، ومما يوضح ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (¬5)، قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا، وأطعنا، وسلَّمنا قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: {لا يكلِّفُ الله نَفْسَا إلاّ وُسْعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتَسَبَتْ} (¬6). ورواه مسلم عن أبي هريرة بأوفى من رواية ابن عباس. والصحيح أن هذا بيان وليس بنسخ، وهذا قول ابن عباس، والحسن ¬

_ (¬1) عزاه التبريزي في المشكاة (2/ 282) إلى البخاري ومسلم. (¬2) وهذا الحديث لا حجة فيه أيضا، لأنه اقترن بعزم القتيل فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح، وإشارته به إلى الآخر، فخرج عن دائرة العزم المجرد. (¬3) سورة البقرة: 284. (¬4) سورة البقرة: 286. (¬5) سورة البقرة: 284. (¬6) صحيح مسلم، وانظره بشرح النووي (2/ 146).

البصري (¬1)، واختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري. قال ابن عطية: "وهذا هو الصواب، ذلك أنَّ قوله تعالى: {وإنْ تبدُوا مَا في أَنْفُسكمْ أَوْ تخْفُوه} معناه: مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر. فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصّصها ونص على حكمه: أنّه لا يكلف نفسا إلاّ وسعها، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب، وليست مما يكتسب" (¬2). 4 - رتَّب القرآن الثواب والعقاب على مجرد الإرادة، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} (¬3). وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (¬4). 5 - قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (¬5). فالله نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد والقاعد العاجز، بل يقال دليل الخطاب (¬6) يقتضي مساواته إياه، ولفظ الآية صريح فقد استثنى (أولي الضرر) من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولي الضرر يساوون المجاهدين. ¬

_ (¬1) هو الحسن بن يسار، إمام البصرة وعالمها، أحد الفقهاء العلماء الفصحاء الشجعان، تابعي ناسك، له مواقف مشهورة مع الحكام والولاة، حياته من (21 هـ)، إلى (110 هـ). ترجمته في (تهذيب التهذيب 2/ 263)، (الكاشف 1/ 220)، (طبقات الحفاظ ص 28). (¬2) تفسير القرطبي (3/ 422). (¬3) سورة هود (15، 16). (¬4) سورة الشورى (20). (¬5) سورة النساء (95). (¬6) دليل الخطاب ما يقتضيه اللفظ عند الإطلاق.

وممّا يدلّ على ذلك صراحة قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في غزوة تبوك: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر"، فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يَحْبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة. وما أحسن قول القائل: يَا سَائِرينَ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ ... سِرْتُمْ جُسومَا وَسِرْنا نَحْنُ أَرْواحَا إِنّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَعَنْ قَدَرٍ ... وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عذْرٍ فَقَدْ رَاحَا (¬1) 6 - قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون} (¬2)، قال القرطبي: "الإِصرار العزم بالقلب على الأمر وترك الإِقلاع عنه. وقال قتادة: "الإصرار الثبوت على المعاصي" (¬3). وقال ابن المبارك (¬4): "المصر الذي يشرب الخمر اليوم، ثم لا يشربها إلى شهر، وفي رواية إلى ثلاثين سنة، ومن نيته إذا قدر على شربها شربها" (¬5). والآية دليل على أنَّ الإِنسان يؤاخذ بما وطَّن عليه ضميره، وعزم عليه بقلبه، فالِإصرار معصية اتفاقا، فمن صمَّم على المعصية كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية، قال النووي: "وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر" (¬6). ¬

_ (¬1) أضواء البيان (1/ 327). (¬2) سورة آل عمران (135). (¬3) تفسير القرطبي (4/ 211). (¬4) هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي أحد الأئمة الأعلام. قال ابن معين: كان ثقة عالما مثبتا صحيح الحديث، وكانت كتبه التي حدث بها عشرين ألفا، مات منصرفا من الغزو سنة (181 هـ)، وله (63) سنة. راجع: (تهذيب التهذيب 5/ 382)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 93)، (الكاشف 2/ 123)، (طبقات الحفاظ ص 117). (¬5) مجموع الفتاوى (10/ 743). (¬6) فتح الباري (11/ 327).

7 - قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). نقل القرطبي عن جماعة من أهل التأويل أنهم احتجوا بالآية على أنَّ الإنسان يعاقب بما ينويه وإن لم يفعله (¬2) (¬3). 8 - استدل النووي -رحمه الله- بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬4)، حيث رتَّب الله العذاب على فعل القلب وهو مجرد حبِّ إشاعة الفاحشة، والقصد فعل قلبي كالحبّ، يقول الكرماني: "إنَّ النية السيئة يعاقب عليها بمجرد النيّة، لكن على النية لا على الفعل، حتى لو عزم أحد على ترك الصلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال، لأن العزم من أحكام الِإيمان، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة" (¬5). 9 - حديث سهل بن حنيف (¬6) -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" (¬7). فهذا ينال أجر الشهيد لنيته الجازمة على الفعل، وإلا فمجرد القول إذا كان من غير إرادة جازمة لا يكفي في حصول هذا الثواب. 10 - قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي كبشة الأنماريّ: "إنما الدنيا لأربعة نفر: ¬

_ (¬1) سورة الحج (25). (¬2) تفسير القرطبي (12/ 35). (¬3) والمانعون للاحتجاج بالآية يخصونها بالحرم المكي، ويقولون: هذه الآية ليست نصا في الموضوع. (¬4) سورة النور (19). (¬5) الكرماني على البخاري (1/ 20 - 21). (¬6) هو سهل بن حنيف بن واهب بن عكيم الأنصاري أبو ثابت المدني البدري، شهد المشاهد كلها، قال البخاري: بايع تحت الشجرة، وكان عقيما لا يولد له، توفي سنة (38 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 426)، (تهذيب التهذيب 4/ 251)، (الكاشف 1/ 407). (¬7) رواه مسلم (مشكاة المصابيح 2/ 352).

عند رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربَّه، ويصل رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أنَّ لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء" (¬1). فهذا فمن كانت إرادته جازمة على الفعل إذا قدر على مثل ما قدر عليه صاحب المال، وإلّا إذا لم تكن النيّة جازمة، وعلم الله منه ذلك، فلا ينال ذلك الأجر الذي يحصله صاحب المال المنفق المتصدِّق، يؤيده قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬2). 11 - قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى فراشه، وهو ينوي أن يقوم يصلي من اللّيل، فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه" (¬3). فقد أثاب الله هذا النائم الذي لم يَصْحُ -لمّا عزم على القيام- إثابة الذي قام فصلى، وما ذلك إلاّ لإرادته التامة الجازمة. 12 - أن الإثابة والعقوبة على الأفعال المتولدة من فعل العبد: ¬

_ (¬1) رواه أحمد، (4/ 230، 231)، والترمذي (كتاب الزهد 17) قال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه (2/ 1413). (¬2) سورة التوبة (75 - 76). (¬3) حديث حسن: رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.

ومما يؤكد هذه المسألة أن الشارع يعاقب ويثيب على الأفعال المتولدة من فعل العباد، ففي الصحيحين أنَّه قدم وفد من مضر فقراء ظهرت على أجسادهم آثار الجهد، فآلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- حالهم، فخطب في المسلمين حاثّا إيّاهم على الصدقة، فتباطأ الصحابة، فجاء رجل بصرة -في صحيح مسلم عين أنها من فضة- كادت كفّه أن تَعْجِزَ عن حملها، بل قد عجزت، فأثر هذا في نفوس الصحابة فانطلقوا يأتون مما عندهم، حتى اجتمع عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- كومان من مختلف الأشياء: نقود، وطعام، وثياب ... ، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (¬1). والداعي إلى الهدى أو الضلالة لما كانت إرادته جازمة في دعوته فإنّ له من الأجر مثل أجور من تابعه، لا ينقص من أجورهم شيء، وعليه مثل أوزار من تابعه، لا ينقص من أوزارهم شيء، يقول صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن يناقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (¬2). وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم، انظر النووي على مسلم (7/ 102)، ورواه النسائي كتاب (الزكاة 64)، وأحمد في مسنده (4/ 357، 359، 360). (¬2) رواه مسلم (مشكاة المصابيح 1/ 56). (¬3) سورة العنكبوت (12 - 13).

فأخبر أن أئمة الضلال في يوم القيامة لن يفوا لأتباعهم بما تعهدوا به من حمل خطاياهم وذنوبهم، وأخبر أنَّ أئمة الضلال سيحملون آثام الذنوب التي ارتكبوها، وسيحملون أثقالا مع أثقالهم، وهي أوزار الاتباع الذين أضلوهم، لأن إرادتهم كانت جازمة بذلك، وفعلوا مقدورهم، فصار لهم جزاء كلّ عامل. وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى هرقل: "فإن توليت فإن عليك إثْم الأرّيسيِّين" (¬1)، لأن هرقل إمامهم المتبوع في دينهم، فتولّيه عن الحقِّ سبب في بقائهم على ضلالهم. بل يذهب الِإسلام إلى أبعد من ذلك في الإثابة والعقاب على القصد المجرد، إذ يعتبر الراضي بالفعل كالفاعل وإن لم يعمله ويقصده. يقول القرطبي عند قوله تعالى عن اليهود: {وقَتْلَهُمُ الأنْبياءَ بغيْر حَق} (¬2)، أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق، أي رضاءهم بالقتل والمراد قتلَ أسلافهم الأنبياء، لكن لما رضوا بذلك صحت الِإضافة إليهم. وحسَّن رجل عند الشعبي (¬3) قتل عثمان بن عفان (¬4)، فقال له الشعبي: شركت في دمه (¬5). فجعل الرضا بالقتل قتلا، رضي الله عنه (¬6). ثم قال القرطبي: "وهذه مسألة عظيمة حيث يكون الرضا بالمعصية معصية، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 31)، و (الأريسيين: جمع أريس وهو الفلاح، فتح الباري 1/ 39). (¬2) سورة آل عمران (181). (¬3) هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، راوية من التابعين يضرب المثل بحفظه، من رجال الحديث الثقات، كان فقيها شاعرا ولد وتوفي بالكوفة (19 - 103 هـ). ترجمته في (تهذيب التهذيب 5/ 65)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 22)، (طبقات الحفاظ ص 32). (¬4) هو الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ذو النورين، ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، جواد كريم، منفق معطاء، جهَّز جيش العسرة، وجمع القرآن توفي في المدينة شهيدا سنة (35 هـ). (خلاصه تذهيب الكمال 2/ 219)، (الكاشف 2/ 254)، (طبقات الحفاظ ص 4). (¬5) أي في الإثم والعقوبة في الآخرة، لا في القصاص في الدنيا. (¬6) تفسير القرطبي (4/ 294).

وقد روى أبو داود عن العرس (¬1) بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها -قال مرة: نكرها- كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها" (¬2). ¬

_ (¬1) العرس بن عميرة الكندي قيل أن له صحبة، قيل عميرة أمه، واسم أبيه قيس. (الاستيعاب 3/ 1062)، (الكاشف 2/ 260)، (تقريب التهذيب 2/ 260). (¬2) تفسير القرطبي (4/ 294).

الفصل الثاني وقت النية

الفصل الثاني وَقت النّية

وقت النية في الطهارة

وَقتُ النيِّة سنحاول -إن شاء الله تعالى- أن نحقق القول في هذا الفصل في وقت النية في كلّ عبادة من العبادات. وقت النية في الطهارة للعلماء في وقت النيّة في الطهارة أقوال: الأول: قال فريق بوجوب مقارنة النية لأول الطهارة. وقد صرح كثير من الشافعية والمالكية بأن الواجب اقتران النية بأول واجبات الطهارة، ففي الوضوء مثلا يجب اقترانها بغسل الوجه (¬1)، غير أنّهم لا حظوا أنّه يلزم على قولهم هذا أن تعرى سنن الطهارة المتقدمة عن أول الواجبات عن النّية، لذا قال بعضهم: ينوي المتوضىء مرتين: مرّة عند ابتداء وضوئه، ومرة عند غسل وجهه (¬2). وقال آخرون: ينوي عند أوّل المستحبّات ويستصحب النية إلى أول الواجبات. وقد بين ابن العربي حجّة القائلين بالاقتران فقال: "محل النيّة أن تكوت مقترنة مع أوّل العبادة وضوءا أو صلاة ... ، لا يجوز قبلها ولا بعدها: لأن القصد بالفعل -حقيقته- أن يقترن به، وإلا لم يكن قصدا له، فنية الوضوء مع أوّل جزء منه" (¬3). ¬

_ (¬1) إرشاد الساري للقسطلاني (1/ 54)، فإنه يرى أن وقتها أوّل الفرض، الحطاب على خليل (1/ 235)، التاج والإكليل (1/ 230). (¬2) الحطاب على خليل (1/ 235)، التاج والإكليل (1/ 230). وممن قال بالنيّتين الجويني والقفال، واستحسنه الروياني، انظر المجموع (1/ 368). (¬3) أحكام القرآن (2/ 563).

الثاني: وذهب فريق آخر إلى وجوب تقدّمها على الطهارة، قالوا: "لأنها شرط لها، فيعتبر وجودها في جميعها، فإن وجد شيء من واجبات الطهارة قبل النية لم يعتدّ به" (¬1)، "ويلزم في مقارنة النيّة للعمل أن يكون أول العمل خاليا من نية" (¬2). وهؤلاء الموجبون لتقدم النية انقسموا إلى قسمين: أ- قسم أجاز تقدّمها على أول الطهارة بزمن يسير، وهم الحنابلة، يقول ابن قدامة: "ويجوز تقديم النيّة على الطهارة بالزمن اليسير كقولنا في الصلاة، وإن طال الفصل لم يجزه ذلك" (¬3). ويقول في الإنصاف: "يجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة، وأول واجباتها المضمضة والتسمية، ويجوز تقديمها بزمن يسير بلا نزاع، ولا يجوز بزمن طويل على الصحيح من المذهب" (¬4). وذهب بعض العلماء منهم الآمدي إلى أنه يجوز التقديم بزمن طويل ما لم يرفضها، ومن الذين جوّزوا تقديم النية الأحناف. يقول ابن عابدين (¬5): "زمن النيّة أول العبادات، ولو حكما، كما لو نوى الصلاة في بيتة، ثم حضر المسجد، وافتتح الصلاة بتلك النية"، ويقول في وقت نية الوضوء: "وقت نيّة الوضوء عند ابتداء الوضوء، حتى قبل الاستنجاء، لأن الاستنجاء من سنن الوضوء" (¬6). ب - وذهب أبو محمد ابن حزم إلى أنَّ "النية لا تجزىء في الوضوء، ولا في غيره ¬

_ (¬1) ابن قدامة في المغني (1/ 112). (¬2) ابن حزم في المحلى (1/ 77، 4/ 231). (¬3) المغني لابن قدامة (1/ 112). (¬4) الإنصاف للمرداوي (1/ 150). (¬5) هو محمد أمين بن عمر بن عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، مولده ووفاته في دمشق (1198 - 1252 هـ)، له (ردّ المحتار على الدّر المختار)، (نسمات الأسحار على شرح المنار). ترجمته في (الأعلام 6/ 267). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 80).

من الأعمال إلاّ قبل الابتداء بالوضوء أو بأيّ عمل كان متصلة بالابتداء به، لا يحول بينهما وقت قل أم كثر" (¬1). وحجة ابن حزم أن القائل بجواز الفصل بين النيَّة والعبادة يلزمه أحد أمرين: الأول: أن يجيز بلا حدٍّ محدود، فيجيز أن يكون الفصل سنة أو سنتين. الثاني: أن يحدَّ حدا برأيه لم يأذن به الله (¬2). القول الثالث: وذهب فريق إلى جواز المقارنة والتقديم. منهم الشافعي قال في الأم: "وإذا قدَّم النية مع أخذه في الوضوء أجزأه الوضوء، فإن قدمها قبل ثم عزبت عنه لم يجزه" (¬3). ونلاحظ أنَّ الشافعي يجيز التقديم المتصل بشرط ألّا تعزب النية. كذلك جوز بعض المالكية التقديم، منهم ابن القاسم، أجاز تقديمها عندما يأخذ في أسباب الطهارة بذهابه إلى الحمام، أو النهر، بخلاف الصلاة، وخالفه سحنون (¬4) في الحمام ووافقه في النهر. وفرّق: بأن النهر لا يؤتى غالبا إلاّ لذلك فتميزت العبادة فيه، بخلاف الحمّام فإنَّه يؤتى لذلك، ولإزالة الدرن، والرفاهية غالبة فيه، فلم يتميز للعبادة (¬5). وقال الخطاب (¬6): "وفي تقدمها بيسير خلاف، أي القولان مشهوران، قال ابن بشير: المشهور الصحة" (¬7). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم (1/ 77، 4/ 231). (¬2) المصدر السابق. (¬3) الأم للشافعي (1/ 25). (¬4) هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، قاض فقيه، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب، كان زاهدا لا يخشى في الله لومة لائم، مولده ووفاته بالقيروان (160 - 240 هـ). راجع: (الأعلام 4/ 129). (¬5) الذخيرة (1/ 243). (¬6) هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي فقيه مالكي، أصله من المغرب، ولد واشتهر بمكة، وتوفي بطرابلس سنة (954 هـ)، من كتبه (مواهب الجليل في شرح مختصر خليل). ترجمته في (الأعلام 7/ 286). (¬7) الخطاب (1/ 235).

أقول: وهذا (القول الثالث) مذهب قوي إذ لم يأت القائلون بوجوب المقارنة أو التقديم بدليل يعتمد عليه.

وقت النية في الصلاة

وقت النيّة في الصلاة للعلماء في وقت النية في الصلاة ثلاثة أقوال: القول الأول: وجوب المقارنة تكبيرة الإحرام: مذهب الإمام مالك -رحمه الله تعالى- أن وقت النيّة في الصلاة عند تكبيرة الإحرام، فلا يجوز تقدمها ولا تأخرها (¬1). وهذا مذهب الشافعي -رحمه الله تعالى- قال في الأمِّ: "ولا تجزيه النيّة إلاّ أن تكون مع التكبير، لا تتقدم التكبير، ولا تكون بعده" (¬2). وفي مختصر المزني "قال الشافعي: وإذا أحرم إماما أو وحده نوى صلاته في حال التكبير لا قبله ولا بعده" (¬3). وإلى هذا المذهب قال ابن المنذر (¬4) أيضا، وبه قال الطحاوي (¬5) من الأحناف (¬6)، وقد استدل للقائلين بهذا المذهب بأدلّة منها: 1 - قوله تعالى: {وَمَا أمِرُوا إلْا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَه الدِّينَ} (¬7). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 469)، الإفصاح (1/ 88)، الذخيرة (1/ 243). (¬2) الأم (1/ 86). (¬3) مختصر المزني (1/ 70). (¬4) المغني (1/ 469). (¬5) هو أحمد بن محمد الأزدي، ولد في (طحا) بصعيد مصر عام (339 هـ) ونسب إليها، تفقه بمذهب الشافعي، ثم انتقل إلى مذهب الأحناف، انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، له (شرح معاني الآثار)، و (مشكل الآثار)، توفي في عام (321 هـ). ترجمته في: (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 6/ 250)، (تذكرة الحفاظ 3/ 808)، (طبقات الحفاظ ص 337). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 306). (¬7) سورة البينة / 5.

فقوله مخلصين حال لهم في وقت العبادة، فإن الحال وصف هيئة الفاعل وقت الفعل، والِإخلاص هو النيّة (¬1). 2 - أنّ أول العبادة لوعَرَى عن النيّة لكان مترددا بين القربة غيرها، وآخر الصلاة مبني على أولها، فإذا كان أولها متردِّدا كان آخرها كذلك، واستثني من ذلك الصوم للمشقة. وللشافعية في كيفية المقارنة ثلاثة أقوال: (¬2) الأول: أن تقترن النيّة بالتكبير وتنبسط عليه، فينطبق أوّلها على أول التكبير وآخرها على آخره. الثاني: أن تتقدم النيّة على التكبير، وإذا تمّت افتتح همزة التكبير متصلة بآخر النيّة، ولو قرن النيّة بالتكبير لم يجز. الثالث: لو قدم النيّة كما ذكر المتقدمون، أو قرن كما ذكره الأولون جاز. واحتج أصحاب المذهب الأول: بأنَّ العقد يحصل بالتكبير، فينبغي أن يكون القصد مقرونا به، وإن تقدَّم القصد، ثم جرى التكبير عريا عن القصد، لم يرتبط القصد بالمقصود، ولم يتحقق تعلق أحدهما بالثاني. والذين ارتأوا تقديم النيّة اعتلوا بأنَّ النيّة لو بسطت على التكبير خلا أوّل التكبير من نية تامة، وإذا قدّمت النيّة ثبت حكمها، فاقترن حكم النيّة التامة بأوّل جزء من التكبير. والذين جوزوا الأمرين جميعا بنوا توجيه مذهبهم على المسامحة في الباب، واستروحوا إلى أنَّ الأولين كانوا لا يتعرضون لتضييق الأمر في ذلك على الناس. ولإمام الحرمين عند الملك بن عبد الله الجويني الشافعي نظرة دقيقة وعميقة فيما ذهب إليه أصحاب هذه الأقوال. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 469). (¬2) نهاية المطلب لإمام الحرمين (نهاية الإحكام ص36)، المجموع (3/ 244).

فهو يرى أنهم وقعوا في خطأ بين عندما اعتمدوا أنّ للنية ابتداء ووسطا وجريانا في الضمير على ترتيب، والذي أوقعهم في هذا الخطأ هو ذهولهم عن حقيقة النيّة. فالنيّة تقع في لحظة واحدة، ولا تحتمل البسط والاسترسال والترتيب، أمَّا الذي يقع فيه الترتيب، ويحتمل البسط فهو العلوم بصفات المنوي يقول: "إذا كان الفعل موصوفا بصفات، فالعلوم بها تترتب وتقع في أزمة في مطرد العادة". وبناء على ما حققه أخذ يوجه الأقوال الثلاثة: فالذي يقول بالتقديم: إنّما يقدم إحضار العلوم، وإذا اجتمعت، ولم يقع الذهول عن أوائلها، وقع القصد إلى العلوم بصفاتها مع أوَّل التكبير، فتكون النيّة في لحظة واحدة مقترنة بأول جزء من التكبير. ويوجه القول الثاني: بأن الذي ينبسط هو أزمنة العلوم، فيبتدئها مع أول التكبير، ثم يقدّر تمام حضورها مع آخر التكبير، فعند ذلك يجرد القصد إلى ما حضرت العلوم به، فينطبق هذا القصد على آخر التكبير، وآخر التكبير أول العقد. والذين قالوا بالتخيير بين التقديم والتأخير آل حاصل كلامهم إلى التخيير بين إطباق القصد على أول التكبير، وبين إطباق النيّة على أول العقد. ثم بين أن الذي يختلج في صدره أنه لا يقدح على القاعدة إلاّ ثلاثة أوجه: أحدها: محاولة تطبيق القصد على أوّل التكبير. الثاني: تطبيق القصد على آخر التكبير وهو وقت العقد. الثالث: التخيير بينهما. ثم قال: أما البسط فليس له معنى، ولكن لما لم تكن النية إلاّ في خطرة، والتكبير يسمى تكبيرة العقد، وكانت حقيقة النية لا تنبسط، وذهب ذاهبون إلى بسط العلم إلى إنشاء القصد، وذهب ذاهبون إلى بسط الذكر. ثم بيَّن أن الغرض المكتفى به أن تقع النية بحيث تعدّ مقترنة بعقد الصلاة، ثمّ

القول الثاني: جواز تقدم النية على التكبير بزمن يسير

تمييز الذكر عن الإنشاء والعلم بالمنوي عنهما عسر، سيما على عامّة الخلق. وكان السلف الصالح لا يرون المؤاخذة بهذه التفاصيل، والقدر المعتبر دينا انتفاء الغفلة بذكر النية حالة التكبير مع بذل المجهود في رعاية الوقت، فأمّا التزام حقيقة مصادفة الوقت الذي يذكره الفقيه فمما لا تحويه القدر البشرية (¬1). ونقل النووي هذا القول عن إمام الحرمين والغزالي وقال: "وهذا الذي اختاراه هو المختار" (¬2). القول الثاني: جواز تقدّم النيّة على التكبير بزمن يسير: ذكرنا أن مالكا والشافعي قالا بوجوب مقارنة النية للتكبير، ثم ذكرنا اختلاف أصحاب الشافعي في معنى المقارنة وتحقيق القول في ذلك. وقد ذهب الإمامان: أحمد وأبو حنيفة إلى جواز تقديم النية على التكبير بوقت يسير (¬3). وقد نص فقهاء المذهبين على أن الفصل إذا طال لم تجز المصلي نيته المتقدمة. واشترطوا أيضا ألّا يفسخ نيّته، وألا يشتغل بعمل من غير جنس الصلاة بحيث يذهل عن الصلاة (¬4). واستدلّوا لمذهبهم: 1 - بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى"، وتقديم النيّة على الفعل لا يخرج الفعل عن كونه منويّا، ولا يخرج الفاعل عن كونه مخلصا، بدليل أنَّ الصائم والمزكي يقدّمان النيّة، ولا يخرجهما ذلك عن كونهما مخلصين (¬5). ¬

_ (¬1) نهاية المطلب في دراية المذهب، انظر نهاية الإحكام (ص 35 - 38). (¬2) المجموع (3/ 244). (¬3) حاشيه ابن عابدين (1/ 350)، الإفصاح (1/ 88)، المجموع (3/ 244). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 306)، البداية (1/ 185) بدائع الصنائع (1/ 129). (¬5) المغني لابن قدامة (1/ 469) بدائع الصنائع (1/ 129).

القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير

2 - وقاسوا نيّة الصلاة على نيّة الصوم في جواز التقديم بجامع أنهما عبادتان (¬1). 3 - وقالوا: شرط القِران لا يخلو من الحرج، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير: ذهب داود الظاهري (¬3)، إلى وجوب تقديم النية على التكبير، ولم يجز المقارنة (¬4)، وهذا بخلاف أصحاب المذهب الثاني القائلين بجواز المقارنة، بل نصّ فقهاء المذهب الحنبلي والحنفي على أفضلية المقارنة (¬5)، وكما لا يجيز داود المقارنة، فإنه لا يجيز التقدّم بوقت ما، بل يشترط أن تتقدّم النية تقدما يعقبه التكبير، وقد أوضح هذه المسألة أحد فقهاء المذهب الظاهري وهو ابن حزم، وقد سبق ذكر أدلته التي احتجَّ بها في مبحث (وقت النية في الوضوء). والقول الثاني هو القول الراجح لقوة أدلته، وضعف دليل المخالف. تأخير النية تلك مذاهب العلماء في تقديم النيّة، أمّا تأخير النيّة عن التكبير فلم يرد عن أحد من العلماء القول به، إلاّ عن الكرخي (¬6) من الأحناف، قال بجواز تأخير النية إلى ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) بدائع الصنائع (1/ 129). (¬3) هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني الملقب بالظاهري، لأخذه بظاهر الكتاب والسنة، وإعراضه عن التأويل والرأي والقياس، له تصانيف، ولادته في سنة (201 هـ)، ووفاته (270 هـ). (طبقات الحفاظ ص 253)، (تاريخ بغداد 8/ 369)، (شذرات الذهب 2/ 158). (¬4) المطلب العالي لابن الرفعة، وشرح وسيط الغزالي (انظر نهاية الإحكام ص 70). (¬5) التوضيح (ص 35)، فتح القدير (1/ 185). (¬6) هو عبيد الله بن الحسين أبو الحسن، فقيه، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق، مولده بالكرخ، ووفاته بغداد (260 - 340 هـ)، من كتبه (رسالة في الأصول)، (شرح الجامع الصغير)، (شرح الجامع الكبير). راجع: (الأعلام 4/ 347).

الثناء، معتلاّ بأن الثناء من توابع التكبير (¬1)، ونقل آخرون عنه القول بجواز التأخير إلى الركوع أو إلى الرفع من الركوع (¬2). وقد ردَّ عليه علماء مذهبه ووسموا قوله بالفساد، وقالوا: "إنمّا سقط القران لمكان الحرج، والحرج يندفع بتقديم النية، فلا ضرورة إلى التأخير" (¬3). وقال ابن عابدين: "ولا عبرة بنيّة متأخرة، لأنّ الجزء الخالي عن النيّة لا يقع عبادة، فلا ينبني الباقي عليه، وفي الصوم جوزت للضرورة" (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 129). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 306). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 129). (¬4) حاشيه ابن عابدبن (1/ 306).

وقت نية الزكاة

وقت نية الزكاة في وقت نية الزكاة وجهان مشهوران: أحدهما: تجب النية حال الدفع إلى الإمام أو الأصناف، ولا يجوز تقديمها عليه كالصلاة، وقال بهذا جمع من فقهاء الشافعية والأحناف. ثانيهما: يجوز تقديمها على الدفع للغير قياسا على الصوم، لأن القصد سدّ خلَّة الفقير، وبهذا قال أبو حنيفة، وعليه عامّة أصحابه، يقول صاحب التحفة: "قال مشايخنا: يعتبر أحد الوقتين: وقت الدفع، أو وقت تمييز قدر الزكاة عن النصاب، حتى يكون الأداء بناء على نية صحيحة" (¬1). وهذا القول ظاهر نصّ الشافعي في الكفارة، قال النووي: "والكفارة والزكاة سواء" (¬2)، وأخذ بقول الشافعي ما لا يحصى من فقهاء المذهب كالرافعي (¬3) والبندنيجي وابن الصباغ والنووي وغيرهم. وأجاز فقهاء الحنابلة تقديمها بزمن يسير كالصلاة، ويقرر فقهاء الحنابلة والمالكية أنَّه يجوز تقديم نية الزكاة عندما يوكل ربّ المال غيره في دفع الزكاة (¬4). والمقارنة وجواز تقديم النيّة بالزمن اليسير مذهب قويٌّ. ¬

_ (¬1) تحفة الفقهاء (1/ 480). (¬2) المجموع (6/ 187). (¬3) هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم الرافعي، القزويني، من كبار فقهاء الشافعية، يتصل نسبه برافع بن خديج الصحابي، توفي بقزوين (623 هـ)، له (المحرر) في الفقه، و (فتح العزيز في شرح الوجيز). (¬4) التوضيح (89)، الذخيرة (1/ 243).

وقت نية الصوم

وقت نيّة الصوم تقديم النية في الصوم لم يختلف العلماء في جواز تقديم النية في الصوم كما اختلفوا في الوضوء والصلاة، والسبب في ذلك أمران: 1 - النصوص الصريحة الدالة على أنَّ محل النيَّة في الصوم هو الليل، وسيأتي بيانها. 2 - أن اشتراط مقارنة النيّة لأول الصوم فيه مشقّة بالغة، وحرج شديد والله يقول: {وَمَا جَعَلَ علَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1)، ووجه المشقة والحرج أنَّ أول الصوم يأتي في وقت غفلة من الناس، ولعسر مراقبة أول الصوم وهو الفجر (¬2). تأخير النية في الصوم اختلف العلماء في جواز تأخير النية في بعض أنواع الصوم، وسأحاول تحقيق مذاهب العلماء في ذلك، والراجح منها. 1 - القضاء والكفارة: لا يجوز تأخير نية صوم الكفارة وقضاء رمضان، ولا يصح صومهما إلاّ بنيّة من الليل عند كافة العلماء. ¬

_ (¬1) سورة الحج (78). (¬2) راجع في هذا الموضوع الإحكام في آيات الأحكام لابن العربي (2/ 564، 4/ 1908)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 24)، إرشاد الساري (1/ 54)، المحلى لابن حزم (6/ 162) الذخيرة (1/ 243).

2 - صوم رمضان

قال النووي: "ولا نعلم أحدا خالف في ذلك" (¬1). 2 - صوم رمضان: القائلون بجواز صومه بنيّة من النهار: ذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- وأصحابه إلى أنَّ صوم رمضان يتأدى بنية من بعد غروب الشمس إلى منتصف النهار (¬2). وخالف زفر (¬3) من الأحناف في المريض والمسافر إذ صاما رمضان، قال: لا بد لهما من تبييت النيّة من الليل، لأنه في حقهما كالقضاء، لعدم تعينه عليهما، ولم يرتض الأحناف منه ذلك، لأنَّ صوم رمضان متعين بنفسه على الكل، غير أنه جاز لهما تأخيره تخفيفا للرخصة، فإذا صاما وتركا الترخيص التحقا بالمقيم الصحيح (¬4). وقد استدل الأحناف بأدلة كثيرة نجملها فيما يأتي: 1 - احتجوا بحديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلا ينادي في النّاس يوم عاشوراء: "أنَّ من أكل فليتم، أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل" (¬5). ولا يتم لهم الاستدلال بالحديث إلَّا على القول بأن صوم عاشوراء كان واجبا، وقد نازع في ذلك بعض مخالفيهم. قال النووي: "وأجابوا عن استدلال أبي حنيفة بأنَّ صوم عاشوراء كان تطوعا ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 337). (¬2) فتح القدير لابن الهمام (2/ 48)، تحفة الفقهاء (1/ 534)، المغني (ص 3/ 91)، الإفصاح (1/ 157)، حاشية ابن عابدين (2/ 92) بدائع الصنائع (2/ 85). (¬3) هو زفر بن الهذيل من تميم، فقيه كبير من أصحاب أبي حنيفة، أصله من أصبهان، أقام بالبصرة، وولي قضاءها، وتوفي بها سنة (158 هـ). (شذرات الذهب 1/ 243)، (العبر 1/ 229). (¬4) فتح القدير (2/ 48). (¬5) رواه البخاري فتح الباري (4/ 140).

شديد التأكيد، ولم يكن واجبا، وهذا صحيح مذهب الشافعية" (¬1). واستدلّوا على أنَّ صومه لم يكن واجبا بحديث معاوية بن أبي سفيان (¬2) الذي خطب به على منبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر" (¬3). فقوله صلى الله عليه وسلم: "ولم يكتب عليكم صيامه"، وقوله: "من شاء فليصم، ومن شاء فليفطر"، ظاهر الدلالة في أنَّه لم يكن واجبا قط، بل هو نصّ في ذلك. ومما يؤكد هذا أنه لم يصح أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر من كان أكل بقضائه. والتحقيق أنَّ صوم عاشوراء كان واجب الصوم، وأن وجوبه نسخ عندما فرض الله صوم رمضان، والذي يدلّ على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر" (¬4). وفي الحديث الآخر قالت عائشة: "فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلمّا فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء ترك صيامه" (¬5). قال ابن حجر في فتح الباري: "ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثمَّ تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 337). (¬2) هو معاوية بن أبي سفيان القرشي الأموي، مؤسس الدولة الأموية بالشام، وأحد دهاة العرب، كان فصيحا حليما وقورا، عمل كاتبا للوحي بعد إسلامه، ولد سنة (20) قبل الهجرة بمكة، وتوفي في سنة (60 هـ). (تهذيب التهذيب 10/ 202)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 39)، (الكاشف 3/ 157). (¬3) صحيح البخاري (69 كتاب الصوم)، فتح الباري (4/ 244). (¬4) صحيح البخاري (69 كتاب الصوم)، فتح الباري (4/ 244). (¬5) صحيح البخاري (69 كتاب الصوم)، فتح الباري (4/ 244).

بأمر من أكل بالإمساك، ثمّ زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم: "لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدلّ على أن المتروك وجوبه" (¬1). وقد ضعف ابن حجر قول من قال: "المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه"، وقال: "لا يخفى ضعف هذا القول، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى عام وفاته -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه، وأنَّه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ (¬2). والجمع بين حديث معاوية الذي يخبر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الله لم يكتب علينا صيام يوم عاشوراء وحديثي عائشة وابن مسعود الدالّين على أنَّه كان واجبا ثم نسخ، أنَّ صوم عاشوراء ليس مما أوجبه الله تعالى بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكمُ الصيَام كمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬3). أو يقال: "لم يكتب عليكم صيامه"، أي لم يكتب عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان. ومما يؤكد أنَّه كان واجبا أن رواة الوجوب هم من الصحابة المتقدمين الذين شهدوا أمره بصوم عاشوراء والنداء بصومه في السنة الأولى، أو أوائل العام الثاني من الهجرة، ومعاوية الذي روى عدم الوجوب من مسلمة الفتح فلم يشهد ما شهد أولئك (¬4). وإذ حققنا أن صوم عاشوراء كان واجبا فهل يتم للأحناف الاستدلال بالحديث على جواز صيام رمضان بنيّة من النهار؟ ¬

_ (¬1) فتح الباري (4/ 247). (¬2) المصدر السابق. (¬3) سورة البقرة (183). (¬4) راجع فتح الباري: (4/ 247).

قال منازعوهم: لا؛ لأنَّ الحديث منسوخ، فلا يصحّ الاستدلال به. إلاّ أن الأحناف قالوا: لا يلزم من كون الحديث منسوخا أن تنسخ كلَّ الأحكام التي تتعلق به، فالحديث دل على شيئين: أحدهما: وجوب صوم عاشوراء، والثاني: أنَّ الصوم الواجب في يوم بعينه يصحُّ بنية من نهار، والمنسوخ الأول: ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني (¬1). ومع ذلك فإنني أرى أنَّ الحديث لا تقوم به حجة، لأن المتنازع فيه في صوم الفرض المقدور هل يجوز أن ينويه من النهار بلا عذر؟ أما الذي دلَّ عليه الحديث فهو صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم عليه من الليل، كالذي لم يبلغه أن اليوم أول رمضان إلاّ بعد أن أصبح، وقد احتج ابن حزم بالحديث على صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم إلا بعد طلوع الفجر كما سيأتي. وقد أجاب النووي بجواب آخر حيث يقول: "وعلى فرض وجوبه فكان في ابتداء فرض عليهم من حين بلغهم، ولم يخاطبوا بما قبله، كأهل قباء في استقبال الكعبة، فإن استقبالها بلغهم في أثناء الصلاة، فاستداروا وهم فيها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، وأجزأتهم صلاتهم حيث لم يبلغهم الحكم إلاّ حينئذ، وإن كان الحكم باستقبال القبلة قد سبق في حق غيرهم قبل هذا" (¬2). 2 - استدل صاحب الهداية من الأحناف بقوله -صلى الله عليه وسلم- بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: "إلاّ من أكل فلا يأكل بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم" (¬3). وقد اختلط على المؤلف حديث الأعرابي هذا بحديث سلمة بن الأكوع (¬4) في صوم عاشوراء، إذ هذا اللفظ الذي ذكره صاحب الهداية لم يذكر في حديث ¬

_ (¬1) حاشية السندي على النسائي (4/ 193). (¬2) المجموع (6/ 337). (¬3) الهداية (2/ 43). (¬4) سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع صحابي، كان شجاعا راميا عداء، يسبق الخيل، من الذين بايعوا تحت الشجرة، له في الصحيحين (77) حديثا، توفي بالمدينة سنة (47 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 4/ 150)، (خلاصة تذهيب الكمال (1/ 404)، (الكاشف 1/ 385).

الأعرابي، وحديث الأعرابي أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة (¬1)، وابن حبان (¬2)، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم، عن ابن عباس أنَّ أعرابيا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني رأيت الهلال، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله؟ " قال نعم. قال:"فأذّن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" (¬3). فرؤية الأعرابي وإخباره للرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت ليلا، والأمر بصومه كان في الليل، كما هو واضح من قوله: "أن يصوموا غدا"، وقد استغرب ابن الهمام ما ذكره صاحب الهداية (¬4). 3 - واحتجوا بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬5). فقد أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر، وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر: متأخرا عنه؛ لأن كلمة "ثم" للتعقيب مع التراخي، فكان هذا أمرا بالصوم متراخيا عن أول النهار، والأمر بالصوم أمر بالنية، إذ لا صحة للصوم شرعا بدون النية، فكان أمرا بالصوم بنيّة متأخرة عن أول ¬

_ (¬1) هو محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي، إمام نيسابور في عصره، ولد وتوفي بنيسابور (223 - 311 هـ)، وكان فقيها مجتهدا عالما بالحديث، تزيد مؤلفاته على (140) مؤلفا. راجع: (طبقات الحفاظ ص 310) (شذرات الذهب 2/ 262) (الأعلام 6/ 253). (¬2) هو محمد بن حبان التميمي أبو حاتم البستي، مؤرخ محدث، من مؤلفاته (المسند الجامع الصحيح) المعروف بصحيح ابن حبان، وفاته في سنة (354 هـ). راجع: (شذرات الذهب 3/ 6)، (طبقات الحفاظ ص 374)، (الأعلام 6/ 306). (¬3) تلخيص الحبير (2/ 187). (¬4) فتح القدير (2/ 43). (¬5) سورة البقرة (187).

النهار، ومن أتى به فقد أتى بالمأمور به، فيخرج عن العهدة، وفيه دلالة على أنَّ الإمساك في أول النَّهار يقع صوما وجدت فيه النيَّة أو لم توجد، لأنَّ إتمام الشيء يقتضي سابقية وجود بعض منه، ولأنَّه صام في وقت متعين شرعا لصوم رمضان لوجود ركن الصوم مع شرائطه. هكذا احتج صاحب بدائع الصنائع بالآية الكريمة (¬1). ونحن نخالفه في عدّة أمور: الأول: نخالفه في أن "الأمر بالصوم أمر بالنيّة"، وتعليله لذلك بأنّه "لا صحة للصوم شرعا بدون النيّة". ذلك أنّ وجوب النية في الصوم غير مأخوذ من مجرد الأمر بالصوم، بل من أدلّة أخرى منفصلة، كقوله تعالى: {وَمَا أمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال بالنيّات" (¬3)، وبناء على ذلك فليس الأمر بالصوم أمرا بالنية. ثانيا: إذا تقرّر الأمر السابق بطل ما بناه عليه من أن الشارع أمر بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار، ولو كان قوله هذا حقّا لكان الأفضل أن نأتي بالنية بعد طلوع الفجر، وهذا لم يقل به أحد، حتى ولا الأحناف الذين يجيزون النية من النهار. ثالثا: أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيّن هذه الآية كما بيّن غيرها من الآيات بقوله: "لا صوم لمن لم يبيّت الصيام من الليل"، فوجب أن نأخذ ببيانه. رابعا: ونخالفه في أنّ الإمساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية أم لم توجد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات"، وهذا لم ينو فكيف يقع صوما ولم توجد منه نيّة، ويلزم بناء على قوله: أن من أصبح ناويا الإفطار في رمضان أن يكون صائما إذا لم يأكل أو يشرب أو يجامع. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 86). (¬2) سورة البينة (5). (¬3) انظر ملحق الكتاب.

وتعليله بأنه صام في وقت متعين شرعا يلزم منه أن من صلى ركعتين في آخر وقت الصبح بحيث لم يبق من الوقت إلا ما يكفي لصلاة الفرض، ولم ينو بهما فرض الوقت أن تجزيا عن صلاة الفريضة، لأن الوقت أصبح متعينا لصلاة الصبح، ولا يصحُّ منه غيرهما، وهم لا يقولون بذلك. 4 - واحتجوا بالقياس: ولهم في القياس طريقان: الأول: قياس الفرض على النفل (¬1)، فالنفل صح فيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان ينويه من النهار. وقال منازعوهم: هذا قياس لا يصح، لأننا عهدنا من الشارع أنه يخفف في النوافل ما لا يخفف في الفرائض. ففي الصلاة مثلا سامح الشارع في ترك القيام في صلاة التطوع، وترك استقبال القبلة فيه في السفر تكثيرا له بخلاف الفرض (¬2). ثم نقول لهم: صح الحديث في أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يحدث الصوم بنية من النهار في النوافل، وصح أن أكثر من صحابي قال: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" أو نحو هذا، وهذا له حكم المرفوع، لأنه لا يقال بالرأي بل الذي نرجحه صحته مرفوعا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قوله، كما سيأتي بيانه (¬3). فلمّا صح هذا وهذا كان الواجب ألّا نضرب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضه ببعض، بل علينا أن نوفق بن الأحاديث، وهذا ما فعلناه عندما حملنا حديث إحداثه النية من النهار على صوم النفل، بل هو صريح في ذلك، وحملنا حديث "لا صوم لمن لم يبيت الصيام من الليل" على صيام الفرض. الثاني: قياس النّية المتأخرة على المتقدمة من أول الغروب والجامع بينهما ¬

_ (¬1) فتح القدير (2/ 48). (¬2) المغني لابن قدامة (3/ 92). (¬3) انظر ص 179.

"التيسير ودفع الحرج" (¬1). قالوا: "الأصل أنَّ النيّة لا يصح اعتبارها إلا بالمقارنة، أو مقدمة مع عدم اعتراض ما ينافي المنوي بعدها قبل الشروع فيه، فإنه يقطع اعتبارها على ما قدمنا في شروط الصلاة" (¬2). ولم يجب فيما نحن فيه، لا المقارنة وهو ظاهر، فإنه لو نوى بعد الغروب أجزأه، ولا عدم تخلل المنافي لجواز الصوم بنيَّة يتخلل بينها وبينه الأكل والشرب والجماع مع انتفاء حضورها بعد ذلك إلى انقضاء يوم الصوم (¬3). أخذ يبين الحرج الذي سينشأ من عدم إجازة النية من النهار: "فكثير من النّاس يقع في الحرج لو لم تجز من النهار، كالذي نسيها ليلا، وفي حائض طهرت قبل الفجر ولم تعلم إلا بعده، وهو كثير جدا، فإنّ عادتهن وضع الكرسف عشاء، ثم النوم، ثم رفعه بعد الفجر، وكثير ممن يفعل كذا تصبح فترى الطهر، وهو محكوم بثبوته قبل الفجر، ولذا نلزمها بصلاة العشاء: وفي صبي بلغ بعده، ومسافر أقام، وكافر أسلم" (¬4). ثم قال: "فيجب القول بصحتها نهارا، وتوهم أن مقتضاه قصر الجواز على هؤلاء، أن هؤلاء لا يكثرون كثرة غيرهم بعيد عن النظر ... " (¬5). فهو بذلك يثبت أن "المعنى الذي لأجله صحت النية المتقدمة لذلك التيسير ودفع الحرج موجود في النية المتأخرة ... " (¬6). والِإجابة على ذلك أن القول بهذا يلزمهم القول بإجازة الصوم بنيّة من النهار قبل الزوال وبعده، لا كما يقولون بأن النية بعد الزوال لا تصح، وذلك لأنَّ الحرج قد ¬

_ (¬1) فتح القدير (2/ 48). (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق. (¬4) فتح القدير (2/ 48)، بتصرف يسير. (¬5) المصدر السابق. (¬6) المصدر السابق.

الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان

يوجد بعد الزوال، فقد يبلغ الصبي، ويسلم الكافر، ويفيق المجنون، ويصحو المغمى عليه، وهم لا يقولون بذلك. ثم إن إجازة صوم هؤلاء من النهار بلا نية على القول به كما هو مذهب ابن حزم خاص بهم للضرورة (¬1)، وقد احتج لمذهبه هذا بحديث صيام عاشوراء حيث أمر من أكل بالإمساك، ومن لم يأكل بالصيام، أما الذين كانوا قادرين على النية من الليل فلم يفعلوا فلا حرج في إيجاب النيّة عليهم من الليل لإباحة النية في الليل بطوله، وقد تابع ابن حزم في مذهبه الشوكاني من المتأخرين (¬2). إلاّ أن كثيرا من الفقهاء نازع في إيجاب النية على الكافر يسلم في نهار يوم الصيام، والصبي يبلغ أثناءه، لكونهما غير مُكَلَّفَيْنِ من أوله، فهم يرون أنَّ الصيام عليهما غير واجب، والحائض لها أن تنوي من الليل إذا علمت أن عادتها الطهر قبيل الفجر. الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان: وذهب مالك وأحمد وإسحق (¬3) والشافعي وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا يصح صوم رمضان إلاّ بنيّة من الليل (¬4). أدلتهم: أولا: احتجوا بما رواه النسائي (¬5) من طريق أحمد بن أزهر عن عبد الرزاق عن ¬

_ (¬1) المحلى (6/ 164 - 166). (¬2) نيل الأوطار (4/ 208). (¬3) هو إسحق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المعروف بإسحق بن راهويه، عالم خراسان في عصره، وهو أحد كبار الحفاظ، أخذ عنه الإمام أحمد، والبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، ولد في سنة (161 هـ)، وتوفي سنة (238 هـ). راجع. (خلاصة تذهيب الكمال1/ 69)، (طبقات الحفاظ ص 188)، (تهذيب التهذيب 1/ 216). (¬4) المجموع للنووي (6/ 337)، وراجع المغني لابن قدامة (3/ 91). (¬5) هو أحمد بن شعيب، أصله من (لسا) بخراسان، استوطن مصر، وهو صاحب كتاب السنن الصغرى، أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث، ولادته في سنة (215 هـ)، ووفاته في القدس أو مكة ت (303 هـ). راجع: (تذكرة الحفاظ 4/ 699)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 17)، (طبقات الحفاظ ص 303).

ابن جريج عن ابن شهاب عن سالم عن عبد الله بن عمر (¬1) عن حفصة (¬2)، قالت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له" (¬3). وقد اعترض الأحناف على الحديث باعتراضات عدة: 1 - أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة (¬4)، وهذا الذي ذكروه من ضعف الحديث قاله جماعة من الحفاظ، فضعفوا رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجحوا أن الحديث موقوف. قال البخاري: هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال الترمذي: الموقوف أصح. وقال النسائي: الصواب عندي أنّه موقوف ولم يصح رفعه. وجوابنا على ذلك من وجهين: أ- أن جماعة من الحفاظ حكموا بصحته مرفوعا، منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم (¬5) في الأربعين: صحيح على شرط الشيخين. وقال في المستدرك: صحيح على شرط البخاري. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أسلم مع أبيه وهاجر، راوية مكثر من الحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - اشتهر بالحرص الشديد على اتباع السنة، والاجتهاد في العبادة، ولد قبل الهجرة بعشر سنوات وتوفي سنة (84 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 81)، (الكاشف 2/ 112)، (طبقات الحفاظ ص 9). (¬2) هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب، لها في البخاري ومسلم (60) حديثا، ولدت قبل الهجرة بـ (18) سنة، وتوفيت سنة (45 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 12/ 410)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 378)، (الكاشف 3/ 468). (¬3) سنن النسائي (4/ 196). (¬4) فتح القدير لابن الهمام (2/ 46). (¬5) هو محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي النيسابوري من أكابر حفاظ الحديث، أخذ عن نحو ألفي شيخ، صنف كتبا كثيرة منها: (تاريخ نيسابور)، (المستدرك على الصحيحين)، وتوفي سنة (405 هـ). راجع: (تذكرة الحفاظ 3/ 1039)، (شذرات الذهب 3/ 176)، (طبقات الحفاظ ص 409).

وقال البيهقي رواته ثقات إلا أنّه روي موقوفا (¬1). والسبب الذي من أجله ضعّفه لا يعتبر سببا قويا قويا لتضعيف الحديث، فكونه روي موقوفا، وروي مرفوعا، ليس سببا موجبا لتضعيفه، خاصة وأن الذي رفعه ثقة ثبت، بل إن روايته مرفوعا وموقوفا تعتبر سببا موجبا لقوة الحديث. يقول ابن حزم بعد أن ساق رواية النسائي: "وهذا إسناد صحيح، ولا يضر إسناد ابن جريج له، أن وقفه معمر (¬2)، ومالك، وعبيد الله، ويونس، وابن عيينة (¬3)، فابن جريج (¬4) لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ". ثم قال: "والزهري (¬5) واسع الدراية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه، وكلاهما ثقة. وابن عمر كذلك مرة رواه مسندا، ومرة روي أن حفصة أفتت به، ومرة أفتى به هو". ثم يقول: "وكل هذا قوة للخبر" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر تحقيق ابن حجر للحديث في (تلخيص الحبير 2/ 188)، فمنه نقلنا، والحديث رواه غير النسائي: أبو داود والترمذي وابن ماجه، أقول: وقد وهم ابن رشد إذ عزاه في بداية المجتهد (1/ 301) إلى البخاري. (¬2) هو معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي، فقيه حافظ للحديث، ولد في البصرة (95 هـ)، وسكن اليمن، وتوفي بها (153 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 47)، (طبقات الحفاظ ص 82)، (الكاشف 3/ 164). (¬3) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي الأعور، أحد أئمة الإسلام، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، توفي بمكة سنة (198 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 397)، (طبقات الحفاظ ص 113)، (الكاشف 1/ 379). (¬4) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ففيه الحرم الكي، وإمام أهل الحجاز بن عصره، رومي الأصل، ولد وتوفي بمكة (80 - 150 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 178)، (الكاشف 2/ 210)، (طبقات الحفاظ ص 74). (¬5) هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، من بني زهرة كلاب من قريش، أول من دون الحديث، وأحد كبار الحفاظ والفقهاء، تابعي من أهل المدينة، عاش ما بين (58 - 124 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 457)، (الكاشف 3/ 96)، (طبقات الحفاظ ص 42). (¬6) المحلى (6/ 162).

وقال الخطابي: "أسنده عبد الله بن أبي بكر (¬1)، والزيادة من الثقة مقبولة" (¬2). ب- وعلى التسليم لهم بضعف الحديث: فإنه قد روي موقوفا عن ثلاثة من الصحابة بأسانيد صحيحة، والصحابة الذين يروى موقوفا عليهم هم: ابن عمر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم جميعا (¬3). وهؤلاء لا يعرف لهم مخالف من الصحابة أصلا، والأحناف يستعظمون مخالفة الصحابي الذي لم يعرف له مخالف. فإن قالوا: حديث عاشوراء يدل على جواز الصوم بنية من النهار، وهو أصح من هذا الحديث كما قاله ابن الهمام (¬4)، فالجواب أن حديث عاشوراء لا يدل على مدعاهم كما سبق بيانه. 2 - أنَّه من الآحاد، فلا يصلح ناسخا للكتاب (¬5). وكون الزيادة على النص القرآني تعتبر نسخا لا يسلم لهم، كما بحثناه من قبل. 3 - أنهم حملوه على صوم القضاء والنذر: وهذا تأويل بعيد كما يقول الآمدي: وإنما كان هذا التأويل بعيدا، لأن الصوم في الحديث نكرة، وقد دخل عليه حرف النفي، فكان ظاهره العموم في كل صوم، ثم المتبادر إلى الفهم من لفظ الصوم إنمَّا هو الصوم الأصلي المتخاطب في اللغات: وهو الفرض والتطوع، دون ما وجوبه بعارض، ووقوعه نادر، وهو القضاء والنذر. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن أبي بكر الصديق صحابي من العقلاء. الشجعان السابقين إلى الإسلام، كان له دور هام في هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم -، توفي سنة (11 هـ). راجع: (الأعلام 4/ 234). (¬2) تلخيص الحبير (2/ 188). (¬3) راجع سنن النسائي، والمحلي (6/ 161)، وتلخيص الحبير (2/ 188). (¬4) فيض القدير (2/ 47). (¬5) بدائع الصنائع (2/ 86).

وقد أصاب الآمدي في ردّه عليهم عندما بين أنّ ترك ما هو قوي في العموم، وإخراج الأصل الغالب من النص، وإرادة العارض البعيد النادر- إلغاز في القول. وقرّب هذا بمثال ضربه، فالسيد إذا قال لعبده: "من دخل داري من أقاربي فأكرمه"، ثم قال: إنّما أردت قرابة السبب دون النسب، أو ذوات الأرحام البعيدة، دون العصبات القريبة، كان قوله منكرا مستبعدًا" (¬1). 4 - وقالوا ليس معناه كما ذكرتم، بل إنَّ المراد بقوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام"، أي لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل بأن نوى الصيام من وقت النية (¬2). وهذا تأويل غريب للحديث، يبطله أدنى تأمل في نصّ الحديث، فقوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" نص في أنّ مراد الرسول -صلى الله عليه ولمسلم- النيّة من الليل، لقوله: "يبيت" والتبييت فعل الأمر في البيات وهو الليل. ومما يوضح هذا الأمر رواية ابن عمر الموقوفة عليه "لا يصوم إلاّ من أجمع الصيام قبل الفجر"، وقالت عائشة مثل ذلك. وقالت حفصة: "لا صيام لمن لم يجمع قبل الفجر". فنص الحديث المرفوع، والأحاديث الموقوفة صريحة في إيجاب إيقاع النيَّة في الليل، وهذا التأويل الذي ذكروه لا وجه له، بل هو تمحل من قائله لنصرة المذهب، وهذا لا يجوز لهم. 5 - قالوا أيضا: الحديث محمول على نفي الفضيلة أو الكمال، كقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬3). وجوابا أن هذا الحديث ضعيف (¬4)، ولو ثبت لما صحت صلاة لجار المسجد ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 83). (¬2) الهداية (2/ 46)، والعناية (2/ 46). (¬3) بدائع الصانع (2/ 86)، الهداية (2/ 46). (¬4) قال الحافظ السخاوي في حديث (لا صلاة لجار المسجد): رواه الدارقطني والحاكم والطبراني فيما أملاه، ومن طريقة الديلي .. ، وابن حبان في الضعفاء، وأسانيدها ضعيفة، وليس له -كما قال شيخنا- إسناد ثابت، وقد قال ابن حزم: هذا حديث ضعيف (المقاصد الحسنة ص 467).

النية لكل يوم

إلا في المسجد، ونظيره الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬1)، فنفي الشيء كالصلاة والصوم لعدم وجود شيء يدل على وجوبه لا استحبابه. ثانيا: احتج الموجبون للنيّة في الليل على أبي حنيفة وأصحابه بالقياس، فقاسوا صوم رمضان على القضاء والكفارة، بجامع الفرضية والوجوب في كل. وفرق الأحناف بين صوم الكفارة والقضاء وصوم رمضان بأن الوقت في رمضان متعين لصومه، أما في القضاء والكفارة فالوقت غير متعين لهما شرعا، لأنَّ خارج رمضان متعين للنفل، فلا يكون لغيره إلاّ بتعيينه، فإذا لم ينو من الليل صوما آخر بقي الوقت متعينا للتطوع فلا يملك تغييره (¬2). فمناط التفرقة عندهم بين صوم القضاء والكفارة وصوم رمضان هو أن الوقت غير متعين للأولين، ولكنه متعين لصوم رمضان. وجوابنا أن وقت الصلاة قد يتضيق على المصلّي بألاّ يبقى إلاّ ما يكفي لصلاة الفرض، فهل تصحُّ صلاته فرضا إذا نوى أن يصليها نفلا. الأحناف هنا لا يخالفون غيرهم في أن الصلاة لا تصحُّ فرضا، على الرغم من أن الوقت لا يتسع لغير الفريضة، ولا فرق بين هذه الحالة وصوم رمضان. النيّة لكلّ يوم مذهب مالك وإسحق ورواية عن أحمد أنه يجزىء الصائم نيّة واحدة لجميع الشهر في أوله (¬3). واستدلوا على ذلك بأدلة منها: ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (رواه أحمد والبخاري في جزء القراءة، وصححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم)، ولفظه عندهم: (فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها) (تلخيص الحبير 1/ 231). (¬2) بدائع الصنائع (2/ 86). (¬3) المغني لابن قدامة (3/ 97)، العيني على البخاري (1/ 33)، الإفصاح (1/ 157).

حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

أولا: أن صوم الشهر عبادة واحدة. ثانيا: أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ولكل امرىء ما نوى"، وهذا نوى صيام الشهر فله ما نوى. ثالثا: قاسوا الصوم على الحج، فالحج: طوافه، وسعيه، والوقوف بعرفه .... الخ، يجزىء بنية واحدة. وذهب الإِمام الشافعي وأبو حنيفة ورواية عن أحمد إلى القول بوجوب نيّة مستقلة لكلّ يوم (¬1). وهذا هو المذهب الراجح؛ لأنَّ صوم كلّ يوم عبادة مستقلة، يدل على ذلك أنَّ فساد بعض أيام الشهر لا يفسد بعضها الآخر. ولأنّه يتخلل صوم أيام الشهر ما ينافيها، إذ يباح في الليل الطعام والشراب والنكاح. وقد وهم من قاس أيام رمضان على أعمال الحج باعتبار التعدد للأفعال، لأن الحج عمل واحد، ولا يتم إلاّ بفعل ما اعتبره الشارع من المناسك، والإخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه. حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا ما الحكم فيمن ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار، كالمجنون يفيق، والصبي يحتلم، والكافر يسلم، وكمن انكشف له من النهار أن ذلك اليوم من رمضان؟ أما على مذهب أبي حنيفة وأصحابه فالحكم واضح، إذ يعتبرون صوم من نوى قبل منتصف النهار صحيحا. وعلى مذهب القائلين بوجوب تبييت النية من الليل لا يصح صومهم، ولا خلاف في ذلك عند الشافعية (¬2). ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) المجموع (6/ 334).

الليل كله وقت للنية

وقد نصَّ الشافعي -رحمه الله- على أنَّ من أصبح لا يرى أن يومه من رمضان، ولم يطعم، ثم استبان ذلك له، فعليه صيامه وإعادته (¬1). وابن حزم يصحح صوم الناسي، والنائم، والجاهل، بنيّة من النهار، بل يرى أن هؤلاء إن أكلوا وشربوا وحصل منهم الجماع، ثم ظهر لهم أن يومهم من رمضان وجب عليهم الإِمساك، وأجزأ عنهم، وقد احتجَّ على ما ذهب إليه بأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر من أكل في نهار عاشوراء بالكفّ والِإمساك، ولم يثبت أنه أمرهم بالقضاء (¬2). وابن حجر لم يرتض ذلك الاحتجاج: "لأن الأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء، فيحتمل أن يكون أمرا بالإمساك لحرمة الوقت، كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارا، وكما يؤمر من أفطر يوم الشك ثم رأى الهلال، وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء. وقد بين ابن حجر أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بالقضاء صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي، وفيه "أنَّ أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "صمتم يومكم هذا"؟ قالوا: لا، قال: "فأتموا بقية يومكم واقضوه". ثم بيّن أنّه على تقدير عدم ثبوت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعين ترك القضاء، لأنَّ من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ أو أسلم أثناء النَّهار" (¬3). الليل كله وقت للنية لا تصح النية في بداية الليل، فلو نوى قبل دخول الليل بلحظة لم يصح (¬4)، ¬

_ (¬1) مختصر المزني (2/ 6). (¬2) المحلى (6/ 164). (¬3) فتح الباري (4/ 142). (¬4) المجموع (6/ 332).

وفي مذهب الحنابلة (¬1) "إن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلاّ أن يستصحبها إلى جزء من الليل. وقد روى سعيد بن منصور عن أحمد: من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار، ولم ينو من الليل فلا بأس، إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك، فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيّة من النّهار، إلاّ أن القاضي قال: هذا محمول على من استصحب النية إلى جزء من الليل، وهذا صحيح ظاهر، لقوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيّت النيّة من الليل". وكما لا تصح النية قبل الغروب لا تصح بعد انقضاء الليل ولو بلحظة، خلافا لأبي حنيفة كما سبق، وهل تصح مع الفجر؟ قال النووي: الصحيح لا تصح، لأنَّ أول وقت الصوم يخفى، فوجب تقديم النيّة عليه، بخلاف سائر العبادات (¬2). والليل كلّه محل للنيّة، وقد خطَّأ علماء الشافعية وغيرهم أبا الطيب أسامة من الشافعية فيما ذهب إليه من أن النية لا تصح إلَّا بعد منتصف الليل، قال النووي: "واتفق أصحابنا على تغليطه" (¬3). وقد قاس أبو الطيب الصوم على أذان الصبح والدفع من مزدلفة. قال النووي: وهو قياس عجيب، وأي علّة تجمعهما؟ ولو جمعتهما علّة فالفرق ظاهر، لأن اختصاص الأذان والدفع بالنصف الثاني لا حرج فيه، بخلاف النيّة، فقد يستغرق كثير من الناس النصف الثاني بالنوم، فيؤدي إلى تفويت الصوم، وفي هذا حرج شديد لا أصل له (¬4). ومما يدل على خطئه أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" ليس فيه هذا التحديد الذي حدّه، بل يفهم منه أن من نوى في أي جزء من الليل صح صومه. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (3/ 93). (¬2) المجموع (6/ 332). (¬3) المجموع (6/ 332). (¬4) المصدر السابق.

3 - صوم النذر

ومما يدل على بطلان قياسه أنَّ الأذان والدفع من مزدلفة "يجوزان بعد الفجر بخلاف نيّة الصوم، ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه، واشتراط النية بمعنى الإيجاب والحتم وفوات الصوم بفواتها، وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز، ولأن معهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر، والنية بخلافه". 3 - صوم النذر يجب تبييت النية من الليل في صوم النذر عند جماهير العلماء، لأنَّ النذر كالواجب، وبذلك قطع جمهور فقهاء الشافعية، وقد حكى بعضهم فيه وجهين بناء على أنّه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أو جائزه ومندوبه؟ إن قلنا كواجب لم يصح بنيّة من النهار وإلا فيصح كالنفل. وجمهور فقهاء الشافعية لم يجروا الخلاف في هذه المسألة في الصوم المنذور كما أجروها في بقية المسائل، وذلك لأن الحديث هنا عام في اشراط تبييت النيّة للصوم، خص منه النفل بدليل، وبقي النذر على عمومه (¬1). ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن النذر المعين يجوز بنيّة من النهار، لأنه كصوم رمضان، لأن الوقت متعين لصومه كما سبق. أمّا النذر المطلق فلا بدَّ له من نيّة من الليل، وذلك لأنَّ الوقت غير متعين لصيامه (¬2)، وقد سبق أن بينا أنَّ هذا الذي اعتمدوه في التفرقة هنا، وفي غير هذا الموضع، لا يصحُّ أن يكون مفرقا. 4 - صوم النفل الإمام مالك -رحمه الله تعالى- لا يجيز صوم النفل إلا بنية من الليل كالفرض، ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 332). (¬2) بدائع الصنائع (2/ 85)، تحفة الفقهاء (1/ 534).

وقال بهذا القول غير مالك عبد الله بن عمر، وزفر من الأحناف، وداود الظاهري، وتابعه ابن حزم، وبه قال المزني (¬1) من الشافعية، ونقل ابن المنذر عن مالك أنه استثنى من يسرد الصوم، فصحح نيّته من النهار (¬2)، وحجة هؤلاء قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل". وذهب جماهير العلماء إلى أنَّ صوم النفل يصح بنية من النهار، وبذلك قال علي بن أبي طالب (¬3)، وابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وطلحة، وابن عباس، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، وسعيد بن المسيب (¬4)، وسعيد بن جبير، والنخعي، وآخرون (¬5). وقال ابن حزم: "قال بهذا جمهور السلف" (¬6). واحتج هؤلاء بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فقال: "هل عندكم شيء؟ " قلنا: لا. قال: "فإنّي إذن صائم" (¬7) وفي رواية قال: "إذن أصوم" (¬8). وروى البيهقي والشافعي بالإسناد الصحيح عن حذيفة أنه بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس (¬9). ¬

_ (¬1) هو إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر، وكان زاهدا عالما قوي الحجة، من كتبه (الجامع الكبير)، و (الجامع الصغير)، نسبته إلى مزينة من مضر. ولد سنة (175 هـ)، وتوفي سنة (264 هـ). راجع: (وفيات الأعيان 1/ 217)، (الأعلام (1/ 327). (¬2) المجموع (6/ 339). (¬3) هو علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وزوج ابنته فاطمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، توفي شهيدا سنة (40 هـ). راجع: (خلاصة تهذيب الكمال 2/ 250)، (الكاشف 2/ 287)، (طبقات الحفاظ ص 4). (¬4) هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، من كبار التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد سنة (13 هـ)، وتوفي سنة (94 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 390)، (طبقات الحفاظ ص 17)، (الكاشف 1/ 372). (¬5) المجموع (6/ 399)، وانظر المغني (3/ 196)، والمحلى (6/ 172). (¬6) المحلى (6/ 172 - 173). (¬7) رواه مسلم (مشكاة المصابيح 1/ 643). (¬8) رواه البيهقي. (¬9) المجموع (6/ 339).

قالوا: حديث تبييت النية عام، فنخصه بما ذكرناه جمعا بين الأحاديث. ومع أن ابن حزم روى حديث عائشة السابق، وروى عن عشرة من الصحابة أنهم كانوا يعزمون على صوم النفل في النَّهار -إلاّ أنّه لم يقل بجواز صيام النفل بنية من النهار، قال: "لأنّه ليس في الحديث أنَّه -عليه السلام- لم يكن نوى الصيام من الليل، ولا أنَّه -عليه السلام- أصبح مفطرا ثم نوى الصوم بعد ذلك، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به، لكن فيه أنَّه -عليه السلام- كان يصبح متطوعا صائما ثم يفطر، وهذا مباح عندنا .... ، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا، وكان قد صحَّ عنه عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيته من الليل "، لم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب، ولو أنه -عليه السلام- أصبح مفطرا ثمَّ نوى الصوم نهارا لبينه" (¬1). وتابع الصنعانيُّ من المتأخرين ابنَ حزم فيما ذهب إليه، فبعد أن ساق حديث عائشة الذي احتج به الجمهور قال: "فالجواب عنه أنّه أعمّ من أن يكون بيَّت الصوم أو لا، فيحمل على التبييت، لأنّ المحتمل يردّ إلى العامّ ونحوه" (¬2). ثم قال: "والأصل عموم حديث التبييت، وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر، ولم يقم ما يرفع هذين الأصلين فتعين البقاء عليهما" (¬3). والجواب على ما ذكراه: أولا: أنّ ابن حزم تناقض هنا تناقضا بينا، فهو يرى "أن من نوى في حال صيامه أنّه تارك للصوم عامدا بذلك ذاكرا لصومه، إلاّ أنه لم يأكل، ولم يشرب، ولا وطىء، ولا فعل فعلا ينقض الصوم، فإن صومه قد بطل وأنّه أفطر" (¬4). ووجه التناقض أنّه يرى أن من نوى قطع الصوم وتركه فإن صومه يبطل، ¬

_ (¬1) المحلّى (6/ 172 - 173). (¬2) سبل السلام (2/ 154). (¬3) المصدر السابق. (¬4) إحكام الأحكام (المجلد الثاني 711).

المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار

والرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما دخل على عائشة طلب طعاما ليأكله، فلما لم يجد شيئًا قال: إني صائم، فإذا كان نوى الصوم من الليل، وكان الصوم لا يجزئ بنية إلاّ من الليل، فعلى قول ابن حزم يعتبر صيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- باطلا. ولما لم يكن باطلا حتما، فيلزمه أحد أمرين: الأوّل: القول بأنّ من عزم على قطع نية الصوم أو تركه لا يبطل صومه بذلك. والثاني: أن يجيز الصوم بنية من النَّهار. ثانيا: ورد في رواية البيهقي "إذن أصوم"، كما ورد عن الصحابة الذين روى ابن حزم أقوالهم ما يدلّ على أنهم كانوا يحدثون النية من النّهار، فعائشة تقول: "إني لأصبح يوم طهري، وأنا أريد الصوم، فأستبين طهري فيما بيني وبين نصف النهار، فأغتسل، وأصوم". وروي عن عبيد الله بن عمر"أن أبا هريرة كان يصبح مفطرا، فيقول: هل من طعام؟ فيجده أو لا يجده، فيتم ذلك اليوم". "وسأل رجل علي بن أبي طالب، فقال: أصبحت ولا أريد الصوم؟ فقال له علي: أنت بالخيار بينك وبين نصف النهار، فليس لك أن تفطر". وكذلك قال أكثر من صحابي (¬1). والصحابة أعلم بالتنزيل وبمراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- منّا، خاصّة ورواية البيهقي تكاد تكون صريحة في أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحدث النية من النهار. المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار: ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنَّ المتنفل يجوز له أن يحدث الصوم بنيّة من النهار، إلا أنهم حدوا منتصف النهار كحدّ أقصى، فلا يجوز عندهم أن ينوي ¬

_ (¬1) انظر المحلى (6/ 172).

شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار

الصوم بعد منتصف النهار (¬1)، قالوا: "لأنَّ الصوم هو الإمساك عن الغداء، وتأخير العشاء إلى اللّيل، وبعد الزوال لا يجوز؛ لأنّه لم يوجد الِإمساك عن الغداء لله تعالى" (¬2). وذهب الشافعي في القديم إلى القول بقولهم، وذهب في الجديد إلى صحة صوم من نوى بعد الزوال، وهو قول معظم أصحاب الشافعي، وقال الأصحاب بناء على ذلك: "يصحّ في أيّ لحظة، لكن يشترط ألاّ يتصل غروب الشمس بالنيّة، بل يقى بينهما زمن ولو أدنى لحظة" (¬3). وهذا مذهب الحنابلة أيضا أنّه: "يصحّ صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده، هذا هو المذهب، نصّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب" (¬4). وهذا القول هو الراجح؛ لأن النصوص الدالة على جواز الصوم بالنيّة من النهار لم تفرق بين إحداث النية قبل الزوال وبعده. شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار: يشترط الذين يقولون بصحة صيام من أحدث النية من النهار -ألا يأتي بمناف قبل أن ينوي من أكل أو شرب أو جماع. "وذهب أبو العباس بن سريج (¬5)، ومحمد بن جرير الطبري إلى أنَّ من شرب أو أكل أو جامع من النهار، ثم نوى بعد ذلك الصوم تطوعا صحَّ صومه" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 92)، بدائع الصنائع (2/ 85). (¬2) تحفة الفقهاء (1/ 534). (¬3) المجموع (6/ 335). (¬4) الإنصاف (3/ 297). (¬5) هو أحمد بن عمر بن سريج الشافعي، مولده ووفاته بغداد، (249 - 306 هـ)، ولي قضاء شيراز، له أربعمائة مصنف، كان ناصرا للسنة خاذلا للبدعة، حاضر الجواب، له مناظرات ومساجلات. راجع: (تاريخ بغداد 4/ 287)، (الأعلام 1/ 178). (¬6) المجموع (6/ 326).

المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار

قال النووي: "وهذا خلاف قول جماهير العلماء" (¬1). ويدلّ على بطلان هذا القول أن القرآن اشترط الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى الليل، فهذا الذي تناول المفطرات عمدا في النهار لا يصحّ الصوم منه، لأنّه أكل بعد الفجر، فالشارع أباح تأخير النية، ولم يبح ابتداء الصوم لمن تناول مفطرا من النهار. المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار: قال الشافعي يثاب من حين نوى (¬2)، ويمكن أن يحتجّ له بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلّ امرىء ما نوى"، فهذا لم ينو الصوم إلاّ بعد مضي جزء من النهار، فليس له من الثواب إلا المقدار الذي نواه. وهذا مذهب الحنابلة، قال صاحب الإنصاف: "الثواب من وقتِ النية على الصحيح من المذهب" (¬3). ولعل ما ذهب إليه الأحناف (¬4) - من أنَّه يثاب على النّهار كلّه أصحّ، لأنه يلزم على قول الشافعية والحنابلة أن يكون الصوم متجزئا، ونحن نعلم أنّ الصوم إنما يكون يوما كاملا من الفجر إلى الليل، وهذا أمسك النَّهار كلَّه وأخر النية، وفضل الله واسع فلا يحجر، فيثاب الناوي نهارا على اليوم كلّه، كما يثاب من يدرك بعض صلاة الجماعة ثواب الجماعة، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى. ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 326). (¬2) الهداية (2/ 51). (¬3) الإنصاف (3/ 398). (¬4) الهداية (2/ 51).

الفصل الثالث صفة النية

الفصل الثالث صفة النِّيَّة

تمهيد

صفة النية تمهيد المطلوب إلى الناوي أن يقصد العبادة قصدا يحددها بحيث لا تلتبس بغيرها. وتختلف أنظار العلماء في الأمور التي تميز العبادة، بعد اتفاقهم على الأصل، وهو وجوب تميز العبادة في النيّة. صفة نيّة الطهارة إذا نوى مطلق الطهارة: (¬1) إذا نوى مطلق الطهارة بوضوئه وغسله ففي صحة ذلك منه قولان في مذهب المالكية والشافعية والحنابلة: أصح القولين عند الحنابلة الصحة، وعند الشافعية عدم الصحة، وقد نصّ الشافعي في البويطي على الصحّة، وتأوله جمهور أصحابه على إرادة طهارة الحدث، وممن مال إلى الصحة النووي رحمه الله. الذين قالوا بعدم الإجزاء علَّلوا ذلك بأن الوضوء والغسل الشرعيين لا يتميزان بنية الطهارة المطلقة، لأنَّ الطهارة قد تكون عن حدث، وقد تكون عن نجس، فلا بدَّ من تمييز طهارة الحدث عن طهارة النجس. والمصححون قالوا: إذا أطلقت الطهارة انصرفت إلى الطهارة الشرعية التي هي رفع الحدث، ويتأيد هذا -كما يقول النووي- بأن المتطهر في الوضوء يقوم بغسل مخصوص بطريقة مخصوصة تبعد إرادة النجس، ومثله الغسل إذا قام به ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة: المجموع (1/ 373، 379)، الحطاب على خليل (1/ 237)، المغني لابن قدامة.

إذا نوى الغسل أو الوضوء

بالكيفية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا نوى الغسل أو الوضوء: (¬1) أما إذا نوى الغسل أو الوضوء فينبغي أن نقول بالإجزاء لأنَّ التحديد هنا واضح، إلا أنَّ بعض العلماء لم يكتف بهذا التحديد، ومنهم الروياني من الشافعية، فقد ذهب إلى أنَّ الجنب لو نوى الغسل لا يجزئه، لأنَّه قد يكون عادة، وقد يكون مندوبا. وقالوا أيضا: الوضوء قد يكون تجديدا فلا يرفع حدثا. إلاّ أنَّ الراجح من أقوال العلماء القول بالِإجزاء، بل القول بالإجزاء هنا أولى منه في المسألة السابقة. أما إذا نوى بوضوئه الطهارة المفروضة، أو نوى فرض الوضوء، أو الغسل المفروض، فذلك يجزئه بلا خلاف. قال إمام الحرمين: "قطع به أئمة المذهب". إذا نوى المتطهر رفع الحدث: لا خلاف في أن المتوضىء أو المغتسل إذا نوى رفع الحدث فإنه يجزئه، إلاّ إذا كان المتطهر به حدث دائم كالاستحاضة وسلس البول، فالصحيح في مذهب الشافعية والحنابلة أنه لا يجزئه، لأنَّ حدث هؤلاء لا يرتفع مع جريانه، والذي نصَّ عليه معظم الشافعية والحنابلة أنَّ على هؤلاء أن ينووا استباحة الصلاة (¬2). إذا نوى المتطهر الطهارة لأمر لا يستباح إلا بها: لا خلاف بين العلماء في أن من نوى بوضوئه أمرا لا يستباح إلاّ بالوضوء أنَّ حدثه يرتفع ويستبيح الذي نواه وغيره، وعندما حكى الشافعي -رحمه الله- وجها أن الحدث لا يرتفع بهذه النيّة غلَّط النووي قائله، وقال: هذا غلط وخيال عجيب. ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة المجموع (1/ 373، 379)، الخطاب على خليل 1/ 286، المغني لابن قدامة. (¬2) المجموع (1/ 371)، الإنصاف (1/ 143).

إذا نوى ما تستحب له الطهارة

وخالف بعض العلماء في المرأة تغتسل من الحيض والنفاس بنيّة استباحة وطء الزوج، فقالوا: لا تستبيح الصلاة به، والأصح الصحة، لأنَّ الحائض مأمورة بذلك شرعا (¬1). إذا نوى ما تستحب له الطهارة: أما إذا توضأ لأمر تستحب له الطهارة كالجلوس في المسجد، وقراءة القرآن، فقد ذهب المالكية والشافعية في أصحّ القولين عندهم إلى أنّ ذلك لا يجزئه، لأنّ الجلوس في المسجد ونحوه يستباح من غير طهارة. وقد صحّح جمع من علماء المالكية والشافعية وضوءه، ونصوا على أن حدثه يرتفع بذلك، بل إن ظاهر كلام الشافعي في الأم، وكلام المزني أن من نوى ما يستحب له الطهارة تصح صلاته، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وفي المسألة قولان في مذهب الحنابلة، الراجح عندهم ارتفاعه (¬2). إذا نوى ما لا تشرع الطهارة له: إذا قصد ما لا تشرع له الطهارة كالتبرد، ونظافة أعضائه من وسخ أو طين أو تطهير لأجل دخول السوق، أو السلام على الأمير، أو لبس الثوب والصيام، وعقد البيع، والنكاح، والخروج إلى السفر، ولقاء القادم ونحو ذلك فلا يجزئه قولا واحدا (¬3). إذا نوى من عليه أحداث رفع أحدها: في مذهب الحنابلة فمن نوى رفع أحد الأسباب وعليه غيره في الوضوء أو الغسل أنه يرتفع سائرها، هذا هو المذهب الصحيح، وقيل لا يرتفع إلا ما نواه (¬4). وفي مذهب الشافعية خمسة أوجه: (¬5) ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 373). (¬2) المجموع (1/ 374)، الحطاب على خليل (1/ 237)، الذخيرة (1/ 246)، الإنصاف (1/ 145، 147)، (الأم 1/ 30، 31)، (مختصر المزني 1/ 225). (¬3) المغني لابن قدامة (1/ 111)، المجموع (1/ 374). (¬4) المغني (1/ 267 - 268)، (التوضيح ص 19)، الإنصاف (1/ 149). (¬5) المجموع (1/ 385).

