مقاصد الشريعة الإسلامية

ابن عاشور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

[مقدمة التحقيق]

شَيخُ الْإِسْلَامِ الإِمَامِ الْأَكْبَرِ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عَاشُور

طبعَة وزارةِ الْأَوْقَاف والشؤونِ الإسلاميَّة دوْلة قطَر عَلَى نَفَقَةِ حَضْرَة صَاحبِ السُّمُوِّ الشَّيْخ حمد بن خَليفَة آل ثَانِي أَمِير دولة قطر - حَفِظَهُ الله - حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة 1425 هـ - 2004 م

صورة الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور

رموز وإشارات

رموز وإشارات دواوين السنة: [خَ] صحيح البخاري. [مَ] صحيح مسلم. [دَ] سنن أبي داود. [نَ] سنن النسائي. [تَ] سنن الترمذي. [جَه] سنن ابن ماجه. [حَم] مسند أحمد. [طَ] الموطأ. [دَي] سنن الدارمي. [هق] سنن البيهقي. [ك] مستدرك الحاكم. [()] وضع النص القرآني بين قوسين مع ذكر اسم السورة ورقم الآية بالحاشية. [" "] وضع نص الحديث بين هلالين، يلحقه التخريج بالحاشية. الهلالان يحصران العناوين كأسماء الفنون أو العلوم. [[]] بين العاقفتين الكلام المنقول أو المستدرك غير ما أثبت في النص مما وقع السهو عنه أو إغفاله. [،] التفريق بين أجزاء الجملة. [.] نهاية الجملة.

[؛] الإشارة إلى ترتيب أجزاء الجملة مع الحفاظ على استقلالية مدلولها الخاص بها. [:] ما بعدها يكون بيانًا لما قبلها أو تفصيلًا. [...] إشارة إلى اختصار في القول أو في النقل. [إلخ] وما بعده. [/] الفصل بين رقم الجزء ورقم الصفحة. الفصل بين التاريخين الهجري والميلادي. علامة على بداية الصفحة الجديدة من النص الأصلي المحقق. [*] نجمة تشير إلى أن التعليق من المؤلف نفسه: أثبتت في المتن وفي التعليق. [=] علامة مساواة توضع في الهوامش بين طبعات الكتاب المتعددة، مع وضع رقم الطبعة بين قوسين. [؟] علامة الاستفهام. [؟!] للاستفهام الإنكاري. [!] نقطة التعجب عقب ما يكون محل استغراب أو إبداع. [اهـ.] تشير إلى انتهاء النص من نقل أو غيره. [ب] البغدادي. [تع.] تعليق. [ح] حديث. [د] ديوان. [ط.] الطبعة ويوضع بجانبها رقمها، وكذا الثانية. [ع.] ابن عاشور؛ عدد. [ف] فقرة. [مخط.] المخطوط. * * *

تقديم سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر أحمد بن عبد الله المُرِّي الحمد لله الذي جعل التفقُّه في الدين سبيل خيريَّة الأمة المسلمة، وطريق وَعْيها، ونهوضها، وتحقُّقها بالحَذَر والوقاية الحضارية، وحمايتها من الضلال، وجعل النُّفْرة للاجتهاد، والكسب الفقهي، من الفروض الكفائية على الأمة عامة، ومن الفروض العَيْنية على القادر عليها، المتخصِّص بها. فقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬1). واعتبر النُّفْرة للاجتهاد، والتفقُّه في الدين، مقدَّمة على النُّفْرة للجهاد ومدافعة الظالمين، وحماية الأمة من تسلُّط الأعداء، حتى يأتيَ الجهاد على بصيرة، واضح المقصد، بيِّن الهدف، مُنْضبطًا بضوابط التشريع، بعيداً عن الانفجارات العشوائية، وهَدْر الطاقات، وشتات الأمر، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ¬

_ (¬1) التوبة: 122.

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ...} (¬1)، وأولي الأمر هنا أهل الفقه في الدين. والصلاة والسلام، على الرحمة المهداة، الذي كان المقصد من رسالته وشريعته، إلحاق الرحمة بالعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬2)، الذي بَيَّن أنَّ خيريَّة الأمة المسلمة، إنما هي بسبب التفقُّه في الدين، وأنَّ استرداد هذه الخيريَّة اليوم، مَنُوط في الفقه في الدين فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (أخرجه البخاري). ذلك أنَّ الفقه في الدين، ومعرفة مقاصد التشريع، مؤشِّر الخيريَّة، وأن الكثير من الإصابات والهزائم والعجز عن النهوض، كان بسبب غياب الفقه الصحيح بالدين، والقعود عن النُّفْرة للتفقُّه في الدين. ولقد أشار القرآن في مواضع كثيرة، إلى أن السقوط والهزيمة تتأتَّى من غياب الوعي، والفقه، بالمعنى العام. وكثيراً ما عَلَّلت الآياتُ، سبب الهزائم بوصف المهزومين بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬3). ونسارع إلى القول: بأن الفقه في الدين، لا يتحقق بحفظ الأحكام الشرعية فقط، فقد يكون هذا حَمْلًا للفقه، وليس فِقْهاً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أفقَهُ مِنْهُ" (أخرجه الترمذي). ¬

_ (¬1) النساء: 83. (¬2) الأنبياء: 107. (¬3) الحشر: 13.

ومن هنا ندرك بعض أبعاد دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، بقوله: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ" (أخرجه الإمام أحمد)، فكان ببركة دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - حَبْرَ الأمة، بما وَعَى، وبما فَقُه، من إدراك العواقب، والمآلات، (وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) في ضوء سنن الله وأقداره الفاعلة في الحياة. وبعد: فهذه الطبعة الأولى من كتاب "مقاصد الشريعة" للإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور - رحمه الله -، بتحقيق فضيلة معالي الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، تضطلع بطباعته والإشراف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، على نفقة حضرة صاحب السمو أمير دولة قطر الشيخ حَمَد بن خليفة آل ثاني حفظه الله ورعاه. وقد لا نكون بحاجة للتدليل، على أهمية عِلْم مقاصد الشريعة، بالنسبة للمجتهد، بشكل خاص، والمسلم بشكل عام، يقول فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجمع الفقه الإسلامي، حفظه الله: "فهذا العلم الشريف يثمر فيما وُضِعَ له، معرفة غايات جنس الأحكام، وحِكَمَها، ومقاصِدَها ووظيفتها، وما تَهدي إليه، وتدلُّ عليه من حفظ نظام العالم، وتحقيق مصالح العباد في الدّارَين ... وهذا العلم المتميِّز، هو أحد رُكْني علم أصول الفقه، الموضوع لدلالة الفقيه على معرفة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، من أدلَّتها التفصيلية، وكيفية الاستدلال بها" (¬1). ¬

_ (¬1) تقديم الشيخ بكر أبو زيد لكتاب الموافقات للشاطبي - رحمه الله -.

ويقول الشيخ عبد الله دراز - رحمه الله - في بيان علم المقاصد: "وهذه الشريعة المعصومة، ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتَّفق، لمجرد إدخال الناس تحت سلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع، في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معاً، ورُوعي في كل حكم منها، حفظ الضروريات الخمس: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال) التي هي أسس العمران المرعية في كل ملَّة، ولولاها لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة" (¬1). ولعلَّ أول من أنضج منهجاً واضحاً، في علم مقاصد الشريعة، هو الإمام العالم الفذّ أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي - رحمه الله - المتوفَّى (790 هـ) في كتابه الموافقات، يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور - رحمه الله -: إن الإمام الشاطبي - رحمه الله - هو: (الرجل الفذُّ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين) (¬2)، حتى لقد اعتبر الشيخ رشيد رضا - رحمه الله - أنَّ الشاطبي يُعَدُّ بكتاب - (الموافقات مقاصد الشريعة) - نظيراً لابن خلدون في المقدمة (¬3). ولا يخفَى على الباحثين: بأن الامتداد بعلم المقاصد، ولمح آفاق جديدة ومقاصد جديدة، وتطبيقات معاصرة، لم يتحقق بالشكل المأمول، إلا من خلال بعض البحوث والرسائل الجامعية، التي قد تكون ساهمت باستدعاء الموضوع وطرحه، على ساحة الاجتهاد الفكري والفقهي، وجعل حَبْل التفكير موصولاً بهذا العلم المهم، الذي يضبط حركة الاجتهاد بمقاصدها وأهدافها، ويخرج بها عن أن ¬

_ (¬1) مقدّمة كتاب الموافقات للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان. (¬2) المرجع السابق نفسه. (¬3) المرجع السابق نفسه.

تكون قواعد تجريدية نظرية، هي أقرب للجدل، وعلم الكلام، منها للتمكين من أدوات تحقيق المقاصد الشرعية، حيث عجز الكثير من المشتغلين بها عن تعدِّيه تلك القواعد إلى الإتيان بمثال آخر، غير ما استدلَّ به الأقدمون. فالمثال الواحد يتكرر بتكرار التأليف، وعدد الكتب المؤلفة، دون القدرة على الإتيان بمثالٍ جديد، أو معاصر، مما يدلُّ على أن الحركة الفقهية تجمدت، وظلَّت تراوح مكانها بشكل أو بآخر. ولعل كتاب: مقاصد الشريعة المحقَّق، الذي نضطلع بطباعته، يمكن أن يشكِّل نَقْلة نَوْعيَّة، ومَعْلَمة كبرى، ومنهجاً نضيجاً، في فقه المقاصد، خاصة وأن مؤلفه هو الإمام العالم المجدِّد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور - رحمه الله -، وأن محقِّقه هو فضيلة الشيخ الحبيب ابن الخوجة حفظه الله. يقول الشيخ محمد الطاهر مبيناً عمله حيال مقاصد الشريعة: "فنحن إذا أردنا أن ندوِّن أصولاً قطعية، للتفقه في الدين، حقَّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه، المتعارفة، وأن نعيد ذوبَها في بوتقة التدوين، ونعيِّرها بمعيار النظر، والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة، التي عَلِقت بها، ثم نعيد صَوْغ ذلك العلم، وتسميته عِلْم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله، تُستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية (¬1). أما الدافع إلى تأليف كتاب المقاصد، فيقول الشيخ: "الذي دعاني إلى صَرْف الهمَّة إليه، ما رأيت من عُسْر الاحتجاج، بين المختلفين، في مسائل الشريعة، إذ لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلَّة ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، ص 22.

ضرورية، قريبة منها، يذعن إليها المكابر، ويهتدي بها المشتبه عليه" .. ففكرة الحدِّ من التشتت الفقهي كانت مسيطرة عليه، فإن منطلقه والغرض الذي رسمه لهذا العلم، هو أن يصل في مقاصد الشريعة، إلى تأسيس ما هو كلِّي عام، يكون كفيلاً عندما يتحاكم إليه الفقهاء، والأصوليون، بأن يقطع جدلَهم .. (¬1). ولعلَّ جهود ابن عاشور - رحمه الله - الذي أفاد من كتاب الإمام الشاطبي في الموافقات اتجهت إلى الارتقاء بالمقاصد، ليصير علماً قائماً بحدِّ ذاته، تُنتخب مسائله من بين علم أصول الفقه، لتصبح أصولاً قطعية للتفقه .. والحقيقة العلمية التي لا مجال للتشكيك فيها، أن الكثير من أئمة الفقه والأصول، تكلَّموا عن المقاصد كجزء من علم الأصول، وأفردوا لها عناوين خاصَّة، وإن لم يُفْرد لها كتباً خاصة إلا القليل منهم، على أهمية ذلك وضرورته. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (المتوفَّى عام 728) عنايةٌ بالغة، ولَهَجٌ شديد بالكشف والبيان، عن مقاصد الشريعة، وإدارة الأحكام عليها. ولعلَّ مما يلفت حقاً، أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لم يُسَلِّم بحَصْر الكلِّيَّات في الخمس المذكورة، في بحوث المقاصد، وإنما رأى أن الاجتهاد في المقاصد مفتوح، لكشف المزيد من مقاصد الشريعة، بحسب أولويات الاجتهاد، والاستدلال، لتنزيل الأحكام على واقع الناس. وكم يتمنى الإنسان، أن يهيِّئ الله بعض الباحثين والدارسين ¬

_ (¬1) انظر: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور للدكتور عبد المجيد النجار.

المجدِّين، لتتبع نظرية مقاصد الشريعة، عند شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على الرغم من معاصرته للشاطبي، ليقدِّم للمكتبة الفقهية نظرات خاصة، ومتميِّزة، لم يُسبق إليها شيخ الإسلام - رحمه الله - إضافة إلى تراث تلاميذه، وفي مقدمتهم العلامة ابن قيِّم الجوزية (المتوفى عام 751)، حيث جِماع المقاصد عنده: "أنَّ الشريعة مبناها وأساسها، على الحِكم، ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورَحْمةٌ كلُّها، وحِكْمَةٌ كلُّها، فكل مسألة خرجت عن العَدْل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبَث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْلُ الله بين عباده، ورحمته بين خلقه .. فكل خير في الوجود، فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فبسبب من إضاعتها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله، هي قُطْب الفلاح والسعادة، في الدنيا والآخرة" (¬1). وقد يكون من الأمور الجديرة بالذكر في هذه العُجالة، أن الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور كان فقيه ميدان، لم يكن يعيش بعيداً عن وَعْي الواقع، منصرفاً إلى أوراقه وبحوثه النظرية، والاكتفاء بالحديث عن خلود القِيَم الإسلامية، وعظمة الفقه الإسلامي، دون النظر في كيفية تنزيل الأحكام الشرعية على واقع الناس، وتقويم حياتهم بقِيَم الإسلام، في الكتاب والسنّة، والارتقاء بأدوات الاجتهاد، والتعامل مع النصوص التكليفية في الكتاب والسنّة، تفسيراً، وبياناً، واجتهاداً، وفق منهج علمي أصيل .. يظهر ¬

_ (¬1) ج (3) ص (1).

ذلك بشكل واضح وجليّ في نشاطه وعمله العلمي، مدرِّساً، وقاضياً، ومفتياً، وشيخاً للجامعة الزيتونية، وتآليفه المتنوعة خاصة في التفسير، حيث يعد كتابه التحرير والتنوير مدرسة في التفسير قائمة بذاتها، بدأت من حيث انتهى المفسِّرون الذين سبقوه، إضافة إلى التأليف في الحديث ومصطلحه، ولعل من أبرز مؤلفاته فيه كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، والنظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح، إضافة إلى الفقه والأصول، حيث يأتي كتاب مقاصد الشريعة في مقدّمتها، هذا عدا تآليفه في النقد، والأدب، والبلاغة، والسِّيَر، والتاريخ. والمأمول أن يشكّل هذا الكتاب إضافة متميزة للمكتبة الفقهية، خاصة وأن مؤلِّفه عالم موسوعي فذٌّ، ومجتهد مجدِّد مُبْدع، وأن محقِّقه عالم محقِّق متمرِّس، يشكّل الاجتهاد والفقه مِحْور حياته وجلّ اهتمامه. وأن يساهم بالارتقاء بتنمية المَلَكة الفقهية، وتأصيل أدوات الاجتهاد، وإغنائها، لتواكب الشريعةُ إيقاعَ العصر المتسارع، ويتحقق خلودها بالقدرة على الإنتاج في كل زمان ومكان، ويتحول الفقه الإسلامي إلى مواقع الريادة والسبق، لحركة المجتمع، وبيان حكم الله في النوازل الواقعة والمتوقعة. سائلين الله أن يكتبَ له القبول، ويجعل عملنا خالصاً لوجهه، ويجعله من العلم الذي يُنتفع به، مصداقاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا مَاتَ الإنْسانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (أخرجه مسلم)، ويجزي مؤلفه ومحققه خير الجزاء، إنه نعم المسؤول.

[الإمام ابن عاشور]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تصدير يتهيب الباحث والدارس لشخصية مرموقة نادرة، كشخصية شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور، أن يكون ما يكتبه عنه دون منزلة من يترجِم له. وهذا أمر وعر جِدُّ متعذّر على من لم يخالطه أو يسمع عنه، أو يقرأ له ولم يتخرج به، أو ينقل عن لداته ما كتبوه من مقالات عنه وشهادات له، وهو أجنبي عن مدرسته القائمة على علمي الوسائل والمقاصد، وقوة النظر وصحة المدارك، مما خص الله به بعض عباده، فرفع بذلك درجاتهم، وجعلهم أئمة علم وأعلام هدى. ميز الله تعالى هذا الإمام الجليل بما وفّقه إليه من التحرير والتنوير لكتابه العزيز الكريم، وبما رواه وحققه ونقده من أسانيد ومتون، أو دلَّ عليه من ضوابط وحقائق، وما حاط به سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من بيان شامل ذاد به عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. كان رحمه الله مرجعاً في العلوم الشرعية وهي المقاصد بقدر ما كان حجةً في الوسائل والعلوم اللسانية، كما سنبيّن ذلك. وهذا بما رَزَقَهُ الله عزّ وجلّ من فقه في الدين، وعلم بفروعه وأصوله، وبما جرى به قلمه أو نشره من فتاوى دقيقة مركزة ومعللة، مبنية على العلم

والفهم والفطنة والملكة الواسعة الأفق، وعلى استعماله وسائل البحث وآلات النظر، للخلوص في ذلك كله إلى ما يمكن الاعتداد به. فلم يكن يصدر إلا عن رأي صائب وحجة قاطعة وقول فصل. وإنك بتتبعك لآثاره ووقوفك على تعاليقه وتحقيقاته، مُلْفٍ بما ذكرناه وما لم نذكره، عالِماً لغوياً، ونحوياً بارعاً، وناقداً بصيراً، وبحراً من الأدب، ذا مكنة في أسرار العربية، وجودةٍ في إبراز مقاصد الشريعة. فلا تكاد تجد له نظيراً بين علماء عصره، أو منافساً له فيما خصّه الله به إلا أن يكون هذا النظير والمناسب ممّن تخرّج على طريقته ونبغ نبوغه، وقليل ما هم. وإن ما احتوت عليه هذه المقدمة من التعريف بصاحب مقاصد الشريعة الإسلامية لقليل جداً إزاء ما يتأكد العلم به. فهي لم تحقق إلا جزءاً من غرضنا، وهو تصوير شخصية العالِم والمفكر مترجمنا، وتقديمٌ موجزٌ عن كتبه وآثاره المطبوعة منها خاصة. وإن الواقف عليها لمكتفٍ بها على الجملة، لما تثيره في نفسه من أذواق وأشواق. وإن كانت لا تغني من لم يعلق شيئاً من ذلك قبل. ولذلك دعت الحاجة إلى إشارات وتنبيهات قدمنا بها شخصية المؤلف، مع ما لابسها من ظروف في حياته، أو مر بها من متغيرات سياسية، وتقلبات فكرية واجتماعية واقتصادية، كان لها جميعها أثر أي أثر في عصره. وأصبح من الضروري لإدراك كنه ذلك، وما ترتب عليه أن نقف قليلاً عند عينات مما حرّره وحبّره، أو درّسه وحقّقه. ومن ثم بات لزاماً التعريف بإنتاجه ليعلم طلاب العلم أيَّ رجل فقدوا، وأيَّ عالم ما زالوا يستفيدون من علمه، ويطمئنون إلى تقريراته وأحكامه في مؤلفاته. فبذلك نكشف عن جوانب الإمتاع والإبداع فيها، وعن استدراكه على ما انتهى إليه المتقدمون من حقائق العلم وجواهره.

ولذلك لا يمكن في هذه الحال أن نقتصر على ترجمة موجزة لا تصلح أن تكون طريقاً لإبراز منهجه، وسبيلاً للسير على دربه العلمي والفكري والخلقي. فجعلنا هذا الكتاب ثلاثة أجزاء: • الأول منها: في ترجمته، وبيان حركته الإصلاحية، والحديث عن مؤلّفاته. وقد اختصرنا الحديث عن الحياة السياسية سوى بعض نقاط تعرضنا إليها، خوفاً من البُعد عن الموضوع الأساسي والأصلي من ترجمته. كما أحلْنا في نقوله وتضميناته لكلام النقاد وعلماء البلاغة على شرحه للمقدمة الأدبية للمرزوقي، الذي تضمن إيراد ما أورده من ذلك من حفظه على عادة العلماء المتقدمين. • والثاني: سايرنا به مقاصد الشريعة مضيفين إليها جملة من البحوث الأصولية لما يوجد بينها من علاقة. وفصّلنا الحديث عن منهجه في جملة ما وقفنا عليه من تحاريره العلمية. • والثالث: هو كتاب المقاصد المتميز بمسائله وبحوثه، والذي رأينا أن نخصه بشيء من الاهتمام. وهكذا قمنا بتحقيقه ونشره بعد إقامة نصه، والتقديم له والتعليق عليه، طمعاً في أن يكون أمره ميسوراً على من يقف عليه من الطلاب والمراجعين والدارسين، كما بذلنا الجهد في ذكر ما عناه من إشارات أو مراجع بالإحالة عليها وتفصيل القول فيها أحياناً، جاعلين في نهايته فهارس تكشف عن مادته وأغراضه جملة وتفصيلاً. وإني في نهاية التعريف بأجزاء الكتاب الثلاثة لأتقدم بعظيم الشكر وأجزله لحضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر، حفظه الله ورعاه، وذلك على تفضله بالإذن بطبع هذا

الكتاب على نفقته. وإني لأشكره عن معرفة بقدره، واعتراف بحقه، وإعظام للنعمة فيه، واعتداد بالمنة منه. وإني لأذكر بغاية التقدير والشكر كل من أمدّني في هذا المهم بآرائه، وملاحظاته، من الأساتذة الشيوخ أمثال أصحاب السماحة الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وسماحة الأستاذ الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية سابقاً، والعالمين الجليلين صاحبي الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الغزالي، والأستاذ الشيخ محمد الشريف الرحموني جزاهم الله عني خير الجزاء وبارك فيهم. ولعلنا بعد هذا الجهد نبلغ بعض غرضنا من خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية للإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور، تغمده الله بغفرانه، وأغدق عليه شآبيب رحمته ورضوانه. * * *

المقدمة

المقدمة الحمد لله الذي بعث محمداً رسولاً، ليكون إلى معرفته سَبيلاً، وجعله إلى دينه هادياً ومُهيباً، وعلى خلقه شاهداً ورقيباً، وبالخير مُخبراً ومبشّراً، ومن الشرّ مخوّفاً ومحذّراً، ولأعلام الإسلام ناصباً، ولأحكامه ناصراً. فصلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من خلقه، وصلِّ اللهم عليه صلاة تليق بك منك إليه كما هو أهله. وبعد، فإن الله عزّ شأنه وأحاطت ألطافه بخلقه، قد جعل من كتابه الكريم، ومن سُنة نبيه الأمين مصدرَي علم وهداية. قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (¬1)، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬2)، وقال رسول الله الأكرم - صلى الله عليه وسلم - يوصي المؤمنين من حوله: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما كتاب الله وسُنة نبيه" (¬3). وقد ورث العلم والحكمة عن الرسل دعاةٌ إلى الله أصبحوا بميراثهم الزكي مصادر معرفة وعناوين نجابة وهداية. انتظمت فرائدهم ولآليهم كواكبَ منيرة كالأنجم الزهر ثم انطفأت، ولمعت في سماء العزّة والكمال أنوارها ساطعة ثم خبت، وهي على الدهر ذؤابة تضيء للناس وهي تحترق. ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآية 113. (¬2) سورة البلد: الآية 10. (¬3) طَ: 899.

وإنما حملنا على الاقتراب من هذا الكوكب اللامع، والاختلاف إليه، والاستنارة به، والاغتراف من فيوضه، طمعٌ يُدنينا من اقتباس بعض مزاياه، واكتسابِ جملة من عناصر نفاسته ومجادته. وقد لُذنا في ذلك بالعصابة الزكية من أبناء الرحم العلمية السادة الغرّ الميامين القائمين على شرف الفصحى وخدمة الدين. ولِما وثِقنا به من سعة المعرفة، وجميل الآداب من شيخنا وإمامنا، صاحب مقاصد الشريعة الإسلامية، تقدّمنا إليه مستأذنين، ومن علمه مسترفدين. والإمام، رغم تعدّد نشاطه في المجالات الدينية والعلمية والإصلاحية، كان لا يتوانى عن القيام بما يشعُرُ به من واجب، فيؤدّيه أحسن أداء، موفّياً إياه حقّه من البحث والنظر، سُنة عرفناها منه، وخُلقاً نبيلاً درج عليه. وهو في كل ذلك يتحمّل العلوم أجملَ تحمّل، ويبلّغها أكمل تبليغ. كيف وقد رأينا جمهور الدارسين ينجذب إليه، ويقبل على دروسه ومجالسه، حيث العلم المستفاد والعمل المستجاد. ولم يكن يصدر عنه في هذه المقامات وبخاصة في حياته العلمية والسلوكية غير فهم صائب، ورأي ثاقب، ونظر عميق، وقول بليغ فصل. ذلك هو ديدَنُه وما طَوَى عليه جوانحه من إقبال على الدرس، واهتمام بالثقافة الأصيلة، وتعلّق بالعلوم الإسلامية، ومنابع الحكمة التي تَرجع أصولها ومعاقدُها إلى حذق كتاب الله وسنة رسوله، اللذين ثافَنهما كبيرَ مثافنة، واكتسب منهما إيماناً صادقاً، وتصوّراً دقيقاً، وحُجة بالغة، ونفوذاً إلى أسرار ما همَّ بتحليله وعَرْضه، شاكراً لأنعم ربه، متمسّكاً بحبله، منغرساً في حقيقة التوحيد، مستجلياً من خصائص هذا الوجود صحَّةَ عقيدة، وصفاء نفس، ورقة مشاعر، وإخلاصاً لله في السر والعلن. وإني لأستميح الله من فضله وتوفيقه ورعايته، عونَه على القيام

بهذا العمل الجليل الذي ندبني إلى القيام به الواجب. وإنّي وإن تأخّرت عن الوفاء بذلك، قِبَل شيخنا - رحمه الله - لأَجدُ لدَيَّ فيما أقدمه - إن شاء الله - انشراحَ نفس ورضاها، وعند إخوتي من أهل الطلب والعلم والفكر الإسلامي والأدب العالي إنعاشاً لنفوسهم، وإمتاعاً لأرواحهم، بوقوفهم جميعهم على هذه المشارف، حافظين شريعة ربهم، قائمين عليها، ساهرين على لغة قرآنهم التي كرمهم الله بها، وميّزهم بأن جعل الفصحى لسانهم، ومن أذواقها الرائعة تصرفاتِهم البديعة في أقوالهم. فهم لذلك منها يرتوون، وعنها يذودون. وإني لأرجو الله أن يكون لي ولإخوتي من العلماء كافَّة بهذا الصنع الجميل سببٌ تتجلّى به رحمةُ ربنا علينا، فيَضع عنا أوزارنا، ويرفع بمنته أقدارنا، ما حرَصنا على التعريف "بمقاصد الشريعة" النيّرة السمحة التي فتح الله بها علينا، وجعلنا نتتبع فرائدها من خلال مصنّف شيخنا، عاملين إن شاء الله على تحقيق المراد من كتاب الله الكريم، بامتثال أمره ونهيه سبحانه، وبما أودع قرآنه من أسرار التشريع، ومقاصدِ الأحكام، وطرقِ الوصول إليها عند الخاصة من العلماء، أو حسبما درج عليه السلف من قبلهم، وبما تفجّرت به ينابيع السُّنة المطهرة من تشريع وبيان وهداية وحكمة. وقد يُعيننا على إدراك ذلك، على الوجه الكامل، ما كان من حِرص الإمام الأكبر على طلب هذه المعاني، وتعظيمِه لها في التحرير والتنوير وفي سائر كتبه ورسائله الشرعية. وما كان يمكن لنا أن نُلمّ بجملة ما قصدناه من أغراض مقاصد الشريعة، إلا بجعل هذا الكتاب الذى نُقدّمه ثلاثة أجزاء متماسكة، تربط بينها وحدة الموضوع العلمي، والحديث عن الآثار الباهرة التي صدرت عن الإمام طوال حياته المباركة.

قصمت الظهر، باحتلال الجيشِ الفرنسي لبلادنا، وإبرامه معاهدتي باردو والمرسى بين السلطتين القائمتين بالبلدين فرنسة وتونس. وقد أثارت هذه الصدمة اضطرابات ومظاهرات، أدت إلى مواجهة الاحتلال الأجنبي. وبسبب الذهول الذي أصاب الناس يومئذ ألحّ الخوف والحزن على بحث أسباب هذه المحنة، في كامل سلطنة الدولة العثمانية وبخاصة ما حصل بها من آثار في البلاد التونسية بسقوط دولة الخلافة. وكان هذا الوضع المؤلم منتشراً ومستقراً في أكثر بلاد المشرق والمغرب من ديارنا. وكانت الدول الغربية تقوم بالتخطيط للقضاء على العروبة والإسلام، غير أن نهضةً شاملة في أطراف البلاد الإسلامية والعربية، قامت تهيِّئ أصحاب هذه الأوطان إلى تدارك الأوضاع البغيضة والمهينة، وإلى العمل بحزم على استرجاع السيادة والكرامة. واحتدم الشباب الوطني في نزاعه مع المنافقين والمتخاذلين الذين باتوا يخشَون على مصالحهم من التلاشي، وعلى نفوذهم من التقلّص. وتغيّرت أوضاع تونس السياسية والإدارية. وكانت طائفة من المواطنين قد اختارت السلاح لمواجهة العدو ومحاربته، وأخرى كانت تعزّز الأولى وتوجّهها، وتثبّت أقدامها في المعركة، تثير في نفسها ما هي في مسيس الحاجة إليه، من حميّة وحماس وعزم على مواصلة الكفاح: والعرب لا تبدأ بجمع جموعها ... إلا سمعت نشيدها وحداءها وهكذا ظهرت في المشرقين الأقصى والأدنى حركة إصلاحية مباركة، ونهضة فكرية شاملة: اجتماعية وسياسية، زلزلت الأرضَ من تحت أقدام المستعمرين أو كادت. وشكا الباغون المستعمرون، رغم

ب - الأسرة العاشورية

إمعانهم في استنزاف قوى الشعوب الضعيفة والمواجِهة لها، ارتفاع صوتِ محرري الأوطان يصدع بقول الشاعر: فقلت لمحرز لما التقينا ... تنكّب لا يقطرك الزحام وكان من أثر الأحداث الخطيرة قيامُ دعاة الإصلاح والتجديد بالمشرقين الإسلامي والعربي. وامتدت هذه الحركة إلى البلاد التونسية، فعرفت من رواد النهضة والإصلاح بها، السيدَ خير الدين التونسي ولاءً، والمُؤَرخ القدير ابنَ أبي الضياف، وناظرَ المدرسة الحربية محمود قابادو، والعلامة المصلح الشهير الشيخ سالم بوحاجب. وتُمثِّل التحرّك الفكري النهضوي في المرحلة الثانية في الجزائر جمعية العلماء المسلمين، كما ظهر في المغرب العربي أحد طلائع الفكر الإسلامي، وفي مرحلة ثالثة ظهرت ثلة من رجال الفكر والبيان بالشام والعراق. وتلا هؤلاء وأولئك عدد من شيوخ الزيتونة وعلمائها، من رجال السياسة وأعضاء الحكومة وخيرة من رجال الإصلاح. وإنه لمن الطبيعي أن نخلصَ من هذا العرض على أهميته، إلى موضوع كتابنا هذا، وهو الحديث عن رجل العلم والإصلاح الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الحفيد. ب - الأسرة العاشورية: ينحدر الإمام الأكبر من أرقى الأسر منزلة، وأعلاها شأناً. درج فيها عنوانَ نجابة وسمو، تكتنفه مخائل النعمة والرعاية، ومظاهر الحب والعناية من والده الشيخ محمد ابن عاشور، ومن جده للأم الوزير العلامة محمد العزيز بوعتور. تلقّى مترجمنا معارفه الابتدائية

بالمنزل بنهج الباشا من مدينة تونس، وبكتّاب سيدي بوحديد الواقع بجوار منزله. وبه حفظ القرآن الكريم حفظاً دقيقاً، وأتقنه طوال عمره قراءة وتدبّراً. وتعلم اللغة الفرنسية ببيته، ووُكل أمرُه في هذا إلى حاذق من حذاق اللسان الفرنسي من المواطنين. أما انتاسبه للتعليم فقد كان أساساً إلى جامع الزيتونة الأعظم. به نال شرف التعلّم والتعليم للمواد اللغوية والشرعية. وتنقل بين حلقاته، جالساً إلى أشياخه أطواد العلم، مرتقياً عن طريقهم بين مراتب الدراسة، حاصلاً منهم على شهاداتِهم له بالقراءة عليهم، لكثير من العلوم التي كان يزاولها الطلاب في عهده، وعلى شهادة التطويع التي تخوّل صاحبها، في ذلك الوقت، حقّ التدريس في الدرجات الأولى من التعليم بالمعهد. ومما حَظِي به رحمه الله الإجازات العلمية الجامعة، التي نخصّ منها بالذكر إجازته في الحديث النبوي الشريف، كتبها له بيده بدفتر شهادات دروسه شيخ الإسلام شيخه وشيخ شيوخه الشيخ سالم بوحاجب. فسمع منه، وأخذ عنه، وكان به حفياً. وقضى الإمام الأكبر حياتَه في جهاد وعطاء. وبذل ما شاء الله له أن يبذل من جهود في مجال التعليم والتدريس. فهو الأستاذ القادر، والمحقق اللامع، يزدحم الطلاب على حلقة درسه. وكان أرقى العلوم لديه هو ما كان يوليه عناية خاصة بممارسته الدائمة له، سواء في ذلك ما كان من علوم المقاصد أو من علوم الوسائل. وهذا ما نوّه به طلبته، وعرَفَهُ منه أقرانه. كان مولعاً بالدروس التي يلقيها بالجامع الأعظم، يرفع بها السجف عن أسرار البيان، ويمكّن طلابه بسهولة من فوائد وفرائد غاص عليها هو، في مصادر البحث ومراجعه. وربما كانت بإشارة شاردة، تَلْفِتُ الأنظار العلمية الدقيقة

إلى ما فيها من علم غزير ومعارف دقيقة. وممّا أكّد هذه الصفات لدى الإمام، حتى كادت أن تكون غريزيّة أو ذاتية فيه، حُبه للمطالعة وإقباله الشديدُ عليها، وحفظُه السريع لما تشتمل عليه الكتب والرسائل التي كان يلتهمها التهاماً. تولّى عضوية لجنة فهرست الكتب بالجامع الأعظم، وعُهدت إليه رئاستها. ووقف على أكثر المخطوطات به مطالعةً، وتوقيفاً، وتحشيةً وتعليقاً، بخط جميل يزري بخط الأصل منها، فيزداد بذلك الكتاب نفعاً للواقفين عليه. وهو بدون شك يفضل النسخ الأخرى العريّة مما حبّره الشيخ بقلمه من ضبط أو إصلاح. وكانت بالجامع الأعظم مكتبتان: الأولى الأحمدية، من إنشاء المشير أحمد باشا الأول، والثانية الصادقية أسسهما المشير محمد الصادق باشا باي. أما الوظائف الإدارية السامية التي تولّاها الإمام الأكبر فهي - بخارج ميدانه العلمي والقضائي - رئاستُه للجمعية الخلدونية، وتولّيه مشيخة الجامع الأعظم الذي عاش له دهراً طويلاً من حياته. ومن خلال ذلك ظهر دوره الإصلاحي للتعليم بالزيتونة. وتجتمع وظائفه العلمية والشرعية في التدريس الذي بلغ فيه الذروة، لا ينازعه في ذلك أحد، لرسوخ قدمه، ودقيق ملاحظاته، وقمة بيانه وعلمه. وسُمعتِه العلمية والأدبية. وذلك ما رشَّحه ليكون عضواً مراسلاً للمجمع اللغوي بالقاهرة، وللمجمع العلمي بدمشق. وولِيَ إلى جانب ذلك الرئاسات الشرعية والقضائية؛ من عضو بالمجلس المختلط، ومفتٍ، وقاضٍ، وشيخِ إسلام رئيسٍ للمجلس الشرعي المالكي. ولا غرو أن يبلغ هذا الشأو البعيدَ من المعرفة والدرس والعلم

ج - حركة الإصلاح الشامل

وهو القائل الموقن بما يقول: إن مزية العلم، وشرفَ الانتساب إليه، أمرٌ بلغ من اليقين والضرورة مبلغاً يقصر عنه البيان، وينتقص قدرَه محاولةُ إقامة البرهان، بعد أن توّجه الله تعالى بكتابه الكريم، وهو الذي علّم من لم يكن يعلم، وزكّى رسوله بأنه على خلق عظيم، وصراط مستقيم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬1)، قولاً جعل طلب العلم، والحرصَ عليه، والاستزادة منه أعظم مطلوب لأشرف موجود. وهكذا كان العلم تاجَ نبوته، وشعارَ ملّته ... وإني لأحمد الله على أن جعلني لا أتعلق بشيء من المناصب والمراتب تعلّقي بطلب العلم، ولا آنس برفقة ولا حديثٍ، أُنْسِي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب، ولا حُبِّبَ إليّ شيءٌ ما حُبِّبتْ إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس، متنكّباً كل ما يجري حولي من المشاغل. ج - حركة الإصلاح الشامل: بعد هذه الكلمة الموجزة عن حياته، تولّينا الحديث عن حركة الإصلاح التي كان مترجَمُنا مسؤولاً عنها، وعن تحقيق نتائج جهوده فيها بإسناد رئاسة الجامع الأعظم له، وقيامه بما يعزّزها في المجالات المختلفة. فكان ما بين غابط وحاسد فيما ظهر فيه باعُه، وحقّقه من إنجازات رائعة، ارتفع بها ذكر الزيتونة في الداخل والخارج، وأصبحت تُدعى بين الكثير من الناس بالقبلة العلمية الإفريقية التي يقصد إليها أهل العلم ويؤمُّها الطلاب من أطراف البلاد. وقد صوّرنا في هذا الباب ردود الفعل المتعاقبة، من ألوان ¬

_ (¬1) سورة طه: الآية 114.

القمع والقهر والإذلال والمحق، التي قام بها في شدةٍ وعنفٍ المستعمرون، وجيشُ الاحتلال ضدَّ منزوعي السلاح المواطنين الذين لا يملكون من الأمر شيئاً. ومرّت إثر ذلك فترة كان يتربّص فيها التونسيون الدوائر بجنود الفرنجة انتقاماً لأنفسهم، ورداً على المظالم التي كانت تقوم بها سلطة الاحتلال الأجنبي من صنوف الإرهاب الحكومي المسلط على المواطنين المناهضين لقوى الغدر والبطش: يقطعون ألسنتهم، ويخلعون قلوبهم، ويبعثون في أجسامهم وأطرافهم الرعشة والرجفة. وإنَّا إذا عُدنا إلى الإمام الأكبر الشيخ ابن عاشور المنحدر من تلك الأسرة المؤمنة، المحافظة، المتمسّكة بدينها وعقيدتها، وإلى ما يجمّلها به دينها من هداية ربانية أساسها التربية الدينية، نلفي من كبير أنجالها الاعتماد الدائم على الكتاب والسُّنة مصدري التوجيه والتشريع، وشعار الحق والصدق والعدل لدى المؤمنين. وقد ألفينا أقطاباً ساعدوه على ذلك من الداخل والخارج منهم الأساتذة: شيخ الإسلام الشيخ سالم بوحاجب ذاك المصلح الفقيه والإمام المحدّث والعالِم اللغوي الضليع، ثم الأستاذ الإمام محمد عبده الذي التقى به عند زيارته الثانية لتونس، وهو مَن هو الداعية إلى النهضة التي شملت الأمةَ وأقطارَ البلاد وامتدت خدماتها للتعليم بالأزهر، وإلى ترتيب وتنظيم وزارة الأوقاف المصرية، والقضاء الشرعي، وترتيب درجاته بما يضمن حقوق القضاة ومصالح المتقاضين. وكانت معرفة شيخنا بالأستاذ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقة لقاءَه بما وقف عليه من مقالاته الدعوية والإصلاحية التي كانت تُنشر بمجلة العروة الوثقى. وهكذا أصبحت سيرته اللامعة

د - جوانب الإصلاح

أنموذجاً يحتذى، ومخططاً متَّبعاً، ومنهجاً ملتزماً سار عليه الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور. ولم يكن النظر إلى الإصلاح ودواعيه محصوراً في حدود بلد معين، بل هو منتشرٌ أين انتشرت أسباب الفساد التي قوضت حضارتنا ومباهجها، وسامتنا الخسف بما ظهر عندنا في البلاد العربية والإسلامية كافة من مظاهر التخلف. وللتعريف بالجانب الإصلاحي وبالجهود التي بذلها الأئمة والعلماء في مختلف البلاد؛ وضعنا باباً خاصاً وفصولاً كثيرة، تصف هذه الحركة الإصلاحية وتبسط القول في قضاياها، وفي المنهج الذي خضعت له، لتكون أمراً ميسوراً تتلقّاه شعوبنا في حماس وتجاوب، هما الأساس في تغيير أحوالنا وخلاصنا من الدرك الأسفل الذي نزلنا به وتردّينا فيه. د - جوانب الإصلاح: إن الجوانب التي نلفت النظر إليها في الإصلاح ثلاثة: هي الإصلاح الذي خرجت به الأفراد والمجتمعات من الظلمات إلى النور، ومن الغواية إلى الرشاد، ومن الغفلة إلى الصحوة، ومن الحيرة إلى ما يكون به صلاح العقيدة وصلاح العقل والفكر وصلاح السلوك والعمل. ولما أراد الله لهم الفيئة إلى الحق زيّن سبحانه أعمالَ الدعاة، ورفعهم منازل سامقة، وجهّزهم بكل ما يحتاجون إليه من توفيق خالص، وهداية واسعة وعلم نافع. يشهد لهم بذلك القرآن الكريم في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة فصلت: الآية 33.

وبقدر ما يكون الإصلاح الاجتماعي متوفرة شروطُه، مُتمازجة خصائصُه، متلاقية أبعادُه ومراميه، يقتضي من المصلحين معرفة الأحوال، وأعراضَ المرض، وأسباب الخذلان، فيحاول بذلك الدعاة تحقيقَ الحاجة الإسلامية، وإقامة الأخوة بين المؤمنين. وقد اتضحت هذه الحقيقة لدى المسلمين كافة، وقرر أصولها علم الاجتماع بما ينبغي أن يتوفّر لدى دعاة الإصلاح من ربط أسباب النهوض والسقوط بما تكون عليه العقيدة والدين. فالإسلام هو دين الله الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يلقِّن العقيدة الصحيحة، ويملأ النفوس طُهراً، والقلوب تمسُّكاً بما جاء به من مبادئ وحقائق وأصول وقيم حملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمانة إلى الناس، حماية للأمة من الذوبان في غيرها، ومما يطرأ عليها من انحراف عن منهج الرشاد، يفقدها هويتها، ويُبعدها عن التمسك بدينها الذي رضيَه الله لها وأتم به نعمته عليها. وإن طريق الإصلاح في اتباع الدين وما أَوحَى به الله. والفطرة تساير ذلك ولا تضاده. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). وقد يكون منشأُ الإصلاح وسبيلُه توفيقاتٍ إلهية منزّهةً عن كل غاية بِقَدْرِ ما يظهر فيها من أدب راسخ في النفس، وبقدر ما يتضح للناس من آثار جميلة معتبرة في إقامة نظام المعاملة بين باعث خير ووازع شر. وهذا المقصد لا يقوم إلا على الحقائق والاعتبارات الحكيمة. ¬

_ (¬1) سورة الروم: الآية 30.

فإذا ابتعد الإصلاح عن هذا الخط، وانبنى على ما تزيّنه الأهواء والاتجاهات المريبة تجافى عن الحق والصدق، وفقد مع ذلك المعنى الديني الذي هو أساسه، ولم نجد بعد الدعامة لتجديد أمر هذه الأمة الذي بشّر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ودعا شيخ الإسلام إلى الإصلاح الكامل حين ذكّر بمحاسن الدين، وبوجوب التمسك بعالميته. فكأنه يريد أن تنتشر - بين الناس كافة - المقاصدُ الطيّبةُ وما يسبقها من وسائل نافعة، ويتبعها من تحول وتغير يَظهر بهما الحقُّ على الباطل، والخيرُ على الشر، والأعمالُ الصالحةُ على المساوئ التي تزاحمها. ومما لفت الإمام النظر إليه، ودعا له، فضائل إسلامية وصفات تشريعية لا يتم صلاح الفرد ولا الجماعة إلا بالحصول عليها، والالتزام بها، مثل: السماحة والوسطية، والعدل والإحسان. وحركة الإصلاح هذه لا بد أن تكون مستندة إلى معرفة، وإلى تفقُّهِ في الدين، ووقوف على خفاياه وأسراره. يشهد لذلك قوله عزَّ وجلّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬1). حقائق سرمدية تتجدّد مع كل جيل، يحملها الدعاة إلى الله، يُسعِدون بها القلوب المتعلقة بربها، فلا تبرح معانيها القيّمة تنتقل من الدعاة المصلحين إلى قلوب مَن أُبلغوا الدعوة واتبعوا السبيل. وقد ضبط الإمام الأكبر للأمة الإسلامية أحوال نظامها الاجتماعي في تصاريف الحياة كلها، تكملة للنظام الديني الذي هيأ أفراد الناس للاتحاد والمعاشرة. ثم دعا المؤمنين إلى تطبيق ما خطط ¬

_ (¬1) سورة التوبة: الآية 122.

لهم من قوانين في العبادات والمعاملات. وأساس هذا التحديد والضبط الإيمان بالله، والاستسلام إليه، والامتثال لحكمه، والتوجه بالعبادة وإخلاص الدين له. فالعبادة في الإسلام، بجميع صورها ومختلف أشكالها، أفعال وأقوال تزكّي النفس وتَبلغ بها حدّ التميُّز والكمال. وهي الحكمة والمقصد الشرعي الذي تقتضيه الفطرة، وتَتَحقق به المصلحة. ويقارن الفطرة في الشريعة الإسلامية وصفان ثابتان هما العموم والدوام. فهي لا تتخلّف، ولكن تتعدد. وعند تعارض المعنيين تحمل على الركون إلى اختيار أعرقهما في المعنى الفطري، وأليقهما بالانتشار بين الناس، وأدومِهما بينهم. وهكذا تقتضي الفطرة وجود أوصاف تحرص على توافرها في تصرفات الناس ومعاملاتهم، يوحي بها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬1). وجاء في الأثر: "خير الأمور أوسطها"، وقال زهير: همُ وَسَطٌ يَرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وفي سلوكيات المسلمين في عباداتهم، ما يرفع من شأن الإنسان، ويزيده زكاءً وطهراً. ولئن ظهرت في تلك الممارسات ما يجعل من الصفات المشار إليها ما هو أعظم نفعاً وأبقى أثراً، فإنه غير خافٍ أنه لا تدرك أسرار ذلك غير طائفة تنساق إلى الفطرة وتتجاوب معها. فالمعاملات أوضح حقائق، وأقرب ملتمساً. وهي ثلاثة أنواع: الأول: ما يتعامل به الناس في خاصّة أنفسهم، ويدعوهم إلى التعامل به على الوجه المطلوب ما يقتضيه الاعتبار من تحقق النتائج ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآية 143.

من جهة، وما يكون به من جهة ثانية من مُحافظة على أصول التعامل في الإسلام. وهذا غير ملزم بالطبع، وإنما هو اختياري كالمجاملات بين الناس، وآداب الصحبة والقرابة المرعية. ومن هذا القبيل مكرمات رغّب فيها الدين لما تدفع إليه الحاجة من زرع التعاون والتآلف والمواساة. النوع الثاني: هو عبارة عن معاملات حقوقية تستوجب في ذاتها الوفاء. وذلك لما يمكن أن تؤول إليه من أعمال قصدية. وينقص هذه صدقُ النظر وصحةُ المعاملة. ومثال هذا النوع ما هو داخل في المعاملات الاعتبارية: النية الطيبة، وحُسن الظنّ بالمؤمن؛ فإنهما من الأمور التحسينية على ما فيهما من تفاوت. وهذه التصرفات: إما واجبة لازمة وفاء بما أنيط به الحكم من مقصد أو حكمة، وإما جائزة غير واجبة يقتضيها ما جرت عليه من حُسن السلوك، أو من ظن مصحوب بإرادة التنازل عن الحق، أو الانتصاف من النفس. وجملة ما يمكن أن تدلّ عليه هذه المواقف المختلفة إزاءَ النصوص الثابتة، وما يثبتها من ممارسة المرء لهذا الحق الانقياد لروح الإسلام وحقيقتِه، ونشر فضائل هذا الدين وبيانها للناس قاطبة. وهل الدين القويم كما ذكر ذلك الأئمة والحكماء إلا سبب من أسباب الرقي وانتشار العمران. وإذا كانت طرق الإصلاح للأفراد والمجتمع بالوجه الذي أومأنا إليه، فإن المنطلق الأهم لإصلاح التعليم، يبقى في واقع الأمر هو الأصل الذي يحيا به الناس، وتدفعهم الرغبة الشديدة إلى تغييره أو استكماله بإضافة الكثير من متعلّقاته، وكمالاته. وهذه الوظيفة لا يقدر عليها غير المجتهدين والمصلحين من العلماء. والإصلاح، وإن بدا مشكلاً معقداً فإنه يستوجب دون تردد

أسباب الإصلاح

الهجوم على أسباب الضعف والوهن، واقتلاع موجبات التأخّر والتخلّف. وهذا لا محالة يقتضي مواجهة كل التحدّيات والمصاعب بعزم وقوة، فلا ينهار عمل المصلحين، ولا ينقطع عن الكر والفر، ويستقيم أمر التعليم ويعطي بإذن الله أكله، وتُجنى ثماره، ويتهيأ به العالمون والمتعلمون لبلوغ مقاصدهم وتحقيق أغراضهم. والإصرار على سلوك هذا المنهج إما أن يقود إلى النجاح وذلك هو المنهج الأقوَم، وإما أن تعترضه عقبات لكن صاحبه يشعر بأنه يؤدي واجبه، لما في عمله من محاولة التأدب بآداب الإسلام، وتمنّي الخير للناس كافة. أسباب الإصلاح: وباستعراض ما ورد في هذا الفصل نرى حركة الإصلاح قد ثبت لها الظهور، وتجدّد من أجلها العمل والسعي أيام المشير الأول أحمد باي. وكانت عناصر كثيرة قد التقت على المطالبة بها والدعم لها. فأول الحريصين عليها الوزير خير الدين، والوزير الشيخ بوعتور، والأستاذ المناضل محمد البشير صفر. ولم يكن الإمام الأكبر في انزواء عن هذا النشاط، وعن الكفاح لخير الزيتونة ومناهج التعليم فيها، وعن المستقبل الباسم الذي يتطلع إليه طلاب معهدها. فلا عجب أن رأينا الإمام، وهو يستقبل أمير البلاد الناصر باي عند عودته من رحلته الباريسية، يدخل عليه وينشده قصيدته في الترحيب برجوعه، داعياً إياهُ إلى المبادرة بإصلاح التعليم بالزيتونة بقوله: رأيتَ تقدماً ورأيت مَجداً ... فَسُنَّ لنا على ذاكم نظاما فهذا العلم يصدع مستغيثاً ... على أركانه يَخشى انهداما فَمُدَّ له يداً كرفيق موسى ... بحكمته جداراً قد أقاما

وضع التعليم في الزيتونة

وإن وراء جُدْر العلم كنزاً ... من العمران يجدر أن يُداما ومثلك لا يبصَّر عن ذهول ... فإن لكم به حظّاً تسامى (¬1) وضع التعليم في الزيتونة: والذي أكّده الباحثون في قضية الإصلاح لن يغنينا ما ورد فيه من سرد لأعمال اللجان التي ظلّت تجتمع على فترات، ولا التصرّفات الإدارية التي واكبت حركة الإصلاح، لكن المهم هو الإشارة إلى جملة من العناصر التي باجتماعها يمكن أن نتصوّر واقع جامع الزيتونة يومئذ. وهذه العناصر هي: أولاً: حال التعليم بالجامع الأعظم. ثانياً: مناداة الطلبة بإصلاح نظام التعليم بالمعهد ومراجعة برامجه. ثالثاً: التساؤل عن الغاية من هذا التعليم. أما حال التعليم، فقد بلغ بجامع الزيتونة حداً من الضعف والوهن، قعد به عما كان يحمله للناس في محيطه من علم وهداية ودعوة إلى الله. وقد أُهمل ضبطُ أنشطته واختلَّ نظامه؛ فلا هو مجدَّدُ المناهج، ولا كتب الدراسة فيه مقرّرة، ولا أوقات التعليم به محدّدة، ولا الشيوخ المدرسون مراقَبون في أعمالهم، تصاحب هذا كله الغفلة عن تنظيم درجات التعليم، وإهمالُ الدروس التطبيقية والتمارين، فتعطّلت الملكات اللسانية أو كادت، وقَلَّ التحصيل. وربما زاد من خطورة هذا الوضع قصور الهمم عن التأليف في أي علم. يصوّر لنا هذا بغاية الدقة، وبالغ الأمانة والقدرة على التعليل كتاب الإمام الأكبر أليس الصبح بقريب. ¬

_ (¬1) محمد ابن الخوجة. الرحلة الناصرية ط. الرسمية تونس 1331/ 1913.

ذكر شيخنا في طالع أول فقرة من هذا الكتاب مناقشته لأوضاع الدراسة والتعليم بجامع الزيتونة. قائلاً: قد كان حدا بي حادي الآمال، وأملَى عليّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف، للتفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربي الإسلامي الذي أشعرتني مُدة مزاولته متعلماً ومعلماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النطاق. فعقدت عزمي على تحرير كتاب في الدعوة إلى ذلك وبيان أسبابه، ولم أنشب أن أزجيت بقلمي في ابتداء التحرير ... وها أنا ذا متقدم إلى خوض بحر، أرى هول أمواجه قد حاد بعقول كثير من ذوي الألباب فولّوا عنه مدبرين، وتكلّموا في إصلاحات نافعة تضمن مصالح المسلمين، لكنها كلها كانت متوقّفة على هذا المقصد الجليل المغفول عنه، وهو مبدأ إصلاح التعليم. ويمثل العنصر الثاني: الطلبة الذين انقسموا على أنفسهم طائفتين: الأولى منهم كانت مع شيوخ المعارضة للإصلاح المنازعين فيه، والطائفة الثانية تنشد الإصلاح، معتقدة أنّ فيه المفزع والمخرج من الوضع المهين الذي آل إليه التعليم بالجامع، وتعطل نفع الخريجين ونفع المسلمين به عامة، باتجاهه في هذه الظروف العصيبة إلى ما عاد بالنقض والإبطال على أصوله وخصائصه، ففسدت طرق التدريس به. وهذا ما كان يعتمده الشيوخ والمدرسون من مناهج هزيلة تخلط على الطلاب أفهامهم، وتحولُ بينهم وبين الحياة. فلا هم مُدركون حقائقها، ولا هم قادرون على مصانعتها والإفادة منها، أو متبنون لها بالوجه الذي يرومون، طامعين في تدريسٍ أفضل يقتضي القدرة على مجابهة المشاكل والتحديات بإرادة ثابتة وعزم ماض. ولا يتأتّى هذا إلا بالاعتماد على تكوينٍ سديدٍ، ومعرفة جيّدة، ودُرْبَةٍ عالية من العلم يُساعد الطلبة على توَفُّرها بالمدرسةِ أو المعهد، أو أي

مكان بقيت به أثارة من العلم الإسلامي. فإنه لا سبيل إلى تغيير الوضع القائم إلا بالقضاء على الانحراف والتقصير في القيام بالواجب. وبهذه الجهود الإصلاحية يكون لزاماً على الأمة أن تعود إلى كتاب ربها وسُنة رسولها، ويعود المعهد إلى القيام بدوره الرائد بتكوين علماء عارفين من جهة بالأصول الإسلامية، والأحكام الشرعية، والآداب الدينية، واتخاذ الطريق المحقق للسموّ الأخلاقي والكمال المعرفي. ومن جهة ثانية بإتقانهم للغتهم العربية وآدابها، وما يمكن أن يحصلوا عليه من إحاطة بتاريخ الأمة وتصوّر دقيق لأوضاعها. وإن تاريخ الزيتونة ليشهد بأن هذا المعهد لم يخلُ في أي عصر من العصور من سعي حثيث إلى تكميل مدارك خريجيه تكميلاً يؤهلهم لمسايرة أحوال مجتمعاتهم وتوجيهها. ونحن اليوم في عصر يكاد يكون المجتمع الإنساني فيه واحداً في أي قطر من الأقطار؛ بسبب ثورة المواصلات والاتصالات المتنوعة المتطورة. ولهذا أثره في ارتباط حاجات الناس ومصالحهم بعضهم مع بعض. ولا يتم لهم هذا الغرض إلا إذا تأتّى لهم الصعود في جو الثقافة الإنسانية إلى مرتقى لا يقعد بهم عن مجاراة أرقى الأمم إحاطة بجوانب الحياة السعيدة .. وهذا بالقطع ما نادى به الشيخ ابن عاشور من جعل ما كان يطلب من العلوم تكملةً لموادها في عداد الواجب. ورغم المعارضات الكثيرة التي قامت في وجه الإصلاح من طرف بعض أعضاء الحكومة، ومن العناصر المحافظة، جرت مفاوضات كثيرة في لجان الإصلاح، وتمَّ ما عمل من أجله الإمام من تقسيم التعليم الثانوي بالزيتونة إلى شعبتين أصلية ومعاصرة.

ونتساءل عمن هو قادر على الاضطلاع بمهمة إصلاح التعليم، فلا يكون من سبيل إليه إلا بحصول أمرين أساسيين هما: شروط القيام بالإصلاح، وبيان الغاية من التعليم في جامع الزيتونة. أما شروط القيام بالإصلاح فهي كما صرح بذلك الإمام الأكبر في خطبه الكثيرة، وبخاصة في خطابه الموجّه إلى دعاة الإصلاح بقوله: أن يكون الراغب في الدعوة وفي القيام بإصلاح التعليم مؤهَّلاً للاضطلاع بالعمل الإصلاحي في ميدان التعليم. ومن أهم شروط هذا التأهّل: أن يكون ممن أنشأه هذا التعليم نفسُه، عارفاً بحاجات الزمان، وغايات العلوم، نظّاراً إلى الروح لا إلى الجثمان، بعيداً عن متابعة السفاسف، خبيراً بما أصاب مزاج التعليم من العلل وبأنواع معالجتها. وأما الشرط الثاني فهو أن يكون المصلح صادقاً مخلصاً، صبوراً مثابراً على أداء واجبه، قادراً على إقناع من حوله من الناس بضرورة الإصلاح؛ فلا يتغافلون ولا يتقاعسون ولا يعرضون أو يمتنعون عن معاضدته، بل يشدّون على يديه، ويبذلون الوسع في التعاون معه لتحقيق الغاية وبلوغ القصد. وقد رسم للدارسين والخريجين الهدف من وراء دراستهم للعلوم الشرعية واللغوية ونحوها قائلاً: إن غاية الغايات من التعليم الإسلامي، وأسنى المقاصد للتعليم الزيتوني هو إنتاج قادة للأمة في دينها ودنياها، وهداةٍ هم مصابيح إرشادها، ومحاصِدُ قتادها، ومُهدِّئو نفوسها إذا أقلقها اضطرابُ مهادها. ويحسُن بنا ونحن نواصل القول في إصلاح التعليم الزيتوني أن نلفت النظر إلى عمل الإمام الأكبر في هذا المجال. وهو ما أومأنا إليه قبل، فنتحدث عن الأساتذة، وهم درجات. ومن وصف الإمام

لهم يَتَبَيّن لنا أن مَن يُحسن التعليم منهم قليل، لما كانوا عليه من فوارق وتفاوت في الدرجة العلمية. وقد زاده اضطراباً انصراف الطلبة في الغالب عن الدرس وانقسامهم على أنفسهم، متأثِّرين بالقسم الأول أو بالقسم الثاني من الشيوخ. وتتأكد الإشارة هنا إلى أن هذا التعليم الإسلامي كان هو الوحيد يومئذ بالبلاد التونسية، وأن أحسن مَن تناوله بالنقد والتوجيه الإمام الأكبر. وهو كما يظهر لقراء أليس الصبح بقريب، يعالج قضايا العلم والتعليم، ويبدو لمن يطالعه أنه لم يترك قضية من القضايا الهامة إلا تعرض إليها. وذلك مثل: 1 - إيواء الطلبة في أوقات الدروس، وإقامتهم بمدارس سكناهم. 2 - نظام الالتحاق بالجامع، أو التراتيب الإدارية المتعلقة بالانتساب إليه تعلُّماً وتعليماً، مع تفصيل القول في دفتر الشهادات، وأوقات التعليم، والإجازات التي يتمتع الطلبة فيها بالراحة والانقطاع عن الدراسة. 3 - قضايا التعليم: الوضع قبل مرحلة الإصلاح الأولى؛ الطلبة، المدرسون، الكتب الدراسية، لجنة إصلاح التعليم، قائمة الكتب الدراسية، وما طرأ عليها من تطوير باختصارها حيناً، والتنقيص منها أخرى، والاستدراك عليها ثالثة. ونعود إلى كتاب الإمام للوقوف على نقد أوضاع التعليم بالزيتونة، والدعوة الصريحة للإصلاح. فنرى أن الواجب يفرض علينا الإمعان في دراسة جملة من الجوانب المختلفة الأساسية التي كانت عليها الزيتونة، مع البحث عن أسباب الضعف والتأخر في هذه الجامعة العتيقة التي مر على تأسيسها ثلاثة عشر قرناً، وكان أول

عوارض التأليف والتعليم

درس ألقي بها بجامع الزيتونة درس الشيخ العالم الصالح علي بن زياد صاحب الإمام مالك لكتاب الموطأ رواية عن مؤلفه. عوارض التأليف والتعليم: عني رائد الإصلاح بالكشف عن أسباب ضعف التعليم وتأخّر العلوم كما سيرد مفصلاً في المطلب الثالث من القسم الرابع من هذا الجزء. وتولّى بجرأة فائقة نقد العلوم وإبداء بعض ملاحظاته فيها، متعرِّضاً إلى الكتب والمصنفات، مبيناً ما فيها من غلط وخطأ واضطراب، يحمل الباحثين على تغييرها، ويبعث همم الأساتيذ والأخصائيين في كل فن إلى وضع كتب دراسية أخرى أسلمَ وأيسرَ منالًا بَدَلَها. وهذه الظاهرة تكاد تكون عامة في كتب الوسائل والمقاصد (¬1). ومما تجدر الإشارة إليه من تتمة العوارض أمثلة مما كان يجري في عصره وقبل عصره كالذي وقف عليه الإمام في تفسير عبد العزيز الدباغ، وعند الشيرازي في ديباجة شرحه للمفتاح، وفي شرح التلخيص، من أوهام، تتصل بالأحكام التي يتخيَّلونها في أحلامهم وقد كُشف عن مغلقاتها. فيثقون بأنفسهم وهم رقود بما كانوا يشكّون فيه وهم أيقاظ. وحين ضاق بأقاويل الإمام النقدية بعض المتعالِمين وأفحمتهم الحجة حاولوا الاعتذار عن كل ذلك بقولهم: إن كتب التعليم عندنا لم يضعها أصحابها لغرض التعليم، وإنما لكل واحد من المؤلفين ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث عن هذا مفصلاً في القسم الرابع في مطالبه النقدية الأول والثاني والثالث: 222 - 242.

طريقة توخّى بها ما اعتقده الأصح للناظرين. ولم يلتفت أكثرهم إلى وجوب النقل من التليد. وكل هذا كان مدعاة لتوارث العقول ذلك الاختلال واعتياد التشتيت. وأعظم إضراراً من ذلك نال كتب المرتبة الابتدائية؛ فانظر إن شئت كثيراً منها في حِلَق التدريس تَرَ مَدّ الأعناق وألسنةً تلوكها الأشداق وصياحاً يملأ السبع الطباق، ثم لا تَنال بعد الزمن الطويل إلا سواد أوراق (¬1). وفي عرضه للعلوم المختلفة كاد يخص العلوم الإسلامية وحدها بالتعريف. وجعل منها علوم المقاصد؛ وهي خمسة: التفسير، والحديث، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام. وعلوم الوسائل؛ وهي ستة: اللغة، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع. وعلوم مساعدة تكميلية هي: الفلسفة، والعلوم الرياضية. وفي لمحة تاريخية عن هذه العلوم الإسلامية، يذكر أن المسلمين بعامة، والعرب بخاصة كانوا يبدؤون تعلمهم بحفظ القرآن، وجمع الأحاديث النبوية، وتلقي ما ألقاه صاحب الشريعة من توقيف على آحاد المسائل، ثم ارتقوا في حدود سنة عشرين إلى اكتساب المسائل، فتخصصوا، وقيّدوا النصوص، واستنبطوا الأحكام باعتماد ما يشبه قياس الشبه أو التنظير أو تنقيح المناط. وبعد ذلك بحثوا وقاموا بالتصحيح والتعليل ولكن لما استنبطوا واستحسنوا لا لأصل الدين، إذ لا تقبل الشريعة الطور الرابع (¬2). ويعقب الإمام على هذا ¬

_ (¬1) ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 171. (¬2) ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 175.

المنهج الذي سار عليه الأسلاف قائلاً: إن العلوم ما دونت إلا لترقية الأفكار وصقل مرائي العقول. وإن القصد من النظر في كل علم هو إيجاد الملكة لإصلاحه. وبعد النظرة العامة التي شملت كل العلوم الإسلامية يُحدِّد الإمام موضوعاته قائلاً: أما الآن فالغرض الإلمام بأسباب تأخُّر كل علم في ذاته حتى يكون من بحثنا لها نبراس نضيء به مسالك ما ينتحيه الأساتذة، وما يهجرونه في أوقات المطالعة والتحرير، وليكون ذلك أيضاً تمهيداً لتأليف كتب قيّمة (¬1). * * * وآثار الإمام الأكبر وإنتاجه غزير ومتنوع. نجد صورة ذلك فيما دونه في مختلف العلوم، شرعيها كالتفسير والسيرة والسُّنة وأصول الفقه ومقاصد الشريعة والفقه والفتوى في مسائل العبادات والمعاملات، وفيما استجد من مسائل مختلفة، وفي العقيدة وعلم الكلام. وفي علوم اللغة العربية والبلاغة والأدب وما صدر له من شروح وتحقيقات في ذلك. وسنخصّ بالبحث هذا الجانب العلمي بشيء مما أتيح لنا من تفصيل القول فيه بإذن الله في القسم الخامس من هذا الجزء. * * * ¬

_ (¬1) ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 184.

القسم الأول حركة التجديد في بلادي المشرق والمغرب

القسم الأول حركة التجديد في بلادي المشرق والمغرب

تونس ما بين إيالة ومملكة وجمهورية جمادى الأولى 1296 - رجب 1393 = سبتمبر 1879 - أوت 1973

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في خلال هذه الفترة القصيرة من عمر التاريخ التي يلتقي طرفاها على نحو قرن من الزمن، انحسرت الأيام عن أحوال واضطرابات وأوضاع وانتكاسات، زلزلت العالَميْن الإسلامي والعربي بسبب ما حاق بالدولة العثمانية، رغم ما قامت به في آخر الأمر من إصلاحات ودعت إليه من تنظيمات (¬1)، من تداعٍ وتفكك وضعف ووهن. فانفرطت ولاياتها واحتجب سلطانها، ودخلت الواحدة منها تلو الأخرى تحت هيمنة الغرب والحكم الأوروبي. وأطاحت القوات الانفصالية؛ جمعيةُ الاتحاد والترقي، وحزب تركية الفتاة بباقي هياكل الخلافة، وزحفت الدول الاستعمارية على البلاد العربية، وتحوّلت الخارطة السياسية للولايات العثمانية، وأصبحت مناطق نفوذ أجنبي فرض نفسه عليها، حين فقدت المَنَعَة الذاتية والحامي والنصير. إن ما أصاب العالم الإسلامي والعربي في أوائل تلك الفترة، بسبب الوضع الجديد الذي سحق عاصمة الخلافة، لهو أشد خطراً ¬

_ (¬1) التنظيمات الخيرية بتركيا 1839 م، خط شريف كلخانة، خط همايون، قانون أساسي. هي جملة إصلاحات اعتمدتها الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر، تقضي أولاً بتعويض عساكر الإنكشارية بالعسكر النظامي، وبقطع دابر أمراء الإيالات، وبضبط السياسة الشرعية بإعانة من رجال الدولة وعلمائها العاملين، وبإحداث أنظمة كقانون إدارة مصالح الإيالات. انظر دائرة المعارف الإسلامية (1): 4/ 689 - 693؛ خير الدين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق المنصف الشنوفي: 1/ 165 - 186.

وأبعد أثراً في حصول ذلك التحوّل. فقد أكّد المؤرِّخون أن الدولة العثمانية التي كانت أحوالها تسوء يوماً بعد يوم لم تسْعَ بجدٍّ إلى تطوير البلاد التابعة لها نحو الأفضل، وأنّى لها ذلك؟! ولكنها تركتها في الواقع ضحيّة لمشاكلها المزمنة، وأنظِمتِها الاجتماعية والإقطاعية الظالمة، حتى إذا جابهتها وجابهت الولايات المرتبطة بها المعركة العاتية - معركة التقدّم على كل الجبهات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية - وجدت السلطنة نفسها في أعقاب الحرب المدمّرة، وإثر المخططات الماكرة، تمثل عالماً واسعاً ممتداً بين القارات الآسيوية والأوروبية والإفريقية يتكوَّن من دول ممزَّقة وشعوب مفتَّتة تشكو جميعُها الفقر والجهل والمرض والتخلف وقلة الحيلة (¬1). واختار الكماليون الانحسار في حدودهم الترابية التركية الضيّقة، وقطعوا صِلاتهم بشعوب ودول الخلافة. وقامت الجمهورية عقب الإمبراطورية، وتنكّروا لكل المقوّمات غير الطورانية، واندفعوا يقلّدون الغرب، ويأتمّون به سياسياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً. وكأنهم لم تكن تربطهم صلة بمقوّمات الحضارة الشرقية الإسلامية التي دانوا لها وأقاموا عليها قروناً طوالاً. وإذا التفتنا إلى الولايات أو الإيالات، التي كانت مرتبطة بها ثم انفصلت عنها، لمسنا آثار التطوّرات والأحداث المتسارعة بها صدًى لما كان يجري فيها. وفي تونس التي كان يحكمها من قِبَلِ الدولة العليَّة محمد الصادق باشا باي الثاني عشر للدولة الحسينية، عزَل هذا الحاكم وزيرَه الأكبر المصلح خير الدين باشا صاحب كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، كما فصَله عن رئاسة اللجنة ¬

_ (¬1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 184.

المالية (الكومسيون المالي) (¬1). وانتقل هذا الأخير إلى الآستانة، وولي بها رئاسة اللجنة الاقتصادية والمالية، ثم عيّن صدراً أعظم لدولة الخلافة (¬2). وبفصله عن مراكز النفوذ في بلاده واضطراره للاعتزال عنها والالتحاق بالآستانة خلا لمنافسيه الجوُّ في معالجة ما تردّت فيه الإيالة من أزمات مالية واقتصادية واجتماعية وصحيّة، وفق ما وضعوه من مخططات وارتأوه من مبادرات مشبوهة. وهكذا استفحل الأمر بعد ذلك باختلال ميزان الدولة أكثر مما كان عليه، وبمزيد حرص الباي وحاشيته على الاقتراض من الدول الأوروبية. وفُرضت الجبايات وأنواع الأداءات المجحفة على الشعب، وظهرت الفتن والثورات في أطراف البلاد. وصحب هذا الوضع ازدياد الغزو التجاري الأوروبي في مختلف الجهات، وتعطّل العمل بالتنظيمات التي وضعها خير الدين لتشمل القضاء والفلاحة والتجارة والاقتصاد والأداءات والأوقاف والتعليم (¬3). وعمت البلاد الفوضى، واكتنفت الناس الحيرة والمخاوف آخر الأمر بانتصاب الحماية الفرنسية واستلاب السيادة القومية، وقيام حكم جديد في البلاد أساسه الطمع والحقد والبغضاء، وآثاره الاستبداد والمهانة والتبعية. ومرت لتحقيق ذلك أحداث وأحداث أتت على الأخضر واليابس؛ استمرت من 1298/ 1881 إلى إعلان الاستقلال وخروج البلاد من محنتها 1375/ 1956 (¬4). ¬

_ (¬1) ج. س. فان كريكن. خير الدين والبلاد التونسية (تعريب البشير بن سلامة): 169 - 170؛ المنصف الشنوفي. تمهيد كتاب أقوم المسالك: 1/ 23. (¬2) المنصف الشنوفي. تمهيد كتاب أقوم المسالك: 1/ 23. (¬3) المرجع السابق: 1/ 22 - 23. (¬4) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 21.

وإن السلطة الجديدة الفرنسية، رغم عنادها وشدّتها وما ابتدعته من ألوان التصرف الاستعماري البغيض، لم تقوَ على اقتلاع الشعب من جذوره، ولا تمكّنت من القضاء على هويته، ولا أفلحت في إغرائه وتلهيته عن مقوِّمات عزّته، أو صرفه عن أمجاده وبطولاته، أو تهوين إسهاماته الحضارية المتميّزة في نفسه. أجل قامت السياسة الفرنسوية على الاستحواذ على كل شيء، وعلى الاستبداد بكل شيء. فالسلطة السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية كلها بيدها لا يمثل التونسي من ذلك شيئاً .. فليست الهياكل السلطوية سوى أجساد خاوية جامدة يحرّكها المستعمر، ويقتصر دورها على تنفيذ إرادة المحتلَّ فيما يعود إليها من شؤون. فلا إرادة ولا قدرة لها، وإنما هي مجرد آلات وهمية طيِّعة، لا تتجاوز وظيفتها ما أنيط بها من ردِّ الأمور - إذا دقَّت - إلى "الحاكم الأجنبي" السلطة العليا، ليزنها بميزان نظره ورغباته وتقديره للمصالح. فلا الباي ولا وزراؤه ولا العمال (الولاة) ولا مساعدوهم يسبِقون بالقول المقيمَ العام والكاتب العام والمراقبين وأعوانهم في شيء. والمحاكم الفرنسية والمختلطة تتقدم القضاء التونسي في جميع صوره ودرجاته. وشؤون الدولة الخارجية والأمنية والعسكرية ونفوذها كلها من خصائص دولة الحماية. وتزيد من ويلات هذا الوضع البغيض عمليات السلب وانتزاع الأراضي الزراعية والأوقاف العامة والأملاك من أهليها بشتى الطرق والوسائل. والإمعان في تفقير المواطنين، ونشر الذلَّة والمهانة بينهم، وإقامة الأنصاب والتماثيل في الشوارع ومفترقات الطرق، إشادة بالسلطات الاستعمارية الغاصبة القاهرة، وتذكيراً وتأكيداً لسياسات القمع الظاهرة المتميَّزة في كل مجالات الحياة في أرض الحماية، من

تصرّفات عنصرية حاقدة جائرة كالثلث الاستعماري (¬1)، وما كان يقابلها من حركات التجنيس ووقائع الزلَّاج (¬2)، أو يتبعها من ألوان السخرة للعمال والمستضعفين، إلى إمعان في التجهيل، وصدٍّ للمواطنين عن سُبُل الكرامة، وصرفهم عن التمتع بأدنى الحقوق التي شرعها الله لهم في بلادهم حتى لكأنهم غرباء بين أهليهم، أجانب في أوطانهم. وقد دُبّر ذلك الأمر بليل؛ فإن إنجلترة، وقد بدأت تفكّر في التوسع الاستعماري، وتتنازع مع غيرها من الدول الأوروبية، كما ألمعنا إلى ذلك، تلقّت من بسمارك اقتراحاً في شهر أبريل 1878 م باستعمال تونس عملة تبادل بينها وبين فرنسة للحصول على قبرص (¬3). وأكّد ذلك سلسبري بقوله في مؤتمر برلين للوفد الفرنسي: "خذوا تونس إذا شئتم، إن إنجلترة سوف لن تعارض في ذلك بل ستحترم قراركم" (¬4). وشيئاً فشيئاً تحصّلت فرنسة على الحرية الكاملة للعمل في تونس على حساب السيادة التركية. وكُلِّف روسطان بترتيب الحماية. وتعلّل الفرنسيون بأسباب ملفّقة، وفرضوا على الباي بعد اكتساح التراب التونسي معاهدة الحماية (¬5)، ولم تُجدِ استغاثة والي ¬

_ (¬1) مِنحة إضافية تسند للموظفين الأوروبيين وحدهم تقدر بثلث جراياتهم. (¬2) أكبر مقبرة بتونس في طريق الضاحية الجنوبية، جرت بها أحداث دامية حين أرادت حكومة الحماية الفرنسية فرض دفن المتجنسين بالجنسية الفرنسية بها. (¬3) عبد الرحمن تشابجي، المسألة التونسية والسياسة العثمانية (تعريب عبد الجليل التميمي): 45. (¬4) نفس المصدر: 54. (¬5) ابن أبي الضياف. إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس؛ محمد الفاضل ابن عاشور، الحركة الفكرية بتونس.

تونس بالدولة العليَّة ولا نداءاته المتكررة إلى الدول التي أمضت معاهدة برلين إجابة منها. وتواصل تقدم الجيش الفرنسي حتى دخل قائده قصر الباي مصحوباً بكتيبة من جنود الخيّالة. واعترف باشا تونس بأنه وقّع المعاهدة تحت وطأة التهديد مشيراً إلى أن ذلك يطعن في شرعيتها. وكانت إجابة الجنرال: "أسجل رضاءكم بدون أن أهتم بردود فعلكم" (¬1). ولئن عجزت السلطة الرسمية عن مقاومة هذا الاحتلال لعدم وجود أية مساندة خارجية تذكر، وللعجز المادي عن مواجهة قوى الاستعمار الكثيفة، فإن سكان البلاد الذين لم يسكتوا عن الضيم من قبلُ مع باي الأمحال وجباة الأموال من أعوانه ومساعديه (¬2)، أوقدوها ثورة متأجِّجة. وكانت الانتفاضة الشعبية لتعزيز القوات المسلحة بالإيالة. واندلعت الاضطرابات في كل جهة، وظهرت بالجنوب حركة تلقائية امتدت من صفاقس إلى القيروان كما أعلنت قابس وجربة وجرجيس الانتفاضة مثل صفاقس (¬3). ولكن سرعان ما طغت القوة المادية على روح البذل والتضحية، وقامت الموازنة بين القبيلين المهاجم والمدافع. وبسبب هذه النتائج انكبّ رجال الإصلاح على دراسة علل هذه النكبة، وظهرت ثُلَّة من المفكرين والقادة اشتهروا بدأبهم على انتهاج طريق التحول وسبيل الإصلاح لتجديد المقاومة للعدو وافتكاك السلطة وتطهير البلاد وحماية العباد من الغاصبين المستبدِّين. وكان ¬

_ (¬1) نفس المصدر: 130. (¬2) أحمد بن أبي الضياف. الإتحاف: 6/ 35 وما بعدها. (¬3) عبد الرحمن تشابجي: 152 - 157.

أول دافع لهم للتحرك وتنظيم الصف والإعداد للمواجهة آيتان كريمتان ظلَّتا تسيطران على أولي النهى من المؤمنين الصادقين والدعاة الصالحين: الأولى قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، والثانية قوله عزّ وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (¬2). وبدأ المفكِّرون والعلماء بالدعوة والتوعية وتأكيد الارتباط؛ ارتباط المواطنين بمقوِّمات هويَّتهم وأسباب عزّتهم. وتجدّدت روح الإيمان في النفوس - والإيمان أساس المواقف الصادقة والبذل والعطاء - وتَمسّكَ المناضلون بعقيدتهم، والتَزموا أوامر دينهم، ونَشرَ المصلحون أصول النهضة، وبنوا أسس وحدة الأمة، وغرسوا أسباب التقدم والرقي. وظهر بالآستانة وتونس مناصرو التنظيمات من الشيوخ والعلماء أمثال شيخ الإسلام أحمد عارف بإسطنبول، والعالم الصالح الفقيه الزاهد الشيخ إبراهيم الرياحي بتونس (¬3). وساندت هؤلاء جمهرة من رجال الفكر والعلم والسياسة كالشيخ محمود قابادو مدير المدرسة الحربية بباردو، وشيخ الإسلام سالم بوحاجب، والأستاذ المحقِّق الشيخ محمد النَّخْلي، والمؤرخ أحمد ابن أبي الضَّياف صاحب الإتحاف، والوزير المصلح خير الدين باشا التونسي. وكان اعتماد هذه الثلّة المناضلة، في توجيه المواطنين، وبناء ¬

_ (¬1) المنافقون: 8. (¬2) الأنفال: 60. (¬3) خير الدين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك: 1/ 167 - 168.

الثقة في نفوسهم وشحذ أرواحهم وملكاتهم، على نشر العقيدة الصحيحة وأحكام الشريعة المطهَّرة بين الخاصة والعامة، والعمل الجاد من أجل إصلاح الحكم في البلاد، والدعوة إلى الاقتباس من الدول المتقدّمة الراقية، والشعوب المتحضّرة المتمدّنة، أسبابَ القوة والظهور، ووسائلَ الرقي والتقدّم في كل المجالات العمرانية والصناعية والاقتصادية وغيرها (¬1). ذلك أن العقيدة أساس وحدة الأمة، والشريعة ميزان العدل، بهما ضمان مصالحها ومنطلق القوة والمنعة فيها. فهي تحتوي على تعاليم دقيقة واضحة. وازدهار الأمة وانحطاطها يرتبطان أشد الارتباط باتباع قواعد الإسلام أو التنكب عنها (¬2). وهي الفيصل بين الحق والهوى، والصلاح والفساد {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (¬3). والسياسة الشرعية هي الأحكام التي تنظَّم بها مرافق الدولة، وتُدار بها شؤون الأمة، مع مراعاة أن تكون تلك الأحكام مشتقة من روح الشريعة، نازلة على أصولها الكلية، محقّقة أغراضها الاجتماعية، ولو لم يدل عليها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنّة. وبالالتزام بالمنهج الديني الإسلامي تذاد صور الجور والفتن، غير أن ذلك لا يتم إلا بتوافر العدل والحرية اللذين هما أصلان من أصول الشريعة (¬4). وللتأكيد على هذا دعا خير الدين، في أقوم المسالك، وفي كثير من مقالاته وتصريحاته من أجل إصلاح الحكم، وتثبيت قواعده، والتوجّه به إلى صلاح الأمة ¬

_ (¬1) المنصف الشنوفي. تمهيد أقوم المسالك: 1/ 63 - 70. (¬2) ج. س. فان كريكن: 121. (¬3) المؤمنون: 71. (¬4) خير الدين. أقوم المسالك: 1/ 131.

وخير المجتمع. وإنه لمن الواجب الجزم بأن مشاركة أهل الحلّ والعقد للملوك، في كلّيات السياسة، مع جعل المسؤولية في إدارة شؤون البلاد على الوزراء المباشرين لها، بمقتضى قوانين مضبوطة، يراعى فيها حال المملكة، أجْلَبُ لخيرها وأحفظُ لها (¬1). وأما الدعوة إلى الاقتباس من الغرب، وهي ظاهرة الحداثة التي تكمل الجانبين الأولين الممثلين للأصالة في المجتمع الإسلامي، فإن الإلحاح عليها كانت تنطق به مقدمةُ أقوم المسالك، الداعية إلى الأخذ بسببين اثنين: أولهما: إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسة والعلم بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصّلة إلى تحسّن حال الأمة، وتنمية أسباب تمدّنها، وتمهيد طرق الثروة، وترويج سائر الصناعات، والقضاء على البطالة. ثانيهما: تحذير ذوي الغَفَلات، من عوام المسلمين، من تماديهم في الإعراض عمّا يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا. وقد قال الشيخ المواق من قبل: "إن ما نهينا عنه من أعمال غيرنا هو ما كان على خلاف مقتضى شرعنا"، وقال ابن عابدين: "إن صورة المشابهة فيما تعلّق به صلاح العباد لا تضرّ" (¬2). تلك هي الاتجاهات الأولى التي سارت عليها حركات الإصلاح في البلاد التونسية قبيل صدمة الاحتلال وبإثرها. وكان الإمام محمد عبده يلاحظ ما ينشأ عن ذلك من تقارب مع سلطة الاحتلال تمثّله "فئة من الناس وَطَّنت النفس على الاقتناع بتفوّق ¬

_ (¬1) خير الدين. أقوم المسالك: 1/ 137. (¬2) المرجع نفسه: 1/ 126.

هؤلاء الدخلاء، وأخضعت حياتَها لسلطان حياتهم. فتطلّعت إلى الأخذ بما هم عليه من ثروة أو بهجة أو لذة على قدر ما تسمح لهم به وسائلهم". فنادى بجهير صوته: "فنيت مذاهب الطامعين أزماناً ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما كانت تنكرها الأنفس ثم الْتَوَتْ. أوغلَ الأقوياء في سيرهم بالضعفاء من الأمم حتى تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم وخرجوا بهم عن محيط النظام، وبلغوا بهم من الضيم حدّاً لا تحتمله النفوس البشرية. وإنّ الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف، ثم صالت عليها قوة أجنبية أزعجتها، ونبَّهَتْها بعض التنبيه. فإذا توالت عليها وخزات الحوادث وأقلقتها آلامها، فزعت إلى استبقاء الموجود ورد المفقود، ولم تجِد بدّاً من طلب النجاة من أي سبيل". ومن هنا كان حتماً أن يذكر الساسة والدعاة ما صار إليه المسلمون من الانحطاط بعد العلو، ومن الضَّعف بعد القوة، ومن المرض بعد الصحة، ومن الذلّة بعد العزّة، فإن سببه صدوفُهم عن عقيدتهم الصحيحة، ودينهم السمح، مقوِّم جماعتهم وأساس وحدتهم. وإن السعادة الحقيقية لهي طلبة الإنسان الأصيلة في حياته على الأرض لا يجوز أن تلتمس - كما قال جمال الدين الأفغاني - إلا في الدين الخالص الذي هو الإسلام. فالدين هو الذي يتيح للإنسان الارتقاء فوق مراتب البهيمية الدنيا لإدراك صورة مهذبة كاملة سعيدة لا يستطيع أن يحقِّقها أيُّ طريق آخر في الحياة. والدين هو الذي يسمح ببناء نظام اجتماعي متماسك متَّحد يسعى لخير المجموع وسعادته داخل إطار المجتمع البشري الخاص والعام على حد سواء (¬1). ¬

_ (¬1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 171.

وليس حقاً ما علّل به الغرب هجمته الشرسة على الإسلام من حيث كونه ديانة مضادة للتمدُّن (¬1). فقد رد الأفغاني ومحمد عبده على هذه الدعوى التي انطلقت على لسان رينان وهانوتو وفرح أنطون وأمثالهم، وكَشَفَ الغلاييني عن روح المدنية في الإسلام، وأكد محمد فريد وجدي أن المدنية الحديثة تتقرب باستمرار، إن لم يمسها التواء أو انحراف، من روح الإسلام الحقيقي. وسارت الأجيال جيلاً بعد جيل على مدى هيمنة الحكم الأجنبي بتونس، تتبع طلائعُها المسالك التي انتهجها رواد الإصلاح الأولون. وبقدر ما أظهر الغاصب من خطط سياسية ماكرة، وتظاهر به من دعاوى التغيير والإصلاح كان المناضلون، كلّ من موقعه، ومكان عمله، ومركز نشاطه، يحيط تلك التدابير والتصرّفات بما تتطلبه من صمود، وتمليه من تحركات. وامتلأت النفوس، نفوس الخاصة والعامة، بما مسَّها من قهر وعدوان وهضيمة، وبشعور قوي بالحاجة الملحّة إلى دفع كل صور الظلم، ومواجهة التحدّي، من أجل تعديل الوضع، ورفع الأسر، واسترداد الحق، واستعادة الكرامة والحرية. وبما ترسّخ في روعهم من وجوب اكتساب أو استرجاع شروط كمال السعادة للأمم التي لا تحصل إلا بتقويم المنهج العقدي الإسلامي، وتطهيره مما يشين العقول من لوثة الأوهام وكدر الخرافات، واعتماد سبيل المؤمنين في منهجهم الذي دعا إليه الله على ما به من توجه النفوس إلى بلوغ أعلى مراتب الكمال الإنساني تطبيقاً لخلق القرآن، والتزاماً بالسنّة المطهرة والقدوة الحسنة، ¬

_ (¬1) نفس المرجع: 411 - 412.

والاحتكام إلى العقل، الهبة الإلهية النورانية التي تعصم النفوس من التقليد وتحمل على النظر والاستدلال في طلب الحق والتوصل إليه، والأخذ بأصول التربية الإسلامية التي تخلّص النفوس من سلطان الشهوة وتهذّبها بالمعارف الكاملة والفضائل السامية (¬1). شقّ الدعاة سبيل الإصلاح، وحرصوا على تحقيق النهضة الشاملة التي تسدّ على العدو الطريق، وتقرّبهم من الغاية التي رسموها لأنفسهم من أجل تقدُّم مجتمعاتهم وتحرير أوطانهم. ففي مجال التعليم كان الانصراف كلياً إلى أعظم معالم المجد القومي في البلاد التونسية، وأجمعها للمعاني التي تمثِّل عظمة الماضي وضمان الحاضر ونجاح المستقبل، وذلك المعلَم هو جامع الزيتونة. فإنه باعتبار كونه أعظم مساجد العاصمة يُمثل قدسية الدين، وباعتبار كونه أقدم مبانيها يمثل عراقة المجد، وباعتبار كونه معهداً تعليمياً يجمع علوم الملة ويخرّج حفظتها، يُمثل عظمة الحضارة الإسلامية وسلطان الثقافة العربية. فليس بدعاً أن الأمة التي تحرّك شعورها بالقضية القومية، واتصلت بحركة الارتقاء الثقافي، أن تجمع على تقديرها وإجلالها للمَعْلم الشامخ الذي تتمثل فيه عظمة ماضيها ممتزجة بثقافة عصرها. فهي إذا أرادت التسلّي عن أكدار حاضرها المؤلمة باستعادة ماضيها السعيد اتجهت بها تلك الإرادة اتجاهاً شعورياً وغير شعوري إلى جامع الزيتونة (¬2). وبرزت العناية بجامع الزيتونة في المحل الأول، وتنادى الشيوخ والطلاب بإصلاح التعليم ومراعاة أحوال الطلبة، ومراجعة ¬

_ (¬1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 169. (¬2) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 214.

مناهج التدريس، ودعم العلوم الإسلامية، مع التأكيد على تطويرها والتقدم بها غرضاً ومنهجاً، وإضافة كل ما تمس إليه الحاجة من العلوم الإنسانية والرياضية والطبيعية والتطبيقية (¬1). وقامت إلى جانب ذلك المطالبة بتعميم التعليم ومجانيته. وبعد تأسيس المدرسة الصادقية 1291/ 1874 التي التحق خريجوها الأولون بالمدارس الثانوية ودور المعلمين الابتدائية بفرنسة 1897 - 1898 (¬2). وبعد إنشاء المدارس الفرنسوية العربية التي قامت بالتخريج الشكلي للناشئة التونسية بعيداً عن متطلّباتها وأهدافها - وكأن دورها لم يكن يتمثل في واقع الأمر إلا في مسخ عقول الأطفال وتعويضهم لغة بلغة وعادات بعادات - انطلق المصلحون من قادة الفكر والعلماء بتونس، إلى دراسة الأوضاع، وكُشفت الحقائق ووُضعت الخطط لحمل العالم والمتعلم على انتهاج السبل التربوية المطلوبة والتعليمية الصحيحة؛ انطلاقاً بهذا الكيان ومدّه بما يستحق من جهد وأولوية. وتأسست الجمعية الخلدونية فكانت سنداً ومعواناً للتعليم الزيتوني في شُعب المعرفة الطبيعية والرياضية، كما كانت بمكتبتها ومحاضراتها خير مركز لتوجيه العائدين من الخارج، بشدِّهم إلى أصول حضارتهم. وتنمية قدراتهم ومواهبهم. وقد كانوا من قبل أيام إقامتهم بفرنسة دعاة للإسلام، رفعوا أصواتهم بتمجيده والتنويه ¬

_ (¬1) يُفصِّل هذه الدعوة الإصلاحية للتعليم الزيتوني كتاب مترجَمِنا أليس الصبح بقريب. (¬2) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 45.

بمبادئه، وإبلاغ أوروبة بنتائج الحركة الإصلاحية نقضاً لما شاع بين أهلها من سوء ظن بالإسلام، ولزعمها عدم تمشِّيه مع مقتضيات الحياة العصرية (¬1). واستمر الكفاح من أجل التعليم حتى شيدت الجامعات التونسية، وتحققت على أيدي المواطنين الثورة الكبرى في هذا الميدان بإقامة المؤسسات العلمية في عرض البلاد وطولها، وإيجاد مختلف التخصّصات، ومراكز البحث العلمي بها، تحقيقاً للتنمية، وسعياً من القادة في هذا الميدان إلى مواكبة العصر، وتبادل الخبرات مع المراكز والمؤسسات الدولية والعالمية. وقد انطلقت إلى جانب ذلك قيادات شبابية كثيرة بالبلاد، ظهرت مرّة متزامنة وأخرى متعاقبة، تلقّى بعضها عن بعض، في أكثر من نصف قرن، أزِمّةَ الأمر ومقاليد القيادة الشعبية الوطنية، وسارت بالناس قُدماً في ثبات وجرأة، في مجالات النضال من أجل تحرير البلاد وتحقيق ما وراء ذلك من أهداف. فكان النادي التونسي، وحركة الشباب التونسي، ثم الحزب الحر الدستوري التونسي، فحزب الإصلاح المنفصل عنه، وكان الحزب الحر الدستوري الجديد: الديوان السياسي، والاتحاد العام التونسي للشغل، وجامعة الموظفين، وغيرها من الحركات والمنظّمات التي كان آيةَ إخلاصها الاتحادُ والتكتلُ وتنظيم العمل الجماعي في كل ناحية من نواحي الحياة لإقامة المنشآت الحرّة متسقة مع الكفاح السياسي ومبنية على روح التضحية (¬2). ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 99. (¬2) المرجع نفسه: 136.

وطبيعي أن يكون مجال الحركة لهذه الخلايا اليقظة الحيّة في المجتمع التونسي قائماً على اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات من جهة، وعلى الخطب والمحاضرات والمقالات والصحافة والنشر من جهة أخرى. وهكذا امتدَّت الفروع، وتعددت الخلايا لتلك الحركات، وصدر العديد من الصحف والجرائد والمجلات والكتب نعدّ منها: جريدة التونسي، والاتحاد الإسلامي، والزهرة، والفجر، والبدر، والبرهان، والنهضة، والعرب، والإرادة، ثم العمل التونسي، وتونس الفتاة، والحرية، والشعب، وتاريخ الحركة الوطنية التونسية، ونحوها. وقد مثل كتاب تونس الشهيدة عند صدوره مادةً ثرية استغلّها رجال الصحافة يومئذ. فكان مرجعَهم لشرح النقط التفصيلية للإصلاح الحكومي المزعوم، وطريقاً لمهاجمة الإدارة وانتقاد تصرّفاتها في جميع نواحي الحياة العامة، بقياس ابتعادها عن الأصول الهامة التي نادى بها، كما نادى الصحافيون بالمبادئ الأربعة عشر التي أعلن عنها وِلْسُون وطالبوا بتطبيقها، وخاصة منها مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. وعن طريق هذا التحرّك الجاد المبارك، فيما بين الحربين العالميتين وما بعدهما، سرى في البلاد عزم إجماعي، قوامه عقيدة وطنية مبنيّة على أن غاية العمل الشريف تتمثل أساساً في خدمة المصلحة العامة، وأن ذلك لا يثمر ثمرته المرجوة إلا متى كان الإخلاص سبيله لتحرير البلاد من قيود الوضع الاستعماري الذي يعوقها عن التقدم، ويمنعها من إنشاء المؤسسات الصالحة. وجهود كهذه مهدّدة بدون شك بالإيقاف والتعطيل، تعقبها عادة

أنواع من العقوبات الصارمة والتنكيل .. وذلك بصدور الأوامر والأحكام الاستثنائية لإثارة عزائم المواطنين، واستفزاز سلط الطغيان والبغي. وتبعت ذلك انتفاضات شعبية، ومظاهرات جماعية، وفتن داخلية وخارجية، أذكتها العلاقات السياسية التي قامت بين الحركات التونسية والحزب الاشتراكي ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان بفرنسة مرّة، وتوسع نشاط القادة في الخارج بتعاونهم مثلاً مع الحركة الفلسطينية، ودعوتهم معها إلى أول مؤتمر إسلامي بالقدس 7 - 17/ 12/ 1931. وقد كان رجال الكفاح يترصّدون كل بادرة حكومية تسوء الشعب، أو تلحق به ضرراً، فيدفعون المواطنين إلى التحرُّك وإبداء الاعتراض على تلك التصرّفات ومقاومتها. وحين سيم العمال الخسف في البلاد التونسية، واضطهدوا ومُنعوا حقوقَهم، ظهرت الهزّات الاجتماعية من ثورات وإضرابات ومقاومة مسلحة .. فكانت إضرابات الطلبة 15/ 3/ 1910، وواقعة الزلاج 7/ 11/ 1911، ومقاطعة الترمواي 1912. وكانت حركة التجنيس، بما قامت عليه من تخطيط ماكر للأوضاع، واعتداء صارخ على الحريات، وإغراء مقيت بذلِّ التبعية. ونجمت فتن لم يكن يراد منها سوى استهداف الشعب في مقدساته، والدعم الدمغرافي للمحتل الأجنبي الجاثم على تراب الوطن، سواء كان ذلك منه عن طريق استلحاق الأجانب من إيطاليين ويهود ونحوهم من المقيمين بالبلاد، أو بتجنيس التونسيين أنفسهم، تمكيناً لقدم المستعمر، وإعلاءً لصوته، وفرضاً لسلطانه ونفوذه. وقد أعلنت الحركات العُمالية والنقابات عن مقاومتها للمثلث الاستعماري، وقوبلت هذه الخطة السياسية الاستعمارية المدبّرة بما يناسبها من

تنديد ومقاومة. وأزهقت الأنفس في سبيل ذلك، وأتلفت الأرواحُ وزجّ بمن لم يستشهد - وهي جموع كبيرة - في السجون، أو أبعدوا ونفوا من الأرض. وكذلك كان ديدن هذا الاستعمار عندما تحدَّى المغاربة وواجههم مواجهة عنيفة بمحاولة فرض الظهير البربري عليهم. واستمرت سياسة القمع والعدوان على أشدّها، كما استمرت الحركة الوطنية في ائتلاف عناصرها وتوحيد صفوفها وانتشار خلاياها. وكانت واقعة (9) أبريل التي كان أكثر ضحاياها من الشباب الطالبي. ولحق فيها ما لحق من أذى وسجن ونفي بمدرسي المعاهد والأساتذة، ثم توالت الحركات الجهادية التحريرية باعتلاء رجال المقاومة وأجناد الكفاح قمم الجبال، واستقرارهم بالمناطق الوعرة التي كانت لهم جُنَّة ومنطلقاً للهجوم. وبدأت المفاوضات السياسية تجري بين الحزب والحكومة الفرنسية، ثم ما لبثت دولة الحماية أن أعلنت عن استقلال البلاد في 20/ 3/ 1956. وتبع ذلك إعلان الدستور. وفي 25/ 7/ 1957 عطل نظام الحكم الملكي واستبدل به النظام الجمهوري. وأعلن ذلك رئيس الحكومة بنفسه من على منبر قصر مجلس الأمة. وحرص المواطنون قادة وشعباً على مواصلة جهادهم بدخول معركة الجلاء 15/ 10/ 1963 استكمالاً لتحرير البلاد. ثم اندفعت الجهود من ذلك الوقت في معركة أوسع وأكبر؛ هي معركة التنمية، وابتداء مسيرة البناء، طلباً لصيانة مكتسبات الجهاد، ودعماً لمقوّمات السيادة والعزّة الوطنية. ومن يعد إلى بدايات القرن الذي حدّدناه، وقدمنا صورة ملخَّصة موجزة عنه، وإلى ما اتصل بها من ظروف وملابسات كانت إرهاصات لها أو تمهيد ومقدمة لما نشأ فيها من دعوات وحركات، لم يتردّد في اعتبار أن العالم الإسلامي في تلك الأثناء كان يمر من

أقصاه إلى أقصاه بمرحلة قاسية وخطيرة، ساد فيها الجهل والفقر والمرض واختلال الأمن، كما ذاع فيها القلق والحيرة والتشاؤم واليأس، حتى رأيت أكثر الناس يتمثل فيها بقول الشاعر: أتى الزمانَ بنوه في شبيبته ... فسرّهم، وأتيناه على هرم أو يردّد قولَ العتاهية: أرى الأمس قد فاتني ردُّه ... ولست على ثقة من غدِ ويتفاقم هذا الوضع بالهزَّات والانتفاضات الاجتماعية والسياسية، فتدلهمّ الآفاق، ويزداد القنوط، وتنسد مسالك الرجاء في وجوه المسلمين. ولكن نسمة مباركة من الله تعالى، وروحاً من الإيمان المستقر في قلوب الصادقين المخلصين من عباده، دفعا بجمهرة كبيرة من أئمة الفكر وزعماء الإصلاح ودعاة التغيير، في مختلف الأقاليم، إلى تحدّي صروف الزمن، فرفعوا أصواتهم منادين بالحق وإلى سبيل المؤمنين، داعين مَن وراءهم من إخوانهم إلى الخير في المشرق والمغرب، يعملون على بعث الحياة، وتجديد أسباب العزة والمَنَعة والقوة في نفوس المسلمين. وما إن سرت هذه الروح فألهبت المشاعر، وشحذت العقول، وصقلت المواهب، وحفزت الهمم حتى شعر الناس بالانفراج، وببداية عصر التطور والتقدم الملهم. ونحن من أجل تسجيل هذه الظاهرة، وبسبب ما تقتضيه هذه العجالة من ضرورة الاقتصار على إشارات دالة خاطفة تشير إلى وجود تيارين مشرقيين تزامنا، وتصدَّرا ما كان يظهر بالبلاد التونسية من تيارات إصلاحية، وحركات تجديدية. * * *

المجتمع الإسلامي الجديد وبناؤه

المجتمع الإسلامي الجديد وبناؤه إن نوعية المفكرين والدعاة ورجال الإصلاح الذين ظهروا في هذه الفترة في مختلف البلاد هي التي حدّدت، بحسب قوّة الحركة واندفاع النشاط، وضيق الرقعة أو اتساعها، خطَّ السير للمجتمعات الجديدة، وجوانب الاهتمام التي كان من الضروري التركيز عليها لتحقيق التغيير والتطوير. فقد ظهر بالمشرق العربي فيما بين 1216 - 1290/ 1801 - 1873 وبين 1286 - 1366/ 1869 - 1946 اتجاهان قويان تزعّم أوَّلهما رجل فرد هو رفاعة بدوي رافع الطهطاوي، من (طهطا) بمصر. وتزعم الثاني كوكبة من أهل النظر والفكر والسياسة والدين والعلم، أخذ بعضهم عن بعض، تتابعوا كأنابيب القنا، متكاملين في نشر مذهبهم الإصلاحي. فكانوا على التوالي: جمال الدين الأفغاني مِنْ أسعد آباد بأفغانستان، ومحمد عبده من محلة نصر وطنطا بمصر، ومحمد رشيد رضا من القَلْمُون بطرابلس الشام، وشكيب أرسلان من الشويفات بلبنان. * * *

دعاة التجديد في البلاد العربية

دعاة التجديد في البلاد العربية رفاعة الطهطاوي أما التيار الأول فعنوانه فتى أزهري من تلامذة الشيخ الطُّلعة حسن العطار. كان يزعم أن بلاده لن تتغيّر أحوالها أو يوجد بها من المعارف ما ليس فيها. ولاعتقاده الجازم بذلك رشح فتاه لمحمد علي باشا للمشاركة في أول بعثة طلابية، سافرت إلى باريس سنة 1816، وجعله إماماً لها. وهكذا تسنّى لرفاعة الطهطاوي 1216 - 1290/ 1801 - 1873 أن يغادر البلاد المصرية، وعمره خمسةٌ وعشرون عاماً، وأقام بفرنسة خمس سنوات، أفاد منها أية إفادة: أتقن فيها اللغة الفرنسية، واكتشف أسرار النهضة والتفوق والتقدم والمدنية، وشعّ بمعارفه المكتسبة الجديدة ما يُغيّر به الحياة فيما حوله، ويدعو إلى بناء مجتمعات متطوّرة في بلاده وغير بلاده من أطراف العالم الإسلامي. ولقد نظر مشدوهاً إلى المجتمع الجديد الذي احتضنه ضيفاً زائراً، وأدرك عن كثب ما بلغه ذلك المجتمع من مراتب البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية. ثم قارن هذا الوضع بما كانت عليه البلاد الإسلامية من تعلّق بالعلوم الشرعية والعمل بها، وبالعلوم العقلية، مع إهمالها كُلِّياً للعلوم الحكمية وانصرافها عنها بجملتها (¬1). وهكذا تجلّت له الفوارق واتّضحت له النتائج. فالفرنجة إنّما قوِيت شوكتهم ¬

_ (¬1) رفاعة رافع الطهطاوي. تخليص الإبريز: 8 - 9.

ببراعتهم وتدبيرهم ومعرفتهم في الحرابات واختراعهم فيها. وهذا ما ينعدم انعداماً كاملاً في مجتمعاتنا. فسائر تلك العلوم المعروفة معرفة تامة لدى الفرنجة مجهولةٌ بالكلية عندنا. ومن جهل شيئاً فهو دون من أتقنه، وكلما تكبّر الإنسان عن تعلّمه شيئاً مات بحسرته (¬1). وقد جعل القصد من دعوته هذه إلى الإصلاح حثُّ أهل ديارنا على استجلاب ما يكسبهم القوة والبأس من جهة، وما يؤهّلهم لإملائهم الأحكام من جهة أخرى (¬2). وللتأكيد على ذلك كان يحاول مع مقارنته بين الوضعين القائمين أن يشير إلى الغايات الشريفة التي تتطلع إليها شعوب الأمة الإسلامية قاطبة. وهو لذلك - بعد سبر أغوار مجتمعات الفرنجة - يصدع بأن العلوم هي التي قادتهم إلى تحقيق التمدن. ويحثّ جميعَ الناس على الاشتغال بالعلوم، والفنون والصنائع النافعة. وبعد مناشدتهم التضحية وبذل الجهد، والمغامرة مع الكدّ والكدح - وهي شروط النهوض والتقدم لبلوغ أسنى المقاصد - يزيّن لهم ما وراء ذلك من غايات تتكفّل بها شريعتهم، ويوفّرها لهم نزوعهم إلى العلم العصري. فالغاية الأولى التي ترفع من مكانة الأمة، وتجعلها أسوة لغيرها، هي كمال الأخلاق والفضائل الإنسانية المتوصل إليها بالآداب الدينيّة والتربية العالية السلوكية. وهي التي تصون الناس عن الأدناس وتَصرفُهم عن الأرجاس. والغاية الثانية هي المنافع العمومية التي تعود على المجتمعات بالثروة والغنى وتحسين الحال وتنعيم البال، وتُبعدها عن الحالة الأولى الطبيعية (¬3). ¬

_ (¬1) رفاعة رافع الطهطاوي. تخليص الإبريز: 155. (¬2) المرجع نفسه: 12. (¬3) المرجع نفسه: 7 - 8.

وقد انتشرت آراء الطهطاوي ودعوتُه في مختلف الأوساط، وخاصة بعد تولِّيه رئاسة مدرسة الألسن. وكان مما يمكّن له بين صحبه وأنصاره وتابعيه سعةُ معرفته بما صدر من مؤلفات في شتى أصناف العلوم خارج وطنه، واستيعابُه للفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر، وإنتاجهُ الغزير المتمثل فيما أقبل عليه من تعريب لجملة من المؤلفات الجغرافية والتاريخية وفي العلوم العسكرية، وعنايتهُ بترجمة كتاب مونتسكيو: تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم. ولئن كان تأثّر معاصريه به تأثراً مباشراً بوقوفهم على هذا الإنتاج الغزير أو جلوسهم إليه وارتباطهم به، فإن آراءه الإصلاحية قد عَبَرت حدود مصر، وانتشرت في الآفاق بانتشار كتابيه الجليلين المتميزين: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ومناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية. ولعل ممّا يفصح عن غرضه من تأليف الكتابين، ويحمل دعاة النهضة إلى الاقتباس منهما، قول جومار - أحدُ أساتذته - في تقريظه لكتابه الأول: "إن هذا التأليف يستحقُّ كثيراً من المدح. وإنه لمصنوع على وجه يكون به نفعٌ عظيم لأهالي بلد المؤلف. فإنه أهدى إليهم نبذاً صحيحة من فنون فرنسة وعوائدها وأخلاق أهلها وسياسة دولتها. ولمّا رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبة في العلوم البشرية والفنون النافعة أظهر التأسفَ على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابيه أهل الإسلام، ويُدخل عندهم الرغبةَ في المعارف المفيدة، ويولِّد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي والترقّي في صنايع المعاش. وما تكلّم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها أراد أن يذكّر أهالي بلده بأنه ينبغي لهم تقليد ذلك" (¬1). ¬

_ (¬1) رفاعة رافع الطهطاوي. تخليص الإبريز: 155.

ولقد نطق أستاذه حقاً وقال صدقاً، لا لما كان يعرفه من تفكيره، ويتصوّره من تصرّفاته وتطلّعاته، ولا لما تركته آراؤه وأفكاره ودعوته وتوجيهاته من أثر في الشباب من حوله، ولا في المحيط الفكري الجديد الذي تمكّن من إيجاد ما به من تفاعل ونفخ للروح الإصلاحية فيه، وإنما كان ذلك لما وجده في أقواله وكتابته من التزام بهذا المنهج، وعزم وإصرار على إقراره ودعمه. فلم تثنه مواقف المعارضة من الشيوخ القائمين على حماية التراث والملتزمين بما نشأوا عليه من علوم ومناهج ولكنه واجهها مواجهة شجاعة في تبصّر وحكمة، مبيّناً أحوال هذا العصر ومقتضياته وتطوّراته ومتطلّباته، معلناً أن المعارف الآن سائرة سيرة مستجدّة في نظريات العلوم والفنون الصناعية التي هي جديرة بأن تسمّى بالحكمة العملية والطرق المعاشية. ومع هذا فلم يزل التشبّث بالعلوم الشرعية والأدبية ومعرفة اللغات الأجنبية، والوقوف على معارف كل مملكة ومدينة بما يكسب الديار المصرية المنافع الضرورية، ومحاسن الزينة؛ فهذا طراز جديد في التعلّم والتعليم، وبحث مفيد يضمّ حديث المعارف الحالية إلى القديم، وهذا من بدائع النظْم. وإذا أخذ الطهطاوي حقه من حُسن التدبير والاقتصاد فيه فإنه قد استحق مرتبة التعظيم .. ولا ينبغي لأبناء الزمان أن يعتقدوا أن زمن الخَلَف تجرد عن فضائل السلف، وأنه لا ينصلح الزمان إذ صار عرضة للتلف. فهذا من قبيل البهتان. فالفساد لاعتقاد ذلك لا لفساد الزمان، قال الشاعر: نَعيب زماننا والعيب فينا ... وما بزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمانَ بغير عيب ... ولو نطق الزمان بنا هجانا * * *

من دعاة الإصلاح والتجديد بالمشرق والبلاد العربية

من دعاة الإصلاح والتجديد بالمشرق والبلاد العربية أما الكوكبة المشرقية المتكوّنة من الزمرة المتناسقة من أهل النظر والفكر والاجتهاد، والمُمَثِّلةِ للتيار الثاني من رجال الإصلاح. فرأسها الأفغاني ومحمد عبده صاحبا العروة الوثقى، وثالثهم محمد رشيد رضا الذي التحق في القاهرة بشيخه الأستاذ الإمام، وشاركه الكتابة في العروة الوثقى قبل تأسيسه للمنار، ورابعهم شكيب أرسلان الذي تلقى على الأستاذ الإمام، في مجالس خاصة، دروساً في مجلة الأحكام العدلية. * * *

1 - السيد جمال الدين الأفغاني

1 - السيد جمال الدين الأفغاني هو السيد جمال الدين 1254/ 1838 - 1315/ 1897 الأفغاني الأرومة، الشريف النسب، المنحدر من العترة النبوية الطاهرة، فقد كان كما قال أمير البيان: سيّدَ النابغين الحكماء، وأميرَ الخطباء والبلغاء، وداهيةً من أعظم الدهاة، دامغَ الحجة، قاطعَ البرهان، ثَبْت الجَنان، متوقّد العزم، شديد المهابة. وكانت سيرته كبيرة. وبلغ من علو المنزلة في المسلمين ما قلّ أن يبلغ مثلَه سواه (¬1). وهو رجلُ سياسةٍ تولّى رئاسة الوزارة في بلده في ظل الأمير محمد أعظم، وذهب إلى الآستانة بدعوة من السلطان عبد العزيز الذي عيّنه عضواً في مجلس المعارف. واستقبله الخديوي إسماعيل بمصر، وتوجّه إلى إيران بدعوة من الشاه ناصر الدين. وكان آخر مطافه الآستانة لمّا استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني للإقامة بها. وهو فيما بين هذه الخطط والوظائف التي تقلّب فيها، وباشرها من قريب، قد خَبَر أحوال المجتمعات الإسلامية، واستَكْنَهَ أسرارَ دُولِها وشعوبها، وتنقَّل هنا وهناك بين أقطار العالم الإسلامي وغربي البلاد الأوروبية، ناقداً ثائراً، داعياً وموجهاً، مكتسحاً بآرائه وأقواله كل الطبقات والأوساط، مستفزّاً للطغاة. فكان - كما نعته خلطاؤه - رجلَ الأمل واليأس، والثورة والهدأة، ورجل الواقع والحُلم، يحمل ¬

_ (¬1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: (1) 1/ 305.

في أفكاره ونشاطاته بذور اليقظة والنهضة بما كشف عنه من مواقف، ودلّ عليه من نزعات. وقد عرّض به ذلك إلى غضب خُصومِه، من أصحاب الانقلاب بأفغانستان، وغضبِ الخديوي توفيق بمصر، والشاه بإيران، والإنجليز بالهند. وكان بعدَ ذلك مستهدَفاً لكل الأنظمة الجائرة في بلاد الإسلام قاطبة، لكونه زعيم المسلمين وداعية من أكبر دعاة الحرية. وكانت مجلة العروة الوثقى، التي تولّى إصدارها بمشاركة محمد عبده له بباريس، الصحيفة الذائعة، الناشرة لآرائه، والداعية إلى نهضة العالم الإسلامي واتحاده، وإلى الثورة على الاستعمار أين كان. وقد سارت على نهج العروة الوثقى مجلة ضياء الخافقين التي كانت تصدر عنه باللغة العربية والإنجليزية أيام إقامته ببريطانيا. أيقن السيد جمال الدين الأفغاني بتسلّط القوى الاستعمارية، وحِقدها وتهديدها لدولة الخلافة، ولسائر البلاد الإسلامية والعربية. وكان أولَ من آمن بسيطرة الغرب على الشرق الإسلامي، وكانت نظرتُه متفحّصة، دقيقة وواقعية، فتمثل عواقب ذلك فيما إذا طال عهدها وامتد سلطانها، وأدرك شؤم المستقبل وما سينزل بساحة الإسلام والمسلمين من النوائب الكبرى إذا هم رضوا بالمهانة وسكتوا عن الظلم. ودَفَعَه إيمانه بالقضية الإسلامية إلى تحريك العقول وإلهاب العواطف، والتأكيد على مراجعة النفوس وعلاجها وتنقيتها من أسباب الضعف والوهن، وتوجيهِها إلى أسباب القوة، معلناً بين أنصاره: "إنه متى ضعف ما كان سبباً في الصعود يحصل الهبوط والانحطاط، وإنه متى زال ما كان سبباً للسقوط يحصل الصعود" (¬1). ¬

_ (¬1) جدعان. الحياة الفكرية للعالم الإسلامي: 153 - 154.

وهو لذلك يحذّر الشعوب العربية الإسلامية مما تردّت فيه من الانقسام والتفرّق. وحين يذكّر بما سبق لابن خلدون أن قرَّره من أنّ القوة في الدولة بالعصبية، تتحقّق بقيامها وتتأكّد بالحفاظ عليها، ينظر إلى المجتمعات الإسلامية، وقد اختلفت ديارها وتباينت أقطارها، وتعدّدت أجناسها وألسنتها، فيركز دعوته على مقوّمين أساسيين آخرين هما: الدين والاتحاد. فالدين لديه هو طريق السعادة وحقيقة المدنية. والتمدن الحقيقي مكافىء له تمام المكافأة، يتيح للإنسان الارتقاء فوق مراتب البهيمية، كما يسمح ببناء نظام اجتماعي متماسك متَّحد، يسعى لخير المجموع وسعادته داخل التجمع البشري الخاص والعام. ومن أجل هذا نرى السيد جمال الدين الأفغاني يهيب بالمجتمع الإسلامي إلى التمسك بدينه والحفاظ عليه وصيانته من التغيير والتلفيق، وما يتبع ذلك من الأوهام والشعوذات. وقد استمرت دعوته هذه قاعدة مُلهِمة لمعظم الحركات الدينية الإسلامية التي ظهرت في العالم الإسلامي حتى الحرب العالمية الأولى. والمقوّم الأساسي الثاني هو الاتحاد. فالاتحاد ضرورة للدول العربية والإسلامية. وهو الشعور بالترابط الجذري بينهم، وبالعروة الوثقى التي لا انفصام لها بَين جميع المؤمنين في أطراف العالم. وهو الطريق لرأب الصدع، وجمع الشمل، ودعم الصفّ، وتعزيز المواجهة لكل عدوان. وهكذا نجد الأفغاني يدعو - في واقع الأمر - إلى اتحادين: اتحاد ترتفع به الأمة الإسلامية متميّزة بأخلاقها ومنهجها وسلوكها وتضامن شعوبها ودولها، تقيم على أسُسه القطعيّةِ والثابتةِ هياكلَ مجتمعاتها وصرحَ جامعتها.

واتحاد دفاعي يَحمل عليه اعتقاد الأفغاني من زمن مبكّر أن جميع الشعوب النصرانية مجمعة ومتّفقة على عداء الإسلام، تأثراً منها بالروح الصليبية. وروح العداء هذه متمثّلة في جهد جميع هذه الشعوب جهداً خفياً مستتراً متوالياً من أجل سحق الإسلام سحقاً. وهو بعد أن يمضي في تفصيل تلك العداوة ومستلحقاتها، وما يترتب عليها، يقول مصوراً المنهج والسبيل لتحويل المجتمعات الإسلامية عما انتابها وحلّ بها: "وفي جميع هذا يوضح أن العالم الإسلامي يجب عليه أن يتّحد اتحاداً دفاعياً عاماً مستمسك الأطراف وثيق العرى، ليستطيع الذود عن كيانه، ووقاية نفسه من الفناء المهدِّد. وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى يجب عليه اكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على تفوّقه وقدرته" (¬1). وهكذا أعلن جمال الدين عن سياسته الثورية ضدَّ كل أسباب التخلّف، وضدَّ القوات الاستعمارية المغتصبة التي أصبحت الآمرة الناهية والمتصرّفة، بل المستبدّة بكل شؤون البلاد الإسلامية: تحكمُها بهواها، وتسيّرها وفق مصالحها وغاياتها. وما انتشرت آراؤه وكلماته هذه حتى تحوّلت دستوراً يخضع له كل أنصاره ومريديه. وترتبت عليه اتجاهات ثلاثة في العمل الوطني المصري: • الاتجاه الثوري الذي يمثله الضباط المصريون الواقعون تحت سيطرة الضباط الشراكسة، ويتزعّمه أحمد عرابي، وعبد العال حلمي، وعلي فهمي، ومحمد عبيد وأمثالهم. • الاتجاه الثوري الذي يؤمن بالشعب وقواه وطبقاته الكادحة، ¬

_ (¬1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: 1/ 306 - 307.

ويعتمد في حركته على العامة والجماهير. وهو الذي تولّى قيادته عبد الله النديم، ومَنْ خَلْفه من المؤيدين والموالين له. • الاتجاه الثالث وهو اتجاه إصلاحي أكثر منه ثوري. يقوم على التربية والتعليم والاستنارة الفكرية. وهو الذي تقمّصه الشيخ محمد عبده، وعبّر عنه في مقالاته الإصلاحية التي نشرها في الوقائع المصرية. وكان من مناصريه: سلطان باشا، وسليمان أباظة، وسعد زغلول، وعبد الكريم سلمان، ومحمد خليل، وغيرهم (¬1). وقد كان من الطبيعي ظهور هذه الاتجاهات كلها .. وهي وإن اختلفت شكلاً فإنها كانت متضامنة يخدم كل اتجاه منها، حسب الظروف التي مرّ بها والخطة التي وضعها، المصلحة العليا للوطن التي تقتضي حشد كل الطاقات والجهود. * * * ¬

_ (¬1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 1/ 42 - 43.

2 - الأستاذ الإمام محمد عبده

2 - الأستاذ الإمام محمد عبده هو الأستاذ الإمام محمد عبده حسن خير الله 1266/ 1849 - 1323/ 1905 فقيه أزهري. تخرّج من الجامع الأحمدي بطنطا، ومن الأزهر بالقاهرة. وكان من أساتذته الشيخ السيد جمال الدين. صاحبه ابتداءً من المحرم 1287/ مارس 1871. وتلقى عليه بعض العلوم الرياضية والحكمية والكلامية، ودعا رفاقه إلى الالتحاق به في دروس الأفغاني والإفادة منه. وقد أغضب هذا شيوخ الأزهر وجمهرة من الطلبة. فتقوَّلوا عليه الأقاويل، وزعموا أن ما يتعلّمه من السيد يفضي إلى زعزعة العقيدة الصحيحة، ويهوي بالنفس في ضلالات تَحرِمُها خيري الدنيا والآخرة (¬1). وحصل محمد عبده على العالِمية وكان متفوّقاً على أقرانه، معتدّاً برأيه، ملازماً لشيخه. وهو رغم طول معاشرته له، وانتسابه إليه، وعمله معه، وأخذه الكثير عنه، اختلف عنه في آخر المطاف منهجاً وطريقاً، لكنه استمر متمسكاً بأصول الخطة الدعوية الإصلاحية، يربطه بها وبشيخه الوجدان والشعور. يشهد لذلك ما يترجم عنه قوله حين بلغه نعيُ أستاذه: "إن والدي أعطاني حياة يشاركني فيها أخواي علي ومحروس، والسيد جمال الدين الأفغاني أعطاني حياة أشارك بها محمداً وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء. ما رثيته بالشعر لأنني لست بشاعر، وما ¬

_ (¬1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 2/ 322 - 323.

رثيته بالنثر لأني لست الآن بناثر، رثيته بالوجدان والشعور لأنني إنسان أشعر وأفكّر" (¬1). بدأ محمد عبده حياته العلمية العملية بالتدريس للعقائد بالأزهر، وتدريس التاريخ بمدرسة دار العلوم والألسن. ودرّس بعد ذلك بالمدرسة السلطانية ببيروت التوحيد، ونهج البلاغة المنسوب للإمام علي، وديوان الحماسة لأبي تمام، والاشارات لابن سينا، وكتاب التهذيب في المنطق، ومجلة الأحكام العدلية، وبعد عودته إلى مصر تصدّر من جديد بالأزهر، وألقى مجموعة دروسه في التفسير التي استمرت ستة أعوام. وقد تولّى في الأثناء - كلّما رغبت السلطة في إبعاده عن القاهرة أو قرّرت إقصاءه عن التدريس - وظائف كثيرة هامة. فعُيّن أولاً عضواً بالمجلس الأعلى للمعارف العمومية بمصر، ثم وُلِّي قاضياً بمحكمة بنها، ونُقل منها إلى محكمة الزقازيق فمحكمة عابدين. ثم عُيّن مستشاراً لمحكمة الاستئناف، حتى اختاره خديوي مصر 22 محرم 1317/ 3 يونيو 1899 مفتياً للديار المصرية. هذا وقد كان التدريس ألذَّ شيء وأمتعَه إليه. وحين أخذت الأعمال السياسية والتنظيمات من وقته زمناً ليس بالقصير، تعاون في أول الأمر مع أستاذه الأفغاني في حركة العروة الوثقى، وشاركه في إصدار المجلة المتحدّثة بلسانهما، وكتب المقالات الكثيرة فيها، ودخل معه الحزب الوطني، كما صار له ضلع في ثورة عرابي. وكان لهذا الاتجاه أثرُه، ولهذا التعليم أتباعُه. وتعدّدت فروع العروة الوثقى وانتشرت بأطراف البلاد، وأصبح لها ممثلون في كثير من العواصم العربية. وممّن انتسب إليها بتونس في تلك الفترة ثُلةٌ من أعلام ¬

_ (¬1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 1/ 29.

الفكر والنشاط البارزين يومئذ مثل محمد بيرم الخامس صاحب صفوة الاعتبار، ومحمد السنوسي صاحب الرحلة الحجازية، ومحمد النجار مؤلف بغية المشتاق في مسائل الاستحقاق، والعلامة سالم بوحاجب، والشيخ أحمد الورتاني العضد الأيمن لبيرم الخامس، والأستاذ محمود بن الطاهر جعفر، والشيخ حسونة بن مصطفى، أحد زعماء الحركة الاجتماعية، والسيد الشاذلي بن فرحات عامل الكاف (¬1). وقد اشتهر الأستاذ الإمام محمد عبده بشدّة عداوته للإنجليز. وشارك في تنظيمات ثقافية واجتماعية، مثل الجمعية السرية للتقريب بين الأديان، والجمعية الخيرية الإسلامية بمصر. وتعدّدت آثاره وتنوعت منشوراته؛ نذكر منها بالخصوص: رسالة التوحيد، والإسلام والرد على منتقديه، والإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، وقسم كبير من التفسير عرف بتفسير المنار، وفتاوى كثيرة وجريئة. كما نشر عدداً لا يحصى من المقالات في العديد من المجلات والصحف التي منها: الوقائع المصرية التي تولّى رئاسة تحريرها، والعروة الوثقى، والمنار وغيرها. وهكذا برزت شخصيته اللامعة الإصلاحية التي عرّف بها تلميذه شكيب حين قال: "كان جامعاً بين العلم والعمل، فلا نجد ما يساوي فضله وبلاغته وثقوب أفكاره، وقوةَ ملكته في الفلسفة، سوى علو مباديه، وبُعد همته، وغزارة مروءته، وطهارة أخلاقه، وهيهات أن يأتي الزمان بمثله" (¬2). وكان توجهه للإصلاح بعد تجارب سياسية خاضها، ونشاطات ¬

_ (¬1) المنصف الشنوفي. هوامش ببحث في مصادر عن رحلتي عبده. حوليات الجامعة التونسية، عدد 3 سنة 1966 م. (¬2) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: (1) 1/ 283.

دعوية إسلامية أسهم فيها، بمصر وخارجها، كما كان لتنقُّلاته الكثيرة، بين مصر وبيروت وباريس ولندن وتونس والجزائر وغيرها من البلاد، أثر بعيد في تصوير العالم الإسلامي على حقيقته، وإدراك مختلف أوضاعه وأدوائه. وهو بعد سبْره لأغواره واستكناه أحوال مجتمعاته يقدمه لنا في صورة مؤلمة حزينة تكاد تتشابه - إن لم نقل تتطابق - فيها عامة الأقطار الإسلامية وشعوبها: "اختلفت الشؤون، وفسدت الملكات والظنون، وساءت أعمال الناس وضلّت عقائدهم، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم على بعض بالشرِّ، وغالت أكثرَهم غوائلُ الفقر، فتضعضعت القوة، واختُرق السياج، وضاعت البَيضة، وانقلبت العزّة ذلّة، والهداية ضِلّة، وساكنتهم الحاجة، وألِفَتهم الضرورة، ولا يزالون نائمين عما نزل بهم وبالناس. فهلا نبّهَكم ذلك إلى البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم بَحْثِ علَلِ ما صِرتم وصار الناس عليه". وسكت الإمام عبده مطرقاً جزَعاً، بعد إبراز هذا الواقع المرّ للمسلمين والبلاد الإسلامية، ثم أعاد علينا في ألم وحسرة ما تكاد ترتفع به أصوات الخاصة والعامة من حوله مجيبةً عن سؤاله: "ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا، وإنما هو للحكَّام ينظرون فيه، ويبحثون عن وسائل تلافيه. فإن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فذلك لأنه آخر الزمان. وقد ورد في الأخبار ما يدلُّ على أنه كائن لا محالة، وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض، ولا تقوم القيامة إلا على لكع ابن لكع. واجتمعوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث وآثار تقطَع الأمل ولا تَدَعُ في نفسٍ حركةً إلى عمل" (¬1). ¬

_ (¬1) محمد عمارة. الإسلام والنظر إليه بين العلم والمدنية. كتاب الهلال 1960: 162 - 163.

وفكّر الأستاذ الإمام وقدّر، ثم فكّر وقدّر، من بعد أن رأى من جَهْل الناس بدينهم، ومن انتسابهم الصوري للإسلام، وأدرك أن سبب هذا البلاء ضعفُ التعليم في البلاد، وفوضَى المحاكم بها، وأن من الضروري أن يسلك منهجاً يتطلّبه الوضع ويمليه عليه الواجب. واتجه في التوِّ، حسب خطته العلمية الإصلاحية والتجديدية الدينية، إلى العناية بتلك المجالات في الداخل والخارج، ممهِّداً لذلك بتجارب ومحاولات كانت بعدُ ضمانَ نجاحه فى دعوته، وسببَ إنجازه لبرامجه وأهدافه. كان أولُ ما شغل بالَه من القضايا: التعليم بالأزهر؛ تدلّ على ذلك شكواه من وضعه، وإرادتُه وعزمُه على إدخال ما ينبغي من التغييرات عليه. وقد أُثِر من أقواله في ذلك: "إن نفسي توجّهت إلى إصلاح الأزهر منذ كنت مجاوراً فيه، بعد التلقي عن السيد جمال الدين. وقد شرعت في ذلك فحيل بيني وبينه، ثم كنت أترقّب الفرص، فما سنحت إلا واستشرفت لها، وأقبلت عليها، حتى إذا ما صادفتُ الموانع لَوَيتُ، وصبرت مترقّباً فرصة أخرى" (¬1). وهو أيام إقامته بالمنفى ببيروت لم يتخلّ عن التفكير في موضوع التعليم، فوضع لدولة الخلافة لائحة في إصلاح التعليم العثماني، ووضع ثانيةً في إصلاحه في القطر السوري، وثالثة لإصلاح التربية في مصر. واهتم بشؤون الأوقاف وإصلاحها، ووضع مشروعاً بترتيب المساجد. كما اهتم بالقضاء وأجهزته وأحكامه وقوانينه، وقدّم في ذلك تقريراً في إصلاح المحاكم الشرعية. وكانت عنايته بالفقه عناية فائقة ظهرت فيها نزعة اجتهادية كما ¬

_ (¬1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 3/ 177.

تدلّ على ذلك مؤلَّفاته وفتاواه الحرّة المطابقة لروح العصر. ولقد أوحى بتدريسه لمجلة الأحكام العدلية وحرصه على إبراز منافعها فكرةَ تقنين الفقه بمصر. وكان أولَ المتأثرين به في ذلك قدري باشا، الذي أفاد من جهود بعض الفقهاء والمعاصرين، ووضع بذلك كتاب مرشد الحيران الى معرفة أحوال الإنسان، في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان (¬1). وما كان له أن يبلغ في مجالات الإصلاح هذه مبلغاً يذكر لو لم يستغلّ فرصة فترة الوفاق بينه وبين الخديوي عباس الثاني، وطلب منه إعانته في العمل لإصلاح المؤسسات التعليمية والتربوية والاجتماعية الثلاثة: الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. فعُيّن عضواً ممثلاً للحكومة بإدارة الأزهر، كما اختير عضواً في مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف. وهو وإن آخذه حُسَّاده أو خصومُه على تقرّبه من الحاكم بمماشاته للسلطة وللدولة المحتلّة، فقد كان ذلك منه سياسةَ مداراة للأوضاع المؤلمة والأحوال الخطيرة، طلباً لتحقيق الإصلاح في جوانب متعدّدة من حياة الأمة. وقد أيّده في ذلك من كان بصيراً بما آلت إليه مصر، وبما انتهى إليه أمر المسلمين بها حين قال: "كنت أعلم أنه ما أراد إلا تخفيف الداء، وتقريب أجل البلاء، وتمهيد طريق الجلاء، وما زال شأنه يعلو، وحقيقته تظهر، وجوهره ينجلي بالحك، وعقيدة فضله تتمحّص من الشك، إلى أن اتفق الناس على كونه أحد أفذاذ الشرق الذين قلّما جاد بهم الدهر، وواسطةَ عقد المصلحين المجددين في هذا العصر. وظهر أن طريقته الإسلامية العصرية ستزداد ¬

_ (¬1) عبد الرزاق السنهوري وأحمد حشمت أبي شيب. أصول القانون: 151.

مع توالي الأيام انتشاراً، وتكون هي طريقة المستقبل" (¬1). وهكذا تمكّن بموجب القانون والتعيينات السامية من أن يباشر، مع ثلة من العلماء والفقهاء الداعين بدعوته، القيام بإصلاح الأوضاع المتردّية في المؤسسات الثلاث تحقيقاً للخير، ونشراً للعلم، وتوفيراً للعدل. وفي مجال التجديد الديني أعاد للأمة روح انتمائها لدينها بما نشره من مقالات، وألّفه من كتب، وألقاه من خطب، وقرّره من آراء في دروسه أينما حلَّ بالبلاد التي عقدت له فيها مجالس، أو أقام بها دعوة. وهكذا حرّر معنى الإسلام في أجلَى حقيقة وأكمل صورة، حيث ركّز الدعوة المحمدية على الدين الخالص الذي لا يتم إلا بالالتزام بما ورد في سورة الإخلاص، من تحقيق المفاضلة بين الإسلام عقيدة التوحيد وبين ما سواه من الأديان، واكتشافِ معالم الاختلاف الجوهري الكامل بينهما قولاً وفعلاً، اعتقاداً أو إيماناً، ومن التمسك بالمنهج الكامل للحياة الذي يُشيع في النفس المؤمنة جملةَ تصورات ومشاعر واتجاهات منها منهج عبادة الله وحده، ومنهج التوجّه واللجوء إليه وحده، ومنهج التلقّي عنه وحده، ومنهج التحرك به والعمل له وحده، وإنه لمنهج يَرِبط مع ذلك كله بين القلب البشري وكل موجود برباط الحب والأمن والتعاطف والتجاوب. ومن ثم فإن التوحيد أو الوحدانية التي لا يمكن أن نجد صورتها كاملة إلا في الإسلام تُمثّل: أولاً: طاقة محرّرة من الطراز الأول للإنسان، بها تَطهَّر العقول من الأوهام الفاسدة والعقائد الخرافية، ويرتفع بها المؤمن الموحِّد إلى أسمى مراتب الكرامة والكمال. ¬

_ (¬1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: (1) 1/ 283.

وهي ثانياً: تحرِّرُ المرء من العبودية لكل موجود سوى الله، فتتقرّر عن طريقها المساواة بين الناس، ويقوم على أساسها المقياس الإسلامي للتفاوت بينهم بسبب ما يتمايزون به من علم وتقوى أو يتفاوتون به من كسب وعمل. وإن التوحيد ليحمل ثالثاً: على اقتلاع التقليد من النفوس، وتزكيتها من التماس الشفعاء والخضوع للأوهام. وهكذا فهو يحرّر العقل من كل سلطان تقليدي، ويعود به إلى مملكته يقضي فيها بحكمته، مع الخضوع في ذلك لله وحده، والوقوف عند شريعته التي لا حدَّ للعمل في منطقة حدودها، ولا نهاية للنظر في فسيح أحكامها وسعة تشريعاتها. وهو يقوم رابعاً كما يقول الدعاة: على رد الكثرة للوحدة، وتغيير الأوضاع من الفرقة والتشتت إلى الألفة والتجمُّع في مجالي العقيدة وبناء الحياة الاجتماعية. فالإسلام، مع كونه ديناً وعقيدة وشريعة ومنهج حياة، يتضمن أمرين عظيمين، طالما حُرم منهما الإنسان؛ هما: استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر. فبهما تكمل إنسانيته، وبهما يستعد لأن يبلغ من السعادة ما هيأه الله له بحكم الفطرة التي فُطر عليها (¬1). وبهذا التصور يداخلُ الإيمانُ النفوس الكريمة: يزكّيها ويملؤها إيقاناً وهدى وتقوى، ويدافع الانحرافات والضلالات كلَّها التي استشرت في المجتمع الإنساني بسبب العدول عن الحق وإشاعة الأراجيف والأباطيل من دعاة الشرك وأصحاب الأهواء. * * * ¬

_ (¬1) محمد عبده. رسالة التوحيد: 150 - 155.

3 - السيد محمد رشيد رضا

3 - السيد محمد رشيد رضا هو السيد محمد رشيد رضا 1282/ 1865 - 1354/ 1935 فهو شامي النسبة من قرية القَلْمون من أعمال طرابلس الشام. زاول المرحلة الأولى من تعلّمه بالكتاب، ودخل بعد ذلك إلى المدرسة الرشدية التي كانت تدرّس بالتركيّة، ثم انتقل إلى المدرسة الوطنية الإسلامية حيث درس العلوم الشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية. وتخرّج بها على الشيخين حسين الجسر ومحمود نشابة. وفي هذه المرحلة وقف على أعداد من مجلة العروة الوثقى التي كان لها كبير التأثير في توجُّهه الإصلاحي. واتصل بعد ذلك بأستاذه وصاحبه الشيخ محمد عبده. لقيه بمصر ولازمه طويلاً، وانتسب إلى مدرسته الإصلاحية، وبعد غياب العروة الوثقى التي لم يصدر منها أكثر من ثمانية عشر عدداً، واختفاء مجلة الأستاذ التي كان يصدرها عبد الله نديم المصري، بادر محمد رشيد رضا إلى إنشاء المنار 1316/ 1898، لإحياء تعاليم العروة الوثقى، والتعريف بقواعد الوحدة الإسلامية، مع البحث في البدع، وتفصيل القول في التعاليم الفاسدة والعقائد الزائفة، والدعوة إلى التربية المفيدة، وبثّ المضمون السياسي للجامعة الإسلامية عن طريق الإصلاحين الديني والتربوي. وقد أكّد على صفحات المنار أن هذا الإصلاح لا يحصل بعمارة المساجد والتكايا، ولا بالإنعام على بعض الشيوخ أو أهل الحجاز بالرتب والرواتب والوسامات، بل لا بد في ذلك من أعمال تناط

بالحكام، وأعمال تطلب من العلماء وأصحابِ الوظائف الدينية ... وأهم أركان الإصلاح الإسلامي جمع كلمة المسلمين على عقيدة واحدة، وأصول أدبية واحدة، وقانون شرعي واحد (¬1). ولقد كان لمجلة المنار دور أي دور إصلاحي في العالم الإسلامي والبلاد العربية. كانت المَعلَمَة الإسلامية الكبرى التي لا يستغني مسلم في هذا العصر عن اقتنائها (¬2). وكانت لصاحبها مجدِّد السلفية آثار جيدة تخدم منهجه وتنشر آراءه. نعدُّ منها تفسير المنار، وتاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، ونداء إلى الجنس اللطيف وهو بيان حقوق النساء في الإسلام، والوحي المحمدي والوحدة الإسلامية، ومقالات كثيرة أخرى. ولا نجد من يقدم هذا الإمام من معاصريه وينوّه به مثل شكيب أرسلان فهو يقول عنه: لا يسدّ مسدّه أحد في الإحاطة والرجاحة وشحذ الفكر وسعة الرواية معاً، والجمع بين المعقول والمنقول، والفتيا الصحيحة الطالعة كفلق الصبح في النوازل العصرية ... كما أنه لا يدانيه مُدانٍ، مع الرسوخ العظيم في الفقه، والطبع الريان في العربية، والقلم السيّال بالفوائد في مثل نسق الفرائد، والخبرة بطبائع العمران وأحوال المجتمع الإنساني ومناهج المدنية وأساليبها، وأنواع الثقافات وضروبها ... ولقد عدّ من كبار الأئمة. أسّس بمصر مدرسة الدعوة والإرشاد، وتولّى بسورية رئاسة المؤتمر الإسلامي. وله من المواقف الشريفة في النضال الديني عن الإسلام والدفاع عن عقيدته الصافية، ومن الكتب الجدلية في الرد ¬

_ (¬1) محمد رشيد رضا. الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية. المنار: مجلد 1، ج 39، 1316/ 1898، ص 765. (¬2) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: (1) 1/ 284.

على أعدائه ما لا يقدر أحد في عصرنا هذا أن يدرك فيه شأوه أو يبلغ فيه مُدّه ولا نصيفه (¬1). نازع الأهرام والمقطم ادعاءهما أن الدعوة إلى الجامعة الإسلامية باسم الدين مضرّة وغير موصلة إلى غاية، وأنه لا سبيل إلى ترقّي الأمة الإسلامية إلا باتباع أوروبة كما فعلت اليابان، فكتب عن الإسلام والجنسية. ودعا إلى تأسيس منظمة تناط بها ثلاثة أعمال رئيسية: أولها تلافي البدع ومقاومتها، ثانيها إصلاح الخطابة، ثالثها الدعوة إلى الدين. ومن أهم النتائج التي كان يحرص على تحقيقها توحيد البلاد الإسلامية وجمع كلمتها. وسبيل ذلك في رأيه تعليم التربية العملية، والتعليم الديني والدنيوي الصحيح، بفضل رجال عارفين بحاجة الأمة، قادرين على التعليم. فإن هذا العمل هو الذي تقوم عليه النهضة، ويتوقّف عليه الاتحاد الإسلامي (¬2). وهذا الإصلاح الذي نادى به، وكاد يحصل الاتفاق عليه من طرف الدعاة مشروط لديه بجملة شروط؛ بعضها يتعلق بطبيعة الحكم في البلاد الإسلامية، وبعضها الآخر يرتبط باستعداد الأمة وقابليتها للإصلاح، والشرط الثالث يبرز في منهج وطريق المصلحين والدعاة. ولقد فصّل القول في هذه الأغراض مبيِّناً ومعلِّلاً، ناقداً وموجهاً، مثلما يظهر ذلك في الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد (¬3)، وفي منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق (¬4)، وفي مقاله: {وَمَا كَانَ ¬

_ (¬1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: 1/ 284. (¬2) الجامعة الإسلامية وآراء الكتاب فيها. المنار: 2/ 22، 345. (¬3) المنار: 4/ 17، 1319/ 1901، ص 682. (¬4) المنار: 1/ 50، 1325/ 1907، ص 342.

رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (¬1)، ومحاورة في دعوى ضرر الدين والجامعة الإسلامية (¬2). وطبعي أن يكون من نتائج هذه المواقف معارضته للقضية التغريبية وحملتها، ودعوته إلى التكافل العام بين المسلمين الذي لا يتم عنده إلا بمعرفة مجموع الأمة بحقوقها ومصالحها المشتركة معرفة صحيحة تحملهم على الاتفاق على حفظها وصيانتها، بحيث إذا عبث بها عابث أو نال منها ظالم ينفعل ذلك المجموع، ويهبُّ للذود عنها وحفظ كيانها (¬3). عرف ذلك منه القاصي والداني، واشتهر منهجه الدعوي الإصلاحي في أطراف البلاد المشرقية والمغربية، وقامت على أساسه مدرسة قوامها التعريف بالإسلام وعلومه، والذود عن قيمه وأصوله، وتنقيته من كل الشوائب، والتخطيط للنهضة الإسلامية بإقامة جامعتها وبناء اتحادها الإسلامي على الأصول الشرعية والمبادىء الإسلامية والمقومات الذاتية المميزة للملة. فكان ذلك، بين الأمس واليوم، منطلق أمجادها وسرّ تجددها وخلودها. * * * ¬

_ (¬1) المنار: 1/ 31، ص 586، 593. (¬2) المنار: 1/ 16، ص 284 وغيرها. (¬3) المنار: مجلد 2، ج 6، 1216/ 1899، ص 82 - 86.

4 - الأمير شكيب أرسلان

4 - الأمير شكيب أرسلان هو الأمير شكيب بن الأمير حمود أرسلان، رفيق جمال الدين بمصر والقسطنطينية، وتلميذ محمد عبده ببيروت، وصديق رشيد رضا بمصر وجنيف 1286/ 1879 - 1366/ 1946 فهو لبناني. مولده بالشويفات، وتعلّم بمدرسة الحكمة ثم بالمدرسة السلطانية مع انتساب إلى محمد عبده، وتخرّج به في دروسه ومجالسه الخاصة. ولما بلغ أشدّه واستقبل الحياة كان لنشاطه وجهان: أحدهما إداري ثقافي، والثاني فكري جهادي. أما الأول فتقلُّبه في عديد من الوظائف في بلاده. فمن مدير للشويفات، وقائم مقام الشوف، إلى عضو نائب عن حوران بمجلس المبعوثان (البرلمان العثماني)، ومن شاعر وكاتب وأديب إلى عضو بالمجمع العلمي العربي بدمشق. وأما الثاني فعمله الفكري الإصلاحي والجهادي، الذي قضى فيه طوال عمره، يُعنى في الدرجة الأولى بالمسائل السياسية كالمسألة الشرقية، والمسألة الإسلامية، والمسألة العربية. فلمع اسمه، وذاعت مقالاته وانتشرت كتبه. وكان له في كل منتدى أثر، وفي كل بلد عربي أو إسلامي وقع، بحكم دفاعه عن القضايا المقدسة، وبذله الجهد في الرد على القوى الاستعمارية وكشفه للمخططات الغربية، ومناداته بالتعبئة الكاملة لمواجهة التحدّيات واسترجاع العزة والكرامة وتحرير الأوطان.

عرف هذا عنه في كل بلد نزل به أو أرض وطئتها قدماه. وكان لكثير تنقُّله في البلاد بين لبنان ومصر، والقسطنطينية وطرابلس الغرب، وبلاد اليمن والمغرب، والبلاد الأوروبية وخاصة جنيف بسويسرة، مظهر بارز لنشاطاته، وسبب أكيد للإعلان عن مواقفه وآرائه. وقد نجد تفصيل ذلك كله في جملة من الدراسات والكتب التي نذكر في طليعتها محاضرات سامي الدهان عن الأمير شكيب التي ألقاها في معهد الدراسات العربية العالية في جامعة الدول العربية 1958، وكتاب أحمد الشرباصي أمير البيان شكيب أرسلان الذي أصدره 1963، وذكرى الأمير شكيب تصنيف محمد علي طاهر 1947 الذي يضم أكبر مجموعة من أقوال الأمير التي يتحدث بها الناس بعد وفاته، وخاصة أصدقاؤه وأصحاب الصلة به ممن جرى على قدمه أو أراد التعريف به. هذا، وقد ارتسمت كل هذه الجهود وما أعربت عنه من اتجاهات فكرية، إصلاحية أو سياسية، في النوعين من إنتاجه واللونين من نشاطه. نلمس ذلك أولاً في ديوان شعره 1887، وفي الدرة اليتيمة لابن المقفع 1893، وفي رواية آخر بني سراج 1897، وفي رسائل أبي إسحاق الصابي 1898، وفي الحلل السندسية في الرحلة الأندلسية. وثانياً في كتبه ومقالاته وتعليقاته واستدراكاته، مثل لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرُهم، وغزوات العرب في فرنسة وإيطالية وسويسرة، وكتاب ابن خلدون، وتمثّل الموسوعةَ أو المعلمة الإسلامية تعليقاتُه الضافية على حاضر العالم الاسلامي للمؤرخ الأمريكي لوثروب ستودارد. وهي التي ترجم فيها للعشرات من الرجال من ملوك وأمراء وقادة ومصلحين ومجاهدين وعلماء وأدباء

في العالمين الإسلاميين الآسيوي والإفريقي. وحديثه عن العالم الإسلامي أجزائه وأقطاره، أحواله ومذاهبه، وعن الجامعة الإسلامية التي آمن بها نظراً وفكراً، ودراستُه للمذاهب والمدارس الصوفية التي كانت مدارس تهذيب ونَشْرٍ للإسلام في البلاد النائية وخاصة في إفريقيا، وحديثُه عن الشرق والغرب، وعن اليقظة الإسلامية، وغير ذلك من القضايا الشائكة، والموضوعات الهامة التي وإن لم تتسع لها أحياناً تعاليقه على حاضر العالم الإسلامي، فإننا نجدها في المنار التي ظلَّ ينشر على صفحاتها طوال سبعة أشهر من سنة 1922، مثل مقالاته في الكشف والبيان حول مآسي الحرب الكونية. كان شكيب أرسلان يتابع الأحداث ويتدبّر ما تفرزه من قضايا ومشاكل. فموقفه من الأتراك الذين انقسموا فئتين: واحدة وقفت إلى جانب الاتحاديين العثمانيين مع ألمانية، والأخرى مجافية ومعادية لها، ابتعدت عنها ودعت إلى تأسيس دولة غربية مستقلة، يدل على تقديره للظروف وعمق نظره في تطورات الوضع، وحكمه على الاتجاهين بالخيبة التي باءا بها حين استشرى الداء واقتسم الإنجليز والفرنسيس الأقطار أو الإيالات التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وفرضتا عليها باحتلالها ألواناً من الاستعمار السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. وهو من الدعاة العمليين النشيطين للجامعة الإسلامية، مَثَلُه في ذلك مَثَل صديقه محمد رشيد رضا. ولئن كان وَضْع العرب سيئاً بسبب فقدانهم أسباب التقدّم، التي كانت ظاهرة مميّزة لهم، وتلطُّخِهم بالرذائل الأخلاقية التي تقصيهم عن حقائق الإسلام وأسرار تشريعاته، وبتنكرِهم للتربية الأخلاقية التي جاء بها الدين، ثم باستخذائهم وشعورِهم بالغلبة والقهر، وعدمِ القدرة على التجديد والبناء والعمران. فإنهم كانوا يحتاجون في نظره

إلى تغيير واقعهم بالأخذ بالتربية والتعليم، والتطلع إلى معالجة جملة من الجوانب؛ منها الديني العقدي، والتربوي الأخلاقي، ومنها الأوضاع السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية للعالم الإسلامي. وهكذا نجد الأمير شكيب يلخّص آراءه وجملة أصول دعوته في نقاط لا بد من الوقوف عندها والتأمل فيها؛ وهي تلك التي أودعها تقديمه لكتاب حاضر العالم الإسلامي الذي نسب إليه حيث غلب الفرع أصله وتقدّم به المعلِّق على واضعه. فهو يصور أولاً المجتمع الإسلامي بالوضع الذي تردّى فيه بسبب الحملة الصليبية وما تبعها من عداء جنسي عرقي، وتكالب استعماري، قائلاً: "فالعالم الإسلامي الذي لا يزال محورَ سياستهم قهرهُ وإعناته، وتجريدُه من السلاح بكل وسيلة، والحيلولةُ بينه وبين الاتحاد والتماسك بكل حيلة، احتياطاً من وراء رسفانه في قيوده الحاضرة، وأماناً على ديمومة خنوعه لسلطتهم القاهرة، لا يصح أن يُقال إنه بلغ من النهضة الدرجة التي تكفل له حطم سلاسله المثقلة، واسترداد ممالكه العريضة الطويلة، واستئناف معاليه الخالية، ومصيره مع العالم الأوروبي إلى حالة متساوية" (¬1). ثم يؤكد ذلك بذكر نتائج هذا الوضع القائمة إلى اليوم في أطراف العالم الإسلامي، فيدعو إلى التغيير بالعمل الجاد، والتصدّي للأعداء، والثبات على الحق: "نعم صار المسلمون، إلا الأقل منهم، إلى زمان لا تغني عنهم كثرتهم شيئاً، بل صارت الفئة القليلة من غيرهم تتحكم في الفئة الكثيرة منهم ... وراح الأجنبي يفتح بلدانهم بهم، ويسلط بعضهم ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإسلامي: مقدمة ط (1): ز - ح.

على بعض، ويقتل هذا بذاك مستفيداً من قتل الاثنين ... وإذا سألت أحدهم: لماذا إعطاء هذه المقادة كلها، واقتحام الموت في سبيل الأجنبي الذي تَغَلَّبَ عليه؟ أجابك أنه إنما يساق إلى الموت رغماً. والحال أن الموت الذي يخشاه في عصيان الأجنبي هو ملاقيه في طاعته! فهو من خوف الموت في موت، ومن حذر العذاب في أشد العذاب. فلا بد لاستقلال الإسلام من زوال هذه الأوهام، ولا بدّ من انتشار المعارف التي لا تجتمع مع الذل في مكان. ولا تبرح دون تلك الغاية مصاعبُ وقُحم، ومصائبُ وغُمم، وليالٍ مظلمة طوال، ومعارك تشيب لها ذوائب الأطفال" (¬1). وبروح المجاهد المؤمن يرد على مكائد المثبّطين الداعين إلى اليأس والقنوط والرضا بالدون، فينفي مقالاتهم ويبطل دعاويهم: "ومِن أعظمِ الخطأ الظن بأن الشرق لا يلمّ على شعث، وأن آسية وإفريقية لن تنهضا من عثار، وهما ثلثا العالم. ولقد سار الشرق في مدة وجيزة عقبات جياداً، واجتاز أزمات شداداً، وهو ماضٍ في سيره إلى الأمام. لا سبيل بعد اليوم إلى تعويقه، ولا حاجز يمكن أن يقف في طريقه، بدسائس تُلْقَى، ومبالغ سرية تُنفق، وأخلاق تُفسد، وذمم تُشترى، وأشراك تُبَث، وأسياف تُسَل. ولا المحلّقات في الجو تقدر على كم الأفواه، ولا الغازات السامة تقوى على إطفاء نور الله. ولا تزيد هذه الوسائل تلك الأمم المستضعفة إلا شوقاً إلى الحرية، ونداء إلى الثارات، وإصراراً على الضغائن. ومهما يكن من حيل العباد فللكون سَنن هو سائره، ولله أمر هو بالغه" (¬2). ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإسلامي: مقدمة ط (1): أ. ح. (¬2) المصدر السابق: مقدمة ط (1): ط.

وفي نهاية تلك المقدمة يقرر الأمير شكيب أن نهوض الشرق هو الشرط الأول في سؤدد السلام، وراحة الأنام، وحقن الدماء الحرام، وحفظ موازنة العالم واستواء الأقسام. ويلتفت إلى المستضعفين داعياً إلى أسباب النهضة وموجبات القوة والمنعة قائلاً: "فلا مندوحة للأمم الشرقية عن الاقتداء باليابان في التماس المنعة، ومضارعة الدول الغربية في ارتياد العلم واقتباس الصنعة، حتى إذا قرع النبع بالنبع، ووقع النصل على النصل اقتنع كلٌّ بدياره، وأمسك الجار عن هضم جاره ... فليحرص الشرقيون من كل فريق أن يكونوا أُولي قوة مانعة، وأن يوحّدوا كلمتهم فيجعلوها كلمة جامعة. فإنّ بقوتهم خلاصَ الغرب والشرق، والإدالة من الحرب إلى السلم، ومن الباطل للحق، بفضل الله وكرمه" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإسلامي: مقدمة ط (1): ك.

بدء النهضة الفكرية بتونس وبلاد المغرب

بدء النهضة الفكرية بتونس وبلاد المغرب كان تأثير هذه الثلة من الساسة والمفكرين والعلماء والمصلحين ملموساً بوضوح في كل مجالات الحياة في بلاد الإسلام عامَّة، وفي المشرق العربي وبلاد المغرب خاصة. وكان هذا التأثير عميقاً تتجاوب أصداؤه في بلاد الخلافة وسائر الولايات الخاضعة لحكمها والتابعة لها. وقد كانت الدول الاستعمارية، بقدر مُداراتها للباب العالي وكيدها له ومهاجمته، تسعى بكل الوسائل للتقليل من شأن أولئك الزعماء ومطاردتهم أينما كانوا، غير أن هذه المعاملة الشرسة لم تزد دعوتهم إلا توهُّجاً، ومناهجهم إلا انتشاراً في مختلف الأقاليم، عن طريق المحاضرات واللقاءات والصحافة والنشر. وكان حظ تونس من ذلك هامّاً بما ظهر فيها من تيارات إصلاحية وحركات فكرية ومدارس علمية، إليها يرجع الفضل في حماية البيضة والملة، والحفاظ على الهوية، مع السعي إلى التطوير والتغيير للأوضاع البالية والعقيمة، والحرص على الأخذ بأسباب التقدّم والتفوّق من الحضارة الغربية الجديدة، تنبيهاً للعقول، واستدراكاً لعوامل الرقي والمنَعة. وكان يمضي بالمجتمعات التونسية نحو التلاحم والوحدة وإصلاح الأحوال في كل مجالات الحياة قادةٌ

مَهَرة، ورجالٌ دأبوا على مناهضة الجهل ونشر العلم والقضَاء على الظلم وإقامة العدل. ومن أبرز عناصر هذه الطائفة الراشدة علماء وأدباء وساسة ومفكرون، منهم من تقدم بقليلٍ مولدَ صاحبِ المقاصد، ومنهم من عاصره ممن كان له الأثر المباشر في حسن تنشئته وكمال تكوينه. ولعل من المفيد أن نُعرّف بهذه الثلة المتميّزة ليكون ذلك تمهيداً وتوطئة لترجمة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الثاني. فقد احتك بدون شك بمناهجها الإصلاحية، واستوعب أذواقها وآدابها الاجتماعية، وتأثر بتياراتها العلمية والفكرية. وهي بحسب الواقع والظاهر متجانسة العناصر، متكاملة المزايا والمفاخر، يمكن تقديمها وتصنيفها باعتبار مميزاتها وخصائصها وآثارها في الحياة العامة إلى مدرستين؛ الأولى: سياسية إصلاحية، والثانية: علمية فكرية. وعماد المدرسة الأولى خير الدين باشا وأنصاره من أمثال الوزير المؤرخ ابن أبي الضياف، والشاعر المبدع قابادو، والعالم الذائع الصيت بوحاجب. وتضم الثانية جدَّي مترجمنا العلامة محمد الطاهر ابن عاشور الأول، والوزير العالم محمد العزيز بوعتور، والشيخ سالم بو حاجب. * * *

1 - السيد خير الدين باشا

1 - السيد خير الدين باشا إن قطب المدرسة الإصلاحية وقائدها هو المصلح الفذ أبو محمد خير الدين باشا التونسي الصدر الأعظم للدولة العلية 1238/ 1820 - 1308/ 1890. نطقت بفضله المآثر الخالدة في الحواضر والبوادي، والأحاديث التالدة في المحاضر والنوادي، منوِّهة بدوره الإصلاحي في تاريخ الإسلام قاطبة، ومشيدة بأياديه على الملة والوطن (¬1). وينحدر أبو النهضة التونسية في القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي، من قبيلة شركسية هي الأبازة أو الأبخاز، كانت تقيم بالشمال الغربي من بلاد القوقاز. نُقِل مملوكاً في صغره إلى بيت تحسين باي نقيب الأشراف وقاضي جند بلد الخلافة بإستنبول، ومنها استصحبه خريفَ 1839 إلى قصر الباي بتونس رسول أحمد باي إلى السلطان عبد المجيد. فتلقى من المعارف ما كان ضرورياً لمن سيكون عضواً في حاشية الطبقة الحاكمة. وانخرط في الجندية متدرِّجاً بين جميع رتبها من خيّالة المماليك سلاح النخبة إلى أن بلغ رتبة فريك (فريق) - وهي الرتبة العسكرية التي تلي رتبة الباي - في أكتوبر 1853. ومن حين إقامته بالآستانة وهو صغير، ثم من وقت وصوله إلى تونس التي استقر بها واتخذها وطناً، تهيأت لخير الدين فرص ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 47.

ومناسبات كان بها تمامُ تكوينه وتحديدُ اتجاهه، كما كان لها أبعد الأثر في اضطلاعه بدوره الإصلاحي العظيم الذي وهب له نفسه، وفاق به نظراءه في بلاد المشرق. يشهد لذلك (ج. س. فان كريكن) في مقدمته التي صدّر بها الطبعة العربية لكتابه حين يقول: "وكان خير الدين الأول من بين العديد من المسلمين في القرن التاسع عشر الذي حاول جاهداً تحليل أسباب انحطاط الأمة، ولم يكن له من هدف في صنع مؤلَّفه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك إلا تقديم العلاج لما انتابها من صنوف الضَّعف والوهَن" (¬1). وترجع تلك الفرص والمناسبات أولاً إلى إقامته بالآستانة قبل انتقاله إلى تونس، وثانياً إلى اتصالاته بالشيخ محمود قابادو، وبالضباط الأوروبيين الذين كانوا يعملون بالمدرسة الحربية بباردو، وثالثاً إلى تأثّره بالحياة في باريس التي أقام بها سنوات عدة. ففي إستنبول عاش أبو محمد ظروفاً تاريخية، اجتماعية وسياسية، كانت تدفع بالسلطان محمود، ومِن بعده بولديه السلطان عبد المجيد والسلطان عبد العزيز، إلى اتخاذ ما يلزم من إجراءات للقضاء على الاضطرابات الحاصلة في السلطنة، وعلى الولاة المنحرفين ولاة الممالك البعيدة الذين شقوا عصا الطاعة، وامتنعوا من الانقياد لأوامر الدولة، وأطلقوا أعنّة الأغراض والشهوات، وتصرفوا بمقتضى أهوائهم بدون قيد شرعي أو سياسي مما يسّر للأجانب التدخل في أحوال المملكة وإفساد سياستها بما يناسب أغراضهم (¬2). وأُعلنت التنظيمات الخيرية، فعُوّضت عساكرُ الانكشارية بالعسكر النظامي، وقطع دابر أمراء الإيالات "الدرابي"، فانقطعت ¬

_ (¬1) خير الدين والبلاد التونسية: 1850 - 1881، تعريب البشير بن سلامة: 711. (¬2) خير الدين. أقوم المسالك: (2) 1/ 165.

بذلك المظالم الناشئة عن ذينك الفريقين، وضبطت أسس تصرّفات الدولة في الحال بإعانة من رجال الدولة وعلمائها العاملين (¬1). وقد انقسم الناس حول تلك التنظيمات، داخل المملكة وخارجها بالولايات التابعة لها، ودعا السلطان الولاة إلى الأخذ بها وتطبيقها في إيالاتهم، خصوصاً بعد ما ظهر من تأييد العلماء لها، وحكمهم بموافقتها للشرع، فأظهروا التقاعس في الإجابة لها، والتردّدَ في قبولها، والنفورَ منها. وبالإيالة التونسية التي أظهر بها والي الدولة العلية أحمد باي ميلَه إلى تكوين جيش نظامي عصري يضاهي جيش دولة الخلافة ومصر، تكوّنت المدرسة الحربية بباردو في 5/ 3/ 1840. وكان الباي يطمح من ورائها إلى تكوين أكاديمية كالأكاديميتين العسكريتين بإستانبول وبالقاهرة، جاعلاً الهدف منها تلقين طلبتها ما يلزم العسكر النظامي من العلوم؛ كالهندسة والمساحة والحساب وغيرها مما يعدّ آلة التقدم الحقيقي، وكذلك تعليمهم اللغة الفرنسية التي كتبت بها مصنفاتهم العلمية، واللغة العربية والإسلام اللذين يحتاجونهما لحياتهم اليومية (¬2). ووجد هذا الاتجاه صدى عميقاً في نفس خير الدين؛ فهو رغم عدم دخوله هذه المدرسة، وانتسابه إليها كالوزيرين حسين ورستم، قد كان ذا صلة متينة بأحد أساتذتها العالِم والكاتبِ الشاعرِ محمود قابادو الذي يدرّس طلابها العربية والإسلام، والمُراجع لترجمات نحو أربعين كتاباً تعالج المسائل العسكرية صدرت عنها، كما عُرف أبو محمد بالتردّد على الأساتذة الأوروبيين بالمدرسة، من ضباط وغيرهم وبملازمتهم. وهكذا اكتسب انطباعاته الأولى عن عالم ¬

_ (¬1) خير الدين. أقوم المسالك: (2) 1/ 166. (¬2) ج. س. فان كريكن: 13.

أجنبي ساحر، سيهتم به طوال حياته. فعنهم تلقى الفرنسية وأخذ مبادىء فن الحرب العصري (¬1). وبباريس التي زارها مرتين؛ الأولى في ركب الأمير أحمد باي مع ثلة من وزرائه؛ من بينهم مصطفى خزندار وابن أبي الضياف في 5/ 11/ 1846، والثانية في 4/ 10/ 1853 للعلاج والمفاوضة من أجل القرض مع المصرفيين، واستمرت إقامته هذه بها إلى 10/ 8/ 1858. ثم تكررت زيارته لها أكثر من مرّة في مهمات مختلفة متعددةٍ في أعوام 1861، 63، 65، 67. وتأكدت علاقاته واتصالاته الرسمية والخاصة فيها بالشخصيات الفرنسية. فأمكن له تعميق معرفته لأوروبة العصرية، ورأى كيف تعمل حكومة مراقبة بصفة واضحة من مجلسٍ نوابهُ منتخبون من الأهالي، كما انبهر بما يوليه المسؤولون هناك من عناية بالتعليم والاقتصاد. وبقدر إعجاب الشاب المُتَأَوْرِب بالتقدم والمدنية الأوروبية، كان إصداعه برغبته وإعلانه عن دعوته. فهو يوجه إلى العلم والاعتقاد بأن كل ما شاهده بأوروبة وبباريس خاصة مؤسَّسٌ على العدل السياسي، وتسهيل طرق الثروة، واستخراج كنوز الأرض بعلم الزراعة والتجارة. وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم. وقد جرت عادة الله في بلادهم أن العدل وحسن التدبير والتراتيبَ المحفوظة من أسباب نمو الأموال والأنفس والثمرات، وبضدها يقع النقص في جميع ما ذكر كما هو معلوم من شريعتنا والتواريخ الإسلامية وغيرها (¬2). ولم يقف في حديثه هذا عند التذكير بسنن الله الكونية، وما يترتب عليها، وجوداً وعدماً، من إيجابيات ¬

_ (¬1) ج. س. فان كريكن: 16. (¬2) خير الدين. أقوم المسالك: (2) 1/ 131 - 133.

وسلبيات، بل نجده يتلمس الطريق إلى الإصلاح والتغيير فيقول في مقدمة كتابه، مؤكداً على ضرورة اتخاذ الأسباب لعلاج الأوضاع وتحقيق الرقي والتقدم: "وهل يمكننا اليوم الحصول على الاستعداد المشار إليه بدون تقدم في المعارف وأسباب العمران المشاهدة عند غيرنا؟ وهل يتيسر ذلك التقدم بدون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتي العدل والحرية اللذَيْن هما أصلان في شريعتنا. ولا يخفى أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك" (¬1). وبفضل هذه الظروف والملابسات، والتنقل بين مركز الخلافة، وقاعدة الإيالة، وعاصمة فرنسة. عاش أبو محمد خير الدين الرجلُ السياسي اليقظ تجربةً شخصية متميّزة، تأثّر فيها بالعوامل السائدة، الفكرية والسياسية والاجتماعية المختلفة. وبعد عمق نظر وتدبّر وتأمّل في الأحداث والأزمات الكثيرة المتنوعة أسبابها ونتائجها، أودع خير الدين نتيجة تجربته كتابه الفريد، وبسط فيه، بعد دراسات ومقارنات وإحصائيات وتحليل للأوضاع في نحو عشرين بلداً أوروبياً، مشروعه ومنهجه الإصلاحي الذي كان موجّهاً منه للعالم العربي والإسلامي قاطبة، وبالخصوص إلى وطنه تونس. وقد ذاع صيت هذا المؤلَّف، وتناوله المؤرخون والنقاد والساسة بالدرس والتحليل. وهو بدون شك يكشف عن عقل مستنير يبحث عن موقف يقفه العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهذا الموقف المنشود إزاء المدنية الأوروبية، هو موقف أكثر نضجاً من ذاك الذي اتخذه رفاعة الطهطاوي، وأقربُ إلى المحيط العربي ¬

_ (¬1) المرجع السابق: (2) 1/ 130 - 131.

والإسلامي الذي تمثَّله ابن خلدون، وأكثر عزماً بإزاء سيطرة الثقافة الأجنبية واعتباراتها الفلسفية والأخلاقية (¬1). وضع أقومَ المسالك لا في صورة مذكرات سياسيٍّ يباشر عمله، ويبين للناس ما يخطر له من ملاحظات وأسرار، ويدافع عن مواقفه، وإنما كان عملاً مركزاً، وتحليلاً لواقع، وتطلعاً إلى مستقبل، دوّنه صاحبه بإثر استعفائه من وزارة البحر، وتخلّيه عن رئاسة المجلس الأكبر، معتكفاً بقصره خمس سنوات إلى تاريخ صدوره. وضعه كما وضع ابن خلدون مقدمته في عزلة عن الناس، غير متقلّد المهام الخطيرة الحكومية كالوزارة الكبرى بتونس، والصدارة العظمى بإستنبول إلا بعد فراغه من تأليفه ونشره: 1867 - 1868 م. وكان نشره له بالعربية والتركية ليتمكّن المسؤولون من العرب والمسلمين من الاطلاع عليه والإفادة منه، وباللغتين الفرنسية والإنجليزية ليعلم المشككون من الساسة الغربيين بتحرك المصلحين ونهضتهم ببلادهم فإن لهؤلاء كامل الاستعداد وأدق التخطيط لعملهم الإصلاحي. وربما اهتم خير الدين في توجيه خطابه الإصلاحي - ابتداء - بعنصرين هامين في الأمة هما العلماء والساسة. دعاه إلى ذلك ما لاحظه لدى الفئة الأولى من وجود طائفة من علماء الإسلام الموكول لأمانتهم مراعاة أحوال الوقت في تنزيل الأحكام، معرضين عن استكشاف الحوادث الداخلية، وأذهانُهم عن معرفة الحوادث الخارجية خليّة. ولا يخفى أن ذلك من أعظم العوائق عن معرفة ما يجب اعتباره على الوجه اللائق. أفيحسن بأساة الأمة الجهل بأمراضها، أو صرفُ الهمة إلى اقتناء جواهر العلوم مجردة عن ¬

_ (¬1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 123.

أعراضها؟ وما لاحظه في الفئة الثانية أو في بعض رجالها من جهل بالذي يحدث أو تجاهل له رغبة في إطلاق الرئاسة (¬1). فإلى هاتين الفئتين خاصة، وإلى كل أفراد الأمة الإسلامية عامة، تقدم خير الدين بمشروعه الإصلاحي. فذهب إلى أبعد مما ذهب إليه قابادو حين ربط بين التقدم العمراني وبين العدل والحرية، مضيفاً إلى العناصر المادية التي نوّه بها قابادو، التنظيمات الدنيوية. وإنك لتعجب من هذا المفكر، وقد جمع بصورة لا نظير لها من قبل بين الأصالة والحداثة، بين الموروث العقدي والحضاري والفكري المتمثل في الإسلام وفي رجالاته كابن خلدون والماوَردي من جهة، وبين التطور العلمي والتقدم التقني اللذين تنطق بهما منجزات العصر الحديث من جهة ثانية (¬2). انطلق خير الدين في بناء هذا المشروع من واقع أليم تردّى فيه المسلمون عامة؛ وذلك بما لحقهم من الشين والخلل في العمران والسياسة. أما الشَّين فبالاحتياج للغير في غالب الضروريات الدالِّ على تأخّر الأمة في المعارف، وأما خلل العمران فبعدم انتفاع صناع البلاد باصطناع نتائجها، الذي هو أصل مهم من أصول المكاسب، وأما الخلل السياسي فهو المتولد عن احتياج المملكة لغيرها. وهذا مانع لاستقلالها، مُوهن لقوّتها، لا سيما إذا كان متعلق الاحتياج الضروريات الحربية التي لو تيسر شراؤها زمن الصلح لا يتيسر ذلك وقت الحرب ولو بأضعاف القيمة (¬3). وربما كان سبب ذلك كله فساد النظام وما يخالطه من جور وظلم ¬

_ (¬1) خير الدين. أقوم المسالك: (2) 1/ 120 - 121. (¬2) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 129. (¬3) خير الدين. أقوم المسالك: (2) 1/ 128 - 129.

واضطرابات وفتن. فكم ندّد خير الدين بحكومة الإطلاق وبمساويها. وذلك لِما تميّزت به من استبداد الرأي فيما ينبغي الاستشارة فيه، ولِما أظهرته من عدم المبالاة بالرعايا والمحكومين، فتصرّفت في حقوق الناس تصرُّف من لا يخاف تبعة، ولا يخضع لحساب أو مراقبة. ويقابل هذه الأوضاع السائدة الفاسدة في العالم الإسلامي ما عليه أوروبة من تنظيمات، وما بلغته من قوة وتمدن. وهل التقدم المدني الإنساني إلا مرهون بحجم الثروة والعلوم والعمران والقوة السياسية في الجماعة، كما هو مرهون بطبيعة الروابط الاجتماعية وبما ينشأ عنها من تعاون وتعاضد في هيئة الاجتماع (¬1). ولا شك في أن الفكر الإسلامي عند هذا المصلح قد تكفّل بجميع هذه المزايا. فهو يعلن عن ذلك في منهجه، ويصرِّح بأن التاريخ يشهد بأن التطبيق الصريح الأمين للشريعة الإسلامية قد أدّى دوماً إلى نتائج باهرة، لا ترجع إلى المصادفة، ولا إلى تأثير ظروف خاصة، وإنما إلى الأثر الطبيعي لروح الشريعة ولاستعداداتها الفذة (¬2). وهو مع موقفه هذا الذي أكّده غير مرّة في مقدمة كتابه، يعتقد أن الملتزم به مدعوّ دون شك إلى أن يأخذ بأسباب التطور والتقدم، إعمالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (¬3)، ولأن التجاور يوجب التجانس في التنظيمات الضرورية والتنافس عليها. ومن لم يفعل جَرَفَه التيار وقضى على وجوده. هذا وقد حكى عن بعض معاصريه: أن التمدن الأوروبي تدفَّق سيلُه في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع. فيُخشى ¬

_ (¬1) رفيق العظم. السوائح الفكرية في المباحث العلمية: 1/ 4 - 5. (¬2) خير الدين. مذكرات بالفرنسية: 141. (¬3) الأنفال: 60.

على الممالك المجاورة لأوروبة من ذلك التيار، إلا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق (¬1). وأكّد ذلك بمقالة مافلي روسي: إن الممالك التي لا تنهج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية والتراتيب العسكرية توشك أن تكون غنيمة لهم ولو بعد حين (¬2). ولبيان الخطة الإصلاحية التي يدعو إليها يعرض في مؤلفه العجيب مشروعَه الإصلاحي. وهو يتصدّى فيه لثلاث مشاكل وضع بجانبها حلولها هي: مشكلة تقدم أوروبة وضرورة الأخذ عنها، مشكلة نظام الحكم المطلق الاستبدادي وضرورة أن يستبدل به نظام مقيد بالشرع والقانون والعدل، ومشكلة التخلف والانهيار العمراني وضرورة الخروج منه ببناء نظام علمي تكون فيه الحرية شرطاً لازدهار الاقتصاد والعمران، نظام شبيه بالنظام الاقتصادي الرأسمالي الأوروبي. وقد عقّب المشاكل الأساسية، التي تتبّعها بالتعليل والتحليل والبحث عن الحلول والمخارج، بباب التمدن الأوروبي الذي رسم عن طريقه سبل المقارنة، وتحدّث فيه عن علماء أوروبة وإنجازاتهم، ملخصاً المكتشفات والاختراعات فيما بين القرن الرابع عشر والثامن عشر، كما تعرّض لأبرز مقومات النهضة المسيطرة المهيمنة والمشهودة، كالتعليم والأكاديميات والمكتبات، والحريات، والحياة الاقتصادية، ونظم الحكم، مثيراً بذلك انتباه قرائه ومثبّتاً في عقولهم عوامل النهضة وأسباب الرقي والمنعة. ¬

_ (¬1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 130. (¬2) خير الدين. آراء حول الاصلاحات الضرورية للدول الإسلامية. بالفرنسية: 90 تعليق 29.

2 - أحمد بن أبي الضياف

2 - أحمد بن أبي الضياف هو الوزير المؤرخ والفقيه الأديب أبو العباس أحمد بن الحاج أبي الضياف بن عمر بن أحمد العوني 1219/ 1804 - 1291/ 1874. كان من أعلام السياسة وأقطابها في عهدي المشيرين: الأول أحمد باي، والثاني مَحَمد باي. حفظ القرآن في صغره بمكتب سيدي ابن عروس، ثم دخل جامع الزيتونة فتخرّج على أئمته. وأخذ عن مشايخ الإسلام إسماعيل التميمي ومحمد بيرم الثالث وإبراهيم الرياحي ومحمد ابن الخوجة، وعن القاضي الشيخ محمد البحري بن عبد الستار، وعن المفتي الشيخ أحمد الأبي، وعن العالم الصالح الشيخ محمد بن ملوكه، وعن الكاتب البارع محمد بن سليمان المناعي. برع في علوم الوسائل والمقاصد، وبرّز في قلم الإنشاء على طريقة لسان الدين بن الخطيب. بدأ حياته العملية بخطة العدالة، ثم اختاره الأمير حسين باي لكتابته الخاصة قبل أن يُلحقه بديوان الوزير محمد شاكير صاحب الطابع. وهكذا ذاع صيته وبزغ نجمه، وأصبح مضرب الأمثال في صناعة الكتابة حتى تمثلوا فيه قول الشاعر: وإن أقرّ على رقّ أناملَه ... أقرّ بالرقّ كتّاب الأنام له وهو إلى ذلك من أبدع الناس نظماً وأجودهم شعراً. وأول من

كتب من الإيالة للدولة العلية بالقلم العربي. له رسالة في المرأة، ومقامة دعاها المقامة البشرية في الأنوار البشيرية. تقلد المراقب العسكرية، فتدرّج من آلاي أميني وقائم مقام إلى أمير لواء وأمير أمراء. ولِما ظهر فيه من القدرة والفطنة وليَ السفارة بإستانبول مرتين، وانتقل من كاتب سرّ الباي إلى وزيره. صاحبَ المشير الأول أحمد باي في زيارته إلى باريس، وعيّن عضواً بمجلس المشير الثاني مَحَمد باي. وفي عهد المشير الثالث محمد الصادق باي سماه الأمير عضواً بالمجلس الأكبر المنبثق عن عهد الأمان. وإن محبته للوزير خير الدين، وتقديره لآرائه، وإعجابه بتصنيفه لأقوم المسالك جعله يقول في تقريظه: "فرأيته كالصبح في الدجى الحالك، يحذّر السالك من مهاوي الغرور والمهالك، فزادك الله كمالاً على كمالك. أوضحتَ فيه من قواعد شريعتنا المحمدية الصالحة لكل زمان، بما فيها من اعتبار المصالح والاستحسان، ما يروي الظمآن بأبلغ بيان، حتى اتَّضح سرّها للعيان، وبيّنتَ أسباب التقدم في المعارف التي أساسها العمران، الذي جاءت به الشرائع والأديان، على أعذب أسلوب جاذب للقلوب. وقمت فيه بشهادة الله مقام علماء الدين والأئمة المهتدين، بنقل ما حررته عن أولئك المجتهدين، فكان كتابك في ذلك كسراج المهتدين" (¬1). وبعد ذلك بدأ نجم ابن أبي الضِّيَاف في الأفول في الأشهر الأخيرة من سنة 1281/ 1864، بعد أن حيكت له من الخصوم والمزاحمين الدسائس. ففقد حظوته بإبعاده من السلطة، ولم يعد له ¬

_ (¬1) المنصف الشنوفي. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي، تقديم وتحقيق: (2) 2/ 866.

أي نشاط ظاهر. وتدارك أمرَه صديقُه خير الدين في تلك الآونة لما كان بينهما من صفاء ومودة. فسمي عضواً في اللجنة المكلّفة بمحاسبة الجنرال أحمد زرُّوق، وعيّن بعد ذلك مستشاراً أولاً بالقسم الثالث بالوزارة الكبرى، قيِّماً على الأحوال الشخصية بما له هناك من الصلاحيات القانونية. وبظهور التعاطف بينه وبين الوزير خير الدين، وتقدُّم العمر به، ازدادت مضايقة الوزير الأكبر مصطفى خزنة دار له. واضطَره الأمر إلى الاستعفاء من أعماله ومهامه في الدولة في ذي قعدة 1288/ فيفري 1872. وقد سعى الوزير خير الدين لدى الأمير محمد الصادق باي لإعطائه مرتباً عمرياً تقديراً لما كان له من خدمات، كما اشترى منه مجموعة كتبه التي أودعها الوزير خير الدين المكتبة الصادقية بالجامع الأعظم (¬1). ولقد كانت الفترة، التي قضاها ابن أبي الضياف في الأعمال الإدارية والكتابة في الديوان، والممارسة لشؤون السياسة في الدولة الحسينية طويلة لا تقلّ عن خمسة وأربعين عاماً من حين ضَمَّهُ الأمير حسين باي إلى كتابته الخاصة، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة في أوائل شوال 1142/ أبريل 1827، إلى حين مغادرته القصر نهائياً قبل وفاته بعامين. وفي الأيام القليلة التي بقيت من عمره، والشبيبة ولّت، والقريحة كلّت، والقوى ألقت ما فيها وتخلّت، عكف على تدوين تاريخه الشهير المعروف بإتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان. وقد جعله على مقدمة ذات عقدين: العقد الأول هو خلاصة آرائه وآثار تجربته، ومظهر إصلاحه ومجتلى دعوته، والعقد الثاني ¬

_ (¬1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 266، 323.

رواية وتلخيص. ففي تمهيده إلمام بأخبار أمراء إفريقية من الصحابة والتابعين ومن خَلَفَهم، وحديث عن بيوت الملك في القيروان والمهدية وتونس على الإجمال. وأبواب الكتاب بعد ذلك ثمانية للملوك بعددهم، لم تدوّن أخبارهم، ولا قيّدت آراؤهم من أحد قبله. وهي القصد من التأليف. عرّف فيها بالملوك وسيرهم، والأحداث التي حصلت في عهودهم. لم يبخل فيها عن ذكر رأيه ببيان الأسباب للمسببات، وعوامل الهزّات والفتن والاضطرابات، ونتائج الأحداث المتعاقبات، مع بذل النصيحة لمستحقيها، وعرض المواقف وتوثيقها ونقدها. وقد ضمن كتابه ما خطه بقلمه في تلك المناسبات من رسائل للساسة والعلماء عن ملوك الدولة أو عن نفسه، وارتفعت بذلك أهمية تصنيفه، خاصة بما حواه من شهادات معاصرة. وأقبل الناس من حين فراغه منه على استنساخه وقراءته وروايته وتهادي نسخه على قِلَّتها، رغبة في الوقوف على ما فيه، والحصول على فوائده ودراريه. ولعل مما يتأكّد ذكره من أعمال ابن أبي الضياف وآرائه الإصلاحية الاجتماعية والسياسية يكمن في قضايا باشرها، وملاحظات سجّلها، وأفكار ارتآها، وتيارات سايرها أو كان له أثر فيها. ومن أبرز ما نحتاج إلى بيانه من ذلك قضية عهد الأمان التي جعلها المؤلف جزءاً من عنوان تاريخه، تنبيهاً إليها وتنويهاً بها، وتأكيداً عليها، بسبب ارتباطها بالتنظيمات الخيرية التي دعي إلى تطبيقها في كل الإيالات من طرف ولاتها وحكامها. وكما ألمعنا إلى هذا من قبل فإن نصوصها وقوانينها صدرت بعاصمة الخلافة: خط شريف كلخانة 1839، وخط همايون 1856. وهي من الدولة العثمانية ضبط للنظام، وأولى خطوات الإصلاح التي اقتضتها

مصالح العباد والبلاد. قد تدخلت السلط الأجنبية ومن يمثلها لدى الدولة العلية للالتزام بها وتطبيقها. وورد على الإيالة التونسية في محرم 1256/ مارس 1840 فرمان بها من السلطان عبد المجيد إلى المشير الأول أحمد باي. فجمع هذا له رجال الدولة وأعيانها. وبعد عرضه على أسماعهم أعلن الباي امتناعه من تطبيق التنظيمات قائلاً: "إن هذا غرض محمود، ولا بد من زمن لإبرازه إلى الوجود، لاختلاف الطباع والبقاع، وهو أمر لا محيص عنه ولا بد منه" (¬1). وتدخل بعد ذلك الصدر الأعظم في الأمر فلقي نفس الصدود والإعراض. وحرص قنصلا فرنسة وإنجلترة روش ووود على الباي بشتى الطرق، وكان من أخطرها إبحار أسطول فرنسي في مياه تونس في أغسطس 1856، دعا قائدُه الباي على لسان دولته إلى إعطاء الحرية والأمن للرعية بالاستجابة للأمر السلطاني خط همايون. فما كان من المشير الثاني محمد باي إلا أن سارع بقبول الإصلاحات، تاركاً الناس من حوله منقسمين إلى فئتين: فئة يمثلها الجنرال حسين الذي يرى في هذه الإصلاحات تحكيماً للقوانين بدل الشريعة، وانتزاعاً للسلطة من أيدي أربابها بإسنادها إلى المجالس والمحاكم التي جاءت بتأسيسها التنظيمات، وألحّ على إيجادها قناصل الدول الأجنبية، وفئة ثانية مقتنعة بالإصلاحات، قابلة لها. أبرز من يمثلها الوزير الأكبر مصطفى خزنة دار ووزير البحر الجنرال خير الدين. أما ابن أبي الضياف فقد كان في تلك الآونة من المتردّدين الرافضين بدعوى أن الإصلاحات ستغلّ أيدي الباي. وكان ردّ المشير ¬

_ (¬1) المنصف الشنوفي. تحقيق أقوم المسالك لخير الدين: 18 - 19.

على ذلك حاسماً حين قال: "أرضى بفقد حرية التصرّف من أجل نفع الرعية" (¬1)، والباي متأثر في موقفه هذا بمقالة شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع: "إننا نخشى غضب الدولة العلية، وأصول التنظيمات لا تخالف ديننا" (¬2)، وكان هذا جارياً على رأي شيخي الإسلام عارف بك بالآستانة، وإبراهيم الرياحي بتونس. وبتكليف ابن أبي الضياف بصياغة قانون عهد الأمان الذي يعتبر صورة من التنظيمات الخيرية وتطبيقاتها، وبالاستجابة للفرمان السلطاني استبشر خير الدين بموقف المشير الثاني، ودعا له "أن يمنحه الله من يعينه بنصائحه على إعداد نص القانون التنفيذي". واعتبر المؤرخون وأهل تونس هذه الإصلاحات نهاية للمجتمع الإسلامي التقليدي، وبداية مسارٍ آخر لا يعلم منتهاه إلا الله (¬3). وفحوى عهد الأمان الذي تمّ الإعلان عن قانونه بمجلس الباي بحضور أعضاء الحكومة، وأهل المجلس الشرعي، والأعيان، ورجال الدين من الملَّتين اليهودية والنصرانية، وقناصل الدول، والأميرال الفرنسي في 20 محرم 1274/ 9 سبتمبر 1857، تتمثل فيما نصت عليه بنوده، وتعهد به الباي من ضمان مساواة كل رعاياه أمام القانون، وأمام الضرائب، كما أعلن فيه عن تأسيس محاكم تجارية مختلطة لفض النزاعات بين التونسيين والأجانب، وتنظيم الخدمة العسكرية، وضمان حرية الأديان، ومنح الأجانب حق ممارسة كل المهن، وحق الملكية العقارية في البلاد (¬4). ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف: 2/ 266. (¬2) كريكن: 5 - 7. (¬3) كريكن: 8 - 9. (¬4) ابن أبي الضياف: الإتحاف: (2) 4/ 268 - 271.

وحين قال بعض المتزلّفين في مجلس الباي عند قراءة شرح المادة الأولى من قانون عهد الأمان - وهي كما ذكر ابن أبي الضياف قاعدة كل القواعد - أي شيء بقي لسيدنا؟ ردّ عليه الوزير خير الدين، وكان أثبت القوم جناناً وأقواهم إيماناً: بقي لسيدنا ما بقي للسلطان عبد المجيد، وما بقي لسلطان فرنسة، وسلاطنة بريطانية، وغيرهم من السلاطين بالقانون (¬1). وفي ذكر هذا دلالة صريحة على تغير اتجاه ابن أبي الضياف في نظرته إلى نظام الحكم، وهو ما وضع لتحليله العقد الأول من مقدمة تاريخه كما ذكرنا. فالملك أو الحكم لديه منصب ضروري للنوع الإنساني. وهو واجب على الأمة شرعاً، راجع إلى اختيار أهل الحل والعقد فيها. وهو ثلاثة أصناف: ملك مطلق، وملك جمهوري، وملك مقيد بقانون شرعي أو عقلي سياسي (¬2). وتتضح من المقارنة بين الأصناف الثلاثة خصائص ومميزات ينفرد بها كل صنف منها. فالمَلِك المطلق يسوق الناسَ بعصاه إلى ما يراد منهم بحسب اجتهاده في المصلحة، والملك فرد غير معصوم. وأجساد الخلق منساقة منقادة له انقياد البهائم والأنعام، خوفاً من حاميته التي جعلها آلة غلبته وقهره، وربما حصل من هذه السياسة انطباع الرعايا على صبغة الانقياد والتسليم بما تخلقوا به من ذلّ المغارم والقهر الذي جدع أنوف آبائهم، ومحا عزّة نفوسهم بمرور السنين. وهذا الصنف من الحكم مرفوض شرعاً وعقلاً، لأنه تصرف في عباد الله وبلاده بالهوى - والشرائع إنما جاءت لإخراج المكلف من ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 276 - 277. (¬2) المرجع السابق: (2) 1/ 7 - 9.

داعية هواه - ولما هو فيه من التغلب والقهر اللذين هما سبب العصيان والفتنة والثورة. والاستبداد متى وقع زال معه الأمن، وبزوال الأمن يزول الأمل، وبزوال الأمل يزول العمل (¬1). وقد قرر ابن خلدون من قبل أن الظلم مؤذن بفساد العمران، كما أنه مفضٍ في تقدير ابن أبي الضياف إلى نقص في بعض الكمالات الإنسانية، حتى صار بعض أهل الجهات من المسلمين عبيدَ جباية، ليس لهم من مسقط رؤوسهم وبلادهم ومنبت آبائهم وأجدادهم إلا إعطاء الدرهم والدينار، عن مذلة وصغار، والربط على الخسف ربط الحمار، إلى أن زهدوا في حب الوطن والدار، وانسلخوا من أخلاق الأحرار. وهذا أعظم الأسباب في ضعف الممالك الإسلامية وخرابها (¬2). وقد ذكر من صنوف الظلم وضروبه ما هو ترجمة بل صورة من واقع المسلمين في مختلف ديارهم، وحمله ذلك على دفعه، وردّه وإنكاره على النظم التي قامت عليها حكومات الإطلاق. أما الملك الجمهوري فهو كذلك الذي يشاهد في بلدان أميركة وغيرها؛ يقوم الناس منهم باختيارهم من يلي سياستهم ومصالحهم لمدة معينة. فإذا تمت المدة، يخلفه غيره ممن يقع عليه الاختيار. وقد يستحسنون سيرة أحد رؤسائهم فيمدّدون له. ولا يجعلون لمن يقدم لرئاستهم وحكمهم شيئاً من فخامة الملك وشاراته، بل هو كواحد منهم، ينفذ ما يتفق عليه الرأي من أهل المشورة. ولهم في ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 11، 20. (¬2) المرجع السابق: (2) 4/ 1، 26.

ذلك قوانين يحترمونها احترام الشرائع المقدسة ويقفون عند حدِّها (¬1). ولما كانت تونس دولة ملكية، كان الأصل أن تلتزم بقانون الملك الإسلامي من كتاب الله وسنّة رسوله، واستنباطات الأئمة المجتهدين وقياساتهم، وحفظ مقاصد الشريعة في تصرّفاتها مع الخاصة والعامة حتى يكون الملك الذي هو ضروري للمجتمع الإنساني جارياً على قانون قويم من الدين في شروط صاحبه، وما يجب عليه من العدل والرفق والأمانة، واتباع المصلحة وإن خالفت هواه، والاستشارة في الأمر كله، والانقياد لأوامر الله على لسان من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (¬2). وحين امتدت العصور، واختلفت الأوضاع، انتبه السلطان العثماني سليمان القانوني إلى السبب الرئيسي في تغيّر الأحوال، فخطب في أهل ديوانه معلناً عن إحداث نظام للدولة. وجاء في خطابه: "سبحان الدائم الباقي الذي لا يزول ملكه. ها نحن سلكنا طريق آبائنا وأجدادنا، ولا نعلم ما سيكون بعدنا. وربما كانت ذريتنا فيهم الصالح والطالح، والمستقيم وغير المستقيم، والحائد عن الاستقامة ربما يكون سبباً لزوال هذا الملك بعد انتظامه وتشتيت الإسلام. وإني عزمت على جعل قانون يحتوي على تخويفٍ وردعٍ لمن يخرج من ذريتنا عن الصراط المستقيم" (¬3). وفي هذا العقد الأول من مقدمته يلتفت ابن أبي الضياف إلى ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 37. (¬2) المرجع السابق: (2) 1/ 45 - 46. (¬3) المرجع السابق: (2) 1/ 47.

مسالك الغربيين في تنظيم دولهم، ويحيل على رفاعة الطهطاوي في الفصل الثالث من المقالة الثالثة من تأليفه تخليص الإبريز، يلخّص القانون الفرنسي تلخيصاً حسناً بديعاً، يقول فيه: "وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لِتعرِفَ كيف حكمت عقولهُم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلماً أبداً. والعدل أساس العمران" (¬1). وعلى هذا النحو جرى الوزير المصلح خير الدين في أقوم المسالك، حيث جمع فيه من فرائد السياسة ما تتحلى به الرئاسة. عرَّبَ أكثره مما نقله من كتب فرنسية بأسلوب ممتع غريب المنحى، يشهد لصاحبه بالتقدم وقوة العارضة (¬2). وابن أبي الضياف وهو يُوَجِّه إلى هذا المنحى السياسي، على الوجه الذي دلّ عليه الطهطاوي ورغّب فيه خير الدين، لا ينسى أن يؤكّد ذلك بمقالات الفقهاء والمؤرخين أمثال الشاطبي في مقاصده، وابن خلدون في مقدمته. وهو مثلُ معاصريه لم يُخْفِ إعجابه وانبهاره بما شاهده في رحلته إلى فرنسة حين كان في معيّة المشير الأول أحمد باي. نلمس ذلك في قوله يشيد بما رآه في باريس: "هي الغانية الحسناء، الباسمُ ثغرها في وجوه القادمين، مشحونةٌ بأعاجيب الدنيا، جامعة لأشتات المحاسن، ينطق لسان عمرانها الزاخر بقوله: كم ترك الأول للآخر. ما شئت من علوم وصنائع، وثروة وسياسة، وطرق ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 60. (¬2) المرجع السابق: (2) 1/ 60.

وحضارة، وعدل تزكو أنواره. تموج شوارعها بالساكن في مراكز الأمن ومضاجع العافية .. يقودهم الأمل، ويسوقهم الحرص على العمل" (¬1). ولو حاسب المشير الأول نفسه، وهو يشاهد ما شاهده في رحلته الباريسية، لتأثّر لما تأثّر به وزيره وكاتبه خير الدين، وابن أبي الضياف، ولوقف أمام هذا التقابل البغيض الذي يثير في نفوسهم كلهم الشعور بالمرارة: "حضارةٌ زاهية زاهرة، وعدلٌ وأمن، وتقدّمٌ وعلم، وثروة ورخاء في البلد المزور، يقابلها من وراء البحر المتوسط تخلف وظلم واضطراب وجهل وفقر وشدّة". وطبيعي في مثل هذه الأحوال البحث عن الأسباب لتلافي الأمر وتغيير الحال. ومن أجل تصوير ذلك نكتفي بومضات تتبعها لمحات، نرجو أن تكون صادقة معبّرة. فاعتناء الدول الصغيرة والبلاد الفقيرة مثلاً بجمع العساكر فوق الحاجة وترتيبها وتدريبها، وصرف كل العناية إليها طلباً للأبهة والمفاخرة، والتشبّه بالدول الكبيرة والبلاد الغنية، تضطر الملوك إلى إحداث ضرائب ومكوس تؤثّر نقصاناً كبيراً في ثروة الدولة. وليس من الحكمة القيام بمثل هذا، والدنيا اليوم مؤسّسة على الحقوق. وهذا العسكر الذي بالغ المشيرُ الأول في جمعه، إن كان لحماية المملكة ودَفعِ الأجنبي عنها فالمحقق أن ذلك لا يقع وهو مطلب لا طمع فيه، وإن أُعدّ لدفع الضرر داخل المملكة فالظاهر أنه أكثر من الحاجة، وإن سرّحنا البعض فلا مانع من جلبه في وقته (¬2). وانتقد ابن أبي الضياف هذا الأمير عند ترجمته له، وشنّع ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 110 - 111. (¬2) المرجع نفسه: (2) 4/ 28 - 29.

بتصرّفاته في قوله: "إنه ذو همة عالية استصغر بها ما أقامه الله فيه، فحمّل هذه الإيالة، على ضعف حالها وضيق مجالها، ما لا طاقة لها به من التقدم في ترف الحضارة، والاستكثار من الجند، والإفراط في تكثير قادتهم، وغالبُهم أسماء بلا مسميات، مع التفنن في الكرم الحاتمي، فجاد وما لديه قليل: وأتعبُ خلق الله مَن زاد همه ... وقصَّر عما تشتهي النفس وُجدَه إلى غير ذلك من مقتضيات علو النفس والإمرة المطلقة، حتى تجاوز الحدود، وهو نقصان من المحدود، والتقدم للغاية تأخر عنها، والزيادة على الكفاية نقصان منها" (¬1). وإذا زاد على ذلك فاستطالته أيدي العلماء وقع كما قال بعض الحكماء: الاختلال في بيوت الأموال، وجاء النقص يتبعه الاضمحلال (¬2). وذلك ما دعا دون شك إلى الإسراف في الاقتراض، ومضاعفة المديونية من الدول الأجنبية، مما هدّد استقلال البلاد، وسمح للدائنين بالتدخّل في شؤون الدولة والعباد. وتفاقم العجز المالي في شعبان سنة 1269 عن صرف الرسوم المالية لعدم وجود المال الناضّ بها. وأسباب ذلك كثيرة: منها أن الباي مطلق التصرّف بمشيئته، وفي طبعه شغف بكثرة عدد العسكر النظامي لسياسة انفرد بها، ظناً منه أن الدولة العليّة سوف تغصبه على الأخذ بالتنظيمات ولو بحرب، وثمرة الجهاد تكثير سواد المسلمين، وثمرة التنظيمات إصلاح ما فسد من أمرهم المؤدّي إلى ضعفهم واضمحلالهم (¬3). ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 201. (¬2) المرجع نفسه: (2) 1/ 62. (¬3) المرجع نفسه: (2) 4/ 160.

ومنها سوء التدبير السياسي وتجنّب حُسن السلوك في التصرّف في شؤون الدولة. فلا أضرّ بالعمران وأَدْعى لأسباب الخراب من تقديم الأمر التحسيني على الواجب الضروري. ودليل ذلك المشاهدة والتجربة، لأن التحسين قبل استقامة ما يراد تحسينه تقبيح (¬1). ومن أجل ذلك كان من أفدح الأغلاط والأخطاء السياسية إقبال الأمير على التأنّق، والسرف في الكراريس (¬2)، وفي الأبنية الضخمة، وغير ذلك مما يدعوه ترف الحضارة. والناس على دين أمرائهم. وأنشأ النواشين (الأوسمة) على اختلاف مراتبها. وقبلها منه الملوكُ وأعيان الوزراء والأكابر من غير المملكة، وبالغ في كثرة إعطائها للناس، حتى قال له دقرنج مترجم سلطان الفرنسيس: "أيها السيد، إن النيشان لا يعمل السلطان، والسلطان يعمل النيشان" (¬3). ولئن تتبعنا هذه الصور والنماذج وأمثالها في تاريخ ابن أبي الضياف لألفيناه بعد تقريره لأوجه الفرق القائمة بين الدول الأوروبية والدول الإسلامية في عهده، يدعو الملوك إلى حُسن السلوك والرشاد، والتغيير المبطل للفساد، واعتماد المشورة في كل أمر، وقبول النصيحة من أهلها، واتباع مناهج الفرنجة الذين بلغ العمران في بلدانهم إلى غاية يكاد السامع أن لا يصدّق بها إلا بعد المشاهدة. فألحَّ على ابتغاء الرقي والتقدم والعزة والمنعة بمسايرة النمط الأوروبي، والسير على طريقه في التدرُّج المعقول عند اتخاذ الأسباب لذلك. فإنهم أسّسوا قوانين عدل حتى استقرّ الأمن وذاقوا ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 72. (¬2) واحدها (كروسة) في العامية التونسية، معناها: العربات التي تجرها الخيل. (¬3) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 186.

لذته وتفيؤوا ظلاله، وأقبلوا على شؤونهم بما وسَّع دائرة عيشتهم وثروتَهم، فقوي الأمل واستقام العمل. وعندما دعتهم الحاجة إلى كثرته جعلوا المعامل لآلات الغزل والنسيج، ولُيِّن الحديد حتى تصرفوا فيه تصرّف النجار في ليّن أخشابه. وحين كثر المصنوع احتاجوا إلى إنفاقه بالبيع والشراء خارج أوطانهم، وأعون شيء على ذلك الخلطة. فسهلوا طرقها في البحر بالسفن البخارية، وفي البر بتأمين السبل وتمهيد الطرقات، واتخاذ ما يلزم من المراكب والعربات. وجعلوا البريد يحمل مكاتيب الخلطاء، واقتضت نهاية الحضارة نقل الأخبار فاستعملوا التلغراف. وظهرت آثار العقول الصافية الناشئة في معهد الأمن المغذاة بلبان الحرية. كما أن ملوكهم يترفّعون عن الانتصاب للحكم بين المتداعين تفادياً من معاداة الناس، وأوكلوا الأمر إلى الحكام في مجالس الأحكام. وهذا التدرج هو الذي أعانهم على ما يطلبونه من العمران، وسهّل عليهم أسباب الحضارة من غير تكلف. ذلك أنّ الأمر الضروري إذا تمّ على أحسن حال طلبَ بطبعه الأمر الحاجيَّ لما في الطباع من طَلَب المزيد، فإذا تمّ طَلَبَ بطبعه أوّل درجات التحسين. ولم يزل يتدرّج فيه بحسب قبوله واستعداده، ولو طمحت أنظارهم إلى التحسين من أول الأمر ما حصلوا على هذه الدرجة (¬1). وتلك هي السُّنة في طلب الأسباب، والسعي وراء المقاصد على المنهج الرابح الذي دعا إليه الإسلام وأصَّلته الشريعة، وقضت به الحكمة، وهدت إليه سنن الراشدين في المنهجين السياسي والعملي، النظري والتطبيقي. * * * ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 72 - 73.

3 - محمود قابادو

3 - محمود قابادو العالم اللغوي المتصوِّف، والكاتب الشاعر الأديب محمود بن محمد بن محمد بن عمر بن قابادو الشريف 1230/ 1815 - 1288/ 1871 أندلسي الأصل. لجأ أجداده في بداية العهد التركي أوائلَ القرن العاشر الهجري - السابع عشر الميلادي إلى البلاد التونسية واستوطنوها، وذهبوا إلى صفاقس وأقاموا بها إلى أن اختار والد مترجمنا الانتقال منها إلى تونس، فدخلها ولزمتها أسرته من بعده. ويتصل نسب قابادو بالشيخ معتوق دفين حي يوسف داي بالعاصمة. وهو أحد الثلاثة من كبار الإصلاحيين المجددين خير الدين، وابن أبي الضياف. حفظ القرآن في صباه بكتّاب الحي قرب مسكنه. وكان سريع الحفظ قويّه من عهد طفولته. وأخذ علمي العربية والاشتقاق، وشدا شيئاً من المعرفة. ثم ذهب إلى طرابلس وانضم إلى حلقة الشيخ محمد المدني، ودخل طريقته وتحصّل على الإجازة منه. وبعد عودته إلى تونس وقبلَ سفره إلى الآستانة دَرَس بجامع الزيتونة، فأخذ جملة من العلوم عن كبار مشائخ عصره أمثال محمد بيرم الثالث، وأحمد بن الطاهر اللّطيف، ومحمد بن ملوكة (¬1). وعى جملة من العلوم والمعارف العقلية والرياضية والطبيعية والفلكية، وأقبل على التصوّف مدةً، وعكف على كتب الشيخ ¬

_ (¬1) عمر بن سالم. دائرة المعارف التونسية. الكراس: 1/ 1990، 48.

محيي الدين بن عربي يشغل بها باله ويملأ بها فراغه (¬1). وبرع في علوم العربية وآدابها، وكان إلى ذلك شاعراً بارعاً لَسِناً. درّس بجامع إستنبول التي لقي بها الشيخ محمد ظافر المدني ابن شيخ طريقته، ثم بعد عودته من تركية، التي أعانه عليها ابن أبي الضياف، التحق بمدرسة الحرب بباردو، ثم بجامع الزيتونة فأقرأ بعض الكتب، وجملة من الفنون من نحو وصرف وبلاغة. فدرّس لطلبته كتاب المطول، ومختصره، وكتاب القطب، وتفسير البيضاوي. وتخرجت عليه زمرة من القادة والعلماء نذكر من بينها: الجنرال حسين الذي وُلِّي وزارة المعارف والأشغال العمومية بتونس، والجنرال رستم الذي تولَّى وزارة الداخلية بها، ومحمد بالحاج عمر الذي ارتقى إلى إدارة المدرسة الحربية بعد دي تافارن، وجمعة القرقني أحد قواد البحر. وأفاد من علومه الإسلامية والدينية والعربية علماءُ مهرة برزوا في عصره، نذكر في مقدمتهم: الشيخ سالم بوحاجب كبير أهل الشورى، ومحمد بيرم الخامس ناظر المطبعة الرسمية ورئيس الأوقاف ومدير جريدة الإعلام وصاحب صفوة الاعتبار، ومحمد السنوسي محرر الرائد وعضو المجلس العقاري المختلط (¬2)، وابن أخته العلامة محمد بن عثمان بن محمد النجار الشريف الحسني الذي يتصل نسبه بالمتصوّف العالم الذاكر عبد السلام بن مشيش. وقد تولَّى إلى جانب التعليم بالمدرسة الحربية، وبجامع الزيتونة بتونس خططاً شرعية منها قاضي العسكر بباردو، ومفت مالكي بالحاضرة (¬3). ¬

_ (¬1) جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 123. (¬2) عمر بن سالم: 49. (¬3) المرجع نفسه: 49.

تميّز على قرنائه بما دبّجت يراعته من آراء في مقدمته لكتاب التعبئة الحربية للجنرال جوميني (¬1)، وبما نظم من شعر كان به أول أديب تونسي نحا فيه نحو إصلاح الاجتماع والسياسة والتنبيه إلى وسائل الرقي والتحذير من الإخلاد إلى الخمول (¬2). وإن الشيخ محمد الخضر حسين ليمضي في التنويه به قائلاً: "كان شعر الرجل يدلُّ على جانب من أخلاقه وآدابه. وهو أول شعر ظهر في تونس يدعو إلى مجاراة الغربيين في العلوم والفنون والصنائع، وأول شعر كان مظهر الأسف على ما وقع فيه المسلمون من إهمال الاستعداد لخصومهم، وأول شعر يرمي إلى أغراض سياسية عالية" (¬3). ولنا على ذلك من قوافيه دلائل وشواهد، منها قصيدته الميمية المقيّدة التي يقول فيها: فمن لم يجس خُبْراً أوروبا ومُلكَها، ... ولم يتغلغل في المصانع فهمُه فذلك في كنه البلاهة داجن ... وفي مضجع العادات يلهيه حلمُه ومن لزم الأوطان أصبح كالكلا ... بمنبته منماه، ثمة حطمُه همُ غرسوا دون التمدّن فرعه الر ... رياضي والعلم الطبيعي جذمُه أيجمل، يا أهل الحفيظة، أنهم ... يبزّوننا علماً لنا كان فخمُه (¬4) وقصيدته التي ينوّه فيها بما سيترتب على صدور عهد الأمان بتونس من آثار: العدل عهد خلافة الإنسان ... ومداد ظل الأمن والعمران ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 83. (¬2) المرجع نفسه: 82. (¬3) المرجع نفسه: 83، 85. (¬4) المرجع نفسه: 85 - 86.

ومنها: لله قانون أقام سياسةً ... شرعيةً مرصوصة البنيان. قد عمّ أنواع الجنايات التي ... هي مرجع الإيلاف والشنآن. أبقى الورى أمناً على سكناتهم، ... لا جَور يزعجهم عن الأركان. منع التظالم في المكاسب بينهم، ... وتسخّر الأدنى لذي السلطان. هذي رئاستكم وعزَّةُ مجدكم ... نيطت بكم يا معشر الأعيان. وإلى أمانتكم وحُسن وفائكم ... وُكلت، وغيرتُكُم على الأوطان. ومنها في ذكر خير الدين: وأنبت خير الدين في تقريرها ... بفصاحة تزري على سحبان ما زال يمليها بفصل خطابه ... حتى وعتها سائر الأذهان (¬1) وقد علّق ابن أبي الضياف على هذه القصيدة منوّهاً بها على طولها قائلاً: "هي أقصر من ليالي الوصال، وأعذب ما يسمع من المقال" (¬2). ولا ننسى هنا تقدير شاعرنا للآراء الإصلاحية، واعتزازه بما صدر عن صديقه صاحب أقوم المسالك من إحصاءات ومقارنات، ودعوة وتوجيهات، حين قال في تقريظه لكتابه قبل طبعه 1285/ 1868: الصبح بادٍ بأفلاك السياساتِ ... منيرة منه أرجاء السياسات (¬3) وقوله فيه بعد صدوره: ومن سبر بمسبار الروية أغوار السِّيَر، ¬

_ (¬1) محمد النيفر. عنوان الأريب: (2) 2/ 909 - 912. (¬2) المرجع السابق: (2) 2/ 912. (¬3) المنصف الشنوفي. أقوم المسالك لخير الدين. تقديم وتحقيق: (2) 2/ 859.

وجسّ بأنامل الألمعية نوابض البدو والحضر، واستشرف على استشراء الممالك الأوروبية وتغطرفها، واستئسادها وتصلّفها، بما فَوَّفته من أبراد الحضارة، وما أورفته من ظلال العمارة (¬1). وقد ذيل لهذا التقريظ النفيس بقصيدته التي طالعها: صبح بدا من رأى خير الدين ... أغنى العيان له عن التبيين وهي طويلة. ومن آخرها: فلكٌ يدير زواهرَ الحِكَم التي ... هي هديُ مُختبط ورَجم ظَنين طلعت به شمس الهدى من مشرق الـ ... ـخضراء في ربع الملا المسكون تهدي الورى للأقوم الأَمَم الذي ... أدنى من الطلبات كلَّ شَطون فليهتدوا، وليحمدوا، ويؤرخوا ... صبْحاً بدا من رأي خير الدين 1876 - 1878 (¬2) فبمثل هذه الأفكار والأشعار طبع الكاتب الأديب والشاعر المبدع قابادو جيلاً كاملاً من المثقفين، عاش عصره أو تخرّج عليه، من روّاد المدرسة الحربية التي أرادها مؤسسُها المشير الأول أحمد باي أن تَسُدّ عوزاً، أو تُحدث تطوراً ومنهجاً، ومن طلبة الجامع الأعظم جامع الزيتونة الواعين بأحكام الشرع والدين، والملتزمين بمنهج الأئمة السابقين، داعياً هؤلاء وأولئك إلى الأخذ بأسباب القوة، والتطلُّع إلى موجبات المنعة والعزّة. فدعوته إلى التنظيمات متبعاً بذلك سنن شيخه شيخ الإسلام عارف بك، واطلاعه على آثار معاصره رفاعة رافع الطهطاوي المصري مثل تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ومناهج ¬

_ (¬1) المنصف الشنوفي. أقوم المسالك لخير الدين. تقديم وتحقيق: (2) 2/ 935. (¬2) نفس المرجع: (2) 2/ 942.

الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، والمرشد الأمين للبنات والبنين، وتأثره بما كان ينشره أحمد فارس شدياق في صحيفة الجوائب، وتجاوُبَه مع الوزير أحمد بن أبي الضياف في الكثير من مواقفه، ومساندته وتأييده لرجل الدولة خير الدين صاحب البرنامج الإصلاحي الذي أعدّه على الصعيد الحكومي ليخاطب به جماهير الأمة، جَعَلَت كتبَهُ ومقالاته وأدبَه وشعرَه ترشح بهذه المبادىء الإصلاحية والآراء القويمة الفكرية. وهي وإن ظهرت أحياناً على طريقة عصره، وقد كان مولعاً بالإغراب في التعبير وبوحشي المباني، إلا أنها بدون شك مقبولة من معاصريه، جليّة المعاني معبّرة ومؤثّرة. تراه ينوّه بالفكر والحضارة الإسلامية التي يعتدّ بها ويفاخر بأمجادها حين يقول: "كم للعلوم الرياضية والطبيعية في الصحائف الإسلامية من خيرات حسان، لم يطمثها من أفكار الفرنج إنس ولا جان. فطال ما عرض عليّ من عيون كلامهم ما وصف لي قصور أفهامهم، حتى هممتُ، ولم أفعل وكدت، وليتني جابهتهم من الحساب ببراهين وقواعد، تأتي بعضَ بنيانهم من القواعد. ولكن أين خُطَّابُها، حتى يكشف عنها نقابها! وهب أن خطابها كثير، فأين الناقد البصير؟! وهب أن لها عِرفة، فأين منها النِّصفة؟! بلى إن لها سوقاً نافقة في هذه الحضرة الرائعة. وحسبك جلاء لعدم ارتياضهم بالرياضة وانطباعهم بالطبيعة أن ليس بين أظهرهم بالمرايا المحرقة خبير، ولا من يعرف منها قبيلاً من دبير" (¬1). وهو يرد ظهور المسلمين على غيرهم في الماضي بما اقتنوه من معارف وكان لهم به من علم وقدرة. فلما وهنوا وتقاعسوا، وتركوا ¬

_ (¬1) ديوان قابادو. جمع الشيخ السنوسي. ط. الدولة التونسية: 42 - 43.

الأخذ بعوامل القوة وطرق التقدم، أفل نجمهم وتلاشت قدرتهم وزلّت بهم قدمهم وولّت هيبتهم. "فالدولة الإسلامية لمّا نشرت لها راية الرعب وخفقت في كل قلب، لم تزل الكفرة في طلاب النجاة منها تمشي تحت كل كوكب. وما منهم إلا من آب بعد الأين بخُفَّيْ حُنَيْن. إلى أن قضى القدر المتيح، والجد المريح، بأن يكون إقبال المراد وإبقال المواد في هذا العهد الحديث، غبّ ذلك السعي الحثيث، لأحلام السفنج، وجرأة الفرنج. فاستحدثوا تلك الطاقة التي هي إحدى الكُبَر، وذات الوَدْقين التي لا يعفو لها أثر، لوّاحة للبشر، التي لا تبقي ولا تذر، الصواعقَ الصناعية، الصادرة عن الأسلحة النارية. فأرادوا بها دائرة البوار على اليَلَب المُدَار، وأباحوا حمى الدِّلاص المادية، والمَوْضونة الحَطْمية، وَقَلَصوا ظلال القنوات، وبَتَروا البِيض الباترات، فَزُفَّ حديث البسالة للمنزل المهجور، ولعبت به ريح صباً ودبور. ولما طبقوا بها من أمنيتهم المِفْصل، وأَصْمَوْا من رميتهم المَقْتَل، شبّ عمرو جُنْدبِهم عن طوق أوزار الحروب السالفة، وشَمَخَ طورُ طورِهم إلى الإشراف على أوزار مستأنسة" (¬1). وبعد هذه المقارنة بين الحالين، وذكر تفوق الفرنجة في القوة المادية والاختراعات النارية، هبّ يدعو كما فعل غيره من المصلحين في عصره إلى الاستفادة من تجارب الغير، وما حقّقه من غلبة وظهور، واتجه في ذلك إلى تنبيه المسلمين الغافلين لا إلى ما يتحتم عليهم من المبادرة إلى الجمع بين ما اقتضاه العقل ودعا إليه الشرع، بل إلى اقتباس ما تفرد به الغرب من الوسائل والطرق المحقّقة لنهضته، المقتضية لسبقه وتقدمه. ¬

_ (¬1) ديوان قابادو: 2/ 40 - 41.

وفي لهجة حزينة وقوية، فيها لهفة وحسرة، وإلحاح وشدّة في الطلب، كتب يقول لأقوام عن سنن عوائد الله يعمهون، وفي تيه اطِّراح الأسباب يهيمون. "قد بَرَّح الخفاء ولكن لا تفهمون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). أولئك قوم أتوا البيوت من أبوابها وأدمنوا القرع، ولن يجيب سبحانه سائلاً بلسانه القابلية بمنع. وإنما الحرمان أن تتَنكَّب السبل عن ضلة أو يأس، وقد قال سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬2). وما ظنّك بقوم استدارت رحاهم على قطب الجِدّ، وبَكْرَتُهُم على محور الكَدّ، واستمروا خلاف المريرة، واستمرؤوا المُرَّ ودقاريره. وصاهروا ببنات أفكار صعلوكهم أبناء أقيال ملوكهم، فتلقّحت أذهانهم، وتناسلت فنونهم وأفنانهم، واستنبتت قرائحهم، وتنافست موانحهم". ثم يمضي في محض النصيحة: "ولقد تقرر لديك أن العدو إذا هجم مغيراً، أو عمّم أمير المؤمنين نفيراً، أنَّ الجهاد يكون إذ ذاك فرض عين، في هاتين الصورتين، وفي غيرهما يعدّ فرض كفاية، كما حققه أهل الدراية، وما لزمنا عن هاتين الصورتين من فسحة، فما لأحد من بنيه عن التعاليم الحربية من ندحة. فهي في الوجوب كمقاصدها، على رغم أنف جاحدها. ألم يبلغك في الآيات المتلوة، قوله عز شأنه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬3) أو ليس تلك التعاليم من القوة المستطاعة، فيتناولها أمر الوجوب وينظمها في سلك الطاعة؟! " (¬4). * * * ¬

_ (¬1) الزمر: 9. (¬2) آل عمران: 140. (¬3) الأنفال: 60. (¬4) ديوان قابادو: 47 - 49.

أعلام الزيتونة

أعلام الزيتونة إن علماء المدرسة الثانية التي كان لها تأثير أيُّ تأثير في تكوين شخصية الأستاذ الإمام شيخ الإسلام مترجَمنا هم جدّه للأب العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الأول، وجدّه للأم العلامة الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتُّور، وشيخ الإسلام سالم بوحاجب. * * *

1 - محمد الطاهر ابن عاشور الجد

1 - محمد الطاهر ابن عاشور الجد هو العلامة قاضي الجماعة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن الشاذلي بن عبد القادر بن محمد بن عاشور 1235/ 1815 - 1284/ 1868 بتونس. أديب فقيه عالي الهمّة، زكيّ النفس. لم يقنع بشرف النسب حتى أضاف له شرف المكتسب، من نور الفهم والتضلع بالعلم، وهما نعمتان، وكل ذي نعمة محسود، ورغم وجود حساده، وتظاهر أضداده، فإنهم لم يجدوا في قضائه موضعاً لانتقاده (¬1). وهو وإن تميّز بالأدب والعلم والتدريس، وجملة من الأعمال الإدارية، وتقلّب في الخطط الشرعية بين الفتوى والقضاء، لم يبرز له تطلع سياسي، ولا اهتمام بالإصلاح إلا في مجالي التعليم والفتوى، اللذَيْن عَكف عليهما من صغره. فلم يكن كقابادو الأستاذ بالمدرسة الحربية، ولا كتلميذه الشيخ سالم بوحاجب الذي اتسعت مشاركاته وتعددت رحلاته. حفظ القرآن الكريم بكُتَّاب حوانيت عاشور في صباه. ولمّا اشتد عوده دخل جامع الزيتونة الذي كانت سوق العلم به نافقة بفضل اهتمام المشير الأول أحمد باشا بالعلم وأهله، ووقفه الكتب العلمية به على طلبته. وكان تمرسه البالغ بالعلوم اللغوية والعربية والأدب ¬

_ (¬1) أحمد بن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان: 8/ 167، 394.

وأسرار البيان. فجدّد من فنون القول ما اندرس، وتميّز في صناعتي الكتابة والشعر. وأخذ عن أبرز علماء عصره بمصره أمثال أخيه الأكبر الشيخ محمد ابن عاشور، والفقيه المتصوّف الشيخ محمد ابن مُلُوكة الذي كان يظهر اهتمامه به ويستنجبه، والعلامة شيخ الإسلام محمد ابن الخوجة، وشيخ الإسلام محمد بيرم الثالث، والمفتي الشيخ محمد معاوية، وشيخ الشيوخ الإمام إبراهيم الرياحي. تولّى التدريس من الطبقة الأولى 1262/ 1846، وبرع في المعقولات. وأقبل عليه الطلاب، وتخرّجوا به في النحو والبلاغة والأدب والأصول. وكان في هذه الفنون أحسن منه في الفقه، ولكن استدرك ذلك حين ولي القضاء وأكّد مقَومات معارفه الشرعية. فانقطع إلى الدواوين الفقهية، وعمّر بها أوقاته، حتى تدارك في قليل من الزمن ما فاته. جرى مع فحول الفقهاء في مضمارهم ومعارك أنظارهم. ولم ينعزل عن التدريس حين أثقلته مهمة فصل النزاعات بين الناس، كغيره من العلماء. وتلك سنّة متّبعة معلومة منهم. فاستجاب لطلابه حين رغبوا منه إكمال تدريس شرح المَحلِّي لجمع الجوامع لهم. وكان يريح بذلك نفسه، فأقرأه بين العشاءين بجامع الزيتونة. وخالف في منهجه في مجال الفقه كثيراً من معاصريه، واتبع مسلك رئيس المفتين الشيخ إسماعيل التميمي من قبله، آخذاً مأخذ المجتهدين في رد الفروع إلى أصولها، والاستدلال على الأحكام، والتنبيه إلى مقاصدها. وهذا ما جعله يفاخر بطريقته، معلناً أنه لم يكن يعجبه أن يقول في المسائل هكذا قال الفقهاء. فكان حريصاً على التعرف على الأدلّة والإحاطة بها مثلما كان عليه الأئمة وكبار الشيوخ. وحمل هذا الموقف منه على الإعجاب بمداركه في كل الأوساط. وكان المشير الأول يفاخر به، ويسأل في بعض القضايا عن قول

القاضي الشريف فيها، يعنيه دون سائر الفقهاء (¬1). وهو من أكثر الناس جمعاً للكتب والفرائد، فقد كلف أيام تدريسه للمطول من يستنسخ له من خزائن الآستانة كتاب دلائل الاعجاز لعبد القاهر الجرجاني. وكان ممّن أخذ عنه العلامة الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتور، والعلامة الوزير الشيخ يوسف جَعَيط، وشيخ الإسلام أحمد ابن الخوجة، والشيخ سالم بوحاجب، والشيخ محمد النجار، والشيخ محمد بيرم الخامس. وفي هذا يقول ابن أبي الضياف: (انثال عليه الناس من كل حدب، وجرى منه بالجامع الأعظم سبيل الإفادة، وسعِد به سوق العلم أَيَّ سعادة، يقدم الإفادة على سائر لذَّاتِه، بداعٍ قوي من ذاته. إذا تصدر للتدريس رأيت الدر الفاخر، من البحر الزاخر، ومصداقَ "كم ترك الأول للآخر") (¬2). وممّا يشهد له بعلو الكعب وطولِ الباع في شتى العلوم والفنون، وبخاصة منها العقلية، ما حرَّره من شروح وتقييدات أو حواشٍ وتعليقات على ما درّسه من كتب أو خالطه من تصانيف. نذكر له من ذلك في فن الحديث تعليقاته على مواضع من صحيح مسلم. وله في السيرة كتاب: شفاء القلب الجريح بشرح بردة المديح، ولعله اختصار لشرح شيخ الإسلام ابن مرزوق لقصيدة البردة للبوصيري، كما كان له ختم مشهود في الحديث بمسجد حوانيت عاشور. ونجد له في مادة النحو كتباً ثلاثة: ¬

_ (¬1) ابن أبي الضياف. إتحاف أهل الزمان: 8/ 166، 394. (¬2) المرجع نفسه: 8/ 165، 394.

- حاشية على شرح ابن سعيد الحجري على الأشموني. من جمع تلميذه الشيخ كريّم. - وحاشيته على القطر لابن هشام، أسماها هدية الأريب إلى أصدق حبيب. - وتقييداته على بعض المواضع من حاشية الصبّان على الأشموني. وله في البلاغة: الغيث الإفريقي. وهو تقييدات على حاشية عبد الحكيم على المطوَّل. وفي الأصول: حاشيته على شرح المحلِّي لجمع الجوامع، لم يتمّها. وفي الفقه: كنّاش جمع فيه فرائد ومسائل، محتفظ به بالخزانة العاشورية. ومجموعة فتاوى. وحاشية على شرح العصام لرسالة البيان، انفرد بذكرها الشيخ محمد الخضر حسين (¬1). أما الوظائف الإدارية التي تقلّب فيها فهي: خطة القضاء التي أسندها إليه المشير الأول تقديراً له واعترافاً بسعة علمه، وهو ابن خمس وثلاثين سنة في 25 رجب 1267/ 26 مايو 1851، رغم صغر سنه. وقد شهد له بالعلم شيخه شيخُ الإسلام محمد بيرم الثالث، وصدق الخُبْر الخَبَر، فباشر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور خطة القضاء بميزان العدل، غير ملتفت إلى خوف أو عزل. شرّد أهل الزور، وغلّ أيدي الملدّين وأهل الفجور (¬2). ¬

_ (¬1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 303 - 338؛ محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 110. (¬2) ابن أبي الضياف. إتحاف أهل الزمان: 8/ 165، 166.

وانتدبه المشير الثالث محمد الصادق باي إلى خطة الفتوى 1277/ 1861 إثر وفاة الشيخ العلامة محمد النيفر، وأولاه نقابة الأشراف بعد وفاة الشيخ العلّامة محمد بيرم الرابع. كما عيّنه محتسباً على فواضل الأحباس، أي مديراً للأوقاف، وأسند إليه نظارة بيت المال. واختاره عضواً في مجلسه الخاص، ثم عضواً بالمجلس الأكبر للشورى الحامي لحقوق المملكة والدولة والسكان. وعرف في كل هذه المناصب بالجد والاستقامة، والاستقلالية، وعمق النظر. ونوّه ابن أبي الضياف بأخلاقه وسجاياه في قوله: "كان سليم الصدر، حسن الأخلاق، عذب البيان، كاتباً شاعراً بليغاً، ما شئت من محاضرة تتحف المجالس والمحاضر، ويسبي النواظر زهرُها الناضر" (¬1). جدّد بترسّله فنون عبد الحميد وابن العميد. فمن ذلك ما كتب به من الإخوانيات إلى بعض خلصائه وأصفيائه: يا نائياً وفي القلب قراره، وظاعناً وقد شاقني مزاره. لقد أفرطتَ في الجفا، وكان من الهجر ما كفى، وتَركت ما تركت بين الجوانح، وسلَّمت الفؤاد لوقد القوادح. أظلمت منازلُ أنِست من جمالك بدراً منيراً، وأوحشت منازل طالما استنشقَتْ من مسامرتك عطيراً. وأبقيت حليف هواك يقنع بطيف الخيال، بعد تمتعه بطيب الوصال، ويحسد أهل ذلك المنزل الذي سعد ببهاء جمالك، ولا يترقب سمعه إلى نغمة بشير وصالِك. قد جنح إلى رسول الكتاب، حين زاد وجده، وحنّ إلى الخطاب: كتبت، ولو كتبت بقدر شوقي ... لأفنيت القراطس والمدادا ¬

_ (¬1) المرجع نفسه: 8/ 167.

ولكنّي اقتصرت على سلام ... يذكرك المحبة والودادا (¬1) ومن شعره الرائق ما أنشده تحية لبعض شيوخه. وتلك كانت عادة نجباء الطلاب مع شيوخهم، فمن ذلك تهنئته لأستاذه وأخيه أبي عبد الله محمد ابن عاشور بختمه تدريس كتاب الأشموني، وذلك في 19 رجب 1255/ 1839. وهي طويلة طالعها: هو العلم ضاءت من سناه المحافل ... وشاعت له بين الأنام فضائل (¬2) وتهنئته للعلامة الشيخ محمد ابن سلامة بختم كتاب الشفا لعياض 1262/ 1846 أنشدها بحضرة الأمير المشير الأول أحمد باشا، وطالعها: لك الله من برق بدا متبسما ... تألّق ما بين المنازل والحمى وفيها يخلص إلى مدح الباشا بأبيات كثيرة، نذكر منها: رأى طلعة الباشا المشير تحُفُّها ... سرادق عزٍّ ما أجلَّ وأفخَما مليك يقاد النصر طوعاً لعزمه، ... وإن عُدَّت الأقيالُ كان المقدَّما تصدّى لحفظ الدين بالحزم والنهى ... فشيّد أركانا وأوضح معلما وأحيى رسوم العلم بعد اندراسها ... وجيّش في قهر العداة عرمرما (¬3) ولكأن سجايا ممدوحه هي التي أكدت أواصر الود بينهما، لما قامت عليه من مفاخر ومناقب: كتأسيس المدرسة الحربية بباردو، وتأسيسه للتعليم الرسمي بجامع الزيتونة، وتزيينه صدر الجامع الأعظم بخزائن العلم النافعة الفاخرة، وحفاظه الدائم للدين والملة. ¬

_ (¬1) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/ 905، 317. (¬2) المرجع نفسه: 2/ 900، 317. (¬3) المرجع نفسه: 2/ 902، 317.

ومن نظمه البديع ما أظهره من تصرّف وتفنن في معارضته لموشح ابن سهل الشهير: هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبٍّ حلّه من مكنس فهو في حر وخفق مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقبس (¬1) يخاطب بذلك تلميذه العلامة الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتور، وطالع موشحه: يا نسيماً هب من نحو الحمى ... وبُريقاً لاح لي كالقبس حدّثنْ عن أهل ودِّي علَّما ... يطفىء الذكرُ لهيب النفس وبعد وصفه لبلده تونس مفاخراً بها ومباهياً، ناعتاً إياها بجنة الدنيا، وداعياً لها، يقول في ممدوحه: لستُ كأسَ الراح أعني، إنما ... بغيتي كأس حياة الأنفس مدحة النجل العزيز المنتمَى ... للحبيب ابن الأديب الأَنفس غاية الفخر، جمال النبلا ... نشأت طلعته من مفخر قمرٌ قد ساوم المجد على ... سوم من جدَّ فكان المشتري ومن اعتاد المعالي كيف لا ... يقتني منها بحظّ أوفر؟ (¬2) وإذا كان هذان الجدّان في قرَن، تميّزا أصلاً وفرعاً، وعلماً وأدباً، وريادة وسيادة. فوصْلُ الحديث عن الجدّ للأم بالترجمة للجدّ للأب يجد مناسبة ومساغاً. * * * ¬

_ (¬1) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/ 904، 317. (¬2) المرجع السابق: 2/ 904، 324.

2 - محمد العزيز بوعتور

2 - محمد العزيز بوعَتُّور هو الوزير العالم الكاتب محمد العزيز بن محمد الحبيب بن محمد الطيب بن الوزير محمد بُوْعَتُّور 1240/ 1825 - 1325/ 1907 بتونس. أصل سلفه من صفاقس. ويتصل نسبه بالشيخ عبد الكافي بوعتور العثماني من ذرية الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. مهد ابن سبطه العلامة البحر الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور لترجمته بقوله: "إذا كان للتربية الإسلامية الكاملة، والنشأة الأخلاقية الفاضلة مظهر ينطق بسمو أثرهما في الحياة العلمية، وبرهان يفصح بمبلغ الناشئين عليهما من مقامات الرشد في كل ما تولوا، والنجاح أينما انتهجوا، فإن في حياة الوزير الخطير والعالم الكبير عبرة فائقة للمعتبر، في ما بين النشأة الزكية والنجاح في الحياة الاجتماعية من متين الأسباب في حياة من تبوَّأ المنزلة السامية من كل نظر، وحلّ محل الثقة من كل فؤاد حتى ترك حديث مقدرته السياسية يملأ الأفواه والآذان، ومأثورَ أعماله الرشيدة وأقواله الحكيمة تسير بها الركبان" (¬1). بدأ حياته الكريمة بحفظ القرآن. وبعد مزاولته التعليم الابتدائي التحق بجامع الزيتونة 1245/ 1839. تلقى به النحو وعلوم العربية والبلاغة وعلوم الشريعة من فقه وأصول. وكان متمكّناً منها ضليعاً ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 141.

بها. أخذ عن شيوخ الإسلام: إبراهيم الرياحي، ومحمد ابن الخوجة، ومحمد الشاذلي بن صالح، وعن قضاة الجماعة محمد ابن سلامة، ومحمد الطاهر ابن عاشور الأول، ومحمد النَّيْفَر، وعن العلامة محمد الطيب الرِّيَاحي، والعلامة محمد ابن عاشور، وعن العالم الورع أحمد عاشور. كما حظي بالأخذ عن الإمام العالم الصالح محمد صالح الرضوي السمرقندي البخاري، مفتي أونقالاذ بالهند، عند زيارته لتونس. فقرأ عليه الحديث، وسمع منه وحصل عن طريقه على الأسانيد العالية (¬1). ولم تَعُقْه بعد ذلك المناصب الحكومية ولا الوزارة عن مواصلة طلبه للعلوم. فقد شَهِدَه المفتي الشيخ أحمد بن مراد يتردد على حلقة شيخه محمد الطاهر ابن عاشور الأول: مستزيداً من ملازمته فضلاً وعلماً، متخرّجاً على يديه أكمل تخرّج. وتوطّدت بذلك صلته به، وأصبح من خواصه وروّاد ناديه. يقول ابن سبطه: "وقد تأثّر به أيّما تأثّر بما اكتسبه من مخالطته من النظر الواسع، والبحث الحر، وتحقيق الغايات والأسرار من كل قضية علمية أو عادية" (¬2). وهو وإن شغلته الكتابة والإدارة في بداية الأمر، فإن ذلك لم يمنعه من التشرف بمشاركة أترابه، وذوي النباهة منهم، في إلقاء دروسه، بالمجنبة الشرقية من الجامع الأعظم، تأدباً مع شيوخه، وإقرائه شرح المختصر للسعد في البلاغة (¬3). ومن يتتبع سيرة هذا النابغ في العلوم الشيخ محمد العزيز، ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 143. (¬2) المرجع نفسه: 144. (¬3) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/ 1008.

الذي نذر حياته للدرس، كَلِفاً به، ومقبلاً عليه، ير كيف حوّله القدر من التدريس ومن طلب طريق أمثاله من الشيوخ ذوي الرجاحة الفكرية والنباهة العلمية، إلى كتابة الدواوين، لما اشتهر من أمره، وذاع من قدراته على تملك صناعتي النثر والنظم وبراعته فيهما. وليس هذا بدعاً، فقد سبقه إلى هذا الميدان صفوة من أهل بيته. كان منهم جدُّه الأعلى الكاتب الشاعر الوزير الشيخ محمد بوعتور الذي كتب للمولى حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية. ثم تسلسلت مناصب الكتابة والرئاسة القلَمية في عقبه، حتى كانت الطبقة الواحدة من كتاب الدولة الحسينية تعد أربعة أو خمسة من آل بوعتور. وكان من بين هؤلاء جد مترجمنا الشيخ محمد الطيب كاهية باش كاتب في دولة حسين باي الثاني (¬1). وهكذا جرى الحفيد على سنن ذويه وأجداده، فتولى الكتابة للمشير الأول أحمد باشا حين انتخبه لها من بين عدد كبير من نظرائه سنة 1262/ 1847. ثم اختاره كاتب سرّه يتلو عليه التقارير والحجج. وقد أشركه في ترتيب خزانته الأحمدية التي حبّس كتبها على طلاب الجامع الأعظم، لما حصل عليه من حيث النجابة ونصاب العلم (¬2). ومن تنويه الشيخ أحمد بن أبي الضياف به قوله عنه استطراداً في ترجمة جده محمد الطيب بوعتور: "وأعقب أبناءً امتطى بعضهم صهوة الكتابة. وحفيده الآن هو شمس ضحاها، وقطب رحاها. ورئاستها مع الوزارة طوع بنانه، لو حظي بإعانة من طبع زمانه" (¬3). ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 142. (¬2) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/ 1007. (¬3) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 7/ 153.

عهد إليه بعد ذلك بمرافقة ولي العهد في تجواله وتنقلاته في البلاد. وحين آل الأمر إلى المشير الثاني محمد باشا اتخذه هذا، لكبير معرفته به وتقديره لمواهبه، رئيساً لكتبة وزارة المال 1276/ 1860. ثم اختاره عضواً بالمجلس الأكبر الذي استحدثه قانونُ عهد الأمان، وبإثر ذلك وبعد وفاة الشيخ محمد الأصرم في عهد المشير الثالث محمد الصادق باي عيّن باش كاتب وزيراً للقلم 1281/ 1865، فعضواً لمجلس الشورى الملَكي الخاص. وقد كان يعهد إليه في تلك الفترة 1280/ 1863 بتحرير اللوائح للقوانين الجديدة، إذ كان عمدة الدولة في تحقيق الأنظار الفقهية، والمرجع في تطبيق النظر الإسلامي على النظام الجديد تطبيقاً علمياً محكماً (¬1)، فوزيراً للمال 1283/ 1867. وعند تكوين اللجنة الدولية للمراقبة المالية اختير رئيساً لقسم العمل إلى جانب خير الدين الذي كان رئيساً لقسم النظر. وحين أسندت الوزارة الكبرى للسيد خير الدين بعد انقطاعه عن الممارسات الحكومية في الدولة، قامت علاقة مزدوجة من الود والعمل بين الشيخ محمد العزيز بوعتور وبين رائد الإصلاح بالبلاد. فكان عمدة خير الدين في الأعمال الإدارية والتحريرات الدولية والمسائل الشرعية. ثم سمي وزير استشارة 1290/ 1873 (¬2). وفي أيام الأمير علي باشا استغنى عن الوزير محمد خزنة دار، وعيّن مكانه على رأس الوزارة الكبرى الشيخ محمد العزيز بوعتور في سنة 1300/ 1883. فإذا عدنا إلى أنشطة مترجمنا، وقد عرفنا مما سبق أنه المرجع ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 147 - 148. (¬2) المرجع نفسه: 149.

في العلوم الشرعية، والعمدة في الفنون القولية، بما كان له من ضلاعة في مختلف الاختصاصات الفقهية واللغوية، وذكرنا تدخّله عند اختلاف الأنظار بين العلماء أعضاء المحكمة الشرعية العليا، لتباين أفهامهم للنصوص أو تنازعهم في الأخذ ببعض القواعد وتطبيقها، وتولّيه البت في الأمر بكلمة فصل في القضية، أو بترجيحه رأي أحدهم إن حالفه الحق ولو خالفه الأكثرية (¬1) رأينا علماً بارزاً وأديباً بارعاً. ومن جيد نظمه ما نحسبه جارياً على طريقة أبي الطيّب، محاكياً في نظمه حمودة بن عبد العزيز في قصيدته: هو العز في سمر القنا والقواضب ... وإلا فما تغني صدور المراتب فقد قال مهنئاً شيخه محمد النيفر عند ختمه تدريس كتاب السعد على التلخيص: طريق لنيل العزّ حرز المطالب ... وغور لأسنى القصد صدر المراتب ومنها: وليس ثمار الحزم إلا عزائماً ... تريه كميناً من عزاز المواهب إذا كانت السادات تصبو لرفعة، ... فإني ملكت الجد جد الرغائب وإني لمقدام، وغيري جازع، ... وإني لقوّال بأي المواكب نشرنا على متن السماك مراتباً ... تؤمّ لها الركبان من كل جانب ويا رب ليل يثبر الصلد حزنه ... أضاء الدياجي من يراع وقاضب ورب عويص، قد أزلنا لثامه، ... له الناس فوضى بين راد وذاهب (¬2) ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 91. (¬2) محمد النيفر. عنوان الأريب: (2) 2/ 1012.

وكأنّه بهذه الأبيات التي صدّر بها تهنئته، يشير إلى مسلكه في الحياة والتزامه الجد والاستقامة والعمل الدؤوب. أما مقالاته ورسائله فهي مبثوثة في الدواوين، أو مُحتفظ بها في خزانة الدولة. ولعل من أهمها وأدقها تصويراً لعصره، وتعبيراً عن معارفه ومداركه الشرعية والقانونية، رسالته التي تناول فيها قانون عهد الأمان بالشرح والتحليل والتفريع، وعلّق عليه تحريرات أصولية بديعة في إجراء بعض كلياته على قواعد الشريعة الإسلامية (¬1). أما الجوانب العلمية الإدارية الترتيبية والإصلاحية فتشهد لها معاضدته ونصرته للوزير خير الدين في برنامجه الإصلاحي. فقد كان الشيخ بوعتور من الرجال العاملين في إصلاح نظام التعليم بالجامع الأعظم، وفي تأسيس المدرسة الصادقية، وتأسيس جمعية الأوقاف، وتنظيم المحاكم الشرعية، وسنّ قانون العدل، وغيرِ ذلك من المؤسسات النافعة الخالدة (¬2). أخذ من الشيخ سالم حفظه وسعة علمه، ومن الشيخ ابن عاشور دقته وضبطه، ومن ابن أبي الضياف ترسله ونظمه، ومن خير الدين منهجه الإصلاحي وحرصه. فكانت له بذلك جماع المفاخر والمناقب، التي تفرّقت بين السادة السابقين، فسار معتداً بها، معتمداً عليها، مبلغاً إياها إلى مَن بعده مِن رجال الفكر والعلم والعمل والإصلاح. * * * ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 148. (¬2) المرجع نفسه: 149.

3 - الشيخ سالم بوحاجب

3 - الشيخ سالم بوحاجب هو كبير أهل الشورى الشيخ سالم أبو حاجب 1244/ 1828 ببنبلة إحدى قرى المنستير 1342/ 1924 بتونس. هو من ذرية الشيخ شيبوب دفين الساحل، ويتصل نسبه بجدّه الشيخ مهذب دفين الصخيرة من ولاية صفاقس. وأمّه من عائلة سلامة من القلعة الكبرى إحدى قرى الساحل، انتقلت فيما بعد منها إلى تونس. شعلة من الذكاء النادر، طلعت على قرنين من تاريخ البلاد التونسية، أضاءت بها معالم الفضل، واستنارت ربوع العلم، وازدهت أسواق الأدب، وأشرقت نوادي الظرف (¬1). فهو من أبرز أعلام عصره؛ فقيه، محقق، لغوي، أديب، شاعر. له اليد الطولى في المعقولات، ملمّ بطرف من التاريخ والجغرافية والرياضيات. واسع الأفق، ناقد مصيب، ومصلح إسلامي (¬2). تعلّق من رواية الشعر العربي، وضبط اللغة، بما أصبح به منقطع القرين. فكان يشدّ الرحلة إلى باردو راجلاً لمطالعة نسخة من القاموس بقصر الوزير مصطفى آغه، حتى أصبح قيّماً على هذا الكتاب محيطاً به، يكاد يحفظه عن ظهر قلب. ولازمته هذه الثروة اللغوية إلى آخر حياته نامية غير منقوصة (¬3). ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 221. (¬2) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 2/ 77، 111. (¬3) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 223.

حفظ القرآن الكريم بمسقط رأسه، وأتم حفظه بكتّاب باب المنارة عند انتقاله إلى الحاضرة .. والتحق إثر ذلك بجامع الزيتونة طالباً للعلم، وصادف ذلك التفات همّة المشير الأول أحمد باشا إلى تأسيس التدريس الرسمي بجامع الزيتونة 1258. وقد تخرّج الشيخ سالم بأقطاب علماء عصره، نذكر منهم: - العالم الصوفي الشيخ محمد ابن ملوكة. قرأ عليه بزاويته خارج باب القرجاني. - العلامة الصالح شيخ الإسلام إبراهيم الرياحي. أخذ عنه الموطأ بسقيفة داره. - العالم المحقق الشيخ محمد ابن عاشور. درس عليه العلوم اللغوية بالجامع، وبزاوية جده، خارج باب المنارة. - وكذلك على شيخ الإسلام محمد معاوية. - وتخرَّج في العلوم الشرعية بالمفتي الشيخ محمد الخضار. - وبشيخ الإسلام محمد ابن الخوجة. - وبقاضي الجماعة محمد النيفر. وتأكّدت صلته أيضاً بشيخ الإسلام محمد بيرم الرابع الذي استدناه، واختص به، وأنِس بأدبه، وفتح له مكتبتَه، واتخذه صديقاً. - وكذلك بالشيخ محمود قابادو اللغوي الشاعر. - وانعقدت أواصر الصداقة بينه وبين العلامة نقيب الأشراف الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الأول.

عمل الشيخ سالم في التدريس

عمل الشيخ سالم في التدريس: وقد تولّى بعد ذلك التدريس بالجامع الأعظم، متنقلاً في رتبه العلمية بين الطبقة الثانية 1270/ 1853، والطبقة الأولى 1281/ 1864 على مدى خمسة وستين عاماً. وكان انصرافه عنه بعد طول هذه المدة بما أذنت له به كلمة [صه] الموافقة لهذا العدد من السنين بحساب الجُمَل. وكان له منهج مميّز في دروسه، أعرض به عن المناقشات اللفظية الجدلية العقيمة، متوجّهاً باجتهاداته الشخصية إلى مناقشة الآراء، وابتكار الأنظار، وقوّة التحليل، وبراعة النقد، ناعياً على متأخِّري الفقهاء تمسُّكَهم بظواهر النصوص، وإهمالَهم تحقيق المناط، وانصرافَهم عن إبراز مقاصد الشريعة وتطبيقها. وقد ألحق في حلقات دروسه الأحفاد بالأجداد، وتخرّج عليه من الفحول في العلوم العربية وأسرارها، ومصادر السنّة ودواوينها، والعلوم الشرعية فروعها وأصولها، نفر معدود من كبار العلماء، نكتفي بذكر طائفة منهم: شيخ الإسلام أحمد بيرم، والقاضي إسماعيل الصفائحي، ومحمد بيرم الخامس، وعبد العزيز الثعالبي، ومحمد السنوسي، وشيخا الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور، ومحمد العزيز جعيط، ومحمد مخلوف، والمفتي محمد النجار، وشيخ الإسلام محمد بن يوسف (¬1). ومما يشهد لغزارة علمه وتعدّد اهتماماته ومنازعه عنايته بالعربية، وتقاريره على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، وعكوفه على كتب السنّة النبوية الشريفة، وتقاريره على مواضع من صحيح ¬

_ (¬1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 2/ 78، 111.

البخاري ومن الموطأ، وشرحه لألفية ابن عاصم في الأصول، وأختامُه الرمضانية التي تبلغ الستين ختماً. وهي جامعة لغرر المسائل، مع حرصه فيها على التوفيق بين أصول الشريعة ومقتضيات التمدن العصري، وديوان خطبه المنبرية، وديوان شعره، ورحلته. ومن يقف عند هذا الحد من ترجمته يدرك سبب عدّنا له في أعلام الزيتونة. فقد كان أغزرَ معاصريه علماً، وأوسعهم معرفة، وأقدرهم على النفع بخطابته ودروسه، وكتبه وشعره. ولكن هذا لا يمنعنا من الإشادة بما تولاه من الوظائف الإدارية ابتداء من إسناد إدارة المدرسة المرجانية له، وكتابة المجلس البلدي عند تأسيسه سنة 1275/ 1859، وتحرير تقارير اللجنة الإدارية المتعلقة بمراقبة المالية التونسية 1276/ 1860، وعضوية المجلس الكبير 1277/ 1861، وهذا ما يصور بالخصوص نشاطه الإداري ونيابته لمواطنيه في المجالس المختلفة، ثم غَلَبَتْ مميزاته كعالم وفقيه فقُلِّد خطة الإفتاء المالكي سنة 1323/ 1905، وبعدها خطة كبير أهل الشورى 1337/ 1919. وكانت له صلاته الوثيقة بالوزير خير الدين الذي اصطحبه في مهمته إلى إستنبول، فتمكّن من الاتصال بشيخ الإسلام عارف بك نصير التنظيمات العثمانية، ومن التعرّف عليه، والتذاكر معه. وكذلك بوزير التعليم الجنرال حسين. سافر في معيّته إلى إيطالية لمناقشة ورثة نسيم شمامة الحساب. وقد لجأ إليها مورثهم هارباً من العدالة وتوفي بها. وأقام الشيخ سالم بهذا البلد الأوروبي في مهمته ست سنوات، حذق فيها اللسان الإيطالي، ثم سافر منها إلى باريس لمشاهدة المعرض الدولي بها، ولمزيد التعرف على

مقومات الحضارة الغربية، شأنه في ذلك شأن بقية دعاة الإصلاح من معاصريه (¬1). وقد لاحظ المتتبعون لنشاطه، المعجبون بقدراته، وعمق درايته، واتساع آفاقه، ازدواجَ دوره الفكري العلمي والإداري السياسي. فقال أحدهم منوّهاً بهذه الشخصية الفريدة الفذة: "وبذلك أصبح مترجمنا عمارة لأعظم النوادي العلمية، وعيناً لأرقى المجالس الأدبية، يملؤها بفصاحته الباهرة، ونكته اللطيفة، وأذواقه الرفيعة، وابتكاراته العالية، حتى تعدَّت سمعته أوساط أهل العلم إلى أوساط رجال الدولة. وقد استرسلت علاقاته المتينة مع الوزير حسين، وطالت معاشرته إياه حضراً وسفراً، وتكوّنت له به صلة تشبه القرابة العائلية، كما استحكمت بينه وبين الوزير خير الدين أسباب المودة، ووجد كل منهما في صاحبه ما يثير الإعجاب. فكان صديقَه في وقت العمل، وصديقَه في طور الانقطاع، لمّا تباعد عنه ذوو الأطماع. فكان المتولِّي لإعانته على تحرير كتاب أقوم المسالك والمنقح لمسوّداته (¬2). وما ذلك إلا بما وصلا إليه من تمازج فكري واتفاق حكمي فلسفي إصلاحي. يظهر هذا من تشرب الشيخ سالم لآراء صديقه الثوريَّة التوجيهية التجديدية، ومما رَشَح به قلمه من دفاع عنها، ومساندة لها في المجالس الخاصة وعلى المنابر، وفيما قرظ به هذا العمل الجليل أقرب المسالك من نثر وشعر. فقد كتب إلى خير الدين رسالة في 14 محرم 1285/ 7 مايو 1868 يقول فيها: "فشاهدت منه، وإن لم أكن من فرسان مجاله، أساساً سياسياً ¬

_ (¬1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 2/ 78 - 79، 111. (¬2) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 224 - 225.

لم تسمح قريحة بمقاله، بيد أنه لم يسبق إلى التأليف في غرضه أحد من علماء الإسلام، ولا استودعت لطائف مقاصده بشيء من صحائف الأعلام. فكل من تصفّحه بعين الإنصاف، لا يشك في أنه ينبوع نصح صافٍ، نبع للأمة الإسلامية عند اشتداد ظمئها لمثله ... فهو كطبيب عارف بأمراض الدول، خبير بجبر ما يعرض لها من التوهين والخلل. ومن فوائده التي بمثلها يُتفاخر، تعريف كل منا والأجنبي بحال الآخر، إذ لولا المعرفة بحاله، ما أمكن الاستعداد لنزاله" (¬1). وبحكم مسايرته لأفكار خير الدين واتجاهاته، واقتناعه بدعوته وآرائه، نجده يقول في تقريظ أول له: نجز الكتاب بحمد مولىً فضلُه ... عمّ الورى، وحمى حماهم عدلُه وافى بأسباب التمدن مغرياً ... ومحذّراً مما يورّط جهلُه لا يستميل سوى السدادِ وفرعَه ... وعلى الشريعة قد تأسّس أصلُه هو نعمة للمهتدين، ونقمة للـ ... ـمعتدين، وإن حواهم طولُه فهو الكفيل بشرح حال سياسة الـ ... إسلام فيها، لم يؤلف مثلُه 1284/ 1867 (¬2) ويؤكد في أخرى هذه المعاني، ويدعم تلك المواقف بقوله منوّهاً ومؤرّخاً الحدث الكبير صدورَ أقوم المسالك: فلذا تَبْلُغُ تقريظا ... تُه قَدْرَ مُجلَّدْ وعلى الإجمال فهو ... ذو مزايا لو تُعَدَّدْ لم يكن إلا على ذي الخَصلة الخنصرُ يُعقدْ ¬

_ (¬1) المنصف الشنوفي. نشر وتحقيق أقوم المسالك: 2/ 875. (¬2) المرجع السابق: 2/ 854.

تمَّ طبعاً إثر شهر ... أرخوه شهر مولدْ 1285/ 1868 (¬1) ومن مظاهر دعوته الإصلاحية التجديدية اجتماعياً وسياسياً: انتصاره القويّ لإدخال العلوم الرياضية والطبيعية في برنامج التعليم بجامع الزيتونة، وتأييدُه لنفس الغرض، تأسيسَ الجمعية الخلدونية تأييداً عظيماً، وإلقاؤه يوم افتتاحها خطابَه الدائر حول تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، ومساندتُه للأستاذ الإمام محمد عبده عند زيارته لتونس، وإلقاؤه بها محاضرته البديعة عن العلم وطرق التعليم، مما جعل قائد الإصلاح الأزهري المصري يعلن أنه لو كان الشيخ سالم متصلاً بحركة الإصلاح الديني في الشرق عند ابتداء أمرها لكان لها بمقامه العلمي وأفكاره النيرة شأنٌ عظيم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) المنصف الشنوفي. نثر وتحقيق أقوم المسالك: 2/ 856 - 857. (¬2) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 229.

القسم الثاني شيخ الإسلام شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور

القسم الثاني شيخ الإسلام شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور

نسبه وولادته

شيخ الإسلام شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور 1296/ 1879 = 1394/ 1973 نسبه وولادته: في منابت الشرف والنبل، ومغارس الصلاح والعلم، بسقت شجرة الأسرة العاشورية، وامتدت فروعها من عهد ازدهار الحضارة الأندلسية ببلد الأندلس. ومنها انتقلت إلى سلا ببلاد المغرب 1030/ 1620، ثم إلى تونس في حدود سنة 1060/ 1648. وكان أولَ من دخلها من أفراد هذه الأسرة الشيخ الصالح الشريف أبو عبد الله محمد بن عاشور الحسني. وفي الظروف الغادرة التي شهدت تآمر أوروبة على دولة الخلافة، وسعي الدول الغربية إلى اقتسام أطراف السلطنة، بمحاولة بسط نفوذها على الولايات العثمانية في أوروبة والشرق العربي وشمالي إفريقيا، وما تبع هذا الأمر من هزّات وتوترات، ولد الشيخ ابن عاشور بقصر جدّه للأم بالمرسى في جمادى الأولى 1296 سبتمبر 1879. وهو محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن محمد بن محمد الشاذلي بن عبد القادر بن محمد بن عاشور، وأمه فاطمة بنت الشيخ الوزير محمد العزيز بن محمد الحبيب بن محمد الطيب بن محمد بن محمد بوعتور. وفي عناية والده الشيخ محمد ابن عاشور رئيس جمعية الأوقاف، وفي كنف جدّه للأم الشيخ الوزير محمد

التحاقه بالجامع الأعظم

العزيز بوعتور، نشأ مترجمنا نشأته المميّزة على أكمل الصفات الدينية، وأفضل المناهج التربوية، وخير القيم والمبادىء الأخلاقية التي توافرت جميعها في هذه البيئة الأصيلة الراقية العلمية، حيثما كان مع أبيه وجده بتونس أو منوبة أو المرسى. وتعزيزاً لعناصر تكوينه الأسري، وحسنَ إعداد له للمشاركة في الميدان الذي ينتظره، أقبل الفتى من السنة السادسة من عمره على مسجد سيدي أبي حديد المجاور لبيتهم بنهج الباشا بتونس. فحفظ به القرآن الكريم ورتّله على الشيخ المقرىء محمد الخياري، وحفظ مجموعة من المتون العلمية كابن عاشر، والرسالة، والقطر، ونحوها مما كان يُعنى المؤدبون بتلقينه لتلامذتهم الصغار. ودرس في نفس المسجد شرح الشيخ خالد الأزهري على الأجرومية (¬1). التحاقه بالجامع الأعظم: وفي سنة 1310/ 1893 التحق الشاب محمد الطاهر ابن عاشور بجامع الزيتونة لطلب العلم. وكانت المواد التي تدرّس بهذا المعهد الديني متنوّعة بين مقاصد ووسائل. وعلى هذا الأساس درس علوم النحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق من جهة، وعلوم المقاصد كتفسير القرآن، والقراءات، والحديث ومصطلح الحديث، والكلام وأصول الفقه، والفقه والفرائض من جهة ثانية. كان دفتر دروس الطالب محمد الطاهر ابن عاشور مؤرخاً 18 شعبان 1310، ورقمه 3036، وعدد صفحاته 44 من مائة. وبعناية ¬

_ (¬1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 304، محمد العزيز ابن عاشور. الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: دائرة المعارف التونسية، الكراس الأول: 40 - 46.

شيوخه

كريمة من الشيخ سيدي عمر ابن الشيخ كان توجيه الطالب أثناء دراسته بهذا المعهد وتعيين الشيوخ له. ومَن مثله يقدّم النصح ويحسن الاختيار - وهو من درّس بالجامع الأعظم نحو ستين عاماً. فكان الرُّحلة وممن ألحق الأحفاد بالأجداد في حلقات دروسه - وكانت المادة الواحدة أو الكتاب الواحد يوزّع تدريسه على عدد من الشيوخ، إما لأهميته أو لطوله، حرصاً على ختمه، كما كان من خصال أولئك الشيوخ مشاركتهم في العلوم، وإحاطتهم بما وضع فيها من كتب ومصنفات. شيوخه: - تخرّج محمد الطاهر ابن عاشور على الشيخ عبد القادر التميمي في تجويد القرآن وعلم القراءات، وبخاصة في رواية قالون. - وعلى الشيخ محمد النَّخْلِي. درس عليه من كتب علوم الوسائل القطر، والمكودي على الخلاصة، ومقدمة الإعراب في النحو، ومختصر السعد في البلاغة، والتهذيب في المنطق. وتخرّج به في أصول الفقه بدراسة الحطاب على الورقات، والتنقيح للقرافي، وفي الفقه المالكي بكتاب ميارة على المرشد، وكفاية الطالب على الرسالة. - وقرأ على الشيخ محمد صالح الشريف كتاب الشيخ خالد الأزهري، والقطر لابن هشام، والمكودي على الخلاصة في النحو. والسُلّم في المنطق، وفي علوم المقاصد: مختصر السعد على العقائد النسفية، والتاودي على التحفة في الفقه. - وعن الشيخ عمر ابن عاشور لامية الأفعال وشروحها في الصرف، وتعليق الدماميني على المغني لابن هشام في النحو، ومختصر السعد في البلاغة، والدردير في الفقه، والدرة في الفرائض. - ودرس على الشيخ محمد النجار الشريف كتاب المكودي على

الخلاصة في النحو، ومختصر السعد في البلاغة، والمواقف في علم الكلام، والبيقونيّة أو غرامي صحيح في مصطلح الحديث. - وقرأ على الشيخ محمد طاهر جعفر شرح المحلِّي على جمع الجوامع في أصول الفقه، والشهاب الخفاجي على الشفاء للقاضي عياض في السيرة النبوية. - وعلى الشيخ أحمد جمال الدين القطر في النحو، والدردير في الفقه. - وعلى الشيخ محمد صالح الشاهد الدردير. - وعلى الشيخ محمد العربي الدُّرْعي كفاية الطالب على الرسالة في الفقه (¬1). وهكذا ضم محمد الطاهر ابن عاشور إلى استظهاره لكتاب الله وحفظه لعدد من المتون العلمية المتعلقة بالوسائل والمقاصد، دراستَه الجادة بجامع الزيتونة، التي شهد شيوخه له - بتفوّقه ونبوغه فيها، وبقدرته الفائقة على احتواء موضوعاتها وتعمّق أسرارها - سجلوا ذلك في دفتر شهاداته، كلٌّ في المادة التي درّسها له، وأفاد الطالب منه فيها (¬2). ¬

_ (¬1) دفتر دروس الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: 3036 - 18 شعبان 1310: 1 - 39. (¬2) تلك عادة قديمة عوضت في عهد دراستنا بالجامع بشهادات لجان الامتحان السنوي. ولتعدد هذه الشهادات نقتصر على ذكر شهادة الشيخ النخلي له بحضور درس مختصر السعد عليه. إذ كتب يقول: الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أسفرت جوامعُ كلمه عن عرائس الفصاحة والتبيان، وعلى آله وصحبه الغرر الأعيان، ومن تبعهم بإحسان. وبعد؛ فإن الماجد الحسيب، الضارب في العلوم بأوفر نصيب ابننا المسمى أعلاه [محمد الطاهر ابن عاشور] دعته همته العلمية للإكمال مع العبد الفن الثالث من تلخيص المفتاح. فحضر من أوله، وكانت مزاولته بالشرح المختصر للعلامة التفتازاني. وقد =

حصوله على شهادة التطويع

تحفّي جدّه الوزير به: يمكن أن نضيف إلى هذا التكوين العالي ما برز فيه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور على أقرانه بتعلمه الفرنسية في ذلك العهد بمساعدة أستاذه الخاص السيد أحمد بن وَنّاس المحمودي. وقد شملت هذا الطالب المتفوق حسنُ سياسة جدّه له، وإقباله عليه وكريم توجيهه. ومن مظاهر عناية الوزير الشيخ العزيز بحفيده تدوينه بخط يده لمجموع فريد جمع له به عيون الأدب ونصوص الحِكَم وبدائع النظم والنثر. أراده اختيارات انتقاها له، كاختيارات أبي تمام أو البحتري، وهو أوسع من هاته وتلك، لِينهج نهج مبدعيها، ويحاكيهم فيما يروق له منها. ولم يقف اهتمام الوزير العلّامة عند هذا الحد، بل فَتَحَ له خزانة كتبه، وكَتَبَ له بيمينه - تشجيعاً له وحبّاً فيه - مصنفات في الحديث والبلاغة مثل متن البخاري، وكتاب المفتاح للسكاكي، اللذَين ما زالت تحتفظ بهما المكتبة العاشورية العامرة، شاهدة بفائق عناية جدّه به (¬1). وإنك لتجد هذا الطالب المُجِدّ مقبلاً إقبالاً شديداً على مطالعة أمهات الكتب، ومراجعة دواوين العلوم، مشتغلاً بالبحث في مختلف المسائل العلمية، اللغوية منها والشرعية، حتى صار ذلك دَيْدَنَه كاملَ حياته. حصوله على شهادة التطويع: ولا غرو إذا هو - بفضل هذا التكوين - قد تفوّق في امتحاناته ومناظراته، وفي حياته العلمية والوظيفية بعد ذلك. ¬

_ = أراني في حضوره من آيات النجابة ما يبلغ به موشى الأماني، ويسفر عن صبح التهاني. واستمر إلى أن نال البغية. وكتب في المحرم 1317 هـ - محمد النخلي: دفتر شهادات الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: 22. (¬1) الخزانة العاشورية بمنزل الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بالمرسى.

دراسته العليا

وأول هذه النجاحات الباهرة حصوله على شهادة التطويع في 4 ربيع الأول 1317/ 11 جويلية 1899. وقد كتب له بذلك في دفتر دروسه شيوخ المجلس الشرعي الذين تتكوّن منهم لجنة الامتحان آنذاك. ونص الشهادة: الحمد لله فاتح رموز العرفان، ومانح كنوز الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الفضلاء الأعيان. أما بعد: فإن الفقيه النبيه الألمعي المشارك سي محمد الطاهر ابن عاشور، صاحب هذا الدفتر، ممّن تقدم لمجلس الامتحان السنوي الواقع بسراية المملكة عام التاريخ. وقضى بتقدّمه ما يلزم من واجبات فصول القرار الوزيري، المؤرخ في 6 صفر و14 جوان الفارطين، الصادر في إجراء امتحان تلامذة جامع الزيتونة الأعظم - أدام الله عمرانه - الراغبين في الحصول على رتبة التطويع. ومن تلك الواجبات إقراؤه لدرس من مختصر السعد في المعاني والبيان من قول المصنف: "والتخصيص لازم للتقديم غالباً ... إلى قوله: ويفيد في الجمع" وأنتج النظر أن يكون هذا المتقدم مستحقاً لرتبة التطويع. فأُذن له في ذلك لتتوفر رغبته العلمية ويجتهد في تحصيل الكمالات. والله ولي الإعانة، لا ربَّ غيره سبحانه، بتاريخ يوم الثلاثاء في 4 ربيع الأنور و11 جويلية 1317/ 1899. محمد بيرم، أحمد الشريف، إسماعيل الصفائحي، محمد الطيب النَّيفر (¬1). دراسته العليا: وبعد حصوله على شهادة التطويع عاد إلى حضور دروس شيخه ¬

_ (¬1) دفتر دروس الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: 30.

الإجازات العلمية

محمد النخلي. قرأ عليه الوسطى في العقيدة، وكتاب المحلِّي على جمع الجوامع في أصول الفقه، والمطوّل في البلاغة، والأشموني في النحو. كان ذلك سنة 1318 بتقييد الشيخ. كما حضر صحبة صديقه الشيخ محمد الخضر حسين درس الأستاذ الشيخ عمر ابن الشيخ في تفسير البيضاوي، ودرسَ الأستاذ الشيخ محمد النجار لكتاب المواقف، ودرسَ الشيخ سالم لكتابَيْ البخاري والموطأ بشرحيهما. ومما لاحظه الشيخ الخضر حسين في زميله شدّةَ حرصه على العلم ودقّة نظره، متجليين في ملاحظاته وبحوثه. وقد سجل صاحب الدفتر بخطه في صفحة 41 من دفتره أنه أفاد من شيخه الإمام سالم بوحاجب أدباً وعلماً؛ قائلاً: قرأت صحيح الإمام البخاري، رحمه الله ورضي عنه، على شيخنا وشيخ مشايخنا العلّامة النحرير سيدي سالم بوحاجب المفتي المالكي ... بشرح شهاب الدين القسطلاني رحمه الله، قراءة تحقيق بجامع الزيتونة، وقرأت عليه من الموطأ (أجزاء) بشرح الشيخ الزرقاني قراءة تحقيق (¬1). الإجازات العلمية: وكان من الطبيعي، بعد ملازمة هذا الإمام وصحبته، أن يتوّج ارتباطه به بنفحات من الإسناد زكيّة، وطرق من الرواية سنيّة. وذلك ما دعا الشيخ الإمام سالم بوحاجب إلى أن يكتب له في نهاية دفتره بالإجازة الشريفة قائلاً في غضونها: أكتفي بالإجازة بأنواعها المبيّنة في الأصول، لتأسيس المعارف على سند موصول ... مَنْ تعلّقت همته بالمهم المذكور، وانتظمت رغبته منه في سلك السعي المشكور ... محرز قصب السبق في الميادين العرفانية بلا منازع، ¬

_ (¬1) نفس المرجع: 41.

(مَن) أحرز شرفي العلم والنسب، واسترقّ الألباب كلما تكلّم أو كتب، مَن تتشرف ببنوّته منّي الروح، وبتهذيبه ينمحي النقص وتندمل الجروح، الشيخ المدرس سيدي الطاهر ابن العمدة اللوذعي الماجد الزكي المهذب اليلمعي، سيدي محمد بن الهمام النحرير من تقاصر العصر والمصر أن يأتيا له بنظير، كما يقصر القلم واللسان في الإعراب عن فضل شيخنا الشهير، سيدي محمد الطاهر ابن عاشور المفتي المالكي، بَرَّد الله ضريحه، وأسكنه من الفردوس فسيحه. فبناء على ذلك أقول، مقتبساً إنارة طرف الإيجاب من طرف القبول: قد أجزت لابننا المذكور جميع محفوظاتي وملحوظاتي من معقول ومنقول، في فروع أو أصول، إجازةً تامة مطلقة عامة ... وأروي صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن العالم الفاضل المحدث الأديب أبي العباس الشيخ سيدي أحمد بن الطالب بن سودة، وهو عن شيخه مفتي الأنام وتاج الإسلام سيدي مصطفى بن محمد المالكي، الجزائري المنشأ، الإسكندري الموطن، وهو عن شيخه العلّامة مفتي الإسلام الشيخ علي بن عبد القادر، شُهِر بابن الأمير المتوفى 1236، وهو عن شيخ المشايخ سيدي علي الصعيدي المتوفى 1185، وهو عن شيخه العلّامة محمد عقيلة المكي، وهو عن الشيخ حسن بن علي العجيمي، وهو عن الشيخ أحمد بن محمد العَجِل اليمني، وهو عن الإمام يحيى بن مكرم الطبري، عن الشيخ برهان إبراهيم بن محمد بن صدّيق الدمشقي، عن الشيخ عبد الرحيم بن عبد الأول الفرغاني - وكان عمره مائة وأربعين سنة - وقرأ البخاري على أبي عبد الرحمن محمد بن شاذ بخت الفرغاني، بسماعه لجميعه على الشيخ، أحد الأبدال، أبي لقمان يحيى بن عمار بن مقبل شاهان الخَتْلاني - وكان عمره مائة وثلاثاً وأربعين سنة -

وقد سمع جميعه عن محمد بن يوسف بن مطر بن صالح الفِرَبري، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري رحمه الله تعالى، وأفاض علينا من ينابيع علومه آمين. كتب هذه الإجازة سالم بوحاجب في الخامس والعشرين من رمضان 1323 (¬1). وممّن منحه فضيلة الإسناد وشرّفه بربط حلقات اتصاله العالي بأكرم جناب، جدّه الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتور الذي أجازه بكل مروياته سنة 1321/ 1904. أجازه بسنده الجامع بين صحيحي البخاري ومسلم، كليهما عن طريق واحد هو طريق الفِرَبري. وهو ما حدّث به الشيخ محمد العزيز بوعتور، عن الشيخ محمد صالح الرضوي، عن عمر بن عبد الكريم، عن محمد بن سنّة، عن أحمد بن موسى بن عجيل، عن قطب الدين محمد النهرواني، عن محمد بن عبد الله الطاوسي، عن الشيخ المعمّر بابا يوسف الهروي، عن محمد بن شاذ بخت الفرغاني، عن يحيى الخَتْلاني، عن الإمام محمد بن يوسف الفربري، عن أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وعن أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. تذييل: وبهذا السند الأعزّ أروي عن الإمامين من طريق شيخي محمد الفاضل، عن أبيه الشيخ محمد الطاهر، عن جدّه محمد العزيز بوعتور (¬2). إجازات أخرى: مثل: إجازة شيخ الإسلام محمود ابن الخوجة له. ¬

_ (¬1) دفتر دروس الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: 42 - 44. (¬2) إجازة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور المثبتة بدفتر دروس الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة: 21.

تجربته في التدريس ونقده الذاتي لمنهجه فيه

وإجازة العالم النابغ سيدي عمر بن أحمد ابن الشيخ 1325/ 1908 (¬1). ومن جميل عناية الله بي، وسابغ فضله عليّ، اتصالي بهذه الأسانيد كلها وبغيرها، في الخامس من رمضان 1366 بالمرسى، من طريق مقام والدي، أستاذي وشيخي، عميد الزيتونة ومفتي الجمهورية رحمه الله الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور طيّب الله ثراه وتغمّده بواسع رحمته (¬2). تجربته في التدريس ونقده الذاتي لمنهجه فيه: بجمع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بين علوم الرواية والدراية على أكمل وجه، وبتعَمُّقِه الفريد في علوم الوسائل وعلوم المقاصد على وجه شحذت به ملكاته الذهنية، وقدراته العلمية، ومداركه الذوقية اللسانية، وتصوراته الدقيقة للحقائق الشرعية، والآراء والأنظار المقصدية، عجِل - لا كما يعجل كل مُطَوَّع إلى حلقات التدريس من أجل أن ينتسب إلى هذا الجامع انتساب المتعلم والمعلم - ولكن ليبدأ طريق الإفادة، ويتمكن بعد من تدريس أمهات الكتب وأفانين العلوم، على منهج بديع، وأسلوب رفيع، كان يحدّث به نفسه من وقت التحاقه بهذا المعهد، للأخذ عن أشياخه، ونيل مختلف المعارف والآداب منهم وعن طريقهم. فكان وهو يتوجّه في اليوم الأول إلى حلقة درسه، ليقوم بدوره المجيد في تعليم الأجيال وتلقينها مقوّمات المعرفة، وحقائق العلم، وجميل الأخلاق، وكمال التربية، وحسن الاستعداد، والتضلّع بالطاقات والكفاءات، لمواجهة الحياة والوقوف أمام التحديات، ¬

_ (¬1) محمد العزيز ابن عاشور. دائرة المعارف التونسية: 1/ 41. (¬2) دفتر دروس الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة: 11 - 21.

ومسايرة التقدم والرقي، بالأخذ بأسباب النهضة والقوّة، يراجع نفسه ويتحسّر على ما فاته بسبب ما مسّ التعليم الإسلامي من الوهن قائلاً: "وإنّي على يقين أنَّنِي لو أتيح لي في فجر الشباب التشبّع من قواعد نظام التعليم والتوجيه لاقتصدت كثيراً من مواهبي، ولاكتسبت جمّاً من المعرفة، ولسَلِمت من التطوّح في طرائق، تَبيّنَ لي بعد حينٍ الارتدادُ عنها. مع أني أشكر ما منحت به من إرشاد قيّم من الوالد والجَد ومن نصحاء الأساتذة. ولا غِنى عن الاستزادة من الخير (¬1). ثم وهو في أول مراحل التدريس يعلّم طلابه مبادىء العربية وقواعد المنطق يشعر بالحيدة عن الحق، ويقوم مع الشيخ محمد الخضر حسين صديقه بنقد ذاتي، يستشعران به في دروسهما إضاعة الأوقات النفيسة عليهما، وعلى من وكل أمرهم إليهما بالتلقّي عنهما من الطلاب. فكتب الشيخ الخضر في رحلته الجزائرية مقالات صرّح فيها بأنّه كان ممّن ابتُلي في درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، متوكئاً على أدنى مناسبة، حتى أفضى الأمر إلى ألّا يتجاوز في درسه شطر بيت من ألفية ابن مالك مثلاً. فتراجع قائلاً: ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج عن الإنتاج (¬2). وقال الشيخ ابن عاشور: وأنا عرَض لي مثل ذلك في تدريس المقدمة الآجُرُّومية. فكنت آتي في دروسي بتحقيقات من الشاطبي على الألفية، وفي درس مقدمة إيساغوجي أجلب مسائل من النجاة لابن سينا. ثم لم ألبث أن أقلعت عن ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 9. (¬2) مجلة السعادة العظمى: تونس، عدد 19، شوال 1323: 300. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 10.

درجاته العلمية وعمله في التدريس

ويظهر أن الذي نبّههما إلى الترك بعد الإقدام ما كان عليه طلبتهم من سوء فهم، فإن عقولهم ومداركهم لم تمكّنهم من ذلك، كما أنهما ذَكَرا ما يقتضيه إصلاح خير الدين، ونص عليه القانون في الباب الثاني، الفصول 7 - 22 المتعلقة بالمنهج وبواجبات الأستاذ. ونص ذلك: "أن يضع المدرس نفسه في مستوى سامعيه، ويجعل لغته وتفسيره في متناول ذكائهم ودرجة تعلُّمهم"، إذ القصد تبليغ المعلومات إلى الطلاب وإفادتهم بها، لا الإغلاق على قلوبهم، والتعالي عليهم لإبهارهم، أو إظهار التنافس بينه وبين غيره من الأساتذة والمدرّسين. وهكذا بعلم وافر غزير، وتطلّع إلى الإصلاح كبير، امتزجت حياة مترجَمنا رحمه الله في مراحل العمر كلها. وكانت وجوه تصرّفاته ومختلف نواحي أنشطته وأعماله متّسمة بالرصانة العلمية، والاستقلالية الفكرية، والالتزام بأحكام الشريعة والدين، والبصر بآيات الله في الكون، والتفتّح على ما يجري في أطراف العالم، وحبّ الخير للكافة، وبذل الجهد فيما ينفع الناس، وتدفّق العطاء. نلمس ذلك كلّه في حياته العلمية والإدارية والقضائية، وفي إنتاجه المتنوِّع الغزير. درجاته العلمية وعمله في التدريس: تقلّب الشيخ ابن عاشور في مراتب التدريس. ففي سنة 1320/ 1903 نجح في مناظرة الطبقة الثانية وتولّى مهام التعليم بصفة رسميّة بالجامع الأعظم. وبعدها انتدب للتدريس بالمدرسة الصادقية في عام 1321/ 1904، وبقي بها 1321/ 1351 - 1904/ 1932 خلا فترة مباشرته للقضاء. وفي سنة 1324/ 1905 شارك في مناظرة التدريس للطبقة الأولى بجامع الزيتونة. وكان درسه في تلك المناظرة في الفقه.

وموضوعه: بيع الخيار (¬1). وارتقت به همته العالية إلى العناية بجملة من الفنون، كان موفّقاً في الوقوف على دقائقها، مبرّزاً في استخلاص مقاصدها، متعاملاً مع مصادرها تعامل من تعدّدت مواهبه، واتسع أفقه الفكري. وكان قديراً، لا على الإحاطة بالمادة والكتاب بترديد ما علمه من ذلك فحسب، بل على النظر والمشاركة والنقد أيضاً لكل ما يقع تحت يده، وذلك بما خصّه الله تعالى به من سَعَة العارضة، وقوة الذاكرة، ودقة المقارنة والمناظرة بين مختلف المراجع والأقوال والآراء العلمية. درّس الشرح المطوّل للتفتازاني، وكتاب دلائل الإعجاز للجرجاني في البلاغة، وشرح المَحَلّي لجمع الجوامع للسبكي في أصول الفقه، ومقدمة ابن خلدون، وهي كما لا يخفى من أمهات الكتب في نقد التاريخ وأصول علم الاجتماع، وديوان الحماسة لأبي تمام. ودرّس أيضاً في الحديث موطأ الإمام مالك، وأقرأ تفسير البيضاوي بحاشية الشهاب (¬2). وقد تخرّجتْ بشيخنا العلامة محمد الطاهر ابن عاشور أجيالٌ كثيرة، كانت تجلس إليه في حلقة درسه بالمسكبة الأخيرة من بيت الصلاة بجامع الزيتونة، وكان مقرّ دروسه بين أبواب البلّور على مقربة من باب الشفا بجوار حلقة شيخه مقدَّم علماء الحنفية الشيخ محمد بن يوسف. فكانا رأس أئمة العلم بهذا المعهد، يحتشد الطلاب في حلقتيهما، يجلسون أسماطاً على شكل بيضوي دائري حول شيخيهما. ¬

_ (¬1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 304. (¬2) محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 125؛ الإجازة الفاضلية. دفتر دروس الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة: 15.

الوظائف الإدارية

ويكون من بينهم الشيوخ المدرسون، والمتطوِّعون، وكبار الطلاب الذين يستعدون للمشاركة في امتحانات التطويع أو التدريس. الوظائف الإدارية: تمرّس رحمه الله، إلى جانب ذلك، بالأعمال الإدارية والوظائف الشرعية، التي أهّلته لها مواهبه الفائقة العالية، كما شارك في المؤسسات العلمية والثقافية، وأسهم في إدارتها وتنشيطها بعزم وهمّة. عيّن عضواً بمجلس إدارة الجمعية الخلدونية سنة 1323/ 1905. وحصل على خطّة العدالة في نفس التاريخ، وإن لم يباشرها فعلاً. ولعنايته الفائقة بالكتب والمخطوطات شارك في اللجنة المكلّفة بوضع فهرست للمكتبة الصادقية، بوصفه عضواً، في محرم 1323/ فبراير 1905. - وسمي نائب الدولة لدى النظارة العلمية سنة 1325/ 1907. - وعضواً في لجنة تنقيح برامج التعليم سنة 1326/ 1908. وكَتَبَ تقريراً عن حالة التعليم، واقترح إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في مدن القيروان وسوسة وصفاقس وتوزر وقفصة. - كما عيّن عضواً بمجلس المدارس، وبمجلس إدارة المدرسة الصادقية سنة 1326/ 1909. - ثم ترأس لجنة فهرسة المكتبة الصادقية ابتداءً من ربيع الأنور 1327/ مارس 1910. - والتحق بعد ذلك بمجلس إصلاح التعليم الثاني بجامع الزيتونة، فكان عضواً به سنة 1328/ 1910.

الوظائف القضائية الشرعية

- وفي السنة الموالية عيّن عضواً بمجلس الأوقاف الأعلى سنة 1328/ 1911. - فعضواً في مجلس الإصلاح الثالث سنة 1343/ 1924. - فعضواً في مجلس الإصلاح الرابع سنة 1348/ 1930. - وبحكم وظيفته الشرعية، عُيِّن عضواً في النظارة العلمية وقاضياً أو كبير أهل الشورى في المجلس الشرعي. - ثم شيخاً للجامع الأعظم سنة 1351/ 1932 - 1933 (¬1). - وعاد إلى مباشرة مهامه على رأس مشيخة الجامع الأعظم سنة 1365/ 1945 - 1372/ 1952. - وبإثر استقلال البلاد عيّن عميداً للجامعة الزيتونية سنة 1375/ 1956 - 1380/ 1960. الوظائف القضائية الشرعية: كانت تمتزج بهذه المهام الإدارية والإصلاحية وظائفه السامية الشرعية. - اختير حاكماً بالمجلس المختلط العقاري سنة 1328/ 1911. ¬

_ (¬1) وكان فصله عن هذه الخطّة بسبب دسائس خصومه ومنافسيه وما أبداه وحاوله من إصلاح غاض به المحافظين من شيوخ الزيتونة، فأبدوا معارضة صريحة لبرنامجه الإصلاحي. وألصقوا به فتوى التجنيس، التي لم تحرر أصلاً، ونسبوا جرمها إليه لتبغيض العامة والخاصة فيه. انظر التقرير حول قضية التجنيس الموجه في 29/ 4/ 1933 عن المقيم العام الفرنسي بتونس "منصرون" إلى وزارة الشؤون الخارجية بباريس. نقله إلى العربية حمادي الساحلي. راجع مجلة وثائق عدد (1) 1984 تونس. المركز القومي الجامعي للتوثيق العلمي والفني.

- عيّن قاضياً مالكياً بالمجلس الشرعي سنة 1332 - 1342/ 1913 - 1923. - عيّن مفتياً في رجب 1341/ مارس 1923. - عيّن مفتياً ثانياً مكلَّفاً بخطة باش مفتي سنة 1342/ 1924. - وارتقى بعدها إلى خطة كبير أهل الشورى سنة 1346/ 1927. - فشيخ الإسلام المالكي سنة 1351/ 1932 (¬1). - باشر هذه المهام كلها بحكمة وجِدٍّ وحزم. وقد انتخب عضواً بالمجمعين: مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1950، والمجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1955. وكانت له كتابات وتحريرات في مجلتيهما، وبغيرهما من المجلات العلمية بالشرق، كالموسوعة الفقهية بالكويت، التي كان يصدرها الشيخ مصطفى الزرقاء، ومجلة الهداية الإسلامية بالقاهرة، وعدد من الصحف والمجلات الأخرى بالشرق كالمنار، وبتونس كالسعادة العظمى. تلفَّتَ فوقَ القائمين فطالَهم ... تشوّف بسّام إلى الوفد قاعد جهيرُ خطاب، يخفِض القومُ عنده ... معاريض قول كالرياح الرواكد يخصّون بالتبجيل أطولهم يداً ... وأظهرهم أكرومة في المشاهد ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتت ... إلى الفضل، حتّى عدّ ألف بواحد وقد تزوج سليلة المجد والشرف ابنة نقيب الأشراف بتونس سيدي محمد محسن. وكان له ثلاثة بنين؛ هم العلّامة البحر محمد الفاضل ابن عاشور، والسيدان الجليلان عبد الملك، وزين العابدين ¬

_ (¬1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 304 - 305؛ محمد العزيز ابن عاشور. دائرة المعارف التونسية: الكراس 1/ 40 - 43.

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

رحمهم الله، وبنتان. وكانت وفاته بالمرسى عن 94 سنة يوم الأحد 13 رجب 1394/ 12 أغسطس 1973. ووري رحمه الله التراب في مقبرة الزلاج من مدينة تونس. مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: فمما نعته به صديقه الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر قوله: "وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان. ويضيف إلى غزارة العلم وقوّة النظر، صفاءَ الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة ... كنت أرى فيه لساناً لهجته الصدق، وسريرة نقيّة من كل خاطر سيِّئ، وهمّة طمّاحة إلى المعالي، وجِداً في العمل لا يَمَسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه ... وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم" (¬1). وذكره العلّامة الشيخ العالم اللغوي الأديب محمد البشير الإبراهيمي قائلاً: "عَلَم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره. فهو إمام متبحِّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها. أقرأ وأفاد، وتخرّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي. وهذه لمحات دالَّة في الجملة على منزلته العلمية، وخلاصتها أنه إمام في العلميات لا ينازع في إمامته أحد. وأما عن دوره الإصلاحي المتميز فقد ذكر "أن الذين يثيرون في وجهه الغبار، أو يضعون في وجهته العواثير لمجرمون، وإنا إن ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 125 - 126؛ محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 306.

شاء الله للأستاذ الأكبر في طريقه الإصلاحي لمؤيدون وناصرون" (¬1). ودرس العلماء والمفكرون كُتب الإمام وآثاره، وتأثروا بها أيما تأثر، فقال عنه الداعية المصلح الشيخ محمد الغزالي: هو رجل القرآن الكريم، وإمام الثقافية الإسلامية المعاصرة ... الرجل بدأ يتكلم عن اللغة، ويتكلم بها أديباً ... أقرأُ كلماته في التحرير والتنوير فأستغرب لأنه وطأ كلمات مستغربة وجعلها مألوفة، وحرر الجملة العربية من بعض الخبات الذي أصابها في أيام انحدار الأدب في عصوره الأخيرة. ولكن الرجل لم يلق حظه ... ابن عاشور لا يمثل صورة من اللحم والدم، إنما يمثل تراثاً أدبياً علمياً عقائدياً أخلاقياً (¬2). وتحدث الأستاذ الدكتور مصطفى زيد عنه بعد سبع سنين من إصداره الطبعة الأولى من كتابه مقاصد الشريعة الاسلامية، معجَباً بتصرفاته وطريقته في الحديث عن المصلحة قائلاً: وتمضي الأعوام فلا نرى في المصلحة كلاماً ذا وزن حتى خرج علينا شيخ جامع الزيتونة السيد محمد الطاهر ابن عاشور بكتابه المقاصد (¬3). وعن الكتاب نفسه يقول الأستاذ الدكتور البوطي: من أهم ما يمتاز به هذا الكتاب فيما أعتقد، أنه أول مؤلف يعالج موضوعاً من أبرز وأهم الموضوعات في أصول الفقه، ألا وهو مقاصد الشريعة الإسلامية، ويفرده بالبحث والتحليل ... لا ريب أن صنيع العلامة المرحوم ابن عاشور يعد تأسيساً كبيراً لذاتية هذا العلم ورسماً لإطاره الذي ميزه عن غيره (¬4). ¬

_ (¬1) ذكرى الإمام (وزارة الشؤون الثقافية: إدارة الآداب). (¬2) مجلة الوعي الإسلامي، عدد 28، أبريل 1986، السنة الحادية عشرة، ص 44. (¬3) المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي. دار الفكر العربي. ط. (1) مصر 1374/ 1454. ص 235. (¬4) مجلة الوعي الإسلامي: 45 - 46.

أما الأستاذ الدكتور سعيد الأفغاني فقد كتب عنه قائلاً: هو خطوة سديدة نحو إنشاء علم أصول الأصول في الفقه (¬1). وقفى على هؤلاء الأستاذ الدكتور عبد المجيد النجار الذي وصف كتاب المقاصد بأنه تطوير وتهذيب (¬2). ودعا البحثُ في مقاصد الشريعة والنظر في جملة مما كتب عنها إلى الانتهاء إلى مقالة الأستاذ الدكتور إسماعيل الحسني في مقارنته بين مقاصد الشاطبي في الموافقات ومقاصد الشريعة الإسلامية عند الإمام الأكبر. قال: فقد اعتقدت أنه لم يعد هناك مجال للبحث في مقاصد الشريعة كبحث متميز في علم الأصول لأن الإمام الشاطبي لم يترك جانباً من جوانبه إلا استوفاه وأتقنه. واستقر في ذهني بسبب ذلك أن البحث في المقاصد لن يتجاوز توضيح ما سطره رُواد الفكر المقاصدي من الأصوليين وخاصة الشاطبي ... إلا أني ازددت شكاً في هذا التصور كلما أمعنت في دراسة فكرة المقاصد الشرعية عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور من خلال أهم مؤلفاته ... واقتنعت اقتناعاً كاملاً بأني إزاء نظرية في المقاصد الشرعية بعد ما تردد أصولها إلى تراث المقاصد، تعمل أيضاً على مراجعته وتكميله (¬3). ومما يمكن أن نفسر به حياة العلم والجد التي لازمها طول حياته ننقل عن الإمام الأكبر قوله عن نفسه: "إن مزية العلم وشرفَ الانتساب إليه، أمر بلغ من اليقين والضرورة مبلغاً يقصر عنه البيان، وينقص قدره محاولةُ إقامة البرهان، بعد أن توجه الله تعالى به إلى ¬

_ (¬1) على هامش كتاب تلخيص إبطال القياس من تحقيق إحسان عباس. جامعة دمشق 1970. (¬2) مجلة الوعي الإسلامي. نفس العدد. (¬3) ا. د. إسماعيل الحسني. نظرية المقاصد عن الإمام محمد الطاهر ابن عاشور. ص 19. ط. المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1416/ 1990.

نبيه الكريم، وهو الذي علّمه ما لم يكن يعلم، وزكّاه بأنه على خُلُق عظيم، وعلى صراط مستقيم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} قولاً جعل طَلَبَ العِلْم، والحرصَ عليه، والاستزادةَ منه، أعظمَ مطلوب لأشرف موجود. وبذلك كان العلم تاجَ نبوَّته، وشعارَ ملّته. وإني أحمد الله على أن أودع فيَّ محبةَ العلم، والتوقَ إلى تحصيله وتحريره، والأنسَ بدراسته ومطالعته، سجيةٌ فُطرت عليها، فخالطت شغاف قلبي، وملأت مهجتي ولُبّي، وغرزت فيّ غريزة نمّتها التربية القويمة التي أخذني بها مشايخي طيب الله ثراهم، وطهر ذكراهم، ممن جمع أبوّة النسب وأبوّة الروح، أو ممَّن اختصّ بالأبوة الروحية وحدها؛ حتى أصبحتُ لا أتعلَّقُ بشيء من المناصب والمراتب، تعلُّقي بطلب العلم، ولا آنسُ برفقةٍ ولا حديث أُنْسِيَ بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب؛ ولا حبِّب إليّ شيء ما حُبّبت إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس، متنكّباً كل ما يجري حولي من المشاغل. فلا تكاليف الحياة الخاصة، ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمّلتها فاحتملتها، في القضاء وإدارة التعليم، حالت بيني وبين أُنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي، والفهم الصائب بيني وبين أبنائي من الطلبة الذين ما كانوا إلا قرَّة عين وعُدَّة فخر، ومنهم اليوم علماء بارزون، أو في مطالعات وتحارير أخلص فيها نجيّاً إلى الماضين من العلماء والأدباء، الذين خلفوا لنا في آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها بالأفهام والأقلام، ومرامي بعيدة سدّدنا إليها صائب السهام. فالحمد لله الذي بوّأنا، بين الماضين من أسلافنا والآتين من أخلافنا، منزلة مَن تلقّى الأمانة فأدّاها، وأوتي النعمة فشكرها ووفّاها" (¬1). ¬

_ (¬1) من كلمته التي ألقاها أمام الرئيس بورقيبة يوم إسناده أول جائزة رئاسية إليه.

القسم الثالث حركات الإصلاح في ربوع المشرق والمغرب

القسم الثالث حركات الإصلاح في ربوع المشرق والمغرب

حركة إصلاح التعليم بالجامع الأعظم

حركة إصلاح التعليم بالجامع الأعظم فمن بداية الدولة الحسينية التفت الأمراء إلى العناية بجامع الزيتونة ورجال العلم به. فكان ذلك شأنَ مؤسس الدولة الأمير حسين بن علي، وشأنَ ثلة من الأمراء من بعده، مثل الباشا علي باي الأول، وكان بذلك إعمارٌ ونسخٌ لما سبقه من إهمال وإغفال في عهد الدولة المرادية. المراحل الأولى للإصلاح في عهد المشير أحمد باي الأول (1253/ 1837 - 1272/ 1855): سبق لنا التنويه بما أظهره المشير أحمد باي الأول من اعتناء بهذا المعهد الذي زوّده بخزائن نفيسة من الكتب، وَقَفَها على طلبة العلم به. كما أصدر أمراً عليّاً 1258/ 1842 في تنظيم التعليم به، وترتيب دروسه، وتعيين هيئة من العلماء هي النظارة العلمية، المتكوّنة من شيخ الإسلام وباش مفتي المالكية، ومن القاضيين الحنفي والمالكي، لمراقبة سير الدراسة والإشراف عليها. وضَبَط أمر ترتيبَ تدريس العلوم بالجامع، وحفظ المكتبة، والمحاسبة على مالية التعليم. وهذا الترتيب مثبت بالمعلّقة الواقعة بجوار باب الشفاء بالجامع. ولئن كان الشيوخ المدرّسون يمثلون الطبقة الأولى من جهاز التعليم، فقد أحدث الأمر العلي الصادر سنة 1265/ 1848 طبقة ثانية لهم. وكان التقدم من هذه الطبقة إلى الأولى

صدمة الاحتلال

مشروطاً بالانتساب إلى الثانية، وموكولاً لاختيار النظارة. ثم حُكِّمت المناظرة العلمية بين من يروم من المتنافسين الالتحاق بالطبقة العليا. ولكن هذا النظام اختلّ بعد وفاة المشير أحمد باي الأول، وقصّر كثير من الشيوخ في القيام بواجباتهم. بداية الإصلاح في عهد المشير محمد الصادق باي (1276/ 1859 - 1299/ 1882): تلافى المشير محمد الصادق باي الوضعَ، وأظهر بإشارة من أعضاده عناية بالزيتونة. وأسّس برواق جامع الزيتونة المكتبة الصادقية، الشهيرة بالعبدلية سنة 1292/ 1875. وتولّى وزيره خير الدين ضبط أحوال الدروس والمدرّسين بالجامع الأعظم، وأسقط ضريبة المجبى على المنقطعين لطلب العلم. وقد يكون الدافع لمثل هذه التصرّفات محاكاة كبار الملوك والسلاطين في الدول الأخرى، أو الرغبة في التقرّب من الرعية، وحُسن الذِّكر. صدمة الاحتلال: في خلال الفترة التي تقدّمت انتصاب نظام الحماية الفرنسية بالبلاد التونسية، وتقاطُرِ الأوروبيين وخاصة الفرنسيين منهم على تونس العاصمة، واتخاذهم حيّاً متميزاً بها عمراناً ونضارةً وبهجة حياة، بدا الفارق العظيم والبون الشاسع بين بؤس الحياة الأهلية، ونعمة الحياة الأوروبية التي لم يستطع اللحاق بها إلا كبار الموسرين وعظماء الحكام.

يقظة الشعب

وظهر الأطباء والصيادلة والمهندسون الغربيون بمظاهر تفوّقهم في العلوم الطبيعية، وسبقهم في ميدان الحياة العملية. وفاضت على البلاد الثروات الأجنبية، بسعة معاملاتها وقوانينها الغربية المغرية. وبدأ نظام الدولة في الإدارة والقضاء يتطوّر بالاقتباس من الأساليب الغربية، وترك ما كان سائداً من الأحكام الشرعية والتقاليد القومية (¬1). يقظة الشعب: هنا توقّف الشعب والعلماء والحكام جميعاً، وأصابتهم هزة الاحتلال، وتملّكتهم الحيرة، واتجهوا جميعاً إلى تدارك الأمر، كلٌّ على شاكلته، وبالوجه الذي يراه ويختاره. فصرفوا عنايتهم إلى شتى المجالات يرعونها، ويبذلون الجهد لإصلاحها. وامتدت أيديهم إلى المدرسة الأم، المعهد الديني، جامع الزيتونة الذي أصابه الشلل، وأصبح غير قادر على تهيئة الخريجين لمواكبة التطوّرات الجديدة التي شملت كل جوانب الحياة، ولا على التقدّم بخطى دقيقة وموزونة للخروج بالبلاد من التخلّف، ولا على الصمود كثيراً أمام الاتجاهات الخطيرة. وكان حتماً أن يحرِّك الإصلاحُ مشاعرَ الراشدين فيزيلون الفساد ويقضون على أسبابه في كل مجالات الحياة. فالإصلاح عند أهل اللغة هو إزالة الفساد أينما ظهر. وقد يتجاوز الإصلاح إلى التجديد والتطوير كما سيأتي. وجعل اللغويون وعلماء الاجتماع لمصطلح الإصلاح فرعين: أحدهما يتعلق بالفرد، وثانيهما بالأمة. وفصّل الشيخ ابن عاشور المصطلح بنوعيه الخاص والعام في كتابه أصول ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الأدبية والفكرية بتونس: 24 - 25.

ترتيبات خير الدين

النظام الاجتماعي في الإسلام. واستُعمل الإصلاح مضافاً إلى أشياء كثيرة كإصلاح البناء وإصلاح الماء، ماء الشراب، وإصلاح العيش. ومن هذه الدلالة العامة جاء الإصلاح الاجتماعي. وهو ما تقدمت الإشارة إليه، والإصلاح الاقتصادي والمالي والسياسي وإصلاح التربية والتعليم. وقد تحركت مختلف الطبقات والعناصر لإصلاح التعليم الزيتوني. وهذا ما حدا بخير الدين إلى تكوين لجنة لتنظيم الدروس بجامع الزيتونة، والنظر في شؤون الشيوخ والطلبة من جهة، كما قام بتأسيس المدرسة الصادقية من جهة ثانية في 4 ذي الحجة 1291/ 13 يناير 1875. وعلى إثره سعى روّاد الإصلاح من حوله إلى تأسيس الجمعية الخلدونية سنة 1314/ 1897. وقامت حركة الشباب التونسي بالعمل على إنشاء وتطوير الحركة الطالبية الزيتونية (¬1). ترتيبات خير الدين: كان عمل خير الدين في هذا المجال متأثراً بالمنهج الذي دعا إليه في كتابه أقوم المسالك. نزع فيه منزع الرصانة والتجديد: الأصالة والتفتح. وكان من نتائج همّة هذا الوزير، بعد سنة من إنشائه للجنة الإصلاح الزيتوني التي تولّى رئاستها بنفسه، فراغ هذه اللجنة من عملها في ذي القعدة 1292/ جويلية 1875. وقد ضَمَّت لجنةُ تنظيم التعليم ووضع القوانين للزيتونة، إلى جانب الوزير خير الدين رئيساً، عدداً من أنصار دعوته من أهل العلم ورجال الحكومة، فكانت تتركب من الشيخ محمد العزيز بوعتور وزير ¬

_ (¬1) محمد مختار العياشي. البيئة الزيتونية، ترجمة حمادي الساحلي: 24.

القلم، والشيخ أحمد ابن الخوجه المفتي الحنفي، والشيخ محمد الطاهر النيفر القاضي المالكي، والشيخ عمر ابن الشيخ مدرس، والشيخ محمد بيرم مدرس، والسيد العربي زروق. ودخل الأمر حَيِّز التطبيق بعد ستة أشهر من التاريخ المذكور. ويتكوّن قانون تنظيم الزيتونة من خمسة أبواب، تشمل سبعة وستين فصلاً: الباب الأول: يُعنى بالدراسات والكتب الواجب دراستها: ص 1 - 6. الباب الثاني: يضبط واجبات المدرّسين، ويحدّد حصة الدرس بينهم بساعة ونصف الساعة: ص 7 - 11. الباب الثالث: ينظم شؤون الطلاب، ويقتضي منهم أن يكونوا مصطحبين لدفاتر الشهادات التي يسجل بها حضورهم الدروس، ونتائج امتحاناتهم. وهي الوثيقة المعتدّ بها لإعفائهم من ضريبة المجبى، ومن الخدمة العسكرية: ص 12 - 32، كما يلزمهم النظام الحزم وحسن السلوك ومراعاة حرمة المعهد. الباب الرابع: يحدِّد طرق مراقبة العمل وسير الدروس بالجامع، وأحوال الطلبة وسلوكهم. وقد عهد بذلك إلى هيئة أسسها القانون، هي هيئة النظارة العلمية: ص 33 - 53. وجعل الامتحان سنوياً يبدأ في 13 يونيو من كل سنة بمقر الحكومة بدار الباي، بحضور موظف حكومي. الباب الخامس: مخصص لشؤون المكتبة وترتيبها وسير العمل بها. ثم صدر بعد هذا الأمر أمر جديد بعد شهر واحد من صدور

الأمر الأول. وهو يكِل مهمة تطبيق ما جاءت به الترتيبات إلى أمير الأمراء حسين وزير التعليم العمومي (¬1). ويمتاز ترتيب خير الدين بأنه أكثر من عَدَدِ العلوم التي تدرس بالجامع الأعظم، وحدّد كيفية ابتداء تعليم التلميذ، والعلوم التي يتلقاها أولاً، ومراتب التدريس للكتب، وشهادات الحضور، والسيرة، وترتيب التعليم من حفظ وفهم، كما حدَّدَ للدرس حصة زمانية، وللمدرسين صفة تقرير الدرس، وترتيب الدرس من قواعد وشرح وقراءة وتمرين، وجعلت طريقة التدريس طريقة الإملاء (¬2)، وجعل الامتحان لتحصيل شهادة التطويع (نهاية للتعليم الثانوي) لمن زاول الدراسة بالجامع المدة المحددة وشهد له الشيوخ بذلك. كان أول من شارك في هذا الامتحان 1317 شيخنا الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور. وكانت شهادة التطويع، شهادة للخرّيج الحاصل عليها بكونه ذا ذهن قوي، وعقل مدرك للحقائق، قدير على إيصالها إلى أذهان طالبيها. وهي تخوِّله التصدّي للإقراء (¬3)، كما أحدث المناظرة بين المترشِّحين للحصول على خطة التدريس الرسميّة، وأوكل المراقبة العامة للنظار ولنواب الحكومة لسائر الأحوال العلمية، وللمطبوعات. ¬

_ (¬1) فان كريكن (ج. س). خير الدين والبلاد التونسية. تعريب البشير ابن سلامة: 203. (¬2) هي المعروفة اليوم بطريقة المحاضرة، وهي التي كانت تدور في المجالس، وتعرف بالأمالي، كأمالي المبرد، ومجالس ثعلب، وأمالي ابن الشجري، وأمالي القالي، ونحوها. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 236، 239.

من رواد الإصلاح: محمد البشير صفر، رئيس الجمعية الخلدونية

ثم تلا هذا قانون ثانٍ عزّز الأول، كان به ترتيب النظارة، وتسمية مستشار للمعارف ونائبَيْن عنه لمراقبة أحوال التعليم وإجراء التراتيب (¬1). من رواد الإصلاح: محمد البشير صفر، رئيس الجمعية الخلدونية: أما رواد الإصلاح من أنصار الوزير خير الدين، ومن غير الزيتونيين، فأبرزُهم وأقدرُهم رئيسُ بعثة المدرسة الصادقية إلى فرنسة محمد البشير صفر. يقول صاحب تراجم الأعلام عنه: اقتنع بوجوب تلبية داعي الواجب، فترك هو وأصحابه مواصلة الدراسة بفرنسة ليتولى بنفسه التوسط بين الأقلام العربية في الإدارة التونسية، والقلم الفرنساوي في إدارة الحماية. وعُهد إليه بإدارة فرع المدرسة الصادقية. وأنشأ علي بوشوشة صحيفته الأسبوعية الحاضرة في 24 من ذي القعدة 1305/ 2 أوت 1888. فكان محمد البشير صفر ركنَ التفكير والتحرير في هذه الصحيفة إلى جانب مؤسسها، ومن أبرز أعماله: خدمته للنهضة الفكرية، وسعيه في تأسيس الجمعية الخلدونية سنة 1314/ 1896. وقد اضطلعت الخلدونية بمهام كبيرة: منها دروسها الحرة، لما كان من العلوم مهجوراً في التدريس بالجامع الأعظم، من علوم اجتماعية ورياضية وطبيعية. وتزاحم طلاب الزيتونة على دروسها، وأقبلوا على محاضرات الأستاذ محمد البشير صفر في التاريخ. فكانت تغص بهم القاعة ¬

_ (¬1) انظر شرح الترتيب وتحليل مواده: ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 96 - 97، 118.

طلبة الجامع الأعظم

الكبرى للجمعية. وبرز دور هذا الأستاذ الإصلاحي العملي بسدّ الثغرات، وحسن توجيه الطلبة في مجالات الحياة، حتى نال الزعامة المطلقة، والإجلال العظيم، من الشبيبة الصادقية وطلبة الجامع الأعظم جميعاً (¬1). وعلى غرار هذا المصلح، وبروح متوثِّبة إلى التغيير والتكميل، سار الشيخ ابن عاشور، تدفعه همته العالية وروحه اليقظة، داعياً أمير البلاد، عند عودته من رحلته الباريسية، إلى وجوب العناية بجامع الزيتونة الأعظم وتعزيزه. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك بذكر قصيدته الميميّة في تحية القدوم. طلبة الجامع الأعظم: حرص طلبة العلم على الإصلاح ونادوا به. وبرز هذا جلياً بإعلان الإضراب في ربيع الثاني 1328/ أبريل 1910، مطالبين بتجديد برامج التعليم المعمول بها بالجامع الأعظم. وتتلخّص مطالبهم في: 1 - إعادة تنظيم التعليم الزيتوني وإصلاحه، من حيث المناهج الدراسية، والأساليب التربوية، مع الإلحاح على إدماج بعض المواد الضرورية في برامج الدراسة كالتاريخ والجغرافية، وعلى تعديل بعض المواد التقليدية المملّة. 2 - إحداث شهادة ختم الدروس للمرحلة الأولى من التعليم الزيتوني "الأهلية". ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 197 - 206.

الشيخ ابن عاشور والإصلاح

3 - مراقبة حضور المدرسين (¬1). 4 - إعفاء الطلبة من المجبى، ومن الخدمة العسكرية. الشيخ ابن عاشور والإصلاح: كانت هذه المطالب وما يرتبط بها حاضرة ماثلة في ذهن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. وتوفّرت أسباب ذلك لديه: منها ما هو معروف بين الخاصة والعامة، وفي الأوساط العلمية الزيتونية، وحتى في الأوساط السياسية والاجتماعية. وهي إصلاحات الوزير خير الدين. وما كان يتلقاه مباشرة من آراء جدّه الوزير، وتصرّفاته بشأن إصلاح الزيتونة. وقد كان جدّه الوزير من علماء الزيتونة، تخرّج من بين عرصاتها، واغتذى بلبانها بالأخذ عن أشياخها، وتردّد طالباً على حلقات العلم بها، ثم تولّى تفقّدها وهو وزير، كما تولّى بنفسه الإشراف على اللجنة الأولى لإصلاح التعليم بجامع الزيتونة سنة 1316/ 1898. وما لاحظه الشيخ ابن عاشور بنفسه، وهو طالب ومدرس بالجامع الأعظم، من مسيس الحاجة إلى الإصلاح في مجالات عديدة مختلفة. ومنها ما دعاه إلى المعالجة الفعلية لقضايا الإصلاح، وهو نائب الدولة لدى النظارة العلمية 1325/ 1907، ثم وهو قاضٍ، بوصفه عضواً في هيئة تلك النظارة، ثم بوصفه شيخ الإسلام، والشيخ المدير للجامع الأعظم. ¬

_ (¬1) مختار العياشي. البيئة الزيتونية، ترجمة حمادي الساحلي: 26.

كان الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور يدرك مدى العلاقة بين رجال العلم والإصلاح. فالشيوخ لم يكونوا يكترثون بالتعديل أو التغيير لتعليمهم من تلقاء أنفسهم، أو يظهرون الاهتمام به والالتفات إليه، إلا ما كان منهم بعد تأسيس الجمعية الخلدونية في 18 رجب 1314/ 24 ديسمبر 1896، كما كان يدرك موقف المشائخ وما يتلقون به مساعي المصلحين من الحكومة بالتذمر والضجر. لا يحملهم على ذلك إلا حرصهم على حرية التصرّف في معهدهم، كما كان أسلافهم، وعدم التقيّد بنظام أو التزام بترتيبٍ ينشأ عنه تدخّل في الدين ومنهج تلقينه وطريقة نشره وتعليمه. ومن ثَمّ لم يعيروا الإصلاحات الثانية اعتباراً، ومضوا مستهينين بها، ومخالفين لها، مجدّدين بذلك موقفهم الذي وقفوه قبل من إصلاحات المشير أحمد باي الأول. وانكمش خير الدين عن المضي في إصلاحه، تاركاً أشياء كثيرة لم يتمّها، كما توقّف المسؤولون في قطاع التعليم من رجال الحماية عن المشاركة في جهود الإصلاح، لما تقدّم به رجال العلم بالزيتونة من وصفهم للإصلاحات بكونها بدعة. وبدأ الشقاق يظهر بين الطرفين المحافظ والإصلاحي؛ فازداد الأول تمسكاً بموقفه، وأبدى دعاة الإصلاح رغبتهم في التغيير والتجديد وإصلاح التعليم العربي الإسلامي على وجه لا يزيل عنه صبغته المحمودة عند عموم الأمة. وقابل الجانب الفرنسي هذه الدعوة بالإنكار والإعراض، وقال مدير التعليم العمومي: أرجعوا تعليم جامع الزيتونة إلى المشايخ الأربعة وخلّوا بينهم وبين جامعتهم (¬1). ¬

_ (¬1) ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 119 - 120، 150.

حركات إصلاح التعليم في القرن 14/ 20 في ربوع المشرق والمغرب

حركات إصلاح التعليم في القرن 14/ 20 في ربوع المشرق والمغرب: إنا حين نؤكد على ارتباط الشيخ ابن عاشور بشيخيه النخلي وبوحاجب، لطول ملازمته لهما، وإفادته منهما، وسيره على وفق منهجيهما في العمل الإصلاحي، لا ننسى ما يشدّه من عرى المودة أو يصل بينه وبين رواد الفكر الإصلاحي في عصره. فقد كان له ارتباط متفاوت، إما مباشرة برجال الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، وإما بما ذاع عن بعض قرنائه في هذا المجال من آراء واجتهادات وأفكار، لفتت الأنظار إليهم، واقتضت الاتصال بهم أو التعرف عليهم. * * *

1 - الأستاذ الإمام محمد عبده

1 - الأستاذ الإمام محمد عبده هو الأستاذ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية، وزعيم الإصلاح بالأزهر الشريف. تأكدت به صلته عند زيارته الثانية لتونس في رجب 1321/ أوت 1903. وحصل من التجاوب بينهما ما جعل القادم ينظر إلى العالم الشاب، نِظرة إعجاب لزكانته، ورجاحة عقله، وبعد نظره، وقدرته الفائقة البيانية، وحُسن تدبيره، وكريم مواهبه، ناعتاً إياه بسفير الدعوة في الجامعة الزيتونية. وحمل ذلك الشيخ ابن عاشور على التنويه بالزائر الكبير، والحفاوة به، والإشادة بمكانته العلمية، وآرائه وأفكاره الإصلاحية. ونحن نعلم أن هذا الأستاذ رغم اختياره في الإصلاح المنهجَ الثوري الذي اشتهر به، كانت له مبادىء وآراء عمل على نشرها والدعوة إليها ونفع الناس بها. ومجملها في مجال التربية والتعليم ما يعرب عنه قوله: "أمر التربية هو كل شيء ... وعليه يُبنى كل شيء ... وكل مفقود يفقد بفقد العلم، وكل موجود يوجد بوجود العلم. وأي إصلاح للشرق والشرقيين لا بد أن يستند إلى الدين، حتى يكون سهل القَبول، شديد الرسوخ، عميق الجذور في نفوس الناس. والناس في التعليم طبقات ثلاث: العامة، والساسة، والعلماء. ويجب تحديد ما يلزم لكل واحدة من هذه الطبقات الثلاث من التعلم كمّاً ونوعاً" (¬1). ¬

_ (¬1) د. محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 1/ 151.

وطريق ذلك في إصلاح التعليم الديني قوله: "يجب تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى. والنظر إلى العقل باعتباره قوة من أفضل القوى الإنسانية بل هي أفضلها على الحقيقة" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نفس المرجع: 1/ 179.

2 - الأستاذ محمد كرد علي

2 - الأستاذ محمد كرد علي هو الأستاذ محمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق. 1293/ 1876 - 1372/ 1953. كان رئيساً لديوان المعارف ثم وزيراً للمعارف. وهو الذي يقف بين فرقتين: فرقة أنصار القديم من المتدينين الذين لا يعترفون بغير علوم الدين التقليدية، وبين أنصار الفرقة الحديثة الذين لا يريدون الأخذ بفنون الغرب العسكرية والتقنية فحسب، وإنما أيضاً بجملة مُثُله وفلسفته وعاداته، فيعلنها مدويةً: "ها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين وعلوم الدنيا والأمة شطرين: شطر هو إلى البلاهة والغباوة، وشطر إلى الحمق والنفرة. نسينا القديم ولم نتعلم الجديد. ومن الغريب أن معظم المستنيرين بقبس العلوم الأوروبية منا لا يرجعون إلى آداب دينهم، ويميلون في الظاهر والباطن إلى أن يكون الدين فقط جامعة تجمع الأمة على مثال الجامعات السياسية والجنسية ... وهذه حالة هؤلاء مع أولئك. وستكون الغلبة لأنصار الحديث إذا لم يقم خصومهم بلمّ شعثهم على صورة معقولة مقبولة ... وبين هذين الفريقين فريق ثالث اختار الوسط بينهما. فلم يَرَ طرح القديم كله، ولا الأخذ بالحديث بجملته، بل آثر أن يأخذ المنافع من كل شيء ويضم شتاته" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) محمد كرد علي. القديم والحديث: 3.

3 - الشيخ محمود شكري الآلوسي

3 - الشيخ محمود شكري الآلوسي ونَعُدُّ من كبار علماء العراق الشيخ محمود شكري الآلوسي 1273/ 1856 - 1342/ 1924. عاش مناصراً للسلفية، محاولاً الجمع بين النصوص الشرعية والقضايا العلمية المعاصرة كالتي يقوم عليها علم الفلك. فإن خالفت هذه النصوصَ لم يلتفت إليها، ولم يؤوِّل النصوص لأجلها. وهو لذلك يأخذ بمنهج ابن رشد في فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. وهو يقول بحركة دوران الأرض اليومية والسنوية حول الشمس، ويعتبر هذه مركز نظامها، وأن الأرض إحدى الكواكب السيارة، وهي سابحة في الجو معلقة بسلاسل الجاذبية، وقائمة بها كسائر الكواكب، لا أنها كما ذهب إليه بطليموس في الأفلاك كالمسامير في الباب، إلى غير ذلك من قواعدها المشهورة وقوانينها المذكورة، التي رآها لا تعارض الكتاب والسنة. فالعقل الصحيح لا يخالف النقل الصحيح، بل كل منهما يصدّق الآخر ويؤيده (¬1). * * * ¬

_ (¬1) محمود شكري الآلوسي. ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان: 10، 11.

4 - محمد بن الحسن بن العربي الحجوي

4 - محمد بن الحسن بن العربي الحجوي هو الشيخ الجليل محمد بن الحسن بن العربي بن محمد الحجوي الثعالبي الجعفري الفِلَّالي المغربي 1291/ 1874 - 1376/ 1956. من المالكية السلفية، ولي وزارة العدل فوزارة المعارف. وكانت له تجربة إصلاحية. وله مؤلفات كثيرة من أهمها: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. وفيه يقول: "باشرت سنة 1332 تنظيم المجلس التحسيني لإصلاح التعليم بالقرويين ... فوضعت قوانينه وترتيبه، وفاجأت بذلك علماءه فنفروا عنه. وبعد أن فهم المقصود أهلُ البصائر منهم، بما بذلته معهم من النصح والبيان، جأر منه من كان متسنماً مقاماً يقضي عليه التنظيم بالنزول عنه ... ومن أحسن ما أمكنني القيام به تفقد المدارس من حيث العلوم العربية والدينية من حين إلى آخر، وتتبع سيرها وبث روح النهضة فيها، والميل إلى إحياء علومنا والتشبع من العلوم العصرية، وحث المعلمين والمتعلمين على حفظ النظام" (¬1). * * * الشيخان العالمان المصلحان، اللذان لا يذكر أحدهما إلا مقترناً بذكر الآخر: ابن باديس والإبراهيمي. ¬

_ (¬1) محمد الحجوي. الفكر السامي: 2/ 386 - 387.

5 - الشيخ عبد الحميد بن باديس

5 - الشيخ عبد الحميد بن باديس هو الشيخ عبد الحميد بن باديس 1308/ 1889 - 1359/ 1940. تخرّج بشهادة التطويع من جامع الزيتونة. والتقى في المدينة المنورة بشيخه التونسي، وبالشيخ البشير الإبراهيمي. له تآليف. وأعظم ما قام به، وأحيى به الجزائر، وواجه به التحديات الاستعمارية؛ إنشاؤه لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وهي مؤسسة عتيدة ما زالت آثارها تمتلك نفوس روادها والمنتسبين إلى مدارسها. فهي خير ما كان يمثل الدعوة إلى النهضة عن طريق العلم والتربية الأخلاقية. ويرى إمامها أن الإصلاح يقوم على شقين مترابطين: التعليم من ناحية، ونبذ الجمود والأوضاع الطرقية من ناحية ثانية. وبهذا الاعتبار فإن مناهج ابن باديس، ومحمد عبده ورشيد رضا كانت متقاربة جداً؛ إذ يقوم العمل الإصلاحي لديهم على التربية والتعليم. فهو مناهض لإبطال الأحكام القطعية الاجتماعية، ولكل ما فيه هدم لروح الدين الإسلامي، وجحود لبعض القرآن، معتبراً ذلك فسقاً وكفراً (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ابن باديس. آثار ابن باديس، الجزء الأول، م 2/ 475؛ الشهاب: 11 رجب 1349 هـ/ ديسمبر 1930 م: 714 - 715.

6 - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

6 - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي هو العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 1306/ 1889 - 1385/ 1965. خلف الشيخ ابن باديس على رأس جمعية العلماء. وكان نشطاً في تكوين المدارس وتحفيظ القرآن وتعليم العربية. وهو خطيب مفوّه، وراجز بارع. فكان عضواً في المجامع اللغوية العربية بالقاهرة ودمشق وبغداد. أصدر البصائر، ونشرت مقالاته عيون البصائر، وله في مجلة الشهاب مقالات كثيرة. وبحكم تعاونه مع صديقه الإمام الشيخ ابن باديس، وضع المنهج الذي سارت عليه الحركة التعليمية الإسلامية الحرة بالجزائر في ظل جمعية العلماء. ولعلنا نستطيع أن نفهم الكثير من ومضاته الفكرية ولمحاته البيانية في هذا الموضوع. ومن ذلك قوله: "تعتبر التربية والتعليم من أهم القضايا التي تعنى بها الأمم. فبالتربية والتعليم تتقدم الحضارات، وتتطور المجتمعات، وتصنع الأجيال. فالتربية بوجه عام هي ذلك الجهد الذي يقوم به آباء الشعب ومربوه لإنشاء الأجيال على أساس فطرية الحياة التي يؤمنون بها" (¬1). ولتأكيد هذا التصور للتربية نجد الإبراهيمي يستشهد في هذا المقام بكلام رجال الكفاح من أجل عزة الإسلام، مثل الشيخ علي الندوي: ¬

_ (¬1) ابن باديس. آثار ابن باديس، الجزء الأول، م 2/ 475؛ الشهاب: 11 رجب 1349/ ديسمبر 1930: 714 - 715.

"لقد اتفق علماء التربية في العهد الحاضر على أن التربية في أمة وبلاد ليست بضاعة تصدر إلى الخارج، أو تستورد إلى الداخل، كالمصنوعات والمواد الخام والحاجيات والمخترعات التي لا تختص ببلد دون بلد، وإنما هي لباس يفصّل على قامة هذه الشعوب، وتقاليدها الموروثة، وآدابها المفضلة، التي تعيش لها وتموت في سبيلها" (¬1). يُمضي الإبراهيمي مرغباً ومنفراً، فيقول مخاطباً جمهور الشباب الجزائري المسلم: "وكما أن جهنم تُتّقى بالأعمال الصالحة، وأساسها الإيمان، فإن الاستعمار يتقى بالأعمال الصالحة، وأساسها العلم. وإذا كان العدو الأكبر لجهنم هو العمل الصالح، فإن العدو الأكبر للاستعمار هو التعليم" (¬2). وفي نفس الإطار يقدم صورة للجزائر المعتدة بماضيها وحضارتها وعزّتها وإسلامها فيقول: "قلنا للحكومة مرّات في صدق وإخلاص: إن هذه الأمة رضيت لأبنائها سوء التغذية، ولكنها لا ترضى لهم أبداً سوء التربية، وإنها صبرت على أسباب الفقر، ولكنها لا تصبر أبداً على موجبات الكفر" (¬3). ونراه بعد ذلك يقابل بين موقفي جمعية العلماء من الشعب الجزائري وبين موقف الاستعمار الفرنسي في قضية التعليم والتثقيف فيقول: ¬

_ (¬1) أبو الحسن الندوي. نحو التربية الإسلامية الحرة، بيروت، ط. (4): 137. (¬2) محمد البشير الإبراهيمي. آثار الشيخ الإبراهيمي، عيون البصائر: 237. (¬3) محمد البشير الإبراهيمي. آثار الإبراهيمي: 2/ 237.

"هدف هذا الصراع بين جمعية العلماء والاستعمار الفرنسي هو الأمة الجزائرية. فالجمعية تريدها أمة عربية مسلمة، كما هو قَسْمها من القدر، وحظها في التاريخ، وحقّها في الإرث، وحقيقتها في الواقع والمصطلح. تريدها كذلك وتعمل لتحقيقه. والاستعمار يريدها هيكلاً، لا تترابط أجزاؤه، ولا تتماسك أعضاؤه، يوجّه وجهه إلى الغرب، ويمكِّن في أفكاره لأهواء الغرب، وفي لسانه رطانات الغرب، بل يريد الاستعمار أن يقتلع جذور هذه الملة من تربة ويغرسها في تربة، فتأتي مضعونة هزيلة لا من هذه ولا من هذه" (¬1). ثم يقول مرة مخاطباً الأجيال الصاعدة: "شباب الأمة هم عمادها، ومادة حياتها، وسر بقائها. وخير شباب الأمة المتعلمون المثقفون، البانون لحياتها وحياة أمتهم على العلم. وصفوة الشباب المتعلم المثقف هم المتشبّعون بالثقافة الإسلامية العربية والمقدِّمون لها، لأنهم هم الحافظون لمقوّماتها، المحافظون على مواريثها، وهم المثبِّتون لوجودها، المصحِّحون لتاريخها، المواصلون لمستقبلها بماضيها" (¬2). ويقول مرّة أخرى محدداً مطلب الأمة من العلم: "والأمة تريد تعليماً عربياً يساير العصر وقوتَه ونظامَه، لا تعليماً يحمل جراثيم الفناء، وتحمله نذر الموت" (¬3). هذه إشارات ومواقف مختلفة ومتّفقة، مختلفة باعتبار الظروف والملابسات التي صدرت فيها، ومتّفقة في الغاية التي تتطلع إليها جهود المصلحين ومساعي المجاهدين. * * * ¬

_ (¬1) محمد البشير الإبراهيمي. الآثار: 2/ 33. (¬2) آثار الشيخ الإبراهيمي: 3/ 365. (¬3) نفس المرجع: 2/ 363.

القسم الرابع إصلاح التعليم الزيتوني في نظر الإمام

القسم الرابع إصلاح التعليم الزيتوني في نظر الإمام

تمهيد

تمهيد: إن الاتجاهات الفكرية والمناهج الإصلاحية التي رمزنا إليها بما كان يجري في بلاد المشرق والمغرب، وكل الأحداث التي واجهت الشيخ ابن عاشور، وأوضاع التعليم وأسباب ضعفه، وأحوال البيئة الزيتونية بما التأم فيها من شيوخ وطلبة وجهاز إداري وأوضاع اجتماعية مشتركة في الغالب بين جميع الأفراد، وكل مبادرات الإصلاح للتعليم بجامع الزيتونة بأسبابها ودواعيها وموادها وعناصرها ومراحلها، وما أثارته من اختلافات أو نزاعات حولها، كانت حاضرة لدى الإمام الأكبر ذهنياً وهو في عزّ شبابه، لمّا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، حين أقبل على تصوير المجتمع الزيتوني الذي ينتسب إليه، ويعيش معه وبين أفراده، مقدّماً لنا ما كان له فيه من آراء، وعليه من ملاحظات. وقد شعر في بادىء تجربته الخاصة في ميدان الإصلاح بما حمله على التردّد أحياناً، ثم أعقب تردده عزم ومضيٌّ فيما أجمع عليه من الأمر. قال في بداية مذكراته أليس الصبح بقريب وهي مدوناته الإصلاحية: "قد كان حدا بي حادي الآمال، وأملى عليّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف، للتفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربي والإسلامي، الذي أشعرتني مدة مزاولته، متعلماً ومعلماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النطاق. فعقدت الحزم على تحرير

شروط القيام بالإصلاح

كتاب في الدعوة إلى ذلك، وبيان أسبابه. ولم أنشب أن أزجيت بقلمي في ابتداء التحرير، فإذا هو يسابقني كأنه من مطايا أبي العلاء القائل: ولو أن المطيّ لها عقول ... وجدّك لم نَشُدَّ لها رحالا وصادفتُ أيام عطلة التدريس الصيفية في ذلك العام، فقضيت هواجرها الطويلة وبكرها الجميلة في هذا العمل" (¬1). وعاد العلامة المصلح إلى كتابه، فأتمّه بعد ذلك في ثلاثة أصياف. وحالت دون تهذيبه وإصداره موانع جمة، لم تزل تطفو وتركد، وتغفو وتسهد، لكنه بحمد الله مضى فيما شرع فيه، وهو يقول: "غير أني لم أدع فرصة إلا سعيت إلى إصلاح التعليم فيها، بما ينطبق على كثير مما تضمّنه هذا الكتاب. فاستتب العمل بكثير من ذلك وبقي كثير، بحسب ما سمحت به الظروف، وما تيسّر من مقاومة صانع منكر ومانع معروف" (¬2). شروط القيام بالإصلاح: دلَّت التجربة التي مرّ بها الشيخ ابن عاشور في عمله الإصلاحي، وأثبت أهميتها في خطبه الكثيرة، وبكتابه على وجه الخصوص، على وجوب تسلح المصلح، ومن يختار هذه المهمة الشاقة السامية في حياته، بأمرين اثنين: أحدهما: أن يكون مؤهلاً للاضطلاع بالعمل الإصلاحي في ميدان التعليم. ومن أهم شروط هذا التأهل أن يكون ممّن أنشأه هذا ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 5. (¬2) نفس المرجع.

التذكير بأمجاد الزيتونة

التعليم نفسه، عارفاً بحاجات الزمان وغايات العلوم، نظّاراً إلى الروح لا إلى الجثمان، بعيداً عن متابعة السفاسف، خبيراً بما أصاب مزاج التعليم من العلل، وبأنواع أدويتها (¬1). ثانيهما: أن يكون المصلح صادقاً مخلصاً صبوراً مثابراً على أداء واجبه، قادراً على إقناع من حوله من الناس بضرورة الإصلاح، فلا يتغافلون أو يتقاعسون، ولا يُعرضون أو يمتنعون بعد، بل يشدّون على يديه، ويبذلون الوسع في التعاون معه لتحقيق الغاية وبلوغ القصد. ولعل من أهم الطرق إلى بلوغ ذلك اعتماد سياسة الترهيب والترغيب، بتوجيههم إلى ذكر ماضيهم والاعتبار بأحوال حاضرهم، والأوضاع السيئة والمزرية، القلقة والمضطربة، التي تنتابهم في مسيرتهم العلمية. كما ينبغي للمصلح القيام بتصوير منافع الإصلاح وغاياته، ومقاصده القريبة التي لا يصعب على المرء اكتسابها والبلوغ إليها، والبعيدة التي أساسها التغيير والتلقيح والتعصير، وهذه تحتاج إلى عطاء وبذل واستمرارية وتضافر جهود. التذكير بأمجاد الزيتونة: الدعامة الأولى لهذه السياسة تملأ الناس إيماناً وثقة بالنفس وعزماً ورجاءً. وكيف لا يتمّ لهم ذلك إذا ذكروا ما قدمه أجدادهم من جهود، وبلغوه من رقي وتقدم، وسموْا به إلى الذروة بين غيرهم من الشعوب والأمم. "فتونس كانت في كل عصر غرّة الدول المغربية والعواصم ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 116.

العلمية بها، وأهلها أقرب إلى التحقيق وإلى التقدم السريع" (¬1). ومن يعد إلى اللمحات الجليّة في تاريخ تونس العلمي والثقافي يجد ما يثلج الصدر، ويبعث على الاعتزاز والفخر، ويستوجب شكر الباري على كل ما منّ به على هذا القطر، من علماء وقادة ورجال إصلاح ونبغاء في كل فن. فلقد كان من بينهم، في مختلف فروع المعرفة والعلم؛ ابن زياد، وابن شبيب، ومحرز بن خلف، وابن بزيزة، وابن الجزار، وابن زيتون، وابن البراء، والغماري، والهواري، وابن الحباب، والرعيني السوسي، وابن خلدون، وابن عرفة، والقرشاني، وابن راشد. وأمثال هؤلاء كثير وخاصة من المهاجرة الأندلسية والمغربية والجزائرية. نعد منهم: المازري، واللبلي، وابن عصفور، والحضرمي، وابن حبيش، وابن الغماز، والخلاسي، وابن رزين، وابن عَميرة، وابن سعيد، وابن هاني، والقرطاجني، وابن الكماد، وابن الرومية، وقد كانت إفريقية للأولين منبتاً، وللآخرين موئلاً. تفتّقت بها أسرارهم، وتفتّحت بها مواهبهم، وظهرت بها آثارهم ومصنَّفاتهم. وكانت لكل واحد منهم مكانته المرموقة، ومنزلته العالية في العلوم الشرعية أو العربية أو الرياضية، أو الطبيعية، أو في الطب، أو التاريخ، أو القضاء، أو الدعوة والإصلاح (¬2). ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور: 99. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور: 80 - 95؛ محمد الفاضل ابن عاشور. امتزاج الأزهر بالزيتونة. نشرة المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية. حجة 1389/ فبراير 1970: 421؛ محمد الحبيب ابن الخوجه. البيئات العلمية والفكرية في البلاد العربية من رحلة ابن رشيد. مجلة مجمع اللغة العربية. مؤتمر الدورة الثامنة والثلاثين: 81، الحياة الثقافية بإفريقية صدر الدولة الحفصية. مجمع اللغة العربية. مؤتمر الدورة الحادية والأربعين: 305.

ما آل إليه التعليم بالجامع الأعظم

وإن هذا الماضي المجيد ليدعو إلى الاعتزاز بشرف الانتماء إلى الوطن وإلى رجاله وقادته وعلمائه. ويحمل على المحافظة على تلك القيم الموروثة، وعلى التمسك بذلك التراث العظيم. فلا يتسامح في إضاعته أو نسيانه، ولا يقبل الرجوع على الأعقاب ولا التخلف عنه، فيصدق على ذلك {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} (¬1). ويحق قول لبيد: اِقْض اللبانة لا أب لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب ما آل إليه التعليم بالجامع الأعظم: وهنا تبرز الدعامة الثانية للإصلاح التي تدفع إلى نقض الأوضاع، والبحث عن العلل، والسعي إلى التغيير. وهي تتمثل في إلقاء نظرة عميقة فاحصة على الواقع المرّ والوضع السيِّئ الذي انتهى إليه ذلك المركز العلمي الجليل جامع الزيتونة، والدهش مما حَلَّ بأهله من غفلة ونكوص. وتحمل على المقارنة بين هؤلاء وأسلافهم ما كنا نبّهنا إليه من إهمال الضبط، واختلال النظام. فلا المناهج محدّدة، ولا الكتب مقرّرة، ولا الأوقات معيّنة، ولا المدرسون مراقبون، ولا المتطوِّعون قائمون بما التزموا به من حصص الدرس. فالانسياب مُسْتَشْرٍ، والفوضى مسيطرة على كل شيء. وطلاب العلم بهذا المعهد متفاوتو الأعمار، متمايزو المواهب والاستعدادات. ومما يزيد الوضع سوءاً الغفلة عن تنظيم درجات التعليم، وإعطاء كل مرتبة من المراتب ما تحتاجه من عناية، ويناسبها من أسلوب لائق بها نافع لها. فقد أهملت التمارين التطبيقية في عامة الدروس حتى ¬

_ (¬1) مريم: 95.

غايات التعليم الزيتوني وأهدافه

بالمرحلة الابتدائية، وترتّب على ذلك ضعف الملكات اللسانية وقِلّةُ التحصيل. وخلا التعليم من المواد التربوية، وعَرِي مما يفيد التلامذة اطلاعاً على أحوال الأمم وارتباطاً بواقع الحياة خارج جدران الجامع. وجمدت المعارف لدى هؤلاء فلم يتجاوزوا ما ورد منها بالكتب من آراء وتقريرات لاستظهارهم إياها بغير نظر ولا تمييز ولا نقد حتى في المرتبة العالية من التعليم أو القريبة منها. وقصرت الهِمم عند ذوي الكفاءات العلمية عن التأليف، وبقي جميعهم مقيداً في مواد الدراسة بمصنفات وكتب مرت على تأليفها وتصنيفها قرون، فتحجَّرت العقول وتعطلت آلة التدبر والتفكير (¬1). وقد تعرض العلامة المصلح الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور إلى تفصيل القول في ذلك كله عند بيان أسباب تأخر التعليم وفساده، فلم يترك في ذلك مقالاً لقائل (¬2). غايات التعليم الزيتوني وأهدافه: لإبراز نتائج المقارنة، لطلبة الجامع الأعظم وخريجيه، بين أمسهم المشرق، ويومهم الغائم الرضف، ومن أجل شحذ هممهم وتحريك عزائمهم لعملية التجديد والتغيير التي دعا إليها الشيخ ابن عاشور، لا بد أن يركن دعاة الإصلاح ورجاله إلى الدعامة الثالثة فيعالجون مشاكلهم بالبر والتقوى والنصيحة والمعروف، ليستشعروا من وراء ذلك عظيم رسالة جامع الزيتونة معهدهم العتيق والوحيد، ويذكروا ما غاب عنهم من إشراقه الديني والفكري، وإشعاعه وسلطانه ¬

_ (¬1) محمد الحبيب ابن الخوجه. شيخ الإسلام وشيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور. جوهر الإسلام. السنة العاشرة، عدد: 3، 4: 15. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 114 وما بعدها.

الروحي والعلمي، بسبب رتابة حياتهم وعاداتهم المضلّة، والمفترض أن يكونوا على علم وبيّنة، بل على اعتقاد ويقين، بما يرام من وراء هذا التعليم، وبما حقّقه في الماضي، وما يمكن أن يحقّقه لهم من طموحات وآمال. فليس التعليم عندهم مقصوراً على ما يبلغ به المرء إلى استخدام النفوس في مقاصد الدين، كما كان الشأن لدى الأمم السالفة التي كان معظم نظامها مستمداً من الأديان في الكليات والجزئيات. فذلك تعليم اختصاصي لحملة الأسرار الدينية من كهنة وسدنة. وهو لا ينطبق أساساً على صبغة التعليم الإسلامي ومراكزه عندنا (¬1). ولكنه تعليم يحفظ على الأمة دينها الذي به ازدهارها في الحياة العاجلة، وسعادتها في الحياة الأبدية الآخرة، كما يحفظ عليها لغتها التي هي ضمان جامعتها، ومظهر مفاخرها وعزتها. ولكون هذا التعليم يفيد ارتقاءً في النوع الإنساني وكمالاً، باعتبار استجابته لحاجات العصر ومن به من الأقوام، وهو ما تتفاوت فيه مدارك الناس، كانت الغاية منه أن يفيد ترقية المدارك البشرية، وصقل الفطر الطيبة، لإضاءة الإنسانية وإظهارها في أجمل مظاهرها، فيخرج صاحبها من وصف الحيوانية البسيط، وهو الشعور بحاجة نفسه خاصة، إلى ما يفكر به في جلب مصلحته ومصلحة غيره، بالتحرز من الخلل والخطأ، قدرَ الطاقة، وبحسب منتهى المدنية في وقته (¬2). وهذا المعنى هو الذي فصّله الأستاذ الإمام في قوله من خطبته ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 13. (¬2) المرجع السابق: 12.

بالجامع الأعظم: "فعلينا أن يكون طلبة العلم بالمعهد الزيتوني علماء بالأصول الإسلامية، والمعاملات الفقهية التشريعية، والآداب الدينية والأخلاق القويمة، وعلوم آداب اللغة العربية، وما يتحصّل بذلك من تاريخ الأمة وتاريخ أحوال وضعيتها من الأمم المعاصرة لها في سائر عصورها، وتاريخ رجالها وسيرهم" (¬1). ولم يخلُ هذا المعهد في أي العصور من علوم تكمل مدارك خريجيه تكميلاً يؤهلهم لمسايرة أحوال مجتمعاتهم. ونحن اليوم في عصر صار فيه المجتمع الإنساني بمنزلة مجتمع القطر الخاص. وامتزجت حاجات الأمم ومصالحها به بعضها ببعض. فأصبح تقارب الثقافة بينهم ضربة لازب، وصار ما كان يعد تكملة موضوعاً الآن في عداد الواجب. فلذلك كله لم يَغْنَ التلميذ الزيتوني عن أن يضرب مع أمم عصره بسهم صائب. وذلك يلزمه لا محالة إلى أن يصعد في جو الثقافة الزمنية إلى مرتقى لا يقعد به عن مجاراة أرقى الأمم إحاطة بدلائل الحياة السعيدة، ولم يغن عن الأخذ بالنصيب الكامل مما يتناوله أمثاله من علوم التبصر، فلا يعدم بصارة بأحوال العالم، تبَصُّرَ خريجي المعاهد الراقية. وبرامج ذلك توضع على وفق المناسبة للمراتب التي يختار التلميذ الانتهاء إليها، على وجه تحصل به التكملة ولا يضاع معه الأصل" (¬2). ومن هنا نصل إلى غاية الغايات من التعليم الإسلامي، وأسنى مقاصده. وذلك هو إنتاج قادة للأمة في دينها ودنياها، وهداةٍ هم ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 12. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. خطاب شيخ الجامع الأعظم، المجلة الزيتونية عدد ممتاز. المجلد السادس، الجزء 2 و3/ 363 - 366.

الترتيب الصادقي 1292/ 1875، عرضه ونقده

مصابيح إرشادها، ومحاصد قتادها، ومهدئو نفوسها إذا أقلقها اضطراب مهادها (¬1). الترتيب الصادقي 1292/ 1875، عرضه ونقده: ربما كان لهذا الترتيب - رغم غضب عصابة المعارضين للإصلاح من الشيوخ ونفورهم منه - أثر كبير في تحسين الأوضاع وتغييرها في أواخر القرن الماضي إلى ما هو أحسن. فهو، بما أحدثه من تنظيم، يفارق ما كان عليه التعليم بالجامع الأعظم من فوضى سائدة وأحوال سائبة. لكنه مع ذلك، ورغم ما ظهر به من جدّة، يستحق المراجعة ممن مارسه وخضع له ليصبح متجاوباً مع العصر، مسايراً لمتطلباته، معالجاً لمشاكله، مساعداً على بلوغ الغاية منه. وإنا وإن قدمنا صورة لوضع هذا التعليم من قبل فإن تحليلها وتفصيلها يعتبر ضرورياً لبناء حركة الإصلاح، والقيام بما يحتاج إليه من تهذيب وتغيير وتكميل وتحوير. فنظام التدريس يقوم في ذلك العصر على اختيارات مختلفة من الأساتذة والطلبة والإدارة، وهو يشمل الدروس وتعيينها، وأوقات إلقائها، ونظامِ الامتحانات وترتيباتها، والعطل والإجازات الجامعية. كما يُعنى بالتدريس والدروس وأحوال المدرسين والفنون والكتب، وأحوال التلامذة والتأليف. وقد رأينا الشيخ ابن عاشور منكباً على هذه القضايا كلها، فكراً ونظراً، منهجاً وتطبيقاً. كما ينطق بذلك كتابه: أليس الصبح بقريب، وإنجازاته، على مدى العمر كله، مباشرة أو بواسطة المتخرّجين على يديه والمنفذين لخططه. وهذا ما يدعونا إلى متابعة المسيرة بياناً ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 8.

نظام التعليم سابقا بجامع الزيتونة

للأوضاع السابقة ونقداً لها، واقتراحاً لما ينبغي أن نوفره من وجوه الإصلاح، للنهوض بالزيتونة وعلمائها ومناهجها، وتطور العلوم بها. نظام التعليم سابقاً بجامع الزيتونة: يتم ترسيم التلميذ للتعلم بالزيتونة على مراحل تمثل إجراءات حتمية إدارية: 1 - اختياره دروساً بحسب ما يبلغه، مما يتناقله أهل الجامع، من معلومات عن الفنون اللازم قراءتها على الشيوخ. وهي المواد الأساسية لهذه المرحلة: التجويد والتوحيد والفقه والنحو. 2 - الشروع في حضور تلك الدروس، والاستمرار على ذلك أياماً، حتى يحصل التعرّف منه على الشيوخ الذين يزاول عليهم الدراسة، وليعرفَه الشيوخ. 3 - اقتناؤه دفتر الدروس. وهو عبارة عن سجل في القالب الربعي، يشتمل على مائة صفحة، في كل صفحة ثلاثة جداول: يسجل في الأول منها اسم الكتاب، وفي الثاني اسم الشيخ المدرس يضعه بخطه، وفي الثالث موضع شهادة الشيخ للتلميذ بما حضره من دروس الكتاب المقرر إلى تاريخ تسجيل تلك الشهادة. 4 - ذهابه، مع أحد شيوخه الذين حضر دروسهم وتعرّف عليهم، إلى مكتب النظارة العلمية، ليقدمه إلى كاتب النظارة إن لم يكن معروفاً. فيكتب له هذا في أول ورقة من دفتره اسمه وبلده وعدد ترسيمه العمومي وتاريخ تسليم الدفتر إليه. فإن لم يكن التلميذ ممن حضر تلك الدروس، وإنما ورد من خارج الحاضرة (¬1)، أعلم الإدارة ¬

_ (¬1) لقب أطلق على مدينة تونس. وهو بمعنى قاعدة البلاد أو عاصمتها.