الأول: يصح وضوؤه، لأن الأحداث تتداخل، فإذا ارتفع واحد ارتفع الجميع، وهذا أصح الأقوال. الثاني: لا يصح مطلقا لأنه لم ينو رفع جميع الأحداث. الثالث: إن نوى رفع الحدث الأول صحّ، وإن نوى ما بعدّه لم يصح، لأنَّ الذي أوجب الطهارة هو الأول دون ما بعده. الرابع: إن نوى رفع الأخير صحّ وضوؤه وإلا فلا، لأن ما قبل الأخير اندرج فيه. الخامس: إن اقتصر على نيّة رفع أحد الأحداث صح وضوؤه، وإن نفى غيره فلا. والصواب في هذه المسألة أن الحدث يرتفع بنيّة رفع واحد من الأحداث التي عليه، لأنه لا يجب عليه أن ينوي رفع حدث معين بل يجزئه أن ينوي رفع الحدث مطلقا، وقد بين المزني -رحمه الله- هذه المسألة غاية البيان، فقال: "ليس على المحدث عندي معرفة أي الأحداث كان منه، وإنما عليه أن يتطهر للحديث، ولو كان عليه معرفة أي الأحداث كان منه، كما كان عليه معرفة أي الصلوات عليه لوجب لو توضأ من ريح ثم علم أنَّ حدثه البول، أو اغتسلت المرأة تنوي الحيض، وإنما كانت جنبا، أو من الحيض، وإنما كانت نفساء، لم يجزىء أحد منهم، حتى يعلم الحدث الذي تطهر منه، ولا يقول بهذا أحد نعلمه" (¬1). يوضح هذه المسألة أنَّ الحدث له في اصطلاح الفقهاء معنيان: الأول: الأسباب الموجبة له، يقال: أحدث إذا خرج منه ما يوجب الوضوء. الثاني: المنع المرتب على هذه الأسباب، فإنَّ من صدر منه سبب من هذه الأسباب فقد منعه الله من الِإقدام على هذه العبادة حتى يتوضأ. ¬

_ (¬1) مختصر المزني (1/ 30 - 31).

النية للتيمم

والقصد إلى رفع الحدث الذي هو السبب محال، لاستحالة رفع الواقع فيتعين أن يكون المنوي هو رفع المنع، وإذا ارتفع المنع تثبت الِإباحة. ولذلك نصَّ جماهير الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والأحناف على أن من غلط في تحديد سبب الحدث فلا يضرّه ذلك، لأن التحديد غير مراد (¬1). النية للتيمم يرى جماهير العلماء أنَّ التيمم لا يرفع الحدث، وقد استدلُّوا على ذلك بالحديث الذي يوجب على المتيمم الوضوء إذا وجد الماء: "الصعيد الطيب وضوء المسلم، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" (¬2). وبناء على هذا القول فلا يجزىء عن المتيمم أن ينوي رفع الحدث، والواجب على قول هؤلاء أن ينوي استباحة الصلاة، أو استباحة ما لا يباح إلاّ بالطهارة. وذهب داود الظاهري وأبو حنيفة وبعض المالكية إلى أنَّ التيمم يرفع الحدث، واستدلوا بأنَّ الله -تعالى- جعل التيمم بدلا عن الماء فحكمه حكمه، وبأنَّه -صلى الله عليه وسلم- سماه طهورا، وسماه وضوءا. والحقُّ أن التيمم يقوم مقام الماء، ويرفع الجنابة رفعا مؤقتا إلى حال وجدان الماء، أما أنّه يقوم مقام الماء فلأنَّ الله -تعالى- جعله عوضا عنه عند عدمه، والأصل أنه قائم مقامه في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلاّ بدليل، وأما أنّه إذا وجد الماء اغتسل فلقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وجد الماء، فليتق الله، وليمسَّه بشرته"، فإنَّ الأظهر أنه أمر بإمساسه الماء لسبب قد تقدم على وجدان الماء إذ إمساسه لما يأتي من أسباب وجوب الغسل أو الوضوء معلوم من الكتاب والسنة، والتأسيس خير من التأكيد. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 267 - 268)، التوضيح (ص 19)، الإنصاف (1/ 149)، المجموع (1/ 385)، بدائع الصنائع (1/ 52)، الذخيرة (1/ 267 - 268)، (1/ 247). (¬2) أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وصححه الترمذي، (نيل الأوطار 1/ 289).

وهذا القول اختيار الصنعاني من المتأخرين، وهو قول قوي كما يبدو، وبناء على قول القائلين بأن التيمم يرفع الحدث، فإنه يجوز للمتيمم أن ينوي رفع الحدث ويجزئه. فإذا قصد بالتيمم ما يستحب له الطهارة فمذهب أبي حنيفة أن ذلك يجزئه ويصلي به الفريضة، ومذهب الأئمة الثلاثة أن ذلك لا يجزئه، لأنَّ التيمم لا يرفع الحدث عندهم، ولذلك لم يعطوه حكم الوضوء، وقد علمنا أن التحقيق في المسألة أنَّه يرفع الحدث رفعا مؤقتا (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 240)، المغني (1/ 252). سبل السلام (1/ 96)، بدائع الصنائع (1/ 52).

صفة النية في العبادات الواجبة

صفة النيّة في العبادات الواجبة صفة النيّة في الزكاة والحج والعمرة إذا أراد العبد أن يأتي بعبادة من العبادات الواجبة فلا بد له أن ينوي فعل العبادة لتمتاز عن سائر الأفعال. ثم من العبادات ما يكفي فيه نيّة الفعل فحسب كالزكاة، لأن اسم الزكاة لا يطلق إلا على العبادة المفروضة، وما يتطوع به يسمى صدقة، وهذا هو المعتمد في مذهب الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة، وخالف بعض الشافعية والحنابلة فأوجبوا التعرض لنية الفرضية، إلاّ أنَّ محققي المذهبين ردوا هذا القول ولم يرضوه. أما إذا نوى الصدقة فلا تجزىء عن الزكاة ما لم ينو الصدقة المفروضة، لأن الصدقة تكون واجبة أو تطوعا، فيحتاج إلى نيّة الفرضية كي يميزها عن التطوع (¬1). ومثل الزكاة الحجّ والعمرة، فقد أجمع الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم على أن من نوى بإحرامه نيّة مطلقة في حج الفريضة لا يعين حجة الفريضة، ولا الإفراد أو القران أو التمتع فإن إحرامه صحيح، واستدلوا على جواز الحج بنية مطلقة بأنّه صح بنيّة مبهمة، كما في حديث أبي موسى الأشعري قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: "بم أهللت"؟ قلت: لبيت بإهلال كإهلال رسول الله. قال: "أحسنت"، فأمرني فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم قال: (حُلّ) (¬2). ¬

_ (¬1) الإنصاف (3/ 194)، الوجيز لابن الرفعة نقلا عن نهاية الأحكام (ص 38)، المجموع (6/ 186)، وقد حكى الشافعي اشتراط الفرضية في الزكاة (الأم 2/ 18)، ومختصر المزني (1/ 215). (¬2) عزاه الحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير 2/ 235)، إلى البخاري ومسلم من حديث أنس، وفى رواية عند البخاري من حديث جابر.

وروى جابر (¬1) وأنس أنَّ عليا قدم من اليمن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "بم أهللت"؟ قال: أهللت بما أهل به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "فاهد، وامكث حراما"، وقال أنس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أنّ معي الهدي لحللت" (¬2). والسبب في أمره لأبي موسى بالإِحلال أنه لم يسق الهدي، أمّا علي فقد ساق الهدي، فأمره أن يبقى محرما. فأنت ترى أن أبا موسى وعليا قد أحرما بنيّة مبهمة، فكذلك من حج بنية مطلقة. بل إن الشافعي وأحمد وإسحق يذهبون إلى أبعد من هذا، فهم يرون أن من نوى التطوع بحجة، أو نوى الحج عن غيره، وعليه حج الفريضة، فإنّه لا ينعقد عن غيره، ويقع عن نفسه. وخالفهم فيما ذهبوا إليه الإِمام مالك وأبو حنيفة والثوري، وقالوا: من حج عن غيره وقع عن المحجوج عنه، ومن نوى التطوع كان تطوعا، وإن لم يحج الفريضة. وحجة الشافعي ومن معه حديث الصحابي الحاجّ عن شبرمة حيث أمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يحجّ عن نفسه، ثم يحجّ عن شبرمة (¬3). وليس لهم حجة في الحديث غاية ما يفيده أنه أمره بفسخ نية وصرفها إلى الحجّ عن نفسه، ولا يستفاد منه أنَّ الذي قصد الحج عن غيره يقع حجة عن نفسه إن لم يسبق له حج. ¬

_ (¬1) هو جابر بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، هو وأبوه صحابيان، له في الصحيحين (1540)، حديثا. ولد سنة (16 ق هـ). وتوفي سنة (78 هـ). راجع. (تهذيب التهذيب 2/ 42). (¬2) قال الحافظ ابن حجر: متفق عليه (تلخيص الحبير 2/ 235). (¬3) قال التبريزي (مشكاة المصابيح 2/ 7): رواه الشافعي وأبو داود وابن ماجه، قال محقق الكتاب وهو حديث صحيح مرفوع.

واحتج الفريق الثاني بقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكلّ امرىء ما نوى"، وهؤلاء نووا الحج عن غيرهم، أو نووه تطوعا، فلا يقع إلاّ على الوجه الذي نووه. ويشهد لصحة قولهم حديث الخثعمية التي قالت للرسول -صلى الله عليه وسلم- إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم، حُجي عن أبيك"، ولم يستفسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك الاستفسار مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال (¬1). ¬

_ (¬1) راجع في مسألة النية التي يتأدى بها الحج ما يأتي: المغني (3/ 285)، التوضيح (ص 107). الأم (2/ 173) (2/ 108)، فتح الباري (1/ 14). الهداية (2/ 139، 140). العيني على البخاري (1/ 33).

صفة النية في الصوم

صفة النية في الصوم أما الصوم فلا يتأدى بمجرد نية الفعل، بل لا بد من أن ينوي صوم رمضان، والسبب في هذا أنَّ الصوم منه التطوع ومنه الواجب، والواجب قد يكون عن رمضان أو كفارة أو نذر، ولا يتميز رمضان عما سواه إلاّ بقصده قصدا واضحا بحيث لا يختلط بغيره. وهذا مذهب الِإمام مالك والشافعي، وأحمد في أظهر روايتيه، بل إنَّ هؤلاء الأئمة الأعلام قالوا بوجوب نيّة الفرضية في الصوم، وممن قال بذلك إسحق وداود الظاهري، وإن كان الأرجح في مذهب الشافعية والحنابلة عدم اشتراطها. وخالف الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وجميع أصحابه، فقالوا: يتأدى صوم شهر رمضان بنية مطلقة من المقيم الصحيح، بل ويتأدى عندهم بنيّة النفل، ونيّة القضاء والكفارة، وحجّة أبي حنيفة عدم قابلية المحل؛ لأن شهر رمضان متعين لصوم الفرض لمن شهده صحيحا غير مريض، واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1). والصحيح المقيم شهد الشهر وصامه، فيخرج من العهدة. وقد أوردنا فيما سبق اعتراض الشافعي -رحمه الله- أن الواجب الموسع قد يتضيق كما لو أخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها بحيث لم يبق من الوقت إلا ما يكفي صلاة الفرض، فيلزم الأحناف بناء على ذلك القول بأن الفريضة هنا تتأدى بنية النافلة، إلا أن الأحناف يفرقون بين ما تضيق بحكم شرعي أصلي كرمضان، وبين ¬

_ (¬1) سورة البقرة / 185.

ما تضيق بفعل الإنسان، كما في تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، وكما في نذر يوم بعينه، فالأول يتأدى ولو نوى به شيئًا آخر، والثاني: لا يتأدى إلاّ بقصده بعينه. وأقوى ما يردّ به على هؤلاء قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإنما لكلِّ امرىء ما نوى"، وهذا لم ينو الفرض أو رمضان، فلا يحصل له؛ وقد تناقض الأحناف هنا، فقد قالوا في الحجّ: إنّه لا يتأدى بنيّة النفل إذا كان عليه حجّة الفريضة، وإذا نوى من عليه حجّة الإسلام عن غيره فإنه يقع عن المحجوج عنه، واحتجوا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإنما لكلِّ امرىء ما نوى"، ولكنهم لم يسيروا على النسق نفسه في الصيام مما جعل مخالفيهم يرمونهم بالتناقض، إلاّ أنَّ الأحناف رفضوا ذلك، وقالوا: شهر رمضان متعين للصوم لمن شهده صحيحا، بخلاف وقت الحج فإنّه لم يتمحض للحجّ. ولكن أين الدليل على أنَّ ما تعين وقته للعبادة بحيث يصبح ظرفا لها لا يحتاج إلى تعيينه، ويصحّ أداؤه بنية النفل؟! وما الذي أخرج هذه الصورة من الحدث "إنما الأعمال بالنيات"؟! أما استدلالهم بالآية فلا حجة فيه، فالآية تأمر بالصوم الشرعي، والصوم الشرعي لا بدَّ له من النية التي تحدده وتميزه، وإلاّ لم يكن صياما، وفي الحدث (¬1) "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن عمر بهذا اللفظ "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة (انظر نيل الأوطار 4/ 219). (¬2) راجع في صفة نيّة الصيام ما يأتي: الأم (2/ 18)، مختصر المزني (1/ 15)، المجموع (6/ 186)، (6/ 328)، (6/ 338، 346)، (3/ 345 - 346) بدائع الفوائد (3/ 93)، المغنى (3/ 94 - 95) التوضيح (19، 95) حاشية ابن عابدين (1/ 308)، بدائع الفوائد (2/ 83)، الإفصاح لابن هبيرة (1/ 156)، فتح القدير (2/ 49)، إرشاد الساري (1/ 53)، العيني على البخاري (1/ 33).

صفة النية في الصلاة

صفة النيّة في الصلاة أما الصلاة فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يكفي فيها مجرد نية الفعل، بل لا بد من تعيين العبادة المنوية، ظهرا أو عصرا أو مغربا .. ، وهذا الاشتراط كي تتميز الفريضة عن النافلة، وكي تتميز صلاة الظهر عن العصر والمؤداة عن المقضية، ويكفيه أن ينوي الظهر أو العصر، لأن ظهر الوقت هو المشروع الأصلي فيه، وغيره عارض، فعند الإطلاق ينصرف إلى ما هو الأصل، كمطلق اسم الدرهم؛ فإنه ينطلق إلى نقد البلد، وهذا يردُّ قول من يقول: إنَّه لا يكفيه أن ينوي صلاة الظهر أو العصر. وهل يجب مع نيته الظهر أو العصر أن ينوي الفريضة؟ رجح كثير من الحنابلة والشافعية إيجاب ذلك، والراجح أن إضافة الصلاة إلى الوقت تكفي في التحديد والتمييز، وهذا قول قويّ عند الشافعية والحنابلة وغيرهم، أما إذا نوى الصلاة المفروضة فهذا لا يكفي لعدم التحديد (¬1). نية الجماعة (¬2) اتفق الشافعي وأصحابه على أنّه يشترط لصحة الجماعة أن ينوي المأموم الجماعة والاقتداء والائتمام، وهذا مذهب الحنابلة، وقال المالكية بوجوب نية الإِمامة في كلّ موضع تشترط فيه الجماعة، وقد حدَّدها بعضهم في خمسة مواضع: الجمعة، والجمع، والجنائز، والخوف، والاستخلاف. أما الصلوات التي ¬

_ (¬1) الإنصاف (3/ 194)، المغني (3/ 95)، المجموع (1/ 346)، حاشية ابن عابدين (1/ 308). (¬2) الحطاب علي خليل (2/ 124)، الذخيرة (1/ 508)، حاشية ابن عابدين (1/ 311)، التوضيح (ص 35)، المجموع (4/ 97 - 100) فتح الباري (2/ 192)، السيل الجرار (1/ 258).

نية القضاء والأداء

لا تشرط فيها الجماعة فإن عدم نية المأموم الجماعة لا يبطل الصلاة عند المالكية، ولكنّها لا تقع جماعة عندهم بل تصح منفردا. وحجّة الذين قالوا بوجوب نيّة الجماعة: أن صلاة الجماعة عمل، لأنَّ لها وصفا زائدا على صلاة الفرادى بالاجتماع والمتابعة، فلا بدّ من الإتيان بها لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "إنما الأعمال بالنيات". وهل يلزم الإمام نيّة الِإمامة؟ صحيح الشافعية والأحناف عدم الاشتراط، ويرى الِإمام أحمد الاشتراط، وعندما احتج مخالفوه بأنَّ الصحابة اقتدوا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلّي من الليل في رمضان، وكذلك ابن عباس اقتدى بالرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما قام يصلّي من الليل بعد أن كبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يرتض الإمام ذلك، لأن هذه الصلوات نوافل وهو يفرق بين الفريضة والنافلة في هذا الجانب. ولكن ورد ما يدلّ على أنّ الاقتداء حصل أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبإرشاده بعد التكبير، وذلك عندما جاء أحد الصحابة متأخرا عن صلاة الجماعة، وقام يصلي منفردا، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من يتصدّق على هذا"، فقام صحابي فصلى معه. وممن قال بقول أحمد الأوزاعي (¬1) والثوري وإسحق والشوكاني (¬2). واشترطها أبو حنيفة في حالة وهي أن يكون المأمومون نساء. نيّة القضاء والأداء (¬3) ينصُّ فقهاء المذاهب على أنَّه لا تشترط نية قضاء في فائتة، وأداء في حاضرة، ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي من قبيلة الأوزاع، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، ولد ببعلبك (88 هـ)، وسكن بيروت وتوفي بها (157 هـ)، له كتاب (السنن)، في الفقه، و (المسائل). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 146)، (الكاشف 2/ 179)، (طبقات الحفاظ ص 79). (¬2) هو محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ولد بهجرة شوكان من بلاد خولان باليمن سنة (1173 هـ) ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها، له (114) مؤلفا، كانت وفاته سنة (1250 هـ). راجع: (الأعلام 7/ 190). (¬3) التوضيح (ص 35)، حاشية ابن عابدين (1/ 309)، المجموع (6/ 328).

نية الجمع

بل يرى كثير منهم أنه لو صلَّى القضاء بنية الأداء أو العكس، صحت صلاته إذا كان مخطئا. نية الجمع في اشتراط نية الجمع قولان في مذهب الحنابلة (¬1) والشافعية، الأصح عدم الاشتراط. يقول ابن حجر: "رجح كثير من الشافعية أن جمع التقديم تلزمه نيَّة الجمع، وخالفهم شيخنا شيخ الِإسلام، واستدلَّ له بمفهوم حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، فما ليس بعمل لا تشترط له النيّة، وجمع التقديم ليس بعمل" (¬2). ويقول السيوطي: "استدل البلقيني (¬3) بحديث "إنَّما الأعمال .. ". على ما اختاره من أن جمع التقديم لا يشترط فيه النية، قال: لأن الجمع ليس بعمل إنما العمل الصلاة، ويقوي ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- جمع في غزوة تبوك، ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين خلفه ولو كان شرطا لأعلمهم به" (¬4). وذكر السيوطي عن البلقيني أيضا أنه لا يوجب نيّة الجمع في جمع التأخير. صفة النية في النوافل يرى الأحناف أنَّ النوافل والسنن من صلاة وصوم وحج مطلقة أو مقيدة تتأدى بنية مطلقة. ويقول ابن الهمام: (¬5) "المحققون على عدم اشتراطها "وعللوا ذلك ¬

_ (¬1) المغني (2/ 279). (¬2) فتح الباري (1/ 18). (¬3) هو عمر بن رسلان عسقلاني الأصل، ولد في بلقينية من غربية مصر سنة (724 هـ)، وتعلم في القاهرة، مجتهد حافظ للحديث، ولي قضاء الشام، وتوفي في عام (805 هـ). راجع: (شذرات الذهب 7/ 51)، (طبقات الحفاظ ص 538)، (الأعلام 5/ 205). (¬4) منتهى الآمال (22/أ)، (الأشباه والنظائر 13). (¬5) هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي، ثم الإسكندري، المعروف بابن الهمام، حنفي عارف بأصول الدين والتفسير والفرائض والفقه والحساب واللغة، له (فتح القدير) في شرح الهداية، و (التجديد)، في الأصول. ولد عام (790 هـ)، وتوفي سنة (861 هـ) راجع: (الأعلام 6/ 184).

بأن" معنى السنية كون النافلة مواظبا عليها من النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الفريضة المعينة وقبلها، فإذا أوقع المصلي النافلة في ذلك المحلّ صدق عليه أنَّه فعل الفعل المسمى نية ... " (¬1). ويقول الكاساني: (¬2) "إن كان يصلي التطوع تكفيه نية الصلاة، لأنّه ليس لصلاة التطوع صفة زائدة على أصل الصلاة ليحتاج إلى أن ينويها، فكان شرط النيّة فيها لتصير لله تعالى، وأنها تصير لله تعالى بنية مطلق الصلاة، ولهذا يتأدى صوم النفل خارج رمضان بمطلق النية" (¬3). هذا مذهب الأحناف أمّا الشافعية والحنابلة والمالكية فقد قسموا النوافل إلى قسمين: (¬4) الأول: نوافل مقيدة أو معينة أو ذوات أسباب: كصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، والسنن الرواتب، والوتر، ونحوها، فهذه مقيدة بأزمانها أو بأسبابها، فلا بد من نيَّة التعيين فيها، فمن افتتح الصلاة من حيث الجملة، ثم ردّها لهذه لم يجزىء. وقد يحصل بينهم خلاف في عدّ بعض العبادات نوافل مقيدة، فتحتاج إلى تعيين، أو هي مطلقة فلا تحتاج إلى تعيين، كما في صلاة قيام رمضان. الشافعيّة والحنابلة يعدّونها من النوافل المقيدة، والمالكية يعدونها من قيام الليل. فالنوافل المقيدة ينويها كأن ينوي صلاة الاستسقاء مثلا، أو يضيفها إلى سببها كالكسوف، وفي الرواتب تتعين بالإضافة بأن ينوي سنة الظهر مثلا. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 187). (¬2) هو علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني أو الكاشاني يروى بكليهما، فقيه حنفي من أهل حلب، له (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)، و (السلطان المبين في أصول الدين) توفي بحلب سنة (587 هـ). راجع: (الأعلام 2/ 46)، (معجم المؤلفين 3/ 75). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 127)، وراجع حاشية ابن عابدين (1/ 306)، والهداية (1/ 187)، وتحفة الفقهاء (1/ 531). (¬4) المجموع (3/ 247) (6/ 329)، المغني لابن قدامة (1/ 466)، الذخيرة (1/ 511).

الثاني: النوافل المطلقة فهذه تتأدى بنيّة مطلقة، ولا تفتقر إلى نيّة التعيين، فإن كانت الصلاة في الليل فهي قيام ليل، وإن كانت في أول النهار فهي صلاة الضحى، أو عند دخول المسجد فهي تحيّة المسجد، وكذلك سائر العبادات من صوم وحج وعمرة.

الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة

الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة بعض متأخري الشافعية (¬1) يرون وجوب الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة، وهؤلاء لم يكتفوا بالقول بالوجوب على أنه رأي لهم، أو فهم فهموه من كلام السابقين، بل نسبوا القول بهذا إلى كبار علماء الشافعية كابن حجر، بل صرح بعضهم بأن هذا القول هو قول الشافعي -رحمه الله- وأصل مذهبه. ونحن نوافق أحمد الحسيني (¬2) فيما ذهب إليه من أن هذا القول ليس قول الشافعي، ولا مذهب الشافعية، وأنه لم يقل به كبار علماء الشافعية، ونخالفه في أنَّ القول بذلك عند الشافعية لم يحدث إلاّ بعد القرن الحادي عشر، لأن القرافي المالكي المتوفى (سنة 684 هـ)، ذكر في كتابه الذخيرة (¬3) أن بعض الشافعية قال: ينوي الأركان عند الإحرام، ونقله عن صاحب الطراز وقال (أي صاحب الطراز): "وهو هوس وقد كانت الأمة على خلاف هذا، ويلزمه أن ينوي حروف الفاتحة والتسليم لأنها واجبة" والعلامة أحمد الحسيني ردَّ هذا القول من أربعين وجها (¬4)، ويمكن تقسيم هذه الردود إلى قسمين: الأول: أدلة تنفي أن يكون هذا القول هو قول الشافعي، أو القول المعتمد عند الشافعية، أو أنه قال به أحد من كبار علماء الشافعية، وقد ساق هنا نصوص كلام الشافعي وكبار أصحابه الدالة على خلاف ذلك، أو التي يفهم منها أن هذا ليس قولا لهم. ¬

_ (¬1) أمثال البجيرمي والجوهري والباجوري والشيخ عطية الأجهوري. (¬2) اعتمدنا في هذه المسألة على كتاب (نهاية الإحكام)، لأحمد بك الحسيني. (¬3) الذخيرة (1/ 509 - 510). (¬4) ألَّف أحمد الحسيني كتابه (نهاية الإحكام) للرد على القائلين بإيجاب الاستحضار التفصيلي، وإبطال مدعاهم في أنه قول أو قول أصحابه، أو أنه المعتمد في المذهب.

الثاني: من الردود جنح فيه إلى مناقشة أصل المسألة، وبيان استحالة تطبيقها والعمل بها. والمراد بالاستحضار التفصيلي كما صرَّح به أرباب الحواشي المتأخرون: هو أن يستحضر أركان الصلاة ركنا ركنا، حتى يكون المقصود معلوما بأجزائه، ومن جملة أجزائه ركنا القراءة والتشهد، وأجزاؤهما ألفاظ مخصوصة بترتيب خاص، واستحضار الألفاظ المخصوصة المذكورة في الذهن دفعة واحدة أو دفعات متعذر مستحيل أن يقوم به شخص بحيث يكون حاضرا في ذهنه في آن واحد، أو في آنات النطق بالتكبير مهما مدَّها. وقد شبه بعضهم هذا الاستحضار الذهني لأركان الصلاة في لحظة واحدة بعروس تزف، وهذا تشبيه بعيد، إذ العروس متصفة بصفات متعددة قائمة بها يتحقق وجودها خارجا في لحظة واحدة، أما أركان الصلاة فبعضها تلو بعض، وبعضها ضدّ بعض، فالقيام بعده ركوع، والاعتدال إبطاله، والسجود غيره، ولا يوجد قيام وركوع ورفع منه وسجود في لحظة واحدة، ولا يمكن استحضار هذه الأمور المتضادة إلا مع التعاقب. ومما يجعل الاستحضار التفصيلي في حكم المستحيل أن وقت النية عند الشافعية هو التكبير للصلاة ولا يجوز تقدمها، ولا تأخرها عنه، فكيف يمكن أن يستحضر المصلي ما ذكروه في لحظات التكبير. وقد قرّر ابن حجر في فتاويه أن استحضار القصد والتعيين ونية الفرضية مع مقارنتها لكل حرف من حروف التكبير عسيرة جدا إلاّ على من صفا قلبه، ونار سره، وبين أن الشافعي -رحمه الله- كان يستحضر تلك الثلاث ويقرنها بكل جزء من أجزاء التكبير، وأنَّ ذلك غير ميسور لمن بعده، واستنتج أن رتبة الشافعي ومقامه عظيمان بمجرد استحضار الثلاثة وقرنها بالتكبير. فإذا كان استحضار ثلاثة أمور -كما يرى ابن حجر- في غاية الصعوبة، فكيف يكون استحضار ثلاثة عشر ركنًا، يضاف إليها الثلاثة التي ذكرها ابن حجر، فيكون المطلوب استحضاره ستة عشر أمرا؟!

قول أعجب وأغرب

وقد اعترف بعض الذين قالوا بوجوب الاستحضار التفصيلي بصعوبة ذلك، فقد ذكر الشيخ عوض في حاشيته على شرح الإقناع لحل ألفاظ أبي الشجاع أن الاستحضار الحقيقي والاقتران الحقيقي متعذر، يقول هذا مع تسليمه بأن هذا المتعذر هو معتمد المذهب!! ويرى الشيخ عوض أن الذي يقدر عليه البشر هو الاستحضار الإجمالي والمقارنة العرفية، ومع تقريره لهذا القول ورضاه به فإنه يراه قولا ضعيفا في مذهب الشافعية. ومما يدلّ على بطلان هذا القول علاوة على ما تقدم أمور: 1 - لم يقل أحد بوجوب الاستحضار التفصيلي في الصوم أو الحج مع أن الاستحضار التفصيلي فيهما أسهل من استحضاره في الصلاة. 2 - لا يوجد دليل يدل على وجوب الاستحضار التفصيلي في الصلاة، والأدلة الموجبة للنية في الصلاة هي الأدلة التي توجب النية في كل عبادة كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّما الأعمال بالنيات"، وهذه الأدلة لا توجب الاستحضار التفصيلي في كلّ عبادة؛ وليس للصلاة دليل خاص يوجب الاستحضار التفصيلي فيها. 3 - الآثار السيئة المترتبة على القيام بهذا الاستحضار، فهذا القول يوقع معتنقيه في الوسوسة المنهي عنها، إذ هي كما قيل: خلل في العقل، أو نقص في الدين، والشريعة لا تأمر بما يلزم منه الوسوسة المنهي عنها عادة. قول أعجب وأغرب وأعجب من القول الذي قال به بعض متأخري الشافعية قول القاضي أبي بكر من المالكية. فالقاضي يقول: "يلزمه عند الِإحرام أن يذكر حدوث العالم وأدلته، وإثبات

الأعراض، واستحالة قدم الجواهر، وإبطال حوادث لا أول لها، وأدلة العلم بالصانع، وإثبات الصفات، وما يجب لله تعالى، وما يستحيل، وما يجوز، وأدلة المعجزة، وتصحيح الرسالة، ثم الطرق التي بها وصل التكليف إليه" (¬1)!! وحكى صاحب القبس مذهب القاضي عن إمام الحرمين أيضا، وأنه كان يقول: "تذكار هذه الأمور يكفي فيه الزمن اليسير بخلاف تعلمها" (¬2). وهذا القول أشدّ بطلانا من سابقه، ولا يحتاج أن ندلل على بطلانه، ورحم الله المازري حيث يقول: "أردت أن اتبع كلام القاضي عند إحرامي، فرأيت في منامي كأنّي أخوض في بحر من ظلام، فقلت: هذه والله الظلمة التي قالها القاضي أبو بكر" (¬3). ¬

_ (¬1) الذخيرة (1/ 510). (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق.

الفصل الرابع شروط النية ومبطلاتها

الفصل الرابع شروط النِّيَّة ومبطلاتها

شروط النية ومبطلاتها جملة الشروط التي عدها الفقهاء للنية ثمانية: 1 - أهلية الناوي. 2 - الجزم والتنجيز. 3 - استصحاب حكم النية. 4 - عدم التشريك في النيّة. 5 - أن تتعلق بمكتسب للناوي. 6 - قصد العبادة دفعة واحدة. 7 - مقارنة النية للمنوي. 8 - العلم بصفات المنوي. وسنتناول هذه الشروط في هذا الفصل بشيء من التفصيل، مبينين حكم العبادات التي فقدت فيها النيّة شرطًا أو أكثر منها.

الشرط الأول أهلية من صدرت عنه النية

الشرط الأول أهلية من صدرت عنه النية (¬1) يشترط لصحة النيّة أن يكون من صدرت عنه النية من الذين تصح منهم العبادة، ويعتبر الشخص كذلك إن كان مسلما عاقلا مميزا. أما غير العاقل فلا تصح نيته، لأنه لا يدري ما يفعل وما يقول، ولم يرد عن أحد من العلماء ما يشعر بتصحيح العبادة منه، لأنه قد تقرر في الشريعة أن العقل مناط التكليف، فإذا زال العقل ارتفع التكليف. والصغير غير المميز لا يتأتى منه القصد. والإسلام شرط في صحة العبادة، فالله لا يقبل من أحد عبادة وقربة ما لم يكن صاحبها مسلما. إلا أننا نجد بعض العلماء يصحح بعض العبادات من غير المميز، ومن الكافر، وهذا ما سنتناوله فيما يأتي. الوضوء والغسل والتيمم من الكافر يرى أبو حنيفة أن الكافر إذا توضأ أو اغتسل ثم أسلم فلا يجب عليه إعادة الوضوء والغسل، وخالفه جمهور الفقهاء فيما ذهب إليه، منهم الشافعي ومالك وأحمد وداود (¬2). ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة: المجموع (1/ 380)، حاشية ابن عابدين (1/ 80)، منتهي الآمال (11/ 7 ب). (¬2) العيني على البخاري (1/ 34)، الروضة للنووي (1/ 47)، الذخيرة (1/ 241)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 49).

الزكاة من أهل الذمة

وأبو حنيفة هنا لا يخالف في أصل القاعدة: أي لا يرى أن العبادة من الكافر صحيحة، وتصحيحه الوضوء والغسل منه لأنهما لا يحتاجان إلى نيّة عنده (¬1)، ولذلك نراه يوافق غيره من الأئمة في عدم صحة النية من الكافر. غير أنَّ أبا يوسف (¬2) يصحّح التيمم من الكافر إذا أراد الإسلام لا الصلاة، وحجته في ذلك أنَّ الإسلام يصح منه، فكذلك التيمم، بخلاف ما لو تيمم بنيّة الصلاة، لأنَّ الصلاة قربة لا تصحّ من الكافر، فلا تصحّ نيتها منه (¬3)، وواضح أن أبا يوسف هنا يصحّح التيمم لا على أنه عبادة يتقرب بها، بل لأنه مأمور بالتطهر: الاغتسال، فإن لم يجد ماء تيمم، كي يدخل في الإسلام. الزكاة من أهل الذمة استثنى كثير من العلماء كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد والثوري نصارى بني تغلب من بقية الكفار وجوزوا أخذ الزكاة منهم مضاعفة بدل الجزية (¬4). وحجّتهم فيما ذهبوا إليه أن عمر بن الخطاب فعل هذا، فقد ورد أنَّ النعمان بن زرعة كلَّم عمر بن الخطاب في بني تغلب، وقال له: "إنهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عدوك بهم، فصالحهم عمر على أن أضعف عليهم الصدقة". وابن حزم يرّد هذا الخبر ويضعفه لانقطاعه وضعف رواته، إلا أن محقق الكتاب: الشيخ أحمد شْاكر ردّ قول ابن حزم بأمرين: (¬5) ¬

_ (¬1) العناية (1/ 91)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 49). (¬2) هو يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة، أخذ عن مالك وكبار المحدثين، اشتغل بالقضاء، وكان كبير القضاة في عهد الرشيد، له كتاب "الخراج"، و (الرد على سير الأوزاعي)، ولادته في عام (113 هـ)، ووفاته في (182 هـ). راجع: (تذكرة الحفاظ 1/ 292)، (طبقات الحفاظ ص 121)، (شذرات الذهب 1/ 298)، (الأعلام 9/ 252)، (معجم المؤلفين 3/ 240). (¬3) العناية (1/ 91). (¬4) المحلى (6/ 111)، بداية المجتهد (1/ 251). (¬5) تعليق أحمد شاكر على المحلى (6/ 111 - 113).

غسل الزوجة الكتابية

الأول: أنَّ له طرقا كثيرة، تطمئن النفس إلى أنَّ له أصلا، ولذلك قال الجصاص في أحكام القرآن: هذا خبر مستفيض عن أهل الكوفة. الثاني: يؤيد هذا الخبر، خبر آخر صححه ابن حزم نفسه، فقد ذكر ابن حزم عن زياد بن حدير (¬1) قال: أمرني عمر بن الخطاب أن آخذ من نصارى تغلب العشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر (¬2). ومع القول بثبوت الخبر عن عمر في ذلك، فلا يدلّ على قبول الزكاة من نصارى بني تغلب، فالذي فعله عمر إنَّما هو من باب السياسة الشرعية، لدرء شرٍّ متوقع بسبب أنفة هؤلاء من دفع الجزية، واحتمال انحيازهم إلى الأعداء، وممّا يدلنا على هذا أنّه أضعف عليهم الصدقة التي تؤخذ من المسلم، فلو كان الذي أخذه منهم زكاة لما أخذها مضاعفة، وفي الرواية الأخرى أمر عمر زيادا أن يأخذ من نصارى تغلب العشر، فقد سماه عشرا. فالقضية هنا قضية شكلية، إذ أرضى عمر هؤلاء بأن أضعف عليهم الصدقة، فسميت بالزكاة ظاهرا، أما في الحقيقة والواقع فإنها ليست بزكاة. غسل الزوجة الكتابية إذا طهرت زوجة المسلم الكتابية من حيضها أو نفاسها، فهل يجب عليها الغسل، حتى يحلّ للزوج وطؤها؟ الأحناف يقولون: لا يجب عليها ذلك، ولا يتوقف الوطء على الغسل، لأنَّها ليست من أهله (¬3)، فإن اغتسلت فيصحّ منها، لأن الغسل والوضوء عندهم يصحّان من الكافر -كما سبق- لعدم اشتراطهم النيّة لهما. ¬

_ (¬1) هو زياد بن حدير بمهملات، مصغر الأسدي الكوفي روى عن عمر وعلي، وثقه أبوحاتم. راجع: (تهذيب التهذيب 3/ 361)، (الكاشف 1/ 329). (¬2) المحلى: (6/ 114). (¬3) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 49).

القربات التي أداها المسلم حال كفره

وذهب الحنابلة والشافعية إلى وجوب اغتسالها من الحيض والنفاس حتى يحل للزوج الوطء، وتصحيح اغتسالها إنّما هو لضرورة الوطء، لا على أنّه طهارة شرعية تعبدية، ولذلك نصّوا على أنها إذا أسلمت عقب ذلك لم يجز لها أن تصلي بتلك الطهارة. وفي قول ضعيف عندهم أنَّ النيَّة لازمة للكتابية حين غسل الحيض (¬1). القربات التي أداها المسلم حال كفره من مات كافرا فإنَّ الأعمال الخيرة التي قام بها في دنياه لا تغني عنه شيئًا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬2). فالآية تشبه الأعمال التي يظنها الكفار مغنية عنهم بالسراب الذي لا حقيقة له، ولذلك فإن الذي يموت كافرًا خالد مخلد في نار جهنَّم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (¬3). وقد جاءت الأحاديث بمثل ذلك، فقد سألت عائشة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلة: يا رسول الله، ابن جدعان (¬4) كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (¬5). وبما أن الله لا يظلم الناس شيئًا، فإن كل من عمل عملا صالحا من الكفار ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 366)، الإنصاف (1/ 152). (¬2) سورة النور / 39. (¬3) سورة البقرة / 161 - 162. (¬4) هو عبد الله بن جدعان، أحد أجواد قريش في الجاهلية، أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة. راجع: الأعلام (1/ 204). (¬5) رواه مسلم في صحيحه، (شرح النووي على مسلم 3/ 86)، وأحمد في المسند (6/ 93).

يجزى به في الدنيا، كما في الحديث عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات قام بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها" (¬1). وتبقى الأعمال الصالحة التي صدرت من العبد حال كفره، ثم أسلم، هل يثاب عليها؟ لقد أغنانا حكيم بن حزام (¬2) -رضي الله عنه- عن عَنَاء البحث في هذا الموضوع، فقد سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلا: أي رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنَّثُ بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير" (¬3). وقد يقال كيف يصحُّ العمل الصالح من العبد حال كفره، وأنتم تقررون أنَّ النية لا تصح إلا من مسلم؟ فالجواب: أنَّ قبول الأعمال الصالحة التي صدرت من المسلم حال كفره من باب تفضل الله على عباده، وفيه دلالة على عظيم رحمته -سبحانه وتعالى- ألا ترى أنَّ الله يبدّل سيئات الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه حسنات، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬4)، هذا كرمه -سبحانه- بالنسبة لسيئات المسلم حال كفره، فكيف يكون الحال بالنسبة للأعمال الصالحة التي كانت منه حال كفره؟! ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه انظر (النووي على مسلم 17/ 149)، وأحمد في (مسنده 3/ 123،283). (¬2) هو حكيم بن حزام بن خويلد، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، وصديق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها. راجع: (تهذيب التهذيب 2/ 447)، (خلاصة تذهيب أم المؤمنين 1/ 248)، (الكاشف 1/ 248). (¬3) رواه مسلم (انظر شرح النووي 2/ 140)، وأحمد في مسنده: (3/ 402). (¬4) سورة الفرقان / 70.

العبادة من غير المميز

العبادة من غير المميز قررنا في شروط النية أن من شروطها أهلية الناوي، ومن أهليته أن يكون مميزا، فالعبادات التي تصدر من غير المميز لا تقبل منه؛ لأنه لا يعقل ما يفعل، وهذا أوضح من أن يستدل عليه. حج الصغير الذي لا يميز ويشكل على هذا أن العلماء صححوا حج الصغير غير المميز، وحجتهم في هذا حديث ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم- مرّ بامرأة في محفتها، فأخذت بعضد صبي كان معها، فقالت: ألهذا حج؟ فقال: "نعم، ولك أجر" (¬1). وفي حديث جابر: "حججنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم" (¬2). قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبيّ حتى يبلغ، إلا أنَّه إذا حجَّ كان له تطوعا عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه، ولا يلزمه شيء من محظورات الِإحرام، وإنما يحجّ به على جهة التدريب (¬3)، وهذا الذي ذهب إليه أبو حنيفة مخالف لما دلَّت عليه الأحاديث التي أوردناها. ولكن كيف نصحح حجّ الصغير الذي لا يميز وهو ليس من أهل النية؟ الجواب أننا صححنا حجه بشرط أن ينوي عنه وليه، وقد حققنا في فصل "النيابة في النية" صحة نيابة الولّي في الحجّ في حال عجز المحجوج عنه بسبب هرم أو كبر أو موت، فهذا من ذلك الباب، لا من باب تصحيح النية من الصغير الذي لا يميز. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 269): أخرجه مالك فى الموطأ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، من حديث كريب عنه، وله ألفاظ عندهم. (¬2) قال ابن حجر في التلخيص (2/ 270): رواه ابن ماجه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وفي إسنادهما أشعث بن سوار، وهو ضعيف، ورواه الترمذي من هذا الوجه بلفظ آخر. (¬3) نيل الأوطار (4/ 310).

نية الصبي المميز

والغزالي يرى صحة العبادة ممّن لا يميز الفرائض من السنن، بشرط ألا يقصد التنفل بما هو فرض، فإن قصده لم يعتدّ به، وإن غفل عن التفصيل فنيّة الجملة كافية، واختار رأي الغزالي هذا النووي في الروضة (¬1). وهذا القول غريب منهما، لأنَّهما اشترطا شرطا يهدم ما قرراه، فإنَّ الذي لا يميز لا يمكنه أن يقصد الفرض أو النفل دون غيره، وليس لدينا ضمانة في أنه لن يقصد الفرض بالنافلة، أو النافلة بالفرض، فهو غير مميز كما افترضاه. نيّة الصبي المميز أمّا الصبيّ المميز فالنية منه تقع صحيحة، وقد أمرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن نأمر أولادنا بالصلاة لسبع، وأن نضربهم عليها لعشر (¬2). وقد كان الصحابة يصوّمون الصبيان في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان عمرو بن سلمة يؤمّ قومه وهو ابن سبع سنين (¬3)، ولو كان هذا غير جائز لنهاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه. والأدلة على صحة النية من الصبي المميز كثيرة. وعلى ذلك فالصبي -كما يقول النووي- طهارته كاملة، فلو تطهر، ثم بلغ على تلك الطهارة، جاز أن يصلي بها، فالصبية إذا جومعت، ثم اغتسلت، ثم بلغت، لم يجب عليها إعادة الغسل، فإذا لم تغتسل، ثم بلغت، وجب عليها الغسل بلا خلاف (¬4). وحكى النووي عن المزني بأن طهارة الصبيّ ناقصة، فيلزمه الِإعادة إذا بلغ، ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 36). (¬2) قال السخاوي: رواه أبو داود، والحاكم، والترمذي، والدارقطني، (المقاصد الحسنة ص 38). (¬3) الحديث رواه البخاري، انظر المشكاة (1/ 352). (¬4) مجموع (3/ 384)، وهذا الذي ذكره النووي في تصوره صعوبة، إذ كيف يبلغ الصبي أو الصبية ويبقيان طاهرين، يصليان بالطهارة السابقة؟

قال: وهذا غريب جدًّا، والصحيح المشهور ما قدمناه (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 384).

الشرط الثاني الجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق

الشرط الثاني الجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق لا تكون الإرادة المتجهة إلى الفعل لإحرازه أو تحقيقه نيّة ما لم تكن جازمة لا تردد فيها. فإن كان المقاصد مترددا في الفعل، أو علّق الفعل أو الاستمرار فيه على حصول أمر ما، فإنَّ الإرادة هنا لم تصل إلى درجة أن تكون نية. وهذا الشرط نصّ عليه كثير من العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم (¬1). ولا يتحقق القصد الجازم ما لم يكن الشيء المراد فعله معلوما، أو مظنونا ظنًّا راجحا (¬2)، إذ لا يتصور أن يتجه القصد إلى الشيء بلا تردد ممن يجهله، إذ كيف يقصد الصيام من لا يعلم وجوبه عليه أو دخول شهره، فلا بد أن يكون الشيء معلوما، فإن كان مجهولا، أو مشكوكا فيه، كمن شك في دخول رمضان، أو وقت الصلاة، فإنَّ الجزم لا يتأتى منه. نعم، الظنُّ الراجح يعمل به شرعا، ويقوم في العمليات مقام اليقين (¬3)، فإن عمل على أساسه صح. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (3/ 93، 466)، الحطاب على خليل (1/ 173، 233، 238). الذخيرة (1/ 241)، إرشاد الساري (1/ 54). (¬2) قواعد العز (1/ 218)، الحطاب على خليل (1/ 233). (¬3) قد يفهم من هذا أننا نرى أن أحاديث الآحاد الصحيحة لا يعمل بها في العقائد، وهذا ليس بصواب، فإن هذا مذهب خطر ردَّ القائلون به مئات من الأحاديث الصحيحة، ومع الأسف فقد شاع هذا المذهب في عصرنا، وانتشر، حتى ظن بعض طلبة العلم أن هذا القول هو مذهب السلف، وقد بينت خطأ هذا القول، وخطأ من نسبه إلى السلف الصالح في رسالة بعنوان "أصل الاعتقاد".

الشك

وسنتناول فيما يأتي بعض العبادات التي قد تكون النية فيها غير جازمة: لأنها وقعت على تردد، أو تعليق على شيء، أو كان صاحبها شاكا. الشك وسبب الشك يعود إمّا إلى عدم العلم ببعض ما يجب أن يعلمه في المنوي، وإما إلى شكّه بعد دخوله في العبادة: هل وقعت منه النية أم لا؟ وسنعرض للمسائل التي تندرج تحت كل واحدة من هاتين: الشك بسبب عدم علمه بأمور تتعلق بالمنوي الشك في الحدث إذا جزم شخص بأنه متطهر، ثم شكَّ: هل أحدث أم لا؟ فإنَّه لا يجب عليه الوضوء، لأنَّ الشاك يبني على اليقين، والمتيقن هنا الطهارة، والحدث مشكوك فيه. ولكن لو توضأ شاكا في الحدث احتياطا، ثم تبين له أنه كان محدثا قطعا. فما الحكم؟ الجواب: وضوؤه باطل، لأن القصد ليس بجازم، والمنوي ليس معلوما، وهذا هو القول الأصح عند المذاهب الثلاثة: المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬1)، أما عند الأحناف فيجزيه جزما، لأنهم لا يشترطون النية في الوضوء والغسل. والوجه الثاني عند المذاهب الثلاثة يجزيه لأنها طهارة مأمور بها صادفت الحدث فرفعته. اختلطت ثياب طاهرة بنجسة إذا اختلطت ثياب طاهرة بنجسة، ولم يجد ثوبا معلوما طهارته، فماذا يفعل؟ ¬

_ (¬1) إرشاد الساري (1/ 54)، والحطاب على خليل (1/ 237)، والمجموع (1/ 382)، والإنصاف (1/ 146). وذكر صاحب الإنصاف أن راجح مذهب الحنابلة الإجزاء.

الشك في الصلاة التي فاتته

يرى ابن القاسم من المالكية أنه يجب عليه أن يصلي في كل ثوب مرة (¬1)، حتى يتأكد أنَّه صلى في ثوب طاهر، ولكن ابن رشد ضعف قول ابن القاسم هذا بأنَّ النيَّة في هذه الحال غير جازمة، وهذا مبطل لها. وابن القاسم هنا يخالف ما رواه عن الإِمام مالك من أنه يجب عليه أن يصلي صلاة واحدة فحسب في ثوب واحد، على أن يتحرى قدر جهده في اختيار الثوب الذي يغلب على ظنه طهارته (¬2). ورأي الإمام مالك رأي سديد ولا شك، إذ القول بأنَّه يجب أن يصلي في عدد يحصل معه التأكد من أنّه صلى صلاة في ثوب طاهر يوقع الناس في حرج شديد، فكيف يفعل من اختلطت عنده مئات وألوف الثياب ... ؟ أيصلي ألف صلاة في كل وقت؟ إنَّ القول بذلك تكليف بالشاق الذي لم يعهد من الشارع التكليف بمثله، بل يكون أحيانا من التكليف بما لا يطاق. الشك في الصلاة التي فاتته إذا تأكد أنَّ صلاة فاتته يوما ما بنوم أو نسيان، ولكنه لم يدر أي صلاة هي، فماذا يفعل؟ المزني من الشافعية يذهب مذهبا غريبا لم يوافقه عليه أصحابه، فهو يرى أن يصلي أربع ركعات، يجلس في ركعتين، ثم يجلس في الثالثة، ثم يجلس في الرابعة، ويسلم (¬3). وقوله مستغرب لأنَّها صلاة لا مثيل لها في الصلوات المفروضة، ولأنه لم ينو صلاة بعينها. أمَّا المذهب الذي نصَّ عليه الشافعي فهو إعادة الصلوات الخمس التي تكون في اليوم والليلة، يقول الشافعي رحمه الله: "إذا فاتت الرجل صلاة لم يدر أي ¬

_ (¬1) الحطاب على خليل (1/ 159). (¬2) الحطاب على خليل (1/ 159). (¬3) المجموع (3/ 76).

صلاة هي بعينها، صلى الصلوات الخمس، ينوي بكلّ واحدة منهن الصلاة الفائتة له" (¬1). وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة (¬2)، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضا (¬3). ويشكل على هذا القول ما قرره من أن النية لا بد أن تكون جازمة، وهنا لا جزم، وقد علل العز بن عبد السلام مذهب القائلين بالصحة: "أن الأصل وجوب كلّ واحدة من الصلوات في ذمته، فصحت لذلك نيته، ولظنه بقاء كل صلاة في ذمته" (¬4). وتعليل القرافي: "أن الشرع جعل شكَّه سببا لإيجاب الجميع، فالجميع معلوم الوجوب" (¬5). أما النووي فيجعل ذلك من باب الاضطرار المعفو عنه (¬6). وذهب ابن حزم إلى ما ذهب إليه الأوزاعي من أن الواجب على هذا الذي فاتته صلاة لا يدري عينها، أن يصلي أربع ركعات يجلس بعد الثانية والرابعة، ثم يسجد للسهو، وأن عليه أن ينوي في ابتدائه إياها أنها التي فاتته في علم الله تعالى (¬7). وابن حزم هنا يوجه النيّة إلى الصلاة الفائتة بلا تحديد، وهو بذلك لا شكّ ولا يتردّد، ويجعل هذا المصلي كالرجل الذي شكَّ في صلاته أصلى ركعتين أم ثلاثا ¬

_ (¬1) الأم (1/ 86). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 306). (¬3) الحطاب على خليل (1/ 173)، المغني لابن قدامة (1/ 466). (¬4) قواعد الأحكام (1/ 126). (¬5) الذخيرة (1/ 241). (¬6) المجموع (1/ 382)، ويحسن أن نثبت رأي ابن تيمية، فهو يري صحة الطهارة والصوم والزكاة مع الشك، لأن المؤدي يقصدها دون غيرها، والتردد كائن في الاعتقاد: هل هي واجبة أم لا؟ أما القصد فهو متجه إلى الفعل، ولا شك فيه، مجموع الفتاوى (23/ 390). (¬7) المحلى (4/ 182).

صيام يوم الشك

أم أربعا، فإنَّ الشارع أمره أن يبني على اليقين، فيصلي حتى يأتي بالعدد المقطوع به، وهذا الذي فاتته الصلاة التي لا يدري عينها، إذا صلى ركعتين فإنه يشك في أنَّ الصلاة التي فاتته أكثر من ذلك، فيأتي بثالثة، ولما كان غير متأكد من أنه جاء بالعدد المتيقن فإنَّه يأتي بالرابعة، وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل هذا المتشكك بسجدتي سهو، فكذا يفعل هذا. والذي جعل ابن حزم يذهب هذا المذهب أن الله قد فرض على هذا الرجل صلاة واحدة، فإيجاب خمس صلوات عليه تكليف له بما لم يأمر الله به. وابن حزم هنا لم يخلص هذا المصلي من الشك، واليقين لا يتأتى من هذا الشاك أبدا، فجزم النية لم يحصل، ثم إنه أجاز فعل صورة غير معهودة الشارع في الصلوات المفروضة، وما قال به الأئمة الأربعة هو الراجح، وهو ممكن ولا حرج في فعله. صيام يوم الشك نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته عن صيام اليوم أو اليومين السابقين لشهر رمضان "لا يتقدمنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلاّ أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم" (¬1). ولعلَّ الحكمة من وراء هذا النهي خشية الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يؤدي هذا الصيام المتقدم بالأمة إلى الزيادة في رمضان كما فعل النصارى من قبل. ولكن إذا فعل ذلك بأن صام شخص اليوم السابق على رمضان، فإن كان صوما قد اعتاده كأن يوافق الِإثنين أو الخميس وهو قد اعتاد صيامهما فلا بأس في ذلك كما هو نصّ الحديث، وإلّا فقد خالف نهي الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي حال المخالفة هذه، هل يصح صومه إذا قصد بالصيام صوم رمضان إن كان غدا من رمضان؟ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري فتح الباري (4/ 137).

الجواب أنه لا يجزيه؛ لأنَّه شاك غير متيقن، والأصل عدم رمضان وبقاء شعبان، وبهذا قال الشافعي -رحمه الله- كما في رواية الربيع عنه (¬1)، وهو مذهب الحنابلة (¬2). وقد حمل أصحاب الشافعي قول الشافعي: "أنّه إذا أصبح الرجل يوم الشك من رمضان، وقد بيت الصوم من الليل على أنه من رمضان، أنَّ هذه نيَّة كاملة له، تؤدي عنه ذلك اليوم إن كان من شهر رمضان" (¬3) - حملوه على أنَّ الشافعي أراد بذلك إذا صام جازما معتقدا أنّ غدا من رمضان، وذلك لوجود قرائن تدل على ذلك، كأن يخبره من يثق به من امرأة أو صبي أو عبد ممن لا يقبل الحاكم شهادته، أما إذا صام بدون مستند ولا قرينة فصومه غير صحيح، فإن قيل لو جزم بذلك من غير مستند ولا قرينة، قالوا: ذلك مستحيل، إذ كيف يجزم الإِنسان من غير دليل، فالمرء لا يجزم إلا إذا حصل لديه اعتقاد (¬4). وقد قال بعدم الإجزاء: حماد وربيعة وابن أبي ليلى وابن المنذر، وممن قال بالِإجزاء الثوري والأوزاعي بحجة أنه أجمع النية من الليل (¬5). والأحناف يقولون: إن كان تردده في أصل النية أي أن يصوم يوم غد "يوم الشك" إن كان من رمضان، ولا يصوم إن لم يكن منه، لم يصح صومه، فإن كان التردد في كونه يصومه فرضا أو تطوعا صحّ، لأنَّ التردد هنا في الوصف لا في الأصل (¬6). فإن قيل كيف صححتم صوم يوم الثلاثين من رمضان مع احتمال كونه من شوال؟ فالجواب (¬7) أنَّ الصوم هنا استند إلى أصل وهو بقاء الصوم ما لم ير الهلال، ¬

_ (¬1) الأم (7/ 133). (¬2) الإنصاف (3/ 295). (¬3) الأم (7/ 133). (¬4) المجموع (6/ 311، 329). (¬5) المغني (3/ 94). (¬6) الهداية (2/ 56)، الأشباه والنظائر (ص 52). (¬7) المغني لابن قدامة (3/ 94).

صيام الأسير

كما في الحديث "ولا تفطروا حتى تروه". ولذلك فقد نصَّ ابن عقيل من الحنابلة على أن من صام يوم الثلاثين في رمضان بنيّة أنّه إن كان من رمضان فهو صائم، وإن كان من شوال فهو مفطر، نص على أن صومه غير صحيح، لأنَّه لم يجزم بنيته الصيام، والنية اعتقاد جازم (¬1). إلاّ أنَّ صيام الناس لليوم الثلاثين لا يكون بهذه الطريقة التي ذكرها ابن عقيل، ثم القول ببطلان صيام من كان صومهم على هذا النحو يوقع الناس في حرج شديد، والصواب ما قيل من أننا نلتزم بالصوم حتى نرى الهلال، وحسبنا أن هذا هو أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم. صيام الأسير قد لا يستطيع الأسير المسلم الذي وقع في أيدي الكفار معرفة شهر الصيام، فما حكم صيامه إذا صام؟ إن صام بغير تحرٍّ فصومه غير صحيح، لأنَّه مطالب بأن يبذل جهده، ويتحرى، كما هو الحال فيمن اشتبهت عليه القبلة. فإن تحرَّى وصام فله حالات: الأولى: ألا يتضح للأسير الأمر، أوافق بصيامه رمضان أو خالف؟ فهذه تجزئه، لأنّه بذل وسعه، والله يقول: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). الحالة الثانية: أن يوافق صومه صوم رمضان، وهذه لها ثلاثة أوجه: الأول: أن يصومه بنيّة التطوع فإن صومه عن رمضان لا يصحُّ عند الأئمة الثلاثة، وعند أبي حيفة يصحّ؛ لأنّه يصحح الصوم من رمضان بمطلق النية وبنية التطوع (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (3/ 94). (¬2) سورة التغابن/ 16. (¬3) المغني (3/ 94)، المجموع (6/ 319).

الشك في أصل النية

الثاني: أن يصومه بنية غير جازمة، وهذه الصورة هي التي تتعلق ببحثنا، وكان يمكن أن يتأتى هنا الخلاف الذي ثار في صيام يوم الشك، إلاّ أن العلماء في هذا الموضوع صححوا صوم الأسير في مثل هذه الحال؛ لأنه معذور، وممن نصَّ على هذا النووي، وقال: إنَّه مذهب كافة العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن بن صالح (¬1)، واحتج عليه بدليلين: إجماع العلماء على صحة الصوم من الأسير في هذه الحال، والقياس على الاجتهاد في القبلة لمن وافقها، والشكُّ إنما يضرُّ إذا لم يعتضد باجتهاد (¬2). الوجه الثالث: أن يصومه بنية جازمة، وهذا صحيح ولا إشكال فيه. الحالة الثالثة: ألّا يوافق بصومه صوم رمضان. وهذه لها وجهان: الأول: أن يصوم قبل دخول الشهر، فهذا لا يصح بإجماع المذاهب، لأنه "أدى الواجب قبل وجوبه، وقبل وجوب سببه" (¬3). الثاني: أن يصوم بعد دخول الوقت، فلا خلاف بينهم في صحة هذا الصوم قضاء، إلاّ أنه إذا صام شهر شوال فعليه أن يقضي يوما واحدا، هو يوم العيد إن وافقت عدّة شوال عدّة رمضان، ويومين إن كان أقلّ، وكان وافق شهر ذي الحجة قضى أربعة أيام: يوم النحر وأيام التشريق. الشك في أصل النية ْ إذا دخل في العبادة كالصلاة -مثلا- ثم شك أنوى أو لم ينو؟، فإن كان هذا العارض وسواسا، فالنية صحيحة والصلاة صحيحة؛ إذ لو بطلت الصلاة بمثل هذا ¬

_ (¬1) هو الحسن بن صالح بن حي الهمداني الكوفي، من زعماء الفرقة "البترية" من الزيدية، كان فقيها مجتهدًا متكلما، له كتب منها "التوحيد"، و "الجامع في الفقه". ولد سنة (100 هـ)، وتوفي سنة (168 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 2/ 285)، (الأعلام 2/ 208). (¬2) المجموع (6/ 315). (¬3) بدائع الصنائع (2/ 86).

التردد في العبادة

لما سلمت لأحد صلاة، ولاتخذ الشيطان ذلك سبيلا لإفساد صلاة العباد. أمّا إذا كانت شكّا بينا فابن قدامة يقول ببطلان صلاته، والشافعي -رحمه الله- يرى أنه إن تذكر من قريب قبل أن يعمل عملا صحّت صلاته، فإن عمل عملا أثناء شكّه -ولو تذكر بعد ذلك- بطلت صلاته (¬1). التردد في العبادة مما يبطل النية التردد في فعل العبادة، كالذي يدخل في الصلاة -وهو متردد- أيتمها أو يقطعها؟ أيصليها فرضا أو نافلة؟ أيؤدي هذا المال زكاة أو صدقة؟ لم تصحّ منه فريضة، لأنَّ التردد ينافي الجزم، والنية لا بدَّ أن تكون جازمة، واختلاف الفقهاء في بعض الصور سببه أن منهم من يرى أن هذه الصورة جازمة، فيصحح النية، ومنهم من يراها غير جازمة فلا يصححها (¬2). تعليق النية على المشيئة أو على حصول شيء ما إذا علّق النيَّة على موافقة شخص ما أو مشيئته، بطلت، كأن يقول: أصوم غدا إذا شاء فلان أو وافق فلان، لأن النية هنا غير جازمة، وكذلك إذا علق الاستمرار في العبادة على شيء من ذلك، فإن علق الاستمرار في العبادة على حصول شيء، فإن كان حصوله متيقنا بطلت في الحال، وشذّ قوم فقالوا لا تبطل. فإن علقها على حصول شيء قد يحصل، وربما لا يحصل، ففيه قولان عند الشافعية، أصحهما البطلان (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 113)، الأم (1/ 87)، (المجموع (3/ 348). (¬2) راجع في هذه المسألة الأم (2/ 19)، والمجموع (6/ 187 - 188)، (6/ 91)، المغني لابن قدامة (1/ 466). (¬3) المجموع (3/ 250).

وإذا عقب النية بمشيئة الله، فقد ذهب بعض الأحناف إلى عدم البطلان بحجة أنّ المشيئة تبطل اللفظ دون أفعال القلب ومنها النيّة، فالصلاة والصوم والحج كلها صحيحة إذا عقبت بالمشيئة (¬1). والذي صححه النووي في المسألة: أنه إن قصد الشك في فعله لم يصح، وكان قصد أن ذلك موقوف على مشيئة الله وتوفيقه وتمكينه صح، وهذا هو الحقّ في المسألة إن شاء الله تعالى. وقد ذكر النووي في المسألة قولين آخرين: أحدهما: لا يصح، لأنَّ الاستثناء يبطل حكم ما اتصل به. والثاني: يصحّ، لأن الأمور بمشيئة الله (¬2). والملاحظ: أن تصحيحهم النية هنا أو عدم تصحيحها مبني على الجزم في النية، وعدم الجزم فيها. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 52)، وراجع فتح القدير (2/ 52). (¬2) المجموع (6/ 333)، وراجع أشباه السيوطي (ص 44).

الشرط الثالث استصحاب حكم النية

الشرط الثالث استصحاب حكم النية (¬1) الإتيان بالنية في أول العبادة شرط لا تصح العبادة بدونه. ولكن هل يجب على العابد أن يبقى ذاكرا لهذه النية غير غافل عنها طيلة العبادة؟ الجواب: لا، لا يجب عليه ذلك، لأن إلزام العباد بهذا في غاية المشقة والكلفة، بل لو قيل بوجوبه لكان من التكليف بما لا يطاق، لأنَّ العباد مأمورون بأشياء أخرى غير النية في أثناء العبادة كالصلاة مثلا، فإنّهم مأمورون بالذكر وقراءة القرآن، والتفكر والتفهم لذلك كلّه. وفي الحج والصيام يشغل العابد بأمور خارجة عن العبادة، لا يتذكر معها النية، فقد يكون مشغولا بالبيع والشراء وأعمال الدنيا، بل قد ينام فيغفل عن كلّ شيء. من هنا نصَّ العلماء على أن الواجب على العابد "استصحاب حكم النية دون حقيقتها"، ويريدون بالاستصحاب هنا أن الشارع حكم بعدم بطلانها حال ذهول العابد عنها، وعزوبها عنه، وكل ما يلزم العابد في هذه الحال ألا يأتي بما ينافيها ويبطلها، كأن ينوي قطعها أو يرفضها. وسنتناول فيما يأتي حكم النية التي يرفضها العابد، أو يقطعها، أو يقلبها، وتأثيرها على العبادة. وفى هذا المبحث مسائل لها صلة به كتغيير النية، واختلاف نية الإمام والمأموم. ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة: قواعد الأحكام (1/ 307)، الذخيرة (1/ 243)، المغني لابن قدامة (1/ 112)، (1/ 467)، الأم (1/ 25، 86)، الحطاب على خليل (1/ 230).

رفض النية

رفض النية (¬1) الرفض في اللغة الترك (¬2)، ومعناه هنا: "تقدير ما وجد من العبادة والنية كالمعدوم". ورفض العبادة إمَّا أن يكون بعد الانتهاء منها، أو في أثنائها، وسنحاول أن نبين الحكم في كل واحد من الحالين. رفض النية بعد تمام العبادة: رفض النية بعد تمام العادة لا أثر له في إبطال العبادة، ويعلل هذا ابن رشد (¬3) بقوله: "لأن الرفض يرجع إلى التقدير، لأنَّ الواقع يستحيل رفضه، والتقدير لا يصار إليه إلاّ بدليل، والأصل عدمه، ولأنه بأصل الفراغ من الفعل سقط التكليف". ويذكر فقهاء المالكية عن الإِمام مالك أنه يقول: إن رفض النية في الطهارة بعد تمام الطهارة مبطل لها، وقد قال بعض المالكية بذلك، وإن كان الذي عليه مدار الفتوى عندهم أن رفض نية الطهارة لا أثر له في إبطال العبادة، كما أنَّه لا أثر له في إبطال الصلاة والصوم وغيرها من العبادات. ومن نسب القول إلى مالك بأن رفض النيّة له أثر في بطلان الطهارة بعد تمامها لم يأخذه من نصّ كلامه، وإنما قاسوه على قوله: "من تصنع لنوم فعليه الوضوء، وإن لم ينم"، قالوا: هذه عبادة يبطلها الحدث فصح رفضها. والقول بهذا قول عند الشافعية، والمذهب الصحيح المشهور أنها لا تبطل. ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة: الحطاب على خليل (1/ 241)، الذخيرة (1/ 244)، المجموع (1/ 388). نهاية الأحكام (ص 47)، الموافقات (1/ 146). (¬2) المصباح المنير (ص 232). (¬3) هو أحمد بن محمد بن رشد، ولد بقرطبة وتوفي بها (450 - 520 هـ)، من أئمة المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف، من تأليفه: (المقدمات الممهدات)، و (مختصر شرح معاني الآثار). راجع: العبر فى أخبار من غبر (4/ 47)، (الأعلام 6/ 210).

رفض نية العبادة في أثنائها

ومن الغريب أن يحكي القرافي أن رفض الصلاة والصوم يؤثر ولو بعد الكمال، ويقول هذا هو المشهور عندهم، إلا أنه استشكل هذا بأنه يقتضي إبطال جميع الأعمال. ولعلَّ القول الفصل في هذه المسألة ما قاله ابن رشد: "من ادعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض فعليه الدليل". رفض نية العبادة في أثنائها إذا رفض العابد العبادة في أثنائها فما الحكم؟ اختلفت وجهات نظر العلماء في ذلك. يرى داود الظاهري وابن حزم (¬1) بطلان أي عبادة إذا رفضت النية في أثنائها، لأنَّ النيَّة شرط فى العبادات كلّها، وإذا فقد الشرط فقد المشروط، وحجتهم الحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وذهب جماهير العلماء -ومنهم مالك والشافعي وأحمد - إلى القول بذلك: أي ببطلان العبادة إذا رفضت النيّة في الصلاة، وخالفهم في هذا أبو حنيفة فقال بعدم البطلان (¬2). ولكن جماهير العلماء عكسوا القضية في الحج والعمرة، فقد ذهبوا إلى أن هاتين العبادتين لا تبطلان برفض النية، يقول الحطاب مبينا هذه المسألة: "الإحرام سواء كان بحج وعمرة أو بهما أو بإطلاق لا يرتفض، ولو رفضه في أثنائه، ولم أر في هذا خلافا، وهو مذهب الكافة، وهو مذهب مالك والأئمة، وخالف داود الظاهري، فقال: يرفض إحرامه" (¬3). وقد اختلفت تعليلات العلماء للفرق الذي اقتضى تصحيح الحج والعمرة حال رفض نيتهما، وإبطال الصلاة في الحال نفسه: ¬

_ (¬1) المحلى (6/ 174)، الحطاب على خليل (1/ 240)، وهو مذهب بعض المالكية وكثير من الأحناف. (¬2) المجموع (3/ 250). (¬3) الحطاب (1/ 240).

1 - فمنهم من يرى أنّ الأمر يعود إلى حاجة كلّ من العبادتين إلى النية، فأحكام النيات في الصلاة مغلظة عنها في الحجِّ والعمرة، فالمصلّي يناجي ربّه، فيجب أن يقبل عليه، ولا يلتفت إلى غيره، لأنَّ ذلك من سوء الأدب، وفي الصلاة نهي عن الفعل الكثير، وأمر باستقبال جهة واحدة، لأنَّه أكمل في الإقبال على مناجاة ذي الجلال. 2 - ومنهم من لاحظ طبيعة كل من العبادتين، فقد علمنا أنَّ الشارع لا يبطل الحجَّ بأقوى المفسدات كالجماع، ويأمر بإتمام العبادة، فالمحظورات لا تؤثر في الخروج من العبادة بخلاف الصلاة، ورأينا الشارع يصحح عبادة الحاجّ الذي نوى مهما إحرامه، أو نوى النفل، وعليه حجة الإسلام، فيقع عن الفرض. 3 - ومنهم من نظر إلى أنَّ جانب العبد في الصلاة أكثر وأعظم منه في الحج والعمرة، فهاتان العبادتان تدخلهما الأعمال المالية والبدنية، وقد عهد من الشارع عدم إيجاب النيّة في جنس هذه الأعمال من غير العبادات. 4 - ولاحظ بعضهم أنَّ الحج والعمرة عبادتان شاقتان فناسب أن يقال بعدم تأثير الرفض دفعا للمشقة الحاصلة (¬1). وبقية العبادات: من العلماء من يلحق بعضا منها بالحجّ والعمرة في عدم اعتبار رفض النيّة في العبادة، ومنهم من يلحقه بالصلاة لشيء من الاعتبارات التي ذكرناها بين العبادتين. فالصوم مثلا فيه قولان مشهوران عند العلماء: فالذي يلحقه بالصلاة لاحظ أن تأثير النيَّة فيه قوي كالصَّلاة، وأن طبيعة كل من العبادتين متقاربة إذ تبطلان بفعل شيء من مبطلاتهما (¬2). ¬

_ (¬1) راجع في هذه التعليلات: المجموع (6/ 331 - 332)، نهاية الإحكام (ص 45)، قواعد الأحكام (1/ 214 - 215)، الحطاب على خليل (1/ 240)، الذخيرة (1/ 511). (¬2) في صحه الصوم قولان مشهوران في مذهب الشافعية إذا رفضت نيته، أصحهما لا يبطل (المجموع 6/ 331)، ومذهب المالكية القول بالبطلان (الذخيرة 1/ 511).

قلب النية وتغييرها

والذي يلحقه بالحج يرى أنَّ الفارق بين الصوم والصلاة يتمثل في أن الصوم ليس له عقد تحرم وتحلل يؤثر فيه القصد، ذلك أن الصلاة يتعلق تحريمها وتحليلها بقصد الشخص واختباره، والصوم بخلافه، لأنَّ الناوي ليلا يصير شارعا في الصوم بطلوع الفجر، ويفطر بغروب الشمس، وإن لم يشعر بهما، فضعف النية في الصّلاة له تأثير كبير بخلاف الصوم، مما يدلّ على هذا جواز تقديم النية في الصوم في الفرض والنفل، وجواز تأخيرها في النفل، وهذا لا يجوز في الصلاة. ومنهم من لاحظ أنّ الصوم أقل حاجة إلى النيّة من الصلاة، لأنَّ الصوم ملحق بالتروك، بخلاف الصلاة فهي من باب الأفعال. قلب النية وتغييرها ومن مبطلات النية تغييرها وقلبها، ومذهب ابن حزم هنا كمذهبه في رفض النيّة وقطعها، فهو يرى أن من صرف نيَّته من صلاة إلى صلاة مثلا متعمدا فصلاته باطلة، فإن كان ناسيا بطلت الأعمال التي قام بها في أثناء ذلك، وعندما يتذكر عليه أن يعيد ما فعله في أثناء النسيان ويسجد للسهو (¬1). وغيره من العلماء يذهب هذا المذهب، إلا في حالات قليلة سنبينها من خلال التقسيم التالي: أقسام النيّة التي قلبت الذي يتصور في نية القلب أقسام: الأول: نفل فرض إلى فرض: في هذه الحال تبطل الأولى، ولا تصحّ الثانية، وممن نصَّ على هذه ابن ¬

_ (¬1) المحلى (4/ 50)، وانظر (3/ 232)، ومذهب الشافعي بطلان نية القلب في الصلاة مطلقا.

الثاني: نقل فرض إلى نفل

قدامة (¬1) في الصلاة، والشافعي لم يصحّح أن يعدَّ الرجل دراهم أخرجها زكاة ماله فوجده هالكا- أن يعد تلك الدراهم زكاة مال آخر (¬2). أما قلب النية في الصوم فالعلماء لا يجيزون قلب رمضان إلى غيره، أما قلب صوم نذر إلى صوم كفارة مثلا، فالخلاف هنا مبني على ما ذكرناه من قبل: هل رفض النية في الصوم مبطل له أم لا؟. فعلى القول القائل بعدم بطلانه يصحّ صرف نيته، وعلى القول الآخر يبطل الصوم (¬3). الثاني: نقل فرض إلى نفل: إذا نقل صلاة فريضة إلى نافلة، فإن كان لهدف صحيح، كأن يحرم منفردا، فتحضر جماعة، فيجعل ما كان يصلي نافلة، أو نوى صلاة الفريضة ثم بان له أن وقتها لم يدخل؛ فينويها نافلة، فهنا الاتجاه إلى تصحيح النية، وهو القول الأصح في مذهب الشافعية والحنابلة. وإن نقلها لغير غرض فللشافعية والحنابلة قولان في المسألة، أصحّهما عندهم بطلان الصلاة. ولعلَّ الذين صححوا الصلاة في الحالة الأولى نظروا إلى قوّة نيّة الفريضة، وضعف نيّة النافلة، فكأنَّ النافلة تدخل في الفريضة في مثل هذه الحال (¬4). الثالث: نقل نفل إلى فرض: وهذا لا يصح في الصلاة بالإِجماع، وكذا في الزكاة، وفي الصوم صحَّح أبو حنيفة صوم الفرض بنية التطوع، وفي الحج يتأدى الفرض بنية التطوع. ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي، المقدسي الحنبلي، من أكابر الحنابلة، بل هو شيخ مذهبهم، عالم مجاهد قاتل مع صلاح الدين، وكتابه (المغني) من أنفع كتب الفقه. ولادته في سنة (541 هـ)، ووفاته سنة (620 هـ). راجع: (شذرات الذهب 5/ 88)، (البداية والنهاية 13/ 99). (¬2) المغني (1/ 468)، الأم (1/ 19). (¬3) المجموع (6/ 332). (¬4) راجع في هذه المسألة: المغني (1/ 468)، المجموع (3/ 251)، فتح الباري (12/ 328).

الرابع: نقل نفل إلى نفل

الرابع: نقل نفل إلى نفل: إذا كان النفل مطلقا فغالب العلماء يرون صحة ذلك، أما إذا كان مقيدا فالذي نص عليه الماوردي عدم الصحة (¬1). تغيير النيَّة رأينا كيف أن قلب النيّة يبطلها إلا في أحوال قليلة، ونحبّ أن نوضح حالات لا يصل الأمر إلى قلب النية، ولكنه يطرأ نوع من التحول والتغير في عزم عليه أولا. وذلك كالمصلي يدخل في الصلاة منفردا، ثم يأتم به آخر فيصبح إماما، أو يكون إماما فيصبح مأموما أو منفردا. إن النصوص التي بين أيدينا ترشدنا إلى أن هذا التغيير لا يضرّ وأنَّ الصلاة صحيحة. المنفرد يصبح إماما فمن الأدلة الدالة على أنَّ المنفرد إذا اقتدى به غيره فأصبح إماما صحَّت صلاته: 1 - حديث عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل في حجرته (¬2)، وجدار الحجرة قصير، فرأى النّاس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلّون بصلاته، فتحدّثوا بذلك، فقام معه أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثا ... " (¬3) الحديث. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصلّي قيام الليل منفردا، ثم اقتدى به بعض أصحابه، ولم يعترض ممّا يدّل على أن ذلك جائز. ¬

_ (¬1) المجموع (4/ 110). (¬2) المراد بالحجرة هنا مساحة من المسجد أحيطت بالحصير لا باللبن. (¬3) صحيح البخاري. فتح الباري (2/ 213)، ورواه مسلم أيضا، النووي على مسلم (6/ 41).

2 - ومن ذلك ما رواه ابن عباس، قال: "بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- متطوعا من الليل، فقام إلى القربة فتوضأ، فقام يصلي، فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة، ثم قمت إلى شقّه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن" (¬1). ودلالة الحديث على المراد واضحة. 3 - وحديث الذي فاتته صلاة الظهر فأحرم منفردا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من يتصدق على هذا) (¬2). ومذهب الشافعي -رحمه الله- أنه يجوز الاقتداء بالذي نوى الصلاة منفردا متنفلا كان أو مفترضا، للأدلة السابقة. ومذهب الثوري، وأصحاب الرأي أنه لا يصح أن يصبح المنفرد إماما سواء في الفرض أو النفل، لأنه لم ينو الإِمامة في ابتداء الصلاة والأدلة السابقة تردُّ عليهم. والِإمام أحمد -رحمه الله- يرى أنَّه يجوز أن يصبح المنفرد إماما في الفريضة، إذا كان إماما راتبا، وأحرم وحده منتظرا من يأتي فيصلي معه. ومال ابن قدامة إلى مذهب الشافعي للأحاديث التي سبقت، ولأنَّ الأصل مساواة الفرض للنفل في النيَّة، ولأن الحاجة تدعو إلى نقل النية إلى الإمامة، لأن المنفرد إذا جاء قوم فأحرموا وراءه، فإن قطع الصلاة وأخبر بحاله قبح، وكان مرتكبا للنهي بقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ} (¬3)، وان أتمَّ الصلاة بهم ثم أخبرهم بفساد صلاتهم كان أقبح وأشق. واستدلّ ابن قدامة -أيضا- بالقياس، فقاس هذه المسألة على ما جوزوه من انتقال المأموم ليصبح إماما في حال فساد صلاة إمامه، فليصح انتقال المنفرد ليصبح إماما كذلك (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم انظر مشكاة المصابيح (1/ 374). (¬2) قال الشوكاني: أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، (نيل الأوطار 3/ 152). (¬3) سورة محمد/ 33. (¬4) راجع في هذه المسألة المغني (2/ 231 - 232).

الإمام يصبح مأموما

الإمام يصبح مأموما وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق (¬1) -رضي الله عنه- عندما تغيَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتقدَّم أبو بكر فصلَّى بالنَّاس، وحضر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الصَّلاة، فتأخر أبو بكر فأصبح مأموما، وتقدَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأمَّ النَّاس. (¬2). والمجد ابن تيمية جعل هذه الصورة جائزة إذا استخلف الِإمام فحضر، والصّلاة قائمة، فمن حقه أن يتقدم، ويرجع من استخلفه، وابن عبد البرّ يجعل هذا من خصائص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وينقل الِإجماع على أن ذلك لا يجوز لغيره، والإجماع الذي ذكره ابن عبد البرّ غير صحيح، فالخلاف في هذا مشهور وثابت، والصحيح المشهور عند الشافعية الجواز (¬3)، أما أنَّ هذا من خصوصياته -صلى الله عليه وسلم- فهو قول متجه، يدلُّ عليه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما استفسر من أبي بكر عن سبب تأخره وعدم استمراره في الإمامة قال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. والِإشكال الذي يسبّبه إجازة الائتمام بإمام جاء بعد أن كبر الناس تكبيرة الِإحرام - أن المأموم هنا كبر قبل إمامه، وقد جوّز ابن حزم تكبير المأموم قبل الِإمام في أربعة مواضع: أولها: صورة المسألة وهي إذا غاب الإمام الراتب، فتقدَّم من صلَّى بالناس، وحضر الإمام الراتب في أثناء الصلاة، فيجوز أن يتقدم الإمام الراتب، فيصلي، ويتأخر الِإمام المستخلف، ليكون من المأمومين. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن أبي قحافة: عثمان بن عامر التيمي القرشي، صاحب رسول الله، وأول الخلفاء الراشدين، له في مناصرة الإسلام وتثبيت أركانه مواقف مشهودة، وكان شجاعا حليما خطيبا، توفي بالمدينة سنة (13 هـ). (¬2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي، (نيل الأوطار 3/ 157). (¬3) راجع نيل الأوطار (3/ 157).

المأموم يصبح منفردا

ثانيها: الذين يدخلون خلف إمام تبين له بعد التكبير أنه غير متطهر، فيشير للنّاس أن يمكثوا، ثم يمضي فيتطهر، ويأتي، فيبتدىء التكبير للإحرام، وهم باقون على ما كبّروا، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه ومسلم- بأصحابه. ثالثها: أن يحدث الإمام في صلاته بعد أن كبر وكبر الناس، فيستخلف الإمام رجلا قد دخل لتوه، فيصير إماما مكانه، ويكون المأمومون قد كبَّروا قبله. رابعها: ما سيأتي بيانه: وهو من دخل في الصلاة في مسجد، ثم أقيمت جماعة، فإنه يلتحق بها بانيا على ما مضى من صلاته مع كونه قد سبق إمامه (¬1). المأموم يصبح منفردا يدلّ على صحة هذا ما ثبت عن أنس بن مالك أنَّ معاذ بن جبل (¬2) صلى بأهل قباء، فأطال الصلاة طولا شقَّ على بعض المأمومين، وكانوا أصحاب حرث وزرع، تجوَّز رجل في صلاته، وأكمل لنفسه، وعندما علم الرسول -صلى الله عليه ومسلم- بذلك لام معاذا على تطويله، ولم ينقل أنه أمر الرجل بإعادة الصلاة (¬3). والاستدلال بهذا الحديث لا يتم إلاّ على القول بأنه فارق إمامه وبنى على صلاته، أمّا على الرواية التي في الصحيحين وفيها أنَّه قطع الصلاة مع معاذ، ثم استأنف الصلاة، فلا يصلح هذا الحديث للاستدلال، وقد قيل بأن رواية قطع الصلاة واستئناف صلاة جديدة رواية شاذة، بحجة أن ما ورد في هذه الرواية لم يرد في الروايات الأخرى، والصواب أن هذا ليس حدّ الشاذ، فالشاذ يكون بأن يروي الراوي الثقة شيئًا يخالف فيه من هو أوثق منه؛ وهذا تعريف الشافعي للشاذ، وعلى ¬

_ (¬1) المحلى (4/ 63، 64). (¬2) هو معاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري الخزرجي، أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وأحد الستة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي -صلى الله عليه ومسلم - بعثه الرسول -صلى الله عليه ومسلم - إلى اليمن قاضيا، توفي بالأردن سنة (18 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 35)، (الكاشف 3/ 153). (¬3) الحديث في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد (نيل الأوطار)، (3/ 153)، المجموع (4/ 146).

المنفرد يتحول إلى مأموم

ذلك فالرواية ليست شاذّة، وقد نص علماء الفقه والحديث والأصول على أنَّ الزيادة من الثّقة مقبولة، ولذا فإنَّ النووي يرى أنَّه لا حجة في الحديث. وقد ذهب الحنابلة إلى جواز مفارقة المأموم لِإمامه لعذر يحصل له: تعب، أو مرض، أو نوم يغالبه. ومفارقته بغير عذر عندهم فيها روايتان: إحداهما: تفسد، والثانية: تصحّ. واحتجوا بالقياس: فالمنفرد لو نوى كونه مأموما لصحَّ في رواية، فنيَّة الانفراد أولى، فإن المأموم قد يصير منفردا بغير نيّة، وهو المسبوق إذا سلَّم إمامه، وغيره لا يصير مأموما بغير نيَّة بحال. وفي هذه المسألة يقول النووي: "اتفق الشافعي والأصحاب على الاستدلال بحديث جابر: "أنَّ معاذا أطال بالصلاة ... " على أنَّ المأموم له أن ينفرد عن إمامه من غير عذر، لأن إطالة القراءة ليس عذرا. واحتج به آخرون على جواز المفارقة بعذر، لأنَّ التطويل بالقراءة عذر، وذكر النووي أن الشافعية لهم في المسألة ثلاثة أقوال: (1) صحتها إذا نوى المفارقة وبنى على صلاته مع الكراهة، وبطلانها إن لم ينو ذلك. (2) أنها تبطل مطلقا. (3) قول في القديم تبطل بدون عذر (¬1). المنفرد يتحوّل إلى مأموم إذا دخل رجل المسجد فظن أنَّ الصَّلاة قد أقيمت فصلى لنفسه، ثم ثبت خطأ ظنة فأقيمت الصلاة، أو أن الصلاة كانت قد انتهت فعلا، ثم أقيمت جماعة أخرى، فهل يجوز أن يقتدي بهم فيما تبقى من صلاته، مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد أنه لا يجوز له ذلك، فإن فعل بطلت صلاته (¬2). ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة: المغني لابن قدامة، والمجموع (4/ 146)، ونيل الأوطار (3/ 153)، فتح الباري (2/ 194 - 195). (¬2) المجموع (4/ 106)، المغني (2/ 232).

تغيير نية القصر إلى إتمام

وفي مذهب الحنابلة والشافعية رواية تصحّح صلاته، بل مذهب الشافعية كما يقول النووي صحتها (¬1). وابن حزم يوجب على صاحب الصورة التي افترضناها في هذه المسألة أن يقتدي بالجماعة المقامة فيما تبقى من صلاته، وإنما أوجب عليه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به"، ولإنكاره صلى الله عليه وسلم على الصحابي الذي كان يصلي النافلة، وقد أقيمت الصلاة. ونسب ابن حزم القول بذلك إلى إبراهيم النخعي، ونسب إليه أنه قال: "إنَّ هذا كان يفعله من كان قبلكم"، أي الاقتداء بالجماعة التي أقيمت بعده فيما تبقى من صلاته، ثم يفارقهم إذا أتمَّ الركعات المفروضة. ونسب القول بهذا أيضا إلى نافع بن جبير (¬2) والحسن وقتادة (¬3) (¬4). والحديث الذي أورده ابن حزم لا يدل على مبتغاه، وبقية الحديث تبين المراد من قوله: "إنَّما جعل الإِمام ليؤتم به"، إذ أمر بمتابعته في التكبير والركوع والرفع منه والسجد. أمَّا أن المصلي يدخل في جماعة كبَّر قبلها؛ فليس في الحديث ما يدل على جوازه. تغيير نية القصر إلى إتمام لا يجوز لمن دخل في صلاة نوى إتمامها أن يغيّر نيته إلى القصر، أما إذا دخل فيها ينوي القصر ثم نوى الإتمام، أو تغيرت نيّة المسافر فعزم على الإقامة؛ فما الحكم؟. ¬

_ (¬1) المجموع (4/ 106) المغني (2/ 232). (¬2) هو نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل القرشي، تابعي ثقة من أهل المدينة، من كبار رواة الحديث وكان من أهل الفتيا، توفي عام (99 هـ) راجع: (الكاشف 3/ 196)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 196). (¬3) هو قتادة بن دعامة الدوسي البصري، مفسر حافظ ضرير أكمه، وكان مع علمه بالحديث رأسا في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب، مات في واسط بالطاعون سنة (118 هـ)، وولادته عام (61 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال2/ 350)، (شذرات الذهب 1/ 153)، (طبقات الحفاظ ص 48). (¬4) المحلى (3/ 116).

اختلاف نية الإمام والمأموم

القول الصحيح أنَّ تغيير هذه النية لا يضرَّ، وأن صلاته صحيحة، بل يجب عليه أن يتم الصلاة إذا غير نية السفر، ونوى الإقامة في مكانه، أو نوى الرجوع إلى بلده، والمسافة قصيرة لا يباح فيها القصر، وعلى هذا الشافعي وأحمد، وحجتهم أن القصر رخصة، فإذا أسقط نيَّة الترخص صحَّت الصلاة بنيتها، ولزم الإتمام، ولأنَّ الإتمام الأصل، وإنَّما أبيح بشرط، فإذا زال الشرط عاد الأصل إلى حاله. وما ذهب إليه مالك -رحمه الله- من أنَّه لا يجوز له الإتمام، لأنه نوى عددا، فإن زاد عليه حصلت الزيادة بغير نيَّة، يرده أن النية لم تتغير، وإنَّما الذي تغير السبب الذي يجعل الصلاة المقصورة تامة، وهذا التغيير قد عهدنا من الشارع أنَّه لا يعتد بمثله كما سبق في صحة تغيير نية المنفرد إلى الإمامة، والمأموم إلى منفرد (¬1). اختلاف نيّة الإمام والمأموم مما يلحق بالمسألة السابقة اختلاف نية الإمام والمأموم، هل هذا الاختلاف يبطل الصلاة؟. لا خلاف بين العلماء في أن هذا لا أثر له كلية إذا اقتدى المتنفل بالمفترض (¬2)، وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على هذا، منها الحديث الذي سبق ذكره "من يتصدق على هذا"، فقام أحد الصحابة فصلى خلف ذلك الذي فاتته الجماعة" (¬3). وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر (¬4) إذا أدرك الأمراء الذين يؤخّرون ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة المغني (2/ 266)، قواعد الأحكام (1/ 216). (¬2) المغني (2/ 262)، المحلى (4/ 230). (¬3) رواه أبو داود والترمذي، وحسنة، وابن خزيمة، وصحّحه، وابن حبان والحاكم. (¬4) هو جندب ابن جنادة في سفيان من بني غفار، من السابقين إلى الإسلام، يضرب به المثل في الصدق، كان شديدا على الأغنياء، يلومهم ويقرعهم لعدم بذلهم الأموال للمحتاجين، توفي بالربذة، قرب المدينة عام (32 هـ). راجع: (الإصابة 4/ 63)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 215)، (الكاشف3/ 333)، (طبقات الحفاظ ص 6)، الأعلام (2/ 137).

الصلاة عن وقتها، بأن يصلّي الصلاة لوقتها، فإن أدرك الصلاة معهم فيصلي، فإنها نافلة له (¬1). إنما الاختلاف بين العلماء في صلاة المفترض خلف التنفل، فقد منع من ذلك مالك وأبو حنيفة، وحجتهم فيما ذهبوا إليه النصوص الآمرة بمتابعة الِإمام، والناهية عن الاختلاف عليه، كحديث أبي هريرة عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنّما جعل الِإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسا فصلّوا جلوسا أجمعون" (¬2)، فقد استدلّوا بقوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" على وجوب موافقة الِإمام في نية الصلاة التي يصليها، وعلى منع الاختلاف في النيّات. وذهب الإمام الشافعي إلى جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، لأن حديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به" لا يتناول النية، لأن ظاهره إنما هو في الأفعال الظاهرة، يدل على هذا الأدلّة الكثيرة التي جاءت مجيزة اقتداء المفترض بالمتنفل، وعلى احتمال أن حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" شامل للنيات كما يشمل الأفعال الظاهرة، فإنَّنا نخص منه النيات بتلك الأدلة التي جاءت مجيزة لاقتداء المفترض بالمتنفل (¬3). والإمام أحمد -رحمه الله- وطائفة من أصحابه يجيزون اقتداء المفترض بالمتنفل للحاجة، كما في صلاة الخوف، وكما لو كان المفترض غير قارىء، كما ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، انظر شرح النووي على مسلم (5/ 147). (¬2) عزاه الحافظ في تلخيص الحبير (2/ 38)، إلى البخاري ومسلم في زمن أغرب الاستدلال استدلال المالكية على منع صلاة المفترض خلف المتنفل بقوله تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (سورة الحشر / 14)، ووجه الاستدلال أن هؤلاء المذمومون في الآية مجمعون على الصورة في الأفعال ومختلفون في النيات، ولو كان هذا الاستدلال صحيحا لامتنع صلاة المتنفل خلف المفترض بهذه الآية، ولم يمنعوها. (أحكام القرآن لابن العربي). (¬3) بداية المجتهد (1/ 123)، وراجع السيل الجرّار (1/ 352).

الأدلة النقلية

في حديث عمرو بن سلمة (¬1) ومعاذ، ولا يجيزونه لغير حاجة (¬2). وقد وضح من هذا العرض حجَّة المانعين مطلقا، وحجَّة المجيزين للحاجة، وبقي أن نورد حجة المجيزين مطلقا، وقد احتجَّ الشافعي (¬3) على هذه المسألة بالأدلة النقلية ثم بالقياس. الأدلة النقلية: 1 - حديث جابر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر في حال الخوف ركعتين ثم سلَّم، ثمَّ جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلَّم (¬4). ووجه الاستدلال بالحديث أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- صلّى بالطائفة الأولى ثم سلم، فكانت هي صلاة الفرض في حقّه، وعندما أم الطائفة الثانية كان متنفلا، والذين صلوا خلفه كانوا يصلون الفريضة. 2 - وروى الشافعيّ أيضا بإسناده أن قوما جاؤوا أبا رجاء العطاردي يريدون أن يصلوا معه الظهر فوجدوه صلَّى، فقالوا: ما جئنا إلاَّ لنصلي معك، فقال: لا أخيبكم، ثم قام فصلّى بهم (¬5). 3 - ويروي بإسناده أيضا أنَّ عطاء كانت تفوته العتمة، فيأتي والنّاس في القيام، فيصلّي معهم ركعتين، ويبني عليها ركعتين (¬6). 4 - ويروي أيضا أنَّ إنسانا قال لطاووس (¬7): وجدت النّاس في القيام، فجعلتها ¬

_ (¬1) هو عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي، أبو يزيد صحابي صغير نزل البصرة. راجع: (تهذيب التهذيب 8/ 42). (¬2) الفتاوي (23/ 247). (¬3) الأم (1/ 153)، وراجع المغني (2/ 262). (¬4) يقول أحمد شاكر في تعليقه على المحلى: ورواها الطحاوي (1/ 187)، وأشار إليها أبو داود (1/ 484)، والنسائي بإسناد صحيح (1/ 231)، راجع المحلى (4/ 228). (¬5) الأم (1/ 153). (¬6) المصدر السابق. (¬7) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء، من أكابر التابعين تفقها في الدين، ورواية للحديث، وتقشفا في العيش، وجرأة على وعظ الخلفاء والملوك، أصله من الفرس، ولد باليمن سنة (33 هـ)، وتوفي حاجًّا بمزدلفة (106 هـ). راجع: (وفيات الأعيان 2/ 509)، (الكاشف 2/ 41)، (طبقات الحفاظ ص34).

العشاء الآخرة، قال أصبت (¬1). 5 - ومما يحتجُّ به في هذا المجال ولم يورده الشافعيّ -رحمه الله- حديث جابر أنَّ عمرو بن سلمة أمَّ قومه وهو ابن سبع سنين (¬2)، وكان ذلك بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث أمرهم أن يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، فكان عمرو هذا أقرأهم، ولو كان لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل لما جاز إمامة الصغير الذي لم تفرض عليه الصلاة للكبار المكلفين. 6 - ومن أوضح الأدلة الحديث الكبير القدر والفائدة وهو العمدة في الموضوع وقد رواه الشافعي وأهل الصحاح والمسانيد عن جابر بن عبد الله "أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع إلى قومه، فيصلّي بهم تلك الصلاة" (¬3). وفي بعض روايات الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاة معاذ الثانية بقومه: "هي له تطوع، ولهم فريضة" (¬4). وقد ردَّ الفريق المانع على حديث معاذ هذا بردود ضعيفة. منها: أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم بصلاة معاذ هذه، والرواية الأخيرة التي أوردتها تدلّك على بطلان هذا الزعم، وفي الصحاح روايات أخرى تدلُّ جزما على علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بصلاة معاذ وإقراره له. ومن الإِجابات الضعيفة أن معاذا كان يصلي مع الرسول النافلة مأموما، ثم يصلّي بقومه الفريضة إماما، وهذا بعيد، إذ كيف يحضر فرض الوقت، فيؤخره ويصلّي نافلة، وكيف يفوّت صحابي -كمعاذ- حريص على الخير والأجر العظيم الذي ¬

_ (¬1) الأم (1/ 153). (¬2) رواه البخاري في صحيحه والنسائي والطبراني وأبو داود. تلخيص الحبير (2/ 34). (¬3) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. انظر تلخيص الحبير (2/ 37)، ورواه الشافعي في الأم (1/ 153). (¬4) قال ابن حجر في الفتح (2/ 196). حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح رواه الشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم.

الاستدلال بالقياس

يحصل له من اقتدائه بالرسول -صلى الله عليه وسلم-! (¬1). الاستدلال بالقياس: يقول الشافعيّ في هذا الصدد: "وكل هذا جائز بالسنة، وما ذكر، ثمَّ القياس: ونيَّة كلّ مصلٍّ نيّة نفسه، لا يفسدها عليه أن يخالفها غيره، وإن أمّه: ألا ترى أن المسافر يكون مسافرا ينوي ركعتين، فيجوز أن يصليّ وراءه مقيم بنيّته، وفرضه أربع؟!. أو لا ترى أن الإِمام يسبق الرجل بثلاث ركعات، ويكون في الآخرة، فيجزىء الرجل أن يصليها معه، وهي أول صلاته! أو لا ترى أنَّ الإمام ينوي المكتوبة، فإذا نوى من خلفه أن يصلي نافلة أو نذرا عليه ولم ينو المكتوبة يجزىء عنه! أو لا ترى أنَّ الرجل بفلاة يصلي، فيصلي بصلاته، فتجزئه صلاته، ولا يدري لعلَّ المصلي صلّى نافلة! أو لا ترى أنّا نفسد صلاة الِإمام، ونتمّ صلاة من خلفه، ونفسد صلاة من خلفه ونتمّ صلاته! وإذا لم تفسد صلاة المأموم بفساد صلاة الإمام كانت نيّة الإمام إذا خالفت نيّة المأموم أولى ألا تفسد عليه. وأن فيما وصفت من ثبوت سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكفاية من كل ما ذكرت" (¬2). ¬

_ (¬1) ذكر هذه الردود الطحاوي في شرح معاني الآثار، وذكرها الحافظ في الفتح (2/ 196 - 197)، ورد عليها. (¬2) الأم (1/ 153 - 154).

الشرط الرابع عدم التشريك في النية

الشرط الرابع عدم التشريك في النيّة لا نريد بالتشريك هنا ما ينافي الإخلاص، كأن يصلي الصلاة يقصد بها وجه الله وثناء الناس ومديحهم، فهذا مكانه الباب الثاني. وإنما نريد هنا أن يقصد بالعمل الواحد قربتين، كأن ينوي بالصلاة الرباعية قضاء فائتة وفريضة الوقت الحاضر. والقاعدة العامة التي يكاد الفقهاء يجمعون عليها أن هذه النيَّة غلط، لأن العبادة الواحدة لا يمكن أن تغني غناء عبادتين. إلا أن بعضا منهم استثنى بعض العبادات وحكم بحصول كلتا العبادتين: فمن ذلك من نوى بصلاته الفريضة وتحية المسجد، ومن نوى بغسله رفع الحديث الأصغر والأكبر، أو غسل الجمعة والجنابة، أو نوى بتيممه رفع الحدثين: الأكبر والأصغر. والذي يقول بحصول العبادتين بالفعل الواحد في مثل هذه الصور فلأن مراد الشارع يتحقق بحصول الفعل، فتحية المسجد تحصل بأداء الفريضة، نوى التحيّة أو لم ينوها، لأن المراد شغل البقعة بالعبادة. والحدث الأصغر يرتفع في الطهارة إذا ارتفع الأكبر، وفي الغسل للجنابة والجمعة يحصلان لأنَّ فعلهما واحد، وكذلك التيمم (¬1). ¬

_ (¬1) حصول العبادتين في مثل هذه الصور ليس أمرا اتفاقيا، فقد خالف في صحة ذلك قلة من الشافعية (المجموع 1/ 376)، هذا إذا قصدهما جميعا، فإن قصد غسل الجمعة ولم يقصد الجنابة فإنه لا يجزيه عن الجنابة عند الشافعيّ (مختصر المزني 1/ 53)، ورجحه ابن حجر (فتح الباري 1/ 14). وابن حزم يوجب على من عليه حدث أصغر أن يتيمم تيممين والمرأة الحائض التي عليها جنابة إذا طهرت من حيضها في يوم الجمعة يلزمها أربع تيممات عنده، للحيض، والوضوء، والجمعة، والجنابة، وحجته أن لا دليل يدل على إجزاء التيمم عن أكثر من حدث، وقد رد الذهبي عليه بأن حدث عمار عند البخاري يدل على الإجزاء فقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمار الذي كانت عليه جنابة ويريد الصلاة: "إنما يكفيك أن تقول يديك هكذا، ثم ضرب يديه الأرض مرّة، ومسح الشمال على اليمين، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه"، (المحلى 4/ 138)، وانظر الحديث في صحيح مسلم، انظره بشرح النووى (4/ 61).

وتجويز الأحناف الجمع بين العبادتين في هذه الصور لأنهم عدوها من قبيل الوسائل لا المقاصد هذا في الطهارة والتيمم، أمّا في حصول تحية المسجد والفريضة فلأن تحيّة المسجد تحصل وإن لم يقصدها (¬1). أما ما صحَّحوه من تجويز عبادتين بنيّة واحدة فالذي يظهر لي فيه أنَّ الشارع قد اعتبر فيه هذين الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل، فالذي يتصدّق على ذوي رحمه ينال أجرين: أجر الصدقة، وأجر صلة الرحم، فإذا قصد هذا الشيء الذي أقرّه الشارع لم يكن مخالفا، بل موافقا ومصيبا. وإذا صادف أن جاء العيد في يوم جمعة أغنت صلاة العيد عن صلاة الجمعة، لأنَّ الشارع شرع الأمر كذلك. والذي يحج مازجا العمرة بالحجّ (قارنا) صحّ حجّه وعمرته، لأن الشارع قرَّر هذا، ومن قال: إن الصائم في يوم عرفة قضاء ينال ثواب صيام عرفة ويجزىء عنه في القضاء، ومن قال: من طاف بنيّة الفرض والوداع أجزأه عنهما، إنما قصدا أن هذه وأشباهها مرادة للشارع، وإن لم يقصدها العبد، فقصده لها لا يضيره. أمّا قصد عبادتين بفعل واحد عدا ما ذكرنا فإنه قد يكون مبطلا للعبادة، ولا يحصل شيء مما قصده، كمن نوى صلاة الظهر والعصر بصلاته. وابن حزم يرى بطلان كلّ عبادة قصد بها تحقيق قربتين سواء أكانت العبادة صلاة أم صوما أم زكاة، ولم يستثن من ذلك إلاّ من مزج قصد العمرة بالحجّ في حالة إحرامه بهما والهدي معه، لأنَّ هذا هو الحكم الذي شرعه الله في هذه الحالة (¬2). وغالبية العلماء يرون أن من قصد أكثر من عبادة بالفعل الواحد تحصل واحدة منهما، ولا تبطل كلها. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 40). (¬2) المحلى (6/ 174).

وقسم من الأحناف لهم رأي حسن في اعتبار المقصود الذي ينبغي أن يتحقق: فهم يرون العبادة الأوجب لها الأولوية، فإذا نوى بالمال الزكاة وكفارة اليمين، جعل عن الزكاة، وإذا صام يوما عن قضاء وكفارة جعل عن القضاء، لأنه أوجب، فإن استويا في القوّة فله أن يجعلهما إلى أي عبادة شاء، كمن نوى صوما عن كفارة ظهار وكفارة يمين. وقد يقال: إن التردد في النية ينافي الجزم المطلوب فيها، ولذلك لا تصح الفريضة إذا قصد بها أكثر من عبادة، كمن نوى بالمال الذي يخرجه الزكاة، والصدقة؟ فعلى قاعدة الأحناف تكون زكاة، لأنها أوجب، وعلى ما ذكرناه من أن النية غير جازمة تكون صدقة، وهذا مذهب الشافعية، وبه قال محمد من الأحناف. ومن عجب أن يصحّح الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة الإحرام بحجتين أو عمرتين، وقالوا: يعقد الإحرام بهما، وعليه قضاء إحداهما، لأنه أحرم بهما، ولم يتمهما (¬1)، وعند الحنابلة (¬2) أنه ينعقد بواحدة فقط، ويلغي الأخرى، ودليل الحنابلة: أنهما عبادتان، لا يلزمه المضيّ فيهما، فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، وعلى هذا لو أفسد حجه وعمرته لم يلزمه إلا قضاؤهما، وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما بناء على صحة إحرامه بهما. ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 191). (¬2) المغني لابن قدامة.

الشرط الخامس أن تتعلق النية بمكتسب للناوي

الشرط الخامس أن تتعلق النية بمكتسب للناوي ممن ذكر هذا الشرط، ونصَّ عليه الحطَّاب، فقال: "الشرط الأول: أن تتعلق بمكتسب للناوي، فإنَّها مخصصة، وتحصيل غير المفعول للمخصص محال، وكذلك امتنع فعل الإنسان لغيره" (¬1). وهذا الشرط لا يحتاج إلى أن ننص عليه، لأنَّ الأمر لا يكون إلاّ كذلك، ويستحيل على المرء أن ينوي فعل غيره، بمعنى أن يكون الفعل الصادر من المكلفين قد أثرت فيه نية غيرهم. ¬

_ (¬1) الحطاب على خليل (1/ 233).

الشرط السادس قصد العبادة دفعة واحدة

الشرط السادس قصد العبادة دفعة واحدة وقد حقَّق العز بن عبد السلام (¬1) القول في هذه المسألة فقال: "تفريق النية على الطاعة يختلف باختلاف الطاعات، والطاعات أقسام: أولها: طاعة متحدة، وهي التي يفسد أولها بفساد آخرها كالصلاة والصيام، فلا يجوز تفريق النية على أبعاضها. مثاله في الصيام: أن ينوي إمساك الساعة الأولى وحدها، ثم ينوي إمساك الساعة الثانية، وكذلك يفرد كل إمساك بنيّة تختص به إلى آخر النهار، فإن صومه لا يصح. وكذلك لو فرّق نيّة الصلاة على أركانها وأبعاضها، مثل أن يفرد التكبير بنية، والقيام بنيّة ثانية، والركوع بنيّة ثالثة، وكذلك إلى انقضاء الصّلاة، فإنَّ صلاته لا تصح، لأن ما نواه من هذه المفردات ليس بجزء من الصلاة على حياله. ثانيها: طاعة متعددة كالزكاة والصدقات، وقراءة القرآن، فهذا يجوز أن يفرد أبعاضه بالنية، وأن يجمعه في نية واحدة، فلو فرق النيّة على أحد جزئي الجملة في القراءة مثل أن قال: بسم الله، أو قال: فالذين آمنوا؛ فالذي أراه أنه لا يثاب على ذلك، ولا يثاب إلا إذا فرق النية على الجمل المفيدة، إذ لا قربة في الإِتيان بأحد جزئي الجملة، وجمل القرآن ضربان: ¬

_ (¬1) هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد، ولد بدمشق عام (577 هـ)، وتولى الخطابة بالجامع الأموي، له (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)، توفي في سنة (660 هـ). راجع: (العبر فى أخبار من غبر 5/ 260)، (شذرات الذهب 5/ 301).

أحدهما: ما لا يذكر إلاّ قرآنا، كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوح الْمُرْسَلِينَ} (¬1) فهذا يحرم على الجنب قراءته. الضرب الثاني: ما يغلب عليه كونه ذكرا ليس بقرآن كقوله: بسم الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، فهذا لا يحرم على الجنب قراءته إلاّ أن ينوي به القراءة لغلبة الذكر عليه. ثالثا: ما اختلف في اتحاده كالوضوء والغسل، فمن رآهما متحدين منع من تفريق النية على أجزائهما، ومن رآهما متعددين جوز تفريق النية على أبعاضهما (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الشعراء / 105. (¬2) قواعد الأحكام (1/ 219)، وراجع في المسألة: المجموع (1/ 379 - 380)، الإنصاف (1/ 151).

الشرط السابع مقارنة النية للمنوي

الشرط السابع مقارنة النيّة للمنوي وهذا الشرط يشترطه الذين يقولون بوجوب الإتيان بالنيّة عند أول أفعال العبادة، كالمالكية والشافعية (¬1)، أما الذين يجوزون تقديم النية على العبادة فلا يشترطون هذا الشرط، وسبق تحقيق القول في ذلك في مبحث "وقت النية" (¬2). الشرط الثامن العلم بصفات المنوي قد ذكرنا في مبحث "صفة النية" (¬3) الأمور التي يجب تعيينها حين النية. وعدم تعيين هذه الأمور الواجبة يبطل النيّة كما يبطل العبادة، فالذي يصلي ولم ينو بصلاته الظهر مثلا لا يجوز أن يحتسبها بعد ذلك ظهرا. الغلط في تعيين المنوي إذا أخطأ في تعيين أمر لا يجب تعيينه كأن يتوضأ من حدث البول، ثم يتذكر أن حدثه نوم، أو يصلي خلف إمام يظنة سعدا فإذا هو سعيد- فهذا لا يضرّه، لأنه لا يجب عليه تعيين الحدث الذي يتوضأ من أجله، ولا تعيين الإمام الذي يصلّي ¬

_ (¬1) الحطاب على خليل (1/ 233). (¬2) راجع ص 157. (¬3) راجع ص 195.

خلفه. والذين أبطلوا صلاة من أخطأ في تعيين الِإمام المقتدى به يحمل كلامهم على ما لو قصد الصلاة خلف إنسان معيّن، ولو تبيّن لهذا المقتدي أنّ إمامه ليس فلانا فإنّه لا يصلي خلفه، بخلاف ما لو قصد الصلاة خلف إمام الجمعة وظنَّه فلانا فأخطأ ظنّه، فهذا لا يضرّه خطؤه. وفي بعض الأحيان لا يجب تعيين المنوي، ولكن لو نواه على خلاف ما هو عليه فلا يجزيه: فالمصلي لا يجب عليه تعيين عدد الركعات، فلو نوى مصل أن يصلي الظهر ثلاث ركعات مخطئا في هذا التعيين لم تصحّ صلاته. أمّا إذا أخطأ في تعيين ما يجب تعيينه فلا تصحّ عبادته: فالذي يصلي الظهر فيغلط ويصليها قاصدا العصر لا تصح صلاته، ومن أخرج زكاة ماله وغلط فأعطاها صدقة لا تحتسب زكاة، وقد ذكرنا في "صفة النية" أن أبا حنيفة يصحّح صوم المقيم الصحيح شهر رمضان، ولو تعمَّد صيامه قضاء أو نفلا فضلا عن غلطه في التعيين، وحجته أن الشهر متعين لصيام رمضان، ولا يحتمل غيره، وذكرنا وجه الإجابة عنده. كما بينا هناك أنَّ الشافعية والحنابلة والمالكية يصححون الفريضة ممن لم يحج، ولو نواها نافلة، ويصرفون من نوى الحج عن غيره ولم يكن حج من قبل إلى الحجّ عن النفس، فالغالط أولى ألا يؤثر غلطه عندهم، وقد ذكرنا هناك أدلتهم والرد عليهم.

الفصل الخامس النيابة في النية

الفَصل الخامس النيَابة في النيَّة

تمهيد

النيابة في النيّات في العبادات تمهيد: مرادنا بالنيابة هنا: أن ينوي شخص ما تأدية عبادة عن غيره في صلاة أو صوم أو حج. وقد اختلف العلماء في ذلك بين مانع مطلقا، ومجيز مطلقا، ومجيز في بعض دون بعض. فقد ذهب إلى المنع مطلقا علماء المعتزلة (¬1)، والإمام مالك (¬2) وأصحابه. وذهب إلى الإجازة مطلقا ابن تيمية في أحد أقواله (¬3). وذهب جماهير العلماء إلى جواز النيابة في الحجّ، وممن قال بذلك: ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، وعطاء (¬4)، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى (¬5)؛ وإسحاق، وأهل الظاهر، وغيرهم (¬6). ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (4/ 99)، أصول الفقه لأبي زهرة (ص 323). (¬2) الموافقات (2/ 174). (¬3) نسبه إليه محمد رشيد رضا في التفسير (8/ 254). (¬4) هو عطاء بن أسلم (أبي رباح)، بن صفوان، تابعي من أجلّة الفقهاء، كان عبدا أسود، ولد في جند (باليمن)، (سنة 27 هـ)، ونشأ بمكة، فإن مفتي أهلها ومحدثهم، وتوفي بها في عام (114 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 230)، (الكاشف 7/ 199)، (طبقات الحفاظ ص 39). (¬5) هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن، صدوق، كان سيىء الحفظ. (توفي سنة 148). راجع: (طبقات الحفاظ ص 74)، (الكاشف 3/ 69)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 430). (¬6) المحلى7/ 61.

ومن هؤلاء المجيزين للنيابة في الحج من منع النيابة في الصوم، منهم الشافعي، والثوري، وقال بذلك: ابن عمر، وعائشة، وأبو حنيفة (¬1). وأجاز أحمد النيابة في صوم النذر خاصة، وهو قول ابن عباس وإسحاق، وأبي عبيد (¬2)، والليث بن سعد (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) المجموع للنووي (6/ 431). (¬2) هو القاسم بن سلاّم الهروي الأزدي، من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، من كتبه (الغريب المصنف)، في غريب الحديث، و (الطهور)، في الحديث. و (فضائل القرآن). ولادته سنة (157 هـ)، ووفاته سنة (224 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 8/ 315)، (تذكرة الحفاظ2/ 417)، (طبقات الحفاظ ص 179)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 343). (¬3) هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن، إمام عصره فقها وحديثا، ولد في (قلقشندة)، سنة (94 هـ)، وتوفي في القاهرة سنة (175 هـ)، كان من الكرماء الأجواد. راجع: (تذكرة الحفاظ 1/ 224)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 371)، (شذرات الذهب 1/ 285). (¬4) المجموع (6/ 431) تهذيب السنن (3/ 281).

أدلة الذين منعوا مطلقا

أدلّة الذين منعوا مطلقا أولا: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة: استدلّوا بقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬1). يقول القرطبي: "أخبر تعالى أنّه ليس للإِنسان إلاّ سعي نفسه، فمن قال إن له سعي غيره، فقد خالف الآية" (¬2). ويقول ابن كثير: "كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وكذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه" (¬3). ويعتبر ما دلت عليه هذه الآية قاعدة من قواعد دين الله في كل شريعة أنزلها، فقد أخبر هنا أن هذا كان مقررا في الكتب الماضية العظيمة، وعند الرسل العظام عند إبراهيم وموسى. وعندما نجيل النظر في شريعتنا الغراء نرى نصوصا كثيرة تدلّ على مثل ما دلت عليه الآية الماضية، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬4)، فهذه الآية كتلك في معناها. وجاءت النصوص تقرر أنَّ الهداية والضلال، والمجاهدة والقعود، والتزكية ¬

_ (¬1) سورة النجم / 39. (¬2) تفسير القرطبي (4/ 151). (¬3) تفسير ابن كثير (6/ 462). (¬4) سورة الأنعام / 164.

والتدسية، كلّ ذلك خاص بمن حصل منه: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1). وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} (¬3). واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكلِّ امْرىء مَا نَوى" فإن مفهوم هذه العبارة أنه لا يحصل على ما نوى غيره (¬4)، والجنة يدخلها النّاس بأعمالهم: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5)، ويصلى الكفرة النار بأعمالهم: {اصْلوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كنْتُم تكْفُرُونَ} (¬6). وفي يوم القيامة لا يملك أحد لغيره شيئًا: {لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًَا} (¬7). وقد قرر هذه الحقيقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ببيان عام أعلنه على الملأ وعمّ وخصّ، فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قام حين أنزل الله عليه {وَأَنْذرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبينَ} (¬8)، فقال: "يا معشر قريش، -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا صفية عمّة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء / 15. (¬2) سورة فاطر / 18. (¬3) سورة العنكبوت /6. (¬4) راجع فتح الباري (1/ 14)، العيني علي البخاري (1/ 27)، دليل الفالحين (1/ 50). (¬5) سورة الأعراف / 43. (¬6) سورة يس / 64. (¬7) سورة الأنفطار /19. (¬8) سورة الشعراء /214.

ثانيا: النصوص المصرحة بمنع النيابة في بعض العبادات

ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شثت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا" (¬1). ثانيا: النصوص المصرّحة بمنع النيابة في بعض العبادات: فقد استدلّوا بحديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه" (¬2). ثالثا: قالوا جواز النيابة فى العبادات تنافي الغرض من تشريعها: لأن المقصود من العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده، لأن معنى ذلك ألا يكون العبد عبدا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا، ولا متوجها، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه. فذلك القائم هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به، ولا ينتقل عنه إلى غيره. والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب عنه بمنزلة النائب، حتى يعدّ المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصحّ في العبادات كما يصحّ في التصرفات (¬3). يقول العز بن عبد السلام موضحا هذه المسألة: "لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلاّ على كسبه واكتسابه ... ، لأنَّ الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته، واجتناب معصيته، وذلك مختص بفاعليه، إذ لا يكون معظّم الحرمات منتهكا لها بانتهاك غيره، ولا منتهك الحرمات معظما لها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (11 - كتاب الوصايا). (¬2) أخرجه النسائي فى سننه. (¬3) الموافقات (2/ 167 - 168).

بتعظيم غيره، فكذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات، ولا في الطاعات البدنيات إلا ما استثني ... " (¬1). رابعا: قالوا: لو صحّت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال القلبية، كالِإيمان وغيره من الصبر والشكر والرضى والتوكل والخوف والرجاء وما أشبه ذلك. ولو كانت النيابة جائزة، فإن التكاليف ينبغي ألّا تكون محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصحّ مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العبادات كالأكل والشرب والوقاع واللباس، وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطل بلا خلاف، من جهة أنّ حكم هذه الأحكام مختصة فكذلك سائر العبادات (¬2). خامسا: احتجّ مالك بعمل أهل المدينة: فعملهم على عدم النيابة، قال القرطبي: "وهو أقوى ما يحتج به لمالك" (¬3). ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام (1/ 135). (¬2) الموافقات (2/ 168). (¬3) تفسير القرطبي (2/ 282).

المجيزون مطلقا

المجيزون مطلقا موقفهم من حجج المانعين: ذهب بعض العلماء إلى أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْس لِلإنْسَانِ إلا مَا سَعَى}، منسوخ، وقد نسب بعض المفسرين القول بذلك إلى ابن عباس (¬1)، وعندي في صحة هذه النسبة إلى ابن عباس نظر، لما سنعلمه بعد من أنّه كأن يفتى بألا يصام عن الميت في صوم فرض، بل يُطْعم عنه، ولَأنَّه راوي الحديث الذي سبق ذكره: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد ... الحديث". كما نسبت كتب التفسير إلى عكرمة مولى ابن عباس أنَّه كان يقول: "كان هذا الحكم في قوم إبراهيم، وموسى، أما هذه الأمة فلها ما سعى غيرها، يدل عليه حديث سعد بن عبادة: هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: نعم" (¬2). ونسبوا إلى بعض أهل العلم أن هذه الآية: {وَأنْ لَيْس لِلإنْسَانِ إلا مَا سَعى}، خاصّة بالكافر، أما المؤمن فله ما سعى غيره (¬3). وهذه الأقوال: من القول بأن الآية منسوخة، أو أنّها خاصة بالأمم من قبلنا، أو خاصة بالكفار غير صحيحة: أولا: لأن الآية خبر لم يتضمن تكليفا، وما كان كذلك لا يجري فيه النسخ. ثانيا: ولأنه قد دل على معناها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وقد ذكرنا جملة منها. ¬

_ (¬1) انظر البحر المحيط لأبي حيان عند تفسيره لهذه الآية. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق.

أدلة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال

ثالثا: مما يدلّ على بطلان خصوصيتها بالأمم السابقة وجود الصوص الدالّة على ما دلت عليه في شريعتنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا وجد في شرعنا ما يقرّه ويؤيده. رابعا: القول بخصوصيتها بالكافر خلاف الظاهر، وليس عليه دليل. أدلّة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال: الذين قالوا بالإجازة خصوا النصوص التي استدلّ بها المانعون بمخصصات كثيرة نذكر منها ما يأتي: 1 - ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان الفضل رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشقِّ الآخر، فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجّة الوداع" (¬1). 2 - حديث أبي رزين العقيلي (¬2)، أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن. قال: حجّ عن أبيك، واعتمر" (¬3). 3 - حديث عبد الله بن الزبير (¬4) رض الله عنهما قال: "جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ ¬

_ (¬1) رواه البخاري 24 - كتاب جزاء الصيد، فتح الباري (4/ 67)، ومسلم (انظره بشرح النووي 9/ 96). (¬2) هو لقيط بن عامر بن صبرة بن عقيل بن كعب العقيلي أبو رزين صحابي، لم يذكروا تاريخ مولده ووفاته راجع: (تهذيب التهذيب 8/ 456)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 372)، (الكاشف3/ 13). (¬3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. (¬4) هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أول مولود للمسلمين بعد هجرتهم، كان شجاعا خطيبا بويع بالخلافة بعد وفاة يزيد بن معاوية، ودانت له أكثر البلاد الإسلامية، إلا أن الأمويين وجَّهوا إليه الحجاج فقضى على سلطانه، مات قتيلا بيد جند الحجاج في سنة (73 هـ).

كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ قال: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم. قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، أكان ذلك يجزىء عنه؟ قال: نعم. قال: فاحجج عنه" (¬1). 4 - عن ابن عباس: أن النبى -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: "حجَّ عن نفسك، ثم عن شبرمة". وفي رواية: "هذه عنك، ثم عن شبرمة" (¬2). ومنها الأحاديث الدالة على صحّة صوم الولي عن ميت عليه صيام من رمضان أو نذر، فمن هذه الأحاديث: 5 - حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬3). 6 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أنَّ امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرا، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها (إمَّا أختها أو ابنتها) إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: "أرأيت لو كان عليها دين، كنت تقضينه؟ قالت: نعم. قال: فَدَيْن الله أحقّ أن يقضى، فاقض عن أمك" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد والنسائي. (¬2) رواه أبو داود وابن ماجه، قال البيهقي: إسناده صحيح، وروي موقوفا، ورجّح ابن القطان رفعه، وقال الطحاوي: الصحيح أن موقوف وقال ابن حجر بعد أن ذكر الحديث ومخرجيه والكلام فيه "فيجتمع من هذا صحة الحديث"، انظر تلخيص الحبير لابن حجر (2/ 223 - 224). (¬3) متفق عليه (مشكاة المصابيح 1/ 633). (¬4) رواه السبعة.

موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم

7 - حديث ابن عباس أيضا، أنَّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن أمي ماتت وعيها نذر؟ فقال: اقضه عنها" (¬1). موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم: أولا: تضعيف هذه النصوص: قالوا يدلّ على ضعفها اضطرابها، ففي بعض الروايات أن الذي سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- رجل، وفي رواية امرأة، وفي رواية أنَّ المسؤول عن الصيام عنه أب، وفي رواية أم، وفي رواية أخت، والمسؤول فيه في رواية حجّ، وفي أخرى صوم (¬2). وحسبنا في الردِّ عليهم أن هذه التي قالوا: إنها مضطربة، اتفق على إخراجها البخاري ومسلم. وقد حقَّق العلماء، أنَّ هذا الاضطراب غير قادح، لأنّه من باب اختلاف الوقائع، بل فى بعض الروايات توضيح لذلك، كتلك الرواية التي أخرجها مسلم، وقد سألت المرأة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الحجّ عن أمها، والصيام عنها. ثم توجد نصوص من تلك الأحاديث لا اضطراب فيها. وضعفوها أيضا من جهة مخالفة الرواة لها "عائشة وابن عباس" بفتواهما، وهذا غير قادح، لأن الحجَّة بما رواياه. ثانيا: جعل الشاطبي عدم أخذ العلماء بهذه الأحاديث أو ببعضها دليلا على ضعف الأخذ بها في النظر، ومما ضعّفها في نظره، أنها تدلّ على جواز النيابة في الحجّ، والحجّ يشتمل على ركعتي الطواف، وقد أجمع العلماء على عدم جواز ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) الموافقات (2/ 74).

النيابة في الصلاة (¬1). وهذا الذي ذكره لا يوجب ضعف هذه الأحاديث، إذ ليس مما يضعّف الحديث عدم أخذ العلماء به كما هو مقرر في علم أصول الحديث، والصلاة في الحج "ركعتا الطواف" إنّما جازتا على وجه التبعية، إذ هما تابعتان ولم يقصدهما مؤديهما على أنهما صلاة مستقلة عن الحج. ثالثا: قالوا هي خاصة بالمأذون لهم بالنيابة: فقد ذكر ابن عبد البر أن حديث الخثعمية التي أذن لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحج عن أبيها، محمول عند مالك وأصحابه على الخصوصية (¬2)، واستدلوا على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- للسائل: "حجّ عنه، وليس لأحد بعده" (¬3). ويجاب عن ذلك بأمور: 1 - أن الخصوصية لا تثبت بغير دليل، فقد دل صريح لفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- باختصاص أبي بُردة بن نيار (¬4) بجواز التضحية بعناق دون غيره، حيث قال له: "لا تجزىء عن أحد بعدك" (¬5). وكما خصّ خزيمة (¬6) دون غيره بكون شهادته بشهادة رجلين (¬7). 2 - وكيف تتمّ دعوى الخصوصية، وقد صح في بقية الأحاديث إذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لغيرها في الصوم عن الأب أو الأم أو الحج عنهما؟ كما أذن ¬

_ (¬1) الموافقات (2/ 74). (¬2) تفسير القرطبي (4/ 152). (¬3) ضعَّف ابن حجر هذه الرواية في فتح الباري (4/ 69). (¬4) اسمه هانىء، وقيل الحارث بن عمرو، وقيل مالك بن هبيرة، خال البراء بن عازب، صحابي توفي عام (41 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 12/ 19)، (الكاشف 3/ 312). (¬5) رواه البخاري ومسلم وأبو داود (تلخيص الحبير 4/ 139). (¬6) هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، صحابي جليل، من أشراف الأوس في الجاهية والإسلام، له في الصحيحين (38) حديثا، قتل بصفين سنة (37 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 3/ 140)، (خلاصة تذهيب الفساد الكمال 1/ 289)، (الكاشف 1/ 279). (¬7) البخاري في صحيحه، انظر فتح الباري (6/ 22).

لأبي رزين العقيلي (¬1). 3 - والرواية التي أوردوها دالة على الخصوصية ضعيفة كما حقق ذلك ابن حجر (¬2). رابعا: ومنهم من تأول هذه الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا: وذلك أنّه قال: سبيل الأنبياء -صلوات الله عليهم- ألا يمنعوا أحدا من فعل الخير، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه، من جهة كونه خيرا، لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه، هكذا قال الشاطبي، وذكر قريبا منه ابن العربي، والقرطبي (¬3). وهذا الذي قالوه كلام بعيد فكيف يُظنّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقر السائلين على خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجّوا، وصوموا، ويجزىء ذلك عن من فعلتموه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك. هذا ما لا يكون أبدا، ولا يظنّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وغفر الله لهم مقالتهم هذه. خامسا: حملوا بعض هذه الأحاديث محملا بعيدا، فقالوا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صام عنه وليه" محمول على ما تصحّ النيابة فيه، وهو الصدقة مجازا، لأنَّ القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره، وذلك في الصيام: الِإطعام، وفي الحج: النفقة عمّن يحج عنه، أو ما أشبه ذلك (¬4). وهذا حمل بعيد، يدل على ضعفه إذنه -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث ¬

_ (¬1) انظر الأحاديث الدالة على جواز النيابة التي سقناها. (¬2) فتح الباري (4/ 69). (¬3) الموافقات (2/ 174)، تفسير القرطبي (4/ 152)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 287، 288). (¬4) الموافقات (2/ 175).

الأخرى بالحجّ والصيام، وبقوله للملبّي عن شبرمة: "حجّ عن نفسك أولا، ثم حج عن شبرمة". السادس: ردّوا هذه الأحاديث بدعوى أنها مخالفة لظاهر القرآن: يقول القرطبي: "رأي مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن، فرجَّح ظاهر القرآن"، وقد رجَّح القرطبي ظاهر القرآن لأمرين، قال: "ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أنّ القول المذكور قول امرأة ظنَّت ظنًّا"، ثم أورد إشكالا على ما ذهب إليه، ولم يستطع الرد عليه ردًّا مجزئا، فقال: "لا يقال: قد أجابها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن سؤالها، ولو كان غلطا لبيَّنه لها، لأنَّا نقول: إنما أجابها عن قولها: أفأحجّ عنه؟ قال: حجيّ عنه (¬1) ". فأين الجواب عن الإشكال الذي أورده؟ ولقد صدق ابن حجر وبرَّ حسين قال معقبا على ما ذكره القرطبي: "وتعقّب بأن في تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- لها على ذلك حجة ظاهرة" (¬2). وما ذكره القرطبي ذكره الشاطبي بأجلى من عبارة القرطبي، قال: "هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أنّ خبر الواحد لا يعمل به إلاّ إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة". ثم بين أنَّ هذا الجواب عن الأحاديث هو الجواب القوي المرضيّ، فقال: "وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن" (¬3). وفي الردّ نقول: إن هذا الذي ردّوا به الأحاديث ليس بحسن، فإن ما قالوه لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق، وفي حال إمكان التوفيق بين النصوص فلا يعدل عنه، وقد أمكن هنا كما سيأتي بيانه قريبا. ¬

_ (¬1) فتح الباري (4/ 70). (¬2) الموافقات (2/ 175). (¬3) الموافقات (2/ 175).

موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا

موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا: عرضنا موقف المانعين من النيابة تجاه النصوص الدالّة على جواز النيابة، فما موقف غيرهم من العلماء؟. جماهير العلماء كما ذكرنا في مقدمة هذا الفصل احتجّوا على جواز النيابة في الحجّ بالأحاديث الأربعة الأولى (¬1)، فقد أذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها للخثعمية، وللخثعمي، ولأبي رزين العقيلي، بالحجّ عن آبائهم. وأقرّ ذلك الملبي عن شبرمة بالحجِّ عنه، وإنما اعترض عليه في أمر آخر، وهو أن عليه أن يحج عن نفسه أولا، ثم ليحجَّ بعد ذلك عن شبرمة، ومما يستأنس به أنه -صلى الله عليه وسلم- أذن للولي أن ينوي عن الصغير في الحجّ (¬2). والشافعي ومن معه أجازوا أن يحجّ المرء نيابة عن غيره، ولكنه منع النيابة في الصوم مطلقا، وعندما قيل له: لم فرّقت بين الصوم والحج؟ قال: "قد فرّق الله بينهما، فإن قال: أنى؟ قلت: فرض الله الحجّ على من وجد إليه سبيلا، وسنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقضى عمَّن يحج، ولم يجعل الله ورسوله من الحج بدلا غير الحج". وفرض تعالى الصوم، فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬3)، فقيل: يطيقونه: كانوا يطيقونه، ثم عجزوا عنه، فعليهم في كل يوم طعام مسكين (¬4) ". وبهذا فرّق بين الصلاة والحج فقال: ¬

_ (¬1) من أدلة المجيزين مطلقا. (¬2) رواه مسلم عن ابن عباس أن امرأة رفعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- صبيًا قائلة ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر". انظر شرح النووي على مسلم (9/ 99). (¬3) سورة البقرة / 184. (¬4) اختلاف الحديث، انظر هامش الأم (2/ 89).

"وأمر بالصلاة، وسنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا تقضي الحائض، ولا يقضى عنها ما تركت من الصلاة، وقال عوام المفتين: ولا المغلوب على عقله، ولم يجعلوا في ترك الصلاة كفارة، ولم يذكر في ذلك كتاب ولا سنّة عن صلاة كفّارة من صدقة، ولا أن يقوم به أحد عن أحد، وكان عمل كلّ امرىء لنفسه، وكان الصوم والصلاة عمل المرء لنفسه لا يعمله غيره، وكان يعمل الحج عن الرجل اتباعا للسنّة وبخلافه الصوم والصّلاة" (¬1). ثم ذكر فرقا آخر بين الحجّ والصوم والصلاة، وهو أنَّ الحجّ "فيه نفقة من المال، وليس ذلك في الصوم والصلاة" (¬2). ومع هذا الفرق الذي ذكره الشافعي إلَّا أن النصوص الدالَّة على جواز النيابة في الصوم لا تزال قائمة تلزمه بأن يقول بمقتضاها، لكنه لا يرى صحتها، وقد بين ضعفها في أكثر من موضع في كتبه، قال الشافعي: "فإن قيل: أفروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر أحدا أن يصوم عن أحد؟ قيل نعم. روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن قيل: لم لم تأخذ به؟ قيل: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم "نذر نذرا"، ولم يسمّه، مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس. فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديثه أشبه ألا يكون محفوظا. فإن قيل: أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن ابن عباس؟ قيل: ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث، هامش كتاب الأم (2/ 89). (¬2) المصدر السابق. والشافعي -رحمه الله- يجيب هنا عن الذين قاسوا الصوم والصلاة على الحج بحجة أن ذلك كله دين الله ثابت بن الذمة فيشمله قوله صلي الله عليه وسلم: "فدين الله أحق بالقضاء". وقد وضّح هذه المسألة الغزالي في شفاء الغليل (ص 45)، فبيّن أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- شبه الحج بدين عرف من جهة الشرع تطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أيضا أن الحج تتطرق النية إلى أدائه، وعرف أن الصلاة والصوم لا مدخل للنيابة في تبرئة الذمة عنهما، ثم قال: "فالأدلة المعرفة للجمع والفرق في النيابة تخصص العلّة بالحج، وتقطع عنه الصوم والصلاة".

نعم، روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير: إن الزبير حلَّ من متعة الحج، فروي هذا عن ابن عباس أنَّها متعة النساء، وهذا غلط فاحش" (¬1). وقد ساق البيهقي كلام الشافعي، ثم قال (¬2): "يعني به -أي الحديث الذي ضعفه- حديث الشافعي عن مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: "أن سعد بن عبادة (¬3) استفتى ... " الحديث؛ قال البيهقي: وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية مالك وغيره عن الزهري، إلاّ أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس "أنَّ امرأة سألت" يعني عن صوم أمها، وكذلك رواية الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل (¬4) عن مجاهد عن ابن عباس" (¬5). وقد تكلم البيهقي عن هذه الأحاديث الدالّة على جواز صوم الولي عن الميت في "معرفة السنن والآثار"، وبيَّن قوة هذه الأحاديث، واختتم كلامه قائلا: "وقد أودعها صاحبا الصحيحين كتابيهما، ولو وقف الشافعي على جميع طرقها ونظائرها لم يخالفها إن شاء الله تعالى" (¬6). وقال النووي بعد نقله كلام البيهقي، وبعد جزمه بصحة الأحاديث الدالّة على جواز النيابة في الصوم، قال: "ويتعيّن أن يكون هذا -جواز النيابة في الصوم- مذهب الشافعي، لأنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واتركوا قولي المخالف له". ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث انظر هامش الأم (2/ 89). (¬2) المجموع (6/ 426). (¬3) هو سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي، صحابي جليل، سيّد الخزرج، شهد بيعة العقبة الثانية، وكان أحد النقبَاء الاثني عشر، توفي عام (14 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 3/ 475)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 369)، (الكاشف 1/ 352). (¬4) سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي تابعي ثقة، سمع من زيد بن أرقم، وابن عمر توفي سنة (121 هـ). راجع: (تقريب التهذيب 1/ 318)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 405)، (الكاشف 1/ 386). (¬5) المجموع (6/ 426). (¬6) المصدر السابق.

ثم قال معتذرا للشافعي في تضعيفه للحديث: "وقد صحت في المسألة أحاديث، والشافعي إنما وقف على حديث ابن عباس من بعض طرقه، ولو وقف على جميع طرقه، وعلى حديث يزيد، وحديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخالف ذلك (¬1) ". أما الإِمام أحمد ومن ذهب مذهبه من الذين قالوا بجواز النيابة في صوم النذر خاصة فحجتهم: أولا: أنَّ المسائلة في "الحديث الخامس" (¬2) حديث ابن عباس قد صرَّحت أنَّ أنَّها نذرت أن تصوم شهرا، ثم توفيت قبل أن تفي بنذرها (¬3). ثانيا: حملوا حديث عائشة "الحديث الرابع" "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" (¬4) على صوم النذر، لأنَّه قد ورد النهي في حديث ابن عباس من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أن يصلي أحد عن أحد، أو يصوم أحد عن أحد (¬5)، وقالوا: وفقنا بين هذين النصين بحمل النهي على النيابة في صوم الفرض، وحملنا الإذن في النيابة على صوم النذر. ثالثا: قالوا هذا الذي صرنا إليه هو الذى أفتى به رواة هذه الأحاديث، فعائشة التي روت "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، وابن عباس الذي روى افتاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمرأة بأن تصوم عن أمّها، لم يفهما من هذه النصوص جواز النيابة في صوم الفرض، فقد أخرج الطحاوي عن عَمْرة أن أمّها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: "بل تصدقي عنها مكان كلّ يوم نصف صاع على كل مسكين" (¬6). ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 426). (¬2) من أدلة المجيزين مطلقا. (¬3) سبق تخريجه قريبا. (¬4) سبق تخريجه قريبا. (¬5) سبق تخريجه قريبا. (¬6) أخرجه الطحاوي، وابن حزم في المحلى (7/ 4)، واللفظ له بإسناد صحيح كما قال ابن التركماني.

وابن عباس أفتى: "إذا مرض الرجل ثم مات ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضي عنه" (¬1). قالوا: فرواة الأحاديث لم يفهموا منها جواز النيابة في صوم الفرض، وقد تقرّر عند علماء الشريعة، أن راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيما إذا كان ما فهم هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا، خاصّة إذا كان الراوي من كبار فقهاء الصحابة مثل أمّ المؤمنين عائشة، وحبر هذه الأمة ابن عباس. رابعا: قالوا وفي هذا الذي صرنا إليه رفع للإشكال الذي شَّبه حديث عائشة، فما صرنا إليه فيه إعمال للقاعدة القاضية بأن الفرائض لا تقبل النيابة، وإعمال للنصوص المجيزة للصوم عن الولي. خامسا: وقد قوى ابن القيم مذهب الحنابلة، وقال: "وهو مقتضى الدليل والقياس" ثم أخذ يبين وجه ذلك: "لأن النَّذر ليس واجبا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّين الذي استدانه، ولهذا شبَّهه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالدّين في حديث ابن عباس، والمسؤول عنه فيه: أنَّه كان صوم نذر". وتابع استدلاله قائلا: "والدين تدخله النيابة، وأمَّا الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإسلام، فلا تدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خلق لها، وأمر بها، وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره، كما لا يسلم عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره". ثم أخذ يبين أنَّ النذر أخف حكما من الفرض وبذلك يفارقه: "وسر الفرق: أنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر عند ابن حزم في المحلى (7/ 7).

النذر التزام المكلَّف لما شغل به ذمته، لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكما مما جعله الشارع حقًّا له عليه، شاء أم أبى، والذّمة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلف بما لا قدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرع فإنَّها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز"، إلى أن قال: " .. فلا يلزم من دخول النيابة في واجب النذر بعد الموت، دخولها في واجب الشرع" (¬1). أما الذين قالوا بأنّه لا ينوب أحد عن أحد في حجّ ولا صوم إلا الابن عن أبيه فقد احتجوا بأن السائل في غالب الأحاديث ولد، وحملوا بقيّة الأحاديث على الولد، لأن النصوص من أمثال قوله: {وَأَنْ لَيْسَ للإنسانِ إلاّ مَا سَعَى} مانعة من النيابة، قالوا: ولا تعارض بين الآية ونيابة الابن، لأنَّ الابن من سعي أبيه كما صحَّ الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه" (¬2). ويشكل على ما قرروه حديث شُبرمة الملبي في الحج عن أخيه، وحديث عائشة الذي فيه "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، فإنه أطلقه ولم يقيده بالولد، وفي حديث السائلة عن النذر قيل: المسؤول عن الصوم عنها كانت أختها كما في إحدى الروايات. وفي حديث الصدقة تحمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الزكاة عن عمه. ولذا وصف ابن حجر القائلين بقصر النيابة على الولد بالجمود. ¬

_ (¬1) تهذيب السنن (3/ 282). (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي، وهذا اللفظ للدارمي وأبي داود، ولفظ الرواية الأخرى: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" (انظر مشكاة المصابيح 2/ 75).

تحرير محل النزاع

تحرير محلّ النزاع بعد أن عرضنا مذاهب العلماء في النيابة وأدلتهم وما ورد عليها من مناقشات يجدر بنا أن نحرر محلَّ النزاع فنقول: ليس كلّ العبادات موضع خلاف، ولا كل الأشخاص تجوز نيابتهم عن غيرهم، ولذا سأبين العبادات التي اتفق العلماء على أنّه لا مجال للنيابة فيها، ثم الذين لا تجوز النيابة عهم باتفاق. أولا: عبادات لا مجال للنيابة فيها: أ- العبادات القلبيّة كإيمان القلب وإسلامه، وحبّه ورجائه ... فقد اتفق العلماء على أنّه لا مجال للنيابة فيها، ولم يذكروا خلافا في ذلك، بل لا يتصور الخلاف. ب- العبادات الشبيهة بالعاديّات كالوضوء والغسل والتيمم، وما ذكره بعض الفقهاء من وجوب النية في غسل الميّت فليس هو من باب النيابة، لأن الميت هنا غير مكلف غسل نفسه، وإنَّما هو فعل أمر به الأحياء للأموات، فينوي قصد الفعل الذي أمر به، وكذلك ما ذكروه من غسل الزوج زوجته المجنونة إذا طهرت من حيضها ونفاسها، وغسله للزوجة الذمية إذا طهرت في حيضها ونفاسا قهرا إذا امتنعت فلا يدخل في هذا الباب، لأنَّ المجنونة والذمَّية لو اغتسلتا بنفسيهما صحّ مع أنَّهما ليستا من أهل النية، فالقول بوجوب غسلهما أو اغتسالهما إنّما هو لمجرد التطهر. وكذلك ما ذكروه من أنّ الشخص قد يوضىء غيره أو ييممه أو يغسله، والمتوضىء والمتيمم والمغتسل من أهل النية، كمن وضّأ مريضا أو يمم أقطعا، ليس من باب النيابة، لأن هذا الموضىء والمغسل والميمم بمثابة الآلة، فمثله كمثل جهاز من الأجهزة الحديثة يقوم بغسل الإنسان أو توضئته، وكمثل جنب

ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم

أمطرت السماء فوقف صامدا تحت المطر ينوي الغسل من الجنابة، فالنيّة هنا على المتوضىء والمغتسل والمتيمم، لا على من فعل ذلك به، وهذا واضح، وغفل من قال بأن النية على الموضىء. جـ نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل الصلاة (¬1)، ولا يعتدُّ بمخالفة الظاهرية في تجويزهم النيابة في الصلاة المنذورة خاصة لمخالفته للإجماع، وممن نصَّ على أنَّ الصلاة المنذورة لا تقضى عن الميت الشافعي في اختلاف علوم الحديث (¬2). ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم: أ- لا تجوز النيابة عن الأحياء القادرين على الفعل، فلا يجوز أن ينيب حيّ قادر غيره ليحج عنه أو يصوم عنه، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على عدم جواز النيابة عن القادر في حج واجب (¬3). ب- ولا يجوز أن ينيب الحيُّ غير القادر أحدا عنه إلاّ في الحجّ، أما الذي لا يستطيع الصوم فيطعم عن كلّ يوم مسكينا، والخلاف في الحيّ غير القادر في الحج، إذا كان غير مستطيع بنفسه، ولكنه مستطيع بغيره. جـ ولا تجوز النيابة عن ميّت لم يفرّط ولم يقصّر، فمذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور أن من كان عليه صوم، ولم يتمكن من قضائه حتى مات بسبب سفر أو مرض أو غيرهما من الأعذار-فهذا لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم عنه، قال العبدري: وهو قول كافة العلماء إلاّ طاووسًا وقتادة، فقالا: يجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكينا، لأنَّه عاجز فأشبه الشيخ الهرم (¬4). ¬

_ (¬1) فتح الباري (4/ 69). (¬2) اختلاف علوم الحديث / هامش الأم (2/ 89). (¬3) فتح الباري (4/ 66). (¬4) المجموع للنووي (6/ 431).

الرأي الراجح

د- ولا تجوز النيابة عن شخص كان متعمدا لترك العبادة، يقول ابن القيم: "من ترك الحجّ عمدا حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات- فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما عنه بعد الموت لا يبرىء ذمته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يتبع" (¬1). وقال في موضع آخر: "ولا يحجّ عن أحدٍ إلاّ إذا كان معذورا بالتأخير كما يطعم الوليّ عمن أفطر في رمضان لعذر". "فأما المفرِّط في غير عذر أصلا فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانا دون الولي" (¬2). وبهذا يتحرر محلّ النزاع، فالنزاع بين العلماء في النيابة في العبادات في عبادتين. الأولى: في الصوم عن الميت الذي عليه صوم نذر، أو صوم من رمضان، كان يمكنه قضاؤه، ثم توفّى في أن يقضيه. الثانية: في الحجّ في حالتين: في ميّت لم يحجّ ولم يكن متعمدا للترك، ولكنَّه كان يسوّف ويؤجّل فوافاه الأجل. وفي حيّ غير قادر على الحج بنفسه، ولكنّه قادر بغيره، بأن ينفق على من يحجّ عنه من ماله، أو يجد من يطيعه من ولد أو قريب إذا أمره بالحجّ عنه. الرأي الراجح: وما ذهب إليه الجمهور من جواز النيابة في الحجّ في الحالتين المذكورتين هو الرأي الراجح الذي تشهد له الأدلّة كما بينا، ونرى أنّه تجوز النيابة فيه من الولد ومن غير الولد خلافا لمن قيَّده بذلك. ¬

_ (¬1) تهذيب السنن (3/ 282). (¬2) إعلام الموقعين (4/ 482).

ومذهب الإمام الشافعي في عدم جواز النيابة في صوم الفريضة مذهب قوي، إلا أننا نرجّح مذهب الحنابلة في جواز النيابة في صوم النذر، لصحة الأحاديث في ذلك، على أن يكون النائب وليا: ولدا أو أبا، أما غير الولي فلا للحديث: "مَنْ مات وعليه صوم صام عنه وليه". ونستطيع القول بأنَّ العبادات البدنية التي لا مدخل للمال فيها لا تجوز النيابة فيها مطلقا، وهي الوضوء، والغسل، والتيمم، والصلاة، والصوم غير المنذور. والعبادات المالية تجوز فيها النيابة مطلقا، ولذلك أقر صلى الله عليه وسلم بل حبَّب قضاء الدين عن الميت، فعن سلمة بن الأكوع "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بجنازة، فقالوا: صلِّ عليه. قال: هل ترك شيئًا؟ قالوا: لا. قال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلّوا على صاحبكم، قال رجل من الأنصار يقال له أبو قتادة: صلّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه" (¬1). وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- نحو من حديث سلمة بن الأكوع، وفيه: "أرأيت إن قضيت عنه، أتصلي عليه؟ قال: إن قضيت عنه بالوفاء- صلّيت عليه، قال: فذهب أبو قتادة فقضى عنه، فقال: أوفيت ما عليه؟ قال: نعم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه" (¬2). ويدلّ على ذلك ما سيأتي من جواز الصدقة عن الميت. أما العبادات التي فيها مدخل للمال كالحجّ، فالراجح دخول النيابة فيها، لأجل ذلك. وبناء على هذا الأصل: جاز للولي أن يقوم بتفريق زكاة مال التيم، وزكاة مال المحجور عليه لجنون أو سفه، وجاز أن يفوض الرجل غيره في التصرف في ماله بما في ذلك إخراج الزكاة عنه. أما توكيل صاحب المال شخصا ما بتفريق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه. (¬2) رواه أحمد والسياق له (مشكاة المصابيح 2/ 110)، (5/ 297، 301، 302، 304، 311)، وأخرجه الترمذي والنسائي والدارمي (انظر أحكام الجنائز ص 85).

زكاة فليس من باب النيابة، لأن الموكَّل -بالفتح- بمثابة الآلة، أشبه ما لو أرسل المال إلى الفقراء بالبريد أو بواسطة المصرف (البنك). ويلزم -بناء على ذلك- جواز تحمل شخص ما الزكاة عن غيره، وهذا ما دل عليه حديث أبي هريرة -ضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد (¬1)، وعباس (¬2) عمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلاَّ أنه كان فقيرا، فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، وأما العباس فهي عليَّ ومثلها معها، ثم قال: أما شعرت يا عمر أن عمّ الرجل صنو أبيه" (¬3). فالرسول -صلى الله عليه وسلم- تحمَّل زكاة عمه العباس. وقد حاول بعضهم ردّ الحديث بحمله على الصدقة المستحبة، وهذا بعيد كما يقول النووي (¬4)، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما كان يبعث عمالا إلا في زكاة المال، وما كان هؤلاء ليلاموا لو منعوا الصدقة المستحبّة. وصرف بعضهم الحديث عن وجهه زاعما أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قصد بقوله: "فهي علي ومثلها": أننا تسلّفنا من العباس زكاة سنتين، قالوا: يشهد لذلك ما ورد أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا كنَّا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين" (¬5). ¬

_ (¬1) هو خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، سيف الله، الفاتح الكبير، كان من أشراف قريش في الجاهلية، وأصبح في الإسلام قائد الجيوش، الذي لا تنكّس له راية، ولا تثبت أمامه قوة. توفي في عام (21 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 3/ 124). (¬2) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حضر بيعة العقبة كافرا، هاجر قبل الفتح بقليل، كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجلّه ويوقره، توفي عام (32 هـ). راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 35)، (الكاشف 2/ 66). (¬3) رواه البخاري ومسلم وأحمد (مشكاة المصابيح 2/ 560)، وليس في رواية البخاري ذكر عمر ولا ما قيل له. (¬4) شرح مسلم (7/ 56، 57). (¬5) رواه أبو داود الطيالسي ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا. قاله ابن حجر (تلخيص الحبير 2/ 163).

وفي حديث: "أن العباس سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخص له" (¬1). والجواب أنَّ في هذه الأحاديث ضعفا، وعلى القول بصحتها لا يلزم من ذلك أن يحمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "فهي عليّ" أي تسلفتها منه، فهو حمل بعيد، وما فائدة التعليل بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أما شعرت يا عمر أن عمَّ الرجل صنو أبيه"، أليس فيه تعليل للسبب الذي دعاه لأن يتحمل عنه زكاته، وإلا ما فائدة هذا التعليل إذا كان مراده بالتحمل التسلف؟ فعلى القول بصحّة التسلف هما حديثان مختلفان. ¬

_ (¬1) رواه أصحاب السنن وأحمد، وانظر الكلام على إسناده في (تلخيص الحبير 2/ 162).

إهداء ثواب العبادة للأموات

إهداء ثواب العبادة للأموات هذه المسألة شديدة الارتباط بالمسألة السابقة، بل إنَّ الفقهاء يعرضون هاتين المسألتين وكأنَّهما مسألة واحدة. والأقوال فيهما متقاربة: فالإمام مالك -رحمه الله تعالى- منع من إهداء الثواب مطلقا، وبذلك قالت المعتزلة (¬1). وذهب ابن تيمية إلى جواز إهداء ثواب ما يتعبد به المرء للميت مطلقا، أي سواء أكان صلاة، أم صياما، أم حجّا، أم قراءة قرآن (¬2)، وقد انتصر ابن القيم لشيخه في كتاب الروح، وأطال الاستدلال والاحتجاج لنصرة هذا المذهب. وأجاز الإمام أحمد وبعض الشافعية إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الأموات (¬3)، ومنع من ذلك الشافعي -رحمه الله تعالى- كما منعه مالك. ويرى بعض العلماء أنّ جواز الإهداء مقصور على الابن، فيجوز له أن يهدي لأمه وأبيه، ولا يجوز من غيره (¬4). حجج المانعين: احتج المانعون هنا بالحجج نفسها التي استدلَّ بها مانعو النيابة في العبادات، وقد سبق ذكرها. ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (4/ 99). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (26/ 16)، وقد نسب هذا القول إلى ابن تيمية محمد رشيد رضا في تفسير المنار (8/ 254، 270)، والألباني في أحكام الجنائز (ص 174). (¬3) نيل الأوطار (4/ 99). (¬4) انظر: نيل الأوطار (4/ 99)، تفسير المنار (8/ 254)، أحكام الجنائز (ص 174).

حجج المجيزين

حجج المجيزين: احتجّوا بالنصوص التي تدلّ على جواز النيابة والتي ذكرناها في المسألة السابقة وبنصوص أخرى منها: 1 - عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ رجلا قال: إن أمي افتلتت نفسها -ولم توص- وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدَّقت عنها؟ قال: نعم، فتصدق عنها" (¬1). 2 - عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن سعد بن عبادة توفيت أمّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عليها" (¬2). 3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رجلا قال للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- إن أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفّر عنه أن أتصدّق عنه؟ قال: نعم" (¬3). 4 - عن عبد الله بن عمرو (¬4): "أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، قال: حتى أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، وإن هشاما أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لو كان مسلما، فأعتقتم أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، ومسلم، ومالك في الموطأ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد (أحكام الجنائز ص 172). (¬2) أخرجه البخاري، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، والبيهقي، وأحمد والسياق له. (¬3) أخرجه مسلم، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقى، وأحمد (أحكام الجنائز ص 172). (¬4) هو عبد الله بن عمرو بن وائل السهمي، صحابي عابد، أسلم قبل أبيه، وأكثر من الرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- توفي عام (69 هـ). راجع: (تذكرة الحفاظ 1/ 11)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 83)، (طبقات الحفاظ ص 10)، (الإصابة 2/ 352)، (الكاشف 2/ 113).

ذلك، (وفي رواية): لو أقرَّ بالتوحيد فصمت وتصدَّقت عنه نفعه ذلك" (¬1). 5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاَّ من ثلاثة أشياء: إلاّ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (¬2). 6 - عن أبي قتادة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده" (¬3). 7 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما يلحق المؤمن عن عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورَّثه، أو من مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته" (¬4). واحتجوا بالنصوص الدالة على مشروعية الدعاء للأحياء والأموات: كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬5)، ومن الأحاديث: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكَّل، كلَّما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل" (¬6)، ومها: أنَّه قد شرع لنا الدعاء عند زيارة القبور، وفي الصلاة على الجنائز. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في آخر كتاب الوصايا، والبيهقي، والسياق له، وأحمد، والرواية الأخرى له وإسنادهم حسن (أحكام الجنائز ص 173). (¬2) أخرجه مسلم والسياق له، والبخاري في الأدب المفرد ص (8)، وأبو داود والنسائي وأحمد (أحكام الجنائز ص 176). (¬3) أخرجه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وابن عبد البر في جامع بيان العلم، وإسناده صحيح كما قال المنذري في الترهيب والترهيب (1/ 58). (¬4) أخرجه الترمذي، بإسناد حسن، ورواه ابن خزيمة في صحيحه. (¬5) سورة الحشر /10. (¬6) أخرجه مسلم والسياق له، وأبو داود، وأحمد من حديث أبي الدرداء.

النظر في هذه الأدلة

النظر في هذه الأدلة: هذه النصوص التي ساقوها لا تنهض للاستدلال على جواز إهداء الثواب إلى الميت في كل العبادات، بل إن بعضها ليس من باب الإهداء: أ- فالنصوص الدالّة على مشروعية الدعاء للأحياء والأموات لا مدخل لها في هذا الباب، فليست هي من إهداء الثواب، بل هي من باب شفاعة المسلم لغيره، يقول العزُّ بن عبد السلام: "الدعاء شفاعة جائزة من الأقارب والأجانب، وليست مستثناة من هذه -يقصد النصوص المانعة من وصول عمل المرء لغيره- لأن ثواب الدعاء للداعي، والمدعو به حاصل للمدعو له، فإنْ طلب له المغفرة والرحمة كانت المغفرة والرحمة مخصوصين بالمدعو له، وثواب الدعاء للداعي، ونظَّر ذلك بما لو شفع إنسان لفقير في كسوة أو في العفو عن زلة، كانت للشافع ثواب الشفاعة في العفو والكسوة، وكانت مصلحة العفو والكسوة للفقير" (¬1). ب- وأيضا النصوص الدالة على انتفاع المرء بأعماله الصالحة التي استمر وجودها وانتفاع الناس بها من بعده -لا تصلح للاحتجاج بها على هبة الثواب، لأنها من سعي الإنسان وعمله أو هي آثار عمله، يقول ابن كثير بعد أن ساق حديث "إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به" (¬2) يقول: "فهذه الثلاث في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" (¬3). والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (¬4) الآية. والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله، ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام (1/ 135). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سورة يس /12.

وثبت في الصحيح "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء" (¬1). ومن هذا الباب أيضا ما ورد في الحديث: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورَّثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها .. " (¬2). أما بقيّة النصوص الدالّة على الصدقة، فقد سبق القول بأن الأمور المالية تقبل النيابة عن الأحياء والأموات، وكذلك يصحّ إهداء ثوابها للأموات. وقد ذهب جمع من العلماء منهم الشوكاني ومحمد رشيد رضا (¬3) إلى أنَّ الصدقة التي تلحق الميت هي الصدقة الكائنة من الابن فحسب، لأنَّ الأحاديث الواردة في الصدقة عن الميت كلّها في ذلك. يقول الشوكاني: "وأحاديث الباب تدلّ على أنَّ الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصيّة منهما، ويصل إليهما ثوابها، فيخصّص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى: {وَأَنْ ليسَ لِلِإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} (¬4) ". ثم استدرك قائلا: "ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أنَّ ولد الإنسان من سعيه، فلا حاجة إلى دعوى التخصيص. وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها" (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (6/ 462). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) هو محمد محمد رشيد رضا الحسيني النسب، البغدادي الأصل، ولد بالقلمون من أعمال طرابلس (1283 هـ)، واستقر بالقاهرة، وتوفى بها عام (1354 هـ)، يعدُّ من رجال الإصلاح في هذا العصر، أصدر مجلة المنار، وفسَّر القرآن، وله كثير من المؤلفات. راجع: (الأعلام 6/ 359). (¬4) سورة النجم/ 39. (¬5) نيل الأوطار (4/ 99).

ويجاب عن ما ذكره من أن الصدقة المهداة الثواب التي تصل الميت مخصوصة بالولد بأمرين: الأول: بالإجماع، وقد نقل الإجماع النووي في شرحه على مسلم (¬1) وابن كثير في تفسيره، يقول ابن كثير: "أما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما" (¬2). الثاني: سبق أن ذكرنا حديثين صحيحين رغب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيهما في قضاء دين الميت، وقد قضى دينه عنه رجل من غير قرابته، وأقرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، بل أمره به (¬3)، فإذا نفعه قضاء الدَّين عنه، فإنَّ الصدقة كذلك، ولا فرق بينهما. وما ذكره ابن النحوي من الشافعية من أنه ينبغي أن يجزم بوصول ثواب قراءة القرآن للميت إذا أهديت له، لأنه دعاء (¬4)، غير صحيح، لأن القراءة ليست دعاء كلُّها، فالقرآن فيه الدعاء، والأخبار والقصص والأحكام، فكيف يقال القرآن دعاء فحسب، وقد ذكر ابن كثير أن الشافعي -رحمه الله تعالى- استنبط من قوله تعالى: {وَأنْ لَيْس لِلإنْسَان إِلا مَا سَعى} (¬5) "أنَّ قراءة القرآن لا يصل ثواب إهدائها إلى الموتى، لأنه ليس من كسبهم وعملهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة -رضي الله عنه-، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء" (¬6). ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (4/ 100). (¬2) تفسير ابن كثير (6/ 462). (¬3) سبق ذكر هذين الحديثين في المسألة السابقة. (¬4) نيل الأوطار (4/ 100). (¬5) سورة النجم / 39. (¬6) تفسير ابن كثير (6/ 462)، والحديث الذي يعترض به في هذا المجال (اقرؤوا على موتاكم يس) حديث ضعيف لا ينهض للاستدلال.