عناصر نظام التدريس

بما قرأه في بلده، واختبره النائبان عن الوزير، وهما اللذان يكتبان له بعد ذلك، في بطاقة يمضيانها ويسلمانها للمشايخ النظار، ما يظهر لهما من أهليته. فيُكتب له في دفتره خِطَابٌ من النظار إلى المدرسين بالجامع، بأنه أهل لقراءة ما تبيّنت أهليته له. وهكذا يمكن لهم كتابة الشهادات له بما حضره من الدروس. ولا يجوز لهم الشهادة لمن لم يحضر دروسهم إلا متى اشتمل دفتر الطالب على شهادة كفاءة لذلك الكتاب؛ إما بهذا الاختبار، وإما بالاختبار العمومي. وعلى هذه الطريقة يستمر الطالب كامل سنيّ دراسته، لا ينتقل من دراسة كتاب إلى ما فوقه، أي من سنة إلى أخرى فوقها، إلا بما يشهد له به الاختبار العمومي السنوي (¬1). عناصر نظام التدريس: أولها: التعليم بالجامع ليس بالضرورة أن يكون محدداً من طرف الإدارة: فللمدرِّس أن يختار ما شاء من الفنون أي المواد، والكتب، والأوقات، والمراتب، وعدد الدروس. كما يمكنه الشروع في الدروس بدون حصول على إذن من النظارة. ذلك أن الفصل 22 من الترتيب الصادقي 1292 لا يلزم الشيوخ بالاستئذان في إقراء كتب كانوا درّسوها أو في إقراء ما دونها. وللتلميذ أيضاً حق اختيار المدرس، وعدد الفنون، والدروس. ويلاحظ العلامة الشيخ ابن عاشور أن من نتائج هذه الحرية أو شبه الاختيار من المدرس ومن التلميذ ما يترقب عليه إغفال فنون ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 152 - 153.

ثانيها: طريقة اختيار الدروس وتعيينها

كثيرة، أو ضعف التكوُّن في بعضها، وما يحصل بسبب ذلك بوجه عام من التفاوت بين الطلبة المنتسبين إلى مرتبة واحدة (¬1). ثانيها: طريقة اختيار الدروس وتعيينها: لم يحدد النظام ترتيباً لهذا، بل جعل الأمر موكولاً إلى الجهات الثلاث: الطالب، والمدرس، والنظارة. فلكلٍّ الحق في الاختيار والتحديد. فللطلاب أن يعرضوا على الشيخ إقراء كتاب يعيّنونه، كما أن لهم أثناء الدراسة عندما يختمون كتاباً أو يناهزون ختمه، أن يزيدوا بمقتضى القانون ما يريدونه من المواد، ليتم لهم النصاب المشروط من الفنون للمشاركة في امتحان شهادة التطويع. والمواد التي هم مطالبون بها في المرحلة الثانية من التعليم، بحسب الإصلاح أو النظام، عشرة: علوم الحديث، والتوحيد، والتجويد، والفقه، والفرائض، وأصول الفقه، والنحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق. وهذه - كما قال الشيخ ابن عاشور - متفاوتة فيما يشترط على التلميذ من كثرة كتبها. وللشيوخ أن يعرضوا على طلبتهم دراسة كتاب بعينه فيجيبونهم إلى ذلك. كما أن للنظارة العلمية اقتراح زيادة دروس مما يعيّنونه من الكتب للمصلحة (¬2). ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 151. (¬2) المرجع نفسه: 151 - 153.

أوقات الدروس بالجامع

والملاحظ هنا أن التعليم في الجامع كان تعليم كتب أكثر منه تعليم فنون ومواد. ولعلهم ميَّزوا لذلك بين سني الدراسة لا بالعدد، ولكن بذكر أسماء كتب العربية التي كانت تدرس بالمعهد، فقالوا: سيدي خالد يريدون السنة الأولى، وعنونوا بالقطر للسنة الثانية، وبالمكودي للسنة الثالثة، وهكذا دواليك. وما من شك في أنهم كانوا على طريقة المتقدمين في المنهج والأسلوب. يؤثرون الحفظ والرواية في أولى سني الدراسة، فيلزمون الطلاب بالاستظهار لكونه زينة العالم، ولما فيه من قدرة على الإلمام بالمسائل، وعلى الاحتفاظ بقواعد وقوانين العلوم، كما وجّه إلى ذلك الشيخ الرئيس ابن سينا أخاه في أرجوزته المنطقية حين قال: فيا عليّ اجعلْه ظهرَ القلب ... حتى إذا بلغت سنّ اللُبِّ عقلتَ، فاستظهرت منه عقلاً ... وصرت للخير الكثير أهلاً (¬1) وما من شك في كون هذه الطريقة لا تصلح في مراتب الدراسة كلها، لأن الطالب يحتاج معها إلى توفر ملكتي الفهم والنقد لتتفتَّق مواهبه وتتَّسع مداركه. أوقات الدروس بالجامع: لم تكن ساعات مزاولة الدروس بالجامع خاضعة لضوابط إدارية أو لنظام معين يطبَّق على كل الشيوخ والمدرسين. ولكنها في الغالب تقرر وفق المصالح الشخصية للشيوخ والطلبة. فيقع تحديدها والاتفاق عليها فيما بينهم، أو يكون تعيينها على أساس ما يتوفر لهؤلاء وأولئك من فراغ وإمكانات. ومن ثم فإن ساعات التدريس لا تكون ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 49.

التدريس والدراسة

في الغالب مضبوطة البدايات ولا النهايات. وقد نشأ عن ذلك تداخل بين أوقات الدروس بما أورث من فوضى، وتفويت للانتفاع المطلوب من دراسة المواد العلمية، دراسة كاملة ودقيقة عن طريق الكتب المعيّنة لذلك. لكن الطلبة، وهم يدركون بالتأكيد عيوب هذه الطريقة ويستخفّون بما يحصل منها، يطمحون من وراء ذلك إلى ضمان تكثير عدد الدروس قصد ملء دفاتر شهادات دروسهم، والوفاء في المدة المحددة لهم بالأنصبة المطلوبة في كل سنة دراسية بأيسر وجه يرونه، واستكمال المشروط من المواد للتقدم بها في نهاية مراحل التعليم إلى امتحان شهادة التطويع. وقد انبنى على سوء التصرّف في تعيين أوقات الدروس على هذا النحو توزُّعُها على كامل اليوم على الوجه التالي: بإثر صلاة الفجر أي قبل الشروق، وخلال الساعتين السابعة والثامنة صباحاً. ثم تسير الدروس متناقصة إلى العاشرة، وتكثر ابتداءً من الحادية عشرة إلى الثانية عشرة والنصف. ثم تنقطع وتعود فيما بين الساعة الثانية والثالثة ظهراً، وتستمر إلى الغروب بحسب طول النهار وقصره، ومنها ما ينتظم بين العشاءين (¬1). التدريس والدراسة: يمكن لنا هنا أن نضمَّ قضايا عديدة ومختلفة، وإن كانت متلاقية الأطراف، مرتبطاً بعضها ببعض. وهذه هي التدريس والمدرس والدرس والطالب. فللأول - وهو التدريس - ضوابط وترتيبات نص عليها قانون خير الدين: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 153.

منها أن يكون الجامع معموراً بالفنون والكتب المقرّرة في النظام، موازَناً بينها في الإقراء، تكثر وتقلّ بحسب الداعي والحاجة. وهذا ما تضمّنه الفصل السادس من القانون، وأكّد عليه الفصل التاسع والعشرون منه. ومنها بيان المنهج الذي يتعيّن اتباعه في كيفية إلقاء الدروس. وهو ما تضمّنه الفصل الثامن من القانون نفسه. ومنها المنع من قطع تدريس الكتاب قبل ختمه. وهو ما نصّ عليه الفصل الثامن عشر من النظام المذكور. والمدرس يحضر ويتغيّب. ويثبت حضورَه القيِّمُ الذي بيده قائمة الشيوخ المدرسين. وعلى هذا الأساس تجرى لهم الجرايات في آخر الشهر، ويُثَبَّتُ حضورُه بوجوده بالجامع وإن لم يلقِ درساً. وربما اكتفى في القيام بواجبه بإلقاء درس واحد من الدرسين المشروطين عليه في اليوم. وبمثل هذا التصرّف ينزل من نسبة التدريس للمواد المقرّرة نحو الخمس أو الربع عند وقوع ذلك واطراده من عامة المدرسين. وهناك أخلال كثيرة أخرى في مجال التدريس: منها ما يكون بسبب تطوّع المدرسين بحصص من التدريس يؤدونها في الوقت الذي يختارونه، ويكونون بذلك في سعة من الحضور خصوصاً إذا عيّنوها ليوم الخميس، وهو اليوم الذي تعطل فيه الدروس بالجامع بمقتضى ترتيب 1258. ومنها أن أكثر المتطوّعين بتلك الزيادات لا يقومون في الغالب بجميع ما يلتزمون به من ذلك. ومنها اختصار بعض المدرّسين حصص إلقاء دروسهم. فلا

المدرسون

يبلغون بها النصاب المقرَّرَ لها، وهو خمس وأربعون دقيقة. وكم نشأ عن هذا من نتائج سيئة، كالفوضى بسبب تداخل الدروس، والتمديد في أوقات الوفاء بالمقرّرات، وعدم التوصل إلى ختم الكتب في الآجال المناسبة. ومنها الإهمال للتمارين الضرورية لتدريب الطلاب، وتكميل قدراتهم العملية ومواهبهم. فإن هذه، إن أجريت، كانت في الغالب مقصورة على المرحلة الابتدائية بالوقوف عند الشواهد والقيام بإعرابها (¬1). وقد استوفى الشيخ ابن عاشور ذكر عوامل تأخّر التعليم في الجامع في كتابه. وجعلها خمسة عشر سبباً (¬2). المدرسون: أحسب أن هؤلاء المدرّسين أكثرهم من كبار الشيوخ المعارضين للإصلاح والمقاومين لكل تطوّر أو تجديد، أو هم من الأصناف الثلاثة الدنيا التي أشار إليها الشيخ ابن عاشور في حديثه عن مراتب المدرسين بالجامع. وذلك قوله: "والمدرسون خمسة أنواع: 1 - عالم نحرير يميّز الصحيح من الفاسد، بنقد وفهم مصيب، مع التضلّع بما في الكتب الأصول والمصادر. وهذا النوع قليل بالجامع الأعظم. 2 - مدرس نحرير متمرّن بكُتب التدريس، واقف على ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 155، 156. (¬2) المرجع السابق: 114 - 136.

اصطلاحاتها، مقتدر على تدريس المهمّ منها بالفهم والإفهام على ما هي عليه من غير خطأ. 3 - ناقل لما في الكتب، مكدٌّ لحافظته، ليس من أهل النقد أو التحرير في شيء. وهو أتعب خلق الله عيشاً، وأقلُّهم تدريساً، لاعتياده أن لا يُقرئ إلا ما طالع. 4 - فريق يفهم ويدرس، لكنه لا يميّز في ذلك الصحيح من الفاسد. 5 - طائفة كثيرة دأبها صُراح الخَطَا، وزلق الخُطَى، والستر على العيب" (¬1). ومعيار الاختلاف بين المدرسين في كفاءاتهم، وتفاوت قدراتهم ومنازلهم، يظهر جلياً في طريقة إلقاء الدرس. وهي عرض المدرس من نقله درسَه مرتباً بصورة دقيقة تشهد له بسعة الحافظة والقدرة على التعبير عما يريد. وقد بدأ العمل بهذه الطريقة بتونس من عهد الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد السلام الهواري، الفقيه المدرس والقاضي 749. وهو يرجع بها إلى الإمام عبد الله محمد بن علي المازري 536، أخذها عن علماء القيروان أمثال الشيخين الجليلين أبي الحسن علي بن محمد الربعي اللخمي 478، وأبي محمد عبد الحميد ابن الصائغ 486، نقلاً عن رحّاليهم إلى المشرق والأندلس. وقد شاع اعتمادها منهجاً تدريسياً أوائل القرن الثالث عشر. أخذ بها ونشرها بين المدرسين العلامة الشيخ إبراهيم الرياحي. وهذه الطريقة تحسُن ممن ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 233.

لا يتكلّفها، ويأتي بها عفواً، أو يعدّ لها أدنى إعداد في أوّل الأمر، حتى تصبح له عادة. ولا يقدر عليها أو يتمكّن منها إلا من رُزق فصاحة اللسان وقوّة الفكر، وتمرّس بالألفاظ العلمية والأساليب العربية. ومن ليس هذا شأنه من المدرسين لجأ أولاً إلى التملّي من أقوال المؤلفين، ونقل عباراتهم لئلا يكون درسه مختلاً، ويضيع وقته في القشر دون اللباب. وهذا العناء والتكلّف يحمل المدرس في هذه الحالة على تحاشي تلقي الأسئلة من التلاميذ كي لا يتشتّت عليه ما أعدّه من ترتيب لمسائل الدرس. وهو، لعدم ضلاعته وضعفه، يسرع إلى تعطيل الدرس متى ألهاه شاغل أو انحراف مزاج في ليلته، حيث لم يطالع الدرس بما يكون له تمام الإعداد. وهذا واقع مشاهد عند كثير من المدرّسين قديماً وحديثاً. والدروس بالجامع لم تكن أسعد حالاً ولا أكثر حظاً في العناية بها والإقبال عليها. وموادها في القانون الصادقي: 12 فناً في المرتبة الابتدائية، 21 في المتوسطة، 15 في العليا (¬1). يذكر الشيخ ابن عاشور أن سبعة فنون منها كانت قد احتجبت مدّةً لم تدرس فيها وهي: التصوّف، والتاريخ، والرسم التوقيفي، والعروض، والهندسة، والهيئة، والمساحة. وكان يقلّ تدريس اللغة والأدب، وآداب البحث والميقات والحساب إلا أن يكون حسابَ الفرائض. ولم تكن الكتب المذكورة لكل فن تُدَرَّسُ كلُّها. ويلاحظ هذا ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 156.

الطلاب

بالخصوص في المرتبة المتوسطة لاستكثار الطلبة عدد الفنون فيها، أو لانحصار دروس الامتحان في بعض منها. وكُتب المرحلة العليا لا تجد ما تستحقّه من العناية، لأن التأهّل لها محصور في الناجحين في امتحان شهادة التطويع. ولا يمارس ذلك منهم إلا من رزق الرغبة في استكمال الدراسة على الشيوخ المتطوّعين المباشرين للتدريس بالجامع. ونسبة المقبلين عليها منهم محصورة. الطلاب: كان عدد التلامذة لا يزيد على الألف سنوياً. للمرحلة الابتدائية 500 تلميذ، وللمتوسطة 400، وللعليا أو منتهى المتوسطة 100 (¬1). ولما ألمعنا إليه قبل من حق اختيار الطلاب للدروس، تجد الحضور بها غيرَ مطّرد ولا متعادل. فبعض حلقات العلم لا تجد بها غير العدد النزر من الطلاب، وبعضها الآخر تكون الواحدة منها مزدحمة يحضرها المائتان منهم. وهذا ناشىء عن نبذ النظام، وعدم تطبيق القرار الوزاري 22/ 3/ 1900، فيما ينصّ عليه الفصل الثالث منه، من لزوم تعيين تلامذة لكل درس، لتتم مراعاة التوقيت في الدروس، وليتمكن المدرس من معرفة تلامذته. وقد ترتّب على ذلك تزاحم التلامذة للحصول على الأمكنة في الحلقات، وتشويش بينهم، ¬

_ (¬1) كان هذا عدد الطلبة سنة 1909 - 1910. وهو بدون شك قد زاد بعدُ وهو قابل للتطوير، فهو في 1881 كان لا يتجاوز 600، وفي 1948 - 1949 بلغ 988. محمد المختار العياشي. البيئة الزيتونية: 92.

وإضاعة للوقت، وتدخل إداري من حين إلى آخر. ومع ذلك يلاحظ أن الطلاب لم يكن لهم كبير محافظة على الحضور، وأن أكثر من يشهد الدروس منهم شاردُ العقل مشغولُ البال. أما سيرتهم داخل المعهد، ومع الشيوخ فقد كانت جيّدة. ليس عليهم ما يؤاخذون به سوى بعض الخصومات، والتلاكم أحياناً فيما بينهم. وليست هناك زواجر محدّدة لقمع ذلك والمنع منه. وإنما هي التهديدات والتوبيخ الموكول إلى النظارة، تقوم به طبق الفصول 12، 67 من النظام. وإذا تعلّق الأمر بتزوير شهادات الشيوخ في دفاترهم سحبت منهم الدفاتر، وكتب الشيوخ فيها نصاً بعدم تأهّلهم للدرجة التي اختاروها، وأعيدوا وجوباً إلى ما دونها، أو إلى ما يشهد لهم الشيوخ باستحقاقه من الرتبة. وبتتبّعِ أحوال الطلبة من حيث النباهة والتحصيل يتبيّن لنا بوضوح أن الوافدين منهم على الجامع من خارج العاصمة أكمل رأياً وفكراً، وأكثر إتقاناً واستحضاراً، وأحسن استعداداً وكفاءة للتقدم والفوز. وإن كان وضع عموم الطلبة يتطلّب مراقبة ورعاية. وذلك بسبب ما نجدهم عليه في الأكثر من إهمال التمرين وقلّة المراجعة للدروس، وعدم مطالبتهم باستذكار ما تعلّموه، وعدم تكليفهم بحفظ المتون، وترك تعويدهم على فهمها. فيكونون في حالة اضطراب وخوف، وحيرة وقلق، كلما دنت مواعيد الامتحان، ولمّا يستعدّوا له أدنى استعداد. أما وضع الطلبة خارج المعهد وبخاصة الفقراء ممن ليس لهم من يعولهم، أو من الواردين من خارج العاصمة، أو من البلاد

المجاورة، فهو أسوأ حالاً وأشدّ فساداً من حيث السكنى والمأوى، ونظام العيش، والأحوال الصحيّة، وفقدان أبسط الحاجيات. وقد توالت الشهادات على هذا من ذلك العهد إلى قيام حركات الطلاب بالمطالبة بالتغيير والإصلاح. ورأينا منها ما يحزن القلب ويؤلم النفس، ويعوق الطلبة الشباب عن السير سيراً عادياً ليتضلّعوا بالمعارف النافعة والقيام بالواجبات المتعيّنة. وأنّى لهم ذلك، وقد توالت عليهم مختلف المصاعب، وحاقت بهم ألوان المصائب. فأكثرهم إلى جانب مزاولتهم للدروس في ظروف سيئة، يقيمون بمدارس سكناهم الشبيهة بالجحور، كلُّ ثلاثة أو أربعة منهم في غرفة ضيّقة واحدة فاسدة الهواء، كثيرة الرطوبة، تفتقر في غالب الأحيان إلى أبسط أحوال حفظ الصحة. ويزداد أمرهم ضيقاً باحتياجهم المتكرّر إلى الغذاء والتموين. وتتحول بيوتهم الصغيرة إلى محلات يقومون فيها بمختلف شؤونهم المنزلية، مع افتقادهم وافتقارهم إلى الماء الصالح للشراب، وإلى النور "الكهرباء"، وإلى قنوات تصريف المياه. فصحن مدارس سكنى الطلبة الزيتونيين يبقى ملطخاً بالأوساخ، وبالفواضل القَذِرة، والمياه. كما ترى فئات من المتطوّعين يجوبون الشوارع بأسمال بالية، يتصدّقون الناس. وإنها لمشاهد محزنة للغاية، تحمل على التبرّم من العيش، وتدفع بهذه الطبقة المثقفة الكادحة من شباب الأمة إلى مشاعر من الانحطاط الاجتماعي، والبؤس البيئي، والانكسار النفسي. وهو ما يقود حتماً إلى الغضب والثورة (¬1). ¬

_ (¬1) محمد مختار العياشي. حالة الطلبة التونسيين المادية. البيئة الزيتونية: 107 - 111.

الامتحانات

الامتحانات: يجتاز التلميذ بجامع الزيتونة امتحانات ثلاثة: الأول: عند التحاقه بالدراسة لأوّل مرّة. وهو امتحان الكفاءة الذي تقدّم ذكره. الثاني: الامتحان العمومي السنوي، وهو امتحان نقله من سنة إلى ما فوقها، أو من كتاب إلى ما فوقه. ويكون ذلك بعد تمام القراءة للكتاب مدة سنة. ويشهد بذلك الشيوخ في دفتر دروس التلميذ. فإن خالف التلميذ ذلك بارتكاب مغالطة، وحضور دروس لم يتهيأ لها، ولا أذنت له فيها لجنة الامتحان سحب منه الدفتر كما قدمنا، ومنع من مزاولة ما لم يؤذن له فيه من الدروس. وامتحان النقلة هذا تعيّنه النظارة العلمية وتُكَلَّف به لجنة من المدرسين الرسميين، يجتمعون له مساءً بالجامع. وينفرد كل عضو من أعضاء اللجنة بتلميذ يسأله في العلوم التي زاولها ذلك العام. وما يكتشف الشيخ من حال التلميذ يَكتبه الممتحن شاهداً به في دفتر دروس التلميذ، ناصاً على تقدّمه، أو استمراره على دروس سنته، أو على النزول به عن مرتبته إلى ما دونها. ويلاحظ بخصوص امتحان النقلة أن كثيراً من الطلبة ممّن لا حاجة لهم إلى الحصول على شهادة الإعفاء من المجبى (¬1)، لم يكونوا يحرصون على المشاركة فيه في الأول. وقد حاول الشيوخ ¬

_ (¬1) ضريبة يدفعها المواطنون لصندوق الدولة. وسميت المجبى، لأنها من المال الذي يجبى للحكومة، ويتكون منها الميزان العام السنوي للدولة لكونها مورداً من موارده.

امتحان التطويع

حملهم على ذلك وإلزامهم به بشتى الوسائل النافعة، للتحقّق من نتائج دراساتهم. امتحان التطويع: هو امتحان نهاية الدراسة بالجامع. تتوّج به مزاولة التعليم سبع سنوات بالمعهد، يتنقَّل الطالب فيها في كل سنة من درجة إلى ما فوقها. ويحصل الناجح فيه على شهادة التخرج من الزيتونة، واسمها التطويع. ولا يقبل الطالب للمشاركة في هذا الامتحان إلا بشروط: عرضه لدفتر شهادات دروسه على لجنة مخصصة بذلك، تتولى تصفّح شهادات الشيوخ له، للتأكّد من حصوله على النصاب المطلوب من الدروس في مختلف الفنون للمشاركة في الامتحان. وعند قبول اللجنة ترشّحه، يكلّف الطالب بإلقاء درس أمام لجنة الامتحان المعيّنة لذلك، يختاره بنفسه من كتاب مقرّر للدراسة أو تعيّنه له اللجنة. ويقضي من الوقت نصف ساعة في الإعداد لإلقاء الدرس. وبتمام هذا الإجراء يُسجَّل الطالب في قائمة المرشّحين للمشاركة في امتحان التطويع. ومواد الامتحان ثلاث، متنوعة بين كتابي وشفاهي. ويعرف الامتحان الكتابي في اصطلاح جامع الزيتونة بالمقالة. ويكون في موضوع من موضوعات الفقه، إمّا في العبادات وإمّا في المعاملات. ويحدَّد الموضوع بالإعلان عنه في وقته، أمام الطلبة المشاركين في الامتحان، على طريق القرعة بسحب ورقة من الأوراق المتضمّنة لموضوعات المقالة.

العطل والإجازات

فإذا اجتاز الطالب هذه المرحلة بنجاح أجري عليه الامتحان الشفاهي. ويتكوّن من مادتين هما؛ الدرس والأسئلة. ولا يقبل للمشاركة في الأسئلة إلا من ثبت نجاحه في الدرس. وتُعيّن الدروس بسحب كل تلميذ بطاقة من بطائق مختلطة تكون بصندوق، تُحدَّد موضوع درسه من الكتاب المعيّن له. وفي المرحلة الأخيرة يشارك المترشّح في مادة الأسئلة التي تجرى عليه في علوم: الفقه، والنحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق، والحساب، والمساحة، والتاريخ، والجغرافية. والملاحظ أنها تكون مشتركة بين تلامذة اليوم الواحد من المتقدّمين للامتحان الشفاهي. وحفاظاً على سريّتها وعدم تسرّب شيء منها أو من أجوبتها إلى من ينتظر دوره لاجتياز الامتحان في هذه المادة، يجمع الطلبة ما سوى الأول منهم، في قاعة تُشدّد الحراسة عليها، قطعاً لضروب التحيُّل والتسمّع إلى ما يجري خارجها بقاعة الامتحان (¬1). العطل والإجازات: يأذن النظام في تعطيل الدروس بجامع الزيتونة مدّة طويلة في كل عام. وهي تستغرق شهرين من الصيف من منتصف شهر 7 إلى منتصف شهر 9 الميلاديين، وكاملَ شهر رمضان، والأسبوع الأول من شوال، و9 أيام في عيد الأضحى، و4 أيام في المولد، ويوماً واحداً يوم عاشوراء. وهذه الفترات منظور في تقديرها إلى أسباب عبادية أو مواسم وتقاليد، فلا تكون موزّعة على السنة الدراسية توزيعاً يوفر الراحة والاستجمام. وإنها مع ذلك لتجد من الطلبة ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 153 - 155.

تذييلاً أولاً وآخراً. فعطلة الصيف تبدأ عملياً من بداية يونيو، والعطل القصيرة تتقدمها من المتطوّعين أيامُ ارتقابها مما يعوق انتظام الدراسة على الوجه المطلوب، ويحول دون الوفاء بالمقرّرات وختم الكتب (¬1). تلك هي عامة الأوضاع والملابسات التي كانت تقارن حياة هذا الشباب من طلاب المعهد. فلا يُرجى من ورائها تحريك الطاقات والمواهب، ولا شحذ ملكات الإبداع، ولا إبراز علامات النبوغ، ولكنها، واحسرتاه، تَصرِف عن العمل والدرس، وعن مباهج الحياة إلى الحرص على اختصار مرحلة الانتساب إلى المعهد، للخروج إلى معترك الحياة قصد سدّ الحاجة والاندساس في مجتمعات أغنى وأرقى. ولسان حالهم يردّد قول علي بن الجهم: والناس منهم عاملان فعامل ... قد مات من عطش وآخر يغرق لو يرزقون الناسُ حسب عقولهم ... ألفيت أكثر من ترى يتصدّق (¬2) وبعد العرض المُزجي الموجز لأوضاع التعليم بالجامع الأعظم، جامع الزيتونة، إثر صدور ترتيب خير الدين - وهو عرض تجنبنا فيه الكثير من التفاصيل والجزئيات التي لا يتسع لها المقام - أحببنا أن نقف عند مطلبين هامين: التآليف والعلوم، تماماً كما فعل الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. ذلك أن بيان المنهج الإصلاحي يعتمد أساساً على التآليف التي يكون بها تقدّم العلوم، وتطوّرها، وتبلّغ القصد من الدرس، وتحقّق الانتفاع الشامل والكامل لرواد المعرفة وطلاب العلم. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 155. (¬2) الطاهر الحداد. التعليم الإسلامي: 34.

المطلب الأول: الكتب والمصنفات المقررة للدراسة

المطلب الأول: الكتب والمصنفات المقررة للدراسة: أغراض التأليف: سبق لنا ذكر هذا الموضوع، بطريقة سريعة، عند الحديث عن الدروس. وإنا لنذكّر في بداية هذا المطلب بالأغراض السبعة التي فيها يُكتَب، ومن أجلها يؤلّف. جمع ذلك المتقدمون في قولهم: ألا فاعلمن أن التآليف سبعة ... لكل لبيب في النصيحة خالصِ فشرح لإغلاق، وتصحيح مخطىءٍ، ... وإبداع حَبْرٍ مُقدِم غيرِ ناكص وترتيب منثور، وجمع مفرق، ... وتقصير تطويل، وتتميم ناقص والذي حمل العلماء ورجال الفكر على طلب هذه الأغراض، والحرص على العناية بها، وتوفير الجهد في مجالاتها، تقديمُ شيء نافع لمن حولهم ولمن يليهم من الأجيال ممّن وقفوا على التراث العلمي الإسلامي الذي وصل غزيراً إلى أشياخهم، ولم يقدروا على الاستفادة منه مباشرة بأنفسهم، استفادة صالحة، أو ممّن كان هذا التراث محجوباً عنهم غيرَ واقع في حوزتهم، وهم في حاجة إلى التعرّف عليه والإفادة منه. التأليف بعد القرن السادس: بعد خمسمائة عام من العطاء الفكري والعمل الجاد العلمي، كان من الطبيعي أن تختلف طرائق اللاحقين عن طرائق الأئمة السابقين، لاقتناعهم بما فيه غنى مما هو متوفّر من التصانيف في نظرهم. وبدل التقدم بالعلوم، ومواصلة النشاط الإبداعي، طفِقَ أكثرهم يختصر ويزيد وينقص حسب ما يبدو له. وعلى هذا الأساس نشأت عقدة اللسان، واختفت مسائل العلم تحت الألفاظ، وانشغل المؤلفون عن النقد. وحمل هذا كثيراً منهم على العناية باختزال

الاعتماد على النقل أساسا

حرف، أو نقص كلمة، كما فعل محمد بن ناماور الخونجي 646 في الجمل "مختصر نهاية الأمل في المنطق"، وخليل بن إسحاق 767 في مختصره الفقهي، والتقي ابن السبكي 771 في جمع الجوامع في أصول الفقه، والجلال المحلِّي 864 في شرحه لجمع الجوامع (¬1). وترتّب على هذا الاتجاه تعقيد شديد، عطل الأفهام عن الغوص على المعاني، وصرَف الأذهان إلى شرح المغلقات، وأضاع الوقت على الدارسين. فتحوّل بذلك النظر إلى مجالات لفظية حول العبارات ومعاني الكلمات. وكانت النتيجة لهذا التكوين مكابرة ولجاجاً، وقصوراً عن الحجاج. الاعتماد على النقل أساساً: غير غريب أن تطغى مع هذا كثرة النقول في مؤلّفات هذا العصر، تفاخراً من أصحابها بسعة المعرفة وكثرة التحصيل، وإن خلت كتبهم من النظر وإعمال الفكر والنقد. وإن في هذا المنهج لانحرافاً عن مثل ما كان يقوم به السكاكي في نقوله، في مواضع شتى من كتابه المفتاح، عن الزمخشري أو عن الجرجاني وأضرابهما، قصد دعم رأي، أو إقامةِ برهان على صحّة معنى، أو بيانٍ لمذاق له (¬2). وقد نظر الأستاذ الإمام إلى أولئك النقلة فوجدهم فئتين: الفئة الأولى: تنقل ما يصل إليها أو يقع تحت يدها. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 167. (¬2) المرجع السابق: 168.

والفئة الثانية: تزيّن تأليفها بالنقل عن العلماء والمشاهير أمثال الغزالي وعبد القاهر وابن العربي، لكنك قلّما تجد مَن نهج على منوال هؤلاء العظماء، لأن التقليد إذا صافحه الضعف والفتور، تعلق بسفاسف الأمور. وربما مرّ أصحاب هذه الفئة على مواضع مشكلة من كلام المتقدمين، فيتحاشونها، ولا يقدمون على تحقيقها، مثل كلام عبد القاهر في المعاني الثواني، والغزالي في باب البيان من المستصفى، وابن العربي في حديثه عن المتشابه في شرح الترمذي (¬1). وبقدر ما كانت النقول لدى السابقين تأكيداً وتقوية لما يصوّرونه من أغراض، ويبدونه من آراء، كانت عندهم شاهداً على ضعف العقل، وذهاب الملكات، وكثرة التهريج. وحين استقرّ في أذهانهم العجز عن ملاحقة السابقين قالوا: "ما ترك الأول للآخر"، "وما أصحّ علم من تقدم"، وإذا لم يقدروا على المفاضلة والترجيح، ولو بعد تكلّف وإجهاد، بين أنظار المتقدمين واختلاف آرائهم، استسلموا قانطين، وذهبوا مرددين: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (¬2). وغير بدع من الأمر أن يتولّد عن هذه الحالة النفسية لديهم تقديس مطلق للمتقدّمين، أشعرَهم بالنقص، وعدم القدرة على الإتيان بما أتَوا به، وأنّى للتابع أن يبلغ مبلغ الرائد في سداد رأيه، وصحّة نظره، وقدرته على الاجتهاد. ووقع في يقينهم أن كلَّ مسطور يظفرون به أو يقفون عليه ينتسب إلى السابقين صحيح لا يمكن الطعن فيه ولا يُتردّد في الأخذ بما فيه. ونشأت عن هذه العقلية نزعات كان قد نبّه إليها الشيخ ابن عاشور في قوله: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 169. (¬2) البقرة: 148.

المحافظون المقلدون

"فإنه لما سدّت منافذ التفكير في العلم والتوسعة فيه، مال العلماء إلى التفكير في عبارات السابقين، ثم لما عُنوا بطريقة الاستحضار مالوا في تآليفهم إلى الاختصار، وحين شعروا بسماجة الإعادة للمسائل ابتكروا طريقةَ خلطِ التأليف الموضوع في مسائل علم ما بمسائل أخرى من علوم أخرى لأدنى مناسبة أو ملابسة" (¬1). المحافظون المقلِّدون: أصرّ هؤلاء على مواقفهم، مكتفين بما ورثوه، قانعين بما وصل إليهم، نابذين كل جديد، ومهاجمين كل ما يظهر في مجالات فنونهم وعلومهم مما يخالف أو يناقض ما عرفوه من تصوّرات واعتادوه من آراء، يلبسون له جلد النمر، يحضرون له سيَاط الزجر. وذلك لجمود أفكارهم، وقصورهم عن الاتسام بسِيمَى المحقّقين من العلماء. وربما كان ذلك أيضاً بسبب حسد الأكفاء والعمل على إطفاء مواهب المعاصرين، والتعصّب الممقوت لأشياخهم وكبار علمائهم، وإن تغيرت العصور وقامت بها الحجة عليهم. وإنك لتجدهم يكيدون لمن ليس من حزبهم، لوقف الناس عند ما بلغ إليه العلماء الأقدمون، غير متجاوزين في شيء مقالاتِهم وسلوكَهم وطرائقَهم. ومن أجل ذلك ألقوا في نفوس الحكام والملوك أن الخروج عن ذلك قيد شبر كالإلحاد في الدين، وأن في إطلاق الحرية للرأي والعلم نكراناً لفضيلة العلماء الماضين، إلى غير ذلك من كلمات لفّقوها، وأحاديث وضعوها، ورهبانية في تقديس المتقدمين ابتدعوها (¬2). ولم تنجُ من مغالطاتهم وصنوف كيدهم سوى طائفة قليلة من ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 169. (¬2) المرجع السابق: 168.

تحرير الموقف من العلماء السابقين

العلماء البارزين لم تجرؤ على إعلان معارضتها لهم، ولكنها جرت على طرائقهم، فضمّنت ما حرّرتْه من شروح وحواشٍ وتعليقات تصحيحَ كثير من الأفهام، وإبداء ما رأته من مقالات وأفكار صائبة. ولو أن المقلّدين رضوا باستدراك النقص، وتصدّوا لإصلاح الكتب والمؤلّفات مما تزخر به من أخلال، لأعانوا الطلاب بعد طول دراساتهم للعلوم اللغوية والعربية، ومثافنتهم لفَنَّي المعاني والبيان، واستغراقهم غالب أوقاتهم في العكوف على العلوم الشرعية، على الانتفاع بما تخصّصوا فيه، والظهور في مختلف مجالات الدرس والبحث والإنتاج قادةَ فكر، وأئمةَ علم، وأمثلةً ونماذجُ يُحتذى حذوها ويُقتدى بها. تحرير الموقف من العلماء السابقين: وهكذا تتعانق الأجيال، وتلتقي على الخير. فلا يكون الفضل بسبب التقدّم زماناً مطلقاً، ولا بما لابس أولئك العلماء من تقديس لأخذهم بمناهج المتصوّفة أو بظهور الكرامات، أو بالانتماء إلى طائفة معيّنة ونحلة خاصة، أو بالحفاظ على عادات وتقاليد ليست من جوهر العلم ولا مما يتَّصل به أو يتولّد عنه، وإنما أسباب التفضيل التي يقرّ بها العامة والخاصة، ويرونها معايير توزن بها جهودُ الرجال وطاقاتُهم، واتساعُ مواهبهم، وألوان إنتاجهم التي تقوم عليه المدارس العلميّة النافعة، والمذاهب الفكرية الراشدة. وقدم الناس في كل عصر مَن تميّز من بينهم بالإقبال على العلم والإعراض عن زخارف الدنيا، والنصيحة للكَافة وللخاصة، ومن جهة ثانية المتقنين للعلوم، الواضعين لقواعدها، المبدعين في صنوفها، الذواقين الكاشفين عن أسرارها، والأسخياءَ الذين تَرَقَّوْا بتلك

المطلب الثاني: عيوب التأليف

العلوم، وأفاضوا على القريب والبعيد من معارفها. فبهذا يتعارف الخيّرون، ويتنادى المُصلحون، وتبرز الصلة متينة قوية بالمضي على نفس المنهج، وتتواصل الجهود بين السابقين واللاحقين. وهذا ما حمل الشيخ ابن عاشور على التنويه بهؤلاء في قوله: "إنهم غرسوا لنُنمي، وأسّسوا لنَشِيدَ، وابتدأوا لنزيد. ولست مقتدراً أن أقنع نفسي بأنَّهم كانوا في درجة واحدة من العلم، بل منهم العالم المنشىء لقواعد وأصول، ومنهم الذي لم يشتهر اسمه إلا بفضل عوارض" (¬1). وهذا التفاوت بين الأعلام المشهورين يرجع بدون شك إلى ما فطروا عليه، وإلى ما هذبوه ونمّوه من ملكات، وما رزقهم الله من مواهب وقدرات، أو اكتسبوه من طاقات وتخصّصات. المطلب الثاني: عيوب التأليف: وإنا كلما تقدمنا في مطالعة المذكرات الإصلاحية للشيخ ابن عاشور أيقظتنا إضاءات وتنويرات، ونبّهتنا لأهميتها آراء وملاحظات، وذكرتنا عند مطالعتها قواعد وأصولاً، يغفل عنها المدرِّسون ولا يجهلونها، وإنما هي الرتابة والتعوّد وعدم الالتفات إلى أحوال المخاطبين، وبُعد أصحاب التصانيف عن أصول البلاغة صناعة لا نظراً، أفقدتهم أسس النجاح، وجعلتهم فيما يقرّرون أو يكتبون يُملِّون وينفِّرون لما يشوب تآليفهم من عيوب تورث طُلّابَهم العياءَ وقلةَ الفهم. ولذلك وجبت العناية بالتآليف تعريفاً وعرضاً، تحليلاً ونقداً، توجيهاً وإصلاحاً. ومن كان في أوائل هذا القرن يقدر على ذلك مثل ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 163.

بعض كتب المرحلة الابتدائية

العلامة ابن عاشور؟! فهو لسعة معرفته بهذا الموضوع، وكمال إحاطته بالفنون والمؤلفات، وغوصه في دراسة مناهجها وضبط خصائصها، قد تولَّى إلى جانب التاريخ لهذه الظاهرة العلمية التي تعلّقها طوال حياته بيان أوصافٍ وتعليلات وملاحظات وأحكام لا تجد الحديث عنها في كتاب، ولا في حلقة درس إلا نزراً، ومن القليل القليل من أهل العلم. ذكر رحمه الله أمثلة من كتب جيّدة انبنت عليها النهضة في العلوم، وقام بها تأسيس النظر في عدّة فنون. وهذه معلومة مشهورة، ولكنَّها أُتبعت بعد وضعها وتصنيفها بأخرى استندت إليها، ورام الشيوخ في حلقات الدرس أن يلقّنوها طلابهم، ويعلّموهم ما شملته من قواعد ونظريات وأفكار. ولعله من الواجب، لاكتشاف بعض الحقائق والأسرار، أن ننظر بتأمّل في كتاب أليس الصبح بقريب. فهو يركز ملاحظاتِ مؤلفه ونقدَهُ على الكتب المدرسية، المقرَّرَة للمرحلة الأولى من التعليم الزَّيتوني، والتي يقوم التلميذ بدراستها ولمّا يبلغ في الغالب من العمر خمسة عشر عاماً. بعض كتب المرحلة الابتدائية: من أهم ما يُبدأُ به من المقرر كتابان: المقدمة الآجُرُّومية في النحو، وإيساغوجي في المنطق. وهما متقاربان حجماً، متباينان سهولة وصعوبة. فالمقدمة الآجُرُّومية، نسبة إلى مؤلفها محمد بن محمد بن داود بن آجُرُّوم 743، أوّل كتاب يدرس في علم النحو. وهو مفيد. نظمه يحيى بن موسى العَمريطي 890، وأسماه الدرّة البهيّة. وإيساغوجي كتاب لأثير الدين مفضّل بن عمر الأبهري 700.

الاضطراب والاختلاط

مختصر أيضاً. وضعه صاحبه للتعريف بالكليات الخمس: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام، وما يتصل بذلك من المصطلحات المنطقية الواجب استحضارها لمن يبتدىء في شيء من العلوم (¬1). والملاحظ لدى عامة الدارسين أنه كان من الأفضل تأخير دراسة هذا الكتاب سنتين أو ثلاث حتى يتهيأ التلميذ لذلك. وكتاب القطر المعيّن لدراسة النحو في السنة الثانية ابتدائي هو كتاب قطر الندى وبلّ الصدى. مقدمة في النحو لابن هشام 762. قال عنه الشيخ ابن عاشور: "وفيه مسائل تقرأ في علم النحو هي كما تقدم من عويصات المسائل أو من محاجاته" (¬2). والألفية أو الخلاصة في النحو لابن مالك الطائي الجَيَّاني 672. هي أرجوزة مفيدة من مقررات السنة الثالثة والرابعة بجامع الزيتونة، عليها شروح كثيرة مهمة. الاضطراب والاختلاط: اشتملت كثير من الكتب الدراسية على اضطراب وإخلال بسبب الإجمال. فغاضت المعاني، وتشتّتت المقاصد، ونقصت الفوائد. وهو ما اشتكى منه ابن خلدون في مقدمته، والشاطبي في موافقاته (¬3). أما صور الاختلاط في التعليم والتأليف فكثيرة. كان يؤتى بمسائل علم المنطق في مبادىء علم الأصول، ويفصّل الحديث في ¬

_ (¬1) مجموع المتون: 280 - 289. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 169. (¬3) المرجع السابق: 174.

من اختلاط المسائل

فلسفة الأجرام في باب التشبيه، ويَرِدُ ذكر الحواس الباطنة في الفصل والوصل من علم البلاغة، ويختلط التصوّف بالفقه، وعلم الكلام بمبادي النحو عند تعريف لفظ الكلام، فيتناول القولُ بالمناسبة مبحثَ دلالة الكلام أهي وضعية أم عقلية (¬1). وتداخل العلوم هكذا، أوجب ربط بعضها ببعض ضيقاً في تلك المؤلّفات، وكثرةَ الخلاف في مسائلها، كما أورث بالانتقال من مادة إلى أخرى في نفس الدرسِ والحصة، وما يستوجبه هذا من تقديم وتذييل، شرودَ عقل التلميذ، وعدمَ فَهمه، وعجزَه عن مسايرة الشيوخ في تقريراتهم، والإفادة من جهودهم وتحريراتهم. ومما يلاحظ فيما ذكرنا أن من الخلط المشار إليه ما هو مادي علمي، ومنه ما هو منهجي تصوّري. وكلاهما يحتاج إلى تغيير وإصلاح في الكتب ومواد التدريس. من اختلاط المسائل: عرّف النحاة اللفظ بأنه الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية. وهذه العبارة واضحة الدلالة يفهمها التلميذ في يسر، ويسهل عليه حفظها، لكن الشارح أراد إبراز معارفه، ونسي أنه يتحدث في النحو مع تلامذة مبتدئين، فأتى بتعريف ثانٍ ليس هذا موضعه، ناقلاً عن المتكلمين قولهم: "اللفظ حركة في اللسان يخلقها الله عند حاجة المتكلم"، ويتبعه المحشِّي مؤكداً للتعريف الثاني الكلامي بقوله: "إن الشارح لم تزلّ به قدمه بل جرى على أصول الأشعري في الكسب". ويعقب الشيخ ابن عاشور على هذا كلِّه، مبدياً رأيه في هذا الصنيع قائلاً: "فجاءتك مسألة خلق الأفعال، والخلاف بين الأشعرية والمعتزلة والجبرية. كل هذا والتلميذ يَعُدّ ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 172.

ما في الجامع من أساطين، ويشيّع بنظره مساعي المارين، فإن شئت أن تعلم ما حصل من المسألة فاسأل العادّين، لأن التلميذ لم يعرف بعد معنى الكلام، فكيف به إلى دقائق علم الكلام" (¬1). ومن أمثلة ذلك أيضاً ما يجري من تلقين مسائل التوحيد في مقدمات الكتب الفقهية. فهذا عبد الواحد بن عاشر 1040 يورد في نظمه المرشد المعين على الضروري من علوم الدين في حدوث العالم قوله: [وذا محال] وحدوث العالم ... من حدث الأعراض مع تلازم وبالرغم من سهولة التعبير فإن إشاراته لا يدركها الأطفال ولا يَعُونها - ولو درّسها المدرس، وأوضحها الشارح - إلا بجهد وعنت. ومن يستطيع منهم فهم كلام مياره في شرحه وتعليل حقيقته حين يقول: وحدوث العالم ... لما قدم في برهان الوجود حدوثَ العالم، ذكر هنا برهان ذلك؛ وهو ملازمته للأعراض الحادثة، فإن أجرام العالم يستحيل انفكاكها عن الأعراض، كالحركة والسكون. وهذه الأعراض حادثة بدليل مشاهدة تغيّرها. فلو كانت قديمة للزم أن لا تنعدم، لأن ما ثبت قِدَمُه استحال عدمه، وإذا ثبت حدوثها واستحال وجودها في الأول، لزم حدوث الأجرام واستحالة وجودها في الأزل قطعاً لاستحالة انفكاكها عن الأعراض، إذ حدوث أحد المتلازمين يستلزم حدوث الآخر ضرورة (¬2). وإن في هذا الشرح إيغالاً أيضاً في استعمال الاصطلاحات التي لم يألفها التلميذ بعد. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 171 - 172. (¬2) مياره: الدر الثمين والمورد المعين: 32 - 33.

ومن الخلط التصوّري المنهجي طريقة علماء المنطق المتجلّية في كتبهم عند تفصيلهم القول في اختلاف علمائهم في لزوم النتيجة للمقدمات. وهو الشأن في العاديّات، فيتساءلون أهذا الأمر عقلي أم عادي؟ ويبنون ذلك على مناهج المتكلّمين بمراعاة اصطلاحهم، ويُهَوّل على من يقول منهم: هو عقلي أو واجب، بأن فيه تحكيماً للعقل أو الإيجاب. وهما نزعتان ضالتان (¬1). وقد يكون فساد التصوّر متولّداً عن تقديس من لا يستحق التقديس، وإنما هو العبد الصالح تظهر على يديه الكرامات، وهو معزول عن صفة العلم ومنازل العلماء. ومن هنا كان خطأ المِقَّرِي فيما رواه في كتابه الأزهار من تقويمه لمنزلة أبي الحسن الصّغيّر تعقيباً على ما رواه القَبَّاب عن الإمام ابن عرفة من قوله بشأنه: وكثيراً ما نجد في تقييد الشيخ أبي الحسن: "يؤخذ من هذه المسألة". فلا أدري صورة ذلك الأخذ ما هو؟ هل هو من طريق الاستقراء أو الاستنباط أو القياس أو المفهوم. وكل قسم من هذه الأقسام يفتقر إلى شرط، ولا شيء من ذلك ... قال المقري: "لا يقع في ذهنك قصور الشيخ في قوله: "يؤخذ من هذه المسألة" ... واعلم أرشدك الله أن الشيخ أبا الحسن كان إمام وقته في فقه المدوّنة، وهو المستقل برئاستها بعد شيخه الفقيه ابن راشد. ما أخذ عنه حتى ظهرت على يديه الكرامات الخارقة في شفاء أصحاب العلل المزمنة، وغير ذلك" (¬2). ومن الدلائل على سقم هذا المنهج اعتمادهم كلام الصالحين ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 178. (¬2) المقري. أزهار الرياض: 3/ 32 - 33.

اعتماداً يقضون به على العلم. وربما نزّلوا كلامهم منزلة ما لا يقبل الطعن، كأخذهم أجوبة صاحب الإبريز التي يرويها عن شيخه الصالح عبد العزيز الدباغ (¬1) فيعتقدون أنها تمام مراد الله أو رسوله من كلامه المفسر فيها (¬2). ومن فساد التصوّر أيضاً جعل العلم علمين: علم معرفة وخبرة ودراية، وعلم كشف. وقد يحمل على هذا الاعتقاد انتشار هذه الأفكار بين الناس واعتدادهم بها، في غفلة عن تعاطي الأسباب وتسلق المعرفة بالنظر وبذل الجهد. وإن من كبار العلماء من وقع في هذه الأوهام أو تسلطت عليه. فهذا القطب الشيرازي 710 يقول في ديباجة شرحه للمفتاح: "إنه قد ألقي إليّ على سبيل الإنذار، من حضرة الملك الجبار، بلسان الإلهام، لا كوهم من الأوهام، حال نصب شبكة الغيبة، وهي حال بين النوم واليقظة، ما أورثني التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور" (¬3). وقال سعد الدين التفتازاني 792 في شرح التلخيص عند حديثه عن الإعجاز وما يقرب منه، وتقريرِه ما عطف على حد الإعجاز: "ومما ألهمت بين النوم واليقظة" (¬4). ولقد كان من ضعاف المشتغلين بالعلم، غير المتمكنين منه من كان يعتقد أن الأمر المشكل إذا رُئي في النوم ما يبيّنه، فقد فسّر بوجه لا يقبل الخطأ. فهم يرون الأحلام كشفاً، ويثقون بأنفسهم وهم نائمون بما كانوا يشكّون فيه وهم أيقاظ (¬5). ¬

_ (¬1) عبد العزيز بن مسعود الدباغ: 1132. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 162. (¬3) المرجع السابق نفسه. (¬4) المرجع السابق نفسه. (¬5) المرجع السابق نفسه.

سير حركة التأليف في العلوم الإسلامية ونقد كتب التدريس

سير حركة التأليف في العلوم الإسلامية ونقد كتب التدريس: إن من يُعِد النظر، متدبِّراً سير حركة التأليف في مختلف أطوارها، يجد هذا محكوماً في طبيعة الزمان بحال الأمة. وذلك ما حمل الشيخ ابن عاشور، بين يدي نقده لأوضاع الكتب في عصره وما قبل عصره، على استعراض أحوال التأليف ومدارسه ومناهجه قديماً وحديثاً، مذكّراً بما كان من ذلك في صدر الإسلام عند نشأة العلوم الإسلامية وظهور الكتب الأصلية فيها، وبما كان من نشاط فكري في العواصم الفكرية بمصر والشام، والقيروان وإفريقية والأندلس والمغرب. فإذا قضى من ذلك وطره، ولو في عبارات موجزة مختصرة، انتقل إلى النظر في الكتب المدرسية التي يزاول الطلبة دراستها والنظر فيها، بما يتلقّونه عن شيوخهم، وما يمارسونه من التدرّب أو المراجعة لها بإشرافهم. وقد لاحظ الإمام العلامة المصلح بُعدَ هذه التآليف عن المنهج المحمود. وذلك لخلوّها من مراعاة أبسط قواعد التربية والتعليم، وجهل مؤلفيها بأحوال الطلاب الفكرية، وباستعدادات ومؤهلات المقبلين على دراستها في أطراف البلاد الإسلامية. والحق أن عامة المصنِّفين في مواد العلم الإسلامي كانوا يحدّدون الغاية من تدريس ما يضعونه من الكتب في مختلف العلوم، فيحفلون بها وبموضوعاتها وبأصولها وفروعها خدمة للعلم الشرعي وللسان العربي. ولم يكن يشغَل عامتهم إلا من قلّ منهم، التفكيرُ عند وضع تأليفه في أيِّ فنٍّ أو مادة بسن التلميذ أو الطالب، وبمرتبته الفكرية أو الدراسية، إذ لم يكن هذا من شأنهم ولا مقصوداً منهم ولا مطلوباً عندهم. وهم يسبقون المدرسة والمعهد والطلاب، فلا يضعون في الاعتبار عند التأليف حاجاتهم، وإنما هي كتب موضوعة

المطلب الثالث: العلوم

كمقدمات للعلم، فمختصرات أو نَظْم لها، أو شروح وحواشٍ وتعليقات، أو مطولات. ومن أجل ذلك تختلط فيها مسائل العلوم، ويكثر الجدل والمناقشات، وترد فيها القضايا الكثيرة في غير تناسب بينها ولا ترتيب. فلا يتصوّر بعد ذلك تمكّن الشيوخ أو الإدارة أو الطلاب من اختيار كتبهم للدراسة، مراعين في ذلك التكوين العلمي والتدرج المعرفي والجانبين الضروريين النظري والتطبيقي، وبخاصة في المرحلة الأولى من التعليم. قال الأستاذ الإمام الأكبر: "إنّ كُتُبَ التعليم عندنا لمّا لم يضعها أصحابُها لغرض التعليم، أو لم يراعوا فيها انتساب بعضها من بعض نظراً إلى طبقات التعليم، اعتمد كل واحد من المؤلفين طريقة توخّى فيها ما اعتقده الأصح للناظرين، ولم يلتفت أكثرهم في الماضي إلى وجوب التدرّج للتلميذ؛ أي: إلى تنقله من معلوم إلى مجهول" (¬1). ولم يكن في تقديري أن هذه هي حال الزيتونة، ولكنها السمة الغالبة على غيره من المعاهد؛ كالأزهر والقرويين وسائر المعاهد الدينية. المطلب الثالث: العلوم: جاء هذا الفصل في أليس الصبح بقريب إكمالاً لما قبله، وتجلية للرؤية المطلوبة في موضوعاته ومسائله، وتفصيلاً للآثار المترتبة على ذلك في ميداني التأليف والعلوم. وبعد أن تعرض قائد الإصلاح ورائده في جامعتنا الزيتونية إلى الحديث عن ثمرات العلوم وغاياتها، وبيان أطوار العلوم في الأمة، وربطَ تأخّرَ الأمة بتأخر ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 172 - 173.

العلوم فيها، وقف بنا عند جملة قضايا مهمة: منها: القصد من تدوين العلوم، ولفت النظر إلى العلوم الإسلامية، وبيان أصناف المقبلين على العلم في مجتمعاتنا، منتقلاً من ذلك إلى ذكر الأسباب العامة، أسباب ضعف العلم وتأخّره عندنا. وَلَكَمْ يكون حريّاً برجال التربية والتعليم أن ينتبهوا إلى فقرات هذا الفصل، لِمَا له من علاقة أكيدة وارتباط كبير بما يتدبّرونه من قضايا، ويتناولونه من مشاكل تربوية وتعليمية، كان اعتمادهم في أكثرها على الآراء والنظريات البيداغوجية التي وضعها أصحابها لمجتمعات غير مجتمعاتنا، وأطفال غير أطفالنا، فيفيدون مما حرره العلماء، ويجدون فيه الغناء عن لوك مقالات المربِّين في القرون الوسطى من غير أهلينا. وقد كان التمهيد لذكر أسباب التأخّر بالعودة بنا إلى حصر العلوم الإسلامية التي كان يعنى بها الشيوخ، متفرّغين إليها تلقيناً وتقريراً وبياناً وتحريراً. وأبرزها الفقه واللغة والنحو وتفريع الفروع الفقهية والمسائل العلمية. وذلك للنظر في محتوى هذه العلوم وطُرق عرضها. وكان أول ما انصرف إليه الشيخ رحمه الله من الحقائق في هذا العلم هو التنبيه إلى أن تدوين العلوم كان من السلف بداعي النصح للخلف. وهذا لا يتم إلا متى حصل الإغناء من الأولين لمن بعدهم عن إضاعة الأوقات فيما فرغوا منه من استقداح الأفكار فيما جمعوه ودونوه من معارف وعلوم. وهكذا تقتصر مهمة الخلف على الزيادة على ما أخذوه عنهم وورثوه منهم. ويَضمن هذا عن طريق النظر والدرس والاستنتاج إيجاد الملكة العلمية، وترقية الأفكار، وصقل مرايا العقول. ولا يحصل الغرض الشريف من ذلك بأمر الناس بمتابعة ما وضع لهم، أو بتلقي ما بلغ إليهم من وضع الواضعين بكل

ملاحظات حول طلاب العلم

تسليم، ولكنه يكون بصرف نظر المتعلم إلى نتائج تلك العقول ودرسها، فيتّبعها أو ينبذها إلى أحسن منها أو أوضح. وبهذا يجري الطالب على نسق أسلافه بعد تكوّن ملكته، فيستدرك عليهم، وينمي ما وصلوا إليه بتأملاته وإضافاته. ملاحظات حول طلاب العلم: طلاب العلم عندنا في تلك الفترة ليسوا على نمط واحد كما دلّت عليه التجربة وشهد به الواقع، ولكنهم أنماط وأصناف: منهم من أخذوا علوماً ليسوا في حاجة إليها، تباهياً وتجملاً بها، وشاركوا في الانتساب إلى علوم عالية مقتصرين في الجملة على ألفاظ وحقائق يسردونها لا يفقهونها ولا ينتفعون بها. وتميّزت طائفة ثانية بقوّة حوافظها. فكانت تعرض الكتب عن ظهر قلب من حفظها، فيعجب بها السامع، وينجذب المشاهد لما يكون منها أو يجده فيها. فيظن بها خيراً، ويعتقد أن ما هي عليه هو العلم، وإن كانت هذه الطائفة ساذجة ضعيفة الفكر. وقد انقسم الناس إزاء هذه الطائفة الأخيرة وإزاء مناهج التعليم عندها. فمِنْ مقلد قادر على التقليد، وآخر بدت منه المحاولة، ولكن خار عزمه عن المتابعة، وضعفت قدرته عن المسايرة. وهؤلاء كلهم، وهم الكثرة، من المعجبين بتلك الطائفة، المباهين بقدرتها على الاستظهار والحفظ. وتقابل هذه الجماعة فئةٌ أخرى كانت معارضة لهذا المنهج، غير قابلة له، تستنقص قيمة عمل المولعين بالحفظ، ولا تلتفت إليه. لكن هذه الفئة إما معارضة في نفسها تخونها العبارة، فلا تقدر على التعليق أو التغيير عما عليه تلك الطائفة من تقصير ومعايب، وإما قادرة

الأسباب العامة لضعف التعليم وتأخر العلوم

على نقدها وبيان فسادها، ولكنها محدودة العدد لا يظهر منها إلا القليل النادر الفينة بعد الفينة. ويعلق الإمام الأكبر على هذه الظاهرة بقوله: "فأصبحت قلّة هؤلاء وكثرة أولئك وبالاً عظيماً على العلم. وهو أصل تشعب الناس في العلوم، وسبب ابتهاج كل فريق بنصيبه منها. وفي هذا يكمن أحد سببي تأخر العلوم. وهما وجود مسائل لا حاجة إليها يطال بها التعليمَ، وهي ليست من العلم في شيء، مستمدةٌ من فنون أخرى تذكر لأدنى علاقة، وإهمال مسائل وعلوم مهمة وقع إغفالها أو الانصراف عنها لسبب من الأسباب المرفوضة الواهية" (¬1). ولتفصيل هذه المعاني وتقريرها أتبع الشيخ ابن عاشور ما تقدم من ملاحظات حول العلم: حقيقته والغاية منه بعامة، وحول العلوم الإسلامية وانقسام الطلاب إزاءها حسب ميولهم وأهوائهم، بذكر جملة أسباب عامة اقتضت ضعف طلب العلم وتأخر العلوم، بقصد تجنّبها وتلافي الوضع الشائن الذي هبطت إليه. وقد جعل منها، على سبيل التمثيل لا الحصر ولا الإحاطة، أربعة عشر سبباً فرعياً تعرض للعلوم وطرق مزاولتها. الأسباب العامة لضعف التعليم وتأخر العلوم: إن هذه الأسباب متنوّعة بين اجتماعي ومنهجي وتصنيفي. فمن الأسباب الاجتماعية: أولاً: توقيت سير العلم بسبب ما عرض لبعض الدول كالدولة العباسية من اهتزازات وأزمات وفتن. فلم يَعدُ اللاحقون ما حرّره ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 177.

المبدعون ودبّجه المتقدّمون، كما حالت الظروف دون الانطلاق، بل دون استئناف الجد في طلب العلم في أكثر مجالاته لانطفاء سرجه، وذهاب من بقي من العلماء في البلاد. ثانياً: ما ظهر في نفوس الطلاب من طموح إلى اكتساب أوسع ما يمكن من المعرفة، وقادهم ذلك إلى حب المشاركة في جميع العلوم. فاختلطت مادة الدرس بعدة قضايا يتوقّف بعضها على فهم بعض. فكلّت الهمم، وحال ذلك دون أهل العلم ودون تحقيق علم من العلوم ينبغون فيه. وانتقلوا من الاختصاص بأحد فنون العلم، مثل الأئمة المشاهير الذين سبقوهم، إلى الاكتفاء بنظرة شمولية سطحية لم تساعدهم على التقدّم بالفكر والعلم. وأمام هذا الانتكاس، الذي حصل لهم بموجبه ضيقُ الوقت مع اتساع العلم، رضوا من العلم بالانتساب إليه، واقتنعوا بما ألمّوا به من قليل المسائل في كلِّ علمٍ. ثالثاً: انتشار الطرائق الصوفية بين المسلمين التي بثت في نفوسهم الرضا بالموجود، واحتقار سائر العلوم ما عدا المعرفة بالله بحسب تصوّراتهم. وفي غمرة هذا المنزع الجديد تعوّدت النفوس على قبول ما لا يفهم والاقتناعِ به، كتلك التي امتلأت بها كتب المتصوّفة من الرموز والمغلقات والدعاوى التي لا دليل عليها، وأصبح من توجيهات قادة الفكر عندهم في ذلك الحين أن يتعلم الناس سماع ما لا يفهم، وأن يقتنعوا بكل ما يسمع، جاعلين من دلائل علو العلم وشرفه استعصاء فهمه على الإنسان. وقد احتاج هذا المنزع إلى طول وقت وإلى بذل جهود كبيرة لاقتلاعه من النفوس وتحريرها منه.

الأسباب المنهجية

رابعاً: ما حصل بسبب تأثير المنهج الصوفي المعارفي من تهاون بعدّة علوم نافعة. فقد حقّر أصحاب ذلك المنزع جملة من العلوم العقلية العليا والشرعية مما عجزت عنه أقلامهم؛ كعلم أصول الفقه، وعلم البلاغة، والتاريخ، والعمران أو الاجتماع، وأسرار التكليف، ومقاصد الشريعة، كما رفضوا العلوم المنقولة عن اليونان تنزّهاً، والعلوم الأدبية مثل الشعر والكتابة وآداب المجالسة لكون الاشتغال بها في نظرهم إضاعة للوقت. أما العلوم المستظرفة والفلسفية التي منها نقد العلوم، والبحث في أسرارها وعللها، فقد رأوها ملهاة يحسن الانصراف عنها. فهي لم تكن تجد نصيراً من غير أهلها الراضين بها والمقبلين عليها. من الأسباب المنهجية: أولاً: تداخل العلوم وربط بعضها ببعض. فإنك لا تكاد تجد فناً من الفنون العلمية خالياً من استخدام الحكمة أو علم الكلام، وإن أوجب ذلك ضيقاً في العلوم وكثرة للخلاف. وقد مثل صاحب كتاب أليس الصبح بقريب لذلك فقال: تراهم في المنطق مثلاً يختلفون في لزوم النتيجة للمقدمات أهو عقلي أم عادي؟ ثم يختلفون اختلافاً طويلاً أساسه المراعاة لاصطلاح فرق المتكلمين، لأن هذا شأن العاديات، ويهوّل على من يقول: هو عقلي أو واجب بأن فيه تحكيم العقل أو الإيجاب، وهما نزعتان ضالَّتان. ثانياً: الاحتجاج للاصطلاح في القديم، ولو كان في ضبط دلالة اللفظ الواحد. فقد اختلف البيانيُّون والنحاة في وجه التقديم، وإن أوجب ذلك اختلافاً في الفهم. فقال البيانيون: هو للحصر، وذهب النحاة إلى أنه لإظهار الاهتمام بالمقدَّم. كما اختلفوا في أصول الفقه في ضبط مدلول مفهوم المخالفة. فقال الجمهور: يفيد

النقيض، وذهب ابن أبي زيد إلى إفادته الضدّ، وليسا شيئاً واحداً. وعقّب المؤلف على هذين المثالين في تحرير المصطلحات بقوله: "وعندي أن لاحترام الاصطلاح حدًّا، وهو أن يحترم ما دام غير مخلّ بشيء في العلم وغير قاصر في ذاته. وانتقد صنيع الغزالي في تبديل الأسماء المنطقية في مقدمة المستصفى، لأن مثل هذا التبديل يوجب تشويشاً" (¬1). أما إذا كان التغيير عدولاً إلى ما هو أوضح فهو الاصطلاح، وينبغي أن يشاع ليعرفه أهل العلم. ثالثاً: الإعجاب بآراء المتقدمين، وتنزيههم عن الخطأ، وانحصار العلم في تداول ما تناقلته الأجيال بعضها عن بعض. وقد يحصل النقل لقولين متجانبين في موضوع واحد وهما متضادان، فيحاولون إصلاح ذلك بضروب من التكلّف؛ كقلب الحقيقة إلى مجاز، وتقدير المضاف، وجعل الجزئي كلياً، وغير ذلك. وربما أبطلوا أحد القولين، ولا يكون في الغالب هذا الإبطال أو الترجيح إلا لفائدة ما يختارونه من الأقوال. ولبيان هذا التصرُّف غير المنطقي وما يترتب عليه من آثار أورد الشيخ ابن عاشور من شرح الحموي على الأشباه والنظائر مسألةً من باب الردّة في كتاب السير في ذكر الأنبياء وناقشها (¬2). ثم أتبعها برأيه في كلام القدامى والاعتناء به، مشيراً إلى أن القواعد العلمية التي أسسها لنا السلف يقرؤها الطلاب ويعتمدونها لتوسيع أنظارهم وخدمة آرائهم لا لتستعبد أفكارهم. ومتى استأسرت القواعد الأفكار بانَ ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 183. (¬2) الحموي. غمز عيون البصائر: 4/ 329؛ محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 179.

أحوال التأليف والتصنيف

خطأ النظر. وإننا متى اقتصرنا في مناهجنا على ما أسسه لنا الأسلاف، ووقفنا عند ما حدّدوه رجعنا القهقرى في العلم والتعليم. أما إذا جعلنا أصولهم أسساً نرتقي بالبناء عليها، فإنا نستكمل ما فاتهم ونستدركه عليهم، وإن لم نحظَ بما فاتنا من علومهم ولو قليلاً. رابعاً: سيطرة التقليد في العلم وهو ما نعاه الغزالي والباقلاني وغيرهما على كثير من العلماء والمؤلفين. ولا ننسى أن هذا المسلك أضرَّ بالعلوم الإسلامية. ومن ملاحظات الإمام الأكبر على هذا قوله: "وقد وجدت أن التقليد في العلوم هو الذي ينشىء الإعجاب لعالميها بما علموا، لأنهم ما قُلِّدوا حتى غالطوا أنفسهم، وظنوا أن ما علموه منزّه عن الطعن والخطأ. فأصبحت مناظرتهم وانصياعهم عما علموا شيئاً عسيراً". ثم قال: "والبؤس العظيم للأمة إذا تداخلت العوائد والعلوم، ومُوّهت بعض العوائد الضالة بطلاء الدين والأصول". خامساً: سوء التفاهم، وبلوغ الخلافيات بينهم مبلغاً مشيناً، جرّدهم من الموضوعية، ودعاهم إلى التنابز وإشاعة التشنيع والسباب بينهم، فترتب على ذلك كله انقسامهم إلى فئات وشيع. ولو اتبعوا الحق وابتعدوا عن المكابرة في العلم لما نجم بينهم خلاف ابتداءً، إذ العقلاء يشتركون في صفة تَسُوقُهم رأساً إلى الحق وحده. ومثل هذا الخلاف بنتائجه ظهر بين المعتزلة والأشعرية في مسائل منها: صفات المعاني، وقدرة العبد، والحُسن والقبح. أحوال التأليف والتصنيف: أما الأسباب المؤدية إلى جمود التآليف أو تأخّرها فقد فصّلها الشيخ ابن عاشور في كتابه أليس الصبح بقريب (¬1)، وذلك بإثر عرضه ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 159 - 173.

لأحوال الدروس والمدرِّسين، وأحوال الفنون والكتب، وأحوال التلامذة. وبيّن في هذا المحل: أولاً: أن فساد طريقة التأليف، وعنونة المسائل، وعدم ترتيب الكتب على درجات تراعى فيها أحوال الطلبة ومستوياتهم، تَرتَّبَ عليه تناقص التأليف، وبقاء الموجود سخيفاً ضعيفاً. ثانياً: إثارة الأبحاث الجانبية استطراداً، وهي في الغالب غير متعيّنة ولا ذات جدوى، لكونها منصبة على ألفاظ المؤلفين من أجل تأييد المذاهب والآراء بدافع التعصّب والتحزّب. وقد تفشّى ذلك بخاصة عند الفقهاء والمتكلمين. ومن أمثلته الشائعة قضية خلق القرآن. وهي مسألة اقتضتها الرغبة الملحة في البحث. وجلبت هذه المسألة ومثيلاتها تهويلاً أيَّ تهويل على المخالف وتنابزاً بالألقاب واللوازم. ثالثاً: عدم تطوّر التآليف، بل تدنّيها بسبب اقتصارها أحياناً كثيرة على ذكر القواعد والاصطلاحات، معزولة عما يركزها في الأذهان من شرح وأعمال تطبيقية أو تمارين. وقد ظهر ذلك بالخصوص في أزمنة انقطع فيها العلماء أو قلّوا. فأقبل الطلاب على الكتب المتوفّرة لديهم يستظهرونها. فلا يشحذ ذلك عقولهم، ولا يكسبهم الخبرة والدُّربة. ويعظم خطر هذا التقصير في التآليف في كتب تدريس العلوم العقلية واللسانية، وفي استبدال الأمثلة الصناعية الممجوجة والسمجة في كتبهم بالأمثلة والشواهد الهامة والمفيدة التي كانت تزخر بها تآليف العلماء السابقين المتقدمين. رابعاً: سلب الحرية عن العلوم لاقتصار العلم في نظر الجمهور على نقل كلام السلف، وانحصار التآليف في نقل ما مضى من غير

بحث، بسبب هيمنة شيع متعصبة، يمجّدون آراء أساتذتهم وشيوخهم. فإذا تجاسر أحد على مخالفتهم عدّ مهوّساً. وهكذا انصرف الناس إلى خدمة كلام السابقين وتطويل المسوّدات والمناقشات في أفهامهم. وأصبح المبتكر عرضة للنكاية أو الاضطهاد، وناهيك بالمعترض على بعض المتقدّمين. خامساً: إهمال المراقبة للعلوم بسبب إطلاق حرية الفكر ماضياً وحاضراً. وقد نشأ عن ذلك طمع من لا معرفة لهم ولا قدرة على خوض مجالاتها، أو الإدلاء بدلائهم فيها بوضع الرسائل والكتب، فأساؤوا للعلم وللمتعلمين. وهذا أمر يقتضي دون شك ذود الجهلة عنها، وصون العلوم من التحريف والتغيير والتبديل وسوء التأويل. تلك هي النظرة الفاحصة لأحوال العلوم، وما لحق بعضها من نقص أو اختلال. وتصوير ذلك تصويراً عاماً يذكر أسباب التأخر فيها، كما قدّمها لنا الإمام الأكبر بعد حسن إحاطة منه بجملة العلوم، وإلمام بقضاياها، وطول مثافنة وتدبّر لها. ولم تكن الأسباب التي ذكرها محصُورة فيما ساقه منها، ولكن اكتفى في هذا المقام بإبراز أهم النقاط، يشهد لذلك قوله: "إن كثيراً من الأسباب قد غاب عني لكنه لا يكون أقوى مما ذكرت". وهو بعد إجماله القول في هذا الغرض الذي يُقصد أساساً منه نقد أوضاع التعليم في عصره بجامع الزيتونة، رأى أن ما قدمه من ملاحظات بعيد عن حسِّ كثير من المدرسين، لكونه مع فوائده الكبيرة لا يمس، على التعيين، علومهم. فدعاه ذلك إلى وقفة جديدة يضع على المشرحة فيها العلوم المتداولة بينهم، وإن تفاوتت في الأهمية، واختلفت فيما نالها من استقرار وجمود، أو إقبال وإدبار من عامة الدارسين والناظرين فيها.

الدروس الأساسية للتعليم بجامع الزيتونة، وبيان طريقة المؤلف في نقد العلوم المقررة

الدروس الأساسية للتعليم بجامع الزيتونة، وبيان طريقة المؤلف في نقد العلوم المقررة: إن العلوم المتداولة متعددة: منها العلوم الشرعية كعلوم التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والكلام. ومنها علوم اللغة المتصلة بحياة اللغة العربية مادة وفنوناً، وعلوم العربية كالنحو والصرف، وأسرار العربية كعلوم البلاغة من معانٍ وبيانٍ وبديع. ومنها ما هو دون ذلك في الأهمية عند شيوخ الزيتونة، وهي العلوم الأخرى التي - رغم كبر نفعها ومسيس الحاجة إليها - لم تحظَ بما تستحقه من العناية بينهم. فلم تبلغ في تدريسها المرحلة المتقدمة أو المستوى المناسب لها في عصرنا، وإنما بقيت جامدة في الأكثر، لا تعدو ما نقله العرب منها عن اليونان، وما وضع لها من مقاصد السابقين. وهذه العلوم هي المنطق وعلم التاريخ والعلوم الفلسفية والرياضية. وقد كان تعامل الشيخ رحمه الله مع هذه العلوم في عرضها، وذكر أسباب التأخر فيها، موحَّداً في تعريفه لأكثرها، وذكر أطوارها وأهم مراحلها، مع الإشارة إلى الأمهات والمصادر المدونة فيها. وذلك ما يَبرز بروزاً واضحاً في تناوله لعلوم المقاصد وعلوم الوسائل. ثم يعقّب ذلك في كل علم من العلوم المشار إليها بذكر ما ألمّ بها من أسباب التأخر، وبما يقترحه من وسائل الإصلاح لها. أما العلوم الأخرى التي أشاد بأهميتها، ودعا إلى ضرورة الإقبال عليها فقد تناولها بطريقة مختلفة ركزت على الإشارة إلى

الأهداف منها، ونبّهت إلى ما هي عليه اليوم عندنا من ضمور بسبب التوقّف عن مسايرة الرواد فيها في البلاد المتقدمة، والانصراف عما ألحقوه بها وطوّروه من محاورها وموضوعاتها ومناهجها. وقد كان الشيخ شديد الحرص في كل ذلك على وضع إضاءات وتنويرات تُوجِّه الأساتذة في إقبالهم عليها، وإلى الإفادة من مطالعاتهم، وضبط تحريراتهم، بالوقوف على ما جدّ من مسائل دقيقة، تمهيداً للاشتغال بتلك العلوم، ومعواناً على تأليف كتب قيِّمة فيها. ولعل في ذكر أسباب الضعف والتأخر في كلا القسمين من العلوم ما يكفي لتعقّب أعمال المتأخّرين، أو تنقيتها مما لحق بها من شوائب، والأخذ بما دعا إليه الإمام الأكبر من أوجه الإصلاح. * * *

أ - من علوم المقاصد

أ - من علوم المقاصد 1 - علم التفسير بدأ المؤلف بتعريفه، وذكر مراحله، وتنوّع مناهج المفسرين فيه، بين تفسير بالمأثور وتفسير بالرأي، ثم باختلاف طرق السابقين في العناية بالقرآن بما رجعوا إليه من علوم لخدمته، واستخراج معانيه كاللغة والبيان وعلوم العربية. وهو ينهي ما أجمله من القول في ذلك بالإشارة إلى أن تفسير القرآن أصبح تسجيلاً يقيّد به فهم القرآن، ويضيق به معناه الذي كان السلف يقولون فيه: "إنه لا تنقضي عجائبه ولا تنفد معانيه" (¬1). ولتقرير هذه الحقيقة من حصر الأفهام، وضعف بيان مراد الله تعالى من كتابه، يذكر أسباب ذلك معقّباً عليها ببيان المنهج الذي يحسن بالمفسرين اعتماده وسلوكه. ¬

_ (¬1) ينظر هذا المعنى إلى قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، وبه ورد قول الإمام علي: هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه. سنن الترمدي: 5/ 172 رقم (2906)؛ وروي: لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه. نهج البلاغة: 47؛ بحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون. نهج البلاغة: 428 - 429.

كلمة عن المفسرين

كلمة عن المفسرين: ومما نعاه الشيخ رحمه الله على المفسرين: أولاً: العناية بالتوقيف والنقل تجنباً للخطأ، ودفعاً للعامة من ولوج باب هذا العلم الذي يحتاج إلى تأهّل وسابق إعداد للمشاركة فيه. ومن الملاحظ أن كثيراً من أصحاب هذه السِّمَة كانوا يتساهلون في نقولهم، وإن كانت ضعيفة، ويتجنّبون اعتماد الرأي، ولو كان صواباً. وهكذا وقع منهم الاستشهاد بكثير من روايات الوضّاعين عن ابن عباس، أمثال الكلبي ومقاتل والضحاك، كما نقلوا عن الإمام علي أخباراً ضعيفة لم تصحَّ، واهية الأسانيد، وقد ظهر الاهتمام بالنقل في ذكر أسباب النزول، مما صرف ألفاظ القرآن عن معانيها، واقتباس غير المراد منها من كتب الوعاظ وغيرهم. وهنا لا بد من تحرير القول في معنى الرأي. قال ابن عطية: الرأي الذميم الذي لا يعتمد هو أن يسأل الرجل عن معنى فيتسوّر عليه برأيه من غير نظر فيما قاله العلماء، أو اقتضاه قانون العلم. وليس يدخل في هذا تفسير اللغويين لغته، والنحويين نحوه، والفقهاء فقهه. فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلاً بمجرد رأيه. وهذا هو الصحيح. وليس المراد ألّا يتكلّم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة قد فسّروا واختلفوا، وليس كلّ ذلك سمعوا. الثاني: عدة سمات منها: ضعف العلم باللغة والبلاغة. فإن قليلي البضاعة منهما لا يقدرون على شيء في هذا العلم، لأنه لا يتم تعاطيه وإحالة النظر فيه إلا بحذق الفنَّيْن. قال الجاحظ في كتابه نظم القرآن: "لا يمكن لأحد أن يغوص على شيء من حقائق الكتاب إلا رجل برع في عِلميْن مختصين بالقرآن هما المعاني والبيان، بعد أن

يكون آخذاً من العلوم بحظٍّ. وهو مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقَّادها" (¬1). ويؤكد هذا المعنى السكاكي بما ذكره في مقدمة مفتاح العلوم: "وفيما ذكرنا ما ينبّه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم، تعالى وتقدَّس، من كلامه، مفتقر إلى هذين العلمين: المعاني والبيان، كلَّ الافتقار. فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيهما راجل" (¬2). ومنها اعتبار القرآن إشارات، تَظهر بتفكيك اللفظ القرآني، كما فعلت الباطنية والإسماعيلية، ومن جرى مجراهما من الصوفية، أو بتحريف الكلم عن مواضعه، كما فعل غلاة الشيعة. ومن هذه التفاسير تفسير القاشاني الباطني، ومنها أيضاً تأويلات المتشبّهين بالعلماء الذين تؤثر عنهم أقوال غثة وأفهام رثة، فيما حاولوه من تفسير القرآن. الثالث: الضعف في علوم يظنّونها بعيدة عن القرآن وهي ضرورية لإدراك مراميه ومعرفة عظمته، مثل التاريخ وفلسفة العمران والأديان والسياسة. الرابع: عدم الاهتمام بالعلوم المساعدة ذات العلاقة بالتفسير للكشف عن معاني الآي، والاشتغال بمسائل علوم ليست ذات صلة أو ضعيفة المناسبة. وقد مثل الإمام الأكبر بالتفسير الكبير للإمام الرازي في هذا الصنيع قائلاً: فجاء كتابه بعيداً عن غرض المفسّر. ومنهج الإصلاح لعلم التفسير أو كتابته ينبني. على طلب الصحّة ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 188 - 189. (¬2) السكاكي. مفتاح العلوم: 162.

للتفسير، ومعرفة طريق استمداده، وتعميق أغراضه ودلالاته، وتوثيق الأفهام فيه، واجتناب كثير من المحاذير التي تَزِلُّ بها القدم، ويبتعد بها المفسر عن أصول صناعته. وهذه الحقائق تذكّر بما اعتاد كثير من العلماء بيانه لتحديد الغرض من التفسير بعامة، وذكر شروط المفسر. وإذا كان التفسير، كما قال الإمام الأكبر، هو شرح مراد الله تعالى من القرآن، ليفهمه مَن لم يصل ذوقه وإدراكه إلى فهم دقائق العربية، وليعتاد، بممارسة ذلك، فهمَ كلام العرب وأساليبهم من تلقاء نفسه، فإن المفسر أمين على إبلاغ الناس مراد الله من كتابه، ولا يتأتّى له ذلك إلا بمعرفة اللغة وعلومها، وتصوره الدقيق لاستعمالات العربية فيها، والممارسة لجملة من فنونها، ارتياضاً بها، وحذقاً لتصرّفات القول حذقاً يصل به إلى اكتشاف مغالق المعاني وأسرار البيان وخصائص التعبير لدى الأمة من أهل هذه اللغة الذين خاطبهم الله بلسانهم، وأنزل عليهم كتاباً عربياً مبيناً لا يَخْلَقُ على طول الردِّ. فصحة التفسير يكفلها شرح التراكيب القرآنية ببيان المقصود من ألفاظ القرآن بحسب ما جرى عليه استعمالها في اللغة العربية. واستمداد ذلك يكون باجتذاب المعاني من الدلالة اللغوية للألفاظ، ومن التصرّفات القولية التي وردت بها تراكيبه، ومن الحس بها، والإدراك للخصائص البلاغية التي تتّسم بها تلك التراكيب. ولا يتأتّى للمفسر أن يغوص على أسرار الكتاب، ويتعمّق معانيه إلا متى اكتمل إدراكه لنظمه البديع، فيتجه به كل اتجاه لتصوّر محامله، والوقوف على احتمالاته مهما تعددت. وما من شك في أن لثقافة المفسر في هذا أثراً كبيراً في

2 - علم الحديث

التوصل إلى الغاية من عمله، ولا يعوقه تحقيق هذا الغرض إذا ما تأيَّد بالمقالات النفيسة لأئمة هذا الفن من المتقدمين والمتأخرين، شرط أن تكون نقوله عنهم غير مجافية للأصول ولا للعربية. وبجانب هذا كله حذّر الشيخ ابن عاشور من جملة محاذير يضعف بها التفسير ويسخف ويفسد ويبطل. ومثل ذلك كثرة الاستطرادات، والاندفاع إلى بيان أغراض ليست من مفادات التراكيب القرآنية. فهذا لا يكون تفسيراً، وإنما هو ضرب من التدليس على المطالعين ممن لم تبلغ بهم مراتبهم العلمية مبلغ التمحيص، وتضليلٌ لعامة المسلمين. وكذلك الاقتصار في التفسير على بيان المعنى بحيث يكون عمله بمنزلة نقل الكلام وترجمته من لغة إلى لغة أخرى، فلا يفيد طلاب الهدي الإلهي، ولا شداة المعرفة بالقرآن الكريم. 2 - علم الحديث ويراد به فيما أطلق عليه: حفظ ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، وما نقل عن أصحابه من سنته وسننهم الراجعة إلى التأسّي به، كما أنه يطلق في الأعم على ما يشمل فنوناً خمسة هي: متن الحديث، ومصطلحه، وصفات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودلائل نبوّته، وسيرته وغزواته. ولا بد من ملاحظة ما مرّ به العلم من مراحل الرواية والتحمّل والتبليغ والتصنيف. وقد خالط ذلك ما أساء إلى هذا العلم من تدليس ووضع وكذب ممن كان عاجزاً عن الاشتغال به رواية ودراية، نقداً واستنباطاً. وذلك بسبب طلب الشهرة وعلو المنزلة العامة، وهذا من صنيع الوعاظ والقصّاصين وأنصار المذاهب والنِّحل.

أسباب الأخلال في علم الحديث

وحماة السنّة والذائدون عنها المحققون لها لم يَأْلُ أحدهم جهداً في نقد الرواة، والتعديل والتجريح، وضبط الأسانيد الصحاح. فوضعت بذلك شروط التخريج، وبينت معاني الحديث، ووَضَع الكتب في مصطلح هذا العلم عمداؤه، حتى أصبح علم الحديث أكثر العلوم الإسلامية إتقاناً وإحكاماً، وكتُبُه أسلمَ من الأخلال التي لحقت غيرها من التصانيف. أسباب الأخلال في علم الحديث: ولم يعدّ الإمام الأكبر أكثر من سببين دخل عن طريقهما الأخلال بعلم الحديث هما: أولاً: اغترار الناس بحسن أحوال الرواة من غير نقد، ووقوعهم في مصيبة الذهول، وإن سلموا من مصيبة التدليس والغرور. الثاني: قصور الهمم عن مزاولة علم الحديث مزاولة نقد وضبط، والاكتفاء بالإجازات في الاهتمام به وتحقيق الانتساب إليه. ومن خلال السبب الأول بالخصوص تحدّث الشيخ رحمه الله عن الوضّاعين بمختلف أنواعهم ونوازعهم ودوافعهم، وما ظهر على أيديهم من بوارق الكذب، بالتدليس في الأسماء، وبحذف من يتهمه الناس من رجال الإسناد في مروياتهم، وبما يزيدونه في الأحاديث الصحيحة من كلام غير ثابت. وأمر التدليس متفاوَت فيه فيمن وُسِم به. وكذلك انتشرت المراسيل، واقتضت تمحيصاً ونظراً من أصحاب الخبرة والعلم بالرواية. وقيّض الله لنصرة سنّة نبيه وتشريعاته علماء الملة بانتصاب أهل العلم لضبط السنن وتحقيقها، خوفاً على عامة المسلمين من الانزلاق في الأخطاء، وتحمل الأحاديث الموضوعة والمدلسة، بإيلافهم الدجالين، واستماعهم لهم والرواية عنهم.

وقد انتصب الإمام مالك والبخاري ومسلم ويحيى بن معين ومن سار على نهجهم لرد ما انتشر من الضلالات والإفك، وكانوا يتشدّدون في البحث عن عدالة الرواة. ولم تسلم أكثر المستدركات على البخاري ومسلم، عند الإمام الأكبر، من التساهل في الرواية لا سيما مستدركات الحاكم والبيهقي. هذا وقد كان للسببين المذكورين فيما لحق علم الحديث من اختلال، أثر كبير في الفقه والعقائد وآداب الدين. ولا بدع إذا وجدَ ذلك كلُّه مواجهةً ورداً من الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة الهدى رحمهم الله. فقد روي عن عمر أنه حين روي له حديث فاطمة بنت قيس في نفقة المعتدّة قال: "لا نترك كتاب الله وسُنّة نبيّه لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت" (¬1). وقدّم الإمام مالك القياس الجلي والعملَ الثابت بالمدينة على خبر الواحد الصحيح. ونبّه الإمام الشافعي إلى أن السنة لا تُخصّص القرآن ولا تنسخه. ومن الفقهاء والمتقدّمين مَن ردّ الحديث الغريب كابن عبد البر. ويمكن أن نخلص من هذا إلى بيان وجه الإصلاح في عصرنا لعلم الحديث. وذلك: أولاً: بسدّ باب التسامح في إيداع الأحاديث الضعيفة كتبَ الحديث، فإن في الأحاديث الحسان بلاغاً لطالب الفضائل. ثانياً: بطرح الاشتغال بضبط أحوال الرواة بعد ما فحص الحفاظ صحيح الحديث من عليله. ¬

_ (¬1) مَ: 2/ 1118 - 1120.

3 - علم الفقه

ثالثاً: بالاقتصار في الرواية والنقل على ذكر الصحابي راوي الحديث، وبيان درجة ما رواه في نظر أهل النقد، كما فعل السيوطي في الجامع الكبير. رابعاً: بتذييل ذكر الحديث بمنازع علماء الفقه في الاستنباط، وهو ما درج عليه إمام دار الهجرة في مُوَطَّئِه. 3 - علم الفقه هو العلم القائم على استنباط العلماء تفاريعَ الأحكام من القرآن والفقه في جميع الشؤون التي تدعوهم إليها الحاجة، فبيَّنَ المؤلف ابتداءً قيام هذا العلم ونشاطه من عهد النبوة، وتصدُّرَ ذوي الشأن فيه، ممن تميّز بجودة الفهم وأصالة الرأي لإذاعته وضبط أحكامه. وقد تبع نبغاء فقهاء الصحابة أتباعُهم في بلاد كثيرة بالمدينة والكوفة وبلاد الشام. وكان الداعي إلى العناية به تحقيق العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وكان الباعث على تدوينه حفظ ما تجمع لهم من الآراء في ذلك، ليحفظوا على الناس أزمانهم في عمل قد قضّاه فيها من قبلهم، مع الاحتياج في هذه الصناعة إلى صفات، يقل اجتماعها، من قوّةِ الرأي، وفهمِ أساليب العرب، والشعورِ بمقاصد الشريعة، وصفة العدالة، والفراغ من الشغل بغير علم الشريعة. وبعد ذكر أوصافهم من التمحيص، والدّقة، والحذر من التشديد في الأحكام، أو الجزم بها عندما تكون قوية الظن، ينتقل المؤلف إلى تقسيم كتب الفقهاء وطرائقهم في الفقه إلى قسمين: الأول: تذكر فيه الفروع وأنواع الحوادث مذيّلة بأحكامها، كما يظهر ذلك في مدوّنة مالك وجامع محمد بن الحسن الشيباني.

والثاني: تذكر فيه الكليّات الفقهيّة (الأصول القريبة)، وتُفَرَّع عليها المسائل الجزئية كما هو صنيع القرافي في فروقه، وابن نجيم في أشباهه. وسبق هؤلاء وتبعهم عدد من الفقهاء إلى هذا الصنيع مثل العز بن عبد السلام والمقرّي والونشريسي. وقد نبّه إثر ذلك، في بيان أطوار هذا العلم، إلى أن طريقة التفريع كانت أقرب وأسهل، وأن جهد أكثر المؤلفين كان مقتصراً عليها، منصباً على التقديرات وتكرير الفروع. وقد أتى الفقهَ من هذا الوجه أقدمُ فساد أَوجبَ تأخّره حين طمع القاصرون في روايته من غير نظر في علم الفقه، فلفت المؤلف النظر إلى أن جماع التشريعات تضمّنها الكتاب الكريم. فالقرآن تبيان لكل شيء، وجعل دورَ الفقهاء استنباطاً لتفاريع الأحكام منه في جميع الشؤون التي تدعوهم إليها الحاجة، وبدون خدمة علوم أخرى، وأصبحت مسائله صوراً لها أحكام، تؤخذ مسلمة من كل من يقف عليها. ولا ينكر الشيخ رحمه الله الحاجة إلى التفريع وإلى توضيح المشكلات؛ وإنما الذي ينكره هو حصر مسائل الفقه في ذلك. وربما زاد الأمرَ إشكالاً عنايةُ بعض الفقهاء بنقل الخلاف المذهبي، وذكر الأقوال الكثيرة في المسألة الواحدة. فتشتَّتَتِ الأفكار واختلفت الأفهام. ولولا تصدّي أمثال ابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب ومحمد بن بشير إلى مواجهة هذا الوضع بالترجيح بين الأقوال المختلفة لصعب على الناس تعاطي الفقه. ومن أجل زيادة بيان وضع هذا العلم، أولى الإمام الأكبر تقرير هذه الحقائق عناية خاصة بتفصيل القول في ذكر أسباب تأخّره، وبيان طرق علاجه، بضرب الأمثلة على ذلك من عمل المهرة من متقدمي الفقهاء.

تأخر العلوم الفقهية وأسبابه

تأخر العلوم الفقهية وأسبابه: ومن أسباب اختلال هذا العلم: أولاً: التعصّب للمذاهب، والعكوف من أصحابها على كلام أئمتهم واستنباط الأحكام منه بالالتزام ونحوه. وأصبح قصارى عمل هؤلاء نقل الفروع، وجمع الغرائب المخالفة للقياس، ونقل الخلاف. ومضوا على ذلك معطِّلين الاجتهاد والتفقّه في الدين. وقد ذكر الباجي مقالة الإمام مالك في هذا. قال: "لا أعلم قوماً أشد خلافاً على مالك من أهل الأندلس، لأن مالكاً لا يجيز تقليد الرواة وهم لا يعتمدون غير ذلك" (¬1). ورد المقّري في قواعده على الاتجاه نفسه من التعصب للمذاهب بوضع الحِجَاج على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ أو المرجوحية، فإن في ذلك بعداً عن النصفة للحق، وتثبيتاً للخطأ في الفقه، وإيثاراً للهوى على الهدى (¬2). وقد أنكر هذا التصرف كافةُ العقلاء، وقال أبو العلاء: فمجادل وصلَ الجدالَ، وقد درى ... أنّ الحقيقة فيه ليس كما زعم (¬3) ثانياً: مقاومة النظر في الفقه بمنع الترجيح والتعليل، والتشنيع على من يقوم بذلك، واتهامه بإرادة إحداث مذهب جديد، أو قول ثالث. وهذا من المغالطات التي يعتمدها العَجَزَة، وذوو الحظ القليل من العلم. ومما يُبطل جمودهم على منهجهم صنيعُ سحنون، ¬

_ (¬1) المقري. القواعد: القاعدة 122، 1/ 351. (¬2) القاعدة التاسعة والأربعون بعد المائة. المقري: القواعد: 2/ 397. (¬3) البيت ثاني بيتين من مقطعة رباعية. والبيت الأول منها: ما للأنام وجدتهم من جهلهم ... بالدين أشباه النعام أو النعم اللزوميات: 2/ 372.

رحمه الله، بإخراجه فروع المدوّنة مذيّلة بأحاديث صحيحة تخالفها، تنبيهاً على أنه مختار غيرَها. وفي غلق باب النظر مانع من تعليل الخلاف، ومن التوصّل إلى توحيد المذهب، ومن القدرة على الاجتهاد في أحكام محدثاتٍ كثيرة. ودليل بطلان هذا المنحى لدى الفقهاء أن أئمة المذاهب راعوا في المستنبطات الاجتهادية المصالح والمفاسد، ومقاصد الشريعة في الخلق، وحاجات الأمة وعوائدها، ودفع الشتات. ومما يحقّقه النظر ويساعد عليه تحسينُ الحالة العمومية في تصاريف الأقضية الشرعية، وأحكام المعاملات المدنيّة والمنافع الاجتماعية، ذهابُ هذا الناقد المصلح، مقبلاً غير مدبر، في قضايا آمن بها، ومارسها وأَسْهم في الاشتغال بها. فهو يعدل عن التلفيق فيها، وعن استنباط الأحكام من كلام الأئمة بشأنها، لكون هذا مردوداً، نبّه على ذلك المقّري في غير ما موضع، في ما نصّ عليه من أن نقلَ القول وعزوَه إلى المذهب يحتاج إلى دراية وخبرة. فليس كل كتاب يمثل المذهب. وإنما هناك كتب اعتمدها الفقهاء والمفتون، وأخرى حذّروا منها. قال المقري في تفصيل هذا المعنى: "ولمّا غلب وصف التقليد في الناس جنحوا إلى القال والقيل، إذ لم يسمع منهم إلا ما نقلوه عن غيرهم لا ما رأوه من عند أنفسهم، حتى كان العز بن عبد السلام يقول بالرأي، فإن سئل عن المسألة أفتى فيها بقول الشافعي ويقول: لم تسألني مذهبي. وإنها لإحدى كُبَر دواهي التقليد. فالتقليد مذموم، وأقبح منه تحيّز الأقطار، وتعصب النظَّار. فترى الرجل يبذل جهده في استقصاء المسائل، ويستفرغ وسعه في تقدير الطرق وتحرير الدلائل، ثم لا يختار إلا مذهب من انتصر له وحدَه، لمحض

التعصّب له، مع ظهور الحجّة الدامغة، ثم ينكف عن محَجَّتِها إلى الطرق الزائغة، فلا يحمل نفسه على الحق إذا رآه، لكن يطلب التوفيق ولو على أبعد طريق بينه وبين هواه" (¬1). كما أنه لا يعتمد عمل أي فريق من العلماء بتونس أو فاس أو الأندلس، ولكنه يمضي في النظر والاجتهاد بالتزام قواعد النحارير في هذا المجال، معلناً موقفه من جمود الجامدين قائلاً: ولا علينا إذا أخطأ الجاهلون، فإنهم من الآن في ظلماتهم يعمهون (¬2). وتَتْبعُ هذه الأسباب أسبابٌ كثيرة أخرى منها: ثالثاً: عدم العناية بجميع النظائر والقواعد للفروع بذكر الحكم الجامع، فيستغنى بذلك عن كثرة التفريع. رابعاً: إهمال النظر في مقاصد الشريعة لتحرير المذاهب وإطلاقها ودعم النظر الاجتهادي، كأمر الخليفة الأول بجمع القرآن، وحماية الخليفة الثاني للحمى، وجمع عثمان للمصحف، ومغادرة الإمام علي إلى الكوفة، والحرص على جمع تلك المقاصد لتدبّرها ¬

_ (¬1) الونشريسي: المعيار: 2/ 483. (¬2) ينظر المؤلف في هذا إلى قول ابن العربي: ولما استمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، فكلّ مَن تخصَّص لم يقدر على أكثر من أن يتعلق ببدعة الظاهر، فيقول: اتبع الرسل. فكان هذا عوناً على الباطل. وذلك بقدر الله وقضائه. ثم حدثت حوادث لم يلقوها في منصوصات المالكية، فنظروا فيها بغير علم فتاهوا، وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف، حتى آلت الحال أن لا ينظر إلى قول مالك وكبراء أصحابه. ويقال: قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طلبيرة وأهل طليطلة. فانتقلوا من المدينة وفقهائها إلى طلبيرة وطريقها. ابن العربي: العواصم من القواصم: 2/ 202 - 207.

4 - علم أصول الفقه

والانتفاع بها كما يشهد لذلك عمل الغزالي وابن العربي والشاطبي. فإن في انتفائها في مجال تقدير الأحكام جموداً للفقه، وحصراً لوظيفته، ومعولاً ينقض أحكاماً كثيرة نافعة. خامساً: ضعف الفقهاء في جملة من العلوم ضعفاً يورث قصوراً في الاستنباط كعدم العلم بالسنّة واللغة وأصول الفقه، وبعلوم الاجتماع وحاجات الأمة. سادساً: الانكباب على الكتب المعقّدة المشتَّتةِ مباحثُها، المحتاجةِ إلى الشروح والحواشي والهوامش؛ مثل خليل وشروحه - وهو شأن كثير من مصنفاتنا في العلوم الإسلامية - مع وجود المهذب من الكتب مما هو أقرب وأوضح وأفيد، كمختصر ابن الحاجب. وقد مثّل بمختصر خليل وما تبعه مراعاة لانتشاره بين أكثر الطلبة عدداً، وهم من المالكية. سابعاً: اختلاف الفقهاء في أصول الاستنباط كالذي عليه الأمر في أصول الفقه بين أصحاب المذاهب. ثامناً: العناية البالغة بقضايا العبادات، والتقصير في النظر والاجتهاد في فقه المعاملات والأقضية والنوازل وصور التوثيق. والملاحظ أن الإمام الأكبر قد ألمع، في غضون حديثه عن أسباب تأخُّر علم الفقه، إلى جملة من وسائل الإصلاح التي يحتاج إليها لاستعادة هذا العلم صحته ودوره في الحياة العملية. 4 - علم أصول الفقه كان النظر فيه متفرّعاً عن بعض وجوه أسباب الضعف العامة، كما أنه ارتبط بنتائجه الظاهرة بين الفقهاء بسبب امتداد الزمن مرّة، وتعدّد المذاهب أخرى، واجتهاد النظر في المهم من قضاياه.

وضع علم أصول الفقه

وقد كانت الغاية من هذا العلم أساساً ضبط القواعد التي يستطيع العالم بها فهم أدلة الشريعة، ثم استخدَامها لاستمداد الأحكام الشرعية منها. وربما ثَنَّوا على هذا بأنه بحكم بحثه في الأصول والقواعد العامة يمكنه جمع ما تتفق عليه الآراء بين الفقهاء ودفع الخلاف في الفقه. هذا وقد مرّ علم أصول الفقه بمراحل كان في أوّلها في كتب السلف صوراً من الجدل الفقهي. فمسائل الأصول والجدل كان مخلوطاً بعضها ببعض، ولم يظهر هذا العلم متميّزاً ومفرداً بالتأليف إلا في رسالة الإمام الشافعي. وتعدّدت المحاولات فيه للكشف عن الأصول وضبطها في مختلف المذاهب. وظهر كتاب الإشارة للباجي. وبدت التصانيف في هذا العلم متنوّعة بين شافعيّة ومالكية وحنفية، وما يكثر فيها الحجاج ككتب الباقلاني والغزالي والباجي، وأخرى سلك أصحابها سبيل الإيجاز والاختصار كملخّص القاضي عبد الوهاب ومختصر ابن الحاجب. وضع علم أصول الفقه: ومثلما عرضت للفقه وغيره من العلوم جوانبُ الضّعف كالتي فصّلنا القول فيها قبل، نجد علم أصول الفقه قد تأثّر في تأخّره ببعض ما أوردناه من الأسباب العامة مما نبّهنا عليه في علمي التفسير والفقه. وأبرز هذه الأسباب: أولاً: تأخّر تدوين هذا العلم عن علم الفقه، فجاءت قواعده أحياناً مخالفة للفروع بحسب تباين المذاهب. ومن ثم ظهرت في أقوال العلماء سمات الاطِّراد والاختلاف والنقض بين تلك القواعد ومسائل الفقه عندهم. ولا يصحّ هذا بعد إمعان النظر، وإنما هو

الترتيب الزمني للفنَّيْن، وتأصيل الأصول بعد ضبط أحكام الفروع. ثانياً: اشتمال مادة علم الأصول، وهو علم آلات الاجتهاد، على كثير من المسائل الأجنبية عنه، من علوم المنطق والنحو والكلام وغيرها. فالغزالي أكثر في المستصفى من إيراد المسائل المنطقية، وتبعه في ذلك ابن الحاجب، فخصّ قسماً من مختصره الأصلي بمسائل هذا العلم. وذكروا في نفس كتب علم الأصول مسائل لا طائل من بحثها فيه، مثل معاني الحروف والاشتقاق والوضع والترادف والدلالات بأنواعها. ومثل تعبد النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرع من قبله قبل نبوءته، ومسألة أقل الجمع، أو التكليف بالمحال وغيرها. وهذا ما تخلّص منه الإمام الشاطبي في موافقاته واعتبر الخوض فيه من العبث. ثالثاً: إغفال المؤلِّفين فيه ذكر مسائل مهمّة، أبرزُها المقاصد الشرعية التي هي بحق منهج من مناهج الاجتهاد، وطريق من طرق ضبط الأحكام الشرعية في القضايا المستجدّة، مكتفين من ذلك بما أوردوه منها في مسالك العلّة، مثل مباحث المناسبة والإخالة والمصلحة المرسلة، حتى جاء الشاطبي ففتح الباب على مصراعيه، وجعل جزءاً كاملاً من كتابه قائماً على بحث هذا العلم وتتبع مسائله وقضاياه. رابعاً: غلق باب الاجتهاد، وتحجير النظر في علم أصول الفقه، حتى كاد أن يَنْسَى الطلابُ مسائله وقضاياه، لولا تولّي الشيخ ابن عاشور الأول تدريس المحلّي على جمع الجوامع، والشيخ سالم بوحاجب تدريس العضد على مختصر ابن الحاجب. فبهذا انتعش علم أصول الفقه بجامع الزيتونة، وعاد الطلاب إلى الاعتناء به.

5 - علم الكلام

5 - علم الكلام عرّف الشيخ ابن عاشور علم الكلام بكونه العلم الذي يعرف به إثبات العقائد الإسلامية بإثبات الحجج ودفع الشبه. ومن المصطلحات التي تطلق بإزائه ما وراء الطبيعة أو الإلهيات عند اليونان، وعلم العقيدة والتوحيد عند جمهور كبير من المسلمين. وهذا العلم توجبه الفطرة، ويقتضيه النظر. نبّه إلى ذلك القرآن الكريم في قوله عز وجلّ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). وخالف في اتباع سبيل المؤمنين أقوامٌ غلبت الحيرةُ عقولَهم، واستهوتهم الأهواء، فتساءلوا عن الذات، وعن مصدرِ وجودِها، وعن النهاية التي تلحق هذا الوجود. وقامت هواجس الشك والبحث والنقد، وتعدّدت الآراء منذ القدم تبعاً لوفور الأدلة، مصيبة ومخطئة، وثارت المجادلات بين الناس. وحسم الأمر في الجاهلية الأولى أولاً بظهور الصابئة التي أثبتت للعالم صانعاً مقدّساً مخالفاً للحوادث، لا يقدر أحد على إدراك كنهه. ولكنهم إلى جانب ذلك اتخذوا وسائط من المقرّبين إليه للتعرّف عليه، وعبَدوا الكواكب باعتبارها مدبّرة لهذا العالم، ورمزوا لها بصور وتماثيل تشخص أرواحها، فاتخذوا بعلاً رمزاً للشمس. وساد هذا المذهب الاعتقادي بين الآشوريين، وظهر مثله بين المصريين الذين كانوا يعبدون كبراءهم وما يجرّ لهم نفعاً كالنيل والبقر. وفي الجاهلية الثانية ظهرت الفلسفة والماورائيات، وتعدّدت المذاهب المختلفة بين طاليس وبيتاغورس وأفلاطون وأرسطوطاليس. ¬

_ (¬1) الروم: 30.

العقيدة الإسلامية ومدارس علم الكلام

وعلى أساس الخلافات بين رواد فلسفة الاعتقاد عند اليونان انتشرت أفكارهُم واتجاهاتُهم الفلسفية النظرية، مُتسربة إلى العرب قبل الإسلام، متميّزة ومفارقة للمنهج الديني الرباني الذي كان سائداً في أواخر عهد الصحابة لظهور الطوائف أو الفرق التي كان منها نفاة القدر. وقام النزاع على أشدّه بين السنة والمعتزلة يتقدم أولئك الحسن البصري حامي حمى العقيدة الإسلامية، ويتقدَّم أصحاب هذه الفرية معبدُ الجهني وغيلانُ الدمشقي ويونسُ الأسواري. العقيدة الإسلامية ومدارس علم الكلام وهكذا اختلطت بين الخاصة والعامة في بلاد الخلافة المذاهب العقدية السليمة الصافية المستمدة من الذكر الحكيم ومن السنّة الصحيحة النبوية بآراء الفلاسفة وأصحاب النِّحل، فلزم أن ينتصب للردّ عليها عدد من المتكلمين العارفين بالسنّة، والقادرين على إبطال تلك الفلسفات من سنة ومعتزلة وغيرها. وافترقت الأمة بعد ذلك أربع فرق: الأولى: التي رفضت البحث والفلسفة. وتمسكت بظواهر الشريعة مثل السلف والمالكية والحنابلة والظاهرية وغيرهم. الثانية: رفضت الشريعة معتمدة مقالات الفلاسفة والأخذَ بها، وهم الملاحدة. الثالثة: طائفة أوّلت الشريعة وطوّعتها لموافقة الفلسفة كالباطنية والحكماء. الرابعة: طائفة مقابلة لها أوّلت الفلسفة وطوّعتها لتوافق الشريعة. ومن هؤلاء الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والشيعة.

ومن هذه الصورة المختصرة جداً، التي تشي بالغليان الفكري الذي أوجده اختلاف الملل والنحل في ذلك الوقت، وبما كان لرؤساء هذه الفرق من تأثير بالغ في كثير من الأوساط الشعبية التي تنازعتها نماذجُ مذاهب الباحثين في الكلام والعقيدة. أولها: مذهب أهل السنة، من سلفية وخلَفية، الذي يقوم على المصادر الأساسية الإسلامية التي ألمعنا إليها قبل. وأصحاب هذا الاتجاه هم الصحابة والتابعون وتابعوهم ومن نهج منهجهم بعد ذلك من أهل الحديث ومتقدمي الفقهاء والحنابلة والظاهرية. ثانيها: مذهب المكفِّرين بالكبائر. وهم الخوارج. وخالفتهم المعتزلة وهم فلاسفةُ المتكلمين القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، والذين كانوا حريصين على إثبات العقائد بالأدلة البرهانية، وأفرطوا في ذلك. ثالثها: مذهب القائلين بالقَدَر والجبر. وقد انساق وراءهم جمهور المتصوّفة الذين زيّنوا للعامة مقالاتهم. وتوسَّطت بين هذه الفرق فرقة رابعة كان منزعها تأييد مذهبها الشرعي بالفلسفة. وقامت مدرسة هؤلاء على الأشعرية والماتريدية فتعرضوا لسخط السلفيين الذين اعتبروهم من المرجئة، ولغضب المعتزلة الذين اتهموهم بالجبرية. ولإقبال أكثر هذه الفرق على الفلسفة وآلتها وهي المنطق، تعرّضوا لنقد كبار العلماء ممن ذموا الفلسفة منذ القديم لزلزلتها أصول الإيمان الفطري والأدلة الإقناعية، كما لقوا من خصوم آلة المنطق التي استخدمها الفلاسفة مَن أوسَعهم ذماً كالإمام الشافعي الذي يقول: "إذا سمعت أحداً يقول: هل الاسم عين المسمّى أو غيره؟ فاعلم أنه من أهل الكلام ولا دين له" (¬1). ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 208.

وممّا روي عنه في ذمّ علم الكلام قوله: "ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما توهّمته قط، ولأن يُبتلى المرء بجميع ما نهى الله عز وجل عنه، سوى الشرك بالله، خير من أن يبتليه الله عز وجل بالكلام" (¬1). وقال الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل منكَّسين، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة وأخذ بالكلام" (¬2). ومما رووا عنه في ذم الجدل: لم يبرح الناس حتى أحدثوا بِدَعاً ... في الدين بالرأي لم تُبعث بها الرسلُ حتى استخفّ بدين الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغل (¬3) إن هذه المعركة الكلامية تنطفىء معها أصول العقيدة السمحة، وتكاد تنمحي بسبب غلبة الجدل والمناقشات الفكرية التي سندها طُرقُ البحث والنظر الشائعة يومئذ. وفي هذا يكمن تدلّي علم الكلام واحتياج الأمر فيه إلى التنبيه على جملة أسباب يتأكد الانصراف عنها وتحاشيها لرجوع هذا العلم إلى حقيقته بين المسلمين، وقيامه بوظيفته لديهم. فمن ذلك الاختلاف في الاصطلاحات والصفات وتعددها، والغلو في التنزيه، والقول بما لا يعقل واعتقاده، والتنابز وإلزام لوازم المذهب، وإدخال أشياء في التوحيد ليست منه. وقد قامت حركة محاولة الإصلاح أولاً على يدي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين عبد الملك الجويني حين فصلا الفلسفة عن الاعتقاد، ووجَّها هذا العلم بتوجيه العقيدة الإسلامية بما يوافق الحجج المنطقية، ثم بسلوك الإمام الغزالي في الصراط المستقيم ¬

_ (¬1) الرازي: مناقب الإمام الشافعي: 99. (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق: 100.

وابن السيد البطلوسي في كتاب الإنصاف منهجاً يقي الخلق من ضلالات الخلاف. واقترح الغزالي أن تساق للعامة في العقيدة الأدلة الإقناعية، وللخاصة جملة من الأدلة بحسب السن والعلم لتفادي التقليد في الدليل والمدلول. وهو ما لا يمكن لصحة العقيدة. وذهب أحد المتأخّرين عند تحديده - في بعض محاضراته - علمَ الكلام، إلى القول بأن من يعلم علم الكلام على طريقة تكفل له الانتفاع به في الوصول إلى اليقين والإيمان، يمتلىء قلبه خشية من الله. ويكون ذلك بإطلاق النظر في آيات الله في الآفاق حتى يَبلغ الغاية. * * *

ب - من علوم الوسائل

ب - من علوم الوسائل بكثير من العمق ونفاذ البصر في فحص مواد هذه العلوم كان نقد الإمام لعلوم الوسائل التي أتقنها أجودَ إتقان. ووقف على أنواع التصانيف فيها، ومارسها ممارسة طويلة بسعة فهم وقوة حفظ وإبداع تأليف. وكان تعرّضه لجملة فنون اللغة العربية في مراحل قوتها وأطوار ضعفها. فأقبل على دراسة مادتها، وبيان أسباب تدنّيها وانحطاطها، معقّباً على ذلك ببيان طرق إصلاحها. وكذلك كان تدبّرهُ وبحثُه لفنونها الأدبية من شعر ونثر، ونظرُه في أساليب الكلام، عند العرب وأئمة فنّ القول، انطلاقاً من نقد علوم العربية نحوها وصرفها، وأسرار العربية بجملة وجوهها الفنية والبلاغية، مما كان مطروحاً على ساحة النظر والدرس بين الطلاب، كعلوم المعاني والبيان والبديع لتحصيل النطق العربي السليم، واكتساب الملكة الأدبية والفنية للإسهام في الإنتاج الفكري والأدبي، إسهاماً يربط حياة الفرد والجماعة بحياة اللغة العربية في هذا العصر. ومن بديع صنع الإمام الأكبر تقديمُه نقد العلوم اللغوية والبلاغية بفذلكة فيها تعريف بحياة اللغة العربية، وما مرّت به من أطوار وما امتزج بها وبالعرب من أسباب كانت علَّة تَمايُزِ مراحلها، وموجبَ رجوعها القهقرى أمام الأمراض الاجتماعية التي انتابت اللغة من القرن الخامس، وأنواع الصراعات التي أساءت إليها مادة وجوهراً وقواعد وأسلوباً. فسمج اللسان واعتلّ، وذهب

أسباب تدهور العلوم اللسانية

من اللغة ما كانت تعرف به من فصاحة وإبداع وعمق وإمتاع. أسباب تدهور العلوم اللسانية من أشدّ الأسباب، تأثيراً على هذا اللسان وإضعافاً له وإعجاماً، وجود فئات ثلاث: 1 - كتّاب تلقوا اللسان العربي تلقِّياً علمياً صناعياً لا سماعياً ذوقياً، تشهد لهذا قصص كثيرة أودعها الأبشيهي كتابه المستطرف في جماعة من النحاة تنكيتاً عليهم، بذكر أخطائهم. 2 - الأدباء والشعراء المولَّدون، ممن أفسدوا المجاز والاستعارة، ناسِين أن القصد منهما تخييل المعاني وإحضار صورها في الأذهان. 3 - طائفة من غير المحقّقين أفسدت اللغة بتفسيرها ألفاظ القرآن بقوة معنى الكلام من غير رجوع إلى أصول تلك الكلم ودلالاتها فيما تعارف عليه أهل اللسان مما جرت به الاستعمالات العربية. فترتّب على ذلك كثرة المشترك من الألفاظ، وتداخلت المعاني، واختلطت الحقيقة بالمجاز، وهم في غفلة عن الإبدال في لهجات العرب، مع مبالغتهم وتوسّعهم في معاني الحروف، بما حصل منه التَّشتِيتُ في الأفهام والخلط في المعاني، واستعمال ألفاظ كثيرة دخيلة غير عربية، كما نلمس ذلك في قاموس الفيروزآبادي. وتوقِّي هذه الآثار لا يكون إلا بتتبّع أساليب العرب الفصيحة، والابتعاد عن سقط الكلام وحوشيِّه، ورعونة التعبير والإجحاف فيه، والحفظ والعناية والتمرّس بالقرآن الكريم بصورة تتّحد بها دلالات الألفاظ، وتسطعُ بها في النفس الصور والاستعمالات الرائعة والأساليب البليغة العجيبة.

ولا شك أن بجانب تلك الأسباب، التي ألمعنا إلى طرق تحاميها والتغلب عليها، أسباباً لا ترجع إلى استعمالات الجهلة باللغة العربية وأسرارها، ولكنها عرضت للغة الضاد نفسها لأسباب: أولاً: إشراف الأسلوب العربي على الاضمحلال لتقادم العهد به، واحتكام المتحدّثين به إلى اختيارات شخصية، غير مؤصَّلة ولا مقبولة. ثانياً: سوء التعليم فيها وما تَبِعه من اختلال الأفهام أو جرَّ إليه من استعمالات فاسدة هابطة مختلّة. ثالثاً: البعد عن أمرين ضروريين لعصمة اللسان من الخطأ، هما حفظ كلام العرب من أشعار وخطب، ومعرفة تاريخ أحوال العرب وعاداتها، ثم جريان الكلام على مناهج مقبولة ومعانٍ مستعذبة وتصوّرات دقيقة. وهو ما يحتاجه الأديب والخطيب والكاتب والشاعر. وذلك برجوع هؤلاء إلى كلامِ العرب نثرِه ونظمِه، والتأدّبِ به والتعاملِ معه تعاملاً يضمن صحّة التأليف وسلامة الحس والذوق، وإلمامهم بتاريخ العرب وأيامها وأهوائها وعاداتها وهو ما تتفاوت به الملكات، وتتمايز به القدرات لدى الأدباء الباحثين عن الأساليب الدقيقة، وعن روائع القول البديعة. رابعاً: أخلال القواميس اللغوية، والغفلة عن التفقّه فيها لتنقيتها من اختلاط الحقيقة والمجاز في دلالات المفردات، كما فعل الثعالبي في مقدمة فقه اللغة، والزمخشري في أساس البلاغة. خامساً: صرف العناية عن تحقيق مسميات الأسماء وردُّ ذلك إلى المتعارف عليه والشائع بين الناس منها. وكثيراً ما تكون تلك المسمَّيات لا معروفة على التحديد، ولا مدلولاتها شائعة. ويمكن

الأدب

تدارك ذلك بتتبّع استعمال المتكلّمين بالعربية في مختلف البلاد الإسلامية. وقبل الانتقال إلى فني الإنشاء والشعر، يلفت الشيخ ابن عاشور نظر المتدبّرين إلى أن الأمة إذا سَمَتْ مداركها، وارتقت لغتها، وأُودعت من دقائق الحكمة والشعر والخطابة ما كان به انتصاب أعلامها وارتفاع شانها وتنويه الخاصة والعامة بها، فهي لا محالة مصونة بتراثها، متجدِّدة من نفسها. والعربية جمعت من دواعي الخلود الاعتبارين العلمي والديني. فهي لغة الحضارة الإسلامية، وعن طريقها انتشرت العقيدة في ربوع الإسلام. وهذا كافٍ للتمسك بها والعودة إليها. فهي مقدّسة بقداسة الدين الذي نشرته، ومحصَّنة بما نقلته للأمم والشعوب من الحضارات القديمة وطوّرته، وكذلك بما نمته من علوم إنسانية وطبيعية ورياضية طوال قرون. الأدب وما من شكّ في أنه لا يُقتدر على إحياء اللغة العربية إلا بمخالطة أهلها، واكتساب خصائصهم اللغوية والأدبية. فإن انقطعَ هؤلاء أمكنَ الرجوع إلى الكتب الأصيلة القديمة، وإلى دواوين العرب التي حفظت لنا مجالسهم الرائعة، ورسائلهم النادرة، وخطبهم المؤثّرة، وأشعارهم الساحرة. وفي آخر هذا الفصل يدعو المؤلف إلى: 1 - إنشاء مدرسة خاصة لصغار التلاميذ، يؤدَّبون فيها بتلقين الفصحى والتمرّن عليها، والأخذِ بفنون هذه اللغة من أشعار وخطب ورسائل، مع التعمّق في دراسة القرآن والتخرّج به في مباني الألفاظ وتصرّفات المعاني.

2 - إنشاء جمعية من جلّة العلماء تعنى بإحياء المفردات المناسبة، وتمحيص الحقيقة من المجاز، وتعليق كل لفظ على المعنى المناسب له. وفي ذلك طريق عملي ونافع يُعين على إحيائها وإبراز أهمّ خصائصها. وقبل أن يقف عند علوم العربية وأسرارها، يؤكّد على وجوب العناية بفنون هذه اللغة من شعر ونثر، لتكوين الملكة اللسانية علماً وعملاً وحسّاً وذوقاً. فمعرفة طرائق العرب في ذلك شرط أساسي، وحفظ نماذج من الكلام البليغ يرسم في الفكر أمثلة ومقاييس يسير عليها الكاتب والشاعر، والدربة والممارسة شرط لشحذ الملكة وتعويدها انتقاء الصيغ، وتخيّل الأفكار وأدائها بأبلغ صورة في الكلام المتميّز الذي يخضع لشروط الصحة والإحسان، وضوابط الإحكام والإبداع. والشعر في بداية عصر المؤلف كان يعرف بالكلام المقفّى الموزون. فهم يكتفون بذلك، ولا تنشغل عقولهم بطلب المعاني الجيّدة والمبتكرة. فتوقفُ الشعر عند القوافي والأوزان لا يكسبه أهمية، ولا يسمو به إلى منزلته العالية عند العرب، بل ينزل به على العكس ليكون مجرد نظم. وما الحرص على التفوُّق فيه علماً وذوقاً وممارسة إلا ليبلغ غايته ويحقّق هدفه. وفي إشارات قصيرة نبّه الإمام الأكبر إلى مقوّمات هذا الفن لتنغرس في نفس الشاعر، ولتتجاوب ثقافته مع إنتاجه ومقدرته مع إبداعه. فالشاعر يحتاج إلى معرفة الأوزان لبناء نظمه أتم بناء، وإلى الاختيار من الأوزان والقوافي أطوعَها لغرضه، وأكثرَها تناسباً مع مقامات النظم وحالات التصوير والتخييل اللازمين للشعر، كما يحتاج إلى شيء من علم العروض لعلاج صحة البيت مثلاً، ولا يتكلف حفظه وإتقانه والإحاطة بكل قواعده إذا كان ذا طبع موهوباً

وملهماً. وفي كثرة الأوزان والأعاريض واختلاف البحور وتنوّع القوافي ما جعل الشاعر العربي أروع تخييلاً وأكثر تميزاً من غيره في هذا الفن، لأن الشعر في غير العربية محصور في أوزان محدودة لأغراض مخصوصة. ويتجلّى الشاعر عندنا بمعرفته العميقة بأسرار العربية وأساليبها. وهذا جزء مهم من علم البلاغة اعتمده النقاد للنظر في صحّة المعاني واختلالها، وابتكارها وسرقتها، وبساطتها وتكلُّفها. ولا يبلغ الشاعر من الإحسان أعلى درجاته، ومن الإبداع أرقى صوره إلا إذا التقى لديه حسنُ اختيار المعاني المناسبة للظروف والمقامات التي تدعوه للنظم والإنشاء، وحُسْنُ اللفظ والميزان اللذين يمكّنانه من بديع التخييل وعميق التأثير. والنثر كالشعر، وقع إغفاله والانصراف عن الاعتناء به. وقد كانوا يظنونه كلمات تحفظ وتردَّد في المناسبات. وقالوا: هو غير قابل للتعليم إذ لا قواعد له، ومن ثم وقع إهماله كالتاريخ. وما كانوا يرون في قراءة كلام البلغاء فائدة. فهم يعتبرون ذلك مجرد تظرف. ولم يعلموا أن في مطالعة كتب النثر والشعر من جيد الكلام ومحاسنه ما يورث القراء والمشغوفين بالمطالعة سعةَ في التفكيرِ، وصحةً في التعبير، وفصاحةً في اللسان. وهذا لا يتوقّف على تعلُّم قواعد تدرس، لأن قواعد هذا الفن قواعد إجمالية لتوصيف أحوال الكلام والمعنى. وإنما المعتمد في هذا المجال مخالطة البلغاء والوقوف على آثارهم والإقبال عليها، تفهماً وتذوقاً وحفظاً، ثم محاكاتها والنسج على منوالها والتدرّب عليها. ففي ذلك سر الاقتدار والتأليف في جميع فنون النثر والكتابة. * * *

علوم العربية: النحو والصرف

علوم العربية: النحو والصرف لَزمَ، لتحرير القول في هذين العِلميْن وفيما انتهيا إليه، الوقوف عند مباحث ثلاثة: أولها: تعريف النحو والصرف، ثانيها: تفصيل القصد منهما، ثالثها: بيان ما لحقهما من أسباب الفساد. أما تعريفهما فيقوم على اعتبار النحو والصرف علماً واحداً في الأصل، إذ هما لا يخرجان عن العلم بتركيب اللغة واستعمال مفرداتها، فهما متلازمان. وهذا ما يفسّر تعرّض ابن مالك في خلاصته إلى أبواب كثيرة من التصريف. وإنما اختلف الفنَّانِ عند تخصيص علم النحو بما يبحث عن أحوال الكلم من حيث الإفراد والتركيب في الكلام، وتخصيص علم الصرف بما يبحث عن جوهر الكلمات في الاشتقاق. فعند تفشي اللحن وانتشاره زمن الإمام علي كانت الحاجة ماسة إلى وضع علم النحو. وأما القصد منه فهو: أولاً: حفظ أصول العربية من النسيان. ثانياً: الإعانة على تدبّر وجوه التقديم والتأخير في الكلام، وتصوُّر معاني الحروف، والانتباه إلى محاسن العطف مما شحن به سيبويه كتابه. فكان بذلك عمدة في علم المعاني: واستمداد كثير من قوانين البلاغة. وصرَف الشيخ ابن عاشور النظر عن القصد الآخر من النحو

تأخر علوم العربية وأسبابه

وهو الحاجة إليه في حصول التفاهم؛ كبحث أحوال (ما) وورودها في الكلام بمعانٍ مختلفة من تعجب واستفهام ونفي ونحوه. فإن هذا التمييز بين أحوالها في الاستعمال يمكن أن يقتنص من سياق الكلام، ومما يبرز فيه من قرائن وعلامات. وفي مقابل هذا ركّز المؤلف على أن طلب علم النحو كان من أجل التعرّف على وجوه تحسين الكلام. وذلك ما ظهر في أجلّ طور من أطوار ارتقاء اللغة العربية، ومن ثمّ كانت بداية علم البلاغة والاشتغال بعامة فنونها. وأما علم الصرف فهو الأدخل في علوم اللغة. فإن المتكلم بها من غير إتقانه والإلمام به لا يتمّ له ما يريد من استعمالها، ولا يحصل له ذلك إلا مع طول معاناة. تأخّر علوم العربية وأسبابه إن أسباب اختلال هذين العلمين وانحطاطهما مع تطوّر الأزمنة واختلاف المراحل التي أقبل فيها الطلاب على معرفة فني النحو والصرف فهي: أولاً: إطالة المباحث في العلمين بتبيين العلل والأسباب. وهو ما أقبل عليه الدخلاء على اللغة المعنيون بضبطها المضطرون إلى التأمل في دقائقها. فإن ذلك يجمع عليهم المتفرّقات، ويهديهم إلى خبايا تذكّرهم عند النسيان، وتكشف لهم أسرار الاختلاف عند الاشتباه. وقد نبغ في هذا المولدون من العرب كالخليل بن أحمد والموالي كسيبويه. لكن الاشتغال بذلك في كل مراحل التعليم موجب للتشويش على الأذهان. فكانت النتائج عقيمة. فإن الطلاب كانوا يتخرَّجون،

وقد شَدَوا محفوظات كثيرة من القواعد، وارتسمت في عقولهم جملة من قضايا الحجاج واللَّجاج دون إتقان لحسن التعبير أو رعي لقواعد الفنين. وكم كان ما يدّعونه من وراء ذلك من شحذ الأذهان قميناً بأن يصرف في خدمة مسائل العلوم التي تحتاج إلى التفكير والحل. ثانياً: كثرة الخلاف بين منهج البصريين الذين وضعوا قواعدهم في النحو على أساس القياس، والجمع بين النظائر في الاستعمال، وتأويلهم ما ورد من نادر كلام العرب على خلاف ذلك، ومنهج الكوفيين الذين اعتمدوا كل ما ورد من كلام العرب باعتباره أصلاً معتبراً عندهم في الاستعمال. فذكروا لذلك الشواهد التي تحضرهم في كل مسألة خلافية بينهم وبين البصريين. وقد كان الخلاف شديداً وحاداً بين أنصار المذهبين. فكان أبو حيان الأندلسي، كما قال ابن الخطيب، حاملَ لواء سيف النصرة للدفاع عن نَحْوِ البصرة، وكان ابن مالك الأندلسي أيضاً أقلَّ حدّة منه ولكنه الحكم والعدل بين الفريقين. فناله لذلك من أبي حيان شديدُ الإذاية كلما ذكره في كتبه. ولو تُرك التعرّض لمثل هذه الخلافات إلى المطوّلات، وإلى المراحل العالية، وجرّدت منه كتب التعليم لاستقام أمر تكوين الطلاب وإكسابهم العصمة في اللسان والقدرة على البيان. ثالثاً: الاستناد في تقعيد القواعد لدى المتأخّرين من النحاة، على التمثيل لها بصيغ مصنوعة أو أبيات وشواهد منحوتة أو موضوعة. وقد نجم عن الأولى إقصاء الأذواق، في تكوينها وصقلها عن الاستعمال العربي، وترتَّب على نوعي الشواهد المصنوعة والمذكورة خطأٌ في استنباط القواعد، لأن الأبيات الواردة من ذلك أكثرها موضوع أو منحوت. وهو ما شهد به المؤرخون للغة العربية وآدابها حين أثبتوا انتحال الأشعار، ووضع خلف الأحمر الكثير

منها. وأمثال هذه الأبيات تقصر عن أن تكون أساساً لبناء القواعد عليها، لأن ذلك لا يُعتمد عليه إذا لم يكن ممّا جرى به كلام العرب حقاً. والتقعيد إنما هو لكلام العرب لا لما انتحله الرواة. ومن الخطأ في استنباط القواعد من اللحن ما أوردوه من الأمثلة: 1 - مكرهٌ أخاك لا بَطَل، في لغة من يلتزم الألف في إعراب الأسماء الخمسة. وهذا باطل قد ردّه الجاحظ في البيان والتبيين وعده لحناً (¬1). 2 - قول الشاعر الحماسي: كذاك أدِّبْتُ حتى صار من خلقي ... أنّي وجدت ملاكُ الشيمة الأدبُ (¬2) ففي ظاهر البيت إلغاء لعمل أفعال القلوب عند التقديم، وهو ما يحملهم على تقدير ضمير الشأن أو لامِ الابتداء لتصحيح الكلام. ¬

_ (¬1) من قول نَعامة وهو بيهس رجل من بني فزارة بن ديبان. عده الجاحظ من النوكي. البيان والتبيين: 4/ 17. وفي رد لغة من لزم الألف في الأسماء الستة قال الجاحظ: ومتى وجد النحويون أعرابياً يفهم هذا وأشباهه [مكره أخاك لا بطل] بهرجوه ولم يسمعوا منه، لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد اللغة وتنقص البيان. البيان والتبيين: 1/ 162، 163. (¬2) البغدادي. الخزانة: 9/ 139، 142، 10/ 335؛ الشنقيطي. الدرر اللوامع: 2/ 257؛ السيوطي. الأشباه والنظائر: 3/ 3؛ ابن هشام. أوضح المسالك: 2/ 65؛ ابن هشام. تلخيص الشواهد: 449؛ الأشموني: 1/ 160؛ خالد الأزهري. شرح التصريح: 1/ 258؛ المرزوقي. شرح الحماسة: 1146؛ ابن مالك. شرح عمدة الحافظ وعدّة اللافظ: 249؛ ابن عقيل: 221؛ العيني. المقاصد النحوية: 2/ 411، 3/ 89؛ ابن عصفور: المقرب: 10/ 117؛ ابن مالك. همع الهوامع: 1/ 153.

وإنما وقعوا في ذلك لأنهم نقلوا البيت مفرداً عن سابقه وهو: أُكَنّيه حين أناديه لأُكرمَه ... ولا أُلقِّبه، والسوأةَ اللقبا (¬1) وقد جعل ابن جني في شرحه للحماسة الرفع أحد روايتين. قال الشيخ ابن عاشور: "وهو بعيد عن معنى البيت الأول" (¬2). 3 - قول الشاعر: وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... تغنّت على ورقاء خُضرٍ قيودُها بكسر خضر. ومن فساد التقعيد الخطأ في الإعراب، كالإعراب الناشىء عن سوء الفهم حين احتجوا بهذا على ثبوت إعراب المجاورة. وهذا ليس صحيحاً لأن خضر المكسورة مع كونها وصفاً لحمامة ينقضه وقوع الموصوف لورقاء واحدة الورق به أي الحمام، ويمكن أن يعتبر "خضرٍ" صفة لورقاء بمعنى الشجرة، والقيود الأغصان على تشبيهها بمقيّد في سلاسل. * * * ¬

_ (¬1) المرزوقي. شرح الحماسة: 1146؛ العيني. المقاصد النحوية: 2/ 411، 3/ 89؛ البغدادي. الخزانة: 9/ 141؛ الأشموني: 1/ 224. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 222.

علم البلاغة

علم البلاغة عُرف هذا العلم قديماً بعلم البديع مرّة، وبعِلم البيان أخرى. ثم قسّمه المتأخرون إلى فنون ثلاثة: المعاني والبيان والبديع. فالمعاني منه: ما يُبحث فيه عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال. والبيان: ما يعرف به إيراد المعاني بطرق مختلفة في وضوح الدلالة من حقيقة ومجاز. والبديع: هو تحسين الألفاظ أو المعاني بما يجعلها مستظرفة لدى السامع. والغاية من هذا العلم، بمختلف شعبه، ضبطُ طرق الاستعمال للكلام البليغ، والتمرينُ على أن يكون التعبير مفيداً لجميع مراد المتكلم بأسرع طريق وأنفذه إلى فهم السامع. وتتضمَّن مسائلُه بعضَ قواعد الاستعمال مطلقاً. وهو بذلك تكميل لما تركه علم النحو أو لم يستوعبه من تعليم أحوال لسان العرب. وإذا كان النحو والصرف قد انصرفا من جهة إلى إفادة كيفية أخذ المفردات وتركيبها دفعاً للخطأ وبطءِ الفهم، فإن علم البلاغة اتجه إلى إفادة كيفية الإسناد، وأسلوب العرب في التعبير. وهذا التلازم بل التكامل بين علوم العربية وأسرارها، الملاحظ في المصنفات الشهيرة من الأمهات في هذا العلم، ينبّه عند المقارنة بين النحو والبلاغة إلى أن هذا العلم قد تناول مع مشاركته لعلم النحو موضوعات خاصة به كالفصاحة

والإيجازِ والإطنابِ والفصلِ والوصلِ ومسائلِ البيان. وتوفّرت المؤلفات النقدية والأدبية على العناية بأمثلة رائعة نجدها عند قدامة بن جعفر في نقد الشعر، وعند الجاحظ في البيان، وعند الزمخشري في تفسيره، وعند المرزوقي في شرحه لديوان الحماسة، وعند غيرهم من جهابذة الفن. وإنما بدأ الاشتغال بعلم البلاغة بصورة دقيقة رائعة ومعمّقة مع عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني في مصنفيه أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز. ومن يبحث في مصنفات هذا الفن يجدها قد عُنِيت في المحل الأول ببيان الطرق والمسالك إلى اختيار المعاني الجيّدة والألفاظ القريبة. ثم تبعتها تآليف أخرى أتمُّها المفتاح للسكاكي الذي شغل الناس بروائعه وإبداعاته، فصُرِف الكثيرُ من العلماء والنقّاد من بعده إلى شرحه أو التعليق عليه أو اختصاره، من غير تفكير في اكتشاف جوانب جديدة تعين على تطور هذا العلم وتقدّمه. وممن عنى بالمفتاح الأئمة: سعد الدين التفتازاني، والسيد الشريف، والأستاذ عبد الحكيم. وأصبحوا بما قدّموه من ذلك قطب الدائرة. وإن لاحظنا لديهم خلطاً في المسائل واشتغالاً بغير الفن عند إطالة الحديث عن تعريف الجنس، والحديث عن (الـ) الاستغراقية، وهل هما بمعنى، أم بينهما تفاوت؟ أو عند بيان مسألة عطف الإنشاء على الخبر، ومسألة الخلاف في حدِّ البلاغة، ثم هل هي مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال أو لمقتضى الحال في الجملة، كما ورد ذلك كثيراً في مباحث المطول (¬1). وجاء بعد هذا اختصار المفتاح للقزويني، وكان دقيقاً متميّزاً ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 224.

لولا انصرافه عن الشواهد من كلام العرب إلى التمثيل بالتراكيب الصناعية. ولا ينسى المؤلف، في ختام هذه الملاحظات وما لازمها من تقويم لمسائل العلم وكُتبه التي اشتغلت بهذا الفن، أن يلفت نظر طالب هذا العلم إلى وجوب التدرّب أو إجراء التمارين اللازمة لتربية الملكة والذوق. وذلك بأن يعهد إلى الطلبة بالحكم على ما يرونه من حسن في الكلام وقبحه، بإشراف الشيوخ والأساتذة الذين يقومون بتصويب أو تخطئَة ما يقدّمونه من الآراء في ذلك. ويُنهي الشيخُ رحمه الله هذا الفصل بالحديث عن علم الوضع، وعن رسالة العضد الإيجي فيه، منبّهاً إلى أهمية هذا التأليف وموضوعاته وما حظيَ به من عناية الشرّاح والمحدّثين. وعلم الوضع في الحقيقة ألصق بعلمي العربية والبلاغة. وهو لا يتميّز عنهما في كثير. وموضوعه كما حدّده المؤلف البحثُ عن المعاني التي وضعت لها الألفاظ من ذوات وأحداث، ومن أنواع أو أشخاص، ومن كلي أو جزئي. * * *

ج - العلوم المساعدة

ج - العلوم المساعدة العلوم الإنسانية لم يكن اشتغال الإمام الأكبر، بما يدرَّس من العلوم الأساسية بالجامع الأعظم من مقاصد ووسائل، بالذي يمنعه من بيان رأيه واضحاً في العلوم المساعدة؛ كعلمي المنطق والتاريخ أو العلوم الفلسفية والرياضية. علم المنطق لعلم المنطق أو الاستدلال صلة بعلوم العرب، كما ذكر ذلك السكاكي (¬1). وهو لا يبحث في شيء زائد عن أسرار النحو كما صوّره ابن سينا (¬2). وهو لارتباطه بهذه الفنون وَرَدَ تابعاً لها، ولكونه ¬

_ (¬1) يبدأ السكاكي حديثه عن المنطق أو الاستدلال بتوطئة يقول فيها: الكلام على تكملة علم المعاني. وهي تتبع خواص تراكيب الكلام في الاستدلال. ولولا إكمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني وعظم الانتفاع به لما اقتضانا الرأيُ أن نرخي عنان القلم فيه. السكاكي. مفتاح العلوم: 435. (¬2) يفسر هذه المقالة ما ورد في المقالة الأولى، الفصل الرابع: لما كانت الضرورة تدعو إلى استعمال الألفاظ، ومن المتعذر على الرواية أن ترتب المعاني من غير أن تتخيل معها ألفاظها .. لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعاني، حتى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن، فاضطرت صناعة المنطق إلى أن =

حاكماً على جميع العلوم في الصحَّة والسقم، والقوَّة والضّعف، وأجلّها نفعاً وأعظمها، جعله الفارابي رئيساً لها، ولكونه آلة في تحصيل العلوم المكتسبة النظرية والعملية عدّه ابن سينا خادماً للعلوم. مهّد ابن عاشور لتفصيل القول فيه بتعريفه. فهو علم يعصم الأفكار من الخطأ في المطلوب التصوّري الذي تتعرّف منه حقيقة الشيء، وفي المطلوب التصديقي الذي يتعرَّف منه العلم مع دليل ما. وهو من علوم الأوائل، نقل عن اليونان في عصر النهضة. وشمل من الأبواب الكليات الخمس، والتعريفات، والتصديقات، والقياس، وختموا مطالبه بذكر الصناعات الخمس: البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والمغالطة أو السفسطة. تشهد لذلك أصول المؤلفات المنقولة عن أرسطو وأمثاله، ممّا وضع بعدها من التآليف. وسمّي بالمنطق لأن الغاية منه استقامة المنطق، كما عرف بالميزان لأنه قانون اللّسان من حيث إنه آلة التعبير عن المعاني. ويخلص الشيخ ابن عاشور من تعريفه لهذا العلم وبيان الأصل فيه ومصدره، ونقله إلى لغة العرب، وأَوْجُه تسمياته لينبّهنا إلى أن موضوعات هذا العلم ومسائله فطرية عقلية، وأنه لذلك موجود في كل لغة، وأن فائدته تحريك الذهن بمسائله وتمرينه، وإقامة الحجّة على المكابر وقت الجدل، حين يريد مغالطة الفطرة ومغالبة الحق. وقد ذكر لهذا المعنى ما يصوّره في القرآن العظيم، وهو قول الله عز وجلّ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (¬1). ¬

_ = يصير بعض أجزائها في أحوال الألفاظ. ابن سينا. الشفاء، المنطق 1، المدخل: 1/ 22، 23. (¬1) الأنعام: 91.

وجعل الآية مثالاً لنقض السالبة الكلية بالموجبة الجزئية عند المناطقة. ومن أسباب انصراف كثير من الناس عن الاشتغال بالمنطق انقسام العلماء إزاءه طائفتين: الأولى: اعتبرته كثير الألغاز فاستهانت به، وعاملته بمثل ما عاملت به الإنشاء والتاريخ والأدب. وربما أصبح من المشهور على ألسنة الغلاة عدُّه مدعاة لتكفير طالبيه ومعتقديه، فكانوا في ذلك على رأي الشافعي في علم الكلام. قال ابن تيمية: "ولهذا ما زال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمّونه ويذمّون أهله وينهون عنه وعن أهله" (¬1). وأبرز من يمثل هذا الاتجاه المحدّثون والفقهاء. فقد صرّح السيوطي في كتابه عقود الجمان في المعاني والبيان بما نصّه: "إنا معشر أهل السنة لا ننجس تصانيفنا بقذر المنطق الذي اتفق المعتبرون خصوصاً المحدثين والفقهاء من كل المذاهب، من الشافعية وأهل المغرب، على تحريمه والتغليظ على المشتغلين به وإهانتهم وعقوبتهم. وقد جمعت في ذلك تأليفاً نقلت فيه كلام الأئمة في الحظِّ عليه. وهو كتاب مهم. وقد نصّ أئمة الحديث كالسِّلَفي والذهبي وابن رُشيد على عدم قبول رواية المشتغل به، وقد تركت الأخذ عن جماعة لذلك، وبالله التوفيق" (¬2). ونازع هذه الفئة كثير من العلماء الذين عنوا بالمنطق مادة درس وتأليف. ورأينا المغيلي في بعض شروح السلّم يعرّض بخصومه ومناقضيه، ويرد على السيوطي بأبيات من شعره. ¬

_ (¬1) ابن تيمية الفتاوى: 9/ 7. (¬2) شرح عقود الجمان: 26.

الطائفة الثانية التي قيل عنها: إنها المتحرّرة مما أصاب الأولى من جمود، صنَّفَت فيه واستخدمت قواعده وقوانينه في عامة العلوم الإسلامية، ومن أجل ذلك نجد تنويه ابن سينا به حين قال: المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها. وقد رَفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه، عداوةً لما جهل، وتوهّماً لكونه يشوش العقائد، مع أنه موضوع للاعتبار والتحرير (¬1). وقد ألمع الشيخ رحمه الله إلى هذه الحقيقة ببيان موقف الغزالي من علم المنطق وبما اشتهر به من قوله: حكمةُ المنطق شيءٌ عجب ... واختلاف الناس فيها أعجبُ ثم تعرّض لأسباب اختلال هذا العلم فعدّ منها: أولاً: ما أشار إليه قبل من اختلاف مواقف العلماء من هذا العلم وإهمال الجمهور الكبير له. ثانياً: ورود استعمالات كثيرة لدى المناطقة لا تقرّها اللغة العربية. وقد ذكر الإمام الأكبر أربعة أمثلة لهذا: الأول: كقولهم: السالبة تصدق بنفي الموضوع، مع أنه غير موجود في اللغة. واحتجوا لذلك بقول الشاعر: على لا حب لا يُهتدى بمناره (¬2) ... [إذا ساقهُ العَوْدُ الدفافيُّ جرجرا] ¬

_ (¬1) صديق بن حسن القنوجي. أبجد العلوم: 2/ 522. (¬2) البيت لامرئ القيس. الديوان: 66؛ ابن فارس. مقاييس اللغة: 2/ 318؛ ابن فارس. مجمل اللغة: 2/ 304.

وهو بعيد عن الصواب لأن هذا من قبيل الكناية، والمنار علامة الطريق ولا يفارقه الاهتداء. فإذا انتفى عنه الاهتداء انتفى ملزومه وهو المنار. الثاني: استعمالهم الرابطة وهي كلمة (هو) لتصحيح الحمل. وهي مفقودة في العربية بهذا المعنى. الثالث: ذكر الاستثناء بـ (لكن) في القياس الاستثنائي مع أن ما بعدها ليس مغايراً لما قبلها. وهي منقولة عن اليونانية. الرابع: وضعهم كلمة (لو) للواقع مع أنها في العربية للامتناع. ثالثاً: فراغ بعض مسائله وشغورها من التمرين في الصناعات الخمس وغيرها. وما ذلك إلا لغفلة المتأخّرين عن الغرض من وضعه. فإن المنطق من العلوم التي لا يظهر أثرها عند دراسة كل مسألة، بل هو من العلوم التمرينيّة التي تظهر نتائجها بعد طول عمل دفعة. وما زال إتقان هذا العلم يحتاج إليه في دراسة كتب التراث، وفي الوقوف على القضايا والمسائل الجدلية أو الخلافية، لأن هذه قائمة على استخدام قوانين المنطق ومرتبطة به في أحوال كثيرة. وإن كان علم المنطق في عصرنا الحاضر قد اضمحل أو كاد لاختفاء المنطق الأرسطي، وقيام منطق العلوم مكانه. * * *

علم التاريخ

علم التاريخ بدأ الشيخ ابن عاشور حديثه عن هذا العلم بحصر موضع نظره وبحثه. فحرص على تحديد موضوع درسه ببيان أن المراد بالتاريخ ما ألفت فيه الكتب العربية، وهل كانت دراسة هذا العلم في جامع الزيتونة وبين طلابه إلا بالنظر والوقوف عليها وحدها دون غيرها من المصادر. ومن هذا الإطار الذي حصر فيه المادة التي عني ببحثها ونقدها، ومن التجارب التي مرّ بها، والحقائق التي وقف عليها من خلال دراساته الكثيرة ومطالعاته الواسعة، اتجه في كلمته هذه الوجيزة عن علم التاريخ إلى أربع نقاط هي: طبيعة علم التاريخ، ومصادر التاريخ عند العرب، وأسباب ضعف علم التاريخ لديهم، والمنهج الجديد المقترح للإفادة من هذا العلم أكمل إفادة. فإذا كان علم التاريخ كما وصفوه، عبارة عن معرفة أحوال الأمم والطوائف، وبلدانهم، ورسومهم، وعاداتهم، وصنائع أشخاصهم، وأنسابهم ووفياتهم ونحو ذلك، وكان موضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والحكماء والملوك والشعراء وغيرهم (¬1)، فإن ذلك يعدّ من الفطرة، لأن حديث الناس بما وقع أو ¬

_ (¬1) صديق بن حسن القنوجي. أبجد العلوم: 2/ 137.

جرى لهم سنة آدمية. وقد بدأ تدوينه مع عصر النهضة حين أحسّ الناس بالحاجة الأكيدة إلى وزان مستقبلهم بماضيهم. وقد تجلّى هذا الأمر عند العرب من أقدم العصور في أشعارها. فهي ديوانها ومجتلى أخبارها ومفاخرها ومحامدها. ثم برزت حقائق التاريخ ووقائعه وأحداثه في ما تضمنه القرآن الكريم من قصص الأمم الخالية والشعوب الماضية. وألّفت بعد ذلك أنواع من كتب التاريخ كالسير والتراجم أو المصنفات، مثل سيرة ابن هشام وتاريخ البخاري، وسجَلت حوادث الإسلام كما فعل الطبري في تاريخه، ودوّنت أحداث السياسة والوقائع كما في تاريخ المسعودي، وإن اقتصر صاحبه على سرد الوقائع، عَرِيًّا عن النظر في الغاية المقصودة وهي الاستعانة به في السياسة. وهنا يعتذر الشيخ رحمه الله لهذا المؤرخ عن تقصيره في هذا الجانب. وأسباب ضعف علم التاريخ كما يراها المؤلف هي: أولاً: إن المسلمين أَجِدَّاء في السياسة إذ لم يكن للعرب من قبل ملك. والسياسة إنما هي خلاصة التجارب المتولّدة عن معالجة أحوال الدول والحروب. ثانياً: نسجه من الأساطير القديمة المعروفة بالميتولوجيا. وهي في غالبها متخيّلة بعيدة عن الواقع، مشحونة بالأغاليط والمبالغات. فلا تذكر أو تروى من أجل تصوير الماضي على حقيقته، ولكنه التفكُّه والأدب. ثالثاً: سيطرة الوهم القديم على العقول بصرفها عن العناية بعلم التاريخ لخلوّه من المسائل الكليّة أي القواعد. وقد وقَر في نفوسهم أن ما خلا من القواعد ليس علماً ولا طائل من دراسته.

رابعاً: ما يغلب على كثير من المؤرخين من تعصّبات وأغراض تحجب عنهم الحقائق مهما كانت جلية، وما ينتصبون له من المفاضلة والحكم على الأشياء دون موضوعية أو تجرّد. وهذا ما وصمت به جملة من كتب التاريخ، فلم يؤخذ بها ولا اعتمد عليها لبُعدها عن الحقيقة والإنصاف. ولم تسلم من ذلك سوى مصنّفات قليلة عرف أصحابها بالتحرّي والنقد وصحة النقول والروايات. وهذه مثل تاريخ محمد بن جرير الطبري، وتاريخ ابن الأثير الجزري، وتاريخ ابن خلدون. خامساً: التساهل في رواية الأخبار مع سوء المآخذ وفساد الاستنتاج، كما هو شأن مؤرخي عصرنا في الشرق. ولاجتناب هذه الطريقة وما يترتّب عليها من مساوىء وأخطاء يوصي المؤلف المؤرخين بأن يحتاطوا للأمر بالاستناد إلى ما دلّت عليه الآثار كآثار المصريين، وإن كانت هي الأخرى لم تخلُ من مبالغات، أو باعتماد كتب الماضين المتقدمين مثل مؤرخ اليونان (بلوتارك)، ومؤرخ الرومان (حانون القرطاجني)، أو باستمداد التاريخ من الاستنتاجات الصحيحة الواضحة، لأن الغرض من علم التاريخ هو الاعتبار بأسباب نجاح الدول والأمم وبأسباب خيبتها، ولا يحصل ذلك إلا بسلامة الاستمداد وصحة المصادر. ثم يحذّر الشيخ في نهاية ذكر السبب الخامس، المؤرِّخَ ويوصيه بأن لا تشتبه أو تختلط عليه الأحوال المقارنة للأفعال، فيظنها سبب نجاح الفعل أو خيبته، فإن الاشتباه خطر عظيم. وحين تتبيّن عوائق التقدّم بعلم التاريخ يدعونا المؤلف إلى منهج جديد، هو تجريد هذا العلم عما يملأ حوافظ التلامذة من ذكر

العلوم الفلسفية والرياضية

الحوادث والسنين إلى الاقتصار على الجانب العملي النفعي منه، وهو معرفة أحوال الأمم والدول وأسباب النهوض والسقوط لديها، فيكون ذلك طريقاً للاعتبار، ويفيد منه الدارس نظراً واقتداء واتقاء، تماماً كما يقدّمه لنا القرآن الكريم للاتِّعاظ بما سيقت القصة التاريخية لأجله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (¬1). وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (¬2). العلوم الفلسفية والرياضية يُنهي الشيخ ابن عاشور رحمه الله نظرته إلى العلوم ونقدَها، بالحديث عن فنون كادت تكون أجنبية، أو هي أجنبية عما يدرّس ويتلقّى من تكوين ومعارف بالجامع الأعظم. وفي هذا الفصل على قصره يشعر القارىء من جهة بالحسرة والتبرّم، ومن أخرى بالحرص والتطلّع. حسرة وتبرّم بما كان يعوز التعليم الزيتوني من تدريس للمواد الفلسفية والرياضية. والجامع الأعظم هو المدرسة الكبرى الوحيدة للتعليم في البلاد بالحاضرة وأطراف الإيالة. وهو بمعزل عن علوم كثيرة نافعة، كأنها غير ذات جدوى بالنسبة للطلبة وسكان البلاد. ولعل من أهم الأسباب في ذلك أن الكتب القليلة الموجودة كانت في محتواها مقصورة على ما هي عليه في لغة اليونان، وأن الكتب الموضوعة للتدريس قديمة لم تبق مناسِبةً لزمننا. وقد حصلت في موادها تغييرات وتطوّرات كثيرة لم تظهر في الكتب العربية ¬

_ (¬1) آل عمران: 13. (¬2) القصص: 43.

المترجمة بما يساير ما هي عليه في اللغات الأجنبية التي وضعت فيها. وأمر آخر هو أن فنوناً عديدة لم تنقل بعد إلى العربية، فظلت محجوبة عنا زمناً طويلاً؛ منها الجيولوجيا أو علم طبقات الأرض، والتاريخ الطبيعي، وعلوم الاقتصاد، والعمران أو الاجتماع، والفلسفة، على أن مثل هذه المادة الأخيرة لم تكن تعرف إلا من خلال كتب الكلام؛ مثل كتاب المواقف للإيجي المستمدة مادته الفلسفية من مقالات اليونان. وهذا الوضع المزري الذي جمدنا عليه يقتضي بدون شك التغييرَ والإصلاح. أما التطلع والحرص فكانا يظهران في المناداة بأمرين: أولهما: ترجمة كتب العلوم المعاصرة ترجمة لائقة، ومواكبة لما هي عليه عند غيرنا من التطوّر والتقدّم العلمي، عساها تكفي الطلاب العرب كلَلَ التخبّط فيما لا طائل تحته، وتساعد المقبلين عليها على السمو بهمة إلى منازل قرنائهم في الأمم المعاصرة. ثانيهما: توسيع نطاق ترجمة هذه العلوم الرياضية والفلسفية توسيعاً هاماً يحيط بأكثر الفنون الموجودة في الخارج، وفي اللغات الأخرى. فإن ما نمارسه منها مقصور على مقدمات ومبادىء الحساب، والجغرافيا، والهندسة والمساحة ولا يتجاوزها إلى الطبيعة، والكيمياء، والفيسيولوجيا، والجيولوجيا، والجبر، والفلك، وحوادث الجو، والطب، وعلوم السياسة، والاقتصاد، والفلاحة، والصنائع، والتجارة، وتهذيب الأخلاق وغيرها. فإن هذه العلوم ليست حكراً على أحد. وقد كان لأسلافنا عناية بها، ونحن في أشدّ الحاجة إليها. وإن في تنشيط هذه الحركة والإقبال على شتى نواحي

العلم واختصاصاته لقوّةً للأمة، ونهضة بها، ورقياً وتقدماً لأفرادها. وبعد هذه الوقفات التأمّلية في سير إصلاح التعليم الزيتوني، التي صاحبنا فيها الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله، عن طريق ما دوّنه من ذلك في كتابه أليس الصبح بقريب؛ وبعد تلمّسنا للأسباب التي دعته إلى ذلك نجده قد سار على خطى شيوخه ومعاصريه في الداخل والخارج، وعمل على مواصلة ما أنجزه المشيران الأمير أحمد باشا باي الأول، والأمير محمد الصادق باي، من تنظيمات وترتيبات، أهمها ما كان أعدّه بنظر فاحص، وتوجّهٍ إصلاحي صادقٍ الوزير أبو محمد خير الدين. وتملكه حبُّ المشاركة في هذا العمل الجليل الذي نادت به ثلّة من المصلحين من أمثال الأستاذ البشير صفر رئيس الجمعية الخلدونية، بما دبّجته أقلامهم أو أعربت عنه خطبهم ومحاضراتهم من مواقف متجاوبة مع الحركة الإصلاحية العامة بتونس، فتصدى الإمام بكل جهوده إلى حركة إصلاح التعليم الزيتوني، يوجهها ويقيّمها متنقلاً بها من مرحلة إلى مرحلة قدر الوسع. * * *

العمل الإصلاحي للتعليم بالزيتونة

العمل الإصلاحي للتعليم بالزيتونة بجانب ما فطر عليه الشيخ ابن عاشور من تحليل دقيق، وعميق نظر، ونقد نافذ، سلَّطهُ في مجال التعليم على ذاته من السنة الأولى من مباشرته للتدريس، وقد تخرّج في ذلك العام بشهادة التطويع، اقترنت بنواحي نشاطه واهتماماته جوانب أخرى شجعته على الدعوة إلى الإصلاح، وعلى محاولته وبذل الجهد لتحقيقه، والمضي فيه بقوة واجتهاد. وقد مرّ في خوضه لمعركة الإصلاح بتجربة كبيرة وفريدة أكسبته خبرة واسعة، وجعلته الأكثر معرفة بأحوال الزيتونة: جامعة، ومراكز تعليم، ومدرسين، وطلبة، وكتباً، وعلوماً، والأقدر على تقويم كل عنصر من هذه العناصر في ذاته أولاً، وبالإضافة إلى المحيط الفكري والثقافي والعلمي المعاصر ثانياً. وللمضي قدماً في مجال الإصلاح والتغلّب على ما يوضع في طريقه من معوّقات وعقبات، نبّه الشيخ رحمه الله إلى شروط الإصلاح وواجباته، وجعل من نفسه بعزمه وسلوكه ومنهجه فيه مثالاً يحتذى، وقدوة لمن يروم من بعده القيام بمثل عمله، كلّما دعت الظروف أو الحاجة إلى ذلك، أو اقتضاه الأمر واستوجبته المصلحة. شروط القائمين على إصلاح التعليم من أبرز الخلال التي يتعيّن على القائم بعملية الإصلاح التحلّي بها الصبر على ما يمكن أن يلحقه من المكاره أو يناله من المكائد

والدسائس بسبب اختلاف الأنظار والآراء، ولانقسام الناس في هذا بين جامدين تقليديين لا يقدرون على شيء من التغيير، ومتطوّرين مصلحين يتّقدون عزماً وحماساً للتحول إلى الأفضل والأقوم. وكذلك الصمود والثبات على المبدأ بصورة لا تني، وعزم لا ينثني في التلبس بالإصلاح والقيام بواجباته. ومنها الشجاعة على تغيير الأوضاع السيئة التي تمرّ بها مؤسسة الزيتونة، والصدع بالرأي الصحيح، مهما كانت منزلة المخالفين في الرأي قوةً وسلطاناً وجاهاً ودهاء وخبثاً ومكراً. ثم القدرة الفائقة على التنبيه إلى أسباب الانحطاط والتخلّف في كل ما يمسّ مظاهر الحياة الجامعية ولبابها، وعلى التذكير بالمسالك الكفيلة بإصلاحها وتغيير أوضاعها. والنظرة الشاملة الواسعة هي تلك التي لا تقف عند إصلاح أوضاع الطلبة في مساكنهم ومعاهدهم، وانتظامهم وإقبالهم على دروسهم، وقيامهم بواجباتهم، أو عند إصلاح المدرسين والأساتذة بحملهم على القيام بعملهم على أكمل الوجوه، والتطوير والتغيير لمناهجهم، أو عند المؤلفات والكتب المعتمدة للتدريس بالدعوة إلى إصلاحها وتنقيحها، أو تعويضها بما يكون خيراً منها وأجدى في التنظيم العقلي والتكوين العلمي، مع تذييلها بما يتأكّد القيام به من تمارين وتطبيقات لا تعين على تكوين الملكات ومضاعفة قدرة الدارسين فحسب، ولكنها تمتد وتتطلع إلى علوم أخرى أصبح الناس في أشد الحاجة إليها وإلى المعرفة بها، بل والإتقان لها. فتكتب لدارسيها المشاركة في الحياة العملية، وترفع عنهم وصمة البعد عن واقع الحياة، بما يتطلّبه من تجهيز وإعداد. فالعلوم لا حدّ لها، والتخصّصات فيها متنوعة وكثيرة، والعلوم الرياضية والطبيعية والتقنيات المتقدّمة عماد القوة، وأساس التقدّم، وطريق الخير

والازدهار للأمة جمعاء. فإذا أَهملت ذلك وقنَعت بما دُونه، ذبلت زهرتها، وذهبت نضارتها، وأصبحت فريسة للأمم الأخرى ذات السيادة العلمية والتقدم الفكري والعلمي والثقافي. فبتلك الشروط التي ألمعنا إليها قبل، وبهذه المجموعة من الصفات المميّزة، أمكن للإمام الأكبر أن يخترق أسوار المحافظين، وأن يحدث تغييراً ملموساً وتطوراً باهراً في حياة الزيتونة والزيتونيين. هذا، وإن لم يتمّ له في الولاية الأولى لمشيخة الجامع الأعظم مرادُه وغايتُه من العمل الإصلاحي لِقِصَر مدّتها أوّلاً، ولما أحكمه المعارضون للإصلاح من مقاومة نسفوا بها الجهود الإصلاحية ثانياً. فقد نادى بالتغيير المدرسون أنفسهم بعد ذلك. وعقدوا في شوال 1363/ أكتوبر 1944 مؤتمرهم العلمي، ووضعوا فيه برنامجاً مفصلاً لخطط إصلاح التعليم، وانعقد إجماعهم على ذلك. ولما تبيّن لهم أنه لا يقدر على تنفيذ برنامجهم الإصلاحي غير الإمام الأكبر طالبوا بإرجاعه إلى المشيخة. وعقدت الحكومة لجنة للنظر في البرنامج المقدّم من طرفهم، ووافقت عليه في ذي القعدة 1363/ نوفمبر 1944. وبعد نحو ثلاثة أشهر في ربيع الأول 1364/ فبراير 1945 صدر الأمر العلي الملكي بتعيين الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور شيخاً للجامع الأعظم وفروعه. * * *

عودة الإمام الأكبر إلى مشيخة الجامع الأعظم

عودة الإمام الأكبر إلى مشيخة الجامع الأعظم تقدم شيخ الجامع يؤيّده جلالةُ الملك، وتناصرُه الأسرة الزيتونية بأسرها، ينجز من اليوم الأول من ولايته الجديدة مراحلَ الإصلاح: يقوّي الروح الزيتونية، ويضع الحكومة بإنجازاته وابتكاراته أمام الأمر الواقع (¬1). وقد أقام رئيس الجمعية الخلدونية الشيخ عبد الرحمن الكعاك حفل استقبال لشيخ الجامع الأعظم بمناسبة تعيينه من جديد على رأس المؤسسة العلمية الأولى جامع الزيتونة، مؤكداً لشيخها عزم الجمعية الخلدونية على اتخاذ موقفها المناسب إلى جانب الجامعة الزيتونية لقطع المراحل الأخيرة في سبيل تمكين الثقافة القومية من التطور والازدهار والسيادة (¬2). وتلا هذا الاحتفال الاقتبال الذي أقامته جمعية الزيتونيين والذي جمع الخريجين من رجال القضاء والإدارة والمهن الحرة. وكان مما قاله الإمام الأكبر بهذه المناسبة: "ما كان فخر جامع الزيتونة بشيوخ الشريعة وأساطين التدريس في عديد الأجيال بأعظم من فخره ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 218. (¬2) المرجع السابق: 220.

بخريجيه من كبار الوزراء، وعظماء الكتاب، ومشاهير الحكام والمحامين، ورجال الصحافة والاقتصاد. فلنعقد العزم على خدمة شرفنا الأثيل الذي يمثله معهدنا الرفيع العماد، فنكون أحِقَّاء بمجد بُنوّته، ونضمن له النجاح في خدمة الجامعة الإسلامية وبخاصة الأمة التونسية" (¬1). وتدفّقت إثر ذلك روح التشجيع للإصلاح، وللتنويه برائده في النوادي والصحافة والجمعيات الطالبية، خطباً ومقالات وأشعاراً، كلُّها يسير في ركاب الإصلاح ويواكبه، ويعلن عن دعمِه له ومناصرتِه. وقد أجاب الشيخ رحمه الله الأمةَ التونسية جمعاء عن هذه المواقف الشريفة، وعن تعزيزها لجامعة الزيتونة في الاضطلاع برسالتها على خير وجه بقوله، من خطاب نهاية السنة الأولى الدراسية من ولايته الجديدة لمشيخة الجامع الأعظم وفروعه: "فما تزال عموم الأوساط الإسلامية تبدي لنا من المعاضدة والتأييد ما بعث الأمل إلى مدى بعيد، وبشّر بالفوز في عملنا بخير مزيد، وأوجب عليَّ أن أصرّح، في هذا الجمع الجليل على لسان الزيتونيين بفائق الشكر وعظيم الامتنان لعموم الأمة التونسية، وبخاصة لقادتها ومثقّفيها وصحافييها وجمعياتها، على ما وجهوه للهيئة العلمية في شخصي من مظاهر الثقة والاعتبار. فكان هذا الجو المستنير المختص بمعهدنا المقدس دافعاً إلى مواصلة الجهد في إبلاغه نحو الغايات السامية التي يرجوها له الجميع" (¬2). ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 220. (¬2) المجلة الزيتونية: العدد الممتاز الخاص بجامع الزيتونة: المجلد السادس، الجزء الثاني: 365، شعبان - رمضان 1364/ جويليه - أوت 1945.

الخطاب المنهجي للإمام الأكبر

الخطاب المنهجي للإمام الأكبر تضمّن الخطاب المنهجي عدّةَ أغراض ومحاور، أكدّ عليها ونوّه بها الإمام لارتباطها ارتباطاً جذرياً بإصلاح التعليم، مقدماً لها بما يشعر بماضي الأمة في الحضارة الفكرية الإسلامية، وحظّها منها، وذلك قوله: "لم يكن حظ الأمة التونسية في هذا المضمار من بين الأمم حظاً منقوصاً. فقد سايرت في ذلك تطوّرَ العصور تمهيداً أو إكمالاً، ونشطت في أحوال أورثت تكاسلاً وإقبالاً. فمعهدها هذا الجليل بأصله وفروعه ومدارسه المبثوثة في الحاضرة والإيالة ... لم يزل مأوى تأرز إليه علوم الشريعة، وعلوم اللغة العربية، فكان وجهة الأولين لحفظ قوانين الشريعة أصولاً وأحكاماً، وغذاء حياة العربية كتابة وكلاماً". وبعد أن أشاد بدور الزيتونة في مواكبة العصور نهضة وتطوراً، وَصَفَ دورها العظيم في الحفاظ على المقوِّمين الأساسيين للأمة التونسية: دينها الإسلامي، ولغتها العربية. وتناول بعد ذلك النقاط الرئيسة لكل معهد علمي، وهي الطلبة، والمادة العلمية ومتطلباتها، والأساتذة. وأعلن: أولاً: عن توجّهاته نحو طلبة المعهد، وعنايته بهم. وثانياً: عن تقديره للدور المنوط بالأساتذة والشيوخ وبتجاوبهم مع الحركة الإصلاحية وتحملهم الأمانة كاملة. وثالثاً: عن وجوب الاهتمام بالعلوم الموجودة بالزيتونة وتطويرها إلى ما ينبغي أن تكون عليه، وضبط البرامج، واختيار المناهج، والعناية بالتعليم في كل مراحله، حتى في المرحلة الابتدائية المهيأة للالتحاق بالجامع، وفي سائر المراحل وخاصة المرحلة الثانوية.

ورابعاً: عن عزمه على تفقّد المؤسسات العلمية التي تتكون منها الزيتونة، فيما تؤديه من رسالة، وتبلّغه من أمانة على الوجه الأقوم السديد إن شاء الله. ولا بدع أن يكون الاهتمام بالطلبة وشؤونهم من أُولى وأَوْلى الواجبات ومن أمهات قضايا الإصلاح. "فالمتعلم هو القطب الذي تدور حوله حركة التعليم، والنصح له جامع غايات النظم التعليمية". وتحدث الإمام بمناسبة نهاية العام الدراسي في توجّع وإكبار عما مرّ على التلامذة مروراً مُرًّا، إذ كان حلول ذلك العام عقب نهاية الحرب. وأقبل الطلبة فيه على العلم، وقد قلّت الأزواد ورقَّت الثياب، ورغم ذلك تجلّد الطلبة وصابروا. وحمله هذا الواقع المرير على تدبّر الأمر لحل المشاكل قائلاً: "إن ما صرفناه من عزم وجهد وطموح وانكباب على البحث في حل المشاكل التي تعترض العاملين في سبيل الإصلاح الزيتوني ليدفعنا إلى العمل. وإني لأجعل في مقدمة ذلك النظر في مدارس سكنى الطلبة. وهي مشكلة عظيمة في حياة الطلبة من جهة قلّتِها وضعف مرافقها. وحسب السامع أن يعلم أن أكثر من نصف عدد التلامذة يلاقون عناء قاسياً من ذلك، على أن نظام المدارس مرتبط بنظام التلامذة في قَرَن. إذ لا يُستطاع ضبط أحوال التلامذة وصونُهم وتوفير راحة بالهم في مدة الطلب إلا بإبلاغ نظام المدارس الغاية التي تقتضيها أمثالها. وهذا يتوقّف على إصلاح الموجود وإيجاد المفقود. وقد سددنا الجانب الأول بإيجاد دائرة خاصة تابعة للمشيخة تختص بالنظر في تنظيم شؤون المدارس. وأما الجانب الثاني فأرى حقاً على الأمة أن تجعل للاعتماد على نفسها الحظ الأوفر في إقامة مصالح نشأتها.