الفصل السادس ما يفتَقرِ إلى النِّيَّة وَمَا لاَ يفتَقِر إليَهَا

ما يفتقر إلى النية وما لا يفتقر إليها

مَا يفتَقِر إلى النِّيَّة وَمَا لاَ يفتقِر إليَهَا سنحاول أن نفصل القول في هذا الفصل في ما يفتقر إلى النيَّة من العبادات، وما لا يفتقر إليها، مع بيان مذاهب العلماء في ذلك. إزالة النجاسات إزالة النجاسات من البدن، أو الثوب أو المكان، لا تفتقر إلى نيّة، ولم يخالف في هذا إلا قليل من متأخري الحنابلة، والشافعية (¬1)، وقد نسب محققو المذهبين هؤلاء الذين أوجبوا النيّة في إزالة النجاسة إلى الشذوذ (¬2). وحجّة جمهور العلماء أن إزالة النجاسات من باب التروك، ولذا لا تلزمها النيّة. وكأن الذين أوجوا النيّة في إزالة النجاسات نظروا إلى أن الشارع قد أوجب عليهم التطهر من الخبث، كما أوجب عليهم التطهر من الحديث، فتكون من باب المأمورات التي لا تكفي صورتها في تحصيل مصلحتها، فتحتاج إلى النيَّة (¬3). والردّ عليهم أنَّ الطهارة من الحديث لا بدّ لها من النية، لأنَّها طهارة حكمية، أما النجاسات فإنها محسوسة، والمطلوب إزالة عينها، وإزالة عين النجاسة لا تتوقف ¬

_ (¬1) ممن خالف في هذا من الشافعية: ابن سريج وأبو سهل الصعلوكي، وقيل إن هذا لا يصح عن أبي سهل الصعلوكي. (راجع: المجموع (1/ 361)، والعيني على البخاري (1/ 32). وحكاه القرافي في الذخيرة (1/ 82)، قولا في مذهب الشافعية، وحكاه ابن تيمية قولا لمتأخري الشافعية والحنابلة. مجموع الفتاوى (18/ 257، 258). (¬2) من هؤلاء المحققين النووي في شرحه على مسلم قال "وأما إزالة النجاسة فالمشهور عندنا أنها لا تفتقر إلى نية، وشذَّ بعض أصحابنا فأوجبها وهو باطل". ومنهم ابن تيمية قال: "وهذا القول شاذ، فإن إزالة النجاسة لا يشترط فيها عمل العبد" مجموع الفتاوى (18/ 257). (¬3) الذخيرة (1/ 182).

الأحداث التي تنقض الطهارة

على النية، بل لا تتوقف على فعل من العبد، فلو نزل الماء على الأرض النجسة، أو على الثوب، أو لو طيرت الريح الثوب، وألقت به في البحر أو النهر، فإنه يطهر بذلك. وابن حزم وإن كان يرى أن النجاسة لا تفتقر في زوالها إلى النية، محتجا بالإجماع، إلاّ أنّه يوجب النية في تطهير النجاسة التي أمر الله بها على صفة معينة وبعدد محدود، فهذه لا تزول -عنده- إلاّ بالنية، وعلى تلك الصفة التي أمر الله بها، كنجاسة الكلب، فقد أمرنا بغسلها سبعا إحداها بالتراب، واحتجَّ لذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬1)، وما احتج به لا دليل فيه على وجوب النية لإزالة هذا النوع من النجاسة. الأحداث التي تنقض الطهارة الأحداث التي تنقض الطهارة تنقض بنفسها سواء قصدها أم لم يقصدها، حتى لو كانت بنسيان. ولم يخالف في هذا أحد من العلماء غير مالك في اللمس (¬2)، فهو يرى أنَّ اللامس لا ينتقض وضوؤه ما لم يكن قاصدا اللمس، وخالفه بقية العلماء الذين يرون أن اللمس ناقض للوضوء، فقالوا: هو ناقض بصورته. يقول ابن العربي رادّا على إمام مذهبه: "والذي يدّعي انضمام القصد إلى اللمس في اعتبار الحكم هو الذي يلزمه الدليل، فإن الله تعالى أنزل اللمس المفضي إلى خروج المذي بمنزلة التقاء الختانين المفضي إلى خروج المني" (¬3). ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (2/ 708)، المحلى (1/ 74). (¬2) أحكام القرآن (1/ 444). (¬3) المصدر السابق.

النية في الوضوء والغسل

النيّة في الوضوء والغسل (¬1) ذهب جماهير العلماء إلى إيجاب النيّة في الوضوء والغسل، ومن هؤلاء: الأئمة الثلاثة: الشافعي ومالك وأحمد، ومنهم: الليث وإسحق وابن المنذر، وداود الظاهري، وابن حزم، وأبو ثور (¬2)، وربيعة وغيرهم كثير (¬3). ولكثرة القائلين بإيجاب النية في الوضوء ظنَّ بعض الفقهاء أنَّ الأمر مجمع عليه، وليس كذلك، بل الخلاف فيه مشهور معروف، وممن خالف في ذلك أبو حنيفة وأصحابه: أبو يوسف، ومحمد، وزفر، وخالف الثوري والأوزاعي، والحسن بن حي (¬4). وحكى القرطبي أن كثيرا من الشافعية ذهبوا إلى هذا (¬5). وهو قول شاذّ في مذهب الحنابلة (¬6). وعند عامة الأحناف أن النية في الوضوء سنّة، إلا أن القدوري (¬7) منهم قال بأنّها مستحبة، وأنكر عليه ابن الهمام قوله، وقال: "لا سند للقدوري في الرواية ولا في ¬

_ (¬1) اعتمدت في هذه المسألة- كثيرا على ما كتبه ابن القيم في بدائع الفوائد، فقد أطال القول في هذه المسألة. (¬2) هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، البغدادي الفقيه، صاحب الشافعي، كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا. توفي عام (240 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 1/ 188)، (الكاشف1/ 80)، طبقات الحفاظ (ص 223). (¬3) بداية المجتهد (1/ 8)، المغني لابن قدامة (1/ 110)، المحلّى (1/ 74). (¬4) العيني على البخاري (1/ 30). (¬5) تفسير القرطبي (6/ 85). (¬6) الإنصاف (1/ 142). (¬7) هو أحمد بن محمد بن جعفر القدوري، فقيه حنفي ولد ومات في بغداد (362 - 428 هـ)، انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق، وصنّف المختصر المعروف باسمه (القدوري) في فقه الحنفية. راجع: (وفيات الأعيان 1/ 78)، (الأعلام 1/ 206).

أدلة القائلين بعدم الوجوب

الدراية في جعل النية مستحبّة غير سنّة، أما الرواية فنصوص المشايخ متضافرة على السنيَّة" (¬1). أدلة القائلين بعدم الوجوب استدل القائلون بعدم الوجوب بأدلة كثيرة، منها: 1 - أن الماء مطهر بطبعه: قالوا: "الماء مخلوق على صفات وطبيعة لا تحتاج في حصول أثرها إلى النية. فالماء خلق طهورا، ومرويا، ومبردا وسائلا، كلّ ذلك بطبعه ووصفه الذي جعله الله عليه، فكما أنّه لا يحتاج إلى النيّة في حصول الري والتبريد به، فكذلك في حصول التطهر به. ومما يزيد الأمر وضوحا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "خلق الماء طهورا" (¬2)، فهو صريح في أنه مخلوق على هذه الصفة، و "طهورا"، منصوب على الحال، أي خلق على هذه الحالة من كونه طهورا، وهي حال لازمة، فهي كقولهم: "خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها"، فهذه الصفة وهي الطهورية مخلوقة معه نويت أم لم تنو" (¬3). واستدلالهم بالحديث قريب من استدلالهم بالآية: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طهورًا} (¬4). 2 - أن المعتبر في الوضوء لا يتوقف على النَّية: وقالوا: المعتبر في الوضوء إما جريان الماء على الأعضاء، وهذا حاصل نوى أو لم ينو. ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن الهمام (1/ 21)، واعتبر الأحناف النية شرط صحة في الوضوء إذا كان المتوضأ به نبيذ التمر أو سؤر الحمار (غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر 1/ 23). (¬2) يقول الحافظ ابن حجر: لم أجده هكذا، وذكر له ألفاظا كثيرة كقوله: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"، وأطال في تخريجه (تلخيص الحبير 1/ 14). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 19)، حاشية ابن عابدين (1/ 79)، بدائع الفوائد (3/ 186). (¬4) سورة الفرقان/ 48.

3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه

وإما حصول الوضوء والنظافة، وهذا أيضا لا يتوقف حصوله على النية. وإما إزالة الحدث المتعلق بالأعضاء، وهذا أيضا لا ينبغي أن يتوقف على النية، لأنّ الخبث أقوى من الحدث، ولا يتوقف زواله على النيّة، بل بمجرد غسله، فكيف تزيل الأقوى بدون نيّة، ولا تزيل الأضعف! (¬1) 3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه: قسّمت الشريعة أعمال المكلفين إلى قسمين: قسم يحصل مقصوده والمراد منه بنفس وقوعه، فلا يعتبر في صحته نيَّة كأداء الديون، وردّ الأمانات والنفقات وإزالة النجاسات، وغير ذلك من مصالح هذه الأفعال التي تحصل بوجودها، ولا يتوقف ذلك على النية. والقسم الثاني: ما لا يحصل مراده ومقصوده منه بمجرده، بل لا يكفي فيه مجرد الصورة العارية عن النية، كالصلاة والصوم والحج ... الخ. وقد عدّ الأحناف الوضوء من القسم الأول، لأن المراد من الوضوء والغسل الوضاءة والنظافة وقيام العبد بين يدي الربّ -تبارك وتعالى- على أكمل أحواله مستور العورة، متجنبا للنجاسة، نظيف الأعضاء، وضيئها، وهذا حاصل بالإتيان بهذه الأفعال نواها أو لم ينوها. 4 - الوضوء وسيلة لغيره، والوسائل لا تلزمها النية: يرى الأحناف أنّ الوضوء مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوى، لأنه وسيلة لغيره، والنيّة إنّما تعتبر في المراد لنفسه، إذ هو المقصود المراد، ولهذا لا يلزم الذاهب إلى الحج، أو الساعي إلى الجمعة أن ينوي قطع المسافة، ولا يلزم من عليه عتق في كفّارة نيّة شراء العبد. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (3/ 186)، شرح العناية (1/ 21).

5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نية

يقول الكاساني: "إن اتصلت النيّة بالوضوء يقع عبادة، وإن لم تتصل به لا يقع عبادة، لكنّه يقع وسيلة إلى إقامة الصلاة كالسعي للجمعة" (¬1). 5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نيّة: قالوا: لو اعتبرت النية في الوضوء والغسل لاعتبرت في سائر شروط الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة. 6 - إطلاق النصوص: يقول الكاساني: "أمر القرآن بالغسل والمسح (أي في الوضوء) مطلقا عن شرط النية، ولا يجوز تقييد المطلق إلاّ بدليل، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال مطلقا عن شرط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال المطلق، وعنده "أي الشافعي" لا ينتهي إلاّ عند اغتسال مقرون بالنية وهذا خلاف الكتاب" (¬3). وقريب من استدلالهم هذا الاستدلال بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمّ سلمة (¬4): "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضي عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت" (¬5). واستدلوا بالأحاديث الكثيرة الآمرة بالوضوء والغسل من غير ذكر للنية، ولو وجبت لذكرت. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 19)، وانظر تفسير القرطبي (6/ 85)، وفتح الباري (1/ 148). (¬2) سورة النساء 43. (¬3) بدائع الصنائع 1/ 19. (¬4) هي هند بنت سهيل القرشية المخزومية أمّ المؤمنين، تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السنة الرابعة من الهجرة بعد أن توفي عنها زوجها أبو سلمة بن عبد الأسد- كانت من أكمل النساء عقلا وخلقا، توفيت عام (62 هـ)، بالمدينة المنورة. (¬5) رواه مسلم (مشكاة المصابيح 1/ 137).

7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة

وعندما استدلّ مخالفوهم بحديث: "إنَّما الأعمال بالنيات" وما في معناه على تقييد الآيات، لم يرتض الأحناف ذلك، لأنَّه نسخ عندهم، والسنّة الآحادية لا تنسخ الكتاب، يقول السرخسي: "ولنا آية الوضوء، ففيها تنصيص على الغسل والمسح، وذلك يتحقق بدون النيّة، فاشتراط النيّة يكون زيادة على النص، إذ ليس في اللفظ المنصوص عليه ما يدلّ على النيّة، والزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس" (¬1)، وممن ذهب هذا المذهب الجصاص (¬2). 7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة: وقالوا: إنّ دليل النية -وهو حديث "إنَّما الأعمال"- ظني الثبوت ظني الدلالة، وما كان كذلك فلا يثبت به إلا السنّة والاستحباب. يقول صاحب كشف الأسرار: "الأدلّة السمعية أنواع أربعة: قطعيّ الثبوت والدلالة كالنصوص المتواترة. وقطعي الثبوت، ظني الدلالة، كالآيات المؤولة. وظنّي الثبوت، قطعي الدلالة، كأخبار الآحاد التي مفهومها قطعي. وظنّي الثبوت والدلالة، كأخبار الآحاد التي مفهومها ظني" (¬3). ثم بين أنه بالأول يثبت الفرض. وبالثاني والثالث يثبت الوجوب. وبالرابع تثبت السنة والاستحباب، ليكون الحكم بقدر دليله" (¬4). ¬

_ (¬1) المبسوط (1/ 72، 73). (¬2) الفصول (2/ 470 - 471). (¬3) كشف الأسرار (1/ 83)، وراجع: البحر الرائق (1/ 291). (¬4) كشف الأسرار (1/ 83).

ثم قرّر أن قوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات" من القسم الرابع، لأنَّ معناه: "إما ثواب الأعمال، أو اعتبار الأعمال، فيكون مشترك الدلالة" (¬1). وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من دليل آخر يعيّن المراد، وقد بيّن الجصاص عدم صلاحية الحديث للاستدلال به على العموم فقال: "تعلق النيّة بالفعل على وجهين مختلفين: أَحدهما إثْبات فضيلة العمل، والآخر إثبات حكمه حتى إذا فقدت لم يكن له حكم أصلا، ومتى تعلقت به على وجه الفضيلة لم يؤثر عدمها في الحكم نحو غسل الثوب والبدن من النجاسة وغسل الجنابة والوضوء، متى نوى بذلك طهارة الصلاة كانت نية مثبتة له فضيلة، وكان مستحقا بها عليه الثواب، وفقدهما لا يضره في إثبات الحكم". ثم مثل للعبادات التي إذا تعلقت بها على جهة ثبوت الحكم كالصلاة والصوم، ثم قال: "فلمّا كان تعلّق النيّة بالفعل على هذين الوجهين، ولم يكن بأحد الوجهين أولى منها بالآخر، ولم بجز أن يراد به الوجهان جميعا مع ذلك، لاستحالة تعلقه بها على الوجهين جميعا في حال واحدة احتيج فيه إلى دلالة من غير اللفظ المراد به، ولم يكن من ادعى في قوله: "الأعمال بالنيات" إثبات حكم الأعمال بأولى ممن ادّعى فضيلة العمل" (¬2)، ثم قرّر أنه لا يصحّ الاحتجاج فيه بظاهر اللفظ حتى تقوم دلالة على المراد. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 83). (¬2) الفصول (2/ 477 - 478).

مناقشة الحجج التي أوردوها

مناقشة الحجج التي أوردوها 1 - حاول بعض الذين يخالفون الأحناف فيما ذهبوا إليه أن يمنع استدلالهم بالدليل الأول زاعما أنَّ الماء ليس مطهّرا بطبعه، لأن هذا مبني على إثبات القوى والطبائع في المخلوقات، وأهل الحق ينكرونه، وجواب هؤلاء فاسد، وهو باطل حسا وشرعا وعقلا، والقرآن والسنة مملوءان من إثبات الأسباب والقوى، والعقلاء قاطبة على إثباتها سوى طائفة من المتكلمين حملهم المبالغة في إثبات قول القدرية النفاة على إنكارها جملة. فما ذهب إليه الأحناف من أنَّ الماء مطهّر بطبعه على أنَّه منظِّف للمحل الذي نريد تطهيره، لا ينبغي أن يخالفوا فيه، والذي نخالفهم فيه، -وفيه النزاع- أنَّ الماء يفتتح به الصلاة، ويرفع المانع الذي جعله الشارع صادّا عن الدخول في الصلاة بطبعه من غير تقدم نيّة، فدعوى الأحناف هذه دعوة مجردة، لا يمكن تصحيحها البتة، بل هي بمثابة قول القائل: استعماله عبادة بمجرد طبعه محصل التعبد، والثواب به لا يحتاج إلى نيّة، وهذا بيّن البطلان. يوضّح المسألة أنَّ التبرد والري والتنظف حاصل بالماء ولو لم يرده، وأما التعبد لله بالوضوء فلا يحصل إلا بنية التعبد، فقياس أحد الأمرين على الآخر قياس فاسد، لذا فإن ابن الهمام من علماء الأحناف لم يرتض الاستدلال بهذا الدليل من قبل علماء المذهب، قال: "أما جعل الماء طهورا بنفسه مستفادا من قوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا} (¬1)، ومن قوله: {وليطَهِّرَكُمْ بِهِ} (¬2)، فلا يخفى ما فيه، إذ كون ¬

_ (¬1) سورة الفرقان / 48 والآية: {وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا}. (¬2) سورة الأنفال/ 11 والآية: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطَهِّركم بهِ}.

المقصود من إنزاله التطهير به، وتسميته طهورا، لا يفيد اعتباره مطهرا بنفسه، أي رافعا للأمر الشرعي بلا نيّة، بخلاف إزالة الخبث، لأنَّ ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه، ولا تلازم بين إزالته حسّا صفة محسوسة، وبين كونه يرتفع عند استعماله اعتبار شرعي، أعني الحدث، وقد حققنا في بحث الماء المستعمل أنَّ التطهير ليس من مفهوم (طهور)، والمفاد من (ليطهركم) كون المقصود من إنزاله التطهير به، وهذا يصدق مع اشتراط النيّة كما قال الشافعي: "وعدمه كما قلنا" (¬1). ثم ذكر أن مستنده في عدم إيجاب النيّة في الوضوء هو عدم الدليل على الإيجاب وسيأتي ما فيه. 2 - وأما دليلهم الثاني فالرد أننا نجزم بأنّ المراد بالوضوء والغسل رفع الحدث لا جريان الماء ولا الوضاءة، واستدلالهم على أنَّ الحدث يرتفع بقياس الأوْلى مردود، لأن رفع الخبث أمر حسيّ مشاهد لا يستدعي أن يكون رافعه من أهل العبادة، بل هو بمنزلة كنس الدار، وتنظيف الطرقات، وطرح المميتات، والخبائث، فزوال النجاسة لا يفتقر إلى فعل المكلف، بل لو أصابها المطر فأزال عينها طهر المحل بخلاف الطهارة من الحدث، فإن الله أمر بأفعال متميزة لا يكون المكلف مؤديا ما أمر به إلاّ بفعلها الاختياري الذي هو مناط التكليف. وقد سئل الإمام أحمد عن رجل توضّأ، فأصاب رأسه ماء السماء، فمسحه بيده، أيجزيه من مسحه برأسه؟ قال: إذا نوى أخشى أن لا يجزيه حتى ينوي. وسئل عن رجل جنب وقع في ماء: أيجزيه عن الجنابة؟ قال: إذا نوى. وسئل عمن اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ، أيجزيه؟ قال: إذا نوى الوضوء (¬2). وقد تعرّض ابن العربي -رحمه الله- للفرق بين طهارة الحدث والطهارة من ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 90). (¬2) مسائل الإمام أحمد (ص 6).

النجاسة فقال: "إزالة النجاسة معقولة المعنى، لأن الغرض منها إزالة العين، لكن بمزيل مخصوص، فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبّد؛ كالعدة جمعت بين براءة الرحم والتعبد، حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين تحقق براءة رحمهما قطعا، ولا سيما ومنها غرض ناجز: وهو النظافة فيستقل به، وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد التعبد، بدليل لو أنّه أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء، وخرج منه ريح بطل وضوؤه (¬1). 3 - وأما استدلالهم بأن الشريعة قسّمت الأفعال إلى قسمين: قسم يحصل مقصوده بمجرده من غير نيّة، وقسم لا يحصل إلاّ بالنيّة، فمسلّم، ولكن الذي لا نسلّمه لهم، وننازعهم فيه -كون الوضوء والغسل من القسم الأول، إذ هذه الدعوى هي محلّ النزاع فلا تقبل، وقولهم في تقريرها: إن القصد من الوضوء والغسل النظافة .... الخ. جوابه: أن لله على العبد عبوديتين: عبودية باطنة، وعبودية ظاهرة، فله على قلبه عبودية، وعلى لسانه وجوارحه عبودية، فقيامه بالعبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه، ولا يُوجب له الثواب وقبول عمله، فإنَّ المقصود امتحان القلوب، وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح، والنية هي عمل القلب الذي هو ملك الأعضاء والمقصود بالأمر والنهي، فكيف يسقط واجبه، ويعتبر واجب رعيته وجنده واتباعه الذين إنما شرعت واجباتهم لأجله، ولأجل صلاحه؟ وهل هذا إلاّ عكس القضية وقلب الحقيقة؟ والمقصود بالأعمال كلّها: ظاهرها وباطنها إنّما هو صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه، ومن تمام ذلك قيامه هو وجنده في حضرة معبوده وربه، فإذا بعث جنوده ورعيته وتغيّب هو عن الخدمة والعبودية فما أجدر تلك الخدمة بالرد والمقت! وهل ¬

_ (¬1) أحكام القرآن (4/ 1958).

الأعمال الخالية عن عمل القلب إلا بمنزلة حركات العابثين! وغايتها ألا يترتب عليها ثواب ولا عقاب. 4 - أما استدلالهم بأنّ الوضوء وسيلة للصلاة والنية لا تشترط في الوسائل .... الخ. فجوابه: أنّ الوضوء وإن كان وسيلة للصلاة إلاّ أنّه أيضا مقصود لذاته، وقد رتب الشارع عليه الأجر والثواب. وقد خرم الأحناف قاعدتهم هذه في التيمم إذ أوجبوا النيّة له، ولذا احتج عليهم مخالفوهم بقياس الوضوء على التيمم، وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند التعرض للنيّة في التيمم. 5 - وقولهم: "لو اعتبرت النية في الوضوء لاعتبرت في سائر شروط الصلاة" الخ، فالجواب أنَّ شروط الصلاة كاللباس والطهارة يقعان عبادة وغير عبادة، ولهذا لم يرد نصّ بثواب الإنسان على جنس اللباس والإزالة، وقد وردت النصوص بالثواب على جنس الوضوء كما سيأتي. 6 - وأمّا استدلالهم بالآيات الآمرة بالوضوء والغسل وأنها جاءت مطلقة ليس فيها الأمر بالنية، ولا يوجد في القرآن أمر بها ... الخ. فجوابه من وجوه: أولا: لا نوافقهم على أن الآية الآمرة بالوضوء لا تدلّ على النية، يقول ابن قدامة في آية الوضوء: "والآية حجة لنا، فإنَّ قوله: {إذَا قُمْتمْ إلَى الصلاَةِ فاغسلوا ... } (¬1). الآية، أي للصلاة، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل، أي له، وإذا رأيت الأسد فاحذر، أي منه" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة المائدة / 6. (¬2) المغني (1/ 110).

وبيّن القرطبي في تفسيره وجه احتجاج علماء المالكية وبعض الشافعية بآية الوضوء قال: فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل، لأن الفرض من قبل الله تعالى، فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به، فإذا قلنا: إن النيّة لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى. ومعلوم أنَّ من اغتسل تبردا، أو لغرض، ما قصد أداء الواجب، وصحَّ في الحديث أن الوضوء يكفر، فلو صحّ بغير نيّة لما كفّر (¬1). ونقل ابن العربي عن فخر الإسلام أن ضرورة اللغة تقضي أنّ الغسل المأمور به (في الآية) إنما هو لأجل الصلاة (¬2). وقد حقق ابن العربي القول في الآية فقال: قوله تعالى: {إِذَا قمتمْ إِلَى الصلاةِ ... }، لا يخلو من ستّة أقسام: الأوّل: ألّا يربط غسل الوجه وما بعده بشيء. الثاني: أن يربط بالقيام إلى الصلاة. الثالث: أن يربط بالحدث وبالصلاة. الرابع: أن يربط بالصلاة. الخامس: أن يربط بالكل. السادس: أن يربط ببعضه (¬3). ثم أخذ ينظر في كلّ واحد من هذه الستة ويبيّن مدى صلاحيته لذلك، فإن قيل: لا نربطه بشيء كان محالا لغة محالا بالإجماع، فإنَّه قد ربط بما ربط على الاختلاف فيه. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (6/ 84). (¬2) أحكام القرآن (ص 56). (¬3) أحكام القرآن (2/ 563).

وبين أن ربطه بالقيام إلى الصّلاة محال ضرورة، لأنَّه لا يمكن الجمع بينهما، ومحال معنى لأن نفس القيام لا يقصد بذلك من الوضوء، وإنَّما المعنى: إذا أردتم القيام ونفس الإرادة هي النيّة. وبيّن عدم صلاحية ربط الوضوء بالحدث، لأن الوضوء يجب بالحدث، لا من أجله إجماعا. فلم يبق إلا أنَّ الأمر بالغسل في الآية مرتبط بالصلاة، وقد صرح النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك في قوله: "لا يقبل الله صلاةً بغير طهور" (¬1)، وإذ أمر الله بالغسل للصلاة فلم ينو المكلف كذلك لم يمتثل ما أمر به. أما القول بأنّه يرتبط بالكلّ ففساده ظاهر (¬2). ثانيا: لا نسلّم أنّ القرآن لم يأمر بالنيّة، بل أمر بها، وقد استدلّ العلماء (¬3) الموجبون للنية في العبادات عامّة وفي الوضوء خاصّة بالآيات الآمرة بالإخلاص، كقوله: {فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَهُ الدينَ} (¬4). وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدينَ} (¬5). فالآيات تأمر بالِإخلاص في العبادة، وإخلاص الدِّين هو النيّة، ومن اغتسل للتبرّد أو التنظف لم يخلص الدّين لله. واستدلوا بمثل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه (انظر مشكاة المصابيح 1/ 100). (¬2) أحكام القرآن (2/ 563). (¬3) الذخيرة (1/ 235)، مجموع الفتاوى (26/ 31)، تفسير القرطبي (15/ 233). (¬4) سورة الزمر/ 2. (¬5) سورة البينة / 5. (¬6) سورة الشورى/ 20.

قالوا: ومن اغتسل للتبرّد والتنظّف لم يرد حرث الآخرة يقول ابن العربي عند هذه الآية: "هذه الآية تبطل قول أبي حنيفة أنه من توضأ تبردا يجزيه عن فريضة الوضوء الموظفة عليه في الآخرة، والتبرد من حرث الدنيا، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا تجزىء نيّة عنه بظاهر هذه الآية" (¬1). وقد يقال: إن هذه النية "الإخلاص" يراد بها قصد المعبود، وهي غير النيّة التي تبحثونها هنا، وهي نيّة قصد العبادة، فالجواب: أنَّ نيّة "الإخلاص" تشمل نيّة العبادة، إذ قصد المعبود يستلزم قصد العبادة التي يتقرب بها إلى الله. وقد اعترف بعض الأحناف بقوة هذا الدليل وذهب إلى العمل بمقتضاه، قال: "الحقُّ أن الدليل قائم على اعتبار النيّة في جميع العبادات، لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. والإخلاص هو النيّة وهو جعله بنفسه متلبسا بحال من أحوال العابدين" (¬2). واستدلّوا على ثبوت النية بالقرآن بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (¬3)، ومن هؤلاء محمد بن إسماعيل البخاري، قال في صحيحه: "باب ما جاء أنَّ الأعمال بالنيّة والحسبة ... "، وأورد قوله تعالى: {قلْ كُل يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، قال: على نيته" (¬4). وهذا التفسير وإن قال به البخاري -رحمه الله- والحسن البصري ومعاوية بن قرّة وغيرهم، فإنّه ليس نصّا في الموضوع، فقد فُسِّرت الشاكلة بالطريقة والناحية وهو قول أكثر العلماء (¬5)، وقيل (الشاكلة) الدين. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن (4/ 1655). (¬2) فتح القدير (1/ 30). (¬3) سورة الإسراء/ 84. (¬4) صحيح البخاري. انظر فتح الباري (1/ 135). (¬5) فتح الباري (1/ 135).

ثالثا: لم يأخذ الأحناف بحديث "إنَّما الأعمال بالنيات" بحجة أن الحديث يصبح ناسخا للآية في حال قبول الاحتجاج به، لأنّه يفيد حكما جديدا لم يرد في الآية، والزيادة على النصّ عندهم نسخ ... الخ. نقول في الجواب: لا نسلّم أنَّ الحديث تضمّن حكما لم تأت الآيات الآمرة بالوضوء والغسل به، وقد تبين لنا مما مضى أن الآيات تدل على النيّة. وإذا سلمنا لهم أن ما تضمنه الحديث فيه زيادة على ما نصّت الآيات عليه، فلا نسلم لهم أن الزيادة على النصّ نسخ، فمذهب الشافعية والمالكية والحنابلة أنَّ الزيادة على النصّ ليست نسخا، لأنَّ حقيقة النسخ لم توجد في الزيادة، ولأن حقيقة النسخ تبديل، ورفع لحكم الخطاب، والزيادة تقرير للحكم المشروع، وضمّ شيء آخر إليه. قال ابن قدامة: "ولنا أنّ النسخ هو رفع حكم الخطاب، وحكم الخطاب بالحدّ وجوبه وإجزاؤه عن نفسه، وهو باق وإنَّما انضمّ إليه الأمر بشيء آخر فوجب الإتيان به؛ فأشبه الأمر بالصيام بعد الصلاة، فأمّا صفة الكمال فليس هو حكما مقصودا شرعيا، بل المقصود الوجوب والإجزاء، وهما باقيان، ولهذا لو أوجب الشرع الصلاة فقط كانت كليّة ما أوجه الله وكماله، فإذا أوجب الصيام خرجت الصلاة عن كونها كلّ الواجب، وليس بنسخ اتفاقا، وأما الاقتصار عليه فليس مستفادا من منطوق اللفظ لأن وجوب الحدّ لا ينفي غيره، وإنما يستفاد من المفهوم، ولا يقولون به" (¬1). رابعا: إذا سلّم المخالف لهم بأنَّ الزيادة على النصّ تعد نسخا فإنه لا ينبغي أن يسلم لهم أن الدليل الذي دلّ على اشتراط النيّة حديث فرد، بل هو حديث متواتر تواترا معنويا، وسنبين حقيقة التواتر المعنوي (¬2) وقوته في الاحتجاج، وأنه لا يقل ¬

_ (¬1) روضة الناظر (ص 41). ومراده بالحدّ حدّ القذف لأن كلامه فيه. (¬2) انظر ملحق الكتاب، ص 529.

رتبة عن المتواتر اللفظي، وبذا يجوز أن يقال بجواز نسخ القرآن بالسنة، لأنها متواترة. ومما يحتج به على الأحناف أنّ حديث: "إنما الأعمال" قد تلقته الأمة بالقبول، وأجمعت على صحته، وما كان هذا سبيله فإنه بمنزلة المتواتر. يقول الجصاص (¬1) الحنفي: "خبر الواحد إذا تلقاه النّاس بالقبول صار بمنزلة التواتر" (¬2)، ثم بين مراده من تلقي الناس له بالقبول، فقال: "وليس معنى تلقي الناس له بالقبول ألّا يوجد له مخالف، وإنما صفته أن يعرف عظم السلف، ويستعملونه من غير نكير الباقين على قائله، ثم إن خالف بعدهم فيه مخالف كان شاذا، لا يلتفت إليه" (¬3). ومن طالع تخريجنا للحديث علم أنّ حديث "إنّما الأعمال" على النحو الذي وصف الجصاص، بل نقول: لم يذهب الغالبية فحسب إلى صحته بل أجمعوا على صحته، "والإجماع يصحح خبر الواحد ويمنع الاعتراض عليه" (¬4)، كما يقول الجصاص، ويقول: "ويصير الإجماع قاضيا باستقامة وصحة مخرجه" (¬5). ¬

_ (¬1) هو أحمد بن علي الرازي الجصاص من أهل الري، سكن ومات في بغداد، انتهت إليه رياسة الحنفيه، له كتاب "أحكام القرآن"، والفصول في أصول الفقه، توفي سنة (370 هـ)، راجع: (شذرات الذهب 3/ 71)، الأعلام 1/ 165). (¬2) الفصول (2/ 396، 403). (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق.

أدلة الموجبين

أدلة الموجبين لقد سقنا في مقام الردّ على الأحناف جملة من أدلة الموجبين ونحبّ أن نزيد الأمر وضوحا بذكر الأدلة التي لم نسقها هناك وهي كثيرة منها: أولا: الأحاديث المبينة فضل المتوضىء والمغتسل: إنّ الأمر الرئيسي الذي هو نكتة المسألة المتنازع عليها بين الفريقين المتنازعين في وجوب النيّة وعدمها في الغسل والوضوء يدور حول معنى القربة والعبادة: ألازم فيهما أم ليس بلازم؟ فالأحناف يقولون: ليس بلازم، ومخالفوهم يقولون: هو لازم. واستدل الجمهور على عدم وقوعهما إلاّ عبادة بورود الثواب لفاعلهما مطلقا في الأحاديث، وكل ما هذا شأنه فهو عبادة. ومن المناسب أن نذكر بعض الأحاديث الدالة على ثواب من فعل واحدة من هاتين العبادتين أو فعلهما كلتيهما: 1 - عن أبي مالك الأشعري (¬1) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطَّهُور شَطْرُ الإيمَانِ" (¬2)، وشطره أي نصفه. 2 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) هو الحارث بن الحارث الأشعري أبو مالك الشامي، صحابي روى حديثا قدسيا طويلا جمع أنواعا من العلوم. راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 182)، (الكاشف 3/ 373). (¬2) رواه مسلم في صحيحه. مشكاة المصابيح (1/ 93).

ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء

"أَلَا أدُلكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللُه بهِ الخطَايا، ويرْفع الدرجَاتِ؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إسْبَاغُ الْوُضوءِ عَلَى الْمكارِه، وكَثْرَة الْخُطَا إِلَى المَسَاجِدِ، وانْتِظَار الصلاَة بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذلِكُم الرِّبَاطُ" (¬1). 3 - وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوضأَ فَأَحْسَنَ الْوضوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاه مِنْ جسدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أظْفار" (¬2). 4 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أمتِي يُدْعوْنَ غُرّا محَجلِينَ مِنْ آثارِ الْوضوءِ" (¬3). 5 - توضأ عثمان -رضي الله عنه- ثم قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: "مَنْ توَضأَ وضوْئي هَذَا، ثم يصَلي رَكْعَتيْنِ لَا يحَدثَ نَفْسَه فِيهمَا شيء غفِرَ لَه ما تَقَدَّم مِنْ ذَنْبهِ" (¬4)، والأحاديث في فضل الوضوء وعظم ثواب فاعله كثيرة، وقد تضمنتها كتب السنة (¬5). وهذه الأحاديث وما في معناها تفيدنا-كما يقول القرطبي (¬6) - أن المراد بها كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام، وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية، لأنّه يشرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى. ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء: احتجوا بالحديث الذي يرويه أبو هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "لَا صَلاةَ لمَنْ لا وُضوءَ لَه، ولَا وضوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكر اسْمَ الله عَلَيْهِ" (¬7). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه مشكاة المصابيح (1/ 93). (¬2) متفق عليه مشكاة المصابيح (1/ 94). (¬3) متفق عليه. مشكاة المصابيح (1/ 95). (¬4) متفق عليه واللفظ للبخاري مشكاة المصابيح (1/ 95). (¬5) راجع -إن شئت المزيد- مشكاة المصابيح (1/ 93 - 99). (¬6) تفسير القرطبي (6/ 108). (¬7) عزاه في المشكاة (1/ 127)، إلى أحمد وأبي داود، وهو عند الترمذي وابن ماجه عن سعيد بن زيد، وعند الدارمي عن أبي سعيد الخدري.

ثالثا: القياس

وقد فسَّر ربيعة (¬1) شيخ مالك قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا وضوءَ لِمنْ لَمْ يَذْكِر اسْمَ الله علَيْه" أنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءا ولا غسلا للجنَابة" (¬2). وقال ابن القيم معلقا على الحديث: "وتأوّله جماعة من العقلاء على النيّة، وجعلوه ذكر القلب، وقالوا: وذلك أن الأشياء قد تتغير بأضدادها، فلمّا كان النسيان محله القلب كان محل ضده -الذي هو الذكر- القلب، وإنما ذكر القلب: النيّة والعزيمة" (¬3). وهذا الذي حكاه أبو داود عن ربيعة، وسكت عليه، وذكره الخطابي، وسكت عنه، وقرره ابن القيم -غير صحيح، فإن الحديث يقول: "ولَا وضُوءَ لمَنْ لَمْ يَذْكِر اسْمَ الله عَلَيْه"، والظاهر أنّ المراد بـ "اسم الله": التسمية بأنْ يقول: "بِسْمِ الله"، وحمله على النية خلاف الظاهر، وحمل الحديث على المعنى المرجوح. وترك الراجح تحكّم، إذ القاعدة الأصولية أنه لا يصرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح إلاّ لدليل، ولا يوجد دليل هنا، بل الدليل قائم على خِلافه إذ التسمية واجبة في بدايةِ الأمور المهمّة، ولذا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بها في كل أمر ذي بال. ثالثا: القياس: استدل القائلون بافتقار الوضوء إلى النية بالقياس، فمن ذلك قياس الشافعيّ (¬4) -رحمه الله تعالى- وهو: إنها طهارة من حدث تستباح بها الصلاة، فلم تصح بلا نية كالتيمم. ¬

_ (¬1) هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ التميمي بالولاء المدني، إمام حافظ فقيه مجتهد، كان بصيرا بالرأي، وكان من الأجواد، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وبه تفقّه مالك، توفي بالهاشمية من أرض الأنبار سنة (136 هـ). راجع: تهذيب التهذيب (3/ 258)، (طبقات الحفاظ ص 69)، خلاصة تذهيب الكمال: (1/ 322)، (الكاشف 1/ 307). (¬2) معالم السنن (1/ 88)، وذكر أن أبا داود عزا هذا القول لربيعة. (¬3) تهذيب معالم السنن (1/ 88). (¬4) المجموع (1/ 364).

وقوله: "من حدث"، احتراز من إزالة النجاسة. وقوله "تستباح بها الصلاة" احتراز من غسل الذميّة من الحيض. فإن قالوا التيمم لا يسمّى طهارة، فالجواب أنّه ثبت في الصحح: "جعِلَتْ ليَ الأرْض مَسْجدًِا وَطَهُورًا" (¬1)، وفي رواية في صحيح مسلم: "وَتُربتهَا طَهورًا" وثبت أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصعيد الطيِّب وُضُوء الْمسلِمِ" (¬2)، وما كان وضوءا كان طهورا وحصلت به الطهارة. وقد أورد النووي اعتراضا على هذا القياس، فقال: قيل التيمم فرع الوضوء، ولا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من الفرع. وقد أجاب عن هذا الإشكال قائلا: فالجواب: أن التيمم ليس فرعا؛ لأن الفرع ما كان مأخوذا من الشيء، والتيمم ليس مأخوذا من الوضوء، بل بدلا عنه، فلا يمتنع أخذ حكم المبدل من حكم بدله، ولأنَّه إذا افتقر التيمم إلى النية مع أنه خفيف إذ هو في بعض أعضاء الوضوء فالوضوء أولى (¬3). وهناك إشكال آخر أقوى من سابقه، قالوا: هذا قياس فاسد، لأن شرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء، وقد علم في الأصول أن من شرط القياس ألّا تكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل، إلاّ أن للمخالف أن يقول: إننا لا نقصد القياس هنا، بل الاستدلال بنفي الفارق، فنقول: لما شرع التيمم بشرط النيّة -ظهر وجوبها في الوضوء فهو بمعنى لا فارق" (¬4). جواب ثان: أنّ قياس الوضوء على التيمم هنا ليس لمعرفة حكم النية في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. (¬2) المجموع (1/ 264). (¬3) المصدر السابق. (¬4) فتح القدير (1/ 21).

الوضوء ابتداء، فهناك أدلة كثيرة تثبت هذا الحكم غير هذا القياس، وإنما يفيدنا هذا القياس زيادة اطمئنان وتأكد، وتعاضد الدلائل لِإثبات الأمر الواحد مطلوب يسعى إليه العقلاء خاصة وأن إيجاب النية في التيمم مسلم عند الأحناف، فتكون الحجة عليهم أبلغ. قياس آخر: قالوا: الوضوء عبادة ذات أركان، فوجبت فيها النية كالصلاة (¬1). ولكن يردُّ هذا القياس أن الأحناف ومن معهم يقولون بأنّ الوضوء يتأتى غير عبادة، فلا تقوم الحجة عليهم بهذا القياس إلاّ بعد أن ندلّل على أن الوضوء لا يكون إلا عبادة، وهذا قد أقمنا الحجة عليه فيما سبق، يكون القياس صحيحا مثبتا للمطلوب. ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 365).

النية في التيمم

النيّة في التيمم مذهب الشافعي -رحمه الله- في التيمم كمذهبه في الوضوء، أن النية واجبة فيه، فهو يقول بصريح العبارة: "لا يجوز التيمم بغير نية" (¬1). وهذا مذهب عامة أهل العلم: ربيعة، ومالك، والليث، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر (¬2)، بل نجد بعض الذين قالوا بعدم وجوب النية في الوضوء والغسل، وافقوا الجمهور هنا، فأوجبوا النيّة في التيمم كأبي حنيفة وصاحبيه: أبي يوسف ومحمد (¬3). ولقد وهم ابن هبيرة عندما قال: "اجمعوا على أنّ النية شرط في صحة التيمم" (¬4). وقال مثل قوله السمرقنديّ من الأحناف: "والنيّة فرض التيمم بالإجماع" (¬5)، ولعل سبب وهمهما كثرة القائلين بإيجاب النية هنا، وممن خالف فلم يوجب النيّة في التيمم: زفر من الأحناف (¬6)، والأوزاعي (¬7). ومذهب زفر هنا منسجم مع مذهبه في الوضوء، فلم يتناقض كما تناقض الذين أوجبوا النية في التيمم دون الوضوء، كالإمام أبي حنيفة وصاحبه، وقد بين شارح ¬

_ (¬1) مختصر المزني (1/ 4). (¬2) المغني لابن قدامة (1/ 251). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 52). (¬4) الإفصاح (1/ 66). (¬5) تحفة الفقهاء (1/ 13). (¬6) بدائع الصنائع (1/ 52). (¬7) فتح الباري (1/ 14)، العيني على البخاري (1/ 34).

العناية من الأحناف (¬1) أن التيمم خَلَف عن الوضوء، لأن الخَلَف هو ما لا يجوز الإتيان به إلاّ عند عذر وجد في الأصل، والتيمم ينطبق عليه هذا تماما، والخلَف لا يخالف الأصل في وصفه الذي هو الصحة، وبما أنَّ الوضوء على مذهب أبي حنيفة صحيح دون النية، ينبغي أن يصحّ التيمم دون النية، وإلّا كان الخَلَف مخالفا للأصل في وصفه، وهو لا يجوز لخروجه عن الخليفة في هذه الحال. وقد حاول بعض الأحناف أن يوجه هذا التناقض مدعيا أن التيمم هو القصد لفظا ومعنى، والقصد هو النية، وقد أمرنا بالتيمّم والأمر للوجوب، لذا تشترط النيّة للتيمم بخلاف الوضوء، فإنَّ الأمر ورد بالغسل والمسح، ولا دلالة لهما على النية (¬2). وهذا الاستدلال غير مقبول بحال كما يقرّر شارح العناية، لأنَّ القصد الذي يدلّ عليه التيمم غير القصد الذي هو النيّة الشرعية، فالقصد الذي يدل عليه التيمم هو قصد استعمال التراب، أما النية في التيمم فهي أن ينوي الطهارة أو رفع الحدث أو الجنابة أو استباحة الصلاة، وهذا غير ذاك لا محالة، فلا يلزم من كون أحدهما مأمورا به أن يكون الآخر شرطا" (¬3). وقد استدل لزفر والأوزاعي القائلين بعدم إيجاب النيّة في التيمم -بأن التيمم متميز بصورته، وما كان كذلك فلا تجب النيّة له، وهذا صحيح من جانب، ولكن إذا نظرنا إلى التيمم من جانب آخر فإنّنا ملزمون بإيجاب النية فيه، فهو وإن كان متميّزا بصورته إلاّ أنه خارج عن نمط العبادات، فإنها كلها تعظيم وإجلال، وليس في مسّ التراب ومسحه على الوجه تعظيم، بل هو كما يقول القرافي والعز بن عبد السلام (¬4): شبه العبث واللّعب، فاحتاج إلى النية، ليخرجه من حيز اللعب إلى حيّز التقرب. ¬

_ (¬1) شرح العناية على الهداية (1/ 89). (¬2) شرح العناية (1/ 89)، وراجع الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 20. (¬3) شرح العناية (1/ 89)، أحكام القرآن (1/ 447 - 448). (¬4) الذخيرة (1/ 239)، وقواعد الأحكام (1/ 212)، ومراد العز بقوله شبه العبث أي جنس هذا الفعل.

النية في الصلاة

النيّة في الصلاة الصلاة عبادة مقصودة لنفسها، بل هي رأس العبادات، وهي غير معقولة المعنى، ولم يعلم خلاف بين الأمّة في إيجاب النية لها. وقد نقل غير واحد من العلماء الِإجماع على وجوب النية في الصلاة (¬1). ولم يفرّقوا بين صلاة الفرض وبين غيرها، فأوجبوا النيّة لكلّ صلاة، ومنها صلاة الجنازة، بل أوجبوها لسجود التلاوة، وسجود الشكر، لأنهما عبادتان (¬2). ولقائل أن يقول: الصلاة متميزة بصورتها عن العادات وعن غيرها من العبادات فلم افتقرت إلى النية؟ الجواب أنَّ النية في الصلاة ليست لتمييزها عن العادات وعن غيرها من العبادات بل لتمييز رتب العبادة، فالصلاة منها ما هو فرض، وما ليس بفرض، والفرض قد يكون فجرا أو ظهرا أو عصرا .... الخ، وغير الفرض قد يكون راتبة وغير راتبة ... الخ، فالنية واجبة للتمييز بين رتب العبادات. يقول الشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة: ¬

_ (¬1) وممن نقل الإجماع على ذلك العز بن عبد السلام، وابن المنذر في كتابيه الإشراف والإجماع، والشيخ أبو حامد الغزالي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وابن هبيرة، وإمام الحرمين، وغيرهم. راجع - نهاية الأحكام (ص 40 - 44)، والإفصاح (1/ 88)، والمجموع (3/ 243)، وحكاه ابن عابدين. انظر حاشيته (1/ 204). (¬2) خالف في ذلك بعض العلماء فلم يوجبوا النية لها، (العيني على البخاري 1/ 32)، ولا يشوش على هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض العلماء: من أن ركعتي تحية المسجد لا تحتاجان إلى نية لأن المراد بها شغل البقعة بالصلاة، نوى بهما تحية المسجد أم لم ينو ... ولذا فإنهم نصّوا على أن الذي يدخل المسجد إذا صلَّى فريضة أو راتبة تجزىء عن تحية المسجد، ومدلول قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" يفيد هذا و"الحديث رواه البخاري ومسلم" انظر مشكاة المصابيح (1/ 221).

"فرض الله تعالى الصلوات، وأبان الرسول -صلى الله عليه وسلم- عدد كلّ واحدة منهنّ ووقتها، وما يعمل فيهنَّ، وفي كلّ واحدة منهنّ، وأبان الله -عزَّ وجل- منهنَّ نافلة وفرضا، فقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَمِن اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بهِ نافِلَةً لَكَ} (¬1)، ثم أبان ذلك صلى الله عليه وسلم، فكان بينا -والله تعالى أعلم- إذا كان من الصلاة نافلة وفرضا، وكان الفرض مؤقتا، لا تجزىء عنه صلاة إلاّ بأنْ ينويها مصلّيا". (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء / 79. (¬2) الأم (1/ 86).

النية في الزكاة

النيّة في الزكاة الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي وإن كانت حقّا ماليا إلا أنها حق خالص لله تعالى، وعبادة محضة لا تصح إلاّ بالنية، وقد نقل عن جماهير العلماء القول بإيجاب النيّة فيها، ومن هؤلاء الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم: أبو حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد، ونقل عن داود وأبي ثور (¬1). وشذَّ الأوزاعي فلم يقل بالوجوب، وصحح إخراجها بلا نيّة (¬2). وقد جانب الشيخ محمد أبو زهرة الصواب -رحمه الله تعالى- عندما نسب إلى جماهير العلماء القول بعدم وجوب النية في الزكاة، قال في كتاب الأصول: "وقال جمهور الفقهاء: إنّ الزكاة لا يحتاج أداؤها إلى النيّة، لأنّها مؤنة المال، ولذا تجب في مال الصغير، والمجنون، والمعتوه، وقد سقط عنهم التكليف" (¬3). والسبب الذي أوقعه في هذا الخطأ أنه رأى جماهير العلماء يقولون بأن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون والمعتوه، فظن أنَّ جماهير العلماء يقولون بعدم وجوب النية في الزكاة، وليس الأمر كما قال. ويبدو أن الأوزاعي نظر إلى أن الزكاة عبادة مالية فقاسها على إعادة الدين، وردّ العارية والمغصوب، فإن هذه لا تحتاج إلى نيّة، والجواب أن الزكاة عبادة محضة، وكونها عبادة كذلك ثابت بالنصوص ولا خلاف فيه، وما كان كذلك وجبت فيه ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 184). (¬2) المصدر السابق. (¬3) أصول الفقه (ص 324).

النية، أمّا الديون وما أشبههما فإنّها وإن كان فيها حقّ لله تعالى، إلا أنّها ليست عبادة، يدلك على ذلك أنَّ الديون والغصوبات تسقط بإسقاط صاحبها، فالمغلب فيها حقّه، بخلاف الزكاة. وههنا مسألتان لهما علاقة بهذا البحث: الأولى: المسألة التي سبقت الإشارة إليها، وهي قول من يقول بإيجاب الزكاة في مال الصبيّ والمجنون والمعتوه، فكيف تجب في مالهم مع أنّ النية لا تصحّ منهم (¬1)؟ الثانية: أنّ الفقهاء قرّروا أنّ الممتنع من أداء الزكاة يكره على أدائها، وتجزىء عنه، فكيف يكون ذلك والنية شرط في صحة الزكاة؟ فالجواب: أنّ الزكاة فرض لازم أوجب الله على صاحب المال القيام بذلك، فإن امتنع صاحب المال من أداء الزكاة، أو كان غير مستطيعه لسفه أو جنون أو صغر، فواجب الدولة إجبار الممتنع، وواجب الولي إخراجها عن من ولي أمره، ويجزىء ذلك عن المخرج عنهم، لأنّ إخراج الزكاة أمر لازم لا بدّ من تحققه. ¬

_ (¬1) الصحيح أن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون والسفيه، وبذلك قال الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. وقال به جمع من الصحابة والتابعين ورجحه ابن تيمية، راجع المجموع للنووي (5/ 299)، ومجموع الفتاوى (25/ 17)، والأم (2/ 24)، وهذا القول ترجّحه أحاديث وآثار عن الصحابة، كحديث "ابتغوا في مال اليتامى، لا تأكلها الزكاة"، وهذا الحديث صحيح مرسل كما بيّنه الشافعي، وتعضده الروايات الأخرى عند الترمذي وغيره، وإن كان في سندها ضعف، وهو مروي بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب موقوفا عليه. راجع المجموع للنووي (5/ 297)، وتلخيص الحبير (1/ 158)، والأم (2/ 24). وذهب سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي، وسعيد بن المسيب، إلى أن النية لا تجب فى مال هؤلاء بحجة أنه لا يصلي أحد عن أحد، ولا يزكّي أحد عن أحد (المجموع 5/ 299)، واحتجوا بما رواه البيهقي عن ابن مسعود من أن ولي اليتيم يحصي المال ويقدر الزكاة ويخبر اليتيم حين يدفع إليه المال وهو بالخيار في الزكاة وعدمها، وهذه رواية ضعيفة، ضعفها الشافعي وغيره، المجموع (5/ 297)، واستدلوا بأدلّة أخرى ساقها النووي في المجموع. وذهب فريق ثالث إلى أن الوليّ يحصي مقدار الزكاة الواجبة في مال اليتيم، فإذا بلغ سنّ الرشد أخبره بذلك، وعليه أن يؤديها بنفسه. وفريق رابع يرى وجوب الزكاة في صدقة الفطر والعشر فيما أخرجته الأرض، ولا يوجبونها فيما عدا ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه. بداية المجتهد (1/ 250).

إذا تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة

فالقائلون بأن الزكاة غير واجبة على اليتيم والمجنون، وغير مجزية من المُكْرَه نظروا إلى أنّ إخراجها هو واجب مناط بصاحبها، ولم ينظروا إلى أنَّ هذا الواجب مناط بولي الصبيّ والمجنون، ومناط بالحاكم في حال امتناع صاحب المال عن أداء الزكاة. إذا تصدَّق بجميع ماله ولم ينو الزكاة: مذهب الشافعية أنَّ من تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة، لا تسقط عنه الزكاة، كما لوكان عليه فرض فصلَّى مائة صلاة نافلة لا يجزيه بلا خلاف (¬1). واعترف الأحناف بأنّ الأصل عدم إجزاء هذه الصدقة عن الزكاة، لأنَّ الزكاة عبادة مفروضة مقصودة فلا بدَّ لها من نيّة، ولكنهم قالوا بالإجزاء في هذه الحالة استحسانا، وعلّلوا هذا الاستحسان بقولهم: "إنّ النيّة وجدت دلالة، لأنّ الظاهر أن من عليه زكاة لا يتصدق بجميع ماله، ويغفل عن الزكاة" (¬2). وعلّل بعضهم بتعليل آخر، فقال: "الواجب عليه جزء منه، فكان متعيّنا فيه، فلا حاجة إلى التعيين" (¬3). ونحن نرجح مذهب الأحناف، فالرجل هنا جاد بماله كله في سبيل الله، فأعطى ما وجب عليه وزيادة، فلا نطالبه لشيء دفع أكثر منه، ويمكن أن يستأنس في هذا الموضوع بما رواه أبو هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَمَا يَنْقِم ابْنُ جَمِيل إلا أَنه كانَ فَقيرًا فأغناهُ اللُه، وأَما خَالِد فَإِنكُمْ تظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعتدَه فِي سَبيل ¬

_ (¬1) الروضة للنووي (2/ 210)، المجموع (6/ 191). (¬2) بدائع الصنائع (2/ 40). (¬3) الهداية (2/ 492).

الله تَعالى، وأَمّا العباسُ فَهِيَ عَليَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا" ثم قال: "يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَن عم الرجُل صِنْو أَبِيهِ" (¬1). فقد اعتذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن خالد بن الوليد بأنه احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله، ولم يسأله -صلى الله عليه وسلم- مكتفيا بدلالة الحال، إذ لو وجبت عليه زكاة لأعطاها، ولم يشحّ بها، لأنّه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا، فكيف يشح بواجب عليه! وهذا الرجل الذي يتصدق بجميع ماله في وجوه الخيرات، عمله أظهر من عمل خالد الذي تصدّق بجزء من ماله فحسب: الدروع والعتاد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأحمد وأخرجه البخاري، وليس فيه ذكر عمر، ولا ما قيل له في العباس (مشكاة المصابيح 2/ 560).

صوم رمضان

صوم رمضان مذهب كافة العلماء أنه لا يصحّ صوم إلا نيّة، سواء أكان الصوم واجبا أم تطوعا (¬1). وحجتهم أنّ الصوم عبادة محضة لا تتأدى إلا بالنية، والنصوص الدالة على لزوم النية للعبادات تشمل الصوم، هذا عدا النصوص المصرّحة بإيجاب النية في الصوم. وخالف الجمهورَ عطاء ومجاهد (¬2) وزفر (¬3)، في حالة ما إذا كان الصوم متعينا، بأن يكون الصائم صحيحا مقيما في شهر رمضان، فهذا عندهم لا يفتقر إلى نيّة. وحجتهم أن رمضان مستحق الصوم يمنع غيره من الوقوع فيه، فهم لاحظوا أن الصوم في هذه الحالة متعين بصورته، ولا يحتاج إلى نيّة تميزه عن العادات أو تميّز مراتبه، يقول الكاساني مبيّنا ما يمكن أن يحتجّ به لزفر: "النيّة إنما تشترط للتعيين، والحاجة إلى التعيين إنما تكون عند المزاحمة، ولا مزاحمة لأن الوقت لا يحتمل إلا صوما واحدا في حقّ المقيم، وهو صوم رمضان، فلا حاجة إلى التعيين بالنية" (¬4). ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (1/ 300)، المجموع (6/ 336)، وقد نقل ابن هبيرة الإجماع على وجوب النية في الصوم، الإفصاح (1/ 157)، وليس الأمر كما قال. (¬2) هو مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي، تابعي مفسر من أهل مكة، قال فيه الذهبي: شيخ القراء والمفسرين، أخذ التفسير عن ابن عباس، وتوفي بمكة سنة (104 هـ)، وكانت ولادته سنة (21 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب10/ 42)، (تذكرة الحفاظ 1/ 92)، شذرات الذهب (1/ 125)، (الكاشف 3/ 120)، (طبقات الحفاظ ص 35). (¬3) المجموع (6/ 336)، المحلّى (6/ 161)، بداية المجتهد (1/ 300)، وقد ينقل بعضهم أن أبا حنيفة ممن يقول بذلك، وليس هذا بصواب، فأبو حنيفة يوجب النية في الصوم، إلا أنه يجوّز إنشاءها من النهار كما ذكرنا في فصل "وقت النية". (¬4) بدائع الصنائع (2/ 83).

واحتجّ له أيضا بأنّ الآية الآمرة بالصيام {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشهْرَ فَلْيَصُمْهُ} مطلقة عن شرط النية، والصوم هو الِإمساك، وقد أتى به فيخرج عن العهدة" (¬1). من هنا قصر زفر قوله في الصوم الذي لا يحتاج إلى نيّة على صوم رمضان من الحاضر المقيم، أمّا المسافر فلا بدَّ أن يأتي بالنية إذا صام رمضان، لأنَّ صوم رمضان غير متعيّن في حقه، فله: -عند زفر- أن يصومه نافلة أو قضاء، ولأنَّه لم يشهد الشهر. أمّا صوم النذر والكفّارة فيشترط لهما النية إجماعا (¬2). ومن هنا نعلم أن ابن رشد (¬3) لم يصب الحقيقة عندما قرّر أنّ سبب الاختلاف في هذا الموضوع هو الاحتمال المتطرق إلى الصوم: أهو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فهو يرى أن من ذهب إلى أنّها غير معقولة المعنى، أوجب النية، ومن رأى أنّها معقولة المعنى قال: قد حصل المعنى إذا صام ولم ينو (¬4). هذا الذي ذهب إليه ليس هو السبب كما بيّنا، إذ الجميع يرون أنّ الصيام عبادة محضة غير معقولة المعنى، والسبب الحقيقي أن زفر ومن معه يرون أن الصوم متعّين بنفسه فلا يحتاج إلى نيّة. والجمهور يردّون على زفر ومن معه بالنصوص الآمرة بالنية في العبادات عموما، وفي الصوم على وجه الخصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الَأعمَالُ بِالنياتِ" (¬5). وقوله: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصيَام مِنَ الليْلِ" (¬6). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع 2/ 83. (¬2) المجموع (6/ 336)، والمحلّى (6/ 161)، وأنكر الكرخي أن زفر يقول بصحة الصوم من الحاضر بغير نية، وادّعى أن مذهب زفر كمذهب مالك جواز الصوم بنية واحدة من أوّل الشهر، وقال آخرون: إن زفر رجع عن ذلك لما كبر (الهداية2/ 92). (¬3) هو محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي الفيلسوف، عني بكلام أرسطو وترجمته إلى العربية، له (بداية المجتهد) فى الفقه، ولد عام (520 هـ)، وتوفى سنة (595 هـ). راجع: (شذرات الذهب 4/ 320). (الأعلام 6/ 212). (¬4) بداية المجتهد (1/ 300). (¬5) انظر تخريجه في الملحق، ص 519. (¬6) سبق تخريجه، انظر ص 207.

ورد الشافعي حجّتهم في أنّ الصوم لا يحتاج إلى نية، لأنّه متعين بصورته، إذ له وقت محصور محدود، بأنّ هذا يمكن أن يقع في الصلاة. فوقت الصلاة قد يتضيق حتى لا يسع إلاّ الفرض، ومع ذلك لا بدَّ للصلاة التي وقعت في الوقت المتضيّق من نيّة (¬1). وكذلك من نذر أن يصوم شهرا من هذه السنة، ثم أخّره حتى لم يبق إلا شهر واحد، ولا يجوز أن يصومه بغير نيّة بحجّة أن وقته أصبح محصورا محدودا. أما قول زفر: إن الصوم مأمور به في الآية مطلقا عن شرط النية فمردود عليه، لأن اسم الصوم المطلق ينصرف حين الأمر به إلى الصوم الشرعي، وهو: الِإمساك عن المفطر مع اقتران النية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ¬

_ (¬1) الأم (2/ 83)، ومن هنا ذهب الشوكاني في (السيل الجرار 1/ 20) إلى أن النية واجبة في كلّ عبادة، سواء كانت مما يتلبس أم لا، لوررد الأمر بها، والتقيد بهذا الضابط غير صحيح.

النية في الحج والعمرة

النيّة في الحجّ والعمرة لا خلاف بين المسلمين أنّ النية لازمة للحج والعمرة، ولا يصح واحد منهما إلا بها كما لا تصح الصلاة إلاّ بها، لذا قال القرطبي: "لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج، وهو لا ينوي حجّا ولا عمرة -والقلم جار له وعليه- أنّ شهودها بغير نيّة ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضا، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (¬1)، ومن تمام العبادة حضور النية" (¬2). ونقل ابن العربي عن الشافعي أنه قال: "ولو لبّى رجل، ولم ينو حجّا ولا عمرة، لم يكن حاجا ولا معتمرا" (¬3). ولذا اتفق أبو حنيفة ومالك وأحمد، على أن من أحرم بالحج في غير أشهره- أنّه لا ينعقد عمرة، وعللوا ذلك بأنّه لم ينوها عمرة، وكان قال بعضهم إنه يتحلّل بأعمال العمرة (¬4). وما جرى من خلاف بين العلماء في أنّ الحجّ والعمرة يتأديان بمطلق النية لا يجعل وجوب النيّة فيهما مسألة خلافية، لاتفاقهم على أن النيّة لا بدّ منها، وإنما الخلاف في تحديد المنوي وتعيينه، وهذا سبق الكلام فيه. وما جرى من خلاف في وجوب النيّة في الطواف بالبيت، والوقوف بعرفات؛ لا يجعل المسألة خلافية أيضا، لأنَّ الذين قالوا بعدم لزوم النيّة لأركان الحجّ والعمرة وواجباتهما- قالوا: لأن نية الحجّ والعمرة شاملة لجميع الأعمال، فعدّوا أفعال الحج كأفعال الصلاة، فالمصلّي لا يحتاج أن يحدث نية لكلّ فعل من الأفعال: ركوع، ورفع، وسجود ... الخ، فكذلك الحج والعمرة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة 196. (¬2) تفسير القرطبي 2/ 369. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 369). (¬4) العيني على البخاري (1/ 33).

النية في الاعتكاف

والذين قالوا بلزوم النية لمثل الطواف، والوقوف بعرفة نظروا إلى أن كلَّ عمل من هذه الأعمال منفصل عن غيره، فالأمر مختلف عن الصلاة. أما النية الأولى في بدء الحج والعمرة فالجميع متفقون على وجوبها فيهما. النية في الاعتكاف الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد بنيّة العبادة وبناء على ذلك لا يصح إلا بنيّة، لأنّه عبادة محضة. ولا خلاف بين العلماء في ذلك، وممن نص على وجوب النية في الاعتكاف النوويّ من الشافعية، والكاساني وابن نجيم من الأحناف، وابن هبيرة وصاحب التوضيح من الحنابلة (¬1). النية في الكفارات يقول العز بن عبد السلام: "هي عبادات وقربات لا تصح إلا بالنيات" (¬2)، ويقول ابن نجيم: "وأما الكفارات فالنيّة شرط لصحتها عتقا أو صياما أو إطعاما" (¬3)، وممن نص على وجوب النية في صوم الكفارة الشافعي رحمه الله تعالى (¬4). النيّة لأعمال القلب يذهب الفقهاء وشراح الحديث إلى أن الإيمان بالله، وتعظيمه، والخوف منه، والرجاء لثوابه، والتوكل عليه، والمحبة له .... ونحو ذلك من العبادات التي هي ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 526)، بدائع الصنائع (2/ 109)، الإفصاح (1/ 170) التوضيح (ص 100)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 22). (¬2) قواعد الأحكام (1/ 178). (¬3) الأشباه والنظائر (ص 22). (¬4) الأم (2/ 81).

من أعمال القلوب- لا تحتاج إلى نيّة (¬1). وحجّتهم فيما ذهبوا إليه أن النية شرعت لتمييز العبادة عن العادة، ولتمييز رتب العبادات، وهذه الأعمال عادات لا تكون عادات ولا تلتبس بغيرها، فهي منصرفة إلى الله تعالى بصورتها. وقد يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الَأعْمَالُ بِالنِياتِ"، فالأعمال شاملة لأعمال الأبدان والقلوب، وقد احتج البخاري بهذا الحديث على وجوب النيّة في الِإيمان (¬2)، واستمع لقول ابن دقيق العيد "ما يتعلق بالجوارح وبالقلوب قد يطلق عليه عمل" (¬3). ويقول القسطلاني: "وربَّما أطلق -أي العمل- على حركةِ النفس فعلى هذا يقال: العمل إحداث أمر قولا كان أو فعلا بالجارحة أو بالقلب" (¬4). ولهذا ذهب بعض المتأخرين إلى إيجاب النية في أعمال القلوب، محتجا بأن أعمال القلوب داخلة في قوله عليه السلام: "إنَّمَا الَأعْمَالُ بالنّيَّات"، وجعل الحركة المأخوذة في تعريف الفعل أعمّ من الحركة الحسّيّةِ والمعنوية. واستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الَأعْمَالِ إِيمَان بِالله وَرَسولهِ" (¬5). وهذا المذهب بعيد المأخذ، مخالف لقول العلماء الأعلام، فالعمل في اللّغة حركة البدن، وعندما يطلق العمل ينصرف الذهن مباشرة إلى عمل الجوارح، يقول ابن دقيق العيد: "الأسبق إلى الفهم تخصيص العمل بأفعال الجوارح" (¬6). ¬

_ (¬1) الحطاب على خليل (1/ 232)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 12، 13)، الذخيرة (1/ 237)، قواعد الأحكام (1/ 177). (¬2) انظر الفتح 1/ 135، قال البخاري: "باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرىء ما نوى، فدخل في الإيمان والوضوء ... ". (¬3) إحكام الأحكام (1/ 68). (¬4) إرشاد السارى (1/ 53). (¬5) العدة (1/ 68)، والذي قال بوجوب النية في أعمال القلب إبراهيم الكردي كما يذكر الصنعاني في العدة، والحديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي بن كعب. (¬6) إحكام الأحكام (1/ 68).

وتعميم الفعل على الحركة الحسية والمعنوية محل وقف، فاللغوي لا يقصد بالحركة إلاّ الحسيّة، فإذا رأينا رجلا ساكنا لا نصفه بالحركة، وإن كان مشغول القلب، ولا يثبت للقلب صفة الجوارح إلاّ مجازا من باب قول الشاعر: (¬1) وَتَلَقتْ عينِي فمُذْ خَفَيِتْ ... عَنْهَا الطلُول تَلَفَّتَ الْقَلْبُ أما استدلاله بالحديث: "أفضَلُ الَأعْمَال إيمان بِالله وَرَسوله"، فهذا لا يتمّ إلاّ على قول المرجئة (¬2): "إن الإِيمان إنّما هو تصديق القلب فقط". أما على قول أهل السنة والجماعة فإنَّ الإيمان عندهم: تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، فلا يتم له الاستدلال بالحديث، لأن الإيمان عندهم -كما رأيت- يطلق على ثلاثة أمور: اثنان منهما أعمال لغوية، فإطلاق العمل على المجموع إنَّما هو من باب التغليب، فلا يدلّ على أنّه أطلق على فعل القلب عمل. وبمثل هذا وجّه ابن حجر مراد البخاري من إدخاله الإِيمان في الأعمال، فمذهب البخاري أن الإِيمان اعتقاد، وقول، وعمل، فهو لا يريد بالإيمان مجرد التصديق، إذ لا يحتاج إلى نيّة كسائر أعمال القلب لأنّها متميزة لله تعالى (¬3). وبمثل هذا وجه الكرماني قول من أوجب السنة في التوحيد أنّ المراد به كلمة التوحيد (¬4). ويرى بعض العلماء أن النية أمر ملازم لأعمال القلوب، لا يحتاج العبد إلى القيام به، فأعمال القلوب لا يمكن أن تقع إلا منويّة، وإذا فقدت النيّة منها فقدت ¬

_ (¬1) العدة (1/ 68). (¬2) المرجئة هم الذين أرجؤوا العمل عن الإيمان، أي أخروه، فلم يدخلوه في مسماه، فالإيمان عندهم التصديق القلب فحسب، والإيمان عند الأئمة الثلاثة اعتقاد وقول وعمل، وعند أبي حنيفة فالإيمان هو اعتقاد وقول، وجعل الأعمال نتيجة وأثرا للاعتقاد، ومكان المسألة كتب التوحيد والعقائد. (¬3) فتح الباري (1/ 135). (¬4) الكرماني على البخاري (1/ 20).

حقيقها: "وأما ما كان من المعاني المحضة: كالخوف والرجاء، فهذا لا يقال باشتراط النيّة فيه، لأنّه لا يمكن أن يقع إلاّ منويا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته" (¬1). وبهذا نرد على الذين قالوا: النيّة تحتاج إلى نيّة، لأن النيّة منصرفة بنفسها إلى الله تعالى، ولا نحتاج أن نقول كما قال القسطلاني: "لا تحتاج النيّة إلى نية، لأنّه يلزم من ذلك التسلسل أو الدور، وهما محالان" (¬2). ¬

_ (¬1) فتح الباري (1/ 137)، وعزاه إلى ابن المنير. (¬2) إرشاد الساري (1/ 53).

النية في الأقوال

النيّة في الأقوال يرى جمع من العلماء أن الأقوال لا تحتاج إلى نيّة، لأنّها غير داخلة في مسمى الأعمال، فلا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الَأعْمال بِالنِّياتِ". وما احتجوا به غير صحيح، فكتب اللغة تفسر العمل بالفعل، وتفسّر الفعل بحركة الإنسان (¬1). وممّن ذهب إلى أن الأعمال تشمل الأقوال القسطلاني، وابن حجر العسقلاني، وابن دقيق العيد، يقول ابن دقيق العيد: "ولا تردد عندي في أن الحديث يشمل الأقوال" (¬2). ومما يدل على أنَّ الأقوال داخلة في الأعمال أنّ ابن عباس فسَّر العمل في قوله تعالى: {لَعَلي أَعْمَلُ صَالحًَا فِيمَا تَرَكْت} (¬3) بأنه قول: "لا إله إلا الله" (¬4). وقد عدّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- القول عملا، ففي حديث أبي ذَرّ يرفعه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ لَا إِلهَ إلا اللُه وَحْدَه لا شَريْكَ لَهُ، لَه الْمُلْك وَلَه الْحَمْد وَهَو َعَلَى كُل شَيء قَدِيرٍ، فِي يَوْمٍ مائَةَ مَرّة، كَانَتْ لَهَ عِدْلَ عَشْر رِقَابٍ، وَكتِبَت لة مِائة حسَنةٍ، وَمحيَت عَنهُ مِائةُ سيَئةٍ، وَكانتْ لَهُ حِرْزًا مِن الشيْطان يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتى يُمسي وَلَمْ يَأْتِ أَحَد بِأَفْضَلَ مَما جَاءَ بِهِ إلاّ رَجُل عَمِلَ أَكْثَرَ منه" (¬5). ¬

_ (¬1) يلاحظ أن مرادنا، بالأقوال هنا تلك التي تدخل في العبادة كالذكر. (¬2) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 1/ 70. (¬3) سورة المؤمنون / 100. (¬4) العيني على البخاري 1/ 35. (¬5) صحيح البخاري: كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، وفي بدء الخلق باب صفة إبليس، وصحيح مسلم في الذكر، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء.

فقوله: "إلاّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِمَّا جَاءَ بهِ"، يدلّ على أن القول عمل، لأنَّ هذا الرجل لم يعمل شيئًا إلاّ أنَّه قال: لا إلَه إلاّ الله. وفي مسند الإمام أحمد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مَا عَمِلَ آدَميٌّ عَمَلاً قَطّ أَنْجَى لَهُ مِنْ ذِكر الله" (¬1). ولكن هل معنى ذلك أنَّ الأقوال لا تصحُّ شرعا ولا تكون إلا بالنيّات؟ إذا أردنا بالنيّات الِإخلاص فهذا صحيح، فالأقوال لا تقبل ما لم يكن القائل مريدا بها وجه الله تعالى كما قال عز وجل: {فَادْعوا اللَه مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2). وكما ثبت في الأحاديث أنّ من أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة قارىء القرآن الذي يريد به ما عند الناس، والأدلّة على هذا كثيرة، وسيأتي بيانها في الباب الثاني إن شاء الله تعالي. أما إذا أردنا بالنيّة قصد الفعل فالفقهاء يذهبون إلى أنَّ الأقوال: كالتكبير، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، وقراءة القرآن، ... ونحو ذلك لا تحتاج إلى نية. وحجّتهم في ذلك أن هذه الأعمال قربات متميّزة بنفسها، فالحكمة التي شرعت النيّة من أجلها: وهي تمييزُ العبادة عن العادة، وتمييز رتب العبادة - لا مكان لها هنا. أما إذا وجدت حالة تحتاج إلى تمييز بعض الأقوال عن بعضها الآخر فإنّ النية تكون ضرورية في مثل هذه الحالة، فقد نصّوا على إيجاب النيّة على مَنْ نذر قراءة قرآن أو ذكر، تمييزًا للمنذور عن غيره (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده (5/ 239)، ورواه مالك لي الموطأ (1/ 211)، موقوفا على معاذ، قال المناوي في (فيض القدير): وقد رواه الطبراني عن جابر يرفعه بإسناد صحيح. (¬2) سورة غافر / 14. (¬3) دليل الفاتحين (1/ 47)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 12، 13).

السنة في التروك

السنة في التروك ذهب الأعمُّ الأغلب من العلماء إلى أن التروك لا تفتقر إلى نيَّة (¬1)، وقد عللوا مذهبهم هذا بأنَّ التروك غير داخلة في الأعمال، فلا يشملها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الَأعْمَال بِالنيات"، فالعبد يخرج عن عهدة النواهي، وإن لم يشعر بها، فضلا عن القصد إليها. وكون الترك فعلا أو ليس بفعل مسألة خلافية أصولية، وقد احتج القائلون بأن الكف ليس فعلا بأنَّ الفعل في اللّغةِ حركة البدن كلّه أو بعضه، والترك ليس فيه حركة اصلا. وأقوى ما يستدلّ به للقائلين بأنّ الكفّ فعل القرآن الكريم، فقد سمَّى الله الترك فعلا في آيتين من كتابه. الأولى: قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬2)، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإِثم وأكل السحت سمّاه الله في هذه الآية صنعا في قوله. {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، أي وهو تركهم المذكور، والصنع أخص من مطلق الفعل، فصراحة الآية الكريمة على أنَّ الترك فعل في غاية الوضوح. الآية الثانية: قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬3)، أي وهو تركهم التناهي عن كل منكر، وصراحة دلالة هذه الآية على أنَّ الترك فعل واضحة. ¬

_ (¬1) الذخيرة (1/ 239)، العيني على البخاري (1/ 32)، الحطاب على خليل (1/ 32). (¬2) سورة المائدة / 63. (¬3) سورة المائدة / 79.

وفي كلام العرب ما يدلُّ على أنَّ الترك فعل، فمن ذلك قول بعض الصحابة في وقت بنائه -صلى الله عليه وسلم- لمسجده بالمدينة (¬1): لَئِنْ قَعَدْنَا والنبيُّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ المُضَلَّلُ فسمى قعودهم عن العمل وتركهم له عملا مضللا. ولذا فإن الكرماني لم يكن متجنّيا على النووي عندما أورد كلامه في أن التروك لا تحتاج إلى نيّة، ثم عقب عليه بأنَّ التروك تحتاج إلى نيّة، لأنَّ الترك كشف للنفس وهو عمل، ولأن التارك لا يحصّل ثواب الآخرة بتركه إلاّ إذا قصد ذلك (¬2). والذي يظهر لي أنَّ الترك إن كان كفا للنفس فهذا هو الذي يصير فعلا كما لو أمرته النفس الأمارة بالزنى، أو السرقة فكفّها، فهذا يكون فعلا وعليه يحمل ما جاء في الآيات، فإنّ تركهم النهي عن المنكر كان بكفّ أنفسهم عن ذلك مع أنَّهم مأمورون به. أما الترك الذي لا يخطر بالبال كترك الزنى، وترك شرب الخمر والسرقة من شخص لا تخطر بباله هذه الأمور، فهذا لا يعتبر فعلا. وهذا الذي ذكرناه هنا هو قول المحققين من العلماء كابن حجر العسقلاني والكرماني وابن نجيم (¬3). يقول ابن نجيم في هذه المسألة: "حاصل كلامهم أن الترك المنهيّ عنه لا يحتاج إلى نيّة للخروج عن عهدة النهي، وأما لحصول الثواب بأن كان كفا، وهو أن تدعوه النفس إليه قادرا على فعله، فيكف نفسه عنه خوفا من ربّه فهو مثاب، وإلا فلا ثواب على تركه، فلا يثاب على ترك الزنى وهو يصلي، ولا يثاب العنّين على ترك الزنى ولا الأعمى على ترك النظر المحرم" (¬4). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (3/ 216). (¬2) الكرماني على البخاري (1/ 22). (¬3) فتح الباري (1/ 15)، (1/ 22)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 26). (¬4) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 26).

وبنى ابن نجيم على هذا الذي قرّره أنّه إذا نوى شخص مال التجارة للقُنْية فإنّه يكون لها ولا زكاة فيه. أمَّا إذا نوى العكس بأن نوى في ما كان للقنية أن يكون للتجارة، فإنه لا يكون للتجارة حتى يعمل للتجارة، لأنَّ التجارة عمل، فلا يتم بمجرد النية، والقنية ترك للتجارة فتتم بها. ونظيره -فيما ذكر ابن نجيم- المقيم والصائم، والكافر، والمعلوفة، والسائمة، حيث لا يكون مسافرا، ولا مفطرا، ولا مسلما، ولا سائمة، بمجرد النية، ويكون مقيما، وصائما، وكافرا، بمجرد السنة لأنّها ترك العمل (¬1). وبهذا الذي قرّرناه في التروك يندفع الإشكال القائل: لم وجبت النية في الصوم مع أنه ترك؟ والجواب أنه ترك مقصود مراد، فالنفس تجوع وتعطش وترغب في الجماع، والمرء يكف نفسه بإرادة وقصد. وهذا الجواب أولى من جواب صاحب دليل الفالحين: "وجبت فيه، لأنه ملحق بالأفعال، إذ القصد منه قمع النفس عن معتاداتها، وقطعها عن عاداتها" (¬2). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر (ص 26). (¬2) دليل الفالحين (1/ 42).

حكم النية في العبادات

حكم النيّة في العبادات (ركن، أم شرط) مذهب الحنابلة أنَّ النيّة في العبادات شرط في صحتها، يقول المرداوي: "المذهب المجزوم به أن النيَّة شرط لطهارة الأحداث كلّها" (¬1)، وعبارة ابن قدامة في المغني قريبة من هذه، وصرّح صاحب التوضيح من الحنابلة بأنّ النيّة شرط من شرائط الصلاة (¬2). ومذهب الأحناف كمذهب الحنابلة باستثناء الوضوء والغسل، فإنها سنّة فيهما عندهم، يقول ابن عابدين: "هي سنّة في الوضوء والغسل، وشرط في المقاصد في العبادات، كالصلاة والزكاة" (¬3). بل يرى الأحناف أنّها شرط في الوضوء والغسل، إذا قصد بهما التعبد، يقول ابن عابدين: "وهي شرط لكون الوضوء عبادة لا مفتاحا للصلاة" (¬4). ويبدو أنَّ مذهب المالكية كمذهب الحنابلة والأحناف كما أشار لذلك ابن العربي (¬5). واخلف علماء الشافعيّة -كما يقول النووي- في نيّة الصلاة: هل هي ركن أم شرط؟ الأكثرون هي فرض وركن من أركان الصلاة (¬6). ¬

_ (¬1) الأنصاف (1/ 142). (¬2) المغني (1/ 110)، التوضيح (ص 27). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 80)، وراجع في هذا: بدائع الصنائع (2/ 161)، تحفة الفقهاء (1/ 17). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 79). (¬5) أحكام القرآن (1/ 286). (¬6) المجموع (3/ 243).

وممّن عدّها ركنا إمام الحرمين الجويني، فهو يقول. "النيّة ركن الصلاة وقاعدتها" (¬1). وعدّها كذلك الفوراني (¬2)، والماوردي والبغوي (¬3)، وغيرهم. ومال الغزالي في الوسيط إلى عدّها شرطا في الصلاة، ونفى أن تكون من الأركان، إلاّ أنّه جعلها في الصوم ركنا (¬4). وحجّة الحنابلة والأحناف والمالكية ومن وافقهم من الشافعية في أن النيّة شرط حديث: "إنَّمَا الَأعْمال بِالنِّيّات"، فالحديث يقضي بعدم المشروط عند عدم الشرط، فإذا قدَّرنا أن الذات الشرعّية لا تكون إلاّ بالنية انتفت الشرعة بانتفاء النيّة، وهذا هو معنى الشرط. وإذا قدَّرنا "الصحة" التي هي أقرب المجازين إلى الحقيقة- أفاد انتفاء الصحّة بانتفاء النيّة. وليست النيّة ركنا عندهم، لأنَّ ركن الشيء ما يتمّ به، وهو داخل فيه، والنيّة هنا ليست داخلة في العبادة، بل العبادة موقفة عليها لا تصح إلا بها. ومذهب الذين عدّوا النيّة ركنا من الشافعية لا غبار عليه في العبادات التي يشترطون أن تكون السنة فيها مقارنة لأوّل العبادة، ففي الصلاة يرى الشافعية -كما سبق (¬5) - أن النيّة يجب أن تقارن الكبير، ولا يجوز أن تتقدّم عليه، يقول الإمام الشافعيّ -رحمه الله تعالى-: "إذا أحرم إماما، أو وحده، نوى صلاته في حال ¬

_ (¬1) نهاية الإحكام (ص 35). (¬2) هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، فقيه الشافعية بمرو في عصره، له تآليف في الأصول والفقه، مولده ووفاته بمرو (388 - 461 هـ) - من كتبه (الإبانة) في مذهب الشافعية وشرحها. راجع: (شذرات الذهب (3/ 309)، (الأعلام 4/ 102). (¬3) هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، مولده ووفاته ببغداد (213 - 317 هـ)، كان محدِّث العراق في عصره، له (معالم التنزيل) و (معجم الصحابة)، و (الجعديات). (¬4) نهاية الإحكام (ص 43). (¬5) في فصل (وقت النية) ص 157.

التكبير لا قبله ولا بعده" (¬1)، فإذا كانت النيّة عندهم داخلة في العبادة، فلا بدَّ من عدّها ركنا، يقول الرافعي: "الأظهر عند الأكثرين كونها ركنا لاقترانها بالتكبير وانتظامها مع سائر الأركان" (¬2). وعلى ذلك فيمكننا أن نقرّر أنَّ النيّة ينبغي أن تكون شرطا في العبادات إذا أجزنا تقدم النيّة على العبادة، وركنا إذا قلنا بوجوب مقارنتها لأول العبادة، أمّا القول بتقدّم النيّة في العبادة كالصوم، ثم عدّها في هذه الحالة ركنا- فهذا خطأ بيّن. ¬

_ (¬1) كتاب الأم. (¬2) نهاية الإحكام (ص 43).

الباب الثاني الإخلاص

الباب الثاني الإخلاص {فاعبد الله مخلصا له الدين} قرآن كريم تمهيد: أهمية الغاية وعظيم خطرها. الفصل الأول: الغاية التي تتوجه إليها مقاصد المكلفين. الفصل الثاني: مفهومات خاطئة للإخلاص. الفصل الثالث: المقاصد السيئة. الفصل الرابع: تأثير القصد في الأفعال.

تمهيد

تمهيد أهمية الغاية وعظيم خطرها الأفعال الإِرادية التي يقوم الِإنسان بها لا بدَّ لها من محركات تدعو الِإنسان إلى فعلها وتحقيقها، وهذه المحركات قد تكون نابعة من حاجة الإنسان إلى أمور معيّنة كالطعام والشراب والنكاح، وقد تكون أهدافا حسّنت وزيّنت له بحيث صارت تلحّ عليه، وتستدعيه إلى تحقيقها لما قام في نفسه من أن الخير في السعي إليها وإيجادها. وهذه المحرّكات من حيث هي بواعث وتصورات تطلب مرادها- يطلق عليها دواعي وبواعث، ومن حيث إنها شيء خارجي يسعى الإنسان إلى تحقيقه ونيله تصبح هدفا وغاية. ومن العلماء من يقصد بالدواعي مجموع المحرّك القائم بنفس الإنسان والهدف الذي يسعى إلى إيجاده، ونحن سنطلق عليها في الأغلب الغاية، لأننا ننظر إليها من هذا الجانب أكثر مما ننظر إليها من الجانب الآخر، وإن كان بينهما اتصال وثيق ورابطة لا تنفصم. والغاية التي يتصورها الإنسان ذات تأثير كبير عليه، فالّذين يبذلون أنفسهم في ميادين الحرب والقتال عن رضا وطواعية حريصين على الشهادة ما فعلوا ذلك إلاّ لأنهم يطلبون بالاستشهاد خيرا عظيما. وقد عُني الحكّام والساسة والقادة والمربُّون والاقتصاديون ... وغيرهم بدراسة الدوافع والغايات عناية كبيرة، وأفرد "علم النفس الاجتماعي" لهذا الجانب مباحث واسعة، وما ذلك إلاّ لأهميّتها وعظيم فائدتها.

ونحن ندرك بدون عناء كبير بما نلاحظه في أنفسنا وفي نفوس الآخرين من حولنا أنَّ الأهداف التي نرسمها في تصوراتنا تنتصب أمامنا بحيث تشدنا إليها شدا، ولا تزال تشغل عقولنا، وتتراءى لنا مهما شغلنا عنها في غمرات الحياة، ولا نستريح ولا نهدأ حتى ندركها، وإلا بقيت حرة في قلوبنا، وألما ممضًّا في نفوسنا. ولذلك عني الباحثون على اختلاف مشاربهم بهذا الجانب، كي يعرفوا السبيل الذي يوجه به سلوك الِإنسان نحو ما يريدون تحقيقه وإيجاده، فعلماء التربية يريدون من وراء هذا أن يندفع الناشئة اندفاعا ذاتيا إلى تحقيق الأهداف التي يرسمونها، ويحددونها. ورجال الاقتصاد يريدون أن يصل الإنتاج إلى قمته، ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا انبعث العمال إلى العمل عن رضا وطواعية معتقدين أن هذا العمل يحقق لهم خيرا وصلاحا ... وهكذا. والإسلام جاء لإصلاح النفس الإنسانية، ومنزِّله هو العليم بهذه النفس، ولذلك لم يرغم الِإنسان على اعتناقه والعمل بموجبه، لأن الِإكراه مخالف لفطرة الِإنسان، ومخالف للحكمة التي أوجد الِإنسان من أجلها، ولذلك كان السبيل الذي سلكه الإسلام هو توضيح الغاية التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها، وبيان الأسباب التي تدعو إلى ذلك، والنتائج الخيرة التي ينالها الِإنسان من وراء هذا، وتوضيح العواقب السيئة والآثار البالغة الخطورة المترتبة على التوجه إلى غير الغاية التي رسمها، وعندما نطالع النصوص الِإسلامية في القرآن والحديث ندرك مدى العناية بإيضاح الغاية وتجليتها والكشف عن أبعادها. ويكفينا في هذا أن نعلم أن الغاية التي يرجوها المسلم من وراء أفعاله هي المعيار الذي يقوّم به عمله، فالأعمال تصبح ذات قيمة أو تفقد قيمتها باعتبار الغاية التي يرمي إليها العامل من عمله، فالذي يصلي ابتغاء مرضاة الله عمله أفضل

الأعمال، والذي يصلي لينال شرفا ومكانة عند الناس عمله شرّ الأعمال، والذي يهاجر استجابة لأمر الله ونصرة لدين الله عمله في المرتبة العليا، والذي يهاجر طلبا لنفع دنيوي: مال يحوزه، أو امرأة يتزوجها، عمله باطل مضمحل، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬1). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأعْمَال بِالنّيّاتِ، وإنَّمَا لِكلِّ امْرىِء مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللِه وَرَسُولهِ، وَمَنْ كَانتْ هِجْرتهُ لِدُنيا يُصِيبُهَا، أَو امْرَأَةٍ يَنكِحُهَا، فهجْرَتهُ إِلى مَا هاجَرَ إِلَيْهِ" (¬2). ومعرفة الغاية الحقيقيَة التي تستثير النفسَ الإنسانيّة هو مفتاح النفوس، فالنفس الإنساية كانت ولا تزال سرّا عجيبا ولغزا معقّدا، أتعب العقول وحيّر الفلاسفة والمفكرين منذ أقدم العصور. ولقد قام العلماء بجهود مضنية كي يصلوا إلى كنه النفس الإنسانية، ويسبروا أغوارها، ولقد ارتدّت بحوث العلماء في كثير من الأحيان إلى ترّهات وتفاهات، لأنهم راموا التوصل إلى شيء لم يعط الإنسان القدرة على الإحاطة به (¬3)، فروح الإنسان وسر الحياة من مكنونات علم الله: {قلِ الروح منْ أَمْرِ رَبّي}. لقد قرر كثير من الباحثين في العصر الحديث أن النفس الإنسانيّة لا وجود لها، والإِنسان ليس إلا آلة تستجيب لما حولها من مثيرات ومنبهات، ولا تحركها أيّ دوافع داخلية، ويرى كثير من الباحثين أن ما كان يسمّى بالغريزة والدوافع الفطرية يمكن إرجاعه بالتحليل إلى سلسلة من الأفعال المنعكسة (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء (18، 19). (¬2) انظر تخريجه في ملحق الكتاب. (¬3) يقول (لوسين) عالم الطباع الفرنسي: "إن معرفة الإنسان كانت تكتسب الصفة العلمية على قدر هبوطها إلى قطاعات من الحياة الإنسانية، وإنها تفقد هذه الصفة العلمية على قدر صعودها ونفاذها إلى الصميم المعقد، وإلى الأصالة من النفس الإنسانية "علم الطباع ص 27". (¬4) سلوك الإنسان (ص 126).

فالعلماء الماديون ينظرون إلى الِإنسان نظرة مادية صرفة، فهم لا يعترفون بأنَّ في الِإنسان نفحة علوية، ولقد صوّر (فرويد) (¬1) الِإنسان بأنه مجموعة من الشهوات لا ترتفع عن الواقع المادي، ولا ينطلق من إسارها، فالِإنسان عند هؤلاء مخلوق مشدود إلى هذه الأرض، هي عالمه الذي يعيش فيه ويسعى إليه، وهي منتهى آماله، وغاية مطلوبه. لقد ضلّ الإنسان وهو يبحث عن أقرب الأشياء إليه: نفسه، لقد أضاع نفسه، وهو يبحث عن نفسه. فريق أنكر حقيقة الإنسان عندما أنكر الروح التي تسري في كيانه، وفريق لم يستطع أن يتعرف على الروح معرفة حقّة، وإن آمن بوجودها، ونتج عن ذلك أن الغاية التي يجب أن يسعى إلى تحقيقها وإيجادها بقيت مجهولة، وأن المنهج الذي يجب أن ننهجه بقي غائبا، وبذلك بقي الِإنسان يعيش في متاهات، ويمضي في الحياة وهو لا يدري. والموقف الحقّ لا يتمثل في أن نمضي في بحوثنا الرامية إلى معرفة حقيقة النفس الِإنسانية، فذلك سبيل ثبت فشله، وأعلمنا الله بأنَّ نيله لا يستطاع، وإنّما السبيل أن نتعرف على الغاية المثلى التي متى رسمت للنفس الِإنسانية تفاعلت معها، وعملت فيها خيرا، ووجهتها الوجهة التي تتحقق بها سعادتها وهناؤها، وهذا هو الذي جاءَنا به القرآن الكريم. وقد حلّ الإِسلام بذلك اللغز الذي قضى الإِنسان عمره وهو يبحث عنه، حلّه الإِسلام بأيسر سبيل، فالإنسان يطيق أن يتمثل الغاية ويسعى إلى تحقيقها، فيجد نفسه، ويحقق دوره، ويمضي إلى مطلوبه، وبذلك ترتفع عن كاهله الأعباء الجسام التي تراكمت بفعل الضلال الذي لفّ البشرية بسبب الجهل الكبير على مدى قرون متطاولة، وهذا ما سنحاول بيانه إن شاء الله تعالى في هذا الباب. ¬

_ (¬1) الإنسان بين المادية والإسلام (ص 31).

لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإسلام

لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإِسلام لا خلاف بين الناس في أنّ المطلوب الذي يرمون إلى تحقيقه وإيجاده هو السعادة، فمن أجل السعادة ينطلق الناس في مساعيهم وأعمالهم يومًا وراء يوم، وشهرا في إثر شهر، وعاما بعد عام، وقد أقرّ بهذه الحقيقة أهل الفكر والمعرفة، وعلماء الاجتماع والنفس، يقول ابن حزم في هذا: "تطلبت غرضا يستوى الناس كلّهم في استحسانه وفي طلبه، فلم أجده إلاّ واحدا، وهو طرد الهمّ، فلما تدبرته علمت أن الناس كلَّهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه، ولكن رأيت الناس على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم ومراداتهم لا يتحركون حركة أصلا إلاّ فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم، فمن مخطىء وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب، وهو الأقلّ من النّاس في الأقل من أموره. فطرد الهمّ مذهب قد اتفقت الأمم كلُّها منذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء، ويعاقبه عالم الحساب على ألا يعتمدوا بسعيهم شيئًا سواه، وكل غرض سواه ففي النّاس من لا يستحسنه" (¬1). وهذا الذي أسماه ابن حزم بطرد الهمّ، هو الذي أسميناه بالسعادة، فالسعادة لا تتحقق إلا بطرد الهموم التي تلمّ بالنفس. ومع أنّ الناس اتفقوا على هذا المذهب إلاّ أنَّهم اختلفوا اختلافا كبيرا في تحديد السعادة التي ينبغي أن يقصدها الإنسان، ويسعى إلى تحقيقها في واقع الحياة. ¬

_ (¬1) كتاب الأخلاق والسير ص 13، 14.

والسبب في هذا الاختلاف يعود إلى الجهل الذي لا يستطيع الِإنسان أن يتخلص منه مهما أوتي من علم، فكثير من النَّاس يطلب أمورا ويكون في تحقيقها دمارهم وهلاكهم، وآخرون يظنون أن الشقاء يكمن في فعل أمور والسعي إليها، فينفرون منها نفور حمر الوحش من الأسد، وواقع الأمر أنَّ السعادة والصلاح في تحقيق هذه الأمور. وهذا الجهل عائد إلى قلّة العلم بحقائق الأمور وبواطنها، وقلة العلم بالعواقب والنتائج، أضف إلى هذا أنَّ ما وراء الحياة الدنيا غيب لا يدركه الِإنسان، فنظرة الإنسان نظرة محكومة بالدنيا، لا تتجاوزها إلى ما وراءها، لقصور علم الإنسان في هذا إذا اعتمد على نفسه. ويقترن بالجهل ظلم النفس وطغيانها، فالنفوس بما حببّ إليها من الملذات العاجلة المرئية تتعامى عن الخير الحقيقي الذي يجب أن تقصده {بَلْ تُؤثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (¬1). من أجْل ذلك آثر كثيرون النفع الماديَّ وشهوات الدنيا التي تروي أهواء النفوس، وتركوا الآخرة وراءهم ظهريّا لأنّها تحتاج إلى جهد مبذول ومخالفة لأهواء النفوس. ومن أجل عدم قدرة الإِنسان على التعرف على السبيل الأقوم والمقصد الأسمى كانت الرسالات، وجاءت النبوات تجلّي له الحقائق وتبصره بالغاية والنهاية. ¬

_ (¬1) سورة الأعلى / 16.

الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية

الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية هناك دوافع طبعية تدفع الإِنسان إلى تحقيق مراده، وليس كلّ الدوافع الطبعية سيئة ولا قبيحة، بل كثير منها أوجده الله في الإنسان كي يندفع اندفاعًا ذاتيًا لتحقيق مراده الذي تقوم حياته له، ولو لم يخلق الله له هذه الدوافع لما سعى في طلب الرزق، ولما تناول الطعام ولما سعى للزوجة ... وقد لاحظ جمع من العلماء (¬1) أنّ الأمور التي لها دواع طبعية مغروسة في أعماق النفس الإنسانية اكتفى الشارع بشرعها، ولم يقم الدواعي إلى فعلها اكتفاء بالدوافع الداخلية، فهي وحدها كافية في الإلحاح على صاحبها كي ينال مراده منها، ولو قدّر أنّ بعض الناس أراد أن يعمل على تقويض مطلوبات النفوس وتحريمها، كالزواج والطيبات من الطعام ... فإنَّ الشارع يمقت فعلهم هذا، ويعدّه جريمة نكراء. أماّ الأفعال التي تكرهها النفوس وتنفر منها، والشارع يريد من الِإنسان تحقيقها والقيام بها، فإنَّ الشارع يحدث لها من الدواعي بمقدار كراهيتها لها، ونفارها منها، ويكفي أن نعود إلى كتب الترغيب والترهيب، لنعلم ما أعدّه الله للذين يؤدّون الواجبات، ويكثرون من المستحبّات من أجر عظيم، وجزاء كريم، عندما تسمع به القلوب وتعيه فإنّه يستهويها، ويملك عليها أمرها، فلا تملك إلا أن تندفع إلى تحقيق ما طلب منها. والناظر في سير الصالحين من هذه الأمّة يعجب من صبرهم على البأساء والضراء، وبذل أنفسهم في سبيل الله، لا يرهبون الردى، ولا يقيمون وزنا للأواء والآلام. ¬

_ (¬1) راجع مقالات الإسلاميين 2/ 114، والداء والدواء ص 159.

يعجب الناظر من صبرهم على السهر الطويل يصلّون ويستغفرون، ومن بذلهم الكثير والقليل، لا يطلبون جزاء ولا شكورا، ومن امتناعهم عن محبوبات النفوس صائمين في شهور الحرّ ذات النهار الطويل، وما ذلك إلاّ لأنهم علموا عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جعل الله لمن استقام على شرعه، فلم جدوا سبيلا إلا في القيام بما أراد الله منهم مريدين نيل وعد الله. ولقد رأينا الشارع يزيد من الدواعي والترغيب بما يوازي الدواعي الكبيرة التي تدعو إليها النفس والشيطان، بحيث يمنع النفس الأمارة بالسوء، والشيطان الذي يحسّن القبائح للإنسان؛ من السيطرة على قلب الإنسان ولبّه بحيث تكون الغلبة لهما. فالأعمال التي تنفر منها النفوس، ويشق القيام بها عند بني الِإنسان، يقيم الله لها الدواعي التي تجعلها خفيفة على النفوس، تسعى إليها عن رضا وطواعية. وهذا مهج بيّن لمن استقرأ نصوص الكتاب والسنّة، ولذلك وصف الله كتابه بالتبشير والإنذار {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}. (¬1) ووصف رسوله -صلى الله عليه وسلم- بهاتين الصفتين: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الكهف / 2. (¬2) سورة الفتح / 8.

الفصل الأول الغاية التي تتوجه إليها مقاصد المكلفين

الفصل الأول الغاية التي تتوجَّه إليها مقاصدُ المكلّفين

الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص

غاية المكلف في عبادته غاية واحدة المقاصد التي يقصدها المكلفون بالعبادة تنحصر في مقصد واحد، هو قصد الله دون سواه، فالعمل الذي لا يتوجه به إلى الله ليس له قيمة. ومن يستقرىء نصوص الكتاب والسنّة يعلم أن هذا هو القصد الوحيد الذي يرتضيه الإِسلام، فأوّل أمر في كتاب الله هو ما تضمنته هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} (¬2). الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص والقرآن الكريم يطلق على هذا القصد اسم (الإخلاص). والإِخلاص لا يراد به التوجه إلى الله في عمل من الأعمال، بل المقصود به أن يتوجه المكلف بأعماله كلِّها إلى الله وحده، دون سواه، فلا يقصد بعبادته ملكا ولا مَلِكًا، ولا يعبد شجرا ولا حجرا ولا شمسا ولا قمرا. الإخلاص يعني أن يتوجه بالأعمال القلبية لله وحده، كما يتوجه بالأعمال الظاهرة. والإخلاص هو الدين الذي بعث الله به الرسل جميعا، فكان محور دعوتهم ولبّها، وهو الدين الذي طالبت به الرّسلُ الأمم التي أرسلت إليها: {وَمَا أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدِّينَ حُنفَاء} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة / 21. (¬2) سورة البينة / 5. (¬3) سورة البينة / 5.

وكلّ رسول وكان يقول لقومه: {اعبدوا الله ما لَكمْ مِنْ إلَه غَيْرُه} (¬1)، وقد قرّر الله هذه الحقيقة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِلِكَ منْ رَسُولٍ إلاَّ نوحِي إلَيْهِ أنه لاَ إلهَ إلاّ أنَا فاعْبدونِ} (¬2)، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثنا فِي كلِّ أمَةٍ رَسُولا أن اعْبدوا الله واجْتنبوا الطاغُوتَ} (¬3). وتعريفات العلماء للِإخلاص متقاربة، مدارها على قصد الله بالعبادة دون سواه، يقول الراغب في مفرداته: "الإخلاص: التعرّي عما دون الله" (¬4). وعرّفه أبو القاسم القشيري (¬5) بأنه: "إفراد الحقّ سبحانه وتعالى في الطاعات بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرّب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنّع لمخلوق، واكتساب محمدة عند النّاس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى" (¬6). وقال في موضع آخر: "يصحّ أن يُقال: الِإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين" (¬7). وعرفه العز بن عند السلام قائلا: "الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيما من الناس ولا توقيرا، ولا جلب نفع ديني ولا دفع ضرر دنيوي" (¬8). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون / 32. (¬2) سورة الأنبياء / 25. (¬3) سورة النحل/ 36. (¬4) دليل الفالحين 1/ 42. (¬5) هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك النيسابوري من بني قشير بن كعب، شيخ خراسان في عصره من كتبه: (التيسير في التفسير) و (لطائف الإشارات)، و (الرسالة القشيرية)، مولده في سنة (376 هـ)، ووفاته (سنة 465 هـ). راجع: (شذرات الذهب 4/ 180)، و (الأعلام 4/ 180). (¬6) الرسالة القشيرية (ص 95)، المجموع (1/ 29)، دليل الفالحين (1/ 42). (¬7) الرسالة القشيرية (ص 95)، المجموع (1/ 29). (¬8) قواعد الأحكام 1/ 146.

وقال الحارث المحاسبي: "الإخلاص إخراج الخلق عن معاملة الربّ" (¬1). وقال سهل بن عبد الله (¬2): "الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة" (¬3). قال الغزالي بعد ذكره لهذا التعريف: "وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض" (¬4). ومدار الإخلاص في كتب اللغة على الصفاء والتميز عن الأوشاب التي تخالط الشيء يقال: هذا الشيء خالص لك: أي لا يشاركك فيه غيرك. وتطلق العرب (الإخلاص) على الزبد إذا خلص من اللبن والثقل. و (الخِلاص) في لغة العرب: ما أخلصته النّار من الذهب والفضة. والخالص من الألوان عندهم ما صفا ونصع. ويقولون خالصه في العشرة: صافاه. وجاءت هذه المعاني في الكتاب الكريم: {نسْقِيكمْ ممِا في بُطُونِهِ مِنْ بَيْن فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خَالصًا} (¬5)، أي لا يخالطه دم ولا روث. والمراد بقوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيَّا} (¬6) في إخوة يوسف: أي انفردوا، وتميزوا عمن سواهم. والمراد بقوله: {خَالِصَةٌ لِذُكورِنا} (¬7)، فيما حكاه الله عن المشركين: أي لا يشركهم الإناث. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين 4/ 381. (¬2) هو سهل بن عبد الله التستري، أحد أئمة الصوفية المتكلمين في الإخلاص والرياضة وعيوب الأفعال، له (تفسير القرآن)، و (دقائق المحبين)، ولادته في سنة (200 هـ)، ووفاته في سنة (283 هـ). راجع: (وفيات الأعيان 1/ 218)، الأعلام 3/ 210). (¬3) إحياء علوم الدين (4/ 381). (¬4) المصدر السابق. (¬5) سورة النحل / 66. (¬6) سورة يوسف /80. (¬7) سورة الأنعام / 139.

شدة الإخلاص وصعوبته

وقال تعالى في الزينة والطيبات: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1)، أي لا يشركهم فيها الكفار. ومن هنا نرى أنَّ بين المعنى اللغوي والاصطلاحي تناسبا وتوافقا، فالإخلاص يهدف إلى تخليص القصد المتوجه إلى الله تعالى من الأوشاب والأخلاط والفساد الذي يزاحمه ويخالطه، بحيث يتصفى القصد لله عز وجلّ دون سواه في جميع العبادات. شدة الإخلاص وصعوبته الصدق في الإخلاص من أشقّ الأمور على النفوس، وهذه المشقة لا يعاني منها عوام النّاس ودهماؤهم دون العلماء والأئمة، بل كثير من العلماء والصالحين لاقوا هذه المعاناة، يقول سفيان الثوري: "ما عالجت شيئًا عليّ أشدّ من نيتي، إنّها تتقلب علي" (¬2). ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوب ثبِّتْ قَلْبي عَلَى دِينِكَ" (¬3). وكان يكثر في قسمه أن يقول: "لاَ وَمُقَلب الْقُلُوب" (¬4). فالقلوب كثيرة التقلب والتحول في قصودها ونياتها، ومن شاء أن يعلم ذلك فلينظر إلى تحول قصده ووجهته في مدى ساعة واحدة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ قلب إلاّ وَهُو َمُعَلقَ بَيْنَ أُصْبُعينِ مِنْ أَصَابِع الرّحمن، إنْ شَاءَ أَقَامَهُ وإنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، والْمِيزانُ بيَدِ الرَّحْمَن، يَرْفَعُ أقْوَامًا، وَيخَفِضُ آخرينَ إلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف / 32. (¬2) المجموع 1/ 29. (¬3) الترمذي دعوات 89، 124، ابن ماجه كفارات (المسند 2/ 26، 67، 68، 127). (¬4) صحيح البخاري (انظر فتح الباري 13/ 377). (¬5) رواه أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه، والحاكم في مستدركه عن النواس (انظر صحيح الجامع 5/ 5623)، وانظر (كنز العمال 1/ 216).

ويقول صلى الله عليه وسلم: "لقَلْب ابْن آدَمَ أشَدُّ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْر إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا" (¬1). والسبب في تقلّب القلوب يعود إلى كثرة الواردات التي ترد على القلوب، والقلب -كما يقول سهل بن عبد الله-: "رقيق تؤثر فيه الخطرات" (¬2). وقد عدّ الحارث المحاسبي (¬3) الواردات التي ترد على القلب على ثلاثة معان: الأوّل: تنبيه من الرحمن، ففي الحديث: "مَنْ يُرِدِ اللُه به خَيْرًا يَجْعَلْ لَهُ وَاعِظًَا مِنْ قَلْبهِ"، وفي الحديث الآخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ضَرَبَ اللُه تَعَالَىَ مثلاً صِرَاطًَا مُستَقِيمًا، وَعَلَى جَنبتَيّ الصرَاطِ سُورَان، فِيهمَا أَبْوَابٌ مفَتَّحَة، وَعَلَى الأبْوَاب ستُور مُرْخَاة، وَعَلَى الصِّرَاطِ دَاعٍ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخلُوا الصِّرَاطَ جَمِيَعًا، وَلاَ تعْوَجُّوا، وَداعٍ يَدْعُو مِنْ فوْق الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شيئًَا مِنْ تِلْكَ الأبْواب قال: ويحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فإِنكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ .. فَالصِّرَاطُ الإسْلاَمُ، وَالسُّورَانِ حدود اللِه تَعَالى، وَالْأبْوَاب المُفَتَّحَةُ مَحَارِم الله تَعَالَى، وَذَلِكَ الداعي عَلَى رَأْس الصرَاطِ كَتابُ اللِه، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِهِ وَاعِظُ الله فِي قَلْبِ كل مُسْلِم" (¬4). ويرى المحاسبي أن واعظ الله يتحقق في قلب المسلم بأن يحدث الله الخاطر ببال عبده، وينشئه في قلبه، أو بأن يأمر المَلَك بفعل ذلك. الثاني: تزيين الشيطان ونزغه ووسوسته، وقد أمر الله رسوله أن يفزع إلى الله مستجيرا من نزغات الشيطان: {وَإِما يَنْزَغَنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاستعِذْ بِالله إنهُ سَمِيعٌ عَليِم} (¬5). ¬

_ (¬1) أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه عن المقداد (كنز العمال 1/ 216). (¬2) عوارف المعارف ص 21. (¬3) الرعاية ص 78، 79. (¬4) رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه عن النواس، (انظر مشكاة المصابيح 1/ 67)، وصحيح الجامع الصغير ج 4 حديث رقم 3782. (¬5) سورة الأعراف / 200.

وأخبر سبحانه أن الشيطان يوسوس في صدور النّاس: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (¬1). والشيطان عنده القدرة على أن يخالط القلب ويصل إليه، ففي الحديث: "إنَّ الشيْطَانَ يَجْري مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدمِ" (¬2)، وهو يوسوس للإنسان بالشرّ، فإذا ذكر العبد ربَّه اختفى الشيطان، وهرب. والشيطان يزيّن المعاصي والآثام للعبد، ويحركه إلى فعلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (¬3)، أي تحرّكهم إلى المعاصي والآثام تحريكا. وقال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (¬4). وبين الله شيئًا من سبل الشيطان في الوسوسة والتزيين والإضلال: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬5) وفي الحديث أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بأطْرُقِهِ، فَقعَدَ لَهُ بطَريقِ الإسْلاَم فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ ودِينَ آبَائِكَ، وآبَاءِ آَبَائِكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسلم. ثمَ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟ وإنما مَثَلُ الْمهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطَولِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بطَريق الْجهَادِ، وهُو جهاد النفْس وَالْمَالِ فقال: تُقاتلُ، فتُقْتلُ، فَتُنْكَحُ الْمرْأَة، َ ويقْسَمُ المَالُ؟ فَعَصَاَة، فَجَاهَدَ" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الناس/ 4، 5. (¬2) رواه البخاري ومسلم (مشكاة المصابيح 1/ 26). (¬3) سورة مريم/ 83. (¬4) سورة فصلت/ 25. (¬5) سورة النساء 118 - 119. (¬6) رواه أحمد في مسنده من حديث سبره بن أبي الفاكه (إغاثة اللهفان1/ 101).

ومن حكمة الله تعالى أن جعل قلوب العباد ميدان حرب وصراع، فالقلب يتعاوره ملك وشيطان، هذا يلمّ به مرة، وهذا يلمّ به أخرى. يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} (¬1). ووضّح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ففي الحديث: "إن للْمَلِك بِقَلْب ابْن آدَمَ لَمَّةً، ولِلشيْطَانِ لَمَّة، فَلَمَّة الْمَلَك إيعَادٌ بِالْخَيْر، وَتَصْديقٌ بالْوَعْدِ، وَلمَة الشيْطَانِ إيعَادٌ بالشر، وتَكْذِيبٌ بِالْمَوْعِدِ، ثم قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). يقول ابن القيم معقبا على الحديث: "فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه كله نهارا، وآخر بضده" (¬3). وقال الحسن البصريّ: "وإنَّما هما همّان يجولان في القلب: همٌّ من الله، وهم من العدو، فرحم الله عبدا وقف عند همّه، فما كان من الله أمضاه، وما كان من عدوّه جاهده ... " (¬4). والشيطان إنّما يصارع ليملك القلب ويستولي عليه، فيفسده، وبفساده يفسد الجسد كله، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا وإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صلَحتْ صَلَحَ الْجَسدُ كله، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَد كلهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْب" (¬5)، ويقول: "إنّمَا الأعْمَال كَالْوِعَاءِ، إِذَا طَابَ أَسْفَله طَاب أَعْلاه، وإِذَا فَسَدَ أسْفله فَسَدَ أعْلاه" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة /268. (¬2) سورة البقرة /268، والحديث رواه الترمذي، وقال فيه: هذا حديث غريب، (انظر مشكاة المصابيح 1/ 28). (¬3) إغاثة اللهفان: 1/ 28. (¬4) الغنية 1/ 89. (¬5) رواه البخاري ومسلم، (صحيح الجامع ج 3، حديث رقم 3188). (¬6) رواه ابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده، (صحيح الجامع ج 2، حديث رقم 2316).

فالشيطان كما يقول ابن القيم: "يسحر العقل حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزيّن له الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنَّه من أنفع الأشياء، وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء، حتى يخيّل إليه أنَّه يضرّه. فلا إله إلاّ الله، كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال بين القلب وبين الإيمان والإسلام والإِحسان، وكم جَلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة، وشنَّع الحقَّ وأخرجه في صورة مستهجنة! وكم بهرج من الزيوف على الناقدين! وكم روّج من الزغل على العارفين! فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة، وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك .... " (¬1). الثالث: والجهة الثالثة التي تؤثّر في القلب بوارداتها -كما يرى المحاسبي- النفس، فالنَّفس أمارة بالسّوء، تدعو إلى الطغيان وتأمر بالشرّ: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (¬2). وقال نبي الله يعقوب لأبنائه عندما زعموا أن الذئب أكل يوسف: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} (¬3). وقال تعالى في حقّ ابن آدم الذي قتل أخاه: {فَطَوّعَتْ لَهُ نفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} (¬4). ومركب النفس الأمارة بالسوء الهوى والشهوات، فالمسلم لا ينجو إلاّ بمجاهدة الهوى ومصارعته. فهذه الثلاثة ترد على القلب، فيحتاج العبد أن يكون يقظًا دائمًا، يردع نفسه عن هواها، ويكبح زمام النفس الأمّارة بالسوء، ويعدّ العدّة دائما لمحاربة عدوه: الشيطان، ومصارعته بالأسلحة التي عرَّفه الله بها، من الذكر والتلاوة والعبادة ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان 1/ 130. (¬2) سورة يوسف / 53. (¬3) سورة يوسف / 18. (¬4) سورة المائدة / 30.

لماذا كان الله هو المقصود دون سواه

لماذا كان الله هو المقصود دون سواه (¬1) التوجه إلى الله وقصده دون سواه ليس أمرًا غفلا عن الأسباب المنطقية والحقائق الصادقة التي يطمئن إليها العقل وترضى بها النفس، وسنكتفي هنا بإيراد عجالة توضح بعض الحقائق التي تدعونا إلى أن نقصر قصدنا على ربنا في مجال العبودية والقربات. 1 - الغاية التي ليس وراءها غاية: الناس جميعًا مؤمنون وكفار لا بد لهم من مراد يقصدونه، ويتوجهون إليه، على ذلك فطرهم الله، فالإنسان دائم الهم والإرادة، دائب العمل والحركة، ولذلك كان أصدق الأسماء حارث وهمام كما ورد في الحديث (¬2)، لأنَّ كل إنسان حارث بمعنى كاسب، وكلّ إنسان همّام، أي كثير الهم والإرادة. فالإِنسان مجهول على أن يقصد شيئًا، ويريده، ويستعينه، ويعتمد عليه، في تحصيل طلبه، قد يكون هو الله، وقد يكون غيره، ولكنَّ الِإنسان لا يمكن إلاّ أنْ يكون كذلك، أي له مراد يقصده ويتوجه إليه. والسبب في ذلك أن الإنسان فقير إلى غيره محتاج إليه، كي يسد نقصه، ويكمل عجزه ويحصل حاجته، وفقره هذا دائم لا يتوقف ولا ينقطع. ومن عجائب الإنسان أنه إذا أراد شيئًا من المخلوقات ثم حصل عليه ملَّه وطلب غيره أو أكثر منه، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ ¬

_ (¬1) للتوسع في دراسة هذا الموضوع راجع كتاب العبودية لابن تيمية. (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي عن أبي وهب الجشمي، وكانت له صحبة (انظر حاشية المقاصد الحسنة ص 319). وانظر ص 55.

وَادِيانِ مِنْ ذَهَب لَتَمَنّى ثَالِثَا" (¬1). فالنفس الإنسانية دائمة التطلاب لما لم تحصل عليه، ولم تصل إليه، وليس هناك من شيء يمكن أن يسدَّ فقرها وحاجتها إلا أن تصل إلى ربّها ومعبودها، فتعرفه وتقصده دون سواه، عند ذلك يجد القلب مطلوبه، وتحصل النفس على مرادها، فيكون الإطمئنان والراحة والهناء، وفي ذلك يقول ربُّ العزة: {أَلاَ بذِكر الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} (¬2)، فليس هناك ما يمكن أن يجلب الطمأنينة إلا الوصول إلى الربّ المعبود معرفة وقصدا وتوجها. والنفس في طلب مرادها مترقية متسامية، تطلب الأكمل والأفضل، والكمال كلّه والفضل كلّه حازته الذات الإلهية، يقول ابن خلدون في هذا: "وتطلب غريزة العقل مقتضى طبعها: وهو المعرفة والعلم، فتحرك الفكر إلى تحصيله، وتشتاق إلى الكمال الأعلى بمعرفة خالقها، إذ لا ترى موجودا أكمل منه، فلا تزال تتطلع إلى جانبه بتصورات وأفكار تتعاقب عليها، تُلحم وتسدي، وتعيد وتبدي، وحركاتها في جميع هذه الأمور متواترة مترادفة، لا تفتر طرفة عين، ولا يلحقها من الكسل والملال ما يلحق الجوارح والأعضاء، وهي متنقلة دائما أسرع من إيماض البرق وحركة الدبال بالريح" (¬3). والسبب الذي يجعل كثيرا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور، ويقصدون ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا -فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمّة، فكلّما صحّ العلم، وانتفى الجهل، وصحت العزيمة، وعظمت الهمّة؛ طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض النّاس همّه لقمة يسدّ بها جوعته، وشربة روية تذهيب ظمأه، ولباس يواري سوأته- وهو مذهب ذمّ أهل الجاهلية أصحابه، وفي مثل هؤلاء يقول حاتم طيىء: (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) متفق عليه (مشكاة المصابيح 2/ 672). (¬2) سورة الرعد / 28. (¬3) شفاء السائل (23). (¬4) هو حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي القحطاني، فارس شاعر جاهلي، يضرب المثل بجوده، وفاته سنة (46) قبل الهجرة. راجع: (الأعلام) (2/ 151). (¬5) عيون الأخبار (1/ 223).

لَحى اللُّه صُعْلوكًا مُناه وَهَمُّه ... من العيش أن يلقي لبوسا ومطعمًا يَرَىَ الْخُمْصَ تَعْذِيبًا وَإنْ يَلْق شبْعَة ... يَبِتْ قلبه من قلة الهم مبهًا ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا كحال طرفة بن العبد (¬1) الشاعر الجاهلي حيث يقول: (¬2) وَلَوْلاَ ثَلَاثُ هنَّ مِنْ عِيشة الْفَتَى ... وَجَدِّكَ لَم أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُودِي فَمنْهُن سَبْقِي العَادِلَاتِ بِشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ مَتى مَا تُعْلَ بالمْاءِ تُزْيدِ وَكَرِّي إِذَا نَادَى الفضَاف مُحَنَّبًا ... كيد الْغَضَا نَبهتهُ المتَوَردِ وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدجنِ وَالدَّجْن معْجِبٌ ... بِبَهْكَنَةٍ تحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعمَّدِ (¬3) كثير من الناس همّه من دنياه همّ هذا الشاعر المسكين، شربة خمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من النّاس تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف المستجير. وقد يكون مسعى الناس ومطلبهم أمورا يعدّ طالبها سامي الهمّة عالي القصد كحال امرىء القيس (¬4)، عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانقلب جادّا طالبا إعادة هذا الملك (¬5): فلو أَنَّ ما أَسْعى لِأدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي ولَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثّلٍ ... وَقَدْ يدْرِك الْمَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي ¬

_ (¬1) طرفة بن العبد بن سفيان البكري الوائلي شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، أشهر شعره معلقته التي هي إحدى المعلقات السبع، توفي شابا في البحرين سنة (60) قبل الهجرة. راجع الأعلام (3/ 324). (¬2) شرح المعلقات للزوزني ص 82، 83. (¬3) الجدّ: الحظ والبخت، والعوّد: جمع عائد من العيادة، والعاذلات: جمع عاذلة والعذل الملامة. والكميت اسم من أسماء الخمر فيها حمرة وسواد. والكر: العطف. والمحنّب: الذي في يده انحناء، والسيد: الذئب. والغضا: الشجر. وقصرت الشيء: جعلته قصيرا. والدجن: إلباس الغيم آفاق السماء. والبهكنة: المرأة الحسنة الخلق السمينة الناعمة. والمعمد: المرفوع بالعمد. (¬4) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي، أشهر شعراء الجاهلية على الإطلاق يماني الأصل، مولده بنجد سنة (130) قبل الهجرة، وكان والده ملك غطفان، توفي سنة (80) في الهجرة. راجع: (الأعلام 1/ 351). (¬5) عيون الأخبار (1/ 235).

2 - هو المستحق لأن يقصد ويعبد

ولقد طال تطلابه للملك، حتى قضى نحبه في طلبه: بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ ... وَأَيْقَنَ أَنَّا لَاحِقَانِ بِقيْصَرَا فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إنما ... نُحَاوِلُ مُلْكًَا أَوْ نَمْوتَ فَنُعْذَرَا لقد ضيّع حياته أولا في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصّل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي (¬1) من بعده، طلبا الملك والِإمارة، فأعياهما الطلب. أما همة المسلم فلا تقف إلاّ أن تصل إلى الغاية التي لا غاية وراءها، والمطلوب الذي لا مطلوب بعده. قيل لأحد الصالحين: فلان بعيد الهمّة، قال: إذن لا يرضى بما دون الجنة، وفي عيون الأخبار أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، جاءه دكين الراجز، فقال له عمر: يا دكين، إنَّ لي نفسًا توّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلمّا نلتها تاقت إلى الخلافة، فلمّا نلتها تاقت إلى الجنة (¬2). 2 - هو المستحقُّ لأن يقصد ويعبد: والله وحده المستحقّ لأن يقصد دون سواه، لأنّه المعبود الذي يتصف بصفات الجلال والكمال، فهو الكامل في ذاته وصفاته، وهو المنعم المتفضل بيده النفع والضر، والخفض والرفع، والعطاء والمنع والنصر والخذلان، والعزُّ والإذلال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬3). ¬

_ (¬1) هو أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي الشاعر الحكيم، قال الشعر صبيا ومدح به الحكام، وسعى إلى الإمارة فلم يحصل شيئًا، مات قتيلاً في الطريق إلى بغداد، حياته (303 - 354 هـ). راجع: (وفيات الأعيان 1/ 120)، (لسان الميزان 1/ 159)، و (الأعلام 1/ 110) .. (¬2) عيون الأخبار (1/ 231). (¬3) سورة آل عمران / 26 - 27.

فهو وحده المطلوب المقصود، لأنَّه الخالق الهادي المطعم المسقي، الذي يشفي من الأمراض، والذي يغفر الذنوب والخطايا: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (¬1). فمنه المبتدأ وإليه المنتهى، له الحمد في الأولى والآخرة، لا ربَّ غيره، ولا معبود سواه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} (¬2). فمن كانت هذه صفاته، وتلك أفعاله- فإنه الذي يستحق العبادة دون سواه، وهو الذي ينبغي أن يكون المقصد والمعاذ والملاذ. والتوجه إليه وقصده بالعبادة حقه الخالص الذي لا يشركه فيه أحد، فعن معاذ ابن جبل، قال: "كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: "يا معاذ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الله عَلَى الْعبَاد، وَمَا حَقُّ الْعِباد عَلَى الله؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حَقُّ الله عَلَى الْعِبَاد أَنْ يَعْبُدوهُ، وَلَا تشْرِكوا بِه شَيْئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى الله أَلا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يشْرك بِهِ شَيْئًَا .. " (¬3). فهو الذي يستحقُّ العبادة خوفا ورجاء، ورغبة ورهبة، وتوكّلا واعتمادا، وصلاة وصياما، وزكاة وحجّا، ونذرا ودعاء ... هو المستحق لذلك لذاته -سبحانه - ولو لم يخلق جنّة ولا نارا، ولم يضع ثوابا ولا عقابا، كما جاء في الأثر: "لوْ لَمْ أخْلُقْ جَنَّة وَلَا نَارًا أَمَا كُنْتُ أَهْلاً أنْ ¬

_ (¬1) سورة الشعراء/ 78 - 82. (¬2) سورة النجم/ 42 - 51. (¬3) متفق عليه (مشكاة المصابيح 1/ 14).

3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه

أعْبَدَ؟ " (¬1) وصدق الله العظيم إذ يقول: {هوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأهْلُ الْمغْفِرةِ .. } (¬2). وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله: هَب الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رسُلهْ ... وَجَاحِمَةُ النَّارِ لَمْ تُضْرَم أَلَيْس مِنَ الْواجِبِ المسْتَحِقِّ ... إِطَاعَة رَب الْورَى الَأكْرَمِ؟ 3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه: إذا كانت الغاية التي يرمي إليها العبد من وراء عمله غير مقصورة على الله -تعالى- فإن الإنسان يشقى بعمله وبنفسه، وتصبح الحياة قطعة من الشقاء، ولا يغني عن الإنسان أن يحوز الدنيا، ويملكها، فإن منابع السعادة والشقاء هناك في أغوار النفس الإنسانية، فالِإنسان مفطور على أن يتوجه إلى الله وحده بالعبادة والاستعانة، فمتى حرم الِإنسان من هذا التوجه فإنّه لا يغني عن هذا التوجه شيء، لأن النفوس في تطلاب دائم لمعبودها وخالقها وفاطرها، إن التوجه لغير الله مخالف للفطرة الِإنسانية، والمتوجه إلى غير الله حاله كحال الذي يستعمل ساعة يده مطرقة حديد، فإنه يظلم الساعة، لأنّها لم تصنع لذلك، والنفس الإنسانية خلقت للعبادة والتوجه إلى الله، فإن توجهت إلى غيره فقد ظلمت، ولذلك جاء في القرآن: {إن الشِّرْكَ لَظلْمٌ عَظيمٌ} (¬3) والتوجّه إلى غير الله إفساد للنفوس: {وقَدْ خَاب مَنْ دَساها} (¬4)، كما أن التوجه إليه وحده بالعبادة إصلاح وتزكية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكَاهَا .. } (¬5). إن فطرة الإنسان تدفعه إلى التوجه إلى المعبود، والفطرة قد لا تعرف المعبود الحقّ، ولكنها تطلبه دائما، وقد أرسل الله رسله كي يهدوا الّناس إلى معبودهم ¬

_ (¬1) هذا أثر يروى وليس له وجود في كتب السنة. (¬2) سورة المدثر/ 56. (¬3) سورة لقمان / 13. (¬4) سورة الشمس / 10. (¬5) سورة الشمس /9.

الحق، وعند ذلك يصل الإنسان إلى مطلوبه ومعبوده الذي لا غنى له عنه ولا سكون له إلا به، ذلك مقتضى طبعه، وتلك حاجة نفسه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1). فالإنسان يشقى إذا كان وجهه وقصده وهمه لغير فاطره، ويشقى مرة أخرى لأن همومه تتعدد، وغاياته تتشتت، فإذا لم يكن همّ العبد همًّا واحدا تقاسمته هموم الدنيا، فعند ذلك لا يدري إلى أين يسير، ولا كيف يتجه؟! فمرة يشرّق، ومرة يغرب، ومرة يعبد صنما، وأخرى شمسا وقمرا، ويحاول إرضاء هذا مرة، وذاك مرة، والذي رضي عنه قد يغضب عليه، والذي زين له العمل قد يستقبحه منه بعد حين، وعند ذلك يصاب الإنسان بما أسماه علماء النفس بالصراع النفسي، والقلق الروحي، والعقد النفسية والأمراض ... ، وقد يصل الأمر بالإنسان إلى الانتحار. أما المسلم فغايته واحدة، ومنهجه الذي يؤدي إلى الغاية واحد، وهو قادر على أن يرضي الله ويسير على هداه، وبذلك تجتمع على العبد نيته، ويتوحد مطلوبه، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "منْ كانتْ نِيّته الآخرةُ جَعَل الله غِنَاهُ فِي قَلْبهِ، وَجمَع لهُ شمْلَهُ، وَأتته الدنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة، وَمنْ كانت نيتَه طلَبُ الْدنْيَا جَعَلَ الله فقْرهُ بينْ عَيْنَيْه، وَشتَّت عَليْه أَمْرَه، وَلَا يَأْتيه منْهَا إلا مَا كتب له" (¬2). وانقسام الغاية يشقي الإنسان، لأن الإنسان ذو قلب واحد لا يمكنه أن يتخذ معبودين، ويتجه إلى غايتين تتقاسمان أعماله: {ما جَعَلَ الله لِرَجل مِنْ قلْبَيْن فِي جَوْفِهِ}. (¬3) فالإنسان له قلب واحد ينبغي أنْ يتوجه إلى رب واحد، فإنْ توجّه إلى معبودين سبب ذلك للإنسان شقاء وأي شقاء. وخلاصة القول أن التوجه إلى غيره في جملته شقاء، شقاء القلب والنفس، وهو كذلك ضلال عن الحق، وبعد ¬

_ (¬1) سورة الروم / 30. (¬2) رواه الترمذي عن أنس وأحمد والدارمي عن أبان عن زيد بن ثابت (انظر الدين الخالص 2/ 388). (¬3) سورة الأحزاب / 4.

4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الإنسانية إلا بتوجهها إليه

عن جادة الصواب. والسعادة تكمن في التوجه الصادق إلى الله دون سواه. هذا في الدنيا، وهناك السعادة والشقاء في الآخرة، وهما مرتبطان بمسيرة الإنسان في هذه الحياة، فالذي توجه إلى الله وحده في الدّنيا دون سواه، وعمل في دنياه للغاية الباقية، فإنه في الآخرة من الفائزين السعداء، وتلك السعادة كما يقول الغزالي: "بقاء بلا فناء، ولذة بلا عناء، وسرور بلا حزن، وغنى بلا فقر، وكمال بلا نقصان، وعزّ بلا ذلّ" (¬1). وهذه هي السعادة الحقيقية الباقية الدائمة، وغيرها مضمحلّ ذاهب. يقول ابن حزم في هذا: "إذا تعقبت الأمور كلَّها فسدت عليك، وانتهت في آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا إلى أنّ الحقيقة إنّما هي العمل للآخرة فقط؛ لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن، إما بذهابه عنك، وإمّا بذهابك عنه؛ ولا بد من أحد هذين السبيلين؛ إلا العمل لله عز وجل، فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل: أمّا في العاجل فقلة الهمّ بما يهتم به النّاس، وإنك به معظّم من الصديق والعدو؛ وأما في الآجل فالجنَّة". (¬2) وفي السعادة والشقاء الدنيوي والأخروي يقول رب العزة: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (¬3). 4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه: إنَّ مفهوم العبودية لله في الإسلام يعني الحرّية في أرقى صورها وأكمل مراتبها، العبودية لله إذا كانت صادقة تعني التحرر من سلطان المخلوقات والتعبد لها، فالمسلم ينظر إلى هذا الوجود نظرة صاحب السلطان، فالله خلق كل ما فيه من ¬

_ (¬1) ميزان العمل ص 180. (¬2) الأخلاق والسير ص 13. (¬3) سورة طه / 123 - 127.

أجلنا، وسخّره لنا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السمَوَاتِ وَمَا في الأرْضِ جَميعًا منه ... } (¬1). وما دام الأمر كذلك فالمسلم لن يخضع لهذه المخلوقات، وبين يقصدها لأنها أقل منه شأنا، فهي مخلوقة لنفعه وصلاحه. والمسلم لن يستعبده إنسان مثله، فالناس جميعا عبيد الله، فإنْ حاول بعض المتمردين من بني الإنسان أن يطغى ويبغي- وقف المسلم في وجهه يقول كلمة الحق، ويذكر هؤلاء بأصلهم الذي منه خلقوا، ومصيرهم الذي لا بدَّا لهم منه، ويذكر هؤلاء بضعفهم وعجزهم، علَّهم يفيقون ويرجعون. وبالعبودية لله يتحرّر الِإنسان مِنْ أَهْوائِهِ، فالهوى شَرُّ وثنٍ يعبْد: {أرأيتَ من اتخَذَ إلهَهُ هَوَاه} (¬2) فالهوى قد يجْعل إليها معبودا يسيطر على نفس صاحبه، فلا يصدر إلا عن هواه، ولا يسعى إلاّ لتحقيق ما يبعثه إليه، والإسلام يعتبر الخضوع لأهواء النفس التي تدعو إلى المحرمات والآثام عبودية لهذه الأمور. أما التسامي عمّا تدعو إليه النفس من المحرمات -وكان كانت محبوبة للنفوس- فإنه يمثل في الإسلام الحريّة الحقة، لأنّه وإنْ قيدت حرّيته من جهة، بأن ألزم بترك بعض ما يشتهي، إلاّ أنه تحرّر من سلطان الهوى من جهة أخرى. والذين يزعمون أنهم يستطيعون تحقيق الحريّة بعيدا عن الله ومنهجه مخطئون، لأنَّ الإِنسان، بل كل مخلوق، سيبقى عبدا شاء أم أبى، إلا أنه إن رفض الخضوع لله اختيارا فسيخضع لمخلوق مثله، لا يملك له نفعا ولا ضرا، بل قد يخضع لمن هو أقل منه شأنا، وبذلك يكون قد استبدل عبودية بعبودية، ولم يخرج من العبودية إلى الحرية، بل خرج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت، وثنا، أو صنما، أو بشرا، أو شمسا، أو قمرًا ... ، وقد ذمّ الله كل من كانت هذه ¬

_ (¬1) سورة الجاثية / 13. (¬2) سورة الفرقان / 43.

صفته {وجَعَلَ مِنْهُم الْقِرَدَةَ والْخنازِيرَ وَعبدَ الطَّاغوتَ} (¬1)، فمما ابتلاهم به جزاء تكذيبهم أن جعلهم عبيدا للطواغيت بعد أن كانوا عبيدا لله. وفي هذه الأيام تتردّد كلمة الحرية، ويزعمون أنَّ الثورة الفرنسية أعلنت هذا المبدأ، وأن هيئة الأمم المتحدة أقرت الحرية مبدأ، وليس الأمر كذلك، فإنَّ ما فعله هؤلاء أنَّهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة، إلى عبودية نظام آخر، وقانون آخر، وطائفة أخرى، ولكن هؤلاء جميعا بَقَوْا عبيدا، وإن ظَنّوا أنفسهم أحرارا، ولن يحررهم من سلطان البشر ويخلصهم من العبودية الظالمة إلاّ أن يكونوا عبيدا لله، يقصدونه وحده، وعند ذلك يتحررون من سلطان الآخرين، حتى من هوى النفوس التي تتردّد في أجسادهم. وأكثر الناس بعدا عن العبودية لله هم أكثر الناس عبودية لغير الله، فهؤلاء الشيوعيون أعظم الناس تمردا على الله وبعدا عنه، يستكبرون حتى عن التصديق بوجوده، وهم أعظم الناس عبودية لغير الله، فالفئة الحاكمة في روسيا والصين تسيطر على رقاب الناس سيطرة كبيرة، فلا يكادون يجدون طعم الحياة. والحريّة هناك وهم كبير، وسراب خادع، أراد الشيوعيون أن يتحرروا من سلطان الله، فأقاموا الدولة إليها تصادر حرية الأفراد، وتمنعهم من إبداء الرأي، وتتحكم في ممتلكاتهم، وتسوق الملايين إلى المعتقلات في صحراء سيبيريا، وإلى السجون التي غصَّت بالنزلاء على سعتها وكثرتها، وفي الأعياد يمر عشرات الملايين من البشر مطأطئي الرؤوس أمام جثة مؤسس المذهب المحنطة في الميدان الأحمر في موسكو!! لقد أخرجوا النّاس من ظلمات متراكمة إلى ظلمات أشدّ، وأخرجوهم من عبودية إلى عبودية، ولن يكون من مخلص من العبودية لغير الله إلا هذا الإسلام. ولقد صدق موفد المسلمين وبرَّحين واجه قائد الفرس قائلا: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل ¬

_ (¬1) سورة المائدة / 60.

5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم

الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" (¬1). وكلّ من لم يرض بالإسلام دينا، وبحكمه حكما، فإنّه غارق في قاذورات الجاهلية: {أفَحُكْمَ الْجَاهِبيةِ يَبغُونَ ومَنْ أحسنُ مِنَ الله حكْمًا لِقَوم يُوقِنونَ} (¬2). والذين يرفضون أن يكون الله معبودهم فإنهم يهينون أنفسهم بتعبيدها لمخلوقات أقل منها شأنا وأحقر منزلة، وهم في ذلك يُدسون هذه النفوس. والإسلام يعدّ الذي يكون جلّ همه وغاية مطلبه الدينار والدرهم والملبس والمأكل؛ عبدا لهذه التي سيطرت على نفسه: "تعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تعس عبد الدرهم، تَعِسَ عَبْدُ الْخميصَة، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ" (¬3). 5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم: ومما يوجب على العباد التوجه إلى رب العباد دون سواه أنه سبحانه وتعالى محسن إليهم، متفضل عليهم، وهو غني عنهم، يجلب لهم الخير ويكشف عنهم الضرّ، لا لجلب منفعة إليه من العبد ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانا. والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه، ويعظّموه، ويجلبوا له منفعة، ويدفعوا عنه مضرة، وإن كان ذلك أيضا من تيسير الله تعالى. فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله، فإنَّهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبتهم، سواء أحبوه لجماله الباطن أوالظاهر، وإذا أحبوا الأنبياء والصالحين طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنسانا لشجاعته أو لرياسته أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبّة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ولو بالدعاء أو ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (7/ 39) ط الثانية 1977 مكتبة المعارف- بيروت. (¬2) سورة المائده / 50. (¬3) حديث نبوي رواه البخاري في صحيحه (مشكاة المصابيح 2/ 649)، والخميصة: ثوب خز، أو صوف معلم، وقوله: (انتكس)، أي صار ذليلا، دعاء عليه، وقوله: (شيك) أي دخل الشوك في عضوه، وقوله: (انتقش): أي لا يقدر على إخراجه.

الثناء- فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملك وعبيد المالك وأجراء الصانع وأعوان الرئيس؛ كلّهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرّج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم إلاّ أن يكون قد عُلّم وأدّب من جهة أُخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع على عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلّا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. العباد يقصدون نفع أنفسهم، والربّ يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وهى منفعة لك بلا مضرة.

حكم الإخلاص في العبادات

حكم الإِخلاص في العبادات يقول صدّيق حسن خان (¬1): ولا خلاف في أن الإِخلاص شرط لصحة العمل وقبوله (¬2)، وممّن نصَّ على ذلك العزّ بن عبد السلام، قال: "إخلاص العبادة شرط" (¬3)، وقد عدّه القرطبي: واجبا (¬4)، وابن تيمية: فرضا (¬5). ولذلك كان عجيبا أن يصحح بعض فقهاء الأحناف عادة من لا إخلاص لهم، يقول الحموي: "إذا صلى رياء وسمعة تصحّ صلاته في الحكم، يعني لوجود شرائطها وأركانها، ولم يستحقّ الثواب لفقد الإخلاص" (¬6). ويقول في موضع آخر: "النية الخالصة ظاهرة في حصول الثواب لا الصحة، لأنَّ الثواب يبنى على وجود العزيمة وهو الإخلاص، وأما الصحة فلا تتوقف على الإِخلاص، بل على أصل النية، فإنّه لو صلّى رياء صحّت صلاته، وكان غير مثاب عليها" (¬7). ويقول ابن عابدين: "الإخلاص شرط للثواب لا للصحة، فإنّه لو قيل لشخص صلّ الظهر ولك دينار، فصلّى بهذه النية، ينبغي أن يجزيه، وأنه لا رياء في ¬

_ (¬1) هو محمد صديق حسن خان بن علي الحسيني، ولد في (قنوج) بالهند، (1248 هـ)، كان ثريا وتزوج ملكة بهوبال، له نيف وستون مؤلفا، منها (تفسيره للقرآن)، و (حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة)، و (الدين الخالص)، توفي في عام (1307 هـ). راجع: (الأعلام 7/ 36). (¬2) الدين الخالص 2/ 385. (¬3) قواعد الأحكام 1/ 207. (¬4) تفسير القرطبي 20/ 144. (¬5) مجموع الفتاوى (26/ 24). (¬6) غمز عيون البصائر 1/ 30، 32. (¬7) المصدر السابق.

الفرائض في حقّ سقوط الواجب، فهذا يقتضي صحة الشروع مع عدم الإخلاص" (¬1). وهذا الذي قرراه لو أراد به عدم مطالبة من لم يخلص بالعبادة في الدنيا، وإنما هو أمر بينه وبين الله تعالى كما يقول صاحب الذخيرة المرضية (¬2) - لكان قولهم صحيحا، أما وهم يصححون عبادته، ويعدّون النية شرطا للثواب لا للصحة فلا. وما قاله هذان الفقيهان (¬3) هو أثر من آثار تقسيم العلوم الِإسلامية إلى وحدات مستقلة، وقد وصل الأمر إلى درجة أن كادت تنفصم الوشيجة التي تربط بينها جميعا، فالإخلاص -وهو أحد مباحث علم التوحيد- أصل لكلّ عمل قلبي أو قولي أو بدني، وكان ينبغي أن يعنى بهذا عناية تامة، أما أن يزعم بعض المتأخرين "أن الِإخلاص أمر زائد على النيّة لا يحصل بدونها، وقد تحصل بدونه، وأنَّ نظر الفقهاء قاصر على النية، وأحكامهم تجري عليها" (¬4)، فهذا قول غير صحيح. وقد حكم السيوطي ببطلان عبادة من نوى بذبحه الأضحية أن تكون لله ولغيره (¬5)، وما ذلك إلا لأنَّها فقدت الِإخلاص. وقد ذكرنا قول بعض العلماء الذين عدوها شرطا. وممن نصَّ على بطلان عبادة غير المخلصين الحطّاب، قال: "فالمخلص في عبادته هو الذي يخلصها من شوائب الشرك والرياء، وذلك لا يتأتى له إلاّ بأن يكون الباعث له على عملها قصد التقرب إلى الله تعالى، وابتغاء ما عنده، فأما إذا كان الباعث عليها غير ذلك من أغراض الدنيا فلا تكون عادة، بل مصيبة موبقة لصاحبها" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 1/ 304. (¬2) الذخيرة المرضية ص 22. (¬3) هذه المسألة ليست اتفاقية عند الأحناف، فقد عدَّ الكاساني -في بدائع الصنائع (1/ 127) - النية شرطا من شروط صحة الشروع في الصلاة، وعلل ذلك: "بأن الصلاة عادة، والعبادة إخلاص العمل بكليته لله، قال تعالى: {ومَا أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، والإخلاص لا يحصل بدون النية، وقَال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"لا عملَ لمنْ لا نية له"، وقال:" إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى". (¬4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 20. (¬5) المصدر السابق. (¬6) الحطاب على خليل 2/ 532 وقد نقل كلامه عن القرطبي.

وتحدث ابن تيمية عن الذين يدفعون زكاة أموالهم إلى السلطان خشية أن تضرب أعناقهم، أو تنقص حرماتهم، أو تؤخذ أموالهم، وعن الذين يقومون يصلّون خوفا على دمائهم وأغراضهم ... ، تحدث عنهم واصفا إياهم بالنفاق والرياء، ثم قال: "عندنا وعند أكثر العلماء، أن هذه العبادة فاسدة، لا يسقط الفرض بهذه النية" (¬1). وما لنا نذهب بعيدا والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الله تَعالَى لاَ يَقْبَل مِنَ العَمَلِ إِلّا ما كَانَ له خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْههُ" (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 26/ 28، 30. (¬2) رواه النسائي عن أبي أمامة (انظر صحيح الجامع ج 2 حديث رقم 1852).

الفصل الثاني مفهومات خاطئة للإخلاص

الفصل الثاني مفهومات خاطئة للإخلاص

مفهومات خاطئة للإخلاص (¬1) من المعضلات التي واجهت البشر في القديم والحديث أنهم لا يدورون مع الحق حيث دار، بل يجنحون إلى الإفراط أو التفريط، فنجد أقواما يؤلهون عيسى، وآخرين يلعنونه. ونجد أقواما كالشيوعيين يحرمون الفرد حريته، وآخرين يتمادون في إعطائه الحرية بلا قيود كالرأسماليين، وجاء الإسلام بالمنهج الوسط، وكانت هذه الأمة أمة وسطا: {وَكَذَلِكَ جعَلْنَاكمْ أمةً وَسَطًا} (¬2) والوسط خير الأمور، فالفردوس أعلى الجنّة ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة كما ورد في الحديث. وفي موضوع البحث غلا أقوام غُلوًا شديدًا في تعريف الإخلاص، حتى عدوا تحصيله ضربا من الخيال، ولو تفكرنا فيما وضعوه من مواصفات للإنسان المخلص لعسر علينا أن نجد مسلما يتحقق الإخلاص فيه. ومهمتنا هنا أن نعيد الحق إلى نصابه، وأن نكشف الزيف الذي علق بهذا الموضوع الخطير الذي يعدُّ أصل الأصول، وغاية الغايات، وإلا فإن اليأس سيصيب السالكين إلى الله، وعند ذلك سيقعدون عن العمل، بل سيتوجهون إلى الأعمال المخالفة لمنهج الله. ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة ما كتبة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب العبودية، وفي ج 10 من مجموع الفتاوى. (¬2) سورة البقرة /143.

1 - الإخلاص والتجرد عن الإرادة

1 - الِإخلاص والتجرد عن الِإرادة يرى بعض السالكين أن الاخلاص لا يتحقق إلا إذا تجرد الِإنسان عن إرادته، وتجرد عن رؤية أعماله، وعدَّوا النظر إلى شيء من ذلك قادحا في الإخلاص: فالسهروردي يصف هؤلاء بأنهم غابوا فى إخلاصهم عن إخلاصهم، ويذكر عن بعضهم قوله: "متى شهدوا في إخلاصهم الِإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص" (¬1). ويعرّف الجرجاني (¬2) المريد بأنَّه المجرد عن الِإرادة، وينقل عن محيي الدين بن عربي أنه قال في الفتح المكي: "المريد من انقطع إلى الله عن نظر واستبصار، وتجرد عن إرادته"، وعلَّل مقالته هذه بأن المريد: "يعلم أنه لا يقع في الوجود إلاّ ما يريده الله تعالى، لا ما يريده غيره، فيمحو إرادته في إرادته، فلا يريد إلا ما يريده الحق" (¬3). وفي موضع آخر يعرف الجرجاني المريد بأنَّه: "المتجرد عن إرادته"، ويقل عن أبي حامد بأنه عرف المريد بقوله: "هو الذي فتح له باب الأسماء، ودخل إلى جملة المتوصلين إلى الله تعالى بالاسم" (¬4). وذكر الجرجاني مرتبة فوق ذلك عنده، فقد عرَّف المريد بأنه "عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم كلّها والمقامات من غير مكابدة" (¬5). ¬

_ (¬1) عوارف المعارف ص 71. (¬2) هو علي بن محمد بن علي السيد الزين الجرجاني، من كبار علماء العربية، ولد في (تاكو) سنة (740 هـ)، ودرس في شيراز، وتوفي بها سنة (816 هـ)، له كتاب (التعريفات)، و (شرح مواقف الإبجي). راجع: (الأعلام 5/ 816). (¬3) التعريفات ص 184. (¬4) المصدر السابق ص 234. (¬5) المصدر السابق.

هل يمكن العمل بدون إرادة

ووضّح الغزالي هذا في الإحياء، فقال: "النية إنما مبدؤها من الإيمان، فالمؤمنون يبدأ لهم من إيمانهم ذكر الطاعة، فتنهض قلوبهم إلى الله من مستقر النفس، فإن قلوبهم مع نفوسهم، وذلك النهوض هو النية"، ثم بيّن أنَّ أقواما لا يحتاجون إلى النيّة، لأنهم صاروا إلى حال فوق ذلك، فقال: "وأهل اليقين جاوزوا هذه المنزلة، وصارت قلوبهم مع الله مزايلة لنفوسهم بالكليّة، ففرغوا من أمر النيّة، إذ هي النهوض، فنهوض القلب من معدن الشهوات والعادات إلى الله تعالى بأن يعمل طاعة وهو بنية، والذي صار قلبه في الحضرة الأحديَّة مستغرقا محال أن يقال نهض إلى الله في كذا وهو ناهض بجملته مستغرق في جزيل عظمته، قد رفض ذلك الوطن الذي كان موطنه وارتحل إلى الله" (¬1). وهذا الذي نقلناه عن هؤلاء يحتاج إلى تمحيص وبيان. هل يمكن العمل بدون إرادة: الأمر الأول الذي يحتاج إلى تمحيص هو دعوى إمكان العمل بغير إرادة، هل يمكن ذلك؟ لقد تخيّل بعض النَّاس أن ذلك ممكن، وظنُّوا أنَّ كمال العبد ألّا تبقى له إرادة أصلا، ولعل السب في خطئهم أنهم لم يثسعروا بإرادتهم لفرط تعبدهم، فالإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر، فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها، وهذا غلط، فالعبد لا يتصور أن يتحرك إلا عن إرادة وهمّ. وقد يريد بعض العباد والسالكين بالتجرد عن الإرادة قصد الله وحده والتوجه إليه دون سواه، والفناء في ذلك بحيث لا يشهدون سواه، ويسمّون هذا (الفناء عن شهود السوي)، وواقع الأمر أنَّ شدّة انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته سبَّب للقلوب ضعفا عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد، فلا يخطر بقلوبهم غير الله، كما قيل في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (¬2) قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين. (¬2) سورة القصص/ 10.

موسى، ومثل هذا يحدث لمن فجأه أمر شديد من حب أو خوف أو رجاء، فإن القلب يبقى منصرفا عن كلّ شيء إلاّ عما قد أحبّه أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغرافه في ذلك لا يشعر بغيره. وعندما يقوى هذا الحال عند السالكين يغيب الواحد منهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبّدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وفي مثل هذه الحال يضعف المحبّ ويضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه. وهذا الموضع زلّ فيه أقوام، وأكابر الأولياء كأبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يقعوا في مثل هذا، فضلا عمّن هم فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الِإيمانية من أن تغيب عقولهم، أو يحصل لهم غشي أو صعق أو فناء أو منكر أو وَلَة أو جنون، وإنَّما كان مبادىء هذه الأمور في التابعين من عبّاد البصرة، فإنّه كان فيهم من يُغشى عليه إذا سمع القرآن، ومنهم من يموت. وصار في بعض العبّاد والنساك بعد ذلك من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط منه. وهذه الأحوال ليست كمالا بحال من الأحوال، فالكمال هو قصد الله وحده دون سواه، مع بقاء العلم والتمييز، بحيث يعرف القاصد الأمور على ما هي عليه، والكمال لا يقتضي أن يغيب العبد عن مشاهدة المخلوقات، بل يشهدها قائمة بأمر الله، مدبَّرة بمشيئته مستجيبة له قانتة له، فيكون للعباد فيها تبصرة وذكرى، ويكون

ما يشهدونه من ذلك مؤيدا وممدّا لما في قلوبهم من إخلاص الدّين، وتجريد التوحيد لله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬1). وحسبنا أن نعلم أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرج به إلى السموات العلا، وعاين هناك ما عاينه من الآيات، وأوحى الله إليه ما أوحى من أنواع المناجاة، وأصبح في غداة تلك الليلة في مكة، لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ما يظهر على العباد حال الذكر والمناجاة، ولا غابت عنه المخلوقات حال عروجه. وقد أخطأ بعض السالكين خطأ قريبا من هذا، فظن أنَّ الطريقة الكاملة للعبد ألّا تكون له إرادة أصلا، وأن مرادهم هو ما يقدره الرب، ويرون أن هذا هو القيام بالحقيقة العظمى، وقالوا: إن هذا النهج يجمع على المرء قلبه، فلا تتفرق به السبل، لأنَّه لا يرى للمخلوقات أفعالا، ولا يرى إلاّ الله وحده، وهؤلاء يتناقضون، فقد يقع من العبد الفسق والفجور والقتل وغير ذلك مما أذن الله في كونه وقدره، ولكنَّه كرهه من العبد وأبغضه، فكان لا بد للعبد من أن ينظر إلى الأمور لا من حيث هي مقدّرة كائنة، بل من حيث كونها مأمورا بها أو منهيا عنها، فيريد العبد ما أمر به، ويقصر عما نُهي عنه، فالمريد ما قدر عليه، سيقع في المحرمات، ويترك الواجبات، ثم يزعم أنه قائم بالحق، لأن هذا فعل الله فيه، لا فعله هو، وما دام الأمر كذلك فلا تثريب عليه، وهذا ضلال وبُعْد عن الحق. فليس الحقّ في ألا يريد العبد شيئًا، ولا أن يريد كلّ ما هو واقع وكائن، بل يريد مراد الله، ويحبّ ما أحبه. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران / 190 - 191.

الفناء الحق

الفناء الحق: والفناء كلمة لم يأت بها كتاب ربنّا ولا سنّة نبينا -صلي الله عليه وسلم- وهي تحتمل حقا وباطلا، وقد بينّا فيما سبق شيئًا من الغلط الذي وقع فيه بعض النّاس. وقد غلا آخرون فزعموا أنّ الخالق حل في خلقه فلا موجود إلاّ الله، فوجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بن الرب والعبد، وهذا من أعظم الضلال!! وقد يظنّ ببعض الصالحين الأخيار أنّهم يذهبون هذا المذهب ويتجهون هذا الاتجاه، والأمر ليس كذلك، فإذا قال بعض الأخيار: ما أرى غير الله، أو لا أنظر إلي غير الله، ونحو ذلك فمرادهم بذلك ما أرى ربّا غيره، ولا خالقا ولا مدبِّرا غيره، ولا أقصد إلا هو (¬1). فالخالق جل وعلا مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته جلَّ وعلا شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقد اتفق السلف الصالح على وجوب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق. فالفناء الذي يريده الصالحون أمثال الشيخ عبد القادر في قوله: "افن عن الخلق بحكم الله، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله ... ". وقوله: "فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم والتردد إليهم واليأس مما في أيديهم ... " - ليس هو الفناء المذموم، بل مراده ألا يكون للإنسان مراد إلا الله، ولا يقصد إلا ما يحبّه الله ويريده، فلا تكون للعبد إرادة لم يؤمر بها. هذا مراد الصالحين الذين فقهوا عن الله وعن رسوله صلي الله عليه وسلم، وهذا الذي يسميه بعض الناس فناء هو حقيقة الِإسلام، وجوهر الِإيمان، وقطب القرآن، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وهو الذي أسميناه الإخلاص. وتلك المعاني التي سمّوها فناء بعيدة عن جوهر الدين ومراد الله، والقول بها والتوجه إليها، ودعوة الناس إلى تحقيقها؛ سبَّب إشكالات وفسادًا عانى منه الصالحون طويلا. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 10/ 490، 491.

2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية

2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية نشأ في صفوف المسلمين اتجاه يزعم أنّ الإخلاص لا يتحقق ولا يتم إلاّ إذا محا الإِنسان من نفسه النوازع التي خلقها الله فيه، بحيث يقضي عليها قضاء لا رجعة فيه، فلا تدعوه بعد ذلك إلى الدنيا، ولا تطالبه النفس بمتاع، وقد عرّف الجنيد التصوف قائلا: "التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسية، ومنازلة الصفات الروحانية ... " (¬1). ويقول السهروردي: "لا بدّ للمريد من الخروج من المال والجاه، والخروج عن الخلق بقطع النظر عنهم" (¬2). ويقول الغزالي: "إنما الوصول إلى الله بالتجرد عن علائق الدنيا، والإكباب بجملة همته على التفكير في الأمور الإلهية" (¬3). وأصحاب هذا الاتجاه بذلوا جهودا هائلة في سبيل الوصول إلى مبتغاهم، ولكنها كانت جهودا في غير محلها، ولدلك أتعبتهم كثيرا، ولنضرب مثالا على الجهد المبذول من واقع أصحاب هذا الاتجاه، فقد مكث أبو يزيد أربعين سنة يجاهد كي يقطع نفسه عن علائق الدنيا الظاهرة والباطنة، فإلى أي شيء وصل؟ يقول: "كنت ثنتي عشرة سنة حدّاد نفسي، وخمس سنين كنت مرآة قلبي، وستّة أنظر فيما بينها، فإذا في وسطي زنار ظاهر، فعملت في قطعه ثنتي عشرة سنة، ثم نظرت فإذا ¬

_ (¬1) الاتجاه الأخلاقي ص 44. (¬2) عوارف المعارف ص 533. (¬3) الاتجاه الأخلاقي ص 58.

في باطني زنار، فعملت في قطعه خمس سنين، انظر كيف أقطع، فكشف لي، فنظرت إلى الخلق، فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات" (¬1). إنّ هذا الجهد الذي بذله هذا السالك جهد مضن طويل، وما أظنّه فعل شيئًا، ذلك أن الإنسان مفطور على أن يطلب ما تقوم به حياته، من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا رام الإنسان أن يمحو هذه النوازع والغرائز والميول، فإنه يكون قد رام محالا، وسعى فيما لا يمكن تحقيقه. يقول الحارث المحاسبي في هذا: "فإنّما أمر العباد بمجاهدة أهوائهم، ولم يؤمروا ألّا يكون في النفس غريزة تدعوه إلى شهوة" (¬2). ولو كلفنا بذلك لكان تكليفا بما لا يطاق، وقد قرَّر الشاطبي هذه البدهية حيث يقول: "الأوصاف التي طبع عليها الِإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطالب برفعها، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها، فإنّه من تكليف ما لا يطاق، كما لا يطالب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه، ولا تكميل ما نقص منها، فإنّ ذلك غير مقدور للِإنسان، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له، ولا نهيا عنه" (¬3). وقد أدّى العمل على النحو الذي يقتضيه هذا الاتجاه إلى حدوث صراع نفسي في نفوس العاملين به، كانت له آثار سيئة، ذلك أنّهم يحاولون كبت نوازع الفطرة، ويطلبون محوها وإزالتها، وهذا أمر مستحيل، فدفعة الجسد قوّية عنيفة، وهي لا تفتأ تلح على الِإنسان، وتضغط عليه ليستجيب لها، فإذا وقع الِإنسان بين ضغط الغريزة الدائم الملحاح، وبين ما يعتقد أنَّه سمو وكمال، وهو محاربة هذه الميول وخنقها في أعماق النفوس، فالنتيجة الحتمية أن يدمّر الصراع الثائر بين الدوافع والكوابح نفس صاحبه، ويوهن قواه، ويشتت فكره، ويملأ القلب حيرة وقلقا. ولقد سار في هذا السبيل أقوام من قبل فدمَّروا أنفسهم، فالبوذية ترى أن "سبيل ¬

_ (¬1) الغنية 2/ 159. (¬2) الرعاية ص 208. (¬3) الموافقات 2/ 76.

السعادة لا يمكن تحققه إلاّ بمحاربة الأهواء والرغبات المادية، وترك اللذائذ ومتع الحياة" (¬1). وقد نادى (زينون) مؤسس المدرسة الرواقية المشهورة باسم مدرسة أهل العزيمة والجلد، قبل الميلاد بثلاثة قرون، نادى الناس زاعما أنَّ "مبدأ الفضيلة هو التحرر من اللذائذ والآلام جميعا، وطالبهم بأن يكافحوا العاطفة الإنسانية، والوجدان الطبيعي، والبلوغ بهما من الجمود والتحجر إلى حد الجسارة على الانتحار" (¬2). وفي فارس الكسروية ظهر (ماني) داعيا إلى حياة العزوبة، لحسم مادة الشرّ والفساد من العالم، وأعلن أن امتزاج النور بالظلمة شرّ يجب الخلاص منه، فحرّم النكاح استعجالا للفناء (¬3). والديانة النصرانية تحوّلت بعد دين المسيح إلى قيود متزمتة، تتشدّد بها الكنيسة ورجال الدّين، حتى حولوها إلى رهبانية تنعزل عن الحياة، وتزعم أن العباد لا يحصلون على ملكوت السماء إلا إذا قهروا نوازع النفوس، وحجتهم في زعمهم هذا أنّ هذه النوازع دنس وقذارة ينبغي أن يتطهر منه الأتقياء الذين يخشون ربَّهم ويرجون لقاءه. وعدَّ علماء النصارى الاستجابة للغريزة الجنسية بالزواج رجسا، ودعوا إلى الانقطاع عن الشهوة المدمرة التي تنهك الجسد، وقد علمنا من حال الرهبان ما تقشعر لهوله الأبدان، فقد مكث أحدهم خمسين عاما لم يغتسل مرّة واحدةفي وآخر مكث في مغارة عشر سنوات لا يرى الشمس، وثالث كان يجلد جسده كل يوم حتى تقرح، أما انقطاعهم في الفيافي والقفار، وبعدهم عن الزواج، وتركهم الدنيا، فذلك أشهر من أن يذكر، وأوضح من أن يكتب فيه!! فماذا كانت النتيجة لتجربة الأمم من قبلنا التي سلكت هذا السبيل؟ لقد ثارت الفطرة، وتمردت، فدفعت بهؤلاء الذين حاربوها إلى الاستجابة لها بالطرق ¬

_ (¬1) الاتجاه الأخلاقي ص 58. (¬2) الدين لدراز ص 16. (¬3) ماذا خسر العالم ص 240.