لذلك بادرنا بتوجيه الدعوة لنخبة من أفاضل الأمة فكوّنوا لهذا الغرض جمعية الحي الزيتوني تداركاً للوضع وعملاً على إصلاحه". وعرض الإمام الأكبر في خطابه الجامع هذا نظرته الإصلاحية للتعليم بالزيتونة، منبّهاً على نوعية الخريجين وصفاتهم وما ينتظر منهم قائلًا: "علينا أن يكون طلبة العلم في المعهد الزيتوني علماء بالأصول الإسلامية والآداب الدينية والأخلاق القويمة وعلوم آداب اللغة العربية، وما يتحصل بذلك من تاريخ الأمة وتاريخ أحوال وضعيتها بين الأمم المعاصرة لها في سائر عصورها وتاريخ رجالها". ولم يغفل هنا عن التذكير بما تمّت إضافته من العلوم الطبيعية والرياضية إلى العلوم الشرعية والدينية، مذكراً بأن المعهد لم يخلُ من طلب ما تكمل به مدارك خريجيه، تكميلاً يؤهِّلهم لمسايرة أحوال مجتمعهم. ولتطور الأزمان واختلاف العصور اتجه سماحته اتجاهاً أرشد في إصلاح التعليم قائلاً: "لقد أصبح تقارب الثقافة بين الأمم ضربة لازب، وصار ما يعد تكملة موضوعاً الآن في عداد الواجب. ولذلك كله لم يغن التلميذ الزيتوني عن أن يضرب مع أمم عصره بسهم صائب. فلا بد أن يصعد في جو الثقافة الزمنية إلى مرتقى لا يقعد به عن مجاراة أرقى الأمم إحاطة بدلائل الحياة السعيدة، كما أنه لم يغنَ عن الأخذ بالنصيب الكامل مما يتناوله أمثالُه من علوم التبصّر، فلا يعدم بصَارةً بأحوال العلم تبصّر خريجي المعاهد الراقية. وبرامج ذلك توضع على وفق المناسبة للمراتب التي يُختار التلميذ إليها على وجه تحصُل به التكملة ولا يضاع معه الأصل". وفي مكان آخر من هذا الخطاب التوجيهي، وبعد الذي تمّ من تحديد الدرجات العلمية للشهادات يقول: "علينا أن نكللها بضبط

البرامج الملائمة لها: من تعيين المواد والأبواب، والتآليف المقروءة، والساعات المقررة لذلك، وكفاءةِ من يوكل لهم رعيُ ذلك من مدرسين وقيّمين. وذلك جمعاً بين توفير المعلومات، ودقّة الأوقات، وراحة الأذهان، والدربة على العمل بالمعلومات". وقد كان لزاماً أن يؤخذ إلى جانب ذلك بعين الاعتبار وضع الفروع الخمسة الزيتونية الموجودة بالداخل: بصفاقس وسوسة والقيروان وقفصة وتوزر. فقام الشيخ رحمه الله أولاً بزيارتها، ووعد بالنظر في إصلاحها وإخضاعها للنظام العام الذي عليه جامع الزيتونة وفرعه اليوسفي بالعاصمة، تطلعاً إلى أن تصير في مستقبل قريب منابعَ علم البحر الأعظم، بحرِ جامع الزيتونة بما يزيد من فيضه ويرفعُ من رتبته. وتوجَّه أخرى إلى مشكلة مستعصية كان يلتقي بسببها الملتحقون بالتعليم الزيتوني التقاء فوضوياً، غير مبني على أساس علمي أو بيداغوجي موحّد. ذلك أن مصادر الورود إلى هذا التعليم تنم عن تفاوت كبير بين التلامذة، إذ تعدّدت المدارس التي تخرجوا منها، وتنوّعت بين مدارس قرآنية، ومدارس رسمية، وكتاتيب أو زوايا. وكان من أولئك التلامذة من لم ينل من التعليم الابتدائي إلا حظاً زهيداً. ووعد الشيخ في هذا الخطاب ببحث هذا الأمر قائلاً: "وسنعد لهذه العقدة علاج حلِّها في مفتتح السنة الدراسية بمعونة الله". وكان التفاته بعد ذلك إلى شيوخ التدريس والأساتذة يهيب بهم إلى توحيد الصف، وتضافر الجهود، والعمل على النهوض بمعهدهم، مخاطباً إياهم بقوله: "وأنا، حين أعرض هذا البرنامج الذي أراه خير كفيل لتحقيق آمالنا في الإصلاح، يخامرني اليقين بأنّي واجد من أبنائي السادة شيوخ التدريس ما أعرف منهم من تسهيل سبل هذا المُهم، بما يبذلون في إعانتنا من سامي الهِمم، لما أبدوه من

الجهود الإصلاحية

التفاف حول المشيخة، ومعونة على مقرّراتها، ومصارحتنا بما يتوسّمون منه صلاحاً للعلم، ولقيامهم بالمهام العلمية التي تسند إليهم بفرط رغبة وعمل بعزيمة". الجهود الإصلاحية ومضى الشيخ لا يثنيه عن القيام بواجبه والتطبيق للإصلاحات عائق أو مانع. وما أن أسندت إليه قيادة المسيرة العلمية بالزيتونة حتى شمّر عن ساعد الجد، وأخذ في تنفيذ برنامج واسع النطاق. وهذا ما حمل طلاب الجامع وشيوخه على إقامة مهرجان للاحتفاء به بمناسبة مرور سنة على توليته. فكان أشبه بالبيعة الجماعية له. وجدير بهذه الشخصية النادرة، كما قال فضيلة الشيخ محمد المختار بن محمود في خطابه أمامه بهذه المناسبة، أن تعلَّقَ عليها آمال، وتفرض عليها تكاليف، وتناط بها حقوق، ويعهد إليها بمستقبل أمة (¬1). وقد اقتضى ذلك من الإمام الأكبر أن يجيب عن هذه التحية بتأكيد الالتزام بالعمل الإصلاحي، ودعوة الزيتونيين إلى التآلف والتعاون والمساعدة على النهوض بهذا المعهد الجليل. وفي هذا يقول: "أما أبنائي طلبة الجامع الأعظم وفروعه فإني أعدّ احتفالهم بي في هذه الذكرى احتفالاً بذكرى إجابتي داعي واجب دعاني إلى إحقاقه، وسعي نبراس هُدى أَنِسته يتطلب زيادة ائتلاقه. فلنجعل ذلك تذكرة لنا لنتكاتف على العمل لنفع ذلك المعهد العظيم، كلٌّ بما هو في دائرة عمله. ففي هذا المعهد انفتحت كمائم إنتاجنا، ومنه بدأ نور سراجنا. فإذا دأبنا على خدمته وإعلاء كلمته، كنا قد وفّيناه حق نعم ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: مجلد 6، 498.

التعاون العلمي والعملي بين الزيتونة والخلدونية

أسداها، وارتدينا حلّة فخر هو الذي نسج لُحمتها وحاك سَداها" (¬1). وتحقق بحمد الله لحركة الإصلاح ما أمّلَته، وبذل الأساتذة والطلاب وكثير من رجال الفكر وسراة البلاد وكذا المؤسسات والجمعيات أقصى ما في الوسع من قدرات للوفاء بما في الذمة، وبما عاهدوا عليه الله، من تطوير التعليم الزيتوني، تأصيلاً وتعصيراً، حتى أصبحت الجامعة الزيتونية مضرب المثل، والأنموذج الذي على المؤسسات العلمية في الداخل والخارج أن تتبع خطاه وتسير على أثره. التعاون العلمي والعملي بين الزيتونة والخلدونية: ولاحظنا في مجال التعاون والتناصر كيف مضى الجامع الأعظم وفروعه تساعده الجمعية الخلدونية بتونس على تذليل الصعاب، وتوفير أسباب النجاح لتطبيق الإصلاح في زمن قصير. وبعد أن كان المعهد القومي الإسلامي العلمي متمثلاً في الزيتونة التي تتكوّن من الجامع الأعظم والجامع اليوسفي بتونس، ومن خمسة فروع لها داخل الإيالة لا يزيد عدد طلابها على ثلاثة آلاف من المرسَّمين في التعليم الزيتوني بمختلف درجاته المتوسطة والثانوية والعالية، ظهر إقبال كبير وحرص شديد على الانتساب لهذا المعهد، والنهل من منابعه بفضل ما أحدثه رئيس الجامعة الزيتونية من فروع، وما أثاره من كوامن العزائم، وصادق المشاعر. وتضاعف عدد الفروع إلى خمسة وعشرين فرعاً بين الحاضرة وأطراف المملكة من بينها فرعان لتعليم البنات، وامتدت هذه الفروع الزيتونية إلى قسنطينة والجزائر، ونما عدد الطلاب فبلغ العشرين ألفاً. ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: مجلد 6، 498.

وتكونت في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي بالزيتونة شعبة العلوم العصرية 1951 لتدريس اللغات والرياضيات والطبيعيات والتاريخ والجغرافيا والفلسفة باللغة العربية. فكانت النتائج الباهرة والمسابقة الشريفة العلمية بين مدارس الدولة الرسمية وجامع الزيتونة بشعبتيه الأصلية والعصرية. وخصصت للمواد الجديدة جملة مراكز. والْتَحَقَ بالزيتونة لتدريس المواد العلمية المعاصرة بها مدرسون من أساتذة التعليم الثانوي بالمدارس الرسمية التابعة لإدارة العلوم والمعارف، ودعا الأساتذة من مختلف الجامعات في المشرق للتعاون مع الزيتونة، والإسهام في نهضتها العلمية المباركة، وتكوّنت من خريجي الشعبة العصرية إرساليات لاستكمال تخصّصاتها بجامعات القاهرة وبغداد ودمشق، وكذلك بفرنسة وموسكو. وبعد أن كانت الخلدونية منذ نشأتها مؤسسة ثقافية شعبية حرّة، بها عدة فصول، يُدرّس فيها لطلبة الزيتونة، من المرحلة الأولى للتعليم الثانوي، ما كانوا يحرصون على استكماله من مبادىء العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخ والجغرافيا واللغات الحية. ويحصل المتخرّجون منها على شهادة التحصيل في المعارف العملية. كانت بهذه الجمعية قاعة كبرى للمحاضرات ومكتبة عامرة تزخر بأجود الكتب والدوريات العربية والفرنسية، تمّ انتقاؤها واقتناؤها للرقي بمستوى روادها، وتزويدهم بما يحتاجون إليه من دراسات وبحوث، تتسع بها مداركهم، وتنمو بها ملكاتهم ويكتسبون عن طريقها رأياً وفكراً وأدباً وعلماً، مع ما يتلقاه الكثير منهم من محاضرات بها، تغرس في نفوسهم العزم والإيمان ببلوغ أسنى المراتب وتحقيق أشرف المقاصد، وتدفع بهم قدماً إلى التجديد والإصلاح متأثرين بأعلام النهضة الفكرية ودعوتها.

وفي سنة 1366 - 1947 بعد أن أسندت رئاسة الجمعية الخلدونية للعلامة الراحل الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور نجل الإمام الأكبر ولسان الدعوة الإصلاحية، اندفعت الخلدونية في سير حثيث ممهَّدة ومواكبة لكل مظاهر التطور في جامع الزيتونة الأعظم. وقدّر رئيس الجمعية الخلدونية الدور الذي يمكن أن تضطلع به هذه المؤسسة، فاتخذ من فصولها معهداً للتعليم الثانوي المعاصر تدرّس به كل المواد العلمية باللسان العربي، ويكون التخرّج منه بالحصول على شهادة الباكالوريا العربية (¬1). ومن خريجي المدرسة الخلدونية الحاصلين على هذه الشهادة تكونت ثلة من الأساتذة المساعدين للتعليم بالشعبة العصرية بالمعاهد الزيتونية، وكانت من خريجيها العناصر الأولى للإرساليات العلمية التي توزعّ أفرادها بين الجامعات الشرقية والغربية، كل حسب تخصصه ومؤهلاته، وما يرغب في التخصّص فيه من فروع العلم على اختلافها. واتخذ رئيس الجمعية الخلدونية من القاعة الكبرى للجمعية مقرًّا لمعاهد ثلاثة هي: معهد البحوث الإسلامية، ومعهد الحقوق العربي، ومعهد الفلسفة. ولئن احتجب المعهدان الأخيران بسرعة لوجود المراكز العلمية المنافسة لهما؛ فإن معهد البحوث الإسلامية الذي تمّ تأسيسه في ربيع الأول 1365/ يناير 1946 قد عمل جاداً بمحاضراته الثلاث الأسبوعية على مدى خمس سنوات لتحقيق الغاية من تأسيسه التي تضمَّنها نظامه. وهي بعث الروح الثقافية الإسلامية، وقيادة ¬

_ (¬1) وجد هذا الأمر، بعد تخرج الطلائع الأولى من الحاصلين على الباكالوريا العربية، تهديداً من وزارة التعليم والمعارف بسحب رخصة الجمعية الخلدونية، لأنه لا يسمح لمؤسسة شعبية حرّة أن تمنح خرّيجيها شهادة تحمل نفس اسم الشهادات التي تمنحها المدارس الحكومية الرسمية.

أهليها إلى الشعور بوحدة العالم الإسلامي وعظمته، والوقوف على حقائقه الوجودية، وتكوين الاستعداد لدراسة حرّة لا تتأثر بالظروف العارضة ولا بالتيارات الخارجية، وإنما تستوحي سيرها من المعارف التاريخية والجغرافية المستندة إلى الأصول الصحيحة المتمشية مع روح الجامعة الإسلامية الكبرى (¬1). وهكذا اختلف الوضع، وبرزت النتائج، وانعكست آثار ذلك على الروح الشعبية. وتعاظمت همّة الأسرة الزيتونية من مشيختها وأساتذتها وطلابها تشاطرُها الخلدونية اهتماماتها وانتصاراتِها، وتقاسمها مفاخرها وابتهاجاتِها. وسرعان ما استكمل التعليم الزيتوني ببلادنا عناصره الأساسية من تلقين للدين، وإلمام بمصادره، وتعمق في علومه، وغوص على مقاصده، مضيفاً إلى ذلك ما يتأكد الإلمام به من معارف وعلوم ومواد ضرورية تعين على مواكبة العصر، وتفتح الآفاق أمام الخريجين، وتمكّن طلبة الجامع الأعظم من الإسهام في المسيرة الثقافية العلمية إسهاماً يضمن لجامعتهم أن تكون مستقراً ومركزاً لمقوماتنا الذاتية القومية من جهة، ومجالاً للعناية بالمواد المعروضة لا المفروضة من علوم العصر من أجل بناء المستقبل وإيجاد التوازن ودعم وتوطيد النهضة المباركة في ربوعنا. وقد توّج هذه الجهود العظيمة والمسيرة القويمة، مؤتمر الثقافة الإسلامية الذي عقدته الخلدونية بتونس في ذي القعدة 1368/ سبتمبر 1949 ودعت إليه من أطراف العالم الإسلامي علماء ومفكرين وكتّاباً ومندوبين عن الجامعات والمنظمات الثقافية الإسلامية (¬2)؛ فكان ¬

_ (¬1) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الأدبية: (2) 222. (¬2) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الأدبية: (2) 224 - 225.

لنجاحه الأثر الكبير في نفوس المواطنين، وفي نفوس رجال الفكر والعلم الإسلامي، مما دعا أحد كبار شعراء مصر بعد فترة من الزمن أن يشيد في بعض قصائده بهذه المعاني قائلاً: قم كرّم الزيتونة العظمى وقل ... لَيكادُ يشرق في حماك حراء * * * كم طاهر أو فاضل ملأوا الدنا ... عِلماً تقصَّى خطوَه الفقهاءُ فإذا بفيضهم الصدور حفيلةٌ ... وإذا بنورهم العقول وِضاءُ يا أخت أزهرنا الشريف سلمتما ... قُدْسَين تقصُر عنكما الغماءُ تحميكما وتشدُّ من أزريكما ... يَس والفرقان والإسراءُ وقد زاد من التفاف الناس حول الزيتونة ما قامت به هذه المؤسسة على مدى ألف وثلاثمائة سنة من الحفاظ على المقومين الأساسيين للملة: الدين الحنيف واللغة العربية، وما كان من انتشار فروعها في الآفاق وتعهدِ الإمام الأكبر بمراقبتها وتغيير أوضاعها ورفعها إلى المستوى اللائق والمطلوب، لتصبح منارات هداية ومنابع علم ومعرفة؛ ثم توزع أبناؤها وخريجوها بين طبقات الشعب كلها معلمين، وفقهاء ومدرسين، وقضاة ومحامين، وتجاراً وفلاحين، وأصحاب صناعات، حتى إنك لا تكاد تجد بيتاً من البيوت في تونس أو غيرها من العواصم والمدن والقرى إلا وله نسبة أو أدنى نسبة بذلك الجامع الأعظم تربطه به وتشدّه إليه. وتوغل التونسيون في النزعة القومية في أعقاب الحرب العالمية الثانية بفضل قيام الجامعة العربية. ونما الشعور لديهم بوجوب العمل من أجل إقامة الجامعة الإسلامية. وبدأت مظاهر ذلك ودلائله، فانفصلت الحركة السياسية التونسية عن التبعية للحزب الاشتراكي الفرنسي، وقامت الحركة الوطنية في أوجها مستقلة، يسندها ويدعو

لدعمها رجال الزيتونة وطلابها. وشارك الشيوخ في مؤتمر ليلة القدر، وأفلتت قيادة الحركة النقابية من أيدي الاشتراكيين والشيوعيين، وقامت جامعة الموظفين التونسيين متميزة بمكتبها ونظامها ورجالها وأهدافها. وأقام العمال حركتهم بتكوين الاتحاد العام التونسي للشغل في رحاب الزيتونة وبقاعة المحاضرات للجمعية الخلدونية. وتوجّس المستعمرون وأعداء الفكر الإسلامي خيفة من هذه التطورات، وجمعوا لذلك مكرهم وكيدهم للإيقاع بهذا التوجه القومي العارم، وهذه الروح الإسلامية القوية العتيدة. وحين تميّزت الزيتونة في هذه المرحلة بالتعليم العالي الديني الإسلامي، مثل سائر كليات الجامعة المتعددة والمختلفة التخصّصات، تكوّنت لذلك الجامعة الزيتونية وأسندت إلى سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عمادة هذه الجامعة، واستمر على إدارتها أربع سنوات من 1956 إلى 1960. وبعد أن كان التعليم العالي بالزيتونة بالجامع الأعظم منقسماً إلى ثلاثة أقسام: شرعي، وأدبي، وقراءات، يتخرج منه الطالب بشهادة العالمية في الشعبة التي انتسب إليها طَوال سنيّ الدراسة الثلاثة، انتقل التدريس بالجامعة الزيتونية إلى مبنى كبير ذي فصول عديدة خارج المسجد، وتعددت كلياتها. فكلية الشريعة يقضي بها الطلاب سنتين، وفي الثالثة تنقسم إلى شعبتين: شعبة أصول الدين، وشعبة القضاء؛ وكلية اللغة العربية يقضي بها الطلاب سنتين، وفي الثالثة تنقسم هي الأخرى إلى شعبتين: شعبة الآداب، وشعبة اللغة، وكلية القراءات للتخصص في علوم القرآن والدراسات القرآنية تمتد الدراسة بها ثلاثَ سنوات أيضاً. وقد اختير للجامعة بكلّ كلّياتها وشعبها نخبة من الأساتذة

زرع المعوقات وإقامة العقبات في وجه الإصلاح

المهرة المتميزين بالعمق والدقة وجودة النظر، ووُضعت لها المناهج لكل سنة، يُعدّها المجلس العلمي بها، وينتقي لها أهم الكتب والمصنفات للدروس والبحوث والمحاضرات. وكانت تصدر في بداية كل سنة نشرة تضبط المناهج والأوقات، وترتب الدراسات والفنون التي يتعيّن الاشتغال بها لتمكين الطالب عند التخرج من الحصول على الملكة العلمية والنظرة الواسعة الفقهية واللغوية، والقدرة على البحث والاجتهاد فيما قد يعرض من الوقائع والنوازل المستجدّة. زرع المُعَوِّقات وإقامة العقبات في وجه الإصلاح: خشِيت سلطات الحماية من تفاقم الوضع، ومن تضافر جهود المواطنين على نقض أهدافها السياسية وتخطيطاتها الاستعمارية في كل المجالات. فحاولت أن تقضي على حركات الإضراب الطالبية بجامع الزيتونة وفروعه، مثلما قامت بشنّ حملاتها على العناصر الشبابية، ورجال الحركة القومية، وتسليط ألوان القمع والاضطهاد عليهم: إيقافاً وتعذيباً وسجناً وإبعاداً، متّهمة هؤلاء وأولئك بالتنكّر للمدّ الحضاري الأوروبي الذي أقامت عليه فرنسة سياستها في المستعمرات، وبالتآمر مع أعداء النظام على أمن الدولة والعمل على التخلص من الاحتلال بكل صوره وجميع مظاهره وأشكاله. وهكذا لم تدع الإدارة الاستعمارية فرصةً تسنح إلا استغلتها من أجل إضعاف روح التكتّل القومي الهش، وفصل أتباعها السائرين على نهجها عن الثقافة العربية التونسية، كما عملت جاهدة على التحقير من شأن التعليم الزيتوني العربي الإسلامي أصليّه وعصريّه بصرف الناس عنه، مستعينة في ذلك بدعاة الفرنكوفونية الذين كانوا يسعون إلى مرضاتها، ويعملون جاهدين لاكتساب الأنصار من

المترددين وضعاف العزائم، موقرين في نفوسهم أن تقدم الشعب وتحقيق متطلباته لن يكون إلا بالخضوع للواقع، والسير وراء الأقوى، والأخذ بأسباب العزّة والقوّة من الحضارة الأوروبية القائمة، وإن أدى ذلك إلى اضمحلال الذاتية القومية بجميع مقوماتها وبالذوبان في الغير. وهو الاتجاه السياسي القديم الذي أملاه زويمر ودعا له من وقت احتلال فرنسة للجزائر عام 1830. وتلت هذه الجهود الماكرة والدعايات السياسية المضلّلة ألوانٌ من التصرّفات الإدارية الاستعمارية، تمثلت: أولاً: في تحجيم التعليم الزيتوني بعد انتعاشه. وقد يكون من الضروري هنا أن نصف ما كان عليه التعليم بتونس من فوضى، وما كان عليه المعلمون والأساتذة من حيرة. فالتعليم الزيتوني الذي كان يشق سبيله في شعبتيه العلمية والعصرية بفضل الجهود الإصلاحية الذاتية، إلى الظهور على غيره والتقدم عليه، وجد من المواطنين إقبالاً وعناية. فهو بشعبته العصرية يمثل بادرة فريدة من نوعها، وتجربة رائدة في تاريخ التعليم المُعَرَّب بتونس. وازدادت أهمية واعتزاز المجتمع التونسي العربي المسلم به، لأنه تمكّن من جهة على المحافظة على أهمية العلوم العربية والشرعية، ومن جهة ثانية أقام تعليماً عصرياً تجهيزياً علمياً يعدّ خريجيه للتخصص في الجامعات الشرقية والغربية، كما لبّى رغبات الأمة في تحقيق التجربة الأصلية باستيعاب العلوم العصرية دون التفريط في علوم الشريعة الإسلامية (¬1). ¬

_ (¬1) د/ علي الزيدي. تاريخ النظام التربوي، شعبة العصرية الزيتونية: 382.

ووقع أثر هذا الصراع الموجه بين هذا المعهد الديني والعلمي في جميع مراحله، وبين المعاهد الأخرى المخالفة له مضموناً وهدفاً. فكان محاطاً بمعاهد ذات صبغة ومناهج فرنسية ترمي إلى فرنسة العقول بإخضاع تلامذتها، لما يخضع له التلميذ الفرنسي، والنوع الثاني من التعليم كان مقصوراً على المدرسة الصادقية والمعاهد التي جرت مجراها، وكانت تمثل التعليم التونسي خالياً - أو يكاد - من العلوم الإسلامية. وحين اشتد الصراع وطغى العدوان الفرنسي قام ساسة ومفكرون تونسيون بإدخال أنواع من التطوير، تأكد بها القضاء على المعهد والجامعة الزيتونية. وكان هذا التصرف على مراحل: أولاً بإلحاق هذا التعليم بوزارة التعليم بعد أن كان من نظر رئاسة الحكومة ثم من نظر وزارة الدولة والمؤسسات الإسلامية. واستمر دعاة الإصلاح والمسؤولون عنه يحرصون على تعريب التعليم، ثم على توحيده. وكان من آثار ذلك فقط ترك التعليم الزيتوني مقصوراً على التعليم العالي دون أن تكون له روافد تسنده. ورغماً على الإصلاحات الجريئة تبخرت شعبة (أ) للتعليم العام التي كانت محط الآمال. وفصل الإمام عن المشيخة، وذَوَتْ الزيتونة وتعليمها العالي. وتواصلت قبل ذلك صور القمع والهدم للزيتونة، فكان من ذلك: أولاً: إيقاف حركة إنشاء الفروع الزيتونية. - التضييق على موارد التعليم الزيتوني بالحد من الاعتمادات المالية الضرورية للقيام بشؤون التعليم على الوجه المطلوب. - منع الأساتذة التابعين لإدارة التعليم والمعارف من الإسهام بدروسهم بالشعبة العلمية والعصرية قصد تحقيق النهضة العلمية الزيتونية.

- حجب تأشيرة الدخول للمملكة عن كثير من الأساتذة الضيوف الذين يتعاونون مع الزيتونة في نطاق تبادل الزيارات. وثانياً: دعوة مجلس الإصلاح للتعليم الزيتوني للانعقاد في محرّم 1369/ مارس 1950. وحمله على اتخاذ قرارات تعسّفية مناقضة لما تمّ اعتماده من تدابير للنهوض بالتَّعليم في الجامع الأعظم. وثالثاً: بثّ الفتنة بين أساتذة الزيتونة وتقسيمهم إلى مؤيدين للإصلاح ومناهضين له، وزعزعة الحركة الطالبية بإيجاد الفُرقة والنزاع بين الكتلة وصوت الطالب. ورابعاً: إيقاع المصادمات المفتعلة بين رجال الزيتونة من أساتذة وطلاب، وبين العناصر الوطنية عن طريق التحريشات المدبرة والسعايات الحاقدة. وقد كانت نهاية هذه التطوّرات إقصاء فضيلة الشيخ الجليل محمد الشاذلي بِالقاضي عن إدارة المدارس التي ساسها بما عرف به من عزم ورعاية وحكمة. وذوت الزيتونة أو كادت، وعاد عزيز أباظة يشيد بدورها الخالد في قوله: يا حجة الإسلام إنك، إن دَجَتْ ... رِيَبٌ عليه، سراجُه الوضّاءُ تحمين حوزته كما تحمي الألى ... والوا إليها القلعةُ العصماء فإذا امتَحنت فعزمةٌ سلَفيّة ... وإذا هززتِ فصخرة صماء نشروا على دنيا العروبة علمَهم ... وصلاحَهم أعلامُك العلماءُ وعلى المطهّر من حماك تفقّه الـ ... ـحفّاظ والقرّاء والحكماءُ ولم تفتر حركة الإصلاح بعد ذلك. فتتابع التجديد والنظر في برامج الشعبتين الأصلية والعصرية، واستمرت إرساليات الخريجين

إلى المشرق وإلى أوروبة، كما تحصّل الطلاب بعزمهم الشديد وصبرهم وصمودهم على بناء مراكز مناسبة للتعليم الزيتوني. ثم تعطّل ذلك كله بعد اتخاذ القرارين الحكوميين القاضيين بتوحيد القضاء بالبلاد التونسية، وبتوحيد التعليم في كل المدارس والمعاهد الابتدائية والثانوية. ومع تزايد الإقبال على الزيتونة من طرف طلاب العلم، وأمام تكاسُل الإدارة الاستعمارية وقعودها عن تشجيع هذه المؤسسة الأم للتعليم ببلادنا، قامت إدارة الجامعة الزيتونية باستئجار كثير من الدور والمنازل الكبيرة لإيواء شُعَب التعليم بأقسامها، كما أسَّست بالتعاون مع أهل البر والإحسان في بلادنا مقراً كبيراً لإقامة الطلبة، هو الحي الزيتوني. ومن مظاهر التطوير العلمي للتعليم الزيتوني تعديل المناهج، واختيار الكتب الصالحة للتدريس. وبدأت حركة التأليف تظهر بتونس في مختلف العلوم كالرياضي والطبيعي منها باللغة العربية. ولا بدع إن تغنّى الشعراء بهذه النهضة الكبرى المباركة، أو فاخروا بهذه الأمجاد الرفيعة. فقد جاء من ذلك على لسان مصطفى خريف: فدى لأبي الزيتونة القرم وابنها ... وشيخ علاها، جاحد الفضل كافره لقد كاد نور العلم فيها لينطفي ... فأوقده الشهم ابنُ عاشور طاهرُه إمام على نهج الحقيقة سائر ... هَداه إلى نهج الحقيقة فاطرُه أخو عزمات لا تلين لغامز ... ورَبُّ مزايا ليس تفنى مآثره * * *

القسم الخامس مؤلفات الإمام الأكبر

القسم الخامس مؤلفات الإمام الأكبر

تمهيد

تمهيد: كانت حياة شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور حافلة بالنشاط العلمي والفكري. بدأت ثمارُ ذلك تظهر من حين تخرّجه بالجامع الأعظم جامع الزيتونة واستكماله الدراسة به إلى أن التحق بربِّه. وهو نمط فريد من الشيوخ لم نعرف مثله بين معاصريه أو طلابه، أو مَن كان في درجتهم من أهل العلم. إذ كان انكبابه على الدرس متميّزاً، واشتغالُه بالمطالعة غيرَ منقطع، مع عناية دائمة مستمرة بالتدوين والكتابة، وتقديم ما يحتاج إليه الناس من معارف وعلوم، وأذواق وآداب، وملاحظات وتأمّلات. فلا بدع إذا اطَّردت جهوده واستمر عطاؤه في مختلف مجالات الدرس والثقافة: في حقول المعرفة الدينية والشرعية، وفي الدراسات اللغوية والأدبية، وفي معالجة أوضاع التعليم بالزيتونة والعمل على إصلاحها، مع ذبِّه عن الإسلام أصوله وآدابه، وتطلّعه كل يوم إلى مزيد من المعرفة بكل ما يمكن أن يقع تحت يده من كتب فريدة ومخطوطات ومصنفات في شتى العلوم والفنون. وهبه الله متانة علم، وسعة ثقافة، وعمق نظر، وقدرة لا تفتُر عن التدوين والنشر، وملكات نقدية يتضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتفريعات وما يلحق بها من تصرفات وإبداعات. وهكذا صدرت مقالاته وتحقيقاته وبحوثه وتآليفه متدفّقة متوالية من غير انقطاع أو ضعف. فنُشر منها ما نُشر، وبقي الكثير منها محفوظاً بخزانة آل عاشور ينتظر مَن يتولى نشره وطبعه وتحقيقه.

مؤلفات شيخ الإسلام الإمام الأكبر

وقد عمدنا في هذه العجالة إلى محاولة ضبط هذا التراث الفكري والعلمي الذي ورثناه عن سماحة شيخنا، بدون تفصيل أو نقد لمحتوى الكتب والمقالات التي ألفيناها بين أيدينا، وإنما هي الإشارات واللمحات الدالة. وذلك لضيق هذه المقدمة عن الاتساع للغرض. ولكننا، بإذن الله، نقدم بهذا الباب كتاب المقاصد الشرعية وهو الأثر الكبير الهام بعد التحرير والتنوير والمقصود من هذا التأليف، والذي يحتاج منا إلى بيان مباحثه وضبط مسائله، وإلى المقارنة بينه وبين غيره من الكتب المتقدمة التي استمد منها الشيخ عناصر بحثه في المقاصد والمصالح. مؤلفات شيخ الإسلام الإمام الأكبر: يتّضح لكل من يقف على تنوّع مؤلفات الإمام مع كثرتها أنها متميزة مادةً ووضعاً وإعداداً وقصداً. ورأينا ابتداءً أن نصنفها تصنيفاً عاماً نفرق به بين ما أعده من مقالات وبحوث ودراسات وكتب في العلوم الشرعية، وبين ما وجدناه من ذلك في علوم العربية وأسرارها، وفي العلوم الأدبية المختلفة، وفي سائر الاهتمامات، مشيرين في كل قسم من هذه الأقسام إلى ما وقفنا عليه من بعض آثاره في الصحف والمجلات المحلية والمشرقية التي يمكن للباحثين الرجوع إليها والاستفادة منها. وقد يكون تعريفنا بذلك مفصّلاً أحياناً ومختصراً أخرى حسب الإمكانات المتوفرة، وما تتسع له هذه العجالة من تقديم كتاب المقاصد. العلوم الشرعية: يشتمل هذا القسم على ما أثر عن شيخنا من مقالات أو كتب في التفسير، والسيرة والسنّة، والأصول والفقه والفتاوى، ومقاصد الشريعة.

وتضمنت المجلةُ الزيتونية مجموعةً من دروس التفسير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، اشتمل عليها كتاب التحرير والتنوير. وهي من جملة ما نشرته المجلة تباعاً في مجلداتها: 1 - 9. ويمكن أن نلحق بهذه الدروس أو المقالات التفسيرية: أولاً: تحرير معنى قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (¬1). أورده المؤلف في مجموعة من البحوث جمعها نجلُه الأُستاذ عبد الملك في كتاب أسماه تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة. وعنوان البحث جواب لأحد الفضلاء في تحرير مسألة في علم الهيئة: 173. ثانياً: تحقيق ترجمة عالم كبير وأحد رجال الإصلاح، وَهَم الناسُ في تسميته. هو أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المفسّر صاحب كتاب: جامع التأويل لمحكم التنزيل (¬2). * * * أما كتاب التفسير للإمام الأكبر فهو كما قدمنا التحرير والتنوير. وهو جملة دروس ألقاها على طلابه بالجامع الأعظم أسماها أمالي. أول ما طبع من التفسير: جزء عم وسبح بتونس سنة 1956، كما نُشرت المقدمات مستقلة وهي تتصل بعلوم القرآن، ونُشر بالقاهرة المجلدان الأولان منه، سنة 1965، 1966، وطبع كاملاً ابتداء من 1968 بتونس. وهو يحتوي على خمسة عشر مجلداً، بها تفسير ثلاثين جزءاً بتجزئة القرآن. ¬

_ (¬1) يس: 38. (¬2) الهداية: السنة الثامنة، العدد الأول. سبتمبر، أكتوبر 1980: 34 - 36.

التحرير والتنوير

التحرير والتنوير لا يعد كتاب التفسير: التحرير والتنوير من بين كتب التفسير المعاصرة. فهو بالمنهج العلمي ألصق، وبطرق السابقين المتقدمين ألحق. لا يقف صاحبه من آثار الأسلاف في هذا الميدان موقف الطاعن أو الذامِّ، ولكن موقف المهذِّب والمستدْرِك. صدّر الإمام الأكبر تفسيره بمقدمات في علوم القرآن. وجعل تلك المقدّمات قسماً من الجزء الأول من التحرير، تناول فيه عدداً من القضايا الهامة مثل: التفريق بين التفسير والتأويل، واستمداد علم التفسير، والتعريف بالمنهجين المعتمدين في تفسير القرآن: التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي. كما بحث مقاصد التفسير، وأسباب النزول، وعرّف بالقراءات، وتحدّث عن قصص القرآن، وختم جملة هذه المباحث بتقسيمات القرآن وترتيباته وأسماء ذلك. وخصص المقدّمتين التاسعة والعاشرة: الأولى ببيان أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن ينبغي أن تكون مرادة منها، والثانية بإعجاز القرآن. وفيها من جملة المباحث ذكر مبتكرات القرآن وعاداته. ومضى الشيخ ابن عاشور في تفسيره على نمط فريد في عصرنا الحاضر، يداني به كبار أئمة التفسير المعتمدين، ويجنح بطلّابه فيه إلى مختلف الطرق، تمكيناً لهم من فهم النص القرآني فهماً كاملاً، وتدريباً لهم على الغوص على لطائف معانيه وإشاراته، غوصاً يسمح لهم بالانتباه إلى دقائقه، مع التربية لملكاتهم والصقل لمواهبهم والارتقاء بأذواقهم. فهو يخاطب به في حلقات درسه طبقة خاصة من طلبة الدراسات العليا، وعدداً من المدرِّسين الذين كانوا يُهرعون إلى مجلسه للتأدّب به والتعلّم منه والتخرّج عليه. فهو يبني بهذه الطريقة

جيلاً جديداً يتلقّى المشعل من يده، وينهج منهجه في سيره، فيعمّ بذلك نفعُه العامةَ والخاصةَ، ويحفظ به اللغة وآدابها، ويُعنى فيه بالقرآن الكريم الذي وعد سبحانه بحفظه في قوله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). وقد اعتمد الإمام الأكبر المنهج الصحيح في تفسيره، المنهج الذي لا غنى عنه لدارس ولا لباحث ينظر في كلام الله تعالى. فنبّه إلى أن تفسير التراكيب القرآنية ينبغي أن يجري على تبيين معاني الكلمات بحسب استعمال اللغة العربية، ثم بأخذ المعاني من دلالة الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة، وباستخلاص المعاني المستنبطة منها عن طرق دلالات المطابقة والتضمين والالتزام مما يسمح به النظم البليغ ولو تعددت المحامل والاحتمالات، وكذلك بنقل ما يؤثر عن أئمة المفسّرين من السلف والخلف مما ليس مجافياً للأصول ولا للعربية، مع تجنّب الاستطراد والاندفاع في أغراض شتى ليست من مفادات تراكيب القرآن. وقد جعل من أهم مصادره في تحريره: تفسير الكشاف للزمخشري، والمحرر الوجيز لابن عطية، ومفاتيح الغيب للرازي، وتفسير البيضاوي الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع، وتفسير الشهاب الآلوسي، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتازاني على الكشاف، وما كتبه الخفاجي على البيضاوي، وتفسير أبي السعود، وتفسير القرطبي، والموجود من تفسير الشيخ محمد ابن عرفة التونسي من تقييد تلميذه الأبِّي. وهو بكونه تعليقاً على تفسير ابن عطيّة أشبه منه بالتفسير. لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن، ¬

_ (¬1) الحجر: 9.

وتفاسير الأحكام، وتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري، وكتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما نسب للراغب الأصبهاني. وإنك إذا تأملت تفسير العلامة الشيخ ابن عاشور ألفيت العقل الراجح، والرأي الصائب، وسعة الفكر، وقوة البيان، مع الحجة القوية والبرهان القاطع. وقد استعد لهذا الدور الجليل بما اكتسبه من علم وخبرة وذوق وملكة في اللغة وآدابها، وبما حصل له من وراء ذلك من مدارك وتصرّفات، هي نتيجة طبيعية لممارساته لفنون القول. لذلك تراه، وهو المزوّد بهذه الثقافة العالية الواسعة، والخبرة العميقة الطويلة، يسلك، في تفسيره وفي تحريره للمعاني والمقاصد، الطريقةَ التطبيقية التي جرى عليها الزمخشري وابن الأنباري وابن الشجري وأمثالُهم. فإذا ما قصرت هذه عن الوفاء بما أراد، عاد إلى محفوظه ومروياته من كلام العرب وأشعارها مستشهداً ومستنبطاً، معلناً عن ابتكاراته وأفهامه الخاصة بقوله: "وعندي" وهكذا يضم هذه الطريقة الاستنتاجية التي كان عليها المبرِّد إلى الطريقة التطبيقية، وهذا الاجتهاد هو ما لا يتسنّى لكل أحد، ولا نأنَسُه بكثرة عند أمثاله من المتقدّمين في هذا العلم. ومن يُعِد النظر في منهج العلامة الإمام الأكبر في تفسيره يُلْفِ به طِلْبةَ الباحث والدارس من المتعمّقين المتخصّصين. ففيه أحسنُ ما في التفاسير وأحسنُ ممّا في التفاسير (¬1). ¬

_ (¬1) محمد الحبيب ابن الخوجة. بحث في التحرير والتنوير لشيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور. اْثبت ذيل كتاب التفسير ورجاله للشيخ محمد الفاضل ابن عاشور. وبحث في الجانب اللغوي والبياني في التحرير والتنوير مقدم ضمن فصول أدبية وتاريخية لمجموعة من العلماء والأدباء مهداة إلى أ. د ناصر الدين الأسد.

اعتمد الإمام الأكبر في الأساس أغراض التفسير التي دعا إليها الله في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬1). وقد نبه إلى ذلك في المقدمة الرابعة من تفسيره، وجعل أغراض التفسير بحسب استقرائه ثمانية (¬2). ومما جاء في هذه المقدمة قوله: فغرض المفسِّر بيانُ ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمل المعنى ولا يأباه اللفظ، أي من كل ما يوضّح المراد من مقاصد القرآن أو ما يتوقّف عليه فهمه أكمل فهم، أو يُخفى المقصد تفصيلاً وتفريعاً مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل فلا جرم كان رائد المفسِّر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحَه وعاداتِه في إطلاق الألفاظ. وللتنزيل اصطلاحات وعادات تعرض صاحب الكشاف إلى شيء منها في متناثر كلامه في تفسيره (¬3). وقد رأينا من الباحثين المعاصرين الدكتور عبد الغفار عبد الرحيم يقارن بين تفسير المنار للأستاذ الإمام، وبين التحرير والتنوير للإمام الأكبر. فعجبنا من اعتباره صاحب التحرير جارياً على المنهج الذي اختاره الإمام محمد عبده، وجرى عليه أبناء مدرسته مثل السيد محمد رشيد رضا والشيخ عبد القادر المغربي والشيخ محمد مصطفى المراغي وأمثالهم. ثم أظهر التردد في ذلك عند قوله عن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: إنه أحد أبناء هذه المدرسة ولكن على نمط آخر فريد. ويكشف عن إصابته وجه الحق بعد هذه المقالة بقيامه في كلمة موجزة بالمقارنة بين الأثرين. وذلك حين يقول ¬

_ (¬1) ص: 29. (¬2) التحرير والتنوير: 1/ 40، 41. (¬3) التحرير والتنوير: 1/ 41، 42.

عن الإمام الأكبر في تفسيره: فلقد جمع هذا التفسيرُ خلاصة آراء السابقين، وزبدة أفكار المعاصرين في أسلوب أدبي رفيع، وتقسيم علمي بديع (¬1). ومن المفيد أن نعرّف بمنهجي الإمامين المتقدمين: فالإمام محمد عبده اعتمد أسلوباً خطابياً مقنعاً يظهر تأثيره في التصرفات القولية التي تتكوَّن منها مادة تفسيره، وفي المحاور الهامة التي كان يتناولها للاستحواذ على الجماهير من مخاطبيه وقرائه، وفي أنواع الجدل وصور المقارنة وطرق المناقشة ذات الأثر البيّن في تقديم آرائه وتركيز نظرياته التي يدعو إليها. والإمام محمد الطاهر ابن عاشور له اتجاه آخر أساسه ثقافته الأدبية والشرعية، واتساع أفقه العلمي وتمكنه من علوم الوسائل والمقاصد جميعها، مع انتصابه للتدريس والتأليف زمناً طويلاً، وقيامه بالدعوة الإصلاحية فيهما. ويتضح موقف صاحب التحرير من آثار الأسلاف في هذا الميدان. فهو غير موقف الطاعن والذامِّ، ولكن موقف المهذب المستدرك. حمله على الالتزام بذلك مخالفته لعدد من المتقدمين كانوا، فيما صوَّرهم به، أحدَ رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون. وفي كلتا الحالتين ضر كثير. وهناك حالة أخرى يجبر بها الجناح الكسير وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، علماً بأن غَمضَ فضلهم كُفران للنعمة، وجحد مزايا سلفنا ليس من حميد خصال الأمة. فالحمد لله الذي صدق الأمل ويسر إلى هذا الخير ودل (¬2). ¬

_ (¬1) الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير: 6. (¬2) التحرير والتنوير: 1/ 7.

السيرة النبوية الشريفة

السيرة النبوية الشريفة: جملة ما وقفنا عليه في هذه المادة يمليه في الغالب حبُّ صاحب السيرة، والتشرّف بالانتساب إليه، ومحاولة التقرّب منه بدوام ذكره، والائتساء به، والتنويه به تنويهاً يملأ أفئدة الناس وأرواحهم جلالاً وجمالاً، وحباً وتقديراً، وانجذاباً وتعلّقاً. ولا يكاد يوجد عالم مؤمن أو إمام تقي ورع، إلا وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملأ قلبه ورُوعَه، ويمَازج عقله وفكره، ويجري على قلَمه ولسانه. وهكذا أقبل الناس على العناية بالسيرة النبوية التي إذا ما أطلقت انصرفت في التوّ إلى سيرة رسول الرحمة ونبيّ الأمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وربّما كان هذا خصيصي لبعض البيوت يتوارثها أعضاؤها، ويحافظون عليها مَنقَبَةً لهم في الخالدين، وسمةً تربطهم بعباد الله الصالحين، وعنوانَ موالاة بين أيديهم لسيد العالَمين خاتم الرسل والنبيين خير عباد الله أجمعين. فسماحة شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور الأول قد ارتبط برباطه الأوفى بالحضرة الشريفة النبوية بكتابه المعروف شفاء القلب الجريح بشرح بردة المديح، وحفيدُه وسميُّه قد نقل هذا اللون من الولاء لنجله الأكبر العلامة محمد الفاضل ابن عاشور صاحب كشف الذعرات بوصف الشعرات. مقالات الإمام الأكبر في السيرة والشمائل: تميّز الإمام الأكبر مترجمنا بجملة من الآثار في هذا الباب نذكر منها ست مقالات وكتاباً: 1 - المقال الأول: نسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) م. ز. المجلد الأول، عدد 9، 1356: 416 - 424.

2 - المقال الثاني: الشمائل المحمدية (¬1). 3 - المقال الثالث: المقصد العظيم من الهجرة (¬2). 4 - المقال الرابع: الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإرشاد (¬3). 5 - المقال الخامس: الإسراء (¬4). 6 - المقال السادس: وفود العرب في الحضرة النبوية (¬5). ويمكن أن نضمّ إلى هذه المقالات ما نشره بالمشرق. وقد وقفنا من ذلك على جملة منها: 7 - إعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الاهتمام بتناول الطعام (¬6). 8 - مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). 9 - المعجزات الخفيّة للحضرة المحمدية. ¬

_ (¬1) م. ز. المجلد الأول، عدد 9، 1356: 452 - 456. (¬2) م. ز. العدد 3 من المجلد 3، 94 - 97 بتاريخ/ محرم 1358، مارس 1931. (¬3) مجلة الهداية في ثلاثة أعداد منها: السنة الأولى، العدد الأول، أكتوبر 1973: 29 - 34؛ السنة الثانية، العدد الثالث. أبريل 1975: 27 - 30؛ السنة الرابعة، العدد الرابع، مارس 1977: 12 - 15. (¬4) مجلة الهداية في السنة الثانية، العدد الرابع، يوليو 1975: 110 - 112. (¬5) مجلة الهداية في خمسة أعداد منها: السنة الخامسة، العدد الرابع، مارس 1978: 25 - 30؛ السنة الخامسة، العدد الخامس. مايو 1978: 51 - 54؛ السنة السادسة، العدد الأول. سبتمبر 1978: 17 - 21؛ السنة التاسعة، العدد الثاني، نوفمبر - ديسمبر 1981: 17 - 21؛ السنة التاسعة، العدد الثالث، يناير - فبراير 1982: 41 - 45. (¬6) الهداية الإسلامية بمصر: المجلد 7. (¬7) المرجع السابق.

قصة المولد

10 - معجزة الأمية (¬1). 11 - الكتاب الذي همّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته (¬2). قصة المولد: وقد توّج الإمام الأكبر هذه الجوانب من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكتاب قصة المولد الذي جرى فيه على غرار المتقدّمين من أهل العلم أمثال الحفاظ: أبي بكر بن أبي عاصم من أهل المائة الثالثة، وابن كَثير، وابن الجزري الشيرازي، والعراقي، وابن حجر العسقلاني، والسَّخاوي، والسيوطي، وأضرابهم. والكتاب رسالة فريدة علمية متينة، تناولت من الأغراض والموضوعات: التعريف بقريش والمفاضلة بينها وبين سائر القبائل، نسب المصطفى فيها. حياته بمكة قبل البعثة، البعثة، شدّة المشركين عليه وعلى أصحابه، أعمامه، رسالته العامة، اتساع الدعوة، مغازيه، شمائله - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك كانت محل عناية الباحثين من المؤرّخين وغيرهم. وقام بتلخيصها نجله الأكبر العلامة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور. فشاع ذكرها بين الناس لما جمعته من سنيّ المقاصد وبديع الفوائد. ورأيت الكثيرين يحتفون بها احتفاءهم بنبيّهم، تطلعاً إلى كمال معرفته، ويحرصون على التميز بها على الأقران، والإفادة منها، واستنساخها ما وسعهم ذلك. وقد تمّ طبعها بتونس 1392 - 1972. ¬

_ (¬1) الهداية الإسلامية بمصر: المجلد 10. (¬2) المرجع السابق: المجلد 12.

السنة

السُّنَّة: بمثل اهتمام الإمام الأكبر بالقرآن الكريم حفظاً ورواية ودراية، وبمثل اشتغاله به، رحمه الله، درساً ومحاضرة وتأليفاً، انصبت عنايته الكبرى على جوانب من السيرة النبوية الشريفة، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم، وعلى السنة ودواوينها. فالتهم كل ما وقع تحت يده منها، أو تمكن من التعرّف والوقوف عليه في مصنّفاتها وكتبها عن طريق ما تحمّله عن جدّه من ذلك في دروسه بالبيت، أو ما تلقّاه عن أشياخه بجامع الزيتونة. وقد بقيت مظاهر هذه العناية مصاحبة له، يدلّ على ذلك ما ورد من وصف مجالسه العلمية في إجازة نجله العلامة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور إياي يوم الأربعاء خامس شهر رمضان المعظم من سنة 1366 (¬1). قال رحمه الله: ختمت بين يديه (شيخ الإسلام العلامة الكبير) بمقام سيدنا أبي زمعة البلوي - رضي الله عنه -، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبايعه بيعة الرضوان، قراءةَ كتاب الشمائل النبوية للإمام أبي عيسى الترمذي - رضي الله عنه -، في اليوم الثامن من شهر ربيع الأول 1349. وقد كنت منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً ملتزماً في شهر رمضان المعظّم من كل سنة أن أقرأ بين يديه كل ليلة بعد صلاة التراويح مقداراً من الحديث الشريف قراءة ضبط وتحقيق بمحلنا بالمرسى. فقرأت عليه في تلك المجالس صحيح الإمام مسلم من أوله إلى ¬

_ (¬1) هذه الإجازة أثبتها مقام والدي سماحة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، رحمه الله، في آخر دفتر شهاداتي رقم 2615 بتاريخ 10 شعبان 1357، 4/ أكتوبر 1938.

تآليف الإمام الأكبر في السنة

آخره، وهو ينظر في صفحاته ويشكلها ويثبت الروايات بالقلم الأحمر. وختمت عليه في تلك المجالس أيضاً موطأ الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه -، مرتين. ثمّ أضفت الآن ثالثة قرأتها بين يديه، زاده الله سناء، بالروضة الشريفة من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة المنورة في شهر ذي الحجة 1363. وقرأت عليه صحيح البخاري من أوله حتى أتينا الآن على أربعة أخماسه. وقرأت عليه جامع الترمذي، قراءة في غاية الضبط والدقة يتناول أثناءها، أدام الله عزَّه، تصحيح النسخة المطبوعة بمصر مع شرح ابن العربي، ونقابلها بأربع نسخ خطية من خزائن جامع الزيتونة الأعظم، ونراجع لتحقيقها ما شاء الله من دواوين السنة، وكتب الرجال واللغة مثل الإصابة، وتهذيب التهذيب، والكاشف للذهبي، ونهاية ابن الأثير، ولسان العرب، وقاموس الفيروزآبادي وشرحه (¬1). وعكوف طويل كهذا على كتب الحديث وتدريسها لطلاب الزيتونة حَمَلا دون شك هذا الإمام على أن يضع شرحاً للمغلق من الأحاديث، محاولاً حلّ معاقدها، أو يكتب بعض البحوث والدروس في السُنة النبوية الشريفة، أو يتولّى، بعد تدبّر معانيها، القيام بنقد أسانيدها ومتونها. تآليف الإمام الأكبر في السُّنة: وإلى جانب هذه المقالات العلمية الأنموذجية نقف له على تآليف رائعة متنوّعة في موطأ الإمام مالك، وفي صحيح البخاري. ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه.

المطبوع من المقالات في السنة

ومقالاته كثيرة متنوعة يمكن أن نردّ ما ظفرنا به منها إلى ثلاثة أقسام: شروح، وبحوث، ونقد. ففي القسم الأول منها وقفنا له على عدد من المقالات من مطبوعة ومخطوطة. المطبوع من المقالات في السُّنة: 1 - المقال الأول: تحقيق رواية الفربري لصحيح مسلم (¬1). 2 - المقال الثاني: الفربري ورواية الصحيحين (¬2). 3 - المقال الثالث: دفع إشكال في حديث نبويّ: "سألت ربّي أن لا يسلّط على أمّتي عدواً من سوى أنفسهم". كتبه إجابة عن تساؤل أحد طلبته. وهو حديث طويل مختلفة ألفاظه. رواه مسلم عن ثوبان. وأبو داود، والترمذي، وأحمد، وابن ماجه، وابن حبان عن ثوبان أيضاً. ونصّه كما ورد في صحيح مسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُويَ لي منها. وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربّي لأمّتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يردّ، وإنّي أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم. ولو اجتمع عليهم من أقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً أو يسبي بعضهم بعضاً" (¬3). ¬

_ (¬1) الهداية: السنة التاسعة، العدد السادس. يوليو، أغسطس 1982: 98 - 99. (¬2) الهداية: السنة العاشرة، العدد الثاني. نوفمبر، ديسمبر 1982: 34 - 39. (¬3) مَ: 52 كتاب الفتن، 5 باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض: 3/ 2215، 19.

وقد تتبع الإمام الأكبر هذا الحديث مع إشكاله في عديد الشروح لعياض والنووي والأبّي من شرح مسلم، ولابن العربي في شرح الترمذي، والخطابي في شرح كتاب أبي داود، ووجد أنهم لم يتناولوه بما يستحقه من البيان. فتولّى، رحمه الله، شرحه مقتصراً على محل الإشكال من رواية مسلم (¬1). 4 - المقال الرابع: في شرح حديث: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة". أخرجه أبو داود بسندٍ رجالهُ من رجال الصحيح عن أبي هريرة (¬2). وذكر الشيخ ابن عاشور أن هذا الحديث رواه ابن ماجه بسند فيه ضعف عن أنس مرفوعاً، وعن أبي هريرة بزيادة: مِنْ عِلم يعلمه، وعن أبي هريرة بأسانيد أخرى، وبسند أكثرُ أهله من رجال الصحيح عن أبي سعيد الخدري، وفيه صفوان بن سليم متكلَّم فيه. كما رواه الترمذي عن أبي هريرة. وقال: حديث حسن. وروي عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعمرو بن العاص مرفوعاً بأسانيد ضعيفة متفاوتة (¬3). 5 - المقال الخامس: في شرح حديث: "من لم يهتمَّ بالمسلمين فليس منهم". ذكره الغزالي في مبحث النصيحة للمسلمين من كتاب آداب الصحبة، الإحياء؛ ورواه الحاكم في مستدركه عن ¬

_ (¬1) انظر المجلة الزيتونية: م 2/ 8 - 9، 358 - 361، ربيع الأول والثاني 1357/ 4 - 5. 1938؛ تحقيقات وأنظار: 94 - 98. (¬2) دَ: 19 كتاب العلم، 9 كراهية منع العلم: 4/ 67. (¬3) المجلة الزيتونية: م 2/ 2، 64 - 68، رمضان 1356/ نوفمبر 1937؛ تحقيقات وأنظار: 99 - 104.

ومن المخطوط من المقالات

حذيفة مرفوعاً؛ والطبراني عن أبي ذر مرفوعاً؛ والسخاوي في المقاصد الحسنة، وفي شُعب الإيمان للبيهقي، من رواية وهب بن راشد عن فرقد عن أنس؛ والسيوطي في جمع الجوامع. قال: رواه الحاكم عن ابن مسعود وتعقّبه، والبيهقي وابن النجار عن أنس، وفي الجامع الصغير (¬1). ومن المخطوط من المقالات: تعليقات على شرح حديث أم زرع. بحوث وضعها الإمام الأكبر ابتداءً، إما رغبةً في تحرير مسائلَ وتفصيل قضايا حديثية، ومنها ما كان استجابة لطلب ورد عليه حمله على تدوين ما عنّ له فيه، إجابة لرغبة السائل، أو شرحاً لما يتّصل بموضوعه أو يتناوله من تصوّرات أو أغراض أو أحكام. البحوث في الحديث: القسم الأول: من هذه البحوث وهي خمسة: 1 - درس في موطأ الإمام مالك - رضي الله عنه -. الحديث الأول من باب جامع القضاء وكراهيته: ثني مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي: أن هَلمّ إلى الأرض المقدّسة. فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عملُه. وقد بلغني أنك جُعلت طبيباً تداوي. فإن كنت تُبرىء فنعمّا لك، وإن كنت متطبّباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار. فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه، نظر إليهما. ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: م 7/ 1، 649 - 652؛ ربيع الأول 1366/ يناير 1947؛ تحقيقات وأنظار: 105 - 108.

2 - ومن البحوث: من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

وقال: ارجعا إليّ. أعيدَا عليّ قصّتكما. متطبب، والله (¬1). تعرض الشيخ ابن عاشور أولاً إلى بيان موضع هذا الحديث من كتاب القضاء في الموطأ؛ وإلى التنبيه على وجوب حماية الحقوق إذا ترتَّبت على اقتضاء المصلحة العمرانية آثارٌ قد تكون ضارة بالناس. فيكون على التشريع أن يحميهم من ذلك بوجه تسلم به المصلحة من الإضرار. ثم إلى تقرير قواعد العدل لإصلاح الدهماء وإقناع الحكماء والعلماء، والتذكير بدعائم ذلك من الحرية والإخاء؛ والتأكيد على أن في القضاء مجاهدة، وأنه يبلغ بصاحبه مرتبة الفضيلة إذا التزم الحق في قضائه، والحديث عن شروط القضاء؛ مع تحريرات ونقول مهمّة. وبعد تفصيل القول في جملة هذه العناصر ترجم المؤلف لأبي الدرداء، وذكر مؤاخاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمان، وقول معاذ: اطلبوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وتخلّص إلى أن الحوار الذي دار بين هذين الصحابيين يرقى به، بفضل تلك الشهادة، إلى مرتبة الحديث النبوي، إذ هو دائر بين الحكمة والعلم المشهود بهما لهما. ثم مضى في شرح حديث الباب هذا، يَذكر نقولاً ثابتة، ومقارنات مفيدة، مُورداً نظائره ومتمّماته لاستجلاء معناه وتحقيق المراد منه (¬2). 2 - ومن البحوث: من يجدّدُ لهذه الأمة أمر دينها (¬3): كان عمله فيها انطلاقاً من حديث سليمان بن داود المهري: ¬

_ (¬1) ط. 37، كتاب الوصية، 8 باب جامع القضاء وكراهيته؛ ح 7: 2/ 769. (¬2) راجع هذا البحث في تحقيقات وأنظار: 61 - 70. (¬3) ورد ذكره ونصه فيما نشره علي الرضا الحسيني كما تقدّم.

أخبرنا ابن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة - فيما أعلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها أمر دينها". قال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يُجِز به شراحيل (¬1). وافتتح الباحث حديثه بوصف الإسلام بكونه خاتم الأديان، وأن شريعته عامة باقية. ونعتَ الشريعةَ بكونها إرشاداً صرفاً، وأن للفضائل والصالحات تضاؤلاً وتخلفاً بكرور الأزمان، وأن لدأب النفوس في المسير حنفاً وانحرافاً إذا امتد الميدان. فاحتاج الأمر بموجب ذلك إلى تجديد أمر الدين. وهو ما اقتضاه قول الحق سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). والحفظ لا يتحقق إلا بثلاثة مقامات: هي الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال، وتجديد ما رثّ من أصول الدعوة، ومقام الذبّ عن الدين وحمايته، ولا يضطلع بالمقامين الأولين غير أهل العلم. ثم تولى الإمام الأكبر بيان طرق الحديث ورواته. ثم بيَّن معناه بتفصيل القول في المراد بـ "التجديد" وبـ "أمر الدين" في هذا الحديث، قبل أن يتحدث عن دعائم الإسلام: العقيدة والشريعة، وحماية البيضة، مؤكداً أن التجديد الديني يكون بإصلاح الناس في الدنيا من جهتي التفكير والعمل، ومن جهة تأييد سلطان الدين. وبعد الوقوف عند معنى التجديد، وعند المقصود من مضي المائة سنة، باعتباره مظنّة لتطرق الرثاثة والاحتياج إلى التجديد، جعل شطر بحثه ¬

_ (¬1) دَ. السنن: 31 كتاب الملاحم، 1 باب ما يذكر في قرن المائة: 4/ 480. (¬2) الحجر: 9.

3 - تحقيق مسمى الحديث القدسي

الثاني عن المجدّد وزمن ظهوره وتعيينه، وبيان صفاته وصنفه وعدده مستعرضاً آراء العلماء في ذلك من أمثال ابن السبكي والمجد ابن الأثير، ومتعمّقاً جوانب هذا الموضوع الشريف دراسة وتمثيلاً (¬1). ويقع هذا البحث في عشرة مقالات (¬2). 3 - تحقيق مسمى الحديث القدسي (¬3): وضع مترجمنا هذا البحث إثر صدور كتاب الأحاديث القدسية عن لجنة القرآن والحديث بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة. وقد دلَّ هذا على تتبعه لأكثر ما يصدر من كتب العلم. فكتاب الأحاديث القدسية مستمدة أحاديثه من الموطأ والصحيحين ومن كتب السنن الأربعة. وفي الثناء على اللجنة التي أصدرته يقول الشيخ رحمه الله: "فحمدت عناية أعضاء اللجنة واهتمامهم بهذا العمل، إذ قلّ من اهتمّ بإخراج الحديث القدسي في كتاب مفرد". وبعد هذا التقديم لكتاب الأحاديث القدسية تناول الإمام الأكبر أربعة محاور لبحثه: المحور الأول - في التنبيه على ما ورد من ذكر للحديث القدسي: أولاً: في شرح الحديث الرابع والعشرين من شرح الأربعين النووية لابن حجر الهيتمي. قال: والأحاديث القدسية أكثر من مائة جمعها بعضُهُم في جزء كبير. ¬

_ (¬1) تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة: 109 - 150. (¬2) مجلة الهداية الإسلامية بمصر. المجلد 11. (¬3) النشرة العلمية للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين: 43 - 50، العدد الأول 1973.

ثانياً: في شرح الأربعين النووية لعلي قاري. قال فيه: الأحاديث القدسية أكثر من مائة. ونبّه الإمام إلى أن هذا الجزء لم تسبق له معرفته ولا معرفة من جمعه. المحور الثاني - فيمن تولّى جمع الأحاديث القدسية: - محمد عبد الرؤوف المناوي بوضعه لكتاب الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية. ترجم له حاجي خليفة في كشف الظنون، وذكرته اللجنة ضمن مصادرها. - علي قاري صاحب الأحاديث القدسية والكمالات الأنسية. اشتمل على أربعين حديثاً قدسياً. قال الشيخ - طبع 1316: ولم أقف عليه. - محيي الدين بن عربي. جمع أربعين حديثاً قدسياً. قاله حاجي خليفة. وعند مقابلة هذه المجاميع الثلاثة بالأحاديث القدسية نجد أولاً: الاتفاق كبيراً في عددها. فهي تبلغ في الأكثر المائة أو تزيد عليها بقليل، كما يفيده كلام المناوي وعلي القاري. وهي في كتاب الأحاديث القدسية الصادر عن المجلس الأعلى تبلغ أربعمائة حديث، باعتبار المكرر باختلاف الروايات واختلاف الأسانيد، وعلى نحو مائة وثمانية وستين بطرح المكرر منها. وثالثاً: أن ما يحق أن يسمى حديثاً قدسياً من المنصوص عليه في كتاب الأحاديث القدسية للجنة القرآن والحديث لا يتجاوز في الواقع أربعة وخمسين حديثاً. وقد أتبع الباحث ذكر ذلك بإثبات أرقام ما يصحّ منها مع التنبيه على أنه لم يتوصل إلى هذه الحقيقة إلا بعد إلغاء إثبات أكثر ما ورد في الكتاب من روايات.

ولعل الطريق الصحيح إلى معرفة ذلك هو تصوّر معنى الحديث القدسي تصوراً دقيقاً كاملاً. وهذا ما حمل الشيخ على تعريف الحديث القدسي أو الرباني أو الإلهي. فوضع بين أيدينا تعاريف كثيرة منها تعريف الجرجاني، وتعريف الجويني الذي نقله السيوطي في إتقانه، وتعريف الهيتمي، وتعريف علي القاري، وما ورد من ذلك في شرح جمع الجوامع للمحلي، وما ذكره الطيبي في نفس الغرض. وقد استخلص الباحث من مجموع هذه التعاريف حداً جامعاً مانعاً للحديث القدسي جاء فيه: "هو كلام من الله تعالى صادر منه في الدنيا، غير مخاطب به معيّن، موحى به إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ معيّنة غير مقصود بها الإعجاز، ولا التعبّد بتلاوتها، ليبلّغها إلى الناس، مع تفويض التصرّف في ألفاظها بما يؤدّي المقصود". وبناء على هذا الحد ذكر الإمام أمثلة لما لا يصح أن يعتبر حديثاً قدسياً. مثل: حديث أبي هريرة: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" (¬1). قال ابن عاشور: يشبه أن يكون هذا الحديث قدسياً وليس بالقدسي، لأنه قول إلهي يتعلق بأحوال قوم مخصوصين. ومثل حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. ¬

_ (¬1) خَ: 19 كتاب التهجد، 14 باب الدعاء والصلاة من آخر الليل: 1/ 42؛ مَ: 9 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 24 باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه: 1/ 522، 171؛ طَ: 15 كتاب القرآن، 8 باب ما جاء في الدعاء: 1/ 214، 30.

ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر. ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون" (¬1). عقّب عليه الشيخ ابن عاشور بقوله: الحديث ليس بقدسي لأنه حكاية قول من الله للملائكة وليس قولاً يراد تبليغه، وإنما المراد تبليغ القصة كلها مع ما اشتملت عليه. ومثل ذلك أيضاً: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً. فيرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، وأن تُناصحوا مَن ولاه الله أمركم. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال" (¬2). قال: ليس بحديث قدسي لأنه نسبة فعل إلى الله لا نسبة قول. ومنه أيضاً حديث: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" (¬3). وكتب الشيخ الإمام بحوثاً أخرى اقترحها عليه بعض الهيئات أو الأفراد. منها: ¬

_ (¬1) طَ: 9 كتاب قصر الصلاة في السفر، 24 باب جامع الصلاة: 1/ 170 ح 83. (¬2) مَ: 30 كتاب الأقضية، 5 باب النهي عن كثرة السؤال: 2/ 134، 10؛ طَ: 56 كتاب الكلام، 8 باب إضاعة المال: 2/ 990، 20. (¬3) خَ: 80 كتاب الدعوات، 95 باب فضل التسبيح: 7/ 168؛ 97 كتاب التوحيد، 58 باب {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}: 8/ 219؛ مَ: 48 كتاب الذكر والدعاء، 10 باب فضل التهليل والتسبيح: 3/ 2073، 31؛ تحقيقات وأنظار: 157 - 163؛ النشرة العلمية للكلية الزيتونية. السنة الأولى، العدد الأول.

4 - نشأة علم الحديث والتعريف بموطأ الإمام مالك

4 - نشأة علم الحديث والتعريف بموطأ الإمام مالك: اقترحته عليه جمعية النهضة الإسلامية بالرباط في 19 ربيع الأول 1390، ووافاها به 13 جمادى الأولى 1390. وهو بحث جليل، غني بما تناوله من مسائل، رغم وجازته. افتتحه بذكر بدايات التعامل مع علم الحديث والحاجة إليه. وإذا تتبعنا الأطوار التي مرّ بها الاشتغال بعلم السنة حتى وضع الإمام مالك الموطأ وجدناها متعددة، تسير مع تطورات العصور ومقتضياتها، ويتزايد إقبال الدارسين عليها واهتمامهم بها في كل طور من أطوارها. أ - فالصحابة في أول الأمر كانوا في عظيم الحاجة إلى السنة، لما حدث لهم من نوازل يدعوهم الأمر فيها إلى الفتوى والقضاء بين الناس. فعندما أثيرت قضية ميراث الجدة، وجزية المجوسي، وتحقيق معنى الربا، اشرأبت الأعناق إلى من يحفظ من الصحابة في ذلك شيئاً. فكان تقدم هؤلاء واستشارتُهم لما لهم من رواية في ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكان الخلفاء الراشدون والصحابة من حولهم، وأكثر الصحابة لا يكتبون، يعتمدون الحفظ والرواية. فكان ذلك مرجعَهم. ب - المرحلة الثانية استند فيها أبو بكر - رضي الله عنه - إلى إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتابة في الصدقات، فسأل أنس بن مالك الذي كان عاملاً على الزكاة عن ذلك. وكتابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن حزم في الصدقة. ج - الموقف الثالث: موقف عمر بن الخطاب الذي استشار الصحابة في كتابة السنن، ثم عدل عن ذلك. د - ذهاب الحفاظ لولا بقية من الصحابة كانت المرجعَ في

السنة (العلم). فعبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير كانا يكتبان الحديث لعبد الله بن عمر ويستشيرانه. وهذا الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أراد تدارك الأمر فكتب أواخر القرن الأول إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم أحد فقهاء المدينة: "أن اكتب إليّ ما كان من سنة أو حديث". هـ - تلقُّفُ العلم من التابعين في مسائل كادت تُوقِع الناس في الفتنة بسبب اختلاف المذاهب والنحل والأحزاب، كمسألة الخلافة. فكانوا يحتجّون بما يصنع لهم من أحاديث موضوعة لمذاهبهم، وابتغاءَ دعم سياساتهم. فكثر بذلك الكذب عمداً أو جهلاً، تقليداً أو تحريفاً. واحتاج أهل الحديث إلى الذب عن السنة، وإخراج ما صح منها عن النبي بإخضاعه إلى نقد الرواة، وضبط أحوالهم، وعرض مروياتهم على أصول الشريعة ومشهور السنة. وهكذا تمّ نقد الأسانيد والمتون على وجه يحصل به الاطمئنان إلى ما يرويه العلماء والمحقّقون من السنة الشريفة: المصدر الثاني للتشريع. وعقب هذا تعرَّض الباحثُ إلى انتشار السنة في الآفاق، وإلى عناية الأئمة بنقدها والتأليف فيها. فذكر أول المصنفات والكتب في ذلك، وهو الموطأ للإمام مالك بالمدينة، وكتاب عبد الملك بن جريج بمكة، وكتب الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وهُشيم بواسط، ومعمر بن راشد باليمن، وعبد الله بن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري. وجميع مصنفات هؤلاء الأئمة يعود إلى عصر واحد. وأتبع الباحث هذا بما لاحظه مؤرخو المادة من اختلاف في الآثار المدوّنة قوّة وضعفاً، منتهياً إلى تقديم طريقة أهل المدينة في

الجمع والاختيار على غيرها. وتأكيداً لرأيه خصّص قسماً من هذا البحث بما يعرّف بشروط الصحة التي هي القاعدة الأساسية المنطلق منها إلى عملية نقد الحديث. فشروط الصحة ثلاثة: أولها: تحقّق أمانة الراوي فيما رواه. ويشمل هذا العدالة والسلامة من الابتداع. ثانيها: تحقّق عدم الالتباس والاشتباه. وهو نتيجة قوّة التمييز التي تحول بين الراوي وبين التدليس والغفلة. وهذان الشرطان يكفلان الاطمئنان إلى صحة الإسناد. ثالثها: تحقّق مطابقة ما يرويه الراوي للثابت من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعنه تتولّد شروط الترجيح عند التعارض. وهذا الشرط يرتبط بنقد المتن والتأكد من صحة معنى الحديث. وقال آخرون: إن من الأسباب الموجبة للطعن في الحديث وردّه ما ذكروه من الكذب، والنسيان، والخطأ، والترويج، والتفاخر. وقد فصّل القول في كل شرط من الشروط، وكل سبب من هذه الأسباب مترجمنا، مبيناً طريقة إمام دار الهجرة في نقدها، ومشيراً إلى طريقته في دفع كل سبب من الأسباب الخمسة المتقدمة. وبهذا ينتهي الجزء الأول من بحثه المقصود منه بيان مقام السنة إلى ظهور الإمام مالك، وما أخذ به من الأحكام والقواعد ليسلم لمدوّني ما يروونه من الأحاديث والأخبار. وفي بداية القسم الثاني من البحث تحدّث عن غرض الإمام مالك من تأليف الموطأ، وعدّ ما اشتمل عليه من مواد: وهي جمع ما صحّ عنده من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أقوال الصحابة

والتابعين، وما عليه عمل أهل المدينة، مُودِعاً في مروياته جملة من الأحكام الشرعية، مفسّراً للغريب، مورداً من الآثار ما يسلم عنده في معيار النقد. ويظهر ممّا نقله الشيخ أن لأبي جعفر المنصور يداً في إنجاز هذا العمل الهام، بدعوة الإمام مالك إلى ضمِّ هذا العلم وتدوين كتبه وتجنب إيراد شدائد عبد الله بن عمر، ورُخَص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود فيه. ونصحه بأن يقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة. وما زال الإمام مالك، بعد جمعه سبعة آلاف أو أربعة آلاف من الأحاديث في موطئه، يتعهَّده مرّة بعد مرّة إلى أن جعله نحواً من سبعمائة حديث. كل ذلك حرصاً منه على الصحة، وبعداً عن المشتبه فيه من مرويات المتقدّمين. ولهذا الغرض اعتبر الموطأ أصحَّ الكتب بعد القرآن. وقد ذكره أهل العلم منوّهين به كإِلْكِيا الهرَّاسي، وسليمان بن بلال، وابن مهدي، وأبي بكر ابن العربي. ومن وصف هذا الأخير له قوله في مقدمتِه لـ عارضة الأحوذي: اعلموا، أنار الله أفئدتكم، أن كتاب الجعفي هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب، وعليهما بناء الجميع كالقشيري والترمذي (¬1). والإمام مالك مختلف في منهجه عن الإمامين في صحيحيهما بقبوله الحديث المرسل والمقطوع. فهو يراه صحيحاً وحجة. وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة، وعلى طريقته جرى الترمذي. ورأي مالك عند الإمام الأكبر هو الأرجح، لأن العبرة بتحقّق أو ظنّ صحة النسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) ابن العربي: 5.

5 - حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"

وفي نهاية البحث ذكر الإمام الأكبر بعض الموطآت المروية عن الإمام مالك. وعدّ منها موطأ سُويد بن سعيد، وقطعة من موطأ القعنبي، وقطعة من رواية علي بن زياد، وقطعة من رواية صاحب الإمام عبد الرحمن بن القاسم، وقطعة من رواية الزهري. وختم هذه الدراسة ببحث لغوي يفسر به وجه تسمية هذا الصحيح بالموطأ (¬1). 5 - حديث: "شفاعتي لأهل الكبائِر من أُمتي": اقترحه الأستاذ حسين إبراهيم بن موسى. نشر ذلك على صفحات مجلة هدي الإسلام، راغباً من الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أن يتناول بالدرس والتحقيق حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" (¬2). فاستجاب لذلك مترجمنا، لما لهذا الموضوع من تعلق بالسيرة وبأصول الدين. وقد اخترنا أن يكون هذا الموضوع من جملة البحوث التي أوردناها في هذا المقام. تناول هذا البحث جوانب ثلاثة: أولاً: تعريف الشفاعة لغة، وذكر الشواهد على ذلك من القرآن والسنة وكلام العرب وأشعارها. والحديث عن قصة شفاعة أبي حامد الإسفراييني في تولية الخليفة القادر بالله محمود الغزنوي ولاية خراسان. ¬

_ (¬1) تحقيقات وأنظار: 71 - 78. (¬2) الحديث رواه الترمذي عن أنس: 38 كتاب القيامة، 11 باب ما جاء في الشفاعة: 4/ 625، 2435. حديث حسن صحيح؛ وروى مثله عن جابر بن عبد الله: 4/ 625، 2436؛ ورواه أبو داود عن أنس: 34 كتاب السنة، 23 باب في الشفاعة: 5/ 106، 4739؛ ورواه أحمد بن حنبل عن أنس: 3/ 213؛ ورواه ابن ماجه عن جابر بن عبد الله: 37 كتاب الزهد، 37 باب ذكر الشفاعة: 2/ 1441، 4310.

ثم بيان المراد بالشفاعة الثابتة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر نظائر هذا الحديث ممّا أوردته في العديد من الأبواب كتبُ السنة مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم. وذكر السيوطي في الجامع الصغير: أن الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أنس، ورواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، والحاكم عن جابر، ورواه الطبراني عن ابن عباس، والخطيب عن ابن عمر (¬1). ثانياً: بيان حكم هذه الشفاعة. وهو الثبوت على الجملة بأدلة القرآن، وبما ورد في الصحيح. والشفاعة خمسة أقسام كما ذكر ذلك علي القاري في مرقاة المفاتيح: 1 - الشفاعة العظمى في إراحة الأمم من هول الموقف. 2 - الشفاعة لإدخال قوم من المؤمنين الجنة بغير حساب. 3 - الشفاعة فيمن استوجب النار ولم يدخلها وهم العتقاء. 4 - الشفاعة لإخراج المؤمنين من النار. 5 - الشفاعة لرفع الدرجات في الجنة عند الله. والأقسام الأربعة الأولى: منها ما هو من اختصاص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الشفاعة العظمى، ومنها - وهو الثاني والثالث - ما ثبت بصحيح الأخبار التي لا معارضَ لها من مثلها، ومنها - الرابع - الذي وردت بعض صحاح الأخبار بأن الأنبياء والملائكة يشفعون هذه الشفاعة. جزم به عياض. والقسم الخامس والأخير ليس من الشفاعة على ¬

_ (¬1) السيوطي: 4892.

القسم الثاني: تنبيه على جملة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وفيه أربعة عشر حديثا

الحقيقة، وإنما هو مجاز وتسامح لأنه وساطة ووسيلة لزيادة النفع، وهو كسابقه ليس من خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: تعرّض الباحث إثر هذا إلى إثبات الشفاعة على الإطلاق وفي كل أفراد الأمة. وذكر موقف عياض من ذلك، وإلى تخصيصها بأهل الكبائر. ثم خلص إلى تحديد رأيه بقوله: إثبات شفاعة النبيين وصالحي المؤمنين والملائكة شفاعة مجازية، لأنها إما دعاء، وإما شهادة وتعريض بالتشفّع، وإما تلقّي الإذن بذلك من الله تعالى. وعلى هذا يكون حمل حديث الموطأ والصحيحين، المصرِّحِ بـ "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة، ولم يُعطها أحد قبله" على ظاهره. ثم أشار إلى آراء أصحاب أهل الأهواء من المبتدعة، كالخوارج في عصر الصحابة، فإنّهم أنكروا الشفاعة. وهذا بناءً على أصلهم أن مرتكب الكبيرة مستوجب الخلود في النار إلا أن يتوب وقولهم هذا منصبٌّ على الأقسام الثاني والثالث والرابع من الشفاعة. وبقولهم أخذت المعتزلة. وحديث جابر بن عبد الله من أعظم الحجج على بطلان مقالتهم. أما مذهب أهل السنة فهو اعتقاد أن الشفاعة ثابتة، ودليل ذلك أنها جائزة عقلاً، وأنها ليست بقبيحة (¬1). القسم الثاني: تنبيه على جملة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وفيه أربعة عشر حديثاً: ومن هذا القسم مقالات ورسائل نقدية أكثرها تحقيق لنظر أو بحث في أثر. منها: ¬

_ (¬1) تحقيقات وأنظار: 164 - 169.

1 - التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس

1 - التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس (¬1): وهو بعد بيان خطر ذلك على السنة، ودعوته إلى الذبّ عنها، والتحفّظ من المشكوك فيه منها، يورد جملة من الأحاديث الموضوعة والضعيفة تنبيهاً عليها. وهي في هذا المقال أربعة عشر حديثاً: 1 - أنا مدينة العلم وعلي بابها. حديث موضوع، سيأتي تفصيل القول فيه في المقال الثاني من هذا القسم. 2 - أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي. رواه الحاكم، وقال الأئمة: هو ضعيف. 3 - إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم. أخرجه ابن عدي في كتاب الضعفاء. 4 - إذا ذلت العرب ذلّ الإسلام. صحّحه العراقي، وضعّفه المناوي. 5 - بعثت لأتمم صلاح الخلق. ك والبيهقي. ضعيف. 6 - حبّ العرب إيمان، وبغضهم نفاق. ك. ضعيف. 7 - حبّ العرب إيمان، وبغضهم كفر. فمن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني. ضعيف. 8 - طلب العلم فريضة على كل مسلم. ضعيف. خصّه شيخنا رحمه الله ببحث في رواياته وطرقه. ¬

_ (¬1) نشر في هذا مقالاً في الهداية الإسلامية بمصر. المجلد 8؛ الهداية. السنة الرابعة، العدد الثاني: 34، نوفمبر 1976.

2 - الأسانيد المريضة الرواية في حديث "طلب العلم فريضة"

9 - من تشبّه بقوم فهو منهم. رواه أحمد والطبراني. وهو ضعيف. 10 - من كان يحسن أن يتكلّم بالعربية، فلا يتكلَّم بالأعجمية، فإنه يورث النفاق. ك. أنكره الذهبي. 11 - الصلاة تُبْئِسُ وتُمَسْكِنُ. لا يعرف أصله. 12 - قدّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها. وتعلّموا منها ولا تعالموها. لولا أن تبطر قريش لأخبرتها ما لخيارها عند الله. أسانيده كلها ضعيفة. 13 - يا جابر أول خلق الله نور نبيك. منكر يتردّد بين الضعف والوضع (¬1). 14 - لا عزاء بعد ثلاثة. تفصيل وبيان ومراجعة من الشيخ الرابحي وإجابةٌ من الإمام الأكبر (¬2). 2 - الأسانيد المريضة الرواية في حديث "طلب العلم فريضة": ما جاء تفصيلاً لما أشير إليه في المقال السابق عن الأسانيد المريضة الرواية لحديث: طلب العلم فريضة. روى هذا الحديث عدد كبير من الرواة من طرق مختلفة متعددة. وقد جعلها الإمام الأكبر ثماني روايات تحدث عن جميعها مع بيان أقوال الحفاظ في رجال أسانيدها، وذكرِ آرائهم في متونها وحالاتها. والروايات الثمانية للحديث هي كالتالي: ¬

_ (¬1) تحقيقات وأنظار: 92 - 93؛ المجلة الزيتونية. م 1/ 10، 501 - 502، ربيع الأول 1356/ جوان 1937. (¬2) م ز: 3/ 2/ 59، 3/ 6/ 293.

1 - طلب العلم فريضة على كل مسلم. 2 - طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجواهرَ واللؤلؤَ والذهب. 3 - طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإن طالب العلم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر. 4 - طلب العلم أفضل عند الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد. 5 - طلب العلم ساعةً خيرٌ من قيام ليلة، وطلب العلم يوماً خير من صيام ثلاثة أشهر. 6 - اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم. 7 - طلب العلم فريضة، والله يحب إغاثة اللهفان. 8 - طلب العلم فريضة على كل مسلم، فكن أيها العبد عالماً أو متعلماً. ولا خير فيما بين ذلك. الرواية الأولى: جاءت مرفوعة عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وعلي وجابر وأبي سعيد الخدري. أخرجها ابن عدي في كامله الموضوع للضعفاء، وأخرجها الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وفي الكبير عن ابن مسعود، وأيضاً عن أبي سعيد الخدري، والخطيب البغدادي في تاريخه عن علي بن أبي طالب. وبعد تتبع رواياته وطرقه حكم ابن عدي على جميع طرقه بالضعف. وقال السيوطي: في كل طرقه مقال، وقال ابن عبد البر: روي من وجوه كلّها معلولة. وخلاصة القول في هذا الحديث وفي

هذه الرواية أن الرأي في سنده أنه حديث ضعيف، وأنه من أوهى مراتب الضعف، لأن رواته بين متروك وضعيف ووضاع وكذّاب ومنكر ومختلف فيه. وإذ قد طعن الأئمة في جميع أسانيده فلا يكتسب قوة باختلافهم. والقاعدة أنه إذا تعارض الجرح والتعديل فالجَرح مقدم، كما قرّره علماء الحديث والفقه والأصول. ويناقش المؤلف بعد هذا ما رواه السيوطي عن المِزِّي، وما ذكره المناوي من تقوَّي الحديث الضعيف بكثرة الطرق والمتابعات. ولتأكيد رأيه يتحدث شيخنا عن الضعيف وأقسامه، ويجعل منه ما ينتهي به الضعف إلى الوضع، ومنه ما يرتقي به إلى درجة الحسن عند بعضهم. وهذا وهم. فإن حديث: من حفظ من أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة العلماء، مع كونه مروياً عن جماعة من الصحابة، ومتعدد الطرق، فلم يرفعه هذا عن درجة الضعف، فإن الحفاظ اتفقوا على ضعفه، لأن جميع طرقه لم يخلُ من علّة. ذكر هذا ابن حجر نقلاً من النووي. ولتقرير هذه الحقيقة ذكر الإمام الأكبر النوعين من الحديث الصحيح والضعيف، معرّفاً الأول بأنه ما تغلُب على الظن صحّة نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظراً لحسن الظن برواته، مع احتمال مرجوح جداً بأن يكون مكذوباً، وكذلك الحديث الحسن. والثاني وهو الضعيف سُوّي فيه ظنّ احتمال عدم صدقِ نسبتِه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ظنّ احتمال صدق نسبته إليه. وبتكرر طرق الحديث الصحيح أو الحسن يتأكد ظنَّ الصدق والحسن بظنون راجحة مثلهما. وبتكرر طرق الضعيف يبقى هذا على احتماله، ولا يكتسب قوة بتكرر الطرق. وما قرّره الشيخ رحمه الله

3 - مراجعة ونقد الإمام الأكبر لكتاب فتح الملك العلي بصحة حديث: باب مدينة العلم علي، لأبي الفيض أحمد بن صديق الغماري

في هذا المعنى، من حيث النظر إلى السند في الرواية الأولى لهذا الحديث؛ يجري على بقية الروايات لأنها في غالبها متحدةٌ صدورُها. وعند انتقاله إلى نقد متن هذا الحديث يومىء إلى اشتماله على معنى غير منضبط؛ لأن التعريف في لفظة "العلم" المضاف إليه "طلب" لا يخلو أن يكون للعهد أو للاستغراق، وكلاهما ممتنع. وحملوا الكلام على الاستغراق العرفي، وهو وجوب الطلب لكل العلوم الشرعية، وهذا باطل أيضاً. وطلب تحصيلها على الحقيقة إنما هو فرض كفاية. وإذا كان ظاهر الحديث غير مراد وجب تأويله، ولا دليل على تأويله بمعين. وهذا لا يليق بمقام التشريع. وبمثل هذا العمق في نقد الرجال والمتون جرى الشيخ، رحمه الله، مع بقية روايات الحديث كما يفصّله مقاله (¬1). 3 - مراجعة ونقد الإمام الأكبر لكتاب فتح الملك العلي بصحّة حديث: باب مدينة العلم علي، لأبي الفيض أحمد بن صديق الغماري: [قال الحاكم]: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي بالرملة، ثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا مدينة العلم وعلي بابها. فمن أراد المدينة فليأت الباب". هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وأبو الصلت ثقة مأمون؛ فإنّي سمعت أبا العباس محمدَ بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: ¬

_ (¬1) تحقيقات وأنظار: 85 - 91.

سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: ثقة. فقلت: أليس قد حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش: "أنا مدينة العلم"؟ فقال: حدّث به محمد بن جعفر الفيدي، وهو ثقة مأمون، وسمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القباني إمام عصره ببخارى يقول: سمعت صالح بن محمد بن الحافظ يقول: وسئل عن أبي الصلت الهروي، فقال: دخل يحيى بن معين ونحن معه على أبي الصلت فسلم عليه. فلما خرج تبعته فقلت له: ما تقول رحمك الله في أبي الصلت؟ فقال: هو صدوق. فقلت له: إنه يروي حديث الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا مدينة العلم وعلي بابها؛ فمن أراد العلم فليأتها من بابها". فقال: قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش كما رواه أبو الصلت (¬1). وروى الحديث أيضاً جعفر بن محمد البغدادي الفقيه عن أبي معاوية، وعمر بن إسماعيل بن مجالد، وأحمد بن سلمة الجرجاني، وإبراهيم بن موسى الرازي، ورجاء بن سلمة، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام (¬2). وإثر التعريف بموضوع الكتاب أو الرسالة التي عرضها أبو الفيض على الإمام الأكبر، وحتى نكون متصوّرين لجوانبه، ملمّين بجزئياته وعناصره، ينبغي أن نذكّر بأن مداخلات وقعت قبل كتابة المراجعة التي نحن بصدد التعريف بها. يدلّ على ذلك قول شيخنا رحمه الله: وقد ذكرت في مقالي ما قيل في جعفر بن محمد، وفي ¬

_ (¬1) ك: 3/ 126. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. تحقيقات وأنظار: 83.

رجاء بن سلمة، وأحمد بن سلمة، وفي عمر بن إسماعيل (¬1). فيبقى محمد بن جعفر الفيدي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمد بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام. صدّر الإمام الأكبر مراجعته أو نقده للحديث بما يزيل الوحشة من نفس صاحبه بقوله: "رأيت أنكم نحوتم [في كتابتكم] نحو تلقّي الحديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" بالقبول، ولا بدع في ذلك فقد سبقكم إلى ذلك كثير من المحدّثين، كما أن كثيراً منهم نبذوه بالعراء، وكثيراً رموه بأنه وضع وافتراء". ولتأييد وجهة النظر هذه قال: "إن منكريه لم يقتصروا على الطعن في رجال أسانيده، بل قالوا فيه أقوالاً شديدة؛ مثل موضوع، ومنكر، ولا أصل له، وكذب، وكم خلق افتضحوا فيه، ولم يرْوِه عن أبي معاوية أحد من الثقات". وذكر لمثل هذا الحديث نظيراً هو ما روي عن ابن عباس: "أن جلساءه شركاؤه"، ولم يصحّ. فلم يعين البخاري له سنداً بل جزم بعدم صحّة المروي. وقضية أبي الصلت وما ورد من الأقوال فيه تكشف لنا أولاً عن الاعتراض على تعديله لما أورده الحاكم إثر رواية حديثه. وذهبت جماعة إلى أن أبا الصلت وضع الحديث عن أبي معاوية، وقال آخرون: إن أبا معاوية حدّث به ثم كفّ عنه. وذيّل هذه الآراء بقوله: إن كثرة الاختلاف فيه وشدةَ عناية الأئمة بالفحص عن رواته، تؤذن بأنه حديث لم يكن معروفاً عند الحفاظ، وأنه طلع على هذه الأمة طلوع الشواظ. ¬

_ (¬1) لم نقف على المقال المشار إليه.

وبعد الاحتجاج بأقوال الفقهاء في متنه وسنده، يفتتح الجزء الأول من البحث بذكر مرجع الاختلاف في الحديث بين رواته ونقاده. فمنهم من سلك مسلك تغليب جانب التهمة والحذر من قبول الرواة، ومنهم من كان متّسماً بحسن الظن فيهم والتسامح معهم. وغير خاف تشدّد عمر بن الخطاب في ذلك. كما يشهد لهذا ما رواه مالك والبخاري عنه في حديث الاستئذان، حتى إذا رضيه واطمأن إليه، قال لأبي موسى راويه: إني لا أتهمك، ولكني أردت ألا يتجرأ الناس على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا النهج أخذ المحقّقون من المحدّثين مثل الإمام مالك الذي لا يقبل مجهول الباطن وإن كان مستور الظاهر، خلافاً لأبي حنيفة وابن فورك وسليم الرازي الذين قبلوا مستور الظاهر وإن جُهل باطنه. واحتج أصحاب الرأي الأول بمقالات المتقدّمين، كابن عباس وابن سيرين وأبي هريرة، ولزم ذلك أصحابُ مالك كعبد الله بن المبارك وابن مهدي، وأصحابُهم كالبخاري ومسلم. وبعد إيراد الدلائل القائمة على صحة مذهب المحقّقين، يعلن الإمام الأكبر في وضوح عن رأيه مع كبير أدب ورقة مجاملة قائلاً: "وأنا أرى التحرّي أولى بالمسلمين. فقد طفحت عليهم الروايات، فكانت منها دواهٍ وطامّات. فإذا كنّا متّفقين في طريقنا في تغليب جانب التحرير فالمراجعةُ سهلةٌ، ولو لاح الخلاف في أول وهلة، وإن كان كل ينحو إلى منهج من ذينك المنهجين، فالاختلاف في الفروع تبع للخلاف في الأصول. فلنتمسك بوثائق الود، ولا نتَّهم باختلاف الأفهام والعقول". وفي القسم الثاني من البحث يعمد شيخنا الجليل إلى حصر

مدارك الخلاف في طرق متنه، معتمداً في ذلك على ما جاء في فتح الملك العلي نفسه، راجياً أن يكون من الرأيين المتقابلين ما يحمل على الالتزام بالنظرة الموضوعية، والانتهاء إلى القول الفصل في هذه القضية. الطريق الأول: اعتقاد أبي الفيض أن كثرة الرواة عن أبي الصلت توجب تعديله. ويرى الإمام الأكبر عكس ذلك، لأن كثرة الرواة عن المطعون فيه ليست بالتي تفلته من سهام الطاعنين، خصوصاً وأهل الصحيح والحسن من المتحدّثين يمسكون عن المتكلم فيه ولا يروون حديثه. فكيف والذين رووا عن أبي الصلت كلهم متكلم فيهم. الطريق الثاني: اعتبار شهرة أبي الصلت بالزهد والديانة شاهداً لتعديله. والحق أن هناك بوناً بعيداً بين العدالة والديانة، كما يدلُّ على ذلك تصرف الإمام مالك، وتشهد به مقالات أمثال يحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك. وإن الحديث ليحتاج إلى تقى وورع كما يحتاج إلى إتقان وفهم وعلم. الطريق الثالث: إن كلام الحاكم ويحيى بن معين في أبي الصلت يتضارب مع أغلب ما حكاه النقاد عنه. وفي تهذيب التهذيب لابن حجر وغيره من كتب الرجال دليل على ذلك. وقد طعن في أبي الصلت أئمة الحديث نقلاً عن الإمام أحمد والدارقطني وابن عدي. والأخذ بالتجريح وتقديمُه على التعديل أحوط. وفي هذا الطريق ألمع الشيخ رحمه الله إلى ما وقع فيه أبو الفيض من لبس في رواية مقالة أبي سعيد الهروي، حيث نقل عن الدارقطني قوله: نعم، ابن الهيضم ثقة. فقال له دعلج: أنا سألتك عن عبد السلام. فقال: نعم ثقة. والرواية الصحيحة كما في تاريخ الخطيب: نعيم بن الهيضم ثقة. قال

سائله: إنما سألتك عن عبد السلام، فقال: نعيم ثقة، ولم يزد. الطريق الرابع: بدأ فيه بذكر رواة الحديث غير أبي الصلت. وتعرّض للباقين ممّن وقعت الإشارة إليهم، وهم محمد الفيدي، وإبراهيم الرازي، وموسى بن أحمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام. فذكر كل واحد منهم مع ما غمز به: فالفيدي في ذاته ثقة غير أن روايته لم تنقل إلينا بسند معروف. وإبراهيم بن موسى روى الحديث عنه محمد بن جرير الطبري، وقال: إنه شيخ لا أعرفه، ولا سمعت منه غير هذا الحديث. فهو إذاً مجهول الرواية غريب عنده. وموسى بن محمد الأنصاري ذكر الإمَامُ روايتَه، في مقاله، ونبّه على أن في سنده محفوظاً بن بحر الأنطاكي، وهو كذّاب. ومحمد بن خداش والحسن بن علي بن راشد، ورأينا متفق على أن الراويين عنهما متهمان. وأبو عبيد حدث عنه الجبريني وهو من الضعفاء. وأشار في هذا الطريق الرابع إلى متابعة سعيد بن عقبة ومتابعته عثمان بن عبد الله ناقلاً كلام ابن عدي فيهما، فلا يتكثر بهما. الطريق الخامس: تعضيد هذا الحديث بالشواهد المعنوية الدالة على فضل الإمام علي. وهذا لا نزاع فيه، غير أن الكلام في فضيلة خاصة وهو أن يكون علي هو الطريق الواضح لعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الادعاء أو الوضع لا يمكن أن يكون إلا من نحل الرافضة. الطريق السادس: أن كثرة الروايات والطرق للحديث الضعيف

4 - حديث أولية خلق النور المحمدي

تبلغ به مرتبة الحسن أو الصحّة. لكن هذا، عند التسليم به، ليس محتملاً إلا في الحديث الخفيف ضعفه. أما ما نحن فيه فهو موضوع أو شديد الضعف، فلا تكسبه المتابعات قوّة. ويتعيّن أن يخضع للقواعد كما ذكر ذلك النووي وابن الصلاح. ومن هذا العرض لمحتوى الرسالة العاشورية يخلص الإمام الأكبر إلى نتيجة البحث بقوله: "إن حال أسانيد هذا الحديث يمنع من إدخاله في حقيقة الصحيح وحقيقة الحسن، لفقدان شروطهما فيه، فيدور أمره بين الضعف والوضع" (¬1). 4 - حديث أولية خلق النور المحمدي: عن جابر بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء، قال: "يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله. ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا إنس. فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء. فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أقسام. فخلق من الأول حملة العرش. ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء. فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار. ثم قسم الرابع أربعة أجزاء. فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. تحقيقات وأنظار: 79 - 84.

نور قلوبهم وهو المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله". اهـ. وطّأ شيخنا رحمه الله للكتابة في هذا الحديث بذكر أمرين: أولهما: أن مجلة هدي الإسلام رغبت منه تحرير القول في هذا الحديث. وأنه لولا سبق الناس إلى بيان الرأي فيه لحسن التخلّي عن ذلك، لأن الأجدر بأهل العلم الاهتمام بتمحيص ما ينبني عليه عمل نجيح أو اعتقاد صحيح، وتوفير الوقت النفيس لما هو أولى بالعناية والبحث للحاجة إليه. وثانيهما: التنبيه على أن قدر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو القدر المنيف، في غنية عن إمداده بحديث صحيح أو ضعيف، لكن تميّز هذه الأمة بالإسناد لحفظ الأصول والروايات، حمل في كل زمن العلماء على نقد الآثار التي بها مغمز، كشفاً للحقيقة، وصرفاً للألباب والأنظار عما يوقع الناس في الخطأ والوهم. وحديث جابر بن عبد الله هذا في أولية خلق النور النبوي من رواية عبد الرزاق في مصنفه أورده صاحب المواهب اللدنية من غير ذكر من رووه عن عبد الرزاق. وبإزائه روايتان أخريان مخالفتان متقاربتان للبيهقي، أوردهما سليمان بن سبع السبتي في كتابه شفاء الصدور. وبعد مقارنة سريعة بين هذه الرواية ترجم الإمام لعبد الرزاق بن همام الصنعاني. وذكر أنه أخذ عن أئمة أهل السنة، وأخرج له البخاري. وأنه عمي في آخر عمره وهو ثقة إمام، غير أنه بعد أن كف بصره انتحل التشيّع. فحمله ذلك على أن يروي عن الضعفاء مثل جعفر بن سليمان الضبعي. كما روى عنه أبو جعفر من الضعفاء وهو ملموز بالكذب، وأبو الأزهر النيسابوري.

وفي بيان مرتبة هذا الحديث قال: هو غير معروف عن الحفاظ، لم يروِه أهل الصحيح ولا أصحاب السير المقبولة مثل ابن إسحاق والحلبي، ولا ذكره عياض في الشفاء لكونه غير مقبول عنده، ولا السيوطي في جمع الجوامع، ولا في كتاب الخصائص له. وبناء على ما تقدم يكون عبد الرزاق قد رواه عن الضعفاء في آخر عمره. أو كذبه عنه المتساهلون والضعفاء. وهذا هو حكم رواية البيهقي له أيضاً. فإنه كان متساهلاً في أحاديث دلائل النبوة وفضائل الأعمال. وإذا كان ابن سبع قد ذكره في شفاء الصدور. فإن كتابه هذا يشتمل على المقبول والمردود. وخلاصة القول فيه أنه مجهول السند: لا ندري من رواه عن عبد الرزاق، ولا من روى عنه عبد الرزاق فيما بينه وبين جابر. فهو لذلك غير صحيح ولا حسن لعدم معرفة رواية مصدره، وإنما هو متردد بين أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً. ولم يقف شيخنا رحمه الله عند هذا الحد من ضبط صحة الحديث، فذكر أحواله من حيث الرواية والسند، بل تجاوز ذلك إلى نقد متنه من جهتي اللفظ والمعنى. فهو يرى أنه من جهة النظم ضعيف لا يناسب أن يكون لفظ أفصح العرب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد نبّه ابن الصلاح في أصول علم الحديث على أن أحاديث طويلة وضعت، تدل على وضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها. فقوله فيه: "فجعل ذلك النور يدور بالقدرة" حشو من الكلام، وقوله: "ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا .. ولا .. " تطويل ثقيل تنزَّه عنه البلاغة النبوية. وأما من جهة المعنى فهو مردود من خمسة وجوه: الأول: أن كل خبر أَوْهَمَ معنى باطلاً، ولم يقبل التأويل فهو

مكذوب. قاله علماء أصول الحديث وأصول الفقه. وهذا الحديث جمع بين طول اللفظ وطول المعنى وقلة الجدوى. الثاني: أن هذا الحديث معارض بما ثبت في الصحيح عن عبادة بن الصامت وأبيّ بن كعب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما خلق الله القلم" أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود. وهذا التعارض يلزم فيه التصديق بأحدهما وإبطال معنى الآخر. فلا يمكن الجمع إلا بتأويل. وإنما يصار في مثل هذا إلى الترجيح. الثالث: أن حديث جابر جعل نور أبصار المؤمنين مخلوقاً من الجزء الأول من الرابع مع أن أبصار المؤمنين ليست لها خصوصية في الإبصار على أبصار سائر الناس. الرابع: قوله: "أول ما خلق الله نور نبيك". الظاهر أن هذه الإضافة غير حقيقية فلا تصحّ، إذ المراد من النور هو الحقيقة المحمدية. وخلق الخلق من هذا النور يقتضي إما دخول نقصان عليها بعد خلقها، وإما كون المخلوقات التي اشتقت منها أجزاء لها. فتصبح الحقيقة المحمّدية كلًّا له أجزاء. وهذا معنى سخيف. وقد تضمَّن هذا الحديث الإشارة إلى أن القلم واللوح والعرش والملائكة والسماوات والأرضين معتبرة قبل الحقيقة المحمدية في التجزئة من ذلك النور. وهذا يعود إلى الغرض من هذا الحديث بالنقض، لأنه يبطل المقصود من التعريف بكون الحقيقة المحمدية أفضلَ في سبق الخلق. الخامس: يلاحظ في هذا الحديث خلط في ترتيب المخلوقات من هذا النور، لأن بعضها من الذوات كالقلم. وبعضها من الأجناس كالملائكة، وبعضها من المعاني كالمعرفة بالله وتوحيده. وهذه

5 - الآثار المروية في مجيء المهدي

جميعها يتعلق الخلق بها تبعاً لخلق محلها وهو العقل. وليس في هذا الحديث ذكر لخلق العقل (¬1). 5 - الآثار المروية في مجيء المهدي: هذه رسالة وقعت جواباً عن اقتراح للأستاذ حسين إبراهيم موسى، كتب به إلى مدير مجلة الهدي الإسلامي، يلتمس فيه من الشيخ أن يكتب بحثاً في هذا الغرض. والإمام كما عوَّدنا لا يتناول قضية من قضايا العلم أو السنة إلّا وضع لها إطارها الذي تبرز متجلّية فيه. فيسهل بذلك البيان، ويتحقق من ورائه الفهم، وينتهي منهما إلى الغاية من البحث وهي الحكم في المسألة أو القضية المعروضة. وفي موضوعنا هذا المتعلّق ببحث الآثار المروية في ظهور المهدي أربعة محاور، تتفاوت فيما بينها ضيقاً واتساعاً وطبيعة وأهمية. فالمحور الأول: الذي يمكن أن ينزّل من بقية المحاور منزلة التمهيد من البحث، يحدّد لنا الإمام الأكبر فيه موقعَ هذا الموضوع من واجبات الدين الثلاثة. قائلاً: "ليس العلم به من قبيل العلم الواجب طلبه على الأعيان ولا على وجه الكفاية. فهو لا يرجع إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، ولا إلى ما يتبع ذلك مما يترتب عليه تحقيق وصف الإيمان، ولا هو من الأمور العملية ولا من الأمور الراجعة إلى آداب الشريعة. ولكنه مسألة علمية تتصل بالمعارف الإسلامية قد تكون ذات علاقة بخبر أُثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ¬

_ (¬1) تحقيقات وأنظار: 151 - 156.

عن سلف الأمة. وهذا فقط ما يجعله مشتبهاً عند العامة بالمسائل الاعتقادية لارتباطه بالتصديق بوقوع شيء أو عدم وقوعه، لكن مجرد كونه من مطلق المدركات العقلية أو مما يطمئن إليه القلب لا يجعله مندرجاً في الواجبات الدينية المومى إليها حتى يكون من خصوص ما يجب اعتقاده شرعاً. وهكذا فإنه لا يجعل من الأمور الاعتقادية إلا ما قام عليه البرهان العقلي، وما جاء به الخبر الشرعي القطعي الثبوت والدلالة، فإن لم يحصل هذا فهو بعيد عن أن يكون من مسائل أصول الدين. وإذا بحث فيها، كمسألة الخلافة أو الإمامة، فإن ذلك واقع عرضاً بقصد رفع الفتنة وما ينجم عنها من تفسيق المسلمين أو تكفير بعضهم لبعض. والمحور الثاني: بيان لواقع هذه القضية من حيث انتشارها معتقَداً في المجتمعات الإسلامية من بدايات الإسلام. والمثبتون لها قائلون بأنها فكر موروث مشوب بمسحة عقَدية. وموقفهم إزاءها مختلف بحسب المذهب الذي ينتسبون إليه أو الجماعة التي يرتبطون بها. وأكثر المتلقّين لها والقائلين بها الإمامية من الشيعة، ومِن دونهم بعض أهل السنة وبعض الصوفية. فالطائفة الأولى تدّعي أن المَهدي الذي يخرج في آخر الزمان هو موجود من قبل، وهو مُختفٍ. وهذا القول مردود باطل في عقيدة أهل السنة، تصدّى الكثيرون لتفنيده والرد عليه مثل النسفي والتفتازاني. والثانية تزعم خروج المهدي وظهوره آخر الزمان من غير ادِّعاء وجود سابق له ولا اختفاء. وهم في الحقيقة متأثّرون بما أذاعته

الإمامية والرافضة من آثار بشأنه. رووها وتمسّكوا بها من غير درس أو تمحيص. وقد روّجوا لذلك بوجوب اتباعه عند ظهوره. وهذا يوجب التساؤل عنه للتعرّف عليه، وليتمكن معتقدوه من اتباعه. ودعوى ظهوره هذه بعد سباته أو اختفائه لا يتوسّمها المتوسّمون، كما قال الإمام الأكبر، بملامح وجهه ولا باسمه واسم أبيه، ولا بخفق أعلامه، ولا بأفق ظهوره، فإن جميع ذلك يمكن تلبيسه وادعاؤه باطلاً كما وقع غير مرة، ووجوب اتباعه لا تقرّه أحكام الملة بما وضعه علماؤها من قواعد وأقاموه من شروط تغني عن الملامح والرموز، إذ الإمام العدل، الواجب اتباعه والدخول في حزبه وأنصاره هو من استكمل شروط الإمامة والقدرة على حماية البيضة وقت الحاجة إلى ذلك. ولا التفات إلى الأخبار الملفّقة والرموز الجبرية، كما سيتم بحثه في المحورين القادمين؛ الثالث والرابع. المحور الثالث: تاريخي عنون له بنشأة القول بالمهدي المنتظر. واعتبر ذلك من عمل شيعة الهاشميين لَمَّا أخفقوا في دعوتهم بعد استتباب الأمر لبني أمية. وقد قامت دعوتهم تلك على أساسين: ديني، وعنصري. الأول لأن هذا الرواج للمنهج السياسي أمر بالغ الأهمية عن طريق الوسائل الاعتقادية، وخاصة بين العامة لتلقّيهم الأشياء المنسوبة إلى الدين بمزيد الاعتبار دون تأمّل ولا إقامة برهان، والثاني لتعزيز خطّتهم ودعم حقّهم في الإمامة بعصبية أعجمية تنافح عنهم وتمكن لهم. وقد قام دعاتهم لذلك باختلاق أثارة من علم الأولين، وبوضع أخبار ينسبونها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنها من علم الغيب المقطوع بوقوعه. ومن شأنهم فيما يصوغونه من ذلك دسّ أمارات تناسب زمانهم أو حالهم أو أنسابهم أو مواطنهم أو اسم أحد من أئمتهم ليتبين كونهم المقصود من ذلك الخبر. وقد دعت الشيعة

الهاشمية لإسناد الأمر إلى من بقي من أبناء الإمام علي وهو محمد بن الحنفية، وادعى غلاتهم أنه لم يمت ولن يموت حتى ينصر دين الله، وأنه مختفٍ بغار في جبل رضوى ولقّبوه بالمهدي. وزعم جمهور من الشيعة الإمامية أن المهدي المنتظر هو محمد بن السيد الحسن العسكري. وأنه اختفى صغيراً وأنه لا يموت، وأنه المهدي الذي سيخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ويدحض هذا الزعم اتفاق جمهور علماء الأنساب على أن السيد الحسن العسكري ليس له ولد. وراحت بعد ذلك فرق كثيرة كانت تطمع في الإمامة تدعي ذلك وتنسبه إليها. وتضع له الأخبار للتأثير على العامة، كالذي اخترعه أصحاب الدعوة الهاشمية بخراسان، وعزوا روايته لابن مسعود، وأجروا على لسانه قولَه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة ثم الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخير فلا يعطَونه فيقاتلون وينصرون (العباسيون الهاشميون). وكان محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى يتطلّع إلى الخلافة، ويزعم أن أبا جعفر المنصور بايعه بها. وحين طلبه الأمير في خلافة أخيه السَّفَّاح اختفى في شِعاب جبل رضوى. ولقب أبو جعفر المنصور ابنه محمداً بالمهدي، وأخذ له العهد بالخلافة، وساعده على ذلك أنه سميّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن أباه سميّ أبي الرسول. وهم يروون من الأخبار في المهدي ما وضعوه على لسان النبوّة: لِما يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. وبهذا انقطعت أيامَ المهدي مطامع العلويين. وكذلك انتحل لقب المهدي هذا زعماء ورؤساء كالمهدي العبيدي بإفريقية، والمهدي بن تومرت داعية الدولة

تفصيل القول في طرق الأحاديث

الموحّدية بها، والحاكم بأمر الله الفاطمي بمصر الذي انقطع خبره هو أيضاً، وزعم أصحابه أنه اختفى إلى زمن مرقوب. المحور الرابع: مناقشة الآثار المروية في هذا الباب، وهي كثيرة. أسندها رواتها إلى ثمانية عشر صحابياً. ورجال تلك الأسانيد على تفاوتها قسمان: الأول اختلف نقاد الرجال في تعديلهم وتجريحهم اختلافاً متكافئاً. وقد روى أخبارهم الترمذي وأبو داود وابن ماجه. ومجموعها ثمانية طرق. والثاني أباه أهل النقد لانفراد المصنفات المعروفة بالخلط بين الصحيح والحسن والضعيف والموضوع بإخراج أحاديثهم. وذلك مثل معاجم الطبراني. ودلائل النبوّة للبيهقي، وتاريخ ابن عساكر، وتاريخ الخطيب، ومستدرك الحاكم، وحلية أبي نعيم. تفصيل القول في طُرق الأحاديث: ولكون أسانيد القسم الأول أشبه ما يروى في هذا الموضوع، وقف الإمام الأكبر عندها مفصلاً القول في طرقها. وهي ثمانية: 1 - حديث ابن مسعود: لو لم يبق من الدينا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. 2 - حديث علي: لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً. 3 - حديث أم سلمة: المهدي من ولد فاطمة. 4 - حديث أبي سعيد الخدري: المهدي منّي، أجدى الجبهة،

أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين. 5 - حديث أبي سعيد الخدري: إن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً من سنين. فيجيء إليه رجل فيقول: يا مهدي أعطني. قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله. 6 - حديث علي: المهدي منّا أهل البيت يُصلح الله به في ليلة. 7 - حديث ثوبان: يقتتل عند كبركم ثلاثة كلُّهم ابن خليفة لا يصير إلى واحد منهم حتى تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونهم قتلاً لم يقتله قوم - ثم ذكر شيئاً لا أحفظه - قال: فإذا رأيتموهم فبايعوهم ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي. 8 - حديث عبد الله بن الحارث: يخرج ناس من قبل المشرق فيوطئون للمهدي. أخرج هذه الأحاديث جماعة من بينهم: الترمذي وأبو داود وابن ماجه. وقد تعقّب الإمام هذه الطرق طريقاً طريقاً. وقال عن جميعها: كلها متكلم فيها. وأتبع ذلك بنقدها من جهة المصطلح، ومن جهة النظر. قال: فتكون هذه الأحاديث من قسم الحديث الضعيف، لأن أسانيدها لم تسلم من الاشتمال على راوٍ ضعيف. وبعض رواة أسانيدها مطعون فيهم، وأن من تُكُلم فيه مثلهم، وإن كانوا قد قبلهم بعض أهل النقد، فقد ردَّهم بعضهم، فتعارض فيهم الجرح والتعديل والرد والقبول. ومن المعلوم أنه استقر عند علماء الحديث وأصول الفقه أن الجرح إذا صدر من أهل المعرفة، قدم على التعديل الصادر منهم، فيقدَّم الجرح. وهذه القاعدة مسلَّمة معمول بها. وفي آخر نقده لأحاديث هذا القسم من جهة اللفظ يصرّح بأن

علماء السنة اتفقوا على عدم قبول الحديث الضعيف فيما عدا فضائل الأعمال. ومن جهة النظر يعود شيخنا رحمه الله إلى القسمين المتقدِّمين من الآثار المروية في قصّة المهدي المنتظر. ويقف عند القسم الأول، فيشير أولاً إلى الأسباب التي روّجت لظهور هذه الأخبار الكثيرة، ولتطايرها في الآفاق، وثانياً إلى ما يمكن أن تحدثه الروايات والطرق لهذا الحديث من الريبة في صحته، لشدّة حرص مُشِيعيه على رواجه بين الناس. ويحملنا هذا الأمر أيضاً على التساؤل عن إحجام إمامي الجامع الصحيح البخاري ومسلم عن إخراجه في كتابيهما مع ما توافر لهذا الخبر من الرواية عن ثمانية عشر صحابياً بأسانيد مختلفة. وهو يختم بعد ذلك هذه الملاحظة بقوله: وإنه لمن الغريب أن يسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قضية أهم وأوكد، وهي قضية الخلافة، فيترك الخوض فيها لاجتهاد أصحابه يبحثون عن طريق حلها في إشارات من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في حياته. وفيما يتطلّعون إلى ما يحقّقه من المصلحة العامة، ويولي اهتمامه قضية قائم يقوم في أمته في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جَوراً. وخلاصة القول لدى الإمام من هذه الوجهة أن روايات هذا الحديث مستبعدة مسترابة، لا نستثمر منها عقيدة لازمة، ولا مأمورات جازمة. فإذا تحوّل إلى القسم الثاني من الروايات النازلة في الضعف عن تلك الطرق، قال: إنها إذا تأملها الناقد البصير وجد مخيّلةَ التحزب والعصبية واضحة فيها، ووجد معظمها يصوّر اليأس من الحكم الأموي، ومن نجاح أمر الأمة على يديه، وأن هذه الغاية لن يتمّ بلوغها إلا بتولي بني هاشم الأمر، سواء أكانوا علويين أم عباسيين أم هاشميين زبيريين. وإنك متى تتبعت آثاره في هذا القسم الثاني وجدت

كتب الإمام الأكبر في السنة

بعض رواياته تتجاوز الإشادة بالمهدي أو التبشير به إلى تعيين المقصود الأخص من منتحليها. فمن تسمية للقبائل التي ينحدرون منها، مثل تميم وكلب وأهل الشام وأهل العراق، ومن تسمية للبلاد التي يكون ظهورهم بها، مثل مكة والمدينة والعراق والكوفة وخراسان ونحوها، إلى تعيين الأشخاص بأنسابهم وألقابهم؛ كالسفياني، والقحطاني، والنفس الزكية، والسفاح، والمنصور، وشعيب بن صالح التميمي. وفي نهاية هذا النقد العلمي الجامع بين النظر في أسانيد وروايات تلك الأحاديث وفي متونها، يعود شيخنا إلى التأكيد على ما ذكره في التمهيد من أن العناية بمثل هذه القضايا غير مفيد، وأنه يرى للمسلمين الإعراض عن الاشتغال بمثل هذه البحوث تعضيداً أو تزييفاً. فهي مسائل لا تفيدهم عملاً في دينهم، ولا في دنياهم (¬1). كُتُب الإمام الأكبر في السّنة: أما تآليف الإمام الأكبر في السنة: فـ كشف المغطّى، والنظر الفسيح. وهذان الكتابان نمط فريد من التصنيف يَكملُ به جميع ما قاله المحدّثون والشراح من رجال العلم النبوي في موطأ الإمام مالك الذي يعتبر كما قال الإمام الشافعي: أصحّ كتاب يظهر على الأرض بعد كتاب الله، وفي الجامع الصحيح للإمام البخاري الذي كان صاحبه يذبّ عن السّنة الكذب، فلم يخرّج في كتابه إلا صحيحاً، وما ترك من الصحيح أكثر، احترازاً من التطويل. الكتاب الأول: كشف المغطّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطّا. نبتت فكرة تصنيفه في ذهن شيخنا رحمه الله من أيام تولّيه ¬

_ (¬1) تحقيقات وأنظار: 49 - 60.

تدريس مادة كتاب الإمام مالك. وكان يأسره ويشدّه إليه جانبان هامان منه: جانب السنّة والآثار، وجانب الفقه والفتوى. وهو قد استعد لهذا الغرض بطول مزاولته للموطأ وكثرة مثافنته له. وهو ككبار أئمة العلم ممّن حدثنا عنهم أو سعدنا بلقائهم في حلقات الدروس، لا يقدم على محاضرته أو إملائه لموضع درسه من الكتاب إلا بعد الرجوع إلى أهم المصادر، واستيفاء مقالات العلماء البارزين فيه، وتعليقات الشيوخ المتمكّنين عليه. وهكذا يمكننا أن نعدّ من مصادر كشف المغطى الأساسية دروسَ الإمام في الموطأ وما رجع إليه فيها من شروح وتصانيف كانت متداولة بين الأساتذة والطلاب، مثل المنتقى للباجي، وشرح الزرقاني وتعليقات السيوطي على الموطأ، أو كانت عزيزة نادرة اجتمع له منها: القبس لابن العربي، وقسم من ترتيب المسالك له، وقطعة من التمهيد لابن عبد البر، وقطعة من الأنوار في الجمع بين المنتقى والاستذكار لابن زرَق، وتعليق لأبي محمد بن السيد البطليوسي في غريب الموطأ، ونسخة من مشارق الأنوار لعياض، وصلت إليه متأخّرة بعد أن كاد يفرغ من وضعه لكتابه. وقد كان في أول الأمر يتطلّع إلى وضع شرح وافٍ على الموطأ يشتمل على ما انقدح له من رأي في جلسات الدرس وقبلها، فَيُلمّ بما كتبه الشراح، مضيفاً إليه ما حصل له من أفهام، أو حرّره من حقائق، أو استدركه من أنقاص، أو حلّه من مشاكل. لكن عوائق كثيرة حالت دونه ودون رغبته السامية تلك، فاقتصر على تصنيف الكشف، هذا المختصر، إنجازاً لبعض ما عزم عليه وتقييداً لملاحظاته وتعليقاته على الموطأ بما لم يسبق إليه. وفي بداية هذا التأليف ومقدمته عرّف بموطأ الإمام مالك بن

أنس وذكر أن طريقة الإمام مالك كانت جامعة بين التمحيص والتصحيح والتقرير والتحرير. وهكذا أثبت في موطئه ما صحّ عنده من الآثار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة، - ومَن بعدهم - من فقهاء المدينة، وما جرى عليه العمل عندهم. فجمع بين النصوص التشريعية من السنة الصحيحة، وبيّن استنباط الأحكام والتطبيقات وفتاوى الأئمة في ذلك العصر. ولتيسير الإفادة من هذا الكتاب جعله على أبواب الفقه كي يتسنّى لطلاب الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات، ولِشُدَاة العلم والأدب أن يظفروا بسرعة. كلٌّ بما هو في حاجة إليه من ذلك الموطأ، وأن ينهلوا من ينابيعه العذبة ما فيه من شفاء للصدر وتزكية للنفس. وتبويب الموطأ كان مثالاً جرى عليه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، كما سار مسلم على مثل ما سار عليه في تقسيمه جامعه الصحيح إلى كتب. وتعرّضت هذه المقدّمة إلى شروط الصحة عند أهل الأثر، وإلى طرق نقد الأخبار من جهتي الأسانيد والمتون. فنبّه إلى ما التزم به الإمام مالك من ذلك في كتابه، مع مقارنته بشروط الصحة عند الإمامين البخاري ومسلم. وتميّز الموطأ ببعض العبارات والكلم والمصطلحات التي أطلقها صاحبه على بعض التصرّفات فيه كقوله: باب جامع، والأمر المجتمع عليه، والأمر الذي أدركت عليه أهل العلم، أو سمعته من أهل العلم، وقوله: فيما نرى، أو فيما أرى والله أعلم، وعلى مذهب من لقيته، وحتى وقع الحق، وهو شيء استحسنته من قول العلماء، ومالك عن رَجل، ومالك عن الثقة عنده، وما جاء في جواز كذا، وما جاء في تحريم كذا، ونحو ذلك.

وتحدث الشيخ ابن عاشور في مقدمة كشف المغطّى عن أسانيد مالك العالية وطرقها. فهو يروي عن عدد كبير من الصحابة، منهم ابن عمر وأنس بن مالك وسهل بن سعد وجابر بن عبد الله وأبو شريح الكعبي وأبو سعيد الخدري وعمر بن أبي سلمة. وأخذ الموطأ من أصحاب الإمام عنه ألف وثلاثمائة راوٍ، رتبهم عياض في كتاب المدارك على حروف المعجم. ومن الموطآت الشهيرة المعروفة: موطأ يحيى بن يحيى الليثي وهو أشهرها وأوعبها، وموطأ مطرف، وموطأ يحيى بن بكير، وموطآت أخرى كثيرة تنسب إلى أبي مصعب، ومحمد بن عبد الله، وابن القاسم، وابن وهب، والقعنبي، ومحمد بن الحسن، ومعن بن عيسى بن دينار، وعبد الله بن يوسف، وعبد الله الزبيري، وسويد بن سعيد، وعلي بن زياد، والزهري، وأحمد بن إسماعيل السهمي، وابن أبي ذئب. وختم الإمام الأكبر هذه الدراسة ببحث لغوي يفسّر به وجه تسميته بالصحيح. وعني بهذا الكتاب، الأول من كتب الصحاح، عدد من الأئمة والفقهاء والمحدثين، فوضعوا عليه شروحاً كثيرة وتفاسير جيدة. وأحصى العلماء عدد ما ورد فيه من أحاديث بلغ بها الأبهري 1720 حديثاً: 600 منها من المسند المتصل، 222 مراسيل، 613 موقوفة. وأحاديث أخرى ما بين منقطع، وبلاع، وأقوال الصحابة، وفقهاء التابعين، وما استنبطه الإمام في الفقه استناداً إلى العمل أو إلى القياس أو إلى قواعد الشريعة. ولكثرة هذه الأحاديث وتنوّعها لم يكتب عن كل واحد منها في كشف المغطّى. ولكنه كما قال: اقتنع فيه بإثبات أهمّ ما يلوح له من

أمثلة تحدد منهج الإمام مالك في الموطأ

النكت والمسائل وكشف المشاكل، أو تحقيق مبحث، أو فصل نزاع، أو بيان استعمال عربي فصيح، أو مفرد غير متداول. ولا يتَّسِع الظرف لاستعراض ما تناوله كشف المغطّى من أحاديث ومسائل بلغت نحو الثلاثمائة، وأنّى لنا ذلك في مثل هذه العجالة، وإني لأكتفي بذكر أمثلة من ذلك انتزعتها من عدة كتب وأبواب من الموطأ، لنتبين من عمل شيخنا فيها المنهجَ الذي سار عليه، والطريقةَ التي اعتمدها فيه وأنواعَ الملاحظات والإفادات التي قدّمها لنا وأفادنا بها. * * * أمثلة تحدِّد منهج الإمام مالك في الموطأ: فمن أمثلة ذلك: 1 - مالك عن ابن شهاب: "أن عمر بن عبد العزيز أخّر الصلاة يوماً، فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً وهو بالكوفة. فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري. فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله ... " الحديث (¬1). بدأ الإمام الأكبر ببيان خصائص هذا الحديث قائلاً: هذا حديث أغرّ: فيه مراجعة فقيهين لأميرين، وفيه تلقّي تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابي، ورسول عن رسول. وكان عمر بن عبد العزيز أمير المدينة، وكان المغيرة بن شعبة أمير الكوفة. ثم أشار إلى ما في هذا الحديث من بيان إجمالِ آياتِ أوقاتِ الصلوات. ¬

_ (¬1) 1 كتاب وقوت الصلاة، 1 باب وقوت الصلاة، ح 1، ط: 1/ 3 - 4.

وفيما بدا من إنكار الفقيهين، عروة بن الزبير وأبي مسعود الأنصاري، على الأميرين عمر بن عبد العزيز والمغيرة بن شعبة، تأخيرَ الصلاة ليس من أجل الغفلة عنها إلى خروج الوقت، وإنّما للتأخّر بها عن أول الوقت. فالسلف كانوا يخشون تعيّنه لإيقاع الصلاة، وأن في التأخّر عن أول الوقت بدون عذر إثماً. ذاك كان دأبهم في المحافظة على السنة. فكانوا يرون أن وقت أول الواجب الموسع هو أول الوقت، وأن ما بعده قضاء سدّ مسدّ الأداء. وهذا خلاف رأي الجمهور الذي يعتبر جميع وقت الواجب الموسع محلاً للأداء. وهذا الحديث مما رواه البخاري عن عبد الله بن سلمة عن مالك (¬1). ومحل الاحتجاج فيه لمقالة السلف: أن جبريل نزل فصلّى عند الوقت أي في بدايته، وصلّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصلاته. وهكذا عقبت الصلاةُ النزولَ بلا تريث، وفيه الإشعار بوجوب المبادرة إلى الصلاة. ويقابل هذا الرأي قول الفقهاء: أوقات الصلاة ذات مبادىء ونهايات، وأن الأمر إنما جاء لتأكيد الأداء في أول الوقت، أو هو أمر لغير ذي العذر بالمبادرة إلى الصلاة. وفي هذا سعة، والشريعة لا يفارقها التيسير. وقد اشتمل هذا التعليق على ملحظ لطيف دلّ على أهمية الصلاة وشرفها: يظهر الأول في صلاة جبريل الأوقات الخمسة برسول الله، تبليغاً عملياً لأوصافها وكمال أدائها. ويظهر الثاني في فرض الله الصلاة بحضرة الملائكة في الإسراء، وبيان حقيقتها وصور القيام بها عن طريق نزول الروح الأمين جبريل - عليه السلام - بها (¬2). * * * ¬

_ (¬1) خَ. 9 كتاب مواقيت الصلاة، الباب الأول، 1: 1/ 132. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 52 - 55.

2 - مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استقيموا ولن تُحصوا، واعملوا وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (¬1). أورد الشيخ رحمه الله هنا الجزء الأول من الحديث. فنوّه بإيجاز لفظه واتساع دلالته، جاعلاً إيّاه من جوامع الكلم. ووقف عند كلمتي: الاستقامة والإحصاء؛ شارحاً معنييهما، ذاكراً دلالتيهما الحقيقية والمجازية. فالاستقامة على الحقيقة مشتقة من القَوام أي الاعتدال وعدم الاعوجاج. قال سحيم: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرتُ كعوبَها أو تستقيما وهي "مجاز" بمعنى حُسن العمل. وقول: ولن تحصوا، من الإحصاء. وهو معرفة كامل العدد. وهو هنا بمعنى: ولن تحيطوا بكمال الاستقامة. وقد ذكر على دلالة هذا اللفظ شواهد من القرآن. ومجازُ: ولن تحصوا، العجزُ عن العمل. وفي آخر التعليق بعد شرح الكلمتين السابقتين في الحديث، يذكر أن الواو في "ولن تحصوا" هي واو الحال. والمعنى: استقيموا وإنكم لن تحصوا غاية الاستقامة. فالكلام مسوق مساق الإغراء بالعمل على حدّ قولك: افعل كذا ولا تقدر، أو قولك: ولا أظنّك تفعل (¬2). * * * 3 - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع لبلال بن الحارث معادن القبلية. وهي من ناحية الفُرع. فتلك المعادن لا يؤخذ منها - إلى اليوم - إلا الزكاة" (¬3). ¬

_ (¬1) طَ: 2 كتاب الطهارة، 6 باب جامع الوضوء، 36: 1/ 34. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطى: 80 - 81. (¬3) طَ: 17 كتاب الزكاة، 3 باب الزكاة في المعادن. ح 8: 1/ 248.

توقّف المؤلّف عند كلمة "قطع له" في هذا الحديث بمعنى أعطاه، ووجد أن من اللغويين مَن لا يقبل هذا الاستعمال في هذا الغرض، وأن الموجود (أَقْطَعَ) الرباعي متعدّياً بنفسه، ولم يذكروا (قَطَع له). وذكر أن الكلمة هنا واردة بصيغة الماضي الثلاثي ومعداة باللام فَعَل - لـ. وقال: وهي بلفظ المضارع الثلاثي أيضاً كما في حديث الصحيحين: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالوا: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين" (¬1). وللجمع بين مقالة اللغويين وما ورد في نصوص السنة من ذلك، ما نقله عن عياض في المشارق من قوله: أصله من القطع، كأنه قطعه له من جملة المال. وصحّح الإمام هذا الاستعمال بجريانه على القياس في اللغة (¬2). * * * 4 - عن سعد الجاري مولى عمر بن الخطاب أنه قال: "سألت عبد الله بن عمر عن الحيتان يقتل بعضها بعضاً، أو تموتُ صَرَداً" (¬3). تعرّض المؤلّف هنا في تعليقه على هذا الحديث إلى التعريف بأحد رجال الإسناد فيه، وإلى تفسير كلمة لغوية. فالأول قوله: سعد بن نوفل الجاري، ينسب إلى الجار، اسم مرفأ بالمدينة قديم، استعمله عمر عليه. وهذا الراوي ذكره الحموي ¬

_ (¬1) وورد بصيغة الرباعي بهذا المعنى في حديث أسماء بنت أبي بكر عند قولها: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي. 39 كتاب السلام، 14 جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق، 34. مَ: 2/ 1716. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 151. (¬3) 25 كتاب الصيد، 3 باب ما جاء في صيد البحر، 15، طَ: 2/ 495.

في الجار في معجم البلدان، ولم يرد ذكره لا في تهذيب التهذيب لابن حجر، ولا في إسعاف المبطّأ للسيوطي، ولا في الكاشف للذهبي. وذكر الحموي: أن سعد الجاري هذا مختلف في حديثه، وأن له ولدين هما عبد الرحمن وعمر، وكلاهما من المحدثين. والثاني تحرير جملة "أو تموتُ صَرَداً". الصّرَد بالتحريك شدة البرد، وهو منصوب على نزع الخافض. قال النابغة: فارتاع من صوت كلاب، فبات له ... طوعَ الشوامت من خوف ومن صَرَدِ (¬1) * * * 5 - عن أبي الزبير المكي: "أن رجلاً خطب إلى رجل أختَه. فذكر أنها قد كانت أحدثت. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه، أو كاد يضربُه. ثم قال: مالك وللخبر؟ " (¬2). هذا الخبر يعرض علينا تصرّفين متقابلين: أحدهما تصرف رجل يشهّر بأخته لدى خاطبها، صوناً له من الارتباط بما يكره والوقوع فيما يحذر، معتبراً ذلك من الخلال الكريمة التي يأمر بها الشرع، وثانيهما التصرّف المقابل له تصرّف عمر بن الخطاب، الوقّاف عند أحكام الشرع الذي غَضب على الأول أشدّ الغضب وضربه أو كاد أو عزم على ضربه تأديباً له لتصرّفه تصرّفاً غير شرعي بما قام به. ولتحرير الوجه الفقهي في هذه القضية يلفت المؤلف النظر إلى زجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أخبر بزنى رجل مسلم. فقال: هلا سترته بردائك؟ ويقتضي هذا بدون شك تحقيق مقصد شرعي سامٍ، يتمثّل في ستر المسلم فيما زلّ فيه من المعاصي ما لم يُخش من ذلك ضرر ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطى: 237. (¬2) 28 كتاب النكاح، 22 باب جامع النكاح، 53. طَ: 2/ 547.

على الأمة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". ومن هذا التقرير تتضح لنا عناية المؤلف بالمقاصد الشرعية، واهتمامه بها، وترتيبه الأحكام عليها. فالستر على المسلم فيه مصالح كثيرة تجلب منفعة أو تدرأ ضرراً. فممَّا تجلبه من المصالح: إبعاد المقترف للذنب عن استخفاف الناس به وكراهيتهم له. وأن من حَصَلت منه المعصية على وجه الفلتة إذا ستر أمره بقي له من وقاية مروءته ما يصدّه عن معاودة الوقوع في ذلك الإثم. ومن المفاسد التي يدرؤها الأخذ باعتبار مصلحة الستر على المسلم فيما حصل منه واجباً بل محمدة، إن في التسميع بالمعاصي مظنّة قصد التشويه به بالذنب، وأنه بإشاعة المعاصي يسهل أمرها على متجنّيها. وهو مما جاء التحذير منه، والتهديد عليه في الذكر الحكيم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬1)، كما أن التشهير يحدث عداوة بين المشهِّر والمشهَّر به. وهذا ينافي مقصد الإسلام من دوام الألفة والمحبة بين المسلمين. ويساير الإمام نصّ الحديث، فيذكر أن ما حصل من الأول من سوء التصرّف كان ممّا لا منفعة فيه للخاطب، وأنّه بسبب ذنب مضى، وليس هو عيباً بالخلقة كعيوب الأبدان والأخلاق، مِن مرض أو جنون أو حماقة، يجب الإعلام به لتجنيب الخاطب الغرر، على أن النصيحة لا تكون من ولي المرأة، فإن في مثل هذه مضاعفة لسوء التصرّف الذي يشير إليه الفقعسي الحماسي: رأيت مواليَّ الأُلَى يخذلونني ... على حدثان الدهر إذ يتقلَّب ¬

_ (¬1) النور: 39.

ومن أجل التبغيض في مثل هذه الفعلة ورد بآخر الحديث الاستفهام الإنكاري من الخليفة الراشد عمر: مالك وللخبر؟ (¬1). * * * 6 - قال عمر: "فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله" ووقع فيه: "وإما أن تَرفَع من سُوقنا" (¬2). وفي التعليق على هذين الحديثين بيان للأول: أي كيف شاء الله له، بمعنى كيفما تيسّر له. وتصحيح للثاني أساسه ضبط صيغة الحديث الثاني: أن تَرفَع من سوقنا، بفتح التاء الفوقية والفاء من نفس الكلمة. قال الشيخ ابن عاشور: ولا يصحّ ضم الفوقية، لأن حاطباً لم يكن ملازماً للسوق. وأيّد هذا بأن هذه هي الرواية التي وقف عليها في نسختين صحيحتين. وأكّد هذا بما وقع في قصّة حاطب من قول عمر له: وإلا فارفع من سوقنا. وهي الرواية المنقولة عن عيسى بن دينار، نقلها عنه ابن أبي الخصال. قال: كان حاطب يبيع من زبيبه بأقل ممّا يبيعه به أهل السوق. فقال له عمر: إمّا أن تبيع كما يبيع الناس، وإلا فارفع من سوقنا. ومن رواية أخرى قال عمر: حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً. وهم إذا وضعوا بجنبك اعتبروا بسعرك، فإمّا أن تَرفَع في السعر، وإمّا أن تُدخل زبيبك البيتَ فتبيعه كيف شئت. وتمام هذه الرواية أن عمر بن الخطاب أتى حاطباً في داره. فقال: إن الذي قلت لك ليس بعزيمة ولا قضاء، إنّما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد. فبع كيف شئت (¬3). * * * ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 252 - 254. (¬2) 31 كتاب البيوع، 24 باب الحكرة والتربص، ح 56، 57. طَ: 2/ 651. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 276.

7 - بلغ مالكاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع وسلف". قال مالك: ولا بأس أن يشتري الثوب من الكتان أو الشطوي أو القصبي بالأثواب (¬1). التعليق هنا لا يتصل بنوع الحديث ولا بمتنه، وإنما هو منصبٌّ على الجملة من تفسير مالك التي أوردها إثره. أجرى المؤلف أولاً مقارنة بين رواية يحيى وبين رواية ابن وضاح في نقل كلام مالك. فاقتران الشطوي بلفظ "أو" أو بحرف العطف "و" ثابت في رواية يحيى، غير وارد عند ابن وضّاح. وعند ابن عبد البرّ في الحاشية "الواو" خطأ لم تقع لغير يحيى. ويرى الإمام الأكبر أن الشطوي وما عطف عليه أصناف من الكتان، فلا وجه لعطف أولها على الكتان بأو ولا بالواو لأن الكتان نوعها. أما بقية الأصناف المذكورة بعد فإثبات "أو" فيها متعين. ثم أضاف رحمه الله، إلى ما ذكر من أنواع الكتان، القوهيَّ نسبة إلى قُوهستان بلد بكرمان، وأصله كوه ستان. فكوه جبل، وستان المكان، بمعنى بلد الجبال. والقُوهي ثوب أبيض ينسج بقوهستان. ورد في شعر نُصَيْب: سُوِّدْتُ فلم أملك سوادي، وتحته ... قميص من القوهي بيض بنائقه (¬2) * * * 8 - عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان كل ¬

_ (¬1) 31 كتاب البيوع، 30 باب السلف وبيع العروض بعضها ببعض، 69. طَ: 2/ 657. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. الكشف: 278.

واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا، إلا بيعَ الخيار". قال مالك: وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به (¬1). موقف معلن فيه عن رفض العمل بهذا الحديث المروي عن ابن عمر وابن حزام، من طرف الإمام مالك. لذا أعقبه رحمه الله بقوله في موطئه: ليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به. وقد سبق لنا الحديث عن هذه المسألة في بداية فصل احتياج الفقيه إلى معرفة المقاصد الشرعية (¬2). وأشار رحمه الله إلى وقوع الخلاف في هذه المسألة بين الفقهاء كما فصّل فيها القول ابن العربي في القبس (¬3). والمهمّ الذي نبّه إليه الشيخ رحمه الله في كتابه: أنه لم يجد فيمن عَمَد إلى تحرير المذهب من قام ببيان المراد من قول الإمام مالك: ليس لهذا عندنا حد محدود ... إلا كلمة لابن العربي، قال: هي إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط الخيار ومدة مجهولة لبطل إجماعاً. وكيف يثبت حكم بالشرع بما لا يجوز شرطاً في الشرع. وهذا شيء لا يتفطّن إليه إلا مثل مالك. قال الشيخ ابن عاشور: وجد الإمام محمَل الحديث غير بيّن، لأن المجلس لا ينضبط. وشأن التشريع في الحقوق أن يكون مضبوطاً، لتتمكن للمتعاملين المطالبة بالحقوق، ويتيسر للقضاة فصل القضاء. ويضيف بعد هذا: إن الحديث من غير ضبط يجعله مانعاً من الاستفادة منه، لكونه مجملاً لم يصحبه ما يبيّنه، ولا أمر معمول به، كما قال مالك. ¬

_ (¬1) 31 كتاب البيوع، 38 باب الخيار، 79. طَ: 2/ 631. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 3/ 43. (¬3) ابن العربي. القبس: 2/ 844 - 845.

ويختم تقريره هذا بقوله: إن الأدلة المجملة لا تكون أدلة تفقّه، فيجب التوقّف والرجوع إلى القواعد الشرعية، إذ الأصل في البيوع الانضباط وطرح الغرر (¬1). * * * 9 - عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب كان يأكل خبزاً بسمن. فدعا رجلاً من أهل البادية فجعل يأكل ويتّبع باللقمة وضَر الصحفة. فقال عمر: كأنك مقفر! فقال: والله ما أكلت سمناً ولا لُكْتُ أكلاً به منذ كذا وكذا. فقال عمر: لا آكل السمن حتى يَحيا الناسُ من أول ما يَحْيَوْن (¬2). ويحتاج هذا الحديث إلى تحقيق روايته، وبيان وجوهها في الجزأين. وهذا ما عُني به صاحب الكشف ضابطاً ومقارناً: وَرَد الجزء الأول منه في المشهور من الروايات بلفظ: ولا رأيت آكلاً به، وبذلك يكون مناسباً لرواية الجزء الثاني بصيغة: لا آكل السمن حتى يَحيَا الناس. والرواية الثانية: ولا رأيت أُكْلاً به، بضم همزة أُكْل، بمعنى: ولا رأيت طبيخاً بالسمن. وهي دون الرواية الأولى. والرواية الثالثة - وهي الأخيرة في الرتبة -: ولا لُكْتُ أكلاً به، يعني أنه ما أكل سمناً محضاً، ولا مضغ طعاماً مأدوماً بالسمن. وورد الجزء الثاني من الحديث بصيغة قول عمر: لا آكل ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 280 - 281. (¬2) 49 كتاب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، 10 باب جامع ما جاء في الطعام والشراب، 29. ط: 2/ 932؛ موطأ الليثي. دار النفائس: 667، 1690.

السمن حتى يُحيا الناس من أول ما يُحيون. وفيه روايات ثلاثة أيضاً: الأولى: بضم الياء الأولى في الفعلين، وبكسر الثانية في (يُحيِي) وضمها في (يُحْيُون): حتى يُحيِي الناس من أوّل ما يُحيُون. الثانية: بفتح الياء الأولى والياء الثانية في الفعلين: حتى يَحيَا الناس من أول ما يَحيَون. وبالضبط الأول وردت في أصل ابن أبي الخصال، وكذا عند الطلمنكي وعند أبي علي الصدفي. الثالثة: بضم الياء الأولى في الفعلين وفتح الياء الثانية فيهما: حتى يُحيَى الناس من أول ما يُحيَونَ. هكذا ضبطها أبو عمر بن عبد البر، وأبو الوليد الوقشي. واختار الوقشي في الفعل الأول (يُحيِي) بضم الياء الأولى وكسر الثانية فاختار في الفعل الوجه الأول. ويتقرر ببيان ما ذكر هنا من الأوجه: أن يكون مِنْ (أحيا) يقال: أحيا القومُ إذا حَيِيَتْ ماشيتُهم أو صاروا في الحيا، أي الخصب. كذا في القاموس. أي مشتقاً من الحَيى بالقصر وهو المطر. وقال ابن السيد البطليوسي: أحيا الناس يُحيُون، إذا حييت أموالهم وأخصبوا، على حدِّ قولهم: أَهْزَلَ الناسُ، فهم مُهزِلون إذا أجدبوا فهزلت أموالهم. ونبّه الشيخ رحمه الله على أن هذا الوجه هو الذي رجّحه أكثر الرواة للموطأ وهو الأظهر عربيّة. ويكون من حَيِيَ الناس إذا صاروا أحياء، بمعنى رجعوا إلى

حالة الشِّبع، على تشبيه الجدب والجوع بالموت، وتشبيه الشبع والخصب بالحياة على نحو قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، وقوله سبحانه: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}. قال ابن السيد في شرح مشكل الموطأ: والفقهاء يروونه يَحيا ويَحيَون بفتح الياءين في الفعلين. وهذا الوجه دون الأول. أو يكون يُحيَى ويُحيَون، بضم الياءَيْن الأولين في الفعلين، وفتح الثانيتين فيهما على أنه مبني للمجهول. وهذا أضعف الوجوه (¬1). * * * 10 - عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة". فقال رجل: يا رسول الله لا تخبرنا؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال مثل مقالته الأولى. فقال له رجل: لا تخبرنا يا رسول الله. فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أيضاً. فقال الرجل: لا تخبرنا يا رسول الله. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أيضاً. ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته الأولى. فأسكته رجل إلى جنبه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من وقاه الله شرّ اثنتين دخل الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه" (¬2). هذا الحديث من باب تقديم العلم وعرضه، أو من باب النّصيحة، أو من باب التبشير والترغيب، والظاهرة التي يتجلّى فيها هذا الخبر أنه لم يكن حديثاً يروى فحسب، أو كلاماً ينقل، ولكنه ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. الكشف: 354 - 355. (¬2) 56 كتاب الكلام، 5 باب ما جاء فيما يخاف من اللسان، 11. طَ: 2/ 987.

حوار وتجاوب بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وحِرْصٌ من النبى - صلى الله عليه وسلم - على الإبلاغ، ومن أهل مجلسه على التحمّل. وتعمُّق الإمام الأكبر في بيان وجوه معانيه وأسراره متولدٌ بدون شك من وقوفه على الروايتين الواردتين فيه. فيحيى بن يحيى الليثي وابن القاسم روياه بلفظ: "لا تخبرنا"، بصيغة النهي. ورواه عبد الله بن مسلمة القعنبي بلفظ "ألا" التي للعرض. وقال: ألا تخبرنا، بزيادة الهمزة على "لا" في الرواية الأولى. ويترتب على هذا الاختلاف في الرواية اختلاف في المعنى، وحصول تأويلات لضبط دلالته، وسبب داع إلى الترجيح بين الروايتين المختلفتين أو الجمع بينهما، وهذا الاهتمام بلفظ الحديث ومتنه يكشف عن إرادة قوية وعزم شديد على تتبّع الآثار النبويّة، ودقّة فهمها، وجودة تقديمها، وضرب المثل في حُسن الدراية. يقول الشيخ ابن عاشور: ففي رواية يحيى وابن القاسم أشكل على الشارِحين موقع لفظ "لا تخبرنا" في الرواية الأولى، فتأوّله المتأوّلون. وذهب الباجي في المنتقى إلى أن الرجل أراد أن تتسابق أفهام الحاضرين، اجتهاداً منهم، إلى تعيين هذين الاثنين. وهذا أقرب ما ورد من التآويل. وليس في حكاية الراوي ما يؤذن بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد اختبارَ فهمِ أصحابه، فيكون لفظ "لا تخبرنا" ما اقتضاه الكلام، ولأن الخبر متعلق بأمر الآخرة، وهو مما لا مجال للعقول في تعيينه. وفي رواية القعنبي: "ألا تخبرنا" وهى أقرب الروايات. فهي تقتضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك وسكت قليلاً أو اشتغل بشيء. فقال ذلك أربع مرات.

الكتاب الثاني: النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح.

وترجِّح روايةَ القعنبي خمسة أمور: أولها: أن من شأن أهل مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرصَ على الاستفادة. واحتمال - كون المراد اختبار تنبّههم - لم يحك الراوي ما يقتضيه. ثانيها: أن المقام مقام تبشير وترغيب. فلا يظنّ أنّ الرجل قال: "لا تخبرنا" بسبب ما تأوّله ابن حبيب فيما حكاه الزرقاني عن الباجي عنه. ثالثها: أن السكوت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كلّ مرّة كان بقصد التشويق للخبر. رابعها: أن سكوت بقية الحاضرين عن الرجل بينهم في مراجعته دليل على أن هذا الرجل كان سائلاً عمّا فيه رغبة جميعهم. خامسها: أن رجلاً بجنب السائل أسكته خشية أن يكون فيما يفعله إلحاح لا يتناسب ووقت اختيار الرسول الإعلام بذلك. أما وجه الجمع بين الروايتين فيكون بسبب تحديث الراوي بقول أحد الحضور في المجلس، فحدّث الراوي بقول هذا مرّة، وبقول الآخر مرّة أخرى، فتكون كلتا الروايتين مما حدّث به مالك أو زيد بن أسلم أو عطاء (¬1). الكتاب الثاني: النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح. هذا الكتاب هو صنو كشف المغطّى في نوعه ونهجه ومادته ¬

_ (¬1) كشف المغطَّى: 377 - 379.

ومسائله. ولئن كان الكشف تعليقات وإفادات بعد مراجعات وتحقيقات لموطأ الإمام مالك، فإن الثاني مثله تعليقات وإفادات هي نتيجة لمراجعات وتحقيقات قام بها المؤلف في كتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري. وهذان الكتابان، الموطأ والجامع الصحيح، أكثر كتب السنة انتشاراً، وخاصة في البلاد المغربية بين الشيوخ والطلاب بجامع الزيتونة، وبين الفقهاء والمتعلمين بجامع القرويين. والأول منهما فيه، مع ما دوّن به من أحاديث صحيحة: فقهٌ وأحكام وفتاوى. فهو الأصل الذي تخرّج عليه المالكية في مختلف الديار، بجانب ما يروونه من مسائل تضمّنتها المدوّنة المروية عن ابن القاسم عن الإمام مالك. والثاني: هو أهم كتب الصحاح، وأولها بين المحدّثين تكوّنت به كما تكوّنت بنظيره مدرسة علمية معروفة المعالم، ملموسة النتائج. وفي تمهيده أو خطبته بعد حمد الله مستحِق الحمد ووليَّه، جماعُ ما أراد المؤلف الإشارة إليه بطريقة موجزة وملهمة. وتلك هي خاصية الكتابين. عرّف الإمام فيها بصحيح البخاري مشيداً ومنوّهاً، واصفاً عناية علماء المسلمين به بقوله: "وقد انصرفَتْ عناية علمائنا إلى إيضاح معانيه، ومتابعة أغراضه، انصرافاً لا يعرف له نظير فيما صرفوا إليه الهمة من غيره حتى أغنوا الناظر، وشرحوا الخاطر، وعقدوا للعلم الأواصر. ولم يكن ما وضعه الإمام الأكبر بتأليفه هذا بقصد المسابقة أو المعارضة للشراح المتقدّمين، ولكنها آراء تخطر وملاحظات تظهر، وهو ماضٍ في رواية الصحيح، فتستوقف طَرَف الطَّرْف، وتستحث بياناً لذلك الحرف.

فرأى صاحب التعليق تدوين ما حضره من خواطر بلمحات تدل الأريب، ولا يحار في توسّعها الرأي المصيب، تفادياً من التطويل، وإبقاء على الناظر صاحب الرأي الأصيل. وكانت طريقته في النظر الفسيح اجتناب تكرار التعاليق التي دوّنها في كشفه، ووضع الأحاديث والتعليقات مواضعها فيما تكرر وروده من ذلك في كتاب الجامع. فهو يتولّى الحديث بالشرح والتحرير في الباب الذي تتضمَّنُ معناه ترجمتُه، أو فيما هو مَظِنة لذكره فيه. ولا ينسى في آخر ديباجة الكتاب تقدير ما وقف عليه من الفوائد في كتاب المشارق لعياض وتضمين قدر منها في تقريراته. ثم هو بحكم تتبعه لكتب الجامع وأبوابه يجري على نسقه ولا يخالف ترتيبه. ويذكر ما يعنّ له من المسائل في محالها منه. وإذا كانت جملة أحاديث البخاري قد بلغت نحواً من 2761 من الأحاديث الموصولة من غير المكررات والشواهد، فإن النظر الفسيح قد توقّف فيه المؤلف عند ستة وعشرين وأربعمائة موضع. اخترنا منها، للتعرّف على إفادته وتحريراته وضبطه وتقريراته، عشرة مواضع اعتبرناها كفيلة بتصوير طريقته. وقد وردت هذه المسائل في أحاديث عرضت فيها أو دلت عليها الموضوعات التي أراد الشيخ الوقوف عندها: * الأول: المقدمة التي وضعها المؤلف بين يدي كتاب التفسير. * الثاني: من كتاب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * الثالث: من باب كتابة الإمام للناس من كتاب الجهاد والسير.

الأول: مقدمة كتاب التفسير في البخاري

* الرابع: هي أحاديث باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلَّفة قلوبهم. * الخامس: حديث باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة. * السادس: الحجر. * السابع: باب {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}. * الثامن: حديث عائشة في باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها. * التاسع: حديث أفضل الذِّكر. * العاشر: فيما يكره من كثرة السؤال. * * * الأول: مقدمة كتاب التفسير في البخاري وما ذكره المؤلف في بداية كتاب التفسير ليس تعليقاً أو بياناً، أو تحديد رواية أو مقارنة بين وجوه رواية، لذا أكتفِي بالإشارة إلى أن المؤلف أراد لشرف الموضوع أن يحدّد طريقةَ البخاري واصطلاحاتِه ومصادرَه وبعضَ روايات القراء لبعض الآي إرشاداً للقارىء وتنبيهاً للناظر. ونصُّ ما أورده في هذا المقام: اصطلح البخاري رحمه الله في كتاب التفسير على أن يخرج في تفسير كل سورة ما صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف من معاني بعض الآيات، أو من أحكامها، أو نسخها، أو من أسباب نزولها. وربما افتتح كل سورة بتفسير غريب كلماتِها على حسب القراءة التي كان يقرأ بها البخاري، وهي قراءة عاصم بن أبي النجود. فهو

الثاني: حديث عائشة - رضي الله عنها -

لا يذكر قراءة غيره إلا قليلاً، ولا يلتزم في ترتيب كلمات القرآن مواقعها من الآي. وقد اعتمد فى تفسير غريب اللغة على أقوال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي عبيدة معمر بن المثنى البصري اللغوي. وكل ما لم يعزُهُ فهو عن ابن عباس. ولذلك يكثر أن يقول: وقال غيره؛ من غير أن يتقدم ذكر ابن عباس. كما اعتمد في تفسير المعاني على ما يروى عن ابن عباس غالباً من رواية السدّي وعطاء وعلي بن أبي طلحة. ولم يتقصَّ القراءات، ولا ذكر الاختلاف بين القراء إلا نادراً (¬1). * * * الثاني: حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة. ومنه: قول خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق ... الحديث (¬2). موضع النظر والتعليق في هذا الحديث جملة: "وتُعِين على نوائب الحق". يذكر المؤلف أنه لم يرد لها بيان شافٍ في شروح الصحيحين، وفي كتب غريب الحديث واللغة، وإنما هو بيان معنى النوائب والاقتصار عليه، دون ذكر لمعاني الحق، وللمناسب منها لهذا المقام، ومن غير التفات إلى إضافة النوائب إلى الحق أو شرح لذلك. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. النظر الفسيح: 212. (¬2) 1 كتاب بدء الوحي 1 باب، 3: خَ: 1/ 3.

الثالث: حديث حذيفة - رضي الله عنه -

وقبل أن يتدارك الأنقَاص التي ربّما احتاج إليها القارىء لِمَتْن البخاري أو الدارس لكتاب الصحيح، ذكر أن جملة: "وتُعين على نوائب الحق" مما جرى مجرى الأمثال في كلام العرب، يدل على هذا نظمها على إيجاز بالغ شأنَ الأمثال، وذكر ورودها على لسان ابن الدَّغُنَّة في حديث عائشة، قال يخاطب أبا بكر: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تُكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (¬1). والحق هنا ضد الباطل، والمراد من النوائب المعنى الاسمي دون الوصفي. وإضافة النوائب إلى الحق من باب الإضافة المحضة. وعدّى لفظ الإعانة بعلى لإفادة الاستعلاء، وهو استعلاء مجازي. واسم النوائب يشعر بحوادث انتابت وجدّت. وبعد التمثيل لها بجملة من الصور قال: والتقدير: وتعينُ صاحب الحق على تحصيل حقِّه لمن عليه في نوازل الحقّ وتحصيله عند نوائبه (¬2). * * * الثالث: حديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبوا لي من تلفّظ بالإسلام من الناس". فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل. فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة. فلقد رأيتُنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف (¬3). توقَّفَ الإمام عند خمسة أغراض في هذا الحديث: ¬

_ (¬1) خَ: 39 كتاب الكفالة، 4 باب جوار أبي بكر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقده. 3/ 58. (¬2) النظر الفسيح: 8 - 9. (¬3) خَ: 56 كتاب الجهاد والسير، 181 باب كتابة الإمام الناسي، ح 1: 4/ 34.

الغرض الأول: حصر عدد المسلمين؛ أي ما ينبغي أن تشتمل عليه القوائم. وقد أوضح ذلك بقوله: طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الناس أن يكتبوا له جميع المسلمين من الرجال الذين بالمدينة خاصة دون الأعراب النازلين حولها، فأخرج بذلك النساء، مستدلاً على رأيه هذا بأدلة كثيرة مقنعة. الغرض الثاني: الإشارة إلى أن المقصود عدُّ من كان من المسلمين في وقعة الخندق داخل المدينة، فإنّ جميعهم كان في الجيش يدافع عن المدينة. الغرض الثالث: الإشارة إلى هول هذه الوقعة. وما مسّ فيها المؤمنين من أهوال. قال تعالى {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬1). الغرض الرابع: التنبيه على اختلاف راوييْ حديث حذيفة عن الأعمش في عدد المسلمين بالمدينة يومئذٍ. والظاهر أن سفيان عدّ جميع من تلفّظ بالإسلام، وعدّ أبو حمزة المقاتلة من المسلمين دون غيرهم. الغرض الخامس: بيان مقالة حذيفة: فلقد رأيتُنا ابتلينا، فهذا منه إشارة إلى ما كان من فتنة أهل مصر حين نزلوا المدينة في عهد عثمان ناقمين عليه. ونبّه الشيخ رحمه الله إلى أن شراح الصحيح افترضوا احتمالات غير واضحة لا بأس من الرجوع إليها (¬2). * * * ¬

_ (¬1) الأحزاب: 10، 11. (¬2) النظر الفسيح: 125 - 126.

الرابع: حديث أنس - رضي الله عنه -

الرابع: حديث أنس - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "إنكم سترون بعدي أَثَرَةً وأموراً تنكرونها". وقال عبد الله بن زيد: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" (¬1). اشتمل هذا الباب على ستة أحاديث، هذا أقصرها، وتعدّدت محامله بالنظر إلى طرفيه أوله وآخره. ومورده، كما يدل عليه عنوان الباب، أن الأنصار رضوا على أن أعطى رسول الله رجالاً من قريش من فيء هوازن، غير أن فريقاً من حدثانهم كرهوا ذلك، ثم تبيّنوا الحق فآبُوا إلى الله ورسوله ورضوا بما فعله. وهذا الذي أعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - تألفاً لقريش كان من قسمه الخاص به، وهو خُمس الخُمس، كما يرى ذلك الإمامان مالك والشافعي. ولو كان من أصل الغنيمة لاستأذن الرسول المسلمين فيما هو من ملكهم، وراجع السهم. ونفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤساء القبائل والعشائر جائز، لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله، وما فعله من ذلك لم يكن عبثاً ولا قدّره سدى بل هو عينُ المصلحة والحكمة والعدل والرحمة. وهذه الأثرة الأولى التي رضيها الأنصار غير طامعين من ورائها في شيء، ولكنه الإخلاص لله ورسوله ودينه، فاقتضت من الرسول أن يُوصيهم بالصبر على الدوام فيما يقضيه الله ورسوله. وقد اختُلف في الأثرة الثانية على أقوال، أظهرها أنها الخلافة آثر بها قريشاً، ووردت بذلك السنة، وادَّعاها كبار الصحابة يوم السقيفة، فلم يتردَّدوا في ذلك لكونها حقاً وليست من الباطل. فالصبر على ذلك صبر واجب، له دخل في الوفاء للدين والإخلاص لله ولرسوله. ¬

_ (¬1) خَ: 93 كتاب الفتن، 2 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: سترون بعدي أموراً تنكرونها. ح 2: 8/ 87.

وقيل: ورد الحديث إيصاء من الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار بالصبر على الجور إن نزل بهم حرمانٌ من حقوقهم، وهذا صبر غير واجب. وقد ذيّل الإمام الأكبر نصَّ هذا الحديث بما نقله عن أنس من قوله: "فلم نصبر". ولعل في هذا إشارة إلى ما كان بين الأنصار ويزيد بن معاوية من نزاع كانت عاقبته وقعة الحرّة. ولم يترك المؤلف هذا الفهم بدون نقاش. فقال: إن أنساً أخذ بعموم الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاصبروا" على وجه الاحتياط. وهذا لا يصحّ، لكون الفعل لا عموم له، ولأن لفظ "أثرة" نكرة واردة في سياق الإثبات فلا تفيد عموماً، فالحمل على هذا حمل بعيد، ولا يعدُّ الأنصار مخالفين لما أمرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويمضي بعد هذا مؤكَّداً لمعنى الأثرة الثانية بأن القصد منها تخصيص المهاجرين بولاية الأمر من بعده. يشهد لذلك ما ورد من زيادة في حديث أنس في باب مناقب الأنصار: "قال: دعا النبي الأنصار إلى أن يُقْطِعَ لهم البحرين. فقالوا: لا، إلَّا أن تُقْطِعَ لإخواننا المهاجرين مثله. قال: إما لا، فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم بعدي أثرة" (¬1). وكان في ذلك منهم تعلق بما وصفهم به القرآن. فحرصوا على أن لا يُؤثَروا على المهاجرين بمزية. فجاء الحديث تذكيراً بمنقبتهم هذه خشية أن تحملهم الأنفة على منازعة المهاجرين فيما آثرهم الله به من ولاية الأمر بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). * * * ¬

_ (¬1) 63 كتاب مناقب الأنصار، 8 باب قول النبي للأنصار: اصبروا حتى تلقوني على الحوض، الحديث الثالث. خَ: 4/ 225. (¬2) النظر الفسيح: 129 - 131.

الخامس: باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين بمكة

الخامس: باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين بمكة " ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن منصور، ني سعيد بن جبير قال: ني الحكم، عن سعيد قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى قال: سل ابن عباس عن هاتين الآيتين ما أمرهما؟ {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا}. فسألت ابن عباس فقال: لما أنزلت التي في الفرقان قال مشركو أهل مكة: فقد قَتَلنا النفس التي حرّم الله، ودعونا مع الله إلهاً آخر، وقد أتينا الفواحش، فأنزل الله {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ...} الآية. فهذا لأولئك، وأما التي في النساء: الرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قَتَلَ فجزاؤه جهنم خالداً فيها. فذكرته لمجاهد فقال: إلا من ندم" (¬1). وتوقف الشيخ رحمه الله في هذا الحديث عند نقط ثلاث: تحقيق نسبة الآية الأولى، ووجه إدراج هذا الحديث بين أحاديث الباب، وتأويل ابن عباس للآية الثانية مع ما اقتضاه ذلك من تكلف عند القول في الآية الأولى. أما أولاً: فقد سها الراوي في هذا الخبر إذ أورد فيه ذكر آيتين سأَل عنهما ابنَ عباس: الأولى من سورة الفرقان، والثانية من سورة النساء. فجعل آية الفرقان: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} (¬2). وهي من سورة الإسراء لا من سورة الفرقان. وهي غير مقترنة بذكر التوبة، فليست المسؤولَ عنها، إذ لا تعارض بينها وبين آية النساء، وإنما التي هي من الفرقان فقوله سبحانه: ¬

_ (¬1) 63 كتاب مناقب الأنصار، 39 باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مشركي مكة، ح 4. خَ: 4/ 239. (¬2) الإسراء: 33.

{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} (¬1). وأما ثانياً: فقول المشركين: "فقد قتَلنا" قصدوا به إفحام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يكفّ عن دعوتهم إلى الإسلام. وقد كانوا في الجاهلية مشركين ومجرمين بما ارتكبوا من الفواحش، وهو ما استوجب خلودهم في النار. فلا داعي إذن لدعوتهم إلى الإسلام. وبهذا يظهر إيراد هذا الخبر في هذا الباب لما يؤذن به قولهم من إيذائهم للرسول وقتلهم وتعذيبهم للمساكين، وهو ما كان يجبّه الإسلام لو أنهم آمنوا واستجابوا للداعي. وأما ثالثاً: فنقل سعيد بن جبير تأويلَ ابن عباس لقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} من الشرك وما معه بالدخول في الإسلام. فقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} عنه، استغناء عن مجموع الجمل المذكورة قبله، وأن المهم قصد التوبة من الشرك، وما ذكر من الفواحش معه إنما ورد من أجل التشويه والتقبيح، فالاستثناء على هذا للمجموع لا للجميع. وهذا التأويل بعيد لأنه ينبغي أن يَرجع إليها جميعها أي إلى مدلول كل جملة منها. فإنّ كل واحد من الأوصاف مقصود بالذم ومرفوع بالتوبة. وإنّما أوكل ابن عباس آية الفرقان بهذا الوجه لحمله آية قتل النفس من سورة النساء على ظاهرها، وجعلها أصلاً في عدم قبول توبة قاتل النفس. فألجأ ذلك إلى تأويل ما يعارضها، وهو قول شاذ، لعموم جريانه على إجماع المسلمين في قبول التوبة في سائر ¬

_ (¬1) الفرقان: 68 - 70.

السادس

المعاصي. وقد أنكر هذا التأويل مجاهد حين تتبع تفسير آية النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (¬1) بأن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم خالداً فيها، فقال معقباً عليه: إلا من ندم (¬2). * * * السادس: 1 - ثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: "لمّا مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحِجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين. ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي" (¬3). 2 - ثنا ابن بكير، عن مالك، عن عبد الله بن عمر، عن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحاب الحِجر: لا تدخلوا على هؤلاء القوم (المعذَّبين) إلا أن تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" (¬4). 3 - ثنا محمد، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مرّ بالحِجر: قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تقنَّع بردائه وهو على الرحل" (¬5). 4 - ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا معن، ني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحاب ¬

_ (¬1) النساء: 93. (¬2) النظر الفسيح: 167. (¬3) 64 كتاب المغازي، 80 باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر. خَ: 5/ 135. (¬4) 64 كتاب المغازي، 80 باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر. خَ: 5/ 135. (¬5) 60 كتاب الأنبياء، 17 "باب وإلى ثمود أخاهم صالحاً"، ح 4. خَ: 4/ 121.

الحِجر: لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" (¬1). جمع المؤلف، في تعليقه على حديث باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر، جملة من روايات الحديث، رتبها على فقرتين: الفقرة الأولى: تتناول روايةَ عبد الرزاق ورواية يحيى بن بكير، ورواية عبد الله بن المبارك. والفقرة الثانية: مقصورة على رواية واحدة له هي رواية معن. وتعرض الشيخ رحمه الله في الفقرة الأولى إلى ثلاث مسائل، الأولى ما يلاحظ في الروايات الثلاث من تقديم وتأخير لبعض ألفاظه على بعض، والثانية في تحرير القول في معنى النهي عن دخول الحجر ووجهه، الثالثة تأويل آخر للحديث. المسألة الأولى: في بيان موقع "باكين" في رواية عبد الرزاق لحديث الباب. قال: "أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين". والظاهر أن جملة "أن يصيبكم" مقدمة من تأخير وذلك للاهتمام، وأن محلَّها التأخير عن باكين لأن "أن يصيبكم" متعلق بباكين، والمتعلق به مقدم. وتشهد لهذا الروايات الثلاثُ الأخرى للحديث. ففي رواية يحيى بن بُكير وردت الجملة على هذا النحو: "إلا أن تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم" وفي رواية ابن المبارك: "إلا أن تكونوا باكين يصيبكم"، وكذلك في رواية معن: "إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم". ¬

_ (¬1) 65 كتاب التفسير بسورة الحجر 15، 2 باب: "ولقد كذب أصحاب الحجر". خَ: 5/ 221.

المسألة الثانية: إن النهي عن دخول مساكن الذين ظلموا ليس على إطلاقه. والحالة التي يجوز فيها الدخول هي حالة الاتعاظ والاعتبار والبكاء، والشعور بالضراعة والخشوع، كما يدل على هذا قوله جل وعلا: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬1). فإن كانت هذه هي الحالة المطلوبة عند دخول الحجر أو نحوه من مساكن المعذَّبين الذين ظَلَموا، فهي تقتضي عدم جواز الدخول لمن كان هازئاً أو آسفاً على أهل تلك المساكن. وهذا من عادات الجاهلية، يشهد له قول ابن سوادة: وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تَزيَّنُ بالسَّنام وماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات والشرب الكرام (¬2) المسألة الثالثة: أن يكون معنى قوله في الحديث: أن يصيبكم؛ تعليقاً للنهي عن دخول الديار ويكون "إلا أن تكونوا باكين" استثناء لحالة الترخيص في الدخول. وخصَّ المؤلف الفقرة الثانية من تعليقه بذكر رواية معن للحديث، والإشارة إلى ما تميّزت به في نظمها من تقديم وتأخير يظهر بينها وبين بقية الروايات. والأصل أن مجرد الدخول لتلك الديار لا يصاب فاعلوه بما أصاب أهليها من العذاب، لأنّهم لم يرتكبوا ما ارتكبه الظالمون من الجرم. ورواية معن أَبينُ وأخفُّ من رواية سالم عن ابن عمر. والحديث ينظر إلى قول الله تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} (¬3) وهذا من غضب الله عليهم إذ قدر أن تكون ¬

_ (¬1) الإسراء: 109. (¬2) لسان العرب: مادة ش ي ز. (¬3) القصص: 58.

السابع: عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}

ديارهم خراباً. و"إلا قليلاً" أي قليلاً من السكنى. وذلك ما كان يفعله المربي الصالح العالم الفقيه الشيخ محرز بن خلف الصديقي (¬1) حين ينزل بأطلال قرطاجنة للموعظة. يشهد لهذا شعره في هذا الغرض: مررت بِرَبْع بالسراب تلفّعا ... وطود جلال بالخطوب تصدّعا فقلت وقد أجرت جفوني أدمعا ... خليلي مرّا بالمدينة واسمعا مدينة قرطاجَنَّة ثم ودّعا ومما اشتملت عليه الفقرة الثانية من التعليق، ذكر ارتباط "أن يصيبكم" بـ "باكين" والتنبيه على أن هذا الحديث غير موجود في موطأ الليثي. وأن التقنّع كان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكمال كراهيته آثار الظالمين. فهو يأبى أن يراها، ولذلك لم يأمر به. وختم المؤلف هذه الإفادات بالإشارة إلى حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن الشرب من آبار الحجر عدا البئر التي شربت منها ناقة صالح. وهو ما سبق لهم الحديث عنه عند تعليقه على باب قول الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (¬2). * * * السابع: عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (¬3) قال: نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفٍ بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن. فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به. فقال الله تعالى لنبيه: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، {وَلَا تُخَافِتْ ¬

_ (¬1) محمد النيفر. عنوان الأريب: 1/ 35 - 37. (¬2) النظر الفسيح: 206 - 208. (¬3) الإسراء: 110.

بِهَا} عن أصحابك، فلا تسمعهم، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (¬1). هذا الخبر ليس مروياً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه بيان من ابن عباس - رضي الله عنهما - للآية. وقد اشتمل عليه التعليق كما في الحديث السادس السابق، وجعله المؤلف فقرتين أيضاً. الأولى: في النهي عن سبّ المشركين لتجنيبهم سبّ القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فإنهم كفروا بما هو أشد وأقطع من قول وفعل، ولكن لما في النهي من سدّ لذريعة السبّ، فلا يزدادون كفراً ولا يزدادون قسوة في قلوبهم ولا نفوراً عن الإسلام. فإن ذلك يتعارض مع أصل الدعوة والرسالة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مرغباً لا منفّراً. وينظر قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ...} إلى قوله عز وجل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2). وبالرغم من كون سبّ آلهتهم قربة، نهى الله رسوله عنها لأنّها ذريعة لازدياد كفرهم وتصلّبهم فيه. وفي بيان معنى الاختفاء بمكة يريد به على وجه الاستعارة: الانزواء والاستضعاف، إذ ليس المقصود منه الاختفاء الحقيقي لمنافاته لقوله: فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته. والثانية: نقل لما ورد ببعض النسخ الأم من التعليق بما نصه: قال الفربري: قال محمد بن عياش: هُشيم صاحب تدليس. وفي أخرى قال محمد بن عباس: وابن عياش هذا غير معروف لديَّ. وهو لا محالة أحد أصحاب البخاري المتقدمين على الفربري ومن جاء بعده (¬3). * * * ¬

_ (¬1) 65 كتاب التفسير، 14 باب: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها. خَ: 5/ 229. (¬2) الأنعام: 108. (¬3) النظر الفسيح: 254 - 256.