الملتوية، لقد أصبحت الأديرة في العصور الماضية مباءة للفسق والفجور، وبدل أن يتعفف هؤلاء عن الدنيا، إذا بهم يطلبونها بكل سبيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). وما أخبار صكوك الغفران التي كان الرهبان يجنون منها أموالا طائلة منا ببعيد، ولقد أصجت الكنيسة في العصور الوسطى سيفا مسلولا على رقاب النصارى، فقد أذاقتهم الكنيسة الذلَّ أشكالا وألوانا، وقد كانت سلطتها تعادل أو تفوق سلطة الدولة، وباسم الدين الذي يزعمون أنه يبغض الدنيا، حازوا الدنيا. هذا حال الذين زعموا أنهم يبغضون الدنيا وأن السبيل الذي يوصل إلى رضوان الله هو ترك الدنيا والهروب منها، أما أتباع هذه المذاهب من عوام الناس، فقد ثاروا على هذه التعاليم، ولم تقف ثورتهم عند حدّ الاعتدال، فقد تجاوزت كل الحدود، ففي فارس قام (مزدك) كردة فعل لتعاليم (ماني) المجحفة، ودعا إلى الإغراق في الشهوات، وأعلن شيوعية المال والنساء. وحال النصارى اليوم لا يحتاج إلى بيان، فأوروبا وأمريكا اليوم ماخور يعجّ بالفساد، وسوق الرذيلة هي السوق الرائجة، وأصبحت العلامة المميزة لأهل تلك الديار هي السعي وراء الرذيلة واللذة العاجلة، وطأطأت الكنيسة من كبريائها، فأصبحت احتفالات الغناء والرقص التي تخجل منها الفضيلة، تقام في قاعات الكنائس، لأن هذا هو السبيل الذي يجلب الشباب إلى الكنيسة. ¬

_ (¬1) سورة التوبة / 34.

ولقد أخطأ بعض المسلمين (¬1) عندما ساروا على درب أولئك الذين فشلوا في تجربتهم، وأضاعوا أعمارهم في غير ما فائدة، أخطأوا عندما لم يعتبروا من التاريخ، ولم يستفيدوا من دروسه، وأخطأوا ثانيا عندما ظنوا أنَّ الإسلام أمرهم بهذا وحثهم عليه. الإسلام لم يأتنا لننبذ الحياة وراء ظهورنا، ولنطمس الميول التي تدعونا إلى نيل محبوباتها التي خلقها الله، إنما جاء ليوضح لنا المنهج الذي نسلكه في نيلنا لهذه التي لا تقوم حياتنا إلا بها، ودعانا لاتباع السبيل الذي يحبُّه ويريده لنا، إنه لا يريدنا في مسيرتنا إليه أن نتجرد من نوازعنا ونحرم ما خلقه لنا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬2)، وكيف تحرم وقد خلقت من أَجلنا؟ {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬3). فتناول هذه المحبوبات والمشتهيات من حيث يريد الله هو في ذاته محبوب مرض لله، وهو معين على طاعة الله، فالإطعام من الحلال للنفس ولمن يعوله الإِنسان صدقة، ¬

_ (¬1) أحد الأسباب الرئيسية التي وجهت هؤلاء هذه الوجهة أنهم أخطأوا في فهم النصوص الذامّة للدنيا، فظنوا أنَّ المراد هجران الدنيا والبعد عنها وتركها كليّا، وقد سهل علينا فهم هذه المسألة ذلك الصحابي الذي سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخطب، ومما قاله: "إن مما أخاف عليكم منْ بعدى ما يفتح عليكم من زهرَة الدنيَا وزينتها، فقال ذلك الرجل: "يا رسول الله، أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل للرجل: ما شأنك تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينزل عليه. قال فمسح عنه الرحضاء، فقال: "أين السائل -وكأنه حَمده- فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم، إلا آكلة الخضراء، أكلت حتَّى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت عين الشمس، فثلطت، وبالت، ورتعتْ. وإن هذا المالَ حلوة خضرة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل -أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة". رواه البخاري في صحيحه (انظر فتح الباري 3/ 327) (الربيع: الينبوع أو الجدول المتدفق). فالرسول -صلى الله عليه وسلم -، يقرر أن الخير الذي جعله الله لعباده لا يأتي بالشر بذاته، ولكن الشر يأتي من الطريقة التي يتناول الإنسان بها المال، وضرب لذلك مثلا بالنبات الذي ينبت على مياه الجداول والعيون، فإنه خير جاء من خير، ولكن البهائم قد تتناول منه، وتأكل بلا توقف، حتى يمتلىء بطنها، وينتفخ، ولا تستطيع له تصريفا، فيقتلها شربها، ويودي بحياتها، وأما البهائم التي تأكل أطيب العشب، وتأكل بمقدار لا يضرّ بها، وتصبر حتى تستطيع أن تصرف ما أكلته، ثم تعود من جديد، فإن العشب لا يكون إلا خيرا لها. وجامع المال من غير حله، والمنفق وقته وتدبيره في هذا، يجمع ولا يعطي، ويكدس المال في ليله ونهاره، مثله كمثل الحيوان الذي يقتله طعامه، أما الذي يأخذه من حلّه ويعطي حقه، وينفق على من يستحق، فهذا يعود عليه المال بالخير في الدنيا والآخرة. (¬2) سورة الأعراف/ 32. (¬3) سورة الأعراف/ 32.

ففي الحديث الصحيح: "مَا أَطْعَمْتَ زَوْجَتَك فَهُوَ لَكَ صَدَقَة، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَة، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهوَ لَكَ صدَقَة" (¬1). وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: (¬2) "إنكَ لَنْ تنْفِقَ نَفَقَةً تبْتَغِي بِها وَجْهَ الله إِلاَّ أُجرْتَ عَلَيهَا، حتى ما تَجْعَلُ في فِي امْرَأَتِكَ" (¬3). وقد مدح الله الذين ينفقونَ أموالهم ابتغاء مرضاة الله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلاَنِيَةً، فَلَهُمْ أَجْرُهمْ عندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْف عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬4). قال ابن كثير في هذه الآية: "هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله ابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهر، حتى أنَّ النفقة على الأهل تدخل في ذلك" (¬5). وساق حديث سعد بن أبي وقاص، وحديث الِإمام أحمد الذي أورده في مسنده: "إِنَّ الْمُسلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً"، وهو في الصحيحين (¬6). وقد عدّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إتيان المسلم شهوته صدقة، ففي الحديث: "أَوَ لَيْس قَدْ جَعَلَ الله لَكمْ مَا تَصَدقُونَ بهِ؟ إِنّ بِكُلِّ تَسْبيْحَةٍ صَدَقَةً، وَكُل تَكْبِيْرَةٍ صدَقَة، وَكلّ تَحْميدَةٍ صدَقَة، وَكُلّ تَهْلِيلَةٍ صدَقَة، وَأَمْرٌ باَلمعروف صدَقَة، وَنَهْيٌ عَنِ الْمنْكَرِ صدقَة، وفَي بُضْعِ أَحَدكُمْ صَدَقَة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده (4/ 131، 4/ 132)، والبخاري في الأدب المفرد (ص 30). (¬2) هو سعد بن أبي وقاص، من بني زهرة من قريش، أحد السابقين إلى الإسلام، وهو فاتح العراق، وأحد الستة الذين عينهم عمر للخلافة، ولد قبل الهجرة بـ 23 عاما، توفي سنة (55 هـ). (¬3) البخاري في صحيحه (انظر فتح الباري)، (1/ 37، 1/ 136، 3/ 164). (¬4) سورة البقرة / 274. (¬5) تفسير ابن كثير 1/ 578. (¬6) المصدر السابق.

قال: "أَرَأَيْتمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَام أَلَيْسَ يَكُونُ عَلَيهِ وزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الحَلَالَ لَهُ أَجْر" (¬1). إنّ الذي يرفضه الإسلام أن يسعى العبد لنيل حظه من الدنيا بهواه من غير الطريق الذي ارتضاه الشارع، كالذي ينال شهوته بالزنى أو اللواط، وكالذي يروي ظمأه بالخمر، وكالذي يملأ بطنه بلحم الخنزير والميتة. ويرفض الإسلام أن تشغل الدنيا العبد عن طاعة الله، وأن تصبح ميدانا للصراع والتنافس، بحيث تثور الأحقاد، ويصبح همّ الناس التكالب على الدنيا، والتصارع على متاعها. أما ما يصيب العبد من نسيان للآخرة حال ملابسته للدنيا فذلك أمر لا يمكن أن يتخلص منه الإنسان، وقد عانى من هذه ألحال حنظلة الأسيدي (¬2) أحد كتاب الوحي، قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكّرنا الجنّة والنّار، حتى كأنا رأي عين، فقمت إلى أهلي وولدي، فضحكت، ولعبت، فذكرت الذي كنا فيه، فخرجت، فلقيت أبا بكر، فقلت: نافقتُ يا أبا بكر، فقال: وما ذاك؟ قلت: نكون عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا الجنة والنّاركأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا. فقال أبو بكر: إنا لنفعل ذلك. فأتيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فذكرت له ذلك، فقال: "يَا حَنْظَلَةُ لَوْ كنتم عندَ أَهْليكُمْ كَمَا تَكونونَ عِنْدِي لَصَافحتكمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرشِكُمْ، وَفِي الطَّرِيقِ، يَا حَنْظَلَة سَاعَة وَسَاعَة" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه (انظر الترغيب والترهيب 3/ 236)، وعزاه في صحيح الجامع (2/ 356)، إلى أحمد في مسنده بالإضافة إلي مسلم وابن ماجه. (¬2) هو حنظلة بن الربيع بن صيفي، وكان أحد كتاب الوحي، شهد القادسية، واعتزل الفتنة، توفي سنة (45 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 3/ 60)، (والكاشف 1/ 260). (¬3) رواه مسلم والترمذي (جامع الأصول 1/ 220)، وعزاه في كنز العمال (1/ 355)، إلى أبي نعيم والطبراني.

محاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذا الاتجاه

محاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذا الاتجاه: لقد قاوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الاتجاه في أفضل صوره وأعلى مراتبه، فقد حاول بعض الصحابة أن يتبتل، وآخرون حاولوا الهروب إلى الجبال كي يعبدوا الله، ولكنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- رفض ذلك رفضًا كليًّا، وعنّف الذين أرادوه، وبيّن لهم ما فيه من تضييع لما هو أفضل منه، وبين أنّه مناف لسنته وطريقته، وقد جمع ابن الأثير (¬1) هذه الأحاديث تحت باب: "الاقتصاد والاقتصار في الأعمال"، وسأسوق طرفا منها يتضح به المقصود إن شاء الله تعالى. فقد ذكر أنَّ البخاريَّ ومسلما رويا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه "جاء ثلاثة رهْطٍ (¬2) إِلى بيوتِ أزواج النبيّ -صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلم- يسألون عن عِبادة النبِي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَما أخبروا، كَأَنهم تقالُّوها (¬3). قالوا: فأين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: "أَنْتُمْ الذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَالله إِنّي لَأخشاكمْ لله، وأَتْقَاكمْ له، وَلَكِني أَصُومُ وَأفْطِرُ، وَأصلي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوّج النسَاءَ، فمَنْ رَغِبَ عِنْ سنتي فلَيسَ مِنّي" (¬4). ونقل عن أبي داود في سننه أنه أخرج عن عائشة قالت: "بعث رسول الله - ¬

_ (¬1) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، المحدث اللغوي الأصولي ولد فى جزيرة ابن عمر سنة (544 هـ)، ونشأ بها، ثم انتقل إلي الموصل وتوفي بها سنة (606 هـ)، من كتبه المطبوعة (جامع الأصول في أحاديث الرسول). راجع: (وفيات الأعيان 1/ 441)، (بغية الوعاة 2/ 274)، (شذرات الذهب 5/ 22). (¬2) الرَّهط: ما دون العشرة من الرحال لا يكون فيهم امرأة (مختار الصحاح). (¬3) تقالُّوها: التقال: تفاعل من القلة، كأنهم استقلّوا ذلك لأنفسهم من الفعل، فأرادوا أن يكثروا منه. (¬4) جامع الأصول 1/ 200.

صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان بن مظعون (¬1): أرَغْبةً عَنْ سنَّتِي؟ فَقَالَ: لا وَالله يَا رَسولَ الله، ولَكِنْ سنَّتَكَ أَطْلُب، قَالَ: فإنِّي أَنَامُ وَأصَلِّي، وَأَصوم وَأفْطِر، وَأَنْكَحُ النسَاءَ، فَاَتَّقِ الله يا عُثْمَانُ، فَإِن لَأهْلِكَ عَليْكَ حقًا، وإِن لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ" (¬2). وأنكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عبد الله بن عمرو بن العاص تشدده في العبادة، فقد أخبر الرسول -صلى لله عليه وسلم- أن عبد الله يقول: "والله لأصومنَّ النَّهار، ولأقومن الليل ما عشت" فأنكر عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقالته، وقال له: "فَإنَّك لَا تسْتطيع ذَلِكَ، فَصمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ" وأرشده إلى طريقة معينة في الصيام والقيام. والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (¬3). وحذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته من أن تسلك سبيل الأمم من قبلها فقال: "لَا تُشَدِّدوا عَلَى أَنْفُسِكمْ، فيشدَّدُ عَلَيْكمْ، وكان قَوما شددوا عَلَى أَنْفسِهِمْ، فشُدِّدَ عَلَيْهِم، فَتِلْكَ بَقَايَاهمْ فِي الصَّوامعِ وَالدّيَارِ، رَهبَانيةً ابْتَدعُوهَا مَا كَتَبْناهَا عَلَيْهمْ" رواه أبو داود (¬4). فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين لأمته أن هذا منهج خاطىء، وأن السبيل الذي ينجي عبد الله هو القيام بهذا الدّين، والالتزام بتعاليمه، فيما يتعلق بحقوق الله أو النفس أو الأهل ... وليست القضية التي جاء بها الإسلام هي الهروب من الحياة كي ننال الجنّة والنعيم الأخروي، الإسلام يريدنا أن نسخّر الحياة باسم الإسلام وبنهجه، يريد الإنسان المسلم أن يكون طاقة قوية تندفع إلى الحركة ¬

_ (¬1) هو عثمان بن مظعون بن حبيب الجمحي، صحابي متقدم الإسلام، من حكماء العرب في الجاهلية، حرم الخمر على نفسه قبل أن يأتي الإسلام، أول من مات بالمدينة من المهاجرين وذلك في السنة الثانية من الهجرة. راجع: (الاستيعاب 4/ 1053)، (الأعلام 4/ 378). (¬2) جامع الأصول 1/ 202. (¬3) جامع الأصول1/ 203. (¬4) جامع الأصول (1/ 216)، وفي الكتاب أحاديث كثيرة.

سر المسألة

والعمل والكفاح في الحياة لبناء الحضارة الِإنسانية الخيرة، ويسدّ الثغرات التي تظهر في العالم المادي نتيجة للدوافع الحيوانية التي تولّد الصراع الحادّ في أعماق نفس الإنسان، والتي تظهر على شكل مظاهر كثيرة متنوعة من الفساد العام الذي يصيب الفرد والجماعة، فيتحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع يسود فيه منطق الأقوياء الجشعين والناهبين الظالمين والمفسدين الضالين. إنّ النظام الروحي في الإسلام يحافظ على الحضارة الإنسانية من أن تتحول إلى أداة شقاء، وبؤرة مرض، كما حدث في الحضارة الحديثة، عندما يتحول الِإنسان في ظلها إلى آلة جامدة، ثمَّ إلى مجموعة عقد مرضية، ثم إلى انحراف خطير، ولّد الثغرة الكبرى والفراغ الهائل الذي يريد المربون معالجته، ولكن بدون جدوى؛ ذلك لأنَّهم عندما جزؤوا الإنسان، وعالجوه مقطع الأوصال، لم يصيبوا كبد الحقيقة، ولم يدركوا حقيقته الكبرى من حيث هو كائن ثنائي التركيب، مركب من المادة والروح، وليس نموذجا من النماذج الحيوانية الكثيرة المنتشرة على الكرة الأرضية. سرّ المسألة: وسرّ المسألة أنَّ أصحاب هذا الاتجاه من المسلمين ظنوا في بداية الأمر أن القصد الذي يتطلع صاحبه إلى ثمرات الأعمال ونتائجها وحظوظه منها- مزاحم للقصد المتجه إلى الله فيكون ذلك تشريكا يجب أن ننزه عنه نياتنا، ومن هنا اندفعوا جاهدين كي ينتزعوا من أعماق نفوسهم تلك الخواطر والمقاصد التي تتطلع إلى محبوباتها من الأعمال المشروعة، فلمّا وجدوا صعوبة في الأمر تحول دون تحقيق المراد رموا الدنيا وراء ظهورهم، وقصروا تطلعاتهم على الأعمال التي أمروا بتحقيقها، وجاهدوا النفوس كي لا يبقى لهم مراد غير ذلك المراد. ولا يفوتنا -ونحن نبحث في أصل المسألة- أن نقرر ما قرره المحققون من العلماء من أنَّ الشارع قصد فى وضعه للشريعة مصالح العباد في العاجل والآجل،

وقد دل على هذا استقراء العلماء للشريعة في أعظم مصدرين: الكتاب والسنة، وقد دلَّ استقراؤهم على أنَّ هذا الأمر (القول بأن الشريعة وضعت لمصالح العباد) مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. وإن الاستدلال مفيد للعلم لكثرة الأدلة الدالة على ذلك (¬1)، فإذا كان هذا مقرَّرا، فكيف يجوز أن نمنع العابد من أن يتطلع إلى المصابيح التي قصدها الشارع من أعمال المكلفين؟ لو ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بمنع العبّاد من النظر والتطلع إلى مصالح ونتائج لا يرتضي الشارع أن تجعل الأعمال المتعبد بها وسيلة إليها- لكان هذا القول مرضيا ومقبولا، لأن المكلف مطالبا بألَّا يتوجه ولا يقصد إلاّ ما قصده الشارع من المصالح، أما أن نرفض جواز التطلع إلى الخير المترتب على أعمالنا المتعبد بها مع أنَّ الشارع ارتضاه وقصده، فهذا في غاية الصعوبة. ونستطيع هنا أن نتقدم خطوة فنقول: إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف لأنّها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره، ويحفظ عليه دنياه وأخراه. ويحسن أن نقرّر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها -سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات متعبد بها- لا يضاد الإِخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال. ولقد أحدثت هذه النظرية شرخا في نفوس المسلمين، لأن هؤلاء حاروا بين هذه النظرية التي تدعوهم إلى المثالية والترفع في مقاصدهم وبين واقع حالهم، إذ وجدوا أنفسهم غير مطيقين للانسلاخ من رغباتهم، وصرف أنفسهم عن النظر إلى نتائج الأعمال. كيف نريد من الذي يريد طهارة -وضوءًا أو غسلا- ألاّ يقصد مع قصد التقرب إلى الله تعالى- التنظف والتطيب! وإذا كان الجو حارا كيف نريد من هذا الإنسان ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 3، 4.

ألا يقصد التبرد وإنعاش نفسه! فإن قصد هذا القصد حكما على عمله بالبطلان والفساد؟! وهب هذا الإنسان راغم نفسه كي يتصرف عما تحسّه وتطلبه، فكيف السبيل إلي أن يقصر نفسه على مجرد الامتثال للفعل! ومن ذا الذي يتذوق سرور العبادة ولذتها ثم يطيق ألّا يقصد هذا النعيم؟! وهل إذا قصدنا من وراء إخراج الزكاة المتقرب بها سدّ خلَّة الفقير وصلة الأرحام، وتقديم الخير لبني الإنسان، نكون أقمنا مقاصد مضادة للإخلاص؟!. ألم يأمرنا الله بأن نقاتل في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟! ألم يقرّنا الله على أن نحصل بالجهاد أمرا نحبّه ونرضاه: {وَأخرَى تُحِبّونَهَا نصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيب} (¬1)! وهب أننا استطعنا أن نصرف قصدنا في أمور العبادات عن النظر إلى ثمرات الأعمال في الدنيا، فهل نطيق ذلك في الأمور العادية إذا قصدنا التعبد بها! فالزواج والطعام والشراب واللباس إذا قصدت التقرب بها إلى الله تعالى بأن آخذها من الطريق التى شرعها، وأبتعد عما حزم منها، وأقصد الاستعانة بها على طاعة الله، أأستطيع أن أصرف النظر عن الثمرات الناتجة عنها والتى تحبها النفس وتتطلبها منها؟! إن العاملين بأعمال دنيوية من المسلمين: أطباء ومهندسين وباحثين، يستطيعون أن يجعلوا أعمالهم قربات عند إحداث نية صالحة حين القيام بهذه الأعمال، وهذا لا يلزمهم ألا يقصدوا حظوظهم من وراء هذه الأعمال. لا يجوز أن يحتجّ علينا في هذا بأنَّ الشارع لم يرتض أن يقاتل المسلم شجاعة أو حمية، بل يجب أن يقصر قصده على القتال كي تكون كلمة الله هي العليا، ¬

_ (¬1) سورة الصف /13.

وبدون ذلك لا يكون جهاده في سبيل الله- لأننا قررنا من قبل أن الثمرات والنتائج التي نجيز التطلع إليها هي التي أقرها الشارع ورضيها، والقتال بقصد هذه الأمور لم يرتضه الشارع. نعم نتائج الأعمال المطلوبة والمقصودة للشارع قد تخفى علينا وقد لا ندركها خاصة في العبادات، ومن هنا قد نظن أمرا ما مقصودا للشارع فنطلبه مع أنه -في واقع الأمر- ليس بمطلوب ولا مقصود له. وهذه نظرة وجيهة يجب أن يراعيها العابد، فلا يقصد إلاّ المصالح التي نص الشارع عليها، والمصالح التي استنبطناها من النصوص، لا تلك المصالح التي ارتضيناها بأهوائنا. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن الشريعة لم توضع لطائفة من النّاس وإنما هي شريعة عامة، جعلت لعموم الناس، والناس أصناف شتى، ولذلك رغبهم في العمل بالشريعة بمرغبات مختلفة، كي تصبح مؤثرات ودواعي تحركهم إلى العمل وتدفعهم إليه. لننظر في هذه المرغبات التي يجلّيها نوح لقومه كي يحققوا مراد الله {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (¬1). ولننظر إلى موعود الله لهذه الأمة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (¬2). ولننظر إلى وعد الله للأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬3)، {وَمَنْ يَتقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يسْرًا} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة نوح /10 - 12. (¬2) سورة النور / 55. (¬3) سورة الطلاق /2 - 3. (¬4) سورة الطلاق /4.

هذه الآيات وأمثالها كثير تستثير في النفس الإنسانية آمالها وتطلعاتها، وتحرك جذوتها فتندفع إلى تحقيق ما يطلب منها، ولكن بإرادة صادقة وعزيمة قوية، تطلب في ذلك خيرها من حيث يريد الله تعالى، وهذه -وايم الله - العبودية الحقّة التي يريدها الله من عباده، وحسبنا أن الله أثنى على الذين يطلبون منه خيري الدنيا والآخرة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬1). نعم لو قالوا كما قال الشاطبي (¬2): بأن قصر النظر على الأعمال وعدم التطلع إلى النتائج أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله- لكان قولهم صوابا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة /201 - 202. (¬2) الموافقات 1/ 147.

3 - قصد النعيم الأخروي

3 - قصد النعيم الأخروي وقد بالغ بعض العلماء والعباد في تجريد القصد إلى الله والتقرب إليه، حتى عدّوا طلب الثواب الأخروي الذي وعد الله به عباده الصالحين قادحا في الإخلاص، وهم وإن لم يقولوا ببطلان الأعمال التي قصد أصحابها الثواب الأخروي- إلاّ أنهم كرهوا للناس العمل على هذا النحو، ووصفوا العامل رجاء حظّ أخروي بالرعونة، ووسموه بأجير السوء، مما جعل قلوب كثير من الذين يقرؤون كلامهم تحاذر أن تقصد هذا القصد، وتجاهد في ألا تنظر إلى ثواب الأعمال الأخروية. وقد تناقل العلماء قول رويم (¬1) في تعريف الإِخلاص: "الإخلاص ألا يريد على عمله عوضا في الدارين، ولا حظَّا من الملكين" (¬2). ووصفت رابعة العدوية (¬3) الذي يعبد رجاء الجنة وخوف النار بأنه أجير سوء حيث تقول: "ما عبدته خوفا من ناره، ولا حبّا في جنته، فأكون كأجير السوء، بل عبدته حبا له وشوقا إليه" (¬4). ووصف الغزالي العاملين على هذا النحو بالبَلَه، بالإضافة إلى الوصف الذي وصفتهم به رابعة العدوية: "العامل لأجل الجنة عامل لبطنه أو فرجه، كالأجير ¬

_ (¬1) هو رويم بن أحمد بن يزيد، صوفي مشهور، من مشايخ بغداد توفى سنة (330 هـ). راجع: (الأعلام 3/ 65). (¬2) المجموع 1/ 30. (¬3) هي رابعة بنت إسماعيل العدويّة، عابدة ناسكة من أهل البصرة، توفيت ببيت المقدس سنة (135 هـ). راجع: (وفيات الأعيان 2/ 285). (¬4) إحياء علوم الدين 4/ 310.

السوء - ودرجته درجة البله (¬1)، وإنّه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فإنَّها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حبا لجماله وجلاله ... وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة .. " (¬2). وقرر شيخ الِإسلام إسماعيل الهروي أنَّ الرجا أضعف منازل المريدين ووسم العاملين على الرجا بالرعونة في مذهب المتصوفة: "الرجا أضعف منازل المريدين، لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة" (¬3). وإذا نظرنا نظرة عجلى في كتاب ربنا، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة الأنبياء والمرسلين والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، فإنَّنا نعلم علما قاطعا أنَّ ما ذهب إليه هؤلاء بعيد عن الصواب، مخالف لما جاءت به نصوص السنة والكتاب. لقد وصف الله سادات المؤمنين بأنَّهم كانوا يعبدون الله خائفين راجين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬4). وعباد الرحمن الذين نسبهم إلى نفسه وأثنى عليهم في آخر سورة الفرقان يقولون: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (¬5). والذين وسمهم بأنَهم أولو الألباب يقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ¬

_ (¬1) الأبله في الأصل: الرجل الأحمق الذي لا عقل له، ويطلق ويراد به الذي غلب عليه سلامة الصدر وحسن الظنّ بالناس، لأنهم أغفلوا دنياهم، وأقبلوا على آخرتهم (لسان العرب 1/ 263). (¬2) إحياء علوم الدين 4/ 375. (¬3) مدارج السالكين 2/ 37. (¬4) سورة الإسراء: 57. (¬5) سورة الفرقان: 65.

{وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬1). وخليل الرحمن إبراهيم يقول في دعائه: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (¬2). وأثنى الله على نبيّه زكريا ويحيى، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬3). وجاء صحابي للرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أَما إني أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "حَوْلَهَا نُدَنْدِنْ" (¬4). وقد وصف الله نعيم الجنة، ثم حثَّ على التنافس والتسابق في طلبه، فقال: {وِفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَس الْمتنافِسون} (¬5). وما أكثر ما بين القرآن الثواب أو العذاب الأخروي لمن قام بعمل ما، كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (¬6). وقال في أكلة مال اليتيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (¬7). وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حقّ صائم رمضان: "منْ صَام رمَضانَ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 191 - 194. (¬2) سورة الشعراء: 85 - 87. (¬3) سورة الأنبياء: 90. (¬4) رواه أبو داود كتاب الصلاة 124، وابن ماجه كتاب الإقامة 26، وأحمد في مسنده (3/ 474، 5/ 74). (¬5) سورة المطففين: 26. (¬6) سورة الكهف: 107 - 108. (¬7) سورة النساء: 10.

إيمانًا واحْتِسَابًا غفر لهُ مَا تَقَدمَ مِنْ ذَنْبهِ" (¬1). قال ابن حجر: "والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية الصوم، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى، وقال الخطابي: احتسابا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه ومستطيل لأيامه" (¬2). وقال فيمن تبع الجنازة: "مَنْ تَبعَ جَنازَةَ مسْلِم إِيمانًا واحْتِسَابًا وكَانَ مَعَهَا حَتى يصَلى عَلَيْهَا، ويفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنّه يَرْجع مِنْ الَأجْرِ بِقيرَاطَيْن، كل قِيراطٍ مثْلُ أحُدٍ، وَمَنْ صَلى عَلَيْها، ثم رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تدْفَن، فَإِنَّه يَرْجِع بِقيرَاطٍ منَ الَأجر" (¬3). ولو ذهبنا نورد النصوص المرغّبة والمرهبة من الكتاب والسنة لطال القول، وقد ألّف الحافظ المنذري (¬4) كتابه الترغيب والترهيب في ثلاث مجلدات، وحسبنا أن الله قد عد القرآن مبشرا ونذيرا: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (¬5). ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (¬6). فكيف بعد أن ثبت أن دين الله كله دعوة إلى العباد كي يطلبوا الجنّة، ويهربوا من النار، وأن سادة المؤمنين من الرسل والأنبياء والصديقين والشهداء كلّهم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (الفتح 4/ 115)، ورواه النسائي (4/ 154)، وعزاه في صحيح الجامع إلي المسند وأبي نعيم (صحيح الجامع 5/ 309). (¬2) فتح الباري (4/ 115). (¬3) رواه البخاري والنسائي (صحيح الجامع 5/ 267). (¬4) هو عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، شيخ الإسلام زكي الدين أبو محمد المنذري الشامي، ثم المصري، عديم النظير في معرفة الحديث على اختلاف فنونه، وكان إمامًا حجة ثبتًا ورعًا متحريًا. ألف (الترغيب والترهيب)، واختصر (صحيح مسلم)، و (سنن أبي داود)، توفي سنة (656 هـ). (¬5) سورة الكهف: 2. (¬6) سورة الأحزاب: 45 - 46.

يطلبون الجنة، ويخافون النار- يستقيم قول من زعم أنّ الذي يعبد الله طلبا للجنة، وخوفا من النار كأجير السوء، أو أن العمل على ذلك من الرعونة، وأنه أضعف مراتب المريدين، وكيف يجوز للغزالي -غفر الله له- أن يقول: "العامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه، كالأجير السوء ودرجته درجة البله". لا والله، بل هؤلاء هم الأخيار الأبرار الأطهار الذين سماهم الله بأولي الألباب، وهم الذين تلقوا علومهم عن الله، وفقهوا عنه، وشمّروا لما دعاهم إليه، فهم أسعد الناس وخير الناس، وحاشاهم أن يكونوا كأجراء السوء، أو أهل رعونة وضعف. والذين قالوا هذه المقالة أثروا في المسلمين أثرا سيئا، فإنَّ القلب إذا خلا من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه، والهرب من هذه، فترت عزائمه، وضعفت همته، ووهى باعثه، وكلما كان أشدّ طلبا للجنة وعملا لها، كان الباعث له أقوى، والهمّة أشدّ، والسعي أتمّ. ولعلّ من أخطاء هذا الفريق زعمه أنَّ الجنّة لا يدخل في مسماها إلاّ الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، وأنَّ طالب الله وطالب رؤيته والنظر إليه ينبغي أن يطلب مطلوبا غير الجنّة، كما قال أحدهم عندما سمع قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (¬1)، قال: فأين من يريد الله (¬2)؟ وقال الآخر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (¬3). فقال: إذا كانت النفوس والأموال بالجنة، فأين النظر إليه؟ (¬4). وظنوا أنَّ مسمى النار لا يدخل فيه إلا التعذيب بالمخلوقات فحسب، وقد عبرت رابعة العدويّة عن هذا الفهم بقولها: (¬5) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران 152. (¬2) مجموع الفتاوى 10/ 63. (¬3) سورة التوبة: 111. (¬4) مجموع الفتاوى (10/ 63). (¬5) العبادة في الإسلام ص 110.

كلهُمْ يَعْبُدُونَ منْ خَوفِ نَارٍ ... وَيرَونَ النَّجاةَ حَظًّا جَزيلا أَوْ بِأَنْ يَدْخُلُوا الجِنَانَ فيَحْظَوْا ... بنَعِيم ويشرَبُوا سَلسبِيلا ليسَ لي فِي الجِنَانِ والنَّارِ حظ ... أنَا لا أَبْتغِي بِحِبي بَدِيلا وهذا -كما يقول ابن تيمية- قصور وتقصير منهم عن فهم مسمّى الجنة والنار، فكلّ ما أعدّه الله لأوليائه فهو من الجنة، والنظر إليه -تعالى- هو من الجنة، ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنَّة، ويعوذ به من النَّار. فالجنة دار الرحمة الخالصة، والنار دار العذاب الخالص، وأعظم نعيم يناله أهل الجنَّة وأعلاه النظر إلى وجهه تعالى، كما في صحيح مسلم، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عبد الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيّض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا، ويدخلنا الجنَّة، وينجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النظر إليه" (¬1). وأعظم عذاب في النار هو حرمان أهل النّار من هذا النّعيم العظيم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم فى صحيحه (مشكاة المصابيح 3/ 97). (¬2) سورة المطففين: 15.

تنوع المقاصد الخيرة

تنوّع المقاصد الخيّرة اتضح مما مضى أن المقصود الذي يجب أن يتوجه إليه العبد هو الله وحده، وأن هذا هو الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. إلاّ أنَّ المقاصد تتنوع فيما بينها، ذلك أنَّ العباد يقصدون ربهم من جوانب مختلفة، فمنهم الذي يعبده تعظيما له وتوقيرا، ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته، ومنهم الذي يطلب رضوانه ورضاه، ومنهم الذي يقصد الأنس به، والتلذذ بطاعته وعبادته، ومنهم من يرجو التنعم برؤيته في يوم لقياه، ومنهم من يطلب ثوابه من غير أن يستشعر ثوابا معينا، ومنهم من يطلب ثوابا معينا، ومنهم من يخاف عقابه من حيث الجملة غير ناظر إلى عقاب معين، ومنهم من يخشى عقابا معينا. وتنوع المقاصد باب واسع، والعبد قد يقصد هذا مرة، وهذا مرة، وقد يقصد أكثر من واحد من هذه المقاصد، وكلّها تنتهي إلى غاية واحدة، وتعني في النهاية شيئًا واحدا، أنّ العبد يريد الله سبحانه، ولا يريد سواه، وكل ذلك محقق للإخلاص. وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم، وعلى الهدى والصواب، وإن كان العبد لا ينبغي أن يخلي قصده من الحبّ والخوف، فإن قوام العبادة بهما، ومدارها عليهما.

الفصل الثالث المقاصد السيئة

الفصل الثّالِث المقاصد السَّيّئة

المقاصد السَّيّئَة من ابتغى بالعبادة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة المقاصد الخيرة هي التي يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، أو يقصد المصالح التي أجاز الشارع للمكلف قصدها. فإذا ابتغى المكلف بالعبادة غير ما شرعت العبادة له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في هذه الحالة غير صحيح، والأدلة على ذلك كثيرة (¬1): أحدها: أنَّ المكلَّف إذا قصد غير ما قصده الشارع فقد جعل ما قصده الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا، وذلك مضادّ للشريعة. الثاني: أن هذا المقاصد غير ما قصده الشارع مشاقّ للرسول متبع غير سبيل المؤمنين، وقد ذمَّ الله هذا الصنف من الناسٍ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2). الثالث: أنّ هذا القصد يجعل العبادة المؤدّاة كأن لم تؤد، ولم تفعل، فإن الشارع يريد أن تؤدى العبادة بقصد معين، فإذا لم يأت به المكلّف صار كالفاعل لغير ما أمر به، والتارك لما أمر به. الرابع: أنَّ العبادة شرعت وسيلة إلى مصالح أرادها الشارع، ورضيها، فجعلها هذا العابد وسائل لمصالحه هو، لا للمصالح التي أرادها الشارع. ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 244 - 246. (¬2) سورة النساء: 115.

الخامس: أن هذا القصد إستهزاء بآيات الله، لأن من آياته أحكامه التي شرعها، بدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ الله هُزُوًا} (1)، وهذا الذي حذر الله منه متحقق فمن قصد بالعبادة غير ما شرعت له، وقد ذم الله المنافقين المستهزئين بالله وآياته ورسوله: {أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كنْتُمْ تَستَهْزِئُونَ} (2). وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم والمال لا للإقرار للواحد الحقّ بالوحدانية، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح، والذبح لغير الله، والهجرة لينال دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، والجهاد للعصبية، أو لينال شرف الذكر في الدنيا. وسنتناول في هذا الفصل المقاصد السيئة التي تبتغي من العبادة غير ما شرعت له.

أولا: اتباع الهوى

أولاً: اتباع الهوى أكثر الناس تحركهم أهواؤهم، فيكون الهوى هو الدافع والباعث على العمل، وفي الوقت نفسه هو الغاية التي يسعى صاحب الهوى إلى تحقيقها، وبذلك يكون الهوى هو الإله الذي يعبده، ويطوف حوله، قال ابن عباس: "الهوى إله معبود"، ثم قرأ: {أَرَأيْتَ مَن اتخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} (¬1) (¬2) فصاحب الهوى متعبِّد لهواه حبًا وخوفا، ورجاء ورضا، وسخطا، وتعظيما، وذلا، إن أحب أحب لهواه، وكان أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، فهواه آثر عنده، وأحبّ إليه من رضا مولاه. فالهوى على ذلك مضاد للإخلاص ومناف له، ولا يجتمع في قلب إخلاص وهوى، فالمخلص متوجه إلى الله بكليَّته، وصاحب الهوى يدور حول نفسه، كما يدور الحمار برحاه. والهوى عميق الجذور في النفس الإنسانية، ولذلك فإنه إذا تمكن من الإنسان سيطر عليه سيطرة المقاتل على أسيره، وقد ضرب الله مثلا للذي يتبع الهوى يعجز البيان عن أن يأتي بمثله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). والسبب في قوة الهوى وسيطرته على النفس، أن الشهوات التي يهواها العبد مخلوطة بكيانه، وهو يشعر باللذة الحاضرة عندما ينال هواه، وما تشتهيه نفسه، فاللذَّة التي يعرف ¬

_ (¬1) سورة الفرقان 43. (¬2) عيون الأخبار 1/ 37. (¬3) سورة الأعراف 175 - 176.

طعمها، تدفعه دائمًا إلى تحصيل المشتهى، والأمور المشتهاة تتراءى للإنسان دائمًا، فهي وإن كانت في الخارج إلاّ أنها تتصور للعبد وتقوم في نفسه، وقد تستولي على قلبه كما قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} (¬1)، وعند ذلك لا يكون له همّ إلاّ أن يطلب تلك الصورة التي استقرت في نفسه، وسيطرت عليه، وفي سبيل تحصيل ما يهواه ببذل ماله ونفسه. ولقد حمل الهوى أصحابه على الكفر بالله ومعاداة رسله، بل حملهم على قتل الأنبياء والمرسلين: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (¬2)، وقال موبخًا لهم في سورة أخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (¬3). وقد حملهم الهوى على أن كفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- مع أنهم كانوا يتوعدون العرب ببعثته: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬4)، لقد كانوا يعرفون أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو النبيّ المنتظر، فلما جاء من غير الطائفة التي يهوونها لم ينقادوا له، ولم يؤمنوا به اتباعا للهوى، وحسدا أن يكون هذا الفضل في غيرهم وأخذوا يعتذرون بالمعاذير الكاذبة: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: 63. (¬2) سورة المائدة: 70. (¬3) سورة البقرة: 87. (¬4) سورة البقرة: 89.

سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (¬1). يقول الشاطبي في هذا الموضوع: "مخالفة ما تهوى الأنفس شاقّ عليها، وصعب خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهدا على ذلك حال المحبّين، وحال من بعث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم. ممّن صمَّم على ما هو عليه، حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، حتى قال تعالى: {أَرأيْتَ منِ اتَّخذَ إِلَهَه هَوَاه} (¬2)، وقال: {إنْ يتبعونَ إِلّا الظَّن وَمَا تَهْوى الأنْفس} (¬3)، وقال: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنة منْ رَبهِ كمَن زُيِّنَ لَه سُوءُ عَمَلِهِ وَاتبَعوا أَهْوَاءَهمْ} (¬4) (¬5). واتباع النّاس لأهوائهم أفسد دنياهم، ذلك أنَّ أصحاب النفوذ والسلطان يقضون عمرهم في الجري وراء الملذّات والشهوات، ويجاهدون في حيازة الدنيا، فيؤدي ذلك إلى ظلم الآخرين وحرمانهم من أبسط حقوقهم، فيموت الفريق الأول ويهلك بسبب التخمة، ويهلك الفريق الآخر، لأنَّه لا يجد ما يسدُّ به رمقه. يقول كانت معاصر (¬6)، مبينًا أثر الإغراق في اتباع الشهوات في بعض الدول المتمدنة في التاريخ: "استحوذ على الناس في الدولتين: الفارسية والرومية حياة الترف ¬

_ (¬1) سورة القصص: 48 - 50. (¬2) سورة الفرقان: 43. (¬3) سورة النجم: 23. (¬4) سورة محمد: 14. (¬5) الموافقات: 2/ 109. (¬6) هو أبو الحسن الندوي.

والبذخ، وطغى عليهم بحر المدنية المصطنعة والحياة المزورة، وغرقوا فيه إلى أذقانهم، فكان ملوك الفرس والروم وأمراء الدولتين سادرين في غيِّهم، ودققوا في مرافق المعيشة، وفضول المدنية وحواشي الحياة تدقيقا عظيما جدّا، فكان لكسرى أبرويز اثنا عشر ألف امرأة وخمسون ألف جواد، وشيء لا يحصى من أدوات التعرف والقصور الباذخة، ومظاهر الثروة والنعمة، وقصره مثال في الأبهة والغنى" (¬1). وينقل عن بعض المؤرخين أنَّه: "لم يرو في التاريخ أنَّ ملكا بذخ وتنعم مثل الأكاسرة الذين كانت تأتيهم الهدايا والجرايات من كلِّ البلدان الواقعة ما بين الشرق الأقصى والشرق الأدنى، ولما خرجوا من العراق في الفتح الإسلامي تركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان ما لا يدرى ما قيمته" (¬2). وينقل عن الطبري: "أن العرب وجدوا قبابا تركيَّة مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، قال العرب: فما حسبناها إلاّ طعاما، فإذا هي آنية الذهب والفضة" (¬3). ووصف المؤرخون العرب بهار كسرى الذي أصابه المسلمون يوم المدائن، فقالوا: "هو ستون ذراعا في ستين ذراعًا، بساط واحد مقدار الجريب (¬4)، أرضه بذهب، ووشيه بفصوص، وثمره جواهر، وورقه بحرير وماء الذهب، فيه طرق كالصور، وفصوص كالأنهار، وخلال ذلك كالدير، وفي حافاته كالأرض المزروعة، والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب، ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك، وكانوا يعدّونه للشتاء، إذا ذهبت الرياحين، ¬

_ (¬1) ماذا خسر العالم (ص 71). (¬2) تاريخ إيران لشاهين مكاريوس طبع 1898 ص 90 (ماذا خسر العالم ص 72). (¬3) تاريخ الطبري (ماذا خسر العالم ص 72). (¬4) الجريب من الأرض: مقدار معلوم الذراع والمساحة (لسان العرب 1/ 429).

تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره

فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه، فكأنهم في رياض" (¬1). ويذكر صاحب العقد الفريد أنَّ الفرس قسموا دهرهم كلَّه هذا التقسيم: قالوا: يوم المطر للشراب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس، وما فعلوا ذلك إلا اتباعا لأهوائهم البهيمية، وإيثارا للراحة (¬2). تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره: الهوى مقصور: "مصدر هوى يهوى هوى، أي: أحبّ، وهوى النفس إرادتها، قال اللغويون: الهوى محبة الإنسان الشيء، وغلبته على قلبه ... (¬3)، ومتى تكلم بالهوى مطلقا لم يكن إلا مذموما، حتى ينعت بما يخرجه عن معناه، كقولهم: "هوى حسن، وهوى موافق للصواب" (¬4). والنفوس لها محبوبات تهواها، وتعشقها، وتطلبها، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬5). وقد أودع الله النفوس حب هذه الأمور لحكمة بالغة، كي ينبعث الإنسان إلى تحصيل ما فيه صلاح لبدنه وبقاء نسله. فإيداع النفوس حب هذه الأمور ليس مذموما، وإنما المذموم هو طلب هذه الأمور من غير الطريق المشروع، أو الإنشغال بها عن طاعة الله، يقول الغزالي رحمه الله: "فإن قلت: فهل من فرق دين الهوى والشهوة؟ قلنا: لا حجر في العبارات، ولكن نعني بالهوى: المذموم من جملة الشهوات دون المحمود، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (4/ 178)، (ماذا خسر العالم ص 72). (¬2) العقد الفريد (6/ 218). (¬3) وعلماء الشريعة لا يخالفون اللغويين فيما ذهبوا إليه، يقول الجرجاني: الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع. التعريفات ص 229. (¬4) لسان العرب 3/ 849. (¬5) سورة آل عمران: 14.

والمحمود من فعل الله تعالى، وهي قوة جعلت في الِإنسان لتبعث بها النفس لنيل ما فيه صلاح إما بإبقاء بدنه، أو بإبقاء نوعه، أو صلاحهما جميعًا. والمذموم من فعل النفس الأمارة .... " (¬1). والغزالي يشير هنا إلى قوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). فالنفوس لها أمر ونهي، وهي تأمر بتحصيل مطلوباتها التي تحبّها، وتلتذ لها، واتباع ما تهواه النفوس يكون بفعل ما تهواه، والِإنسان لا بد أن يتصور مراده الذي يهواه، ويشتهيه في نفسه، ويتخيله قبل فعله، فيبقى ذلك المثال كالِإمام مع المأموم، يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر تبع لاتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهى في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له. واتباع الهوى بالاستجابة للنفس الأمارة من أعظم الضلال: {وَمَنْ أضَلُّ ممن اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هدَىً مِنَ الله} (¬3). وقد عَدَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- اتباع الهوى أحد ثلاث مهلكات، فقال: "ثلاث مهلكات: شحّ مطاع (¬4)، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا" (¬5). واتباع الهوى له نتائج خطيرة، ولنتأمل في قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (¬6). ومن ينظر اليوم ببصيرة ¬

_ (¬1) ميزان العلم (ص 245)، وانظر إحياء علوم الدين (4/ 111). (¬2) سورة يوسف: 53. (¬3) سورة القصص: 50. (¬4) الشح: أشدّ من البخل، فالبخل: أن يبخل الإنسان بماله، والشح أن يضنّ بماله ومعروفه، وقيل أن يضنّ بمعروف غيره على غيره. (¬5) رواه البيهقي في شعب الإيمان (مشكاة المصابيح2/ 637). (¬6) سورة المؤمنون: 71.

مستنيرة بنور الإِيمان يعلم ما حل بالقلوب والعقول والأفراد والأسر والمجتمعات نتيجة لاتباع الهوى في السياسة والتشريع والاقتصاد وغير ذلك، يقول ابن القيم: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمَّة إلا وفسد أمرها أتم الفساد" (¬1)، والسبب في ذلك أن أهواء العباد غير محكومة بميزان، ولا تعتمد الحجة والبرهان، وإنما هي محبوبات ومكروهات يراد من ورائها اللذة العاجلة، والمتعة الزائلة. ومن نتائج اتباع الهوى أن متبعه يعرض عن الحق، وهذا يورثه الجهل والضلال، حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، قال تعالى: {فَلَما زاغوا أَزَاغَ الله قُلوبَهمْ} (¬2)، وقال: {وَلَا تَتبع الْهَوَى فَيضِلكَ عَنْ سَبيلِ الله} (¬3). وإذا ضل العبد باتباعه الهوى فإن الشياطين تتلقفه، وقد لا يستطيع العودة إلى الحق: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (¬4). ومن نتائجه أنه يبطل الأعمال الصالحة ويفسدها، فالذي يفعل ويترك اتباعا للهوى، لا عبودية لله، إذا عمل من الأعمال الصالحة ما وافق هواه، فإن عمله غير مقبول، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى، يقول الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في أمثال هؤلاء: "لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذًا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته، لأنه إنما قصد اتباع هواه" (¬5). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (1/ 72). (¬2) سورة الصف: 5. (¬3) سورة ص: 26. (¬4) سورة الأنعام: 71. (¬5) مجموع الفتاوى (10/ 479).

علاج الهوى

وقد أبان هذه المسألة الشاطبي في الموافقات فقال: "اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وكان جاء في ضمن المحمود، لأنَّه إذا تبيَّن أنَّه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا" (¬1). واستدل على ذلك بثلاثة أدلّةٍ: الأول: أنَّ الهوى سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي، لأنه مضاد لها. الثاني: أنَّه إذا اتبع واعتيد ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسًا به، حتى يسري معها في أعمالها، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج، فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي، فيصير سابقا له، وإذا صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه، فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة، ودليل التجربة حاكم هنا. الثالث: أنَّ العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجنيه من ثمرات الفهوم، وانفتاح مغاليق العلوم، وربما أكرم ببعض الكرامات، أو وضع له القبول في الأرض، فانحاش الناس إليه، وحلقوا عليه، وانتفعوا به، وأمّوه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة من الصوم والصلاة وطلب العلم والخلوة للعبادة، وسائر الملازمين لطرق الخير. فإذا دخل عليه ذلك كان للنفس به بهجة، وأنس وغنى ولذة ونعيم، بجث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك، كما قال بعض الصالحين: لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا بالسيوف. وإذا كان الأمر كذلك فلعلَّ النفس تنزع إلى مقدمات تلك النتائج فتكون سابقة للأعمال، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة، والعياذ بالله". علاج الهوى وللإنسان في مجاهدة الهوى ثلاثة أحوال، كما يقول الغزالي: ¬

_ (¬1) الموافقات (2/ 125 - 126).

الأولى: أن يغلبه الهوى فيملكه ولا يستطيع له خلافا، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله فيه: {أَرَأَيْتَ منِ اتخَذَ إِلَهه هَوَاهُ} (¬1)، فمن كان تردّده في جميع أطواره خلف أغراضه البدنية وأوطاره، فقد اتخذ إلهه هواه. الثانية: أن يكون الحرب بينهم سجالا، تارة لها اليد، وتارة عليها اليد، فهذا الرجل من المجاهدين، فإن اخترمته المنية في هذه الحالة فهو من الشهداء، لأنه مشغول بامتثال كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الرتبة العليا للخلق سواء الأنبياء والأولياء. الثالثة: أن يغلب هواه فيصير مستوليا عليه لا يقهره بحال من الأحوال، وهذا هو الملك الكبير، والنعيم الحاضر، والحرية التامة، والخلاص من الرق، ولذلك قال عليه السلام: "ما من أحد إلاّ وله شيطان، وكان الله قد أعانني عليه حتى ملكته" (¬2) (¬3). ونحن بحاجة إلى أن نرسم الطريق، كي نعرف السبيل التي نقاوم بها أهواءنا، ونقف في وجه الدواعي التي تدعونا إلى الشر ومخالفة الصراط المستقيم. لا شكَّ أن تخليص النفس من الهوى ليس بالأمر السهل الميسور، فهو يحتاج إلى جهد وعناء طويل، وقبل ذلك كله يحتاج إلى توفيق الله وعنايته، من أجل ذلك تكرر في الكتاب التحذير من الهوى، فقد حذر الله منه الأنبياء والرسل السابقين، وحذر منه رسول هذه الأمة، كما حذرنا منه أيضًا، وحذر الله موسى عليه السلام من اتباع أهواء الذين لا يستقيمون على منهج الله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أكَادُ أُخْفِيهَا ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: 43. (¬2) الحديث في مسلم بغير هذا اللفظ، ونص موضع الشاهد منه: "قالت: (عائشة) يا رسول الله، أمعي شيطان؟ قال نعم: قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال نعم، ولكنَّ الله أعانني عليه حتى أسلم". انظر مشكاة المصابيح (2/ 223). (¬3) ميزان العمل ص 420.

لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (¬1). وحذر داود من الحكم بالهوى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2). وقال في حقّ رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (¬3). وأمرنا الله بالعدل والبعد عن الهوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬4). ونحن في علاجنا لأهواء النفوس يجب أن نتوجه إلى دين الله نستمدُّ منه النور والضياء، وإلا فإننا لو تركنا لأنفسنا أن تضع منهجا لعلاج أهوائنا فإننا لن نحل المعضلة، بل قد نزيدها ونعمقها. ولقد وضع أقوام نهجا لعلاج النفوس بعيدا عن النظر في كتاب الله، فجاؤوا بالعجائب والغرائب، وضلوا من حيث أرادوا الخير. انظر إلى رجل من هذا الصنف جاءه من يطلب منه أن يدله على طريق تطمئن فيه نفسه، ويهدأ قلبه، فإذا بهذا يدلّه على طريق عجب، فيقول له: "اذهب الساعة إلى الحجام، واحلق رأسك ولحيتك، وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة، وعلّق في عنقك مخلاة، واملأها جوزا، واجمع حولك صبيانا، وقل ¬

_ (¬1) سورة طه: 15 - 16. (¬2) سورة ص: 26. (¬3) سورة الأنعام: 56. (¬4) سورة النساء: 135.

1 - تحويل الاتجاه

بأعلى صوتك: يا صبيان، من يصفعني صفعة أعطيه جوزة، وادخل إلى سوقك الذي تعظّم فيه ... " (¬1). أي تربية هذه؟ وأين هي من منهج الإسلام الذي ينهى أن يهين المرء نفسه؟! وهذا آخر ينظر إلى جارية إذ يغلبه هواه، فلا يفعل ما أمره الله من التوبة والاستغفار، بل يقلع عليه التي نظرت إلى محرّم، فقد جهل في الأولى، وجهل جهلا أشد في الثانية، فعالج الحرام بحرام أكبر. وهذه امرأة سألت شابا عن سر افتتانه بها؟ فلما عرفت أنه قد فتن بعينيها قلعتهما، ورمت بهما إليه (¬2). ولو ذهبنا نستقصي ما تناقله العلماء في هذا المجال لطال الحديث، وإيراد القليل في هذا يغني عن الكثير. 1 - تحويل الاتجاه: إن النفس الإِنسانية دائمة الهم والإرادة، وهي في ذلك كنهر متدفق فياض، فإذا خاف قوم من النهر أن يغرق ديارهم، ويهلك زرعهم، فلن يكون العلاج بإيقاف تدفق النهر، وقطعه من مصبّه ومنبعه، فذلك ما لا طاقة لهم به، وإنما السبيل أن يحولوا مجراه. وإذا كانت النفس الإنسانية لا يمكن أن تتوقف في الهمّ والإرادة وطلب ما يقيم أودها، ويحفظ وجودها، ويضمن استمرار نوعها، لأن ذلك سرّ من أسرار تكوينها - فليس السبيل أن نعدم ذلك ونزيله، إنما السبيل أن نعدل عن الضار إلى النافع، وعن الحرام إلى الحلال، وعن الخبيث إلى الطيب. والله يعلم مدى ضعفنا فلم يحرم علينا كلَّ شهوة، لذلك أباح لنا من الهوى ¬

_ (¬1) تلبيس إبليس ص 399. (¬2) المصدر السابق.

2 - تقوية الإرادة

والشهوة ما فيه الغنية والكفاية: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬1). قال ابن تيمية: "سياق الكلام يدلّ على أنَّه ضعيف عن ترك الشهوات، فلا بد له من شهوة مباحة يستغني بها عن المحرمة، ولهذا قال طاووس ومقاتل: "ضعيف في قلة صبره عن النساء" (¬2). والسبيل أن نستغني بالحلال عن الحرام، وذلك بأن نأخذ محبوبات النفوس من الطريق الذي أحله الشارع، ونأخذ منه في حدود لا تضر بدنيانا ولا أخرانا. 2 - تقوية الإرادة: وهذا لا يأتى إلاّ بعلم وبصيرة، علم بالحلال والحرام، وفقه يحمله على أن يأخذ الحلال ويترك الحرام. وهو في ذلك يحتاج إلى عزيمة قوَّية، وإرادة صلبة، ويكون تقوية الإرادة بتبصير الإنسان في نفسه بأضرار اتباع الهوى في الدنيا قبل الآخرة، وفي الآخرة بعد الدنيا، وتبصيرها بالخير الذي سيحرمه في الدنيا والآخرة. يكون بتوجيه قصده إلى طلب الله والدار الآخرة، وبذلك يقوى داعي الإخلاص ويضعف داعي الهوى، فقد تقرر أن العضو يقوى بالاستعمال ويضعف بالترك، ومتى عودنا أنفسنا مصارعة داعي الهوى، وأمددنا داعي الإِخلاص بما يقويه ويؤيده كانت النصرة له بحول الله وقوته. والإكثار من العمل الصالح يقوي الإرادة ويزكي النفس. يقول الغزالي: "الطريق إلى تزكية النفس اعتياد الأفعال الصادرة من النفوس الزكية الكاملة، حتى إذا صار ذلك معتادا بالتكرار مع تقارب الزمان، حدث منها للنفس ¬

_ (¬1) سورة النساء: 28. (¬2) مجموع الفتاوى 10/ 572.

3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا

هيئة راسخة (¬1)، تقتضي تلك الأفعال وتتقاضاها، بحيث يصير ذلك له بالعادة كالطبع، فيخفف عليه ما يستثقله من الخير" (¬2). فإذا شغل العبد قلبه بإرادة طاعة الله والتوجه إليه، وجوارحه بالأعمال الخيِّرة قويت تلك الإِرادة، وجاءت العزيمة الصادقة. 3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا: المتتبع لآيات الكتاب والباحث في أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يعلم علما جازما أن في أعماقنا وازعا يدفعنا إلى الخير، ويزجرنا عن الشر، قد يطمس هذا الوازع فلا يظهر إلاّ في آماد متباعدة، وقد يلحّ على صاحبه ويقلقه، ولكنّه عند المؤمن واضح بيّن، ذلك أنّ الله ألقى عليه من نوره، فكشف عنه عمى قلبه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬3). وليس صحيحا ما قرره زكي مبارك من أن الضمير (¬4) لا وجود له في ذاته .. ، وإنَّما ينشأ من الشرائع الوضعية أو السماوية ... (¬5)، ليس صحيحا ذلك، لأن النفس الإنسانية تلقت في تكوينها الأولى الإِحساس بالخير والشر: {وَنَفْسٍ وَمَا ¬

_ (¬1) يريد الغزالي التي بالهيئة الراسخة أن تصبح إرادة الخير وعمل الخير خلقا للإنسان، وقد عرف الخلق في (إحياء علوم الدين 3/ 56)، بأنه عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا -سميت تلك الهيئة خلقا سيئا". وإن كانت تصدر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا". (¬2) ميزان العمل ص 251. (¬3) سورة الحج 46. (¬4) يقول أحمد أمين في تعريف الضمير (الأخلاق ص 73): الضمير قوة يجدها المرء في أعماق نفسه تحذره من فعل الجريمة قبل وقوعها، وتوبخه بعد وقوعها، وتأمره بفعل الواجب، وتلومه على عدم فعله، وهذا قد يوجد عند الحيوان، فالهرّة التي تسرق تختبيء لتأكل سرقتها بخلاف ما يقدم لها. ويقول زكي مبارك معرفا الضمير: "الضمير هو صوت ينبعث من أعماق الصدور آمرا بالخير، أو ناهيا عن الشر، وإن لم يرج مثوبة أو يخش عقوبة" (الأخلاق عند الغزالي ص 106). ويجب أن نلاحظ أن هذا المعنى الشائع لكلمة الضمير لم يكن معروفا عند العرب السابقين والضمير عند العرب معناه: السر وداخل الخاطر، وهو الشيء الذي تضمر في قلبك، واضمرت الشيء أخفيته. (¬5) الأخلاق عند الغزالي ص 107.

سَوَّاهَا فَألْهَمَهَا فجُورَهَا وَتَقْواها} (¬1)، وزود الله الإنسان بالبصيرة: {بلِ الإنْسَانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَة} (¬2)، وهدى الإنسان إلى طريقي الخير والشر: {أَلَمْ نَجعَلْ لهُ عينيْنِ وَلسَانًا وَشَفَتَينِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬3). كل ما في الأمر أنَّ الأديان السماوية تكشف الغشاوة عن القلوب، وتزيح الظلمات التي حجبتها عن الحق، وحجبت الحق عنها، وتمدّها بالنّور الذي يمدّ البصيرة الداخلية ببصيرة إلهية فيكون {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (¬4). أما الشرائع الوضعية فإنّها تفسد الضمائر، وتدسّي النفوس: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (¬5). وممّا يقوي الضمير في نفس المسلم ويحييه أن يربط العبد قلبه بربه خوفا وطمعا، ورغبة ورهبة، فالخوف من الله والوقوف بين يديه يدفع الهوى ويقهره: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬6). يقول المرحوم سيد قطب في تفسير هذه الآية: "الذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري، قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة ونَهْي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القويّ لكلّ طغيان، وكلّ تجاوز، وكلّ معصية، وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقلَ أن يؤتى الِإنسان إلاّ من قبل الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها. والخوف من الله هو ¬

_ (¬1) سورة الشمس 7 - 8. (¬2) سورة القيامة: 14. (¬3) سورة البلد: 8 - 10. (¬4) سورة النور: 35. (¬5) سورة البقرة: 257. (¬6) سورة النازعات: 40.

4 - محاسبة العبد نفسه

الحاجر الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقلَّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى، ومن ثم يجمع السياق بينهما في آية واحدة، فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها، الخبر بدوائها، وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها، ويعلم أين تكمن أهواؤه وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها" (¬1). 4 - محاسبة العبد نفسه: ومما يدفع الهوى ويبعده أن يحاسب المرء نفسه، وقد كان هذا دأب الصالحين، قال عمر بن الحطاب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا" (¬2). وفي الحديث: "الكيس من دان نفسه" (¬3). والمحاسبة تكون على أحوال: الأولى: أن يحاسب العبد نفسه قبل أن يقدم على الفعل، وينظر في همّه وقصده. فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكن من القلب سهل عليه دفعها، ذلك أن بداية الأفعال من الخطرات، فالخطرة النفسية والهمّ القلبي قد يقويان، حتى يصبحا وساوس، والوسوسة تفسير إرادة، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلا. قال الحسن: كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة تثبت، فإن كانت لله أمضاها، وقال: رحم الله عبدا وقف عند همّه؛ فليس يعمل عبد حتى يهمّ، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخَّر. والتثبت في الخطرات إنّما يكون بعرض همّه وخطراته على الكتاب والسنة، فيجعل الكتاب والسنة دليله، فإن لم يتثبت بعقله لم يبصر ما يضره مما ينفعه، وما لم يكن العبد كذلك فإن النفس قد تدعو إلى أمور يظنها خيرا، ثم يتبين أنّها شر. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 6/ 3818. (¬2) الرعاية ص 38. (¬3) تمامه (وعمل لما بعد الموت، والعاحز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله تعالى) رواه الحاكم في المستدرك والعسكري والقضاعي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط البخاري، وتعقبه الذهبي بأن فيه ابن أبي مريم وهو واه (انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص 329).

الثانية: أن يعصي داعي الهوى ولا يوافقه (¬1)، وعصيان داعي الهوى يكون بالصبر عن مواقعة المعاصي والذنوب، يقول ابن القيم: "الصبر ثبات باعث العقل والدّين في مقابلة باعث الهوى والشهوة" (¬2). ويقول: النفس تدعونا إلى الزنى والغضب وإفشاء السر والهروب من القتال، وتدعو إلى الانتقام والبخل والعجز والكسل، والإمساك عن هذه الدواعي يسمى صبرًا (¬3). والصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام للمطيّة، فإذا لم يكن لها زمام شرقت وغربت في كلّ مذهب، قال الحجاج (¬4) في بعض خطبه: "اقدعوا هذه النفوس، فإنها طلعة إلى كل سوء، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما وزماما، فقادها بخطامها وزمامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه ... " (¬5). الثالثة: بعد وقوع العبد في الخطأ وموافقة الهوى، فإن الذي يحاسب نفسه يستعرض عمله دائمًا، فإذا وجد أنَّه حاد عن السبيل عاد على نفسه باللوم، وتاب ¬

_ (¬1) وقد كثر في كلام العلماء والأدباء والحكماء الأمر بمخالفة الهوى، يقول البوصيري: وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإنْ هما محضاك النصح فاتَّهِم وقال عمرو بن العاص: إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم يعص قلبا غاويا حيث يمما قضى وطرا منه يسيرا وأصبحت ... إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما وقال الزبير بن عبد المطلب: واجتنب المقارع حيث كانت ... واترك ما هويت لما خشيت وقال حكيم من حكماء الفرس: إذا اشتبه عليك أمران، فلم تدر أيهما الصواب، فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه. وكان يقال: "أخوك من صدقك وأتاك من جهة عقلك لا من جهة هواك". "راجع عيون الأخبار لابن قتيبة لمزيد من الأمثلة" (1/ 37). (¬2) عدة الصابرين ص 14. (¬3) المصدر السابق. (¬4) هو الحجاج بن يوسف الثقفي، قائد داهية سفَّاك للدماء، قلده عبد الملك أمر عسكره، فقضى على ابن الزبير، ووطد الحكم للأمويين، توفي عام (95 هـ). راجع: (وفيات الأعيان 2/ 29)، (شذرات الذهب 1/ 106)، (الأعلام 2/ 175). (¬5) عدة الصابرين ص 14، والقدع: المنع والكف، والمراد كفها عما تتطلع إليه من الشهوات (لسان العرب 34).

إلى ربه، وأناب، وسأله العفو والصفح والغفران: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الزمر 53.

ثانيا: الرياء

ثانيًا: الرياء جاءت نصوص الكتاب والسنة ترهبنا ترهيبا عظيما من أن نقصد بالعبادة -التي شرعها الله لنتقرب بها إليه- العباد، وعدَّ ذلك من عظائم الذنوب، بل عده شركا، وذلك لأنّ هذا المرائي لم يقصد الله وحده دون سواه بعمله، والإخلاص يقتضي أن يريد العابد الله لا شريك له. والمرائي جعل العبادات مطيّة لتحصيل أغراضه، فقد استعمل العبادة فيما لم تشرع لأجله، وهذا تلاعب بالشريعة ووضع للأمور في غير مواضعها. ومن النصوص القرآنية التي تتوعّد المرائين: 1 - قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬1). فقد تهدّد الله هذا الصنف المرائي بصلاته بالويل وهو الهلاك. 2 - وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬2). فالمتصدق الذي يمنّ بصدقته على المتصدق عليه أو يؤذيه عمله باطل، مثله مثل الذي ينفق رياء. 3 - وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (¬3). فالذي يريد بعمله ثواب الدنيا يعطاه إذا شاء الله ¬

_ (¬1) سورة الماعون / 4 - 7. (¬2) سورة البقرة / 264. (¬3) سورة هود /15.

تعالى (¬1)، ومصيره في الآخرة العذاب الشديد، لأنه جرد قصده إلى الدنيا، فالآية -كما يقول القرطبي- عامة في كلّ من ينوي بعمله غير الله، كان معه أصل إيمانه أو لم يكن، وهذا قول مجاهد، وميمون بن مهران (¬2)، وإليه ذهب معاوية (¬3). أما الأحاديث النبوية فهي كثيرة منها: 1 - روى أبو هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول النّاس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النّار. ورجل تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلّمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنّك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت، ليقال قارىء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى أُلقي في النّار. ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرّفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار (¬4) ". فهؤلاء الثلاثة الذين أجهدوا أنفسهم في الطاعات والعبادات لم تنفعهم طاعتهم وعبادتهم، لأنهم لم يبغوا بها وجه الله ¬

_ (¬1) هذه الآية مطلقة وآية الإسراء مقيدة لها: {منْ كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}. (¬2) هو ميمون بن مهران الرقي فقيه من القضاة، وكان عالم الجزيرة الفراتية وسيدها، استعمله عمر بن عبد العزيز على قضائها وخراجها، ثقة في الحديث، كثير العبادة، ولادته سنة (37 هـ)، ووفاته سنة (117 هـ). راجع: (شذرات الذهب 1/ 154)، (الكاشف 3/ 193). (طبقات الحفاظ ص 39). (¬3) تفسير القرطبي (9/ 15). (¬4) رواه مسلم في صحيحه (انظر شرح النووي على مسلم 13/ 50) وعزاه ابن الأثير إلى مسلم والترمذي والنسائي، (انظر جامع الأصول 5/ 281).

تعالى، بل صارت عذابا، لأنَّهم قصدوا بها العباد لا ربَّ العباد، وفي هذا دليل على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته (¬1). 2 - عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل رياء، أيَّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، رواه مسلم في صحيحه. وفي رواية في صحيح مسلم أيضا، قال السائل: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (¬2). فقد صرّح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن المقاتل لا يكون مقاتلا في سبيل الله إلاّ إذا كان هدفه إعلاء كلمة الله، أما الذي يقاتل لغير ذلك فلا يعدّ مقاتلا في سبيل الله. 3 - عن أسامة بن زيد (¬3) -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، يقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف، ولا آتيه، وأنهى عن المنكر، وآتيه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر شرح النووي على مسلم (13/ 51). (¬2) رواه الجماعة (انظر نيل الأوطار 7/ 226). وقوله في الحديث: للذكر، أي ليذكره الناس بالشجاعة. والحمية: هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن العشرة. (¬3) هو أسامة بن زيد بن حارثة صحابي جليل، ولد بمكة في السنة السابعة قبل الهجرة، كان حبيبا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أثيرا عنده، أمره الرسول -صلى الله عليه وسلم-، في آخر حياته، وأسامة دون العشرين، توفي بالمدينة (54 هـ). راجع: تهذيب التهذيب (1/ 208)، خلاصة تذهيب الكمال (1/ 66)، (الكاشف 1/ 104). (¬4) رواه البخاري ومسلم (جامع الأصول 5/ 287)، وقوله في الحديث فتندلق، الاندلاق: الخروج، ومنه اندلق السيف عن قرابه، وأقتاب بطنه، الأقتاب جمع قتب: وهي الأمعاء.

تعريف الرياء

4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (¬1). 5 - عن معاذ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اليسير من الرياء شرك" (¬2). 6 - وعن أبي سعد بن أبي فضالة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جمع الله النّاس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله مع الله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإنَّ الله أغنى الشركاء عن الشرك" (¬3). 7 - عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر الدجال ففال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ "فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك الخفي، أن يقوم الرجل، فيصلي، فيزيد صلاته، لما يرى من نظر رجل" (¬4). تعريف الرياء الرياء لغة: الرياء مصدر راءى، ومصدره يأتي على بناء مفاعله وفعال، وهو مهموز العين لأنه من الرؤية، ويجوز تخفيفها بقلبها ياء. وحقيقة الرياء لغة: أن يري غيره خلاف ما هو عليه. يقول الفيروز آبادي: وراءيته مراءاة ورياء: أريته على خلاف ما أنا عليه" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (جامع الأصول 5/ 256). (¬2) أخرجه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان، وضعّفه محقق المشكاة، (مشكاة المصابيح 2/ 686). (¬3) قال التبريزي في المشكاة (2/ 684). رواه أحمد، وقال محقق المشكاة: رواه ابن ماجه والترمذي، وقال حديث حسن، وهو كما قال. (¬4) رواه ابن ماجة (مشكاة المصابيح 2/ 687)، قال محقق المشكاة: وهو حديث حسن. (¬5) بصائر ذوي التمييز (3/ 116).

الرياء شرعا

الرياء شرعًا: وقد عرّف العلماء الرياء بتعريفات قريبة من المعنى اللغوي، ومدار تعريفاتهم على شيء واحد هو: أن يقوم العبد بالعبادة التي يتقرب بها لله لا يريد الله عز وجل، بل يريد عرضا دنيويا. (¬1) يقول الحارث المحاسبي في تعريف الرياء: "الرياء إرادة العبد العباد بطاعة الله (¬2)، ويقول الغزالي: "الرياء التشبه بذوي الأعمال الفاضلة طلبا للسمعة والمفاخرة" (¬3)، ويقول العز بن عبد السلام: "الرياء إظهار عمل العبادة، لينال مظهرها عرضا دنيويا، إما بجلب نفع دنيوي أو تعظيم أو إجلال" (¬4). وقال القرطبي: "حقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس" (¬5). وقال مرّة: "الرياء أن يفعل شيئًا من العبادات التي أمر الله بفعلها لغيره" (¬6). وقال ابن حجر: "هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس، فيحمدوا صاحبها" (¬7). وعرفه أبو بكر بن العربي: "هو أن يري الناس أنّه يعمل عملا على صفة، وهو يضمر في قلبه صفة أخرى" (¬8). ¬

_ (¬1) قد يكون العابد لا يريد ما عند الله عز وجل بل يريد الدنيا بعبادته ومع ذلك لا يعدّ مرائيا، وهذا يتصور في حالتين: الأولى: أن يعمل العمل الصالح، ويطلب به الدنيا، ويصرح بذلك، ولا يخفيه كمن يطلب العلم الديني لقصد الرئاسة والوظيفة، أو يحج لتحصيل مال موعود به. والثانية: أن يعمل العمل الصالح الذي شرعه ليعبد به كالصلاة والصدقة وصلة الأرحام، ويزعم أنه مخلص له في ذلك، ولكنه يريد من الله بعبادته هذه أن يجازيه بحفظ ماله وتنميته أو حفظ عياله، وليس له مراد في إرضاء الله وتحصيل ثوابه، فهذا ليس له في الآخرة نصيب، وقد ذكر الله هذا الصنف في قوله: {ومن الناس منْ يقول ربنا آتنا في الدنيا وما لَه فِي الآخرة مِن نصيب}. (¬2) الرعاية ص 33. (¬3) ميزان العمل ص 285. (¬4) قواعد الأحكام 1/ 147. (¬5) تفسير القرطبي 20/ 212. (¬6) تفسير القرطبي 5/ 181. (¬7) فتح الباري 11/ 136. (¬8) تيسير العزيز ص 461.

الرياء والسمعة

وقال الصنعاني: "الرياء أن يفعل الطاعة، ويترك المعصية، مع ملاحظة غير الله، أو يخبر بها، أو يحب أن يطلع عليها لمقصد دنيوي، من مال أو نحوه" (¬1). الرياء والسمعة: عنون البخاري في صحيحه بهذا العنوان: "باب الرياء والسمعة"، وذكر فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به" (¬2). والفرق بين الرياء والسمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس، والسمعة العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسّة السمع، قال الحافظ ابن حجر: "المراد بالسمعة نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر" (¬3). فالتسميع على هذا لا يكون إلا في الأمور التي تسمع كقراءة القرآن وذكر الله تعالى، ونحو ذلك. إلاّ أن العز بن عبد السلام يرى أن المراد بالتسميع هو أن يحدّث المرء غيره بما يفعله من الطاعات التي لم يطلع عليها المتحدث، أمّا الرّياء فهي الطاعة التي يظهرها الفاعل كي يراها الناس (¬4). وعلى ذلك فالرياء لا يدخل في العبادات القلبية كالخوف والرجاء بخلاف التسميع، لأن العبد قد يحدّث عما يكنه قلبه يريد بذلك ثناء الناس. يقول العز بن عبد السلام: "أعمال القلوب مصونة من الرياء، إذ لا رياء إلا بأفعال ظاهرة ترى أو تسمع، والتسميع عام لأعمال القلوب والجوارح، وقد عدَّ الصوم من الأعمال التي لا تظهر إلا بالتسميع" (¬5). ¬

_ (¬1) سبل السلام 4/ 184. (¬2) رواه البخاري عن جندب بن عبد الله (انظر فتح الباري 11/ 336). (¬3) فتح الباري 11/ 336. (¬4) قواعد الأحكام 1/ 147، وقال مثله النووي رحمه لله تعالى: التسميع أن يعمل العمل في الخلوة، ثم يحدث بما عمل (شرح الأربعين ص 11). (¬5) قواعد الأحكام 1/ 148.

الرياء والعجب

وقسم التسميع إلى قسمين: (¬1) الأول: تسميع الصادقين، وهو أن يعمل الطاعة خالصة لله، ثم يظهرها ويسمّع الناس بها، ليعظموه، ويوقروه، وينفعوه، ولا يؤذوه". قال: وهذا محرم، وقد جاء في الحديث: "من سمَّع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به" (¬2)، وهذا تسميع الصادقين. الثاني: تسميع الكاذبين وهو أن يقول صلّيت ولم يصلّ، وزكيت ولم يزك، وصمت ولم يصم، وحججت ولم يحج، وغزوت ولم يغز. فهذا أشدّ ذنبًا من الأول، لأنَّه زاد على إثم التسميع إثم الكذب، فأتى بذلك معصيتين قبيحتين. وجاء في الحديث الصحيح: "المتسمِّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (¬3). وقد يجمع العبد بين هذين الأمرين القبيحين: الرياء والتسميع، يقول العز بن عبد السلام في ذلك: "لو راءى بعبادات، ثمَّ سمَّع موهما لإخلاصهما، فإنه يأثم بالتسميع والرياء جميعا، وإثم هذا أشد من الكاذب الذي لم يفعل ما سمَّع به، لأن هذا أثم بريائه وتسميعه وكذبه ثلاثة آثام" (¬4). الرياء والعجب: يقول ابن تيمية: "وكثيرا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب". ثم يفرّق بينهما قائلا: "فالرياء من باب الِإشراك بالخلق، والعجب من باب الِإشراك بالنفس" (¬5). ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام 1/ 147. (¬2) سبق تخريجه. ص 437. (¬3) المحفوظ "من تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور" وهو بهذا اللفظ في البخاري ومسلم، (انظر المقاصد الحسنة ص 407). (¬4) قواعد الأحكام 1/ 148. (¬5) مجموع الفتاوى 10/ 277.

أسباب الرياء

والعجب في لغة العرب: الزهو، ورجل معجب مزهو بما يكون منه حسنا أو قبيحا، وقد أعجب فلان بنفسه فهو معجب برأيه وبنفسه والاسم العجب (¬1). والعجب بالطاعات إنما يكون نتيجة استعظام الطاعة، وكأنه يمنُّ على الله -تعالى- بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). والمعجب المغرور بنفسه وبعبادته وطاعته لا يحقّق {إِيَّاكَ نسْتعَيِنُ} (¬3)، كما أن المرائي لا يحقق {إِيّاكَ نَعْبدُ} (¬4). ومتى شغل العبد بتحقيق {إِياكَ نَعْبُد وَإيّاكَ نَسَتعيِنُ} (¬5)، خرج عن الرياء والعجب. وفي الحديث: "ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" (¬6). والعجب آفة تحبط العمل، يقول النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أنَّ الإخلاص قد يعرض له آفة العجب، فمن أعجب بعمله حبط عمله، وكذلك من استكبر حبط عمله" (¬7). أسباب الرياء أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه يخاف علينا الشرك الخفي أكثر مما يخاف علينا المسيح الدجال، وما ذلك إلاّ لأنّ الداعي إلى الرياء قويٌّ، إذ النفوس ¬

_ (¬1) لسان العرب في مادة (ع ج ب). (¬2) سورة الحجرات/ 17. (¬3) سورة الفاتحة / 5. (¬4) سورة الفاتحة / 5. (¬5) سورة الفاتحة / 5. (¬6) رواه البيهقي في شعب الإيمان (مشكاة المصابيح 2/ 637). (¬7) شرح الأربعين ص 10، وراجع في هذا الموضوع المدخل لابن الحاج، (3/ 54)، والقرافي في كتابه الفروق (4/ 227، 228)، يري أن العجب والتسميع لا يكونان إلا بعد تمام الطاعة، بخلاف الرياء فهو مقارن للعبادة، ومن هنا كان الرياء عنده مفسد للعبادة بخلاف العجب والتسميع أنهما معصيتان إلا أن العبادة لا تفسد بهما، ويفرق القرافي بين العجب والتسميع، بأن العجب إنما يكون بالقلب، خلاف التسميع فهو باللسان.