الثامن: حديث عائشة - رضي الله عنها -

الثامن: حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل مسيك. فهل عليّ حرج أن أطعم من الذي له عيالنا. قال: لا، إلا بالمعروف" (¬1). نبّه المؤلف أن في بعض روايات الحديث: "أن أطعم مِن الذي له عيالنا بدون إذنه". بدأ الشيخ رحمه الله ببيان ألفاظ الحديث. "قال: لا": أي لا تطعمني، بدليل قوله: "إلا بالمعروف". وفسّر المعروف في هذا الحديث بقوله: ما يحمله مثل أبي سفيان من الإنفاق على مثل عياله. والحكم: جواز إنفاق المرأة من مال زوجها عند غيابه على عيالها بالمعروف. ووجهه: 1 - أن الإنفاق بالمعروف واجب عليه لعياله، فليس له حق منعهم منه. 2 - أن أبا سفيان لشدّة شحه، لو توقّفوا على إذنه لما أذنهم. 3 - أنه لو شكوه للرسول في كل حاجة لشق ذلك عليهم، ولحدث بسببه بينه وبينهم شنآن. ومقتضى الحكم ولازمه أن ما تجاوز المعروف من الإنفاق لا حق لها ولا لعياله فيه، إلا برضا صاحبه. ويتبيّن مما قضى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أقام المرأة في هذه الحال ¬

_ (¬1) 61 كتاب النفقة، 5 باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها ونفقة الولد. خَ: 6/ 192.

التاسع: من حديث طويل لأبي هريرة - رضي الله عنه -

مقام الوكيل على أبنائها وعيال بيتها على وجه الرخصة. فهي راعية المنزل وربة البيت. وهنا شرع المؤلف في الحديث عن مسألة أصولية مقصدية اختلفت فيها أنظار الأئمة. فقال: إن هذا التصرّف من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتوى وتشريع يعم هنداً وغيرها من أزواج الأشحة. وهذا هو قول مالك. وذهب الشافعي إلى أنه من قبيل القضاء. وردّ الشيخ هذا الوجه بكون مأخذه ضعيفاً. وأكّد ما ذهب إليه إمامه بأن هنداً جاءت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستفتية لا مدّعية، وأن إحضار زوجها كان ممكناً، فلا يكون الأمر من باب القضاء على الغائب. وأنّه وإن اعتبر قضاءً فإن قضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جهةٍ قضاءٌ بالنسبة إلى الخصمين، وهو تشريع لغيرهما ممن يساويهما في الوصف المؤثّر، سواء جاء في خصومة أم مستفتياً. وختم الإمام تعليقه على حديث النفقة هذا ببيان طريق التوصل إلى الحق قائلاً: وليس لصاحب حق عند آخر مَنعَهُ منه، أَن يعمد إلى أخذ حقِّه بنفسه بغصب أو خلسة، اعتباراً للمقصد الشرعي من إقامة القضاة والحكام، ولأن مثل هذا التصرّف يؤول إلى التقاتل والتهارج. فلا تتجاوز الرخصة محل العذر، وهو عسر الرفع إلى القاضي، أو توقع ضرر من الخصومة هو أعظم من ضرر ترك الإنفاق (¬1). * * * التاسع: من حديث طويل لأبي هريرة - رضي الله عنه - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" (¬2). ¬

_ (¬1) النظر الفسيح: 282 - 283. (¬2) 80 كتاب الدعوات، 66 باب فضل ذكر الله عز وجل. خَ: 7/ 168 - 169.

توقف المؤلّف عند هذه الجملة وحدها لبيان معنى الجليس وحقوقه. الجلساء، التعريف في هذا اللفظ للتعظيم. وهو على حد قول الشاعر: هم القوم كل القوم يا أم مالك وواحد الجلساء: الجليس، وهو المشارك فى المجلس. ولكون المجالس والجلساء تختلف، ميّز الله في هذا الحديث القدسي الجليس الذاكر لله عز وجل بكونه أكرم صنف، وميّز فئة، فقال: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم". وفي هذا إيماء قوي يرفع منازل هؤلاء الجلساء، لأنّهم يجتمعون على ذكر الله. ومعنى "الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" أنه لا يكون دونهم منزلة، وأنهم لا يتميّزون عليه تميّزاً يلحق به أذى. فهم سعداء متلائمون متوادّون. وقوله: "لا يشقى بهم جليسهم" يحتمل السببية أو الملابسة. فالباء من "بهم" سببية، وهي بمعنى لا يكون الجلساء سبباً في تعب جليسهم وإعناته وإيذائه. وهذا كما في قول الطرماح: وإني شقي بآلام ولا ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل أو توسع في استعمال الباء للدلالة على الملابسة، وصار المعنى انتفاع جليسهم بهم على وجه الكناية، إذ في السلامة من الأذى إكرام له. قال الشاعر: وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاعٍ جليس أراد أن جليسه مكرم سعيد.

العاشر: حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -

وهذا الاستدلال ينظر إلى قول الله جل ذكره: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (¬1) أي لم أكن شقياً مع دعائك، فإني لم أعهد عدم استجابة دعائي. وجرى قوله: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" مجرى المثل، وأصبحت دلالته بمعنى أن الجلساء لا يختصون عن جليسهم بمزية، ولا يستأثرون عليه بخير. فلما أكرمهم الله بالمغفرة أكمل لهم الكرامة، فلم يحرم منها جليسهم حتى لا تثلم كرامتهم بحرمان جليسهم من المغفرة التي أَعطوها (¬2). * * * العاشر: حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته" (¬3). هذا الخبر من مشاكل الآثار التي عني المحدثون والفقهاء ببحثها وتجلية المراد منها. وهو يحتاج، لحمله على الوجه الحقيقي المطلوب، إلى تفكُّر وتدبُّر. وقد وردت نصوص من الكتاب والسنة بمعناه. فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (¬4) وفي الحديث الصحيح إلى جانب الخبر موضع التعليق والبحث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حدد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت ¬

_ (¬1) مريم: 4. (¬2) النظر الفسيح: 321 - 322. (¬3) 96 كتاب الاعتصام، 3 باب ما يكره من كثرة السؤال. خَ: 8/ 142. (¬4) المائدة: 101، 102.

عن أشياء رحمة بكم، غير نسيان، فلا تسألوا عنها" (¬1). ولبيان وجه الإشكال في هذا الأثر، وضع الإمام الأكبر إطاراً لتصوّر الإشكال ودفعه، يعتمد فيه على قواعد ثلاث أساسية لا نزاع فيها: 1 - إن أحكام الشريعة تكون على وفق ما في الأفعال الثابتة هي لها من مصالح ومفاسد. 2 - إن الفعل المُحَرَّم جدير بالتحريم، والواجب جدير بالإيجاب {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬2). 3 - أن ثبوت الحكم للفعل، من تحريم وغيره، يكون عند تعلُّق حكم الله بذلك. ويبيّن المشكل، بل يبيّن وجه الإشكال بعد في هذا الحديث بقوله: فكيف يكون السؤال عن الحكم مقتضياً ورود تحريمه؟ ولذلك لم تظهر تبعة للسائل من جراء سؤاله، ولعله يكون مستأهلًا للثناء شرعاً، إذ يكون سؤاله سبباً في دفع مفسدة فعل بتحريمه أو جلبِ مصلحةٍ بإيجابه. وبالتأويل والنظر في هذا الخبر وما يقتضيه، وبالاستفادة بما اتجه له الشيخ من رأي يَصرِف الإشكالَ ويدفعُه، فإن بعض الأفعال قد يشتمل على مفسدة عارضةٍ، وقد تتفاوت مفسدته بالقوّة والضعف باختلاف الأوقات أو باختلاف أحوال الناس. فيقتضي الأمر من الشارع السكوتَ عن تحريمه وقت عروض المفسدة له، وَيكِل الانكفاف عن فعله للناس لتحرّجهم منه، كامتناعهم من الجماع ليل ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 270. (¬2) الأعراف: 157.

رمضان حتى نزل قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (¬1) أو لأن الناس في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا صالحين. فهو يكل بعض الأحكام العارضة إلى ما يعلم من زهدهم وورعهم؛ أو لأَنَّ في ذلك بعدَ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تفويضاً إلى أفهام الفقهاء في الدين، فيردُّون ذلك بالاجتهاد إلى الكتاب والسنة. وقد يتعذر تحديد كيفية التحريم لتشعّب صوره، ودقة الفروق التي تؤقّت التحريم، وعُسر وضع عموم الناس تلك الصور مواضعَها. فيترتب على هذا أنه إذا حرم تحريماً غير مفصل دخل على الناس حرج بذلك، وإذا فصّل فُتح، لأسباب الأفهام الضعيفة، باب التقصيد فيه. وهذا لا يناسب منهج الشرع، فيكون سؤال السائل عن ذلك الحكم موقعًا للناس في حرج، ومغلقاً في وجوه العلماء باب الاجتهاد من تفصيل وتأويل. وربما قام الدليل على ذلك ككراهية الرسول - صلى الله عليه وسلم - تناقل الناس أنه حلّل أو حرّم غير ما حلّله القرآن أو حرَّمَهُ. وهذا ما أثار عند علماء الأصول النظر في الأحكام الثابتة بالكتاب، وما هو معلوم من الدين بالضرورة. والجُرْم، في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، إمّا أن يراد به الذنب فقوله: "من أعظم الناس جرماً"، أي من أعظمهم ذنباً، وصف بذلك السائل لتسبّبه في حرج مستمر على المسلمين. ومثال هذا ما روي من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها، وتحريم عودة المرأة إلى زوجها بعد الملاعنة، والرجم في الزنى. وقد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرض عن المقرّ على نفسه ثلاث مرات لعله ينصرف. ¬

_ (¬1) البقرة: 187.

ويمكن حملُ الجُرم على الشيء المكدِّر للناس لا على الذنب، فيكون المراد منه أن السائل الذي يَحْرُم الشيء بسبب سؤاله أعظم الناس إحراجاً لقومه بذلك السؤال. ثم أورد المؤلف، عقب هذا التعليق الجيّد المفيد، مثالًا ثانياً لبعض ما أشكل من الآثار، وهو في نفس الكتاب ونفس الباب، ففي حديث زيد بن ثابت في صلاة الليل قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد من حصير، وفيه: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". ووجه الإشكال في هذا الحديث: أن الله إذا أراد أن يفرض على الأمة فريضة لا يتوقف مراده على ظهور حِرص الأمة على فعل شيء فيكتبَ عليهم. ذلك أن شرع الأحكام من الله تعالى يكون على حسب ما فيها من مصالح ومفاسد. فلا يؤثر حِرصٌ ولا زهادةٌ من الخلق في فعل من الأفعال حكماً يقتضي تشريع ذلك الفعل. وللإجابة عما يوهمه الحديث من الإشكال يقول المؤلف: يمكن أن يكون قد نصب الله لنبيه علامات تؤذن بأنه سبحانه سيكتب على الأمة عملاً، وتُقبل الأمة على عمل من الأعمال الحسنة فيجعلُ الله ذلك الإقبال تيسيراً أو تهيئة لتحمّل ما سيكتب عليها. فأشفق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من حرصهم على صلاة الليل أن يكون من هذا القبيل. وربما كانت الكراهية للشيء القبيح أمارة على تهيئة النفوس لتلقي تحريم. ومثال ذلك كراهيتهم للخمر بعد واقعة حمزة مع علي، ثم الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1)؛ وبعد قراءة الإمام في صلاته: {قُلْ ¬

_ (¬1) انظر: 36 كتاب الأشربة، 1 باب تحريم الخمر، ح 1، 2. مسلم: 2/ 1568 - 1569.

يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (¬1). ولم يمنع اشتغال المؤلف ببيان مواضع الإشكال في الخبرين ومحاولته دفعه من أن يمضي على ما التزمه من تحقيق النصوص التي بين يديه، ينظر في الحديث السادس من الباب وهو حديث أنس: أكثر عليه جماعة من السؤال فرأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الغضب في وجهه - صلى الله عليه وسلم -. فبرك على ركبتيه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال ذلك، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولى، والذي نفسي بيده ... " الحديث. ولفت ما في النُّسخ كتابةُ أولى بالإمالة، فدلّ ذلك على أنها ليست مركبة من "أو" العاطفة و"لا" النافية. فلا اعتداد بزعم من قال بذلك. ولكنها أولى التفضيلية من الولْي تجيء بها العرب في مقام التحذير، والتهويل ومنه قوله عز وجل: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} (¬2). فمن هذه الأمثلة التي استعرضناها من الكشف والنظر الفسيح يتضح لنا المنهج العاشوري في تأمّلاته وملاحظاته وتعليقاته وتحريراته، وهو وإن قام على أسس المطالعة الواسعة والعلم التام بما كتبه الشيوخ في مختلف الجوانب التي تتصل بنص الحديث، فإنه يرتكز دون شك على النظر الدقيق والقدرة على اختراق الأشكال والصور، بل على استخدامها والاستلهام منها لجواهر المعاني وأبعاد الإيحاء للنصوص الشريفة من السنة النبوية التي شغلت نفسه وخالطت لبه وملأت رُوْعَه وقلبه. * * * ¬

_ (¬1) قيل: خلط في قراءتها عبد الرحمن بن عوف، وقيل: علي. الطبري: 8/ 376، 9524، 9525؛ النساء: 43. (¬2) القيامة: 34 - 35؛ النظر الفسيح: 364 - 368.

أصول الفقه والفقه والفتاوى

أصول الفقه والفقه والفتاوى قضى الإمام الأكبر مدّة طويلة بجامع الزيتونة طالباً وأستاذاً وداعياً من دعاة إصلاح التعليم، فشيخاً مديراً لهذا المعهد. وعيّن عضواً حاكماً بالمجلس المختلط العقاري، ثم قاضياً، فمفتياً، فشيخ إسلام رئيساً لأعضاء المجلس الشرعي من كبار فقهاء المالكية بالديوان (المحكمة الشرعية العليا بتونس). فأهّله هذا دون شك، بما أحاط به من علم، وعُرف به من اتساع مدارك، وما فطر عليه من ذكاء، ودأب عليه من نظر وبحث، وما وقف عليه من آراء وأنظار وأصول ومقاصد، وما حصل له من مشاكل وتوفّر له من تجارب، إلى الظهور على أقرانه في مختلف الميادين الفكرية والعلمية التطبيقية، وفي مجالات أصول الفقه والفقه والفتوى. كان يسلك طريقين إلى الاجتهاد في الفقه: أحدهما: مسلك الأصوليين وأصحاب القواعد. وثانيهما: مسلك أصحاب المقاصد يستنبط الأحكام لكلّ المستجدّات من المصدرين الأساسيين الكتاب والسنة، ويعتمد في تحقيق مناطها وضبطها القياسَ والاستحسانَ والعرفَ ومراعاةَ المصالح، جارياً في ذلك على وفق أصول الشريعة التي حدّدها الأئمة الفقهاء في كلّ مذهب، كاشفاً عن سَنَن الرشاد، غير معسّر ولا منفّر، ولا دافع بالناس إلى المشاقّة في الدين، أو إلى المخالفة

جملة من موضوعات ما حرره الإمام من هذه المادة

والمعارضة لأحكامه، جاعلاً الإيمان متحكّماً في نفوسهم، وحاملاً لهم على اعتقاد أن الشريعة لا بدّ أن تكون محترمة بين الكافة، نافذة في الأمة، لتحصل المنفعة المقصودة منها كاملة (¬1) {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬2). وما ألمعنا إليه هنا يدل دلالة واضحة على اشتغاله الدائم وعمله الدؤوب بما يمكّن للدين في نفوس المؤمنين، ويعمّ به النفع بين الخاص والعام. وإنّا وإن حرمنا حتى الآن من الوقوف على جميع ما أثبته له مترجموه من تصانيف ودراسات وأحكام وفتاوى مما بقي مخطوطاً لم يتولّ طبعه في حياته، وقعد عن ذلك وارثوه من طلابه أو أفراد أسرته، نأمل أن ينكبّ الدارسون والمحقّقون على تخريج هذه المادة الغزيرة العلمية ونشرها. جملة من موضوعات ما حرره الإمام من هذه المادة: 1 - تقييداته على جملة من النوازل الشرعية التي عني بتحريرها أيام توليه القضاء أو مدة رئاسته للمجلس الشرعي. 2 - مجموع في المسائل الفقهية التي تكثر الحاجة إليها ويعوّل في الأحكام عليها. 3 - أماليه على مختصر خليل التي تدل علي اهتمامه بأكبر مدونة شائعة ومعتمدة في الفروع بين الطلاب والشيوخ بجامع الزيتونة. 4 - نقده العلمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق. وهو ما لم نقف، من طبعته للأسف، إلا على ورقات قليلة منه ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 349 - 350. (¬2) الأعراف: 203.

لا تصور طريقته ولا منهجه فيه، كما لا تدل على أهمية ما تناوله من قضايا ومسائل تعقيباً على الكتاب، وإبطالاً لمزاعم صاحبه، على نحو ما فعله صديقه الشيخ محمد الخضر حسين بوضعه لكتاب نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم الصادر بالقاهرة 1344، والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر بنشره لكتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم. 5 - الآراء الاجتهادية أو مجموعة الفتاوى التي عدَّ منها د. محمد يونس السويسي ثمانيةً وثمانين فتوى في رسالته عن المفتين في تونس (¬1). وقد تناولت هذه الفتاوى شتى الموضوعات في المسائل العبادية، وأحوال الأسرة، وقضايا المعاملات، وجملة من الشؤون العامة. وتولّت بعض المجلات نشر قسم منها مثل المجلة الزيتونية، ومجلة الهداية الإسلامية القاهرية، ومجلة الهداية الإسلامية التونسية، ومجلة المنار، كما طلعت بها علينا الصحف اليومية بتونس كالزهرة والنهضة والوزير والعصر الجديد والعمل والصباح (¬2). وكل ما عثرنا عليه في هذا الباب لا يمثل إلا عيّنات، تصوّر اهتماماته، وتدل على علمه وقدرته وجرأته وعمق نظره، من بينها في علم أصول الفقه: - حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول لشهاب الدين القرافي، تونس 1341/ 1922 - 1923. وهذا الكتاب كتاب مدرسي، كان معروفاً ¬

_ (¬1) الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري: 1/ 114. (¬2) محمود شمام. أعلام الزيتونية: 248 - 283.

قائمة فيما حرره الإمام من مقالات مختلفة

بين المالكية، يرجعون إليه في كثير من مسائل أصول الفقه. وهو إلى جانب ذلك ينطق بما شغل به القرافي مترجمَنا من مسائل وأنظار وآراء وأفكار. وأبو العباس القرافي هو صاحب المؤلفات النفيسة في الفقه كـ الذخيرة، وفي أصول الفقه كـ نفائس الأصول في شرح المحصول للإمام الرازي. وهما موسوعتان جامعتان تضمنتا، إلى جانب مسائل الفروع وقواعد الاستنباط للأحكام، مباحثَ دقيقة كالمناسبة والإخالة في مسالك العلة، ومباحث المصالح المرسلة والتواتر والمعلوم بالضرورة وحمل المطلق على المقيد ونحوها (¬1)، وهذا ما جعل الإمام الأكبر يعتد بالقرافي، وينوّه بعظيم منزلته، وبمعالجته لمسائل المقاصد الشرعية في قوله: ولحق بالأئمة المتقدمين أفذاذ، إذ أحسب أن نفوسهم جاشت بمحاولة هذا الصنيع مثل شهاب الدين القرافي المصري المالكي في كتاب الفروق (¬2)، ورسالته في المحكم والمتشابه نشرها في إحدى المجلات الشرقية (¬3). وكتابه: العقد المنظوم في الخصوص والعموم. قائمة فيما حرره الإمام من مقالات مختلفة: وللإمام الأكبر إلى جانب ذلك عدد من البحوث أو المقالات نشرت له بالهداية المصرية وغيرها. ومن ذلك ما جمعه له منها الأستاذ علي رضا الحسيني بعنوان: مقالات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، وهي إحدى عشرة مقالة: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 19 - 21. (¬2) المرجع السابق: 27 - 28. (¬3) مجلة الهداية الإسلامية. المجلد الثاني؛ علي رضا الحسيني. مقالات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: 35 - 45.

1 - المحكم والمتشابه. 2 - حكمة التشريع الإسلامي وأثره على الأخلاق. 3 - حكم قراءة القرآن على الجنازة. 4 - من يجدد لهذه الأمة أمر دينها. 5 - ورقة مطوية من تاريخ الفلسفة الإسلامية: الشيخ ابن سينا والحكمة المشرقية. 6 - مسألة خفية من مباحث الفلسفة الإسلامية: وحدة الوجود. 7 - تحقيق ترجمة عالم كبير وهم الناس في تسميته هو أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني. 8 - نظرات على ترجمة السكاكي. 9 - تذييل لترجمة سعد الدين التفتازاني. 10 - اللفظ المشترك في العربية. 11 - قراطيس في نقد الشعر. * * *

مقاصد الشريعة الإسلامية

مقاصد الشريعة الإسلامية المقاصد غايات ومصالح ومنافع ولذائذ، رُكب في النفس البشرية السعيُ إليها والانجذاب نحوها. فهي زهرة هذا الوجود، ومطمح القلب، وطلبة كل راغب، وبغية كل قاصد، تضع للسالكين مناهج سيرهم، وترسم لهم سبيلهم التي ارتضاها الله لهم خصوصاً، وينبوع الهداية فيها التشريع الإسلامي، ومتفجَّرها ما ورد بشريعتنا الغراء من هدي وحكمة، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). وقد بعث الله رسله وخاتم أنبيائه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وأذِن للهداة الصادقين من الأئمة المجتهدين والعلماء الربانيين أن يبيّنوا للناس دينهم، ويوجِّهوا على طريق أنواره وأسراره عباده المؤمنين إلى كل ما فيه مغنم وخير وسعادة في هذه الدار وفي الآخرة. فكثرت التصانيف في هذا الغرض الشريف، وتعدّدت التآليف التي تنطق بالحق والحكمة، يُتوّجها القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة، وتؤسِّسُها وتركزها، في مجتمعاتنا وديارنا وبين أهلينا، نتائج العقول الرشيدة الراجحة، وفيوضات الحكم المفيدة الناجعة، مستقرِّ نعم الله وهدايته ورحمته، يفيء بها الله علينا عطاء وكرماً. ¬

_ (¬1) المائدة: 15، 16. بعدِّ الكوفيين.

فمن نحو سبعة وخمسين عاماً صدر بتونس عن مكتبة الاستقامة كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية للإمام الأكبر سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور شيخ جامع الزيتونة وفروعه. وكان هذا الكتاب في الأصل جملة دروس دوّنها الإمام وألقاها على طلّابه بجامع الزيتونة في مادة المقاصد. وهي لما كان فيها من علم ونفع تقرر تدريس كتاب المقاصد لطلبة السنة الأولى من القسم الشرعي من التعليم العالي بالجامع الأعظم. ولم يكن علم المقاصد معروفاً أو مهتَمّاً به آنذاك بين الطلاب، إلا من خلال عدد من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي اقترنت ببيان المقاصد والمصالح والحِكَم. والمقاصد الشرعية متعددة ومختلفة: فمنها المقاصد العامة، ومنها المقاصد الخاصة. وقد جاء بحث عدد من مسائل المقاصد في علم أصول الفقه عند الحديث عن تعليل الأحكام، وعن القياس وأنواعه وأحكامه وحجّيته، وعند الحديث عن العلّة، واستخراج علل الأحكام، وبحثِ وبيانِ المناسبة وطرق التعليل. كما ظهرت فيه بعض التنبيهات، لدى جمهرة من الفقهاء، وفي طوالع أبواب بعض الكتب الفقهية العالية، وخاصة لدى من صرف منهم العناية أكثر من غيره إلى التعليل، وسلك مسلكاً مميّزاً للتنبيه على الحِكَم المفهومة من الأحكام. وبدأ هذا العلم ينتعش بتقريرات الشيوخ والعلماء، في المشرق والمغرب، على موافقات الإمام الشاطبي، وعلى مقاصد الشريعة للإمام ابن عاشور، وكذلك بمناقشة الطلاب لمسائله في رحاب الأزهر بالقاهرة وفي الزيتونة بتونس، وحمل هذا الاهتمامُ المتزايد من

الأساتذة والطلاب بعلم المقاصد على استكناه التراث الشرعي والرجوع إليه. وأقبل أهل العلم، بجانب ما كانوا يدرسونه من علوم اللغة وأسرارها، على دراسة كتب أصول الفقه بمناهجها المختلفة، وكذلك كتب الخلاف العالي في الفقه، مجدّدين بها العهد، ناظرين ومتدبّرين لما حوته تلك المصادر والمراجع من بحوث الأئمة ودراسات العلماء من أصوليين وفقهاء على مرّ العصور. لقد سبق في هذا المضمار موافقاتِ الشاطبي ومقاصدَ ابن عاشور عددٌ من العلماء كانوا الواضعين لطرف من قضايا العلم ومباحثه، ومن هؤلاء أصوليون وفقهاء. فمن الأصوليين: 1 - القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، شيخ الأصوليين 403، صاحب كتاب التقريب والإرشاد وترتيب طرق الاجتهاد. 2 - القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذانى الأسد آبادي 415. وله أصول الفقه، والاختلاف في أصول الفقه، والمغني، والعهد. 3 - إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني 478. صاحب البرهان. 4 - أبو حامد الغزالي 505، مؤلف المستصفى، وشفاء الغليل، والمنخول. 5 - الإمام فخر الدين الرازي 606. بكتابه المحصول في علم الأصول. 6 - سيف الدين علي بن أبي علي الآمدي 631. وله الإحكام في أصول الأحكام. ومن الفقهاء الذين عنوا بالمقاصد:

1 - أبو الحسن الكرخي الحنفي 340. صاحب المختصر. وشرح الجامع الكبير والجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني. 2 - أبو زيد الدبوسي. من أكابر أصحاب أبي حنيفة 430. له تقويم الأدلة في أصول الفقه، والأسرار في الأصول والفروع. 3 - العز بن عبد السلام. سلطان العلماء 660، وكتابه القواعد. 4 - الإمام أحمد بن إدريس القرافي 684. صاحب الفروق. 5 - سليمان بن عبد القوي الطوفي، الفقيه الأصولي 716. بكتبه مختصر الأصول، ومختصر الروضة، وشرحه. 6 - الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: 728. صاحب الفتاوى الكبرى، والقواعد النورانية. 7 - الإمام محمد بن أبي بكر بن قيّم الجوزية 751. مؤلف إعلام الموقعين، والفوائد. 8 - الإمام أبو إسحاق الشاطبي 790. وله الموافقات، والاعتصام. 9 - الإمام محمد الطاهر ابن عاشور 1393. صاحب التحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة الإسلامية. وبعد فاصل زمني يمتد اثنين وخمسمائة عام بين وفاة الشاطبي وولادة ابن عاشور اكتمل علما الفقه وأصول الفقه، وورث اللاحق عن السابق ما نشر فيهما من حقائق وأسرار، وتحقيقات وأنظار. وتميز الشاطبي بوضعه كتاب الموافقات الأصولي، مخصّصاً جزأه الثاني بما بحثه من مقاصد وقواعد ظلت دائماً متأثرة بالمنهج الأصولي المتعارف. وظهر ابن عاشور بمنهجه الجديد الذي نبّه إليه في الأسطر الأولى من تمهيده لكتاب مقاصد الشريعة الإسلامية (¬1). ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية: 5 - 6.

فقام بنقد علم أصول الفقه، وأنكر على العلماء ما كانوا يتردّدون فيه من جدل عقيم، فرّق ولم يجمع، لا بين الفقهاء ولا بين الأصوليين. وتملكت الإمامَ رغبة شديدة في تجديد علم أصول الفقه، ووضع علم مستقل دعا إليه هو: علم مقاصد الشريعة (¬1). وقد كان لهذين العلَمين البارزين، في القرنين الثامن والرابع عشر، أثر بعيد في إقبال العلماء والطلاب على دراسة أصول الفقه دراسة جديدة، وعلى متابعة خطا الإمامين فيما عنيا به من بحث علم أسرار التشريع، يضعان الأصول له والقواعد، وينهجان به منهجاً يختلف عن منهج الفقهاء والأصوليين السابقين. وفي مقابلة عمل السابقين الذين كانوا لا يحتكمون إلى الأدلة الضرورية ولا إلى القريبة منها؛ تطلع المعاصرون، بريادة الشيخ ابن عاشور فيما يعرض لهم من اختلاف فقهي، إلى الاحتكام المنطقي في مسائل الشريعة، سيراً على ما اعتمده أصحاب النظر والتأليف في العلوم العقلية، من الاحتكام إلى الضروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة (¬2). أحدثت المدرستان لهذين الإمامين نشاطاً فكرياً بين المعاصرين، وظهرت تآليف كثيرة في المقاصد وعلم أصول الفقه. فمنها ما يرجع إلى تحرير موضوعاته والنظر في قواعده، وبيان طرق تحديد المقاصد، وتنويعها إلى عدد من الأقسام. ومن هؤلاء: 1 - علال الفاسي بكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. 2 - فهمي محمد علوان صاحب القيم الضرورية ومقاصد التشريع الإسلامي. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية: 6 - 9. (¬2) المرجع السابق: 6.

3 - د. القادري برسالته الإسلام وضروريات الحياة. 4 - د. خليفة با بكر الحسن وكتابه فلسفة مقاصد التشريع. 5 - د. خليفة با بكر الحسن ود. أحمد مرعي بما بحثاه من المقاصد الشرعية والقواعد الفقهية. 6 - عبد الرحمن بن عبد الخالق وكتابه المقاصد العامة. 7 - د. يوسف العالِم المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. 8 - عامر بن عبد الرحمن بتفصيله النظر والقول في الضروريات والحاجيات والتحسينيات. 9 - محمد تقي مدرسي صاحب التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده. وممن بحث المقاصد مع بيان علاقتها بجانب من جوانب الأصول أو الفقه الإسلامي: 1 - د. محمد سعيد اليوبي في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية. 2 - د. عثمان المرشد مؤلف المقاصد من أحكام الشريعة وأثرها في العقود. والقسم الثاني من المؤلفات، التي أفادت كثيراً من هذه النهضة العلمية المباركة، يقوم على محاور وجوانب، ترتبط أساساً بالعالمين الأصوليين الفقيهين: الإمام الشاطبي وكتاب الموافقات، والإمام محمد الطاهر ابن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية. أما الأول فهو وإن نوّه به الباحثون وأثنوا على كتابه، ونعته اليوبي بقوله: "فَتَح من هذا العلم مُغلقَه، وحلَّ مُشكلَه، وفصّل مجملَه، وبسط مسائلَه، وشرح قواعدَه، ورتّب أبوابَه، وأضافَ له

إضافات حسنة" (¬1). غير أن لبعض الدارسين مآخذ على أسلوبه ومنهجه في تقرير المسائل. فهو حين يأخذ في تحقيق الموضوع والاستدلال له يأخذه الاضطراب والخلط والتكرار والتعقيد. يصف ذلك الشيخ عبد الله دراز، في مقدمة تحقيقه لكتاب الموافقات، فيقول: "إنه في مواطن الحاجة إلى الاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية، والرجوع إلى المباحث المقررة في العلوم الأخرى، يجعل القارىء، ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط، لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه، وغرضاً يعوّل في سياقه عليه. فهو لما يوجد بالكتاب من صعوبة في تناول أغراضه يحتاج في تيسير معانيه وبيان كثير من مبانيه إلى إعانة مُعانيه" (¬2). وأما الثاني وهو صاحب كتاب المقاصد الذي لم يعرف حقَّه بعض المتجنِّين عليه مؤلفُ كتاب المناظرات في أصول الشريعة الإسلامية حين قال عنه: "ولكي يسوِّغ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور تأليف كتابه مقاصد الشريعة المستلهم من الموافقات أو الذي اعتمد فيه كثيراً عليه، حرص على أن يبرز في كتاب الشاطبي أنه تطوّح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود" (¬3). فجعل الكاتب الأمرَ خصومة بين سابق ولاحق، ولم يتدبّر نزعة الحق التي أعرب عنها الإمام في قوله عن الشاطبي: "الرجل الفذّ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين" (¬4). ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية: 68. (¬2) عبد الله دراز. مقدمة الموافقات: 12. (¬3) د. عبد المجيد تركي: 99، 477. (¬4) محمد الطاهر ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية: 28.

أجل اتخذ مؤلف المقاصد كتاب الموافقات في غير استحياء أو استخفاء أسوة له في صنيعه، واصفاً خطته في المقاصد بقوله: "على أنه أفاد جد الإفادة، فأنا أقتفي آثاره ولا أهمل مهماته، ولكن لا أقصد نقله واختصاره" (¬1). ولا ينكر عالم بأصول الفقه، باحثٌ في قضاياه، مقدرٌ للصلة بين علم أصول الفقه القديم وعلم المقاصد الجديد، أهميةَ كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية. فهو مليء بالفوائد والمباحث المبتكرة، متجه عن قصد إلى مسائل المعاملات وما يراعى فيها من مقاصد. يقول الإمام الأكبر: "وإني قصدت في هذا الكتاب خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب التي أرى أنها تختص باسم الشريعة، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وتراجيحها" (¬2). ومن الاهتمام والعناية بالعمل الأول التأسيسي (تجوزاً) كتاب الموافقات الذي طبع ست مرات: الأولى: بتونس 1302/ 1884 في أربعة أجزاء بتحقيق ثلاثة من علماء الزيتونة: الشيوخ علي الشنوفي وأحمد الورتاني وصالح كَايجي. والثانية: بقازان عاصمة جمهورية التتار بروسيا 1327/ 1909. ولم يصدر منها سوى الجزء الأول. والثالثة: بمصر بالمطبعة السلفية 1341/ 1922 وهي ذات أربعة ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 28. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 28.

أجزاء. حقق الجزءين الأولين منها الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، وحقق الجزءين الباقيين سماحة الشيخ محمد حسنين مخلوف. والرابعة: المصرية من نشر المكتبة الرحمانية بمصر قديماً، وتصوير دار المعرفة ببيروت حديثاً. حققها وعلق عليها سماحة الشيخ عبد الله دراز، وتقع في أربعة أجزاء. والخامسة: نشر محمد علي صبيح بالقاهرة، وهي بتحقيق فضيلة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وتقع في أربعة أجزاء. والطبعة السادسة: بالعقربية، في الخبر 1417/ 1997 بتحقيق أبي عبيدة منصور بن حسن آل سلمان. وتقع في ستة أجزاء. وإلى جانب الاهتمام بـ الموافقات بإقامة نصّه، وضبط مادته والتعليق عليه، عنيت فئة أخرى بنظم الموافقات، فكان منها أحد تلامذة الشاطبي، يقال: إنه أبو بكر محمد بن عاصم الوادي آشي. وقد سمّى عمله هذا نيل المُنَى من الموافقات. ووضعت له أيضاً مختصرات منها: - المرافق على الموافق لمصطفى بن محمد فاضل بن محمد ابن مأمِين ماء العينين الشنقيطي القلقمي. - واختصار الموافقات لإبراهيم بن طاهر بن أحمد بن أسعد العظم. - وتوضيح المشكلات في اختصار الموافقات لمحمد يحيى بن عمر المختار الولاتي الشنقيطي (¬1). ¬

_ (¬1) أبو عبيدة. مقدمة الموافقات: 31 - 36.

وفي هذا العصر ظهرت من الدراسات المعمَّقة التحليلية لكتاب الشاطبي ثلاثة مؤلفات: الأول: الشاطبي ومقاصد الشريعة لحمادي العبيدي. والثاني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني. والثالث: الشاطبي والاجتهاد التشريعي المعاصر لعبد المجيد تركي. ومن اهتمام أهل العلم والباحثين المعاصرين بكتاب مقاصد الشريعة الإسلامية لشيخ الزيتونة. نشرَهُ في عدة طبعات: الأولى: بتونس وهي المومى إليها أعلاه. نشر دار الاستقامة 1366. والثانية: طبعة أخرى بعد نفاذ الأولى من نشر الشركة التونسية للتوزيع. جانفي 1978. والثالثة: "الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة"، تحقيق ودراسة للأستاذ محمد الطاهر الميساوي. طبع مرتين. ومن البحوث حول كتاب المقاصد هذا يمكن أن نعدَّ: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور لإسماعيل الحسني. ومقاصد الشريعة عند ابن عاشور للدكتور سوابعة مخلوف 1417/ 1996. * * *

الفقه والفتاوى

الفقه والفتاوى نذكر من دراسات الإمام ابن عاشور الفقهية ما يمكن عدّه من قضايا الفقه، أو مما صدر عنه من تحرير بعض الأحكام الشرعية، وهذه مثل: 1 - الموقوذة ونحوها من ذكاة أهل الكتاب، ولبس القلنسوة ونحوها من لباس الكفار. وهي رسالة فقهية جاءت مؤيّدة للفتوى الترنسفالية للأستاذ الإمام محمد عبده (¬1). والظاهر أن الإمام الأكبر لم يوقعها باسمه، ولكن الشيخ محمد رشيد رضا نسبها إليه في قوله: إن أحد علماء تونس أرسل إلينا رسالة في ذلك، أي في حلّية طعام أهل الكتاب (¬2). وفي قوله بعد: جاءتنا مقالات تؤيَّد الفتوى وما شرحناه في موضوعنا، وتفصَّل الأدلة عليها. ومنها رسالة من تونس لم أذكر اسم مرسلها هنالك. وهو العلامة الفقيه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور باش مفتي المالكية في ذلك العهد (¬3). 2 - موقع الوقف من الشريعة الإسلامية، وما يترتب عليه من الآثار. وهو بحث فقهي أُنُفٌ، تلتئم محاوره، وتلتقي عناصره في ¬

_ (¬1) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 676. (¬2) مجلة المنار، ذو الحجة 1321/ فبراير 1904، المجلد السادس، الجزء الرابع، ص: 232 - 238. (¬3) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 716.

3 - الصاع النبوي

الإجابة عن جملة قضايا يثيرها الناس من عصور بعيدة حول الوقف الأهلي (الحُبُس الخاص). وهذه الرسالة تتألف من مقدمة تَلفِت الناظر إلى مقصد الشريعة الإسلامية من تصريف الأموال، ومن أجوبة متعدّدة آخذ بعضها برقاب بعض عن تعريف الوقف في الشريعة الإسلامية، وانقسام الحبس باعتبار المحبس عليه، وهل الوقف من الإسلام؟ وهل يكون فيه حَجر على الرشداء في تصرّفاتهم؟ وهل هو مصلحة أم مفسدة؟ وهل فيه خرق لنظام الاقتصاد العام؟ وهل من حق ولاة الأمور منع الناس من الوقف؟ وهل صدرت قبل عن الفقهاء فتوى بإبطال بعض أنواع الوقف؟ كل هذه المحاور أو العناصر التي تضمَّنها البحث أثارها اقتراح من أحد أعضاء مجلس النواب المصري السيد عبد الحميد عبد الحق إذ نشرت له جريدة الأهرام في 26 جمادي الثانية 1355/ أغسطس 1936 مقالاً يطالب فيه بتحجير انعقاد الوقف الأهلي، مستنداً لعلل ذكرها في اقتراحه هي التي تومىء إليها الأجوبة الواردة في البحث. وقد رغب مدير جريدة النهضة بتونس من الإمام الأكبر أن يبدي رأيه من موافقة الأنظار الشرعية أو معارضتها لما تضمّنه ذلك الاقتراح، وعلى تقدير أن لا يرى النظر الشرعي مانعاً منه، فهل تنجر مصلحة للقطر التونسي إذا أجري فيه مثل هذا المقترح أو عمل به؟ فكتب هذه الدراسة المفيدة القيّمة في 32 صفحة، أنجزها في 24 رجب 1355 - 10 أكتوبر 1936 (¬1). 3 - الصاع النبوي، وهو مبحث تناول نشأة الصاع النبوي، ¬

_ (¬1) تولت جريدة النهضة نشر هذا البحث تباعاً من 27/ 10/ 1936؛ وقامت بنشره في رسالة مستقلة مجلة الهداية الإسلامية القاهرية.

4 - زكاة الأموال

وما ظهر بعده من الأصوع أو الأصواع. وضبطَ به مقدار الصاع النبوي بوجه عام، ومقدارَ الصاع النبوي بمكيال تونس الحالي، ممهداً لهذا البحث بما يدلّ على أهميته وشرف موضوعه. وذلك قوله رحمه الله: "حقيق على علماء الإسلام أن يهتمّوا بضبط معاني الأسماء التي يناط بها أمر أو نهي في الدين، ضبطاً يساير مختلف الأعصار والأمصار، كي تجري أمور الديانة على سبيل واضحة بيّنة لا يعتريها تردّد ولا يخالجها انبهام. وحق على الأمة أن تطالب علماءها ببيان ذلك لها حتى تكون على بيّنة من الأمر، وحتى تجريَ أعمالها في أمور دينها على طريقة سواء، وإن اختلفت الأسماء وتباعدت الأقطار والأنحاء" (¬1). 4 - زكاة الأموال، وهو تحرير جامع لأحكام هذه الفريضة. بدأ فيه بذكر الموعد الذي اعتاده كثير من أهل تونس لإخراج زكواتهم، ثم تحدث عن نصاب الزكاة وتقديره، وعن زكاة التجارة بنوعيها، الإدارة والاحتكار، وعن مصارفها وطرق أدائها (¬2). 5 - حكم زكاة الأوراق النقدية (¬3). 6 - زكاة الأنعام (¬4). 7 - زكاة الحبوب والأموال (¬5). ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: جمادى الأولى 1363/ مايو 1944. المجلد 5. عدد 6، ص 118 - 123. (¬2) المجلة الزيتونية: محرم / 1356/ مارس 1937. المجلد الأول، العدد السابع: ص 325 - 328؛ الهداية: السنة الثالثة، العدد الأول. أكتوبر 1975. 17 - 23؛ الهداية الإسلامية. مجلد 7. (¬3) الهداية الإسلامية. مجلد: 3. (¬4) الهداية الإسلامية. مجلد: 10. (¬5) الهداية الإسلامية. مجلد: 11.

8 - الإرث

8 - الإرث، مقال نشرته الموسوعة الفقهية (الأعداد التجريبية). 9 - مقال بعنوان لا صفَر، وهو وإن نشر في المجلة الزيتونية في باب الوعظ والإرشاد، غير أن المؤلف، بعد حديث مفصّل لمكانة هذا الشهر من السنة القمرية في الجاهلية والإسلام، نبّه إلى العادات غير المستقيمة والبدع التي انتشرت بين الناس. فردّها وأفتى بحرمتها، كصلاة يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر التي ابتدعوها تحريفاً للدين. ويوم الأربعاء هذا كان يعرف بين أهل تونس بالأربعاء الكحلاء، أي السوداء لتشاؤمهم منه. وقد ذكر في إبطالها قوله: وهو اعتقاد باطل، إذ ليس في الأيام نحس. قال مالك: الأيام كلها أيام الله، وإنما يفضل بعض الأيام بعضاً بما جعل الله له من الفضل فيما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأن النافلة التي تقوم بها المبتدعة ويدعون إليها بدعةٌ وضلالةٌ، إذ لا تتلقى الصلوات ذوات الهيئات الخاصة إلا من قبل الشرع. ولم يرد في هذه الصلاة من جهة الشرع أثر قوي ولا ضعيف. فهي موضوعة (¬1). 10 - شهرا رجب وشعبان، والبحث فيه من نوع البحث المتقدم. وقد أثبت في باب الوعظ والإرشاد أيضاً. واشتمل على آثار كثيرة نقدها المؤلف، وبين ما ورد في الشهرين من أفضلية، وتعرض لبدعة صلاة ليلة النصف من شعبان مناقشاً ما أورده القصّاصون فيها، ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: صفر 1356/ أبريل 1937. المجلد الأول، العدد الثامن: ص 381 - 385؛ الهداية: السنة السادسة، العدد الثالث. يناير - فبراير 1979: 9 - 12.

من فتاوى المجلة الزيتونية، وعددها ثمانية عشر

وما أذاعوه من عادات يتمسك بها الجُهّال من العامة (¬1). من فتاوى المجلة الزيتونية، وعددها ثمانية عشر: وإضافة إلى هذه المقالات والبحوث نشير إلى بعض ما نشرته المجلة الزيتونية من الفتاوى التي حررها الإمام الأكبر إجابة عما ورد عليه من الأسئلة. ومن موضوعات هذه الفتاوى: 1 - نقل دخول شهر رمضان من بلد إلى آخر بواسطة الهاتف والتليفون أو المذياع والراديو. هل يثبت به الشهر أم لا؟ (¬2). 2 - حكم معاملة أرباب المعاصر لمالكي الزياتين، وإقراضهم شيئاً من المال ثم استيفاؤه زيتاً مع أجرة العصر (¬3). 3 - حكم رجل توفي وترك والدين فقيرين عاجزين وزوجةً وسبعَ بنات قاصرات. وخلف تركة تقدر بمليون فرنك. ولكن هذه التركة مرهونة في دَين قدره ثلاثمائة ألف فرنك، وبما أن قيمة الملك في هذه الظروف منحطّة كثيراً، فلا يمكن بيع شيء من المخلف المذكور لسداد الدين، نظراً للمصلحة في عدم تفويت ملك له قيمة. ولذلك باشر المقدم على هذا الملك دفع الدين المذكور من مدخول كرائه. وبقي الورثة في حالة سيئة من الضيق والاحتياج. فالمطلوب منكم بيان حكم الله فيما يخصّ النفقة على من ذكر لكل فرد من الوارثين. وكيف تكون القسمة ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: شعبان 1356/ أكتوبر 1937. المجلد الثاني، العدد الأول: ص 45 - 47؛ الهداية. السنة الثالثة، العدد الثاني. يناير 1975: 23 - 25. (¬2) المجلد الأول، العدد السابع، ص 145. (¬3) المجلد الأول، العدد السابع، ص 82.

بعد خلاص الدين جازاكم الله عن الإسلام خير الجزاء (¬1). 4 - رجل ذو ثروة وله أولاد وبنت. وقد أراد أن يخصص قدراً من ثروته لابنته بعد وفاته، ويترك الباقي على الشياع بين جميع الأبناء، مع أن الأبناء متساوون في الصلاح وضده؛ فهل يجوز له ذلك؟ وهل يصح شرعاً؟ (¬2). 5 - ما قولكم رضي الله عنكم فيمن وقع منه مع زوجته مشاجرة آلت إلى شدة الغضب، فأوقع عليها الثلاث في كلمة واحدة، مع أنه لا قدرة له على التزوج بغيرها، وله أبناء منها؟ (¬3). 6 - إن غالب الناس يحبسون ريعهم وعقارهم على الأولاد دون البنات. فهل تلك الأحباس باطلة، كما ذكر خليل، أم أن ما مشى عليه خليل ضعيف. (¬4). 7 - هل استخلاص أموال الدولة على الحيوان يُطرح منه الزكاة المفروضة شرعاً (¬5). 8 - ما هو حكم الله في بيع حشيشة الدخان؟ وما هو حكم مستعمل تلك الحشيشة؟ (¬6). ¬

_ (¬1) صفر 1356/ أبريل 1937. المجلد الأول، العدد الثالث، ص 337. (¬2) صفر 1356/ أبريل 1937. المجلد الأول، العدد الثامن، ص 377؛ صفر 1356/ أبريل 1937. المجلد الأول، العدد الثامن، ص 381. (¬3) ربيع الثاني 1356/ جوان 1937. المجلد الأول، العدد العاشر، ص 505. (¬4) ربيع الثاني 1356/ جوان 1937. المجلد الأول، العدد العاشر، ص 507. (¬5) ربيع الثاني 1356/ جوان 1937. المجلد الأول، العدد العاشر، ص 508؛ فتوى الزهرة، وعدد النهضة: 9221. (¬6) ربيع الثاني 1356/ جوان 1937. المجلد الأول، العدد العاشر، ص 509.

9 - المقدار من الزيت يتعلق بالمَصَبّ. هل تحلُّ للبائع أم كيف الحال؟ (¬1). 10 - حكم العمرى في صور وفروع مختلفة (¬2). 11 - هل يحق لمالك الزيت أن يرهنه لدى البنوك ولا يدفع منه فائضاً ربوياً مع التزام الدولة للبنوك بدفع ذلك؟ (¬3). 12 - من بلغهم الإعلام بدخول شهر شوال بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، هل يصلّون صلاة العيد بعد بلوغ الخبر أم يصلّونها ضحى يوم الغد، أو لا يصلّونها؟ (¬4). 13 - تحليف الشاهد بالطلاق لتعزيز شهادته. هل يجوز للحاكم أن يحلّف الشاهد بالطلاق في بلاد يرى أهلها الحلف بها سفاهة، وليستغل الحاكم امتناع الشاهد عن أداء شهادته، تحيّزاً لفريق من المتخاصمين دون الآخر (¬5). 14 - الزواج من الكتابية لا من الشيوعية التي لا دين لها؟ (¬6). 15 - حكم رجل تزوج امرأة وولدت له بنين وبنات. وقالت له إحدى القواعد: إنها أخته من الرضاع (¬7). 16 - استولت الدولة على أرض وقف وبنت بها مسجداً، هل تجوز الصلاة فيه؟ (¬8). ¬

_ (¬1) ربيع الثاني / 1356 جوان 1937. المجلد الأول، العدد العاشر، ص 510. (¬2) شوال 1356/ ديسمبر 1937. المجلد الثاني، العدد الثالث، ص 109. (¬3) شوال 1356/ ديسمبر 1937. المجلد الثاني، العدد الثالث، ص 110. (¬4) شوال 1356/ ديسمبر 1937. المجلد الثاني، العدد الثالث، ص 111. (¬5) ذو القعدة 1356/ جانفي 1938. المجلد الثاني، العدد الرابع، ص 1673. (¬6) محرم 1357/ مارس 1938. المجلد الثاني، العدد الرابع، ص 260. (¬7) محرم 1357/ مارس 1938. المجلد الثاني، العدد السادس، ص 260. (¬8) محرم 1357/ مارس 1938. المجلد الثاني، العدد السادس، ص 260.

17 - مشروعية قراءة القرآن جهراً يوم الجمعة قبل خروج الإمام للصلاة (¬1). 18 - حكم قراءة القرآن في محطة الإذاعة (¬2). ومن فتاويه أيضاً ما ورد له فيها من تفصيل واجتهاد وتقرير لبعض القضايا المستفهَم عنها والمُستفتَى فيها. وذلك كالسؤال الذي ورد إليه من المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر ونصه: اتخذت الجزائر، في نطاق الحرص على وحدة المواسم الدينية في العالم الإسلامي، موقفاً يرمي إلى اتخاذ تقويم قمري يعتمد الحساب الفلكي، فما موقف الشريعة من ذلك. وتاريخ هذه الفتوى 10 جمادى الثانية 1393/ 10 جوليه 1973 (¬3). ولعله يكون من المفيد أن نُتبع عرض بعض الفتاوى بأسئلتها والوقوف عندها لمزيد من التعريف والبيان. وهي الفتاوى التالية: 1 - الفتوى الترنسفالية المزدوجة في حكم أكل الموقوذة ونحوها من ذكاة أهل الكتاب، وحكم لباس القلنسوة ونحوها من لباس الكفار. 2 - ثبوت دخول شهر رمضان ونقل خبر ذلك عن طريق وسائل الإعلام، وقضية توحيد المواسم الدينية في العالم الإسلامي. 3 - حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة، وحول الميت، وفي المقبرة عند الدفن (¬4). ¬

_ (¬1) محرم 1357/ مارس 1938. المجلد الثاني، العدد السادس، ص 260. (¬2) الهداية الإسلامية. مجلد: 9. (¬3) د/ بلقاسم الغالي. شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور: 146. (¬4) البصائر: 204. السنة الأولى، 22 مايو 1936.

تحليل بعض هذه الفتاوى، وبيان ما قارنها من مواقف وصفات

4 - إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية (¬1). 5 - تحريم وصل المرأة شعرها (¬2). 6 - حكم تعدّد الزوجات (¬3). 7 - حكم التجنس (¬4). 8 - الإفطار في رمضان (¬5). تحليل بعض هذه الفتاوى، وبيان ما قارنها من مواقف وصفات: ويتجلّى لنا من تحليل هذه الفتاوى بعض مواقف وصفات الشيخ ابن عاشور الفقيه المفتي، التي نعدّ منها: 1 - الجرأة في الحق، والأخذ بما ذهب إليه العلماء من آراء وأحكام، ولو كانت مخالفة لما عليه الجمهور، سواء كانت من مقتضى اللفظ، أو من الملابسات المرتبطة به، أو من دلالات السياق. 2 - عمق التحليل للأسئلة الواردة عليه، والإجابة عما يرتبط بها من مسائل من غير مواربة، ولكن مع قوة في النظر وقدرة على التمحيص بارزتين. 3 - الاعتماد على مفادات التراكيب والنصوص الشرعية التي يعود إليها ويستنبط منها، وإن أذى به ذلك إلى الانفراد بالرأي والالتزام به، ما دام هو الحق في نظره والأقوى والأوفق بسنن التشريع وتطوّرات الزمان. ¬

_ (¬1) الهداية. السنة الخامسة، عدد 2، ذو القعدة 1397/ نوفمبر 1977، ص 20. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 269؛ التحرير والتنوير: 5/ 205. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 4/ 222. (¬4) حمادي الساحلي. تقرير حول قضية التجنيس. مجلة وثائق 1/ 5، 14، 1984. المركز القومي الجامعي للتوثيق العلمي والفني. تونس. (¬5) الهداية. السنة الأولى، العدد الرابع، جمادى الثانية 1394/ جوليه 1974.

1 - الفتوى الترنسفالية (حكم أكل الموقوذة ولباس القبعة)

1 - الفتوى الترنسفالية (حكم أكل الموقوذة ولباس القبعة) إن مجال تقرير الأحكام في الفقه الإسلامي في هذا العصر، وفتوى الناس فيما يقصرون عن معرفة حكم الله فيه، يتطلّب من المنتصب لهذا المهم تحريراً لمناط الحكم، وتحقيقاً أو حرصاً على إيراد الأدلة القوية الثابتة على صحّته باستمدادها من الكتاب والسنة، وعدم معارضته أو مناقضته للقواعد العامة المعتبرة في الشرع، وأن تكون فتواه بما يراه أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً، وأنفى للحرج على المسلمين. وذلك مع الالتفات إلى مقصد الشارع من الحكم وإلى حكمته في تشريعه. وهذا هو منهج المحقّقين من الفقهاء المجتهدين في الدين، الملتزمين بالحق، لا يثنيهم عمَّا قام عليه البرهان لديهم أيُّ رأي أو اتجاه مخالف مهما كان مصدره، ولا يمنعهم من الإعلان عما توصلوا إليه بعدَ النظر، وأيقنوا أنه الحق الذي تطمئن إليه نفوسهم، وإن نازعهم المقلدون هذا الرأيَ، أو خالفهم فيه العابثون بالدين، المناوئون لهم، المتحاملون عليهم. وأمام تعدد الآراء واختلافها قديماً وحديثاً، وعدم الانصياع أحياناً كثيرة لما هو مقتضى الدرس، ونتيجة البحث والتبصر، وأمام غلواء المكابرين والمعاندين، ورفضهم كلّ الآراء في القضايا المستجدّة إذا خالفت ما اعتادته العامة أو أنكرته الخاصة من المقلّدة، بحكم التزمت والجمود، يبتعد الناس عن الصواب، وتنشأ النزاعات والفتن، وتحتجب الحقائق، وتنتشر الغَواية والضلال يحكمهما الهوى المتَّبَع. ولتصوير منهج الإمام الأكبر في فتاواه، نقدم نماذج من آرائه المساندة لما يراه من حق، أو تقضي به الملابسات والظروف

والأعراف. فمن ذلك: موقف الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور من الفتوى الترنسفالية. وَرَدَ على الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية من الترنسفال، أحدِ أقاليم اتحاد جنوب إفريقيا، استفتاءٌ ذو ثلاث شعب، من أحد المسلمين هناك، وقد كان السؤالان الأولان: 1 - حكم لبس المسلم القبعة، لأن كثيراً من أفراد الناس في الترنسفال يلبسون القبعات لبعض مصالحهم، وعود الفوائد إليهم. 2 - حكم أكل الموقوذة، ونحوها من ذكاة أهل الكتاب، لأن ذبح نصارى هذه البلاد مخالف للذكاة الشرعية عندنا، فهم يضربون البقر بالبلطة ثم يذبحونها بغير تسمية، وكذلك يذبحون الغنم بغير تسمية. وذهب الأستاذ الإمام محمد عبده في إجابته عن السؤال الأول إلى أن لبس القلنسوة إذا لم يقصِد فاعلُه الخروجَ عن الإسلام والدخولَ في دين غيره لا يعدّ مكفّراً، وإذا كان اللباس لحاجة من حجب الشمس، أو دفع مضرة أو مكروه، أو تيسير مصلحة لم يكره ذلك لزوال التشبّه (¬1). وقال في الإجابة عن السؤال الثاني: يجوز أكل ذبيحتهم تلك، لعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2)، ولأن الله سبحانه حين أباح لنا طعامهم كان أعلمَ بحالهم ونوع ذكاتهم (¬3)، ¬

_ (¬1) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 676. (¬2) المائدة: 5. (¬3) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 676 وما بعدها.

ويدل هذا على أن ذبائح أهل الكتاب حلال عند جماهير المسلمين، وإن لم يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية (¬1). ووَجَدَت هذه الفتوى معارضةً شديدة من بعض شيوخ العصر. وانقسم الناس حولها، وتحوّل الأمر من استفتاء يجيب عنه رجل مختصّ منتصب رسمياً لإرشاد الناس وبيان أحكام الدين لهم، إلى قضية خلاف ونزاع يبالغ في إنكار وجه الحكم فيها عليه خصومُه من المحافظين المتشدّدين يتّهمونه في دينه وعلمه، ومن السياسيين للنيل من سمعته والتحقير له، وهو زعيم الإصلاح بمصر، ورائد التحرّر الفكري، الداعي إلى الاجتهاد الذي يضطلع به بوصفه أكبر أعلام الأزهر الشريف، ومفتي الديار المصرية يومئذ. وبتدخّل من ملك مصر الخديوي عباس، والتآمر بين رجال الحزب الوطني على المفتي، انقسم الناس واختلفت الصحف المصرية ووسائل الإعلام، بين مواجهة للمفتي، مندِّدة به، ومتحاملة عليه كالظاهر واللواء والمؤيد، وبين مناصرة ومؤيدة له، ومدافعة عنه كالأهرام والمقطم والمنار والوطن اليومية، أو التمدن والنيل والممتاز والرائد العثماني. واشتهرت هذه الفتوى في ربوع العالَمين العربي والإسلامي، كما كانت سبباً في إثارة السياسيين والفقهاء عليه. فحمل هذا عدداً كبيراً من العلماء على إعادة النظر فيها، والتنبيه إلى أصولها ومراجعها التي اعتمد عليها الإمام. وكان من بين أنصاره ومؤيديه في ذلك جماعة من علماء ¬

_ (¬1) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 678.

الأزهر، نشر لهم الشيخ محمد رشيد رضا مقالاً بعنوان إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية. ومن بين أفراد هذه الجماعة الشيخ أحمد أبو خطوة، والشيخ سعيد الموحي، وشيخُ رواقِ الحنابلة، وعدد من علماء المغرب العربي منهم الشيخ المهدي الوزاني كبير علماء فاس (¬1)، وأحد أعلام تونس الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور (¬2) الذي لم ينشغل عن فتوى الأستاذ الإمام، بل وقف موقف المحلل لها، المؤيّد لمضمونها بما كتبه فى المسألتين قائلاً فيهما: أما لباس القلنسوة فحسبهم من حيث التقليد أن الفقهاء ما قالوا: إن لبس أي شيء من ثياب الكفار غير موجب للرِّدّة إلا أن يكون ذلك اللباس لباساً دينياً حيث تنضم إليه قرائن تفيدُ كثرتُها قطعاً بأن صاحبه انفسخ عن الدين (¬3). وأما المسألة الثانية المتعلّقة بذبائح أهل الكتاب فهي ماضية بجملة من الأدلة: 1 - سبقَ أئمةُ المالكية إلى القول بمثل ذلك. فهذا ابن العربي صاحب كتاب أحكام القرآن يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}: إن الله سبحانه قد أذن في طعامهم، وقد علم أنهم يسمّون غيره على ذبائحهم، ولكنهم لمّا تمسّكوا بكتاب الله، وعلِقوا بذيل نبي، جعلت لهم حرمة على أهل الأنصاب. والتسمية عند بعض الشَّافعية ليست بشرط، وإن سمى النصراني الإله حقيقة لم ¬

_ (¬1) محمد رشيد رضا. التاريخ: 1/ 674؛ تفسير المنار: 6/ 205. (¬2) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 716. (¬3) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 676 وما بعدها.

تكن تسميته على شرط العبادة، والتسمية على غير وجه العبادة لا تعقل وظن بعضهم أن أكل طعامهم رخصة. والرخصة حلّ تأصّل في الشريعة الإسلامية، فلا يقف على موضعه، بل يسترسل على محصّله كلها، كسائر الأصول في الشريعة، ثم قال ما محصّله: واختلاف تذكيتهم، التي يجيزها أحبارهم ورهبانهم، عن الذكاة الشرعية عندنا لا يمنع من أكل ذبائحهم، لأن الله تعالى أباح طعامهم مطلقاً، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه (¬1). 2 - بنى الشيخ ابن عاشور هذه الفتوى على عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...} الآية، في حمله على كل ما ذبحوه، ممّا أحل الله لهم أو حرّمه الله عليهم أو حرّموه على أنفسهم، وهو ما ذهب إليه ابن عباس وتبعه عليه أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم وعبد الله بن وهب (¬2). ونقل بهرام عن ابن وهب جواز أكل ما ذبح للصليب أو غيره من غير كراهة نظراً إلى أنه من طعامهم (¬3). 3 - الأخذ بما قرّره الحنفية في أصولهم من أن العام الوارد بعد الخاص يكون ناسخاً له، وعموم طعام أهل الكتاب وارد بعد ذكر المحرمات، فيشبه أن يكون وروده مورد النسخ بعد النص. 4 - جعل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} معطوفاً على آية: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} من باب عطف الجملة على الجملة، وفيه دليل على أن طعام أهل الكتاب حلال متى لم يكن على ¬

_ (¬1) ابن العربي. تفسير الأحكام: 2/ 553 - 556. (¬2) تفسير المنار: ج 6، ص 203. (¬3) تفسير المنار: 6/ 207.

2 - ثبوت دخول الشهر شرعا، وتوحيد المواسم الدينية

شروطنا. وفي هذا رخصة ومنَّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب. فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم (¬1). وقد أحدث هذا التأييدُ ما أحدثته الفتوى الأصلية الصادرة عن الأستاذ الإمام. وحمل الشيخ بلحسن النجار بتونس، وهو من المتشدّدين، على فتوى الإمام الأكبر، وعارضه فيها معارضة شديدة (¬2). 2 - ثبوت دخول الشهر شرعاً، وتوحيد المواسم الدينية ليست هذه فتوى واحدة أو مزدوجة، ولكنها كسابقتها إجابة عن سؤالين مختلفين: السؤال الأول منهما والإجابة عنه ترجع إلى شهر رمضان 1355/ 1936. وملخصه: هل نقل الخبر بثبوت دخول شهر رمضان شرعاً بالتليفون ونحوه كالإذاعة، من بلد إلى آخر ملزم لأهل البلد المخبَر بالصيام؟ وهل يقاس هذا النوع من الإخبار في الأمور العبادية على مثله في الأمور العادية؟ والسؤال الثاني والإجابة عنه ينفصل في حدود الزمن عن الأول بثمانية وثلاثين عاماً لوقوعه بعده في جمادى الثانية 1393/ 1973. وملخصه: الاستفتاء عن اتخاذ تقويم قمري يعتمد الحساب الفلكي ببيان موقف الشريعة من ذلك. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 6/ 120 - 122. (¬2) بلحسن النجار. السعادة العظمى: م 1، ج 7، ص 103 - 108، ج 8/ 122 - 125، ج 9/ 139 - 143.

الفتوى الأولى

ولظن عدد من القراء أن الفتوى الثانية تتصل بالأولى، وفي موضوعها، وأنّها أو بها تعديل لأحكامها، أحببنا الجمع بينهما مع اختلاف زمني وقوعهما، لبيان تغايرهما موضوعاً وحكماً. الفتوى الأولى: عند التأمل نجد الإمام الأكبر قد مهّد لفتواه هذه بتقدير ما يقع الناس فيه من جدل وحيرة. فحسَم الأمر بأن فصلَ القول في ذلك حتى تكون فتواه علمية شرعية. وهذا ما عناه في بداية إجابته من قوله: إن هذه المسألة قد كثر فيها خوض الخائضين وتخليط الناظرين، يخلطون بين مختلف الأقوال، ومختلف الصور والأحوال. وإنما الفتوى إجادة التنزيل لا كثرة القال والقيل. ولبناء فتواه على أسس ثابتة مرعية، وقواعد واتجاهات حكمية وفقهية، ذكر أولاً ما بين طرق ثبوت الأمور الشرعية في العبادة والمعاملة من اختلاف مع طرق ثبوت الأمور العادية. ولبيان ذلك قدم لنا صوراً وأمثلة تشهد لهذا الاختلاف، ولأن الأمر كما قيل في العاديات مطلق، وهو في غيرها محصور ومقيّد. فطريق ثبوت أوقات الصلوات أذان المؤذنين وإخبار المؤقتين. وطريق ثبوت نجاسة الماء إخبار رجل أو امرأة موصوف بالعدالة. وطريق ثبوت شهر الصيام أو الفطر الشهادة برؤية الهلال ليلة ثلاثين من الشهر السابق، إذا كان الرائي رجلين عدلين أو جماعة مستفيضة، أو بإكمال الشهر السابق ثلاثين يوماً. وطريق ثبوت الحقوق يكون بشهادة عدلين، وشهادة عدل

وامرأتين فيما يرجع للمال. إذا لم يوجد إلّا رجل عدل واحد. وطريق ثبوت العيوب إخبار من له معرفة بها، وإن لم يكن عدلاً. ولتأكيد ما ذهب إليه من التفريق بين الرواية والشهادة يقول إثر هذا: وقد يحصل الاطمئنان لطريق من طرق الثبوت العادية، ولا يجزىء ذلك الطريق في الأمور الشرعية، لأن الشريعة عيّنت لأسباب ثبوت التكاليف طرقاً خاصة، رعْياً لأهميتها، ولما يترتَّب عليها من المصالح. فلا يجوز لنا أن نتعداها بقياسها على الأمور العادية. وعَقِب هذا التفريق الدقيق بين طريق الرواية وطريق الشهادة أشار الإمام إلى اختلاف أئمة الفقه في وجوه طريق ثبوت رمضان. والمشهور من مذهب مالك وعامة أصحابه، ما عدا ابن الماجشون، أن طريق ثبوت رمضان من قبيل الشهادة. وهو وإن كان فيه شائبة الرواية وشائبة الشهادة فقد غلب عليه عند مالك شائبة الشهادة لأدلّة من السنة الصحيحة (¬1)، ولمراعاة إجراء أمر المسلمين على انتظام في القطر الواحد وفي سائر الأقطار بقدر الإمكان، ولاتقاء تعريض عبادتهم إلى ظهور ما يناقضها من تبيّن كذب المُخبر أو توهُّمه. ويترتب على كون قبوله من طريق الشهادة أن لا يكون ثبوته بواسطة القضاة، وأن يكون ثبوته بواسطتهم شبيهاً بالحكم الرافع للخلاف. وكون هذا الأمر قابلاً لتعيين العمل بأحد المذاهب من قبل السلطان هو من قبيل تخصيص القضاء بمذهب معين. وعلى هذا جرى الأمر بتونس، إذ أسندت مهمة ذلك من أمر الصوم والفطر إلى قاضي ¬

_ (¬1) القرافي. الفروق: 1/ 204.

الأهلّة بها، وهو قاضي المالكية. وطريق ثبوت الشهر لديه، إذا لم يكن على كمال ما قبله، رؤيةُ المكلف بمراقبة الهلال، أو إخبار رجلين عدلين برؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين، أو شهادة مستفيضة وإن لم يكونوا معروفين بالعدالة. وثبوت دخوله عند القاضي المالكي موجب للثبوت العام لما قدمنا. وثبوت رمضان شرعاً نوعان: ثبوت عام وهو الأغلب، وثبوت خاص وهو النادر، وطريق الثبوت العام يحصل بثلاثة وجوه: 1 - حصوله بشهادة عدلين أو جماعة مستفيضة عند القاضي برؤية الهلال كما قدمنا. 2 - حصوله بخطاب قاضي بلد آخر إياه بثبوت رؤية هلال رمضان عنده، إذا توفّرت في ذلك شروط خطاب القضاة. 3 - حصوله بنقل ناقل للقاضي أن الشهر ثبت في بلد آخر حضره الناقل. وهذان الوجهان الأخيران مبنيَّان على القول بأن ثبوته في موضع يعمُّ سائر الأقطار إذا نقل إلى قضاتها، وهو المشهور. وإن كان الناقل ناقلاً عن رؤية عدلين فلا بد أن يكون الناقل عدلين أيضاً، اتفاقاً بين رجال المذهب، لأنه من باب نقل الشهادة. وإن كان الناقل ناقلاً عن شهادة مستفيضة فقد اختلف علماء المذهب فريقين: ذهب الشيخ أبو عمران الفاسي وابن رشد الجد وخليل وبهرام وابن فرحون إلى أنه لا بد أن يكون الناقل للقاضي عن المستفيضة عدلين، إلا إذا وجّه القاضي من تلقائه عدلاً يستكشف له الخبر عن ثبوت الشهر في بلد ما، فحينئذٍ يعمل القاضي بخبره، ويثبت بها الشهر ثبوتاً عاماً.

وذهب أحمد بن خالد بن ميسر إلى قبول العدل الواحد في الشهادة المستفيضة، ويثبت به الشهر عند القاضي، وهو اختيار ابن أبي زيد وابن يونس والباجي لاعتبارهم إياه مخبراً لا شاهداً أو ناقلاً للشهادة. وإن كان الناقل نَقَلَ ثبوت الشهر عند قاضي بلد آخر فحكمه كحكم النقل عن الشهادة المستفيضة قولان. والذي به العمل ويجري على القواعد، قول الفريق الأول. وأما طريق الثبوت الخاص فيحصل بالوجه الثالث من الوجوه الثلاثة المتقدمة. لا يخالف في ذلك غير ابن رشد الذي يرجح الاكتفاء بالعدل الواحد على ما ذهب إليه ابن ميسر وموافقوه. ويترتب على التفاصيل المذكورة لزوم عرض الإخبار بالتليفون على قاعدة ثبوت الشهر شرعاً فلا نجريه على اعتيادات الناس في مخاطباتهم العادية. فإن كان الإخبار بالتليفون وارداً إلى قاضي البلد الذي لم ير فيه الهلال فإن كان المخبِر قاضياً، وكان المخبَر قد تحقق صوته، أو اصطلحا على علامة بينهما لم يطلع عليها غيرهما، ثبت الشهر في هذه الصورة بهذا الخطاب التليفوني. وكذلك إن كان المخبِر نائبَ القاضي المخبَر كقضاة الكور لقاضي الجماعة. وإن كان المخبِر غير قَاضٍ ولا نائباً عن المخبَر اشترط في قبوله لدى القاضي المخبَر أن يكون خبر عدلين معروفي العدالة لدى قاضي الجماعة المخبَر، وأن يكون إخبارهما بصريح الشهادة بكونهما سمعا من العدلين أو من المستفيضة أو من القاضي الذي ثبت لديه الشهر. وكما يثبت الشهر عند القاضي بخطاب قاضٍ آخر بالتليفون يثبت عند نواب القاضي، وعند كل من له ولاية تخوّله الإعلان بثبوت

الفتوى الثانية

الشهر إذا تلقى الإعلام بذلك من القاضي أو نوابه. ويثبت عند العامة بالعلامات المرفقة بثبوت الشهر. وأما إخبار الناس بعضهم لبعض فهو من الإخبار الخاص على ما سبق، ويُقصَر حكمه على المخبَر وأهله، واختلف في إجبارهم على الصوم وحملهم عليه، ولا ينبغي أن يشيع ذلك في الناس فيوقعهم في حيرة، ولم يجب عليهم الصوم بخبره، ولم يجزِهم إذا صاموا بخبره، لأن الثبوت العام لا يكون إلا من القاضي أو أحد نوابه. وحكم ثبوت رمضان بواسطة المذياع من بعض مراكز الإذاعة في البلاد الإسلامية يتحقق به ثبوت رمضان ثبوتاً شرعياً عند السامعين. فإذا اصطلح قضاة الأمصار التي بها مراكز إذاعية على تنظيم الإخبار بثبوت الشهر لدى أحدهم بواسطة المذياع، فيلزم أن يعين كل واحد منهم رجلاً يوجه من طرف القاضي للإخبار بثبوت دخول الشهر، وبذكر المخبِر العلامةَ المصطلح عليها بينهم، فيكون ذلك من قبيل خطاب القضاة (¬1). الفتوى الثانية: لم يتقيد الإمام الأكبر في هذه الفتوى بالمذهب الواحد. ونبّه في أولها إلى أن الأهلَّة مواقيت للصيام. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ}، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬2)، وإلى أن حق تقليل الاختلاف بين أحوال المسلمين يقضي بأن لا يُغفل عن تغيّر الأحوال عما كانت عليه في القرون الماضية. فاتصال أخبار البلدان وتعرفهم لأحوالهم لم يعد ¬

_ (¬1) م. ز. المجلد 1، ج 3 رمضان 1355/ نوفمبر 1936، ص 145 - 149. (¬2) البقرة: 183 - 185.

توقيت فريضة الصوم

بطيئاً أو معرضاً للشك والنسيان، ومبادرة كل بلد إلى الأخذ بما يحصل لديه من ثبوت الشهر شرعياً أمر ممكن. وقد قامت الأدلة على أن ثبوت دخول الشهر سابق في بعض البلاد عنه في البلاد الأخرى، وجرت أقوال المذاهب الأربعة على أن لا عبرة باختلاف المطالع. ومن ثمّ فلو صام أهل البلد تسعة وعشرين يوماً برؤية الهلال في بلدهم، وصام أهل بلد آخر ثلاثين يوماً بالرؤية، فإن الذين صاموا تسعة وعشرين يوماً يجب عليهم قضاء صيام يوم. قال الحنفية: هذا قول أكثر المشايخ (¬1). وقال الشافعية: في المسألة قولان مصحّحان. وقال الحنابلة: لا خلاف في أن رؤية أهل بلد تلزم بقية البلدان. ويتبيّن من هذا أن ما ذهب إليه ابن رشد الحفيد وابن جزي من الإجماع على اعتبار خلاف المطالع بين البلاد التي ثبتت فيها الرؤية وبين البلاد النائية عنها جداً مثل بُعد الأندلس من الحجاز ادعاء غير صحيح. وللإجابة عن السؤال المطروح، وهو اعتماد الحساب الفلكي لإعداد تقويم قمري، لا بد بعد بيان ما سبق أن نعود إلى تأصيل النظر فيه بردِّه إلى ثلاث قواعد ينبني عليها الجواب. توقيت فريضة الصوم: القاعدة الأولى: إن الصوم عبادة وَقَّت لها الشارع وقتاً تقع فيه، وهو شهر رمضان. وقد ذكرنا الأدلة على ذلك من الكتاب (البقرة: 183 - ¬

_ (¬1) الزيلعي. تبيين الحقائق: 1/ 321.

185، 187). وبمجموع ذلك حصل تعيين العبادة المفروضة، وتحديدها، وحصر زمانها. فوجب على الناس تعيين هذا الشهر مبدأ ونهاية. وكان العمل في ذلك يوم نزول القرآن للتعريف بحدود الشهر الاحتكامَ إلى تجدد ضوء الهلال عقب محاقه. ولمعرفة وجود الهلال عقب المحاق في علم الله طرق: الرؤية البصرية: وهي الطريق الحسي الضروري الذي لا خلاف في العمل به. مرور ثلاثين ليلة من وقت استهلال الهلال الذي سبَقَه: وهذا الطريق قطعي تجريبي، إذ رصد الناس، في جميع الأرض، وفي كل العصور، أحوال ظهور الهلال فوجدوه لا يتأخّر عن ذلك التقدير من الأيام، وتحقق لديهم ذلك واشتهر. فصار قطعياً. وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة. دلالة الحساب الذي يضبطه العلماء بسير النجوم: وهو علم لا يتطرق قواعدَه الشكُّ، وحساب تحققت سلامته من الغلط، ويسمى هذا الحساب تقويماً. وجرى العمل به في التقويم الشمسي قديماً وحديثاً، واتبعه المسلمون في تحديد أوقات الصلوات، وأوقات الإمساك والإفطار في رمضان. والتقويم القمري مثله ولا يختلف عنه، وقد جَرَّبَه العرب إلا أن فقهاء المذاهب الأربعة منعوا العمل في إثبات الشهر الشرعي بحساب المنجمين وأهل التقاويم، ويبدو أن هذا الموقف كان بسبب أن وجود الهلال لم يكن يعرف في العصور الماضية سوى بالرؤية. لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاقدروا له". ويتعين أولاً أن نلاحظ خلو متن الحديث من صيغة قصر الصوم على حالة رؤية الهلال. وقياس حساب المنجمين على رؤية الهلال قياس جلي.

القاعدة الثانية

والملاحظ ثانياً أن رؤية العين تتعذر بعد مضي ساعات من تكوين الهلال، وبعد خروجه من بقايا شعاع الشمس عند الغروب، يكون حساب التقويم أولى منها، وربما احتاج ضعفاء البصر إلى الاستعانة على الرؤية بوضع نظارات ولكن النظارات متفاوتة في تقريب المرئي، فليس سواء النظارات العادية والمنظار المكبّر والتليسكوب. وغني عن ذلك التقويمُ لأنه طريق علمي يكسب الظن القريب من القطع بثبوت الهلال. وإذا كان الشرع قد اعتمده في ضبط أوقات الصلاة فلا وجه لترك قياس وقت ثبوت شهر الصوم على الصلاة، إذ لا فرق بينهما إلا بأوصاف طردية لا تؤثر في الإجراء الشرعي. واحتج الفقهاء على عدم اعتماد الحساب الفلكي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا". وهذا لا يمنع من اعتماد التقويم لكون الحديث من قبيل مسلك الإيماء إلى علة قياس الحساب على رؤية الهلال بالبصر. ومعلوم أن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً. هذا وإن للناس غنية عن اعتماد الحساب واعتماد المراصد الفلكية في أشهر بلاد الإسلام. القاعدة الثانية: اعتبار فقهاء المذاهب الأربعة أنه إذا رؤي الهلال نهاراً فهو لليلة القادمة بدون تفصيل. وإذا رؤي ليلاً فذلك بداية الشهر القمري في البلد الذي رؤي به الهلال، وفي كل بلد يشاركه في الليل. فبداية اليوم على هذا تكون بغروب الشمس لا بطلوع الفجر. وعلى هذا الأساس يكون ثبوت الصوم والفطر.

القاعدة الثالثة

القاعدة الثالثة: عند تعارض الرؤية مع الحساب، يقدم الحساب وترد الرؤية بالاستبعاد العادي إذا كانت بصرية. ذكر فقهاء المالكية أن مخالفة التقويم للشهادة موجب رد الشهادة في غير شهادة رؤية هلال الشهر الشرعي، فهو لا يوجب رد شهادة رؤية هلال الصوم وهلال الفطر. وللشافعية في هذا قولان، اختار السبكي رد شهادة الرؤية بتلك المخالفة (¬1) لأن الحساب قطعي والرؤية ظنية. وكلام فقهاء الحنفية غير صريح ولم أقف على قول الحنابلة. وبعد استعراض المذاهب في المسألة قال الشيخ ابن عاشور: الوجه الشرعي في نظري رد الشهادة باستبعادها كما في مختصر خليل. والقول بذلك يستند إلى أصل وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشهد حضري على بدوي" ولا شك أنه لو ادَّعَى شاهدان أنهما رأيا الهلال في مكان غيّم الغيم سماءه أن لا تقبل شهادتهما. وفي شهر الحج تكون رؤية هلال ذي الحجة بواسطة المرصد، ويعتبر بحالة مكة وما حولها، لأن الحج عبادة يقوم بها الحجيج الذين يحلّون بمكة، فمبدأ تلك العبادة هو الشهر الذي كان مبدؤه بمكة. وقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة 18 (6/ 3) ينص على أمرين: أولاً: إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصيام والإفطار. ثانياً: يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي ¬

_ (¬1) ابن عابدين. رد المحتار: 2/ 92.

3 - حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة وحول الميت وحول قبره عند دفنه

والمراصد، مراعاة للأحاديث النبوية، والحقائق العلمية (¬1). 3 - حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة وحول الميت وحول قبره عند دفنه ورد هذا السؤال على الشيخ ابن عاشور طلباً لبيان حقيقة هذا الأمر وتطلعاً إلى وجه الحكم فيه. فكتب يقول أولاً: إن السنّةَ في المحتضِر، وفي تشييع الجنازة، وفي وقت الدفن هي الصمت للتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت بالمغفرة والرحمة. فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوّة الإجابة. وأما قراءة القرآن على الميّت حين موته، أو حين تشييع جنازته، وحين دفنه فلم تكن معمولاً بها في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزمان الصحابة، إذ لم ينقل ذلك في صحيح السنّة والأثر، مع توفر الدواعي على نقله لو كان موجوداً، إلا الأثر المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت، على خلاف فيه. ولهذا كان ترك القراءة هو السنّة، وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة. وبعد هذا التقرير الذي لا يدفعه دافع ولا يردّه منكر، التفت الشيخ إلى بيان حكم من فعل ذلك. وهذا القسم من الإجابة هو المبحوث فيه على الحقيقة والمختلف عليه. فجاء في الجزء الثاني من فتواه قوله: وحينئذٍ تكون قراءة القرآن في تلك الصورة إما مكروهة، وإما مباحة غير سنة فتكون مندوبة، وإما مندوبة في بعضها دون بعض. وفي ختام هذه الفتوى ورد قوله: وعليه فكل من يتصدّى لمنع ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي بجدة: 37.

أقارب الأموات من تشييع جنازتهم بالقراءة فقد أنكر عليهم بغير علم، واجترأ عليهم بالتدخل بدون سبب يحق له ... فإن هم تجوزوا ذلك، فحق على ولاة الأمور في البلدان أن يدفعوا عن أهل المأتم عادية من يتصدى بزعمه لتغيير المنكر دون أن يعلم. وتفصيل القول في ذلك يعود أولاً إلى ما يشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من خصال تقتضي أن يكون رفيقاً بما يأمر، رفيقاً بما ينهى، وعدلاً بما يأمر، عدلاً بما ينهى، وعالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى (¬1). فإن لم يقدر الداعي على القيام بواجب الدعوة إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه. وذلك إنما هو إلى السلطان، لأن شهره للسلاح بين الناس قد يكون مخرجاً للفتنة، وآيلاً إلى فساد أكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬2). وإلى هذا المعنى أشار بعض المفسّرين حين قالوا: لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والذي يقرر هذا المعنى هو مدلول النص القرآني ذاته. فهناك دعوة إلى الخير، ولكن هناك كذلك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان فإن الأمر والنهي لا يقوم بهما إلا ذو سلطان. وقد عزز الإمام الأكبر هذه المعاني بقوله: وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية، إلا أني أنبّه إلى شرط أساء فهم بعض الناس له، وهو قول بعض الفقهاء: يشترط أن لا يجرّ النهي إلى منكر أعظم. ولما كان تعيين الكفاءة ¬

_ (¬1) الخلال. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 79 - 80. (¬2) ابن العربي. الأحكام: 1/ 383.

4 - إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية

للقيام بهذا الفرض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراتب القدرة على التغيير وإفهام الناس ذلك، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها وسمّوا تلك الولاية الحسبة (¬1). وقد أثارت هذه الفتوى كسابقتيها جدلاً قوياً ونزاعاً عنيفاً ومهاجمة للإمام الأكبر في علمه وورعه والتزامه المنهج العلمي في تقريره، وسلقته أقلام جريدة البصائر الجزائرية بألسنة حداد (¬2). وإنا لنعجب من هذا كله خصوصاً إذا تأمّلنا المحاور الثلاثة التي جمعها هذا النص، وقدّرنا ما في التحامل على صاحب الفتوى من تعصّب وعناد، دفعت إليهما ظروف المعركة الإصلاحية بالجزائر، وقامت على اتجاهاتها حركتُهم. 4 - إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية تردّد النظر في إلحاق حكم راكب الطائرة وحكم راكب السفينة إذا كان محل نزوله بأرض الحجاز متجاوزاً ميقات الإحرام المعيّن من طرف أهل الفقه. والأصل المعتمد في ذلك هو ما رواه ابن نافع عن مالك: لا يُحرِم الحاج في السفينة. وهذا يحتمل وجوب النزول إلى الميقات. وفيه مشقّة ينبغي نفيها عن الدين. ويحتمل أن يريد أنه يرخص له تأخير الإحرام إلى النزول إلى الأرض. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 4/ 41 - 42. (¬2) جريدة البصائر الجزائرية، س 1، ع 16 - 22، من 24 أبريل 1936 إلى 5 جوان 1936.

وما رواه أيضاً في النوادر عن محمد بن المواز. قال مالك: من حج في البحر من أهل مصر وشبههم، يحرم إذا حاذى الجحفة. اهـ. وظاهره أن ذلك حكم إحرامه، ولا يجوز له تجاوز سمت المحاذاة غير محرم بالنيّة والتجرد من مخيط الثياب. وفصّل سَنَد فقال: إن كان المسافر في البحر محاذياً للبر، مثل السفر في بحر القلزم، أحرم إذا حاذى ميقات أفقه، لأنه يمكنه النزول إلى البر ليحرم من ميقاته - أي بدون مشقة، لأن البر قريب - ويجوز تأخير الإحرام للمشقّة، لكن عليه هدي لأن التأخير رخصة، والرخصة تدفع الإثم في التجاوز ولا تسقط وجوب الهدي. وأما من سافر في بحر لا يحاذي الشواطىء، مثل بحر الهند وبحر اليمن وبحر عيْذاب، فيجوز له تأخير الإحرام ولا هدي عليه، لأنه إذا جاز له التأخير انتفى وجوب الهدي، حتى يدل دليل على وجوب الهدي مع جواز التأخير، ولا دليل عليه. فلا يحرم حتى يصل إلى البر، إلا أن يخرج على البر أبعد من ميقات أفقه. اهـ. ووافقه القرافي في الذخيرة، وابن عرفة، والتادلي وابن فرحون في شرح ابن الحاجب وفي مناسكه. قال الحطاب: وشاهدت الوالد يفتي به غير مرة. اهـ. وبعد ذكر المراجع المعتمدة التي أكدت رأي سند ووافقته تخلّص الإمام الأكبر إلى ذكر فتواه قائلاً: الحق أنه لا يحرم حتى ينزل إلى البر، لأن تكليف النزول في أثناء السير لأجل الإحرام مشقة، وتكليفهم الإحرام في السفينة مشقة أيضاً لطول مدة التجرد ولوازم الإحرام. أما المسافر في الطائرة فهو لا يمر بالأرض أصلاً، ولا يتصور

5 - وجه تحريم وصل الشعر أو الباروكة

فيه إمكان النزول قبل الوصول إلى المنازل الملائمة لنزول الطائرة، فلا يتصور فيه إمكان النزول حتى يرخص له التفادي عنه بالإحرام في الطائرة، ولأن الإحرام في الطائرة مشقة ومضرّة، لشدة برودة الجو، ويحتاج إلى التدثر بالثياب، وفي الغالب لا يوجد في ثياب الإحرام ما يصلح للتدثر. وأما موقع الإحرام في صورة من لا يحرم حتى ينزل إلى البر، ففي شرح الحطاب عن سند: لا يرحل الحاج عن جدة إلا محرماً، لأن جواز التأخير إنما كان للضرورة، وهل يحرم إذا وصل البر، أو إذا ظعن من جدة؟ الظاهر إذا ظعن، لأن سنة من أحرم وقصد البيت أن يتصل إهلاله بالمسير. اهـ. (¬1). 5 - وجهُ تحريم وصل الشعر أو الباروكة هذه قضية لم يسأل عنها الإمام الأكبر ليفتي فيها برأي، وإنما هي من الموضوعات التي تناولها في تفسيره (¬2)، ونبّه عليها في مقاصده (¬3). وقد اشتهرت بين الناس الأحاديث الخمسة التي صدّر بها ابن حجر تفسيره للباب 8 باب وصل الشعر، من الكتاب 77 كتاب اللباس من فتح الباري (¬4). وهي حديث معاوية الذي يقول فيه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) نشرت هذه الفتوى بعد وفاة الإمام. الهداية: 5/ 2، ذو القعدة 1397/ نوفمبر 1977: 21. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 5/ 205 - 206. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. مقاصد الشريعة: 269. (¬4) ابن حجر. فتح الباري: 10/ 375.

ينهى عن مثل هذا (أي وصل الشعر). ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم"، يشير إلى ما في وصل الشعر بقَصة منه من التزوير. وحديث أبي هريرة: "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة". وحديث عائشة: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جارية من الأنصار تمعط شعرها فقالت: أَفَنَصِلُها؟ فأنكر النبي عليها ذلك. وحديث أسماء بمعنى السابق، وكذا حديث ابن عمر. وقد استنبط الفقهاء من الحديث الأول حكم وصل الشعر واختلفوا في ذلك مذاهب متعددة: قال الجمهور بمنع وصل الشعر بشيء آخر سواء كان شعراً أم لا. وقال الليث: الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر. وعن سعيد بن جبير: لا بأس بالقرامل. وفرّق بعضهم بين ما إذا كان ما وصل به من الشعر من غير الشعر مستوراً بعد عقده مع الشعر، وبين إذا ما كان ظاهراً. فمنع الأول فقط قوم لما فيه من التدليس، وأجاز بعضهم الوصل مطلقاً سواء كان بشعر آخر أو بغير شعر إذا كان بعلم الزوج وإذنه (¬1). ودلت الأحاديث الأربعة الأخرى على حرمة وصل الشعر للفاعل والمفعول به. واعتبر العلماء ذلك النهي نهيَ تحريم لا نهي تنزيه. ويقابل هذه الآراء أو بعضها ما جاء في كلام عائشة من أن ¬

_ (¬1) ابن حجر. فتح الباري: 10/ 375.

6 - تعدد الزوجات

المراد بالواصل المرأة تَفْجُر في شبابها ثم تصل ذلك بالقيادة (¬1). قال الشيخ ابن عاشور: وقد كانت تتخذ من هذا التزيين سمة لها، وجرت العواهر والمشركات على ذلك. وإلا فلو فرضنا هذه منهياً عنها لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك. وليس من تغيير خلق الله التصرفُ في المخلوقات بما أذن الله فيه، ولا ما يدخل في معنى الحُسن ... وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنما يكون إثماً إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان (¬2). وإذا عدنا إلى مقاصد الشريعة وجدنا الإمام الأكبر يقول في سياق حديثه في هذا الموضوع: ومن معنى حمل القبيلة على عوائدها في التشريع إذا روعي في تلك العوائد شيء يقتضي الإيجاب أو التحريم يتضح لنا دفع حيرة وإشكال عظيم يعرض للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه مفسدة بحال مثل تحريم وصل الشعر للمرأة، وتفليج الأسنان، والوشم في حديث ابن مسعود ... فإن الفهم يكاد يضلّ في هذا، إذ يرى ذلك صنفاً من أصناف التزيّن المأذون في جنسه للمرأة ... فيتعجب من النهي الغليظ عنه. ووجهه عندي الذي لم أر من أفصح عنه أن تلك الأحوال كانت في العرب أمارات على ضعف حصانة المرأة. فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها (¬3). 6 - تعدد الزوجات في هذا الموضوع كلام مفصّل جليل لا يجوز أن يُنْحَرَف به إلى ¬

_ (¬1) ابن حجر. فتح الباري: 10/ 375. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير، الآية 124: 5/ 206. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 269.

إباحة تعدد الزوجات أو منعه، وإنما هو الرخصة المقيّدة، تَحدَّثَ عن جميع ملابساتها الإمام الأكبر في تفسيره لقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬1). وبذلك تحصَّل القول الفصل من كلامه في مفردات عديدة قصدها الشارع أو نبّه عليها، نقف عند بعضها لمزيد البيان. فمن ذلك: أحوال وأحكام النكاح في الجاهلية والإسلام، وتحديد عدد الزوجات وتوزيعه، وأهداف التعدد، والعدل بين النساء، والاكتفاء بالواحدة والاقتصار عليها لمن لا يستطيع العدل بينهن، أشار إلى المقارنة بين ما كان عليه الزواج في الجاهلية وما جاء به الإسلام بقوله: قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي وقتادة: كانت العرب تتحرَّج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء. فكانوا يتزوّجون العشرة فأكثر فنزلت الآية في ذلك. وعلى هذا القول فمحل الملازمة بين الشرط والجزاء إنما هو فيما تفرع عن الجزاء من قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ... وقال عكرمة: نزلت في قريش. كان الرجل يتزوج العشر فأكثر، فإذا ضاق ماله عن إنفاقهن أخذ مال يتيمة فتزوج منه. وقال مجاهد: الآية تحذير من الزنى. وليس قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إثباتاً لمشروعية النكاح، لأن الأمر معلّق على حالة الخوف من الجَور في اليتامى، فهو إذن للإرشاد. ومشروعية النكاح ثابتة بالإباحة الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع، ونكاح المقت، والمحرّمات من الرضاعة، والأمر بأن لا يخلو النكاح من الصداق. ¬

_ (¬1) النساء: 3.

وتعدّد الزوجات مع التوزيع مثنى وثلاث ورباع يكون باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطَّوْل، والزيادة على الأربع محرّمة بالسنة تمهيداً لشرع العدل بين النساء. فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن مسلمة حين أسلم على عشر نسوة: أمسك أربعاً وفارق سائرهن. وظاهر الخطاب للناس يعم الحر والعبد عند مالك، وهو قول أبي الدرداء، والقاسم بن محمد، وسالم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومجاهد. وبه قال أبو داود خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. وينسب التنصيف للعبد إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وابن سيرين، والحسن. وإنما شرع تعدّد الزوجات للقادر العادل لمصالح جمة: منها تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها، ومنها كفالة النساء اللائي هن أكثر من الرجال عدداً، ومنها الحيدة عن الزنى الذي حرمته الشريعة لما يجر إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب وانتظام العائلات، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلا للضرورة. والاقتصار على الواحدة حق لمن يخاف عدمَ العدل بين الزوجات، أي عدم التسوية بينهن في النفقة، والكسوة، والبشاشة، والمعاشرة، وترك الضر عن كل ما يدخل تحت قدرة المكلف وطوقه دون ميل القلب. وقوله: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إشارة إلى الحكم الذي يسلم معه الإنسان من الجور. فإن التعدّد يعرّض المكلَّف إلى الجور، وإن بذل جهده في العدل لما في النفس من رغبات وغفلات. وهكذا يصبح الاقتصار على المرأة الواحدة ساداً لذريعة الجور، كما تتضمن الآية ترغيباً في الاقتصار على الواحدة تقليصاً للنسل وتقليلاً للنفقة فيبقيان على الزوج مالَه ويدفعان عنه الحاجة.

7 - حكم التجنس أو فتوى التجنيس

وفي بيان هذه الأحكام وتقريرها في تفسير الإمام التحرير والتنوير ما يبطل تأوّلات المخالفين، وتقولات الملفّقين، ويدفع المؤمنين إلى الالتزام بشرع الله والعمل بكتابه وسنة رسوله (¬1). 7 - حكم التجنس أو فتوى التجنيس التجنّس: الحصول على جنسية، وأصله فهو مطاوع للأول، والتجنيس والجنسية هي الصفة التي تلحق بالشخص من جهة انتسابه لشعب أو لأمة. وحكم التجنس، أو فتوى التجنيس، قضية شاعت في البلاد التونسية وشغلت الناس كلهم بداية من العقد الثاني للقرن العشرين. وسببها في حقيقة الأمر موقفان متناقضان متدافعان: موقف المحتل الأجنبي الفرنسي، وموقف المناضل المكافح التونسي. يدعو الأول إلى تكثير سواده في البلد بإدخال العناصر الكثيرة المتساكنة بتونس من إيطاليين ومالطيين ويهود وغيرهم في جنسيته ليكونوا فرنسيين، وفي صفه. ويفتح الباب على مصراعيه لتحويل السكان الأصليين العرب عن قوميتهم والإنعام عليهم بجنسية الحاكم المغتصب. وشرعت لهذه الغاية قوانين التجنس: الأول الصادر بتونس في 3/ 10/ 1910، والثاني المؤرخ في 20/ 12/ 1920. ثم محاولة التجنيس بصفة أوسع وأشمل في 1933 للسيطرة على كل المؤسّسات والهيئات النيابية وبالزيادة الملموسة في مرتبات حاملي الجنسية الفرنسية بتونس من أصحابها ومن الملحقين بهم. ويتولّى الثاني الدفاع عن بلده والذود عن حوضه وبذل كل الوسائل ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 4/ 222 - 229.

واستخدام كل طرق المقاومة والكفاح من أجل أن يبقى وطنه محافظاً على هويته، متميزاً بقيمه وعاداته وتقاليده، وعقيدته وشرعه ونظامه، غير قابل للاستلحاق ولا للذوبان في الغير مهما كان هذا الغير. وسبق كل تدبير كيدي من الفئة الأولى ما روّجته الفئة الثانية عن المتجنس من كونه مفارقاً للجماعة، فاراً من الأحكام الشرعية إلى الأحكام الأجنبية، مرتداً عن الإسلام، لا ينبغي أن يعامل معاملة المسلمين ولا أن يدفن في مقابرهم. وحين أيقن الفرنسيون بقصورهم عن تحقيق رغبتهم والوصول من وراء قوانين التجنيس إلى هدفهم قرروا استعمال الحيلة. وجرت مشاورات بين المقيم العام ممثل فرنسة، والباي حاكم البلاد، والوزير الأكبر للحكومة التونسية. وتقدم الجانب الفرنسي عن طريق الوزير الأكبر باقتراح استصدار فتوى في التجنيس من المجلس الشرعي بقسميه الحنفي والمالكي تسهيلاً لإقبال التونسيين على الدخول في الجنسية الفرنسية. ونص السؤال المطروح على المجلس الشرعي: إذا اعتنق شخص جنسية يختلف تشريعها عن أحكام الشريعة الإسلامية، ثمّ حضر لدى القاضي الشرعي ونطق بالشهادتين، وأعلن أنه مسلم، وأنه لا يرتضي غير الإسلام ديناً. هل يحق له طول حياته أن ينتفع بنفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المسلمون؟ وهل يحق له بعد وفاته أن تُصلى عليه صلاة الجنازة، وأن يدفن في مقبرة إسلامية؟ ما من شك في أن هذا السؤال قد تسرّب إلى أوساط كثيرة، ولمّا تقعِ الإجابة عنه من طرف فقهاء الشريعة، وقد أثار مع الغموض إشاعات عديدة منها: أن الحكومة (الفرنسية) ضغطت على المجلس الشرعي لإصدار فتوى موالية للمتجنسين ولفائدتهم، كما حملت الأنباء

صحفَ المعارضة الصادرة يومئذٍ بالفرنسية: العمل التونسي، وصوت الشعب، وصوت التونسي، على إطلاق صيحة الفزع منذرة بأن الجنسية التونسية أصبحت مهدّدة بالخطر، وأن عملية التجنيس سوف تستشري بسبب ما روّجته العامة من احتفاظ المتجنّسين بحقوقهم كمسلمين. ومن ثم استطاعت الصحف الوطنية بواسطة الحملة الصحفية التي نظمتها إثارة الرأي العام التونسي، وبث روح المناهضة للمسلمين المتجنسين بصورة تكاد تكون جماعية. ومثل هذه الحملة التي أُسقط بها ما بأيدي الفرنسيين، وقضت بالانتصار عليهم، قد مسّت بشدّة وعنف أعضاء المجلس الشرعي، وبخاصة الإمام الأكبر، لترويج المعادين له والمتحاملين عليه بأنه كان متعاوناً مع الاستعمار وموالياً له في قضية التجنيس. وربما كان في مثل هذا التصرّف تخييب لآمال المستعمرين بما نتج عن هذا الموقف العدائي من فجوة عميقة وبُعدِ شقّة بين الأمة وقادتها العلماء، فلا ينفع المستعمر بعد ذلك الالتجاء إليهم، أو سدّاً لطريق انزلاق الفقهاء وراء استفتاء الإقامة العامة بما يعزّز موقفها ويكون حرباً على الحركة الوطنية وأصوات المعارضة. وجدَّت أحداث كثيرة فحيل بين المتجنسين وبين دفن موتاهم في مقابر المسلمين. وكان الإضراب العام الذي أغلقت بسببه الأسواق والمحلات التجارية يوم 14/ 12/ 1351 الموافق 8/ 4/ 1933، احتجاجاً على ما تخيّلوه أو توقّعوه من صدور فتوى التجنيس أو فتوى توبة المتجنس عند المجلس الشرعي. وكان إضرابُ طلبة الجامع الأعظم عن الدروس. وانتشر الاستنكار الشعبي في أطراف البلاد، وتظاهرت جماهير المواطنين أمام قصر الباي بحمام الأنف إعراباً عن استيائها من فتوى التجنيس. وتضاربت السياسة الوطنية ودارُ الشرع بسبب ما لفّق من أخبار

وادعي من تصرّفات لم تكن قائمة إلا في أذهان المتوهّمين والحمقى من الناس. وكادت تستعر نار الفتنة بين أفراد طبقات الشعب. وتحوّل الصراع فيما بين المستعمر والمواطنين إلى ما كاد أن يقضي على وحدة الشعب وتماسك طبقاته وأفراده. وما هي إلا فترة حتى رفع الحجاب عن حقيقة تلك الفتوى، وظهرت للتونسيين فتوى عامة تحملُ في سطورها ونصوصها مواقف التأييد والمناصرة للشعب، والرفض لما كان يلتمسه المستعمر من الشيوخ من تيسير التجنيس وتسهيل أمره، بضمان حقوق للمتجنسينَ قد تنازلوا عنها بتجنّسهم وابتغائهم الانتساب إلى أمة غير أمتهم ووطن غير وطنهم. وشاهدُ ذلك أولاً ما أجاب به فقهاء الحنفية بالإثبات في جواب مختصر على صيغة الاستفتاء المذكور أعلاه. واختلفت فتوى الدائرة المالكية عن فتوى الدائرة الحنفية إذ أضافت إلى وجوب النطق بالشهادتين لدى القاضي الشرعي التصريحَ في الوقت نفسه بأن (المتجنس) يتخلّى عن الجنسية الجديدة التي اعتنقها. وتضيف فتوى المالكية في تقرير مونصورن: ولا يهم كثيراً بعد ذلك لو احتفظ بالجنسية التي اعتنقها وبقي خاضعاً لقوانينها إذا ما تعذر عليه التخلّص منها. وزاد أحد أعضاء المجلس الشرعي من المالكية: ينبغي أن تتمثل توبة المتجنس في الإقلاع عن الامتيازات التي تحصّل عليها بموجب جنسيته الجديدة. وعقَّب صاحب التقرير على هذين النصين من فتوى الأحناف وفتوى المالكية بقوله: لكن فتوى المالكية تجعل من المستحيل الإقدام على نشرهما. وفي هذا تبرئة للعلماء مما ألحق بهم، وتجنيب لهم مما وُصِمُوا به. وهذه شهادة من خَصمٍ لم يتمكن من الاستفادة من فتوى التجنيس أو ردة المتجنس، فأسرّها ولم يعلنها إلا في

8 - الإفطار في رمضان

التقرير الذي رفعه إلى وزير الخارجية الفرنسي في ذلك العهد. وكما جاءت الشهادة بهذه البراءة وبالتقيّد بالملة والدين آل رجال الشرع على أنفسهم قولَ الحق وخدمةَ دينهم. فظهر الجواب حول جواز ردة المتجنّس بشروط ذكروها استحال معها استغلال هذه الفتوى حسب المصادر الاستعمارية نفسها (¬1). ويضيف د. الغالي: ولكن الإشاعة الكاذبة روّجت لهذه الفتوى ونسبتها للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور للنيل من منزلته العلمية، وتعطيل جهوده الإصلاحية، والحدّ من إشعاعه (¬2). 8 - الإفطار في رمضان مثلما كانت الفتوى السابقة صراعاً مع الاستعمار وتمت بإذن الله الغلبة عليه. فإن هذه الفتوى كانت مواجهة للنظام في البلاد. ذلك أن الرئيس بورقيبة دعا الشعب التونسي إلى تعطيل فريضة الصيام، متعلّلاً بأن الشعب محتاج إلى مزيد بذلِ الجهدِ للتنمية والتقدم بالبلاد، واعتبر ذلك جهاداً أكبر يخرج به الشعب من التخلّف، ومن ثم فإنّ عليه مقاومة الكسل والخمول الذي يزيد بالصيام. ومن أجل ذلك حُمل الشعب على الإفطار ليقوى على عدوّه. وطلب الرئيس من الإمام الأكبر الإدلاء بتصريح في هذا الشأن، فقام رحمه الله بالإعلان في الإذاعة بأن الصوم ركن من الأركان الخمسة الأساسية للدين، وأن الإفطار لا يجوز إلا لأعذار حددها الشرع لا يمكن تجاوزها، وأن من أفطر متجاوزاً ما حدده الشرع فإن عليه القضاء والكفارة. * * * ¬

_ (¬1) المختار العياشي. البيئة الزيتونية. تقرير حول قضية التجنيس: 269 - 278. (¬2) شيخ الجامع الأعظم: 145.

علوم الوسائل: علوم اللغة والعربية والبلاغة والأدب

علوم الوسائل: علوم اللغة والعربية والبلاغة والأدب علوم العربية هي الأساس في معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم. وسبيل الوصول إلى ذلك لمن لم يكن عربي السليقة هو أن يحذق علوم اللسان العربي، ثم يبذل الجهد في اكتساب الذوق بالاطلاع على استعمالات العرب وأساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم. ويدخل في هذا ما يجري مجرى الاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين (¬1). فإذا حصل هذا الأمر لهم، واكتملت لدى الدارس أصوله وقواعده، ومسائله وأحكامه، استطاع بدون ريب أن ينفذ في قراءته وتدبره للنصوص إلى أدق المعاني وأخفاها وأكمل الصور التعبيرية وأنفسها. ولاكتمال المعرفة بأساليب الكلام البليغ لا بد من تصور ذلك نظراً، وإدراكه تطبيقاً، وحضور ذهن. وقد جمعت تآليف الإمام الأكبر بين هذه الجوانب، وخاصة في تفسيره للقرآن، وشرحه للسُّنة، وتفصيله وبيانه للنصوص البديعة الواردة من كلام العرب في أشعارها وخطبها ورسائلها. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 18.

وإنه لمن المفيد في هذا الباب عندما نتحدث عن عنايته بالمادة اللغوية أن نذكر أمثلة لذلك نستجليها من التحرير والتنوير قبل أن نتحدث عن تحقيقاته اللغوية، أو مباحثه ومقالاته في هذا الفن. وكذلك نفعل بعدُ إن شاء الله عند التأمل في عرضه لقوانين العربية وأساليب العرب في أفانينها القولية وتصرفاتها النظمية. وإنه ليكفي للوصول إلى هذه الغاية أن تمد يدك إلى أية صفحة من صحف التحرير، في أية آية تعرض لك، وأيّ موضوع يطالعك لتلمس من قريب طريقته، وتقف على منهجه في كل علوم اللغة وأسرارها. فهو عندما يقف عند اللفظ لتفسيره وبيان مدلوله يهتم بالكشف عن معانيه بضبط وتحقيقٍ، مما خلت عن ضبطه كثير من قواميس اللغة (¬1)، ويتصرّف في إبراز ذلك بذكر أصله وبيان اشتقاقه، والإشارة إلى جملة معانيه مستجلياً الأفهام المختلفة منه، مقارناً بينها ومرجحاً، بحسب ما يقتضيه السياق ويحدّده المقام. وبقدر ما يعتمده من النقول عن اللغويين وأئمة الأدب المتقدّمين في ذلك، يلجأ في غالب الأحيان إلى الطريقة التطبيقية من خلال القواعد العربية للكشف عن دلالات المادة اللغوية، كما كان يفعل الأئمة من رجال القرن الرابع. وهنا عيّنات من التفسير للمادة اللغوية نكتفي منها بأمثلة ثلاثة: هي تفسيره أو تعريفه للملائكة، وبيانه وتحقيقه لمعنى المال، وضبطه وتفريقه بين السَّلْم والسَّلَم. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 8.

عينات من المادة اللغوية

عيّنات من المادّة اللغوية: 1 - الملائكة قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬1). بدأ صاحب التحرير والتنوير بالحديث عن صيغة الملائكة في الجمع والإفراد. فقال: (الملائكة) جمع (ملَك)، وأصل صيغة الجمع (ملائك)، والتاء لتأكيد الجمعية. والظاهر أن تأنيث الملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصّرين منهم، إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله، واعتقده العرب أيضاً. قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} (¬2). (فملائك) جمع (مَلْأَك) (كشمائل) و (شَمْأَل)، ومما يدل عليه أيضاً قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره: ولست لإنسيٍّ ولكن لِمَلْأَك ... تنزّلُ من جو السماء يصوِّب ثم قالوا: ملَك تخفيفاً. واختلفوا في اشتقاق (مَلَك) أو (مَلْأَك) على ثلاثة أقوال حكاها الإمام الأكبر: القول الأول: قول أبي عبيدة، والثاني قول الكسائي، والثالث ينسب إلى ابن كيسان. فعند أبي عبيدة هو (مَفعَل) من (لَأَكَ) بمعنى أَرْسَلَ. ومنه قولهم، في الأمر بتبليغ رسالة (ألِكْني إليه)، أي كن رسولي إليه. وأصل (ألِكني) (أَلْإِكْنِي)، وإن لم يعرف له فعل وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال، لأن الملائكة رسل الله، إما بتبليغ أو تكوين، كما في الحديث: "ثم يرسل إليه - أي للجنين في بطن أمه - الملَكَ ¬

_ (¬1) البقرة: 30. (¬2) النحل: 57.

فينفخ فيه الروح". فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول. وهو عند الكسائي مقلوب، ووزنه (مَعْفَل). وأصله (مَأْلكَ) من (الألُوك) و (الألوكة) وهي الرسالة. ويقال: (مَألَك) و (مَأْلوك). فقلبوا فيه قلباً مكانياً فقالوا: (مَألك)، فهو صفة مشبهة. وقال ابن كيسان: هو مشتق من (المَلْك). والمَلْك بمعنى القوة. قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} (¬1). والهمزة مزيدة فوزنه (فَعْأَل) (كَشَمْأَل). وفي الترجيح بين هذه الأقوال ذكر صاحب التحرير أن قول ابن كيسان هذا مردود بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة. ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل. فترجّح مذهب أبي عبيدة. وروى القرطبي عن النضر بن شميل أنه لا اشتقاق للملك عند العرب. وإنما هي كلمة معربة عن العبرانية. ويؤيِّد هذا أن التوراة سمت الملك ملاكاً. وليس وجودُ كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغة بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة يتعيَّن ذكرها. وفي بيان المراد من لفظ الملائكة يقول الشيخ ابن عاشور: هي مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير، قادرة على التشكّل في خرق العادة، لأن النور قابل للتشكّل في كيفيات، ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له. فلذلك لا تضيء إذا اتصلت بالعالم الأرضي. وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يَظهر بَعضُهم لبعضِ رسلِه ¬

_ (¬1) سورة التحريم: الآية 6.

وأنبيائه على وجه خرق العادة. وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها، فتتولى التدبير لها. ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها. وهي مضادة لتوجهات الشياطين. فالخواطر الخيرية من توجّهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية، وبعكسها خواطر الشر (¬1). وفي هذا التعريف للملائكة جزآن: الأول: عرض له أكثر اللغوين وتركوا الثاني. فالذي تعرضوا له هو بيان اللفظ من حيث صيغته واشتقاقه. ورد هذا مجملاً في بصائر ذوي التمييز؛ ومفصّلاً عند ابن الأنباري في كتابه الزاهر. وزاد هذا من الشواهد الشعرية عليه قول لبيد: وغلام أرْسَلَته أمُّه ... بألُوك فَبذلْنا ما سأل وألُوك في البيت بمعنى الرسالة، كما ورد بنفس المعنى لفظان آخران المَألك والمَلْأك. قال عدي: أبلغ النعمان عني مَأْلكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري وقال آخر: أيها القاتلون ظلماً حسيناً ... أبشروا بالعذاب والتنكيل كل أهل السماء يدعو عليكم ... من نبي ومَلْأك ورسول كما ورد على لفظ (ألكِني) قول أبي ذؤيب الهذلي: ألِكني إليها وخيرُ الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 2، 397 - 398.

2 - المال

وبلفظ الملائك، هكذا بلا هاء، جاء قول حسان: بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ... فأنصاره حقاً وأيدي الملائك وقد تميز هذا القسم الأول من التعريف بلفظ الملائكة في التحرير والتنوير بذكر أن التاء فيه لتأكيد الجمعية، وارتباط صيغة التأنيث للملائكة بمعتقد نصارى العرب. وبحث لفظ "ملائكة" وذكر مفرده، وقارن بين آراء أبي عبيدة والكسائي وابن كيسان والنضر بن شميل في اشتقاقه ومعناه. الثاني: تناول بيان حقيقة الملائكة من الناحيتين الخلقية والسلوكية (¬1). 2 - المال قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). قال في التعريف بهذه المادة عن طريق ذكر ما ورد في النصّ القرآني: الأموال جمع مال. ولم ينظر إلى صيغة اللفظ ولا إلى اشتقاقه للعلم بهما، ولكنه جرى في هذا المحل على طريقة المناطقة والعلماء من أصوليين وفقهاء ونحاة وغيرهم، فوضع حدّاً جامعاً مانعاً مطرداً منعكساً معرفاً المال بقوله: "ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح". ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 2، 397 - 398؛ محمد الحبيب ابن الخوجة. الجانب اللغوي والبياني في التحرير والتنوير: 14 - 17. (¬2) البقرة: 188.

وفي هذا التعريف منع لدخول المواهي غير المقصودة من لفظ المال في الحد، واتساع شمول الأنواع المختلفة المدلول عليها به. ولذلك عقب الحد بقوله: فلا يعد الهواء مالاً، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً، ولا التراب مالاً، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً. ثم قابل هذه الأشياء بأجناسها مما في اكتسابه كدح وعمل، فأدخلها في مسمى المال قائلاً: ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً، وتراب المقاطع مالاً، والحشيش والحطب مالاً، وما ينحته المرء لنفسه في جبل مالاً. ولم يبادر إلى ذكر الأموال بذواتها، ولكنه رتب هذا على ذكر أنواع المال الثلاثة ليميز كل واحد منها بما يندرج تحته من صنوف، فيواطىء بهذا المعنى اللغوي المعنى الشرعي. فالنوع الأول يتمثل فيما تحصل منه تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيءٍ أجنبي. وهو الأطعمة كالحبوب والثمار والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه. قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬1). وقال تعالى: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (¬2). وقد مضى بعد ذلك إلى الاستشهاد على مراده بالآثار والشعر. فذكر عن عمر قوله: "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً". وقال: وسَمَّت العرب الإبلَ مالاً كما في قول زهير: صحيحياتِ مال طالعات بمخرم ¬

_ (¬1) النحل: 80. (¬2) غافر: 79.

ثم أردف ذلك ببيان أفضلية هذا النوع على غيره من الأموال، مورداً من الحديث في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وإنما مالك ما أكلت فأمريت، أو أعطيت فأغنيت". ونبّه عقب هذا الحديث على أن الحصر فيه للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي. والنوع الثاني هو ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله، ممّا يتوقّف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ وللإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك. وهذا النوع دون النوع الأول. والنوع الثالث ما تحصل الإقامة بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضاً لما يراد تحصيله من الأشياء. وهذا هو المعبّر عنه بالنقد أو بالعملة. وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة أو على غيرهما مما يقوم مقامهما كالنحاس والودع والخرزات والحديد الأبيض والأوراق المالية. والمراد بالفصل الوارد في التعريف، وهو قوله: حاصلاً بكدح؛ حصوله أو اكتسابه بسعي فيه كلفة ومشقة. ولإكمال تصوير هذا الحديث للمال بيَّنَ المؤلف طرقَ اكتسابه وهي ثلاثة: الطريق الأول: طريق التناول من الأرض بلا مزاحمة أو بمزاحمة، فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة. الطريق الثاني: الاستنتاج بالولادة والزرع والغرس والحلب، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح. والطريق الثاني: هو التناول من يد الغير، فيما لا حاجة له به،

3 - السلم

إما بتعامل بأن يعطي المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيرُه، ويأخذ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قدّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقومٍ بهما، وإما بقوّةٍ وغلبةٍ كالقتال على الأراضي وعلى المياه (¬1). 3 - السِّلْم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (¬2). ورد لفظ السِّلْم بأوجه ثلاثة: بفتح وكسر السين مع سكون اللام، والسَّلَم بفتح السين وَاللام. الوجه الأول: بفتح السين وسكون اللام؛ قرأ به نافع وابن كثير والكسائي وأبو جعفر. الوجه الثاني: بكسر السين وسكون اللام؛ قرأ به باقي العشرة. الوجه الثالث: بفتح السين واللام جميعاً، وورَدَ به قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬3)، وقوله عز وجل: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (¬4). وبعد ذكر هذه الأوجه ذهب صاحب التحرير والتنوير إلى بيان معنى السلم. فقال: هو الصلح وترك الحرب. وأنشد عليه قول عباس بن مرداس: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 1، 187 - 189. (¬2) البقرة: 208. (¬3) النساء: 94. (¬4) النساء: 90؛ وغيرها كذلك في النحل والزمر.

السَّلمُ تأخذُ منها ما رضيتَ به ... والحربُ تكفيك من أنفاسها جُزَعُ بفتح السين، وأنشد عليه قول زهير: وقد قلتما إن ندرك السَّلْم واسعاً وبكسر السين اشتقاق السلم من السلامة، وهي النجاة من ألم أو ضر أو عناد. وأسلم نفسه: أعطاه إياها بدون مقاومة. واستسلم: طلب السِّلم، أي ترك المقاومة. تقول العرب: أسِلْم أم حربٌ؟ بمعنى أأنت مسالم أم محارب. هذه المعاني كلها كما ذكر الإمام بعضها من بعض. وهو ما جزم به أئمة اللغة. ومن معاني السلم بلغاته الثلاث دين الإسلام. قال هذا ابنُ عباس ومجاهد وقتادة، وجعلوا شاهداً عليه قول امرىء القيس بن عابس الكندي: دعوتُ عشيرتي للسَّلم لمّا ... رأيتهمو تولَّوا مدبرينا فلست مبدّلاً بالله ربّاً ... ولا مستبدلاً بالسَّلم دينا وهذا من مقالات المفسّرين، ومن أخذ عنهم أو تأثّر بهم من اللغويين. ذكره بهذا المعنى صاحب الكشاف. وهذا الإطلاق غير موثوق به، ويحتمل بيت الكندي المسالمة، أي المسالمة للمسلمين، وقوله: ديناً، بمعنى العادة اللازمة. وفرق أبو عمرو بن العلاء فجعل السِّلم، بكسر السين: الإسلام. والسَّلم، بفتحها: المسالمة. وأنكر المبرد هذه التفرقة قَائلاً: اللغة لا تؤخذ هكذا، وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس. وبعد ذكره للروايات الواردة في استعمال لفظ السلم، واختلاف دلالتيه المفصّل القول فيهما، جعل هذا التصرّف من قبيل استعمال المشترك في معنييه، مطبقاً هذه القاعدة على الآية في استخلاص المراد منها

مسائل نحوية

على الاحتمالات الواردة الصحيحة (¬1). وبمثل هذا التتبع للمواد اللغوية تحريراً وضبطاً لصيغها، وكشفاً عن دلالاتها ومعانيها ننطلق في بياننا لمنهج صاحب التحرير إلى أمثلة أخرى تتعلق إما بأحكام العربية وقواعدها من نحو وصرف، وإما بأسرار التعبير والتصرفات القولية من فنون البلاغة. * * * ونقدم لبيان منهج الإمام في تحليله وتعمقه في دراسة القضايا النحوية أمثلة ثلاثة. هي الإشارة بـ "ذلك"، وورود اللفظ بدلاً أو عطف بيان، والمقاربة مع تفصيل القول فيها. مسائل نحوية: 1 - اسم الإشارة: (ذلك) قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} (¬2). فرّق الإمام في تفسير هذه الجملة بين {الم (1)} وبين {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. وقال في القسم الثاني منها: كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف (ال م) كما علمت ممّا تقدم. وهنا يبدأ النظر في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ببيان إعراب هذه الجملة تمهيداً للخلوص إلى معناها، وتحريراً للمراد منها باستعمال الطريقة نفسها التي جرى عليها الزمخشري في كشافه واستخدام قوانين اللغة وقواعدها للوقوف على أدقَّ المعاني وأخفاها. وأوجه الإعراب لـ "ذلك الكتاب" متعددة في تقديره وهي: إما أن تجعل من حروف (الم) جملة مسوقة مساق التهجّي ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 2، 275 - 278. (¬2) البقرة: 1، 2.

لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن. فيكون اسم الإشارة مشاراً به إليها باعتبار كون حروفها مقصودة للتعجيز، لأن حروفها من جنس حروف الكتاب. وعلى هذا الوجه تكون (الم) غير معربة ولا مبنية، واسم الإشارة ذلك مبتدأ، والكتاب خبراً. وإما أن تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذٍ، وهو ما نزل منه فعلاً منضماً إليه ما يلحق به. فيكون قوله: ذلك، مبتدأ، وخبره: الكتاب. وإما أن تكون الإشارة هنا إلى جميع القرآن، ما نزل منه وما لم ينزل، لأن نزوله مترقّب. فهو حاضر في الأذهان فأشبه الحاضر في العيان. ويكون التعريف للكتاب تعريفاً للعهد التقديري، وقوله: (الكتاب) حينئذٍ بدلاً أو بياناً من ذلك، والخبر هو (لا ريب فيه). ومن هذا الإعراب التصويري للجملة ينتقل إلى اسم الإشارة "ذلك". فيذكر مقالة ابن عباس: (ذلك الكتاب) أي هذا الكتاب. وهو ما قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما، وما رواه البخاري عن أبي عبيدة. ويكون ما ورد هنا من استعمال اسم الإشارة جرياً على طريقة العرب في إتيانها بالإشارة إلى البعيد مكان الإشارة إلى القريب الحاضر. ولتفصيل القول في ذلك ينقل الإمام الأكبر عن الرضي قوله: وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حساً، ويصحّ أن يشار به إلى الغائب فيصير الإتيان بلفظ البعد وارداً لأن المحكي عنه غائب، ويقلّ أن يذكر بلفظ الحاضر القريب. وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول: والله، وذلك قَسَم عظيم، لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب،

ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول: وهذا قسم عظيم (¬1). ولا يكتفي في هذا المقام بالاقتصار على مقالة الرضي، بل يرجع إلى ابن مالك في التسهيل ليحكي عنه تسويته بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة إلى كلام متقدم فيقول: وقد يتعاقبان - اسم القريب والبعيد - مشاراً بهما إلى ما ولياه من الكلام. ومثّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (¬2)، ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (¬3)، فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب، والمشار إليه واحد. وفي المقارنة بين هذا الكلام وما تقدم من قول الرضي يقول الإمام: وكلام ابن مالك أَوفَى بالاستعمال، إذ لا يكاد يُحصر ما ورد من الاستعمالين. فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة. ثم يمضي بعد هذا إلى تثبيت حكمه والاستدلال عليه بقوله: وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير حكم الإشارة إلى الكلام، في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً. ففي القرآن: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (¬4)، فإذا كان الوجهان سواءً كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال. ونحن قد رأيناهم يتخيّرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام. فدلّنا على أنَّهم يعرّفون مخاطبيهم ¬

_ (¬1) ابن الحاجب. شرح الكافية: 2/ 32. (¬2) آل عمران: 58. (¬3) آل عمران: 62. (¬4) القصص: 15.

بأغراض لا قِبَل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة، ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خُفاف ابن نَدبة: أقول له، والرمح يأطر متنَه، ... تأمّل خُفافاً، إنّني أنا ذلك ويجعلون من أسباب الإتيان بالقريب إظهار قلة الاكتراث، كما في قول قيس بن الخطيم من شعراء الحماسة: متى يأتِ هذا الموتُ لا يلفِ حاجة ... لنفسيَ إلا قد قضيت قضاءها وفي هذه الفقرة وما بعدها يجاوز المؤلف قولَه في إعراب الآية ونقولَه لمقالات النحاة، من أجل بيان المعنى المطلوب، إلى ذكر شتّى التصرّفات باسم الإشارة، تعليلاً لمقاصدها وبياناً لمحاملها. فيدعوه ذلك إلى الرجوع إلى قول الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ليبيّن ما انتهى إليه البحث من أن الإشارة في الآية كانت باستعمال اسم الإشارة للبعيد، لإظهار رفعة شأن هذا القرآن، بجعله بعيد المنزلة. وقارن هنا مرّة أخرى بين الاستعمال القرآني وما شاع في الكلام البليغ عند العرب من تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزّة المنال. فالكتاب هنا، لمّا ذكر في مقام التحدّي، ولما تضمّنه من صدق معانيه ونفع إرشاده، بعيدٌ عمن يتناوله بهُجر القول كَقولهم: "افتراء" وقولهم: "أساطير الأولين". ولا يعارض هذا التأويل ورود الإشارة إلى الكتاب باسم الإشارة للحاضر القريب كما في قوله سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} (¬2)، لأن الإشارة ¬

_ (¬1) الأنعام: 92. (¬2) الأنعام: 155.

في الآيتين إلى كتاب بين يدي أهله، يرغِّبهم في العكوف عليه والاتعاظ به. ويَعُود إثر هذا إلى الزمخشري مذكراً بأخذه بصنيع الرضي في التسوية بين الاستعمالين من عدم إرادة التنبيه على التعظيم أو الاعتبار في ذلك الكتاب. وقد جعل الإمام الأكبرُ السكاكي حَكَماً بين الزمخشري والرضي ومن خالفهما بقوله في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة: أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول، في مقام التعظيم: ذلك الفاضل وأولئك الفحول. وهذا مثل قوله عز وجل: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} ذهاباً إلى بعدِه درجةً (¬1). وإذا تقرّر هذا عاد الشيخ إلى بيان وجه إعراب "الكتاب" تكميلاً للفائدة فيذكرُ في ذلك قولين: الأول: يجوز أن يكون "الكتاب" بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته. فالتعريف فيه إذن للعهد ويكون الخبر هو "لا ريب فيه". والثاني: يجوز أن يكون "الكتاب" خبراً عن اسم الإشارة، ويكون التعريف تعريفاً للجنس، فتفيد الجملة قصرَ حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزأين. فهو إذن قصر ادعائي. ومعناه: ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب. وقد يعبر النحاة عن هذا التعريف باللام، في تعداد معانيها، بالدلالة على الكمال. وينحسر معنى القصر في الآية إلى معنى الإفادة الظاهرية للتعريف باللام والإشارة بذلك (¬2). ¬

_ (¬1) المفتاح. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 219 - 221.

2 - البدل وعطف البيان

2 - البدل وعطف البيان قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬1). من يقف على تفسير الإمام لهذه الجملة من آيات الفاتحة يطالعه منهج جديد في عرض قضايا العربية والمسائل النحوية. فإن اهتمام الشيخ بالجانب الأول ليؤكد كما في غير هذا الموضع من التحرير عنايته أيضاً بعلم المعاني وفنون التصرّف القولي. وإنّها لصلة وثيقة نبّه إليها العلماء من نحاة ورجال بلاغة لتقرير قواعدهم وتعليل أوجه التصرف في كلام العرب، بحسب ما حفظوه من قواعد وخلصوا إليه من معانٍ لدى وقوفهم عند أي لفظ أو تركيب من كلام الأوائل أو فحول الشعراء والكتّاب من الأدباء، ولا بدع إذا وجدنا هذا المزج بين الفنيْن عند تقرير أحكام اللغة العربية واستجلاء ما تدل عليه الاستعمالات والتصرفات من أفهام. فلترتيب أحد الصراطين على الآخر، وللوفاء بمعنى الجملة، تناول الإمام عدة مسائل لها اتصال أساسي وأكيد بالموضوع، واستدل على ما ذهب إليه بما ذكره الأئمة من علماء العربية والبلاغة، مناقشاً بعض تصوّرات النحاة. ثم ختم حديثه بعد ذلك بالمقارنة بين الوجوه البلاغية في هذه الآية وغيرها من أشباهها ونظائرها. وذكر آراء النحاة للتوصل إلى إفادة المعاني المطلوبة مع تعليل أقوال العرب وتحريرها من أجل تصحيح المناهج والأساليب، وبيان ما يتولد عن ذلك من مزايا التصرّفات ودلالاتها. ¬

_ (¬1) الفاتحة: 6، 7.

بدأ الإمام أولاً بإعراب {صِرَاطَ} الثانية من الآية بكونها بدلاً أو عطف بيان من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. وتساءل إزاء هذا التصرف القولي في الآية: لِمَ كان مثل قولك: (اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم) دون ما نطق به القرآن الكريم. ومعلوم أن الدعاء الذي علّمنا الله إياه يتأكّد ما صدقه بالأول، والثاني أو المستقيم ليس إلا وصفاً متمّماً له. وللإجابة عن هذا يذكر فائدتين للتصرّف القرآني يميِّزانه عن التأويل الذي ذكره بعضهم. وهو ما يقتضيه الترتيب المنطقي في نظرهم فيقول: الفائدة الأولى من ورود الآية على هذا الوجه الذي انتظمته سورة الفاتحة، هي اعتبار أن المقصود من الطلب ابتداءً كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة وسهلة. الفائدة الثانية هي تمكن معنى الصراط في نفوس المؤمنين فضلَ تمكن. وهذا ما يقتضيه في تصرفات الكلام الإجمالُ المعقَّبُ بالتفصيل. وممّا يقوي هذا الوجه في التقدير حصولُ فائدة من التركيب مثل ما للتوكيد المعنوي، وإفادة هذا الأسلوب تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيقَ مفهومه في النفوس بما يحصل من ذكره مَرَّتين، فيشبه هذا التصرّف ما يحصل عن طريق التوكيد اللفظي. وبعد هذه الفقرة المهمة النحوية البلاغية يعود بنا الشيخ رحمه الله إلى بيان اختلاف المواقف بين النحاة. فإن بعضهم يفرق بين عطف البيان والبدل ويجعلهما متفاضلين، والفريق الثاني يجعلهما متساويين، وهو الأصح عنده، لكون عطف البيان في التحقيق ليس إلا اسماً لنوع من البدل، وهو البدل المطابق. ولتأكيد

ما ذهب إليه ينقل عن صاحب الكشاف قوله: "فإن قلت: ما فائدة البدل؟ قلت: فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير". ويدل هذا على أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد، هما ما فيه من التثنية بتكرار اللفظ، وما يقتضيه التكرير عند النحاة من تكرار العامل. ويخلص من هذا الموضوع إلى قضية بلاغية هي أن إعادة الاسم في البدل أو البيان تكون من أجل أن يبنى عليها ما يراد تعلقه بالاسم الأول. ويظهر هذا في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬1)، وقوله عز وجل: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} (¬2). فإعادة فعل {مَرُّوا} وفعل {أَغْوَيْنَاهُمْ} وتعليق المتعلق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تجد له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول. فالإعادة في مثله ليست لمجرد التأكيد، لأنه زيد عليه ما تعلق به. ولتأكيد وجهة النظر هذه نقل عن ابن جني في شرح مشكل الحماسة قوله عند رواية كلام الأحوص: فإذا تزول تزول عن متخمِّط ... تخشى بوادرُه على الأقران محال أن تقول: إذا قمتَ قمتَ، وإذا أقعد أقعد؛ لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة. وحكى مخالفة أبي علي الفارسي لهذا الرأي معلّلاً موقفه بقوله: فلعلّه امتنع في هذه الآية من اعتبار {أَغْوَيْنَاهُمْ} بدلاً من {أَغْوَيْنَا}. وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً (¬3). ¬

_ (¬1) الفرقان: 73. (¬2) القصص: 63. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 192 - 193.

3 - كاد: فعل مقاربة

3 - كاد: فعل مقاربة قال تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (¬1). إمعاناً في تقرير القواعد النحوية والإعرابية والبيانية، وتوصلاً عن طريقها إلى كشف المراد من الآية، بدأ صاحب التحرير والتنوير بالكلام على جملة "فذبحوها" وإن سكت عن ذلك أكثر المفسرين. فنبّه إلى أنّها مبدوءة بحرف الفاء العاطفة، وأن المعطوف عليه هنا مقدّر لدلالة المقام عليه، وهو: فوجدوها أو فظفروا بها. وقد أثار التنبيهُ إلى ذلك قضيتين: الأولى معنى الفاء، والثانية ذكر نوع الإيجاز الذي اتسمت به الجملة. أما الفاء فهي فاء الفصيحة عند الشيخ، كما يقول النحاة، لإقامة المعطوف بها في الموقع محلَّ المعطوف عليه، ولأن فاء الفصيحة هي التي أفصحت عن مقدر مطلقاً. وأما الاختصار في الجملة الحاصل بإهمال ذكر المعطوف عليه فلغناء المعطوف عنه. فهو من قبيل إيجاز الحذف الاقتصاري. ومن هذه الجملة ينتقل إلى الثانية التي تليها، وهي {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}. فيقف عندها طويلًا للإشارة إلى جملة قضايا تتعلّق بها. ويتحدث عن استعمالات وتصاريف تعددت، واختلفت بحسب تعدّدها. فأفادت الآية جملة من الأغراض، مثل تعريضِها باليهود في سوء تلقّيهم الشريعة، تارةً بالإعراض والتفريط، وأخرى بكثرة التوقّف والإفراط، وتضمُّنِها تعليم المسلمين أصول التفقّه في الشريعة بالأخذ بالأوصاف المؤثرة في مقام التشريع دون الأوصاف الطردية، ونهي ¬

_ (¬1) البقرة: 71.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال كما دلت على ذلك الشواهد من كلام ابن عباس ورواية أبي هريرة وغيره مما أسرف فيه المخاطَبون بذبح البقرة وجادلوا به نبيهم. والذي يعنينا في المقام الأول هو التأمل في قوله جل وعلا: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وإعرابُه، وتفصيلُ القول فيه من جوانب كثيرة. ولقد استقر رأي الإمام أولاً على إعراب هذه الجملة حالاً أو كلاماً مستأنفاً. والاحتمال الأول - كما قال - أظهر. فهو أشد ربطاً للجملة. ويكون المعنى: ذبحوها في حال تَقْرُب من حال مَن لا يفعل، أي ذبحوها مكرَهين أو كالمكرهين لما أظهروه من المماطلة والتردّد. فيكون وقتُ الذبح ووقتُ الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتاً متحداً اتحاداً عرفياً، يعني أن مماطلتهم وتمنُّعهم قارن أولَ أزمنة الذبح. وأما حمل الجملة على الاستئناف فباعتبار اختلاف الزمنين. أي فذبحوها عند ذلك، أي عند إتمام الصفات، وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل. أما معنى المقاربة التي يدل عليها لفظ كاد ونفيها بالأداة (ما)، فقد توقّفوا في توجيهه وتقريره. وقالوا: هو يقتضي بحسب الوضع اللغوي نفي مدلولِ (كاد) وهو المقاربة، ونفيُ مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى. وقد أشكل هذا التأويل، وقيل: أنّى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله: {فَذَبَحُوهَا}؟ وللجواب عن هذا طريقان: إما على وجه اعتبار الجملة استئنافاً، فيكون المعنى أن نفي

مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرّروا السؤال وأظهروا المطال، ثم وقع الذبح بعد ذلك. وبهذا الوجه أخذت جماعة اعتبرت كأن الفعل وهو الذبح وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه. وهو بعيد إذا جعل الواو للاستئناف. وإما على تقدير اختلاف أئمة العربية في مفاد (كاد) المنفية في نحو: ما كاد يفعل. والآراء في هذا متعددة تحتاج إلى بيان ومقارنة. 1 - ذهب الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل. وفي هذا القول وقوف مع قياس الوضع، وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى. فيكون إثبات {كَادَ} نفياً لوقوع الخبر كما في قولك: كاد يقوم، ويكون نفيها نفياً للفعل بطريق فحوى الخطاب. وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين. ومعتمد هذه الآية: فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك. وهذا جار في كلام العرب، فربما جعلوا الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمنين. وبهذا قال ابن مالك في الكافية: وبثُبوت كاد يُنفى الخَبَرُ ... وحين تُنفى (كاد) ذاك أجدرُ قدْ (كدتَ) تصبو منتفٍ فيه الصَّبَا ... و (لم يكد يصبو) كمثل (إن صَبَا) وغيرُ ذَا على كلامين يرد ... كـ (ولدت هند وكادت لم تلد) (¬1) 2 - وقال نحاة آخرون: إن إثبات (كاد) يستلزم نفي الخبر، وإن نفيها يصير إثباتاً على خلاف القياس. وهذا اتجاه معلوم ومشهور بين أهل الإعراب. وقد ألغز فيه المعرّي بقوله: ¬

_ (¬1) ابن مالك. شرح الكافية: 1/ 466.

أنحويَّ هذا العصر ما هي لفظة ... أتت في لسانَيْ جُرْهم وثمود؟ إذا استعملت في صورة الجَحد أثبتت ... وإن أَثبتت قامت مقام جحود وقد حملوا على هذا قول الله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} واعتُبِر هذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي. وتذييلاً لهذا الوجه من التأويل أورد الإمام ما حكاه الأدباء والنقاد من خلاف بين ابن شُبرمة وذي الرّمة. أورد ذلك الجرجاني في إعجازه (¬1) والبغدادي في خزانته (¬2). قالا: أنشد ذو الرمة، وهو من هو جزالة وإبداعاً في شعره، من قصيدة له قوله: إذا غيّر النأيُ المحبِّين لم يكد ... رسيسُ الهوى من حبّ ميّةَ يبرحُ وكان في المجلس ابن شُبرمة فناداه معترضاً: يا غيلان أراه قد بَرِح. فشنق ذو الرمة ناقته وجعل يتأخّر بها ويفكّر. ثم قال: "لم أجد" عوض "لم أكد". وحكى عنبسة العنسي ما سمعه ورآه في هذا المجلس لأبيه. فقال والده: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمّة، وأخطأ ذو الرمّة حين غيّر لقوله شعره. وإنما هذا كقول الله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (¬3)، وإنما هو لم يرها ولم يكد. 3 - وقال ابن جني: إن أصل (كاد) أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور، ولكنه يمكن أن يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد، أو بعد أن كان بعيداً في الظن. وبمثل ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز: 274، 317. (¬2) خزانة الأدب: 6/ 309، 746. (¬3) النور: 40.

هذا قال عبد القاهر. وأشار إلى أن ذلك استعمال جرى به العرف. يريد أنه من قبيل المجاز التمثيلي بأن تشبه حالةُ مَن فَعل الأمر بعد عناء بحالة من بعُد عن الفعل. وقال ابن مالك في التسهيل: وتنفي (كاد) إعلاماً بوقوع الفعل عسيراً أو بعدمه وعدم مقاربته. 4 - وقال آخرون: إنّ (كادَ) إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة، وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات، وشُبهتهم أنها جاءت كذلك في قوله سبحانه: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، وقوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ونفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف المضارع. 5 - وزعم آخرون أن أصل (ما كاد يفعل) (كاد ما يفعل)، وأن هذا من القلب الشائع. ويمضي صاحب التحرير بعد ذكر هذه الأوجه الخمسة من أقوال اللغويين والنحاة، وتفصيل القول فيها وتأكيدها بما أقامه من شواهد وساقه من أمثلة، إلى المقارنة بينها والقول بأن أحقها عنده هو المذهب الثاني الذي رمز له المعرّي. وهو أنَّ نفيَها في معنى الإثبات. فإنّهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة للنفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في (لو) و (لولا). ودليله على هذا مواضع استعمال نفيها، فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة. ولعل ذلك من قبيل القلب المطّرد، فيكون قولهم: ما كاد يفعل، ولم يكد يفعل، بمعنى: كاد ما يفعل. وقد ردّ، بعد هذا الضبط اللغوي للاستعمال، والتحقيق النحوي في المسألة، مقالةَ ابن مالك في التسهيل، ودعوى المجاز التي أشار إليها الجرجاني قائلاً: وإن ممّا يضعف ذلك اطراد هذا الاستعمال

أمثلة في الاشتقاق والبلاغة والاستعمال والأسلوب

حتى في آية: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (¬1) فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء، وآية: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (¬2)، وقول تأبط شراً: فأُبت إلى فهم وما كنت آيباً ... وكم مثلَها فارقت وهي تصفر (¬3) وعلى هذا النحو من التطبيق للقواعد، والاستنتاج للمعاني، والإبداع والدقة في تحرير القول في كل قضايا اللغة والعربية والبلاغة، يمضي الشيخ في تفصيله القولَ بلفت الأنظار إلى دقائق الاستعمال، كما عرض لذلك عند حديثه عن أصل "الاسم" واشتقاقه، و"العالَم"، و"الصراط"، أو في بيانه لتقديم الأهمية العارضة على الأهمية الأصلية واستعارة (المستقيم)، وقوله في تفسير: المغضوب عليهم. * * * أمثلة في الاشتقاق والبلاغة والاستعمال والأسلوب: 1 - الاسم ذكر الإمام هذا اللفظ "الاسم" في "البسملة" قبل تفسير "الفاتحة". ولتفصيل القول في ذلك سلك مسلكاً بيّن فيه آراء النحاة واللغويين المتقدِّمين. افتتح كلامه بتعريف الاسم قائلاً: هو لفظ جُعل دالاً على ذات حسّية أو معنوية بشخصها أو نوعها. ثم قسّم حديثه إلى جملة أغراض منها بيانُه اشتقاقَ هذه الكلمة، والتنبيهُ على أصلها عند البصريين والكوفيين، مشيراً إلى تصريفها واشتقاقها، ومعقّباً على هذا بمناقشة قول ابن يعيش في صيغة سمًى، مُورداً على إثره زعم ابن حزم في كتاب المِلل والنِحل أن لفظ "اسم" جامد غير مشتق. ¬

_ (¬1) النور: 40. (¬2) الزخرف: 52. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 2، 556 - 559.

ففي ضبط رأي البصريين يقول: إن لفظ "اسم" مشتق من السُّمُو. وصف به مدلوله لاقترانه بالدلالة على العلمية. فالاسم في كلام العرب هو العلم، ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به. وفي هذا اعتداد بالأصل والغالب. وربما وضعوا الأعلام لغير ما يهتم به كفجار، عَلَمٌ للفجرة. وأصل صيغة "اسم" عندهم من الناقص الواوي. وهو إما سِمْو كحِمل، وإما سُمْو كقُفل. ولم تعامل هذه الكلمة معاملة قاضٍ في الإعراب، وإن كانت هذه من الناقص اليائي، وجرى إعرابها مقدراً على الحرف المحذوف، أو لكثرة الاستعمال. وإنما كان إعرابها على الحرف الباقي في الكلمة ساكناً بعد حذف اللام للتخفيف، فنقلوا سكونه للمتحرك قبله وهو أول الكلمة، وجعلوا همزة الوصل للنطق بالساكن. وباجتلاب الهمزة هذه قضوا غرضاً ثانياً هو عودة الكلمة إلى صيغة الثلاثي، احترازاً من بعض الثقل الحاصل في الكلمة الباقية على حرفين كـ (يد) و (دم). ومن الدلائل الثابتة عندهم على كون الاسم في الأصل ناقصاً ورود تصاريفه الكثيرة كاشفة عن ذلك الأصل مثل جمعه على أسماء أفعَال، وجمعه على أسامي أفاعيل وهي جمع الجمع، وتصغيره على سمي، وأن الفعل منه سَمَّيت. وقد ورد في كلام العرب سُمًى كهدى على فُعَل كرطب، وانقلبت الواو المتحركة فيه ألفاً إثر الفتحة. وعلى هذا قول الراجز: والله أسماك سُمًى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا ونازع ابن يعيش في هذا الوجه الأخير. وقال: لا حجة له في بيت الراجز لاحتمال كونه لغة مَن قال: سُم، والنصب فيه نصب

2 - العالم

إعراب لا نصب حذف. وبمقابلة الرأيين في هذه الصيغة يخلص الشيخ من المقارنة بينهما إلى القول بأن الكتابة لا تتعلق بها الرواية. فلعل الذين كتبوه بالميم هم الذين ظنوه مقصوراً، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقاً لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. وبعد تقرير مذهب البصريين وبيان رأيهم في اشتقاق كلمة (اسم)، ذكر أن الكوفيين يجعلون أصل الكلمة (وسَم) لأنه من السِّمة وهي العلامة. حذفت الواو، وعوض عنها بهمزة الوصل ليبقى اللفظ على ثلاثة أحرف. وهذا بخلاف ما جرى عليه الجمهور من أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره. وكان القول الفصل بين المذهبين قول الإمام الأكبر: رأي البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف. وبعد التذكير بجملة من القواعد كالتي يعرف بها الزائد من الحروف من الأصلي، يذكر رأي ابن حزم المخالف لما عليه البصريون والكوفيون جميعاً، إذ يدَّعي أن كلا القولين استعمله النحاة، ولم يصح عن العرب، وأن لفظ اسم غير مشتق بل هو جامد (¬1). * * * 2 - العالَم بدأ الإمام ببيان قول الله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} قائلاً: إن (العالمين) جمع عالَم. وحكى أنه لم يجمع فاعل هذا الجمع إلا في لفظين (عالَم) (وياسَم) اسم للزهر المعروف بالياسمين. ورد جمعه على ياسمون وياسمين. قال الأعشى: وقابَلَنا الجُلُّ والياسَمُـ ... ـونُ والمُسْمِعاتُ وقصَّابُها ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 147 - 149.

وعرف بأنه الجنس من أجناس الموجودات. وقال في تحديد وزنه: إنه على وزن فاعَل مشتقاً من العلم أو العلامة، لأن كل جنس له تميّز عن غيره فهو له علامة، أو هو سبب العلم به فلا يختلط بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالباً كخاتَم وقالَب وطابع. وقالوا: مِنَ العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع أو العلم بالحقائق. فبنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعَل، وأبدَعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن فيه ما ليس بعاقل تغليباً للعاقل. وبإثر ما ساقه من التعريف استشهد بقول التفتازاني في شرح الكشاف ليزداد الناس إدراكاً وتصوّراً لمدلول هذه الصيغة لغوياً فقال: العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق. يقال: عالم الملك، وعالم الإنسان، وعالم النبات. وليس هو اسماً لمجموع ما سواه تعالى. وهذا هو تحقيق اللغة. فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالَم على مجموع ما سوى الله تعالى، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام اصطلاحاً لهم، فقالوا: العالم حادث. ومن يتأمّل كلمة عالَم مقترنة بأل يدرك أن التعريف فيها للاستغراق. فإنه إذا لم يكن عهدٌ خارجي، ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة، ولا على المعهود الذهني، تمحّض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعاً للتحكّم. فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة. لذلك قال الزمخشري: "ليشمل كل جنس مما سُمّي به". وقرر ابن عاشور، تكملة للمراد من العالمين، بأن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاماً واضحاً، إذ الأجناس لا تقصد لذاتها، لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها، فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق. ثم ينتقل، بعد التعريف لكلمة (العالم)، والحديث عن أل

3 - الصراط

الاستغراقية، إلى أن المراد في الأصل من التعريف العهد أو الجنس. فجاء الجمع تنصيصاً على الاستغراق. وتلك سنة الجموع مع أل هذه على التحقيق. وهكذا تصير الجمعية قرينة على الاستغراق وبطل منها معنى الجماعات، ويصبح استغراق الجموع مساوياً لاستغراق المفردات أو أشمل منه، خلافاً لما ذهب إليه السكاكي (¬1). وصرّح الإمام في مقام آخر بتحقّق ذلك فقال: والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرّف باللام وفي المنفي بلاء التبرئة سواء. وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرّة بصيغة الإفراد، ومرّة بصيغة الجمع، تبعاً لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبة لمقام الكلام. * * * 3 - الصراط بالوقوف على تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} نجد الإمام في تحرير كلمة الصراط يتحدث أولاً عن تعريفها وعن مادتها ووجوه قراءتها قائلاً: الصراط: الطريق. وهو مستعار هنا لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله. وهو بالصاد وبالسين. قرىء بهما في المشهورة. ونطق به جمهور العرب بالسين، إلا أهل الحجاز فإنهم نطقوا به صاداً مبدلة من السين قصد التخفيف في الانتقال من السين، إلى الراء ثم إلى الطاء. وهذا سبق إليه أهل اللسان ودارسو اللهجات والأصوات عند العرب. وفي تعليل هذا الإبدال في لغة الحجازيين يقول الجعبري كما ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 168 - 169.

في لطائف الإشارات: "إنهم يفعلون ذلك في كل سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء. وإنما قلبوه هنا صاداً لتطابق الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخّم مع الراء، استثقالاً للانتقال من سفل إلى علو". وأشار بعد هذا إلى الاختلاف في كلمة صراط، أهي عربية أم معربة؟ وصرّح بأن أهل اللغة لم يقل أحد منهم إنها معربة. والذي ورد في الإتقان عن النقاش وابن الجوزي أن معناها بلغة الروم: الطريق. ولكن أبا حاتم ذكرها في كتاب الزينة له وقال: هي معربة. واعتمد ذلك السيوطي فزادها في منظومته في المعرّب (¬1). ولئن كانت الأمثلة والنماذج التي قدمناها حتى الآن تصوّر مدى اهتمام الإمام الأكبر بأحكام اللغة وقوانين العربية، وأنه مع التمكن منها والعناية بها، قد استخدمها أبدع استخدام في الكشف عن المعاني والأغراض، معتمداً في هذا كله الضبط والدقة، فإن ما نشير إليه من عيّنات يجعلنا نلمس الوجه الآخر البديع المتمثل في مؤدّى التعابير والصيغ والتصرّفات القوليّة لنلمس الملامح الجمالية والإبداعية التي تشهد لها علوم البلاغة وأسرار العربية. ولا نمضي في طلب ذلك بعيداً. فالقرآن الكريم مادة لا تنضب، ولا تغيض محاسنه ولا روائع فن القول فيه. وبالوقوف مرّة أخرى على ما جاء في بداية التحرير والتنوير عند الجملة الأولى من الفاتحة: الحمد لله، ووصفه سبحانه للصراط بالمستقيم، وحديثه عن الغضب في المغضوب عليهم، نطمع أن نستجلي أعمق المعاني معتمدين على الجوانب الفنية الإبداعية، والتصرفات البلاغية القولية. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 190.

ثلاث ملاحظات

ثلاث ملاحظات: 1 - تقديم الأهميّة العارضة على الأهميّة الأصلية في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أثار هذا البناء للآية تساؤلاً لدى علماء البلاغة وأهل اللسان، عن موجب صرف الاهتمام بالحمد وإلى الحمد أولاً، مع أن ذكر اسم الجلالة أهم وأولى بالاهتمام وبالتقديم بلا منازع. استشعر الإمام بحسّه المرهف وحُسن ذوقه هذا التساؤل فأجاب عنه بكلام مفصّل تناول ثلاثة جوانب: الأول منها: أن الفاتحة أم الكتاب، الجامعة لمعانيه، والمقدّمة لما أنزله الله من الوحي في القرآن العظيم. تقع منها وفي بدايتها هذه الجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في مقام اقتران الحمد بما أنعم به الله على عباده من آلاء، أجلّها وأولاها بالشكر هذا الكتاب، المصدّق لما بين يديه والمهيمن عليه، والذي جعله الله هدى وبينات للناس. فالحال حال حمد. وهذا مقامه. ومراعاة الحال والمقام مقتضية بل مُفضية بدون شك إلى ذكر الحمد أولاً. وتلك حقيقة البلاغة، وما ينبغي أن يَلتزِم بمراعاته المتكلمُ البليغ. والثاني: بيان هذه النعمة الجليلة، نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين. وذلك ما يجعلها منّة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال، خصوصاً وقد أنزل هذا الكتاب متميّزاً بما تضمّنه واحتواه من كمال اللفظ والمعنى والغاية، وجعله متبادراً إلى الذهن عند ابتداء سماعه أو ابتداء تلاوته، مذكراً بما لمنزله تعالى من الصفات العليّة المستوجبة للشكر والمنبّهة إلى وجوب الحمد. فذلك ما دعا أولاً إلى تقديم الحمد غير ملابس لما يوذن

2 - المستقيم

بتأخيره لمنافاة ذلك للاهتمام به، وثانياً لأن الاهتمام به تأتَّى باعتَبار الاهتمام بتقديمه على ذكر اسم الله، اعتداداً بأهمية الحمد العارضة في المقام، وإن كان ذكر الله في نفسه أهم. والثالث: جريان العرب في أسلوبها، وعلماء البلاغة في تقريراتهم وتعليلاتهم، على تقديم الأهمية العارضة على الأهمية الأصلية، لأنها أمر يقتضيه المقام والحال، والآخر يقتضيه الواقع، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه، إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر، فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يُفيته التنبيه على غيره. وقد عقّب هذا التقرير بأن واقع الجملة لا يساعده عليه. وإلا فكيف يصحّ أن يكون تقديم الحمد، وهو مبتدأ، مؤذناً بالاهتمام مع أنه الأصل، وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حَقّه التأخير. والجواب عن هذا أن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدَّماً مع إمكان الإتيان به مؤخرًا، إذ قد ورد الوجهان {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كما في الفاتحة، و {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} كما في الجاثية (¬1). * * * 2 - المستقيم قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (¬2). جاء في التحرير والتنوير تفسير المستقيم بالحق البيّن الذي لا تخلطه شبهة الباطل. فهو كالطريق الذي لا تتخلله ثنيات. ولبيان ¬

_ (¬1) الجاثية: 36؛ محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 158 - 159. (¬2) الفاتحة: 6.

الأصل في ذلك يقول: المستقيم اسم فاعل من استقام مطاوع قوّمته فاستقام. والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعاريج. وأحسن الطرق الذي يكون مستقيماً وهو الجادة، لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضل سالكه ولا يتردّد ولا يتحيّر. وفي هذا مقارنة للفظ مستعملٍ في حقيقته ومجازه. فالمستقيم في الآية مستعار للحق الذي بينا. قال ابن عباس: إن الصراط المستقيم دين الحق، ونقل عنه: أنه ملّة الإسلام. فكلامه يفسّر بعضه بعضاً. ونفى الشيخ أن يكون المراد أنهم لقّنوا الدعاء بطلب الهداية إلى دين مضى، وإن كانت الأديان الإلهية كلها صُرطاً مستقيمة. ويحصر المؤلف هنا معنى الصراط المستقيم، فينبّه إلى أن التعريف فيه للعهد الذهني. فقد سألوا الهداية لهذا الجنس في ضمن فرد، وهو الفرد المنحصر في الاستقامة، لأن الاستقامة لا تتعدد. قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (¬1). وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام، وإنما علَّمهم الله هذا الدعاء لإظهار منّته. وهداهم سبحانه بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة، ويهديهم بما لحق من القرآن والإرشاد النبوي بعد ذلك. وورد إطلاق الصراط المستقيم في القرآن على هذا الدين في قوله عزّ وجل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2)، والهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتّباعه وتقلّده، بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص وبالاستنباط. فيكون المراد عند الإمام من الصراط المستقيم: المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل، بأن يوفّقهم تعالى إلى الحق، وإلى التمييز بينه ¬

_ (¬1) يونس: 32. (¬2) الأنعام: 161.

3 - الغضب في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم}

وبين الضلال، على مقادير استعداد النفوس، وسعة مجال العقول النيرة والأفعال الصالحة، بحيث لا يعتريهم زيغ ولا شبهات في دينهم. وختم قوله هذا بالتأكيد والاستدلال. قال: وهذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب، وأن المرء بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلَّها، حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه (¬1). * * * 3 - الغضب في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (¬2) أورد الشارح هنا كلاماً طويلاً في تفسير الغضب تعرض فيه إلى مراتبه وأنواعه وحُكمه. والذي يعنينا هنا أن الغضب، كما جاء في صدر الكلام عن ذلك في قوله: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} متعلّقه وهو غضب الله. ولا سبيل للتوصل إلى فهم ذلك إلا بالرجوع إلى مختلف الدلالات التي يمكن حمله عليها. فحقيقة الغضب المعروف بين الناس هو كيفيةٌ تَعْرِضُ للنفس تَتْبَعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام. فالكيفية سبب لطلب الانتقام، وطلب الانتقام سبب لحصوله. وليس هو من لوازم ماهية الغضب بحيث لا ينفك عنه. ولكنه قد يكون من آثاره. ويمضي الشيخ بعد ذلك في بيان أسباب الغضب وما يترتّب عليه من آثار عند الناس بقوله: والغضب كيفية للنفس تعرض من ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 191. (¬2) الفاتحة: 7.

حصول ما لا يلائمها، فتترتّب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله. ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه، ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان وبالأذى. وربما أفضى ذلك كما قدمنا إلى طلب الانتقام منه. فيختلف الحد الذي يثور عنه الغضب في النفس، باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات، واختلاف العادات في اعتبار أسبابه. ولما كانت هذه الحقيقة لا تليق بمقام الألوهية، ويستحيل اتصاف الله بها وإسنادها إليه، للأدلة القطعية الناطقة بتنزيهه سبحانه عن المتغيّرات الذاتية والعرَضية، ويكون على المسلم الوقوف عند حدود النص الوارد في ذلك من الكتاب أو السنة. وسبيل ذلك عند أهل العلم والنظر صرفُ اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم، أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه. فالذي يكون صفةً لله من معنى الغضب هو لازمه، وهو العقاب والإهانة يوم الجزاء، واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا، إذ هو من قبيل التمثيلية. وتعليقاً على إيراد هذا التفسير لغضب الله يقف الإمام بين طريقتين، طريقة السلف في ذلك، وطريقة مَن جاء بعدهم من أهل العلم قائلاً: كان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس. ولما نشأ النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء، وحدثَ قول الناس بمعاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بداً من توسيع أسباب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد. فقام الدين بصنيعهم على قواعده، وتميّز المخلص له عن ماكره

وجاحده. وكل، فيما صنعوا، على هدى، وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبداً، وما تأوّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب، مفهوم لأهله. وهكذا يوازن بين الاتجاهين المتقدمين: اتجاه أهل السلف واتجاه أهل النظر، مراعياً تطوّر الظروف والأحوال بين العصور، ومظهراً تقديره للمنهجين لما قاما عليه من أسباب، وهَدَفا إليه من غايات. ولتفصيل العقاب الذي يقتضيه غضب الله على المنحرفين والضالين يقول: فغضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته للحائدين عن هديه، العاصين لأوامره، ويترتّب عليه الانتقام. وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار (¬1). تلك موضوعات ومباحث في اللغة وعلوم العربية وأسرارها تناولها قلم الإمام الأكبر، تَسنده معرفة كاملة باللغة وتصاريفها وأساليب الإبداع والإمتاع فيها، وعلمٌ غزير بأعمق وأدق وأكمل ما كتب في هذه الأغراض، من مؤلفات ودراسَات في القديم والحديث، وإحاطةٌ بمختلف العلوم، وتمرّس بفنون القول يضمّان الشواهد إلى القواعد، وتستجلى عن طريقيهما من تراثنا العلمي والأدبي كل ما فيه برهان على تقدمنا، وسبب للمفاخرة بأجود ما عندنا، وعناية بما جمعه وأبرزه الأشياخ من نصوص وفصوص وروائع وفرائد. وقد كان قلم الإمام شاهداً بما صدر له وعنه، مع دلالة على ذوق صاحبه وحسه الفني اللذين هذبتهما الممارسة الطويلة، ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 197 - 198.

من تآليف الإمام في اللغة

وشحذتهما الأعمال الجليلة، العلمية والأدبية، مثل كتبه ورسائله وخطبه وتحريراته ونثره ونظمه. وقد كانت نظرتنا لهذا كله من خلال تفسيره الذي جلبنا منه بعض ما يمكن الاستشهاد به لأغراضنا في تصوير اشتغاله واهتمامه بالعربية لغة وعلماً وأدباً، مثلما هو متوافر في تآليفه الأخرى كشروحه للقصائد والدواوين الشعرية، أو نقده للكتب والمقالات من تراثية ومعاصرة. وقد كان وقوفنا عند ما ذكرناه من نصوص تفسيره عن غير قصد وبدون تخيّر، لمزيد من الاهتمام بالتحرير، والكشف عن غزارة مادته وعميق علمه. لذلك يكون علينا أن نُتبع ما وصفناه من تآليفه حتى الآن بالحديث عن كتبه ومقالاته: مما هو منشور يمكن الوقوف عليه، وما هو مخطوط يحمِل على العناية به وتحقيقه وإخراجه للناس. * * * من تآليف الإمام في اللغة: ففي مجال اللغة نذكر له كتاباً واحداً وست مقالات، وفي علم العربية كتاباً من تحقيقه، وفي علوم البلاغة أربعة كتب ومقالتين. وتفصيل ذلك كالآتي. ففي اللغة كتاب: 1 - شرح الاقتضاب الكتاب الوحيد الذي عُني فيه بمادة اللغة هو كتابُ الاقتضاب لابن السِّيد البطليوسي. وضعه صاحبه شرحاً على أدب الكاتب لابن قتيبة. ولأهمية هذا الكتاب وشرحه قام مؤلفنا بتصحيحه وتحقيقه والتعليق عليه. ولا بدع في ذلك فقد كان الإمام مولعاً بالأمهات، مقبلاً عليها، ناظراً فيها، ناقداً لها. فكتاب ابن قتيبة أدب الكاتب

يعد أصلاً من الأصول الأربعة في كُتب الأدب. ذكره ابن خلدون مع الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والأمالي لأبي علي القالي. ونحن وإن حُرمْنا الوقوف عليه، رغم ذكره في مخطوطات الشيخ وما نسب إليه من التآليف، نقدّر أن الإمام وضعه مجارياً للمؤلف والشارح، وكلاهما من أئمة اللغة، مريداً بذلك التحليق في أجوائهما، والضبط لما أتيا به من تحقيقات لغوية ونكت بلاغية وأخبار وأشعار، كانت بدون شك في حاجة لهذه العناية، ومحل درس ونظر من طرفه. ولا بدع أن يقوم الشيخ ابن عاشور بهذا العمل الدقيق الجيد. وكلنا يعلم أن أدب الكاتب لابن قتيبة لم يكن سوى خطبة بلا كتاب، لطول خطبته، مع أنه قد حوى كل شيء، كما ذكر صاحب كشف الظنون. وأن شرح البطليوسي له كان شرحاً مفيداً جيداً، قام فيه صاحبه في الجزء الأول منه بتفسير الخطبة وذكر أصناف الكُتَّاب ومراتبهم، وجُلَّ ما يحتاجون إليه في صناعتهم. وتحدث في الجزء الثاني منه على ما كان يحفل به من نكت. وتعرض في القسم الثالث للتنبيه على ما حصل في كلام ابن قتيبة من غلط، متولياً في الوقت نفسه شرح أبياته وشواهده. وعلى هذا المنهج الذي التزم به الإمام في كتبه وتحقيقاته كان عمله في تحقيق الاقتضاب بياناً وتعقيباً واستدراكاً. * * * ومن وراء ذلك ظفرنا بخمس مقالات؛ واحدة منها:

2 - غرائب الاستعمال

2 - غرائب الاستعمال وهذه دون شك في اللغة، أو في اشتقاقاتها وأساليبها. لم نقف عليها. ذكرها حفيده د. محمد العزيز ابن عاشور في ترجمته (¬1). * * * 3 - اللفظ المشترك اللفظ المشترك مقالة نشرتها له مجلة الهداية الإسلامية بالقاهرة في مجلدها السادس. وهذه المقالة تنظر في موضوعها إلى ما جاء في المقدمة التاسعة من التحرير والتنوير من استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معاً، وإرادة المعاني المكنَّى به عنها مع المعاني المصرّح بها، وإرادة المعاني المستتبعات من التراكيب المستتبعة. وقد بحث هذا الموضوع اللغوي الهام عدد من علماء العربية ومن علماء أصول الفقه. وهو مفصّل في كتبه. وقد انتهى الإمام إلى القول، بعد ذكر الآراء المختلفة في الموضوع، بأنّ المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ تكون مرادة من الآية. وهي معانٍ واردة في تفسيرها (¬2). * * * 4 - أخطاء الكتاب في العربية مقالة أخطاء الكتاب في العربية، هي ردٌّ على مقال نشرته ¬

_ (¬1) دائرة المعارف التونسية. الكراس 1/ 1990 - 46. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 98 - 100.

البصائر في عددها 84 ص 6 بعنوان إصلاح اللسان، لأبي يعلى الزواوي أحد علماء الجزائر. تحدث الشيخ عن العلماء المتقدّمين وسبقهم إلى العناية بهذا الموضوع المهم، كما يظهر ذلك من التصانيف والدراسات المؤلفة في التنبيه على لحن الخواص. وهي كثيرة من بينها أدب الكاتب لابن قتيبة، والموشح للمرزباني، ودرة الغواص للحريري، وما جاء من ذلك في كتاب مغني اللبيب لابن هشام. وقد كانت مجالس العلم والرواية والأدب حافلة بذلك مثل مجالس الصاحب ابن عباد، ومجلس الأستاذ ابن العميد. وربما سرى هذا الأمر لتعلّق الناس به وحبّهم له وتطلّعهم إليه من تلك المجالس إلى المجامع العامة. ولم يقتصر هذا الاهتمام باللغة العربية تصحيحاً لها وذبّاً عنها، على أمثال أولئك الأعلام السابقين، بل استمر الأمر قائماً ومتجدّداً على مرّ العصور. ففي عصرنا الحاضر صنف الأديب الشيخ إبراهيم اليازجي كتابه لغة الجرائد، ونبّه العلامة الشيخ محمد محمود الشنقيطي على انحطاط لغة كتاب عصره. لكن هذا العمل وإن كان رائعاً ومميزاً يتسم به حفظة اللغة الدارسون لها والقائمون عليها، قد لابسته، لسوء الحظ، سمات التعجّل في الأحكام، كالذي روي عن ابن شبرمة وذي الرمة من إنكار الأول على الثاني قوله: إذا غَيَّر النَّأْيُ المحبين لم يَعُدْ. أو تخطئة الحريري في بعض ما أنكره على الخاصة، واليازجي فيما وقع له في كتابه من المجازفة من المتقدمين والمتأخرين. أورد الإمام هذا فذلكة لما اشتهر من التأليف في هذا الفن، ممهداً به للتعليق على ما كتبه أبو يعلى الزواوي من ذلك في إنكار

بعض الاستعمالات اللغوية والتصرّفات القولية. فحصرها في مقاله المومَى إليه أعلاه في ثمانية ألفاظ، كان محقاً في ما قاله في أربعة منها، ومجانباً للحق في البقية، إمّا لتوهّمه وإمّا لتسرّعه فيما أورده فيها من ملاحظات وأحكام. وهذه الألفاظ الأربعة المتبقّية التي هي محلُّ النزاع والاستدراك فهي: ومما أخذ على الزواوي إنكاره: إطلاق اسم السجادة على الزَّرْبِيَّة. قال الشيخ ابن عاشور: "وكلامه في الحكم على استعمالهم لفظ السجادة كله خطأ. فإن لفظة السجادة عربية فصيحة. وردت في كتب اللغة المعتبرة مثل اللسان لابن منظور، والأساس للزمخشري. وهي بمعنى الخمرة المسجود عليها. وقد وردت الكلمة عن بعض العرب بحرف السين منها مضمومة. وبعد الإشارة إلى ما روته المعاجم في ذلك يقول: إن ورود الزربية في القرآن لا يقتضي إلا أن يكون لفظ الزربية أفصح. وهذا لا ينافي فصاحة لفظ السجادة، كما أن ورود لفظ السكين في القرآن في قوله تعالى: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} (¬1) لا يمنع أن يكون لفظ المدية عربياً فصيحاً. وأعجب ما في كلام أبي يعلى حكمه على لفظ سجادة بأنه أعجمي، ذاهلاً عن اشتقاقها من السجود، وأن مجيئها بوزن اسم الفاعل مجاز عقلي، أي المسجود عليه كقولهم: عيشة راضية". وأنكر استعمال الكُتَّاب لفظ (أشعل) مكان (أوقد)، قائلاً: وقد ورد في القرآن مشتق (أشعل) في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ ¬

_ (¬1) يوسف: 31.

شَيْبًا} (¬1). وليس ذلك بمعنى: أوقد، ولم يرد في الشعر (اشتعل) بل ورد (أوقد). وهذا تضييق واسع من أبي يعلى، فإن فعل أشعل وما تصرّف من مادته كلّه عربي فصيح، وقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} استعارة بديعة في تشبيه انتشار البياض في سواد الشعر بالتهاب النار في الفحم. ولولا ذلك لما كان هذا اللفظ في الآية واقعاً موقعه البديع من البلاغة، كما بيّنه علماء البيان. جاء في اللسان عند ذكر قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أن أصله من اشتعال النار. وأما إنكاره ورودَ الاشتعال بمعنى الوقود في شعر العرب فقصور واضح. قال لبيد في معلقته: فتنازعا سبطاً يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشبّ ضرامها فالمشعلة هي النار وهي اسم مفعول من أشعل النار بمعنى أوقدها. وقد أشار إلى استعمال الاشتعال في الحقيقة والمجاز ابن دريد في مقصورته حين قال: واشتعل المُبْيَضُّ في مسودّه ... مثل اشتعال النار في جزل الغضى وأنكر أبو يعلى استعمال لفظ الصدفة بمعنى الاتفاق، واستعمال نوايا جمعاً لنية، والبؤساء جمعاً لبائس، وجملة (لحد الآن) وهي من الصحيح المتّجه. وكذلك تخطئته بعض الكتاب في نفي ماضي زال بلا النافية. قال أبو يعلى: الصواب أن ينفى بما النافية. فإن فتئ وانفك وبرح وزال تقرن بما نفياً، وبلا دعاءً، وبالهمزة استفهاماً، واستدل بقول ابن مالك: فَتِئَ وانفك وهذه الأربعة ... لشبه نفي أو لنفي متبعة ¬

_ (¬1) مريم: 4.

قال ابن عاشور: إن كلامه في هذا اللفظ مختلط وغير محرر. فأما حكمه بالخطأ في نفي ماضي زال بلا النافية فهو حكم صحيح، ولكنه لم يحرّر تعليله، إذ علّله بأن زال وأخواتها تقرن بلا نفياً، وإنما ذلك يصح تعليلاً لعمل زال وأخواتها عملَ كان، وليس بيت الألفية مسوقاً إلا لبيان شرط إعمال زال وأخواتها عملَ كان. وكان الحق أن يعلل ذلك بوجوب اتباع استعمال العرب. فإن العرب لا تستعمل الماضي كله منفياً بلا، إذا لم يتكرر النفي بلا. والمراد من النفي الدعاءُ بالنفي لا الإخبار. وهذا استعمال غير جارٍ على القياس. فإذا تكرر النفي لفظاً صح استعماله في غير الدعاء كقوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (¬1). وكذلك إذا تكرر النفي في المعنى كقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (¬2). فإن الاقتحام الذي دل عليه الماضي المنفي بلا يشتمل على عدّة أمور فسرها قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}. فآل معنى قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} إلى معنى فلا فك رقبة، ولا أطعم، ولا آمن. وفيما عدا ذلك لا يستعمل الماضي منفياً بلا إلا إذا كان المراد الدعاء دون الخبر. ولذلك كان تخصيص أبي يعلى حكمه بالأفعال الأربعة زال وأخواتها إجحافاً بحكم الاستعمال، وبخاصة إذا كان خطأ الكتاب في هذا الباب وارداً في جميع الأفعال الماضية. وكذلك انتقاده قولهم: ألْفَتَ مراداً به لَفَت صحيح وجيه. والمؤلف بوقوفه عند الاستعمالات السابقة مصوباً ومحرراً، محققاً ومستدركاً يدل على امتلاكه لغة الضاد واستحضاره واستظهاره ما تخضع له من قواعد، وتجري عليه من أساليب، مع قدرة فائقة ¬

_ (¬1) القيامة: 31. (¬2) البلد: 11.

على اعتماده الشواهد المناسبة من القرآن الكريم، وإيراده ما يؤكد وجوه تصويبه بما يراه حقاً وصحيحاً من كلام العرب وأشعارها (¬1). والمقالة الأخيرة هي من نوع التي سبقتها، لكنها من الخاص دون العام. لا ينصرف الاهتمام فيها إلى استعمالات الناس في مخاطباتهم وأحاديثهم ورسائلهم وأشعارهم. وإنما هي من أثر النظر في كتاب واحد، أو عمل تقدم به باحث أو محقق، فاحتاج إلى المراجعة والتتبع والتصحيح والتوثيق. عرف الإمام من وقت شبابه بالتهام التراث وكتبه، والمطالعة لكل ما يحرص على الوقوف عليه من تصانيف، وما يقع تحت يده من تآليف علمية أو أدبية. يدل على هذا عدد كبير من المخطوطات والمطبوعات في مختلف الفنون بخزانته وبغيرها. تجد له عليها بهوامشها توقيفاته وتصويباته وملاحظاته ورواياته. وقد كان هذا في أحيان كثيرة يرفعُ من قدر الكتاب مطبوعاً كان أو مخطوطاً، لما تجد عليه من إضافات علمية يعلو بها شأن الكتاب، وترتفع بها منزلة النسخة وقيمتها. وهذا أمر ورثه ودرج فيه على طريقة العلماء المتقدمين. فإذا كثرت تعاليقه ومراجعاته، وتكررت أو أصبح لها - لأهميتها - شأن، أفرد ذلك برسالة علمية خاصة، أو وضع من أجله قوائم إبرازاً لأهمية الكتاب، وصوناً لما فيه من فوائد ومعارف، وبلوغاً به إلى درجة الصحة الأصلية التي من الأمانة المحافظة عليها، تحقيقاً للنفع بالكتاب، وتمكيناً للناس من إدراك معانيه على الوجه الصحيح المضبوط، ومن الغوص فيه على الحقائق التي قد يلحقها ما يلحقها بسبب الخطأ والتحريف. ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية. شوال 1356 هـ/ ديسمبر. 1937 م، 3/ 2، 134 - 136.

5 - تصحيح أخطاء وتحاريف في اللغة العربية في طبعة "جمهرة الأنساب" لابن حزم

ويتمثل هذا الجهد المرموق الذي يحتاج إلى وقت وصبر ونباهة وعلم فيما عكف عليه الشيخ من ضبط وتحقيق في مراجعته لجمهرة ابن حزم، نشر المستشرق ليفي بروفنسال. وهذه المقالة التي نشير إليها هنا، كتبها بعنوان: * * * 5 - تصحيح أخطاء وتحاريف في اللغة العربية في طبعة "جمهرة الأنساب" لابن حزم يصدّر الإمام مقالته هذه بالتنويه بالكتاب قائلاً: هو كتاب جليل عزيز النظير، نادر الوجود، لا تتجاوز النسخ الموجودة منه عدد الأصابع، منها نسخة بجامع الزيتونة كانت من جملة الأصول التي اعتمدها المحقق، وفيها تصحيحات بخط أحد الفاسيين. وقد نوّه (ليفي بروفنسال) المستشرق الضليع بكتاب جمهرة الأنساب لابن حزم، وقام بتحقيقه، ونشره نشرة علمية، فدعا ذلك الإمام الأكبر إلى تجديد العهد بهذا المصنّف، وأسرع إلى اقتنائه غير أنه وقف فيه على جملة من المآخذ، أهمها ثلاثة: 1 - كلمات مُنيت بالتحريف أو بخطأ في الضبط. 2 - وجوه مرجوحة أو مشكلة في الأسماء. 3 - أنقاص ناشئة عن إهمال أو غفلة. وهذه العيوب الثلاثة، وهي من كبرى العيوب، وإن حصلت بسبب كثرة التحريف في نسخ الجمهرة. كان لزاماً على المحقق أن يتداركها بالرجوع إلى الأصول اللغوية والتاريخية وكتب الحديث والسيرة، والمعاجم في أسماء الرجال والقبائل والبلدان.

وأمام هذا الوضع لطبعة كتاب الجمهرة رأى الشيخ ابن عاشور واجباً عليه أن يصلح ما أمكن له إصلاحه ويحقّقه، أو يزيد شيئاً وقع إغفاله، مع التنبيه إلى مرجع التصحيح إن لم يكن وجه التصحيح واضحاً، مقتصراً في ذلك على الأسماء العربية دون البربرية والعبرية والفارسية، إذ كان للعرب في النطق بالأسماء الأعجمية سعة يدل عليها قولهم: أعجمي افعل به ما تشاء. وشَرَعَ الإمام قائلاً في تصوير قصده من ذلك ومنهجه فيه: ثم رأيت أن أنشر ذلك ليلحق بتلك النسخة، مشيراً إلى الصفحة والسطر منها مع ذكر الخطأ أو المرجوح الواقع فيها، وما هو الصواب أو الراجح فيه، أو ما يتعيّن أن أزيد. وربما أشرت إلى ما خالفَتْ فيه [هذه الطبعة] النسخةَ التونسية من الجمهرة المعتمَدة من المحقق. وفي أدب وتواضع يضيف: ولا أدعي أنّي أحطت بما في هذه الطبعة من الأخطاء. فمن عثر على شيء فليُقَفِّهِ على ما قدّمته من الخطأ. وتتناول هذه المقالة ثلاثة أقسام: الأول منها وقع التنبيه فيه على سبعة وثلاثين موضعاً من الكتاب، ثانيها على سبعة وخمسين موضعاً، والقسم الثالث والأخير على ستين موضعاً، جملتها أربعة وخمسون ومائة موضع. وليس من المناسب ذكر جميعها أو أكثرها. ولكننا نقتصر على إيراد أمثلة مما جاء في كل قسم من هذه المقالة. الملاحظة الأولى على القسم الأول ما ورد به: - ص 4 س 8: كتَب (الرجال) بالراء. والصواب (الدّجّال) بالدال وتشديد الجيم كما في حديث البخاري من فتح الباري: 8/ 66.

والثانية ما ورد في هذه الطبعة: - ص 6 س 14: ضَبط (تَعتق) بفتح التاء، والصواب ضمُّ الأولى وكسر الثانية: تُعتِق. ومما وقع له عند التحقيق وإقامة النص في: - ص 7 س 21: وُرودُ لفظ (قصوراً) بقاف وصاد مهملة وألف في آخره. وهو في النسخة التونسية قطوراً بطاء. وكلاهما خطأ. والصواب أنه (حَضور) بحاء مهملة مفتوحة في أوله، وضاد ساقطة معجمة، وبدون ألف في آخره. كما في تاج العروس. قال: وشذ من رواه بالألف الممدودة. قلت: ووقع لابن خلدون بألف مقصورة في آخره: 2/ 30 ط. بولاق. 1284. - وفي ص 156 س 4 قوله: "فأبو جُذامة. كذا كتب في النسخة التونسية. وهو مشكل من جهة ربط الكلام، ومن جهة الإعراب. فأما من جهة الربط فلا وجه للفاء في قوله: "فأبو" لأن أبا حذافة يتعين أن يكون عطف بيان من ولد في قوله: إلا ولد أبي سلمة، وأما من جهة الإعراب فحيث إنه استثناء من كلام مثبت يتعين نصب: ولد أبي سلمة ونصب وآخرَ من حدث عطفاً على ولد أبي سلمة، ونصب أبا حذافة، لأنه بيان من لفظ آخر. ومن الأمثلة في القسم الثاني من المقالة: - ص 166 س 13: "الخَلْج" ضبط بفتح وسكون. وهو خطأ، والصواب بضمتين كما في القاموس. - ص 182 س 14، 16: "بنو الزنية" ثلاث مرات ضبطه بفتح الزاي وكسر النون وتشديد التحتية، وهو خطأ. والصواب كسر الزاي وسكون النون وتخفيف التحتية، كما في كتب السيرة.

- ص 204 س 112: "عواقة" ضُبط بضمة على العين. والمعروف أنه بفتحة على العين. وهو مقتضى سكوت القاموس عن حركة أوله لأن اصطلاحه: أنّ عدم التعرض لذكر الحركة يقتضي أن الحركة فتحة، ولم ينبه صاحب التاج على حركته. ولكن من العجب أنه وقع في نسخ أربعة مخطوطة من القاموس موضوعة ضمة على عينه، وكذلك في نسخة اللسان. ط. بولاق. ومن الأمثلة في القسم الأخير: - ص 274 س 1: "فلأضيفن" صوابه "فلأخِيفن" بخاء عوض الضاد كما في النسخة التونسية. - ص 278 س 22: لامه والمحدث هنا نقص. والصواب: "لامه" وفقئت عين عدي بن حاتم - رضي الله عنه - يوم الجمل، فقأها عبد الله بن حكيم ابن حزاء والمحدث. كذا في النسخة التونسية. - ص 288 س 2: كتبَ "عمرو" والصواب "عمير". وضبط "شييم" بكسر الشين وضبط مصحح اللسان "شييم" بضم الشين. وكذلك ضبط في نسخ صحيحة من القاموس. وهو المناسب للصيغة. - ص 431 س 7 - 12: ضبط (العتق) بكسر العين في ثلاثة مواضع. والصواب ضبطه بضم العين كما في القاموس. ويجوز في الماء السكون والفتح (¬1). ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: 1371/ 1952، 2/ 8، 66 - 70 = 37؛ المجلة الزيتونية: 1372/ 1953، 3/ 8، 113 - 117= 57؛ المجلة الزيتونية: 1372/ 1953، 4/ 8، 165 - 169= 60.

6 - استعمال لفظ "كل" بمعنى الكثرة

6 - استعمال لفظ "كل" بمعنى الكثرة وهذا الاستعمال استعمال حقيقي يساوي استعمال (كلّ) في الشمول. بدأت المقالة بالتعريف بكلمة "كلّ". فهي اسم موضوع للدلالة على الإحاطة والشمول، وفيها إبهام اقتضى ملازمتها الإضافة إلى اسم ذي أجزاء أو أفراد، يبين ذلك الإبهام. ولكونه دالاً على الشمول كان ضداً له لفظ "بعض" بشهادة فصيح الكلام. ودليل هذه المقابلة بين لفظي "كلّ" و"بعض" حديث ذي اليدين خِرْباق السلمي - رضي الله عنه - حين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سلّم من ركعتين أو ثلاث من رباعية. فقال له: "أقصُرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كلُّ ذلك لم يكن. قال له خرباق: بل بعض ذلك قد كان". وأما استعمالات لفظ: "كلّ" كما تنطق بها المعاجم ودواوين اللغة وكتب العربية كالصحاح واللسان ومغني اللبيب فلها صورتان وقاعدتان تضبطان ذينك الاستعمالين: الأولى: إذا وقع لفظ "كلّ" بعد اسم مدلوله ذو أفراد أفاد توكيده بشمول أفراده. وهذا معدود في ألفاظ التوكيد المعنوي، وملازمٌ الإضافة إلى ضمير موافق للاسم المتقدم. الثانية: إذا وقع لفظ "كلّ" غير تابع لاسم قبله فلا بد من إضافته إلى اسم ظاهر أو مضمر لغير قصد التوكيد، أو يكون منوناً بتنوين عوض عن لفظ المضاف إليه المقدر، كما في قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (¬1) وبذلك يكون ملازماً للإضافة إلى ما يبينه ¬

_ (¬1) النمل: 87.

تصريحاً أو تقديراً، ويكون دالاً على شمول أفراد ما أضيف هو إليه. وأضاف الفيروزآبادي إلى دلالة لفظ "كل" الموضوعة للشمول لجميع الأجزاء قوله: وقد جاء بمعنى بعض، ضِدٌّ. يقول الإمام الأكبر: أدْخلت هذه الزيادة من الفيروزآبادي تحقيقاً وإشكالاً. ولبيان ذلك وتفصيل القول فيه نقل عن الزبيدي في شرحه أن أصل ما جاء في القاموس من ذلك هو كلام الفيومي في المصباح، وما أشار إليه ابن السّيد البطليوسي في كتاب الإنصاف. والتحقيق أن كلام الفيومي مخالف لكلام القاموس. قال الفيومي: وقد يستعمل بمعنى الكثير كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬1). فالآية تذكر أن التدمير تناولهم جميعاً وامتد إلى مساكنهم، دون أن يصل ذلك إلى غيرهم. وهذا التأويل غير محرر، لأنه لم يبين هذا الاستعمال أهو مجاز يحتاج إلى قرينة أم هو حقيقة بسبب اشتهار ذلك وكثرته. وأما عن كلام ابن السِّيد البطليوسي الذي تعرّض فيه، في باب الخلاف العارض من جهة العموم والخصوص، إلى ذكر شاهدين. أولهما قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2). وثانيهما قوله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فهو من باب العام المخصوص. خصّصه قوله: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}. ومن هذا ندرك أن المدمَّر غير المساكن. وفيما أوردناه اتفاق بين الفيومي وابن السيد في اعتبار هذا الشاهد مؤولاً عندهما بأنه من العام المخصوص. وحكى الزبيدي عن شيخه أن "كلّ" استعملت بمعنى "بعض". وذكر لهذا شاهداً لم يثبت. وهو قول عثمان حيث قيل له: أبأمرك هذا؟ فقال: كل ذلك بأمري، وبعضه بغير أمري. وهذه المقالة ¬

_ (¬1) الأحقاف: 25. (¬2) النمل: 23.

المروية عن الخليفة الثالث لا شاهد فيها، لأن قصاراه أنه عام مخصوص بلفظ متصل به. فلم تخرج كلمة "كلّ" الواقعة فيه عن معنى جميع الأفراد إلا بعد ذكر لفظ آخر. ومن المعلوم أن العام المخصوص مراد عمومه تناولاً. وهذا مثل الاستثناء من لفظ دال على العموم، فإنّه لا يحدث لذلك اللفظ معنى جديداً. ومضى بعد ذلك صاحب التاج يستدل لمقالته من إفادة (كل) البعضية بآيتين كريمتين هما: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (¬1): {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}. وردَّ الشيخ على هذا الاستدلال ببيان مدلول الآيتين، ثم نبّه إلى أن قول القاموس وما يقتضيه بجعل كلمة "كلّ" مطلقة على البعض قليلاً كان أو كثيراً، ويؤكد هذا المعنى بكلمة "ضد" التي يراد منها ضد جميع الأجزاء. وهذه تقتضي تمام المقابلة لدلالة "كل" على الشمول. وتعقيباً على هذا يقول: ولا أحسب أن أحداً يدّعي أن لفظ "كل" يطلق على الواحد ولا على العدد القليل، وبناء عليه تكون عبارة القاموس مدخولة. ويستنتج مما تقدّم أن الفيروزآبادي أثبت في كلامه دلالة لكلّ غير دلالتها على الشمول. وهذا يعني أنه يجوز إطلاق لفظ "كل" بمعنى الكثير، لدلالته على الكثير من جنس ما تضاف إليه، وعلى العظيم منه القائم مقام الكثير. وهذا ممّا ورد به الاستعمال عند العرب، وهو قريب من أصل معنى "كلّ"، فيكون إطلاقه على الكثرة من باب تنزيل الأكثر والأهم منزلةَ الجميع لعدم الاعتداد بما سواه. والاستعمال هنا مجازي، ثم شاع وتُوُسِّع فيه فاستغنى عن قرينة المجاز لمساواته للإطلاق الحقيقي على الكثرة ¬

_ (¬1) النحل: 9.

أو ما قاربها من غير أن يكون المقام ممّا يقصد فيه الادعاء أو المبالغة. وقال السيوطي في المزهر: إن المجاز متى كثر استعماله صار حقيقة عرفاً، وأن الحقيقة متى قلّ إستعمالها صارت مجازاً عرفاً (¬1)، وعلى هذا جرى القرافي في قوله في التنقيح (¬2): إن الوضع يطلق على جعل اللفظ دليلاً على المعنى وهو الوضع اللغوي، ويطلق على غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر منه من غيره. ويُتبع صاحب المقالة هذا التحقيق، الذي اعتمد فيه أقوال اللغويين وعلماء الأصول، بذكر الأسباب الموجبة لكثرة المجازات والاتساع في الإطلاقات اللغوية فيها. فمن ذلك ما سبق ذكره من شهرة المجاز. ونوّه في هذا المحل بصنيع الزمخشري الذي دعته الاستعمالات المجازية الكثيرة إلى وضع أساس البلاغة. ثم أورد شواهد عديدة في استعمال لفظ "كل" غير محتمل لغير معنى الكثرة. وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} (¬3). فكلمة "كل آية" وإن وقعت في حيز المبالغة بِلَوْ الوصليّة، فإن المبالغة هنا لا تتصور إلا على معنى الكثرة الشديدة، وقوله عز وجل: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (¬4). وكذلك ما ورد في كلام العرب كما في قول النابغة: بها كلّ ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كلّ رجاف من الرمل فارد ¬

_ (¬1) السيوطي: 1/ 176، ط. بولاق. (¬2) تنقيح الفصول: 15. ط. التونسية. (¬3) يونس: 96، 97. (¬4) الحج: 27.

ففي مجال علوم العربية

وقول ذي الرمة: بها كلّ خَوّار إلى كلّ صعلة ... ضهول ورفض المذرعات القراهب ومنه في قول عنترة: جادت عليها كلّ بكر حرّة ... فتركن كلّ قرارة كالدرهم سجّاً وتسَاباً فكلّ عشيّة ... يجري عليها ماء لم يتصرّم ومثل هذا ما دار في المخاطبات من مثل قول الشاعر: كلّ يوم تبدي صروف الليالي ... خُلقاً من أبي سعيد غريبا فمجيء استعمال "كلّ" للكثرة كثير. وهذا ما يوجب إثبات هذا المعنى في دواوين اللغة اقتداء بصاحب القاموس. والإصلاح الذي ينبغي أن يلحق عبارة الفيروزآبادي في تعريف "كل": بمعنى الكثير، أراد بالبعض: البعض المقارب للشمول في الكثرة (¬1). ففي مجال علوم العربية: لم يترك الإمام الأكبر فيه شيئاً من المقالات أو الكتب فوق ما قدّمناه. وقد مثّل لذلك بموضوعات بَحَثَها في علمي النحو والاشتقاق في غضون تفسيره. ولم تذكر التراجم له سوى تحقيقه للمقدمة النحوية التي وضعها أبو محرز خلف بن حيّان الأحمر الراوية واللغوي المعروف، معلم أهل البصرة وشيخ الأصمعي. وقد عُدَّ هذا الكتاب فيما تركه من مخطوطات ولم نعثر عليه. وهو يحتاج إلى بحث خاص في خزانة آل عاشور لعلنا نتمكن من معرفته والإفادة منه. وفي علوم البلاغة: نضيف إلى الإلماعات التي ذكرناها قبلُ ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: 2/ 9، 76 - 79.

1 - أصول الإنشاء والخطابة

عدداً من المؤلفات والمقالات المهمّة. فللشيخ رحمه الله كتابان مدرسيان في قواعد الإنشاء والخطابة وفي علوم البلاغة، وكتابان هامان في التحقيق أو التعليق على أكبر المصنفات البلاغية المعروفة بين كبار العلماء والطلاب بجامع الزيتونة. وبجانب هذه الجهود المباركة العلمية الناطقة بتفرّده في عصره بمثل هذه الاهتمامات نشير إلى مقالة له في هذا الفن، تتميّز بموضوع خاص يقع بين بحوث علوم البلاغة والدراسات الأدبية والنقدية. أما الكتابان المدرسيان اللذان أعدّهما لتكوين النشء وشَحْذِ عقولهم بما يحتاجون إليه من قواعد، وتقويم ألسنتهم، وإيقاظ مواهبهم: فأصول الإنشاء والخطابة، وموجز البلاغة. 1 - أصول الإنشاء والخطابة كان مترجمنا يمتلىء قلقاً وأسى من هبوط قدرات معاصريه من الشباب المتعلم عن مستوى الإبلاغ والإقناع، ودرجة الإبداع والتعجيب. فكان أكثرهم معنياً بالقواعد يجمعها، والمتون يستظهرها في مختلف فنون العلم، دون أن تكون قد تفتّقت بذلك مواهبهم في فنون القول، أو تهذّبت ملكاتهم في حُسن التعبير عما في نفوسهم. وإذا كانت جودة الكلام وحُسنُه من أهم ما يزدان به الطلاب ويتميّز به العلماء والشيوخ، فإنه يصبح من الضروري أن تتحرّك هذه القدرات الكامنة لديهم بضروب من النصيحة والتوجيه والتدريب والتمرين، لاستدراك ما فاتهم من كمالات. ولا يتم هذا إلا بالنظر والإمعان في كلام المبدعين من الكتاب والمترسّلين والشعراء والخطباء، وبالعمل على انتهاج مناهجهم والتأسّي بهم في هذه المجالات. ولعل هذا الأمر هو الذي حدا بشيخنا إلى العناية بفن لم يكن

مقرراً للدراسة في عصره. وأمام تأكّد طلبه، واحتياج أهل العلم والأدب إليه، وضع رسالة فيه، كانت حاملة الطلاب على الانتباه لأصول الإنشاء والخطابة في فن الأدب، ودافعة بالواقفين عليها والمحيطين بضوابطها والمتأثّرين بنماذجها إلى محاولة الإسهام في مجالي الإنشاء والخطابة. صدر عنه كتاب أصول الإنشاء والخطابة سنة 1339/ 1920 - 1921. وكان هدفه من تأليفه أن يبلغ بالمتعلّم إلى الإفصاح عن مراده، كتابة أو قولًا، من أقرب طريق، وإلى سلوك سبيل الإفهام بأحسن ما يستطاع من التعبير (¬1). ولتحقيق هذه الغاية من رسالته تراه يسلك بالشادين، بعلم الأدب الآخذين بأسبابه، مسلكاً يفضل لهم فيه القول في الإنشاء والخطابة. فالإنشاء، كما عرّفها في كتابه هذا: علم تعرف به كيفية أداء المعاني التي تحضر بالبال أو تلقى إليه، على وجه تتمكن به من نفوس المخاطبين، من حيث حُسن ربط أجزاء الكلام، واشتماله على ما يستجاد من الألفاظ، ويَحسن من الأساليب مع بلاغته (¬2). وفي هذا الحد إيماء إلى طرق التأليف الجيّدة، وإلى أثرها في السامعين والمخاطبين، وإلى المميّزات التي لا بدّ من اتصاف أجزاء الكلام بها، لتنال حظاً من الإبداع والإمتاع، وتكتسب القدرة على الاجتذاب والتأثير. ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور: أصول الإنشاء والخطابة: 4. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور: أصول الإنشاء والخطابة: 4.

وقد ذكر بعد هذا أنواع الإنشاء، كما تعرّض إلى ما ينبغي أن يتحقّق في الألفاظ والمعاني من صفات شريفة وسمات بديعة آسرة. وعند التفاته في هذه الرسالة إلى القسم الثاني منها وهو فن الخطابة الذي عدّه من جملة أنواع الإنشاء، كالمراسلة والمحادثة والمقالات ونحوها (¬1)، يقول: إن هذا الفن يختص بمجموعة من الضوابط والشروط، إذا التزم بها الخطيب ورعاها استطاع أن يُقنع بكلامه أصنافَ السامعين بصحّة الغرض الذي يقصده. ويدعو لفعله أو الانفعال به (¬2). وبعد تعريفه للخطابة القائمة على الإقناع، والشعر القائم على التخييل والمحاكاة، يذكر شروط الخطيب، وأوصاف الخطبة، وينوّه بالدور الكبير الذي يستطيع المهرة والحذاق من أصحاب هذا الفن الاضطلاع به. فهي - كما صوّر لنا ذلك - ركن عظيم من آداب الاجتماع البشري، بها يحصل تهذيب الجمهور من حملهم على ما فيه صلاحهم، وتسكين جأشهم عند الروع، وبث حماسهم عند اللقاء (¬3). ولم يهمل المؤلف الجانب التطبيقي إثر تفصيله للجانب النظري واعتنائه به. فهو يذكر الأمثلة الكثيرة المميّزة من قرآن وحديث، ونثر وشعر، كما يدعو إلى ممارسة تمارين تُشَدّ بها المعارف، وتنضج بها القدرات والملكات. وكانت رسالته هذه التي طلع بها على طلاب الزيتونة فتحاً مبيناً، وبياناً لطريقته ومنهجه في الأخذ بطرائق النحاة والبلغاء وأئمة الأدب المترسّلين. فهو يعتمد في ذلك على مقالات ابن جني ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أصول الإنشاء والخطابة: 12. (¬2) المرجع السابق: 45. (¬3) المرجع السابق: 47.

2 - موجز البلاغة

والجرجاني والأصمعي وابن الأثير وأضرابهم، وعلى أثر ذلك يمضي في تحليل الشواهد ونقد ما يتعرّض له من نثر وشعر، كاشفاً عن آرائه النقدية وذوقه الفنّي في كل ما يتقدّم به من تعاليق وملاحظات. 2 - موجز البلاغة ظهر هذا الكتاب سنة 1932 أي بعد صدور سابقه بعشر سنين. ولعله كان من مؤلَّفه تطبيقاً لمنهجه النقدي للعلوم عندما تناول فن البلاغة وما كتب فيه من مصنفات تُدرّس للطلاب بالجامع الأعظم. فالطلاب بالزيتونة كانوا قبل تأليفه ونشره يعكفون في السنة الثالثة للمرحلة الأولى من التعليم على السمرقندية. وهي رسالة الاستعارات لأبي الليث السمرقندي، وتُعتبر زبدة مستخلصة من تحقيقات المطول والمفتاح يتغذون بها، ثم يتناولون مختصر التفتازاني (السعد على المفتاح) وبعض الشروح الأخرى. وفي ابتدائهم شوط، وفي انتقالهم طفرة. وتلك هي الحال التي مررنا بها وعشناها بين عرصات معهدنا. وربما تعلّقت الهمة لدى كبار الطلاب بالرجوع في هذا الفن إلى ما يحسبونه أجدى وأقرب، وأكثرَ اتصالاً بفنون اللغة والأدب الأخرى. فكنا نطلب بعض هذه المباحث في وجوه الإعجاز عند المفسرين، وفي كتب الشعر والنثر، وفي محاضرات الأدباء عند المتقدّمين. وقد ظفرنا بجملة من قواعد هذا العلم وما يتصل بها من مدارك وأذواق مفرقة ومنثورة بين العديد من الكتب، مثل مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، ومعاني القرآن للفراء، ونظم القرآن للجاحظ، والبيان والتبيين له. وربما بعدت بنا النجعة فانتقلنا إلى كتاب سيبويه نطلب ذلك عنده أو إلى مسائل البلاغة عند الزمخشري في الكشاف.

وفي التأريخ لهذا العلم يذكر الشيخ ابن عاشور أن علم البلاغة لم يخصّ بالتأليف إلا في أواخر القرن الثالث الهجري بوضع ابن المعتز لكتاب البديع، ثم جاء الجرجاني بمؤلفيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وقفاهما السكاكي، فصنع كتاب مفتاح العلوم في علوم العربية وأودع القسم الثالث منه بحث الفنون الثلاثة: المعاني والبيان والبديع (¬1). ونبّه الشيخ ابن عاشور إلى أهمية هذا العلم عند تعريفه له بقوله: "هو العلم بالقواعد التي بها يعرف أداء جميع المراد بكلام ذي أساليب خاصة واضحة مع ما يعين على قبوله. وذلك بتوفيته خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وإيداع المحسنات بلا تكلّف، مع فصاحة الكلام والحذر من العيوب العارضة كالتنافر والغرابة ومخالفة أحكام الإعراب" (¬2). وقد حمله هذا كله على وضع كتابه موجز البلاغة، مريداً بذلك تقوية العلوم اللغوية والأدبية لدى الطلاب، وتقديم ما ينفعهم من المسائل، ممهِّداً بصنيعه هذا إلى دراسة الكتب الواسعة في هذه المادة. ولقد عَنَى هذا بقوله: فرأيت أن أضع لهم مختصراً وجيزاً يلمّ بمهمات علم البلاغة، ليكون لهم كالمقدمة لمزاولة دروس مختصر التفتازاني. وضعت هذا المختصر وضع من يقصد إلى تثقيف طلبة هذا العلم بالمسائل النافعة المجرّدة عن المباحث الطفيفة في شؤون البلاغة الثلاثة من المعاني والبيان والبديع (¬3). ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. موجز البلاغة: 6. (¬2) المرجع السابق: 5 - 7. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور: موجز البلاغة: 3.

3 - الأمالي على دلائل الإعجاز للجرجاني

وله إلى جانب هذين الكتابين المَدرسِيَّيْن أمالي وتعاليق على ما اشتغل به من المصنفات وأمهات الكتب التي كان يدرّسها في مادة البلاغة لطلابه. وتلك سُنة معروفة ومألوفة لدى كبار العلماء والشيوخ، كانوا يلتزمونها، ويتولون عن طريقها تقديم ما يعنّ لهم من بيانات إضافية يقيّدونها مرة، ويملونها أخرى تعميقاً للمعرفة، ومناقشة لكلام الشراح والمحقّقين، وتقريراً لبعض الحقائق الواردة فيها، وتعقيباً أو استدراكاً على ما حفلت به المصنفات موضع البحث والدرس من مسائل وفرائد. وهكذا كان إعداد المدرّسين لما يتولّون إقراءه من الكتب العالية المقرّرة في البرنامج. وفي هذا بالخصوص كان يتمثل عطاؤهم الفكري وجهدهم العلمي. وقد رأينا ممّن احتفى في تدريسه بهذا المنهج، وجرى على هذه الطريقة في تأليفه ثلّةً من العلماء والأئمة ذاع صيتهم، وانتشرت آثارهم، وتخرّج على أيديهم الفحول، وعرفوا بين الخاص والعام بجلالة القدر وارتفاع الذكر. * * * 3 - الأمالي على دلائل الإعجاز للجرجاني أعتقد أن الإمام الأكبر كان متعلّقاً بدلائل الإعجاز، خالطه وتدبّر معانيه ومسائله، وحضر عدداً من الدروس فيه على شيخه في مادة البلاغة شيخ الإسلام العلامة النحرير محمد بن يوسف (¬1). تولى إقراءه بعد ذلك. وكان هذا الكتاب بدون شك أحد المؤلَّفين الجليلين المؤسِّسين لعلم البلاغة. وإذا كان أسرار البلاغة للجرجاني قد عني صاحبه فيه إلى حدٍّ بعيد بعلم البيان، فإن كتاب ¬

_ (¬1) محمد النيفر وعلي النيفر. عنوان الأريب: 2/ 898، 317.

دلائل الإعجاز كان قائماً على دراسة مسائل علم المعاني، وباحثاً أساساً في وجوه النظم وطرق الإعجاز. قال عبد القاهر الجرجاني: "وإذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم، موجودةً على حقائقها وعلى الصحّة، وكما ينبغي، في منثور الكلام ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرّفوا فيها وكمُلوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدل ولا يختلف بها الحال ... فما هذا الذي تجدّد بالقرآن من عظيم المزيّة، وباهر الفضل، والعجيب من الرصف، حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القُوى والقُدَر، وقيّد الخواطر والفكر، حتى خرست الشقاشق وعدم نطق الناطق! " (¬1). وهذه الحقيقة الإيمانية والعلمية التي تلمّسنا آثارها في طرق التحدّي بالقرآن، والتي احتاجت من العلماء إلى البحث العميق والدرس الدقيق لفن النظم وللتصرفات القولية عند أئمة البلاغة والنقد، ما كانت لتتمثل في أذهاننا تمثلاً كاملاً، أو تلفت مداركنا إلى عجائبها وروائعها لفتاً دائماً إلا بطويل المدارسة وعظيم المثافنة. قال الجرجاني: "فإن كان ذلك يلزمنا، فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه، ويستقصي التأمل لما أودعناه. فإن علم أنه الطريق إلى البيان، والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق وأخذ به، وإن رأى له طريقاً غيره أومأَ لنا إليه ودلّنا عليه. إنّي أقول مقالًا لست أخفيه ... ولستُ أرهب خصماً إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة ... في النظم إلا بما أصبحتُ أُبديه" (1) وإن مثل هذا اليقين الذي ملأ ما بين جوانح صاحب الدلائل لهو ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز: 9.

4 - التعليق على المطول بحاشية السيالكوتي

الذي دفعه إلى المفاخرة بكتابه والاعتزاز به، وحَمَله على الدعوة إليه والنظر فيه، والتأمل في مبانيه ومعانيه، والانتفاع بخير ما تضمّنه من أحكام وقوانين، ظلّت من القرن الخامس مستودع الأسرار وملفت الأنظار. فلا بدع إذا أقبل عليه الدارسون والحذاق من أئمة الفن يفسرون قضاياه، ويضبطون قواعده، ويجعلونه بإسهامهم في تفصيل أغراضه الأساسَ للإحاطة بأساليب البيان، والمسلك الفريد لإدراك صور التفنّن. وقد جاء في بداية الكتاب ما يعنون به لمحاسنه ويدل على أهميته: "وقد وصلت بأخَرة إلى كلام مَن أصغَى إليه، وتدبّره تدبّر ذي دين وفتوة، دعاه إلى النظر في الكتاب الذي وضعناه، وبعثه على طلب ما دونّاه. والله تعالى الموفّق للصواب، والملهم لما يؤدّي إلى الرشاد". فلا بدع بعد ذلك أن يبذل أهل اللغة والبيان كل طاقة لاكتشاف أسراره والاهتداء به، وأن لا يكتفوا في هذا الباب بما يجدونه من ذلك. فالإمام الأكبر اقتناعاً ببدائع سلكه، وعجائب نظمه، حمله حبُّ الإفادة لطلابه، والكشف لهم عن لمحاته وجميل صوره، على الانخراط فيمن عني به قديماً وحديثاً، وعلى إملاء تفاصيل من القول فيه في أسلوب علمي أدبي أخاذ، يجمع لهم بين الانتفاع والتمتّع بما تضمّنه وورد فيه مما لا يقدر عامة الناس على النفاذ إليه. * * * 4 - التعليق على المطول بحاشية السيالكوتي سبقت الإشارة إلى تنويه الشيخ ابن عاشور بكتاب سراج الدين يوسف بن محمد بن علي الخوارزمي السكاكي مفتاح العلوم. وعلمنا أنه وضعه في علم العربية، وأوح القسم الثالث منه المقصود من مسائل البلاغة، دوّنها على طريقة علمية صالحة للتدريس والضبط.

فأصبح عمدةَ الطالبين لهذا العلم (¬1). ولا يخفى أن المعاهد العلمية، وخاصة منها الدينية، كانت تحرص كل الحرص على تلقين طلابها فنون العلم المختلفة لا سيما العربية والبلاغية. وهكذا كان من الطبيعي إقبالُ العلماء والطلاب في كل معهد متخصص على أمهات المصنفات في هذين المجالين، وصرف بالغ الاهتمام إلى متن تلخيص المفتاح للقُزويني، وشرحيه المطول والمختصر. وقد كان ممّن احتفى بالمطوّل ومختصره قبيل عصر المؤلف وفي عصره تدريساً وتحقيقاً الأديب الشاعر الشيخ محمود قابادو. تولى بجامع الزيتونة تدريس هذين الكتابين لسعد الدين التفتازاني (¬2)، كما قام العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الجد بتدريس المطول، وكتابة تعاليق عليه لم تتم، أسماها الغيث الإفريقي: تقاييد على حاشية عبد الحكيم السيالكوتي على المطوّل (¬3). وهذان التأليفان قد بلغ فيهما المؤلف ذروة الجودة. وكأنه جعل من المطوّل أصلاً ثم وضع مختصره. فهو أغزر مادة بما جَمَع من مسائل، وعرَض من شواهد، كما أنه أشملُ وأكثرُ صوراً وتفريعاً. وهذان الشرحان أوفى ما وضع على التلخيص، وأكثرها تداولاً لما تميّزا به، كما قال حاجي خليفة، من حُسن السبك ولطف التعبير. فإنهما تحرير نحرير أي نحرير. وكان من عناية العلماء من لغويين وبلغاء بالمطوّل عكوفهم عليه تذييلاً وتعليقاً بما كتبوه من حواش اشتهرت وراجت في المشرق والمغرب بكل معاهد العلم، وبين الشيوخ وكبار الطلاب مثل: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور: موجز البلاغة: 6. (¬2) د. عمر بن سالم. محمد قابادو. الكراس: 1/ 1990 م دائرة المعارف التونسية. (¬3) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 303؛ محمد النيفر وعلي النيفر. عنوان الأريب: 2/ 898، 317.

وفي الأسلوب مقالان

حواشي السيد الشريف الجرجاني، والفناري، وملا خسرو، والسمرقندي، والشيرازي ونحوهم. ولكن أهم الحواشي وأكثرها تداولاً هي حاشية العلامة النظار المنقطع النظير عبد الحكيم السيالكوتي. فقد كانت مادةً أساسية، مع المطوّل شرح كتاب التلخيص، في المرتبة العليا بالمعاهد. ولا بدع إذن إذا وجدنا الإمام الأكبر يجاري الشيخ الجدّ. ولا يكتفي بما تركه من تعاليق، فسجل هو أيضاً ما عنّ له من ملاحظات، وانقدح في فكره من آراء أيام تدريسه لهذا الكتاب، وأثناء مراجعاته له. فترك لنا رحمه الله تعاليقه على المطول وحاشية السيالكوتي عليه. فما كانت لتغني التعاليق الأولى لجده عن تعاليقه شيئاً. فإن الأنظار تتفاوت، والأحوال تتباين، والأفكار والآراء تختلف وتتباعد. ولكنها مدعاة للتنافس، ونتيجة للتأمل والدرس، وثراء للبحث والنظر. * * * ومن المقالات التي يمكن إدراجها في هذا الباب مقالةٌ تَبحث أساليب العرب في بعض مقاماتها، وما تجري عليه مخاطباتهم فيها، وأخرى كوّة ينظر منها إلى أوصاف الكلام أو النظم نظرة عميقة نقدية كطريقة توجيه الخطاب إلى المرأة في شعر العرب. وفي الأسلوب مقالان: 1 - طريقة من شعر العرب في توجيه الخطاب إلى المرأة هذه المقالة لا تجري على المنهج الذي اعتدناه عند الإمام الأكبر إلا قليلاً. فهو لا يوغل فيها إيغاله في تتبع المفردات والتراكيب اعتماداً على القوانين التي ضبطها علماء اللغة العربية،

وتوصلًا إلى تفصيل الكلام في التصرّفات القولية، وتمكناً من التحقق من مدلولاتها في اللسان العربي. ولكنّه يتّجه بنا اتجاهاً جديداً فيعود بنا من الطريقة التطبيقية إلى الطريقة الاستنتاجية، ويسلك بنا سبيل المبرد، ومن كان من الأقحاح في زمنه، متحولاً بذلك عن منهج ابن الأنباري وابن الشجري وأمثالهما. فهو بوقوفه على كلام العرب نثره ونظمه، خطبه ورسائله، ودرسه لعيون الشعر ودواوين العرب وجمهرات نظمها، لاحظ في هذا التراث الواسع البديع ما شدّ انتباهه إلى بعض الاستعمالات التي لزمها القدامى وتعودوا عليها. وعجب من خلو كتب اللغة والأدب، لكثرة استعمالها، من الوقوف عندها لدراسة خصائصها، وبحث ما تتميّز به من أساليب في كتب البلاغة والنقد. وذهب يقرّر أن لشعراء العرب في كلامهم سُنناً لا يكادون يحيدون عنها، يتبع فيها المتأخِّر خطى المتقدِّم، بحيث يعدّ الإخلال بها حَيَدَة عن الطريقة المألوفة. وقبل أن يضبط بعض هذه السنن ويمثل لها بالشواهد الثابتة المعروفة، يذكر سمات عامة للشعر عند العرب. منها: 1 - افتتاحهم لكثير من أغراضهم في الشعر بالنسيب، وينبّه إلى موضع ذلك من معلّقات زهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، ويتقدّم الغزل أو النسيب قصائد المَدْح، كما في قصيدة علقمة يمدح الحارث الغساني: طحا بك قلب في الحسان طروب ... بُعَيد الشباب عصرَ حان مشيب وقصيدة كعب بن زهير: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يُفدَ مكبول

وقصيدة القطامي: إنّا محيّوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بَليتَ، وإن طالت بك الطول وليس هذا الأمر بدعاً من القول، فقد سجّل هذه الظاهرة وأقرّها المتنبّي في قوله: إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكلّ فصيح، قال شعراً، متيَّم 2 - ومنها خطاب المثنى بنحو يا صاحبيّ، خليليّ، يا فَتَيَان. ومن أقدم ما ورد من ذلك قول امرىء القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وقول السليك بن السلكة السعدي: يا صاحبيّ ألا لَا حيَّ بالوادي ... إلا عبيد وآم بين أذواد وقول الآخر: فإن تسألاني عن هواي فإنّني ... مقيم بأقصى القير يا فتيان وهنا بعد تعليل البيت الأخير بأن من عادة المسافر أن يستصحب مرافقين، يتقدم بملاحظة عامة يبيّن فيها استخلاصه ممّا وقع عليه نظره في مطالعات الأدب العربي أنه وجد شعراءهم كثيراً ما يوجهون الكلام إلى المرأة بطريق الخطاب أو بالاسم أو الضمير أو يحكون عن المرأة، مع أن المقام أن تكون المرأة معيّنة مقصودة بذلك أو مقصوداً إبلاغ الكلام إليها. فربّما طلبوا من المرأة أن تسأل عن خبر وأن تتعرّف حادثاً. وأكثر ما لاح لي ذلك في السؤال المفروض، لأن الأصل فيه أن يبنى على فرض سؤال، فيكون مبنياً على التذكير كقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ} (¬1)، أو: ¬

_ (¬1) المعارج: 1.

{السَّائِلِينَ} (¬1). فلما لاح لي ذلك وتتبعته تبين لي أنَّ توجيه السؤال إلى المرأة بُني على ملاحظة الغرض الذي من شأن المرأة أن تسأل عنه، ثم انتقلتُ إلى البحث عن كل مقام فيه ملاحظة الأغراض التي من شأن المرأة أن يكون لها الحظ الأوفر فيها من الاعتبار أي من الشؤون التي يغلب على النساء الاهتمام بها أكثرَ من اهتمام الرجال. فكل ذلك مما يقيمون كلامهم فيه على منوال التأنيث. وهكذا ضبط صاحب المقالة صور توجيه الخطاب إلى المرأة وطرقه في الشعر عند العرب. ولكنه لا يفتأ أن يقول إثر هذا: ثم وجدت توجيه الخطاب إلى المرأة في مواضع أخرى غير طلب السؤال عن خبر، فاتسع لي باب طرقته. فإذا وراءه كُوَى، تطل منها أفنانٌ لا يعتريها ذبول ولا ذوى. ويحاول الإمام ضبط هذه الأغراض أو تقريبها، فيستجلي بذهنه ما مرّ به في بحوثه ودراساته، ونظره ومطالعاته. فإذا هي لا تعدو خمسة أغراض سبرها سبراً. ونحن قبل أن نتعرّض لهذه الأغراض من طرق توجيه الخطاب إلى المرأة، لا بد لنا من الرجوع إلى أشعار العرب وأقوالها مؤتسين في ذلك بعمله الدقيق في هذه المقالة، إذ جعل الشواهد مرجعَ استنتاجه وطريق وصوله إلى تقريراته في هذا الشأن: الغرض الأول: أنه كان من عادة النساء العربيات العناية بالأخبار والحوادث، يعمرن بالحديث عنها آناء اجتماعهن في الأسمار. فمن أجل ذلك يتناقلنها وتُشيعها المرأة والأخرى، وينبسطن بالحديث عنها إلى رجال بيوتهن في أسمارهم. ومن ذلك ¬

_ (¬1) البقرة: 177؛ يوسف: 7؛ فصلت: 10.

حديث أم زرع الوارد بكتب السنة. فإذا قصد الشاعر إلى إبراز ذلك وجّه الخطاب إلى ضمير الأنثى، أو حدّث عنها بطريق الغيبة. وهذا ليس من التجريد أو انتزاع ذات من ذات أخرى، ولا هو من قبيل توجيه الخطاب إلى غير معيّن، وهو كثير في القرآن. ولكن في الغرض الذي نحن بصدده ينبغي أن يلحق بالأساليب المتّبعة في الاستعمال. ولا يحقّ أن يعدّ في مبحث وجوه تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر من مباحث علم المعاني. والنقاد لم يبحثوا عن نظيره وهو خطاب المثنّى في نحو (قفا نبك)، كما قصدوا عدم التعرض لنظيره مع شهرته بين أهل الأدب. واستثنى في هذا المقام صوراً لا تدخل في غرضنا المحدود هذا، ممثلًا لها بكلام الأعشى ولبيد، وعبيد بن الأبرص وذهلول بن كعب العنبري. الغرض الثاني: أن المرأة شديدة الإعجاب ببطولة الرجل لقصور قدرتها عما يستطيعه الرجال، ولأنّها ترى في بطولة الزوج والقرابة ما يُطَمئن بالها ويعيذها من كل شر. قال النابغة: حذاراً على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتّى يَمُتن حرائرا فإذا كان الرجل جباناً نفرت منه لتعيير النساء إياها به، وهذا كالذي يومىء إليه عمرو بن كلثوم في بيته: يقتن جيادنا ويقُلن لستم ... بعولتَنا إذا لم تمنعونا ومما يلحق بهذا قول عنترة: إن تغدفي دوني القناع فإنّني ... طب بأخذ الفارس المتلثّم وقول أنيف بن زبان الطائي: فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا ... لسائلة عنّي، خفيَّ سؤالها

وقول لبيد: أو لم تكن تدري نوار بأنّني ... وصّال عقد حبائل، جذّامُها ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها ومن هذا أيضاً مواجهة المرأة بأن تسأل عن كرمه، كما في قول مضرس العبدي: فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ... إذا ردَّ عافي القِدرِ من يستعيرها الغرض الثالث: رغبتهم في إظهار ثباتهم يوم اللقاء أو محامدهم بين أهليهم وقبائلهم كقول الآخر: وترانا يوم الكريهة أحرا ... راً، وفي السلم للغواني عبيدا ويتغيّر هذا الغرض بتغيّر الأحوال. فمن ذلك أن تلوم المرأة زوجها على السخاء إبقاء على ماله. وقد جاء من هذا قول ضمرة بن ضمرة النهشلي: بكَرتْ تلومك بعد وهن في الندى ... بَسْلٌ عليك ملامتي وعتابي وقال تأبّط شراً: بل من لعاذلة خذّالة أشب ... حرّق باللوم جلدي أي تحراق تقول أهلكت مالًا، لو قنعت به ... من ثوب صدق، ومن بزٍّ وإعلاق وقال النمر بن تولب في حالة أخرى: لا تجزعي إن منفس أهلكته ... فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي وقال كثير يمدح عبد الملك بن مروان: إذا ما أراد الغزو لم تثن همه ... حَصان عليها نظم دُر يزينها نهته، فلما لم تر النهيَ عاقهُ ... بكت، فبكى ممّا شجاها قطينها

وقال سُلمى بن ربيعة: زعمت تماضر أنّني إن ما أمت ... يسدُد بُنَيُّوها الأصاغرُ خلّتي تربت يداك، وهل رأيت لقومه ... مثلي على يسري، وحين تعلّتي الغرض الرابع: بناء الشعر على خطاب المرأة في الشؤون التي يليها النساء. فيكون ذلك الخطاب إخراجاً للكلام على الغربا. وأنشد على هذا قول مرّة بن عكان السعدي: يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمّي إليك رحالَ الحيِّ والغربا وقول الآخر (وهو من شواهد المفتاح): أتت تشتكي منّي مزاولة القرى ... وقد رأت الأضياف ينحون منزلي فقلت لها لمّا سمعت كلامها ... هم الضيف جِدِّي في قراهم وعجّلي والغرض الخامس: الذي ختم به ذكر الوجوه السابقة في أسلوب العرب في توجيه الخطاب إلى المرأة هو تذكر الخليلة عند الوقوع في مأزق من تذكر النعيم عند حلول البؤس، إذ الشيء يذكر بضدّه، أو في حالة المسرّة والانبساط. ومثّل الإمام الأكبر لهذا الغرض بشواهد أربعة: الأول: وهو أقدم ما فيه، قول عنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... منّي وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنّها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسّم الثاني: قول أبي عطاء السندي: ذكرتك والخطّيّ يذكر بيننا ... وقد نهلت منَّا المثقَّفةُ السمرُ

2 - الجزالة

والثالث: قول ابن رشيق في قتال البحر: ولقد ذكرتك في السفينة، والردى ... متوقّع بتلاطم الأمواج وعلى السواحل للأعادي غارة ... وأنا وذكرك في ألذّ تناج والرابع: قول ابن زيدون في التذكّر عند ساعات السرور. وهو من أجود ما قيل في الذكر: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا وهكذا جاء تصرّفه في عرض الأساليب والأغراض في توجيه الخطاب جمعاً واستنتاجاً، اعتماداً على روايته الواسعة للشعر، ومعرفته بالطرق فيه، غير مقتصر في شواهده على الجاهلي وشعراء الحماسة والمفضليات، بل متناولاً من ذلك ما جادت به قرائح المُوَلَّدين من نقاد وشعراء في بلاد المغرب والأندلس (¬1). * * * 2 - الجزالة أدرجت المجلة الزيتونية هذه المقالة في باب اللغويات في الأدب. وعذرها في ذلك أن الشيخ صاحب المقالة بدأ بتتبع هذه الكلمة والبحث عن مدلولها فيما رجع إليه من كلام أئمة النقد وصناعة الإنشاء والشعر. ثم ختم جولته في مراجعاته بقوله: فلم أر منهم من أفصح عن مقومات هذه الصفة وشرائط حصولها، وأنا أبذل مبلغ جهد الفكر في الكشف عن مفاد هذا الوصف، وأقدم ما هو منه وصف للفظ ثم أتبعه بما هو وصف للمعنى. وفي هذا الكلام إشارة إلى أن الآراء لم تتفق على وصفيتها للفظ أم للمعنى أم لهما معاً. ¬

_ (¬1) م. ز: 4/ 9، 207 - 213.

والحق أن الوصف بها ورد للفظ كما ورد للمعنى. فقد ذكر ابن منظور في اللسان أنها من محاسن اللفظ فقال: الكلام الجزل القوي الشديد، واللفظ الجزل خلاف الركيك. وجعلها المرزوقي من صفات المعاني فقال في مقدمة شرحه لديوان الحماسة: فطلبوا المعاني العجيبة من خواص أماكنها وانتزعوها جزلة عذبة. وبمعنى الغلظ والقوة جاءت في الحديث: "اجمعوا لي حطباً جزلاً"، كما وصفوا بها الرأي فقالوا: أجزل الرأي أي جيِّدُه. ونعتوا بها الذات كما جاء في الحديث: "قامت امرأة منهن جزلة" أي تامة الخلْق. واعتباراً لهذه الاستعمالات قال الإمام: إن الجزالة وصف للفظ مأخوذة من صفات الناس، إذ الجزالة في الإنسان هي جودة رأيه وكمال عقله وإتقان فهمه. فبها يكون الإنسان جزلاً أي كامل الإنسانية. وقريب من هذا ما شرطه الفقهاء في القاضي أن يكون ذا جزالة رأي. ثم خلص من هذا إلى استعراض آراء النقاد والشعراء في ذلك، فاستشهد بكلام ابن رشيق وعبد القاهر وابن شرف وابن هاني الأندلسي وابن الأثير والعكبري. فابن رشيق أورد في العمدة ذكر الجزالة وعطفها على الفخامة. قال: منهم قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته على مذهب العرب من غير تصنّع كقول بشار: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما (¬1) وأوردها ثانية توءماً للرشاقة. فقال: وشبه قوم أبا نواس بالنابغة لِما اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة (¬2). ¬

_ (¬1) ابن رشيق. العمدة: 80 ط أمين بمصر. (¬2) ابن رشيق. العمدة: 82 ط أمين بمصر.

ووصف عبد القاهر الجرجاني الجزالة فقال: من البراعة والجزالة وشبههما ما ينبىء عن شرف النظم. وقال عن النظم: أن تقتفي في نظم الكلِمِ آثارَ المعاني وترتّبَها على حسب ترتّب المعاني في النفس (¬1). وفي رسالة الانتقاد لابن شرف القيرواني عند وصفه شعر لبيد: أنه ينطق بلسان الجزالة عن جنان الأصالة، فلا تسمع إلا كلاماً فصيحاً، ومعنى مبيناً صريحاً (¬2). وقال ابن هاني الأندلسي واصفاً المباني أو الألفاظ بالجزالة: إلا أنه إذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه رمى عن منجنيق يؤثر في النيق (¬3). ووازن ابن الأثير في المقالة الأولى من المثل السائر عند حديثه عن الصناعة اللفظية قائلاً: جاءت لفظة واحدة في آية وفي بيت. أمّا التي في الآية فكلمة يؤذي في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ}. وأما التي في بيت، ففي قول المتنبي: تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام جاءت كلمة يؤذي في القرآن جزلة متينة، وفي شعر أبي الطبيب ركيكة ضعيفة حطّت من قدر البيت لضعف تركيبها بقدر ما كان موقعها حسناً في الآية (¬4). وفي كليات أبي البقاء العكبري نقرأ: الجزالة إذا أطلقت على اللفظ يراد به نقيض الرقّة. وهكذا نجد في كلام ابن الأثير وكلام أبي البقاء اختلافاً بيّناً ¬

_ (¬1) عبد القاهر. دلائل الإعجاز: 149. (¬2) رسائل البلغاء. تحقيق محمد كرد علي: 344. (¬3) رسائل البلغاء. تحقيق محمد كرد علي: 251. (¬4) ابن الأثير. ط بولاق: 88.

حيث جعل الأول الجزالة في مقابل الركاكة، وجعلها الثاني مقابلة للرقّة، ويلخّص ابن عاشور هذه الاستعمالات بقوله: قد رأيتهم يقابلون الجزالة مرّة بالرقّة، ومرّة بالركاكة، ومرّة بالضعف، ومرّة بالكراهة. فتحصّل لنا من معنى الجزالة أنها كون الألفاظ التي يأتي بها البليغ، الكاتب والشاعر، ألفاظاً متقاربة في استعمال الأدباء والبلغاء، سالمة من ركاكة المعنى، ومن أثر ضعف التفكير، ومن التكلّف، ومما هو مستكره في السمع عند النطق بالكلم أو الكلام. فهذه الجزالة صفة مدح. وأتبع هذا التعريف بنقد بعض النصوص والاستعمالات الموسومة بالركاكة، وجعل من هذا بيتاً للخوارزمي يخاطب بديع الزمان خطابَ مفاخرة. وذلك قوله: وإذا قرضت الشعر في ميدانه ... لا شك أنك يا أخي تتشقق وخالف الإمام بين الجزالة والرقّة ضارباً المثل لكل من اللونين، ومنبّهاً إلى أن لكل واحدة من هذين مقاماً يليق بها. فالجزالة تناسبها الشدة كالرثاء أو الحماسة، وتستعمل الرقة أو يلجأ إليها في النسيب والزهريات والملَح لما فيها من لين ولطافة. ويختم كلامه عن الجزالة بالتنبيه إلى أنها من أوصاف المباني والمعاني جميعاً قائلاً: والجزالة من صفات الألفاظ باعتبار المعاني. ويظهر تصرّف البليغ في صناعتها بالخصوص في صوغه المعاني التي يصوغها في نفسه من مجاز واستعارة وتمثيل وتشبيه وكناية وأنواع البديع. وأما المعاني الوضعية فتأتي بطبع سياق الكلام، وتأتي في الألفاظ تبعاً للمعاني. وعلى هذا الاعتبار ينبني وصفهم المعنى بالجزالة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) المجلة الزيتونية: 6/ 9، 344 - 345.

الآثار الأدبية

الآثار الأدبية: إنها لكثيرة وكثيرة جداً. تنبع من عناية الإمام الأكبر باللغة وعلوم العربية وعلوم البلاغة. ومن واسع حفظه للأشعار، ومن اهتمامه المستمر بتقييد الشوارد والفرائد مما يقف عليه في مطالعاته. حاولنا حصر هذه الآثار فبدأنا بتقسيمها إلى أربع مجموعات: الأولى: ما عُني به من القصائد المفردة. وهما قصيدتان: شرحه لمعلقة امرىء القيس الذي ما يزال مخطوطاً، وتحقيقه لقصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلق (¬1). الثانية: 1 - جمع وتكميل وشرح لديوان سحيم عبدِ بني الحسحاس. مخط. 2 - قطع من ديوان الحماسة. مخط. وإلى جانب هاتين المخطوطتين أخرجت له دور النشر كتابين هامَّين هما: 3 - ديوان النابغة (¬2). 4 - ديوان بشار بن برد (¬3). الثالثة: قَصَرَهَا المؤلف على المتنبي. وهي خمسة كتب: 1 - شرح القرشي لديوان المتنبي. مخط. ليس للشيخ عمل فيه. 2 - مراجعات في معجز أحمد لأبي العلاء المعريّ. مخط. ¬

_ (¬1) ط العرب تونس 1348 - 1929. (¬2) جمعه وشرحه وتعليقه. الشركة التونسية للتوزيع. تونس/ والجزائر 1976. (¬3) 4 أجزاء. تحقيق الشيخ وتعليقه. نشر الشركة التونسية للتوزيع/ الشركة الوطنية الجزائرية للتوزيع. 1976.

3 - مراجعات في اللامع العزيزي. مثله. مخط. 4 - تحقيق الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصبهاني (¬1). 5 - تحقيق سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن السراج (¬2). الرابعة: مؤلفاته الأدبية والنقدية: 1 - شرح المقدّمة الأدبية التي وضعها المرزوقي بين يدي شرحه لديوان الحماسة (¬3). 2 - شرح وتعليق على قلائد العقيان للفتح ابن خاقان وعلى شرح ابن زكور له (¬4). واعتباراً لصعوبة الوقوف على المخطوطات من هذه الآثار، وهي بدون شك تحتاج إلى وقت وصبر وبحث، نكتفي في هذا المقام بالتعريف بما هو مطبوع منها. * * * ففي المجموعة الأولى: جمع وتعليق على قصيدة الأعشى الأكبر: وهو رسالة صغيرة تقع في نحو 31 صفحة مع ملحق تكميلي لها في 7 صفحات. ¬

_ (¬1) ط. الدار التونسية للنشر. (¬2) ط. الدار التونسية للنشر 1970. (¬3) ط. تونس 1958، تونس/ وليبيا 1978. (¬4) ط. الدار التونسية للنشر 1989.

قصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلق

قصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلّق الأعشى أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل مِن بكر بن وائل. كان من فحول الشعراء، ويدعى بصناجة العرب لجودة شعره. فخّم أبو عمرو بن العلاء من شعره، وعظّم محلّه. فقال: شاعر مُجيد، كثير الأعاريض والافتنان. ونصح عبد الملك بن مروان مؤدب أولاده، وقال له: أدِّبْهم برواية شعر الأعشى فإنه - قاتله الله - ما كان أعذب بحرَهُ وأصلَبَ صَخْرَه (¬1). مدح الأعشى المحلّق عبد العزى بن حنتم الكلابي بقصيدة بديعة على روي القاف. نوّه الأدباء بشأنها في الفصاحة والبلاغة. حامت ميامن طيرها ببيت المحلّق ذاك الفقير المعدم المئناث فكانت سبباً في نباهة ذكره بعد خمول، وفي إيراق غصن مجادته بعد ذبول، وخطب أمجادُ العرب بناته الثمان بعد أن نسجت عليهم عناكب النسيان (¬2). وبهذه القصيدة أبيات أشتات من شواهد العربية، ومقطّعات النوادر الأدبية. قال الإمام الأكبر: كنت منذ زمان عُنيت بجمعها من ¬

_ (¬1) انظر بعد تحقيق نسبة الكتاب للبغدادي. الخزانة: 1/ 175 - 176. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. قصيدة الأعشى: 3.

متفرّق كتب اللغة والعربية والأدب: فمن الصحاح والقاموس والتاج إلى الخزانة وقواعد المطارحة وشواهد المغني وثمار القلوب، ومن كتب العربية هذه إلى كتب التفسير كالبيضاوي بحاشية الشهاب، والكشاف وشواهده، إلى كتب الأدب كالأغاني والعمدة، والكامل، والبيان، وجمهرة أشعار العرب، وشرح البردة لابن عاشور الجدّ، وشرح عياض لحديث أم زرع، ومروج الذهب، وأمالي الشريف المرتضى. وإنما أغفل من مصادر قصيدة الأعشى رواية ثعلب لديوان الأعشى الموجودة بالأسكوريال وديوان الأعشى لحاير، وشرح ديوان الأعشى لمحمد بن حبيب، وشرح ديوان الأعشَى الأكبر لمحمد محمد حسين لتعذر وقوفه عليها. وإن كان الديوان قد طبع (¬1) لكن بعد فراغ مؤلفنا من جمعه وتحقيقه لقصيدة الأعشى في المحلّق. وشيخنا الجليل، في سعيه الحميد هذا، يصف عمله في قصيدة المحلّق ومراحل جمعه وترتيبه لأبياتها، منبّهاً على الغاية الشريفة التي كان يرمي إليها من وراء هذا الجهد: "وقد كنت منذ زمان عنيت بجمعها من متفرّق كتب العربية والأدب، حتّى أوشكت أن أظفر بكمالها أو ظفرت، لأني رأيت في خزانة الأدب للبغدادي أبياتاً تسعة منها. ثم قال: وبقي بعد هذا أكثر من ثلاثين بيتاً ... فلما بلغ ما جمعته منها واحداً وأربعين بيتاً، وغلب على ظنّي أني قد استقصيتها رأيت إثباتها ونشرها والتعليق عليها خدمة للأدب العربي الذي هو مفخر لساننا، وزهرة روضنا من البلاغة وثمر بستاننا. ورتبت ما ¬

_ (¬1) حققه د. نصر الحتي. نشر دار صادر، ونشرته دار الكتاب العربي في سلسلة "شعراؤنا".

جمعته من الأبيات على حسب انتساب معانيه، مع التنبيه على مواضيع مُتفَرِّقِها لأكفي المؤونة لمعانيه". واليوم، وقد نشر الديوان، رجعنا إلى طبعة دار الكتاب العربي مقارنين بين نصّ القصيدة بها وهو 62 بيتاً مع النص الذي جمعه وحققه الشيخ ابن عاشور وهو مع ملحقه 46 بيتاً. وطبيعي أن تكون الأبيات مختلفة الترتيب بينهما، فوضعنا جدولًا للتعريف بهذا والمقارنة. واكتفينا هنا بأبيات الخزانة مثالًا على ذلك. فأحببنا أن نقف بالخصوص على الأبيات التي كانت منطلق بحث الشيخ عن هذه القصيدة، ورجعنا إلى الخزانة للبغدادي لاعتداده بها، ومحاولته تكميل ما جاء فيها من أبيات. ذكر البغدادي بيتاً شاهداً منها: 3/ 252، 254: 6/ 48 وإنَّ امرأً أسرى إليكِ ودونه ... من الأرض مَوْمَاةٌ وبيدا سَمَلَّقُ على ورود الجملة: ودونه من الأرض موماة، حالًا لا الظرف وحده. وطالع القصيدة: 1 - 1/ 1 أَرِقْتُ وما هذا السهاد المؤرِّق ... وما بيَ من سُقْمٍ وما بيَ مَعشَقُ وبيتين آخرين هما: 7/ 49 لَمَحقوقةٌ أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المُعانَ موفّق 15/ 23 تريك القذى من دونها، وهي دونَه ... إذا ذاقها مَن ذاقها يتمطّق (¬1) وذكر فيها شاهداً: 5/ 291، 387. وهو بيتان: أولهما الشاهد 204 في جواز التأكيد بالضمير المنفصل في الصفة الجارية على غير من هي له، إذا أمن اللبس عند الكوفيين. ¬

_ (¬1) الأرقام في أول الأبيات لكونها من قصيدة المحلّق عند الشيخ ابن عاشور أولاً، ولموقعها في الديوان ثانياً.

والبيت الذي يليه: 7/ 49. وقد أضاف لهذين البيتين ص 293 عشرة أبيات منها الشاهدان. ونحن نذكرها مع اختلاف روايتها بين المصدرين: الجمع والتحقيق وبين الديوان دون إشارة إلى التعاليق عليهما لضيق المكان. ب، ع 24 وخَرْقٍ مُخُوفٍ قد قطعتُ بِجَسْرةٍ ... إذا خبّ آلٌ وسْطَه يترقرق 252 وخَرق مخُوف قد قطعت بجسرة ... إذا خبّ آل فوقه يترقرق ب، ع 3، د 26 هي الصاحب الأدنى، وبيني وبينها ... مَجوفٌ علافيٌّ وقطعٌ ونُمرُقُ ب، د 27 وتصبح من غبّ السُّرى وكأنّما ... ألمّ بها من طائف الجن أولقُ ع 5 وتصبح من غبّ السُّرى وكأنها ... ألمّ بها من طائف الجن أولقُ ب، ع 6 وإن امرأ أسرى إليكِ ودونه ... من الأرض موماة وبيداء سملق د 48 وإن امرأ أسرى إليكِ ودونه ... فيافٍ تنوفاتٌ وبيداء خيفق ب، د 49 لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعانَ موفّق ع 7 لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المُعاني موفّق ب، ع 8 وكم دونه من حَزْنِ قُفٍ ورَمْلَةٍ ... وسَهب به مستوضحُ الآل يبرق د 36 وكم دون ليلى مِن عدو وبلدة ... وسَهب به مستوضحُ الآل يبرق ب، ع 9 وأصفر كالحِنَّاء ذاوٍ جِمامُه ... متى ما يذقه فارطُ القوم يبصُق د 47 وأصفر كالحناء طامٍ جِمامه ... متى ما يذقه فارط القوم يبصق ب، ع 33 به تُنفض الأحلاسُ في كل منزل ... وتعقد أطراف الحبال وتُطلق د 43 به تُنفض الأحلاس في كل منزل ... وتعقد أنساع المطي وتُطلق ب، د 42 ولا بدّ من جار يُجير سبيلها ... كما سلك السَّكِّيُّ في الباب فيتق ب، ع 10، د 50 ولا بدّ من جار يجيز سبيلها ... كما جَوَّزَ السَّكِّيُّ في الباب فيتقُ * * *

ديوان النابغة الذبياني

ديوان النابغة الذبياني أما المجموعة الثانية من آثار الإمام الأكبر الأدبية فهي ما جمعه وحقّقه وأكمله وشرحه وعلق عليه من الدواوين. وإن لهذه المجموعة لصلة وعلاقة بالمجموعة الأولى قبلها. ونكتفي في هذا المحل بالوقوف عند ديوانين: أولهما ديوان فحل من فحول الطبقة الأولى من المقدّمين، منزلته بعد امرىء القيس، ويلتقيان في نفس الطبقة مع زهير والأعشى. وهو النابغة الذبياني. وثانيهما من كان في الرتبة الأولى من المُحْدَثين من الشعراء المُجيدين. وهو بشار بن برد. النابغة الذبياني: أما النابغة فهو زياد بن معاوية بن سعد بني ذبيان. ويكنّى أبا أمامة وأبا عقرب بابنتين كانتا له، كما ذكر ذلك البغدادي. وإنما دعي بالنابغة لقول النقاد في تقديم شعره: نبغ بالشعر بعد ما احتنك، وهلك قبل أن يهتر. يريدون أن مادة الشعر لديه لا تنقطع كمادة الماء النابغ. وقيل: لقوله من قصيدة: وحلّت في بني القَينِ بن جَسر ... فقد نبغت لنا منهم شؤون وقال رجالُ هذا الفن في وصف روائعه الشعرية التي تميّز بها:

أحد فحول شعراء الجاهلية، أحسنُهم ديباجة شعر، وأكثرُهم رونق كلام، وأجزلُهم بيتاً، كأنّ شعره كلام ليس فيه تكلّف. وذكر بشار بن برد، وهو المِفَنُّ بين رجال عصره قال: أجمع أهل الحجاز على تقديمه وتقديم زهير على غيرهما من الشعراء. ولعل من روائع شعره ما فضّله به الشعبي على الأخطل في مجلس عبد الملك بن مروان. وذلك قوله: هذا غلام حسن وجهه ... مستقبل الخير سريع التمام للحارث الأكبر والحارث الأصـ ... ـغَرِ والأعرج خير الأنام ثم لهند ولهند فقد ... ينجع في الروضات ماء الغمام خمسةُ آباءٍ همُ ما همُ ... هم خير من يشرب صفو المدام وفضّله أيضاً عمر بن الخطاب على الشعراء، إذ سأل من كان ببابه من وفد غطفان قائلاً: أيّ شعرائكم الذي يقول: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب قالوا: النابغة. قال: فأيّ شعرائكم الذي يقول: فإنّك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلتُ أنّ المنتأى عنك واسع قالوا: النابغة. قال: هذا أشعر شعرائكم. وقد كان مع منعته في قومه مقرباً من النعمان بن المنذر. يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، ويجد لديه من الحفاوة والتبجيل ما جعل الملك يبالغ في إدنائه. وأعطاه مرّة مائة بعير من النعَم السود معها رعاتها ومظالها وكلابها. واشتهر هذا الشاعر بقصائده الطوال التي منها ما عدّوه أول جمهرات العرب. وهي التي يقول في مطلعها:

عوجوا فحيُّوا لنُعمٍ دمنة الدار ... ماذا تحيّون من نُؤْيٍ وأحجار أقوى، وأقفر مِن نُعمٍ، وغيَّره ... هُوج الرياح بها في الترب موار ومنها التي ذكرها التبريزي في شرحه للقصائد العشر، مقارنة بما أنشده لأصحاب المعلقات، وهي الدالية التي طالعها: يا دار ميّة بالعلياء فالسند ... أقوت، وطال عليها سالف الأبَد. وقَفْتُ فيها أصَيلاناً أسائلها ... عيّت جواباً، وما بالربع من أحد. ومن أشهر قصائده أيضاً الدالية الأخرى التي يقول من أوّلها: أمن آل ميّة رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزوّدِ. أَفِدَ الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا، وكأن قَدِ. هذه هي التي وصف فيها زوجة صديقه النعمان المتجرّدة، ذاكراً خفيَّ محاسنها، فغضب الملك عليه. ولاذ هو بالفرار. ومكث هناك غير قليل عند الغساسنة يمدح عمرو بن الحارث الأصغر. ثم رجع إلى صديقه مستشفعاً بالفَزاريَّيْن، فعفا عنه الملك. وأنشده النابغة بعد ذلك اعتذارياته البديعة، كما أعطى قبيلته حظاً من شعره مدافعاً عنها ومؤيِّداً لها. فكان جميع ذلك مدعاة لتقدير منزلته السامية في الشعر. وقد حمل هذا معاصريه في الجاهلية على أن يضربوا له قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها. وأول من أنشده منهم الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم غيرهما، كما أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد. هذا هو النابغة وما يتميّز به بين الشعراء. وهو وإن كان وبشر بن خازم يُقْوِيان، فقد استحوذ ببليغ قوله وسحر بيانه على كل من خالطه أو قرأ له. وهكذا عَلِق شيخنا الإمام بشعره، وانصرف إلى النظر فيه

والعناية به. وقد كان موقفه منه مثل موقفه من الأعشى قبله، وموقفه من بشار بعده. والثلاثة فحول يحرص الدارس على جمع أقوالهم، والبَحث عن المزيد من آثارهم. فالأسباب التي دعت المحقق إلى تتبع أبيات قصيدة المحلّق في مظانّها، والقيامِ بعد جمعها قدرَ الوسع بترتيبها وبناء وحدتها، هي التي حملته على طلب أشعار النابغة في مختلف المراجع والمصادر. ولم يكن المطبوع من شعر أبي أمامة، الذي وقف عليه شيخنا يومئذٍ، غير ما صدر عن المطبعة الوهبية بمصر 1293، أو ما ضمّنه لويس شيخو مجموعته شعراء النصرانية التي ظهرت ببيروت 1307/ 1890. وبعد مراجعته للديوان في طبعتيه، إن صحّ القول، تبيّن للإمام أنّ بهما نقصاً، وأن شيخو لم يُخْرج ما وقف عليه من شعر النابغة، حتّى قام بتجريد شرح عاصم بن أيوب البطليوسي، مضيفاً إليه ما عثر عليه من أبيات للنابغة في كتب اللغة والأدب، مثل لسان العرب لابن منظور، ومعجم البلدان لياقوت الحموي. وبهذا حصل له خلط فيما جمعه من أبيات للنابغة الذبياني وما عزاه إليه خطأً من شعر النابغة الجعدي أو غيره. وسبب ذلك قلّة التثبّت وعدم التحرّي أحياناً، كما حصل له، بجعله مع عدد من الجاهليين المبدعين من شعراء النصرانية، وَهْمٌ. فاستوجب ذلك مناقشة الإمام لآرائه وإبطاله لمزاعمه. واستدراكاً على هذه الجهود النافعة أصبح ديوان النابغة في حاجة إلى من يجمع شتاته ويقيم نصوصه ويرتّبه، مع الشرح الذي لا غنى أحياناً عنه، لِما في بعض ألفاظه من وعورة، وبعض تراكيبه وجمله من خفاء أو دقَّة. وقام الإمام الأكبر بهذا العمل الجليل لأول مرّة معتمداً فيه على مصدرين هامَّين هما:

أولاً: شرح أبي جعفر النحاس للديوان. وهو ما يزال مخطوطًا، ومنه نسخة بالأحمدية بجامع الزيتونة. وثانياً: شرح عاصم بن أيوب البطليوسي له. وهو مطبوع. وفي بيان منهجه في التحقيق يقول شيخنا في المقدمة التي وضعها بين يدي الديوان: جمعته مبتدئاً بما اتُّفق على إثباته، معبراً عن هذا بقولي: قال النابغة أو نحوه، دون عزو إلى أحد الشرحين لاتفاقهما عليه، ثم أذكر ما انفرد به أبو جعفر في شرحه معزواً إليه، مع التنبيه في جميع ذلك على اختلاف الروايات في الألفاظ، وفي ترتيب الأبيات. فأثبت ما يوجد من شعر النابغة المجموع في ديوان الشعراء الستة الموجود بجامع الزيتونة والمعروف بالعقد الثمين. وفيه أشعار امرىء القيس، وعلقمة بن عبدة، وزهير، والنابغة، وطرفة، وعنترة. منسوباً ما فيه من شعر النابغة إلى رواية الأصمعي. وضممت إلى ذلك ما خلا عنه كلا الشرحين. فألحقت بكل حرف من حروف القوافي ما حصل لدي من شعر النابغة، وعبرت عنه بالملحقات، منبّهاً على ذكر مَن نَسَبَه إلى النابغة، مع بيان مرجعي في ذلك. وقد كان هذا العمل الجاد صعباً ومفيداً بدون شك. حمله عليه ما كان يراه من قصور أئمة اللغة والأدب الذين جعلوا من شعر النابغة محطاً لهممهم ولم يعيروه مع ذلك من الاهتمام ما وفّروه لنظرائه وما هو له أهل (¬1). وقد توصّل عن طريق عمل شيخنا الدؤوب والدقيق، المتأدبون وأهل هذا الشأن، إلى الوقوف على أكثر شعر النابغة. وتمكّنوا من اكتشاف أسراره، ونواحيه اللفظية والبلاغية بفضل شرحه له، وتعاليقه ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. ديوان النابغة: 5، 7.

عليه التي نبّه إلى خطته فيها بقوله: "علّقت على ما يحتاج إلى التعليق من الأبيات بتفسير غريب المفردات، وبيان المعاني الخفية دون تطويل مما لم يعرَّج عليه في شرح عاصم بن السيد البطليوسي الذي هو المطبوع الوحيد. ورأيت ذلك كافياً لإقبال الذين لهم تأهل لمطالعة الديوان حتّى تقع لديهم طبعة علمية منه" (¬1). وقدم المحقق بعد هذا تكملة لعمله النفيس بقوله: هذه أبيات منسوبة إلى النابغة بعضها أثبته لويس شيخو، وبعضها موجود في ديوانه المطبوع بالمطبعة الأهلية ببيروت قبل سنة 1916، والأكثر موجود في ديوانه المطبوع بمطبعة المكتبة الأهلية 1347/ 1929. وكلها لم أره منسوباً إليه في نسخة ديوانه، الذي شرحه البطليوسي ط، ولا في نسخة المخطوطة التي شرحها أبو جعفر، وجملة ذلك 49 بيتاً. وإن ما أحدثه هذا التحقيق من هزّة في الأوساط العلمية والأدبية قد دفع العلماء والنقاد، بدون شك، إلى مزيد من الالتفات إلى شعر النابغة بجعله محلّ دراسة، وموضع عناية بالغة والتفت إليه الباحثون والمحقِّقون من عرب ومستشرقين، فعرفوا بكثير من مصادره. * * * ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. ديوان النابغة: 8.

ديوان بشار

ديوان بشار لقد عدّ الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بشّار بن برد أولَ المولّدين، وآخر المتقدّمين من الإسلاميين في فن الشعر. ومن أجل ذلك أبدى عنايته به. فجمع ديوانه وشرحه وحقّقه معتمداً على مواهبه وقدراته واتساع علمه ودقة معارفه. والإمام الأكبر من أول الدارسين القائمين على التعريف بالتراث الأدبي العلمي. تكشف عن ذلك مواقفُه وتعامُله مع شعر الأعشى والنابغة وبشار وغيرهم من أعلام المدارس الإبداعية في عصورهم المتعددة المتعاقبة، كما أنه من أول المحقّقين البارعين الموصوفين بالدّقة والتثبت. فهو بقية العلماء المتقدّمين الراسخين في علوم الشريعة وعلوم اللغة وسائر العلوم والفنون الأدبية. وبشار بن برد، بعلوِّ منزلته عند علماء عصره ونقاده، وبانجذابهم إليه في كل ما استشهدوا به من أشعاره، كان حرياً بأن يحظى، بعد إهمال كبير لأدبه وشعره، بهذا العمل الجيد الفريد المتمثل في نشر ديوانه، وضمّ ما انتثر له من شعر في كتب اللغة والبلاغة والأدب والتاريخ ونحوها، وبتحقيقه التحقيق المميّز، الذي خلت منه التصانيف المحقّقة المنشورة في عصرنا الحاضر. وذلك بتفسير مادته، ونقد أبياته، ومقارنتها بأمثالها ونظائرها من كلام السابقين والمتأخرين، وبالكشف عن أهم ما أبدعه بشار في نظمه، وأشرقت به مناهجه في عرض معانيه وتصوير أغراضه، ودلّت عليه

تصاريفه القولية من خروج عن المتعارف والمعهود أحياناً، وما أنشأه من ابتكارات وأفانين مرّة أخرى. وضع الإمام الأكبر مقدمة لديوان بشار كشأنه في أموره كلها، فكانت من جنس ما عرف به وعنه من علم وعمق وفهم ونقد. وإذا اجتمعت هذه العناصر كلها لدى العالم أو الأديب بشرت بما سيصدر عنه من روائع وتأمّلات، هي نسيج وحده وبديعُ صنعه. فمن قرأها أفاد منها، ومن تنقل بين فرائدها أذهلته الحكمة، وتملّكه حُسن المعرفة وجمال البيان، ومَن تأمّل جواهرها ومسائلها تفتّقت في ذهنه كوامن الأسرار، وتجلّت له حقائق التصرّفات القولية، فاستزادت منه وقوفاً، وبجميل ضروبها ولوعاً. تشمل المقدمة حسب تقديرنا العام لمحتواها ستة عناصر هي: أولاً: الترجمة العامة لبشار بذكر نسبه واسمه وكنيته ولقبه وأهله، والحديث عن صفته وعماه ولباسه واعتقاده وخلُقه وبداهته وملحه، ثم ذكر سبب وفاته. ويقع هذا في تسع وعشرين صفحة. ثانياً: التعريف بمكانة بشار لدى الخلفاء والأمراء، وبغرامه، وبالكشف عن سعة علمه بالعربية، وبالحديث عن البصرة وقبائل العرب حولها، وبما أفاده الشاعر من هذا كله، مع بيان مرتبته في العلم باللسان العربي، وبفنون القول. وكل هذا في ست صفحات. ثالثاً: الحديث عن الشعر وأطواره. وتحديدُ منزلةِ بشار فيه. ولما لهذا الغرض من أهمية توسع الإمام الأكبر في إيراد أمثلة من نظمه في شتى الأغراض متأيداً في اختياراته بأقوال أئمة الأدب، ناقلًا عنهم: أنه لم يكن في زمن بشار بالبصرة غزل ولا مغنية ولا نائحة إلا يروي من شعر بشار فيما هو بصدده. ومما أعجب به

الناس من شعر بشار أنه لم يقصر نفسه على متابعة المتقدّمين من الشعراء في معانيهم، بل أودع شعره كذلك المعاني الحضرية المستجدّة في عصره. رابعاً: ينتقل بنا الإمام الأكبر إلى عنصر هام جداً من عناصر مقدمته. وقفه على التعريف بمنزلة شعر بشار عند العلماء والنقاد. ولا أظن أن أي واحد من الأدباء في مستطاعه أن يغوص على خصائص شعر بشار، وإبراز أبدع صوره، مقترنة بالتحليل والتفصيل في هذا العصر. فإن ذلك مما اختص به أصحاب الملكات العلمية من علماء اللغة والعربية والاشتقاق والبلاغة والشعر. وإن هؤلاء وحدهم، بكمال تكوينهم، وتمام استحضارهم للقواعد النظرية عند أصحاب تلك العلوم، يُخضعون النصوص الشعرية والأدبية لا لمجرد الذوق، وإنما للذوق السليم المحكم الذي ازداد اكتمالًا ونمواً عند صاحبه بممارسته الطريقة التطبيقية في الشرح والنظر والنقد. وأين منا أمثال هؤلاء، وهم في كل عصر قلة. ومن يقدرُ اليوم مثل الإمام الأكبر على جمع الكثير من النظريات والفوائد في صفحات قليلة، بياناً ونقداً في عرضه وتفصيله لشعر أي شاعر من المتقدِّمين أو المتأخِّرين. ذلك أنه يعسر وقوفهم على ما وقف عليه أئمة هذا الفن من آلات تعين على الفهم والنقد، أو تمكّنهم من عرض بعض الصور الشعرية مع التطبيقات العلمية عليها في زمن غاضت فيه السليقة، واختلطت الألسن، واستولت على الناس العجمة. والمقصود من وضع هذه المقدمة، فيما يظهر، العناية بهذه العناصر الثلاثة: الثاني والثالث والرابع. فهي محط النظر، وموضع الدرس، وسبيل التقويم والنقد لشعر ابن برد. وهي التي يجب الوقوف

عندها وقوفاً خاصاً مُسايرة لكاتبها فيما عرض له من أفهام، واعتمده من نظريات وقواعد وأحكام، للتوصل إلى تجلية هذا الديوان لشُداة الأدب وطلابه. وفيما أبداه من رأي ونقد، بذكر خصائص الشاعر، وروعة نظمه، وكمال إبداعه، وقدرته على مزاحمة غيره ومنافسته. خامساً: يقف صاحب المقدمة بين جانبي الأدب والنقد لدى بشار في صفحات خمسة، معرّفاً بنقد بشار للشعر والشعراء، ومورداً فقراً من نثره. وهذا مما تتأكّد إضافته إلى العناصر الثلاثة التي ذكرنا. ويتحدث المؤلف بعد هذا عن صلة بشار بولاة إفريقيّة في عصره، وبممدوحيه يزيد بن حاتم وابنيه داود وروح منهم، كما يذكر دخول شعر بشار إلى هذه المنطقة من بلاد المغرب عن طريق اختيارات محمد وسعيد الخالديين، وما تلقّفه عنهما إسماعيل بن أحمد التُّجيبي القيرواني الذي وضع لشرح ما استجاده من شعر بشار كتابه الذي أسماه الرائق في أزهار الحدائق. ويمكن أن نضيف إلى محتوى هذا العنصر الأسماء الكثيرة والأعلام التي يذكر الشاعر بها معاصريه، ويرمز ببعضها إلى صويحباته اللائي شغفن قلبه. والقسم الأخير من هذه المقدمة تعريف بديوان بشار، وطريقة جمعه وقيام الإمام الأكبر بنشره. وهو من إحدى يتيمات المخطوطات التي تحتفظ بها خزانته العامرة. وكل هذه المعلومات نعود إلى إجمال القول فيها، بإذن الله، بعد أن نتناول من خلال العناصر الأربعة التي أومأنا إليها قبل دراسة أدب بشار وشعره. وقد تركنا الحديث عن العنصر الأول وعن جزء من العنصر الخامس لما فيهما من حديث عن ابن برد الشاعر، وحياته ومعاصريه ومغامراته وفتنته وموته.

وقد تولّى التعريف بذلك ما صدر في هذا العصر عن غير واحد من بحوث ودراسات، وبجانب ذلك كله طائفة من أخباره. فبشار من الموالي، من أبناء الفرس من شَعب أذريرس بن يستاسف الملك بن يهراسب الملك كما نسبه حميد بن سعيد. وهو خراساني من قريش الفرس. ومن فخر بشار بكريم محتده قوله: وإنّي لَمِنْ قومٍ خراسان دارهم ... كِرامٍ، وفرعي فيهمو ناضر بسِق وإنك لتجده مع اعتداده بأصله الفارسي، يفاخر بانتسابه إلى مواليه من بني عامر العُقيليين كما يعرب عن ذلك قوله: نَمَت في الكرام بني عامر ... فُرُوعي، وأصلي قريشُ العَجَمْ وأصل أبيه من طبرستان من سبي المهلب، وأمه رومية أمةٌ لرجل من الأزد تدعى غزالة. وقد اختلط على الناس ولاؤه، فقال قوم: هو عُقَيْليّ، ونُسب أخرى إلى بني سَدوس، وثالثة إلى قيس عيلان. والحق كما قال الإمام الأكبر أن ولاءه لبني عُقيل بن كعب من بني عامر بن صعصعة. وبنو عامر بن صعصعة من قبائل قيس عَيْلان بن مُضَر. فعُقيل هو ابن كعب بن ربيعة بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس عيلان. كذا ذكر النسَّابون. وكنية شاعرنا أبو معاذ، ولقب بالمرعّث. وقد صرح في شعره باسمه مرتين. الأولى في قوله: اقعد فقد قال رواة الأشعار ... ليس ابن نِهيا من رجال بشار (¬1) ¬

_ (¬1) من أرجوزة بشار. ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 256.

والثانية في قوله: إذا أنشد حماد ... فقل أحسن بشار (¬1) وقد كناه بأبي معاذ لِدَاتُه وأكثرُ معاصريه. ومنهم أبو العتاهية الذي استحسن بشار شعرَه كما يعلن ذلك قولُه: كم من صديق لي أسا ... رِقُه ابتلاء من الحياءِ فإذا تأمّل لامني ... فأقول ما بي من بكاءِ لكن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عيني بالرداءِ (¬2) فأجابه العتاهي متلطفاً: لا والله يا أبا مُعاذ، ما لذت إلا بمعناك، ولا اجتنيت إلا من غرسك. فإنك أنت الذي يقول: شكوت إلى العواذل ما ألاقي ... وقلت لهن: ما يومي بعيد فقلن: بكيت، قلت لهن: كلا ... وهل يبكي من الطرب الجليد ولكنّي أصاب سوادَ عيني ... عُويدُ قذى له طرف حديد فقلن: فما لدمعهما سواء ... أكلتا مقلتيك أصاب عود (¬3) ولقب بالمُرَعَّث، وتأوّلوا في ذلك التآويل. وصرح ابن برد بهذا اللقب في شعره فقال: أنا المرعّث لا أخفى على أحد ... ذرّت بِيَ الشمسُ للقاصي وللداني (¬4) وقال أيضاً: فُتِنَ المرعّث بعد طول تصاح ... وصبا ومَلَّ مقالةَ النُّصَّاح (¬5) فإذا أردنا الجوهر من هذه المقدمة، ووضْعَ أيدينا على ¬

_ (¬1) مثبت في الملحقات: 1/ 256. (¬2) ابن عاشور. ديوان بشار: 1. (¬3) المرجع السابق: 1/ 89. (¬4) المرجع السابق: 1/ 13. (¬5) ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 13.

خصائص بشار وعلمه وأدبه، لجأنا إلى الإمام الأكبر، ففتح لنا الباب على مصراعيه. ولكل ذي مدخل أو تقديم ما يترجم به عن عميق حسه، ويلوّن به القصد من التوجيه والتعليق، فيُمكِّنُ بذلك مرافقه من الإلمام بما ألمّ به. ومن إدراك خبيئة نفس الشاعر المترجَم له، ومعرفة خصائصه البارزة والمقوِّمات الأساسية لفنه وأدبه. ولُباب ما نريد لفت النظر إليه من خلال رياض بشار الزاهرة، واختيارات الشواهد عليها ما جمعه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في القسمين الثاني والثالث وجزء من الرابع من المقدمة حين قدم لنا صورة البيئة التي نشأ بها بشار ومكاسبه منها، وموضع شعر بشار من كل ما عرف من عيون هذا الفن، ومنزلة هذا الشعر عند العلماء والنقاد. فالبصرة هي منازل العرب الأقحاح. نبت بها ابن برد، ونشأت لديه المَلَكة العربية. فكان إلى جانب ما تميّز به من الفصاحة والبلاغة، وصحة التعبير وجزالته، تاريخَ عصره بما جارى فيه العرب الخلّص من ذكر أحوالهم وعاداتهم، وأيامهم وأخلافهم، وبما رسمه في خرائده من حديث عن الإسلام ودوله بعد ذلك، وبما وصفه من أحوال المولدين وأمثالهم وعقائدهم، ومجالس جدهم ولهوهم (¬1). ورجل كهذا بديع القول، رقيق الحاشية، عذب المجلس، جميل النظم، له من سلطان أدبه ما يسيطر به على القلوب، ويحرّك به النفوس، لا بد أن يكون موزّعاً بين سلطة تحميه أو تعطيه يلجأ إليها، وبين مجالس يلهو فيها. وهكذا كان بشار كما وصفه جامع ديوانه من أهل الوجاهة والسمعة، مكرّماً لدى الخلفاء من بني أمية الذين لم ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 1/ 34، 35.

يُخف تشيّعه إليهم. وقد ظهر هذا واضحاً في قصيدته البائية: جفا وِدُّه فازورّ أو ملّ صاحبُه ... وأزرى به أن لا يزالَ يعاتبه (¬1) وفي قصيدته التي طالعها: أأحزنك الألى ظعنوا فساروا ... أجلْ فالنوم بعدهمُ غِرارُ (¬2) وتشيع أيضاً لرأس العلويين إبراهيم بن الحسن بن علي ومدحه. ثم قلب بعد ذلك ظهر المجن فصانع العباسيين. وكانت له مكانة عالية ومنزلة رفيعة لدى أبي جعفر المنصور وولده المهدي. واعتداداً بأدبه وتقديراً لموهبته جعل له هذا الخليفة وفادة عليه كل سنة. ذكر ابن رشيق في العمدة أن المهدي ضمَّه إلى ديوان الأَزِمّة، مع كونه بصيراً، إشادة به وتقريباً له. ومن شعره في المهدي قصيدته التي أولها: تجاللتُ عن فهر وعن جارتَيْ فهر ... وودّعت نُعمى بالسلام وبالهجر (¬3) ويقول فيها: عُرفتَ أمير المؤمنين برقّة ... علينا، ولم تُعرف بفخر ولا كبر بَنَى لك عبد الله بيتَ خلافة ... نزلت بها بين الفراقد والنسر وعندك عهدٌ من وُصاة محمد ... فرعت بها الأملاك من ولد النضر (¬4) وربما زاد في علو منزلة بشار عند رجال السلطة والحكم علمُه الواسع. قال الشيخ الإمام: وحسبك عدّ بشار مع مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء من العلماء إلا أنهما عظَّمتهما التقوى، واستهتر ¬

_ (¬1) مهدي محمد ناصر الدين. الديوان: 14. (¬2) المرجع السابق: 493. (¬3) المرجع السابق: 507. (¬4) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 510.

بشار بالمجون (¬1). وبمثل هذا الشعر البديع الرائع كان بشار يصف مجالسه، ويتحدّث عن غرامه ونسيبه، وعشقه وصبواته. يقول ناشر الديوان: وصف بشار أحوال الغرام كلَّه، ومدّ نفَس شعره بتفاصيلها. فلم يغادر لشاعر مقالاً في ذلك. وإن وَصفَ الغرام وأفانينه، وهو معظَم شعره، نزع إليه من كل غرض وفي كل مقام. وذلك أسطع برهان على شاعريته، وقوّة خياله، وبلاغة كلامه. فيكون حاله في هذا شبيهاً بحال كثيِّر، الذي قيل: إنه كان مدّعياً ولم يكن عاشقاً (¬2). ولم تحمل بشار عاهاته وعيوبه الخَلقية على تجنّب الناس أو الشعور بالنقص بينهم، بل كان يرى في عماه قوة لذهنه، ومضاء لذكائه. إذا ولد المولود أعمى وجدتَه ... وجدِّك أهدى من بصير وأجْوَلا عميتُ جنيناً والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلا وغاض ضياء العين للقلب فاغتدى ... بقلب إذا ما ضيّع الناسُ حصّلا (¬3) ويعلن أخرى عن تعويضه العمى بحسٍّ أشد رفاهة، وأقوى تأثيراً فيقول: أنّى ولم ترها تصبو؟ فقلت لهم: ... إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصر (¬4) ومرّة يجعل السمع والفؤاد خَلَفاً عن البصر في اجتلاء المحاسن فيقول: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 1/ 35. (¬2) المرجع السابق: 1/ 30. (¬3) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 577. (¬4) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 447.

نبئت عنها شكلاً فأعجبني، ... والسمع يكفيك غيبة البصر (¬1) وأجمل من هذا وذاك قوله: يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا: بمن لا تَرى تهذي؟ فقلت لهم: ... الأذن كالعين تولي القلب ما كانا (¬2) وهذه المعاني المتولدة عن تلك الروح الفياضة هي التي حملت الشيخ ابن عاشور على القول بصحة غرام بشار وعشقه. فقد كان ذا نفس خليعة تحب المجون، وجعل طريقة عشقه حُسن النغمة ورقة المزاج ولين الملمس وحلاوة الحديث. وهو يتوسل بذلك إلى أن يجيد النسيب، فإنه سَدى الشعر ولُحمته. ومما ينبئك بذلك أنك تجده يكثر في نسيبه وصفَ حُسن منطق النِّساء: وكأنّ رَجْعَ حديثِها ... قِطَعُ الرياض كُسين زهرا (¬3) وإذا كنا ذكرنا أغراضه الشعرية: كالمديح والغزل اللذين تفوّق فيهما أيّ تفوّق، وأبدع فيهما كلّ إبداع، فإن أحاديث الملوك والنقاد، وهم أصحاب علمٍ بالعربية، وثقافةٍ بالشعر في عصره، لتدعونا إلى إرجاع النظر كرّتين لتلمّس إبداعه وفائق مقدرته. أما المديح فقد سئل أبو عمرو بن العلاء وهو النقادة الخبير بكلام الشعراء، عن أمدح الناس. فقال: هو الذي يقول (يعني بشار) (¬4): ¬

_ (¬1) ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 44. (¬2) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 613. (¬3) ابن عاشور. ديوان بشار: 4/ 69. (¬4) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 239.

لمست بِكَفِّي كفَّه أبتغي الغنى ... ولم أَدْرِ أن الجود من كفّه يُعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدتُ، وأعداني فأتلفتُ ما عندي وفي باب النسيب الذي فتحه على مصراعيه تاركاً امرأَ القيس فيه عيياً. وأبدع في وصف مشاكاة المتحابين، وتوسيط الرسل، ومراقبة الرقباء، وعذل العذال، بما لم يسبِق إلى تفصيل الوصف فيه أحدٌ من الشعراء. وبهذه المهارة وببديع تصرّفه في الأغراض الغزلية بزّ الشعراء وسار أتباعه منهم على إِثْرِه. وكانوا يتباهون بشعره. ويقلّدونه فيما يسعهم من روائعه مثل قوله (¬1): طال التنائي، فكل غير مُتّرك ... حتى تَرَيْ عاتباً منّا ومضطردا حتى التقينا فمن شكوى ومَعْتَبة ... تَكرُّهاً، لا نخاف العين والرَّصَدا. غاب القذى فشربنا صفو ليلتنا ... حِبَّين نلهو ونخشى الواحد الصمدا. قالت: فَأَنَّى - بنفسي - جئتَ مسترقاً ... من العدو تخطّى الوعر والجَدَدا. جورٌ أتى بك أم قصد، فقلت لها: ... ما زلت أقصد لو تُدنينَ مَن قصدا. لا تعجبي لاجتيابي الليل منسرقاً ... ما كنت قبلكِ رِعديداً ولا بَلِدا يا رب قائلة يوماً لجارتها: ... إن المرعّث همِّي غاب أو شَهِدا وبقية أغراض الشعر التي عني بها بشار: الهجاء، والفخر، والحماسة، والوصف، والأدب. وجرب حظّه في الأراجيز. فمن ذلك قوله في الفخر والحماسة: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو تقطر الدّما إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذُرَى منبر صلّى علينا وسلّما (¬2) ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 290. (¬2) ابن عاشور. ديوان بشار: 2/ 93.

وله في الوصف روائع من أجودها قصيدته في زفاف حبيبته وسفرها. ومنها طالعها: دَعَوْتُ بِوَيْلٍ يوم رَاحَ عَتَادُها ... وأودعني الزفزافَ ليلة أدلجوا. وقد زادني وجداً عليها وما درت ... مجامر في أيدي الجواري تأجّج. وما خرجت فيهنّ حتى عذلنها ... قياماً، وحتى كادت الشمس تخرج. فقامت عليها نظرة واستكانة ... تساقَط كالنشْوى حياءً وتَنْهَج. وما كان منّي الدمعُ حتى توجَّهَتْ ... مع الصبح يقفوها الفنيد المسرّج (¬1). ومن بديع شعره في الأدب: إني وَعَيْشِكَ يا عبّادَ فاستمعي ... لو أبتغي فوق هذا الحب لم أزد كأنّ قلبي إذَا ذِكراكُمُ عَرَضت ... من سحر هاروت أو ماروت في عقد ما هبّت الريح من تلقاء أرضكُمُ ... إلا وجدت لها برداً على الكبد ولا تيمّمت أخرى أستسرُّ بها ... إلا وجدت خيالاً منك بالرَّصد فهل لهذا جزاءٌ من مودتكم ... مُرَوّع القلب بالأحزان والسُّهُد (¬2) ومن بديع ما يروى له في الأدب والحكمة وضرب الأمثال، ميميته التي يقول فيها: فقل للخليفة إن جئته ... نصوحاً ولا خير في متّهَم. إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبّه لها عمراً ثم نم. فتى لا ينام على ثأره ... ولا يشرب الماء إلا بدم. إذا ما غزا بشَّرت طيرُه ... بفتح، وبشَّرنا بالنعم (¬3). ¬

_ (¬1) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 590. (¬2) ابن عاشور. ديوان بشار: 2/ 221. (¬3) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 589.

وتدبُّر هذه الألوان الفنية الرائعة من الشعر يعود بنا إلى التعرف على شخصية بشار الأدبية ومنزلتها بين أعلام الشعر في الأدب العربي. فهو المحافظ على النهج العربي السليم، الداعم له، والسائر على وفق قوانينه، مع ما ابتكره من صور، وعرض له من أغراض، طوّر بها الشعر وناسب بينها وبينه بما يليق بعصره، ويتماشى مع الحداثة التي كان يتطلع إليها كثير من أهل الفن في ذلك الزمن. وأكثر شعر بشار ممّا جاشت به نفسه، وسمت به روحه، ورشحت به مواهبه. لم ينظم منه أبداً عن طلب، ولا أجاب فيه لِاقتراح أحد إلا قليلاً. ومما يُستثنى من هذا الوصف ما جرت به فكاهات المجالس، أو ذُكر في النوادر، أو سَمَحت به نفس شاعر يجيز. فمن ذلك طَلَب المهدي من بشار أن يقول في الحب شعراً، يجعله فيه قاضياً بين المحبّين من غير تسمية أحد ولا إطالة. فقال على البديهة: اجْعلِ الحُبَّ بين حِبِّي وبيني ... قاضياً، إنَّني به اليوم راضِ فاجتمعنا، فقلت: يا حِبَّ نفسي ... إنّ عيني قليلة الاغتماض أنت عذّبتني، وأنحَلتَ جِسمي ... فارحم اليوم دائم الأمراض قال لي: لا يحلُّ حكمي عليها ... أنت أولى بالسّقم والإحراض قلت لمّا أجابني بهواها: ... شمل الجورُ في الهوى كل قاض (¬1) ومن أبرز أنواع الشعر وأشهرها الأراجيز. وهي لون فريد بديع صعب من الشعر. تفرد به كبار الحذاق من الشعراء، وأهل المعرفة باللغة، والإخباريون، وأصحاب القدرة على نسجه. ¬

_ (¬1) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 547.

وقد جاء مبيناً هذه الحقيقة ما دار بين الراجز عقبة بن رؤبة ابن العجاج، وبين بشار في مجلس والي البصرة. واتّهم الراجز بشاراً قائلاً له: هذا طراز يا أبا معاذ لا تنسجه. فاستشاط شاعرنا غضباً عليه. وقال له: ألِمثلي يقال هذا الكلام؟! أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدِّك. وأنشد الوالي في الغد بذلك المجلس أرجوزته الفائقة: يا طللَ الحيِّ بذات الصَمْدِ ... باللَّه حدّث كيف كنتَ بعدي. أوحشتَ من دَعْد ونُؤْيِ دَعدِ ... بعد زمانٍ ناعمٍ ومَرْدِ، عهداً لنا، سَقياً له من عهدِ؛ ... إذ نحن أخياف بما نؤدِّي (¬1). وهي طويلة تزيد على مائتي بيت. فلمّا فرغ من إنشادها طرب عقبة بن سَلم وأجزل صلته. وقام عقبة بن رؤبة فخرج من المجلس بخزي، وهرب من تحت ليلته (¬2). وبعد هذه الجولة التي أخَذَنَا فيها الإمام الأكبر إلى أجمل الرياض وأحسنها، وأزهاها وأطيبها، نحاول أن نجد لروائع القصائد والأشعار التي مررنا بها سنداً في الحكم أو تعليلاً، وسبباً للانبهار بما قرأناه أو سمعناه أو رويناه من هذه الغرر الشعرية، فلم نلف من ذلك الأنماط الأدبية السحرية. وإننا لا نترك إمامنا في الاهتداء إلى ذلك، بل نسير معه بخطى وئيدة استكمالاً للروعة، واستزادة من المتعة. وقد كان بشار ممَّن وصفه النقاد بالتقدم والإجادة بين معاصريه فيما ينظمه من قصائد ويُعرف عنه من روائع. قال الجاحظ وهو يتحدث عن كوكبة من فحول الشعر في عصر ¬

_ (¬1) ابن عاشور. ديوان بشار: 2/ 156. (¬2) الجاحظ. البيان والتبيين: 2/ 540.

المولدين مناظراً بينهم وموازناً بين مقاماتهم. فلم يكن فيهم أصوبُ بديعاً من بشار وابنِ هرمة والعتابي. وكان العتابي يحتذي حذو بشار في البديع ... والمطبوعون على الشعر من المولدين، بشار والسيد الحميري وأبو العتاهية وابن أبي عيينة وسَلم الخاسر ويحيى بن نوفل وخلف بن خليفة وأبان بن عبد الحميد، وبشار أطبعُهم كُلِّهم. فهو من أصحاب الإبداع والاختراع، المتقنين للشعر، القائلين في أكثر أجناسه وضروبه. والشواهد على هذا كثيرة تضمنتها بطون أمهات كتب الأدب والنقد. قال الرشيد: بشار أمدح الناس شعراً حيث يقول: ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف، ولكن يلذ طعم العطاء (¬1) يسقط الطير حيث ينتثر الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء. ومن مستحسن شعره الذي تفوَّق به على غيره ما ذكره أبو حاتم حين سُئل عن أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول (يعني بشاراً): ولها مبسِمٌ كثغر الأقاحي، ... وحديثٌ كالوشي وشي البرود. نزلت في السواد من حبة القلـ ... ـب ونالت زيادة المستزيد. عندها الصبر عن لقائي، وعندي ... زفرات يأكُلن صَبر الجليد (¬2). وهو مبرَّأ بين الأدباء مما وقع فيه كثير غيره من سرقة الشعر. فقد ذكر الخطيب البغدادي عن علي بن يحيى بن منصور أحد ¬

_ (¬1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 272 - 273، 315، 323. (¬2) ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 136.

أصحاب إسحاق الموصلي. قال: ما عرف بشار بسرقة شعر جاهلي ولا إسلامي (¬1). ويمكن أن نضمّ لهذه الملاحظات المتعلقة بشعر بشار موقفين نذكر منها: ما روي عن الأصمعي من قوله مقارناً بين بشار ومروان بن أبي حفصة أيّهما أشعر؟ قال: إن مروان سلك طريقاً كثُر من يسلكه. فلم يلحق بمن تقدّمه، وشركَه فيه من كان في عصره. وبشار سلك طريقاً لم يُسلك وأحسن فيه وتفَرّد به. وهو أكثر تصرفاً في فنون الشعر، وأغزر وأوسع بديعاً. قال: وقد وجدت أهل بغداد قد ختموا الشعراء بمروان، وبشار أحق بذلك منه. وما كان مروان في حياة بشار يقول شعراً حتى يصلحه له بشار ويقوّمه. فبشار مطبوع لا يكلّف طبيعته شيئاً متعذّراً. وكان الأصمعي يُشَبِّه بشاراً بالأعشى والنابغة، ويلحق مروان بزهير والحطيئة. ويقول: هو متكلِّف. وكان أبو عبيدة يفضل بشاراً على مروان (¬2). الموقف الثاني: موقف الجاحظ منه حين بلغه أنهم يقارنون بين بشار وحماد. فقال: وما ينبغي بشار أن يناظر حماداً من جهة الشعر وما يتعلق بالشعر، لأن حماداً في الحضيض، وبشاراً مع العيّوق. وليس في الأرض مولّد قروي يعدّ شعره في المحدَث إلا بشارُ أشعرَ منه ... ومع هذا فإنا لا نعرف بعد بشار أشعر منه (¬3). ومن دلائل استقرار هذا الإعجاب بشعر بشار في النفوس أن نوّه المحكِّمون ببديع نظمه ورائع شعره. وقد وردت في مختلف ¬

_ (¬1) ابن عاشور. ديوان بشار: 3/ 190. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 1/ 71. (¬3) ابن رشيق. العمدة: 1/ 194، ط. بيروت.

دواوين الأدب شواهد من ذلك تدل على اهتمام أهل اللغة وأهل الصناعة به. نجد أكثر ذلك عند اللغويين في كتب: العين، وتهذيب اللغة، والتنبيه والايضاح، وجمهرة اللغة، والمخصّص، واللسان، والتاج، والنهاية. كما نجده في كتب الأدب والصناعة مثل: الأغاني، والصناعتين، وطبقات الشعراء، والحماسة البصرية، وعيون الأخبار، وشرح المرزوقي لديوان الحماسة وغيرها. ومن بين هذه الشواهد من شعر بشار: - قُل ما بدا لك من زور ومن كذب ... حِلمي أصمّ وأذني غير صمّاء - أخوك الذي إن رِبْتَه قال: إنّما ... أربتَ وإن لم ينته، لان جانبه (¬1) - وفرعٌ زان متنيك ... وزانته التقاصيب - فإذا ظهرت تقنَّعي ... بالحُمر، إنّ الحُسن أحمر (¬2) مع قول بشار: لخدّك من كفيك في كل ليلة، ... إلى أن ترى وجه الصباح، وسادُ تبيت تراعي الليل ترجو نفاده، ... وليس لليل العاشقين نَفاد (¬3). ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة طالعها: جفا وُدُّه فازْوَرَّ أو مَلَّ صاحبه ... وأزرى به أن لا يزال يعاتبه مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 141. (¬2) وفي الديوان الرواية: وإذا دخلنا فادخلي ... في الحمر، إن الحسن أحمر ابن عاشور. ديوان بشار: 4/ 75. (¬3) كذلك للشوق الغريب إذا سرى ... من الوجه مشدود عليك صفاد وطالع القصيدة: نبا بك خلف الظاعنين وساد ... وفي تلك إلا راحتيك عماد مهدي محمد ناصر الدين. الديوان: 418.

ومثَّل عبد القاهر الجرجاني أيضاً للنظم يتّحد في الوضع، ويدقّ فيه الصنع بقول بشار: كأنّ مُثار النقع فوقَ رؤوسنا ... وأسيافَنا، ليلٌ تهاوى كواكبه وهو قرين لبيت امرىء القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العُناب والحشف البالي ولبيت الفرزدق: والشيب ينهض في الشباب كأنَّه ... ليل يصيحُ بجانبيه نهار (¬1) وقد قدم صاحب دلائل الإعجاز لهذه النظائر بقوله: ومما ندر من الشعر، ولطف مأخذه، ودقّ نظر واضعه، قول بشار: كأنّ مثار النقع فوقَ رؤوسنا ... وأسيافَنا، ليلٌ تهاوى كواكبه. ثم عقّب على ذلك الجرجاني بقوله: "وانظر هل يتصوّر أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفراداً عارية من معاني النحو التي تراها فيها، وأن يكون قد وقع "كأنّ" في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء، وأن يكون فكَّر في مُثار النقع من غير أن يكون أراد إضافة الأول للثاني، وفكر فى فوق رؤوسنا من غير أن يكون قد أراد أن يضيف فوق إلى الرؤوس، وفي الأسياف من دون أن يكون إيراد عطفها بالواو على مُثار" (¬2). ثم جرى على هذا النحو من التفصيل في إبراز حقيقة النظم بقوله: ¬

_ (¬1) الجرجاني. دلائل الإعجاز: 92. (¬2) المرجع السابق: 411.

"وليت شعري كيف يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من غير أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى" (¬1). وفي المقارنة بين بيت بشار هذا وقول امرىء القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العنابُ والحشف البالي وبينه وبين قول زياد: وإنّا وما تُلقي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر، مهما يُلقَ في البحر يغرق وكذلك بينه وبين بيت الفرزدق: وما حملت أم امرىء في ضلوعها ... أعقّ من الجاني عليها هجائيا يثبت الجرجاني أن لبيت بشار مزيةً على قول الفرزدق لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدي معنى، وإن لم يكن معنى يصح أن يقال: إنه معنى فلان، ولا تجد في صدر هذه الأبيات ما يصحّ أن يعدّ جملة تؤدي معنى، فضلاً عن أن تؤدي معنى يقال: إنه معنى فلان. ذلك لأن قوله: "كأن مُثار النقع إلى أسيافنا جزء واحد. وليل تهاوى كواكبه بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام" (¬2). ومما ورد بشأن هذا البيت أيضاً سبقُ بشار إلى معنى مستجاد فيه، نازعه في ملاحظته غيرُه، ولكنه لتأخّر هذا عن المبادرة إليه، يكون الأول قد غلب عليه. ولهذا قضى الجاحظ لبشار في بيته هذا بعد أن ذكر نظائره. ثم قال: وهذا المعنى قد غلب عليه بشار كما غلب عنترة على قوله: ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 411 - 412. (¬2) الجرجاني: 535 - 536.

وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غرداً كفعل الشارب المترنّم هزِجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم (¬1) ومما له علاقة بقضايا النحو إتيانك بالذي، التي يجاء بها كثيراً على أنك تقدر شيئاً في وهمك ثم تعبّر عنه بالذي. ومثاله قول بشار: أخوك الذي إن ربْتَه قال: إنما ... أرِبت، وإن عاتبته لان جانبه يقول الجرجاني: "إنك بهذا قدرت إنساناً هذه صفته وهذا شأنه. وعرض صاحب دلائل الإعجاز إلى قول بشار: بكّرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير وذكر إنكار خَلف عليه قوله: إن ذاك النجاح في التبكير، واقتراحه استبداله ببكرا فالنجاح في التبكير. وهنا يستوقفنا الإمام عبد القاهر، ويبيّن محل كلمة "إنّ" وموضعها من الجملة في قول بشار هذا (¬2). وقد عدّ حازم القرطاجني مما اختير في المبادي أي من الإبداع في الاستهلال بيت بشار هذا. وذكر معه من البدايات الجميلة مطالع قصائد للنابغة والأعشى والقطامي وأبي تمام والبحتري وغيرهم (¬3). وشاعر كبشار بلغ من العلم ما بلغ، وسبق أهل عصره في إبداعاته ومبتكراته، لم يخل من حاسد أو كائد أو منافس. ومن ثم فإن دواوين الأدب، مهما جمعت له من نصوص تنطق بتفوّقه، وتشهد ¬

_ (¬1) الجرجاني: 602 - 603. (¬2) الشاهد 251 من خزانة البغدادي. (¬3) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 312 - 613.

له بكونه المخضرم واسطةَ عقد العصر الإسلامي الأول وعصر المولدين، فقد ذكر له خصومه ومن هو قريب من طبقته أبياتاً ضعيفة ومعاني سخيفة لتستوقف الناظر والباحث. قال خلاد بن مهرويه لبشار: إنك تجيء بالشيء الهجين المتفاوت، بينما تقول شعراً يثير النقع ويخلع القلوب. وقارن مخاطبه بين بيتين له وبين قوله: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدَّمَا وقوله: ربابة ربّة البيت ... تصبّ الخلّ في الزيت لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت فأجاب بشار: لكلّ وجهٍ موضع. واستغرب بعض النقاد الفارق الكبير بين قوله: قد زرتنا مرّة في الدهر واحدة ... عودي، ولا تجعليها بيضة الديك وقوله: إنما عظمُ سُليمى خُلَّتي ... قصَب السكر لا عظم الجمل واذا أدنيت منها بصلا ... غلب المسكُ على ريح البصل فكان بشار في كل ما اعترض به عليه يقول: إنما الشاعر المطبوع كالبحر: مرّة يقذف صدفة ومرة يقذف جيفة. وممن ابتلي به بشار من الخصوم في عصره إسحاق الموصلي (¬1). فقد كان يتتبع سقطاته ويضع من شعره وينسب الجميل ¬

_ (¬1) ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 100.

منه إلى غيره. ولم يسعه بعد طول تردّد، ونسبة بعض نظمه إلى غيره كالمتلمس ونحوه، أن يظهر إعجابه وتَسليمه بتقدم بشار في قوله يمدح مروان بن محمد: جفا جفوة فازورّ إذ ملّ صاحبه ... وأزرى به أن لا يزال يصاحبه (¬1) ومنها: إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... أخاً لك، لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً، أو صِلْ أخاك فإنَّه ... مقارف ذنب مرّةً ومجانبُه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه وبسبب المكانة العالية التي فرض بها بشار وجوده، ومن أجل إقبال الشعراء على أدبه، وتسابقهم إلى حفظه وروايته، احتل هذا الشاعر الكبير بين معاصريه مرتبة متميزة. وأصبحت تعرض عليه روائع الشعر في عصره، أو يحدّث في مناسبات كثيرة بنصوص مختلفة من الشعر فيقارن بينها، ويبدي رأيه فيها. فهو إلى جانب ملكته الأدبية ومواهبه الشعرية، نقادة بصير بوجوه الكلام، يجيد الفهم لما يقال، والحُكم فيما يسمع. ومثال قدرته على التفريق بين أقاويل الشعر وما نسب منها إلى أصحابها قولُه حين سمع أحدهم ينشد للأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا هذا بيت مصنوع، ما يشبه كلام الأعشى. وقال أبو عبيدة: كنت من نحو عشرين سنة جالساً يوماً عند يونس. فقال: حدثنا أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت وأدخله ¬

_ (¬1) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 141.

في شعر الأعشى. فعجبوا من فطنة بشار، وصحّة قريحته، وجودة نقده للشعر. وفي مقدمة ديوان بشار نجد الشيخ ابن عاشور يبني ملاحظاته وآراءَه في شعر أبي معاذ المرعَّث على أصول وقواعد ثابتة: منها التئام العربية بما يكون فيها من ارتباط بين الألفاظ والأحكام. وهذه الألفاظ أو المفردات نوعان: النوع الأول: كلمات موضوعة للدلالة على المعاني الخاصة، وهي الجوامد من أسماء الأعيان، ومن الحروف، والأفعال الجامدة، وأسماء المعاني، والمصادر الدالة على الأحداث لا على الذوات. النوع الثاني: الصيغ الدالة على معانٍ هي صورة لمعاني المصادر، زائدة عليها، كدلالة فَعَل على المضي، ويَفعَل على الاستقبال، وفاعل على المتلبس بالفعل، ومعاني صيغ أخرى كثيرة نذكر من بينها صيغ مفعل، مفعال، ومفعلة. وكلها يدل على الآلة التي يحصل بها الحدث المستفَاد من المَصدر. ومَوضع معرفة ذلك علم متن اللغة والتصريف. وأما الأحكام فهي الكيفيات الترتيبية التي يتألف الكلام العربي منها تألفاً مطرداً ولو بوجوه متعدّدة. ولو خَرج انتظام الكلام عن تلك الكيفيات لكان غير جار على وفق ما تكلّم به العرب، ولأصبح عسير الفهم على أهل هذه اللغة. وموضع الوقوف على هذه الألفاظ والأحكام المستمدة منها علوم النحو والبلاغة والعروض. وقد ذكرنا من قبل استخدام الشيخ الطريقة التطبيقية في غالب شروحه. وذلك اعتماداً على ما أشار إليه عبد القاهر الجرجاني في قوله: ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر

بمعاني الكلم أفراداً أو مجردة من معاني النحو. فلا يقوم في وهم ولا يبلغ في عقل أن يتفكّر متفكّر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكّر في معنى الاسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه، وجعله فاعلاً أو مفعولاً، أو يريد فيه حكماً سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأً أو خبراً أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك (¬1). هذا وقد فرّق العلماء بين ما اجتمع لهم من ذلك من القياسي والمخالف للقياس. وبيّن الإمام الأكبر المتفرع ذاته إلى أنواع من الشذوذ: منها ما يكون قياساً مع كونه لم يسمع عن العرب إلا نادراً، ومنها ما يكون على قياس مع شذوذه. وهذا مقابل للأول. فإذا اجتمع الشذوذ ومخالفة القياس فاستعمال اللفظ مستقبح، وإذا انفردت مخالفة القياس مع الشيوع فالاستعمال جائز، وإذا انفرد الشذوذ مع القياس فهو محلُّ خلاف بين أهل اللغة. ومن تلك الأنواع أيضاً ما يجري اللفظ فيه على القياس مع كونه غير مسموع عند العرب. وهذا يكون العمل به مشروطاً بكون القياس قابلاً له، ولم يأت فيه شيء ينقضه. وهو محلُّ خلاف بين أبي الحسن الأخفش وسيبويه. وأتبع المؤلف هذه التقسيمات بذكر مَن يحتج بقولهم من العرب، وهم المتبدّون الذين لم يدخلوا الحواضر. وجعل من بينهم بشاراً. فهو قد أدرك العرب الباقين من بني عامر بن صعصعة، ولم يخلط في معاشرته بين العرب والمولدين. وهو اعتباراً لنشأته لا يُتَّهم بأنه يخترع لغة أو يقيس فيها على غير أصل. فما نجده في شعره، من صيغ لمواد عربية مما لا شاهدَ لثبوته باتفاقهم، عربي السليقة، ¬

_ (¬1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 410.

وذكر من المولّدين الذين وقع الاحتجاج بلغتهم في كلامهم وأشعارهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي، والمتنبي، والزمخشري، ومعاصري بشار أمثال العجاج، ورؤبة بن العجاج، وذي الرمة، وأبي النجم، والراعي (¬1). ورغم هذه المكانة العالية لبشار في اللغة وتصاريفها كان محلَّ نزاع فيما بدر منه من مخالفات اللسان أو القواعد بين عدد من علماء العربية والبلاغة. وبقراءة متأنِّية أمكن للشيخ ابن عاشور، أن يقف على عدة مخالفات أو تجاوزات لغوية وعربية وقعت في شعر بشار (¬2). فمن أخطائه اللغوية قوله: دع عنك حماداً وخُلقانه ... لا خير في خُلْقان حماد فقد جاء بخلقان جمعاً لخُلق، وهو في العربية جمعُ خَلَق، ولا يصح قياس الأول على الثاني لأنهما ليسا من باب واحد، كما لا يصح أن يكون خلقان مصدراً كالكفران والغفران والسكران. فتعيّن أن يكون بشار قد سمع هذا اللفظ من العرب فأجازه. ولا يصحّ اعتبار خلقان جمعاً لخَلَق هنا، فإن الأبيات في سياق الشاهد تؤكد تخريج الشيخ ابن عاشور. قال بشار: يا طالب الحاجات لا تعصني ... واسمع فإني ناصح هاد دع عنك حماداً وخُلقانه ... لا خير في خُلقان حماد الموثر الرأسَ على ربه ... والجاعل الخنزير في الزاد ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 79. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة الديوان: 3/ 92.

برئت من هذا ومن دينه ... يصبح للخشف بمرصاد (¬1) ومن ذلك توسُّعُه في اشتقاق الأفعال، لكونه أخفّ من القياس على الأسماء: وكذلك عدم اكتراثه بالتعدية واللزوم، واستعماله القاصر متعدياً كما في لفظ آدوا من قوله: وحاسد قبّة بنيت لروح ... أطال عمادها سلف وآدوا (¬2) فآد بمعنى اشتد وقوي. والمعروف في لسان العرب أنه قاصر. وكان بشار مع إدلاله بعلمه وأدبه، وسعة معرفته بكلام العرب نثره وشعره، لا يأبه أن يأتي في نظمه بما يفارق أحكام العروض. فقوله: تحمّل الظاعنون فأدلجوا ... والقلب منِّي الغداة مُختلَج (¬3) من بحر المنسرح. وهو أحد البحور التي تمتاز بعض أوزانها بأناقة التعبير ورصانته، وكأنه منبثق من الكامل. ووزنه: مستفعلن مفعولات مستفعلن ... مستفعلن مفعولات مفتعلن ومنه قول بعضهم: إن ابن زيد لا زال مستعملاً ... للخير يفشي في مصره العرفاء وهذا البيت من المنسرح، عروضه صحيحة، وضربه مطوي. وقد استعملها بشار في الشاهد الذي ذكرناه من شعره بعروض مطوية وضرب مطوي، آتياً هكذا بالعروض والضَّرب كليهما على وزن مفتعلن. ولم يكتف بهذا في البيت الأول، ولكنه جرى عليه في كامل أبيات القصيدة. فقال في الثاني: ¬

_ (¬1) ابن عاشور: 3/ 93. (¬2) ابن عاشور. مقدمة الديوان: 82. (¬3) ابن عاشور: مقدمة الديوان: 83.

بانوا كخود كأن رؤيتها ... بدر بدا والظلام مرتهج (¬1) قال الشيخ رحمه الله: ولو اقتصر على ذلك في البيت الأول لاغتفر، لأن القصيدة إذا وقع فيها التصريع يكون المصراع الأول على وزان الثاني عروضاً وضرباً. وتكرر هذا في قصيدته من بحر المجتث التي مطلعها: يا مالك الناس في مسيرهم ... وفي المقام الخير من رهبه لا تخش عذري ولا مخالفتي ... كل امرىء راجع إلى حسبه وأصل وزنه: مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن ... مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن كما شذّ استعماله عند المولدين تاماً. وهو غير مسموع عند العرب، سداسي يزعم فيه التمام، على نحو ما رسمه الخليل في الدائرة الرابعة، وإنما هو مجزوء وزنه: مستفعلن فاعلاتن ... مستفعلن فاعلاتن وبهذا الوزن يكون اجتثاثه من الخفيف، كقول الشاعر: ما قاله وهو إفك ... ذو فرية وهو باغ والتزم بشار في قصيدته هذه زحافين تخفيفاً لثقل الوزن، وهما زحاف الكف في فاعلاتن الأولى، وزحاف القبض في فاعلاتن الثانية، فصارتا في الصدر والعجز على فاعلتن (¬2). ومن هذا القسم الأخير من المقدمة المتعلق بالكشف عن بعض ¬

_ (¬1) مهدي محمد ناصر الدين: ديوان بشار: 233. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 84.

مخالفات بشار وأخطائه، يبدو لنا تباين مواقف أهل اللغة والبلاغة إزاء أدبه وشعره. ومما يرجح القول بإجادته، وأنه القرم والفحل في فنه، واعتداده بعلمه، وسلامة لغته، وإحاطته الواسعة بالصحيح من مادتها، أنه كالعرب القدامى لا يجد حرجاً في الخروج عن قواعدها والتصرف في مبانيها من حين إلى آخر، لسليقته، وعدم إمكانية اتهامه بالجهل، ولكونه بحكم نشأته ومعارفه حجة في نفسه في العربية ومرجعاً للمتكلمين بها. وديوان بشار الذي نشره الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، بعد جمعه وتحقيقه وشرحه، أكملُ نصاً، وأصحُّ مادة من سائر ما نشر من شعر بشار حتى اليوم، وهو يقع في ثلاثة أقسام: الأول: مقدمته النفيسة التي سبق لنا التنويه بها. الثاني: ديوان بشار كما ورد في النسخة الأصلية من اقتناءات الإمام الأكبر. الثالث: مستدركات لناشر الديوان على ما توفّر له من شعر بشار. وذلك بما ضمّه إليه من نصوص جديدة عثر عليها أثناء مطالعاته الواسعة في كتب الأدب المختلفة. وإنا لنلاحظ به وجود فقرات في نهاية المقدمة، تشتمل على أخبار ومعلومات وفرائد، لها علاقة متينة بشعر بشار، وبمنهج المحقق في إعداده العلمي والفني للديوان. أما المصادر التي احتفظت بقسم من أشعار بشار، رغم ما قدّر على أدبه من الاحتجاب، ورغم خلو المجالس والمنتديات من ذكره أو الحديث عنه، حتى دُعي شعر بشار بحلقة الأدب المفقودة، فهي الأجزاء الثالث والخامس والسادس والسابع والثالث عشر من كتاب

الأغاني للأصفهاني، وقسم تضمنه كتاب أمالي الشريف المرتضى الموسوي، وما وراء ذلك فأوزاع في كتب الأدب. وبعد حين من الزمن بُعِثَ شعر بشار على أيدي أبي بكر محمد وأبي عثمان الخالديين الموصليين في مصنف دَعَوَاه المختار من شعر بشار. وسبقت عصرنا الحاضر طائفة من المؤلفين والمحققين في القرن الماضي أسهموا في إحياء هذا التراث البديع، فكان منهم السيد أحمد حسنين القرني الوراق المصري صاحب المكتبة العربية بالقاهرة. أصدر كتاباً أسماه بشار بن برد، شعره وأخباره. تمَّ طبعه بمطبعة الشباب بمصر 1343. والأستاذ الأديب حسين منصور المصري بوضعه لكتاب بشار بن برد بين الجد والمجون. وهو كتاب جامع لمعظم ما هو متناثر من شعر بشار في كُتب الأدب. طبع بمصر بالمطبعة الرحمانية 1348. وقام العلامة محمد بدر الدين العلوي من جامعة عليكره بنشر وتحقيق المختار من مختار شعر بشار لأبي الطاهر إسماعيل التجيبي القيرواني من رجال القرن الخامس. وهو ما انتقاه من كتاب الخالديين وشرحه. أعان العلوي على هذا المهم المستشرق كرنكو والعلامة الشيخ عبد العزيز الميمني. وكانت طباعة هذا الكتاب بمطبعة الاعتماد بالقاهرة أواسط 1353. وقد ضمّ إليه صاحبه التجيبي شيئاً كثيراً من شعر ابن برد وقف عليه أثناء مطالعاته. وبعد هذا العرض لقصة ديوان بشار الذي تعاقبت عليه الأنظار والجهود عصراً بعد عصر ينتهي ابن عاشور إلى المخطوطة التي اقتناها وحظي بها واحتفظت بها خزانة كتبه. وهي وحدها تمثل قرابة نصف ديوان بشار. تبدأ من أوله وتنتهي أثناء حرف الراء. والقصائد

والمقطعات بها نحو من مائتين وخمس وخمسين. وتشتمل هذه في مجموعها على ستة آلاف وستمائة وثمانية وعشرين بيتاً. وبعد وصفِ المخطوط، وخطِّه العتيق، والسِّفرِ المهذَّب الجامع له، نبّه إلى عنوان الكتاب ديوان بشار، قال: وهو مكتوب، أي الديوان، على ورق عتيق فاختي اللون، والمظنون أنه من نسخ عبد القوي. أما التملك الذي عليه في شكل أهليجي في حجم ظفر الإبهام الكبيرة فنصّه: من ممتلكات الفقير الحاج مصطفى صدقي غُفر له سنة 1129. وتاريخ جمع الديوان ونسخه كان قريباً من زمن المهدي العباسي. يدلّ على ذلك نص جامعه في أوائل القصائد، التي مدح بها بشار الخليفة المهدي، على عبارات وصيغ من الثناء والدعاء لأمير المؤمنين، من نحو ما كان يتحلّى به الخلفاء في حياتهم. وهذا المجموع من شعر بشار من رواية يحيى بن الجون. فقد ورد في بعض صفحاته ما يشير إلى ذلك كقوله من قول الناسخ: وقال أيضاً، ويقال لأبي همام الباهلي: زعم [ذلك] يحيى بن الجون. وبعد هذا الوصف الدقيق للمخطوط يذكر الإمام الأكبر: أن هذه النسخة نقلت عن أصل صحيح إلا أن خطّه غير واضح تمام الوضوح. وكأنّ الناسخ لم يكن من أهل الضبط والإتقان. وبسبب ذلك وقع فيها تحريف كثير ولحن كبير في غريب الألفاظ. ولولا ممارسة شيخنا الإمام صاحب المخطوط، لأدب العرب، وشعوره الفائق بمآخذ بشار ومراميه لعَسُر عليه إصلاح كثير من ذلك، عند إعداد النسخة التي استخرجها من الديوان، توليه إقامة نصّها وتحقيقها.

وقبل أن ينهي الشيخ الإمام حديثه عن المخطوط يقف عند ثلاث نقط: الأولى بيان منهجه في تحقيقه وطريقته في الإصلاح والتصويب التي جرى عليها في كامل الديوان، والثانية التزامه بالنصّ بعدم تفويته في شيء مما أثبته كاتب النسخة، والثالثة التحذير من عقبى الاختيار المطلق، والانتخاب في عمل النشر والتحقيق، والتنبيه إلى أن فيه من طمس معالم الأثر المحقق وإفساد صورته الكاملة ما فيه. ويختم ملاحظاته هذه بقوله: من أجل ذلك كله أثْبَتُّ ديوانه على ما هو عليه، وألحقت ملحقاته كلَّها كما نسبت إليه. ويتحدث قبل أن يلج مجال الشرح لديوان بشار عن أهمية ما هو مقبل عليه من عمل، وما هو باذل من جهد في سبيله، قصد خدمة اللسان العربي، وتحقيق النفع لمن يقف على هذا الأثر. ويدرك الواقف على هذا الديوان أن شارحه عني عناية خاصة بعلم العروض، لزهادة المتأدبين فيه في هذا العصر. وحمله هذا على التنبيه في كل قصيدة على بحرها وعروضها وضربها غير ملتفت إلى ما يكون بها من زحاف أو علة إلا في مواضع محصورة تحتاج إلى بيان، وهذا ثقة بأن التنبيه على بحر القصيدة وعروضها وضربها يفتح للمطالع طريق البحث عن معرفة ما يعتور بعض الأعاريض من اضطرابات أو أخلال. فجاء هذا الشرح وما سبقه من تقديم للديوان، وألحقه به من تذييل، منية الطالب ورغبة الراغب. * * *

مع أبي الطيب في مكتبته

مع أبي الطيب في مكتبته يدلُّ ولوعُ الإمام الأكبر بدواوين الشعر قديمِه وحديثِه على عنايته الفائقة بوجوه النظم، كما يفسِّر تطلُّعه إلى الوقوف على أجمل التصرّفات القولية لدى رواد القريض. فهو يتتبّعها، جامعاً للأشعار وباحثاً فيها، شارحاً لنصوصها وناقداً لها، محيطاً عن طريق ذلك بأسرار الصناعة لدى الأعشى والنابغة، ومعجباً بما تعرضه أفانين القول من إبداعات في شعر بشار، وأمثالٍ وابتكاراتٍ في نظم أبي الطيب. وإذا كان انطلاقه في هذا كله من كتب اللغة والأدب، وعلوم العربية والبلاغة بما نبّه إليه العلماء من آراء وملاحظات فيما يعرضونه من شواهد يعتمدونها في تصحيح اللغة والاحتجاج بها، أو يلفتون النظر عند ذكرها إلى صور الإبداع المختلفة عند القدامى والمولدين في النظم ومجالاته، من مبان ومعان وأساليب، فإن الإمام الأكبر قد اختلف به الوضع مع المتنبي عمّا ألفه مع الثلاثة الذين سبقوه. فهو وإن كان قد سار مع أعلام النهضة والبيان المتقدّمين سيرةَ الباحث المستكشف للمادة، فهو، مع المتنبي، الدارسُ المنقِّب عن أحوال شخصيته، الناظِرُ في أقواله، مستعيناً في ذلك بما قدّمه العلماء من لغويين ونحاة ورجال أدب وبلاغة من شروح متعدّدة، وتعاليق ضافية، ودرس وتحليل لنظمه، اتضح بجميعها منهج أبي الطيب، واختلفت بسببها مواقف المؤرخين والنقاد منه.

أقبل الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور من حين نشأته على حفظ مختارات من شعر المتنبي واستظهارها، وعلى ما ألفاه في المعهد، وفي البيت، وفي المجالس العلمية التي كان يشهدها، والمجالس الأدبية التي كان يغشاها، ثم على ما وجده بين يديه من كتب ودراسات ومراجع تشهد كلها بعناية أهل الأدب بشعر أبي الطيب وأدبه، وبجوانب حياته كلها، وتصوِّرُ مجتمعةً معالمَ أدب أبي الطيب، كاشفة عن أسرار نبوغه. وفي هذا ما يحملنا على أن نلج في صحبة شيخنا مكتبة المتنبي، لنرى ما كان متوافراً لديه منها من كتب قيمة ودراسات عميقة، هي الأساس في بناء شخصية الإمام الأدبية، كما كان للمَراجع والدراسات الشرعية أثرُها الكبير في جعله في هذا القرن نسيج وحده، وفريد عصره. وإن ما سنذكره من تصانيف ومؤلّفات، مخطوطة كانت أو مصوّرة أو مطبوعة، ليشهد بما اكتملت به عناصر قدراته الذهنية وطاقاته الفكرية، إذ ألمّ أو كاد في مكتبة أبي الطيب بما نذكره وبما نكون قد أغفلنا ذكره من كتب ورسائل معروفة، وقف عليها أكثر الناس من شداة الأدب وطلاب علومه وفنونه. فمن المراجع العامة التي كان بدون شك يتردَّدُ عليها للاستفادة منها: يتيمة الدهر للثعالبي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وتاريخ بغداد للخطيب، ونزهة الألباء لابن الأنباري، والأنساب للسمعاني، والإرشاد لياقوت، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وشذرات الذهب لابن العماد، والخزانة لعبد القادر البغدادي ونحوها. وكان فيما يعود إلى حياة أبي الطيب وعقيدته وأخلاقه وشعره وعلاقاته وكثرة تنقله في البلاد يعود من حين إلى آخر إلى كتاب

الصبح المنبي عن حيثية المتنبي ليوسف البديعي، ولا ينسى الرجوع إلى الأدب المربي في حياة المتنبي لحسين حسني. فإذا أردنا أن نتبين مدى اهتمامه بشعر أبي الطيب ولغته وتصرّفاته في نظمه وجدناه يتنقل بين مصادر ذلك: بين ابن جني في سِفريه الكبير والصغير، وأبي القاسم إبراهيم الإفليلي في شرحه لديوانه، وما كتبه أبو العلاء المعري على ديوانه: معجز أحمد، واللامع العزيزي. نضيف إليها شروح الواحدي، والتبريزي، ومرهف بن أسامة بن منقذ، وأبي عبد الله الحسن بن إبراهيم الأربلي الكوراني، وأبي البقاء العكبري، وغيرها من الشروح كشرح أبي تمام لمبارك بن أحمد الأربلي، وشرح البرقوقي. وبقدر ما تكون هذه الشروح قد فتحت آفاق النظر والدرس لشعر المتنبي، فإنها لا تبلغ ما بلغته كتب النقد لشعره، وما بلغ إليه هو عن طريقها من شهرة. وإن ما تكمل به فرائد المصنّفات وجواهر التآليف في مكتبة المتنبي لهو تلك المجموعة التي شغلت الناس بفوائدها وأمتعتهم بروائعها، تحليلاً ومناقشة ومقارنة ونقداً. وهي خمسة أقسام: القسم الأول منها يشمل: 1 - الوساطة بين المتنبي وخصومه لأبي الحسن علي الجرجاني. 2 - أبو الطيب المتنبي ما له وما عليه للثعالبي. 3 - تنبيه الأديب على ما في شعر أبي الطيب من الحَسَن والمعيب لأبي كثير وجيه الدين الشافعي. 4 - المنصف للسارق والمسروق منه لابن وكيع. والقسم الثاني يعد مَرجعين:

1 - الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي لمحمد بن أحمد المغربي. 2 - الاستدراك في الأخذ على المآخذ الكندية من المعاني الطائية لضياء الدين ابن الأثير. والقسم الثالث فيه تحامل معلوم ومشهور على المتنبي. وهو: 1 - الكشف عن مساوي المتنبي للصاحب بن عباد الطالقاني. والقسم الرابع يكاد يتخصّص في الكشف عن سرقات المتنبي. وهو: 1 - الإبانة عن سرقات المتنبي لفظاً ومعنى لأبي سعيد محمد بن أحمد العامدي. 2 - سرقات المتنبي من أبي تمام لأبي محمد سعيد بن مبارك الدهان. 3 - الرسالة الحاتمية في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره لمحمد بن الحاتمي البغدادي. 4 - سرقات المتنبي ومشاكل معانيه لابن السراج الشنتريني. وهو قسم من كتابه جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب. والقسم الخامس أو الأخير هو ما تناول بالشرح والنقد والمقارنة شعر المتنبي مع غيره من الشعراء السابقين، وما وضع فيه من تصانيف ودراسات، نذكر في مقدمتها: 1 - الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهانى. 2 - كتابي الفتح على أبي الفتح، والتجنّي على ابن جني، كلاهما في الرد على أول كتاب وضع في شرح المتنبي - وهو لابن جني - لمحمد بن حمد بن محمد بن فورجه البروجردي.

3 - ومن أجل الكتب في هذا القسم؛ شرح المشكل من ديوان المتنبي لابن سيده. وقد نشر عن أبي الطيب نحو أربعين كتاباً شارك بها عدد من الفحول في هذا العصر وقبله في التنويه به وتمجيده. نذكر من بينهم طه حسين والعقاد وعلماءَ كثيرين من العرب والأعاجم. وما أذيع لنا بتونس في السبعينات بعنوان: شعراء الخلود. ولقد قالوا عنه: "هو شاعرنا"، "وأشعر المحدثين المولدين"، "وأنه أقل غلواً في التشبيهات والمعاني من معاصريه". وربما بالغ هواة أدب المتنبي في إعظامه وتفخيمه. فبالغوا في تلك الأوصاف، وتجاوزوا حَدَّ الإسراف حتى فضّلوه على من تقدم عصرُهُ عصرَهُ، وأنشدوا فيه قول بعض السابقين ردّاً على خصومه: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداء له وخصوم (¬1) وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع: "إن القوم لم يصفوا من أبي الطيب إلا فاضلاً، ولم يشهروا بالتفريط منه خاملًا، بل فضلوا شاعراً مُجيداً، وبليغاً سديداً. ليس شعره بالصعب المتكلّف، ولا اللين المستضعف، بل هو بين الدقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإطالة، كثير الفصول، قليل الفضول ... ولقد قُلِّد الحَظوةَ الرافعة والشُّهرةَ الذائعة، والنفوس مولعة بالاستبدال والنقل، لَهِجة بالاستطراف والملل، ولكل جديد لذة" (¬2). وممن أشاد بمفاخره في أكثر فصول كتابه في معالمه ومآمهه، تحريراته وتنويراته، حازم القرطاجني في كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء عند تفصيله القول في المباني والمعاني والأساليب (¬3). كما ¬

_ (¬1) ابن وكيع: 3. (¬2) ابن وكيع: 4 - 5. (¬3) انظر ذلك. حازم القرطاجني. المنهاج: 49/ 13، 57/ 3، 88/ 5، =

أبدع ابن رشيق حين قال: لا يُعرف شاعرٌ في العربية احتَفَل بنبوغه القدماءُ والمحدثون من العلماء والنقاد حفاوتهم بأبي الطيب. ولا أدلَّ على ذلك ممّا قيل بشأنه في ذكراه الألفية 1935، ومن إحياء منهجه أدبياً وعملياً بالشام على يد ناصف اليازجي، وبمصر من طريق البارودي وشوقي. ويزيد في ذلك اعتدادُ أبي الطيب بنفسه، وعلوُّ همته، وانتشارُ شعره الذي أذاع مفاخره بمثل قوله: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم وقوله: وما الدهر إلا من رواة قصائدي، ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا فسار به من لا يسير مشمِّراً ... وغنّى به من لا يغنّي مغرِّدا ولعل اعتداده ذلك بذاته وبأدبه هو الذي حمله على أن يشترط في مجلس سيف الدولة أن لا ينشد إلا قاعداً، فاستجهلوه وأجابوه إليه. فلما سمع سيف الدولة شعرَه حكم له بالفضل وعدّ ما طلبه استحقاقاً (¬1). ولا نحتاج، بعد هذه العجالة، في التعريف بما كتب عن المتنبي، إلا أن نقف وقفتين قصيرتين تبرزان فرط عناية الإمام الأكبر بشعر المتنبي: أولاهما في الحديث عن بعض شروحه، والأخرى في ¬

_ = 102/ 3، 110/ 17 وفي بقية الصفحات من الكتاب: 121، 135، 136، 141، 159 - 161، 164، 219، 223، 311، 313، 358، 368. وما ذكره من تعاليق على مجموعة من شواهد أبي الطيب. (¬1) الواضح: 10.

مشكل شعره والحديث عن سرقاته. وقد جاء في ترجمة شيخنا ذكر بعض تآليفه المخطوطة المتعلقة بشعر المتنبي وأدبه. فمن المخطوطات: تحقيقه لشرح القرشي على ديوان المتنبي، ومراجعات له تتعلق بكتابي معجز أحمد واللامع العزيزي، ومما طبع له: تحقيقه للواضح في شرح مشكلات المتنبي، ولسرقات المتنبي (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ط. الدار التونسية للنشر.

معجز أحمد واللامع العزيزي

معجز أحمد واللامع العزيزي كتابان للمعري شرح بهما ديوان أبي الطيب المتنبي. وهما موجودان بالخزانة العاشورية. وقد خالَهما بروكلمان اسمين لكتاب واحد. فعطف الثاني على الأول بـ (أو) المفيدة للتشكيك أو التخيير (¬1). واقتصرت مصادر كثيرة أخرى عند ترجمتها للمعري على ذكر معجز أحمد دون حديث أو إشارة إلى اللامع العزيزي. وتبيّن لنا بالوقوف عليهما أنهما شرحان مختلفان. سمي الأول بـ معجز أحمد تنويهاً بشعر صاحبه أبي الطيب، وتقديماً له على كثير من الشعراء، وأطلق على الثاني اسم اللامع العزيزي باسم عزيز الدولة ثابت بن ثمار بن صالح بن مرداس. وقد نبّه شيخنا، رحمه الله، على الفرق بين الشرحين في منهجهما. فقال: إن الأول منهما وهو اللامع العزيزي مرتّبةٌ قوافيه على حروف المعجم. وأكثر النسخ التي بأيدي الناس مرتّبةٌ على حروف المعجم، على نحو ما نجده عند العكبري في ترتيب شرحه للديوان. وقد جرى على هذا الترتيب أيضاً ابن جني والأصفهاني والخطيب. وقد مكّنني شيخي العلامة الراحل محمد الفاضل ابن عاشور من نسخة معجز أحمد فاستنسختها وحَصَلَت لي منها فوائد جمة. وبدا لنا أن معجز أحمد، مرتب ترتيباً تسلسلياً على الأغراض. ¬

_ (¬1) كارل بروكلمان. تاريخ الأب العربي: 2/ 89.

وكذا صنع الواحدي في شرحه، وابن سيده في تفسير مشكله. والمظنون أن الشيخ الإمام لم يَقُم بشرح الديوانين، ولكنه كتب عليهما مراجعات وتقييدات. ويجدر بنا في آخر الحديث عما نسب للمعري من شروح لديوان المتنبي أن ننبّه إلى أن بعض المترجمين ذكر له شرحاً ثالثاً أسماه الأيك والغصون، كما نشر له الأستاذ محمد الطاهر الحمصي رسالة بعنوان: الأوزان والقوافي في شعر المتنبي (¬1). ولعله من الضروري هنا أن نشير إلى أن شيخنا قد تعوَّد على العمل الجاد منذ شبابه. فهو لا يشعر براحة أو أريحية إلا متى سعى إلى الإفادة العامة بتحقيق ما بين يديه من كتب نفيسة، ومخطوطات فريدة، لم يسبق للناس أن اطّلعوا عليها. وهو لذلك يحرص على إبرازها في صورة علمية رصينة، وحلَّة بديعة أنيقة، تروق الناظر وتنير الخاطر، وتتكفل بتقديم ما يحلم العلماء والأدباء به من الوقوف عليه من محاسن تراثهم، وجميل إنتاج شيوخهم وأسلافهم. ومما شملته هذه العناية كتابان عن أبي الطيب يوجدان بزاوية من زوايا مكتبته في بيت آل عاشور، لم يسبق نشرهما ولا قام أحد بدراستهما. وهما الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني، وثانيهما سرقات المتنبي ومشكل معانيه لأبي بكر محمد بن عبد الملك الشنتريني المعروف بابن السرّاج. * * * ¬

_ (¬1) مجلة مجمع اللغة العربية: المجلد السابع والخمسون، الجزء الرابع، ص 599.

الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم وأبي محمد عبد الله الأصفهاني

الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم وأبي محمد عبد الله الأصفهاني قصة وضع كتاب الواضح: أن الأصفهاني قد حُدِّث بما وضعه ابن جنّي من شرح على ديوان المتنبي، وأن بعض أهل الشأن من وجوه رجال ذلك الزمان المتصرّف في جلائل الأمور وسياسة الجمهور، أيام بهاء الدولة بن عضد الدولة 379 - 403 قرأ على الأصفهاني هذا الشرح. قال أبو محمد عبد الله: فوقعتُ منه على صواب وخطأ، فأمللت فيه كتاباً ترجمته بالواضح في مشكلات شعر المتنبي، واتخذته قربة وازدلافاً إلى الباب العمور (¬1). وقد رفع إلى سدّته الكريمة كتابه هذا، بلغة جميلة ومعانٍ شريفة جليلة، قائلاً بعد الديباجة: المتوسّل إلى السدّة الكريمة والحضرة العظيمة، حضرة ملك الملوك بهاء الدولة، بحرمة الأدب وذمامه، ونشر الكلام ونظامه، يَرِدُ البحر بأعذب مشارعه، ويتناول البدر في أقرب مطالعه ... يا سيد الأمراء وابـ ... ـن السادة الشمّ الأشاوس إنّي ببابك جالس ... وعليك للتأميل حابس ومعي عرائس، نَثرها ... ونِظامها، بكرُ الهواجس ¬

_ (¬1) الأصفهاني: 5.

محشوّة بجواهر، ... وبواهر الكلم النفائس فاستهدها يا خير من ... هديت لمجلسه العرائس (¬1) وكتاب الواضح هذا هو من جملة الكتب التي وضعت رداً على ابن جنّي في شرحيه لديوان صاحبه أبي الطيب المتنبي: الفسر الصغير والفسر الكبير. ذكره يوسف البديعي في عدادها في كتابه: الصبح المنبي حين قال: وأول من تكلم على أبيات منه مشكلة أو صنف فيها مآخذ؛ ابن فورجه والربعي وسعيد الأزدي الملقب بالوحيد ... وكتاب أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني. وكأنّه لم يقف على كتاب هذا الأخير، وإنما وصل إليه ذكره. فهو مما سمع به ولم يقف عليه. وأبو القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني وكتابه هذا كانا مغفولاً عنهما طوال أزمنة، بين أهل الأدب والنقد، وفي كتب التراجم والتصانيف. وممّا يدلّ على هذا إمساك ابن سيده في كتابه مشكل المتنبي، عن الإشارة إلى من سبقه من النقاد إلى التعرض إلى أقوال ابن جنّي أو مؤاخذته عليها. فهو لم يذكر الأصفهاني ولا الواضح في هذا المجال فكأنه لا يعرفه (¬2). ومن أجل هذه الصعوبة في التوصّل إلى ما يترجم به لأبي القاسم الأصفهاني، ذكر الإمام الأكبر أن مما يؤخذ من ديباجة الكتاب وأواخره: أنه كان موجوداً في سنة 336 لأنه حدّث عن الحلبي عبد الواحد اللغوي المتوفى 351، ولا يمكن أن يتم له ذلك وسنه أقل من خمسة عشر عاماً. ووصفه البغدادي بكونه معاصراً ¬

_ (¬1) الأصفهاني: 3 - 5. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. الواضح. المقدمة: ح.

لابن جنّي، كما ذكر هو عن نفسه: أنه روى عن أبي الفتح بن جنّي وعن محمد بن جعفر التميمي المعروف بابن النجار المتوفى 402. افتتح الأصفهاني كتابه الواضح بترجمة هامة لأبي الطيب وأدبه. وذلك من: 6 - 28. فتحدث عن نشأته ومغامراته، وتنقله ورحلاته، ومدائحه وأهاجيه، وما كان يتميّز به شعره، مقارناً بينه وبين متقدميه من المولّدين. وجملة قوله في ذلك: أن أبا الطيب كان من حفاظ اللغة ورواة الشعر. وكل ما كان في كلامه من الغريب استقاه من الغريب المصنف سوى حرف واحد من كتاب الجمهرة. وهو قوله: وأطوِي كما يَطوي المجلّدةُ العُقدُ (¬1) وأما الحكم عليه وعلى شعره: فالمتنبي سريع الهجوم على المعاني، ونَعتُ الخيل والحرب من خصائصه. وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به، يَقبل الساقط الردّ، كما يقبل النادر البِدع. وفي متن شعره وهيٌ، وفي ألفاظه تعقيد وتعويض (¬2). ومن خلال هذا الحكم يتبيّن لنا أن الأصفهاني تتبّع في كتابه الواضح مجموعتين من شعر المتنبي: اشتملت الأولى على ما عرض له ابن جنّي في فسره الصغير، والثانية على جملة أبيات للمتنبي أوردها ابن جنىّ في فسره الكبير. وعدد أبيات المجموعة الأولى موضع النظر والتحقيق عند ابن جنّي في فسره الصغير وعند الأصفهاني في كتاب الواضح: 81 بيتاً. ¬

_ (¬1) الأصفهاني: 27. (¬2) الأصفهاني: 27 - 28؛ نقله الخطيب بلفظه. انظر: الخزانة.

وفي نهاية هذه المجموعة قال الأصفهاني: ثم اتفق بعدها في بلدان العجم وُقُوفي عليها بعد تتمة الأربعمائة والعشر. فاختلفت إلى طائفة من كتاب الإنشاء، كلهم نظروا في الفسر الكبير. فكانوا يحاورونني في عوارض أبيات المعاني التي فسّرها فقرنتها بالمشكلات (¬1). وبإثر ذلك ذكر المجموعة الثانية، وأبياتها عشرون. وقد أبدع الأصفهاني في تصرّفاته وشرحه وتعليله ومقارناته طوال كتابه الواضح الذي رغم صغر حجمه كان وفير الفائدة، مصادف الصواب في معظمه، لما مزج به فيه من نقد وتشريف لكلام ابن جنّي الذي لذع شعر أبي الطيب في مواضع كثيرة (¬2). ولم يقف الشيخ ابن عاشور عند هذا الحد من الوصف لعمل أبي القاسم بل تجاوزه إلى التنبيه على أن الرجل مكين في الأدب والبلاغة. تنبىء بذلك منازعه في معاني الشعر وتنظيراته بين أبيات الشعراء ومعانيهم. وشاهدنا على ذلك كلماته في فضيلة النظم وتشريفه. فإن له في ذلك آراء صائبة، وملاحظات دقيقة سبق بها ما توصّل إليه عبد القاهر الجرجاني من كلام في النظم، تضمّنه الفصل الأول من "فصول شتّى في النظم" من كتاب دلائل الإعجاز (¬3). قال العلماء: اللفظ أغلى ثمناً، وأعظم قيمة وأعزّ مطلباً: فإن المعاني موجودة في طباع الناس يستوي فيها الجاهل والعالم. ويأتي مزيد من التفصيل في بيان هذه الحقيقة في تعليق الإمام ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 88 - 89. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. الأصفهاني: مقدمة الواضح: ط. (¬3) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة الواضح: يا.

البيت الخامس من الواضح

الأكبر على كلام أبي القاسم آخر، شرحه لبيت المتنبي: كأن شعاع عين الشمس فيه (¬1) وبآخر كتاب الواضح للمتنبي تعليق من الإمام الأكبر جاء فيه: هذه نهاية كتاب الواضح على مشكل المتنبي. وقد كتب كاتب في أخرتها: "قرأته على أبي القاسم مؤلِّفه، في شهر شوال عام ستة عشر وثلاثمائة ببغداد". وكنت كتبت تحت هذه الكلمة "تدليس" كيلا يغترّ به المطالع لأنّ ذلك لا يلاقي العصر الذي عاش فيه المؤلف. قاله محمد الطاهر ابن عاشور. ولاستجلاء المنهج الذي جرى عليه الأصفهاني في تعقيبه على ابن جنّي نعرض أمثلة يتّضح لنا بها ذلك، اخترناها من بين أبيات المعاني من كتاب الواضح. وهي الأبيات: 5، 7، 14. فأبو القاسم في جميع ما أورده من مشكل شعر المتنبي يلتزم خطة واحدة: يبدأ بذكر قول أبى الطيب، مثنّياً عليه برأي ابن جنّي فيه، ومعقّباً بما يفيد تصحيحاً أو تعليقاً أو مقارنة بين الأقوال الشعرية. ومما ينبغي أن يلاحظ في هذا المقام تفاوت التعليقات بل المادة التفسيرية لأبيات المتنبي طولاً وقصراً، ورواية ونظراً. ونكتفي هنا بإيراد الأبيات الثلاثة من مشكل شعر المتنبي: البيت الخامس من الواضح البيت موضع النظر والدرس من قصيدة المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة، طالعها: ¬

_ (¬1) الواضح: 50، البيت: 25.

يا أخت خير أخ، يا بنتَ خير أب، ... كناية بهما عن أشرف النسب قال المتنبي: حتَّى إذا لم يدع لي صدقُه أملًا ... شَرِقْتُ بالدمع حتَّى كادَ يَشْرَقُ بي قال أبو الفتح: أي كثُر دمعي حتى صغرتُ أنا بجنبه. وبالإضافة إليه. قال أبو القاسم: معنى هذا البيت أنّه لمّا أتاني نَعِيُّ المتوفاة نزفت دمعي بالبكاء حتى لم يكد يجري، وبقي حائراً في الجفن، فكدت أقضي نحبي، فيجف الدمعُ بي. وليس للكثرة والقلة معنى كما ذكره أبو الفتح. وللشعراء في ذكر الدمع والعين أساليب حِسانٌ، فمن أحسن ما ذكروه قولُ أبي حيَّة النميري. وهو أول من افترعه: نَظَرْتُ كأنِّي من ورَاء زُجاجةٍ ... إلى الدار من فرط الصبابَةِ أنظُرُ وقال بعض العرب: ومما شجاني أنّها يوم أعرضت ... تولَّت وماء العين في الجفن حائرُ وتبعه بشَّار فقال: أقول وقد غصَّت جُفُوني بمَائِها وقال ابن حُبيبات: أُلِمُّ بالباب كي أشكو فيمنعُني ... فيضُ الدموع على خدِّي من النظر أقَبلت أطلُبُها، والقلبُ منزِلُها ... أعجِب بمقُتربٍ منِّي على سَفَر وقال البحتري: وقفنا والعُيونُ مُشَغَّلاتٌ ... يُغالبُ دمعَها نظرٌ كليل نَهَتهُ رُقْبَةُ الواشين حتَّى ... تَعَلَّق لا يَغيضُ ولا يَسيلُ

البيت السابع من الواضح

وقال المتنبي: عشِيَّةَ يعدونا عن النظرِ البُكا ... وعن لذَّة التوديع خوفُ التفرُّق (¬1) وأتى الشيخ بعد ذلك باختيارات للمرزباني، توسعاً في متفرّعات هذا الغرض. فذكر من مروياته عنه اختياره لمقالة قيس العامري في تدارك سيلان الدمع، وبيت المخبّل في نعت الوجوه، وقول عدي في صفة العيون، وكلام قيس في نعت الدمع، واستعمال البحتري له على وجه التورية إلى المدح، وأبيات بشّار وأبي العتاهية في الاعتذار عن الدمع، وسبق أول القولين من هذين على الثاني. البيت السابع من الواضح قال المتنبي في مدح كافور: مَنِ الجآذرُ في زيّ الأعاريبِ ... حُمْرُ الحُلَى والمطايا والجلابيب قال أبو الفتح: جعل كونَهُنّ جآذرَ حقيقة، وجعل كونهنّ أعاريب مجازاً، وذلك للمبالغة في الصنعة. قال أبو القاسم: ليس للمجاز والحقيقة محلّ في هذا البيت ولا مدخلٌ، وإنما جعَلَهنّ جآذرَ لنَجَل العيون وحَوَرِها، وهُنّ في الخلقة نساء. وأيّد الإمام الأكبر الرأي الأوّل قائلاً: لعلّ فهم أبي الفتح أرشق، لأن الشاعر لما استفهم عن كونها في زي الأعاريب أوغَلَ في تخيُّلهن جآذر فالاستفهام ترشيح للاستعارة. قال أبو الفتح: حُمْرُ الحلى أي هنّ شِرَاف، وكذلك الجلابيب. قال أبو القاسم: ليس هذا بشيء، إنَّما المعنى أنَّهن حسان ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 30 - 32.

يَلبسنَ حسان الملابس، استضافة جمال إلى جمال. وروى الأصمعي في كتاب الأجناس أن العرب تقول: إن الخمار الأسود يَشُبّ لون المرأة أي يُنَوّرُهُ ويَجْلُوه، وكلَّما ازدادت الظلمةُ سواداً ازدادت الأنوارُ ضياءً، والعرب تقول: الحُسْنُ أحْمَرُ، ومنه قول بشّار: وخُذي ملابسَ زينَةٍ ... ومُصبَّغَماتٍ هُنّ أنوَرْ فإذا دخلن فادخُلي ... في الحُمرِ، إنّ الحُسنَ أحمَرْ وذكر ابن الرومي معنى هذا البيت في قوله: قل للمليحة في الخمَار المُذْهَبِ ... أفسدتِ نُسكَ أخي التُّقَى المُترهِّبِ وجمعت بين المذهَبَين فلم يكُن ... للحُسن في ذهبَيهما مِنْ مَذْهَبِ والعلماء يقولون: في قولهم: الحسن أحمر، وجهاً آخر. وهو أنه يُخاض فيه الشدائدُ حتى إن الدم يراق فيه، كما يقولون: الموت أحمر. وهو الذي يراق فيه الدم (¬1). وقد فات أبا الفتح وأبا القاسم ملاحظةُ التناسب فيما بين هذا البيت: مَنِ الجآذرُ في زيّ الأعاريبِ ... حُمْرُ الحُلَى والمطايا والجلابيب وبين الذي يليه: إذا كنت تسأل شكاً في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب إذ جاء البيت الثاني تحسيناً للبيت الأول من القصيدة ليناصر بذلك حسن المبدأ (¬2). ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 33 - 34. (¬2) الأصفهاني: 33، 34؛ حازم: 307.

البيت الرابع عشر منه

البيت الرابع عشر منه قال المتنبي يمدح علي بن إبراهيم التنوخي: أُحادٌ أمْ سداس في أحاد ... لُيَيْلَتُنا المنوطةُ بالتنَادي قال أبو الفتح: استطال ليلته فقال: واحدة هي أم ستّةٌ؟! واختيارُ الستة دون غيرها من العدد لأنها الغاية التي فرغ الله تعالى من جميع أحوال الدنيا، وصَغَّرَ الليلة تصغير التعليم كقول أوس: فُويقَ جُبيل شامخِ الرأس لم تكد ... لتبلُغَهُ حتى تكلَّ وتعملا والتنادي، يريد التنادي بالرحيل وقَودَ الخيل إلى الأعداء، ألا تراه يقول فيما بعد: أفكّر في معاقرة المنايا ... وقَودِ الخيل مُشرِفَةِ الهوادي قال أبو القاسم: أما استشهاد أبي الفتح بقول الله تعالى فليس من هذا الحديث في شيء؛ لأن المتنبي ذكر الليل، والشعراء يستطيلون ليالي السهر والفكر، ويُحيلُون بتضاعُف الغُمُوم والهواجس فيها عليها. وكذلك عند الأطباء أن الأمراض تشتدّ ليلًا لأن طبعه الضمَّ والقبض والخُثُورة والجُمُود، وبالنهار تَنفَشُّ البخارات عن البدن وتنحل أجزاء العلل. وليس بين الشعراء وبين الأيام تعلق في أمر ما يُسهر، بل يقولون: إن المحزونَ والمغتمَّ ينشرح صدره ويخفُّ ما به، لمُحادثة الناس ومُلاقاة الأشخاص كما قال ابن الدُّمينة: أقضِّي نهاري بالأحاديث والمُنَى ... ويجمعُني والهمّ بالليل جامعُ وقال الطرماح: عَلى أنّ للعينين في الصُّبْحِ راحةً ... لرميهما طرفيهما كُلَّ مَطْرَح وقال النابغة:

كليني لهَمٍّ يا أميمةُ ناصبِ ... وليل أقاسيه بَطِيء الكواكب تَطَاول حَتى قُلتُ ليس بمِنُقضٍ ... وليس الذي يتلو النجُوم بآيب وأما إذا ذكروا اليوم فإنهم يذهبون به قصد الممدوح وطول نهاره على الأعداء، كقول الكميت: وإذا اليومُ كان كالأيَّامِ وقال أبو تمام: ورُبَّ يومٍ كأيام تركتَ به ... مَتْنَ القناة ومَتْنِ القِرن مُنقصِفا وإنما معنى بيت المتنبي، إن ذهبت به مذهب العدد فأضفت الواحد إلى الستة والمرادُ إلى الأسبوع فتكون استطالة الليلة الواحدة كاستطالة ليالي الأسبوع. ووقف عند هذا الحدّ كقول بعض الرُّجاز: إنِّي إذا ما الليلُ كان ليلين ... ولجلج الحادي لسانين اثنين فهذا جعل واحدةً ثِنتين، وأوس بن حجر للثلاثة ثلاث ليال فقال: ولقد أتيت بليلة كليال وكأنّ تحت الجنب شوكَ سَيَال والمتنبي جعل الليلة الواحدة لياليَ الأسبوع طولًا، ووقف عندها. وإن ذهبت بالبيت الواحد والستة مذهب الضرب ففيه معنى لطيف، لأنك إذا ضربت الواحد في الستة رجع إلى الوراء، وإذا ضربت الاثنين في الستة زاد إلى قُدَّام، فيكون المعنى أنَّ هذا الليل يرجع إلى الوراء فلا يتصرَّمُ آخرُه، كما قال الشاعر:

لقد تركتني أم عمرو ومقلتي ... همول، وقلبي ما تقرُّ بلابلُه تطاول هذا الليلُ حتى كأنّما ... إذا ما انقضى تُثنى عليه أوائله وأما قول أوس بن حجر واستشهاد أبي الفتح به، وهو فُويق جُبيل، فهو مختلَف في تصغيره. فبعضهم ذهب إلى أن كل جبل شامخ له نادر يَندُرُ منه ويشخصُ فهو الجُبيل، ومنهم من وافق أبا الفتح. والقاطع في تصغير التعظيم قول لبيد، أنشده أبو عُبيد القاسم بن سَلَّام في الغريب المصنّف: وكلّ أناس سوف تدخُلُ بينهم ... دُويهيةٌ تصفرُّ منها الأناملُ وصُفرةُ الأنامل من الموت، وليس في الدواهي أعظم منه. قال ذو الرمة: التارك القِرْنِ مُصفّراً أناملُهُ ... يَميدُ في الرُّمح مَيدَ المائح الأسِنِ (¬1) لاحظ أبو القاسم في هذا البيت اشتماله على استطالة الليلة، وعلى تصغيرها، ونبّه إلى المراد من ذلك كلَّه مبطلًا ما ذهب إليه ابن جنّي، زاعماً أن استطالة الليل مختلف فيه بين الشعراء والأطباء، وأنه ليس بين الشعراء وبين الأيام تعلّق في أمرِ ما يُسهر. ولتوجيه فهمه واختياره ذكر شواهد من كلام ثلة من الشعراء: مثل ابن الدُّمينة، والطرمّاح، والنابغة، والكميت، وأبي تمام. ثم اتجه إلى بيان معنى البيت إن ذهبت له مذهب العدد، فجعل الليلة مثل ليالي الأسبوع طولاً، وإن ذهبت بالواحد والستة مذهب الضرب أفاد ذلك معنى لطيفاً هو الزيادة إلى قدام أو الرجوع إلى الوراء. وفي هذا أيضاً ذَكَرَ أبياتاً لبعض الرُّجّاز ولأوس بن حجر وغيرهما. وأما إفادة التصغير ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 38 - 41.

عمل ابن عاشور في تحقيق الواضح

فمردود عنده والشاهد من أوس: (فويق جُبيل) إنما المراد منه النادر الذي يندر منه ويشخص. ثم أتى بأبيات أخرى تقابل الأول للبيد وذي الرمة. عمل ابن عاشور في تحقيق الواضح احتاج المحقق رحمه الله لإقامة نص كتاب الواضح وإخراجه على الوجه العلمي الدقيق المطلوب إلى عملين هامين: يتمثل الأول في عدة اهتمامات وتصرفّات منها: 1 - التنبيه على ترتيب مادة الواضح في الأصل، كما أوردها أبو الفتح بن جنّي شارح ديوان المتنبي، وجرى عليه متعقّبه أبو القاسم الأصفهاني فيما كتبه عليه. 2 - الرجوع إلى الأصول المعتمدة في التأليف والتعقيب. 3 - تحقيق ما ورد بالواضح من نصوص. 4 - تحرير الكلام فيما أغلق لفظه، وأبهم معناه. 5 - إكمال ما ورد بالكتاب من شواهد شعرية، ليس من الضروري أن يكون القارىء أو الدارس ملمّاً بها أو عارفاً بنسبتها. 6 - تعيين من أغفل ذكره من أسماء الأشخاص في النصّ اختصاراً أو اقتصاراً. 7 - ضبط ما تحتاج كَلِمُه فيه إلى مزيد من التحرّي أو الإسناد إلى قائليه. 8 - التنبيه على الألفاظ والصيغ الموهمة التي أضيفت إلى النسخة الأصلية لكتاب الواضح، بعد الوقوف عليها وتمام قراءتها. والعمل الثاني لا يقل عن الأول أهميةً ونفعاً، لأن جدواه وإن

لم تتعلق بجوهر مادته ككتاب، غير أنها ذات علاقة متينة بها، فلا يجوز إغفالها ولا السكوت عنها، بل يتأكّد التنبيه عليها. وهذا ما تشهد به حواشي الواضح لاشتمالها على العديد من الملاحظات والتعاليق اللازمة أو المتأكدة. فهي ضرورية أحياناً لفهم الكتاب فهماً صحيحاً, وإدراك الجوانب المهمة التي لم ينتبه إليها المؤلف حين جرى بها قلمه، أو أرسل الكلام فيها على عواهنه، في حين يكون القارئ محتاجاً إلى معرفتها على الوجه الصحيح، وليس له من سبيل إلى ذلك غير بيان مغلقاتها. ومثل هذا كثير نقتصر فيه على بعض ما أورده الشيخ في تلك الحواشي من: 1 - تنبيه على أقسام أو أنواع من الشعر عند أبي الطيب وعند غيره. 2 - اللغويات والتصحيحات. 3 - ذكر أمثلة لما يحتاج فيه إلى تقصّي المعاني. 4 - المقارنة بين الآراء والاتجاهات في الشروح الواردة بصلب الكتاب. 5 - التنبيه على ما ورد في متن الكتاب من أخطاء لغوية وعربية. 6 - التعريف ببعض المذاهب العقدية. 7 - تضمين الواضح بيتاً لبشار، وضعه المؤلّف في ملحقات الديوان. 8 - الترجمة لبعض الأعلام التي يضيع وقت كبير لغير المتخصّص في التعرّف عليها، وتحديد زمن وجودها. وليس من غرضنا ولا من المقبول تفصيل القول في كل هذه الملاحظات أو التعليقات التي جاء بها المحقّق. فهي لا تقلّ عن 275 تعليقاً. وإنّما نورد عيّنات منها، تكون نماذج لما وراءها، إبرازاً

لبعض الاهتمامات التي أملت على الشيخ رحمه الله منهجه، واقتضت منه الوقوف عند عدد من الاستعمالات الواردة في تضاعيف الواضح لإبانتها وفصل القول فيها. 1 - جرى أبو الفتح في فسره، في ترتيب أبيات شرحه على حروف الهجاء. وعلى طريقته سار أبو القاسم. ولكن المحقّق رأى انخرام ذلك في موضعين من الكتاب. الأول في صفحة 74، في البيت الستين الذي رويُّه على الزاي، والثاني في الصفحة الموالية 75 في البيت الواحد والستين الذي رويُّه على الدال. فكان ذلك خطأ في وضع هذين البيتين وهما: سلَّه الركضُ بعدَ وَهْن بنَجْدِ ... فتصدَّى للغيث أهلُ الحجاز نهبتَ من الأعمار ما لو حَوَيته ... لهُنّئت الدنيا بأنّك خالد بين سائر الأبيات الميمية التي سبقتها أو لحقت بها (¬1). 2 - ومما ورد في حاشية الواضح التنبيه على اختلاف نسخ ديوان المتنبي في ضبط البيت الواحد، وفي ذكره تاماً أو ناقصاً، مع بيان مختلف الروايات فيه. والمقصود في هذا المحل قول أبي الطيب: سيف الصدود على أعلى مقلَّده (¬2) أتبعه المحقِّق بقوله: قبل أن يوجد المصراع الأول في نسخ الديوان التي بتونس. ولا يوجد في شرح المعري ولا الواحدي. وأثبته العكبري في شرحه مفرداً. ويوجد في نسخة من الديوان نسخها من سمّى نفسه علياً مخلصي المدني في ربيع الأول 1090، مرتبة ¬

_ (¬1) نبّه إلى ذلك الشيخ ابن عاشور في حاشية الواضح: 74/ 2، 75/ 2. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 47، 48.