مجبولة على حبِّ الرئاسة والمنزلة في قلوب الخلق إلاّ من سلَّم الله، وقد أحسن الشاعر حيث يقول: يهوى الثناء مبرِّز ومقصر ... حبّ الثناء طبيعة الِإنسان وقد لا نكون مغالين في القول إذا ذهبنا إلى أن الداعي إلى الرياء أعظم من الداعي إلى الشرك الأكبر، فالشرك الأكبر معدوم في قلوب المؤمنين الصادقين، ولهذا يكون الإلقاء في النّار أسهل عندهم من الكفر كما جاء في الحديث. أما داعي الرياء فهو من الدنيا التي قال الله فيها: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحياةَ الدنْيَا} (¬1)، وقال: {بلْ تُحِبُّونَ الْعَاجلَةَ وتَذَرُونَ اْلآخِرَةِ} (¬2)، والأمور التي تدعو إلى الرّياء مغروسة في أعماق النفس الِإنسانية، فهي حبيبة إلى نفس الإنسان، أثيرة لديه، وقد حصرها الحارث المحاسبي (¬3) في ثلاثة أمور: "حبّ المحمدة وخوف المذمة، والضعة (¬4) في الدنيا، والطمع لما في أيدي الناس". ولا يحتاج هذا الذي قرره المحاسبي إلى دليل فالِإنسان يجد في نفسه: "أنّه يحب أن يعلم العباد بطاعته لربّه، فيوصل ويعطى ويكرم، ويحبّ أن يحمد: يثنى عليه ويعظّم، ويكره أن يذمَّ، فيفعل الطاعة لئلا يذم بقلّة الرغبة فيها" (¬5). وقد شرح لنا الحارث المحاسبي حديث أبي موسى الأشعري، وبين دلالته على أن الرياء إنما يبعث عليه الأمور الثلاثة التي ذكرها، فالأعرابي السائل للرّسول صلى الله عليه وسلم، يقول: "يا رسول الله، الرجل يقاتل حمية" (¬6)، ومعنى ذلك ¬

_ (¬1) سورة الأعلى / 16. (¬2) سورة القيامة/ 20 - 21. (¬3) الرعاية 138 - 139. (¬4) الضعة: الدناءة، والوضيع: الدنيء. (¬5) الرعاية ص 139. (¬6) سبق تخريجه.

-كما يقول الحارث-أنَّه يحمي فيأنف أن يقهر أو يذمَّ بأنه غُلب أو غلب قومه، فيقاتل لذلك". قال: "الرجل يقاتل ليرى مكانه" وهذا طلب الحمد بالقلب ومعرفة القدر. قال: "ورجل يقاتل للذكر" وهذا طلب الحمد بالألسن. وذكر حديث ابن مسعود: "إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فيكتبون الناس على نياتهم، فلان يقاتل للذِّكر"، ومعنى ذلك حمد المخلوقين. "وفلان يقاتل للملك" وهذا جمع الدنيا. وقد أرجع الحارث المحاسبي هذه الثلاثة التي تبعث على الرياء وتهيجه إلى اثنتين ثمَّ إلى واحدة، قال: "ويجمع ذلك كلّه حبّ المحمدة وخوف المذمة، لأن العبد يعلم أنه لا ينال ما عند الناس بطاعة ربه إلاَّ أن يحمدوه عليها، فتبذل له أموالهم، وأنّه ما جزع من الذمّ لحبه للمحمدة كراهية أن يزول عنه حمدهم، فتؤول هذه الثلاثة إلى حب المحمدة، إلا أنها تشعبت وتفرقت على أقدار الناس، وقدر مراتبهم" (¬1). وقد استثنى الإمام مالك -رحمه الله تعالى- وتابعه ابن العربي (¬2) من هذه الأفعال التي هي رياء، تلك العبادات التي يظهرها العبد، كي تثبت عدالته، وتصحّ إمامته، وليُقْتدى به، قال القرطبي: "قال ابن العربي: إنَّ من صلى صلاة لِيُرِها الناس، ويرونه، فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور، لقبول الشهادة وجواز الإمامة، فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج، وإنما الرياء في المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نيّة لا تجزىء وعليه الإعادة. ¬

_ (¬1) الرعاية 139. (¬2) راجع تفسير القرطبي 5/ 423.

الأمور التي يراءى بها

وينبغي أن يحمل كلام مالك وابن العربي في مثل هذه الحال على ما إذا كان القصد إلى هذه الأمور تابعا للِإخلاص، أما إذا كان قصد هذه الأمور متبوعا فهو رياء، لا يخالف فيه مالك ولا غيره (¬1). ومع ذلك فقد ذهب كثير من العلماء إلى أنَّ هذا القصد ينافي الإخلاص ويذهبه، وأنّه من الرِّياء، منهم الحارث المحاسبي والقرطبي وغيرهما (¬2). الأمور التي يراءى بها (¬3) قد يرائي العبد بالنحول والإصفرار، ليوهم الناس أنه حبان في العبادة كثير الحزن والخوف، وقد يرائي بضعف الصوت، وغور العينين وذبول الشفتين ليستدل بذلك على الصيام. وقد يرائي بتشعيث الرأس وحلق الشارب واستئصال الشعر، ليظهر بذلك تتبع زي العبّاد والنساك، وقد يحرص على إبراز أثر السجود في جبهته، ويلبس الغليظ من الثياب وخشنها، ويشمرها، ويقصر الأكمام، ويخصف النعال. وقد يكون رياؤه بالنطق بالحكمة، وإقامة الحجة عند المجادلة، وحفظ الحديث وبيان الحجة والفهم والعلم وإظهار الذكر لله -عز وجل- باللسان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحسن الصوت بالقراءة، وتحزينه وإظهار ¬

_ (¬1) وقد جاء اشتراط كون القصد متبوعا فيما أورده ابن رشد في المقدمات (ص 30)، وأحب أن أسوق كلامه لما فيه من توضيح لهذه المسألة، يقول ابن رشد: (سئل الإمام مالك وربيعة عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المجد، ويكره أن يلقى في طريق السوء، فأما ربيعة فكره ذلك، وأما مالك فقال إذا كان أول أمره ذلك وأصله لله تعالى فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى، قال تعالى: {وألقيتُ عليك محبةً منِي} سورة طه /39، {واجعل لي لسان صدق في الآخرينَ} سورة الشعراء /84، وقال عمر بن الخطاب لابنه "لأن قلتها أحب إلي من كذا وكذا" يريد جواب سؤال للرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعرفه القوم، وعرفه ابن عمر. قال مالك: فأي شيء هذا إلا هذا، فإن هذا شيء يكون في القلب لا يملكه، هذا إنما يكون من الشيطان ليمنعه العمل، فمن وجد ذلك فلا يكسل عن التمادي في فعل الخير، ولا ييأس من الأجر، وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع، ويجرّد النية لذلك). (¬2) الرعاية ص 150، تفسير القرطبي 5/ 423. (¬3) راجع الرعاية (ص 141 - 142)، أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1972) تفسير القرطبي (20/ 212 - 213)، سبل السلام (4/ 175).

حكم العمل المراءى به

التسخط على أهل الدنيا، وإظهار الوعظ، والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة. وقد يرائي بعمله؛ كأن يطوّل الصلاة، ويزيد في الركوع والاعتدال منه أو السجود، وقد يرائي بالصوم أو بالغزو أو بالحج أو بطول الصمت وبذل المال. وقد يرائي بصحبة العلماء بأن يحرص على أن يسير مع العالم أو العابد، ليقال: إنه صاحبه، ومن أهل ودّه، فيعظَّم بذلك. حكم العمل المراءى به هل كل عمل خالطه قصد الرياء يعدُّ باطلا؟ لم تتفق نظرة العلماء في هذا الموضوع، فالصنعاني ينظر إلى القصد هل تمحض للرياء أم صاحبه قصد الثواب، وفي الحالة الثانية هل كانت إرادة الثواب أرجح أو أضعف أو مساوية (¬1)؟ وهو بذلك يضع أمامنا أربع صور لا يعطيها حكما واحدا، والصورة الأولى لا أظن أحدا من العلماء خالف في الحكم عليها بالبطلان، وهي الحالة التي لا يقصد فيها العابد الثواب، إنما قصده كله أن ينال منزلة ومحمدة عند الناس. وقد سمّى ابن رجب (¬2) هذا النوع من الرياء بالرياء المحض، وهذا يقع من المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} (¬3). ويرى ابن رجب أن هذا النوع من الرياء لا يكاد يقع من مؤمن بالله واليوم الآخر ¬

_ (¬1) سبل السلام 4/ 185. (¬2) هو عبد الرحمن بن شهاب الدين: أحمد بن رجب السلامي البغدادي، ثم الدمشقي من العلماء الأفذاذ الذين حفظوا الحديث، وقاموا عليه له (شرح جامع الترمذي)، و (جامع العلوم والحكم)، (والقواعد الفقهية). ولادته في 736 هـ، ووفاته (795 هـ). راجع: (شذرات الذهب 6/ 339)، (طبقات الحفاظ ص 536)، (الأعلام 4/ 67). (¬3) سورة النساء / 142.

في فرض الصلاة والصوم، وأنّه قد يقع في الصدقة الواجبة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإنّ الإخلاص فيها عزيز. ويقول ابن رجب في هذا: "العلل على هذا النحو لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحقُّ المقت من الله والعقوبة" (¬1). وقد سمّى الحارث المحاسبي هذا النوع من الرياء: الرياء الأعظم والأشد، وقد قال فيه: "الوجه الذي هو أشدّ الرياء وأعظمه: إرادة العبد العباد بطاعة الله عز وجل، لا يريد الله عز وجل بذلك" (¬2). وقال الغزالي في هذا النوع: "أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعا، وهو سبب المقت والغضب" (¬3). أما الصور الثلاثة الأخرى فيكون قصد الرياء مصحوبا بقصد الثواب، وإنما كانت الصور ثلاثة لأن إرادة الثواب قد تكون أرجح، وقد يكون قصد الرياء أرجح، وقد يتساويان. والصنعاني هنا يتابع الغزالي في النظر إلى قدر قوة الباعث (¬4) "فإن كان الباعث الديني مساويا الباعث النفسي تقاوما وتساقطا، وصار العمل لا له ولا عليه. وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع، وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب؛ نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء، ولم يمتزج به شائبة التقرب. وإن كان قصد التقرب أغلب بالِإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني". والغزالي يرى أن هذا من العدل الذي تقتضيه قاعدة الثواب التي نصَّ الله عليها ¬

_ (¬1) الدين الخالص 2/ 382. (¬2) الرعاية ص 135. (¬3) إحياء علوم الدين. (¬4) راجع إحياء علوم الدين (4/ 384 - 385)، وكل ما نقلناه عنه هنا من هذا الوضع.

في غير آية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (¬2)، فقصد الخير لا يضيع عند الله: "فإن غلب قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه، وبقيت زيادة، وإن كان مغلوبا سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسدة". والغزالي يقوي مذهبه ويستدل عليه بالمعقول وبالنصوص. فهو يقول في توضيح مذهبه: "وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها، فداعية الرياء من المهلكات، وإنما غذاء هذا المهلك وقوته في العمل على وفقه، وداعية الخير من المنجيات، وإنما قوتها بالعمل على وفقها، فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوّى تلك الصفة، وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوى تلك الصفة، وأحدهما مهلك والآخر منج، فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما". وقد مثل لهذا بالأمور المحسوسة، فالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضرّه، ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما، وإن كان أحدهما غالبا لم يخل الغالب عن أثره. فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية، ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى- فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر، ولا ينفك عن تأثير في إنارة القلب أو تسويده، وفي تقريبه من الله أو إبعاده، فإذا جاء بما يقربه شبرا مع ما يبعده شبرا فقد عاد إلى ما كان، فلم يكن له ولا عليه، وإن كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبرا واحدا فضل لا محالة شبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتْبِع السيئَةَ الحسَنةَ تمْحُهَا" (¬3) فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقبه، فإذا ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة/ 7، 8. (¬2) سورة النساء / 40. (¬3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (جامع العلوم ص 147).

اجتمعا جميعا فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة". وقد استدل بالإجماع المنعقد على صحة الحج ممن قصد التجارة في حجه مع أن حجه قد امتزج به حظ من حظوظ النفس. وكذلك الغزاة الذين يقصدون نيل الأسلاب والغنائم هم من المجاهدين في سبيل الله، ولا يخرجهم ذلك عن كونهم مجاهدين، وإنما كان الأمر كذلك لأنَّ "الباعث الأصلي والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله، وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية، فلا يحبط به الثواب، نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلا، فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة". والغزالي لم تخف عليه النصوص التي تدلّ على أن العمل المشوب بالرياء باطل، كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1)، وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النّار يوم القيامة، والأحاديث التي يعدّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرياء فيها شركا، والتي يقول الله فيها يوم القيامة للمرائي: خذ عملك ممن عملت، والحديث الذي يحصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه الجهاد فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. أقول لم تخف هذه النصوص عن الغزالي، ولم تغلب عن باله، فهو يذكرها، ثمّ يعقب عليها قائلا: "هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه، بل المراد منها من لم يرد إلا الدنيا، كقوله: "من هاجر يبتغي شيئًا من الدنيا، وكان ذلك هو الأغلب على همه ... ، وأما لفظ الشركة حيث ورد فلا مطلق للتساوي، وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما، ولم يكن له ولا عليه، فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب، ثم إن الإنسان عند الشركة في خطر أبدا، فإنَّه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده، فربما يكون عليه وبالا ... ". هذا خلاصة مذهب الذين اتجهوا للنظر في قوة الدافع. ¬

_ (¬1) سورة الكهف /110.

مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب

مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب: قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا المذهب مذهب قوي، وأن ما اعتمدوا عليه أمر منطقي. ولكننا حين نمعن التأمل فيه نجده غير صواب، فالغزالي -رحمه الله- ينظر إلى قوة الدافع، فالدافع يستحوذ بالعمل. ونحن نقول: إن قصد الرياء يفسد الإخلاص ويحبط العمل، وإن كان قليلا، وهذا له أمثلة في الأمور المحسوسة، فهناك قطرة صغيرة من القذارة قد تفسد جو منزل بأكمله، لخبث رائحتها، وقطرة من السم قد تفسد الطعام الكثير، وقد ورد في بعض النصوص أنه لو قدر أن تسقط قطرة من طينة الخبال -عصارة أهل النار التي هي شرابهم- في أرضنا هذه فإننا لا نستطيع البقاء، لأنَّها ستملأ المشارق والمغارب خبثا. فالقضية ينبغي أن ينظر إليها من زاوية أخرى، هي أن الرياء يفسد الإخلاص؛ وبالتالي يبطل العمل الصالح، وقد دلَّت النصوص على أن الأعمال لا تقبل ما لم تكن خالصة يبتغي بها الله وحده. وحمل الغزالي لهذه النصوص الدالة على بطلان العمل المشوب بالرياء، على الرياء المحض الذي لم يقصد فيه الثواب أصلا، بعيد وبعيد جدا، فالثلاثة الذين هم أول من يقضي فيهم الله حكمه، وأول من تسعر بهم النار، وهم: المجاهد، وقارىء القرآن، والمنفق، هل يعقل أنهم كانوا لا يقصدون القربة مطلقا؟! وقد ورد أكثر من حديث ينص على أنَّ الرياء شرك والمشرك لا يقبل عمله. وقد عدَّ القرطبي الرياء أحد أقسام الشرك الثلاثة مبطلا للأعمال، قال: "ويلي الرتبة (¬1) الإشراك في العبادة، وهو الرياء، وهو أن يفعل شيئًا من العبادات التي أمر ¬

_ (¬1) المرتبة الأولى: هي الشرك الأعظم، وأصله اعتقاد شريك لله في الألوهية، وهو شرك أهل الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. ويليه في الرتبة: اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل وهو قول من قال إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الأمة وعدّ الرياء في المنزلة الثالثة التالية (انظر تفسير القرطبي 5/ 181).

الله بفعلها بغيره، وهذا الذي سيقت الآيات والأحاديث لبيان تحريمه، وهو مبطل للأعمال، وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي" (¬1). وممن ذهب هذا المذهب الحارث المحاسبي، فهو يعدّه شركا محبطا للعمل، يقول في الرعاية: "إرادة العباد بطاعة الله عز وجل وإرادة ثواب الله عز وجل يجتمعان في القلب، والِإرادتان: إرادة المخلوقين، وإرادة الثواب، وهو أدنى الرياء، وهو الشرك بالإرادة في العمل، لأنّه أراد الله والنّاس، فأشرك في عمله بطلب حمد الله -عز وجل- وطلب حمد المخلوقين" (¬2). وأورد الأحاديث الدالة على أنّ هذا شرك (¬3)، ومنها حديث محمود بن لبيد (¬4) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء"، قال: "يقول الله عز وجل لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهوا إلي الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" (¬5). وقال رجل لعبادة بن الصامت (¬6): أقاتل في سبيل الله بسيفي أريد الله -عز وجل- ومحمدة المؤمنين، فقال: لا شيء لك، فسأله ثلاث مرات كل ذلك يرد عليه: لا شيء لك، ثم قال في الثالثة: إنّ الله عز وجل يقول: "أنا أغنى الشركاء عن ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 5/ 181. (¬2) الرعاية ص 136. (¬3) راجع في هذه النصوص الرعاية ص 136 وما بعدها. (¬4) هو محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع، من بني عبد الأشهل، من الأنصار، من أولاد الصحابة، لا يصح له سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، روى عن كبار الصحابة، توفي عام (96 هـ) راجع (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 15)، (شذرات الذهب 1/ 112). (¬5) الحديث عزاه التبريزي إلى ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان، وقال محقق المشكاة: إسناده ضعيف (مشكاة المصابيح 2/ 686). (¬6) هو عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي صحابي موصوف بالورع في شهد العقبة، وكان أحد النقباء، مات بالرملة بفلسطين (34 هـ). (راجع: تهذيب التهذيب 5/ 110)، (خلاصة تذهيب الكمال2/ 32)، (الكاشف 2/ 64).

الشريك، من عمل عملا وأشرك معي شريكا، ودعت نصيبي لشريكي" (¬1). وعن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك" (¬2). وعن أبي سعيد الخدري (¬3) قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال"؟ فقلنا بلى يا رسول الله، قال: "الشرك الخفي، أن يقوم الرجل، فيصلي، يزيد في صلاته لما يرى من نظر رجل" (¬4). والثاني يريد الناس ورب الناس وكلاهما محبط للعمل، وذكر القرطبي أنّ هذا القول: "نقله الحافظ أبو نعيم في الحلية عن بعض السلف"، واستدلّ بعضهم بقوله تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬5)، فكما أنّه كبر عن الزوجة والشريك والولد، تكبر أن يقبل عملا أشرك فيه غيره، فهو تعالى أكبر كبير ومتكبر" (¬6). وقد نسب ابن نجيم إلى بعض الأحناف القول بكفر من صلى رياء، وقال بعضهم: لا أجر له، وعليه الوزر. وقال بعضهم: لا أجر له، ولا وزر عليه، وهو كأنه لم يصل " (¬7). ¬

_ (¬1) هذا الأثر الذي ذكره المحاسبي عزاه ابن كثير في تفسيره (4/ 432) إلى ابن أبي حاتم، وقد رواه مسلم مرفوعا عن أبي هريرة بلفظ: قال تعالى: {أنا أغني الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} (مشكاة المصابيح 2/ 683). (¬2) رواه أحمد (مشكاة المصابيح 2/ 686). (¬3) هو سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن خدرة أبوسعيد، بايع تحت الشجرة، وشهد ما بعد أحد، وكان من علماء الصحابة، توفي سنة 74 هـ، راجع. (تهذيب التهذيب 3/ 479). (الأعلام 3/ 138). (¬4) رواه ابن ماجة (مشكاة المصابيح 2/ 687). وقال محقق المشكاة إسناده حسن. (¬5) سورة الحشر / 23. (¬6) الأربعين النووية ص 10. (¬7) الأشباه والنظائر لابن نجيم 39.

شبهة وجوابها

وقال ابن القيم: وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كانت العمل واجبا، فإنّه ينزل منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (¬1)، فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير مأمور به، فلا يصح ولا يقبل منه ... " (¬2). شبهة وجوابها: ولعل من أكثر ما يستوقف الناظر في الحجج التي أوردها الغزالي أن الحاج القاصد للتجارة صحيح حجّه بالنصّ القرآني، وبالِإجماع على ذلك، والغازي الذي ينال الغنيمة ويتطلع إليها لا يخرجه ذلك عن الِإخلاص، ولا يبطل عمله، وإن كان قد ينقص ثوابه وأجره. فالغزالي هنا يرى أن هذا تشريك في الِإرادة، وليس بمبطل العمل، وقد غاب عن الغزالي أنَّ هذا التشريك ليس شركًا، ولا يدخل في الرياء. فهذا الذي قصد التجارة في الحج لم يقصد أن يرائي بعمله هذا، وعمله ليس شركًا، إنما قصد أن يحج، وأن يتاجر، وقد أباح الله له هذا القصد. ولم أر من فرق تفريقًا دقيقًا بين الرياء والتشريك في العبادة غير القرافي -رحمه الله تعالى- فقد بيّن هذه المسألة وجلاها، فقال: "الفرق الثاني والعشرون والمائة بين قاعدة الرياء في العبادة وبين قاعدة التشريك فيها: اعلم أنَّ الرياء شرك وتشريك مع الله تعالى في طاعته، وهو موجب للمعصية والإثم والبطلان في تلك العبادة، كما نصَّ عليه المحاسبي وغيره، ويعضده ما في الحديث الصحيح، أخرج مسلم وغيره أنَّ الله تعالى يقول: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل ¬

_ (¬1) سورة البينة/ 5. (¬2) الداء والدواء ص 191.

عملاً أشرك فيه غيري تركته له أو تركته لشريكي" (¬1) فهذا ظاهر في عدم الاعتداد عند الله تعالى بذلك العمل. وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أُمروا إلا لِيَعْبُدُوا الله مخْلِصِين له الدينَ} (¬2)، يدل على أن غير المخلص لله تعالى غير مأمور به، وما هو غير مأمور به لا يجزىء عن المأمور به، فلا يعتد بهذه العبادة وهو المطلوب". ثم قال: "وتحقيق هذه القاعدة وسرها وضابطها أن يعمل للعمل المأمور به المتقرب به إلى الله تعالى، ويقصد به وجه الله تعالى، وأن يعظمه الناس أو بعضهم، فيصل إليه نفعهم أو يندفع به ضررهم، فهذا هو قاعدة أحد مسمى الرياء، والقسم الآخر أن يعمل العمل لا يريد به وجه الله النية، بل الناس فقط، ويسمى هذا القسم رياء الإخلاص، والأول رياء الشرك". وبين أن أغراض الرياء ثلاثة: التعظيم، وجلب المصالح، ودفع المضار الدنيوية، والأخيران يتفرعان على الأول، فإنه إذا عظم انجلبت إليه المصالح، واندفعت عنه المفاسد. ثم قال: "هذا الغرض الكلي في الحقيقة، وأما مطلق التشريك كمن يجاهد لتحصيل طاعة الله بالجهاد، وليحصل له المال من الغنيمة، فهذا لا يضره، ولا يحرم عليه بالإجماع، لأن الله جعل له هذا في العبادة، ففرق بين جهاده ليقول الناس: هذا شجاع أو ليعظمه الإمام فيكثر عطاؤه من بيت المال، هذا ونحوه رياء حرام، وبين أن يجاهد لتحصيل السبايا والكراع والسلاح من جهة أموال العدو مع أنه قد شرك، ولا يقال لهذا رياء بسبب أن الرياء أن يعمل ليراه غير الله من خلقه والرؤية لا تصح إلاّ من الخلق، فمن لا يرى ولا يبصر لا يقال في العمل بالنسبة إليه رياء، والمال المأخوذ في الغنيمة ونحوه لا يقال إنّه يرى ويبصر، فلا يصدق على هذه الأغراض لفظ الرياء لعدم الرؤية فيها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبا. (¬2) سورة البينة / 5.

تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة

وكذلك من حج وشرّك في حجه غرض المتجر، ويكون جلّ قصوده كلّه السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودا مع ذلك أو غير مقصود، ويقع تابعا اتفاقا، فهذا أيضا لا يقدح في صحة الحج، ولا يوجب إثما ولا معصية. وكذلك من صام ليصح جسده، أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصوم، ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده، والصوم مقصود مع ذلك، وأوقع الصوم مع هذه المقاصد، لا يقدح في صومه بل أمر بها صاحب الشرع في قوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء" أي قاطع. فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصوم لهذا الغرض، ولو كان ذلك قادحا لم يأمر به صلى الله عليه وسلم في العبادة. ومن ذلك أن يجدد وضوءا ليحصل له التبرد أو التنظف. قال: "وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق بل هي لتشريك أمور من المصالح، ليس لها إدراك، ولا تصلح للِإدراك، ولا للتعظيم، وذلك لا يقدم في العبادات". وبعد هذا البيان قال: "فظهر الفرق بين قاعدة الرياء في العبادات وبين قاعدة التشريك فيها غرض آخر غير الخلق مع أن الجميع تشريك، نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر وأن العبادة إذا تجردت عنها زاد الأجر وعظم الثواب، أما الإثم والبطلان فلا سبيل إليه ومن جهته حصل الفرق" (¬1). تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة: عدم إدراك بعض العلماء للفرق الذي وضحه القرافي أوقعهم في خطأ بيّن ¬

_ (¬1) الفروق 3/ 22.

سبب إشكالا عظيما، إذ حكموا على العبادات التي قصد بها العابد أمرًا أقره الشارع أو أمرا يتحقق ضمنا بالبطلان. فمن ذلك ما ذكره المؤلف من الصوم للتداوي أو لمن لا يستطيع الزواج، أو الوضوء تبردا أو تنظفا، ومن أمثلته انتظار الإمام المأموم بإطالة الركعة أو الركوع، والتجارة في الحج والغنيمة في الغزو. فقد نصّ ابن حزم -رحمه الله- في المحلَّى (¬1) على أنَّ الذي "خلط بنية الطهارة للصلاة نية التبرد أو غير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء، برهان ذلك قوله تعالي: {وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدوا الله مخْلِصِينَ لَهُ الدينَ} (¬2)، فمن مزج بالنية التي أمر بها نيّة لم يؤمر بها فلم يخلص لله تعالى العبادة بدينه ذلك، وإذا لم يخلص فلم يأت بالوضوء الذي أمره الله تعالى به". وممن ذهب هذا المذهب القرطبي، قال في تفسيره: "من تطهر تبردا، أو صام محمّا لمعدته، ونوى مع ذلك التقرب، لم يجزه، لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية، وليس لله إلاّ العمل الخالص كما قال تعالى: {أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬3)، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا الله مخْلِصينَ لَه الدّينَ} (¬4). واستدلّ في موضع آخر بآية سورة هود: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (¬5) على أن من توضأ لتبرد أو تنظف لا يقع قربة من جهة الصلاة، وهكذا كلّ ما كان في معناه (¬6) ". وحكى عدم إجزاء من قصد التبرد مع نيّة رفع الحديث النوويّ (¬7) والحطاب (¬8)، وضعَّفا القول بذلك. ¬

_ (¬1) المحلَّى 1/ 76، 77. (¬2) سورة البينة / 5. (¬3) سورة الزمر/ 3. (¬4) سورة البينة / 5. (¬5) سورة هود /15. (¬6) تفسير القرطبي 5/ 180، 9/ 14. (¬7) المجموع 1/ 375. (¬8) الحطاب على خليل 1/ 235.

وفي انتظار الإمام المأموم في الركعة والركوع "قال بعضهم: أخاف أن يكون شركا، وهو قول محمد بن الحسن (¬1)، وبالغ بعض أصحاب الشافعي فقال: إنّه مبطل للصلاة" (¬2). وقال النووي في المجموع: "قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وأبو يوسف والمزني وداود: لا ينتظر الإمام حال ركوعه القادم كي يدرك الركعة، واحتج لهؤلاء بعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بالتخفيف، وبأن فيه تشريكا في العبادة .... " (¬3). ونقل المزني هذا القول عن الشافعي، لأن هذا الانتظار يشوب الِإخلاص، ويذكر المزني أنه اطلع على رواية أخرى للشافعي يجيز ذلك، ومع هذا فقد رجح الأول (¬4). وفي التجارة في الحج يقول ابن العربي: "وأما ألا يتجر فيه فهو مذهب الفقراء "يقصد الصوفية" ألا تمتزج الدنيا بالآخرة، وهو أعظم للأجر وأخلص في النية". ومع ذلك فإنَّ ابن العربي لم يذهب هذا المذهب، ولم يقل بقولهم، ونص على مخالفته لهم في موضع آخر، قال: "والقصد إلى التجارة في الحج لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء، أن الحج دون تجارة أفضل" (¬5). ولو انتبه هؤلاء العلماء الأعلام إلى القاعدة التي قررها القرافي، وأن هذا التشريك في العبادة لا يدخل في باب الرياء، لما وقعوا في هذا الإشكال الذي أوقع كثيرا من الناس في حيرة واضطراب. ¬

_ (¬1) هو محمد بن الحسن الشيباني، سمع من أبي حنيفة ومالك والشافعي، والأوزاعي والثوري وأبي يوسف، وكان إماما في الفقه والعربية من كتبه: (المبسوط)، (الزيادات)، و (السير)، ولادته بواسط في العراق (131 هـ)، ووفاته بالري (189 هـ). راجع؛ (وفيات الأعيان 1/ 574). (¬2) نيل الأوطار 3/ 147. (¬3) المجموع 4/ 130. (¬4) مختصر المزني 1/ 113. (¬5) أحكام القرآن 1/ 118، 1/ 136.

ولقد وردت نصوص كثيرة تخالف ما ذهبوا إليه، ففي الحج يقول تعالى: {ليس عَلَيْكمْ جنَاح أَنْ تبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبكمْ} (¬1)، وقد صحَّ عن ابن عباس أن الآية نزلت عندما خاف المسلمون من الاتجار في أسواق الجاهلية في مواسم الحجّ، والحديث في صحيح البخاري، وفي رواية عن ابن عباس في سنن أبي داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم: "إن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون في منى وعرفات وذي المجاز ومواسم الحجّ، فخافوا البيع وهم حرم، فأنزل الله تعالى: {لَيْس عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج" (¬2). وقد عقد العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام فصلا عنون له بقوله: "فصل في بيان أنّ الإعانة على الأديان وطاعة الرحمن ليست شركا في عبادة الديان وطاعة الرحمن" (¬3). وقد جلّى رحمه الله هذه المسألة فقال: "إن قيل: هل يكون انتظار الإمام المسبوق لِيدركه في الركوع شركا في العبادة أم لا؟ قلت: (القائل العز) ظن بعض العلماء ذلك، وليس كما ظنَّ، بل هو جمع بين قربتين لما فيه من الإعانة على إدراك الركوع وهي قربة أخرى والإعانة على الطاعات من أفضل الوسائل عند الله ... وليس لأحد أن يقول هذا شرك في العبادة بين الخالق والمخلوق، فإن الإعانة على الخير والطاعة لو كانت شركا ورياء، لكان تبليغ الرسالة وتعليم العلم والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر رياء وشركا، وهذا لا يقوله أحد، لأن الرياء والشرك أن يقصد بإظهار عمله ما لا قربة به إلى الله من نيل أغراض نفسه الدنية، وهو قد أعان على القرب إلى الله، وأرشد عباده إليه. ولو كان هذا شركا لكان الأذان وتعليم القرآن شركين، وقد جاء في الحديث الصحيح: أنَّ رجلا صلى منفردا فقال عليه السلام: "من يتجر على هذا"؟ وروي: "من يتصدق على ¬

_ (¬1) سورة البقرة / 198. (¬2) تفسير القرطبي 7/ 58. (¬3) قواعد الأحكام 1/ 151.

هذا؟ (¬1). فقام وجل فصلى وراءه ليفيده فضيلة الاقتداء، ولم يجعله عليه السلام رياء ولا شركا لما فيه من إفادة الجماعة القربة إلى الله تعالى" (¬2). وبين رحمه الله استحباب الانتظار: "وإذا أحس الإمام بداخل وهو راكع فالمستحب أن ينتظره لينيله فضيلة إدراك الركوع، ولا يكون ذلك شركا ولا رياء، لأنه عليه السلام جعل مثله صدقة واتجارا، وأمر به في جميع الصلوات، فكيف يكون رياء وشركا، وهذا شأنه في الشريعة! ولا وجه لكراهية ذلك، ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف، هل كان شركا ورياءً أو عملا صالحا لله تعالى؟! " (¬3). ومما يزيد الأمر وضوحا أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقصّر الصلاة إذا سمع بكاء صبي مع عزمه في أولها على التطويل، ففي الحديث المتفق عليه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريدُ أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وَجْد أمه لبكائه" (¬4). ومالك بن الحويرث (¬5) كان يصلي بالنّاس ما يريد بصلاته إلاّ أن يعلم الناس (¬6). وعقد المجد ابن تيمية (¬7) في كتابه المنتقى بابا قال في: "باب إطالة الإمام الركعة الأولى، وانتظار من أحس به داخلا، ليدرك الركعة". ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 30): رواه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي. (¬2) قواعد الأحكام (1/ 151). (¬3) المصدر السابق. (¬4) قال محقق صحيح الجامع (2/ 2274): "رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه". (¬5) هو مالك بن الحويرث بن حشيش بن عوف أبو سليمان الليثي، صحابي نزل البصرة، وتوفي بها سنة (74 هـ)، راجع: تهذيب التهذيب 10/ 15، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 4). (¬6) صحيح البخاري: انظر فتح الباري (2/ 163). (¬7) هو عبد السلام بن عبد الله بن الخضر جد شيخ الإسلام ابن تيمية فقيه حنبلي أصولي محدث، ولد بحران (590 هـ)، له: (المحرر فى الفقه)، و (منتهى الغاية)، توفى سنة 652 هـ. راجع (معجم المؤلفين 5/ 227).

الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر

وذكر فيه حديث أبي سعيد: "لقد كانت الصلاة تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الركعة الأولى مما يطولها" (¬1). وذكر حديث عند الله بن أبي أوفى (¬2): "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم في الركعة الأولى من الصلاة حتى لا يسمع وقع الأقدام" (¬3). أفيجوز لعلامة مفسِّر كالقرطبي -غفر الله له- بعد ذلك أن يقول: "إذا أحسّ برجل داخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره، لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى؟! " (¬4). الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر ونحن مع قولنا بصحة حج من قصد التجارة في الحجِّ والغنيمة في الحرب إلا أننا نوافق من قال بأن أجر هؤلاء أقلّ من أجر غيرهم ممن لم يشتغل بشيء من ذلك. وهذا القول جاءت النصوص الصحيحة الصريحة التي لا تحتمل التأويل به، ففي الحديث: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" (¬5). وفي رواية: "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجرهم، وما من غازية أو سرية تخفق أو تصاب إلا تم أجورهم" (¬6). فهؤلاء بنصّ الحديث خارجون بنية خالصة، فقد صرح بأنهم غازون في سبيل ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه (انظره بشرح النووي (4/ 173). (¬2) هو عبد الله بن أبي أوفى: علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، شهد بيعة الرضوان، وتوفي سنة (86 هـ)، بالكوفة، وهو آخر من توفي بها من الصحابة. راجع (تهذيب التهذيب 5/ 151) (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 41). (¬3) رواه أبو داود (1/ 295). (¬4) تفسير القرطبي (5/ 180). (¬5) صحيح مسلم (انظر مسلم بشرح النووي 13/ 51). (¬6) المصدر السابق.

الله، وأخبر أن الذين نالوا شيئًا من الغنيمة ينقص أجرهم وثوابهم، ولا يبطل مطلقا، ذلك أن ما نالوه من غنيمة يعد ثوابا دنيويا عاجلا، وقد قال أحد الصحابة: "فمنَّا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهديها". ولا تعارض بين ما دل عليه حديث مسلم من نقصان أجر الذين غنموا وحديث البخاري ومسلم: "انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو علي ضامن، أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" (¬1). أقول لا تعارض بينهما، لأن هذا الحديث دل على أحد أمرين لمن رجع من الغزو سالما ولم يقتل: الأجر، أو الغنيمة، وحديث مسلم السابق ذكر حالا ثالثة، وهي: الغنيمة والأجر الناقص. ولا نحتاج إلى تأويل ذلك لأن أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يضرب بعضها ببعض، بل يصدق بعضها بعضا. وقد فهم كثير من العلماء فهمنا هذا، فهذا الحافظ ابن رجب يقول: "إن خالط نيّة الجهاد مثلا نيّة، غير الرياء، مثل أخذ الأجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة، نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكلية" (¬2). وعلى ذلك تحمل النصوص الدالة على بطلان أجر من قصد شيئًا من الغنيمة، على أن هؤلاء لم يقصدوا الله بجهادهم، ولم يطلبوا ثوابه وإنما تمحض قصدهم لطلب الدنيا، وذلك كالحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر العدّة (5/ 505)، وفتح البارى (6/ 8). (¬2) الدين الخالص2/ 283. (¬3) رواه ابن حبان في صحيحه كذا في الترغيب والترهيب (2/ 299)، وانظر مجمع الفوائد وتخريجه (2/ 18).

الرياء بأوصاف العبادة

وقوله: "ولم ينو" فيه دلالة واضحة على أن هذا هو قصده، ومطلبه، وقد فهم هذا الصحابي الجليل عند الله بن عمر حيث يقول: "إذا أجمع أحدكم الغزو، فعوضه الله رزقًا، فلا بأس بذلك؛ وأما من أعطي درهما غزا، وإن لم يعط لم يغز، فلا خير في ذلك" (¬1). ومن ذلك الأرزاق التي يأخذها المجاهدون من بيت مال المسلمين لا تبطل أجر الجهاد، فهي حق اللمقاتلين؛ وقد تكلم ابن تيمية في هذا الموضوع بكلام نفيس فقال: "الجند ليسوا كالأجراء، وإنما هم جند الله، يقاتلون في سبيل الله عباده، ويأخذون هذه الأرزاق من بيت المال، ليستعينوا بها على الجهاد، وما يأخذونه ليس ملكا للسلطان، وإنما هو مال الله يقسمه ولي الأمر بين المستحقين، فمن جعلهم كالأجراء جعل جهادهم لغير الله. وقد جاء في الحديث: "مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون ما يعطون، مثل أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرها" (¬2). وابن تيمية في هذا يفرق: "بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، وبين من تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة، والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها" (¬3). الرياء بأوصاف العبادة تحدثنا عن الذي يؤدي العبادة مريدا بها الناس، أو مريدا بها الله والناس، وخلصنا إلى القول ببطلان هذه العبادة، وأن صاحبها آثم معاقب. فإن كان الرياء لا في أصل العبادة، بل في وصفها كالذي يدخل في الصلاة يريد أن يقصر القراءة فيها والركوع والسجود فيطلع عليه الناس، فيطيل ذلك كلّه ¬

_ (¬1) الدين الخالص2/ 283. (¬2) مجموع الفتاوى 26/ 19. (¬3) مجموع الفتاوى 26/ 20.

خفاء الرياء وتلونه

لرؤية الّناس له، ونظرهم، فهذا أمر اختلف فيه العلماء من السلف الصالح، وقد حكى هذا الخلاف الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري (¬1). وممن قال بذلك السمرقندي، فهو يرى أن ما فعله من أجل ربّ الناس مقبول، وما فعله من أجل الناس مردود، وسئل العز بن عبد السلام عمن صلى وطول صلاته من أجل الناس، فقال: أرجو ألا يحبط عمله (¬2). ونقل ابن نجيم عن بعض الأحناف أنه يرى: أنَّ من افتتح الصلاة خالصا لله تعالى، ثم دخل في قلبه الرياء، فهو على ما افتتح (¬3). وممن قرر هذه المسألة على هذا النحو ابن القيم (¬4). إلا أنه ينبغي أن يكون واضحا أن ثواب هذا العامل على هذا النحو غير تام، بل فيه نقصان بسب ريائه، ولا يبعد أن يكون على خطر عظيم (¬5). خفاء الرياء وتلونه لقد كان المحاسبي -رحمه الله- بعيد النظر عندما قرر (¬6) أن النفس الإنسانية تطلب لذتها دائما، وإن شهوة النفس خفية كامنة كمون النار في العود، فإذا منع ¬

_ (¬1) تيسير العزيز الحميد ص 467. (¬2) شرح الأربعين النووية ص 10. (¬3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 39. (¬4) إعلام الموقعين 2/ 161. (¬5) أما عكس هذه المسألة وهو أن يكون الباعث الأول لغير الله، ثم يعرض له قلب النية لله، فهذا لا يحتسب له بما مضى من العمل، ويحتسب له من حين قلب نيته، ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة كالصلاة، إلا لم تجب كمن أحرم لغير الله، ثم قلب نيته لله الوقوف والطواف، (إعلام الموقعين 2/ 161)، هذا ما قرره ابن القيم، إلاّ أن بعض العلماء يرى أن الصلاة لا تنعقد أصلا، وآخرون يرون في مثل الصلاة أنه يلغى كل شيء صلاه إلا التحريم، وآخرون قالوا: يصح لأن النظر إلى الخواتيم كما لو ابتدأنا بالإخلاص وصحبه الرياء من بعده، قال الغزالي: والقولان الأخيران خارجان عن قياس الفقه (انظر سبل السلام 4/ 187). (¬6) الرعاية ص 121.

المسلم نفسه شهوتها بإلزامها بالعبادة والطاعة حاولت أن تجد لذتها بسبيل آخر وهو التزين بالطاعة لتنال حمد الناس. ولشدة ميل النفس إلى حمد النّاس وثنائهم فإن قصد الرياء يتلون في قلب الإِنسان، حتى يكاد يتوهم أنه مخلص، وهو في الحقيقة يرائي في عمله، وقد عدِّد الغزالي -رحمه الله- درجات الرياء من حيث الخفاء والجلاء، ورتبها ترتيبا تصاعديا (¬1). وأول هذه المراتب وأجلاها أن يحسّن العبد من صلاته وعمله الصالح لما يرى من نظر الناس اليه، حتى ينظروا إليه بعين الوقار، ولا يزدرونه، فتخشع جوارحه لذلك، وتسكن أطرافه، وهذا هو الرياء الظاهر، وهو لا يخفى على المبتدئين. والدرجة الثانية: أن يكون العبد قد علم الرياء الظاهر، فيأتيه الشيطان من زاوية أخرى يخدعه، كأن يدعوه إلى إحسان الصلاة، وإطالتها، لأنه مقتدى به متبوع، ولذا ينبغي أن يحسن صلاته كي ينال أجر الذين ينتفعون ويقتدون به، وهذا في بعض الأحيان خدعة كي تنال النفس لذتها وتصل إلى مطلوبها، وما هذا التعليل إلا إمرار للباطل في صورة الحق كيلا يرفضه الإنسان. الدرجة الثالثة: إذا تنبه المسلم إلى أن هذا الذي ذكر في الدرجة الثانية رياء، فإنَّ الشيطان قد يدعوه إلى الخشوع في السر وإطالة الصلاة، حتى لا تكون عبادته في السر غيرها في العلانية. والدرجة الرابعة: وهي أخفاها، وهي تحدث ممن خبر المراتب الثلاثة السابقة، فعند ذلك لا يستطيع أن يأتيه الشيطان منها، ولذا فإن الشيطان يدعوه إلى الخشوع في الصلاة -مثلا- عندما يكون بين الناس، ويقول له تفكر في عظمة الله، واستح أن ينظر إلى قلبك وهو غافل عنه، وعند ذلك يخشع القلب، وإنما كان هذا من الرياء الخفي، لأن هذا العابد لا يخشع مثل هذا الخشوع لو صلى وحده بعيدا ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين 4/ 382.

مزلق خطر

عن أعين الناس. ومع أننا لا نوافق الغزالي -رحمه الله- في كل ما ذهب إليه هنا إلا أننا لخصنا قوله كي يتبين لنا مدى خفاء الرياء، وأنه قد يخفى على الصالحين الذين يحذرون من الرياء، ويسعون إلى تجنبه. ولما كان الرياء خفيا قد لا يدركه الأخيار رأينا أن نبين سبيل الوقاية منه. مزلق خطر ترك العمل خوف الرياء قد يعالج بعض الناس خطأ فيقعون في خطأ مثله أو أشد منه، وتلك مشكلة عانى منها الناس قديما وحديثا. أمرنا الله بالعبادة مخلصين له الدين، وفي النفس نوازع تدعونا إلى الميل عن صراط الإخلاص، فلما رأى الناس هذا اتجهوا اتجاهات مختلفة، فريق رام مجاهدة الرياء، حتى يقتلع جذوره، فلا يبقى في نفسه ميل إلى الرياء، ولا خاطر يدعو إليه، وهؤلاء طلبوا عظيما وراموا مستحيلا "فالناس لم يؤمروا أن يخرجوا وساوس إبليس أن تعترض في صدورهم، ولم يؤمروا بأن يغيروا خلقهم وطباعهم، حتى تصير لا تنازع إلى معنى من زينة الدنيا من رياء ولا غيره، حتى تكون طبائعهم الحمد فيها مكروه والذم فيها محبوب" (¬1)، لم يؤمر العباد بذلك أبدا، فهذا أمر غير مقدور، والله لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها، والجهود التي تبذل في غير مكانها جهود ضائعة، لا تعود على صاحبها بفائدة. ونحن نلاحظ أن بعض الأمور التي دعانا الله إليها مكروهة للنفوس {كُتِبَ عَليْكُم الْقِتَال وهُوَ كُرْهٌ لكمْ} (¬2)، وبعض الأمور التي نهينا عنها محبوبة للنفوس: ¬

_ (¬1) الرعاية ص 207. (¬2) سورة البقرة/ 216.

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (¬1)، وقد يطلب الإنسان شيئًا من هذه الزينة التي حببت إليه من طريق حرام، وفي الحديث: "حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات". فحب المعاصي من الرياء والشهوات لا إثم فيه، وكراهية فعل بعض المأمورات لا إثم فيه، وقد وضح ابن عبد السلام هذه المسألة فقال: "وليس حب الرياء ولا غيره من جميع المعاصي معصية، فإن أطلق عليه اسم الرياء كان ذلك مجازا من تسمية السبب باسم المسبب، وكل شيء حرمه الله تعالى فلا يأثم مشتهيه بشهوته وإنّما بعزمه عليه وإرادته، ثم بملابسته، وكل ما تكرهه الطباع، وتنفر منه القلوب والأسماع من الخيور والشرور، فلا إثم على كراهيته، ولا النفور منه، وإنما الإثم على فعله، إن كان قبيحا، أو تركه إن كان حسنا، فشهوة الرياء والشكر وقهر الأقران وإضرار الأعداء لا إثم فيها، لخروجها عن قدرة المكلف، ولتعذر الانفكاك والانفصال عنها، ومن استعمل شيئًا من المحبوبات في غير بابه فقد أخطأ وزل" (¬2). الفريق الثاني: عمل عكس ما عمله هؤلاء، فعدما يدعى إلى فعل خير أو يسأل حاجة أو تدعوه النفس إلى عمل خير يعرض في نفسه عارض الرياء، فيخشى من هذا الخاطر أن يكون، فيعرض عن العمل خوف الرياء، وهذا هرب من شرٍّ ووقع فيما هو أشدَّ منه أو مثله، وقد تنبه العلماء الأعلام إلى هذا المزلق الخطر فحذروا منه. يقول القاضي عياض: (¬3) "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس ¬

_ (¬1) سورة آل عمران / 14. (¬2) قواعد الأحكام 1/ 148. (¬3) هو عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، عالم المغرب وإمام أهل الحديث فى وقته، كان عالما بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، ولد في (سبته) عام (476 هـ)، وولي قضاءها، وتوفي بمراكش عام (544 هـ)، من تصانيفه (شرح صحيح مسلم)، و (الشفا بحقوق المصطفى). راجع: (تذكرة الحفاظ 4/ 1304)، (البداية والنهاية 12/ 225)، (طبقات الحفاظ ص 468).

شرك" (¬1)، يقول النووي معلّقا على كلام القاضي: "ومعنى كلامه رحمه الله تعالى: أن من عزم على عبادة، وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مراء، لأنَّه ترك العمل لأجل الناس، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب، إلاّ أن تكون فريضة أو زكاة واجبة ... فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل" (¬2). وترك العمل خوفا من الرياء حبالة من حبالات إبليس كما يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: "لإبليس في ذم الرياء حبالة، وذلك أنَّه ربَّ ممتنع من فعل خير أن يظن به الرياء"، ولذلك ينصح من طرقه مثل هذا ألا يتلفت إليه، وأن يمضي فيه إغاظة للشيطان: "فإذا طرقك منه مثل هذا فامض على فعلك، فهو شديد الألم عليه" (¬3). ولو فعل إنسان هذا لأوشك إذا علم الشيطان بذلك أنْ يعترض له عند كل عمل بالخطرات بالرياء فيدع كل طاعة (¬4). الفريق الثالث: الذين علموا أن الله ألزمهم بطاعته وعبادته، وأوجب عليهم أن يقاوموا أهواءهم، وأن يخلصوا دينهم لربهم، وهؤلاء نحتاج أن نبين لهم كيف يعالجون هذا المرض في نفوسهم، كي يكون سلاحا في أيديهم يقيهم من مداخل الشيطان. ¬

_ (¬1) الرسالة القشيرية ص 9، شرح الأربعين ص 11. (¬2) شرح الأربعين النووية ص 11. (¬3) الأخلاق والسير ص 16. (¬4) قريب من هذه المسألة ما يقع لبعض الناس الذين ليس لهم عادة فى العبادة والتهجد وقراءة القرآن في الليل أو في أطراف النهار، فإذا صحب قوما هذا شأنهم انبعث إلى العبادة، ونشط، وقد يظن بعض الناس أن هذا رياء، وهذا ليس على إطلاقه كما يقول ابن قدامة، بل فيه تفصيل، ذلك أن المؤمن يرغب في عبادة ربه، ولكن تحول دون ذلك عوائق، وتستهويه الغفلة، فربما كانت مشاهدة الغير سبباً لزوال الغفلة، واندفاع العوائق، فإن الإنسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء، وتمتع بزوجته، فإذا بات في مكان غريب اندفعت عنه الشواغل، وحصلت له أسباب تبعث على الخير، منها مشاهدة العابدين ففي مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة، ويقول: إذا عملت غير عادتك كنت مرائيا، فلا ينبغي أن يلتفت إليه؛ وإنما ينبغي أن يتلفت إلى قصده الباطن ولا يلتفت إلى وساوس الشيطان. وبين لنا ابن قدامة سبيلا يختبر هذا وأمثاله فيه نفسه، وذلك بأن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه، فإدا رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله، وإن لم تسخ وكان سخاؤها عندهم رياء، وقس على هذا (مختصر منهاج القاصدين ص 234).

1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته

علاج الرياء 1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته: قال تعالى: {فَفِروا إِلَى اللِّه إِنّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِير مبينٌ} (¬1)، فالسبيل الأقوم هو أن نلجأ إلى الله محتمين به لائذين بجنابه، كي يخلصنا من الرياء، ويرزقنا الإخلاص، ولنا في إبراهيم خليل الرحمن أسوة إذ توجه إلى ربه كي يخلصه من الشرك الأكبر: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أنْ نَعْبدَ اْلأصنَامَ} (¬2). وليس عبثا أن شرع الله لنا أن نردّد دائما قوله: {إِيَّاكَ َنعبدُ، وَإيَّاكَ نستَعِينُ} (¬3)، فهو المعبود وحده دون سواه، فلا نعبد إلا إياه، وهو المستعان وحده في دفع المكروه، وفي الإعانة على الطاعات والمأمورات. ومن ذلك أن نتعوذ بالله ربنا من هذا الداء العضال؛ ففي الحديث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- خاطب أصحابه قائلاً: "أيها النَّاس: اتقوا الشرك؛ فإنّه أخفى من دبيب النمل، قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهمَّ إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه" (¬4). وقد أرشدنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى طريقة نخلص بها ديننا لربنا، ونصل بها إلى أعلى المراتب وهي الإحسان، فقال: "اعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن نراه فإنَّه يراك" (¬5). فالنظر إلى العظماء يوجب مهابتهم وإجلالهم، والأدب معهم إلى أقصى الغايات، فما الظن بالنظر إلى ربّ الأرض والسموات! فإن كان الإنسان لا يستطيع أن يعبد على الصفة الأولى، فليعبد على أن الله يراه وينظر إليه، فالنفوس عندما تستشعر ذلك تستبعد العمل على الغفلة والرياء، وتلتفت إلى الحيّ القيوم. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات/ 50. (¬2) سورة إبراهيم/ 35. (¬3) سورة الفاتحة/ 5. (¬4) رواه أحمد في مسنده والطبراني عن أبي موسى (كنز العمال 3/ 275). (¬5) هذا جزء من حديث مشهور تفرد بإخراجه مسلم دون البخاري (انظر جامع العلوم ص 21).

2 - معرفة الرياء والتحرز منه

2 - معرفة الرياء والتحرز منه: تحدثنا عن شدة خفاء الرياء، وهذا يقتضي أن يكون العابد على علم بالرياء وأسبابه، ثم يتحرز منه دائما، فالإنسان قد يؤتى من جهله، وقد يؤتى من قلة حذره. 3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا: ومما ينفي الرياء ويُكَرِّه به أن يعلم المرائي أن رياءه لن يجلب له نفع النَّاس، وبين يدفع عنه ضررهم، بل قد يجلب سخطهم وكراهيتهم ومقتهم كما يجلب كراهية الله وسخطه ومقته، فيخسر الدنيا والآخرة. ولله در الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حيث يقول: "ومن تزين بما ليس فيه شانه الله" (¬1)، وقد علَّق ابن القيم على هذا القول القيم قائلاً: "لما كان المتزين بما ليس فيه ضدّ المخلص فإنه يظهر للناس أمرا، وهو في الباطن بخلافه، عامله بنقيض قصده، فإنَّ المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا، ولمَّا كان المخلص يعجّل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة في قلوب العباد، عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته إن شانه الله بين الناس، لأنه شان باطنه عند الله، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه" (¬2). وبين أن المرائي قد يشينه عمله عند الناس، لأنَّهم يبحثون عنده عما يظهر أنه فيه، فلا يجدونه، فيعلمون كذبه: "ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدِّين والشك والعلم وغير ذلك، قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تطب منه فإذا لم توجد عنده افتضح فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه" (¬3). ¬

_ (¬1) هذا النص جزء من رسالة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى أبي موسى في القضاء، والحديث رواه الدارقطني والبيهقي وساقه ابن حزم من طريقين وأعلهما بالانقطاع، راجع تلخيص الحبير 2/ 196 "وقد شرح العلامة ابن القيم الحديث في كتابه إعلام الموقعين". (¬2) إعلام الموقعين 2/ 159. (¬3) إعلام الموقعين 2/ 159.

والرياء قد يجعل صاحبه محلّ سخرية الناس وهزئهم، فقد تناقل العلماء في كتبهم حكايات المرائين، وتندروا بها، حكى الأصمعي أنَّ أعرابيا صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك! فقال: وأنا مع ذلك صائم (¬1). فانظر إلى هذا المسكين الذي أراد العباد بعبادته، كيف ترك صلاته عندما سمع حمد الناس، ليظهر لهم أمرا آخر من عبادته لا يعلمونه، وهو الصوم، فكيف أصبح في نظر هؤلاء؟ لقد سمعه أعرابي آخر حاضر المجلس فأنشد قائلا: صلى فأعجبني وصام فرابني ... نح القلوص عن المصلي الصائم وقال الماوردي معقبا على هذه القصة "فانظر إلى هذا الرياء ما أقبحه! وما أدله على سخف عقل صاحبه"! (¬2). وذكر العلماء على سبيل التندر أن طاهر بن الحسين (¬3) قال لأبي عند الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عند الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال له مبكّتًا: يا أبا عند الله سألتك عن مسألة، فأجبت عن مسألتين (¬4) ... ! أين حال هذين من حال الأشعث بن قيس (¬5) عندما خفَّف صلاته مرة، فقال له أهل المسجد: خففت صلاتك جدا؟ فقال: إنه لم يخالطها رياء. فتخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، ورفع التصنع في صلاته (¬6). وأين حال هذين من حال عمر بن الخطاب وقد أحسَّ على المنبر بريح خرجت ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين ص 95، تفسير القرطبي 11/ 71. (¬2) أدب الدنيا والدين ص 95. (¬3) هو طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي من كبار الوزراء والقواد، وهو الذي وطد الملك للمأمون بعد قتله للأمين، مات قتيلا عام (207 هـ). (¬4) أدب الدنيا والدين ص 95، تفسير القرطبي (11/ 71). (¬5) هو الأشعت بن قيس الكندي أمير كنده في الجاهلية والإسلام، كان مقيما في حضرموت، قدم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جمع من قومه، فأسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ميلاده في (23) قبل الهجرة، ووفاته سنة (40 هـ)، راجع: (تهذيب التهذيب 1/ 359)، (الكاشف 1/ 135)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 100). (¬6) أدب الدنيا والدين ص 95، تفسير القرطبي 11/ 71.

4 - النظر في عواقبه الأخروية

منه، فقال: يا أيها الناس، قد ميَّلت (¬1) بين أن أخافكم في الله تعالى، وبين أن أخاف الله فيكم، فكان أن أخاف الله فيكم أحبّ إليّ، ألا وإني قد فسوت، وها أنا نازل أعيد الوضوء، فكان ذلك منه زجرا لنفسه، لتكف عن نزاعها إلى مثله (¬2). والإنسان قد يرائي الناس بطلب دنياهم فتهرب منه الدنيا، ولا يرجع من ريائه بغير خفي حنين، وقد يعرض عن دنياهم، فتأتيه الدنيا، وتقبل عليه، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب" (¬3). 4 - النظر في عواقبه الأخروية: ومما يدفع الرياء أن يتفكر المرائي في إثم الرياء وعاقبته، وقد سبق ذكر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، مع أنهم كانوا فعالين للخير، إلَّا أنهم لم يريدوا به ربَّ العباد، بل أرادوا العباد. وفي يوم القيامة يهتك الله ستر المرائين ويفضحهم جزاء كذبهم، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به" (¬4). قال ابن جر: قال الخطابي: "معناه من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه النَّاس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه" (¬5). قال ابن حجر: "ورد عدَّة أحاديث في التصريح بوقوع ذلك (أي تسميع الله ¬

_ (¬1) ميلت ومايلت بين الشيئين: رجحت ووازنت. (¬2) أدب الدنيا والدين ص 95. (¬3) رواه الترمذي وأحمد عن أنس، ورواه الدارمي عن أبان، عن زيد بن ثابت، (مشكاة المصابيح 2/ 684). (¬4) رواه البخاري ومسلم (مشكاة المصابيح2/ 683). (¬5) فتح الباري 11/ 336.

5 - إخفاء العبادة وإسرارها

بالمسمّع ... ). في يوم القيامة، فهو المعتمد. فعند أحمد: "من قام مقام رياء وسمعة راءى الله به يوم القيامة، وسمع به"، وللطبراني من حديث معاذ مرفوعا: "ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمَّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة" (¬1). فالمسلم الذي يعلم أن هناك يوم حساب وجزاء، ويعلم شدة حاجته إلى صافي الحسنات غدا في يوم القيامة، يغلب على نفسه الحذر من الرياء، كي يقبل عمله في ذلك اليوم، وكيلا ينفضح. 5 - إخفاء العبادة وإسرارها: كان العلماء الأخيار ولا يزالون يحبون إخفاء أعمالهم، حتى لا يخالطها الرياء، ولا يدعون للشيطان مدخلا يشوش عليهم في نياتهم، وقد عد الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسر بالصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله، وذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- صنفا آخر يستحق ذلك التكريم، وهو ذلك الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه. وقد نصّ الله نصا صريحا على أفضلية صدقة السر على صدقة العلانية في قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬2). وقد خص العلماء أفضلية الإخفاء بالنوافل دون الفرائض (¬3)، واستثنى بعض العلماء أولئك الذين يقتدى ويتأسى بهم، ويكون لأفعالهم تأثير في الناس، فهؤلاء يستحب في حقهم الإعلان دون الإسرار بشرط أن يأمنوا على أنفسهم الرياء، ولا يكون ذلك إلا لقوَّة إيمانهم وصدق يقينهم. ¬

_ (¬1) فتح الباري 11/ 337. (¬2) سورة البقرة / 271. (¬3) تفسير القرطبي3/ 332.

ولم أر من فصَّل القول في هذه المسألة وجلاها كالعز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، فقد عقد فصلا في كتابه قواعد الأحكام في (تفاوت فضل الإسرار والإعلان بالطاعات) (¬1)، قال فيه: "إن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب: أن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها: ما يشرع مجهورا كالأذان والِإقامة والتكبير والجهر بالقراءة في الصلاة والخطب الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في إقامة الجمعة والجماعات والأعياد والجهاد وعيادة المرضى وتشييع الأموات، فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإخلاص، فيأتي به مخلصا كما شرع، فيحصل على أجر ذلك الفعل، وعلى أجر المجاهد، لما فيه من المصلحة المتعدية. الثاني: ما يكون إسراره خير من إعلانه كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه. الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء أو عرف ذلك من عبادته كان الإخفاء أفضل من الإبداء، لقوله تعالى: {وَإنْ تخْفوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفقَرَاءَ فَهُوَ َخْير لَكمْ} (¬2). ومن أمن الرياء فله حالان: أحدهما: ألا يكون ممن يقتدى به، فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن الرياء عند الإظهار. والثاني: أن يكون ممن يقتدى به، فالإبداء أولى لما فيه من سدِّ خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام 1/ 152. (¬2) سورة البقرة / 271.

عليهم، وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء" (¬1). وقد نقل عن السلف الصالح في إخفاء الأعمال التي يستحب أن تخفى أمور تدعو إلى الإعجاب، وتضع أصحابها في مستويات كريمة، تجعلهم أسوة يحتذى ويقتدى بهم في هذا: ذكر عن ابن سيرين (¬2) أنه كان يضحك بالنهار، ويبكي بالليل، وكان في ذيل أيوب السختياني (¬3) بعض الطول، وذلك لأنَّ الشهرة في عصره كانت بتقصير الثوب، وكان ابن أدهم (¬4) إذا مرض يرى عنده ما يأكله الأصحاء (¬5). إلاّ أنَّه لا ينبغي أن يبالغ المسلم في إخفاء العمل بحيث يزري على نفسه في ذلك، فبعض النّاس يفعلون أمورا يلامون عليها، لكيلا تظهر أعمالهم، ومما يروي وهب بن منبه (¬6) في هذا عن رجل من الأمم المتقدمة قال: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار، فيعظَّم، فاجتمعوا إليه ذات يوم، فقال: إنّا قد خرجنا من الدنيا، وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان، وقد خفت أن يكون قد ¬

_ (¬1) بقيت قضية لم يتعرض لها العز رحمه الله تعالى، وهي كتمان الذنوب وإخفاؤها: فقد يظن بعض الناس أن ذلك من الرياء، وهذا غير صحيح، فإن الصادق الذي لا يرائي إذا وقعت منه المعصية كان له سترها، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها. وقد ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل". (انظر مختصر منهاج القاصدين ص 233). (¬2) هو محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، من رواة الحديث استقر بالبصرة، واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا، وله فيها كتاب، ولد (33 هـ)، وتوفي (110 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 9/ 214)، (معجم المؤلفين 10/ 57). (¬3) هو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري، سيد فقهاء عصره، تابعي من النساك، ولد سنة (66 هـ)، وتوفي سنة (131 هـ). راجع. (تهذيب التهذيب 1/ 297)، الكاشف 1/ 145، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 110). (¬4) هو إبراهيم بن أدهم التميمي البلخي، كان أبوه من أغنياء بلخ، فزهد في مال أبيه، وكان يأكل من كسب يده، واشتهر بالزهد، واشترك في غزو الروم، توفي (161 هـ). راجع (الأعلام 1/ 24). (¬5) تلبيس إبليس ص 171. (¬6) هو وهب بن منبه الأنباري الصنعاني مؤرخ كثير الأخبار في الكتب القديمة، له (قصص الأنبياء)، و (قصص الأخبار)، ولد عام (34 هـ)، وتوفي في عام (114 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 11/ 166)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 138)، (الكاشف 3/ 245).

دخل علينا في هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له حاجته، وإن اشترى أن يقارب لمكان دينه. فشاع ذلك الكلام، حتى بلغ الملك، فأعجب به، فركب إليه ليسلِّم عليه، ولينظر إليه، فلما رآه الرجل قيل له: هذا الملك قد أتاك، ليسلّم عليك، فقال: وما يصنع؟ قال: للكلام الذي وعظت به، فسأل غلامه هل عندك طعام؟ فقال: شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به، فأمر به، فأتي على مسح، فوضع بين يديه، فأخذ يأكل منه، وكان يصوم النهار، ولا يفطر، فوقف عليه الملك، فسلَّم عليه، فأجابه إجابة ضعيفة، وأقبل على طعامه، يأكله، فقال الملك: أين الرجل؟ فقيل له هو هذا، قال: هذا الذي يأكل؟ قالوا: نعم، قال: فما عند هذا من خير، فأدبر، فقال الرجل: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به" (¬1). وفي رواية أخرى عن وهب: "أنّه لما أقبل الملك قدم الرجل طعامه، فجعل يضع البقول في اللقمة الكبيرة ويغمسها في الزيت، فيأكل أكلا عنيفا، فقال له الملك: كيف أنت يا فلان؟ فقال: كالناس. فردَّ الملك عنان دابته، وقال: ما في هذا من خير. فقال: الحمد لله الذي أذهبه عني، وهو لائم لي" (¬2). وذكر ابن الجوزي قصة قريبة الشبه بهذه، فقد ذكر أنَّ الوليد بن عبد الملك (¬3) أراد أن يولي يزيد بن مرثد (¬4)، فبلغ ذلك يزيد فما كان من يزيد إلاّ أن تظاهر بالجنون، فقد لبس فروة، فجعل الجلد على ظهره، والصوف خارجا، وأخذ بيده ¬

_ (¬1) تلبيس إبليس ص 171، 172. (¬2) تلبيس إبليس ص 171، 172. وهذه القصة من الإسرائيليات التي لا تكذب ولا تصدق، وقوله في القصة أن يقارب مأخوذ من قاربه: أي حادثه بكلام حسن، وقارب في الأمر ترك الغلو به. والمسح: اللباس أو الكساء من الشعر، والعنان: سير اللجام. والمنهج الصواب -إن شاء الله تعالى- أن من ظهر عمله ولم يقصد إظهاره ومدحه للناس بذلك لا ينبغي له أن يستاء، فتلك بشرى عاجلة فليفرح بفضل الله -عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن". أخرجه مسلم. (¬3) هو الوليد بن عبد الملك من ملوك الدولة الأموية في الشام، وسع رقعة الدولة الإسلامية، وأجرى إصلاحات هامة في الدولة، توفي في الشام عام (96 هـ). راجع: (شذرات الذهب 1/ 111)، (الأعلام 1/ 111). (¬4) هو يزيد بن مرثد الهمداني أبو عثمان الدمشقي، روى الحديث عن شداد بن أوس، وعنه خالد بن معدان وعطاء. راجع: (تهذيب التهذيب 1/ 358)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 176).

علامات القائم بالإخلاص

رغيفا وعرقا (¬1)، وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف، فجعل يمشي في الأسواق ويأكل، فقيل للوليد: إن يزيد قد اختلط، وأخبر بما فعل فتركه (¬2). علامات القائم بالإِخلاص يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "وددت أنَّ الخلق تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إليّ منه حرف" (¬3). وقال: "ما ناظرت أحدا قط على الغلبة، ووددت إذا ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه" (¬4). وقال: "ما كلمت أحدا إلا وددت أن يسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ" (¬5). إن هذه الكلمات من هذا الإمام تدل على الإخلاص الذي كان يتحلَّى به، وتلك علامة من علامات المخلصين، أنهم لا يعملون لأنفسهم، بل مرادهم رضا ربهم، ويودون أن يكفيهم غيرهم تعليم الحقّ وإظهاره، وعندما يحاورون لا يكون غاية همهم أن يغلبوا الخصم، بل مرادهم ظهور الحق، ويتمنوا أن يظهر الله الحق على يد الذي يناظرونه. يقول الغزالي: "وإنما تعرف حقيقة ذلك (الإخلاص) بأمر وهو أن الواعظ المقبول إن كان يعظ لله لا لطلب القبول، وقصده دعوة الخلق إلى الله، فعلامته أنه لو جلس على مكانه واعظ أحسن منه سيرة، وأغزر منه علما، وأطيب منه لهجة، وتضاعف قبول الناس له بالنسبة إلى قبوله، فرح به، وشكر الله على إسقاط هذا الفرض عنه بغيره وبمن هو أقوم به منه" (¬6). ¬

_ (¬1) العرق: العظم أخذ عنه معظم اللحم. (¬2) تلبيس إبليس (ص 172)، تهذيب التهذيب (11/ 358)، خلاصة تذهيب الكمال (3/ 176). (¬3) المجموع 1/ 46. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق 1/ 47. (¬6) ميزان العمل ص 242، الأخلاق عند الغزالي ص 149.

ومن علامات المرائي أن ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه، وإن كانت باطلا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقا، وكذلك طالب المال، بخلاف المخلص فالذي يرضيه كلمة الحق له أو عليه، والذي يغضبه كلمة الباطل له أو عليه. والمخلص لا يبالي لو خرج له كل قدر في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله. والمخلص إذا عرض له أمران: أحدهما لله، والآخر للدنيا، آثر نصيبه من الله، لأنَّه يعلم أنَّ الدنيا تنفد، والآخرة تبقى، بخلاف المرائي. وقد ذكر وصف المرائين في بعض الكتب السابقة، يقول نوف البكالي (¬1) وكان ممَّن يقرأ الكتب: إنَّي لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل، قوم يختلون الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب، فعليَّ يجترئون وبي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيرانا (¬2). وينسب إلى عيسى بن مريم أنَّه قال: "يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء، وعملكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفلى، تعجب من رآها، وتقتل من أكلها" (¬3). ¬

_ (¬1) هو نوف بن فضالة البكالي، إمام أهل دمشق في عصره، من رجال الحديث، كان راويا للقصص، توفي في (95 هـ). راجع: (تهذيب التهذيب 10/ 490). (¬2) رواه الترمذي من رواية أبي هريرة مرفوعا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأوله "يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين" (مشكاة المصابيح 2/ 684 - ونسبه ابن كثير وابن قتيبة إلى نوف على أنه من الإسرائيليات، تفسير ابن كثير (1/ 436)، وعيون الأخبار (2/ 270). (¬3) اقتضاء العلم العمل (ص 194).

ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة

ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة (¬1) إذا قصد المتعبد بالعبادة تجريد النفس بالعمل، والاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة وخوارق العادات، ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية وما أشبه ذلك- فإنه ممّا ينافي الإخلاص، ويشوب صفاءه، لأن العابد على هذا النحو جعل العبادة وسيلة، لأمور لم تقرها الشريعة الِإسلامية، علما بأنَّ هذا النوع من المقاصد لا يقوي قصد التعبد والإخلاص بل يضعفه، لأن العابد بمثل هذا القصد إذا لم يحصل له مراده ضعف عن العمل، ورمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي وعد الله بها عباده المخلصين. وقد روي أن بعض الناس سمع بالقول المأثور: "من أخلص لله أربعين صباحا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" (¬2) فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له بابها، فبلغت القصة بعض الفضلاء فقال: هذا أخلص للحكمة، ولم يخلص لله. ومما يدل على عدم جواز مثل هذا النوع من المقاصد أمور: الأول: أنَّ الشارع لم يرد عنه شيء يجيز مثل هذا النوع من المقاصد، بل جاء عنه ما يدلُّ على خلاف ذلك، فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف، لم يطلب بدركه، ولا حضَّ على الرسول إليه. وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا، ثم يصير إلى حالته الأولى؟ فنزلت: {يَسْألُونَكَ عَن اْلأهِلَّةِ قُلْ هِيَ ¬

_ (¬1) راجع في هذه المسألة: الموافقات 2/ 298 - 302. (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية مرفوعا، وسنده ضعيف، وهو عند أحمد في الزهد مرسل (انظر المقاصد الحسنة ص 395).

مَواقيتُ للِنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بأَنْ تَأتُوا البيوتَ مِنْ ظهُورِهَا .. } (¬1) (¬2) الآية، فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال، لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه. الثاني: أنَّ كثيرا من العلماء يعدُّون مثل هذا القصد نوعا من الشرك يفسد الإخلاص، وقد مضى تحقيق هذه المسألة. الثالث: أن هذا النوع من القصد إن أريد به تثبيت القلوب وزيادة طمأنينة النفوس- ففي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة إلاّ كما يأخذ الطائر من البحر إذا نقر منه نقرة. ولو نظر العاقل في أقل الآيات وأذل المخلوقات، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب، لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه، وقد حثنا الله إلى النظر والتفكر في مخلوقاته؛ قال تعالى: {أَو لَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكوتِ السمَوَاتِ وَاْلَأرْض وَمَا خَلَقَ الله منْ شَيءٍ} (¬3)، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (¬4)، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (¬5). ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم، ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر ¬

_ (¬1) سورة البقرة / 189. (¬2) قال العوفي عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأهلة، فنزلت الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لم خلقت الأهلة فأنزل الله الآية، وكذا روي عن عطاء، والضحاك وقتادة والسدي والربيع بن أنس. راجع: تفسير ابن كثير (1/ 398). (¬3) سورة الأعراف 185. (¬4) سورة الغاشية 17 - 20. (¬5) سورة ق 6 - 7.

فيه، ولا مأمور بتطلب الاطلاع عليها وعلى ذواتها وحقائقها، فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا، وإذا لم يكن مطلوبا لم يحسن أن يطلب. الرابع: أنَّ أصل هذا التطلب الخاص فلسفي، فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس، والاطلاع على العوالم التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم ومن غيرهم، ولذلك نجدهم يقررون بطلب هذا المعنى رياضة خاصة، لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان، أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة، ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر، كما أنَّ ذكر التجريد والعوالم الروحانية، وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم، وكفى بذلك حجة في أنَّه غير مطلوب. الخامس: أنَّ طلب الِاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات، كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية، كالأمصار البعيدة، والبلاد القاصية، والمغيبات تحت أطباق الثرى، لأن الجميع من مصنوعات الله تعالى، فكما لا يصحّ أن يقال بجواز التعبد لله بقصد أن يطلع الكويتي على قطر وباكستان وأفغانستان .. وأقصى بلاد الصين، فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات. السادس: لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة وقواطع معترضة، تحول بين الإنسان ومقصوده، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها عباده، لينظر كيف يعملون، فإذا وازن الإنسان بين مصلحة الحصول على هذه الأشياء وبين مفسدة ما يعترض من صاحبها، كانت جهة العوارض أرجح، فيصير طلبها مرجوحا. ونحن اليوم نعلم مدى رحمة الله بنا إذ لم يعط آذاننا القدرة على استماع كل ما يعجُّ به الكون من أصوات، وإلا فلو كانت آذاننا قادرة على استماع ما يستقبله

اعتراضات

المذياع فإن الإنسان لا بدَّ أن ينهار في ساعات قلائل، لأنه لا يستطيع أن يصبر على كلِّ هذا الضجيج والعجيج. ولو أعطيت أبصارنا القدرة على رؤية الجن والملائكة، فهل يطلب لنا عيش؟ لقد رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- جبريل فرجف فؤاده، وهو الشجاع القوي، الثابت القلب، وجاء لزوجه مسرعا، يقول: (دثروني دثروني)، وقد أخبر الله سبحانه أنه كتب ألا يرى البشر الملائكة إلاَّ عند حلول الساعة أو حلول العذاب: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} (¬1). ومن رحمة الله بنا أن حجب عنَّا أمورًا كثيرة لا نطيق لها رؤية ولا سماعًا، ولذلك فإنَّ طلبنالها من الخطأ البين الواضح. اعتراضات يعترض على ما أوردناه باعتراضات منها: 1 - أن هذا من طلب الولاية، وقد جاء في كتاب الله: {وَاجْعَلنا لِلْمتقينَ إمَامًا} (¬2)، فكون العبد يريد أن يكون وليًّا لله تعالى من خواص عباده الصالحين الذين اصطفاهم واختارهم؛ لا حرج فيه. 2 - أن هذا نوع من المعرفة والعلم، والعلم والمعرفة مطلوب، قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬3)، وقد طلب مثال هذا إبراهيم عليه السلام من الله عز وجل: {رَبّ أَرِنِي كيْفَ تُحْيي الْمَوْتَى .. } (¬4). 3 - ورد عن بعض السلف مثل هذا، فقد سئل بعضهم عن دواء الحفظ، فقال: ¬

_ (¬1) سورة الفرقان 22. (¬2) سورة الفرقان 74. (¬3) سورة طه 114. (¬4) سورة البقرة 260.

ترك المعاصي. ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير، كما أن الشرّ لا يأتي إلاّ بالشرّ، ولا ريب أنّه يباح للإِنسان أن يفعل الخير ليتوصل به إلى الخير، والموضوع الذي نبحثه هنا من هذا الباب. فالجواب عن هذه من وجوه: الأول: أنَّ طلب الولاية الصالحة بين الله طريقها، وإنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (¬1). وفي الحديث القدسي: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)، ثم بين طريق نيل الولاية: (وما تقرب إلي عبدي بأحب إليَّ ممَّا افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتّى أحبه) (¬2). الثاني: أن العلم المطلوب هو ما كان وسيلة إلى العمل، وكلّ ما كان كذلك فقد أخبرنا الله به، وعلّمنا إياه، فالعلم الذي نحتاج إليه مسطر في كتاب الله، وفي نصوص أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطلبه يكون من هذين المصدرين، أمّا طلب هذه الأمور التي هي موضوع البحث فليس من العلم الذي نحتاج إليه في أعمالنا. الثالث: أن طلب إبراهيم عليه السلام ليس من باب التوصل بالعبادة إلى نيل هذه الأمور، بل هو من باب الدعاء، وباب الدعاء مفتوح، إلا أنّ طلب مثل هذه الأمور بالدعاء غير مرغوب فيه، ولم يكن من هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الرابع: ليس الموضوع الذي نحن فيه من نوع طلب الخير للخير، فإن قاصد الاطلاع على العوالم الروحية قاصد لطلب حظ شهواني بالطاعة التي شرعت ¬

_ (¬1) سورة يونس 62، 63. (¬2) الحديث تفرد البخاري بإخراجه في صحيحه دون بقية أصحاب الكتاب، والحديث من غرائب الصحيح. (جامع العلوم والحكم ص 337).

للتقرب بها إلى الله تعالى. أمّا الخير الموصل إلى الخير فهو كالصلاة والصبر إذا قصد بهما الاستعانة عليه الطاعة: {وَاستعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (1)، وترك الشر فيه معونة على الطاعة، فإن العبد يحرم الخير بالذنب يصيبه، ومن ذلك حرمانه نور العلم والهداية بما يأتيه من المعاصي، فإذا ترك ذلك كان عونا على تحصيل العلم وفهمه وحفظه. الخامس: نحن لا ننكر أنَّ الله قد يتفضل على بعض عباده بشيء من الكرامة وإطلاعه على بعض ما يخفي على عامة الناس، ويكون ذلك على جهة التكريم، أو لأجل مصلحة ظاهرة من دفع العدو، أو إعانة على خير. والذي نعرفه من هذا أنه يحصل من غير طلب، أو من غير تطلع إليه، كما حدث لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما رأى عدوا يريد ضرب المسلمين من خلفهم، فصاح من على منبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- يا سارية الجبل، فأسمع المسلمين في في بلاد فارس. وقد يحدث في حال الاضطرار الشديد، كأن يكون العبد خائفا أو جائعا، فييسر الله له الطعام والشراب من حيث لا يحتسب، وقد يعطي الله ذلك عبدا لحكمة يعلمها كما حديث مع مريم ابنة عمران. وإنما الذي ننكره أن يعبد المسلم بهذا القصد وبهذه النية.