على حروف المعجم في خزانة جامع الزيتونة عدد 4552 ما نصّه: وقال في صباه بعضَ هذه القصيدة، وساق المصراع وبعده: يفري طلى وامقيه في تجرّده وبعد البيت سبعة أبيات مماثلة للأبيات التي نسبت لرواية ابن القطاع في النسخة التي شرح عليها العكبري (طبعة الحلبي بمصر 1335). ويوجد في تلك الطبعة، في متن الديوان ما نصّه: لم يحفظ المصرع الثاني. فقال قوم هو: يفري طلى وامقيه في تجرّده وقال قوم هو: بكف أهيف ذي مطل بموعده ثم قال: وقال ابن القطاع أول هذه القصيدة: وشادن رُوحُ من يهواه في يده ... سيف الصدود على أعلى مقلَّدِهِ وأتبعها بأبيات سبعة بمثل الأبيات التي في نسخة علي مخلصي المدني. والمثبتة بشرح العكبري. ونسب في شرح بعضها كلاماً لابن جنّي (انظر: 2/ 80). وأحسب أن جميع ما كمل به المصراع تخرّصٌ. وكيف يخفى على ابن جنّي؟ وهو آخذ عن المتنبي. والأشبه ما قاله أبو القاسم (¬1). 3 - وفي تحقيق النص نورد للشيخ تعليقين مختلفين: الأول: يتعلق بقراءة بيت المتنبي: لو مرّ يركض في سطور كتابةٍ ... أَحْصَى بحافِرِ مُهْرِهِ ميماتِها ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 48/ 1.

قال ابن عاشور: كتب لفظ كتابه بهاء بعد الباء. وقال أبو العلاء في معجز أحمد: روي كتابه وكتابة، على الاسم والمصدر يعني الضمير أو مصدر كتب (¬1). والثاني: تعليق على كلام أبي القاسم لأبي الفتح: ثلاث علل اتخذها قواعد في شعر المتنبي. وذلك ببيان المراد من شعر المتنبي، إذ قال: الفسر الكبير اسم لشرح فسر فيه ابن جني ديوان المتنبي. ثم اختصره مقتصراً على تفسير مشكله. وسمى اختصاره الفسر الصغير. وهو الذي أملى عليه أبو القاسم هذا الكتاب الذي سمّاه الواضح. وقد ذكره أبو القاسم في أواخر هذا الكتاب. والفسر مصدر فسَر المخفف. وهو بمعنى فسّر المشدّد (¬2). 4 - ومن تحرير الكلام مع نسبة الشاهد تعليق شيخنا على بيت المتنبي: أيا لائمي إن كنت وقت اللوَائم ... علمتَ بما بي بين تلك المعَالم وعلى كلام أبي الفتح بعده: وهو من المبالغَة في اليمين (¬3). قال: كذا في الأصل. ولعله أراد من قوله: "اليمين" أنّ مثل هذا يساق مساق الحلف لأنه دعاء على نفسه: إن كان كذا. والمعنى القسم بأنه لم يكن. وقول أبي القاسم: "ومثله إن كان ما بُلّغتَ عني" البيت أليق بكلام ابن جنّي. والبيت لمعدان بن جواس الكندي من أبيات الحماسة وبعده: وكفنت وحدي منذراً بردائه ... وصادف حوطاً من أعادي قاتل ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 36/ 2. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 36/ 3. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 77.

منذر أخوه، وحوط ابنه (¬1). 5 - ومن إكماله لعجز بيت أورده أبو القاسم في نهاية ديباجة الواضح مع نسبته لصاحبه قوله: البيت لعروة بن الورد. وهو: لنبلغ عذراً أو نصيب رغيبة ... ومُبلِغُ نفسِ عُذرها مثلُ مُنجِح (¬2) 6 - تعيين الأمير الذي أشار إليه أبو القاسم أثناء قوله: فنُمي خبره إلى أمير بعض أطرافها (¬3). قال الشيخ ابن عاشور: نزل المتنبي عند خروجه من اللاذقية في أرض بني عدي من عمل حمص. والأمير هو ابن علي الهاشمي (¬4). 7 - ضبط لبعض الأسماء الأعجمية: (1) دلِّير بن لَشْكَرَوز. قال المحقّق: كذا كتب في الأصل. ولم يُضبط الاسمان. فأما دِلِّير فقد جاء في البيت 26 من القصيدة اللامية: كدعواك كل يدّعي صحة العقل ما يقتضي أنه بتشديد اللام، وكذلك في البيتين 37، 38 من تلك القصيدة. وضبط في نسخة مخطوطة من الديوان، وفي مطبوعة العكبري المطبوعة مع شرح العكبري (ط. الحلبي 1355) بكسرة تحت الدال، وجعلت علامة الشدّ على اللام في مخطوطة من الديوان، وفي شرح الواحدي وشرح العكبري، وجعله علامة سكون على الياء التحتية في نسخة الواضح، ومطبوعة شرح العكبري. ووقع في مطبوعة خزانة الأدب (1) 1/ 385 (دبير) بموحدة عوض اللام. ولعله تحريف وهو اسم عجمي. ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 77/ 2. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 5/ 8. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 6/ 8. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 13.

وأما لشكروز فهو بِرَاءٍ بعد الكاف، وبزاي بآخره في جميع نسخ الديوان، ونسخ الشروح التي بين أيدينا. وضبط في نسخة مخطوطة من الديوان بفتحة على اللام. ووضع في نسخة الواضح فتحة على الواو، وكذلك في نسخة مخطوطة من الديوان. وضبط حرف الزاي في مخطوطة الديوان بفتحة وعلامة تشديد. ووقع في خزانة الأدب بياء تحتية في أوله عوض اللام. ولعله تحريف. ووُصف لَشكروز في نسخة الديوان بالديلي، ولعل صوابه الديلمي. وكان مدح أبي الطيب دلير سنة 353. كذا قال المعري في معجز أحمد (¬1). (2) ضبط كلمة دمستق مع ذكر ما ورد بشأنها بعديد المراجع من إطلاقات، والمقارنة بينها مع ذكر الأوفق منها بالنص 6. قال الإمام: الدُّمستق بضم الدال المهملة بعدها ميم مضمومة فسين مهملة ساكنة فتاء فوقية مضمومة. كذا ضبط في موضعين من طبعة شرح العكبري في حرف الجيم، وحرف العين. وهو الذي تقتضيه حروف الاسم في الرومية. وآخره قاف. قال العكبري: هو صاحب جيش الروم. وقال المعرّي في معجز أحمد: وهو قائد الجيش، والاسفهسلّار عند الفرس. اهـ. قلت: والاسفهسلّار هو قائد الفرسان، وهو بِهَاءٍ بعد الفاء. وقال في دائرة المعارف: إنه اسم أرمينوس. كان قائماً بأمور الأمبراطور قسطنطين بن لاون. وهو الذي كان يحارب سيف الدولة سنة 315. وهذا أصح لأن صاحب القاموس لم يذكره، والخفاجي لم يذكره في شفاء الغليل. فما قاله المعري توهّم، وما قاله العكبري محتمل الصواب. وأصل التوهّم جاء من إدخال حرف التعريف على ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 13/ 1.

هذا الاسم في كلامهم، كما هو في شعر أبي الطيب وأبي فراس. وشأنه أن لا يعرّف لأنه معرفة بالعلمية كما لا يقال الهرقل. وأما قولنا: الإسكندر والأذفونش فلأن اللام من حروف اسميهما (¬1). ويقوم العمل الثاني من التحقيق على ذكر مستتبعات مادة كتاب الواضح، بطريقة بديعة تجمع بين الإيجاز والإفادة، ولا تكاد تهمل جانباً من الجوانب العلمية والأدبية التي يحتاجها دارس شعر أبي الطيب والناظرُ فيه إلا تناولتها. فهو عند ذكره: - أبيات المعاني، في كتاب الواضح، نبَّه المحقق أولاً إلى مواطن ورودها في النص (¬2)، وبيَّن ثانياً المعنى الاصطلاحي المراد من هذا اللفظ قائلاً: أبيات المعاني هي التي تخفى معانيها، وتُوهم ألفاظُها خلاف مرادِ قائلها. فإذا أجيد التأمل فيها ظهر لها معنى صحيح (¬3). ثم قال: ونظير ذلك ما يغالط به في الكلام كقول العرب عند إيراد الإبل في الشتاء: "برديه تجديه سخيناً" والمراد رِدِيه أي الماء تجديه غير بارد، فيكون قولهم: ردِي: فعل أمر من ورد. وأنشَدَ قول الشاعر: أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وها شم المراد بـ (ها شم) كلمتان وهي (وَهَى) فعل ماضي أي تخرَّق، وكلمة (شِم) فعل أمر من شام إذا نظر البرق هل معه سحاب ممطر (¬4). ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 54. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 5، 30، 41، 49، 65. (¬3) الأصفهاني. الواضح: بيت المتنبي: 48، الشاهد 24. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 49/ 3.

وينتقل ثالثاً بعد هذا إلى ذكر جملة من المؤلفات في أبيات المعاني. جعل منها كتب الأصمعي والأشنانداني والسيرافي والباهلي والجاحظ (¬1). وخصص الشيخ ابن عاشور بضربين من شعر المتنبي، ترجم للأول منها بالعضديات لكونه أنشدها في مدح عضد الدولة ابن بويه. وقد كان آخرَ شعره (¬2). وترجم للثانية بالصَبَويات عند قوله تعليقاً على بيت المتنبي: في مِثْلِ ظَهْرِ المِجَنِّ متّصلٍ ... بمثلِ بطنِ المِجَنِّ قَرْدَدُها هذا البيت من الصبويات (¬3). - وأمام كثرة الألفاظ الواردة في نص الواضح، والمتنوعة بين لغوية وحضارية، واصطلاحية، وبلاغية ونحوها، نستعرض في أمثلة محدودة ما يكشف عن طبيعة كل قسم منها. فالألفاظ اللغوية التي أحببنا الإشارة إليها هي: أنشاء، الممقط، الطلة، النبيذ، الدواويج، العبريات والضال والأياة. - قال الأصفهاني في ديباجة الواضح: وكان بعض أَنشاءِ خدمته وأغذياءِ نعمته (¬4). قال الشيخ ابن عاشور شارحاً معنى الكلمة، وضابطاً صيغتها إذ لم تضبط كلمة أنشاء في الأصل. قال: ويظهر أنها بفتح الهمزة وسكون النون جمع نشء بفتح وسكون. وهو الصغير من الإبل وغيرها أراد به الناشئين في العلم (¬5). ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 30/ 1، 41/ 1، 49/ 3، 65/ 2. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 6/ 1. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 90/ 1. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 5/ 21. (¬5) الأصفهاني. الواضح: 5/ 1.

- وجاءت كلمة ممقّط في قول الأصفهاني: وكان ركن الدولة جاءه ممقّط وخلا به في الميدان. قال الشيخ ابن عاشور: في اللسان: المقاط: الحامل من قرية إلى قرية. والمقاط أجير الكري. اهـ. فلعل الممقط بمعنى المقاط مشتقاً من مقط، أي كان الجاسوس في صورة مقاط (¬1). - وتعليقاً على قول أبي القاسم: لأن النبيذ ليس من كلام العرب. قال: لا يستقيم لأن كلمة نبيذ عربية خالصة غير معربة، ولعل مراد المؤلف أن المشتقات من اسم النبيذ قليلة الدوران في كلام العرب (¬2). - وأمّا طلَّتي في ما يرويه الأصمعي: أفي نَابين نالهما سُواف ... تألّت طَلَّتي ليست تنام فمعناه امرأة الرجل. اللسان. والبيت لعمرو بن حسان (¬3). - قال الراجز: وغَنّى في حنين الزير والمثنى بتهزيج جعلنا القمص في اللبات أمثال الدواويج قال المحقّق: الدواويج بدال مهملة وواوين: جمع دُوّاج بوزن رمان: لحاف يلبس، أي فهو شقة غير مخيط. وهذا وجه التشبيه في كلام الراجز (¬4). وفي قول آخر: عُبْريّاتها نثرت علينا ... دنانيراً طبعن من الإياة ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 19/ 5. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 49/ 1. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 49/ 2. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 74/ 1.

ثلاث كلمات شرحها الشيخ ابن عاشور بقوله: العُبريّات بضم العين جمع عُبرية. وهي شجرة السدر التي تنبت على عبر النهر. يقال لذلك: سدر عُبريّ، وأما السدر البري الذي لا يشرب فهو الضال. والإياة شعاع الشمس (¬1). - والألفاظ الحضارية التى أطلقت على أعياد فارسية أو وقعات أو وظائف: - فلم يحر جواباً إلى أن حضره النيروز: النيروز اسم عيد فارسي معرب نوروز أي الزمن الجديد. فكلمة (نو) بمعنى الجديد، وكلمة (روز) بمعنى الوقت. وهذا اليوم هو أول السنة الفارسية. وهو أول يوم من شهر (أفرودين ماه)، ويوافق اليوم 26 من تشرين الثاني (نوفمبر). ومدّة هذا العيد ستة أيام. وذكروا له أسباباً تاريخية غير فلكية (¬2). - قال الأصفهاني: إلى أن حدث يوم نثر الورد. قال الشيخ ابن عاشور: ظاهر كلام المؤلف أن يوم نثر الورد يوم معروف حينئذ من أيام السنة. ولم أر من ذكره بهذا العنوان غير هذا الكتاب. ولم يذكر شارحو الديوان سوى أن عضد الدولة جلس للشراب في مجلس متخذ له، وأمر بنثر الورد فدارت غلمان تنثر الورد على جوانب المجلس حتى تورّد المجلس. قال المعرّي: وذلك سنة 354 (¬3). - خطاب أبي علي الفراء إلى أبي الفرج المنشي صاحب ركن الدولة الذي ورد في أبياته: قد جاءك المهرجان يلتمس الزيـ ... ـنة من نور وجهك البهج ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 84/ 1. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 17/ 1. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 21/ 4.

قال الشيخ ابن عاشور: المهرجان عيد للفرس. وهو اليوم السادس عشر من مهرماه الفارسي يوافق 26 من تشرين الأول (أكتوبر). وهو وسط الخريف (¬1). - يوم حليمة. قال في النص: أشهر من يوم حليمة في أشعار المحدثين. قال الإمام الشيخ: يوم حليمة يوم مشهور من أيام وقائع الحرب عند العرب. وهو يوم قتال بين ملوك الشام الغسانية وملوك الحيرة المناذرة. انتصر فيه جيش الحارث بن أبي شمر الغساني على جيش المنذر بن ماء السماء، وأضيف إلى حليمة بنت الحارث الغساني لأنها حضرت المعركة وحرّضت عسكر أبيها، فكان لهم النصر. ومن أمثال العرب: ما يوم حليمة بسر (¬2). - وورد كتاب أبي الفتح ذي الكفاءتين. قال الشيخ ابن عاشور: كذا رسم بهمزة بعد الألف. ولعله سهو صوابه: الكفايتين بياء بعد الألف لأن الكفاية بالياء خطة. وهو أن يكفي صاحبُها الملك أموراً يكلها إليه. ومنه لقب الشريف الرضي ذا الكفاية لكفايته الدولة والخليفة أمور النسب العلوي. وأما ذو الكفايتين هذا فهو أبو الفتح بن أبي الفضل بن العميد لأنه كفى ركن الدولة أبا علي بن بويه أمور الدواوين وأمور الجيش (¬3). - ومن الكلمات التي احتاجت إلى التعليق من أجل البيان وتحرير الخطاب قول المتنبي: سلَّه الركضُ بعد وهن بنجد ... فتصدّى للغيث أهلُ الحجاز ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 24/ 2. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 86/ 1. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 22/ 2.

قال شيخنا: أراد أبو القاسم أن تَخصيص أهل الحجاز بالذكر في مقابلة نجد ليس لخصوصية في الغرض، ولا لاختصاص المقابلة. فإن مقابلة نجد تكون بالغور وبتهامة، بل إنما جلبه لأجل القافية. وليس مراد أبي القاسم أن مقابلة نجد بالحجاز غير صحيحة (¬1). - ومن تعليقاته في هذا الباب من أجل إقامة الوزن وتصحيح المعنى وذكر الصور البيانية قوله في بيت الحسن بن هانىء: طافيات راسبات ... خوْمها عنَقاً عنقَا كذلك كتب في الأصل، وكذلك ضبط ونقط ما ضبط ونقط منه. ومنه تحريف ونقص أفضى إلى اختلال الوزن. وصواب البيت: طافيات راسبات ... حببتها عنقاً فعنقا راسبات بموحدة بعد السين. كذا في ديوانه. ولعل كلمة خومها تحريف خوفها بخاء معجمة وبفاء أخت القاف بعد الواو. وهي رواية في البيت عوض حببتها، وانتصب عنقاً عنقاً على البدلية من ضمير الغائب في حببتها، بدَلٌ مفصَّل من مجمل كما تقول: قرأت الكتاب باباً فباباً، والعنق والعنق رأس الجبل من الرمال. والبيت من مجزوء الرمل. شبه الصعود بالطفو، والهبوط بالرسوب. وفي البيت محسن الطباق (¬2). ويمكن أن يلحق بهذا استعمال اللفظ بمعناه اللغوي مع نفي إرادة المعنى الاصطلاحي. كما في قول ابن جنّي: وذلك أن المعدوم عندنا سمِّي شيئاً. قال الشيخ ابن عاشور: يعني عند أهل اللغة دون اصطلاح المتكلمين. فإن أصحاب الأشعري اصطلحوا على أن المعدوم لا يسمى شيئاً (¬3). ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 74/ 3. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 90/ 2. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 66/ 3.

ومما تناولته تعاليق الإمام الأكبر بيان اختلاف آراء الشراح لديوان شعر المتنبي. والاقتصار على وجه واحد من تلكم الأفهام يقصر بالناظر عن إدراك المقصود بصورة قطعية. ولذلك فإنا نجده فيما كتبه ابن جنّي على بيت المتنبي: تبلُّ خدِّيَ كلما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها يتعقبه بقوله: جعل أبو الفتح إسناد تبلّ إليها إسناداً حقيقياً، وأبو القاسم جعله مجازاً عقلياً، أي تتسبب في بلّ خدّي بالدموع، ووافق الواحدي في شرحه التفسيرَ الذي قاله أبو القاسم، وحكى الواحدي عن ابن فورجه موافقته لأبي الفتح. وحكى المعري في معجز أحمد سبعة أقوال في تفسير هذا البيت غير معزوة، أحدها مثل ما لابن جنّي، وآخر مثل ما لأبي القاسم (¬1). ويتبع هذه المقارنة بين الأفهام المختلفة مع الترجيح أو الانتصار لبعض أصحابها. وهو فاش في كتاب الواضح. مثاله قول المتنبي: لَياليَّ عند البِيضِ فَوْدَايَ فتنةٌ ... وفخرٌ وذاك الفخرُ عِنديَ عَابُ اختلف في معنى هذا البيت ابن جنّي والأصفهاني. وقال الشيخ ابن عاشور: معنى أبي الفتح ومعنى أبي القاسم متقاربان، وإن كان معنى أبي القاسم أصرح (¬2). - ومن ذلك الاختلاف في معنى قول أبي الطيب: وترى الفضيلة لا ترد فضيلة ... الشمس تشرق والسحاب كنهورا عقب عليه الشيخ ابن عاشور بقوله: ذكر أبو البقاء اختلاف ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 85/ 2. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 36/ 1.

شارحي الديوان في معنى هذا البيت ونظمه (¬1). انظر وجوه ذلك عند العكبري (¬2). - ومنه ما ورد في تفسير قول أبي الطيب: عيون رواحلي إن حرتُ عيني ... وكلُّ بُغام رازحةٍ بُغامي حكى الأصفهاني عن أبي الفتح قوله: حرت أو تحيّرت، والبغام صوت الناقة المعيية. ومعناه: إن حارت عيني فعيون رواحلي عيني وبغامهن بغامي. قال المحقق: هذا التفسير من أبي جعفر هو الظاهر، وما ذهب إليه أبو القاسم معنى ضئيل. وحسبك أن الشاعر فسّر به مراده، وهو الذي يقتضيه سياق الأبيات قبله وبعده. وذكر البُغام لا يناسب إلا المعنى الذي رواه أبو الفتح عن الشاعر نفسه. وابن فورجه والخطيب سلكا مسلك أبي القاسم في معنى البيت في شرح العكبري، بخلاف العكبري (¬3). - ومن ذلك الاختلاف في تفسير قول المتنبي: وخيلٍ حَشَوْناها الأسِنَّةَ بعدما ... تكدَّسْنَ مِنْ هَنَّا علينا ومِنْ هَنَّا ضُرِبْنَ إلينا بالسياط جهالةً ... فلما تعارفنا ضُرِبْنا بها عَنَّا يروي أبو القاسم الأصفهاني وجهين في تفسير قول أبي الطيب: فينسب الأول لأبي الفتح وينسب الثاني له. قال الشيخ ابن عاشور: وافق أبا القاسم على هذا التفسير ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 53/ 5. (¬2) العكبري. شرح ديوان المتنبي: 2/ 171، البيت: 45. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 78/ 3؛ العكبري. شرح ديوان المتنبي: 2/ 143، البيت: 4.

المعري والواحدي والعكبري. وأما ابن القطاع فحكى عنه العكبري أنه وافق أبا الفتح، والأصوب ما فسره به أبو القاسم (¬1). ولا شك أن مما يقتضيه التحقيق تصويب النص في النسخة المعتمدة، فلا بدع إذا رأينا شيخنا، مرتين أو ثلاثة، يُصلح ما عرض للمتنبي من أخطاء عند التحقيق: أُحاد أم سُداس في أُحاد ... لُيَيْلَتُنا المنوطة بالتنادي فهو عندما يعلّق على تفسير الغَيَد بالعنق عند الأصفهاني يقول: كذا بالأصل، وكذلك ضبطه. وهو سهو. ولعل الصواب الغيد ميل العنق (¬2)، ومثل هذا ما سبق التنبيه إليه في بيت الحسن بن هانىء من تحريف وخطأ واضطراب (¬3). ولقلة العارفين بالمذاهب العقدية والفقهية من أهل الاختصاص في الأدب والبلاغة فسّر الشيخ جملة من الإطلاقات الاصطلاحية على المذاهب. فقال عن الجعفرية: الأشهر أنها منتسبة لأتباع مذهب مَن ينتسبون إلى أبي جعفر محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين. وهم أيضاً قائلون بإمامة جعفر الصادق بن محمد الباقر، لكنهم مختلفون في ذلك مع اتفاقهم على إمامة أبي جعفر محمد الباقر، فكانت نسبة المذهب إليه أولى (¬4). ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 79/ 3؛ العكبري. شرح الديوان: 4/ 167، البيتان: 7 - 8. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 24/ 5. (¬3) الأصفهاني. الواضح: انظر تع: 669. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 71/ 2.

وبيّن عدة مذاهب، هي في الجملة خبيثة الاعتقاد كانت منتشرة بالكوفة. ذكرها المؤلف عند حديثه عن تنبؤ أبي الطيب، فجعل منها السوفسطائية، وتناسخ الأرواح، ومذاهب الفضائية القائلة بالخلاء، والسبعية، والقائلين بالنفس الناطقة، والحشيشية. وجعل من الشعراء الموسومين بخبث الاعتقاد: بشّار بن برد، وديك الجن، وأبان بن عبد الحميد، وأبا العتاهية، وإبراهيم بن سيابة (¬1). - قال الشيخ في تعريف السوفسطائية: هم الذين ينكرون حقائق الأشياء، ويقدحون في طرق التوصل إلى العلم بها، لِشكِّهم في الحسيات والبديهيات، وهو لفظ يوناني معرب. انظر شرح السيد الجرجاني على المواقف: 1/ 117 ط. الأستانة (¬2). - ووصف مذهب التناسخ بكونه مذهب القائلين بأن الأرواح بعد فناء أجسامها تحل في أجسام أخرى. وهو مذهب هندي قديم. انظر رسالة الغفران 142، 157. ط. هندية بمصر. وبه قالت الهاشمية من فرق الشيعة. الملل والنحل للشهرستاني: 212 هامش الفصل. ط. مصر (¬3). - ومذهب القائلين بوجود الفضاء المسمى عند الحكماء بالخلاء. وهو كون الجسمين لا يتماسان ولا بينهما ما يماسهما. فالمتكلمون قائلون بإمكان وجوده، والحكماء ينفونه (¬4). - وقال عن السبعية: بفتح السين المهملة وسكون الموحدة، طائفة من الشيعة جعلوا عدد الأئمة سبعة، وأن السابع إسماعيل بن ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 7 - 9. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 7/ 3. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 8/ 1. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 8/ 2.

جعفر الصادق المتوفى في حياة أبيه في حدود 145، ويدَّعون أنّ المهدي المنتظر من عقبه (¬1). - مذهب القائلين بالنفس الناطقة من الحكماء. وهي جوهر فرد مجرد عن المادة، ولكنها مقارنة للمادة في أفعالها عندهم (¬2). - والحشيشية هي مذهب طائفة من الشيعة الإسماعيلية كانوا في حصون جبلية من بلاد الشام. نسبوا إلى شرب الحشيش المخدر (¬3). ومن تعليقات الإمام الأكبر ما أثبته في حاشية الواضح تنبيهاً على عمله في تتبع شعر بشّار. فهو يقول عند ذكر قول بشّار، بعد ضبطه للبيت: تَنَابُع نحو داعيها سراعاً ... كما نثر الفريد من النظام لم تضبط كلمة تنابع. والوجه أن تكون: بفتح المثناة الفوقية الأولى، وبفتح الموحّدة، وبضمّ العين كما يقتضيه تأنيث الضمير في قوله: داعيها، وجمع سراعاً. وهذا البيت لا نعرفه إلا في هذا الكتاب. وقد أثبتناه في ملحقات ديوان بشّار. ط. لجنة التأليف والنشر 1382 (¬4). وعني شيخنا رحمه الله في تعليقاته بالتعريف بكثير من الملوك، والأمراء، والوزراء وخزنة المال، والقوّاد، واللغويين، والنحاة، والأدباء، والشعراء. وفيما سنذكره من ذلك لمحة دالة، وليس استقراء لمن ترجم لهم. كما سنشير إلى بيانات وتفسيرات في هذا الباب منها ما يتعلّق بمن أضيف اسمه إلى كتاب مثلاً، من غير تصريح بتسميته ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 8/ 3. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 8/ 4. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 8/ 5. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 44/ 3.

الشخصية، ومنها ما يرجع إلى ضبط الأسماء أو تحرير الأنساب، أو ممّا يكون قد توقّف فيه المحقّق. فهو يترك الدلالة عليه بما يكون من التعريف، ممّن يلحق به ويأتي بعده من أهل العلم والبحث. فمن الملوك تعريفه بكافور قائلاً: كان عبداً أسود من خدم الإخشيد، صاحب مصر. ولمّا توفي الإخشيد 334 - 335، ولي بعده ابنه أنوجور أبو القاسم. واستولى على الأمر كافور. وكان كافور أتابك أبو القاسم بن الإخشيد. وكلمة أتابك تركية مركبة من كلمة أتا بمعنى أب وبك بمعنى الأمير. وتوفي كافور 356 (¬1). وكذلك تعريفه بالإخشيد. وهو أبو بكر محمد بن طغم بن جف الفرغاني الأصل. من أبناء الملوك في فرغانه. ولد ببغداد 268 وأولاه الخليفة القاهر على مصر 321، وصرفه قبل أن يتسلمَ عمله. ثم أولاه 323. ولقبه الإخشيد 327. وهو لقب ملوك فرغانه، ومعناه ملك الملوك. وتوفي في دمشق 334 - 335. ودفن ببيت المقدس (¬2). وأما الوزراء فذكر من بينهم: - المهلبي أبا محمد الحسين بن محمد، من ولد قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة الأزدي، وزير معز الدولة ابن بويه في سنة 339. ولد بالبصرة 291 - 352. كان شاعراً كاتباً. ترجمته في اليتيمة وابن خلكان. وله أقوال بليغة، تجري مجرى الأمثال. أثبتها أبو منصور الثعالبي في كتاب سحر البلاغة وسر الصناعة. وَزَر لمعز الدولة بعد موت الوزير أحمد الصميري. فحمد أثره في كشف الظلامات، وتقريب أهل العلم والأدب (¬3). ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 11/ 6. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 12/ 2. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 4، 1/ 7.

- وأبا الفضل البلعمي بعين مهملة نسبة إلى بلعم من بلاد الروم. هو محمد بن عبيد الله بن محمّد التميمي. كان وزير الأمير السعيد نصر الساماني ووزيراً للأمير إسماعيل الساماني. توفي 325 (¬1). - وأبا علي بن إلياس. هو محمد بن إلياس بن اليسع. كان وزيراً لأمراء بني سامان. وكان من أصحاب السعيد نصر بن أحمد الساماني. وسخطه، وشفع فيه محمد بن عبيد الله البلعمي. وتقلب في الأمور أوائل القرن الرابع. وصار إليك ملك بلاد كرمان، ثم تخلّى عنه لابنه اليسع. توفي 356 (¬2). - وذكر من القواد أبا العشائر. قال في ترجمته: أبو العشائر هو الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان. كذا قال الواحدي ابن عم سيف الدولة، وممدوح المتنبي، وممدوح أبي فراس. كان من قواد سيف الدولة، وأسر في بلاد الروم (¬3). - وترجم لعدد كبير آخر من العلماء والأدباء والنحاة وغيرهم من العلماء. فذكر من اللغويين والأدباء أبا الطيب اللغوي. قال: هو عبد الواحد بن علي أبو الطيب اللغوي الحلبي. أصله في عسكر محرم. قدم حلب فأقام بها إلى أن قتل في دخول دُمستق حلب 351 (¬4). - ومن بين الأدباء الذين ترجم لهم الإمام الضبّي. قال: هو أحمد بن إبراهيم الضبّي نسبة إلى قبيلة ضبّة 399. أديب من أصحاب الصاحب بن عباد. ووزر بعده لفخر الدولة ابن بويه، وابنه مجد الدولة ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 18/ 1. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 18/ 6. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 9/ 4. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 10/ 1.

إلى سنة 393، حيث هرب من الريّ إلى بدر بن حسنويه فأكرمه (¬1). وكذلك نجد له ترجمات للنحاة من بينها ترجمة ابن جنّي التي يقول فيها: - هو أبو الفتح عثمان بن جنّي الموصلي النحوي الشهير 392. أخذ عن الفارسي، وصحِب المتنبي. وكتب على ديوانه شرحين: أحدهما على كامل القصائد سماه الفسر الكبير. وابن جنّي أول من شرح ديوان المتنبي (¬2). توجد منه نسخة بدار الكتب المصرية، والثاني في معاني أبيات منه سماه الفسر الصغير. وهو مقصود المؤلف هنا، لأنه صرح في مواضع بأنه لم يطلع على الفسر الكبير. ثم في آخر هذا الكتاب (¬3) ... وتحدث عن ثلة من الشعراء ترجم لهم. نذكر من بينهم: - ديك الجن، مولى بني حبيب بن مسلمة الفهري 235. كانت له جارية يهواها، اتهمها بغلام وصيف له، فقتلها ثم ندم على ذلك. فأكثر من التلهّف عليها بشعر كثير. وهو شاعر مُجيد. ولم أقف على سبب تلقيبه بديك الجن (¬4). - اللاحقي، من أصحاب بشار. كان شاعراً مُجيداً في عصر الرشيد، واتصل بالبرامكة. واللاحقي نسبة إلى جدّه لاحق. وهو مولى بني رقاش من بني شيبان بن بكر بن وائل. ورقاش أمه. نشأ بالبصرة. وكان صديقاً لبشّار بن برد. ومات بعد نكبة البرامكة. ولم أقف على سنة وفاته (¬5). ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 7/ 1. (¬2) الصبح المنبي: 160. ط. دمشق. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 5/ 2. (¬4) الأصفهاني. الواضح: 8/ 6. (¬5) الأصفهاني. الواضح: 8/ 7.

- ابن سيابة. بسين مهملة وبتحتية، وهو الصواب. وجعل على التحتية علامة خف، أي بالتخفيف. اسمه إبراهيم. شاعر معاصر لهذه الفئة متوسّط الشعر وعُدّ منها (¬1). ولا يخلو الواضح عند الاقتضاء من ذكر وجوه تلك القرى والدساكر وأعيانها. ويتّبع الشيخ ابن عاشور الأصفهاني، مكملاً ما ينبغي أن يعلم عن بعض الأعلام، كما في ترجمته لفاتك. قال: فاتك هو أبو شجاع. يعرف بفاتك الكبير، ويعرف بالمجنون، وبفاتك الرومي. أُخِذ وهو صغير من بلد قرب حصن يعرف بذي الكِلاح، وتعلم القراءة والكتابة بفلسطين. فأخذه ابن طغج محمد الملقب بالإخشيد صاحب مصر من سيده كرهاً. فنشأ كريماً بعيد الهمة. ولقبّه أهل مصر بالمجنون لإفراطه فيما أعطاه للمتنبي كما ذكره المؤلف، وأقطعه الإخشيد بلاد الفيوم (¬2). - ومن الأعيان والسراة أيضاً سميُّ السابق فاتك بن أبي جهل بن فراس بن بداد، من بني أسد. وهو خال ضبّة بن يزيد العيلي الذي هجاه أبو الطيب بالأبيات التي أولها: ما أنصف القوم ضبّة ... وأُمّه الطرطبّة قيل: إن فاتكاً لما سمع ذكر أخته بالقبح في هذه الأبيات، داخلته الحميّة فأضمر الانتقام من المتنبي. وقد علم أنه منصرف من بلاد فارس متوجّهاً إلى العراق، وأن اجتيازه على دير العاقول (¬3). وجاء الإمام في حاشية الواضح إلى جانب التعريفات والترجمات بتعليقات أخرى ذات صلة بالموضوع. منها ما هو حول ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 9/ 1. (¬2) الأصفهاني. الواضح: 12/ 1. (¬3) الأصفهاني. الواضح: 26/ 4.

قول أبي القاسم: "أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حقائق الآداب". قال المحقق: صاحب صفة لأبي محمد، وهو عبد الله بن محمد بن علي المعروف بابن شاهرذان له كتاب حدائق الأدب في اللغة. ذكره ياقوت دون وصفه بالأبهري، وكناه أبا محمد، وذكر حدائق الحقائق في اللغة. وقال: لا أعرف من حاله شيئاً (¬1)، وغير ذلك من التحقيقات. * * * ¬

_ (¬1) الأصفهاني. الواضح: 20/ 3.

سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن السراج

سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن السراج ورد في الورقة الأولى من هذا التأليف أنه كتاب في حل مشكل معاني أبي الطيب، وبيان ما يوافق كلامه فيه كلام غيره ممن تقدمه من الشعراء. فهو بذلك صنو للكتاب الأول المتقدّم الواضح في مشكلات شعر المتنبي، يكمله فيما عرض له من بيان مُغلَقه، متناولاً أحياناً نفس الغرض والموضوع من الأبيات التي اتفق النظر فيهما في الكتابين، وهي: 3/ 3، 4/ 10، 11/ 70، 12/ 87، 14/ 97، 15/ 98، 18/ 107، 28/ 147، 29/ 188، 31/ 215، 41/ 273 - 335، 44/ 279 - 347، 45/ 286، 46/ 353، 48/ 292، 50/ 390، 52/ 392، 53/ 393، 56/ 396، 56/ 442، 63/ 464، 64/ 415. وجاعلاً قسماً آخر منه في تفسير مشكل المعاني كما في الواضح. وعدّة أبيات المشكل في هذا الكتاب: 81 + 20 = 101، وعدّة أبيات المشكل التي تعرّض لها ابن سراج: 224. وعدّة أبيات السرقات الواردة به: 290. وجملة ما تضمّنته هذه النسخة من سرقات المتنبي ومشكل معانيه: 508. وهذا الكتاب هو أول كتاب يجمع بين الغرضين المطروحين للنظر والنقد: الأبيات المشكلة المحتاجة إلى بيان وشرح، والأبيات

التي اقتفى فيها المتنبي معاني غيره مما استجاده عند الشعراء قبله. ومخطوطة سرقات المتنبي التي اعتمدها المحقّق ولم يقف على نسخة ثانية لها. وقد نبّه على هذا بقوله: بحثت فيما دخلت من مكتبات وراجعته من الفهارس عن نسخة من هذا الكتاب فلم أجد نسخة أخرى. ولذلك غلب على ظنّي أنها نسخة فريدة (السرقات: ع). وفي محل آخر من مقدمته ذكر أن هذا الكتاب لم يرد له ذكر عند السابقين (السرقات: ك) وهذا صحيح يتّضح مما سنورده بعد. والمخطوطة الوحيدة من كتاب السرقات التي اعتمدها الإمام الأكبر تقع في مجموع ذي ثلاثة أجزاء مختلفة متكاملة: الأول منها كتاب السرقات هذا. وهو بخط مشرقي. كتب في رجب 615. والثاني رسالة الحاتمي في مناظرة بينه وبين المتنبي. والثالث رسالة في مآخذ المتنبي أوردت معاني عدّة أبيات له، استمدها من كلام الحكيم أرسطو. قال أبو عبد الله الكاتب: والرسالتان الأخيرتان بخط مغربي تمَّ نسخَهما بالقاهرة في رجب 664. وكتبت هذه الأرقام بأرقام الزمام المغربية. أما عنوان الرسالة الأولى ونسبتها فقد وقع التنصيص عليهما في الورقة الأولى (وجه) من الجزء الأول من المجموع، ثلاث مرات. الأولى بعد البسملة. ونصه: قال الشيخ الإمام العالم الفاضل العلامة ابن بسام النحوي - رضي الله عنه -: هذا الكتاب في ذكر سرقات أبي الطيب ومشكل معانيه المرتّبة على القوافي.

والثانية بعد ذلك في نفس الورقة بالمداد الأحمر والأسود ونصه: كتاب سرقات المتنبي ومشكل معانيه؛ تأليف الشيخ ابن بسام النحوي رحمه الله آمين. وبإثره في مخرج بالمداد الأحمر بخط مشرقي: هو ابن بسام صاحب كتاب الذخيرة في شعراء الجزيرة. والثالثة بخط مغربي هو خط أبي عبد الله الكاتب: هذا الكتاب في حلّ مشكل معاني أبي الطيب، وبيان ما وافق فيه كلامه كلام غيره ممن تقدّمه من الشعراء. ألفه الفاضل العلامة ابن بسام النحوي اللغوي صاحب كتاب الذخيرة في شعراء الجزيرة. وقد شاهدت جزءاً منه في بلاد المغرب. وهذه النصوص المعرفة بالكتاب وصاحبه تُقَدِّمه بأنه كتاب في سرقات المتنبي منسوب إلى ابن بسام صاحب الذخيرة. وكما وقع الاحتراس من اسم الكتاب بما ذكرناه قبل عن المحقق، نجد شيخنا رحمه الله يتوقّف أيضاً في اسم المؤلف محتاراً بين أن يكون أحد أربعة: الأول: علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام المعروف بالبسامي البغدادي. وهذا لا يصحّ أن يكون صاحب كتاب السرقات لأنه توفي قبل أن يولد المتنبي. الثاني: هو محمد بن أيوب. كبير فقهاء مالقة. وليس موضوع الكتاب مما يمكن أن يكون قد اهتمَّ به. الثالث: هو أبو الحسن جابر بن بسام. وقد كان أيضاً مفتياً بمالقة. الرابع: أبو الحسن علي بن بسام التغلبي الشنتريني. وهو من الكتاب والوزراء. وسرقات المتنبي جرى فيه على نسق كتاب الذخيرة في أعيان الجزيرة.

وعقد المحقّق مقارنة بين طريقتي هذين الكتابين خصوصاً بعد أن مال في نسبة السرقات إلى أنها لابن بسام، بحسب ما ورد في الورقة الأولى من المخطوط كما قدّمنا. ثم بعد مناقشته للأوصاف التي أضيفت إلى ابن بسام من كونه الشيخ النحوي واللغوي، وكونه تغلبياً أو ثعلبياً مبدياً بذلك حيرته. قال: أما مصنّف هذا الكتاب فنتوسَّم كما توسَّم بعض الأفاضل قبلنا أنه من أعيان الجزيرة (¬1). ورغم ما بذل الإمام الأكبر من جهد في تحقيق السرقات ومن قبلها الواضح فإن من الواقفين على السرقات بعد طبعه من أبدى احترازاً في نسبة الكتاب واسم مؤلفه. وهو وإن نوّه بعمل ابن عاشور فيه قائلاً: (وقد أخذت من كتاب سرقات المتنبي ومشكل معانيه أثناء تحقيقي لكتاب المصنف لابن الوكيع التنيسي في جملة ما استفدت منه من المصادر، لفت الكتاب نظري بموضوعه ونسبته إلى ابن بسام النحوي. وبقي في الذاكرة شيء من هذا الانتباه) (¬2). وكما أنكر نسبة كتاب السرقات لابن بسام النحوي الدكتور إحسان عباس، فقال: ولكن ليس في الكتاب أية قرينة تدل على أنه من تأليفه، أي تأليف ابن بسام (¬3). أنكر د. رضوان الداية ذلك مع تصحيح القول وتفصيله في المقال المومى إليه أعلاه (¬4). وقد صرح الدارس المعقب المذكور أن صاحب كتاب السرقات ¬

_ (¬1) السرقات:/ ح. (¬2) 22 ع. كتاب سرقات المتنبي لرضوان الداية: 612. (¬3) إحسان عباس. تاريخ النقد الأدبي عند العرب ط 1: 506. (¬4) سرقات المتنبي: 24ع. دمشق: 611 - 622.

إنما هو المعلم المحاضر البارع أبو بكر محمد بن عبد الملك بن السراج الشنتمري الأندلسي النحوي (¬1). وأن سرقات المتنبي ليست إلا قسماً من كتابه جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب. ذلك أن ابن السراج وضع كتاب الجواهر على أربعة أجزاء: الأول منها: في ذكر الشعر وقائليه. الثاني: في تفاصيل أنواعه بحسب معانيه واختلاف القول فيه، وتوليد المعاني وسرقاتها. الثالث: في المنثور وما يتعلق بعمله والمختار من فصوله. الرابع: في سرقات أبي الطيب ومشكل معانيه بداية من الورقة 131/ ب - 148/ ب. ويرجع عهد د. الداية بابن السراج إلى فترة زمنية قريبة، حقق له فيها كتابي المعيار في أوزان الأشعار، والكافي في علم القوافي. وذكر أنه وقف في ثبت مصنفاته على ذكر كتاب الجواهر. ودعاه ذلك إلى المقارنة بين السرقات والجزء الأخير من الجواهر فألفاه بعد النظر والدرس نفس الكتاب. وأن بهذا القسم الرابع من هذا الأخير إكمالَ أنقاص في الطبعة التونسية لسرقات المتنبي المنسوب خطأ لابن بسام النحوي. وقد نبّه المحقق إلى هذه الأنقاص في مقدمته بقوله: "وبهذه النسخة نقص في موضعين: أحدهما يقدر بورقة بعد ورقة 19، والثاني بمقدار ورقتين بعد ورقة 26". كما أن بالنسخة المطبوعة للقسم الرابع من الجواهر استدراكاً لخرم وقع بمخطوطة الأسكوريال من آخر صفحة 12 إلى أواخر ¬

_ (¬1) المَقَّري. النفح: 2/ 238.

صفحة 20 منها. وموضعه الورقة 133/ أ (¬1). ومما يدل على كون السرقات جزءاً من الجواهر اتفاقهما في بداية ما افتتحا به من قوله: باب قافية الهمزة. قال: يشكو الملامُ إلى اللوائم ضرَّه ... ويصدّ حين يلُمن عن برحائه وفي نهايتهما من قول ابن السراج: وهذا القدر كاف فيما رمناه، ومغن عن تتبع ما سواه، إذ ليس قصدنا إلا الوقوف على بعضه، والمشاركة فيه دون استيعاب جميعه. وما توفيقنا إلا بالله سبحانه، والحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً. وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكتب في رجب الفرد سنة خمس عشرة وستمائة. وفي اعتقاد د/ الداية أن ما حصل من الاضطراب في اسم الكتاب واسم مؤلفه ناشىء عن جهل من الناسخ أو هو من صنع تجار الكتب. وقفوا على هذا القسم من الجواهر مفصولاً عن بقية أجزاء الكتاب، فأسموه باسم العنوان الذي وجدوه مكتوباً على الصفحة الأولى منه، وهو اسم مميز للقسم الرابع من الجواهر كما تقدّم بيانه، ووجدوه بدون ديباجة ومغفلًا من النسبة إلى صاحبه في بداية هذا القسم، فنسبوه وأخطؤوا في نسبته. وقد قدمنا الدليل على ذلك. وبمقدّمة المحقّق بجانب وصف نسخة هذا الكتاب وتفصيل القول في ذكر طريقة المؤلف فيه عقد الإمام الأكبر مقارنة بين السرقات وبعض الكتب الأدبية في الموضوع ذاته. قال: وظنّي أنّ العكبري اطلع على هذا الكتاب. فإنه اتّبع طريقته في الجمع بين الشرح وبيان المأخذ حيث يكون معنى البيت مأخوذاً من شعر سابق (¬2). ولبيان رأي ¬

_ (¬1) 22 ع: 619 - 621. (¬2) المقدمة: ل.

النقاد في هذا النوع من التصرّف في الأقاويل الشعرية يقول الإمام الأكبر: واعلم أن الأدباء يطلقون اسم السرقات الشعرية على أن يأخذ الشاعر معنى سابقاً في شعر من قبله فيودعَه في شعره قصداً، ويعلم القصد بقرينة الإحاطة بذلك المعنى. فكل من الأخذ والسرقة نوعان: ظاهر وغير ظاهر. الظاهر أن يؤخذ المعنى كله إما مع اللفظ كله أو بعضه. فإن أخَذ اللفظ كله من غير تغيير فهو مذموم، ويلحق به أن يُبدل بعض الكلمات بما يرادفها، وإن كان مع تغيير لنظمه، فإن كان شعر الشاعر الآخذ أحسنَ من شعر سابقه فممدوح. وهو ما يقال فيه استجدّه فاستحقّه. وإن كان أقلّ منه فهو مذموم. وإذا أخذ اللاحق من السابق المعنى وحده سُمّي إلماماً وسلخاً، وهو أقسام، ويغتفر من الأخذ ما فيه حُسن تصرّف من الآخذ في المعنى المأخوذ (¬1). وإنما ذكر هذا في مقدمة السرقات لتوزن هذه بميزان العدل والقسط لا الهوى أو التحامل. وقد يكون من المفيد أن نتبيّن أهمية هذا المؤلَّف بما أورده ابن السرّاج من أبيات مشكل شعر المتنبي وشرحها. وقد وزع كل واحد من هذين النوعين على ترتيب القوافي، فكانت جملة ما ذكره من أبيات النوع الأول 212، وجملة ما أثبته من أبيات النوع الثاني 296. فكتاب سرقات المتنبي ومُشكل معانيه يكون قد تناول بالشرح والنقد 489 شاهداً أو بيتاً من شعر أبي الطيب. ولعل من المناسب أن نتولّى، إثر هذا، تفصيل القول في شيء ¬

_ (¬1) المقدمة: ك.

من ذلك كشفاً عن طريقة المحقّق، وبياناً لمنهجه فيه، وإن كان جرى في جملته على نفس المنهج والخطة اللذين سار عليهما في تحقيق كتاب الواضح السابق. وإنا لواقفون، إن شاء الله، عند الأبيات الثلاثة مما هو مثبت في الكتابين. وهي: 10/ 4، 98/ 15، 415/ 64. واختيارنا لهذه الأبيات كان بقصد البيان والتعليق، ومن أجل إضافة أمثلة جديدة غير التي أوردناها قبل من الأمثلة التي عرضنا لها في الواضح للأصفهاني، وللتنبيه على ما تفاوت فيه اللغويون، والنقاد الثلاثة: ابن جنّي، والأصفهاني، وابن السَّرَّاج، وما اتصل بذلك من تعليق أو تصحيح أو تعقيب من الإمام الأكبر. وربما ذكرنا بيتاً واحداً مشتركاً بين ما أورده الأصفهاني وبين ما ذكره ابن السَّرَّاج، لما تميّزا به من إيضاح لمشكل، وبيان لمأخذ من المآخذ على المتنبي وهو: 29/ 188. ووقفنا أيضاً عند الأبيات التي اختصّ بإيرادها ابن السرّاج، واتهم فيها المتنبي بالسرقة. ومنها: 113 ص 35، 221 ص 67، 310 ص 88. ومما أحببنا الوقوف عليه، ممّا يصلح أن يكون مثالاً يؤيدان به دعواهما، وهو البيت المشترك العاشر الذي ذكراه: شِيَمُ الليالي أن تُشَكِّكَ ناقتي ... صَدري بها أفضَى أم البيداءُ فَتَبِيتُ تُسْئِد مُسْئِداً في نَيِّها ... إسْآدَها في المَهْمَهِ الإنضاءُ البيت الثاني هو موضع النظر والدرس. وهو الرابع عند ابن جنّي. والأول وطّأ به ابن السرّاج لذكر الثاني زيادة في بيان المعنى.

بدأ أبو الفتح ابنُ جنّي يشرح الكلمات المغلَقة، ففسّر أولاً الإسآد بإغذاذ السير. ونبّه إلى أنه يقال لسير الليل خاصة، وشرح ثانياً النيي بالشحم، مثنياً بإعراب "مسئداً" بكونه منصوباً على الحال من ضمير تسئد. وهذه الحال مؤكدة لعاملها، وفاعله المرفوع الإنضاء، ومنتهياً بذلك إلى بيان معنى البيت بقوله: تقطع الفلاةُ شحمَها كما تقطعُ هي الفلاةَ. ووصف أبو القاسم الأصفهاني هذا البيت بقوله: إن المتنبي عقَّد ألفاظه وعوَّصَها فأظلم معناه. ولبيان المراد منه أحال على بيت الطائي في قوله: رعته الفيافي بعد ما كان حِقبةً ... رعاها، وماء الروض ينهلّ ساكبُه ويقول: أخذ معناه أبو تمام بدوره من كتاب الأبيات لابن دريد من قول الأشْنَانْداني. وهو: وذات مَاءَين قد غَيَّضتُ ماءَهما ... بحيث تُستمسَكُ الأرماقُ بالحُجَر رَدَّت عَوَاريَّ غيطانِ الفلا ونَجَت ... بمثل إبّالةٍ من يابس العشَر وفسر أبو بكر ابن السرّاج البيتين جامعاً بينهما مشيراً إلى أن قول المتنبي في عجز البيت الأول: صدري بها. يريد: أَصدري، حذف ألف الاستفهام، وبها أي في الليالي. وقال في البيت الثاني: تسئد أي تسير ليلاً يعني ناقتَه، ومسئداً حال منها. والإنضاء فاعل به، وإسآدها مصدر مشبَّه به أي تبيتُ الناقة تسئد، وينتقل أبو بكر من الإعراب إلى بيان معنى البيت بقوله: والكلل يسئِدُ الهزال في شحمها كإسآدها في المهمه وهو القفر. والملاحظة الأولى: أن هذه الصفوة من العلماء واللغويين تستخدم الإعراب وترجع في تفسيرها إلى قوانين العربية.

البيت الثامن والتسعون = الخامس عشر في الواضح

والملاحظة الثانية: أن الإمام الأكبر فيما تكرّر إيراده في السرقات، يبدي آراءه وتعقيباته على ما ذكره الواضح دون الثاني إلا قليلاً، اجتناباً للتكرار. وقد علّق هنا على كلام أبي القاسم في قوله: كتاب الأبيات لابن دريد، بأن المراد بالأبيات أبيات المعانى، وأن من كتب الأبيات ما نسب للأصمعي، والباهلي، والسيرافي، والجاحظ. كما عرّف بالأشْنَانْداني ضابطاً نسبته نقلاً عن كتاب اللباب لابن الأثير، مبيّناً أصل الكلمة ومعناها بالفارسية، ثم ترجم لصاحبها. وذكر أنه من علماء البصرة، كما أثبت ذلك صاحب الفهرست. واسمه أبو عثمان سعيد بن هارون، توفي 288. وأنّ له كتاب معاني الشعر وكتاب الآداب، طبع الأول منهما بدار الثقافة ببيروت 1963. وضبطه في الأصل: والمعنى أن أرماق الركب مشدودة بحُجَر تلك العين. وتثنية ماءين وإرادة العين للتكثير على حدّ قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} وعلى ما ورد به قولهم: لبيك وسعديك. ونسب فعل رَدَّتْ إلى ناقة أو راحلة دل عليها سياق الكلام، وتقدّم ذكرها في بيت له قبل هذا. البيت الثامن والتسعون = الخامس عشر في الواضح وأبعدُ بُعْدِنا بُعْدُ التداني ... وأقربُ قُرْبِنا قُربُ البِعاد هذه رواية ابن السَّرّاج. وفي الواضح: وأبعدَ بُعْدَنا بُعْدُ التداني ... وقرَّبَ قُربَنا قُربُ البِعاد قال ابن جِنّي في تفسير البيت: أبعدَ بُعدَنا بعدٌ مثل بعدِ التداني

كان بيننا، وقرّب قربنا قُرب مثل قرب البعاد كان بيننا، أي قرّبني منه بحسب ما كان بيني وبينه من البعد. قال الشيخ ابن عاشور في بيان وجه قراءة هذا البيت على ما هو وارد به في الواضح: أقربَ وأبعدَ فعلان. هكذا ولم يرد قرّب في الأصل، ولعله أراد التصحيح والحفاظ على التماثل في صيغتي الفعلين أو اللفظين، كما في رواية السرقات، وإن اختلف إعرابهما كما سيتّضح من المقارنة بين مقالة ابن جِنِّي وتفسير ابن السرّاج. والهمزة فيهما هنا في هذا الوجه للتعدية، وفاعل الفعلين ضمير يعود إلى السير في قوله قبل بيتين: جزى الله السير إليه خيراً وانتصب بُعدَ التداني وقرُبَ البعاد على المفعول المطلق المراد به التشبيه، أي بعداً كبعد التداني وقرباً كقرب البعد، وضميراً بعدنا وقربنا عائدان إلى المتكلّم وإلى ممدوحه علي التنوخي. وفي تصوير معنى البيت يقول: كبعد التداني منّي، وكقرب البعاد منّي، أي أبعد السير إليه، أي دفع عنِّي ما كان من بعد ما كان منّي بعد، فأشبه البعد الآن في الانفصال ما كان منّي بعد الدنوّ، وقرب السير إليه إلى ما كان بعيداً بُعداً يشبه بعدَ الاتصال. وبعد هذا التفسير الإعرابي وصف بيت المتنبي هذا بكونه من أبيات المعاني، معلِّلًا رأيه بما توفّر فيه من دقة المعنى وتشابه الألفاظ وتضاد معانيه وخفاء إعرابه. وأورد إثر ذلك في تفسيره مقالة ابن سيده قال: يقول: كنت منه بعيداً فكان البعد منّي حينئذٍ قريباً، والقرب بعيداً، فلمّا جئته انعكست الحال، فعاد البعد بعيداً وعاد القرب قريباً.

البيت الخامس عشر بعد الأربعمائة = الرابع والستون في الواضح

وقال أبو الفتح ابن جني: معنى البيت قرّبني منه بحسب ما كان بيني وبينه من البعد. وسكت أبو القاسم عن تصوير المعنى المراد من البيت بعد وصفه له بالاستغلاق والاستبهام قائلاً: إنه في هذا البيت ينظر إلى بيت الحماسة: يُقرِّبن ما قُدامَنا من تنوفةٍ ... ويزددن مما خلفهن بنا بُعدا وذهب ابن السرّاج إلى أن بعد التداني يراد به قرب القلوب أي قرباً لا أريد زواله. وهذا أخذاً من مقالة أرسطو: أقربُ القرب مودَّاتُ القلوب وإن تباعدت الأجسام، وأبعدُ البعد تنافر التداني. البيت الخامس عشر بعد الأربعمائة = الرابع والستون في الواضح عيون رواحلي إن حِرتُ عَينِي ... وكلّ بُغام رازحةٍ بُغامي شرع ابن جنّي في بيانه لمعنى البيت بتفسير كلمتي حرت وبُغام. فحرت بمعنى تحيّرت. والبُغام صوت الناقة المعيية. أخذ هذا من كلام المتنبي نفسه حين سأله عن معنى البيت، فقال: إن حارت عيني فعيون رواحلي عيني، وبغامهن بُغامي. قال أبو الفتح: إن حرت فأنا بهيمة مثلهن (كناية رمزية). وهذا من قولك: إن قلت كذا وكذا فأنا مثلك، ومن قول أبي الطيب في البيت قبله: أيا لائمي إن كنتُ وقت اللوائم ... علمتُ بما بي بين تلك المعالم ولم يستحسن أبو القاسم هذا التصرّف من ابن جنّي في اعتماده على جواب المتنبّي، ذاكراً أن أبا الفتح كثيراً ما يعدل إلى مثل هذا، فيقول مرّة هذا حصلته عليه، وأخرى فأجابني وقت الاجتماع معه. وهذا من عمل الغريق يتعلّق بما يرى، متّهماً أبا الفتح بوقوفه عند

ما قاله الشاعر من بيان أو توجيه من غير إعمال فكر أو رويّة. وقرن أبو القاسم ردَّه على أبي الفتح ببيان معنى البيت كما يتّضح له قائلاً: إن عيون إِبلي تهتدي إلى الطريق وسلوكه لاعتيادها قطع الأسفار، وإلفِها سلوكَ المفاوز. فكلّما تحيّرتُ فهنَّ هادياتي، وإذا ضللت كنّ مرشداتي. ويؤكّد صحَّة ما ذهب إليه في البيت الأول نظرُ أبي الطيب إلى قول الشاعر: ذراني والفلاةَ بلا دليل ... ووجهي والهجير بلا لِثام وإلى قول أبي تمام يصف الإبل: المرضياتك ما أرغمت أنأُفَها ... والهادياتك وهي الشرّد الضُّللُ وعلّق الشيخ ابن عاشور على هذه المقارنة بين البيانين (¬1). وقد اكتفى ابن السرّاج بإيراد المعنيين مضيفاً إلى مقالة الأولين شرح كلمة الرازحة من قول أبي الطيب: فكل بُغام رازحة. والرازحة المعيية. ولكثرة مرويات أبي الطيب من الشعر الجيّد المختار، اشتغل شراحُه ونقادُه المناصرون له والمتحاملون عليه بردّ بديع تصرّفاته لما وعته حافظته، واختزنته ذاكرتُه. ومن يتتبع كتاب الواضح يجده يعَرِّف أبا الطيب بأنه قد خالط نحواً من خمسة وتسعين شاعراً، آخذاً عن كل واحد منهم ما استجاده أو انفعل به. وفي الكشف عن ذلك نجد ابن السرّاج وكثيراً غيره يتعرّضون بالتصريح لما دعوه سرقات. وأعتقد أن في الاكتفاء بهذه اللمحة الدالة ما يغري بدراسة شعر المتنبّي من جهة ما انفرد ابن السرّاج بالإشارة إليه والتأكيد عليه، ومن ¬

_ (¬1) انظر ما تقدّم: 608.

جهة ما توارد من الخواطر في شرح مشكله عند ابن جنّي والأصفهاني وابن السرّاج جميعاً، ومن جهة ما أضافه المحقّق من تحقيقات وبيانات لغوية وأدبية، اعتمد فيها الكثير من المراجع لتصحيح النص في الكتابين: الواضح والسرقات. بمثل هذا التدبّر للمباني والألفاظ، والنظر فيما يتحمّلانه من معانٍ وأغراض، وبتصوير مسالك الشعراء، وأئمة القريض، من قدامى ومحدثين في مناحي القول وطرق العرض، نُلفي الإمام الأكبر يمضي مع المتنبي في رحلة أدبية طويلة زاهرة، بين روائع الأدب وفنونه، شعره ونثره، قديمه ومولّده، شرقيه وغربيّه، ويقف بنا عند معاقده وجواهره، وتصرّفات الإحسان والإبداع فيه، منبّهاً إلى ما اعتمده من ذلك اللغويون والنقاد وَمَهَرَةُ الشعراء والكتاب. وهو بتصرّفه هذا يعرض على طلاب الأدب في عصرنا منازل رجال هذا الفن التي لمَّا يلحقوا بها، وصوراً جمالية تحتاج إلى من يجلّيها لهم، ويقدّمها في معارض الفكر والأدب نماذجَ رائعةً، وطرائفَ خالدة، تقتضي منهم الحفظ والدرس لها، والدربة والمران عليها، بما ينشأ لديهم ويحصل لهم من امتزاج الأنفس بها والتجاوب معها. * * * واستوقَفَت النصوصُ المشكلةُ والفصوصُ البديعةُ من شعر الفحول المتقدّمين الإمامَ الأكبر، فحرص على جمعها وبيانها وتقريب أغراضها، وتصوير التصرّفات القولية الإبداعية فيها - يتجلّى لنا ذلك في شروحه وتحقيقاته وتعاليقه على شعر الأعشى، وابن برد، والمتنبّي - ودعته همّته العلمية العالية، وملكاته اللسانية والبيانية، إلى أن يُولِي صناعةَ النثر من كتابة وخطابة، من الإبداعات الرائعة

والابتكارات الرائدة، ما تتطلّبه من بيان مراتبها، ووصف جمالياتها وتحقيق القول فيها، بما يجعل فنَّي النظم والنثر نسقاً، ويحمل شُداةَ الأدب على التعلّق بروائعه، والتطلّع إلى محاسنه، ممّا يقرّه الحسُّ الفنِّي، ويحكم له الذوق البلاغي. وقد كان من أبدع ما أولاه من العناية ترسل أبي نصر الفتح ابن خاقان في قلائده. * * *

قلائد العقيان ومحاسن الأعيان لأبي نصر الفتح بن خاقان

قلائد العقيان ومحاسن الأعيان لأبي نصر الفتح بن خاقان جمع هذا الكتاب أسماط اللآلي في الترجمة لذوي الرئاسة والمقام من الوزراء والكتاب والقضاة والأدباء والأعلام. ونوّه به محقِّقُه قائلاً: "هو الكتاب الذي طار صيتُه في الأزمان، فخلّد للأندلس بين أهل الأدب ذكراً معطاراً، وأقام في كلّ مسلك من مسالك المعرفة مناراً. كتاب لم يخلُ ناشىءٌ في الأدب عن الشوق إليه، ولا مبرَّزٌ من أن يكون بين يديه. فهو ديوان أدب في جواهره وأعراضه، جامع لأفانين الإنشاء وأغراضه" (¬1). حوى هذا الكتاب أصنافاً من الأدب من قصائد وأراجيز طويلة، وقطعاً من الشعر والنظم والرقاع والمجاوبات، وكذلك الأمثال والمخاطبات السلطانية والضهائر، والمراسلات الإخوانية والغرامية. وممّا يدل على عالي رتبة أبي نصر الأدبية ومنزلتِه البيانية بين معاصريه، ما ورد في خطاب أبي محمد عبد الرحمن بن أبي الحسن جعفر بن الحاج إليه من قوله: واحدي أبا النصر، مثنّى الوزراء، كيف أستسقي لموضع ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقدمة: 17.

احتلالك، وحسبُهُ صوبُ نوالك، وأمتري الغمام لمنازلك، وقد كفاها فيض أناملك، تُرسِل من نوافلها دِرراً، وتنظم في لبات الزمان من محاسنها دُرراً (¬1). وكذلك ما راسله به الوزير أبو محمد بن القُبْطُرنه من قوله: وكيف أجاري سابقاً لم تقم له ... هبوب الصبا والعاصفاتُ الخواطر إذا قيل: من هذا؟ يقولون كاتب ... وإن قيل: من هذا؟ يقولون: شاعر وإن أخذ التحقيقُ فيه بحقّه ... فقيل: من هذا؟ يقولون: ساحر (¬2) وممّا كتبه الوزير الفقيه صاحب الأحكام أبو محمد ابن سماك من رسالة خاطب بها صاحبه مؤلف القلائد: إن أبا النصر ناظم سِلك البلاغة، وقائدُ زِمام البراعة، سحبانٌ في زمانه، وقسٌّ في أوانه، وابن المقفع في مكانه، والجاحظ في بيانه. إذا أوجز أعجز، وإذا شاء أطال، وأطلق من البلاغة العقال، وأتى من ذلك سحراً حلالاً، وسقاه عذباً زُلالاً. أصّل للكتابة أصولاً، وفضل أبوابها تفصيلاً، وحصّل أغراضها تحصيلاً (¬3). ومن هذه الشهادات الشريفة والأوصاف المنيفة ما كتب به الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي إليه يصف قلائده: تأملتُ، فسح الله لسيدي ووليي في أمد بقائه، كتابَه الذي شرع في إنشائه. فرأيت كتاباً ينجد ويغُور، ويبلغ حيث لا تبلغ البدور، وتبينُ به الذُّرى والمناسم، وتغتدي له غُرَرٌ في أوجه ومراسم. فقد ¬

_ (¬1) القلائد: 346. (¬2) القلائد: 356. (¬3) القلائد: 506.

أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرّات طوعَ أقلامك. فأنت تَهدي لنجومها وتُردي برجومها. فالنَّثَرة من نثرك والشّعرى من شعركَ، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرّفون. وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيراً وسبَقتَ، ودُعي أخيراً وتقدَّمت. لا عدمت شفوفاً، ولا برح مكانُك بالآمال محفوفاً، بعزة الله تعالى (¬1). ومؤلف القلائد هو أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الأشبيلي. وهو سميّ الوزير الفتح بن خاقان كاتب الخليفة المتوكّل العباسي. سمّي باسمه ثم لقب بلقبه لخبر أورده مترجموه. مولده سنة 480. وأصله من قرية الواد، إحدى قرى قلعة يحصب، من كورة ألبيرة. وتوفي قتيلاً بتدبيرٍ وإغراءٍ من الأمير علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش 528، ودفن بباب الدباغين. ومشائخه كُثر ترجم لبعضهم في كتابه القلائد: منهم: أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر: 6 أبو بكر بن سليمان ابن القصيرة: 11 أبو محمد بن عبدون: 20 أبو الحسن بن سرّاج: 40 أبو بكر ابن العربي: 56 (في نسخة مشهد). وذكر المقَّري عدداً من شيوخه. منهم: أبو علي الصدفي: 2/ 90 أبو جعفر بن سعودن: 7/ 30 أبو خالد بن بشتغير: 1/ 666؛ 7/ 30 ¬

_ (¬1) القلائد: 479 - 480.

أبو الطيب بن زرقون: 7/ 30 أبو عامر بن سرور: 7/ 30 أبو الوليد بن الحجاج: 7/ 30 أبو عبد الله بن خلصة الكاتب: 4/ 100؛ 7/ 30 ابن دريد: 7/ 30 ومن بين معاصريه: أبو عبد الله بن أبي الخصال: 29 أبو محمد بن السِّيد البطليوسي: 39 القاضي أبو الفضل عياض بن موسى: 47 أبو بكر بن باجه (ابن الصائغ): 64 وترجم له غير واحد من المؤرّخين ونبّهوا على علوّ منزلته في الأدب. ترجم له ابن خلكان، وياقوت، والصفدي من المشارقة، وابن الخطيب، وابن سعيد، وابن عذاري، والحجاري، وابن دِحية، والمقرّي من الأندلسيين والمغاربة. وممّا أوردوا من أخباره أنه، رغم أدبه الرفيع وبيانه البديع، كان بذيَّ اللسان يذمّ أولي الأحساب، ويكثر بالطعن على الأدباء والكتّاب. وقد غلبت عليه شَقوتُه فكان مجازفاً مقدوراً عليه، لا يملّ من المعاقرة والقصف حتى هان قدرُه وابتذلت نفسُه وساء ذكره (¬1). وخير من جمع بين أوصافه وصفاته، وقارن بينه وبين لداته، ابن سعيد في مُغربه حين يقول: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقدمة: 14.

فخر أدباء إشبيلية بل الأندلس أبو النصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الإشبيلي صاحب القلائد والمطمح. ذكره الحجاري في المسهب. الدهرُ من رواة قلائده، وحملةِ فرائده. طلع من الأفق الإشبيلي شمساً طبّق الآفاقَ ضياؤها، وعمّ الشرق والغرب سناها وسناؤها. وكان في الأدب أرفعَ الأعلام، وحسنةَ الأيام. وله كتاب قلائد العقيان. ومن وقف عليه لا يحتاج في التنبيه على قدره إلى زيادة بيان. وهو وأبو الحسن بن بسام الشنتمري مؤلف الذخيرة فارسا هذا الأوان، وكلاهما قس وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن ابن بسام أكثر تقييداً، وعِلماً مفيداً، وإطناباً في الأخبار، وإمتاعاً للأسماع والأبصار. والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلّف، وكلامه أكثر تعلّقاً وتعشّقاً بالأنفس. ولولا ما اتّسم به مما عرف من أجله بابن خاقان، لكان أحد كتاب الحضرة المرابطية، بل مجلِّيها المستولي على الرهان. وإنما أخل به ما ذكرناه (¬1). وله إلى جانب القلائد والمطمح، راية المحاسن، ومجموع رسائل، وكنز الفوائد، وحديقة المآثر. وقد حملَ الإمامَ الأكبر على العناية بـ قلائد العقيان ما فيه من رواء وتناغم وإبداع من جهة، وانصرافُ أهل البيان عنه، تاركين التجمّلَ به والنظر المرّة بعد المرّة فيه لِبطالة الشبان، ولَعاً من هؤلاء بما وصفه الفتح من مجالس الخمر والقيان، ومَا أنشده من غزل في الحسان. ولعلّ من أوكد الأسباب للإقبال عليه والعنايةِ به ما وصفَهُ به الشيخ رحمه الله في قوله في مقدمة التحقيق: إنه جم الفوائد لغةً ¬

_ (¬1) النفح: 7/ 33.

نسخ القلائد المخطوطة التي اعتمدها المحقق في المراجعة: خمس

وأدباً، ومدار النيرات سيارات وشهباً. فهو لا محالة محتاج في بيان مراميه لذي إحاطة بالأدب العربي (¬1). وإثر ذلك، وقبل الحديث عن منهجه وطريقته في تحقيق الكتاب، أشار الإمام إلى استعصاء هذا المهم على عامة المتأدّبين. فهو لوعُورة نهجه، ودقّة نسجه، لم يستطع غيرُ ضليع في أدب العربية أن يثبت قدميه دون عثار، ولا بصير بالحقائق التاريخية أن يسير على لاحبه غير مهتد بمنار. ومن ثم قلّت نسخه ودخل ما توفّر منها التحريف مع إغفَال تمحيصه، وإهمال ضبطه، وزهادة الأدباء في نفيسٍ، تتوفرُ على تحصيله الغبطة. لذلك دعتني الهمة إلى العناية بتصحيح نسخة منه وضبطها، والتعليق على مواضع رأيتها كحروف المعجم بحاجة إلى نقطها (¬2). وللقيام بما يحتاجه نص القلائد من ضبط ودقة قارن الشيخ ابن عاشور بين نسخ منه: منها الخطيَّة وهي كلها تونسية، ومنها المطبوعة. نسخ القلائد المخطوطة التي اعتمدها المحقق في المراجعة: خمس: 1 - النسخة الأحمدية الأولى: وهي مغربيّة الخطّ كتبها عبد الوهاب بن محمد بن عبد الرحمن الحوفي القصري داراً ومنشأ لأخيه في الله الفقيه الكاتب أبي العباس الحاج أحمد اليعقوبي الحُسيني. فرغ من نسخها 24 شوال 1103. وقد آلت هذه النسخة إلى الأمير أحمد باشا صاحب المكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة، ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقدمة: 17. (¬2) محمد الطاهر ابن عاشور. المقدمة: 19.

فألحقها بها ووقفها على طلاب العلم في قعدة 1204، يرجعون إليها ويفيدون منها. قال الشيخ ابن عاشور: وهذه النسخة مشكولة غالبُ حروفها، تغلُب عليها الصحّة. فهي أمثل النسخ التي بين أيدينا، إلا أن فيها حذفاً لإحدى التراجم ولعدة قصائد ومقاطع من غير نقص في أوراقها. الزيتونة، عدد 4635 = 5558 بدار الكتب الوطنية بتونس. 2 - النسخة الأحمدية الثانية: بخط تونسي، ثُمَنيُّة القالب. كتبها محمد ابن الحاج حسين الدرناوي في شوال 1167. وهو من كتّاب الأمير علي باشا بن حسين بن علي. بها سقوط كثيرة. وقفها أحمد باشا أيضاً على خزانته بجامع الزيتونة 1256. رقمها 4634 = 3691 بدار الكتب. 3 - نسخة العبدلية: وهي بخط جزائري. كتبها محمد بن عبد السلام بن زيان في قعدة 1107. اقتناها الوزير يوسف صاحب الطابع، ووقفها على جامعه بتونس. ومنه نقلت إلى المكتبة الصادقية بجامع الزيتونة سنة 1229، وعددها 2745 = 6275 بالمكتبة الوطنية. وهذه النسخة أتم النسخ مقداراً، تغلب عليها الصحّة، وفيها مع ذلك تحريفات كثيرة. 4 - نسخة الصادقية: بخط جزائري تونسي. نسخها محمد بن أحمد بن إسماعيل الجزائري النشأة، التونسي الدار في شعبان 1262. كانت للوزير الشيخ أحمد ابن أبي الضياف، ثم اشتراها منه الوزير مصطفى خزندار. ومنه انتقلت إلى الأمير محمد الصادق باشا الذي وقفها على مكتبته الصادقية بجامع الزيتونة في صفر 1291. وعددها بالزيتونة 4636 = 15504 بدار الكتب. وهي كثيرة التحريف مع ما بها من سقوط كثيرة.

5 - النسخة البيرمية: وهي ذات خطّ تونسي جميل. تمّ نسخها في رجب 1120. وتملّكَها الشيخ محمد بيرم الرابع سنة 1256. وهي من اقتناء المكتبة الوطنية. بها نقص نحو عشرين ورقة من أثناء ترجمة ذي الوزارتين أبي بكر بن عمار إلى أواخر ترجمة أبي بكر بن رحيم. وهي مختلفة في ترتيب تراجم الرجال عن نظائرها وسابقاتها. وعددها بها 6842. والنسخ المطبوعة التي رجع إلى أغلبها الإمام الأكبر عند تحقيقه للقلائد في الثمانينات من القرن الرابع عشر، ستة: 1 - ط. باريس 1277 بعناية الأديب سليمان بن علي الحرائري، وعلى الأصح الجزائري. كان كاتباً لدى قنصل فرنسة بتونس 1292. ذكرها سركيس في معجم المطبوعات. وهي خالية من الفهارس. 2 - ط. بولاق: وهي نظيرة طبعة باريس إلا في القليل من كلماتها. وهذا من عمل المصحِّح لدار الطباعة. ذكرها سركيس أيضاً. وبها فهرس المترجم لهم. 3 - ط. الثانية 1284. وقف على طبعها السيد إسماعيل الجيلاني. ذكرها سركيس، وهي مساوية لطبعة باريس. ولها فهرس بأسماء المترجم لهم. 4 - ط. الآستانة 1302. ذكرها سركيس. وقال الشيخ: لم نطلع على هذه الطبعة. 5 - ط. دار التقدم العلمية. ذكرها سركيس في معجمه. وهي موجودة متداولة. 6 - مصوّرة من طبعة باريس التي ذكرناها صدر القائمة، نشر

المكتبة العتيقة، وأخرجتها ط. قيس الأراضي بتونس 1386/ 1966، قدم لها الأديب الشيخ محمد بن محمد الشاذلي العنابي. وبإثر وصف هذه الطبعات المختلفة، نبّه الشيخ ابن عاشور إلى أن جميع هذه الطبعات كان خالياً من ضبط الكلمات بالشكل، عرِيّاً عن التعاليق المتعينة بله الشروح المبيّنة (¬1). وعدد الوزراء والكتاب والعلماء والأدباء والقضاة المترجم لهم في القلائد حسب ما ورد في النسخ المخطوطة والمطبوعة من هذا الكتاب أربعة وستون. أضاف إليهم في العقد الأول من القرن الخامس د./ حسين يوسف خرموش ستة عشرة ترجمة وقف عليها في نسخة مشهد. فأصبحت عِدّتهم بذلك ثمانين ترجمة. وصورة ذلك كالآتي: ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقدمة: 19 - 24.

فهارس من نسخ "قلائد العقيان" للفتح ابن خاقان المعتمدة لدى المحقق

فهارس من نسخ "قلائد العقيان" للفتح ابن خاقان المعتمدة لدى المحقق فهرس التراجم بالنسخ المعتمدة عند المحقق من مخطوطة ومطبوعة سوى ط. الآستانة - فهرس التراجم مخط. مشهد الإيرانية القسم الأول في محاسن الرؤساء وأبنائهم ودرج أنموذجات من مستعذبات أنبائهم - المعتمد بن عباد ... 1 ... 61 - 86 ... 1 ... 51 - 109 - ابنه الراضي أبو خالد ... 2 ... 87 - 94 ... 2 ... 110 - 119 - المتوكل أبو محمد عمر بن المظفر ... 3 ... 95 - 122 ... 3 ... 120 - 145 - المعتصم محمد بن صمادح ... 4 ... 123 - 132 ... 4 ... 146 - 156 - أبو مروان عبد الملك بن رزق ... 5 ... 133 - 134 ... 5 ... 157 - 169 - أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر ... 6 ... 145 - 172 ... 6 ... 170 - 206 القسم الثاني في غرر حلية الوزراء وفقر الكتاب والبلغاء - أبو الوليد بن زيدون ... 7 ... 175 - 200 ... 7 ... 207 - 249 - أبو عامر محمد بن مسلمة ... . . . . ... . . . . ... 8 ... 249 - 252 - أبو بكر محمد بن عمار ... 8 ... 201 - 234 ... 9 ... 253 - 288 - أبو عيسى بن لبون ... 9 ... 235 - 244 ... 10 ... 289 - 296 - أبو عامر بن الفرج ... . . . . ... . . . . ... 11 ... 297 - 298 - أبو عمر الباجي ... 10 ... 245 - 248 ... 12 ... 300 - 302 - أبو بكر بن القصيرة ... 11 ... 249 - 254 ... 13 ... 305 - 313 - أبو المطرف بن الدباغ ... 12 ... 255 - 260 ... 14 ... 314 - 321 - أبو القاسم بن الجد ... 13 ... 261 - 272 ... 15 ... 322 - 336 - أبو بكر محمد بن أحمد بن رُحيم ... 14 ... 273 - 306 ... 16 ... 337 - 366 - أبو عامر بن أرقم ... 16 ... 319 - 328 ... 17 ... 367 - 376 - أبو محمد بن القاسم ... 15 ... 307 - 318 ... 18 ... 377 - 390 - أبو محمد بن سفيان ... 17 ... 329 - 334 ... 19 ... 391 - 399 - أبو الحسن بن الحاج ... 18 ... 335 - 344 ... 20 ... 400 - 411 - ابنه أبو محمد ... 19 ... 345 - 346 ... 20 ... 411 - 413

أبو محمد بن عبدون ... 20 ... 347 - 354 ... 21 ... 417 - 428 بنو القبطرنه ... 21 ... 355 - 370 ... 22 ... 429 - 444 أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الرزاق ... . . . . ... . . . . ... 23 ... 445 - 446 أبو محمد بن الجبيِّر ... 22 ... 371 - 384 ... 24 ... 447 - 461 أبو أيوب بن أبي أمية ... . . . . ... . . . . ... 25 ... 462 - 465 أبو محمد بن عبد الغفور ... 23 ... 385 - 392 ... 26 ... 466 - 476 أبو بكر بن عبد العزيز ... 24 ... 393 - 398 ... 27 ... 477 - 484 ابنه أبو القاسم ... . . . . ... . . . . ... 28 ... 484 - 485 أبو جعفر بن أحمد ... 25 ... 399 - 402 ... 29 ... 486 - 490 أبو مروان بن مثنى ... . . . . ... . . . . ... 30 ... 491 - 492 أبو الحسن بن اليسع ... 26 ... 403 - 408 ... 31 ... 493 - 499 أبو محمد بن مالك ... 27 ... 409 - 412 ... 32 ... 500 - 504 + رسالة أبو القاسم بن السقاط ... 28 ... 413 - 420 ... 33 ... 505 - 517 أبو عبد الله بن أبي الخصال ... 29 ... 421 - 434 ... 34 ... 518 - 537 أبو محمد بن عبد البر ... 30 ... 435 - 440 ... 35 ... 538 - 544 أبو الفضل بن حسداي ... 31 ... 441 - 446 ... 36 ... 544 - 551 أبو عامر بن ينّق ... 32 ... 447 - 450 ... 37 ... 552 - 554 أبو بكر بن قزمان ... 33 ... 451 - 452 ... 38 ... 555 - 557 أبو بكر بن الملح ... 34 ... 453 - 456 ... 39 ... 558 - 566 أبو زكريا بن صمادح ... . . . . ... . . . . ... 40 ... 567 - 570 أبو جعفر بن مسعدة ... . . . . ... . . . . ... 41 ... 571 - 595 القسم الثالث في لمع أعيان القضاة والفقهاء ولمح أعلام العلماء السراة أبو الوليد الباجي ... 35 ... 457 - 462 ... 42 ... 599 - 604 تمام الترجمة + قصيدة - أبو مروان بن سراج ... 26 ... 463 - 466 ... 43 ... 605 - 607 - أبو محمد بن الوليد المخزومي ... . . . . ... . . . . ... 44 ... 608 - 609 - أبو عبد الله بن حمدين ... 38 ... 471 - 476 ... 45 ... 610 - 614 - أبو عبيد البكري ... 37 ... 467 - 470 ... 46 ... 615 - 620 - أبو بكر بن أبي الدَّوس ... . . . . ... . . . . ... 47 ... 621 - 622 + فصل

- أبو الحسن بن سراج ... 40 ... 495 - 502 ... 48 ... 623 - 628 - أبو أمية إبراهيم بن عصام ... 41 ... 499 - 502 ... 49 ... 629 - 635 + قصيدة - أبو بكر غالب بن عطية المحاربي ... 43 ... 507 - 510 ... 50 ... 636 - 640 - أبو محمد بن سماك ... 42 ... 503 - 506 ... 51 ... 641 - 645 - أبو الحسن بن أضحى ... 45 ... 527 - 532 ... 52 ... 646 - 654 - أبو محمد عبد الحق بن عطية ... 44 ... 511 - 526 ... 53 ... 655 - 672 - أبو عبد الله بن اللُّوشي ... 46 ... 533 - 538 ... 54 ... 674 - 682 - أبو الفضل عياض بن موسى ... 47 ... 539 - 546 ... 55 ... 683 - 691 - أبو بكر بن العربي ... . . . . ... . . . . ... 56 ... 692 - 694 - أبو الحسن بن بيَّاع ... 48 ... 547 - 560 ... 57 ... 695 - 707 - أبو محمد بن السيد البطليوسي ... 39 ... 471 - 494 ... 58 ... 708 - 731 - أبو بكر بن الجُراوي ... . . . . ... . . . . ... 59 ... 732 - 736 القسم الرابع في بدائع نبهاء الأدباء وروائع فحول الشعراء - ابن خفاجة ... 49 ... 561 - 586 ... 60 ... 739 - 764 - أبو بكر عبادة بن ماء السماء ... . . . . ... . . . . ... 61 ... 765 - 766 - ابن وهبون المرسي (أبو محمد عبد الجليل) ... 50 ... 587 - 594 ... 62 ... 767 - 775 - ابن اللباتة (أبو بكر الداني) ... 51 ... 595 - 610 ... 63 ... 776 - 790 - ابن شرف (أبو الفضل) ... 52 ... 611 - 626 ... 64 ... 791 - 708 - ابن صارة الشنتريني (أبو محمد) ... 53 ... 627 - 654 ... 65 ... 809 - 841 + زيادات - أبو الفضل بن الأعلم ... . . . . ... . . . . ... 66 ... 842 - 849 - الأعمى التطيلي (أبو جعفر) ... 54 ... 655 - 668 ... 67 ... 850 - 867 + زيادات - ابن البني (أبو جعفر) ... 63 ... 717 - 722 ... 68 ... 868 - 875 - ابن صهيب (أبو العلاء) ... 56 ... 679 - 682 ... 69 ... 876 - 879 - ابن العطار (أبو القاسم) ... 57 ... 683 - 690 ... 70 ... 880 - 888 - ابن عيشون (أبو عامر) ... 58 ... 691 - 696 ... 71 ... 889 - 893 - الأسعد بن بليطة ... . . . . ... . . . . ... 72 ... 894 - 901 - أبو الحسن علي بن جودي ... . . . . ... . . . . ... 73 ... 900 - 901 - أبو الحسن حَكم بن محمد غلامُ البكري ... 59 ... 697 - 702 ... 74 ... 902 - 907

التراجم الزائدة من نسخة مشهد

- ابن الفخار المالقي (أبو عبد الله) ... 60 ... 703 - 708 ... 75 ... 908 - 913 - أبو عامر بن المرابط ... 61 ... 709 - 712 ... 76 ... 914 - 918 - أبو بكر يحيى بن بقي ... 55 ... 669 - 678 ... 77 ... 919 - 927 - أبو الحسن باقي بنُ أحمد ... 62 ... 713 - 716 ... 78 ... 928 - 930 - أبو بكر باجة بن الصائغ ... 64 ... 723 - 738 ... 79 ... 931 - 947 - أبو عبد الله بن عائشة ... . . . . ... . . . . ... 80 ... 948 - 952 مكتبة مشهد بإيران + 16 ترجمة التراجم الزائدة من نسخة مشهد 8 - أبو عامر محمد بن مسلمة: 249 - 252. تنفرد نسخة مشهد الإيرانية بإيراد هذه الترجمة وغيرها. ومعظم هذه التراجم من كتاب مطمح الأنفس في ملح أهل الأندلس للمؤلف. 11 - أبو عامر بن الفرج: 297 - 298. توجد هذه الترجمة في نسخة مشهد. وهي من المطمح: 186؛ الذخيرة: 3/ 1/ 103؛ المغرب: 2/ 303؛ الحلة: 2/ 171؛ النفح: 3/ 408، 542 - 543. 23 - أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الرزاق: 445 - 446. المغرب: 2/ 115؛ الخريدة: 2/ 420. 25 - أبو أيوب بن أبي أمية: 462 - 465. المطمح: 215؛ الخريدة: 2/ 491؛ المغرب: 1/ 248؛ الذخيرة: القسم الثاني؛ المسالك 11/ 424؛ النفح: 3/ 550. 28 - أبو القاسم بن أبي بكر بن عبد العزيز: 484 - 485. الخريدة: 2/ 439؛ النفح: 4/ 65.

30 - أبو مروان بن مثنى: 491 - 492. المطمح: 221؛ الخريدة: 2/ 443؛ النفح: 3/ 559، 4/ 134. 40 - أبو زكريا بن صمادح: 567 - 570. المطمح: 222؛ المغرب: 2/ 196؛ الذخيرة: 1/ 2/ 737؛ الحلة: 2/ 92؛ النفح: 3/ 369؛ البيان المغرب: 4/ 122. 41 - أبو جعفر بن مسعدة: 571 - 595. الذيل والتكملة: 2/ 468؛ الديباج: 1/ 255؛ البغية: 1/ 373؛ الجذوة: 1/ 137؛ السلوة: 3/ 241؛ أعلام المغرب العربي: 3/ 239؛ النفح: 1/ 179؛ بحث بمجلة أبحاث اليرموك: 2/ 44. 47 - أبو بكر بن أبي الدوس 621 - 622. المطمح: 300؛ تكملة الصلة: 1/ 412؛ المغرب: 2/ 72؛ فهرست بن خِير: 423؛ النفح: 4/ 30. 56 - أبو بكر بن العربي: 692 - 694. المطمح: 297؛ المغرب: 1/ 254؛ بغية الملتمس رقم 179؛ الصلة رقم: 1297؛ المرقبة العليا: 105؛ الأزهار: 3/ 86 - 95؛ وفيات الأعيان: 4/ 296؛ الشذرات: 4/ 141. 59 - أبو بكر بن الجُراوي: 732 - 736. الإحاطة: 2/ 476؛ المغرب: 2/ 116، 269. 61 - أبو بكر عبادة بن ماء السماء: 765 - 766. الإحاطة: 2/ 476؛ المغرب: 2/ 116، 269.

66 - أبو الفضل بن الأعلم: 842 - 849. المطمح. 72 - الأسعد بن بليطة: 894 - 901. المطمح: 341؛ الذخيرة: 1/ 2/ 790؛ الجذوة: 166؛ بغية الملتمس رقم: 581؛ المغرب: 2/ 17؛ الخريدة: 2/ 166؛ النفح: 4/ 51؛ الرايات: 81؛ الحلّة: 2/ 83. 73 - أبو الحسن علي بن جودي: 900 - 901. المطمح: 358؛ الخريدة: 2/ 252؛ المغرب: 2/ 109؛ معجم الصدفي: 290؛ النفح: 3/ 334، 7/ 57. 80 - أبو عبد الله بن عائشة: 948 - 952. المطمح: 345؛ الذخيرة: 3/ 2/ 887؛ الخريدة: 2/ 671؛ المغرب: 2/ 314؛ النفح: 4/ 53؛ مسالك الأبصار: 11 ورقة 454؛ الرايات: 113. وقد شجع الإمام الأكبر على تحقيق هذا الكتاب ما ظفر به من عمل العلامة الأديب محمد بن قاسم بن زاكور الفاسي فيه، وشرحه عليه. ونبّهنا إلى طريقته في التحقيق بقوله: "فأول ما صرفتُ إليه العناية ضبط نسخة القلائد، وشكل معظم كلماتها". وقد علل إقدامه على هذا الجزء الأول من العمل بقوله: "فإن التردد في حركات الكلمات عند المطالعة يزيل بهجة المطالع الحاصلة من فصاحة الكلام، بما يحصل من قلق النفس من جراء التردّد في كيفية النطق ... كما يزيل بهجة القارىء في نفسه، وبهجة سامعيه

بما يتلى عليهم" (¬1). وكانت المرحلة الثانية، بعد إقامة نصّه وضبطه، تتمثّل في جملة من الاهتمامات، كالتعريف بالمترجم له، لأن ديباجة الفتح لا تغني عن ذلك شيئاً. فهو في بداية كل رسم يذكر صاحب الترجمة: اسمه ونسبه ونسبته ومولده وخبر وفاته، كما يذكر مصادر ذلك، كأن يقول: من الإحاطة أو المعجم أو الصلة أو المغرب أو أزهار الرياض أو غيرها. ولا يكتفي مترجَمُنا بذلك، وإنّما يعمد إلى المقارنة بين الروايات والنصوص، مناقشاً تلك المصادر، مرجّحاً ما يقتضيه النظر الصحيح، وإن تعلّق ذلك بما ضبطه ابن زاكور في شرحه، أو قاله أحد أعلام الصناعة بشأنه. وقد جعل التعاليق على كل ترجمة متوالية العد، متعلقة بها. ومن مقارناته بعد ذلك ما يعلّق به على كلام الفتح كقوله في تع 2 من ترجمة ابن أبي الخصال 29: وهذا من قوله: حاملُ لواء النباهة الباهرُ بالرواية والبداهة، إلى قوله: وله أدب بحره يزخر، ومذهب يباهي به ويفخر. هذه الأسطر ثبتت في المطبوعات (¬2). وهي غير موجودة في المخطوطات الخمس ولا علّق عليها ابن زاكور. ولعلها كلمات كتبها بعض من طالع الكتاب في طرة نسخة منه، مستدركاً على المؤلف، فأدخلها الناسخ في أصله غير مفرّق بين المخرج والتطرير. فطبعت طبعة سليمان الحرائري على تلك النسخة، وتناقلتها الطبعات التي بعدها. فإنها عوّلت على طبعة الحرائري، وليست محكمةَ التصحيح. ثم نراه وقد ورد ذكر أبي يحيى محمد بن الحاج في ترجمة ابن ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. المقدمة: 20. (¬2) هذا صدر ترجمة ابن أبي الخصال. القلائد: 421.

شرح المقدمة الأدبية للإمام المرزوقي

أبي الخصال يقول في تعليقه: هو الذي أثار الفتنة بقرطبة. ويقف عند قول الفتح: "مستقلًّا" فيشرحها بقوله: أي قائماً. ويعلق على كلام القلائد: إلى أن تورّطوا في تلك الفتنة التي ألقحوا حائلها، فيذكر أخبار الفتنة والصراع. كما ينبّه إلى المقصود من قول الفتح: وطمعوا أن يغتالوا من أمير المسلمين ملكاً معصوماً، قائلاً: هو علي بن يوسف بن تاشفين. ويشرح جملة من التراكيب كقوله: "والبيت قد غصّ، وإن أبقى عليَّ درَكاً وبوّأني دَرَكاً ... ولا كلُّ إشراف بإشراف"، وقول ابن خاقان: وكثيراً ما يمتدّ شططه، فتحذف نقطه، ويهجر نمطه، وإن سامحناه في الضبط وأمتعناه بالنقط نبذ الوفاء فحذفنا ألفاً، وجفا الكريم فألغينا الميم (¬1). وقد يتعرض إلى تأويل سابق أو رأي فيما هو بصدده. فيقول معلّقاً على "وله بعد ما بقي ما أُلقِي" فيقول: لم يظهر المراد من هذا، وتكلّف له ابن زاكور بما ليس بمقبول (¬2). وعلى هذا النحو جرى في تعقيباته الستة والستين على كلام الفتح في رسم ابن أبي الخصال فلينظر ما فيه هناك. وعَقِب نصوص تراجم قلائد العقيان وضع المحقّق فهارس ثلاثة: فهرس الشعر، وفهرس الأعلام والقبائل، وفهرس الأماكن والبلدان والأشياء. * * * شرح المقدمة الأدبية للإمام المرزوقي شرح الشيخ ابن عاشور المقدمةَ الأدبية التي كتبها الإمام أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، ممهّداً بها لشرحه لديوان ¬

_ (¬1) القلائد: 426 - 427. (¬2) القلائد: 427، تع: 33.

الحماسة اختيار أبي تمام. وقد وصفها شيخنا الإمام الأكبر بما يبرز حقيقتها، ويحدد منزلتها، ويبين أثرها بقوله: "فقد كانت خير رائد لمنتهج روض الفصاحة، وأبصرَ مقدمة لجحفل البلاغة. تفتح لمقتفيها ما استعصت به خفايا النكت من الصياصي، وتمكن بيد متقنها من جياد السبق أجفل النواصي، إذ كانت أحاطت بمعاقد الأدب، وتعاطت بمحجتها أفنانَه فتدلّى يانعُ ثمره واقترب". ولِمَا توفَّرت عليه من الأهمية بحسب موضوعها وأغراضها، ومنهج المرزوقي فيها، تعلّقَ بها البلغاء والنقّاد، وتطلّعوا عن طريقها إلى التعرف على قوانين في القول، معيدين النظر فيها، متدبّرين جملة ما انتظمته من أحكام، وفصّلته من حقائق علمية وقضايا فنية وذوقية. وهي لذلك كما قال شيخنا في مقدّمة شرحه لها، جديرة بما يَنشرُ مطاويها الوفيرة الأغراض، ويصدّق شيْم من اتبع صوب بروقها المتكررة الإيماض، إذ هي من قبيل اللَّمحة الدالة، والخريدة الملتحفة غير المتجالّة. فهي خليقة بفسر كثير من معانيها، إذ كانت مفرغة في دقة صياغة، ولو أخذت على غرها لم يدرك غورَها سوى الراسخين في البلاغة. وهكذا لما انكشفت له أسرارها، وتراءت له منزلتها وفرائدها، عقد عزمه على تجليتها لطلاب الأدب، وعني بها عناية فائقة بتوضيح دقائقها، مستخدماً في ذلك عمق معرفته باللغة والآداب، ومنبّهاً إلى آراء العلماء والبلغاء والكتاب والشعراء، سائراً في شرحه هذا على النهج القويم الذي تعوّده، وتمكّن منه الأئمة السابقون، مكتفياً في بعض المواضع بالإحالة على كتب الأدب.

فهي جملة من الفنون لا يدركها إلا من دُبجت لهم من طلابها، ولا يجاريها أو يرتع في ميادينها إلا كل حاذق مفن من المترسلين والشعراء الذين يدركون بنظرهم وطباعهم ما احتوته الآثار الفنية الأدبية من معان، ويؤكّدون ما ورد بها من نظريات وأصول وقواعد ونماذج في اللغة وعلومها، والبلاغة وأسرارها، ويُجلون للمتأدبين ضروب العمل الفنّي من نثر ونظم وخطابة وكتابة. ولارتباط شرح الإمام للمقدمة بكل ما حوته أو دلت عليه قوانين اللغويين والبلغاء، وما تنطق به من آراء واتجاهات فنية وأدبية، يتعين على الدارس أن يقرأ المقدمة مجرّدة عن الشرح، ليتصوّر أغراضها ويحدّد عناصرها، ثم يُتبع بذلك النظر في شرح هذه الرسالة العلمية النقدية ليجد فيها طلبته ويبلغ بها حاجته، ويصل عن طريقها إلى أسباب النجاح في الفنين، والقدرة على الترسل والنظم، بتنمية فطرته وشحذ قريحته وصقل مواهبه. ولكل من تخير النثر أو الشعر سبيل. فإذا حذق الأديب أحدهما قصر به عن الآخر سعيه، وحيل بينه وبين التفوّق فيه. وإذا الناس والمبدعون في صناعة الكلام أجناس: منهم الكتاب البلغاء، ومنهم الشعراء المبدعون. ولا يستطيع أكثر المترسّلين أن يجيدوا الشعر، ولا غالبُ المهرة من الشعراء أن يقدروا على إنشاء الرسائل والكتب. وتمايزت الفئتان كل واحدة بما خصّت به وبرعت فيه. وكان التنازع والتنافس بينهم قائماً دائماً. "ذلك أن مبنى الترسّل ومبنى الشعر مختلفان، والمتولّي لكل واحد منهما يختار أبعد الغايات لنفسه فيه ... واختلفت الإصابتان لتباين طرفيهما وتفاوت قطريهما". فالعناية بأحد الأسلوبين وإجادته تُباعد الفكر حتماً عن الاهتمام بالآخر والاشتغال به. ولم يُقدَّر الجمعُ بين الفنيْن إلا لطائفة قليلة من

الأدباء بسلوكها نظامَ البلاغة وظهورها فيه في المنظوم والمنثور. ذكر المرزوقي من بينها أعلاماً كالصولي، وأبي علي البصير، والعتّابي، وضم إليهم الإمام الأكبر جماعة ثانية برزت في الترسّل والنظم جميعاً، منها من ذكره الجاحظ في بيانه، وابن رشيق في عمدته، مثل محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وسعيد بن حميد، وأبي الحسين بن الخلال المهدوي، وزاد في لآلىء هذا العقد لسانَ الدين بن الخطيب. وآثار هؤلاء جميعهم ومَن خَلفَهم من أصحاب البيان إمّا معدودةٌ من المطبوع: "وهو الشعر الذي يصدر عن الشاعر بالسجيّة والطبيعة الناشئة عن تدرّبه بسماع أشعار البلغاء، واندفاع طبيعته لمحاكاة أشعارهم حتى ليكون الشعر البليغ الصادر عنه كالطبع، فلا يَصرف فيه تعمُّق رويّة، ولا معاودة تنقيح وتثقيف". وإما أن تكون من المصنوع "الذي دخلته الصنعة من تهذيب وتنقيح للشعر، وإبداع للمحاسن البديعية واللطائف اللفظية". وهذا يكون بالاعتماد على القواعد والنكت، وصور الأمثلة لما تلقَّوه أو لقّنوه بالتعليم، فيعتبرون تلك نماذج يُحاكونها وأمثلةً يسيرون عليها. وإذا كانت الدعامة الأولى لكتاب ديوان الحماسة لأبي تمام هي اختيارات حبيب بن أوس الطائي نفسه الموفّقة، يلي ذلك سعة علم الإمام المرزوقي شارح الحماسة، وعمق نظره، وتقحّمه المعجب لعلوم اللغة وفنون الأدب، وإثارته عرض شرحه لمكنوناتها، ثم نباهة الإمام الأكبر البادية في تحليله لنصوص المقدمة وشرحها، واستكماله ما تدعو الحاجة إليه من حضور جملة من الحقائق والأوصاف حضوراً ذهنياً يعين على سعة النظر وجمع كل ما تتطلبه المقولة أو الجملة من أغراض ومعانٍ: أوائل وثوان.

ولعل تقدير المرزوقي لديوان الحماسة وولوعَه بما ورد فيه من مقطّعات يؤكد ما أجمع عليه النقاد من أن حماسة أبي تمام جمعت أبدعَ وأهمَّ المقطّعات الشعرية مثلما جمع الضبي في مفضلياته أَعلَى القصائد روعة وإبداعاً. وهذا التقدير بل هذه النظرة المتميّزة عند المروزقي لاختيارات أبي تمام هي التي حملته على شرحه وتفسيره لها، كما أنها حدت به إلى التنويه بصنيعه، والتنبيه فيه على أصول النقد، مما اعتمده المتخيّرون للنظم: مقطعاته وقصائده، وفق المنهج العلمي الذي عرفه أهل اللسان بفضل علمهم وإحاطتهم بأحكام اللغة وأسرارها، ودربتهم وممارستهم لفن القول. فذهب يقول: "هذا الكتاب وإن عظم حجمه وكثُر ورقه، فإنه لا يُمَلُّ تصفُّحهُ وقراءتُه، إذ كان كل باب من أبوابه ذا فنون من آثار العقول الصحيحة والقرائح السليمة، ولأن غوامض المقاصد إذا تبرّجت لك في روائع المعارض، وأقبل فهمك رائداً لقلبك، يتشمّم نوادر الزهر في مغارس الفطن، ويتخيّر فرائد الدرر من قلائد الحكم، فكلما ازداد التقاطاً زادك نشاطاً". وأحسب المرزوقي في هذه الفقرة يعني شيخنا، لما سخّر له نفسه من تدريس هذا الكتاب وشرحه سنوات عدّة بجامع الزيتونة الأعظم، ولما علّق به على مقدمته من تعاليق مفيدة، جمعت الفرائد إلى الشوارد، وهيأت لدارس شرح المرزوقي أصولاً ومعارف، وجوانب نقدية وبلاغية، وصوراً رائعة من فنون النظم والنثر ألمع إليها المؤلف واختارها لتكون عند دارسي الأدب من مقوّمات الثقافة الأدبية والنقدية. وربما تأكدت الصلة بين شارح الديوان وشارح المقدمة لما التزماه واتفقا عليه من آراء وأفكار، واعتمداه من أصول وأنظار، تُكسِب القلوبَ استجلاء، والنفوس مَيْلًا واستحباباً. وقد

استمرت بينهما هذه الرابطة زائدة نامية، ودامت دوام فوائد هذا العلم قائمة باقية. وشرح المرزوقي - كما وصفه محقِّقهُ عبد السلام محمد هارون - ليعدّ أكبر شروح حماسة أبي تمام، وأكثرها عناية بمعاني الشعر وبالنقد والموازنة. وأن المقدمة التي وضعها مؤلّفه بين يدي هذا الشرح لهي مقدمة نفيسة جريئة تُعَدّ وثيقة هامة في تاريخ النقد الأدبي: نقد الشعر ونقد النثر. وقد ضمّنها مسائل شتّى تتعلق بموازنة النظم والنثر أيهما أشرف وأعلى قدراً. وأتبع ذلك كلامه على المقايسة بين منزلة الشاعر والكاتب، والعلةَ في كثرة الشعراء وقلة النثار، ولماذا لا يستطيع الأديب أن يجمع الإجادة في الفنيْن، والحديث عن أثر الصنعة والطبع في الآثار الأدبية، في قيمتها وفي جمالها، ومتى تستحسن الصنعة، وما مدى العلاقة بين ذوق الأديب فيما يصنع بيانه من إنتاج أدبي، وفيما يختار من بيان غيره". وفي هذه الجملة تصوير عام لموضوعات المقدمة وما اشتملت عليه من مسائل، مهّد لها شارحُ الحماسة بإشارات، هي عنوان لما بثّه في مقدمته من آراء وموضوعات وعالجه من قضايا. وقد جعل الطريق إلى ذلك أولاً التساؤل الذي أجراه على لسان صاحب له متأدب، فيما جاراه فيه وحادثه به. فهو يتقدّم بقارئه عن طريق ترتيب شارح الحماسة لأسئلته ومحاوره وإجابته عنها من غرض إلى غرض، ومن موضوع إلى موضوع: باحثاً أمرَ الشعر وفنونَه، وما ناله الشعر في الجاهلية وما بعدها من حَظوة، والتساؤل عن شرائط الاختيار له والانتقاء منه، وكذا التمييز بين النظم والنثر، وما يحمد ويذم من الغلوّ أو القصد في الشعر، ثم معرفة قواعد هذا الفن التي يتأكّد الكلام فيها وعليها، ووجوب تأخير الحكم على أهل الصناعة فيها إما

بالإساءة أو الإحسان، حتى يتمّ فحص أشعارهم والتأمّل في مآخذها وإدراك مدى شأوهم فيها. وقد ذكر في بداية حديثه الأسبابَ التي حملت المؤرخين والأدباء على التنويه بفنّ الشعر وبأصحابه قائلاً: "إن الله عز وجل قد أقامه للعرب مقام الكتب لغيرها من الأمم. فهو مستودع آدابها، ومستحفظ أنسابها، ونظام فخارها يوم النفار، وديوان حجاجها عند الخصام". ولكثرة ما روي منه جيلًا بعد جيل، واختزنته ذاكرة الأيام زمناً إثر زمن، احتاج العلماء بالأدب، والبصراء بالشعر، إلى صقل مواهب الناشئة بما يختارونه لها من شعر رفيع ونظم بديع. وهذه العملية المزدوجة التي قادت الرواة والأدباء إلى وضع المنتخبات والاختيارات، حرصاً منهم على التكوين والتدريب لمنظوريهم من شداة الأدب، وعلى تقديم ما يروق لهم منه، عنايةً بهم وتلقيناً لما يَصْطَفُونه من الشعر، تهذيباً لأذواقهم وتوجيهاً لهم. وقد عدّ مؤرخو الأدب من هذه المجاميع جملة ذكروا منها الأصمعيات، وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، والمفضليات ومختارات شعراء العرب لابن الشجري، كما لفتوا النظر إلى ما شرعه أئمة الأدب ورواد الشعر من حماسات، اجتمع الناس عليها وأفادوا منها كحماسة أبي تمام، والبحتري، وما جمعه من ذلك الخالديان والعسكري والأعلم الشنتمري وأبو الحجاج يوسف البياسي الأندلسي وأبو الحسن بن أبي الفرج البصري. ولعلّ أشهر المجاميع المفضليات، وأجود الحماسات حماسة أبي تمام. وقد صرّح المرزوقي بذلك عند قوله: "وقضيت العجب كيف وقع الإجماع من

النقاد على أنه لم يتّفق في اختيار المقطعات أنقى مما جمعه أبو تمام، ولا في اختيار القصائد أَوفى مما دوّنه الضبّي في مفضلياته". ومما لا شك فيه أن إجماع النقاد هذا، وما كان يتميّز به الإمام المرزوقي من معرفة بوجوه الكلام والنظم، والتصرفات القولية، وبإدراكه الدقيق لمحاسن ومساوىء الصناعتين، وتصنيفه حسب ذلك للكتاب والشعراء مميّزاً بين درجاتهم، وكذلك تصوره وبيانه للحد الذي يؤهل القارىء والسامع لفهم الأدب ونقده شعره ونثره، حتى يتمكّن الناظر من تجريد الشهادة في شيء منه، وَيبُتَّ الحكمِ له أو عليه، عن دراية سابقة وخبرة تامة، لهي المزايا الأربعة: الأولى اتصلت منها بالشعر وبأبي تمام، والثلاث الباقية الكاشفة عن قدرات المرزوقي العلمية والذوقية، البلاغية والنقدية التي جعلته يقصرُ ما يستفضله من وقته، ويستخلصه من وكده، على عمل شرح لاختيارات أبي تمام في ديوان الحماسة. وقد كان هذا العمل العلمي الأدبي الممتع، والبالغ غاية الجودة، مقتضياً من الدارس الوقوف على كل فصل من فصوله والاستغناء بما ورد فيه من قواعد وأحكام يجلّيها لنا مؤلفه أحسن تجلية، ويفصل القول فيها بعد الإشارة المجردة إليها وتقديم الذكر لها، فيتعرف الناظر من المقدمة على أبرز الموضوعات التي بحثها الشارح، وإن كانت في ذاتها كثيرة ومتعدّدة. ولو أردنا أن نتتبع القضايا المبحوثة ومتفرعاتها في المقدمة الأدبية لخرجنا عن الحد المألوف في تقديم الكتب والتعريف بها. ولذلك حرصاً على الوفاء بهذا الغرض نكتفي بتناول عناصر أربعة، هي:

شعر أبي تمام واختياراته

1 - شعر أبي تمام واختياراته. 2 - الاختلاف بين مدرستي الألفاظ والمعاني في أدبنا العربي. 3 - عمود الشعر. 4 - النقاد ومذاهبهم. شعر أبي تمام واختياراته: يفرق كل النقاد بين صنيعي أبي تمام في اختياراته وفي شعره. فهو وإن كان رأس مدرسة شعراء المعاني وعميدَها، فإن لاختياراته أهميةً بالغة: فهو يقطف من كل بستان ما ينطق بالإبداع والتفنن، ويروي عن الطائيين وغيرهم، وعن رواة الشعر وأئمة الأدب في عصره وقبل عصره. وقد اهتبل المرزوقي الفرصة ليقدم لنا تصوراته وأفهامَه لأشعار رجال الحماسة، غير غافل عن إبراز جملة من الفوارق بين نظم أبي تمام وما جمعه هذا العالم والشاعر النابغ، من بدائع وأنماط في ديوان الحماسة. يقول المرزوقي في ذلك: "إن أبا تمام معروف المذهب فيما يقرضه، مألوف المسلك لما ينظمه، نازعٌ في الإبداع إلى كل غاية، حاملٌ في الاستعارات كل مشقّة، متوصّلٌ في الظفر بمطلوبه من الصنعة أين اعتسف وبماذا عثر، متغلغلٌ إلى توفير اللفظ وتغميض المعنى أنى تأتَّى له وقدر" (¬1). فإذا تطلعت إلى معرفة رأيه في اختياراته أفادك: أنه عادل فيما انتخبه في هذا المجموع عن سلوك معاطف ميدانه، ومرتض ما لم يكن فيما يصوغه في أمره وشأنه. فقد فَلَيته فلم أجد فيه ما يوافق ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 13.

الاختلاف بين مدرستي الألفاظ والمعاني

ذلك الأسلوب إلا اليسير. ومعلوم أن طبع كل امرىء - إذا ملك زمام الاختيار - يجذبه إلى ما يستلذّه ويهواه، ويصرفه عما ينفّر منه ولا يرضاه" (¬1). غير أن هذا الرأي أو الحكم لا يخضع للفطرة وحدها. وهو ليس على إطلاقه لكونه عند أرباب الصناعة وأهل النقد يعود إلى مرجعية من القواعد تثبّته وتزكّيه. وهي لا تجتمع إلا لباحث أو دارس، وإلى صنوف من التحصيل لا يحيط بها إلا كل مِفَنٍّ ممارس، وإلى أضرب من المقايسة والمقارنة والمفاضلة والموازنة، لا تتّفق إلا لمن اتّسعت مداركُه، وكثرت روايتُه، ووقف عند الصور الأدبية والأمثلة الشعرية مستجلياً مفاتنها وروائعها، مستكرهاً ومحذراً ممّا يعرض لها من اختلاف واضطراب. الاختلاف بين مدرستي الألفاظ والمعاني: ولا يتمّ إدراك ذلك في الصناعة الأدبية إلا بالنظر في عنصرين أساسيين يكونان على درجة رائعة من الإيحاء، وفي منزلة عالية من إحكام البناء. وهذان العنصران هما: اللفظ والمعنى. تتفاوت مراتبهما، ويعلو وينزل قدرهما بقدر ما يكون من إجادة وإحسان، وإبداع وإمتاع، خاصة في جانب الألفاظ والمباني. وقد جعلت طائفة من النقاد صلة ثابتة بين العنصرين، فربطوا بين المعاني والألفاظ، وقدّروا الأولى بمنزلة الأرواح، والثانية بمنزلة الأجسام. قال ابن رشيق: "فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه، وإن ضعف المعنى واختل بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر حظاً. ولا تجد معنى يخلّ إلا من جهة اللفظ، وجريه ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 12.

فيه على غير الواجب. وإن اختل المعنى كله وفسد، بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، وإن حَسُن طلاوةً في السمع" (¬1). ومن أجل هذا تحدَّث النقاد عن المعاني وأفردوها بالدرس. فأطلقوها على عدة أقسام. منها: أصل المعنى، وهو الأغراض والصور العامة التي تستفاد استفادة أولية من مختلف صيغ الخبر والإنشاء. ومنها: المعاني الأول، وهي الأغراض الخاصة التي قصدها البلغاء لنكتة مثل رد الإنكار، ومنها: الثواني - أو معنى المعنى - بحسب اختلاف أئمة البلاغة في ذلك كالجرجاني والسكاكي. وهي في جملة ذلك عبارة عن الخواص الكلامية التي تفيد كيفيات في المعاني الأول، مثل القصر والاستغراق والكناية والمبالغة، مما يتميز به كلام بلغاء العرب. وقد تحدّثوا في هذا الباب عن شرف المعنى وما يستفاد من الكلام ويتلقّاه السامع مستغنياً به عن غيره في استفادة الغرض الذي يومىء إليه. ونعتوا هذا المعنى بالشرف والصحّة، وبالمعجب الجزل العذب، والمحكم الزاهر الفاخر. وتُقابل شرفَ المعنى سخافتُه إذا قلّت جدواه، أو لدلالته على تعلّق تفكير صاحبه بصور ضعيفة. ولتوجيه الناشئة وبيان المسالك الرشيدة في هذا الغرض، الواجبِ اتباعُها، دعا النقاد البلغاء فيما تجيش به نفوسهم ويريدون إبلاغه إلى نفوس السامعين إلى أن يتخيّلوه في خلدهم، ثم يكتبونه ¬

_ (¬1) العمدة: 1/ 217. ويفسّر ذلك الإمام الأكبر ببيان رأيه في الحكم بين مذهب أهل الألفاظ ومذهب أهل المعاني. ويقول: إنه لا يتم للكلام حُسنه وبلاغته إلّا باجتماع شرف لفظه وشرف معانيه. ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 54.

بأحسن صورة تكفل لهم وقوعَه لدى السامعين موقعاً حسناً يفي بالمراد والغرض أكملَ وفاء. ومن أسباب شرف المعنى أن يكون مبتكراً غير مسبوق أو مزيجاً بعضه مسبوق وبعضه مبتكر. وبمقدار زيادة الابتكار على المسبوقية يكون دنُوّه من الشرف. وقد ذكر المرزوقي أمثلة لشرف المعنى بدت في ابتكارات كثيرة عند بشار وأبي تمام وأبي الطيب، وجعل قريباً من ذلك ما ورد منها عند أبي نواس وابن الرومي والمعرّي. وأمّا شروط تحقّق شرف المعنى فهي تختلف باختلاف محالّها من أغراض الكلام. نبّه إلى ذلك ابن الأثير في المثل السائر بقوله: "إن الكاتب أو الشاعر ينظر إلى الحال الحاضرة ثم يستنبط لها ما يناسبها من الغائب" (¬1). وإذا كان العمق في استجلاء محاسن الكلام طريقاً لمعرفة خصائص المدرستين: مدرسة الألفاظ ومدرسة المعاني، وسبيلًا للوقوف على بديع تصاريف المباني، وجميل تضاعيف المعاني، وجب الانتباه إلى مناهج النقاد في اختياراتهم، وهي كثيرة، لاتساع مجال الطبع فيها، وتشعّب مراد الفكر لها. فمن النقاد والبلغاء من يرى فِقَر الألفاظ وغررها كجواهر العقود ودررها، وأن ما جاء منها محرّراً مَصفّى من كدر المعنى والخطل، مقوّماً من أود اللحن والخطأ، سالماً من جنف التأليف، موزوناً بميزان الصواب، قَبِله الفهم والتذّ به السمع. وإذا ورد على ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 62.

ضدّ هذه الصفة، صدِىء الفهم منه، وتأذّى السمعُ به تأذّيَ الحواس بما يخالفها. وهؤلاء رواد مدرسة الألفاظ. ومنهم من لم يرض بالوقوف عند الحد الذي وصفناه، فتجاوزه في التقدير، والتزم من الزيادة عليه تتميمَ المقاطع، وتلطيف المطالع، وعطفَ الأواخر على الأوائل، ودلالة الموارد على المصادر، وتناسب الفصول والوصول، وتبادل الأقسام والأوزان، والكشف عن حجب المعاني بألفاظ هي في الاختيار أولى، حتى يطابق المعنى اللفظ، ويسابق فيه الفهمُ السمع. وهذا في اعتقاد القائلين به ما لا غاية وراءه ولا قصد بعده. والفريق الثالث مَن ترقّى، كما قال المرزوقي، إلى ما هو أشقّ وأصعب. فلم يقتصر على أفانين التصرّف البلاغي التي ألمعنا إليها حتّى طلب البديع، وأوغل في الترصيع والتسجيع، والتطبيق والتجنيس، وعكَس البناء في النظم، وأقبلَ على توشيح العبارة بألفاظ مستعارة. ولكل هذه التصرّفات القولية عند النثّار والشعراء منزلة من النفوذ، ودرجةٌ من الاعتلاء. وفي تأكيد هذا النهج الموسوم بمنهج مدرسة الألفاظ يقول ابن طباطبا في تخيّره للشعر: "فهو ما إن عَرِي من معنى بديع لم يعرَ من حسن الديباجة. وما خالف هذا فليس بشعر" (¬1). وأصحاب الألفاظ هم الأكثرون من أصحاب الذوق والبلغاء، غير أنهم ليسوا متمرّسين في علوم المعاني والبيان. وقد وضعوا العناية باللفظ في الدرجة الأولى، اعتباراً منهم لكون حُسن الديباجة ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 46.

اللفظية يجعل الكلام مقبولاً، ولو كان عريّاً عن معنى بديع. ويقابل هؤلاء فريق من أصحاب الألفاظ المتخيَّرة، والتعابير الساحرة الرائعة جماعةٌ من البلغاء والنقاد قصدوا فيما تجيش به الخواطر إلى أن تكون استفادةُ المتأمّل له، والباحث عن مكنونه من آثار عقله أكثر من استفادته من آثار قوله. وهؤلاء هم أصحاب المعاني الذين ألمّوا بالعلوم العربية وصور البيان، غير أنهم لم يكمل لديهم ذوق صناعة البلاغة. فصرفوا اهتمامهم الأول إلى المعاني التي يريد البليغ التعبير عنها، ولم يحفلوا بجانب ذلك بالصنعة ولا تكلّفوا المحسنات. ولكنهم في عرض منازع المعاني يطيلون القول في بيان رسومها. وإنّما أجادوا أيّما إجادة في تحرير القول في ذلك بياناً وضبطاً، وتحليلاً وتصويراً، إذ جعلوا ذلك من مميزات مدرستهم. فالمتأمّلون في أقوالهم وأشعارهم يلفون فيها معاني فائقة، ترجع إلى المجاز أو التشبيه، أو إلى الإيجاز أو التلميح أو التمليح. وقد نوّه بأصحاب هذه المدرسة ابن الأثير حين قال: "ينبغي أن يتيقَّن المؤلف أن المعاني أشرف من الألفاظ، وأن هذه الصناعة من النظم والنثر، التي يتواضعها البلغاء بينهم، وتتفاضل بها مراتب البلاغة، إنما هي شيء يستعان عليه بدقيق الفكرة وكثرة الرويّة. ومن المعلوم أن الذي يستخرج بالفكر وينعم فيه النظر هو المعنى دون اللفظ. فمن المعاني ما يكون مبتدعاً فيذكر صاحبه معنى لم يسبق إليه" (¬1). وبقدر اختلاف النقاد والبلغاء في اتجاهاتهم وأحكامهم يرى المرزوقي أن من هذه مناسبَ المعاني لطُلّابها، ومن تلك مناصبَ الألفاظ لأربابها، وأن أجود ما يكون الإبداع فيه، والإمتاع به، ما ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 49.

عمود الشعر

لا يتمّ للكلام حسنه وبلاغته إلا باجتماع شرف لفظه وشرف معانيه. عمود الشعر: أُطلق هذا العنوانُ قبلُ عند أبي الحسن الآمدي في موازنته، كما ذكر ذلك لنا الإمام الأكبر. ومحصله عنده أنه الأسلوب الذي سلكه فحول الشعراء من عهد الجاهلية وما بعده في بلاغة الكلام وإحسان المعاني، والبعد عن التكلّف، وتجنّب استكراه الألفاظ والمعاني. ولعله مأخوذ من قول البحتري في مقارنته بين شعره وشعر أبي تمام: "أنا أقْوَم بعمود الشعر، وأبو تمام كان أغوص على المعاني" (¬1). وحصر المرزوقي عمود الشعر في جملة من الخصال، مَن لزِمها بحق وبنَى شعرهُ عليها كان عندهم المُفلِق المعظّم والمحسن المقدّم. وقد سبق لصاحب المقدمة ذكر هذه الخصال عند حديثه عن درجات صعود المعنى في مصاعد الشرف. وتلك الخصال هي مجموع الشرائط اللفظية، والإصابة في الوصف، والإجادة والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامه، والاستعارة، ومشاكلة اللفظ للمعنى. وجعلوا لكل وصف أو شرط من هذه الشروط عياراً يضبطه ويدلّ على تحقّقه. فعيار المعنى عرضه على العقل الصحيح والفهم الثاقب. وعيار اللفظ الطبع والرواية والاستعمال. وعيار الإصابة في الوصف الذكاءُ وحُسن التمييز. فما وجدوه صادقاً في العلوق ممازجاً في اللصوق يتيسر الخروج عنه والتبرؤُ منه فذلك سيماء الإصابة. ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 83.

النقاد ومذاهبهم

وعيار المقاربة في التشبيه الفطنة وحُسن التقدير. فأصدقه ما لا ينتقص عند العكس. وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن الطبعُ واللسان. وعيار الاستعارة الذهن والفطنة. وملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه والمشبه به. ثم يُكتفى منه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له. وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدّة اقتضائهما للقافية طول الدربة ودوام الدراسة. فإذا حكما بحسن التباس بعضهما ببعض لا جفاء في خلالها ولا نبر، ولا زيادة فيه ولا قصور، وكان اللفظ مقسوماً على رتب المعاني قد جعل الأخص للأخص والأخس للأخس فهو البريء من العيب. هذا عمود الشعر ومعاييره يضعه المرزوقي بين أيدي طلّاب الأدب ورواده. فلا يتأولونه بعد اليوم ضروباً شتى من التأوُّل تختلف معها تصوّراتُهم واتجاهاتُهم، وتتناقض معها آراؤهم وأحكامهم، وتضيع بها الحقائق العلمية والمدركات الفنية، فتنطمس بسبب ذلك مسالك الإبداع وطرقه وتنطفىءُ لوامع الأدب وروائعه. النقاد ومذاهبهم: وبقدر ما يعنى الباحث بالنظر في أسباب جودة الكلام ومحاسنه، وما يزداد به بهاء وجمالاً، يتعيّن عليه أن يكون قادراً على معرفة عيوب التأليف والنظم، مستشعراً لعلل الاختلال وأسباب الرداءة، كأن يكون اللفظ وحشياً أو غير مستقيم، أو غيرَ مستعمل في المعنى المطلوب، أو به زيادة أو نقصان يُفسد المعنى أو فاقدَ الالتئام بين أجزاء البيت في القَسم أو التقابل أو التفسير، أو بمعناه تناقض،

أو فيه خروج إلى ما ليس من مقتضى العادة أو الطبع، أو يكون الوصف فيه غير لائق بالموصوف، أو يكون في البيت حشو لا طائل فيه. وهكذا بإدراك الناظر الدقيق وإحساسه العميق ترتفع منازل الدارسين لفنون الأدب، وتتجلّى صفات الناقد الذي يُقبل نقده ويرتضى حكمه. ومن ثمة نعتوا صيارفة الكلام بعدّة أوصاف. فالناقد البارع كما نبّه إلى ذلك المرزوقي في مقدمته: - هو من عرف مستور المعنى ومكشوفه، ومرفوض اللفظ ومألوفه فميَّزَ المعنى المبتدع الذي لم تقتسمه المعاوض، ولم تعتسفه الخواطر، ونظر وتبحَّر ودار في أساليب الأدب فتخيّر. وطالت مجاذبته في التذاكر والأبحاث والتداول والابتعاث. وبان له القليل النائب عن الكثير، واللحظ الدال على الضمير، ودرى تراتيب الكلام وأسرارها، كما درى تعاليق المعاني وأسبابها. إلى غير ذلك مما يُكمل الآلة ويشحذ القريحة. فتراه لا ينظر إلا بعين البصيرة، ولا يسمع إلا بأذن النِّصفة، ولا ينتقد إلا بيد المعدِلة. فحكمه الحكم الذي لا يبدّل، ونقده النقد الذي لا يغيّر (¬1). ومن هذا البيان المفصل، من كلام المرزوقي في النقد، يتحقّق لدى العلماء بفن القول وغيرهم أن أسباب الاختيار عند أهل الصناعة حقيقية لا وهمية. وقد عزز الإمام الأكبر حقيقة الناقد هذه بما نقله عن الآمدي في موازنته من قوله: "وأنبّه على الجيّد وأفضله، وأبيّنُ الرديء ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 130.

وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص، وتحيط به العناية، ويبقى ما لم يمكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج. وهي علة ما لا يعرف إلا بالدُّربة ودائم التجربة وطول الملابسة. وبهذا يفضّل أهلُ الحذاقة بكل علم وصناعة مَن سواهم ممّن نقصت قريحته وقلّت دربته، بعد أن يكون هناك طبع فيه تقبّل لتلك الطباع وامتزاج، وإلّا لا يتم ذلك" (¬1). ولعلنا نختم هنا أهم عناصر المقدمة بما ختم به المرزوقي مواضع درسه القائم على المقارنة والمفاضلة. وهو عنوانان: (1) سبب تأخر الشعراء مرتبةً عن الخطباء والكتّاب. (2) قلّةُ المترسّلين من الكتاب، وكثرة المفلِقين من الشعراء، ونباهة أولئك وخمول هؤلاء. للجاحظ في ترتيب الشعراء مع الخطباء والكتاب كلامٌ نقله عن أبي عمرو بن العلاء. يفيد أن المنزلة الأولى في الجاهلية كانت للشعراء لفرط الحاجة إليهم. فالشعر يقيّد مآثرهم، ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم. ولكنّهم عندما كثروا واتخذوا الشعر مكسَبة، ورحلوا إلى السُّوقة وتسرّعوا إلى أعراض الناس، تدنّت منزلتُهم. وقال أهل النقد في ذلك: الشعر أدنى مروءة السَّرِي وأسرى مروءةَ الدنيء (¬2). ومن أسباب تأخّر المنظوم عن رتبة المنثور: 1 - ورود القرآن نثراً، وبه الإعجاز. ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 130. (¬2) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 131.

2 - احتياج الملوك في الجاهلية إلى الخطباء، وعدُّهم الخطابةَ أكمل أسباب الرئاسة، وأفضل آلات الزعامة. 3 - قيام النثر مقام النظم لا العكس. 4 - النثر يحتاج في محصِّله إلى آلات لا يقتضيها ولا يتطلّبها النظم. 5 - ارتفاع منازل الكتاب إلى درجة الوزراء، وبقاء الشعراء دونهم. فلا تعلو درجتُهم عن رتبة المستعطين. فثبت بهذا فضل النثر على الشعر من عهد الجاهلية، وعززه الإسلام (¬1). هذا وجوانب القول - في مقدمة المرزوقي وشرح الشيخ ابن عاشور لها - كثيرة فسيحة لا يُلمّ بها جميعِها هذا التقديم لشرح مقدمة المرزوقي. ويكون من الضروري أن نضيف إلى مَا قدّمناه بعض الإشارات الدالّة على أهميّة هذا الأثر البلاغي النقدي الأدبي. فالإمام الأكبر، بجانب ما عرضه من آراء بلاغية ونقدية، ترجم لعدد من الكتاب والشعراء، وأنزلهم منازلهم مثل أبي تمام صاحب الاختيارات، والصولي التركي الأصل ذي النثر البليغ والشعر الرقيق، وأبي علي البصير الفضل بن جعفر الكوفي الضرير المتميّز في فني النثر والنظم، والعتّابي الشاعر المجيد والكاتب البديع الترسّل (¬2). كما ترجم لعبد القاهر الجرجاني وللحاتمي وللسكاكي، وتحدَّث عن أئمة الأدب والكتاب كابن الأثير، ونوّه بابن طباطبا الشاعر أحد دعاة المدرسة اللفظية، وذكر جملة من آثاره مع وصفه له بالفطنة وصحّة الذهن. ولم يُغفل في شرحه للمقدمة ذكر المبرد إمام العربية، والحسن بن رجاء الشاعر الكاتب، وابن أبي عيينة أحد ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 132. (¬2) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 10، 19.

الشعراء المطبوعين (¬1). ومن عناية المؤرّخين ورجال ديوان الإنشاء بالكتابة أن سجَّلوا في ذلك ملاحظات، ووضعوا مصنّفات واسعة في هذا الغرض، مثل خواطر الحريري في مقاماته، وكتاب القلقشندي صبح الأعشى، ونهاية الأرب للنويري. وفي الجزء الثاني، المتعلق بقلة المترسلين ونباهتهم، وكثرة الشعراء وخمولهم، ينقل المرزوقي ومعه شارحه فقرات من كلام ابن الأثير. كان تصوير ابن الأثير للفئتين على الوجه التالي: فقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلّق بكل علم حتى قيل: كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، وذلك لما يفتقر إليه الخواصّ من كلّ فن (¬2). وفي مكان آخر من مَثَله السائر يقول: إن الكتابة تفتقر إلى سبعة أنواع من الآلات: هي علوم العرَبية، وعلم اللغة، وأمثال العرب، والاطلاع على تأليف من تقدّمه من أرباب الصناعة المنظومة والمنثورة، ومعرفة الأحكام السلطانية، وحفظ القرآن، وحفظ ما يحتاج إليه من السنة (¬3). وهذا أمره واضح في مساندته للكتّاب وتقديمهم على الشعراء بما اكتساه من مبالغة وإسراف في عدّ العلوم التي يحتاج إليها الكاتب دون الشاعر، وبعض هذه الشروط مما كانت تحتاجه الصناعة في ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 30. (¬2) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 140. (¬3) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 140.

الدواوين. والحق أن الشاعر أيضاً يحتاج إلى قسم من هذه العلوم وإلى مثلها، كما فصل ذلك رجال النقد، وفي مقدّمتهم حازم القرطاجني في منهاج البلغاء في أقسامه الثلاثة: المباني والمعاني والأسلوب. واستنتج المرزوقي من الواقع، ومن هذه الآراء المفصّلة الأغراض في مواضع من نهاية المقدمة، يسانده الإمام الأكبر: "لما كان الأمر على هذا صار وجود المضطلعين بجودة النثر أعزّ، وعددهم أغزر، [لصعوبة هذا الفن وشدّة الاحتياج إليه في مناحي الحياة ومختلف الدوائر. وقد وَسَمت الكتابةُ المترسِّلين بشرفها وبوأتهم منزلة رئاستها ...] أما الشعراء فإن أغراضهم، وإن كانت رائعة للنفوس، ومرغوبة عند أهل الذوق السليم، لكنهم دون الكتاب لأن مرتبة هؤلاء مهيبة، وآثارهم عجيبة" (¬1). وشارح المقدمة في كل قضية من قضايا النقد يبحثها، يروي عن هؤلاء وغيرهم كالجاحظ والخوارزمي من الأدباء الكتاب، وعن عدد من الشعراء والخطباء المتقدّمين، وعن طائفة من المولّدين أمثال أبي الطيب والمعري وابن زيدون فيحلل آثارهم، ينقدها مرّة، ويقارن في كل طائفة منهم بين مسالكهم ومناهجهم الفنية مرّة أخرى، مثبتاً مراجعه في هذا الغرض بما ينقله عن دلائل الإعجاز، والمفتاح، والبيان، والكامل، والمثل السائر، والمقامات، والعمدة، ونقد الشعر، والموازنة، والأغاني، وجمهرة أشعار العرب، وجمهرة الأنساب، وتاج العروس، إلى غير ذلك من كتب الأدب واللغة والبلاغة والنقد. ¬

_ (¬1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 143 - 145.

وربما أضاف إلى هذا كله أخباراً ونكاتاً بلاغية نقدية كحديثه عن واقعة بعكاظ نقد فيها النابغة شعر حسّان، وعما عرض لوالي اليمامة في خطبته الوعظية من الضعف، وقصة عبد الله بن السمط مع المأمون، وقصة بشار مع رؤبة بن العجاج. ولم يكتف بذلك، بل تجاوزه إلى بعض التعليقات العلمية والتفسيرية من بينها: - تنبيهه على أن الإعراب ليس ما يتوقف عليه معنى الكلام، بل تتوقف عليه سرعة الفهم. وهو فن لفصاحة الكلام العربي. - وضبطه لقبائل الخيل بقوله: قبائل جمع قبيلة، وهي من أربعين من الخيل إلى ستين. - وملاحظته النقدية لبعض العروض حين قال: على أن بعض العروض في بعض الموازين لا يخلو من ثقل، مثل الضرب الثاني المقطوع من بحر المنسرح وهو: مستفعلن مفعولات مستفعلن ... مستفعلن مفعولات مفعولن - نقله كلام الأخفش في القافية لجعله إياها الكلمة الأخيرة من كل بيت. وهو ما يتعارض مع إطلاقها عند علماء القوافي في بيان أحكام آخر البيت على الساكنين اللذين في آخر البيت مع ما بينهما من حروف متحرّكة، ومع التحرّك الذي قبل الساكن الأول. - ضبطه لبعض الصيغ أو المفردات التي يعثر عليها في بعض النصوص التي يستشهد بها، كما في نقله لكلام الجاحظ في بيان المختار المستقيم من الألفاظ حين قال: "ومتى شاكل اللفظ معناه وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقاً ولذلك القدر لِفْقاً"، علّق على صيغة الكلمة الأخيرة بقوله: اللفق، بكسر اللام وسكون الفاء،

شقة من ثوب تضم إلى أخرى. يقال: لفَقَ الثوب، من باب ضرب، إذا ضمت شقة إلى أخرى بخياطتها. فاللِّفق، بكسر اللام، زنة فِعل بمعنى مفعول مثل ذِبح بكسر الذال. - وشرح كلمة الرمضة بالأرض التي اشتدت حرارة مرعاها من شدة الرمضاء. وفي قولهم: "لا يرمضون" استعارة مكنية. وتعدد شرحه للكلمات اللغوية، وبلغ ذلك نحواً من 106 موضع أوردها المرزوقي في - مقدمته - مثل: الوكد، والمجاذبون، والمدافعون، والاجتواء، والأعطاف، والأقدار، والمطرح، وبعضها استعمالات تحتاج إلى بيان. مثل: جارَيتني، وعلى اتساعها، وتعطيك مرادك، وثالثة وهي جملة المصطلحات البلاغية والنقدية كالأتيّ، والأبيّ، والمقصّدات، والأسلوب، والمترسلون، والمفلقون، والأرداف، والتصاريف. والطبع، والفِقر، والغرر، والإغفال، والإعطال، والمطبوع، والمعارض، والإطباق، والمناسب، والمناصب، والمصنوع، ونحو ذلك. وهذا المعجم الصغير الموزعة مفرداته أشتاتاً أثناء شرح الإمام لمقدمة المرزوقي يثير أهمية عند الباحث، ويوطىء به الشارح على عادته لإيصال المعاني للقارىء والسامع بأسرع طريق، وأدق أسلوب. ولعل الدافع إلى ذلك دقّة الاستعمالات اللغوية، وشرح ما أغلق من الكلمات، وضبط جملة من التصرّفات القولية، وتحديد العديد من المصطلحات التي يحتاج إليها الدارس والمتأدِّب في مجالات البلاغة والنقد. * * *

أصول النظام الاجتماعي في الإسلام

أصول النظام الاجتماعي في الإسلام هذا الكتاب هو جملة مقالات نشرها الإمام الأكبر تباعاً في مجلة هُدى الإسلام القاهرية سنتي 1354 - 1355/ 1935 - 1936. عالج فيها الأوضاع الاجتماعية في العالم الإسلامي. كما قام قرينه وصديقه ورفيق دربه شيخ الأزهر من بعد الإمامُ الأكبر، محمد الخضر حسين، فنشر مقالات له هو الآخر في نفس الغرض. وهي التي ضَمَّها كتابُه رسائل الإصلاح. ومَن من رجال العلم الديني والثقافة الإسلامية ممّن بلغ مرتبتيهما أو أدرك شأويهما لم يُقبل ولو فترة قليلة، على العناية بهذا الموضوع الجليل والغرض الشريف، يسهم في بناء معلمه وإقامة صرحه، ولو بلبنات قليلة تكسبه فضيلة الانتساب إلى هذا الفن الذي يقوم أساسه على الفكر الديني والحضارة الإسلامية، وتتمثل أهدافه وغاياته في تقديم صورة صادقة مضيئة عن المجتمع الإسلامي، كما تنطق بذلك السنة المطهرة، والسيرة النبوية العطرة، وتاريخ صدر الإسلام. فيكون هذا طريقاً للمقارنة بين الأوضاع المختلفة للمجتمع الإسلامي ماضيه وحاضره في بلاد الإسلام، ولتحديد ما قوَّضَ البناءَ من انحراف عن المنهج، ومروق عن تعاليم الدين. ومن هذا الدرس والبحث والنظر ما يتوصل به إلى معرفة العدل والحرية والمساواة، وما يقتضيه الأمر من بيان للحقوق والواجبات التي جعلها الإسلام قواماً للحياة وتقدُّم العمران. وهكذا يتّجه العالمان الجليلان والشيخان المُصلحان إلى تصوير الغاية

من كتابيهما، وبيان مناهج الإصلاح التي يتحتّم الأخذ بها، وإلى وضع النصوص القطعية القدسية، والأمثلة التاريخية الحية ونحوها بين أيدي الجماهير والشعوب، للاهتداء بها، وبشدان مسالك النجاة عن طريقها، والخروج بالناس من الظلمات إلى النور ومن الوهم والتخيل إلى الحق واليقين. وتأكيداً لحقيقة هذه الدعوة والبلوغ بها إلى تغيير ما بالمسلمين من أوضاع، وتطهير المجتمع ممّا غلب عليه من أهواء ونوازع، تردّى بسببها في مهامه فيح مظلمة، يلفت الشيخ محمد الخضر حسين أنظار قرائه وأسماعَهم قائلاً: "إني قد طرقت في هذه الرسائل نواحي هي في حاجة إلى أن تبحث بفكر لا يتعصّب لقديم، ولا يفتَتِن بجديد، يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل، ويتقبل الحكم متى لاحت بجانبه حكمة، ويوثق بالرواية بعد أن يسلمها النقد إلى الصدق" (¬1). ويشاكل هذا الاتجاه في الحديث عن المجتمع الإسلامي وإصلاحه قول الإمام الأكبر في المحاضرة التي ألقاها بنادي (جمعية قدماء الصادقية) بتونس عام 1324، وبما وصلها به من مقالات في الغرض نفسه ضمنها كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: "وإذ لم يكن من خلقي أن أطرق مثل هذه المواضيع باللهجة المنبعثة عن التمنّي والتخيّل، بل اعتدت أن أرِدَها ورود الباحث عمّا يشهد له الواقع والأدلة الحقّة، كان كلامي متوخّياً طَريق التحقيق، ومتوقّعاً أن يُورِد عليه من يريد نقضه من عدو للدين أو صديق" (¬2). وبقدر ما نلمس في المقالة الأولى من دعوة رفيقة إلى الحق، لينة ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين. رسائل الإصلاح: 5. (¬2) ابن عاشور. أصول النظام الاجتماعي: 8.

كريمة على الباحثين. تحمل على الجدال بالتي هي أحسن، تشير المقالة الثانية إلى أن صاحبها يكتفي بأن يسلك في منحاه وتحريره مسالك الدعاة، وهو مع ذلك يتعرَّض في كتابه إلى حقائق يحلّلها، ونظريات يؤسّسها، يقيم على هذه وتلك أصول نظام الاجتماع الإسلامي. كانت البيئة التي عاش فيها الشيخ ابن عاشور، والتي يهتم بأمرها في بلده وخارج بلده هي البيئة الإسلامية التي تدنّت عن منزلتها الأولى، وسقطت عن مراتبها السابقة. وذلك بموجب تحوّلها عن الطريق التي أفادت المسلمين نهوضاً سامياً في بادىء الأمر، وصُدوفها عن أصول دينها القويم. وهو المنهج الذي فُطرت عليه، والأساس الذي يعود إليه رقيُّها، وما أنشأته من حضارة وعمران. وبالنظر في هذه العاقبة الخسرى وأسبابِها، وما نجم عنها من تأخر وضعف في المجتمعات الإسلامية، دعته روحه الإصلاحية إلى البحث عن وسائل التغيير لأحوال المسلمين حتى يعودوا كما بدؤوا في أبهى حال من كمال الارتقاء والعزّة والظهور. وإذا كان المجتمع الذي يعنيه إنما هو المجتمع الإسلامي، المتحقق فيه الانتساب إلى المهيع المرتبط بمبادىء الإسلام وأصوله، فلا بدع بعد ذلك أن نرى شيخنا يقدم بين يدي قوانين الاجتماع الإسلامي ونظمه تحليلاً للمراد من الدين وبياناً للفطرة، فطرة هذه الملة المؤمنة، ويبحث عن روح الإسلام وحقيقته من جهة مقدار تأثيره في تأسيس المدنية الصالحة، ومقدار ما يقتبسه المؤمن بها من توجيهات يهتدي بها إلى مناهج الخير والسعادة. وفي هذه المقدّمة التي عرض فيها إلى بيان غرضه من الدراسة وقصده من تصنيف الكتاب يقول: "ومن غرضي أن أوضح الحكمة

التي لأجلها بعث الله بهذا الدين رسولَه محمداً خاتماً للرسل، أو عن الآثار التي أبقاها لنفع البشر. وهذا المهم لا يتأتّى إلا لمن أدرك علاقة الدين بالمدنية، وتأثيرَه في ارتقاء الأمة. ويتطلّب هذا المكسب الجليل النظرَ أولاً في تاريخ الأمة وتطلُّعها للدين، وإلى الحال الذي كانت عليه زمن ظهوره، وثانياً إلقاء نظرة واسعة فاحصة لهيئة مجتمع الأمة المتديّنة بالإسلام في أزهى عصور اتباعها لتعاليمه، ثم التعرُّف إلى ملاك محاسن هذا الدين بمطالعة تاريخ المسلمين في صدر الإسلام وما يليه، والتطلُّع إلى معرفة مقوّماته، وعلى دستوره الذي تنطق به أخلاق أفاضل المسلمين في أجلى مظاهر تفرعها عن المبدأ الإسلامي. يتناول هذا الكتاب تمهيداً بيّن فيه مؤلفه حقيقة الدين ومعنى الإسلام، ووجهَ إقامته لأصول النظام الاجتماعي بين الناس. فالدين اعتقادات وأعمال، على من يرغب في اتباعها أن يلتزم بها رجاءَ حصول الخير له في حياته الأولى الدنيوية وفي حياته الأخروية الأبدية ... وذلك عبارة عن مجموع تعاليم يريد الشارع أن تصير عادة وخُلقاً لطائفة من الناس، تبعث فيهم الفضائل والإحسان لهم ولغيرهم. والأديان السماوية كلُّها تقصد ممن خوطبوا بها حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله. فوظيفتها تلقين أتباعها ما فيه صلاحهم ممّا قد تحجبه عنهم مغالبة الميول، وسوء التبصّر في عواقب الأمور. جاء الإسلام فكان خاتمة الأديان، واتّسم بعالَمية الرسالة، واتسعت أصول دعوته وفروعها، وامتزج فيه الدين بالشريعة، فضبط للأمة أحوال نظامها الاجتماعي في تصاريف الحياة كلها، وألزم،

إصلاح الفرد

المتمسكين بعقيدته الخاضعين لسلطانه، اتباع ما خطط لهم من قوانين في المعاملات وغيرها. واقتضى هذا الوصف أن تكون للإسلام دولة تمكن القائمين عليها من تحكيم شريعته، وتنفيذ قوانينه. قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬1)، وقد دعا البارىء سبحانه إلى وجوب الأخذ به، أي بالفطرة، وبما ترتبط به من التوحيد، والحق، والعدل. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬2). فتكون الفطرة والتوحيد والحق والعدل لدى المؤمنين استجابة لأمر الله وتحقيقاً لإرادته، واتخاذَ تشاريعه وأحكامه أساساً لإقامة أصول النظام الاجتماعي بينهم. وفي ذلك إبرازُ حقائقه وخصائصه، وبيانُ سبل الإصلاح للفرد وللمجتمع. ويَنفُذُ شيخنا رحمه الله من هذه الحقائق الدينية الإسلامية إلى الصميم من موضوعه المتمثل في الإصلاح بأشكاله المختلفة. فيبحث عن جملة قضايا من بينها ما نوّه به من: إصلاح الاعتقاد، وإصلاح التفكير، وإصلاح العمل. وإذا كانت أصول عقيدة الإسلام هي وحدانية الله تعالى، وأنها أساس تفكير الإنسان فيما هو مرتبط بحاجاته، نبا عنه الباطل، وتلاشت من حوله الأوهام، وكان التهيؤ لقبول التعاليم السديدة، والعمل الصالح، وإصلاح التفكير بحسب التدبير لشؤون الحياة العاجلة والآجلة، ابتغاء النجاح في الحياتين الدنيا والأخرى. إصلاح الفرد: إصلاح الفرد ضرورة للإنسان لتحصيل العلم بما يجب سلوكه، ¬

_ (¬1) آل عمران: 19. (¬2) الروم: 30.

إصلاح الجماعة

حتى يسلم من الوقوع في مساوىء الأغلاط، ومن التردّي في مهاوي الخسران. والإصلاح للفرد وللجماعة من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، يحمل على إقامة نظام الاجتماع المطلوب. وبإثر الاستقراء العاجل لأصول نجاح المرء والجماعة، وبعد بحث هذا الموضوع من أطرافه، يلفت المؤلف النظر إلى ثمان نواح: هي تلقي العقيدة، والشريعة، والعبادة، وتحصيل النجاة في الحالين، والحزم، وحُسن المعاملة، والأحوال العامة، ومصادفة الحق في المعلومات (¬1). إصلاح الجماعة: إن تحقيق هذا المقصد الذي يعتدّ به الإسلام، ويعتبره الغرض الأسمى، حمل المؤمنين على الانتساب لجامعة جدّ متسعة وكبيرة، هي الجامعة الدينية الإسلامية التي تفوق أهميةً وقوة كل ما سبقها من ألوان الأنظمة القائمة على الترابط، والتساند والتعاضد. وذلك كنظام العائلة، والمصاهرة، والقبيلة، والأمة. وإذا ما نظرنا في الجامعات الدينية مثل جامعة إسرائيل المحصورة في بني إسرائيل: اليهود، أو في الجامعة المسيحية التي خرجت عن حدود شعب إسرائيل لتنتشر بين شعوب أخرى عن طريق الحواريين دعاة النصرانية، وجدنا الجامعة الإسلامية - كما أقامها الله ورضيها لنا - قائمة على أصلين عظيمين هما: العموم والدوام. وألفيناها متجاوبة مع الفطرة، رباطُها الدين الحق، والخطاباتُ الإلهية الموجهة لأفراد الأمة الإسلامية، والتي نخص بالذكر منها في هذا ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 53.

الأخوة الإسلامية

المحل قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬1). الأُخوة الإسلامية: وتعرّض المؤلف إلى الأُخوة الإسلامية. وهي التي تمثل الدعم الروحي والتأييد النفسي لأفراد تلك الجامعة الدينية، إذ جعلها الله جل جلاله أخوَّة بين كل أفراد الأمة في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬2). وصرّح بهذه الأخوة الدينية رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن أبي هريرة عنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (¬3). وما الأخوة الإسلامية إلا رابطة وثيقة بين المسلمين، أبطل بها الحكيم العليم عصبيات ثلاث: عصبيات النسب والحلف والوطن. وتحقَّق على اعتبارها من مظاهر القوَّة والعزة ما يشهد له التعارف والتواصل بين المسلمين، ويؤكده الاتحاد النامي بينهم رغم اختلاف الأمم الداخلة في الإسلام. قال الإمام الأكبر: "فلم يحفظ التاريخ لدين ولا لدولة ولا لدعوة استطاع واحد منها أن يضم إليه مختلف الأمم ويجعلهم أمة واحدة لا يرى بعضهم فارقاً بينهم مثل ما للإسلام من ذلك". إصلاح العمل: يكون إصلاح العمل بطلب الاستقامة. وله ارتباط وثيق بصحة العقيدة وسلامة التفكير. ولاحتياج هذه الجوانب الثلاثة من الإصلاح ¬

_ (¬1) آل عمران: 103. (¬2) الحجرات: 10. (¬3) الحديث عن أبي هريرة. ملا علي قاري. مرقاة المفاتيح: 8/ 690، 4959؛ السخاوي. المقاصد الحسنة: 386/ 1024.

نظام سياسة الأمة

إلى بيان ما يحرسها، وقف الإمام عند الوازع النفساني يبسط فيه القول، ويكشف عن أثره في تحقيق صلاح الفرد والمجتمع. ثم دعاه هذا إلى الحثّ على اكتساب العلم، مريداً من العلم هنا، ما يبثه الله تعالى من العداوة في نفوس المؤمنين لخواطر الشر الصارفة لهم عن الخير، والمردية لهم في الشرور. ولقد أنهى المؤلف عرض مباحث إصلاح الأفراد المومى إليها أعلاه بالحديث عن تعميم الدعوة للإصلاح الفردي بين المسلمين، ومجيء الخطاب بدعائم الإصلاح لسائر الناس من رجال ونساء، وبيض وسود، وسادة وسوقة (¬1). وكما تميز الإسلام على غيره من الشرائع بعموم الدعوة حقيقة، تميّز بعموم فروعها غالباً. وتوجّه الشيخ ابن عاشور عقب عنايته بأحد نوعي الجنس، وحملته طبيعة البحث والنصفة للحق على أن يخص المرأة بكلمة يسيرة يبيّن فيها أوضاعها في مختَلف الشعوب قديماً، وعند العرب في الجاهلية، وما تحقّق لها من تسوية الإسلام بينها وبين الرجل في تكاليف شتى، في العديد من النواحي كالاعتقاد والعمل والآداب والمعاملات ونحوها. ومن ذلك رفع الإسلام الإصر عنها وإعلانُه عن حقوقها بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2). نظام سياسة الأمة: أما أصول نظام سياسة الأمة فقد كانت ظاهرة وملموسة بمكة التي عني فيها الإسلام بإصلاح الفرد، وبالمدينة التي قامت على إصلاح الجماعة. وازدادت تجلّياً وقوة بعد أن نزلت التشريعات ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 96. (¬2) البقرة: 228.

مكارم الأخلاق

الكفيلة بإيجاد الأمة الراقية، وبناء المجتمع الكامل. ولتصوّر ملابسات تلك الظروف ينبغي أن نتعرّف على مدينة طيبةَ الطيّبة، وعلى سكانها وروادها ومن هاجر إليها. ويكفي لذلك أن نقرأ ما وصفها به في تلك الآونة الإمام الأكبر حين قال: "كمل المجتمع الإسلامي بالمدينة يومئذٍ. وصار أهله سواءً في التحلّي بالفضائل النفسية والعملية. وما ظنك بمجتمع يتوسّطه رسول رب العالمين، يسوسُه، كيف يكون مثالاً صالحاً للمسلمين، وقدوة لكل مجتمع يأتي بعدهم" (¬1). وفي هذا المجتمع الذي تزاوجت فيه سلوكيات الأفراد الكاملة الخيّرة مع ما دعا إليه الإسلام من تشريعات وأحكام برز من أصول نظام سياسة الأمة فنَّانِ أصليان - على حد تعبير مؤلفنا - هما: - فن القوانين الضابطة لتصرّفات الناس في معاملاتهم. - وفن القوانين التي بها رعاية الأمة في مرابع الكمال، وذودُ أسباب الاختلال عنها (¬2). مكارم الأخلاق: ومقوّمات الفن الأول، الذي رعته أصول بناء المجتمع الإسلامي الأول، تبرز بوجه عام في مكارم الأخلاق: من عدالة واتحاد ومؤاساة تُوجِّه إلى الحق، وتقود إلى الخير بهدي الدين وروح الإسلام (¬3). والمراد بمكارم الأخلاق هنا حصول الدربة بالتدريج على ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 29. (¬2) المرجع السابق: 122. (¬3) المرجع السابق: 122.

ملاحظة الوصايا وإدراك الفضائل، وملاحظة ذلك ملاحظةً مستمرة في كل الأعمال والأحوال، حتّى تكاد تصبح غرائزَ فُطِر عليها أفراد ذلك المجتمع الذي يقول عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خير القرون قرني" (¬1). وذلك بسبب ما حصل بتلك المكارم من نتيجة الدربة عليها، والمراقبة لها، والالتزام بها. وما اكتسبه المسلمون من جراء ذلك من إلف لها، وجفاء لأضدادها (¬2). وتمّت للمجتمع الإسلامي من بعد الإيمان الاستقامةُ على أمر الله. وهي عبارة عن العدالة التي عرّفها الإمام بالملكة التي تمنع من قامت به من اقتراف الكبائر، وعن المروءة التي هي استيفاء الرجولة الكامنة: بأن لا تفعل في سرّك ما تستحي أن تفعله بحضور غيرك (¬3). وممّا يشهد لذلك ما ورد في الأثر: "من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يُخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته". وعدَّ المؤلف من صفات الكمال هذه ما بلغ تمام حقيقته فيهم. فمن ذلك الإنصاف من النفس. وهو خصلة رفيعة دعا إليها الرحمن في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (¬4). وقد روضت آداب القرآن أتباعَ الملة على هذه الخصلة بما جاء من قوله عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} (¬5)، كما حثت السُّنة على ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) الحديث عن عمران بن حصين. متفق عليه. ملا علي قاري. مرقاة المفاتيح: 10/ 360، 6010. (¬2) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 124. (¬3) المرجع السابق: 132. (¬4) النساء: 135. (¬5) النساء: 9.

المواساة

"الكيّس من دان نفسه" (¬1)، ووردت آيات وأحاديث أخرى تدعو إلى الاتحاد ليصبح لهم عنواناً ومكرمة: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬2)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرِّض معاذَ بنَ جبل وأبا موسى الأشعري على الوفاء: "وتطاوعا ولا تختلفا" (¬3). المواساة: وكانت المواساة بعد، وهي كفايةُ حاجة محتاج الشيء مما به صلاح الحال، سمةً للمجتمع الإسلامي، وخلّةً من خِلاله. أكَّد الدينُ على اعتبارها أصلاً من أصول نظام الإسلام، وجرت بها توجيهات القرآن وأوامرُه، والسُّنة وحِكَمُهَا، وقامت عليها من شواهد التاريخ الإسلامي ما أعلى من مقامها ورفع من منزلتها. وهي في شرعة الإسلام جبرية واجبة، واختيارية مندوب إليها. وصورها كثيرة تنطق بها عدةُ تصرّفات مفروضة وإحسانية، كالزكاة، والصدقة، والإنفاق، والهبة، والإسلاف، والعارية، والعريّة، والإرفاق، والعمرى، والإسكان، والإخدام، والمنحة (¬4). وأكمل صور المواساة ما لم يُبتغَ فيه سوى وجه الله. قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (¬5)، ويقول الإمام الأكبر في التنويه بها واعتبارها مقصداً من مقاصد الشارع: ولتحقيق هذا المعنى من جعل المؤاساة خلقاً للمسلمين جاءت ¬

_ (¬1) الحديث عن شداد بن أوس. ملا علي قاري. مرقاة المفاتيح: 7/ 141، 5289. (¬2) الأنفال: 46. (¬3) البخاري. الجهاد: 164. (¬4) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 138. (¬5) الإنسان: 9.

الأوامر والنواهي بتجريد أنواع المؤاساة عن كل ما فيه حظ عاجل لنفس المواسي، وكل ما فيه إضرار بالمؤاسَى، وعن اتباع النفس لما واسَت به وتعلقَها به. فتنزيهُها عن حظِّ نفسِ الباذل ثبت بالنهي عن طلب الأجر العاجل عن المعروف (¬1). وإذا كانت دعائم الإسلام قائمة على مثل هذه الأسس بلغت الأمة من العزّة والقوّة والمنَعة والفضل ما تكون به خير أمة. فتضامُن أفرادها وتعاونهم. وتكافلهم وتساندهم يجعل منهم عنواناً للخير، وبرهاناً على بلوغ القصد. وذلك ما رضيه لهم الإسلام، وأراده منهم، توصلاً إلى إقامة أصول النظام الاجتماعي الإلهي في المجتمعات الإنسانية. وتناول شيخنا رحمه الله في الفن الثاني من هذا القسم عدّة مزايا ومكارمَ هي من شأن ولاة الأمور، وممّا ينبغي أن تتصف به سيرهم وتصرفاتهم. فذكر المؤاساة والحرية، وضبط الحقوق، والعدل، ونظام أموال الأمة، والدفاع عن الحوزة وإقامة الحكومة، والسياسة، والاعتدال والسماحة، وترقية مدارك الأمة رجالاً ونساء، وصيانة نشأتها عن النقائص، وسياسة الأمم الأخرى، والتسامح بالوفاء بالعهود، ونشر مزايا الإسلام وحقائقه في البشر (¬2). ولكل وصف من هذه الأوصاف طريق لتعميم الإسلام ونشره بين الكافة. ووقف المؤلف عند كل وصف من هذه الأوصاف، فكشف عن سر التكليف بطلبه، ليتحدث بعد هذا عن دَور الحكومة والدولة الإسلامية وواجبَاتها، وشكل الحكومة الإسلامية ونزعتها، ومعنى ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 139. (¬2) المرجع السابق: 143.

الديموقراطية الإسلامية. وواجبات الدفاع عن الممالك الإسلامية، وعن أفراد الملة كلها، ثم عن مال الأمة وتوفيره، وعن مراعاة أصول الاقتصاد الإسلامي فيما يتصل به من أحكام المعاملات. ودليل عناية الشارع بهذا وتكريمه للمتّصفين به قوله جل وعلا: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1)، مبدياً في ذلك التفصيل والتعليل، والأحكام والمقاصد، ومواقع التهم وإبطالها، والدفاع عن الإسلام وأنظمته ما لا يحق لباحث الغفلةَ عنه. وذلك لما حقّقه النظام الإسلامي من التسامح ورفض التعصب، وضبط العلاقات والسلوك والمعاملات فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض، وفيما بين المسلمين وغيرهم من غير الأعداء وأهل الحرب. وقد أعلن الإمام الأكبر عن ذلك في قوله: "إن التاريخ لم يحفظ أن أمة سوّت رعاياها المخالفين لها في دينها برعاياها الأصليين مثل أمة المسلمين. تُصور ذلك قوانين العدالة، ونوالُ حظوظ الحياة بقاعدة: لهم ما لنا وعليهم ما علينا" (¬2). ويخلص المؤلف من هذا البيان والتقرير إلى التنويه بأصول نظام الاجتماع الإسلامي الذي يُعدّ لوناً فريداً متميّزاً بقيمه ومبادئه، ونبله وعظمته. ومما ذكره في هذا الصدد قوله: "لقد مازج المسلمون أمماً مختلفة الأديان، دخلوا تحت سلطانهم من نصارى العرب، ومجوس الفرس، ويعاقبة القبط، وصابئة العراق، ويهود أريحا. فكانوا مع الجميع على أحسن ما يعامل به العشير عشيره. فتعلموا منهم وعلّموهم، وترجموا كتب علومهم، وجعلوا لهم الحرية في إقامة ¬

_ (¬1) البقرة: 274. (¬2) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 233.

رسومهم، واستَبْقَوا لهم عوائدهم المتولّدة عن أديانهم" (¬1). ولم يقتصر شيخنا على ما قدّمنا الإشارة إليه من موضوعات اقتضت نظرَ أصول النظام الاجتماعي فيها في الإسلام، بل رام الاستفادة من المقارنة بين أصول المسلمين في ماضيهم وحاضرهم، فختم كتابه البديع بقوله: "إن كوارث هذه الأمة ومصائبَها ما طلع قرنُها إلا حين أخذت عامّتها تحيد عن هدي العلماء، وعن اللجا في مشاكل الأمور إليهم. فلما تجرأت عامة المسلمين على الارتماء بأنفسهم في مضايق التدبير دون هدي من علماء الشريعة، وصاروا أتباع الناعقين من دعاة الضلالة وهواة التسلّط الذين اتخذوا من عامة الأمة جنداً. فمزّقوا بأسيافهم إهاب الإسلام، وكانوا أنكى عليه من أعدائه، وافترسوه باسم سلاطينه وأمرائه. حاق بالمسلمين الفشل وأصبح هاديهم السيف والأسل" (¬2). هذه صورة مجملة لمحتويات كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، شَرَعنا بها الطريق إلى التعريف به، منبّهين من خلال ذلك إلى القضايا الأساسية التي تناولها المؤلف، وجعل منها قواعد وأصولاً لبناء الفرد والمجتمع بناء إسلامياً، محدّداً خصائصهما، مميّزاً لهما، ومنظّماً للعلاقات بينهما، كما يُملي ذلك الوحي، وتتطلبه الظروف والأحوال، وتحدّده المصالح المعتبرة، ومقاصد الشارع فيما أبدعه وخلقه، وحِكَمهُ المتجلّية فيما أمر به ونهى عنه. ولعل فيما أثرناه ممّا حرره المؤلف في التمهيد لكتابه هذا، ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 232. (¬2) المرجع السابق: 234.

حديثه عن منهجه

ما وجد ما صدقه في القسم الأول، وفي القسم الثاني بفنيه من أصول النظام. وذلك لما بين أطراف الكتاب من تناسق وتساوق، وارتباط وتزاوج. من القضايا التي تعرّض لها الإمام في كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: حديثه عن منهجه: توسعه في ذكر الفطرة والصفات الفاضلة التي ذكرها موزّعة، بين الفنين من القسم الثاني من كتابه، ومدى أهميتها وارتباطها بغرض البحث، وبما يترتب عليها في الحياة العملية من آثار. ولفته النظر إلى المسائل العلمية والكلامية والاجتماعية والسياسية لأهميتها، ودورها في توجيه الفكر الإسلامي وتصحيحه. ثم تنبيهه إلى المقاصد التي ذكرها في موضوع أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وتفصيله القول فيها. الفطرة: وقد حمله هذا المنهج الذي اعتمده وسلكه في مؤلَّفه على المقارنة بين الاتجاهين: الأصولي والمقصدي، قائلاً: "أئمة الفقه لم يستعملوا مصطلح "الفطرة" في أصول الشريعة، مكتفين في علم الأصول بذكر ما يدعو إليه من مصطلحات، المقصود منها إفهام الطالبين وإقناع المجادلين ... فهم يحفلون في باب القياس بذكر العلة وتعريفها، ويمثلون بعلل الأحكام الصالحة لإلحاق فرع قياس بأصله لمساواتهما في علّة الحكم، ولا يهتمون ببيان

الحكمة التي هي منشأ علل كثيرة، وإنما يتعرّضون لها استطراداً في ذكر شروط العلة، إذ يعدّون من شروط القياس بالعلة اشتمال العلة على حكمة أو أن تكون ضابطاً لحكمة. فإذا تكلّموا في قياس النبيذ على الخمر في التحريم جعلوا العلّة فيه الإسكار، ولا يجعلونها فساد العقل ... وينبّه الإمام العلماء المتفهّمين للشريعة والمتفقّهين فيها، والمنفّذين لأحكامها والسائسين للأمة بها، بأن عليهم أن يسايروا (الفطرة) هذا الوصف الجامع، ويجعلوه رائدهم وعاصمهم في إجراء الأحكام، بمنزلة إبرة المغناطيس لربان السفينة" (¬1). ثم ينهي مناقشته للأصوليين بتوجيههم وتوجيه غيرهم من العلماء إلى ما هو بسبيله في هذا الكتاب، فيعلن: "أن الباحث عن نظام الاجتماع الإسلامي يجدُ وصف الفطرة أجدى عليه من قواعد كثيرة. ولا جرم أن يكون أهل هذا الفن أحوج إلى قواعد أوسع من قواعد الأصوليين" (¬2). وأما تفصيله القول في هذا الوصف الجامع - وهو الفطرة - الذي حمل الباحثين في علمي الاجتماع والمقاصد على اعتماده فهو كما يصوره لنا: "كل فعل يحب العقلاء أن يتلبّس به الناس، وأن يتعاملوا به فهو من الفطرة، وكل فعل يكرهون أن يُقابَلوا به ويشمئزون من مشاهدته وانتشاره فهو انحراف عن الفطرة" (¬3). ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 21. (¬2) المرجع السابق: 21. (¬3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 22.

وحقيقة الفطرة في الأصل الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان، وهي المعدّة والمهيّأة لأن يميز بها المرءُ الله تعالى، ويستدلَّ بها على ربه، ويعرفَ شرائعه (¬1). وتطلق الفطرة على قابلية الخلق للتوحيد ودين الإسلام (¬2). كما تعني مجموع شريعة الإسلام، بجميع أصوله وقواعده لتفجُّره جميعه من ينبوع معنى الفطرة (¬3). ويمعن في بيان ذلك والتمثيل له فيقول: "الفطرة وصف عام تكون به دالة على ما خلق الله عليه الإنسان ظاهراً وباطناً، أي جسداً وعقلاً. فسير الإنسان على رجليه فطرة جسدية، ومحاولة مشيه على اليدين خلاف الفطرة، وعمل الإنسان بيديه فطرة جسدية، ومحاولة عمله برجليه خلاف الفطرة، واستنتاج المسبّبات عن أسبابها والنتائج من مقدّماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج الشيء من غير سببه من فساد الوضع كما يقول علماء الجدل، وهو خلاف الفطرة العقلية. والجزم بأن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السوفسوطائية ثبوتها خلاف الفطرة العقلية" (¬4). فلا بدع إذا كان هذا الوصف العظيم صالحاً لأن يكون الأصل العام لفهم مناحي التشريع والاستنباط منها. ولا بدع أيضاً من وصف دين الإسلام بدين الفطرة "الفطرة الإنسانية"، لأن الله جلّت حكمته سوَّى فيه بين الوصفين: الحكمة والفطرة. فهو حين أراد أن يجعله ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 16. (¬2) المرجع السابق: 16. (¬3) المرجع السابق: 19. (¬4) المرجع السابق: 17.

ديناً عاماً لكل البشر، دائماً إلى انقضاء العالم، جعله مساوقاً للفطرة المتقررة في نفوس الناس (¬1). ووصف دين الإسلام بدين الفطرة "الفطرة الإنسانية" يترجم من جهة ثانية عن الانفعالات الحاصلة لنفوس البشر في حال سلامتها من اكتساب التعاليم الباطلة والعوائد السيئة. والفطرة بهذا المعنى أساس النظم التي أقيمت عليها الحضارة الأولى (¬2). ووصف الفطرة هذا هو ما اختص به دين الإسلام دون سائر الأديان. وهو بذلك يتميّز عليها كلِّها بالأوصاف المناسبة المتلازمة الثلاث: العموم والدوام والفطرة (¬3). ولا يعني وصف الإسلام بالفطرة الفطرةَ الظاهرية الجسدية، وإنما هي الفطرة الباطنية العقلية لما يتقوّم به الإسلام من عقائد وتشريعات، كلُّها عقلية (¬4). ويقصد من كون الإسلام دين الفطرة أن الأصول التي هي فيه من الفطرة، تتبعها أصول وتفريعات هي من المقبول لدى الفطرة (¬5). أما المحور الثالث الذي أشرنا إليه قبل، فهو عبارة عن الصفات النبيلة التي يتحلّى بها الفرد أو المجتمع، والتي يكون لها كبير الأثر في العلاقات والمعاملات بين الناس. وتبرز أهميتها بوصف خاص في دراسة أصول نظام المجتمع الإسلامي الذي يقوم على مجموعة كبيرة من مكارم الأخلاق والآداب. نقف عند اثنتين منها، هما السماحة والحرية. ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 20. (¬2) المرجع السابق: 28. (¬3) المرجع السابق: 20. (¬4) المرجع السابق: 17. (¬5) المرجع السابق: 19.

السماحة

السماحة: أما السماحة فهي سهولة المعاملة فيما اعتاد الناس فيه المشادّة (¬1). ويصور الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في قوله: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى" (¬2). وقد اعتبروا السماحة أكمل وصف لاطمئنان النفس، وأعونَ على قبول الهدي والإرشاد (¬3). وجعلوها من أكبر صفات الإسلام لوقوعها طرفاً بين الإفراط والتفريط. ونَعَتوها بالتيسير المعتدل الذي شهد له قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬4). وهو ما يلفت الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - النظرَ إليه بقوله: "أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة" (¬5). ويؤكّد هذا المعنى ما ترجم به البخاري لأحد أبوابه في الصحيح من قوله: "باب الدين يسر" (¬6)، وما ذكره غير مرّة الإمام مالك في موطئه عند تنويهه بهذا الوصف الكريم: "ودين الله يسر" وذلك بعد استخلاصه لهذه الحقيقة من استقراء الشريعة (¬7). وعقب الإمام الأكبر على هذه النصوص ببيان المزية الكبرى ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 25. (¬2) حديث جابر: 34 كتاب البيوع، 16 باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع. خَ: 3/ 9. (¬3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 27. (¬4) البقرة: 185. (¬5) خَ: إيمان 29؛ تَ: المناقب: 32، 64؛ حَم: 1/ 236. (¬6) رواه ابن أبي شيبة والبخاري في الأب المفرد، وأخرجه في الصحيح تعليقاً في كتاب الإيمان، 29 باب الدين يسر. خَ: 1/ 15. (¬7) من ذلك ما أخرجه من حديث عائشة في 47 كتاب حُسن الخُلق، 1 باب ما جاء في حُسن الخلق. طَ: 2/ 902 - 903.