رابعا: الهروب من العبادة

رابعا: الهروب من العبادة القصد من العبادة هو الخضوع لله وحده بإخلاص التوجه إليه والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، والعادات حق خالص لله دون سواه، والواجبات المفروضة من العبادات ليس للمكلف خيار في إسقاطها عن نفسه. وبعض الناس يتوجه قصده ونيته إلى الهروب من العبادة بنوع من أنواع الخداع والتحايل، بحيث يكون عمله في ظاهر الأمر مشروعا لا مؤاخذة عليه، وهو يقصد في باطنه التهرب من العبادة وإسقاطها تكاسلا عن الفعل، وضنًا بالجهد والمال، وطلبا للراحة، واتباعا للهوى. وقد ضرب العلماء أمثلة كثيرة لهذا النوع، ومن أمثلته أن يدخل وقت الصلاة عليه في الحضر، فيشرب الخمر، أو يشرب دواء يفقده عقله مدة من الزمان، أو يرمي نفسه من شاهق، أو يحدث سفرا، كل ذلك ليسقط الصلاة عنه كليَّا أو جزئيَّا بالصلاة من قعود، أو بالقصر في السفر. ومثلوا له بالذي يظله شهر رمضان فيحدث سفرا ليأكل ولا يصوم أو يريد أن يجامع زوجه في رمضان فيأكل أولا، ثم يجامع كي يسقط الكفارة. ويدخل في هذا الباب من قصد الفرار من وجوب الزكاة بهبة العالم أو إتلافه، أو جمع متفرقه، أو تفريق مجتمعه، أو بيع المال قبل الحول. وكل هذا من المقاصد الخبيثة، والأدلة على ذلك كثيرة منها: 1 - أن العبادات الواجبة حق لله تعالي، لا يجوز للعبد أن يتسبب في إسقاطها بحال من الأحوال، ومن فعل ذلك فإن العبادة تبقى في ذمته. 2 - العبادات شرعت للتقرب بها إلى الله تعالى، ولمصالح تعود على العباد في دنياهم وأخراهم، وهذه المصالح بينها الله في كتابه وبينها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، واستنبطها العلماء من النصوص، فمن رام مصالح غير معتبرة شرعا فإن قصده مخالف لمقصود الشارع من وضع العبادة. فالزكاة -مثلا- وضعت كي يتقرب العباد بها إلى ربهم، فيحصلون على رضوانه

في الدنيا والآخرة، وشرعت لتزكية النفس، ورفع رذيلة الشح، وفي إخراجها مصلحة للفقير يسد حاجته، وإحياء للنفوس المعرضة للتلف، فمن وهب ماله في آخر الحول هروبا من وجوب الزكاة عليه، ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه، فهذا العمل تقوية لوصف الشحِّ وإمداد له، ورفع لمصلحة إرفاق المساكين، فمعلوم أن صورة الهبة ليست هي الهبة التي ندب إليها الشرع، لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له، وتوسيع عليه غنيا كان أو فقيرا، وجلب لمودته ومؤالفته، وهذه الهبة على الضد من ذلك، ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة، ورفعا لرذيلة الشحّ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة، فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا، والقصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي. 3 - هذا الذي هو موضوع البحث نوع من أنواع التحايل المحرم (¬1)، وقد ذمّ الله ¬

_ (¬1) الحيلة فعله من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهي من ذوات الواو، وأصلها: (حولة)، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء كميزان وميقات وميعاد، قال ابن سيده: الحول، والحيل، والتحيل: كل ذلك الحذق وجودة النظر والقدرة على وجه التصرف، قال: والحول، والحيل، والحيلات، جمع حيلة، ورجل حول، وحولة، وحول، وحوالي، وحولول، وحولي: شديد الاحتيال (لسان العرب 1/ 759). فالحيلة: التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمرا يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به: حيلة يتوصل بها إليه. والحيلة لا تذم مطلقا، ولا تمدح مطلقا، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له، إلا بنوع من الذكاء والفطنة. والحيل ثلاثة أنواع: الأول: وهو الذي ينطبق على موضوع البحث -محرم: وهو الذي يتوصل به إلى إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، وهذا النوع قد اتفق السلف على ذمه وذم أهله. الثاني: ما يكون قربة وطاعة، وهو الذي يتوصل به إلى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من الظالم، وهذا النوع محمود مثاب فاعله. الثالث: مباح جائز لا حرج على فاعله، ولا على تاركه، ويرجح فعله على تركه، أو العكس تبعا للمصلحة. وقد عرَّف الشاطبي النوع الأول، فقال: "التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر، أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له ... ، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالا في الظاهر، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحايلا (الموافقات 2/ 280).

أهله، وجاءت النصوص بلعن أمثالهم، وتوعدت من فعل مثل هذا بالعقوبة الدنيوية والأخروية. فمن ذلك لعن الله اليهود الذين اعتدوا في السبت بالصيد فيه بنوع من أنواع التحايل، وقد ذكرهم الله في أكثر من سورة، ففي سورة النساء قال: {أو نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاَ} (¬1). وفي سورة البقرة قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتمُ الِّذِينَ أعْتَدَوْا منْكُمْ فِي السبت فَقلْنا لَهُمْ كونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (¬2)، وفي سورة الأعراف أطال في شرح قصتهم فقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬3). ذكر ابن كثير عن ابن عباس وغيره من أئمة التفسير "أنَّ أصحاب تلك المدينة احتالوا على الصيد في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجرى معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها، فعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة في يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها فغضب الله عليهم، ولعنهم، لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظافرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة ... " (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النساء /47. (¬2) سورة البقرة/ 65. (¬3) سورة الأعراف/ 163 - 166. (¬4) البداية والنهاية 2/ 133.

وفعل اليهود أمرًا قريبًا من هذا أيضًا، فقد حرّم الله عليهم الشحوم، فتأوّلوا ذلك تأولات فاسدة، فزعموا أن المحرّم أكله وأن المحرم منه الجامد دون المذاب، فأذابوه وباعوه، وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، روى ابن عباس قال: "بلغ عمر -رضي الله عنه- أن فلانا باع خمرا، فقال: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها (¬1) فباعوها (¬2)؟! ". وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته من سلوك الطريق الذي سلكته يهود فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (¬3). وحدثنا الله في سورة {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (¬4) بالعذاب الذي أحلَّه بأهل الجنة، الذين أرادوا أن يحتالوا في منع المساكين من أخذ شيء من الثمر، وقد كان أبوهم الصالح يجذّ الثمر ويصرمه في النهار، فيأتي المساكين، فينالون شيئًا من الثمار، فاحتالوا على منع المساكين بأن اتفقوا على أن يجذوها في الصباح الباكر، فأرسل الله على جنتهم طائفا، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم. وقد احتجَّ البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه بأحاديث كثيرة على إبطال الحيل منها: حديث عمر بن الخطاب أنّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا أيّها الناس، إنّما الأعمال بالنية، وإنّما لامرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، ¬

_ (¬1) جملوها: أذابوها. (¬2) متفق عليه (مشكاة المصابيح 2/ 75). (¬3) رواه الحافظ ابن بطة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. قال ابن تيمية (إبطال التحايل ص 24). سائر رجال الإسناد أشهر من أن يحتاج إلى وصفهم. وقال ابن كثير. (التفسير 3/ 238)، بعد أن ساق إسناد الحديث محمد بن أحمد بن سلام ذكره الخطيب في تاريخه، ووثقة العجلي، وباقي رجاله ثقات مشهورون. ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد. وقال ابن القيم: وهذا إسناد يصحح بمثله الترمذي. إغاثة اللهفان (1/ 348). (¬4) سورة القلم/ 1.

فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬1). وهذا الحديث قال فيه القرافي: "فيه حجة لمالك ومن وافقه في إسقاط الحيل، كمن باع ماله قبل الحول فرارا من وجوب الزكاة، وإنما يخادع بالنيات من لا يطلع عليها، وقد نقل النسفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المسلمين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق" (¬2). ومن الأحاديث التي أوردها البخاري محتجا بها على إبطال الحيل: حديث أنس أن أبا بكر كتب له فريضة الزكاة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في ملحق الكتاب. (¬2) منتهي الآمال. (¬3) فتح الباري 12/ 330.

الأمر الضابط لمقاصد المكلفين

الأمر الضابط لمقاصد المكلفين وقبل أن ننهي الكلام في هذا الموضوع أحب أن يكون عندنا ضابط نستطيع به أن نتعرف على المصالح التي يجوز للمكلف قصدها من وراء الأمور التي يتعبد بها، والمصالح التي لا يجوز له قصدها. الضابط الذي ارتضاه الشاطبي هو أن ينظر العبد في مقاصد الشارع ويجعل المكلف قصده محكوما بمقاصد الشارع، فالمقاصد الموافقة لقصد الشارع مقاصد صحيحة، والمقاصد المخالفة لمقاصد الشارع من التكالف غير صحيحة. يقول الشاطبي في هذا: "الشريعة موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وألا يقصد خلاف ما قصده الشارع" (¬1)، وعلَّل مذهبه بقوله: "لأنَّ المكلّف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة، هذا محصول العبادة، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة" (¬2). واستدلَّ على ما ذهب إليها "بأنَّ الشارع قصد المحافظة على الضروريات، وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينات، وهو عين ما كلف به العبد فلا بدَّ أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات". وانتهى إلى القول بأن الإنسان خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته ومقدار وسعه. والمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه يجري في أحكامه ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 243. (¬2) المصدر السابق.

ومقاصده مجاريها (¬1). ونرى أن هذا الضابط مع جودته يحسن أن يعدل بحيث يصبح على النحو التالي: يقصد المكلف من عمله بالتكاليف الشرعية المقاصد التي وجه الله عباده إليها وارتضاها لهم، فالله سبحانه وتعالى يشرع لعباده الأعمال التي تضمنها دينه، وبين لهم المقاصد التي ينبغي أن يتوجهوا إليها ولعلنا لسنا بمغالين إذا قلنا: إنَّ عناية الإِسلام بإيضاح المقاصد أعظم من عنايته بإيضاح الأعمال. والضابط الذي ارتضيناه سهل ميسور، يستطيع الناس إدراكه بيسر وسهولة، بينما الضابط الذي قرره الشاطبي لا يستطيع تبينه إلاّ الراسخون في العلم، والشريعة -كما يقرر الشاطبي نفسه- شريعة عامة جاءت للناس كلِّهم، وهي تراعي القدر المشترك بينهم. ونستطيع أن نقول: إن تعديل هذا الضابط يخلصنا من إشكالات ترد على الضابط الذي وضعه الشاطبي، فالشارع قد يقصد من التكاليف أمورا، ولا يريد من المكلف قصدها، فالشارع قصد من تكليف العباد اختبارهم وابتلاءهم، ولم يكلفنا بأن نقصد ذلك، وقد بحث الشاطبي في أنَّ أمر الشارع بالأسباب لا يعني أمرهم بالمسببات، مع تقريره بأن المسببات مقصودة للشارع من تشريعه الأسباب (¬2). ولو نهج هذا النهج ما احتاج إلى تلك الصفحات الطويلة التي أوضح فيها المسألة وبينها. ولو جارينا الشاطبي فيما ذهب إليه في مباحثه فإننا نرى الأوفق بنا في مبحثنا هذا أن نعدل عن مجاراته، لأن الأوفق بمن ينظر إلى المقاصد من الجانب التعبدي المقرب إلى الله، سواء في العبادات أو في الأمور العادية التي ¬

_ (¬1) الموافقات2/ 243. (¬2) الموافقات 1/ 126 - 127.

يقصد التقرب بها - أن يقصد تلك الغاية المنصوبة للعامل بدون نظر إلى المصالح التي تضمنتها العبادة، وهذا أمر ارتضاه الشاطبي وأطال التدليل عليه، فالنظر دائما إلى العمل ابتغاء مرضاة الله وطلبا لثوابه، أقرب إلى الإخلاص من ذلك الذي ينظر إلى المصالح التي تتضمنها التكاليف والعمل على وفقها.

الفصل الرابع تأثير القصد في الأفعال

الفصل الرابع تأثيرُ القَصْد في الأفعال

تأثير النية في المباحات

تأثير القصد في الأفعال سنحاول أن نبين في هذا الفصل مدى تأثير القصد في المباحات والمحرمات والعبادات. تأثير النيّة في المباحات الأمور المباحة (¬1) ليست بقربات في نفسها، فالوقوف والجلوس والسير والأكل والشرب والنوم ... ونحو ذلك، من المباح، وهي ليست من العبادات التي شرعها الله للتقرب بها. وقد اختلف العلماء في الأمور المباحة، هل يمكن أن تتحول بالنية الصالحة إلى قربة وطاعة يثاب فاعلها؟ ذهب فريق من العلماء إلى أن: "المباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه" (¬2). ويقول الخطاب في هذا: "الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى فلا معنى للنية فيه" (¬3). واحتج علماء المالكية بقوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (¬4)، على أن الفعل بنية العبادة لا يكون إلاّ في المندوبات خاصة دون ¬

_ (¬1) المباح ما أذن الله في فعله وتركه، غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه (روضة الناظر / لابن قدامة ص 221). (¬2) الذخيرة 1/ 239. (¬3) الحطاب على خليل 1/ 232. (¬4) سورة البقرة /189.

المباح، ودون المنهي .. عنه (¬1). وردد القرطبي في تفسيره ما ذكره ابن العربي عند تفسير القرطبي للآية السابقة، فقال: "ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب" (¬2)، وقد شعر القرطبي أن بعض الأفعال قد تشكل على بعض الناس هل يجوز التقرب بها أم لا، ولذلك نقل لنا ضابطا عن ابن حويز منداد (¬3)، لتوضيح هذه المسألة. قال: "إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة فينظر إلى ذلك العمل: فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون قربة، وكان لم يكن فليس ببر ولا قربة، قال: جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم". وذكر حديث ابن عباس قال: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم، ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه، فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه" (¬4)، فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان غير قربة مما لا أصل له في الشريعة الِإسلامية، وصحّح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والفتن" (¬5). ومما يؤيد هذا أنَّ الشافعي -رحمه الله تعالى- ذهب إلى عدم وجوب الوفاء بنذر مباح، وهو ما علق بشرط رغبة، كقوله إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعليّ صدقة". ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 10. (¬2) تفسير القرطبي 2/ 346. (¬3) هو محمد بن أحمد بن خويز العراقي المالكي فقيه أصولي، من آثاره كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه توفي سنة (390 هـ). راجع: (معجم المؤلفين). (¬4) قال الحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير 4/ 177): ورواه البخاري بهذا اللفظ، وليس فيه في الشمس، ورواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان، ورواه مالك في الموطأ عن حميد بن قيس مرسلا. (¬5) تفسير القرطبي 2/ 346.

التوفيق بين الرأيين

وعلَّل أصحاب الشافعي عدم اللزوم: بأن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة، وهذا وإن كان جنس القربة لكنه لم يقصد به قربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو إقدام على فعل (¬1). وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن النية الخيرة تحول المباح إلى قربة يؤجر صاحبها. يقول ابن الحاج (¬2) في المدخل: "المباح ينتقل بالنية إلى الندب، وإن استطعنا أن ننوي بالفعل نية أداء الواجب كان أفضل من نية الندب، للحديث: "وما تقرب إليَّ عبدي بأحبَّ إلي مما افترضته عليه" (¬3)، (¬4). وذكر ابن القيم أنَّ خواص المقربين هم الذين "انقلبت المباحات في حقهم إلى طاعات وقربات بالنية، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة" (¬5). التوفيق بين الرأيين: قد يبدو أنَّ هناك تناقضا بين ما ذهب إليه هذان الفريقان إلاّ أنَّ الناظر المتعمق في البحث يرى أن الذي نفاه الفريق الأول ليس هو الذي أثبتة الفريق الثاني. الفريق الأول ينكر أن تكون المباحات عبادات وقربات في صورتها، وهذا حق لا يجوز أن يخالف فيه أحد، ومن ظَنَّ أنّه يعبد الله بالمشي والوقوف واللباس الأسود أو الأخضر، أو ببناء الدور والعمارات للسكنى فهو مخطىء، لأن هذه ليست عبادات في ذاتها. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1788، وقال إن مالكا وأبا حنيفة قالا يلزمه الوفاء. (¬2) هو محمد بن محمد بن محمد بن الحاج المالكي القاضي نزيل مصر، توفي بالقاهرة (737 هـ)، له كتاب (المدخل)، و (الأزهار الطيبة النشر). راجع: (الأعلام 7/ 246). (¬3) الحديث رواه البخاري (فتح الباري 11/ 340). (¬4) الحديث 1/ 21 - 22. (¬5) مدارج السالكين 1/ 107.

ويجب أن نحمل مثل قول الحارث المحاسبي: "النية فيما ليس فيه ثواب لا تحضر، ولا نية في ذلك، ومن أراد الله عز وجل في ذلك فمغرور غالط، كالرجل بنى البنيان الفاخر يريد بذلك -زعم- الله، ويأكل الأطعمة الطيبة ويتكلفها لغير ضعف وجده به ولا قوة على طاعة الله لا يقوى على تلك الطاعة إلاّ بها، فلا يجوز النية في ذلك" (¬1)، يجب أن نحمله على ذلك. والذين أرادوا أن يعبدوا الله بأمثال هذه الأمور تعبوا وأتعبوا، لأنَّ استحضار النية في هذا متعسر، وقد ذكر كثير من المؤلفين (في السلوك) أنَّه: "ينبغي للمريد أن تكون له في كل شيء نية لله تعالى، حتى في أكله وشربه وملبوسه، فلا يلبس إلا لله، ولا يأكل إلَّا لله، ولا يشرب إلاّ لله، ولا ينام إلاّ لله .... " (¬2). وذكروا عن بعض العباد أنَّه كان ينوي عند كل لقمة، ويقول بلسانه: آكل هذه اللقمة لله تعالى (¬3). ويذكرون عن آخر أنَّه نادى امرأته فقال: هاتي المدري ليفرق شعره، فقالت له امرأته: أجيء بالمدري والمرآة؟ فسكت، ثم قال: نعم. فقال له من سمعه: سكت، وتوقفت عن المرآة، ثم قلت: نعم؟ فيقال: إنَّي قلت لها: هاتي المدري بنية، فلما قالت: المرآة، لم تكن لي في المرآة نية، فتوقفت، حتى هيّأ الله لي نِية، فقلت نعم (¬4). وانظر إلى الحالة التي وصل إليها الذين اتجهوا هذا الاتجاه الخاطىء، فقد ذكروا عن أحد الصالحين أنه لبس القميص مقلوبا، ولم يعلم بذلك، حتى ارتفع النهار، ونبهه على ذلك بعض الناس، فهمّ أن يخلع ويغير، ثم أمسك، وقال: لبسته بنية لله، فلا أغيره فألبسه بنية الناس (¬5). ¬

_ (¬1) الرعاية. (¬2) عوارف المعارف ص 533. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق.

إن العلماء الأعلام من أصحاب الفريق الأول كان مرادهم أن المباحات لا يقصد التقرب بذواتها كما يتقرب بالصلاة وقراءة القرآن والزكاة. أما القائلون بأنَّ المباح يتقرب به فمرادهم مخالف لمراد الأولين. وهم يفهمون ذلك بصورة أو أكثر من الصور التالية: 1 - المباح وسيلة للعبادات: يرى بعضهم أن يقصد المسلم جعل المباح وسيلة للعبادات المشروعة، يقول ابن تيمية: "ينبغي ألّا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة" (¬1). ويقول ابن الشاط: "إذا قصد بالمباحات التقوي على الطاعات، أو التوصل إليها كانت عبادة؛ كالأكل والنوم واكتساب المال ... " (¬2). فالمسلم إذا قصد بنومه وأكله وشربه أن يتقوى بها على طاعة الله، كي يتمكن من قيام الليل والجهاد في سبيل الله، فهذا مثاب على هذه الأعمال بهذه النية (¬3). وقد صحَّ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لسعد بن أبي وقاص: "إنَّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك" (¬4). قال النووي رحمه الله معلقًا على الحديث: "وضع اللقمة في في الزوجة يقع غالبًا في حال المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله" (¬5). وقال صاحب دليل الفالحين: "وفيه أن الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد وجه الله -تعالى- به، وفيه أنَّ المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة، ويثاب عليه، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 10/ 460 - 461. (¬2) غمز عيون البصائر 1/ 34. (¬3) يرى العز بن عبد السلام أن المسلم يثاب في هذه الحالة على القصد دون الفعل (قواعد الأحكام 1/ 178). (¬4) صحيح البخاري (انظر فتح الباري 1/ 136، 3/ 164، 5/ 363). (¬5) فتح الباري (1/ 37).

إذ وضع اللقمة في فم امرأته إنّما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجه الله. ويؤخذ من ذلك: أنَّ الإِنسان إذا فعل مباحا من أكل أو شرب وقصد به وجه الله كالاستعانة بذلك على الطاعة وبالنوم على قيام الليل يثاب عليه" (¬1). وأوضح من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة" (¬2). ويقول السيوطي: "ومن أحسن ما استدلوا به على أنَّ العبد ينال أجرا بالنية الصالحة في المباحات والعادات قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكل امرىء ما نوى" فهذه يثاب فاعلها إذا قصد بها التقرب إلى الله، فإن لم يقصد ذلك فلا ثواب له ... " (¬3). 2 - الأخذ بالمباح على أنه تشريع إلهي: المسلم الملتزم بالدّين الإسلامي يجري تحت قانون متكامل من التكاليف الشرعية في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها، بل يلجم نفسه دائما بلجام الشرع، ويسوسها به، فإذا نظر إلى المباح هذه النظرة بأن يأتيه معتقدا أنَّ الله أباحه، فالذي يأتي زوجته -مثلا- يقصد أن يعدل عما حرمه الله تعالى إلى ما أباحه، والله يحب أن يؤتى ما أباح لعباده وما رخص لهم به، ويبغض التشدد والترهبن بتحريم الطيبات، ومما يشهد لهذا قوله -صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) دليل الفالحين 1/ 74. (¬2) رواه أحمد والطبراني عن المقدام بن معد يكرب (صحيح الجامع 5/ 5411). (¬3) شرح السيوطي على النسائي 1/ 19.

استحضار النية عند المباح

"وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أليس كان يكون عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال له أجر" (¬1). 3 - المباح بالجزء مطلوب بالكل على جهة الندب أو الوجوب (¬2): قد يكون الأمر مباحا بالجزء ولكنه مطلوب بالكلّ، فالعبد إذا جاز له أن يترك الطعام والشراب، ويجهد نفسه في بعض الأحيان، إلا أنّه لا يجوز له أن يتمادى في ذلك حتى يهلك نفسه بسبب ذلك، ولذلك أوجب جماهير العلماء على المضطر أن يأكل من الميتة، وعدّوه مستوجبا للوعيد إذا هو امتنع عن الأكل حتى هلك. وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، ومأمور بنفس عقد الزواج إذا احتاج إليه وقدر عليه. ولو قدر أن امتنع الناس عن الزواج والمتاجرة والصناعة فإنَّهم يعدون آثمين، فإذا تصرف المكلف بالمباح في ضوء هذا الفهم فإنّه يكون مثابا مأجورا إن شاء الله تعالى. استحضار النية عند المباح: الأفعال والأقوال المباحة كثيرة جدّا، وإذا لم يقصد بها العبد النية الخيّرة، فإنها لن تعود علينا بالنفع الأخروي، فإذا أحسن المكلف القصد والتوجه حين القيام بها فإنَّ هذه الأعمال من المطعم والمشرب والنوم والمتاجرة والصناعة تصبح ثروات عظيمة تنفعنا عندما نقدم على ربنا في يوم القيامة. لذلك حث العلماء ورغبوا في "استحضار النية عند المباحات والعاديات، ¬

_ (¬1) رواه أحمد ومسلم عن أبي ذر (صحيح الجامع 2/حديث 2585). (¬2) راجع الموافقات 1/ 78، مجموع الفتاوى 10/ 461.

ليثاب عليها ثواب العبادات مع أنَّه لا مشقة عليا في القيام بها، بل هي مألوفة لنفسه مستلذة، وهذا من عظيم سعة رحمة الله، وكبير منته، أن أباح لعباده الطيبات التي يشتهيها، ثم مع ذلك يثيبه عليها بحسن نيته (¬1). وقد وضَّح لنا أهل العلم كيف تكون نياتنا في المباح، فقد ذكر الغزالي ما يمكن أن ينوي بالطِّيب، فمن الممكن أن ينوي به اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم الجمعة، وينوي بذلك أيضا تعظيم المسجد عند مجاورته بروائحه، وأن يقصد به رفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه، وأن يقصد حسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة، فيعصون الله بسببه (¬2). ¬

_ (¬1) نهاية الأحكام (ص 12). (¬2) إحياء علوم الدين (4/ 372)، ومن الذين أطالوا في هذه الأمور ابن الحاج في المدخل، ولكنه أغرق في ذلك وغالى، وأخرجه ذلك إلى نوع من التكلف الشديد، استمع إليه وهو يقول: "فتحصل لنا من النيات في الخروج إلى المسجد اثنان وتسعون مع ما يضاف إلى ذلك من نيّة شروط وجوب الصلاة وفرائضها وسننها وذلك سبع وستون" (1/ 54)، ولو ذهبنا نتتبع تلك النيات التي ذكرها لأدركنا مدى التكلف والتمحل، حتى أنه رغب الخارج إلى المسجد أن يكون معه سكينا كي ينوي أنه إذا وجد شاة مصابة قاربت الموت أن يذبحها ...

تأثير النية في الأفعال المحرمة

تأثير النيّة في الأفعال المحرّمة الذين يقصدون التقرب بالحرام ثلاث فرق: الفرقة الأولى: عدَّت بعض الذنوب والمعاصي قربات، كالذين يستحبّون النظر في وجوه الحسان والمردان، ويزعمون أنَّ مثل هذا النظر مأمور به شرعا، وأنّه قربة يتقربون بها إلى الله تعالى (¬1). وقد جاؤوا بنوعين من الشبه: الأولى: نقول صحيحة لا حجة لهم فيها كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (¬2)، قالوا: هذا يعمّ جميع ما خلق الله، فما الذي أخرج من عمومه الوجه المليح؟ وهو من أحسن ما خلق الله، وموضع الاستدلال به والاعتبار أقوى. وهؤلاء حمَّلوا هذه الآية معنى غير مراد لله تعالى، فالنظر الذي أمرنا به هو النظر المؤدّي إلى معرفته، والإيمان به، ومحبته، والاستدلال على صدق رسله فيما أخبروا عنه من أسمائه وصفاته وأفعاله وعقابه وثوابه، أما النظر إلى الحسان من النساء والولدان الذي يعلق الناظر بصورة المنظور فهذا منهي عنه، والآية التي احتجّوا بها مخصوصة بمثل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمؤْمنينَ يغضوا مِنْ أبْصَارِهِم} (¬3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "فزنى العينين النظر" (¬4). ¬

_ (¬1) روضة المحبين ص 112، تلبيس إبليس ص 297. (¬2) سورة الأعراف/ 185. (¬3) سورة النور/ 30. (¬4) الحديث جزء من حديث أخرجه البخاري، ولفظه: "كتبت على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين الخطا، والنفس تمني وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"، رواه البخاري تعليقا، ومسلم مستندا بنحو ما ذكر (راجع تفسير ابن كثير 5/ 87).

ومِمَّا احتجّوا به أمره -صلى الله عليه وسلم- للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، وهذا الاستدلال أوهى من استدلالهم بالآيات السابقة فهذا المأمور به هنا لم يقصد به التفكر والاعتبار، وإنَّما يقصد التعرف على من يريد الزواج منها، كي يعلم مدى رضاه عنها ورغبته فيها، وهذا شيء آخر غير الذي زعموه، لأن هذا ليس من المحرمات. والشبهة الثانية: نقول كاذبة نسبوها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلى أئمة الهدى وهم منها براء. كالحديث الموضوع الذي احتجّوا به في هذا "النظر إلى الوجه المليح عبادة" (¬1) والحديث الآخر "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه" (¬2). ونقلوا عن أئمة الهدى أمثال الشافعي ومالك وسفيان بن عيينة وغيرهم نقولا زعموا فيها أنهم أقروا مثل هذا، وهي نقول مكذوبة ملفقة لا تصح عنهم (¬3). وقد بلغ الأمر ببعض هؤلاء أن يغلفوا الأفعال المحرمة بغلاف الصلاح والعبادة، فيزعمون أنَّ حبهم للأمرد والمرأة الأجنبية لله تعالى، لا للفاحشة، ويزعمون أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر فيسعى هؤلاء المفتونون في أن يجلب أحدهم المعشوق لعاشقه، ويعدّ ذلك في حسناته، لأنَّه فرّج كرب العشق عن المعشوق و"من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" (¬4) (¬5)!! ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في هذا الحديث (روضة المحبين ص 123): سئل شيخنا عن هذا الحديث فأجاب: "هذا كذب باطل، ومن روى ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو ما يشبهه فقد كذب عليه -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذا لم يروه أحد من أهل الحديث لا بإسناد صحيح ولا ضعيف"، بل هو من الموضوعات، وهو مخالف لإجماع المسلمين، فإنه لم يقل أحد أن النظر إلى المرأة الأجنبية والصبي الأمرد عبادة، ومن زعم ذلك فإنّه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. (¬2) أطال الحافظ السخاوي في ذكر مخرجي الحديث وذكر ألفاظه وطرقه، وقال: وطرقه كلها ضعيفة، وبعضها أشد في ذلك من بعض (المقاصد الحسنة ص 80). (¬3) ذكر ابن القيم هذه النقول وبين ضعف إسنادهم وعدم صحة نسبتها إلى الأئمة في كتابه روضة المحبين ص 112 - 136. (¬4) رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وأخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر بلفظ (ومن فرَّج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) (جامع العلوم والحكم ص 318). (¬5) وهؤلاء الذين يدعون هذه الدعاوى قسمان: قسم من أصحاب الجهل، أوقعم جهلهم في مثل هذا الضلال. وقسم آخر عالم بالتحريم ولكنه منافق مخادع يريد الفاحشة، ولكنه يسترها بستار الدين والصلاح.

الفرقة الثانية

ومما يظنه بعض الناس قربة الغناء الذي يسمونه السماع، يقول ابن الجوزي: "وقد ادعى قوم أن هذا السماع قربة إلى الله عز وجل". ونقل عن بعضهم أنَّه يزعم "أن رحمة الله تتنزل عند السماع، ونقل عن ابن عقيل قوله: قد سمعنا من بعض العباد أن الدعاء عند حدوّ الحادي وعند حضور المخدّة (¬1) مجاب، وذلك أنَّهم يعتمدون أنه قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، قال: وهذا كفر، لأنّ من اعتقد الحرام أو المكروه قربة كان بهذا الاعتقاد كافرا، قال: والنّاس بن تحريمه وكراهيته" (¬2). الفرقة الثانية: لم تعد الحرام في ذاته قربة، بل جعلت الحرام وسيلة إلى الأمور التي يتقرب بها، وظنوا أن هذا يشفع لهم في ارتكاب المحذورات، فمن هؤلاء من يطلب المال بالطرق الحرام كالربا والظلم والخيانة والرشوة والتجارة فيما لا يحل كالمتاجرة بالخنزير والخمر وصناعة الأشياء التي تكره، كعمل الآنية من الذهب والفضة لمن يأكل فيها أو يشرب فيها، ويزعم هؤلاء أنهم "يريدون بأعمالهم هذه التطوع ويحتجون على ذلك بأنهم يعيلون عيالا صغارا، وقرابة مساكين، وبأنَّهم يوجهون ذلك في سبيل الله عز وجل" (¬3). يقول الغزالي -رحمه الله- في هذا الموضوع: "المعاصي لا تتغير عن موضعها بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات"، فيظنُّ أنَّ المعصية تنقلب طاعة. ومثل لهذا بالذي "يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره، أو يطعم فقيرا مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجدا، أو رباطا بمال حرام، وقصده الخير" (¬4). ¬

_ (¬1) المخدة آلة الطرب لأنها توضع على الخدّ. (¬2) تلبيس إبليس ص 277 - 278، وكلام ابن عقيل بالتكفير يتوجه على من علم الحرمة ثم اعتقد كونها قربة، أما من خالف بنوع من الجهل أو التأويل فأمره مختلف. (¬3) الرعاية ص 92 بتصرف يسير. (¬4) إحياء علوم الدين 4/ 368 - 369.

الفرقة الثالثة

وعقب على هذا قائلا: "فهذا كله جهل، والنيّة لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية، بل قصده الخير بالشر -على خلاف مقتضى الشرع- شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله، إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬1). الفرقة الثالثة: هم الذين يظنّون أن: من الحرام ما يصبح قربة في حق طائفة معينة أو فرد معين. وقد تكلم العز بن عبد السلام عن طائفة من الناس يرون أنَّ المعصية الصغيرة مباحة للوليّ، ويزعمون أنَّ الله أحلّ له ما لم يحل لغيره، قال: "وأشرّ من هؤلاء من يعتقد أن ذلك الذنب قربة لصدوره عن ذلك الولي" (¬2). ونقل ابن الجوزي عن بعض الصوفية قوله: "السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم، مباح للزهاد لحصول مجاهداتهم، مستحبّ لأصحابنا لحياة قلوبهم" (¬3). وهذا خطأ فإن الله حرم ما حرم تحريما كليا عاما، ولا يستثنى من هذا إلاّ ما استثناه الله لحاجة أو ضرورة، كالمضطر لأكل الميتة، أما الزعم بأنَّ الحرام يحلّ لبعض الناس دون بعض، ويصحّ قربة من بعض آخر فهذا مخالف للأدلة، ولما كان عليه سلف الأمة. وخلاصة القول: أن الحرام لا يكون قربة بحال من الأحوال. يقول الحارث المحاسبي: "ولا إخلاص في محرم ولا مكروه، كمن ينظر إلى ما لا يحلّ له النظر إليه، ويزعم أنه ينظر إليه ليتفكر في صنع الله تعالى، كالنظر إلى ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين 4/ 368 - 369. (¬2) قواعد الأحكام 1/ 150. (¬3) تلبيس إبليس/ 277.

الأمرد، وهذا لا إخلاص فيه، بل لا قربة البتَّة" (¬1). ويقول ابن الحاج: "الأفعال الشرعية ثلاثة: واجب، ومندوب، ومباح. والحرام والمكروه لا يتقرب بهما إلى الله تعالى" (¬2). ¬

_ (¬1) شرح الأربعين النووية ص 12. (¬2) المدخل 1/ 21 - 22.

التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة

التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة العبادة التي يتقرب بها إلى الله -تعالى- لا يمكن أن تعرف إلا بوحي الله المنزل، فنحن نتقرب إلى الله بالأفعال التي يحبها الله -تعالى- ويرضاها، ومحبوبات الله ومرضياته غيب محجوب عنا، ولا نستطيع معرفته إلا إذا أعلمنا بذلك. من هنا كانت العبادات التي تقربنا إلى ربنا مبينة مفصلة، ولم يترك الله لأحد فيها قولا، ولم يدع فيها نقصا يحتاج إلى إكمال ولو ترك شيء منها بغير إيضاح لكان مدعاة إلى الاختلاف والتنازع، ومن زعم أن في الدين بدعة (¬1) حسنة فإنه يزعم أنَّ الله لم يكمل دينه، ولم يتم نعمته على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أمته، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2)، فالدين الذي رضي الله أن نتقرب به إليه هو الدّين الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فما لم يكن في عهده -صلى الله عليه وسلم- عبادة وقربة فلن يكون بعد ذلك عبادة ولا قربة. والذي يزعم أنه يمكن أن يتقرب بعبادة مستحدثة لم يفعلها الرسول -صلى الله ¬

_ (¬1) أصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول تعالى: {بديع السموات والأرض}، أي مبدعهما من غير مثال سابق متقدم. ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبق إليها سابق، ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، وقد عرفها بعض الفقهاء بقوله: "هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه". فالطريقة: الطريق والسبيل، وهي شاملة لأمور الدين والدنيا وقوله: في الدين، أخرج البدعة الدنيوية، فإن منها المستحسن والمستقبح. وقوله (مخترعة) أخرج طرق التعبد المشروعة، وقوله (تضاهى الشرعية) لأنه لو كانت، تضاهي الشرعية لم تكن بدعه لأنها تصير من باب الأفعال العادية، وقوله: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى "هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها، وذلك أن المبتدع يريد المبالغة بالتعبد بفعل ما لم يؤمر به، كأنه لم يكتف بالمأمور". راجع: الاعتصام للشاطبي (1/ 29 - 36)، فقد أطال في التعريف وشرحه. (¬2) سورة المائدة / 3.

عليه وسلم- هو بين أمرين أحلاهما مر: إما أن يزعم أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- علم هذه العبادة ولكنه لم يخبر بها، وهذا اتهام للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخيانة في التبليغ. وإما أن يزعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم أن هذه عبادة وقربة، وأن هذا المسكين علم شيئًا لم يعلمه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهذا اتهام للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجهالة والضلالة. ومن المعلوم المقطوع به أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق بربه، وأنه بلغ ما أنزل إليه من ربّه، وقد شهد له بذلك أصحابه في الجمع الحاشد في حجة الوداع، فما دام الأمر كذلك فإنه لم يبق إلاّ أنَّ العادات المبتدعة المستحدثة ضلالة تهلك صاحبها وتوبقه، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستفتح خطبته بالحمد والثناء على الله، ثم يقول: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة" (¬1). وفي رواية: "وكل محدثة بدعة، وكلْ بدعة في النار" (¬2). وفي حديث آخر "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" (¬3). والعبادات المبتدعة لا تقبل من صاحبها، بل هي مردودة وصاحبها موزور غير مأجور، فقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ" (¬4). وفي رواية لمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن جابر (مشكاة المصابيح 1/ 51). (¬2) هذه الزيادة عند النسائي، انظر تحقيق المشكاة (1/ 51). (¬3) رواه الترمذي وصححه، وأبو دارد وأحمد وابن ماجه، (مشكاة المصابيح 1/ 58). (¬4) الحديث متفق عليه، (انظر مشكاة المصابيح 1/ 51).

والنصوص في ذم البدع في الكتاب والسنة كثيرة، وقد بالغ علماء السلف في ردّ البدع وذمّ أصحابها، ومما حفظه العلماء وتناقلوه بالتقدير والإجلال قول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (¬1): سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها فهو مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا" (¬2). لقد أدرك العلماء منذ البداية أن الإخلاص ركن العمل المقبول عند الله، ولكنَّهم لم يغفلوا الركن الثاني، وهو أن يكون العمل مشروعا للتعبد به، وقد فسر العلماء قوله تعالى: {الذِي خَلَقَ الْمَوْت وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكمْ أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً} (¬3) بهذا، ومن هؤلاء الفضيل بن عياض (¬4) قال: "هو أخلص العلم وأصوبه، فسئل عن معنى ذلك، فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا وكان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة" (¬5). فما عدَّه بعض العباد عبادة وقربة مما لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتحريم الطيبات من اللحم والفاكهة، ومن ترك الكلام والصمت الدائم فلا يكلمون أحدا، وتعبّدهم الله بحلق شعر الرأس، واستحداث صلوات وأوراد ¬

_ (¬1) هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، الخليفة الصالح والملك العادل، ولي الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك ولم تطل خلافته، قبل دس له السم. ولد بالمدينة عام (21 هـ)، وتوفي (بدير سمعان)، من أرض المعرة عام (101 هـ). راجع: (خلاصه تذهيب الكمال 2/ 274)، (شذرات الذهب 1/ 119)، (طبقات الحفاظ ص 46). (¬2) الاعتصام 1/ 103. (¬3) سورة الملك/ 2. (¬4) هو الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي شيح الحرم المكي، من أكابر العباد، ولد بسمرقند، وسكن مكة وتوفي بها (187 هـ). راجع: (خلاصة تذهب الكمال 2/ 338)، (الكاشف 2/ 386)، (طبقات الحفاظ ص 104). (¬5) إعلام الموقعين (2/ 160).

وطرق معينة في الذكر لم يصح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - فعلها، كل ذلك من الابتداع في دين الله، ولا يشفع لصاحبه أنّ نيته حسنة، ومراده إرضاء الله تعالى، وقد قال ابن مسعود لبعض المبتدعة عندما قالوا: يا أبا عبد الرحمن والله ما أردنا إلاّ الخير، قال: وكم من مريد للخير لم يدركه.

خاتمة القول

خاتمة القول في ختام هذه الرسالة أتوجه إلى الله العلي القدير بالحمد والثناء والتمجيد، فقد أمدّني بعونه وتأييده، ولولا ذلك لما كانت هذه الرّسالة، وأسأله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه جل وعلا، وأن ينفع به عباده، وأن يكتب لي الأجر والثواب، إنه نعم المولى ونعم النصير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ملحق إيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنما الأعمال بالنيات"

مُلحَق إيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنمّا الأعمال بالنيّات"

محتوى الملحق - الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث. - سبب الحديث. - إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه. - كتب السنة التي أخرجته. - طرق الحديث. - مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة. - إشكالات أوردت على الحديث: 1 - تضعيف الحديث لكونه غريبا. 2 - أنّه حديث شاذ. 3 - أن فيه انقطاعا. 4 - أنّه ليس حديثا فردا. 5 - أنه حديث متواتر. *****

تمهيد

تمهيد: لما كان هذا الحديث هو العمدة في مباحث النيّات وكان اعتمادنا عليه واستشهادنا به كثيرا، فيما هو الحال بالنسبة لجميع من كتب أو ألّف في هذا الموضوع، أحببنا أن نثبت في هذا الملحق مباحث مهمة تتعلّق بهذا الحديث، بحيث يستغني الناظر فيها عمّا عداها من المؤلفات في هذا الجانب. الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث معظم الروايات "إنما الأعمال بالنيّة" بجمع الأعمال وإفراد النية، وفي رواية عند البخاري في بدء الوحي (إنما الأعمال بالنيات) بجمع النيّات أيضا. وفي رواية عنده في الإيمان والعتق والهجرة: "الأعمال بالنية" بالإفراد وحذف "إنّما". وفي رواية في النكاح: "العمل بالنية" بإفرادهما. وفي صحيح ابن حبان "الأعمال بالنيّات" بجمعهما وحذف "إنما" وكذا وقع في الشهاب للقضاعي ومسنده، وأنكره أبو موسى المديني في ما نقله النووي وأقره، قال ابن حجر: وهو رواية ابن حبان. وقد جزم العيني في شرحه على البخاري بأن رواية: "الأعمال بالنيّات"، موجودة في صحيح البخاري (¬1) وهذا وهم منه. والثابت منها في صحيح البخاري أربع روايات: "إنما الأعمال بالنيّات"،"الأعمال بالنية" "العمل بالنية"، "إنما الأعمال بالنية". وجميع روايات مسلم السبعة: "إنما الأعمال بالنيّات". وفي رواية سفيان بن عيينة عند البخاري ومسلم زيادة فائدة، وهي تصريح علقمة بأنه سمع عمر بن الخطاب على المنبر يقول. ورواية "الأعمال بالنيات" موجودة في صحيح ابن حبان بإسناد صحيح. سبب الحديث قال ابن دقيق العيد: "نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك ¬

_ (¬1) العيني على البخاري.

فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس" (¬1). وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور، قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله، هو ابن مسعود، قال: من هاجر يطلب شيئا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أمّ قيس، فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أمّ قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس". قال ابن حجر: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين" (¬2). وقال القسطلاني في الإسناد الذي عند الطبراني: "رجاله ثقات" (¬3). وأنكر ابن رجب أن يكون للحديث سبب صحيح (¬4)، واعتذر له القسطلاني بأنه "لم يقف على من خرجه" (¬5). إلاّ أنه على القول بصحة الرواية التي رواها الطبراني فإنه لم يذكر فيها أن الحديث قيل بسببها، ولم يرد في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك هكذا قرر الحافظ ابن حجر (¬6). لكن السيوطي يذكر أنَّه وجد للحديث طريقا مصرحا بأن هجرة الرجل للزواج من المرأة المهاجرة هو السبب الذي قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحديث من أجله، وهذه الرواية أوردها الزبير بن بكار في أخبار المدينة. ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 10. (¬2) المصدر السابق 1/ 11. (¬3) القسطلاني على البخاري 1/ 55. (¬4) جامع العلوم والحكم ص 12. (¬5) المصدر السابق. (¬6) فتح الباري 1/ 10.

إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه

يقول الزبير هذا: حدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وعك فيها أصحابه، وتقدم رجل فتزوج امرأة كانت مهاجرة، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فقال: يا أيها الناس: إنما الأعمال بالنية ثلاثا، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته في دنيا يطلبها إو امرأة يخطبها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، ثم رفع يديه فقال: "اللهم انقل عنا الوباء"، فلما أصبح قال: "أتيت هذه الليلة بالحمى، فإذا بعجوز سوداء مليئة في يدي الذي جاء بها، فقال: هذه الحمى، فما ترى فيها؟ فقلت: اجعلوها يجم" (¬1). ويبقى النظر في صحة الرواية، فإن علماء الحديث مجمعون على أن حديث "إنما الأعمال بالنيّات" لم تصح روايته عن أحد من الصحابة إلاّ عن عمر بن الخطاب. إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه في الحديث ذمٌّ لمن أراد بهجرته الدنيا، أو الرغبة في الزواج ولكن يقال: كيف تزوج أبو طلحة من أم سليم، وقد اشترطت عليه الإِسلام، فإن أسلم رضيت بإسلامه مهرا، يقول العيني: "فإن قيل ذكر أبو عمر في الاستيعاب في ترجمة أمّ سليم أن أبا طلحة الأنصاري خطبها مشركا، فلما علم أنّه لا سبيل له إليها إلاّ بالإسلام أسلم، وتزوجها وحسن إسلامه، وهكذا روى النسائي من حديث أنس -رضي الله عنه- فقال: "تزوج أبو طلحة، فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم، فكان الإسلام صداق ما بينهما"، وقد بوَّب عليه النسائي: التزويج على الإسلام، وروى النسائي أيضا من حديثه قال: "خطب أبو ¬

_ (¬1) منتهى الآمال 5/ب وقد أورد صاحب كنز العمال هذه الرواية بالإسناد نفسه 3/ 455.

طلحة أمَّ سليم. فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يردّ، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحلّ لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم: الِإسلام، فدخل بها ... الحديث، أخرجه ابن حبان في صحيحه من هذا الوجه، فظاهر هذا أن إسلامه كان ليتزوج بها، فكيف الجمع بينه وبين حديث الهجرة المذكور مع كون الإسلام أشرف الأعمال ... ؟ " (¬1). قال ابن حجر في الحديث: "أخرجه النسائي بسند صحيح" (¬2). وفي اعتقادي أنّنا لا نحتاج إلى تلك التأويلات التي أوردها شراح الحديث، ليوفقوا بين الحديثين، فإن ما قامت به أم سليم أمر لا غبار عليه، فإن ترغيب الكفار في الِإسلام أمر مشروع، وقد شرع الله إعطاء الزكاة لأقوام نتألف قلوبهم بها على الِإسلام، وقد أعطى الرسول -صلى الله عليه رسلم- غنائم حنين للطلقاء الذين كانوا بالأمس يعدون السلاح والرجال للفتك به، يتألفهم بها على الِإسلام. أما أبو طلحة فلا ندري: هل كان الدافع الأول له على الإسلام هو رغبته في الزواج أو أنَّ هذا الطلب وافق رغبة لديه كانت تراوده؟ ولعل طلبها هذا جعله يتعرف على الإسلام فيوقن به ويسلم، ولكننا نعلم أنَّ أبا طلحة حسن إسلامه بعد ذلك، وأنّه كان من الصحابة الأخيار، فلا يضيره أن اشترطت عليه أم سليم الإسلام مهرا للزواج، وهل ضر حمزة بن عند المطلب أن كان بداية إسلامه حمية أخذته في مواجهته لأبي جهل عندما آذى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له حمزة: أتؤذيه وأنا على دينه، ما قالها إلا حمية، فلما استمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلا عليه القرآن آمن إيمانا صادقا، لا يحتاج صدقه إلى دليل. ¬

_ (¬1) العيني على البخاري 1/ 28 - 29. (¬2) فتح الباري 9/ 115.

كتب السنة التي أخرجته

كتب السنة التي أخرجته 1 - أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي، الحديث الأول (1/ 9)، وفي كتابه الإيمان حديث (54 جـ 1/ 135)، وفي كتاب العتق، حديث رقم (2529 جـ 5/ 160)، وفي كتاب مناقب الأنصار ورقمه (2899 جـ 7/ 226)، وفي كتاب النكاح ورقمه (5070 جـ9/ 115)، وفي كتاب الإيمان والنذور ورقمه: (6689 جـ 11/ 572)، وفي كتاب الحيل ورقمه (6953 جـ 12/ 327). (الصفحات والأرقام لفتح الباري). 2 - وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإِمارة (13/ 53) (مسلم بشرح النووي). 3 - وأخرجه أبو داود في سننه في كتاب الطلاق (2/ 352). 4 - وأخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحدود في باب من يقاتل رياء وللدنيا (1/ 198). 5 - وأخرجه النسائي في سننه في كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء (1/ 85)، وفي كتاب الإيمان، باب النية في اليمين (7/ 13)، وفي كتاب الطلاق في باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمله معناه (6/ 158). 6 - وأخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الزهد، باب النية، رقم الحديث (4227 جـ 2/ 141). 7 - ورواه أحمد في مسنده (1/ 25، 43). 8 - والطحاوي في شرح معاني الآثار في كتاب الصيام. 9 - والدارقطني في سننه في كتاب غرائب مالك بن أنس الأصبحي (ص 19). 10 - ورواه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الطهارة.

هل أخرجه مالك في الموطأ

11 - وابن حبان في صحيحه. 12 - وعزاه السيوطي وغيره إلى ابن عساكر في أماليه الحديثية، والرشيد ابن العطار في جزء من تخريجه، وابن الجارود والبيهقي في سننه، وأبي عوانه، وأبي نعيم في الحلية. هل أخرجه مالك في الموطأ: روى البخاري ومسلم هذا الحديث في صحيحيهما من طريق الإمام مالك، ولكن بالرجوع إلى موطأ مالك لم نجد فيه هذا الحديث، وقد رجعنا إلى فهارس الحديث أيضًا فلم نجدها تعزوه إلى موطأ مالك، لذا فإن السيوطي تعجب من هذا في الأشباه والنظائر قائلا: "والعجب أنَّ مالكا لم يخرجه في الموطأ" (¬1). إلا أننا نجد عالما هو ابن دِحْيَة ينسب الحديث إلى الموطأ، فهل كان مخطئا في هذه النسبة؟ لقد جزم الحفاظ بتخطئة ابن دحية في ذلك، منهم العيني يقول: "ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في موطئه، ووهم ابن دحية الحافظ، فقال في إملائه على هذا الحديث: أخرجه مالك في الموطّأ، ورواه الشافعي عنه، وهذا عجيب منه" (¬2). وممن خطّأ ابن دحية الحافظ ابن حجر العسقلاني (¬3)، والقلقشندي (¬4) وغيرهم. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 8. (¬2) العيني على البخاري 1/ 21. (¬3) تلخيص الحبير 1/ 55، فتح الباري 1/ 11. (¬4) نسب في دليل الفالحين 1/ 55، إلى القلقشندي أنه وهم ابن دحية في كتابه (شرح عمدة الأحكام).

وقد تبين لي أن الحافظ ابن دحية لم يكن واهما عندما عزا هذا الحديث إلى الموطأ، فقد وقع لي أثناء مراجعة كنز العمال ما يكشف الحقيقة ويجليها، ذلك أن ابن دحية رأى نسخة من الموطأ يبدو أنها فقدت، أو لم تقع لهؤلاء الأئمة الأعلام الذين وهموا ابن دحية، وهي النسخة التي من رواية محمد بن الحسن، يقول صاحب كنز العمال: "قال مالك في الموطأ -رواية محمد بن الحسن وسفيان بن عيينة- أنبأنا يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم" (¬1). ثم وضح الأمر تماما بعد أن اطلعت على كتاب مخطوط للسيوطي هو كتاب منتهى الآمال بشرح حديث "إنّما الأعمال بالنيّات". ففي هذا الكتاب وفي سطوره الأولى يقول: "قال مالك في الموطأ رواية محمد ابن الحسن، قال أخبرني يحيى بن سعيد، .... ". وبعد قليل زاد الأمر بيانا عندما قال: "قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: هذا الحديث أخرجه الأئمة المشهورون إلاّ الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك". ثم قال السيوطي: "قلت: لم يهمّ، فإنه وإن لم يكن في الروايات الشهيرة فإنه في رواية محمد بن الحسن". وحدّد الأمر تحديدا يدلّ على أنه اطلع على النسخة التي من رواية محمد بن الحسن، فقال: "أورده كما سقته منه في آخر باب النوادر. وقبل آخر الكتاب بثلاث ورقات، وتاريخ النسخة التي وقفت عليها مكتوبة في شهر صفر سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وقد رأيت فيها أحاديث يسيرة زائدة على الروايات المشهورة" (¬2). ¬

_ (¬1) كنز العمال. (¬2) منتهى الآمال.

طرق الحديث

طرق الحديث لم يصل إلينا هذا الحديث بإسناد صحيح إلاّ من طريق عمر بن الخطاب، ولم يروه عنه إلاّ علقمة بن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة إلاّ محمد بن إبراهيم، ولم يروه عن محمد هذا إلا يحيى بن سعيد، ثم اشتهر عن يحيى بن سعيد، فرواه عنه خلق كثير، ونحن نذكر صرق الحديث في كتب السنة إلى يحيى بن سعيد: (1) فقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما والنسائي في سننه عن عبد الله ابن مسلمة القعنبي. (2) وأخرجه البخاري من طريق يحيى بن قزعة. والنسائي في سننه من طريق أبو القاسم. وفي حديث مالك من طريق وهب. هؤلاء الأربعة رووه عن مالك عن يحيى بن سعيد به. (3) وأخرجه البخاري عن الحميدي عبد الله بن الزبير، وسلم عن ابن أبي عمر. كلاهما عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد به. (4) وأخرجه البخاري عن مسدد. ومسلم عن أبي الربيع العتكي. كلاهما عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد به. (5) وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد به. (6) وأخرجه البخاري عن قتيبة بن سعيد. وأخرجه مسلم والترمذي عن محمد بن المثنى.

كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد به. (7) وأخرجه مسلم والنسائي عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي خالد الأحمر: سليمان بن حيّان، عن يحيى بن سعيد به. (8) وأخرجه مسلم عن محمد بن العلاء الهمداني، والنسائي عن سليمان بن منصور، كلاهما عن ابن المبارك عن يحيى بن سعيد به. (9) وأخرجه مسلم وابن ماجه عن محمد بن رمح بن المهاجر عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد به. (10) وأخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير. وابن ماجه عن أبي بكر. كلاهما عن يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد به. (11) وأخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عن حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد به.

مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة

مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة حفص ابن غياث محمد بن عبد الله بن نمير (مسلم والنسائي). يزيد بن هارون محمد بن عبد الله بن نمير (مسلم). الليث بن سعد محمد بن رمح بن المهاجر (مسلم وابن ماجه). ابن المبارك محمد بن العلاء الهمداني (مسلم). سليمان بن منصور (النسائي). إسحاق بن إبراهيم (مسلم والنسائي). قتيبة بن سعيد (البخاري). محمد بن المثنى (مسلم والترمذي). محمد بن كثير (البخاري ومسلم وأبي داود). محمد بن الفضل (البخاري). أبو الربيع العتكي (مسلم). مسدد (البخاري). يحيى بن حبيب (النسائي). ابن أبي عمر (مسلم). الحميدي عبد الله بن الزبير (البخاري). يحيى بن قزعة (البخاري). ابن القاسم (النسائي). عبد الله بن مسلمة القعنبي (البخاري ومسلم والنسائي).

إشكالات أوردت على الحديث

إشكالات أوردت على الحديث 1 - تضعيف الحديث لكونه غريبًا: والحديث الغريب ما تفرد به واحد في إحدى طبقات السند. وهذا الحديث تفرد به يحيى بن سعيد فمن فوقه. وبعض الناس يحكمون على مثل هذا الحديث بالضعف، يقول أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار في هذا الحديث: "وهذا الحديث قد يكون على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا" (¬1). والجواب: أننا لا نسلم أنَّ كل حديث فرد ضعيف، فمن الأفراد ما هو ضعيف ومنه ما هو صحيح، وكان كان الغالب عليها الضعف، يقول الإِمام أحمد: "اتقوا هذه الغرائب فإن عامتها عن الكذابين" (¬2). وهذا الحديث كما يقول ابن تيمية: "متفق على صحته قد تلقته الأمة بالقبول والتصديق" (¬3). هذا الحديث له نظائر: (¬4) وهذا الحديث له نظائر من غرائب الصحيح مثل حديث ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنّه نهى عن بيع الولاء وهبته" أخرجاه في الصحيحين، وقد تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) منتهى الآمال/ ص2. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 18/ 247. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق 18/ 247، 248.

2 - أنه حديث شاذ

ومثل حديث أنس. "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فقيل: "إنَّ ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه" تفرد به الزهري عن أنس، وقيل تفرد به مالك عن الزهري. 2 - أنّه حديث شاذ: عرض بعضهم إشكالا آخر على الحديث، فقالوا: هذا حديث شاذ، بناء على تعريف الحاكم للشاذ: "هو الذي تفرد به الثقة وليس له متابع" (¬1). والجواب أن هذا التعريف ليس مرضيا، والتعريف السديد للشاذ هو تعريف الِإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: "الشاذّ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس عن ذلك أن يروي ما لم يرو غيره" (¬2). فالشاذ هو الذي يخالف الثقة رواية غيره ممن هم أكثر ثقة منه أو أوفر عددا، لا أن ينفرد الثقة بحديث لم يروه غيره. ولذا جزم العيني في شرحه على البخاري بأن هذا الحديث "لا يدخل في حدّ الشاذ" (¬3). 3 - أن فيه انقطاعا: وأورد "ابن ماكولا" في "تهذيب مستمر الأوهام" إشكالا آخر، فقد ذكر أن بعض العلماء زعم أن يحيى بن سعيد لم يسمعه من التيمي، وأن التيمي لم يسمعه من علقمة. ويرد قول هؤلاء الروايات الكثيرة في الصحيحين وفي غيرهما المصرحة بالسماع، ففي إحدى روايات البخاري "عن يحيى بن سعيد، أخبرني محمد بن ¬

_ (¬1) الباعث الحثيث/ ص 56. (¬2) المصدر السابق. (¬3) العيني على البخاري 1/ 20.

4 - أنه ليس حديثا فردا

إبراهيم التيمي: أنه سمع علقمة قال .... "، وحسبنا هذا دليلا في ردّ هذا الزعم (¬1). 4 - أنه ليس حديثا فردًا: ينقل الحافظ ابن حجر عن ابن مندة أنّه رواه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عشرون صحابيا غير عمر بن الخطاب (¬2). وعدّد هؤلاء الصحابة ومنهم سعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأنس، وابن عباس، ومعاوية، وعتبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، وأبو ذر، وعتبة بن المنذر، وعقبة بن مسلم (¬3). وفي رواية أنّه رواه ثلاثة وثلاثون صحابيا (¬4) وذكر أبن مندة للحديث متابعات، فقد ذكر أنّه رواه عن عمر غير علقمة ابنه عبد الله وجابر وأبو جحيفة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة. ورواه عن علقمة غير التيمي: سعيد بن المسبب، ونافع مولى ابن عمر. ورواه عن التيمي غير يحيى بن سعيد: محمد بن محمد بن علقمة أبو الحسن الليثي، وداود بن أبي الفرات، ومحمد بن إسحق، وحجاج بن أرطاة، وعبد الله ابن قيس الأنصاري. وهذا الذي ذكره ابن مندة غير صحيح خالفه فيه حفاظ الحديث، فقد جزم ابن حجر والترمذي والنسائي والبزار وابن السكن بتفرد يحيى بن سعيد فمن فوقه به، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلاّ بهذا الإِسناد ولكن بقيدين: ¬

_ (¬1) العيني على البخاري 1/ 20. (¬2) تلخيص الحبير. (¬3) العيني على البخاري. (¬4) فيض القدير 1/ 34.

5 - أنه متواتر

أحدهما: الصحة، والثاني: السياق. وقال الحافظ العراقي: هذا الحديث من أفراد الصحيح (¬1)، وممن أنكر كلام ابن مندة الحافظ المزي (¬2). قال ابن كثير: وقد ذكر له ابن مندة متابعات غرائب، ولا تصحّ كما بسطناه في مسند عمر وفي الأحكام الكبير (¬3). ولعل مراد ابن مندة ذكر الصحابة الذين رووا أحاديث في مطلق النية، وقد تتبع الحافظ العراقي في كتابة "النكت" على ابن الصلاح أحاديث هؤلاء الصحابة، فوجد أكثرها في مطلق النية لا بلفظ: "إنّما الأعمال بالنيات" (¬4). 5 - أنه متواتر: وقد زعم بعض الشيوخ أن هذا الحديث متواتر (¬5)، وهذا غير صحيح، فقد علمنا تفرد يحيى بن سعيد فمن فوقه بروايته، ولذا قال ابن الصلاح في علوم الحديث": حديث (إنما الأعمال) ليس من المتواتر بسبيل" (¬6). ولعل الذي دعا بعض العلماء إلى القول بتواتره نظرهم إلى آخره، فإنّه رواه عن يحيى بن سعيد خلق كثير، قال النووي: رواه عنه أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة (¬7)، وذكر بعض العلماء أنّه قد رواه عنه أكثر من ذلك، وذكر بعضهم أنه كتبه عن سبعمائة من أصحاب يحيى. إلاّ أن الحافظ ابن حجر قال في شرحه على البخاري: "وأنا أستبعد هذا، وقد تتبعت طرقه من الكتب المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة" (¬8). ¬

_ (¬1) منتهى الآمال /3، تلخيص الحبير 1/ 55. (¬2) منتهى الآمال /3. (¬3) الباعث الحثيث ص 56. (¬4) منتهى الآمال /3، تلخيص الحبير 1/ 55. (¬5) الباعث الحثيث/ تعليق المحقق 1/ 56. (¬6) منتهى الآمال/3. (¬7) منتهى الآمال/2. (¬8) المصدر السابق.

وقال: "تتبعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا" (¬1). ومع ذلك فإن هذا التواتر الذي في آخره لا يجعل الحديث متواترا، لأنَّ التواتر طرأ عليه في وسط الإسناد، ولم يوجد من أوله، والحديث لا يكون متواترا حتى يرويه الجمع الغفير الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب من بدء السند إلى منتهاه. ولكن يصح القول بتواتر هذا الحديث إذا قصدنا التواتر المعنوي، وهو أن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب قضايا مختلفة تشترك في أمر، فيكون ذلك القدر المشترك متواترا. مثاله سخاء حاتم الطائي، فإنّه ينقل عن شخص أنَّ حاتمًا أعطاه شاة، وآخر أعطاه فرسا، وآخر أعطاه دينارا، وهلمَّ جرا. فيتواتر ذلك القدر المشترك بين أخبارهم وهو سخاؤه، لأنَّ هذه الجزئيات اشتركت في كلّ واحد، وراوي الجزئي راوي الكلّي، وهو السخاء، فيكون متواترا بالتضمين. وحديث النيّة من هذا القبيل، فإنه قد وردت أخبار كثيرة في اعتبار النية والاعتماد عليها كما نرى، فصار متواترا بهذا الاعتبار وإن لم يتواتر لفظه. قال ابن حجر: "وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أنَّ خبر عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل". ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير 1/ 55.

قائمة المراجع

قائمة المراجع مرتبة على حروف المعجم 1 - الاتجاه الأخلاقي: لمقداد يالجن - ط الأولى 1392 هـ 973 م مكتبة الخانجي - مصر. 2 - إحكام الأحكام: لابن دقيق العيد - الطبعة السلفية ومكتبتها. القاهرة - 1379 هـ. 3 - الأحكام في أصول الأحكام: للآمدي - طبعة دار الكتب 1332 هـ 1914 م 4 - الأحكام في أصول الأحكام: لابن حزم طبعة زكريا يوسف - القاهرة - الثانية. 5 - أحكام القرآن لابن العربي - عيسى البابي الحلبي - الطبعة الثانية 1387 هـ 1967 م 6 - إحياء علوم الدين: للغزالي - مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني - القاهرة 7 - اختلاف الحديث للشافعي: تاب الشعب - 1388 هـ 1968 م حاشة على كتاب الأم - المجلد الثاني 8 - الأخلاق لأحمد أمين - لجنة التأليف والترجمة والنشر - الطبعة السادسة 1953 م. 9 - الأخلاق والسير: لابن حزم - الاونسكو - بيروت - 1961 م 10 - الأخلاق عند الغزالي: لزكي مبارك - الممكتبة التجارية الكبرى - مصر 11 - أدب الدنيا والدين: للماوردي - مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة - 1375 هـ 1955 م. 12 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر - مكتبة النهضة مصر - تحقيق محمد علي البجاوي 13 - الأشباه والنظائر: لابن نجيم - نشر مؤسسة الحلبي وشركاه - القاهرة - 1387 هـ 1968 م.

14 - الأشباه والنظائر: للسيوطي - مصطفى البابي الحلبي - مصر - 1378 هـ 1959 م 15 - الإصابة في تييز الصحابة: لابن حجر - دار صادر بيروت - الطبعة الأولى 1328 هـ طبعة بالأوفيس. 16 - أصول التشريع الإِسلامي: لعلي حسب الله - دار المعارف بمصر 1383 هـ، 1964 م. 17 - أصول السرخسي: لمحمد بن أحمد السرخسي - لجنة إحياء المعرف النعمانية - حيدر آباد الدكن - تصوير بيروت - دار المعرفة. 18 - أصول الفقه: لمحمد أبو النور زهير - دار الاتحاد العربي للطباعة - القاهرة الأولى 19 - أضواء البيان: للشنقيطي - مطبعة المدني 1378 هـ 1959 م. 20 - الاعتصام: للشاطبي - مطبعة المنار القاهرة - الطبعة الأولى - 1331 هـ 1913 م. 21 - الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء، للوركلي - الطبعة الثالثة. 22 - أعلام الموقعين: لابن القيم - دار الكتب الحديثة - القاهرة. 23 - إعمال الفكر والروايات في شرح حديث "إنما الأعمال بالنيات": لإبراهيم حسن الكردي الكوراني مخطوط بدار الكتب المصرية. 24 - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: لابن القيم - مكتبة المصطفى البابي الحلبي - مصر 1381 هـ 1961 م. 25 - الإفصاح عن معاني الصحاح: لابن هبيرة - المكتبة الحلبية - الطبعة الثانية 1366 هـ 1947 م. 26 - اقتضاء العلم العمل: للخطيب البغدادي، وهو ضمن مجموع طبع بعنوان من كنوز السنة - رسائل أربع. المطبعة العمومية - دمشق - الأولى

27 - الأم: للشافعي - كتاب الشعب - 1388 هـ 28 - الإنسان بين المادية والإسلام: لمحمد قطب - الطبعة الرابعة - 1965 ببروت. 29 - الإنصاف في مسائل الخلاف: للمرداوي - المطبعة الأولى - 1374 هـ 1955 م القاهرة. 30 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: لأحمد محمَّد شاكر - صبيح القاهرة - المطبعة الثالثة. 31 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق: لابن نجيم - دار المعرفة للطباعة - لبنان - المطبعة الثانية. 32 - البحر المحيط: لأبي حيان - مكتبة ومطابع النصر الحديثة - الرياض. 33 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني: شركة المطبوعات العلمية - مصر - الطبعة الأولى - 1327 هـ. 34 - بدائع الفوائد: لابن القيم - إدارة الطباعة المنيرية - القاهرة. 35 - بداية المجتهد ونهاية المقصد: لابن رشد - مكتبة الكليّات الأزهرية - 1386 هـ 1966 م. 36 - البداية والنهاية: لابن كثير - نشر مكبة الفلاح بالرياض. 37 - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: للفيروز آبادي - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - القاهرة - 1383 هـ.

38 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: للسيوطي - عيسى البابي الحلبي - القاهرة. الطبعة الأولى - 1384 هـ. ْ39 - تاج العروس: لمحمد مرتضى الزبيدي - دار مكتبة الحياة - بيروت. 40 - التاج والإكليل لمختصر خليل: للمواق (على هامش مواهب الجليل) مكتبة النجاح - ليبيا 41 - تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي - ط دار الكتاب العربي - بيروت. 42 - تحسين الطوية في تحسين النية: مخطوط في دار الكتب المصرية. 43 - تحفة الفقهاء: للسمرقندي - طبعة جامعة دمشق - 1377 هـ 1958 م. 44 - تذكرة الحفاظ: للذهبي - دار إحياء التراث العربي بيروت - المطبعة الرابعة. 45 - الترغيب والترهيب: للمنذري - المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة - الطبعة الأولى - 1380 هـ 46 - التعريفات: للجرجاني - مكتة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة 1357 هـ 1938 م. 47 - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) دار الأندلس - بيروت - المطبعة الأولى - 1385 هـ - 1966 م. 48 - تفسير الطبرى (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي - مصر - الطبعة الثاثلة 1373 هـ، 1954 م.

49 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): دار الكتاب العربي - القاهرة - عن طبعة دار الكتب - المطبعة الثانية - 1387 هـ 1967 م. 50 - تفسير المنار: لمحمَّد رشيد رضا - دار المنار مصر - المطبعة الثالثة. 51 - تقرب التهذيب: لابن حجر العسقلاني - المكتة العلمية - المدينة المنورة - الأولى - 1380 هـ، 1960 م 52 - التكملة لوفيات النقلة: للحافظ المنذري - مطبعة عيسى البابي الحلبي - القاهرة - المطبعة الأولى - 1395 هـ 1975 م. 53 - تلبيس إبليس: لابن الجوزي - دار الوعي - بيروت. 54 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر العسقلاني - شركة الطباعة الفنية المتحدة. 55 - تهذيب التهذيب: لابن حجر - طبع الهند - حيدر آباد الدكن - الطبعة الأولى 1325 هـ. 56 - تهذب اللغة: لمحمد بن أحمد الأزهرى - تحقيق عبد السلام هارون المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء. 57 - تهذيب معالم السنن: لابن القيم - مطبعة السنة المحمدية - 1369 هـ 1950 م. 58 - التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح: لأحمد العلوي الشويكي - مطبعة السنة المحمدية - الطبعة الأولى - 1371 هـ 1952 م 59 - تيسير العزيز الحميد: لسليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب - المكتب الإسلامي - دمشق. 60 - جامع الأصول: لابن الأثير - مطبعة السنّة المحمدية - الطبعة الأولى - 1368 هـ 1949 م.

61 - جامع الرسائل: لابن تيمية - الطبعة الأولى 1389 هـ 62 - جامع العلوم والحكم: لابن رجب - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت 63 - جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد: لمحمد بن محمَّد بن سليمان - نشره عبد الله هاشم يماني - المدينة المنورة - 1381 هـ 1961 م 64 - حاشية السندي على النسائي: المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة 65 - حاشية ابن عابدين (ردّ المحتار على الدرّ المختار): مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - الطبعة الثانية - 1386 هـ 1966 م. 66 - الحطاب علي خليل (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب): مكتب النجاح - ليبيا. 67 - خصائص التصوير الإسلامي: سيد قطب - الطبعة الثانية - 1967 م. 68 - خلاصة تذهيب الكمال: لصفي الدين أحمد بن محمد الخزرجي - تحقيق محمود عبد الوهاب - نشر مكتبة القاهرة 1392 هـ 1972 م. 70 - دستور الأخلاق: لمحمد عبد الله دراز - مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة الأولى - 1393 هـ 1973 م. 71 - دليل الفالحين شرح رياض الصالحين: لمحمد علي الصديقي - مطبعة حجازي - القاهرة - 1357 هـ 1938 م. 72 - الدين الخالص: لصديق حسن خان - مكتبة دار العروبة - 1379 هـ 1959 م. 73 - الذخيرة: للقرافي - مطبعة كلية الشريعة - القاهرة - 1381 هـ 1961 م.

74 - الذخائر الخفية في حديث "إنما الأعمال بالنية" مخطوط: لمحمد عارف الدمشقي - نسخة ناقصة في المكتبة الظاهرية - بدمشق. 75 - الذخيرة المرضية في شرح حديث "إنما الأعمال بالنية": لمحمد عارف بن أحمد كتاب مخطوط بدار الكتب الظاهرية - في دمشق. 76 - ذدمّ الهوى: لابن الجوزي - دار الكتب الحديثة - القاهرة. 77 - ذيل طبقات الحفاظ: لأبي المحاسن الحسيني - الطبعة الأولى - 1381 هـ 1962 م. 78 - الرسالة القشيرية: لأبي القاسم القشيري - مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح - القاهرة. 79 - الرعاية لحقوق الله: للحارث المحاسبي - دار الكتب الحديثة - القاهرة - ومكتبة المثنى بغداد. 80 - روضة الطالبين: للنووي - المكتب الإسلامي - بيروت. 81 - روضة المحبين ونزهة المشتاقين: لابن القيم - مكتبة الجامعة - القاهرة 1973 م. 82 - روضة الناظر: لابن قدامة - المطبعة السلفية ومكتبتها - القاهرة 1378 هـ. 83 - رياض الصالحين: للنووي - مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني - القاهرة. 84 - زاد المعاد: لابن القيم - المطبعة المصرية - ومكتبتها - مصر. 85 - سبل السلام: للصنعاني - المكتبة التجارية الكبرى - مصر. 86 - سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني - المكتب الإسلامي - دمشق. 87 - سلوك الإنسان: لعلي أحمد علي - مكتبة عين شمس - 1971 م

88 - سنن ابن ماجة: دار إحياء الكتب العربية - القاهرة - 1372 هـ 1952 م 89 - سنن أبي داود: المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة - 1369 هـ 1950 م. 90 - سنن الترمذي: (الجامع الصحيح): مطبعة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - الطبعة الأولى - 1356 هـ. 91 - سنن النسائي: المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة. 92 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: للشوكاني - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 1390 هـ 1970 م. 93 - شرح التلويح على التوضيح: للتفتزاني - طبعة صبيح - القاهرة. 94 - شرح حديث "إنما الأعمال بالنيات": لابن تيمية - المكتبة السلفية القاهرة - الطبعة الأولى - 1396 هـ. 95 - شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي - المكتب التجاري للطباعة والنشر - بيروت. 96 - شرح العناية على الهداية: لمحمد البابرتي (على هامش فتح القدير) المكتبة التجارية الكبى - مصر. 97 - شرح متن الأربعين النووية: للنووي - الطبعة الثالثة - 1393 هـ 1973 م. 98 - شرح المعلقات السبع: للزوزني - دار القاموس الحديث - بيروت. 99 - شرح النووي على صحيح مسلم: المطبعة المصرية ومكتبتها. 100 - شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل: للغزالي - مطبعة الإرشاد ببغداد - الطبعة الأولى 1390 هـ 1971 م.

101 - شفاء السائل لتهذيب المسائل: لابن خلدون - المطبة الكاثوليكية - بيروت. 102 - صحيح البخاري (الجامع الصحيح): لمحمد بن إسماعيل البخاري - المطبعة السلفية ومكتبتها - القاهرة "متن فتح الباري" 103 - صحيح الجامع الصغير وزيادته: تحقيق محمَّد ناصر الدين الألباني - منشورات المكتب الإسلامي - دمشق - الطبعة الأولى 1388 هـ 1969 م". 104 - صحيح مسلم (الجامع الصحيح): لمسلم بن الحجاج - المطبعة المصرية - ومكتبتها "متن شرح النووي على مسلم" 105 - العبادة في الإسلام: للقرضاوي - مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة الثالثة 1393 هـ 1973 م. 106 - العبر في خبر من غبر: للحافظ الذهبي - تحقيق صلاح الدين - المنجد - مطبعة حكومة الكويت 1963 م. 107 - العبر وديوان المبتدأ والخبر: لابن خلدود - مكتبة المدرسة، ودار الكتاب اللبناني - بيروت - الطبعة الثانية 1961 م. 108 - العبودية: لابن تيمية - المكتب الإسلامي - دمشق - الطبعة الثانية 1389 هـ. 109 - العدة: للصنعاني (حاشية على إحكام الأحكام) المطبعة السلفية ومكتبتها - القاهرة 1379 هـ. 110 - عدة الصابرين: لابن القيم - مكتة المثنى - بغداد. ْ111 - العقد الفريد: لابن عبد ربه - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة - الطبعة الثالثة 1372 هـ 1952 م.

112 - علم الطباع: لسامي الدروبي - دار المعارف - بمصر - 1961 م. 113 - عوارف المعارف: للسهروردي - دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الأولى 1366 هـ. 114 - العيني على البخاري: (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) إدارة الطباعة المنيرة. 115 - عيون الأخبار: لابن قتيبة - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر. 116 - غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر: لأحمد محمد الحموي - دار الطباعة 1290 هـ. 117 - الغنية لطالبي طريق الحق: لعبد القادر الجيلاني - دار المعرفة - بيروت. 118 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر - المطبعة السلفية ومكتبتها. 119 - فتح القدير: لابن الهمام - المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة. 120 - الفروق: للقرافي - دار إحياء الكتب العربية - الطبعة الأولى - 1344 هـ. 121 - الفصول: للجصاص - رسالة دكتوراة أعدَّها الدكتور عقيل النشمي. 122 - فيض القدير شرح الجامع الصحيح: للمناوي - المكتبة التجارية الكبرة - مصر - 1351 هـ 1938 م. 123 - في ظلال القرآن: لسيد قطب - دار الشروق - بيروت 1393 هـ 1973 م 124 - القاموس المحيط: للفيروز آبادي - المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة. 125 - القسطلاني على البخاري: (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني) طبعة مصورة عن طبعة المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق - 1304 هـ دار صادر بيروت - الطبعة السادسة.

126 - قواعد الأحكام: للعز بن عبد السلام - مكتبة الكليَّات الأزهرية 1388 هـ 1968 م. 127 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: للذهبي - دار الكتب الحديثة - القاهرة - الطبعة الأولى 1392 هـ 1972 م. 128 - كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي: لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري - دار الكتاب العربي - بيروت 1394 هـ 1974 م طبعة بالأوفست: 129 - الكرماني على البخاري: (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني) المطبعة المصرية لمحمد محمد عبد اللطيف - الطبعة الأولى1351 هـ 1932 م 130 - كنز العمال في سنن الأفعال والأقوال: لعلاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي - مطبة جمعية دائرة المعارف العثماية - حيدر آباد سنة 1364 هـ. 131 - لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - الطبعة الثانيه - 1390 هـ 1971 م. 132 - لوامع الأنوار البهية: للسفاريني - طبع على نفقة حكومة قطر. 133 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: للندوي - دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة السادسة - 1385 هـ 1965 م. 134 - مجلة العربي: تصدرها وزارة الإعلام - دولة الكوت. 135 - المجموع: للنووي - الناشر زكريا علي يوسف - القاهرة. 136 - مجموعة الرسائل الكبرى: لابن تيمية - دار إحياء التراث العربي - بيروت.

137 - مجموعه الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: جمع ابن قاسم - طبع في السعودية - الطبعة الأولى - 1381 هـ. 138 - المحلّى: لابن حزم - المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت. 139 - مختصر المزني: طبعة كتاب الشعب - 1388 هـ 1968 م (حاشية على كتاب الأم). 140 - مختصر منهاج القاصدين: لابن قدامة - المكتب الإسلامي - دمشق - الطبعة الرابعة. 141 - مدارج السالكين: لابن القيم - مطبعة السنة المحمدية - القاهرة. 142 - المدخل: لابن الحاج - دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الثانية - 1972 م. 143 - مذكرة في أصول الفقه: محمد أمين الشنقيطي - المكتبة السلفية - المدينة المنورة. 144 - مسائل الإمام أحمد: لأبي داود سليمان بن الأشعث - الناشر محمد أمين الرمح - بيروت - الطبعة الثانية. 145 - المسند للإمام أحمد بن حنبل: المكتب الإسلامي ومكتب صادر بيروت 146 - مشكاة المصابيح: للتبرزي - المكتب الإسلامي - دمشق - الطبعة الأولى - 1380 هـ. 1961 م 147 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: للرافعي - طبعة دار المعارف - القاهرة. 148 - معالم السنن: للخطابي - مطبعة السنة المحمدية - 1369 هـ 1950 م 149 - معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة - مكتبة المثنى ودار إحياء التراث - بيروت.

150 - المعجم المفهرس لأللفاظ الحديث النبوي: ترتيب د. أ. ي ونسنك وآخرون - مكتبة بريل - مدينة ليون 1936. 151 - المغني: لابن قدامة - دار المنار - القاهرة - الطبعة الثالثة 1367 هـ. 152 - المقاصد الحسنة: للسخاوي - مكتبة الخانجي ومكتبة المتنبي - بغداد - 1375 هـ 1956 م. 153 - مقالات الإسلاميين: للأشعري - مكتبة النهضة المصرية - الطبعة الثانية 1389 هـ 1969 م. 154 - المقدمات: لابن رشد طبعة بالأوفست - مكتبة المتنبي - بغداد. 155 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لابن الجوزي - حيدر آباد الدكن - الهخند 1357 هـ. 156 - المنتقى: لابن تيمية متن نيل الأوطار شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثانية - 1371 هـ. 157 - منتهي الآمال شرح حديث "إنّما الأعمال": للسيوطي - مخطوط بدار الكتب المصرية. 158 - الموافقات: للشاطبي - طبعة صبيح - القاهرة. 159 - الموطأ: للإمام مالك - طبعة كتاب الشعب - القاهرة. 160 - ميزان العمل: للغزالي - دار المعارف - مصر - الطبعة الأولى 1964 م. 161 - لسان العرب: لابن منظور - ترتيب يوسف الخياط ونديم مرعشلي - دار لسان العرب - بيروت. 162 - نهاية الأحكام في بيان ما للنيّة من الأحكام: المطبعة الأميرية - 1320 هـ 1903 م. 163 - النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة.

164 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للشوكاني - الطبعة الثانية 1371 هـ 1952 م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي. 165 - وفيات الأعيان: لابن خالكان - طبعة صادر بيروت.

§1/1