الحرية

للسماحة وما يحصل من جفاء وبعد عن الهدي عند الاتِّسام بما يضادها بقوله: "إن للسماحة أثراً في سرعة انتشار الشريعة وطول دوامها، إذ أرانا التاريخ أن سرعة امتثال الأمم للشرائع ودوامَهم على اتباعها كان على مقدار اقتراب الأديان من السماحة. فإذا بلغ بعض الأديان من الشدّة حداً متجاوزاً لأصل السماحة لحِق أتباعَه العنتُ ولم يلبثوا أن ينصرفوا عنه أو يفرّطوا في معظمه" (¬1). ولاعتبار السماحة أولَ أوصاف الشريعة وأكبرَ مقاصدها، يُرفع بها العنت والحرج عن الفرد والجماعة. وذلك حين يعرض لهم من العوارض الزمنية أو الحالية ما تصير به التكاليف مشتملة على شدّة عليهم، يأذن الرحمن في الرخصة فيها تخفيفاً على المكلفين، وحفظاً للإسلام على استدامَة وصف السماحة للأحكام (¬2). الحرية: وأما الحرية فلها أيضاً مقامها الأعلى في تصرّفات الناس وتقرير أحوالهم والرقي بهم. وهي كما صورها الإمام الأكبر خاطر غريزي في النفوس البشرية، فبها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل. وبها تنطق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيداً يُرفع به عن صاحبها ضُرٌّ ثابت أو يُجلب به نفعٌ، حيث لا يقبل رضا المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع. وذلك حين يكون لغيره معه حظ في ذلك، أو يكون في عقله اختلال يبعثه على التهاون بضرِّ نفسه وضياع منفعتها (¬3). وبقدرِ ما يحرك هذا الخطاب إلى الاستمتاع بقدرٍ فائق من ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 27. (¬2) المرجع السابق: 27. (¬3) المرجع السابق: 163.

الحرية، نجد كلاماً آخر يختلف عن هذا، غير مناقض له لافتراق الجهة. وهو الذي يقول فيه الشيخ ابن عاشور: "الحرية من الفطرة. وهي مما نشأ عليه البشر، وبها تصرّفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت المزاحمة، فحدث التحجير" (¬1). وهذا المعنى هو الذي ردّده المحدثون في هذا العصر بقولهم: حرية المرء ليست مطلقة ولكنها تقف بل تنتهي عند وجود حق للغير ليس لها أن تتجاوزه. وتحت عنوان الحرية المنشودة، يذكر المؤلف أصناف الحرية وأنواعها، مفصلاً ومقارناً. فيتحدث عن حرية الاعتقاد قائلاً: "هي أوسع الحريات دائرة، لأن صاحب الاعتقاد مطلق التفكير فيما يعتقده ... وأمرها مختلف بين المسلم وغير المسلم. فهي عند الأول محدودة له بما جاء به الدين ممّا تتكوّن جامعة المسلمين بالاتفاق على أصوله. ولا تقبل من المسلم ردّة، لأنّ المرتدَّ خارج من الملّة ناقض للعهد. وهي عند المسلم فيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة ثابتة فله الخِيرَة من أمره. وحرية الاعتقاد عند غير المسلم من أصحاب الملل الخاضعين إلى حكومة الإسلام دلّت نصوص القرآن والسُّنة على أنهم يُدعون إلى الدخول في الإسلام، فإن لم يقبلوا دُعوا إلى الدخول تحت حكم المسلمين، فيصيرون من أهل الذمة. وكذلك أهل الصلح والعهد يبقون على أصل الحرية في البقاء على ما هم عليه من الملل، لأنهم لم يلتزموا للإسلام بشيء من عقائده (¬2). ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 162. (¬2) المرجع السابق: 172 - 173.

ويتحدث المؤلف عن حرية الفكر مما يشمل التفكير في الآراء العلمية، والتفقه في الشريعة، والتدبير السياسي، وشؤون الحياة العادية. وهذا النوع من الحرية لا يكاد يستقل بنفسه لارتباطه الوثيق بالقول أو العمل. وهو لا يرى في هذا تحجيراً، إذ يتعذّر كَبتُ الفكر عن الحرّية في المعقولات والتصوّرات والتصديقات. وأعلى مراتب هذه الحرية حرية العلم، أي فهم قواعد العلم المدوّنة. وعلى هذا الوضع من إطلاق الرأي والنظر في العلم في دائرة الأصول الإسلامية نشأ المجتمع الإسلامي في القرنين الأولين، فلم يُرح أحد عن رأي أو نِحلة، ولكنّه إن أخطأ أحد يُبين له خطؤه أو تقصيره بالتي هي أحسن، نصيحة له وتهذيباً، إلا إذا تبيّن منه قصد التضليل. وما حدث في التاريخ بين أهل النحل من نزاع وهرج إن هو إلا انحراف عن الجادة ناشىء في الأخلاق وظاهر في التعصّب، وفي الإفراط في التعصّب: وأكثره لا يخلو من إغراء الدعاة وأهل المطامع (¬1). وحرّية القول تقوم أساساً على الصدق في الأخبار. "فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون عند الله صدِّيقاً. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" (¬2). وأعظم مظاهر حرية القول في الإسلام حرية القول في تغيير المنكر. وحرية العمل أصل أصيل في الإنسان، ومقصد مهم من أصول النظام الذي وضعه الشارع للمجتمع الإسلامي، تدل على ذلك ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 174 - 175. (¬2) المرجع السابق: 175 - 177.

الوازع

شواهد الفطرة (¬1). وما عداه مما لم يحدّد منعه في الشريعة الإسلامية من التصرّف فهو على الإباحة الأصلية، بشرط ألا يحصل من العمل الذي يقوم به المرء إضرار بالغير. والإنسان في تصرّفاته مختار تحمله على الخير تقواه، وينزع به إلى الشر فجوره. وقد هداه الله النجدين، فأمر ونهى، وجعل له من روحه الديني وازعاً يقيه التردّي في الغواية، والوقوع في الضلالة والمهالك ... وإنها لحرب دائرة بين دواعي النفس إذا اعتادتها العاهات الباطنية، وعاودتها العوارض وتقلص ما هي عليه من التعاليم الصالحة والتسلل مما طبعت عليه رويداً رويداً، ويتجلّى ما يكون فيها من صراع بين حالتها السابقة الموروثة، وحالتها الملقّنة المبثوثة (¬2). الوازع: ولا يجدي مع هذه الحال إصلاح يقوم به العلماء والصالحون والدعاة والمجاهدون. ومن أجل ذلك احتاج الإصلاح إلى ما يشبه الحارس يذبّ عن النفس ما يتسرّب إليها من دواعي نقض الإصلاح، إلى دواعي الفساد (¬3). والذي يحتاج إلى تعهد الغراسة ودوام الحراسة إنما هو الأعمال (¬4). وتتم الحراسة عن طريق إيجاد الوزاع يزعها عن الانحراف عما اكتسبه من الصلاح حتى يصير تعلّقها بذلك دائماً (¬5). وإذا قامت النفس اللّوامة بمحاسبة صاحبها على ما خالطه أو كان له عاملاً من عوامل خيبته وخسرانه، فليجعل الإيمان عدته، وخشية ربِّه سبيله، وحُبّهُ وحبَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - طريقاً إلى انتصاره. ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 167 - 177. (¬2) المرجع السابق: 80. (¬3) المرجع السابق: 81. (¬4) المرجع السابق: 82. (¬5) المرجع السابق: 82.

الإسلام حقائق لا أوهام

وأما الجانب الرابع، وهو المتعلق بالمسائل العلمية من فلسفية، وكلامية، واجتماعية، وسياسية، فإنا نساير فيه المؤلف في أثناء كتابه لنقف على ما يريد كشفه لنا من حقائق تتعلق: أولاً: بوصف الإسلام بكونه حقائق لا أوهاماً. ثانياً: بقضية ترتّب الثواب والعقاب على الأعمال. وقد ظهرت بسببه مذاهب عقدية مختلفة ثلاثة هي: الجبر والاختيار والتوسط. وثالثاً: بقدرة الإسلام على إقامة أصول النظام الاجتماعي. ورابعاً: بإيجاد الجامعة الإسلامية، وإقامة وحدة الإمة على أساس الأخوة الدينية القائمة بين المؤمنين. الإسلام حقائق لا أوهام: أما القضيّة الفلسفية العميقة التي بحثها المؤلف لإثبات كون الإسلام حقائق لا أوهاماً، وأن أهمية ذلك تظهر في تصوّر العقيدة والشريعة الإسلامية على الوجه الصحيح الذي تتميزان به، فقد وضعها بين تعريفه للسماحة وبين الفصل الذي عقده لبيان عمل الإسلام في إقامة أصول النظام. وشعوراً منه بأهميَّة صفة العقيدة والتشريع في الإسلام، وكون هذا الموضوع رغم أبعاده مغفولاً عنه غيرَ معتنى به، قام بتفصيل القول بما يرغّب في التطلّع إلى معرفته، والحرص على جني فوائده. فافتتح الإمام الأكبر دراسته لهذا الموضوع بقوله: "أي غرض أسمى وأسنى من غرضنا هذا الذي سنشرح فيه صفة عظمى من صفات الإسلام، منها تفننت أفنانه، وعليها التقت أواشجه، وبها تجلَّى التمايز بينه وبين غيره من الشرائع، وبإنشاء المتدينين بهذا الدين على مخامرة هذه الصفة عقولهم كانوا أهلاً للنهوض بأعباء الأمانة

الحقائق

التي وُكلت إليهم. وهي إقامة إصلاح التفكير وإعلان الحق بين الناس" (¬1). ثم حدّد في لغة أرسطية دقيقة، بقدر ما هي مغلقة إلا على من خالط علم المنطق القديم بعض المخالطة، فانتصب معرفاً بكلمات ذات دلالة ووزن في التفريق بين معانيها اللغوية والاصطلاحية. وهذه الكلمات التي نحتاج إلى فهمها ومعرفة معانيها هي الحقائق والاعتبارات والأوهام والتخيّلات. الحقائق: فالحقائق جمع حقيقة. وهي عبارة عن الماهية الثابتة في نفس الأمر. وإن فرّق العلماء بين الحقيقة والماهية، واعتبروا الثانية أعمَّ من الأولى. أما حقيقة الشيء التي قال فيها القدامى: هي ما يكون به الشيء هو هو. فقد حاول الشيخ ابن عاشور أن يضع لها حداً جامعاً مانعاً، فقال: "حقيقة الشيء هي مفهومٌ كلّيٌّ مركب من معقولات ملازمة، أي جواهر أو أعراض أو كليهما، غير مفارقة لجزئيات الكلّي، تتقوّم من مجموعها صورة متعقّلة متميّزة عن غيرها، تدعى حقيقة وكنهاً" (¬2). ثم أتبع ذلك بشرح هذا الحدّ وبيانه. وتطبيقاً لهذا التعريف ذكر المجالات والصور التي يقال فيها حقائق. وهي ما دعا القرآن والسُّنة الأمةَ إليه من التعاليم بأسمائها ومعانيها المرادة له والموجودة في نفس الأمر والواقع، وحدّث بها ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 28. (¬2) المرجع السابق: 28.

الاعتبارات

أرباب العقول من حقائق العقائد الإسلامية وشرائع الإسلام وقوانينه يطبّقونها على الخارج فيجدونها مطابقة للواقع. الاعتبارات: والاعتبارات هي المعاني التي يلمحها المعتبر، ويكون لها وجود في ذهنه، لما لها من تعلّق بالحقائق، ولكن وجودهَا تابع لوجود الحقيقة أو الحقيقتين، ومثال ذلك الأمور النسبية كالزمان والمحل، والإضافات كالأبوة. وهنا لا بد أن نذكّر بأن وجود الاعتبارات أضعفُ من وجود الحقائق الثابتة في ذاتها، فهي لا ترقى إليها. الوهميات: والوهميات هي المعاني التي يخترعها الوهم من نفسه دون أن تصل إليه عن شيء متحقق في الخارج. ومثال ذلك تصورُ أن في الميت معنى يوجب النفور منه، والخوفُ عند القرب منه والخلوةِ معه. والملاحظ أن الوهم مركب من الفعل والانفعال، لأن الذهن حين تلبّسه به فاعلٌ ومنفعلٌ، فيخترع المعنى الوهمي ثم يدركه. والفعل فيه الواهم أقوى من الانفعال. وفرق بين الوهم والعقل. فالوهم أوسع من العقل في تصوّراته ومخترعاته وتخيّلاته، ولكنه أضيق من العقل في الإذعان لما ليس من مألوفه. التخيّلات: والتخيّلات مرتبة أخرى في التصوّرات. فهي المعاني التي تخترعها قوة الخيال بمعونة الوهم. وتتركب من عدة معان محبوسة محتفظ بها في الذهن. والخيال قوة ذهنية بها تحفظ صور

المحبوسات بعد غيبة ذواتها. والقوة الخيالية منبع الفكر إذا استعملتها النفس بواسطة القوّة العقلية، أو بتعاون بين القوّة العقلية والوهمية. وعلى أساس ما سبق إيضاحه وبيانه تختلف المدركات الأربعة، وتنقسم الشرائع إلى أديان إلهية عمودها الحقيقة والاعتبار. وما عدا الإسلام من الأديان اشتمل على قضايا وأحكام وهمية. وقوام الأديان المخترعة الوهم والتخيّل. وقد نفى الإسلام الوهم ونبذه، ودعا إلى وجوب الأخذ بالحقيقة الواضحة في الاعتقادات الإسلامية والعبادات وفي المعاملات، وإلى الاعتداد بالحقائق في المعارف والمدارك الشرعية والعقلية. واعتمدت الشريعة الأمور الاعتبارية فيما لا يصل الإدراك منها إلى الحقيقة مع اليقين بتحقّق حقائقها. وذلك كمعاملات المرء فيما بينه وبين ربه، ومثل الحقائق التي لا ثبوت لها إلا في الذهن، وتصير الشريعة فيها إلى الاعتبار نحو النية وحُسن الظن بالمؤمن. ويضيف الشيخ ابن عاشور قائلاً: "إن طرق الدعوة في الشريعة قد تأتي بواسطة طريق وهمي أو تخيّلي يطلب به تحصيل عمل أو علم حقيقي أو اعتباري، إذا كان لإثارة الوهم نفع في تحصيل المطلوب. لكنه يؤكّد على أن الفرق شاسع بين جعل الوهم والتخيّل طريقاً لتحصيل عمل أو علم وبين جعلهما أمراً يقصد تحصيله. ويختم رحمه الله تفصيله لمسائل المدركات الأربعة بدفع إيراد يدّعي أن نفي الوهم ليس عن جميع قضايا الدين الإسلامي، ومثاله كأسباب الوضوء والغسل وتقبيل الحجر ونحوه. ويجيب عن ذلك بأن نفي مراعاة الأوهام في الشريعة الإسلامية هو نفي أن تكون الأوهام

متعلقات الأعمال

في أصول العقيدة التي هي القاعدة الأولى من قواعد الإسلام. ونفي أن تُبنى عزائمه من واجباته ومحرماته على مراعاة الأوهام، مقراً بأن هناك مجالاً آخر لمجاراة الوهم، وهو كل مجال فيه حقائق خفية يتعين استحضارها، ولا وسيلةَ إلى ذلك إلا بضرب من التوهم" (¬1). والقضية الكلامية التي أردنا أن نشير إليها في كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام أدرجها المؤلف في فصل إصلاح العمل، أثناء تفصيله القول في الإيمان والاستقامة. متعلقات الأعمال: وقد جعل الإمام أعمال العاملين جارية على حسب معتقداتهم وأفكارهم. ونبّه إلى أن أهل الأديان في غابر الزمان أخطؤوا معرفة حقيقة مصدر الأعمال. فذهبوا مذاهب كثيرة في مسألة ترتيب الثواب والعقاب على حال أهل الدين في امتثالهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه. وسرى هذا إلى المسلمين من بعد، وفشا الخطأ في هذه القضية لشبهتين: إحداهما عقلية، وهي محاولة تحكيم العقل في تعلّق إرادة الله بإيجاد الأشياء وأحوال الأشياء. والشبهة الثانية نقلية تتمثل في تلقّي النصوص الواردة في الكتب المقدّسة الدالة على عموم قدرة الله، وإرادته وعمله، والنظر فيها نظرة حمقاء. وهكذا اختلف إثر ذلك أهلُ الملل، في قضية أعمال البشر والجزاء عليها، اختلافاً مَرجعه اختلاف ثلاثة مبادىء: أولاً: مبدأ الجبر الذي قال به من جعلوا أعمال العباد كلَّها مخلوقة لله وبقضائه، وأن الإنسان مجبور عليها. فأبطلوا أدلة الثواب ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 28 - 40.

والعقاب، جاعلين الثواب فضلاً من الله. وينسب هذا المذهب إلى جهم بن صفوان. وقد سبقه إلى القول بهذا من الفلاسفة سقراط القائل بالقضاء والقدر. ثانياً: مبدأ الاختيار المحض. وهو مبدأ مَن نَفَوا القضاءَ والقدر، وجعلوا أفعال العباد مخلوقة لهم، وليس لله عليها قدرةٌ ولا له قضاء وقدر، منزّهين بهذا القول الخالقَ جل جلاله عن تقدير الفساد، وعن إقراره مع علمه به. وهؤلاء هم القدرية وهم أول من تكلّم في طلب تحقيق معنى القدر بعد أن نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البحث فيه. وذهب بعض المتكلمين من بعدهم إلى أن هؤلاء لم يكونوا يثبتون لله عموم العلم. ومن ثمَّ أغلظ سلفُ الأمة الإنكار عليهم. وقالوا عنهم: هم مجوس هذه الأمة. والداعي إلى هذه النحلة هو معبد الجهني ثم غيلان الدمشقي. وهؤلاء أعملوا أدلة الثواب والعقاب ونفوا العلم بالجزئيات عن الله. وكانت هذه النحلة قديمة قائمة من عهد اليونان نادى بها من قبل أبيقور. ثالثاً: مبدأ التوسّط بين الجبرية والقدَرية، والجمع بين الأدلة، وتنزيل كل في موضعه. وهذا قول جمهرة علماء الإسلام. وخلاصة هذه الاتجاهات، التي اخترقت جموع المسلمين، ما انتهوا إليه من أن الله خلق الأفعال كلها من خير وشر، وجعلوا للعبد استطاعة اختيار بعض تلك الأفعال دون بعض. فتلك القدرة تصلح للكسب فقط. فالله خالق غير مكتسب، والعبد مكتسب غير خالق. وجعلوا الجزاء منوطاً بذلك الاكتساب. ولذلك أثبتوا الفرق بين حركة المرتعش وحركة المتناول. وهذه طريقة الأشعري، وقريب منها قول الجبائي.

وبعد التحليل لهذين المذهبين: الأشعري والمعتزلي، يقول الإمام الأكبر: وقد أشار الإسلام إلى إبطال الجبر بقوله رداً على المشركين: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (¬1). وأبطل الاستقلال بخلق الأفعال بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2)، وقال عزّ وجل: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬3). ومن هنا يتبين لنا أن الحق وسط بين هاتين المقالتين المذمومتين. ويمضي الشيخ ابن عاشور قائلاً: ونحن إذا رجعنا إلى تحكيم الفطرة العقلية وجدنا من أنفسنا استطاعة بها نفعل وندع، ووجدنا الواحد منا يهُمّ بالأمر ثم يعدل عن فعله، ويهم بالأمر ويفعله، ويشرع في الأمر فيعظه الواعظ وينهاه الحكيم، فيكف عنه، ويرى أن كفّه إجابة للموعظة. والاعتقاد الذي ينتهي إليه الإمام هو قوله: الصحيح أن لنا كسباً واستطاعة بهما نجد الميل إلى الفعل أو الانكفاف عنه، وأن وراءنا تيسيراً بالتوفيق أو بالخذلان تخفّ به الأفعال الصالحة على النفس تارة، وتثقل أخرى. فذلك هو أثر إرادة الله فينا. وهذا الفكر يروض أصحابه على الاعتداد بمقدرتهم ويعلمهم الافتقار إلى الله في طلب التوفيق والعصمة من الخذلان (¬4). أما الوصف الذي اخترناه للتطرق إلى الواقع الاجتماعي الذي يتشكَّل بأشكال مختلفة فهو المساواة. وهو أصل عظيم من ¬

_ (¬1) الزخرف: 20 - 21. (¬2) القصص: 56. (¬3) غافر: 33. (¬4) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 64 - 67.

المساواة

أصول نظام الاجتماع الإسلامي. وللمساواة طرفان: أولهما له تعلق بالعقيدة. من الواجب على المسلمين التخلّق به وترويض النفس عليه حتى يكونا خلقاً لهم ينساقون إليه انسياقاً اختيارياً جميلاً. والطرف الثاني له علاقة بالتشريع يتحتم على المسلمين المصير إليه وإلى فروعه في أنواع المعاملات. المساواة: والمساواة التي سعت إليها الشريعة الإسلامية، كما قال الشيخ ابن عاشور، مساواة مقيدة بأحوال يجري فيها التساوي، وليست مطلقة في جميع الأحوال، لأن أصل خلقة البشر جاءت على التفاوت في المواهب والأخلاق. وذلك التفاوت يؤثّر تمايزاً بين أصحابه متقارباً أو متباعداً في آثار تلك الصفات، بترقّب المنافع منهم وتوقّع المضارّ. فيفضي ذلك لا محالة إلى تفاوت معاملة الناس بعضهم بمراتب الإكرام ومراتب ضدّه ... وقاعدة المساواة في الطرف الثاني أكثر اطِّراداً منها في الطرف الأول. والشريعة الإسلامية لم تعتبر في إقامة المساواة إلا انتفاء الموانع (¬1). وموانع المساواة هي العوارض التي إذا تحققت تقتضي إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء، أو لظهور مفسدة عند إجراء المساواة. وتتنوع هذه الموانع بين جبلية وشرعية واجتماعية وسياسية. فالجبلية تمنع مساواة المرأة للرجل فيما لا تستطيع أن تساويه ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 43 - 44.

حكومة الأمة

فيه بموجب الخلقة. ولهذا أمثلة وصور كثيرة. وتكون الموانع الجبلية موانع مساواة في تلقي الشريعة أو في العبادة أو في التقرب إلى الله. والموانع الشرعية هي ما كان تأثيرها بحسب التشريع. فالشريعة هي القدوة في تحديد هذه الموانع وعللها. وطريق معرفة هذه الأصول المانعة من إجراء المساواة: إمّا القواعد والضوابط الشرعية، وإمّا طريق تتبّع الجزئيات المنتشرة في الشريعة، وإمّا اعتبار صنوف أصول الحضارة البشرية، فيكون قاضياً بالتردّي في الاختلال والفوضى. وأكثر الموانع الاجتماعية مبني على ما فيه الصلاح للمجتمع، وفي هذا رجوع إلى المعاني المعقولة. والموانع السياسية هي الأحوال التي تقتضي إبطال حكم المساواة بين أصناف وأشخاص، أو في أحوال خاصة، لمصلحة من مصالح حكومة الأمة (¬1). حكومة الأمة: أما الموضوع السياسي فلن ألفت النظر فيه إلى أكثر مما وردت به النصوص وقامت عليه البراهين والشواهد. فإقامة الحكومة للأمة الإسلامية أمر ضروري إذ لا يستقيم حال الأمة بدون حكومة. ولا شك في كون الحكومة الإسلامية حكومة ديمقراطية خاصة، وأنها تستند إلى التشريع الإلهي، وتستمد نظمها من الشرع الإسلامي. وولِيُّ الأمر فيها مسند له أن يتصرف بما يراه مصلحة للأمة، وحفظاً للدين، ودفاعاً عن الحوزة. وله أن يستشير ويستعين بمن يختارهم من ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 143 - 159.

ذوي الكفاءة عندما يعرض له ما لا يتَّضِح له وجه الحق فيه. ويمضي شيخنا في الحديث عن سياسة الحكومة الإسلامية مبيناً أن ما تقتضيه السياسة يجري في مجالين: الأول: مجال إجراء المصالح الضرورية والحاجية ودرء المفاسد. وقد مثل لذلك بالتجنيد وتأمين السبل ونصب المحاكم والشرطة ونحو ذلك من الهيئات التي تقوم بها المصالح العامة وتدرأ بها المفاسد. والمجال الثاني للسياسة الإسلامية لا يجري إلا في مجال إجراء المصالح التكميلية والتحسينية في المصالح العامة كنشر العلم، ووعظ الناس، وتثقيف العقول بالتربية الكاملة، وإيجاد الملاجىء، والمطابخ الرفيقة، والمنتزهات، ومواضع الاستجمام والإسعافات العدلية والصحية (¬1). ومن يلمس سريان الروح الديني في مختلف فصول هذا الكتاب من بدايته إلى نهايته، يدرك حقائق الإسلام وظواهره، حُكمَه وتوجيهاته، رحمتَه وإصلاحَه للفرد وللجماعة، رقياً بالإنسان وتزكية له، وصعوداً به في معارج النبل والكمال الإنساني. فتحسن عاقبته دنيا وأخرى. والتفاتة صغيرة إلى فلسفة الإمام الأكبر وحكمته، ترينا في وضوح ما ألمعنا إليه قبل من أن للشارع مقاصد من تشريعاته منها ما يرتبط بنصوص الأحكام، ومنها ما له علاقة بالمخاطبين بتلك النصوص المكلفين بتنفيذها. فالاتجاه المقصدي بارز في تشريعات الإسلام العامة الشاملة كما هو الشأن في أصول نظام الاجتماع الإسلامي التي عالج بها المؤلف أحوال الأفراد وأحوال الأمة جمعاء ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 223.

أبرز مقاصد الشريعة المعتمد عليها في إقامة أصول النظام الاجتماعي في الإسلام

بما ذكره من آيات، وعرضه من أحاديث، وبيّنه من سير وأخبار من ناحية، وبما أوضحه من كليّات أساسية، وأصول قطعية، ومقاصد شرعية تمثل بحق الاتجاه الديني والعلمي والفكري الذي التزم به الإمام وبرهن عليه. فكان ذلك رابطاً بين كتبه، وشاهداً لما يمثله من مدارك عقلية وخصائص علمية، أضاف بها مترجمنا لبنات إلى جدار البحث العلمي تدل على عمق نظره، وصحة استنتاجاته الفكرية والعلمية، وبخاصة في ميادين العلوم الشرعية، كما سنفصله بإذن الله عند تعريفنا بكتاب المقاصد. أبرز مقاصد الشريعة المعتمد عليها في إقامة أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: وقد كان التفاته إلى المقاصد الشرعية حجرَ الزواية في كل التصرّفات وما يصدر بها من أوامر ونواهٍ جعلها من الفطرة ونعتها بكونها من أشهر صفات الإسلام وأبرز مقاصده. - ودعوة التشريع الإسلامي إلى إقامة القضاء لتمييز الحق، وتعيين صاحبه، في جزئيات الحوادث بين الناس ومخاصماتهم مقصدان عامان أساسيان، متى كان القاضي معظِّماً للشريعة في نفسه، عدلاً، متّقياً الخروج عن أحكام الشريعة، ملحوظاً بعين الإجلال والحرمة فيهما لما يعرض عليه من القضايا، شجاعاً، ثابت الرأي، لا تأخذه في الحق لومة لائم (¬1). - والشريعة، كما فصّل العلي القدير أحكامَها، إنما كان القصد من تشريعها ودعوة المكلفين إلى الأخذ بها، الامتثالَ لأحكام الدين. ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 190.

وقد ذكر ذلك المؤلف في مقاصده حين قال: إذا رخص الإسلام وسهل فقد جاء على الظاهر من سماحته، وإذا شدّد أو نسخ حكماً من إباحة إلى تحريم أو نحو ذلك فلرعي مصالح الأمة والتدرج بها إلى مدارج الإصلاح والرفق. وعلى هذا الأساس يكون القصد من مخاطبة الأمة بالشريعة امتثالَهم لها، وأن يكون عملهُم بها كاملة. وهذا المقصد لا يناسبه وضع الشريعة للاستدلال بالنسبة لعموم الأمة، لأن الطريق الذي سلكوه بعد إيمانهم إنما هو طريق التسليم والامتثال (¬1). وبهذا يتحقق المطلب الأساس بعد الإيمان وهو الاستقامة. روى أبو عمرة الثقفي أنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً. قال: قل: آمنت بالله ثم استقم (¬2). - وضبط الأحكام الخمسة من حل وحرمة وندب وكراهة وإباحة للسلوك الذي يتعين على المؤمن الالتزام به في هذه الحياة. ومن أجل تحقيق مطلب الاستقامة الذي قضت به الشريعة وجعلته مقصداً من مقاصدها، يقول الشيخ الإمام الأكبر: إن للأحكام الخمسة آثارها من الأعمال. ولا يستقيم حال المسلم إلا بجميعها. وإنما تتفاوت مراتب الصلاح في الزيادة والنقصان مما يقبل الزيادة والنقصان منها. فالرجل الصالح ينقص من الأشياء المفضولة ليتفرغ بذلك النقص إلى التوفير من الأشياء الفاضلة، وغير الصالح بعكس حاله. ومرتبة الواجبات والمحرّمات لا تقبل زيادة ولا نقصاناً لأن النقصان من الواجبات والزيادة من المحرمات عصيان (¬3). ويثبت المرء على دينه ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 118 - 119. (¬2) ملا علي قاري. مرقاة المفاتيح: 1/ 261، 95. (¬3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 77.

فلا يستهويه انحراف ولا تغشاه ضلالة كلما تدبّر الأحكام الشرعية. فإن جميع تصرفات المؤمنين في تلقي دينهم تجري على اعتبار أحكام الشريعة معلّلة ومنوطة بحِكَمٍ. وهكذا فإنه لا يتصور أن ينقاد المسلم إلى أحد السبيلين إلا بما تفصح له به الشريعة من جلب للمصالح ودرء للمفاسد. وهذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية. وملاك الأمر في تقدير هذا النظر المقصدي المبرر للأعمال أو الصارف عنها، أن أصل نظام صلاح الأعمال النظرُ إلى المصلحة والمفسدة المطروحتين أو الغالبتين. وربما تعارضت المصالح فاقتضى الأمر الترجيح، وهو ما أثنى الله به على المؤمنين عند التقائهم بالمشركين في الحديبية، إذ قبلوا تأجيل العمرة إلى العام القابل، وأزالوا البسملة من الصحيفة، وغيّروا وصف الرسول بذكر اسمه، ترجيحاً لما في ذلك من مصلحة الأمن (¬1). ثم إن من الأعمال ما تجب فيه مراعاة حال غير العامل. وتلك هي المعاملات بين الناس التي حدّدها الرسول بإقامة العدل بينهم، وجعل القاعدة العامة لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). ومن المقاصد الشرعية التي ذكرها الإمام الأكبر في أصول نظام الاجتماع الإسلامي ما له ارتباط بسلوك الأمة كاملة: مثل تكثير سوادها، وإيجاد جامعة لها، وتأكيد الأخوة بين جميع أفرادها، وردع المرتدين عن الملة المفارقين لها، وحفظ الأمة وحمايتها مما يذهب بقوتها وعزتها ووحدتها. ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 136. (¬2) خرجه علي الندوي وذكره في القواعد العامة الفقهية. موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: 1/ 49.

أما تكثير سواد أتباع الإسلام، وهو غاية ومقصد، فهو من توابع مقاصد عموم الدعوة بقدر الإمكان، وصولاً إلى تعميم الدين وتسهيلِ سبيل الدخول فيه على راغبيه (¬1). والقصد من إيجاد الجامعة الإسلامية إقامة رابطة دينية مقدّسة تصغر أمامها الروابط كلها. وقد اتخذ القرآن سبيله إلى ذلك بدعوة أتباعه ليكونوا أمة واحدة، تجمعها وحدة الاعتقاد والتفكير والعمل الصالح (¬2). قال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (¬3). ومن أجل مساندة هذه الجامعة الدينية العقلية ودعمها وصف الله المؤمنين بهذا الدين بالأخوة فيه، أخوة روحية ليس للمادة حظ فيها. لذلك لم يرتِّبْ الإسلام عليها إلا الأحكام الروحانية القلبية من صدق الود، واعتبار التساوي، ومدّ يد المعونة، والمواساة ونحو ذلك. ولم يرتب عليها شيئاً من آثار الأحكام المادية. ولكنه جعل الأسباب المادية غير معتبرة وحدها حتى تنضم إليها الأخوة الإسلامية. ولذلك تقرر مثلاً حكمُ الإسلام أن لا يرث الكافر المؤمن ولا المسلم الكافر (¬4). وما كان الأئمة من أسلافنا يدعون إليه، من أجل حفظ الأمة في عقيدتها، من معاقبة المرتد فَلِنَقْضِه العهدَ الذي دخل به في الإسلام. ولكونه بمروقه عن الدين أصبح مثلاً سيِّئاً يجب على أمته أن تطهر نفسها من وجوده لكي لا ينفرط عقد الجامعة بالانسلال ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 112. (¬2) المرجع السابق: 108. (¬3) الشورى: 18. (¬4) حَم: 5/ 201، 202, 209.

عنه، ولئلا يتواهن الداخل في الإسلام بأن يدخله تجربة، فإن وافق أهواء أعماله استمر فيه وإلا انعزل عنه، ولئلا يوهم ضعاف العقول بانخزاله أنه جرّب الدين فوجده غير مرضي، ولئلا يكون الدخول في الدين من ذرائع التجسس على الأمة (¬1). وإقامة حكومة إسلامية للمسلمين أصل من أصول التشريع. وهو ما ثبت بالكتاب والسُّنة. ولذا كان عليها الاهتمام بالإصلاح العام في السياسة. وهذا الذي يقتضي من جهة مبادرة الدولة إلى إجراء المصالح المأمور بها لجلب ما يستطاع من النفع، ودفع ما يتوقّع من الضرر بجميع الأمة جماعة وأفراداً (¬2). ومن جهة ثانية الحفاظ على الأمة بصون نظامها ودعم سلطانها وجعلها مرهوبة الجانب محترمة منظوراً إليها في أعين الأمم الأخرى نظرة المهابة والوقار. قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} (¬3). وهذا القصد لا يتحقق إلا بالدفاع عن الحوزة، وهي حدود البلاد ونواحيها، وحماية البيضة وحفظ الأمة الإسلامية من اعتداء عدوها عليها، وحفظ الإسلام من أن ينتزع عدوّه منها قطعة، أو يتسرّب إليها (¬4). ويلخص هذه المعاني والمقاصد المختلفة قوله عز وجل {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} (¬5). فأصول النظام الاجتماعي للإسلام أتت متساوقة مع كل الفنون ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 171 - 172. (¬2) المرجع السابق: 231. (¬3) الحشر: 13. (¬4) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 215 - 216. (¬5) الأنفال: 26.

والموضوعات التي شغل بها الإمام الأكبر نفسه. وهكذا يكون تصوير الجانب الفكري من حياته محتاجاً هو في ذاته إلى أن تفرد أغراضه وعناصره بالبحث والدراسة كما هو الشأن عند رجال العلم لإبراز أسرار النظر ونتائج الفكر في تلك الآثار العلمية والأدبية القيمة التي صدرت عن الشيخ الإمام. هذه محاولة أرجو أن نكون وفقنا فيها لتصوير جوانب مفيدة من حياة الإمام الأكبر. والله من وراء القصد. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (تمّ الجزء الأول بحمد الله تعالى) * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بين علمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

بَيْنَ عِلْمَيِّ أصُوْل الْفِقْه ومَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ

طبعَة وزارةِ الْأَوْقَاف والشؤونِ الإسلاميَّة دوْلة قطَر عَلَى نَفَقَةِ حَضْرَة صَاحبِ السُّمُوِّ الشَّيْخ حمد بن خَليفَة آل ثَانِي أَمِير دولة قطر - حَفِظَهُ الله - حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة 1425 هـ - 2004 م

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمد لله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم حاولت مصاحبة الإمام الأكبر في رحلته المباركة، التي أنجز فيها للفقهاء، والمفكرين، وللناس عامة عملاً جليلاً، كان يتطلع إلى القيام به من بداية حياته العلمية. فحظيت من ذلك - بحمد الله - بعلم نافع، وتوجيه دقيق، وتنبيه رائع، حين أتيت على الكتاب كله، نظراً وتدبّراً وتحقيقاً. فقد كان حريصاً طوال حياته على تدوين ملاحظاته في مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلى الجمع المُتْقَن بين ذلك وبين علمي الفروع وأصول الفقه. وبلغ من ذلك أغلى الأماني لديه حين أتمَّ الله عليه هذه النعمة، فحمد ربه على ما أعطى، وشكر له ما هيأه به للاضطلاع بهذا المهم الذي تناساه فحول العلماء، وغفلوا عنه نحو ثمانية قرون. فلا يكادون يذكرونه، ولا يذكرون منه تفصيل نظرياته وقواعده وما اشتمل عليه من حِكم ومنافع، ولا ما يتحقق به للدارس، بعد بذل الجهد، من التعرّف والاهتداء إلى طريق تعيين المقاصد الشرعية، وما يضمّ إليها من أحكام الاستنباط. فيكون ذلك معواناً على البصر بآيات الله الحكيمة والحكمية، وأحاديثِ رسوله البيانية والتشريعية. وبهذا يسهل على العالِم والمجتهد التوصّل بفضل الله إلى بيان أحكامه في المستجدّات، وإلى سلوك أكمل طريق لضبط الأحكام الشرعية المناسبة، بالتزام الوحي

الإلهي مصدراً وحجة، وتحقيقِ ما يجلبه للمكلفين من مصالح، ويدرؤه عنهم من مفاسد، يشعرون معه بأن الشريعة عدلٌ كلُّها، وأنها القادرة بسماحتها ومرونتها على الجمع بين خيري الدنيا والآخرة لكل عبد منيب. وليس بدعاً من الأمر أن نجد الإمام الأكبر ينصرف في التوّ إلى معالجة قضية علمية لها ارتباط كبير بمناهج الدرس والمناظرة بين العلماء وفقهاء الملة. فيردّ على تلك الظاهرة الغالبة التي تَسِمُ علماءَ الدين بالخلاف والجدل، وبالنزاع في ما ليس له كبير أثر في التوصل إلى صميم العلم وعين الحقيقة، ويقرع المتخالفين منهم على عنادهم وإصرارهم على وجهات أنظارهم، "إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها، يذعن إليها المُكابر، ويهتدي بها المشبّه عليه. وينقطع بين الجميع الحجاج، ويرتفع عن أهل الجدل ما هم فيه من لجاج" (¬1). وقد كانوا يتصوّرون أن المخلَص لهم من ذلك هو علم أصول الفقه. وأنَّى له ذلك. وليس في علم أصول الفقه غُنْيةٌ لمتطلّب هذا الغرض؛ بل هو على العكس لم يكن منتهًى ينتهِي إلى حُكمه المختلفون في الفقه (¬2). وقد عسُر بل تعذَّر الرجوع بهم إلى وحدة الرأي أو ما يقرب منها. وسيأتي - بإذن الله - حلَّ هذا المشكل بتدبّره وتفصيل القول فيه على نحو ما سار عليه شيخنا في طريقته التي اختارها لذلك إصلاحاً لعلم أصول الفقه، ودعوةً إلى دراسة المقاصد الشرعية دراسة مستوفاة، تجمع بين قطعية الأدلة والاعتداد بالمصالح. وهذا البحث الذي وضعناه تعريفاً بكتاب مقاصد الشريعة الإسلامية، الذي أتممنا - بفضل الله - تحقيقه، وحاولنا مسايرة ما عَنَّ للمؤلف طرحه من موضوعات فيه، أو كشَف عنه من حقائق، أو جمَعه من القواعد والمقاصد. ¬

_ (¬1) المقاصد: 6. (¬2) المقاصد: 6 - 8.

وقد وقفنا قليلاً عند ما أورده من ألفاظ لها دلالاتها، اختلطت في أذهان الناس عند استعمالها. فكان من الخير تفصيل القول فيها، وبيان حقيقة الخلاف والاختلاف والمخالفة، مع الإشارة إلى تفاوتها في الدلالة على نحو ما شهد به القرآن في كثير من آياته، وفسّرها به العلماء واللغويون. ويقتضي الأمر أحياناً إلحاق كلمات أخرى قرآنية بما أوردناه هي الأشباه والجدل والمجادلة، لكونها تحمل الدارس على تحديد معانيها، فراراً من اللبس الذي يعرض بسببها، ودفعاً للإشكال الذي قد يحصل منها. فإذا استوى الأمر وتبيّنت المصطلحات في جميع مسارات القول حسبما ألمعنا إليه، انتقلنا بدون شكٍّ إلى تمييز موضوعات الكتاب من علوم الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة متّبعين نفس المنهج الذي سلكه الإمام الأكبر. وإنما قَصَدنا إلى ذلك لكون تلك العلوم قد تبدو لنا أحياناً متقاربة، وأخرى متباعدة، لاشتراكها في الغرض العام الذي هو الشريعة، وتفاوتها فيما انتصبت لإقامته من غايات. وهي خصائص تلك العلوم الثلاثة المتمايزة فيما بينها. فإذا قضينا هذا الوطر، بحثنا موضوعين لهما أهميتهما الكبرى في مجالات التشريع واستنباط الأحكام؛ أولهما: قطعية أدلة علم أصول الفقه، وثانيهما: التعليل الذي هو طريق الاجتهاد والقياس، وسبيل حمل النظير على نظيره في الحكم عند الاتفاق في العلَّة أو الوصف المناسب أو المصلحة. ويتبع النظر في ذلك التفريقُ بين المعلّل والتعبّدي من الأحكام. وهو ما أخذ به العلماء على اختلاف بين مذاهبهم واتجاهاتهم كأهل السُّنة، والأشاعرة، والمعتزلة، والظاهرية. وقد يكون الخلاف أو التعارض فيما انتهوا إليه عند إرادة استنباط الأحكام وبيان مقاصدها

عند البعض، وتوقّفِ الآخرين من المتكلمين تحيُّزاً وعِناداً منهم، مثل قولهم بمراعاة الأصلح في أفعال الله، وبالحُسن والقبح العقليين. أو لاكتفاء الظاهرية والنظّام بما تفيده النصوص، وتدلُّ عليه، مع رفض التعليل والقياس رفضاً مطلقاً. ولعله من الخير أن نكتفي بهذه الإشارة إلى أهمّ موضوعات الباب الأول من هذه الرسالة. والكلام على سائرها يطول. وقد فرضنا أن تكون دراساتنا التي هي بمحلِّ المقدمة للمقاصد منقسمة إلى أبواب، وكل باب منها إلى فصول، منهين عملنا هذا بإيراد قائمة من القواعد والمقاصد التي استخرجناها من تأليف إمامنا مقاصد الشريعة الإسلامية، وذكرنا من ذلك ما نيطت به أحكام الشريعة، أو ضبطت له فروعاً ضَبطاً يدرجها في الإطار العام الذي يجعلها محكومة بأدلته، منبنية عليها، مستنبطة منها ومحققة لمقاصد التشريع الإسلامي بها. ونظرة واحدة بعد ذلك في فهرست هذا الجزء: بين علمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة، تشير إلى أهم القضايا التي بحثناها به، وأدق المسائل التي أدرجناها فيه، طلباً للإضاءة والتنوير في هذا العلم الذي نرجو أن نكون ببحثه وذكر تطوّراته، وبمسايرة ما صحّ عند العلماء الراسخين من القدامى والمحدثين إثباته، قد وصلنا إلى القيام بعمل نافع ندرك به ما تطلّعنا إليه عند إعداده، من الاستفادة والإفادة في خدمة علوم الشريعة الإسلامية فقهها وأصولها ومقاصدها. وعلى الله التكلان، ومنه نستمدّ العون، وهو ولي التوفيق، ومن وراء القصد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

التمهيد لمقاصد الشريعة

التمهيد لمقاصد الشريعة تضمَّن تمهيد الإمام الأكبر لكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية عدة عناصر منها: أولاً: الإشارة إلى الغرض من وضع هذا الكتاب: وهو إملاء مباحث جليلة من المقاصد، والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، والتنبيه على موضوعه الأساس، وهو خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب، والتذييل لهذه الإيماءات بتحديد مصطلحي التشريع والديانة عنده، فيما ورد له من ذلك أثناء عرضه لمباحث الكتاب (¬1). ثانياً: تقسيمه الكتاب إلى ثلاثة أقسام: تناول في القسم الأول منه: أ - إثبات مقاصد الشريعة، واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها، ومراتِبَها. ب - ذكر المقاصد العامة من التشريع. ج - ذكر المقاصد الخاصة بفقه المعاملات (¬2). وفي القسم الثاني من نفس هذه المقدمة تعرّض إلى موضوعات هامة، أراد من إدراجها فيه ترسيخَها في العقول والأفهام. وذلك لما تضمَّنته من مسائل وأحكام ونتائج، يُرجع إليها بالنظر، وتكون منطلقاً لحصر وتحديد المحاور الثلاثة التالية: ¬

_ (¬1) المقاصد: 5. (¬2) المقاصد: 30.

1 - ذكرُ الخلاف أو الاختلاف الحاصل بين علماء الشريعة من فقهاء وأصوليين. ونقدُ منهجهم في ذلك لِمَا أسرفوا فيه أحياناً كثيرة من النقاش والجدل (¬1). 2 - التفريق بين علمي الفقه والأصول من جهة، وبين علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة من جهة ثانية (¬2). 3 - التنبيه إلى ما اشتمل عليه علم أصول الفقه من قضايا لها علاقة بالمقاصد (¬3). ومن القضايا الأصولية التي ألمع إليها الشيخ ابن عاشور في هذا التمهيد، وكان فيها حديث طويل بين الأصوليين: القول بقطعية أصول الفقه. فقد عرض في ذلك للآراء المختلفة في وصفه بها، ونقد رأي القائلين بذلك، جاعلاً مقاصدَ الشريعة الثابتة بطرق يقينية أحرى منها بالوصف بالقطعية (¬4). وفي هذا التمهيد تنويه بالرواد الباحثين عن مقاصد الشريعة وأسرارها من فقهاء وأصوليين (¬5). ولعل مما يكون بياناً لتلك الإيماءات وشرحاً لما ورد فيها، قصراً لا حصراً، أن نقف عند طائفة منها تكميلاً لحديث الشيخ عنها، بل تذكيراً بما كان يريد أن يبعثه في نفوسنا من تصوّرات، ويشغل به عقولنا وألبابنا من قضايا علمية، تمس الفقهَ وأصولَه ومقاصدَ الشريعة الإسلامية جميعها. والله المستعان وعليه التكلان في تأمين المسالك لذلك، وتسديد خطى السير فيها. ¬

_ (¬1) المقاصد: 5، 6. (¬2) المقاصد: 6 - 9. (¬3) المقاصد: 10. (¬4) المقاصد: 23. (¬5) المقاصد: 27 - 29.

الباب الأول قضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

الباب الأول قضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة

الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة أشار التمهيد الموجَز لكتاب مقاصد الشريعة إلى أن العلوم الشرعية والإسلامية كثيرة ومتداخلة لاشتغالها جميعها بالقاسم المشترك الجامع بينها؛ وهو خدمة الدين والحق. ويقودنا التفريق بين هذه العلوم إلى الحديث عن الشرع والفقه وأصول الفقه وأصول الدين ومقاصد الشريعة. وهذه العلوم وإن بدت بينها مفارقات تميّز بين جميعها، غير أن عرضها على الوجه الذي اخترناه يجعلنا متابعين للاتجاه الذي رسمه الشيخ لنفسه عند الإيماء إليها والحديث عنها. والانطلاق في هذه البيانات يحصل من تعريف علوم الشريعة بكونها المتلقاة عن طريق الوحي. وتوقُّفُها على الشرع في صدورها يكون توقُّفَ وجودٍ كعلم الكلام أو توقُّفَ كمال كعلم العربية. والشرع والحكم والخطاب الإلهي كلها بمعنى. ويراد بها الوضع الإلهي الذي يسوق ذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات. وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم. والأحكام من حيث إنها تُطاع دِينٌ، ومن حيث إنها تُملى وتُكتب ملّةٌ، ومن حيث إنها مشروعة شرعٌ. والتفاوت بينها ليس بالذات ولكن بحسب الاعتبار. أراد الفقهاء من بيان الأحكام الشرعية، ومن الشريعة والشرع، كلَّ طريقة موضوعةٍ بوضع إلهي ثابت من نبي من الأنبياء. وتطلق

الفقه

بإزاء الفقه الذي وصفوه بكونه من علوم الدنيا، غير أنه كمصدره كثيراً ما يطلق على الأحكام الجزئية التي يتهذّب بها المُكلَّف دنيا ومعاداً، سواء كانت تلك الأحكام منصوصةً من قِبَل الشارع أو راجعةً إلى شرعه. فالشرع عند أهل السُّنة مُنشىءٌ للأحكام. وهو والفقه يتعلقان بالأحكام الفرعية. ومن ثم سُمّيا بعلم الشرائع والأحكام. وقد يُخص الشرع بالأحكام العملية الفرعية، وإليه يُشعر ما في شرح العقائد النسفية. وتكون الشريعة عبارة عن الائتمار بالتزام العبودية، أو هي الطريق في الدين (¬1). ويتعيّن في هذا المقام أن نذكر المفارقات بين الفقه وبين علمَي أصول الفقه ومقاصد الشريعة. الفقه: الفقه لغة: هو العلم بالشيء، والفهم له، والفطنة. واشتَهر به علمُ الدين لشرفه. وأُطلقَ بعدُ على ما يتناول الأحكام الدينيةَ جميعَها؛ من أحكام العقائد والأحكام العملية من علوم الشريعة التي ينبغي الوقوف عندها وهي: الفقه، وأصول الفقه، ومقاصد الشريعة. وأساس الفقه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلفين. ويشمل خطابُ الله الأحكامَ كلَّها كما يدرك ذلك من قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬2). وقد كان أول ما وُجد منه عبارة عن طائفة ¬

_ (¬1) التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون: 3/ 760؛ القنوجي. أبجد العلوم: 2/ 337 - 339. (¬2) سورة التوبة، الآية: 122.

من الأحكام والفتاوى صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما عُرِض عليه من قضايا، وما استُفتي فيه من مسائل، ثم ما صدر من مثل ذلك عن أصحابه - رضي الله عنهم -. وبرزت في الفقه مدرستان: مدرسة النقل، ومدرسة العقل. الأولى اشتهرت بمدرسة أهل الحديث، والثانية بمدرسة الرأي. وبالإضافة إلى ما بين المدرستين من اختلاف في الاتجاه لاحظنا ما شهِدَته كل مدرسة من تطوّر في السير بالفقه. فمِن آخذٍ بفقه السلَف المعتدّ به بين غالب المسلمين في عهده، أو متَمسِّكٍ بمذاهب الخَلَف من بعدهم، أو بالمدارس الاجتهادية التي أَصَّلَت للفقه قواعده، وبحثت قضاياه المختلفة من عبادية وغيرها، باعتبار ما اشتمل عليه المصدران: القرآنُ والسُّنة من تشاريع وأحكام. والفقه في كل ذلك عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية، المتعلقة بكيفية العمل، تصديقاً حاصلاً من الأدلة التفصيلية التي نصبها الشارع على تلك القضايا. وهي الأدلة الأربعة: الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس. وقال أبو حنيفة: الفقه معرفة الإنسان بالنفس ما لها وما عليها (¬1). وتنوَّعَ الفقه، في بعض أطواره، بحكم كونه علماً دينياً، إلى ثلاثة أنواع: فمنه الاعتقاديات التي يُبرزها علم الكلام، والوجدانيات التي يُمثلها علم الأخلاق والتصوّف، ومختلف المعاملات من عبادية تُعنى أوّلًا بعلاقة الإنسان بربه فيما يدين له به من الطاعة، وفي الاستجابة ¬

_ (¬1) صدر الشريعة. التوضيح على التنقيح. مع شرحه التلويح: 10 - 11.

لأوامره وترك نواهيه، وثانياً بضبط المرء علاقته بالمجتمع من حوله، وما يكون له في ذلك من تصرّفات يريد بها الإيمان والعدل والاستقامة. وهذا التنوّع فيما أحسب هو الذي دعا صاحب المقاصد إلى التمييز من أجله بين الديانة والشريعة في مجال الفقه. وعرّف الإمام الأكبر هذين المصطلحين، فالديانة تخصّ أحكامَ العبادات وما يتّصل بها من أسرار تتعلّق بسياسة النفس وإصلاح الفرد والجماعة. وقد فصّل القول في هذا في كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. وأما الشريعة فهي قانون الأمة وليست التفاتاً إلى مطلق الشيء المشروع كالمندوب والمكروه، فهما في اصطلاحه هذا غير مرادين (¬1). وعرَّف آخرون علم الفقه بقولهم: هو العلم بأحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة. وهي متلقاة من الكتاب والسنة، ومما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلّة (¬2). ويراد من الفقه عند الفقهاء معرفة باطن الشيء، والوصول إلى أعماقه. وهو نظام شامل يُنَظّم علاقات الإنسان بخالقه، أو العلاقات بين الأفراد والجماعات، أو علاقات الدول الإسلامية فيما بينها، أو فيما بينها وبين غيرها من الدول في السلم والحرب (¬3). وفي الاصطلاح: يطلق الفقه على العلم بالأحكام الشرعية ¬

_ (¬1) المقاصد: 29. (¬2) ابن خلدون: المقدمة: 416. (¬3) محمد مصطفى شلبي. المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي: 1/ 32.

العملية من أدلّتها التفصيليّة. وأركانه أربعة، لأن الأحكام الشرعية إما أن تتعلق بأمر الآخرة وهي العبادات، وإما بأمر الدنيا سواء أكانت متعلّقة ببقاء الشخص وهي المعاملات، أم ببقاء النوع باعتبار المنزلة وهي المناكحات، أم باعتبار بقاء المدنية، وهي العقوبات (¬1). وموضوع علم الفقه أعمال المكلَّفين، وقيل: موضوعه أعمُّ من ذلك. ومسائله الأحكام الشرعية العملية. وغرضه النجاة من عذاب النار. ومن ثمّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين" (¬2). وقد لخّص هذا صاحبُ مفتاح السعادة بقوله: الفقه هو علم يبحث في الأحكام الشرعية الفرعية العملية من حيث استنباطها من الأدلة التفصيلية، ومباديه أصول الفقه. وله استمداد من سائر العلوم الشرعية والعربية. وفائدته حصول العمل به على الوجه المشروع. والغرض منه تحصيل ملكة الاقتدار على الأعمال الشرعية (¬3). وبالرغم عن أهمية هذا العلم وشموله، وقطعيّة أدلته من الكتاب والسُّنة، فإنّه لا يفيد إلا الظن؛ لأنه وإن كان قطعيَّ الثبوت إلا أن أكثره ظنيُّ الدلالة. والغاية والغرض في العلوم العملية يحصلان بالظن، ولا يلزم فيهما اليقين. وبذلك صار هذا العلم محلاً للاجتهاد، وجاز الأخذ فيه بأيّ مذهبِ مجتهدٍ أراده المقلِّد (¬4). ¬

_ (¬1) التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون: 1/ 32. (¬2) خَ 1/ 25 - 26، 4/ 93، 8/ 149؛ مَ: 1/ 718 - 719، 2/ 1425. (¬3) طاش كبرى زاده. مفتاح السعادة: 2/ 173؛ القنوجي. أبجد العلوم: 2/ 401 - 402. (¬4) القنوجي: أبجد العلوم: 2/ 402.

علم أصول الفقه

علم أصول الفقه: يختلف علم أصول الفقه عن الفقه بما نرى من تفارُقٍ بينهما في التعريف والموضوع والاستمداد والغاية أو الثمرة. فهو مجموعة القواعد والطرق التي يُتوصَّلُ بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. ويطلق أصول الفقه على العلم المدوّن، المخصوص المتميّز بموضوع خاص ومحمولات خاصة (¬1). وقد نوّه الإسنوي بعلم أصول الفقه قائلاً: إن أصول الفقه علم عظُم نفعُه وقدْره، وعلا شرفهُ وفخرهُ، إذ هو مثار الأحكام الشرعية، ومثار الفتاوى الفرعية التي بها صلاح المكلفين معاشاً ومعاداً، ثم إنّه العمدة في الاجتهاد. وأهمُّ ما يتوقّف عليه من المراد، كما نصّ عليه العلماء، ووصفَه به الأئمة الفضلاء (¬2). فأصول الفقه في الاصطلاح هو على التفصيل: العلم بالقواعد التي يُتوَصَّل بها إلى الفقه على وجه التحقيق. والقواعد هي القضايا الكلية، والأدلة المبحوثُ عنها فيه راجعةٌ إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس. والاستدلال بالأدلة على الأحكام، وبيان طرقه وشروطه مما يتوصّل به إلى استنباط الأحكام من مصادرها. والقائم على ذلك إنما هو المجتهد، إذ الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلّة. وقال الإمام: إن علم أصول الفقه يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها (¬3). ¬

_ (¬1) الإسنوي: نهاية السول: 1/ 5 تع 2. (¬2) التمهيد: 39. (¬3) التحرير والتنوير: 1/ 26.

وقد أضاف إلى تعريف الفقه وأصوله: أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكَّن العارف بها من انتزاع الفروع منها أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ. ويمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع، فتُقاس فروع كثيرة على مورد اللفظ منها باعتقاد اشتمال تلك الفروع كلها على الوصف الذي اعتقدوا أنه مراد من لفظ الشارع، وهو الوصف المسمى بالعلة (¬1). وقصر علماء الأصول مباحثهم على ألفاظ الشريعة، وعلى المعاني التي أنبأت الألفاظ عنها، وهي علل الأحكام القياسية. وإلى جانب هذه المصطلحات، التي تعيد إلى المخالط لها ما كان بذهنه من الموضوعات الأصولية، يذكّر المؤلف بموردين هما الغاية من النظر في علم أصول الفقه: إما لاكتشاف بعض أسرار مسالك العلة، وإما للوقوف في أصول الفقه على مسائل لها تعلُّق بالمقاصد كعلل الأحكام القياسية (¬2). وموضوع أصول الفقه: الأدلة ومتعلّقاتها. ومنها الاستصحاب والاستحسان، والأحكام وما يتعلق بها كالحاكم والمحكوم عليه والمحكوم به. ولا بأس هنا أن نشير إلى ما وقع بين العلماء من اختلاف في المنهج والأسلوب المعتمَدَين في أصول الفقه. وقد لخّصها أصحاب هذا العلم في طرق ثلاث: الأولى: الطريقة التنظيرية، وهي طريقة المتكلّمين. وبها أخذت الشافعية والمالكية. ¬

_ (¬1) المقاصد: 8 - 9. (¬2) المقاصد: 10 - 13.

الثانية: الطريقة العملية، وهي التي تعتمد الفروع في التطبيق. وأكثر ما بدا هذا عند الحنفية. والثالثة: هي الطريقة الجامعة بين المنهجين السابقين (¬1). وقد عُنِيَ بهذا العلم متكلَّمون كالغزالي يرون فيما قدموه محاولةً عقلية بحتة تقوم على الاستدلال العقلي والبراهين النظرية في منهجهم. وكان اتجاه الشافعي، ومن نهج نهجه في الأصول، اتجاهَ العقل العلمي الذي لا يُعنَى بالجزئيات والفروع. فكان تفكيره تفكيرَ من ليس يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع، بل يُعنى بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول يجمعها. وذلك هو النظر الفلسفي (¬2). ولهذا قالوا في التعريف بهذا المنهج: إنه يقوم على تحقيق المسائل الأصولية تحقيقاً منطقياً، ويَعتمد في الحسم بين الآراء المختلفة على الاستدلال العقلي. ويتميّز هذا المذهب في الغالب بمجانبة التحيّز والتعصّب والتعقيد في الجدل. وقد حاول أصحابه التوصل إلى ضبط جملة من القواعد الأصولية يثبتونها، وإن خالفت الأصولَ التي دوّنها أئمتهم، كالقول بحجية الإجماع السكوتي. واشترك في الأخذ بهذا المذهب علماء الشافعية والمالكية والمتكلمون. ولم تقتصر أنظارهم على بحث قواعد استنباط الأحكام الفقهية بل تجاوزوها. فتكلموا عن عصمة الأنبياء قبل النبوّة، وعن التحسين والتقبيح العقليين، وعن بعض المباحث المنطقية والفلسفية (¬3). وأما الأصوليون من الحنفية فقد تميّزوا بتقرير القواعد الأصولية ¬

_ (¬1) د/ محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد: 66 - 90. (¬2) المرجع السابق: 66. (¬3) د/ بدران أبو العينين. أصول الفقه الإسلامي: 10.

علم مقاصد الشريعة

وتحقيقها، على ضوء ما نقلوه عن أئمتهم من الفروع الفقهية. فاستمداد أصول الفقه عندهم كان من الفروع والمسائل الفقهية. فإذا وجدوا قاعدة من القواعد لا تتسع لبعض الفروع المقرّرة في المذهب تصرّفوا فيها وعدّلوها على وجه تكون به شاملة لجميع الفروع (¬1). وتتمثل الطريقة الثالثة التي اعتمدها الأصوليون المتأخّرون في الجمع بين الطريقتين المتقدمتين. طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية. وهي تُعنى بتحقيق القواعد الأصولية وإقامة البراهين وربطها بها. جرى على هذا النهج الحنفية وطائفة من الشافعية. وعُدَّ من أتباع هذا المنهج الإمام أبو إسحاق الشاطبي بكتابه الموافقات (¬2). علم مقاصد الشريعة: أما علم مقاصد الشريعة فهو عبارة عن الوقوف على المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظَمِها. وتدخل في ذلك أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها. وكذلك ما يكون من معانٍ من الحكم لم تكن ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها (¬3). وجدير بنا هنا أن نشير إلى موقف الإمام الأكبر من العِلْمَين. ذلك الموقف المزدوج القائم على الدعوة لتجديد علم أصول الفقه من جهة، وعلى الموقف التأسيسي لعلم مقاصد الشريعة من جهة ثانية. وهذا هو علمُ أصولِ أصولِ الفقه. وتظهر دعوته إلى علم ¬

_ (¬1) د/ بدران أبو العينين. أصول الفقه الإسلامي: 17. (¬2) المرجع السابق: 18 - 20. (¬3) المقاصد: 165.

المقاصد جليّة في قوله: إن في معظم أصول الفقه اختلافاً بين علمائه. فنحن إذا أردنا أن ندوّن أصولاً قطعية للتفقّه في الدين حقٌّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونُعَيِّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم، ونسميه علم مقاصد الشريعة. ونترك علم أصول الفقه على حاله تُستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية، ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير منزوٍ تحت سرادق مقصدنا هذا، من تدوين مقاصد الشريعة فنجعل منه مبادىء لهذا العلم الجليل: علم مقاصد الشريعة (¬1). هذا وإن في بداية تمهيد الشيخ ابن عاشور لمقاصده إيماءً لما كان عليه علماء الأصول من الخلاف وذلك ما يدل عليه قوله: "قصدت إلى إملاء مباحث جليلة، والتمثيلِ لها، والاحتجاجِ بها لإثباتها، توصلاً إلى إقلال الاختلاف بين علماء الأمصار". وهكذا انتهى بنا النظر، بعد المقارنة بين علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة، إلى إيراد قضيتين مختلفتين: قضية قطعية أدلة علم الأصول، وقضية التعليل. وقد كان بحثه لهما وطريق الفصل فيهما قائماً على الواقعية في النظر التي يرغب الدارسون في توفرها بين قادة أهل العلم، بعيداً عن المسايرة العاطفية لبعض الشيوخ. وعلى ما يحصل مجاملة وتجاوباً من اللاحق للسابق من أهل الأقدار، واشتغناء بما يقع التنبيه عليه مما لم يُذكر في مكان آخر. ¬

_ (¬1) المقاصد: 22، 23.

الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية

الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها: يتحدّث الإمام الأكبر عن هذه القضيّة عند كلامه على إمام الحرمين عبد الملك الجويني وكتابه البرهان. ويُظنّ أن إمام الحرمين قد تأثّر فيما ذهب إليه بكلام أبي الحسين البصري. فكان الجويني من المتمسَّكين بقطعيّة أدلّة علم أصول الفقه، محتجّاً بأدلة كثيرة منها: "أن حظّ الأصولي إبانة القواطع في وجوب العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبيّن المدلول ويرتبط بالدليل". وعقّب الشيخ ابن عاشور على هذا الاعتذار بكونه اعتذاراً واهياً قائلاً: "إنا لم نرَهُمْ دوّنوا في أصول الفقه أصولاً قواطعَ يمكن توقيف المخالف عند جريه على خلاف مقتضاها كما فعلوا في أصول الدين، بل لم نجد القواطع إلا نادرة مثل ذكر الكلّيات الضرورية. وما عدا ذلك فمعظم أصول الفقه مظنون" (¬1). وتبع الإمامَ الجويني على رأيه الأبياري. وتصدّى ابن عاشور له، وأسقط دعواه التي يزعم فيها، نقلاً عن صاحب البرهان: أن مسائل الأصول قطعيّة، ولا يكفي فيها الظن، ومدركها قطعي، ولكنه ليس المسطورَ في الكتب، بل معنى قول العلماء إنها قطعيّة أن مَن ¬

_ (¬1) المقاصد: 18.

كثر استقراؤه واطلاعه على أقضية الصحابة ومناظراتِهم وفتاواهم وموارد النصوص الشرعيّة ومصادرها حصل له القطع بقواعد الأصول. ومتى قصر عن ذلك لا يحصل له إلا الظنّ. وهذا الجواب باطل، لأنّنا بصدد الحكم على مسائل علم أصول الفقه لا على ما يحصل لبعض علماء الشريعة (¬1). وأضاف صاحب المقاصد إلى النزاع في هذه القضية الخلافية بيانَ سبب اختلاف الأصوليين. فجعله الحيرة بين ما ألِفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعيّة كأصول الدين (¬2). والحقيقة التي نريد الانتهاء إلى تقريرها هي أن الأدلّة من علم أصول الفقه أمرُها معروف ومشهور عند طلاب العلم. فمجموع علماء الشريعة قائلون بحجية النصوص من القرآن والسُّنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً كتابَ الله وسُنَة نبيه" (¬3). ونصوص القرآن متواترة الرواية ظنيّة الدلالة، وكذلك نصوص السُّنة التي وإن كان أكثرها من خبر الآحاد. فقد جاء فيها عن الإمام أحمد قوله: لا يقدَّم عليها (على نصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) توهُّم إجماعٍ، مَضمونُه عدمُ العلم بالمخالف (¬4). فلا اجتهاد مع النصّ، ولا رأيَ لأحد بجانب كتاب الله وسُنة رسوله. والحجة في الكتاب والسُّنة، وعلى الأئمة ترك أقوالهم لها. ¬

_ (¬1) المقاصد: 20. (¬2) المقاصد: 22. (¬3) ورد الحديث بصيغ متقاربة. طَ: 2/ 899؛ جَهَ: 1/ 84، 1025؛ حَم: 3/ 26. (¬4) ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 60.

من أسباب ظنية علم الأصول

من أسباب ظنّية علم الأصول: أ - الأحوال العارضة للنصوص: إذا جاء النصّ وكان دالاً على الحكم وظاهراً فيه، يسقط الاجتهاد ولا يعتدّ به. إذ لا اجتهاد مع النص وهذا ما أقرّه السلف، وحذّر ابن القيم من مخالفته، قال: "فإن من الناس من إذا استبان لهم في الكتاب أو السنة، أو أقوال الصحابة خلاف ذلك، لم يلتفتوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلّدوه" (¬1). ويؤخذ بالمؤول متى صرف اللفظ بتأويله عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال راجحٍ يعتضد بدليل يصير به أغلبَ على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر (¬2). وما من شك في أن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك كالإجماع السكوتي، والكلام على الحروف؛ لأن الخلاف فيهما أقوى، والمخالف فيهما لم يخالف قاطعاً بل ظناً. فلا ينبغي العمل بالضعيف والمؤول، وبما اختلفت فيه الأفهام مما يفقد النصوص قطعيّتها أو دلالتها الغالبة (¬3). ويضاف إلى هذا اختلاف الدلالات والاختلاف في حجية خبر الواحد ونحو ذلك. اختلاف أنواع الدلالة: قسّم ابن الحاجب والكمال بن الهمام الدلالة إلى منطوق ومفهوم، ثم قسموا المنطوق إلى صريح وغير صريح. وجعلوا ¬

_ (¬1) ابن القيم. إعلام الموقعين: 2/ 244. (¬2) الآمدي: الإحكام: 3/ 59 - 60. (¬3) القرافي. النفائس: 1/ 161 - 162.

أنواع المفاهيم

الصريح قسمين مطابقة وتضمّن، وغيرَ الصريح دلالةَ الالتزام بأقسامها. والمفهوم ما دلّ عليه اللفظ لا في محل النطق. ودلالته ليست وضعيّة بل انتقالية. وأبرز أنواع المفهوم اثنان هما مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة. أنواع المفاهيم: أما مفهوم الموافقة فمنه قطعيٌّ وظنّيٌّ. وقد قال بحجيّته جمهور العلماء. ذكر ذلك أبو البركات وابن تيمية وأبو يعلى وابن عقيل (¬1). وأما مفهوم المخالفة فهو ما كان المسكوت عنه فيه مخالفاً في الحكم للمنطوق. وهو أنواع ذكرها علماء الأصول. فجعلوا منها مفاهيم الحصر، والغاية، والشرط، والوصف، والعدد، والظرف، والعلّة، واللقب. قال بحجية مفهوم المخالفة الشافعي ومالك وأحمد والأشعري، وجماعةٌ من الفقهاء والمتكلمين وأبو عبيد، وجماعة من أهل العربية. وقال الشوكاني: مفاهيم المخالفة حجّة عند الجمهور إلا مفهوم اللقب. وخالف آخرون في الاحتجاج والعمل به مثل أبي حنيفة وابن سريج والقفال وجماعة من المالكية، وكثير من المعتزلة، وأبو الحسن التميمي من الحنابلة (¬2). ¬

_ (¬1) د/ عبد الله التركي. أصول مذهب الإمام أحمد: 141، 142. (¬2) الشوكاني. إرشاد الفحول: 179؛ الآمدي. الإحكام: 3/ 72؛ شرح مختصر ابن الحاجب: 2/ 179؛ الفتوحي. مختصر التحرير شرح الكوكب المنير: 246؛ د/ عبد الله التركي. أصول مذهب الإمام أحمد: 134.

تباين المحكم والمتشابه

تباين المحكم والمتشابه: وذكر الآمدي المحكم والمتشابه. فقال: أما المحكم فأصحّ ما جاء فيه قولان: الأول: ما ظهر معناه، وانكشف كشفاً يزيل الإشكال ويرفع الاحتمال. والثاني: أن المحكم ما انتظم وترتّب على وجه يفيد إما من غير تأويل، أو مع التأويل من غير تناقض واختلاف فيه (¬1). ويقابل الأول المتشابهُ الذي يتعارض فيه الاحتمال إما بجهة التساوي كالألفاظ المجملة، أوْ لَا على جهة التساوي كالأسماء المجازية، وما ظاهره موهم للتشبيه، وهو مفتقر إلى التأويل. ويقابل الثاني ما فسد نظمه واختل لفظه، ويقال فيه: فاسد لا متشابه. ويحمل عليه ما كان من القصص والأمثال. وهو بعيد ممّا يعرفه أهل اللغة، وعن مناسبة اللفظ له لغة (¬2). وعلى هذا جرى ابن الحاجب. وقال صاحب المنار: المحكم ما أحكم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل، ويجب العمل به (¬3). والمتشابه هو لقب لِما انقطع رجاءُ معرفةِ المراد منه. وقال الكمال بن الهمام في المتشابه: "إنه ما لم تُرْجَ معرفته في الدنيا مثل الصفات والأفعال والحروف من أوائل السور" (¬4). ويُردّ ¬

_ (¬1) الآمدي. الإحكام: 1/ 218 - 219. (¬2) المرجع السابق نفسه. (¬3) ابن نجيم. فتح الغفار: 1/ 113. (¬4) أمير بادشاه: تيسير التحرير: 1/ 161.

خبر الآحاد

إلى المحكم ويعمل بهما. ومقتضى كلام المحققين تساوي المجمل والمتشابه. خبر الآحاد: خبر الآحاد هو ما كان من الأخبار غير منتهٍ بنفسه إلى حدِّ التواتر. وهو قسمان: ما لا يفيد الظن أصلاً؛ وهو ما تتابعت فيه الاحتمالات على السواء، وما يفيده وهو ترجيح أحد الاحتمالين الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع. وهو وإن جاز التعبّد به عقلاً مختلفٌ في وجوب العمل به شرعاً. وممن نفاه القاساني والرافضة وابن داود (¬1). ومن شروطه ألا يكون راويه مجهولَ الحال عند الشافعي وأحمد، بل لا بد من خبرة باطنة بما له، ومعرفة سيرته وكشف سريرته، أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له. وذهب أبو حنيفة وأتباعه إلى أنه مقبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً (¬2). الإجماع وأنواعه: عرّف الآمدي الإجماع بقوله: هو اتفاق جماعة من أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور على حكم واقعة من الوقائع. والجمهور لا يشترطون في تحقق الإجماع وانعقاده انقراضَ عصر المجمعين، ولا عدمَ سبق خِلافٍ مستقر، ولا العدالةَ، ولا بلوغَ المجتهدين حد التواتر. وهذا ما رجحه علماء الأصول. والقائلون بجواز انعقاده وإمكان وقوعِهِ مختلفون. ¬

_ (¬1) الشوكاني: إرشاد الفحول: 1/ 249 - 250. (¬2) المرجع السابق: 1/ 261، 272.

فجمهور المسلمين يعتبرونه حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم (¬1). وأنكرت حجيته طائفة كالنَّظَّام والخوارج والشيعة وبعض الرافضة. وقال أحمد والحنابلة من بعده بالإجماع. وإذا نفوه فإنهم لا ينفونه نفياً مطلقاً في كل المسائل، واشترطوا لإهماله معارضته للنصوص الصريحة، فإن ما كان من هذا القبيل عندهم لا يسمى إجماعاً. ويؤخذ بإجماع الصحابة وإجماع الخلفاء الراشدين وإجماع أهل المدينة. والأئمة ليسوا على اتفاق على هذه الإجماعات. والإجماع الضمني يعتبر إجماعاً لا على ما زاد على قولين سبقاً للمجتهدين. فلا يصح إحداث قول ثالث، وأجازت ذلك جماعة. وفي المسألة السابعة عشرة من الإجماع يذكر الآمدي: اتفق الكُلُّ على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن مأخذ ومستند يوجب اجتماعها خلافاً لطائفة شاذة. فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف، بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند (¬2). أما الإجماع السكوتي الذي لا يتحقق إلا إذا أفتى أحد المجتهدين أو قضى بشيء واشتَهر ذلك عند معاصريه، وعَرَفَه عنه من سواه من المجتهدين ولم يخالفوه، واستمرت الحال على هذا فترة انقضت فيها مدة التأمل. فقد أخذ به أكثر الحنفية وبعض الشافعية. وقال الجبائي: هو حجة وليس إجماعاً. وأنكر الشافعي الإجماع عليه وهو ليس بحجة عنده. وعلى هذا الرأي جرى ابن أبان والباقلاني ¬

_ (¬1) د/ عبد الله التركي. أصول مذهب الإمام أحمد: 350. (¬2) الآمدي. الإحكام: 1/ 322، 323.

ب - التعليل، والعلة، والتعبدي

وبعض المعتزلة وأكثر المالكية، وأبو زيد الدبوسي من الحنفية، والرافعي والنووي من الشافعية. وبناء على الخلاف في الإجماع السكوتي قال الآمدي: هو ظني، والاحتجاج به ظاهر غير قطعي (¬1). وهو لا يُنسخ ولا يَنسخ عند الجمهور. ولا ينسَخ الإجماعُ إجماعاً. وإذا جاء مخالفاً لشيء من النصوص استدللنا به على نسخ النص، ولو لم يقوَ هو على أن يكون ناسخاً. وإنما تعرضنا إلى صيغ الكلام وما يتبعها من وجوه البيان والخفاء، وإلى الإجماع ومختلف أنواعه وصوره، لنميّز بذلك كلّه بين ما يمكن اعتباره قطعياً، وبين ما هو من قبيل الظنّي منَ الأدلة. ب - التعليل، والعلة، والتعبّدي: التعليل: التعليل: تبيين علّة الشيء، وما يستدل به من العلّة على المعلول، ويسمّى البرهان اللِّمِّي (¬2). ويتم التعليل بانتزاع أوصاف تؤذن بها الألفاظ، يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع. فتقاس فروع كثيرة على مورد اللفظ منها، باعتقاد اشتمال تلك الفروع كلها على الوصف الذي اعتقدوا أنه مرادٌ من لفظ الشارع. وهو الوصف المسمى بالعلّة (¬3). ¬

_ (¬1) الآمدي. الإحكام: 1/ 315. (¬2) البرهان اللمي أو الجوازي: هو ما يكون الحد الأوسط فيه علة للنتيجة. وسُمّي لمياً أخذاً من لفظ: لم؟ الميداني. ضوابط المعرفة: 417. (¬3) المقاصد: 9.

قال الأصوليون: التعليل إثبات العلل للأحكام الشرعية، لأن الأحكام لم تصدر عن الشارع عبثاً ولا تحكّماً، وإنما اقتضتها حِكَم وغايات هي المصالح. ويكون بيانُ علل الأحكام بالاجتهاد في استخراجها اعتماداً على الأدلة والمسالك الموصّلة إليها (¬1). وللتعليل طرق متعددة منها: أولاً: ذكر الوصف المسمى بالعلّة. فهو العَلَمُ على الحكم والمعرِّف به. وثانياً: ذكر الوصف أي الحكمة والمنفعة، أو المصلحة والمفسدة. وبهذا يصبح التعليل أساساً للتعرّف على المقاصد التي يبديها الشارع مرّة ويخفيها أخرى، وكلّها مقاصد شرعية. وقد ترجم الشاطبي لهذا الغرض. وجرى على طريقته الشيخ ابن عاشور بوضعه فصلاً خاصّاً لإثبات وجود الوصف أو المقصد، وبيان طرق طلبه لدى فقهاء السلف وعند المتأخرين. وتعرّض الشيخ ابن عاشور إلى الفئة القائمة على تعليل الأحكام فوصف منهجها، وتحدث عن خطّ سيرها قائلاً: رسم الفقهاء لأنفسهم طريقة للاستدلال في الفقه وأصوله ألجأتهم عن غير اختيار منهم إلى الاقتصار على الاستدلال بألفاظ الكتاب والسُّنة وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبالإجماع. وتفيد النصوص من أقوال الشارع أحكاماً كلّية، كما تفيد أحكاماً جزئيّة. والمجتهدون ينتزعون من كل ذلك فروعاً: إما بطريق ¬

_ (¬1) العالم. المقاصد العامة: 123؛ خلاف. مصادر التشريع: 25.

تحقيق المناط، وإما بطريق القياس، كما عمدوا إلى أحكام ثبت صدورها من الشارع في علم المجتهد، وخفي عنه مراد الله منها فاتّهم علمه، وبذل جهده في جنب سعة الشريعة. وسمّوا ذلك بالتعبّدي نسبة إلى التعبّد (¬1). ومهما يكن من اختلاف بين التعليل والتعبّد، فإنا نجد من الفقهاء من يعتبر محصلات البحث والنظر الفقهي الاجتهادي استدلالاً من المجتهد، ورأياً من المستنبط. ومن الفقهاء والأصوليين من يعتبر الطريق الموصل إلى استنباط الأحكام هو القياس. وهو المعنى الذي يدلّ على الحكم في أصل الشيء وفرعه. وهنا فرّق العلماء بين المعقولية التشريعية والمعقولية الاعتقادية. وكان من آثار تحليل النصوص ما جعل معقولية الاعتقاد أدخل في الفطرة وأوضح في الدلالة. فكانت دعوةُ عامةِ الأمة متيسّرةً، بخلاف أدلة التشريع، فإنها تخالف أدلة الاعتقاد من وجوه ثلاثة: ° أولاً: أنها أخفى دِلالة وأدقُّ مسلكاً إلى الفطرة. ° ثانياً: أن القصد من مخاطبة الأمة بالشريعة وامتثالِها لها هو أن يكون عملها بها كاملًا. ° ثالثاً: أن المخاطبين بالشريعة هم الذين استجابوا للدعوة، وصدّقوا الرسل، وآمنوا بالرسالات. فدلَّ هذا على أن طريق الاستدلال هو الطريق الموصّلة إلى الإيمان عندهم، وأن الطريق ¬

_ (¬1) المقاصد: 149.

العلة

المسايرة لها هي الطريق التي تظهر بعد إقبالهم على ربهم. وهي طريق التسليم والامتثال (¬1). ويتم التحقق من صحّة الاستنباط للأحكام الشرعية بالبحث عن علل الأحكام، وبإدراك المقاصد التي ناط الشارع بها الأحكام المنصوصة. وبلوغ هذه يكون عن طريق دلالة النص، ومن فقه الباحث في الشريعة الذي به تدرك مناطات الحكم من وصف ظاهر، أو مما في الفعل من جلب مصلحة أو درء مفسدة، أو مما يترتّب على تشريع الحكم من مصلحة. العلَّة: العلّة: لغة ماخوذة إما من العلّة التي هي المرض، أو من قولهم: العَلَل بعد النَهَل. والعَلَل: معاودة الشرب مرة بعد مرة، أو مِن اعتلّ إذا تمسك بحُجَّة. والعلّة ذات دلالات متعددة: 1 - فهي إما ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر كالذي ترتب على البيع الذي هو مبادلة مال بمال من نفع كل من المتبادلين ودفع الحرج والمشقة عنهما لو لم يتبادلا، أو كالذي يترتب على الزنا من اختلاط الأنساب، وما يترتب على القتل من ضياع النفوس وإهدارها. 2 - وإما ما يترتب على تشريع الحكم من جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، كالذي يترتب على إباحة البيع من تحصيل النفع السابق، وما يترتب على تحريم الزنا والقتل وشرع الحد والقصاص لحفظ الأنساب والنفوس. ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي: 55.

3 - وهي الوصف الظاهر المنضبط الذي يترتب على تشريع الحكم عنده مصلحة للعباد كالزنا وقتل النفس، ولفظي الإيجاب والقبول "بعت واشتريت". وخصّ أهل الاصطلاح الوصف باسم العلّة، وفرّقوا بين العلّة والحكمة، والعلّة والمقصد مجازاً. وقالوا: العلّة في تحريم الخمر الإسكار، ومقصد الشارع من التحريم مصلحة حفظ العقول. وجعلوا السَفر والمرض علّة للإفطار وقصر الصلاة. والمصلحة من ذلك الإباحةُ، رفعاً للحرج ودفعاً للمشقة. وأما العلة عند المعتزلة هي الوصف المؤثّر بذاته في الحكم. فأفعال الله معلّلة بمصالح العباد أو معلّلة بالأغراض. وهي عند الأصوليين الوصف المعلَّل به الحكم من حيث تأثيره في وجوده، أو من حيث كونه سبباً باعثاً على شرع الحكم. وقال بعضهم: هي علامة وأمارة على الحكم فقط. وعرفها فخر الإسلام في أصوله. فقال مرة: هي ما حصل علماً على حكم النص من وصف يشتمل عليه النص بصيغة القدر والجنس. وأورد تعريفاً ثانياً عند بيان علل الشرائع فقال: هي عبارة عما يضاف إليه وجوب الحكم ابتداء (¬1). وقالت الحنفية: هي المعرّفة لحكم الأصل لا من حيث ذاته، بل من حيث تعدّيه إلى الفرع، فالمعَرَّفة بالعلّة إنما هي التَعْدية (¬2). وقال الآمدي: العلة في الأصل بمعنى الباعث؛ أي: مشتملة ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام: 112، 113. (¬2) السُّبكي. الإبهاج: 3/ 39؛ الإسنوي. نهاية السول: 3/ 36.

شروط العلة

على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم (¬1)، أي أن أحكام الشارع مبنية على مصالح العباد سواء أكانت الأحكام دنيوية أم أخرويّة. وبهذا قال ابن الحاجب (¬2). وقال الغزالي: العلة هي الوصف المؤثر في الأحكام بجعل الله تعالى. وبهذا قال سُليم الرازي. وقالت الشافعية: العلّة هي المعرّفة لحكم الأصل لكن لا على معنى أن الحكم لا يثبت إلا بها، ولم يقولوا: الباعث، لأن الله تعالى لا يبعثه شيء على شيء (¬3). شروط العلة: من شروطها أن تكون مؤثرة في الحكم. وأن تكون وصفاً ضابطاً بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع. أن تكون ظاهرة جليّة وإلّا لم يكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء. وأن تكون سالمة بحيث لا يردّها نص ولا إجماع، ولا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها وأن تكون مطّردة. "ومن شروطها ألا تكون عدَماً في الحكم الثبوتي، وألا تكون العلّة المتعدّية هي المحل أو جزءاً منه". وقالوا بلزوم انتفاء الحكم بانتفائها، وبأن تكون أوصافها مسلمة أو مدلولاً عليها، وأن يكون الأصل المقيس عليه معلّلاً بالعلّة التي يعلق عليها الحكم في الفرع ¬

_ (¬1) الآمدي. الإحكام: 3/ 224. (¬2) مختصر المنتهى: 2/ 213. (¬3) محمد شعبان إسماعيل. أصول الفقه، تاريخه ورجاله: 363.

بنص أو إجماع، وألا تكون موجبة للفرع حكماً، وللأصل حكماً آخر، وألا توجب ضدَّين، وقيل: أن لا يتأخّر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل. ومما اتفقوا عليه أن يكون طريق إثباتها شرعياً كالحكم. وقال الأكثرون: إنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدّرة. واشترطوا في العلّة المستنبطة ألا ترجع على الأصل بإبطاله أو إبطال بعضه. وألا تُعارَض بمعارض منافٍ موجود في الأصل. وألا تكون معارضة لعلّة أخرى تقتضي نقيض حكمها. وألا تكون موجبة لإزالة شرط تضمّنه الأصل. وألا يكون الدليل على العلّة متناولًا لحكم الفرع - لا بعمومه ولا بخصوصه - لاستغنائه عن القياس في مثل هذه الصورة. وألا تكون العلّة مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالإثبات على أصل منصوص عليه بالنفي (¬1). ومن يتتبع هذه الشروط المعتبرة وغيرَها، ويقف على مسالك العلّة، يتضحْ له أن القول بالقياس ليس ابتداعاً أو بُعداً عن أصول الشريعة. ومن أجل هذا قال الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "لا أحسب لمن يتطرّقه شك، في قبول الأحكام للقياس، حساباً من سعة النظر في الشريعة، ولا أعدّه إلا عاكفاً على تلقّي الجزئيات المأثورة، دون شعور بجهات الاتحاد بين متماثلها في ¬

_ (¬1) الشوكاني. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: (2) 872 - 875.

الأحكام، ولا أحسبه إلا متحيّراً عند تطلّب أحكام لصور وأعمال غير ثابتة في الآثار أحكامٌ لها، وأنه لا يلبث إلا أن يجد نفسه مضطراً للقياس، وإذا افتقد نفسه وجد نفسه قد قاس" (¬1). والمعدول عن سُنن القياس، أو الخارج عنه قسمان: القسم الأول: ما لا يعقل معناه، وهو ضربان: الأول ما استثني من قاعدة عامة وخصص بالحكم كقبول شهادة خزيمة وحده فيما لا تقبل فيه شهادة الواحد. والثاني ممّا لا يقاس عليه كأعداد الركعات وتقدير نصب الذكوات ومقادير الحدود والكفارات. القسم الثاني: ما شُرع ابتداءً ولا نظير له فلا يجري فيه القياس. وهو ضربان أيضاً: الضرب الأول: ما له معنًى ظاهر كرخص السفر. الضرب الثاني: ما ليس له معنًى ظاهر كالقسامة. واشترطوا ألا يصار إلى القياس إلا عند الضرورة. فلا يُقدَم عليه إلا بعد البحث عن الحكم في النصوص المعروفة من كتاب أو سُنة، أو في إجماع، أو قول معتمد لمن سبق من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وانقسم الفقهاء حول التعليل، فأجازه جمهورهم، ونفته الظاهرية ومن تبعها. ¬

_ (¬1) المقاصد: 313.

التعليل عند المتكلمين

التعليل عند المتكلمين: أصل الاختلاف في قضية التعليل راجع إلى ما كان عليه المتكلمون من افتراق في الرأي. فالمعتزلة، كما قدمنا، قالت بوجوب تعليل أفعال الله تعالى، ووجوب اشتمالها على مصالح هي غرضه من الفعل. واستدلوا على هذا بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). وذهبت الماتريدية وبعض الأشاعرة وجماعةٌ من المحقّقين إلى أن أفعال الله تعالى كلَّها معلّلة بالمصالح على سبيل التفضّل والإحسان. وهذا ما تقتضيه حكمته التامة ورحمته الواسعة. ونفت الأشاعرة تعليل أفعال الله نفياً تاماً. وقالوا باستحالة أن يكون فعله سبحانه لغرض أو علة غائية. ودليلهم أنه لو كان فعله لغرض للزم أن يكون مستفيداً من غرضه ذلك، ضرورة أن وجود ذلك الغرض أولى بالقياس إليه من عدمه. فيكون مستفيداً من تلك الأولوية. ويلزم من كون ذلك الغرض سبباً في فعله أن يكون هو ناقصاً في فاعليته، محتاجاً إلى حصول السبب. وأجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل. وأمّا إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فلا. وسبق رد هذا الجواب للفخر بقوله: إذا كان الإحسان أرجحَ من غيره وأولى لزمت الاستفادة. وقال الإمام الأكبر: وهذا الرد باطل، لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبداً، بل إنما تستلزم تعلق الإرادة. وإنما تلزم الاستفادة لو ادعينا التعيّن والوجوب. وسلك مثل هذا المسلك في الردِّ ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 56.

رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة

عليهم ابن القيم (¬1)، ومحمد بخيت المطيعي (¬2). وقال الكمال بن الهمام متأوِّلًا مقالتهم، مشيراً إلى أن قولهم: "يجب على الله الأصلح" هو كقولنا: ينبغي ألا يتَّصف بنقص، ويجب وقوعُ الوعد. وليس المراد من الوجوب القهر والإلزام (¬3). وينتفي التشنيع على الأشاعرة بتفسير الوجوب بغير ما يتبادر إلى الأذهان. فقد ذكروا أن الوجوب عندهم يثبت بترك نقص في نظر العقل أي بسبب ترك قيام الداعي إلى الفعل. وبهذا يصبح الخلاف بينهم وبين الماتريدية خلافاً لفظياً. رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة: ردّ الشيخ ابن عاشور على مقالات المنكرين للتعليل وعلى أدلة النفي عندهم، وحمل اللام في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا ¬

_ (¬1) انظر ما ذكره عند حديثه عن الصلاح والأصلح: فليس بين الله وبين خلقه جامعٌ يوجبُ أن يحسُنَ منه ما حسن منهم ويقبحُ منه ما قبُح منهم. وإنّما تتوجّه تلك الإلزامات إلى من قاس أفعال الله بأفعال عباده، وأما من أثبت له حكمةً تختصّ به لا تُشبه ما للمخلوقين من الحكمة فهو من تلك الإلزامات بمعزل منزلُهُ منها أبعد منزل. ونكتة الفرق أن بطلان الصلاح والأصلح لا يستلزم بطلان الحكمة والتعليل. مفتاح دار السعادة: 2/ 115. (¬2) أن أفعال العباد معللةٌ بمصالح العباد عندنا، مع أن الأصلح لا يكون واجباً عليه خلافاً للمعتزلة وما أبعَدَ عن الحق قول من قال إنها غيرُ معللة بها، فإن بعثة الأنبياء - عليهم السلام - لاهتداء الخلق وإظهار المعجزات لتصديقهم. فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوءات. سلم الوصول لشرح نهاية السول: 4/ 80. (¬3) ابن الهمام. المسامرة في شرح المسايرة: 159.

الوجوب والغرض

فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1) على التعليل، ونبّه إلى أنها دلّت على أن {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} كان لأجل الناس. وفي هذا تعليل للخلق، وبيان ثمرته وفائدته. وهنا تثار مسألة تعليل أفعال الله وتعلّقها بالأغراض. وهي ناشئة عن إرادة واختيار، وهي على وفق علمه، وأن جميعها مشتمل على حِكم ومصالح، وأن تلك الحِكم هي ثمرات لأفعاله ناشئة عن حصول الفعل، وأنها بحصولها عند الفعل تثمر غايات. الوجوب والغرض: وذهب الأصوليون إلى المقارنة بين مذهب المعتزلة والجمهور في القول بالوجوب والغرض. أما الوجوب الذي ادعته المعتزلة فتمثل في أفعالٍ عدَّة منها: (1) اللطف؛ وهو الفعل الذي يقرّب العبد إلى الطاعة، ويبعده عن المعصية، ولا يبلغ حدّ الإلجاء. ومثاله: بعثة الأنبياء. (2) الإثابة على الطاعة، والعقاب على المعصية. (3) عقاب العاصي على معصيته زجراً له. (4) تعويض العبد عما يحدث له من آلام. والجواب على هذا: أنا معشر أهل السُّنة لا ندين الله بما زعموه، وأن ما ندين الله به هو اعتقاد أن الله سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا يُسأل عما يفعل. ويظهر أن مردّ هذه القضية الكلامية مسألة "ما يجب على الله ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 29.

رد الجويني على الأشاعرة

فعله". والحق أنه لا يجب على الله تعالى فعل أيّ شيء. فإن فعلَ الشيءِ يكون لغرضٍ، ولا كذلك فعله سبحانه. وفصّل المتكلمون القول في هذا وذكروا: أن الغرض إمّا أن يكون راجعاً لله تعالى وهو باطل لتنزهّه عن ذلك، وإمّا أن يكون راجعاً إلى العبد المكلف في الدنيا أو في الآخرة. فأمّا في الدنيا فهو مشقة بلا خطر، وأمّا في الآخرة فإمّا أن يكون الغرض إضرار المطيع، وهو قبيح من الجواد الكريم، فوق أنه باطل بالإجماع، وإمّا أن يكون الغرض نفعَه، وهو المطلوب. فإن إيصال ذلك النفعِ حينئذٍ واجب لئلا يلزم نقض الغرض (¬1). رد الجويني على الأشاعرة: وأبطل إمام الحرمين ما ذهب إليه منكرو التعليل. وقال: نحن نعلم قطعاً أن الوقائع التي جرت فيها فتاوى علماء الصحابة وأقضيتُهم، تزيد على المنصوصات زيادة لا يحصرها عدّ، ولا يحويها حدّ. فإنهم كانوا قايسين في قريب من مائة سنة، والوقائع تترى، والنفوس إلى البحث طُلعة، وما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نصّ فيها، والآيات والأخبار المشتملة على الأحكام نصاً وظاهراً، بالإضافة إلى الأقضية والفتاوى كغَرفة من بحر لا تنزفه. وعلى قطعٍ نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكل ما يعِنّ لهم، في غير ضبط ولا ربط، وملاحظةِ قواعدَ متَّبعةٍ عندهم. وقد تواتر من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حكم الواقعة من كتاب الله، فإن لم يُصادفوه فتَّشوا في سُنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يجدوها اشتوَرُوا، ورجعوا إلى الرأي. ¬

_ (¬1) ابن أبي شريف. المسامرة شرح المسايرة: 162 - 163.

ويمضي الجويني في الرد على مقالة الأشاعرة بقوله: والذي يوضح ما ذكرناه أنهم مع اختلاف مذاهبهم، في مواقع الظنون، ومواضع التحرّي، ما كانوا ينكرون أصل الاجتهاد والرأي، وإنّما كان بعضهم يعترض على بعض ويدعوه إلى ما يراه هو. ولو كان الاجتهاد حائداً عن مسالك الشريعة لأنكره منهم منكر. وإذا لاح المعنى فترديد العبارات عنه هيِّن (¬1). وبيّن الإمام الأكبر محل النزاع في هذا الموضوع قائلاً: ويترجّح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة. فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أورد عليهم المعتزلة أو قدّروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئاً إلا لغرض وحكمة. ولا تكون الأغراض إلا لمصالح، فالتزموا بأن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبّر عنها بالعلل (¬2). وينبئ عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة وهناك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله، ولأن الغير قد لا يكون فعل الله بالنسبة إليه منفعة. وزاد ابن أبي الشريف بياناً لموقف الأشاعرة وَرَدَّ عليه بقوله: إنا لا نزال نسائلهم عن معنى قولهم (المعتزلة): إنه وجب لفائدة الخلق، ويطلق عليه عندنا أنه تعليل، وأن الحكم المعلل هو الوجوب. ونحن نطالبهم بتفهيم الحكم وبيانه. ¬

_ (¬1) البرهان: 2/ 499 - 500، ف 711 - 712. (¬2) التحرير والتنوير: 1/ 380 - 381.

الأصوليون والتعليل

ويطلق الوجوب والغرض - السابق ذكرهما - وهما معدومان. فإن أرادوا معنى آخر فليفسروه أولاً، ثم ليذكروا علّته، فعسانا ألا ننكره عليهم .. وأردف الكمال ابن الهمام قائلاً: "واعلم أنهم (أي المعتزلة) يريدون بالواجب الفعل الذي يثبت بتركه نقص في نظر العقل. وثبوت النقص بسبب ترك مقتضى الداعي إلى ذلك الفعل، وهو كمال القدرة والغنى المطلق مع انتهاء الصارف عن ذلك الفعل. فتركه المراعاةَ المذكورة مع ذلك بُخل، يجب تنزيه الله عنه" (¬1). وأضافوا في الاحتجاج على دعواهم، وعلى وجوب الأصلح عليه سبحانه قولهم: "إن الله تعالى كلَّف عبده بأنواع التكاليف. فهو إمّا أن يكون قد كلفه لا لغرض البتة، وهو باطل .. ، وإمّا كلفه لغرض. وبنفي قولهم يلزم من عدم الغرض المفيت، أو تحققاً أنه لنفع قوم كالمؤمنين، وضرر لقوم كالكافرين، فإن سُلَّم أنه لغرض، فليس يلزم أن يكون على سبيل الوجوب والحتم، بل تفضلاً على الأبرار وعدلاً بالنسبة إلى الفجار" (¬2). الأصوليون والتعليل: وقال الحسني حول هذه الطريق الموصّلة بالأقيسة إلى معرفة الأحكام الشرعية: والتعليل هو الأساس للتفكير التشريعي، إذ هو في الحقيقة استجلاء لمراد الشارع من الحكم، وطريق كاشف عن طابع معقولية الأحكام من قبل أن الله ذكر السبب الموجب للحكم (¬3). وإنه لمن الضروري أن ننبّه إلى أن الأصوليين رغم اتفاق جمهورهم على التعليل لم يسيروا في ذلك على وجه واحد، بل انقسموا في ذلك إلى فئات أربعة: ¬

_ (¬1) المسامرة: 160. (¬2) المسامرة: 163. (¬3) الحسني. نظرية المقاصد: 308.

الأولى: تقول بما قال به إمامها، وهو الشافعي، بأن الأصل أن يبقى عدم التعليل حتى يقوم الدليل على خلافه. الثانية: هي التي ترى التعليل جائزاً بكل وصف صالح لإضافة الحكم إليه، حتى يوجد مانع من البعض. الثالثة: ذهبت إلى أن الأصل التعليل بالوصف. ولا يتم هذا إلا بوجود دليل يميّز الصالح من الأوصاف للتعليل عن غير الصالح منها. الرابعة: هي القائلة بأن الأصل في النصوص هو التعبد دون التعليل (¬1). وفي ردّ ابن عاشور على مقالة الأشعري تولّى الإمام الأكبر من جهته تلخيصَ مقالة الأشعري بالوجه الذي أورده الفخر في تفسيره. وعلّق عليها بقوله: الحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين: أولاهما قولهم: إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملاً به. وهذه سفسطة شُبِّهَ فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل، والراجع إلى ما يناسبه من الكمال، لا توقف كماله عليه. ثانيتهما قولهم: إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سبباً يقتضي عجز الفاعل. وهذا شُبِّه فيه السببُ الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العلم. وكلاهما يطلق عليه سبب (¬2). ¬

_ (¬1) التلويح على التوضيح: 375؛ الموسوعة الفقهية: 12/ 319. (¬2) التحرير والتنوير: 1/ 378 - 380.

وأردف ابن عاشور بعد تقرير مذهبه في القول بالتعليل بأن تعليل الأحكام ضرورة خاصة في المعاملات. وبعد أن كان اختيار الفقهاء هو الاقتصار في الاستدلال على ألفاظ الكتاب والسُّنة وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكوته والإجماع، انتبهوا إلى أن مِن تلك الأحكام ما هو كلّي كقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار"، ومنها ما هو جزئي كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك يا زبير". وللتوصّل إلى مختلف الأحكام بأنواعها يذكر الشيخ طرائق الفقهاء في انتزاع الفروع؛ فهو إما يكون بطريق تحقيق المناط فتكون الأحكام المستنبطة كلّية، وإمّا بطريق القياس فتكون الأحكام جزئية على تفاوت بين الملحقات بسبب ظهور الأوصاف التي بها الشبه، وبسبب خفائها لتفاوت مسالك العلّة من جانب آخر. وبهذا تظهر المعلّلة والتعبّدية. فالأولى هي ما كثر الحديث فيها والتفصيل لها في كتب الأصول والفقه، والثانية هي ما ثبت عن الشارع موقَناً به، ولا يقف المجتهد على مراد الشارع منه لخفائه (¬2). يرى الشيخ ابن عاشور في قضية التعليل أنها تُحدّد بذكر مدى حصولها في مختلف الأحكام العبادية وأحكام المعاملات. والأصل المتعارف عليه بين فقهاء المذاهب هو اعتبار العبادات قائمة على التعبّد، وهو غيرُ معقولية المعنى. ثبت هذا بالاستقراء. فمن يتتبع الأحكام الشرعية الدينية في العبادات مثل الوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج، في أوصافها وكيفياتها وشروطها وأوقاتها يعلم أنها لا تُدرك مناسباتها ولا تُعرف الدواعي إليها إلا على وجه الإجمال. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 1. (¬2) المقاصد: 148 - 149.

وبخلاف ذلك نجد أحكام المعاملات معلّلة، يدل على هذا الاستقراء، وإثبات العلل والمصالح اعتباراً وإلغاءً. وقد لا يكون بعضها معلّلاً. يشهد لهذا ما رواه البخاري عن أبي الزناد أنه قال: "إن السنن ووجوهَ الحقّ لتأتي كثيراً على خلاف الرأي فما يجد المسلمون بُدّاً من اتباعها. من ذلك أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة". وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: "عجباً للعمة تُورَثُ ولا ترث" (¬1). وقد يظهر التعليل في بعض مسائل العبادات. كما يظهر التعبّد في بعض المعاملات. وهذا مبني على توسع النظر فيهما. قال الجويني: "ومما لا يلوح فيه للمستنبِط معنى أصلاً ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة يكون تصويره فيها، فإنه إن امتنع عن استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيّله كلياً. ومثل هذا القسم العبادات البدنية المحضة" (¬2). وذهب المقَّرِي في قواعده إلى عكس ما ذكره إمام الحرمين المبالغِ فيما ذهب إليه. فاستنباط علل الأحكام وضبط أماراتها لا ينبغي فيما كان سبيله التنقير عن الحكم لا سيما فيما ظاهره التعبّد، إذ لا يؤمن ما فيه من ارتكاب الخطر والوقوع في الخطأ. وحسب الفقيه من ذلك ما كان منصوصاً، وظاهراً أو قريباً من الظهور (¬3). أما صاحب المقاصد فكان يجنح إلى التعليل كما تسنّى له ذلك. ¬

_ (¬1) المقاصد: 150 تع 2. (¬2) البرهان: 2/ 926، ف 905. (¬3) المقري. القواعد: 2/ 406 - 407.

العول

وبعد استعراض مختلف الآراء، وما حصل من بعض الأئمة من التوسع يقول الإمام: وقد تفاوت المجتهدون في إثبات هذا النوع الأخير (التعبّدي)، وأوشكوا بعد خوضهم في التعليل والقياس إلى اعتبار أحكام الشريعة ثلاثة: ° قسم معلّل لا محالة: وهو ما كانت علّته منصوصة أو مُومَأً إليها أو نحو ذلك. ° وقسم تعبّدي محض: وهو ما لا يُهتدى إلى حكمته. ° وقسم متوسط بين القسمين: وهو ما كانت علّته خفية، واستنبط له الفقهاء علّة (¬1). العول: ومما دخله التعليل في زمن عمر مسألة العول في الميراث، رغم أن مقادير الفرائض مثبتة بنصّ القرآن، متلقاة عند الأمة تلقي التعبّدي من الأحكام. تدل على ذلك صورة التركة التالية: هلكت امرأة وتركت زوجها وأمها وأختها. قال العباس أو عليُّ بن أبي طالب: أرأيتَ لو أن رجلاً مات، وعليه لرجالٍ سبعةُ دنانير ولم يخلف إلا ستة دنانير، أليس يجعل المال سبعة أجزاء ويدخل النقص على جميعهم؟!. فصوَّبَهُ عمر ومن حضر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام: فها هنا نراهم قد احتفظوا على معنى التعبّد في أصل إعطاء الجميع على نسبة واحدة، وفي عدم إهمال البعض من الورثة، ولكنهم لم يحتفظوا على معنى التعبّد في المقادير لتعذّر ذلك. فأدخلوا التعليل في هذا المكان خاصة. ¬

_ (¬1) المقاصد: 150.

وكان عبد الله بن عباس يرى خلاف ذلك. قال: النقص يدخل على الأخت من مقدار فرضها؛ لأنها أضعف من الزوج، ومن الأم لأنها قد تنتقل من أن تكون ذات فرض إلى أن تكون من العصبة أي مع البنات. فأبى ابن عباس من إدخال التعليل، ومن نقص فرضي الأم والزوج، وجعلَ الأخت تأخذ البقية بطريقة أن المال قد نفد. فلم يُعمِل التعليلَ هنا، ولكنه أعمل شيئاً من الترجيح بالتنظير (¬1). ويقرر الشيخ ابن عاشور بعد هذا: أن الواجب على الفقيه عند تحقّق كون الحكم تعبّدياً أن يحافظ على صورته فلا يزيد من تعبّديتها، ولا يُضيع ما بها من أصل التعبّدية. أما في المعاملات فهو - كما قدمنا - يوصي أئمة الفقه بأن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبّدية في تشريع المعاملات، وأن يوقنوا بأن ما ادُّعِي التعبّد فيه منها، إنما هو أحكام قد خَفِيت عللُها أو دقّت. وبناء على هذا فهو يدعو إلى رفع العنت عن الأمة قائلاً: إن كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقّاها بعض الأئمة تلقَّي الأحكام التعبّدية قد عانى المسلمون من جرّائها متاعبَ جمة في معاملاتهم. وللخروج من هذا المأزق نجده يدعو إلى الاجتهاد في الأمر، بإجادة النظر في الآثار التي تتراءى منها أحكامٌ خفيت عللها ومقاصدها، ويمحص أمرَها. فإن لم يجد لها محملاً من المقصد الشرعي نظر في مختلف الروايات .. كما أن عليه أن ينظر إلى الأحوال العامة في الأمة، التي وردت تلك الآثار عند وجودها (¬2). وإن مَن يعوزه ذلك يحقّ عليه أن يدعو نظراءه للمفاوضة في ذلك مشافهة ومراسلة .. ولا يجوز لهم عند العوز تجاوز المقدار ¬

_ (¬1) المقاصد: 154 - 155. (¬2) المقاصد: 153 - 156.

المأثور عن الشارع في ذلك الحكم، ولا يفرّعوا على صورته، ولا يقيسوا، فلا ينتزعوا منه وصفاً ولا ضابطاً ... وإذا جاز أن نثبت أحكاماً تعبدية لا علّة لها ولا يطلع على علّتها، فإنما ذلك في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية. فأما هذان فلا أرى أن يكون فيها تعبّدي، وعلى الفقيه استنباط العلل فيها (¬1). واعتقادي كما نبّه إلى ذلك الشاطبي: أن الحرص على التعليل في المعاملات يدل عليه الاستقراء من الشريعة لأنها وُضعت لمصلحة العباد. فالتعاليل التفاصيل في الأحكام في الكتاب والسنة أكثر من أن يُحصى. وإذا دلّ الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم؛ فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة (¬2). وجرى الإمام الأكبر على هذا النحو مع إضافة ملاحظة صغيرة. هي قوله: شريعة الإسلام جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، أي في حاضر الأمور وعواقبها. وليس المراد بالآجل عنده أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تحدِّدُ للناس سَيرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاء على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا (¬3). وفي هذا التفسير تنبيه على ما يترتب على التصرّفات من نتائج آنية فورية أو ما يعقبها، تكون صالحة أو فاسدة بحسب ما يترتب على مقدماتها. وإذا تقرر هذا، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني. فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص. فإن ¬

_ (¬1) المقاصد: 159. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 6 - 7. (¬3) المقاصد: 36.

قَدراً من المعاملات كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحلّ المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العِدد الطلاقية والوفاوية يبقى محل اختلاف، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية، حتى لا يقاس عليها غيرها (¬1). فأبو إسحاق الشاطبي يرى لزوم اعتبار التعبّدية فيها وفي نظائرها، ويقول: إن العلّة المطلوبة هي مجرّد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان (¬2). وصاحب المقاصد يخالف بالطبع هذا الاتجاه بسبب ما قررناه من حرصه الكبير على تعليل الأحكام كما أمكن ذلك. واستدلَّ الشاطبي على رأيه هذا في مثل تلك الأحكام بقوله: 1 - إن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علّة الأمر بالفعل، يلزمه عقلاً الامتثال من حيث مجرد الأمر؛ لأن مخالفته قبيحة، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضاً، فإن تحصيلها واجبٌ عقلاً بالفرض. 2 - عدم القطع بمعقولية المعنى مستقلاً يقتضي اعتبارَ التعبّد في الحكم (¬3). 3 - حصول التعبّد بمعنى الامتثال والخضوع في تعليلات هذه الأحكام. من ذلك ما إذا سُئل الحاكم: لِم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان؟ فقال: إني نهيت عن ذلك، أو بأن الغضب يشوش ¬

_ (¬1) الموافقات: (3) 2/ 307 - 308؛ المحلى شرح جمع الجوامع: 2/ 206؛ الموسوعة الفقهية: 12/ 209. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 308. (¬3) الموافقات: (3) 2/ 311 - 313.

أهمية التعليل

عقلي، وهو مظنّة عدم التثبت في الحكم كان مصيباً أيضاً، وإن كان الجواب الأول جوابَ التعبّد المحض، والجواب الثاني جوابَ الالتفات إلى المعنى. وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما جاز القصد إلى التعبّد. وإذا جاز القصد إلى التعبّد دلّ ذلك على أن هناك تعبداً، وإلا لم يصح توجّه القصد إلى ما لا يصلح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد (¬1). 4 - اختصاص الشارع بتعريف المصالح والمفاسد التي يقصدها باعتبار ما تحقّقه من جلب للأولى ودرء للثانية. وردّ على هذا الشيخُ شلبي بقوله: إذا كان كلام المستدِلّ صريحاً في أن الأصل من تشريع المعاملات والمقصود منها أولاً وبالذات هو تحصيل مصالح الناس، وأن اعتبار التعبّد فيها جاء من ناحية ورود النص بها. فمقتضى هذا أن تكون الأولى راجحة والثانية مرجوحة (¬2). ونفى الشيخ ابن عاشور أدلّة الشاطبي في هذه القضية قائلاً: إن أبا إسحاق ذكر في المسألتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من النوع الرابع الجزء الثاني من كتاب المقاصد له، كلاماً طويلاً في التعبّد والتعليل معظمه غير محرّر ولا متّجه. وقد أعرضت عن ذكره هنا لطوله واختلاطه (¬3). أهميّة التعليل: من المؤكد أن التعليل هو الأساس الذي يقوم عليه بناء ¬

_ (¬1) الموافقات: (3) 2/ 314. (¬2) شلبي. تعليل الأحكام: 299. (¬3) المقاصد: 157 - 158.

المقاصد. وهو يمثل طوراً من أطوار الارتقاء العلمي الذي يصل إليه الذهن. فإذا فُقد التعليل، وأَبطل الناسُ النظرَ في الترجيح ونحوه، ونزلت بالناس الحوادث واستجدّت، ولم يجدوا لهم من ذلك مخرجاً، فنزعوا إلى تلفيق الأحكام إما باستنباطها من كلام أئمتهم، وهو أمر غير جائز كما جاء في القاعدة الثانية قبل باب الصلاة من قواعد المقّري، وإما بالرجوع إلى عمل علمائهم في الأندلس وفاس وتونس. وذلك ما ردّه ابن العربي أيضاً ردّاً صريحاً فى كتابه العواصم (¬1). لهذا السبب يعتبر التعليل أساساً للفكر التشريعي، كما قدمنا (¬2). ورغم ذلك نفى زعيم المدرسة الظاهرية بالأندلس الإمام ابن حزم التعليل والقياس، ودعا إلى ذلك صراحة في كتابه الإحكام حين قال: وممّا صَرَفَ عدداً من الناس غيرَ قليل، عن القول بتعليل الأحكام، ما كان يلحق المُثبتين له من تهمة الانحراف عن الحق، بما يلزمهم من الأخذ بمذهب المعتزلة المتمثل في القول بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى، وبتأويلهم الغرض بالمنفعة العائدة إلى الفاعل. فمن فسره بالمنفعة العائدة إلى الفاعل قال: لا تُعلّل، ولا ينبغي أن ينازع في هذا. ومن فسّره، أي الغرض، بالمنفعة العائدة إلى العبد قال: تُعلّل. وكذلك لا ينبغي أن ينازع فيه (¬3). ¬

_ (¬1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 198 - 199. (¬2) شلبي. تعليل الأحكام: 77. (¬3) ابن حزم. الإحكام: 8/ 97 - 98.

إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحة موقفه

ورغم أهمية القياس في التشريع واعتماده أصلاً من الأصول عند الأكثر، تباينت فيه بعض مواقف المتكلّمين وعلماء الأصول والفقهاء، وظهر ذلك في انقسامهم إلى مثبتين للعمل به، وإلى منكرين له مانعين منه. فالمذهب الظاهري هو متمسَّك نفاة القياس. وهو القائل بشمول النصوص وإغنائها عن القياس. وإنما أخذ بالقياس أهل الرأي الذميم الذين بنوا أحكامهم على القول في دين الله بغير علم (¬1)، وظنّوا أن النصوص قاصرة عن بيان جميع الحوادث، وأنها غير وافية بالأحكام ولا شاملة لها، وهم لا يقدرون على استجلائها والاستنباط منها، فقطعوا على الله بالظن. وكلا الأمرين مما حرمه الله علينا. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2)، وقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬3). أما أهل الرأي السليم فهم الذين ناصروا المجتهدين كمناصرة المزني لجماعته المثبتين للقياس بقوله: إن الفقهاء من عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا وهلم جرّاً، استعملوا القياس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم .. وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه والتمثيل. إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه: أمعن ابن حزم في إنكار التعليل والقياس، وناقش مخالفيه في ¬

_ (¬1) ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 430 - 432؛ الأحكام: 7/ 929. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 32. (¬3) سورة النجم، الآية: 28.

كتابه الإحكام في أصول الأحكام، وجعل الفعل أهمَّ دليلٍ له في الغرض لقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬1). وخلاصة مذهبه قوله: أخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأن أفعاله لا يجري فيها لِمَ؟. وإذا لم يُحِلّ لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه وأفعاله: لماذا كان هذا؟ فقد بطلت الأسباب جملة، وسقطت العلل البتة، إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمر كذا لأجل كذا، وهذا أيضاً مما لا يُسأل عنه. فلا يحلّ لأحد أن يقول: لم كان هذا السبب لهذا الحكم، ولم يكن لغيره؟. ولا أن يقول: لِمَ جُعل هذا الشيء سبباً دون أن يكون غيره سبباً أيضاً؟ لأن في فعل هذا السؤال عصياناً لله، وإلحاداً في الدين، ومعارضة لقوله سبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فمن سأل الله عما يفعل فهو فاسق. فوجب أن تكون العلل كلها منفية عن الله ضرورة (¬2). ولم يتكلّف الشيخ ابن عاشور كبير جهد لإبطال الاستدلال بالآية، واكتفى بالتنبيه على أن سياق الآية هو إثباتُ التوحيد وتفنيدُ الشرك. وأنَّ تقَدُّمَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} على {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} اقتضته مناسبة الحديث عن تنزهه سبحانه عن الشركاء. والسؤال هنا بمعنى المحاسبة، وطلب سبب بيان الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل، وتخلّص من ملام أو عتاب على ما يفعل (¬3). وعلى هذا لا يمكن تعميم عدم السؤال ليتوصّل إلى البحث عن علل الأحكام الشرعية. وإنما اختلف العلماء بعد ذلك في القياس في الأمور الشرعية. فانصرف الجمهور إلى أن التعبّد بالقياس جائز عقلاً، واجبٌ العملُ به شرعاً. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 23. (¬2) ابن حزم. الإحكام: 8/ 102 - 103. (¬3) التحرير والتنوير: 17/ 45 - 46.

التعبدي

وقال القاساني والنهرواني وداود بن علي الظاهري: التعبّد بالقياس واجب شرعاً إذا كان حكم الأصل منصوصَ العلّة (¬1) إمّا بتصريح اللفظ أو بإيمائه. وذلك كأن يقول الشارع: الخمر حرام للإسكار فيقاس النبيذ عليها. وكذلك إذا كان الفرع أولى بالحكم من الأصل، مثل قياس الضرب على التأفيف بجامع الإيذاء في الكل، يثبت له التحريم. فإن الضرب أولى بالتحريم من التأفّف، لشدّة الإيذاء فيه. وفي غير هاتين الصورتين يحرم العمل بالقياس. ولا دخلَ للعقل في الإيجاب ولا في التحريم. وذهب ابن حزم وأتباعه إلى أن التعبّد بالقياس جائز عقلاً، ولكن الشرع لم يوجد فيه ما يدلّ على العمل به. وقالت الشيعة الإمامية والنظّام في أحد النقلين عنه: إن التعبّد بالقياس محال عقلاً (¬2). التعبّدي: يقابل المعلل من الأحكام، في عُرف الفقهاء والأصوليين، التعبّدي منها. وهي أمران: ¬

_ (¬1) قال أبو محمد ابن حزم والآمدي: إن داود يقول بالقياس إذا كانت العلة منصوصة كمذهب القاساني والنهرواني. وأما نحن فلا نقول بشيء من القياس. السبكي. الإبهاج: 3/ 7. (¬2) الرازي. المحصول: 2/ 245 - 299؛ الآمدي. الإحكام: 2/ 234 - 241؛ البصري. المعتمد: 2/ 215 - 234؛ الأسنوي. نهاية السول: 4/ 6 - 22 وغيرها؛ فرغلي: 355.

الأول: أعمال العبادة والتنسك. الثاني: الأحكام الشرعية التي لا يظهر للعباد في تشريعها حكمة غير مجرد التعبّد. وذهب أكثر العلماء إلى أن المشروعات من التَعبُّديات كانت لحكمة. ودليل ذلك استقراء تكاليف الله على كونها جالبة للمصالح دارئة للمفاسد. وتقدم للشاطبي ممّا أوردناه من قوله: "إن كل الأحكام الشرعية معلّلة بمصالح العباد في الدنيا والآخرة". وهذا مذهب المعتزلة واختيار أكثر الفقهاء المتأخّرين. وقال ابن القيم: شرع الله العقوبات ورتّبها على أسبابها، جنساً وقدراً. فهو عالِم الغيب والشهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالِمين. أحاط علماً بوجوه المصالح دقيقها وجليلها، خفيِّها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم. وليست التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحِكم والغايات المحمودة، كما أن التخصصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك (¬1). أما الغزالي فقد بيّن حكم تشريع التعبّديات بقول مجمل غير مفصّل، قال: وظّف الله على العباد أعمالاً لا تأنسُ بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول. وبها يظهر كمال الرق والعبودية لله. وأكثر ما يكون من التعبّديات في أصول العبادات، وفي نَصب أسبابها، وفي الحدود والكفارات، وفي التقديرات العددية بوجه عام. وقال العزّ بن عبد السلام: يجوز أن تجرد التعبديات عن جلب المصالح ودرء المفاسد. ثم يقع الثواب عليها، بناء على الطاعة ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين: 2/ 120 بتصرف.

حكم القياس

والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب، وفي درء مفسدة غير مفسدة العصيان، فتحصّل من هذا أن الثواب قد يكون على مجرد الطواعية من غير أن تحصّل تلك الطواعية جلب مصلحة أو درء مفسدة سوى مصلحة أجر الطواعية (¬1). وكما اتضح ما بين المذاهب من اختلاف في القول بالتعليل ينبغي أن نرتِّب على ذلك اختلافها في العمل بالقياس. حكم القياس: ذهب الجمهور إلى القول بالتعبّد بالقياس عقلاً. وهو قول الأئمة الأربعة وأكثر الفقهاء والمتكلمين. وبه قال السلف الصالح من الصحابة والتابعين. واختلفوا في التعبّد به شرعاً. فالأكثر على ثبوته بدليل السمع، وقيل: بدليل العقل. ويشهد لهذا قول الباجي: والدليل [العقلي] على جواز التعبّد بالقياس أنه ليس في التعبّد به وجه من وجوه الإحالة يُعلمُ بضرورةٍ من تجويز الجمع بين الضدّين، وكون الجسم الواحد في وقت واحد في مكانين مختلفين، وكون الخبر الواحد صِدقاً كَذِباً، وقلبُ الأشياء عن معانيها، وإخراجُ الأشياء عن صفات أنفسها. وما لم يكن فيه وجه من وجوه الإحالة [هذه] وجب أن يكون جائزاً (¬2). وفصّل الغزالي القول في ذلك فقال: إن الذي ذهب إليه الصحابة بأجمعهم وجماهيرُ الفقهاء والمتكلمين من بعدهم أن التعبّد به شرعي. وأنكر أهل الظاهر وقوعَه، بل ادَّعَوا حظرَ الشارع له (¬3). ¬

_ (¬1) القواعد: (2) 1/ 28. (¬2) الباجي. الإحكام: 531/ ف 568. (¬3) المستصفى: 2/ 56.

العمل بالقياس

ولبيان أوجه الاختلاف، ولكون القياس من العمل بالرأي يتعيّن علينا أن نقف قليلاً، تمهيداً وتفصيلاً لما ورد في الرأي من أقوال تجعل منه الباطل الذميم المردود، والصحيح المقبول المعتمد المحمود، والمشتبه فيه المحتاج إلى توقّف ومتابعة نظر وتدبّر. العمل بالقياس: عَمِلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقياس. يدلّ على هذا ما روي عنه من حديث أبي ذرّ وغيره. فقد قال لمن سأله مستغرباً: أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر! قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أكان يأثم؟ " قال: نعم. قال: "فكذلك يؤجر. أفتجيزون بالشر ولا تجيزون بالخير"!. والحديث جزء من حديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور". وهو من قياس العكس. ومنه حديث القُبلة من الصائم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجيباً عمر عن ذلك لما سأله: "أرأيت لو تمضمض ماء ومجّه وهو صائم". فقال عمر: لا بأس. قال: "فكذلك هذا". ومثله حديث الخثعمية في الحج عن أبيها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتِ لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ذلك ينفعه؟ ". قالت: نعم. قال: "فدَين الله أحق" (¬1). وائتسى أكثر الفقهاء من عهد الصحابة إلى اليوم بما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وعملوا بالقياس فيما يصح فيه القياس من الأحكام، شرطَ استكمال الشروط. وأجمعوا على ذلك. قال المزني: يستعمل الفقهاء القياس في الفقه في جميع الأحكام من أمر ¬

_ (¬1) الحجوي. الفكر السامي: (2) 1/ 75 - 78.

دينهم وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل. فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها. وأتى ابن عبد البر بالعديد من الأقيسة المجمع عليها (¬1). والقياس من الدين، وهو حجة عند الثقات من العلماء. ورُتبته بعد الكتاب والسُّنة والإجماع. قال ابن عقيل الحنبلي: قد بلغ القياس التواتر المعنوي عند الصحابة. وهو يفيد القطع. ففي زمنه - صلى الله عليه وسلم - تقرّر القياس وأصولُه مع قوادحه (¬2). وقالت طائفة: إن القياس من الرأي، تريد المنع منه والصرف عنه، لما رواه أبو هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، ثم تعمل برهة بسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تعمل بعد ذلك بالرأي، فإذا عملوا بالرأي ضلّوا". وقال عمر بن الخطاب: أصبح أهل الرأي أعداء للسنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يرووها، فاشتقوا الرأي (¬3). وفصّل القول في هذا جمهور العلماء فجعلوا الرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه. وقد استعمل السلف الرأي الصحيح، فآمنوا به، وسوغوا القول به، وذمّوا الباطل ومنعوا من العمل به في الفتيا والقضاء، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله. والقسم الثالث جوزوا العمل به عند الاضطرار إليه، حيث لا ¬

_ (¬1) ابن عبد البر. جامع بيان العلم وفضله: 872/ ف 1648. (¬2) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: (2) 4/ 359. (¬3) ابن عبد البر. الجامع: 1040/ ف 1999.

يوجد منه بد. ولم يلزموا أحداً العمل به ولم يحرّموا مخالفته ... وإنما خيّروا بين قبوله وردّه. ولعل هذا الرأي يستند إلى قول الشافعي فيما رواه الإمام أحمد عنه، وقد سأله عن القياس، فقال: عند الضرورة (¬1). ولخّص ابن عبد البر، ما يكون به الجمع بين المقالين، بقوله: الرأي المذموم المذكور في الآثار، عن النبي وعن الصحابة والتابعين، هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغالُ بحفظ المعضلات والأغلوطات، وردُّ الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً، دون ردّها إلى أصولها، والنظر في عللها واعتبارها. فاستعمل فيها الرأي قبل أن تُنزَّل، وفُرَّغت وشُقّقت قبل أن تقع، وتُكلم فيها قبلَ أن تكون بالرأي المضارع للظن. وقالوا: ففي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل للسنن، وبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله - عز وجل - ومعانيه (¬2). ويقال: إن الشافعي وأحمد اشترطا في القياس شروطاً، وحذّرا من التعبّدية. فالشافعي يقول: لا يقيس إلا مَن جمع الأدلة التي له أن يقيس بها. وهي العلم بكتاب الله: فرضِه وأدبِه، ناسخِه ومنسوخِه، عامِه وخاصِه وإرشادِه. ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسُنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإذا لم يجد سُنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس. وموقف الإمام أحمد في الأخذ بالقياس يؤخذ من قوله في ¬

_ (¬1) المسودة: 367. (¬2) ابن عبد البر. الجامع: 1054/ ف 2035.

توجيهه للفقهاء في عصره: يجتنبُ المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس، كان في الأثر ما يغني عن القياس. ومما يدل على خوفه من وقوع أكثر الناس في المحاذير تمسُّكُه الشديد المعروفُ بالآثار. وهو ما ينطق به مسنده. وذكر ابن قدامة أقوال الإمام مؤكداً أن ذلك لا يدل على رفضه القياس إطلاقاً (¬1). ولم تثر هذه المقالة ونحوُها إلا اهتماماً زائداً بالفتوى والقضاء. ويفسر هذا قولُ صاحب جامع العلم وفضله: إن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم، وإنه لا يجتهد إلا عالم بها. فمن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل. وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً فتدبّره (¬2). وما من شك في كون المعتدِّ به من الأقيسة ما قاسه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبعه عليه الصحابة، وما كانت عليه الجمهرة من المسلمين الذين أخذوا بالشروط المتقدمة المفصّلة للقياس. ولعل هذا النوع هو الذي وصفه الزهريّ بقوله: نعم وزير العلم الرأيُ الحسن. والفيصل في هذا قول مالك - رحمه الله -: "إنْ نَظُنُّ إلا ظنّاً وما نحن بمستيقنين". وقوله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب. فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسُّنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسُّنة فاتركوه" (¬3). ولم يساند مقالَة الظاهرية عامةُ الفقهاء لا من حيث الشكل والطريق، ولا من حيث ما يترتّب عليها من آثار لا تصحّ عندنا. ¬

_ (¬1) ابن قدامة. روضة الناظر مع شرحه نزهة المخاطر: 2/ 234. (¬2) ابن عبد البر: الجامع: (1) 2/ 57. (¬3) ابن عبد البر. الجامع: 2/ 32، 33.

القياس بين المثبتين والنفاة

وهذا ما حمل ابن العربي على التعريض بها في أبيات منها: قالوا: الظواهر أصل لا يجوز لنا ... عنها العدول إلى رأي ولا نظرِ إن الظواهر معدود مواقعها ... فكيف تُحصي بيان الحكم في البشرِ فالظاهرية في بطلان قولِهم ... كالباطنية غَير الفرق في الصورِ (¬1) وتبع ابنُ عاشور ابنَ العربي مقيماً الحُجة على الظاهرية بإبطال لازم دعواها في قوله: وأنت إذا نظرت إلى أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحِكمة؛ لأنهم نفوا القياس والاعتبار بالمعاني. ووقفوا عند الظواهر فلم يتجاوزوها .. على أن أهل الظاهر يقعون في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكم من حوادث الأزمان. وهو موقف خطير يخشى على المتردّي فيه أن يكون نافياً عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار (¬2). القياس بين المثبتين والنُّفاة: يستدلّ المثبتون للقياس العاملون به على مذهبهم بالكتاب؛ بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (¬3). ويستدلّون أيضاً بالسُّنة على القول بالقياس والعمل به، وبما قاله معاذ بن جبل في حواره مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، المنتهي إلى الاعتصام بالرأي. وذلك قوله: حين يُفقد الدليل من الكتاب والسُّنة: أجتهد برأيي ولا آلو (¬4). ومثل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي حين دخله الشك في ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذي: 10/ 112. (¬2) المقاصد: 152 - 153. (¬3) سورة الحشر، الآية: 2. (¬4) انظر المقاصد: 522.

انتساب ولده إليه لسمرته: فلعل ابنك هذا نزعةُ عرق (¬1). استدل ابن حجر به لصحة القياس. وقال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن العربي: فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير (¬2). ومما استدل به المثبتون للقياس قول البزدوي: وعملُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناظراتُهم في هذا الباب أشهر من أن يخفى على عاقل مميز. فإن طعن طاعن فيهم فقد ضلّ عن سواء السبيل ونبا عن الإسلام. ومن ادعى خصوصهم ادعى أمراً لا دليل عليه، بل الناس سواء في تكليف الاعتبار (¬3). ومن استدلالهم بالنقل قولهم: إن القياس لا يترتّب على وقوعه محالٌ لذاته ولا لغيره. وكل ما كان كذلك كان جائزاً عقلاً. فالتعبّد بالقياس جائز عقلاً. ومن ذلك ما في التعبّد بالقياس من مصلحة لا تحصل بدونه. وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلاً. فالتعبّد بالقياس جائز عقلاً وكان أبو الهذيل العلاف من أشد الناس انتصاراً للقياس، وإلى الاجتهاد بالرأي في الأحكام (¬4). وأما المعارضون للعمل بالقياس فلم يكن داود الظاهري أوَّل من وقف موقفهم من المثبتين للقياس، بل سبقه إلى ذلك النظَّام. وهو وإن لم يكن ينكر أن الشريعة شرعت لأسباب ومقاصد لكنه ينكر على العقل البشري قدرَته على معرفة كنهها. وهو لا ينكر أن العلّة النصِّيَّة توجب الإلحاق، ولكن لا بطريق القياس بل بطريق اللفظ ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه. وهو من أقيسةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. خَ: 6/ 178؛ مَ: 2/ 233. (¬2) ابن حجر: الفتح: 9/ 444. (¬3) أصول البزدوي: 3/ 280 - 282. (¬4) فرغلي. بحوث في القياس: 283 - 285.

والعموم (¬1). وقد تبع النظَّامَ على مذهبه هذا بعضُ المعتزلة كبشر بن المعتمر، وإسحاق بن راهويه الذي كان على منهج المنكرين. وكان يقول معرضاً بخصومه: نبذوا كتاب الله وسُنة رسوله ولزموا القياس (¬2). وحمل داودَ الظاهري على إنكار القياس ما رآه لدى المثبتين له من التطرّف والمغالاة. فمنهم من قدّم القياس على الإجماع. ومنهم من ردّ الحديث بالقياس. ومنهم من أوّل الآيات وحاد بها عن معانيها اعتباراً منه للرأي واعتداداً بالقياس. ويلخص داود الظاهري مذهبه بقوله: الحكم بالقياس لا يجب، والقول بالاستحسان لا يجوز (¬3). وهو ينفي القياس في التوحيد والأحكام. ويقول: إن الأصول هي الكتاب والسُّنة والإجماع فقط. ومنع أن يكون القياس أصلاً من الأصول (¬4). وإنكاره للقياس كان عاماً مطلقاً للجلي والخفيّ، وإن كان عند الحاجة الماسة إليه لا يرفضه ويسمّيه دليلاً. وهنا يفترق شيخا الظاهرية داود وابن حزم، فالثاني يصرّ على ظاهريته. وقد اشتهر عند الخاصة والعامة بتمسّكه أشد التمسّك بنفي القياس. ¬

_ (¬1) ابن قدامة. الروضة: 2/ 62، 63؛ الغزالي. المستصفى: 2/ 272. (¬2) ابن قتيبة. تأويل مختلف الحديث: 38. (¬3) ابن السبكي. طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 46. (¬4) ابن عبد البر. الجامع: (1) 2/ 75.

وأساس تفكير الطائفة الظاهرية تمسكها بالظاهر دون الباطن. قال علماء الأصول: الظاهر هو اللفظ باعتبار دلالته على معنى متبادر منه، وليس مقصوداً أصلياً بسوق الكلام، مع احتماله للتفسير والتأويل وقبوله للنسخ في عهد الرسالة (¬1). وكشف ابن حزم عن حقيقة الظاهر الذي انبنى عليه مذهبه بقوله: هو ظاهر اللفظ من ناحية اللغة، فلا يُصرَف اللفظ عن معناه اللغوي إلا لنص آخر أو إجماع. فإن نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره، وعما وضع له من دلالة في اللغة إلى معنى آخر بغير نص أو إجماع، فحكم ذلك النقل أنه باطل، ويعتبر تبديلاً لكلام الله - عز وجل - (¬2). ومن هنا ينطلق ابن حزم إلى القول بأن استخدام القياس في الأحكام الاجتهادية عملية عقلية بحتة تتنافى مع جوهر العقيدة الإلهية. ولو كان الدين بالعقل لجرت أحكامه على خلاف ما أتى به الكتاب والسُّنة. وكتبت طائفة من الأصوليين عن منكري القياس، فجعلت الرازي في مقدمة هؤلاء بزعمها أنه ينكر أن تكون أحكام الله معلّلة بعلّة البتة. قال الشوكاني: أحسب أن أهم من يصور هذا الاتجاه في الأصول هو داود الظاهري. وعنوَن الشيخ ابن عاشور لهذه المدرسة بمجدّدها ومدوّن مذهبها وواضع أصولها وقواعدها الإمام ابن حزم. وتحدث أهل العلم كثيراً عن إنكار ابن حزم للتعليل قبل أن يعلن عن مناوأته للقياس عند أهل الرأي. فهو الذي يقول: الحكيم بيننا لا يفعل إلا لعلّة صحيحة، والصحيح هو الذي يفعل لا لعلّة، ¬

_ (¬1) علي حسب الله. أصول التشريع: 232. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 42.

فقاسوا ربهم تعالى على أنفسهم. وقالوا: إن الله لا يفعل شيئاً إلا لصالح عباده. وراموا بذلك إثبات العلل في الفترات. قال أبو محمد: وتكاد هذه القضية الفاسدة التي جعلوها عمدة لمذهبهم، وعقدة تنحل عنها فتاواهم أن تكون أصلاً لكل كفر في الأرض. وأما على التحقيق فهي أصل لقول الدهرية والمانوية وقول من قال بالتناسخ، ومن أبطل النبوات (¬1). ومن شنيع قوله في ذلك تأويله لقول الله تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2) فيؤول الآية بقوله: فأخبر الله تعالى أن البحث عن علّة مرادِهِ ضلال؛ لأنه لا بد من هذا، أو من أن تكون الآية نهياً عن البحث عن المعنى المراد. وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل إن البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه. فصح القول الثاني ضرورةً ولا بد (¬3). وردّ كثير من العلماء بشدّة على إنكار ابن حزم التعليل والقياس (¬4)، ونقل إمام الحرمين عن المثبتين قولهم، وهو ما ذهب إليه ذوو التحقيق: إنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة. فإنهم مباهتون أولاً على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتراً، ومن لا يزعه التَّواتُرُ ولم يحتفل بمخالفته، لم يوثق بقوله ومذهبه (¬5). ولما حدد ابن عاشور موقفه من المثبتين للقياس، ومن ¬

_ (¬1) الإحكام: 8/ 120. (¬2) سورة المدثر، الآية: 31. (¬3) الإحكام: 8/ 112. (¬4) يوسف العالِم. المقاصد العامة: 126. (¬5) البرهان: 2/ 819، ف 776.

المنكرين له كابن حزم، أعلن مجافاتَه للظاهرية ومخالفتَه لها. وحمل المتمسكون بالظواهر النافون للقياس كثيراً من أهل السُّنة على سلوك مسلكهم اعتباراً للتعبّد. ووقع لهم من الجمود في استنباط الأحكام ما يشهد بفقدان الحس بالمقاصد لديهم، وعدم الاعتداد بها في ضبط الأحكام كلياً. ودليل ذلك أن من بينهم من تمسك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيء خطأ إلا السيف" (¬1) في قتل العَمد، وهذا لا يصحّ. فإن القتل العمد لا ينحصر في هذه الصورة. بل يحصل بعدة أسباب كالزهق بالخنق، والحرق بالنار، والذبح بقصب أو بما سواه. وهذه من الملحقات بالقتل بالسيف. وقد توقَّفَ بعضهم في الحكم بالقصاص في الصخرة تلقى من علُ على أحد المارة أو الجالسين على جنب الطريق قصداً فتقتلَه، وكذلك في ضرب الرأس بالدبوس، والإغراق مكتوفاً، والتجويع الأيام المتتالية. ويرجع تردّدهم في هذا الموقف إلى أخذ فقهائهم باللفظ أو بالوصف دون القصد، فيوشكون بتصرّفهم أن يبلغوا حد نفي الحِكْمة عن الشريعة التي أنيطت أحكامُها بها. وربما اضطرهم منهجهم الاجتهادي هذا إلى التوقّف عن إثبات الأحكام فيما لم يُروَ فيه من حوادث الزمان عن الشارع حكم. وفي هذا كل الخطر، وهو الإنكار لحقيقة ثابتة عن الشرع تقضي بأن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان. وهذا ما ينطق به قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وغيرُه من النصوص، وتشهد له العقول، أو تنتهي إليه، ويدركه ذوو الفهم بالحلال والحرام. ولم يَسلَم هذا الحكم: حكم الإمام على الظاهرية من معارضة ونقاش؛ لأنه كان انبنى على نقاط أساسية معتبرة، يجد في العصر ¬

_ (¬1) انظر المقاصد: 152.

مجالات الإثبات والإنكار للقياس

الحاضر منازعة شديدة تحمل بعض الدارسين على الحفاظ على رأي ابن حزم، وعلى تحليل تصوراته المبنية على نظريته الفقهية المتميزة. فقد كان ابن حزم كما قدّمنا يرى أن كثيراً من الأمثلة الفقهية التي انبنت طرقها الاستدلالية على التعليل تُردّ إلى النصوص. فهذه بمقتضى كمالها شاملة لكل الحوادث التي تأتي في كل العصور. أما طريق إفادتها للحكم فلا يمكن أن يخرج عن أصول الأحكام التي تُرَدّ عند ابن حزم إما لنص وإما لإجماع، وإما إلى دليل مولد منها ومفهوم من دلالتيهما. ويفسّر هذا أن الحكم يؤخذ لا بحمل يكون أساسه التعليل القياسي باستخراج علّة من النصّ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، بل بفهم النص في ذاته فهماً لا يحيد عن المعاني الواردة فيه. وبهذا يختلف المنهجان: منهج الجمهور ومنهج الظاهوية. وذلك بكون الأول يعتمد الحمل الظنّي الذي يؤسس على القياس الأصولي، وبكون الثاني ينطلق من عمليتي الفهم والتمييز للنصوص لا من القياس (¬1). ولا يخفى ما في الطريق الثاني من صعوبة شهد بها علماء الأصول والفقه، وما توقف فيه المجتهدون لكونه إذا اعتمد وحده لا يفي بالغرض في كثير من القضايا المستجدة. مجالات الإثبات والإنكار للقياس: وعلى أساس ما قدمنا يتضح أن من الأصوليين والفقهاء معتضدين بالقياس، معتمدين عليه وهم المثبتون، ومنهم معطّلون له، راغبون عن العمل به، وهم المنكرون. ¬

_ (¬1) إسماعيل الحسني. نظرية المقاصد: 312 - 314. تقدمت الإشارة إلى جواز العمل بالطريقتين عند ابن القيم.

وما من شك في أن من بين المثبتين، والمنكرين لحُجية القياس أئمةً، هم وإن كانوا من القسم الأول أو من القسم الثاني، فقد اختلفوا اختلافاً تميّزوا به عن نظرائهم من المثبتين أو النفاة. ويظهر هذا فيما انتحوه من اتجاهات في بعض القضايا والموضوعات. قال الأستاذ أبو منصور: اختلف المثبتون للقياس على أربعة مذاهب: ذهب عدد منهم إلى القول بثبوته في العقليات والشرعيات. وهو قول فقهاء الشافعية. ومنهم من أثبته في العقليات دون الشرعيات. وهو قول بعض الظاهرية. ومنهم من أثبته في الأحكام الشرعية التي ليس فيها نصّ ولا إجماع، ونفاه في العلوم العقلية. وهذا قول المعتدين المتمسكين بأن المعارف ضرورية. ومنهم من نفاه في العقليات والشرعيات جميعاً. وهو مذهب أبي بكر بن داود الأصفهاني (¬1). واعتمده القائسون فجعلوه دليلاً بالشرع. وجعله أبو الحسين البصري ومن أخذ برأيه دليلاً بالعقل، والأدلة السمعية وردت مؤكّدة له. وقال ابن الدقاق: يجب العمل به بالعقل والشرع. وهو ما جزم به ابن قدامة في الروضة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. إرشاد الفحول: 199 - 200.

القياس عند الظاهرية

أما المنكرون للعمل بالقياس فالنظَّام ومن تبعه من المعتزلة أمثال جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشّر والإسكافى. وقد انتهى هذا إلى داود الظاهري ثم إلى زعيم الظاهرية ابن حزم. * * * ومن قضايا الاختلاف في القياس إثباته في التوحيد ونفيه في الأحكام. وقال فقهاء الأمصار وسائر أهل السُّنة بالعكس فنفوه فى التوحيد وأثبتوه في الأحكام. وخالفهم داود بنفيه فيهما جميعاً. وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود النهرواني والمغربي والقاساني أن القياس محرّم شرعاً (¬1). القياس عند الظاهرية: دعت المدرسة الظاهرية إلى إبطال القياس كما أبطلت التعليل، واستبدلته بالدلالة الشرعية المستنبطة من النصوص عند سائر الفقهاء، عدا الباطنية. والدلالة المصطلح عليها لديهم تعرف بالدليل. والدليلُ عندهم دليل منطقي، مستمد من المصادر الثلاثة: الكتاب، والسُّنة، والإجماع لا يتجاوز دلالةَ اللفظ ومفهومَ النص. وجوهر الدليل إخراج ما هو مضمّن في المقدمات، واستنتاج لما هو معطى سلفاً بكيفية جلية أو خفية من النص، استنتاجاً واستخراجاً يقينيين على أساس قاعدة اللزوم المنطقي (¬2). ورتب سالم يفوت على تعريف الدليل هذا، معتمدِ الظاهرية، ¬

_ (¬1) الشوكاني. إرشاد الفحول: 2/ 847، تحقيق أبي حفص الآجريّ، ط (1) الرياض، 2000. (¬2) سالم يفوت. ابن حزم الفكر الفلسفي: 154.

القولَ بأن القياس الفقهي يفيد حكماً زائداً؛ لأن آليته أساسُها حمل ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص، أو ربطُ جزء بجزء لعلّة أو شبَهٍ بينهما. وفي هذا تجاوز للنص وتحكّمٌ، نتيجتُه إضافة شرع جديد. وحجة الظاهرية على هذه الدعوى قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1)، والشريعة الإسلامية كاملة ليست في حاجة إلى إضافات كيفما كانت أشكالها وصورها وأساميها ما لم يكن لها أساس في النص نفسه. ولهذا قالوا: إن الدليل لا كالقياس لا يمثل إضافة شرع جديد إلى الشرع، بل هو إضفاء للمعقولية عليه وإخراج لما هو مضمّنٌ فيه (¬2). وسبق إلى تحرير هذا الرأي الإمام ابن القيم في حديثه عن شمول نصوص الشريعة وغناها عن القياس، بانياً رأيه على مقدمتين: الأولى أن دلالة النصوص نوعان: حقيقية وإضافية. فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف. والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكِه، وجودةِ فكره وقريحته، وصفاء ذهنه ومعرفه بالألفاظ ومراتبها. وهذه الدلالة تختلف اختلافاً متبايناً بحسب تباين السامعين في ذلك (¬3). وتعرض لمثل هذا الأصوليون. قال الشوكانى: إن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياساً، وإن كان منصوصاً على علّته، أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل مشمولاً به، مندرجاً تحته. وبهذا يهون عليك الخطب، ويصغر عندك ما استعظموه، ويقرب لديك ما أبعدوه؛ لأن ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 38. (¬2) سالم يفوت. ابن حزم والفكر الفلسفي: 154 - 157. (¬3) إعلام الموقعين: 1/ 350.

الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظياً. وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه. واختلاف طريقة العمل لا تستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً (¬1). وهذا المعنى وإن توهمه السابقون، فقد رده الرازي بقوله: إن هذا الأساس لزومي منطقي يعطي أحكامه الشرعية عند ابن حزم بالاعتماد على الأسس المنطقية. وهو ضروري لقيامه على عمليتي الفهم والتمييز المنصبَّيْن على النص، واللذين يشبهان بتوليد أو استنتاج أو تفريع دليل، توليداً واستنتاجاً وتفريعاً ضرورياً. وطريق الدليل الاستنباط والانتقال التدريجي من المقدمات إلى النتائج، بخلاف اللزوم المنطقي في القياس الأصولي الذي يكون الحمل فيه متجاوزاً لفظه. وهذه الطريقة الاستدلالية لاستنباط الأحكام عند الظاهرية تقتضي زيادة أصل آخر جهِله الفقهاء، سبيله القياس وموضوعه الدليل. وهو عمل القائسين الذين تجاوزوا حد القياس الأصولي، واتخذوا من الدليل الذي صوّروه وقالوا به أصلاً وطريقاً من طرق الاجتهاد عندهم. ويتعارض هذا مع حديث معاذ، كما يناقض رسالة ابن الخطاب إلى شريح قاضيه على الكوفة. لكن داود وابن حزم مضيا قدماً غير ملتفتين إلى هذين الأثرين، قادحين فيهما بالضعف والوضع. ويوضح أقوال أئمة السُّنة من القياس شيخ الإسلام تقي الدين الفتوحي الفقيه الأصولي الحنبلي في مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (¬2). ¬

_ (¬1) الشوكاني. إرشاد الفحول: 2/ 860 - 861. (¬2) الفتوحي. مختصر التحرير: 534 - 535.

حجية القياس: أدلة المثبتين

حجية القياس: أدلة المثبتين: أغلب الجمهور مثبتون لحجية القياس بالكتاب، كما قدمنا، وهم مأذونون، في الآية، بالاعتبار بأفعال بني النضير وما نزل بهم. فلا تفعلوا ما فعلوا فتعاقبوا بما عوقبوا به. وفي الآية دليل على أن المسببات تابعة لأسبابها. والقياس الشرعي لا يخرج عن ذلك. وورد في القرآن ذكر علة تحريم الخمر. وهي ما يترتب على شربها من مفاسد دينية ودنيوية. وأخطر ما في ذلك وأقذعه إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس. وفي السُّنة مثل ذلك في حجية القياس وهو حديث معاذ (¬1). وفي رواية عن معاذ وأبي موسى أنهما أجابا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سألهما: كيف تقضيان إن لم تجدا الحكم في الكتاب والسُّنة؟، قالا: قسنا الأمر بالأمر؛ فما كان أقرب إلى الحق عملنا به (¬2). ويمكن استفادة حجية العمل بالقياس من فتاواه - صلى الله عليه وسلم -. وأجاز للرجل تقبيل امرأته وهو صائم: فإنه ألحقَ دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء. وهو عين القياس (¬3). ومن أدلة المثبتين للقياس: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فَجَمَلوها وباعوها وأكلوا أثمانها". ومنها أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادَّخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة فادخروها". ¬

_ (¬1) راجع ابن القيم. إعلام الموقعين. 1/ 175. (¬2) الآمدي. الإحكام: 4/ 36. (¬3) الآمدي. الإحكام: 4/ 37.

ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصيد: "فإن وقع في الماء فلا تأكل منه، لعل الماء أعان على قتله" (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر علل الأحكام والأوصاف المؤثّرة فيها ليدل على ارتباطها بها، وتعدّيها بتعدّي أوصافها وعللها كقوله في نبيذ التمر: "شجرة طيبة وماء طهور" (¬2). وأما الصحابة فقد كانوا يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض، الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره ... وإن الحق ليعرف بالمقايسة عند ذوي الألباب (¬3). وروى الخطيب مرفوعاً (والرفع غير صحيح) قال: وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحكام ولم يعنفهم. كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلّوا العصر في بني قريظة. فاجتهد بعضهم وصلَّوها في الطريق. وقالوا: لم يرد منا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض فنظروا إلى المعنى، واجتهد الآخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها بعد غياب الشمس. فنظروا إلى اللفظ. وهؤلاء هم سلف أهل الظاهر، وأولئك هم سلف أصحاب المعاني والقياس. واستدل آخرون على حجية القياس بالعقل فقال البهاري: إن القياس حجة لحكم شرعي. وكل ما هو كذلك فالتعبّد به واقع لأنه طلب للعلم. ولذلك أثبته الحكماء والمتكلمون وقالوا بفرضيته إجماعاً (¬4). ¬

_ (¬1) رواية هذه الأحاديث كلها مثبتة في الإحكام. الآمدي: 4/ 37. (¬2) ابن القيم: 1/ 171. (¬3) ابن القيم: 1/ 171. (¬4) فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت: 2/ 312.

أدلة نفاة القياس

وقال البيضاوي: إن المجتهد إذا غلب على ظنه كون الحكم في الأصل معللاً بالعلة الفلانية. ثم وجد تلك العلة بعينها في الفرع. يحصل له بالضرورة ظن ثبوت ذلك الحكم في الفرع، وحصول الظن بالشيء مستلزم بحصول الوهم بنقيضه. وحينئذٍ فلا يمكنه أن يعمل بالظن والوهم لاستلزامه اجتماع النقيضين، ولا أن يترك العمل بهما لاستلزامه ارتفاع النقيضين، ولا أن يعمل بالوهم دون الظن لأن العمل بالمرجوح مع وجود الراجح ممتنع شرعاً وعقلاً، فتعيّن العمل بالظنّ، ولا معنى لوجوب العمل بالقياس إلا ذلك (¬1). أدلة نفاة القياس: وأدلة نفاة القياس، وأبرزهم الظاهرية والإمامية، كثيرة. اعتمدوا في المنع على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬2)، وقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬3)، وقوله - عز وجل -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬4)، وقوله جل تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬5). ولهم من السُّنة أحاديث أبطلوا بها قياسات لعمر وأسامة في شأن حلتين أرسل بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهما فلبسها أسامة قياساً للبس على التملك والانتفاع والبيع وكسوتها لغيره وردها عمر قياساً لتملكها على لبسها. فأسامة أباح وعمر حرم قياساً فأبطل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ¬

_ (¬1) شرح الإسنوي: 2/ 2. (¬2) سورة النساء، الآية: 59. (¬3) سورة المائدة، الآية: 48. (¬4) سورة النساء، الآية: 205. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 3.

واحد من القياسين وأَعلَمهما - صلى الله عليه وسلم - قائلاً لعمر: إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها، وقال لأسامة: إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن لتشققها خمراً لنسائك. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تقدم إليهما في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط. فقاسا قياساً أخطآ فيه؛ فأحدهما وهو أُسامة قاس اللبس على الملك، وعمر قاس التملك على اللبس. وهذا عين الباطل منهما لأن ما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من اللبس لا يتعدّى إلى غيره، وما أباحه من التملّك لا يتعدّى إلى اللبس. وهذا عين إبطال القياس (¬1). ومن السُّنة أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله فرض فروضاً فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها. فالحديث موجّه للصحابة ولمن بعدهم. فلا يجوز أن نبحث عما سكت عنه لنحرمه أو نوجبه (¬2). وذكروا من دلائل النهي عن العمل بالقياس إجماع الصحابة. وهو أن بعضهم نهى عن العمل بالقياس أو الرأي، وسكت الباقون عن الإنكار عليه. فكان ذلك إجماعاً على ترك العمل بالقياس. ومن أمثلة ذلك قول أبي بكر: أيّ سماء تظلني، وأي أرض تُقِلُّني إذا قلت في كتاب الله برأيي. وقول عمر: إياكم وأصحاب الرأي. فإنهم أعداء السُّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا. وصرّح أئمة التابعين وتابعوهم بذم القياس وإبطاله. وعللوا هذا ¬

_ (¬1) ابن القيم: 1/ 249. (¬2) ابن القيم: 1/ 249.

النهي بما رواه ابن وهب عن مالك قال: سمعت مالكاً يقول: الزم ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "أمران تركتهما فيكم: كتاب الله وسنتي". قال ابن وهب: وقال مالك: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمامَ المسلمين وسيدَ العالمين يُسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء. فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه أو بقياس أو بتقليد من يحسن به الظن، أو بعرف أو بعادة أو سياسة أو ذوق أو كشف أو منام أو استحسان أو خرص، والله المستعان وعليه التّكلان (¬1). ومن أدلة النهي ما نقل عن البيضاوي والإسنوي: أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة بين المجتهدين للاستقراء أو لأنه تابع للأمارات، والأمارات مختلفة، وحينئذٍ يكون ممنوعاً لقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا} (¬2). وقضية الرأي أو العمل به موضع دراسات ونقد عند الأصوليين. وقد تولى ابن عبد البر وابن القيم تلخيص ذلك. أما مصادر التشريع المختلف فيها وبيان علاقتها بالمقاصد، فنحن مختصرون القول فيها ومقتصرون على ذكر المصالح المرسلة، والاستحسان، وسد الذرائع، وإبطال الحيل. * * * * * ¬

_ (¬1) ابن القيم: 1/ 223. (¬2) شرح الإسنوي: 2/ 237

الباب الثاني مع رواد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

الباب الثاني مع روّاد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد

الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد ذكرنا في هذا الباب الأئمة المقدَّمين في علم أصول الفقه، وفي قواعد الأحكام، وجمعنا المصادر التي اعتمدها صاحب مقاصد الشريعة الإسلامية فى جملة من موضوعاتها لعرضها وتجليتها وتقديمها وبيان موقفه منها. ومن أجل ذلك أدرجنا في هذا المحل عدداً من المسائل وقع استمدادها من كتب البرهان، والمستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل، وقواعد الأحكام، والفروق، ونفائس الأصول، وتنقيح الفصول، والموافقات. وقد كان أصحاب هذه المصنفات صفوة من الأئمة خالدي الذكر يتأكد التنويه بجهودهم. كان منهم الأصولي المتكلم، والفقيه الشافعي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني المتوفى سنة 478 صاحب كتاب البرهان (¬1). والفقيه الشافعي الحكيمُ الفيلسوف حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 صاحب شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، والمنخول، والمستصفى. وسلطان العلماء العز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 الذي صاغ للعلماء والفقهاء والمجتهدين كتاباً عُدّ في المرتبة الأولى من ¬

_ (¬1) د/ عبد العظيم الديب. مقدمة كتاب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني. البرهان في أصول الفقه 1/ 21 - 40.

النفاسة. وهو كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام. والفقيه المالكي شهاب الدين أبو العباس القرافي المصري المتوفى سنة 685 صاحب الفروق، ونفائس الأصول، وتنقيح الفصول في اختصار المحصول. والإمام أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790 المُنَظَّرُ صنيعُه في مقاصد الشريعة بصنيع الإمام الشافعي واضعِ علم أصول الفقه وصاحب الرسالة. أخرج لنا كتابه التعريف بأسرار التكليف وهو: كتاب الموافقات. جاء ذكر هؤلاء الأئمة في تمهيد مقاصد الشريعة الإسلامية على الترتيب الزمني الذي توالوا فيه. بدأ صاحب المقاصد بذكر إمام الحرمين في القضية التي أثارها حول قطعيّة أدلّة أصول الفقه (¬1). وتحدث عنه وعن الغزالي في موضوع المصالح المرسلة، وعن موقفهما منه. وذلك في قوله: فلأن نقول بحجيّة قياس مصلحة كليّة حادثة في الأمة لا يعرف لها حكم على كلية ثابتٍ اعتبارُها في الشريعة، باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي، أو ظنّي قريب من القطعي، أولى بنا وأجدر بالقياس وأدخل في الاحتجاج الشرعي. وإني لأعجب فرطَ العجب من إمام الحرمين على جلالة علمه ونفاذ فهمه كيف تردّد في هذا المقام. وأما الغزالي فأقبل وأدبر، فلحق مرّة بطرف الوفاق لاعتبار المصلحة المرسلة، ومرّة بطرف رأي إمام الحرمين، إذ تردّد في مقدار المصلحة. وجَلْبُ كلام إمام الحرمين في كتاب البرهان وكلام الغزالي في المستصفى يطول (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 17 - 18. (¬2) المقاصد: 245 - 247.

وقد ألحق بهذين في المرتبة بقية الخمسة. وذلك في قوله: ولحق بأولئك أفذاذ أحسب أن نفوسهم جاشت بمحاولة هذا الصنيع، مثل: العز بن عبد السلام، وأبي العباس أحمد بن إدريس القرافي اللذين حاولا جاهدَيْن تأسيس المقاصد الشرعية (¬1). وختم إكباره لجهود هؤلاء الأئمة بما ميّز به أبا إسحاق الشاطبي من قوله: والرجل الفذّ الذي أفرد هذا العلم بالتدوين هو أبو إسحاق الشاطبي. فخصّ القسم الثاني من كتابه الموافقات بعنوان كتاب المقاصد. وبحث فيه بعمق عن أغراض مقاصد الشرع، وتحدَّث عن أهم قضاياه. فأفاد جدّ الإفادة. وأنا أقتفي آثاره، ولا أهملُ مهمّاته، ولكن لا أقصد نقلَه ولا اختصارَه (¬2). وكما تدلّ هذه الجمل وما قبلها على تقدير الشيخ ابن عاشور لمقالات المؤسسين لفن المقاصد، كل واحدة بالقدر الذي رسَخ منها في أفهام العلماء، فإنّه لم ير بأساً من التعليق على كلامهم والمناقشة لهم، والمؤاخذة على بعض تجاوزاتهم. وكان مع استدراكاته على ما نقل عنهم، معترفاً بجليل ما أفاده منهم منذ اندمج معهم، وامتزج بهم في تأصيل علم المقاصد والتطوّر به، وفي دعوة العلماء إلى العكوف على هذا الفن الشريف، واعتماد طريق الاستقراء لإثبات المقاصد الشرعية، وذكر الفروع الفقهية المرتبطة بها والخاضعة لها، اكتشافاً للمزيد من أسرار أحكام التشريع. ولعلنا في إيجاز كامل نقدر على ردّ بعض مباحثه في المقاصد إلى مصادرها المشار إليها قبل. ¬

_ (¬1) المقاصد: 26. (¬2) المقاصد: 28.

1 - الجويني: البرهان

1 - الجويني: البرهان: قال السبكي: وضع إمام الحرمين في أصول الفقه كتاب البرهان على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد (¬1) ومما يطالعنا فيه عند حديثه عن المناهي إيراده مقولة الكعبي: أنه لا مباح في الشريعة. وفي الرد عليه، قال: والمباحات مقصودة منتحاة بقصد الإباحة، وليست مقصودة بالإيجاب كما تقع ذرائع إلى الانكفاف عن المحظورات. وحاصل ما جاء به الجويني من ذلك ردُّه الأمر إلى القصد في تلك المسالك ... فمَنْ لم يتفطّن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة (¬2). وقال في الباب الثالث من كتابه في تقاسيم العلل والأصول التي بها تظهر المقاصد ويُكشف عن المصالح: ونحن نقسّمها خمسة أقسام: الأول: ما يعقل معناه وهو أصل، ويؤول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لا بد منه، مع تقرير غاية الإيالة الكليّة والسياسيّة العامية. وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه. فهو معلّل بتحقق العصمة في الدماء المحقونة، والزجر عن التهجّم عليها (¬3). الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حدِّ الضرورة. وهذا مثل تصحيح الإجارة، فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن، مع القصور عن تملّكها وضِنّة مُلّاكها بها على سبيل العارية (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية: 5/ 192. (¬2) البرهان: 1/ 294 - 295، المسألة 205. (¬3) البرهان: 2/ 923، عدد 901. (¬4) البرهان: 2/ 924، عدد 903.

الثالث: ما لا يتعلق بضرورة خاصّة ولا بحاجة عامّة، ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة، أو في نفي نقيض لها، ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث (¬1). الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة. وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحاً ابتداء، وفي المسلك الثالث في تحصيله خروج عن قياس كلّي. وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب من الضرب الثالث، ومثاله وضع الشرع النكاحَ على تحصين الزوجين (¬2). الخامس: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلاً ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة، أو استحثاث على مكرمة مبيناً أثرها فيتعقّبها. وهذا يندر تصويره جداً، فإنّه إن امتنع استباط معنى جزئي، فلا يمتنع تخيّله كليّاً، ومثاله: العبادات البدنية المحضة (¬3). وقد تضمّن كتاب البرهان شواهد على عناية الجويني بالأصول وبالمقاصد الشرعية وردت في تأليف الشيخ ابن عاشور على الترتيب التالي: 1 - إدراج الجويني في البرهان كثيراً من الظنّيات. 2 - لم يدون الأصوليون في أعمالهم أصولاً قواطع. 3 - اعتذار إمام الحرمين عن إدخال ما ليس بقطعي في مسائل أصول الفقه. وقد تقدم تفصيل القول في ذلك مع بيان رأي الإمام ابن عاشور فيه ورده لكلام الجويني (¬4). ¬

_ (¬1) البرهان: 2/ 924 - 925، عدد 903. (¬2) البرهان: 2/ 925 - 926، عدد 904. (¬3) البرهان: 2/ 603 - 604، عدد 905. (¬4) المقاصد: 17، 52 - 53.

كانت هذه القضية تحتاج إلى زيادة من القول، فعاد الشيخ ابن عاشور إلى ذكر موضع الخلاف فيها وبيّن سببه في رأيه (¬1). 4 - ذكرُ الجويني لصيغة من الاستدلال العربي تَحتاج إلى التنبيه عليها. وذلك قوله: والذي نرى القطع به التعلّق بمقتضى الصيغة في أصل اللسان. فإذا نظرنا إلى معناها فهو عام، وإذا نظرنا إلى السبب فليس بدعاً أن يُسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فيذكر في مقابلته تأسيسَ شرع يأخذ منه السائلُ حظَّه، ويسترسل مقتضى اللفظ على غيره. 5 - أورد الشيخ ابن عاشور الحكم بالتخيير لمن سقط على جماعة من الجرحى أو الصرعى، بحيث إذا وطئ على واحد منهم قتله، فإن انتقل إلى غيره قتله أيضاً. فقيل: يبقى واطئاً لمن نزل عليه، وقيل: يخيّر. فحكى عن الجويني قوله في الواقعة: هذه واقعة بحسب المفترض خَلَت عن حكم الله. ثم قال في الجواب: لا. لم تخلُ من حكم الله، ولا يُعتقَدُ خلو واقعة عن حكم الله، ولا نرى ذلك في قواعد الدين؛ ولأن التردّد أو التخيير في هذه الواقعة للمتردّي استواءُ الإقدام والإحجام فيها، وهو حقيقة الإباحة (¬2). 6 - تفصيل القول في العمل بأخبار الآحاد والاختلاف فيه، إذا خالفت القواعدَ أو القياسَ أو عملَ أهل المدينة، ولسنا في مثل هذه الحالة بالذي يتمسك بالخبر، إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك المبالاة أو العلم بكونه منسوخاً، وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجالٌ (¬3). ¬

_ (¬1) المقاصد: 52 - 53. (¬2) البرهان: 2/ 1350 - 1351، عدد 1531، 1534. (¬3) البرهان: 2/ 761، عدد 1208؛ المقاصد: 72 - 74، 266.

2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى

2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى: أما الغزالي تلميذ إمام الحرمين قد تعددت كُتبه، وتميّز به عصره، فاكتشف تصوّرات جديدة وقوانين معتبرة. نلمسها جميعَها في كتابه شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، وكتابه المنخول، وكتابه المستصفى وهو أكمل هذه الكتب وأدقها وأتمّها وأوفاها. سلك به سبيله إلى علمي الأصول والمقاصد، وقال عنه في مقدمته: "وضعت تصنيفاً في أصول الفقه أصرِفُ العنايَة فيه إلى التلفيق بين الترتيب والتحقيق، وإلى التوسط بين الإخلال والإملال ..... وجمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني. فلا مندوحة لأحدهما عن الثاني. فصنّفته وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب، يُطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه. فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ومبانيه، فلا مطمح له في الظفر بأسراره ومباغيه" (¬1). ورجع الشيخ ابن عاشور في المصلحة المرسلة أو الكليّات إلى مقالات الغزالي. ونقل عنه من المنخول قوله في المصلحة المرسلة: كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع لا يَرُدُّه أصل مقطوع به يقوم عليه من كتاب أو سُنة أو إجماع فهو مقول به، وإن لم يشهد له أصل معيّن (¬2). وأورد في نفس الغرض من شفاء الغليل قول الغزالي: قد رتبنا المناسب على ثلاث مراتب: ما يقع منه في رتبة الضروريات، ما يقع ¬

_ (¬1) المستصفى: 1/ 4. (¬2) المنخول: 364؛ شفاء الغليل: 208، 209؛ المقاصد: 246 - تع 1.

منه في رتبة الحاجيات، وما يقع في رتبة التحسينيات والتزيينيات. فالواقع في الرتبة الأخيرة لا يجوز الاستمساك به ما لم يُعضَد بأصل معين ورد من الشرع الحكيم فيه على وفق المناسبة، فأمّا إذا لم يرد من الشرع حكم على وفقه فاتباعه وضعٌ للشرع بالرأي والاستحسان. وأما الواقع من المناسبات في رتبة الضروريات أو الحاجيات فالذي نراه فيها أنه يجوز الاستمساك بها إن كان ملائماً لتصرفات الشرع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريباً لا يلائم القواعد (¬1). وذهب في مكان آخر إلى أن الواقع في رتبة الحاجيات والتحسينيات لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل (¬2). وقد سبق تصوير الإمام الأكبر سلوكَ الغزالي بأنّ فيه إقبالاً وإدباراً (¬3). أما رجوع صاحب المقاصد إلى أقوال الغزالي في المستصفى فهو أكثر وأوسع. فمن ذلك وقوفه على جملة من الآراء نقلها عنه مثل: 1 - عدم قول الغزالي بدخول العِرض في الكليات الخمس (¬4). وقد صوب الشيخ ابن عاشور هذا الرأي واختاره على نحو ما فعل الغزالي في المستصفى، وابن الحاجب في مختصره. 2 - جرى المؤلّف في تقسيمه المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة فجعلها على نحو ما ذهب إليه الإمام الغزالي ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية (¬5). ¬

_ (¬1) شفاء الغليل: 208، 209 وما بعدها. (¬2) المستصفى: 1/ 213. (¬3) المقاصد: 245 - 246. (¬4) المستصفى: 2/ 18. (¬5) المقاصد: 231 - 234.

3 - العز بن عبد السلام: القواعد

3 - فسّر الغزالي التحسينية بأنها المصالح التي تقع موقع التحسين أو التيسير للمزايا ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات. ومثّل لها بسلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، لأن العبد ضعيفُ المنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق لمنصبه التصدّي للشهادة (¬1). 4 - في بيان حمل المطلق على المقيّد إذا اتحد الموجَب والموجِب أو اختلفا. ذلك أن التقييد شرط، والمطلق محمول على المقيّد إن اتَّحَد الموجَب والموجِب. وينزّل الإطلاق فيه على الاشتراط. وهذا صحيح. ولكن على مذهب من لا يرى بين الخاص والعام تقابل الناسخ والمنسوخ (¬2). 5 - اعتماد الغزالي قاعدة: أن النهي يقتضي الفساد (¬3). 3 - العز بن عبد السلام: القواعد: أما العز بن عبد السلام فهو المتميّز بكتابه القواعد، الفريد في موضوعه في عصره، والذي كان ذا أثر كبير في تلميذه من بعده الإمام القرافي. وضع الإمام العز قواعده على أسلوب بديع جعل جماع القواعد الشرعية محصوراً في جلب المصالح ودرء المفاسد وذكر وجوه المناسبات وما يقدّم منها وما يؤخّر عند التزاحم والتعارض (¬4). ¬

_ (¬1) المستصفى: 1/ 290 - 291؛ المقاصد: 243. (¬2) المستصفى: 2/ 185. (¬3) المستصفى: 1/ 315؛ المقاصد: 351/ 3. (¬4) المقاصد: 26 - 27.

ويجد الفقهاء في هذا الكتاب حاجتهم فيما يمدُّهم به من قواعد تُمكن المتضلّع فيها من تأييد فروع انتزعوها، قبل ابتكار علم الأصول، لتكون بواسطة تلك القواعد مقبولة في نفوس المزاولين لها من مقلدي المذاهب. فهي تؤول كما قال الإمام الأكبر الشيخ ابن عاشور إلى محامل ألفاظ الشارع في انفرادها واجتماعها وافتراقها حتى تقرّب فهم المتضلّع فيها من إفهام أصحاب اللسان العربي القحّ ... وربما يجد المطّلع على كتب الفقه العالية مَن ذكر في مقاصد الشريعة كثيراً من مهمّات القواعد، ولا يجد فيها شيئاً من علم الأصول. وذلك يخصّ مقاصد أنواع المشروعات في طوالع الأبواب دون مقاصد التشريع العامة (¬1). وإن في التعريف بكتاب القواعد ما يحمل على تصوّر مدى اعتماد الشيخ ابن عاشور عليه في تقديم أغراضه، وشرح مسائله. فقد أثنى عليه لِما قَدَّمه من خدمات في مجال علم القواعد وقَسِيمه علم المقاصد (¬2). وينقل الشيخ ابن عاشور إثر بيان طريق تحصيل المقاصد الظنيّة في فصل: مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعيّة وظنّية، كلاماً نسبه إلى العز بن عبد السلام في مبحث ما خالف القياس من المعاوضات وهو قوله: "إن من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل وِرد وصدر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عهِده من طريقته وألِفَه من عادته، أنّه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة (¬3). ونقل المؤلف عنه قاعدة فيما تعرف به مصالح الدارين. ونصّ ¬

_ (¬1) المقاصد: 11/ 1. (¬2) المقاصد: 26 - 27. (¬3) القواعد: 2/ 189؛ المقاصد: 143.

ذلك: قال ابن عبد السلام: وأما مصالح الدارين فلا تُعرف إلّا بالشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح. وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طُلب من أدلته. ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحَهما ومرجوحهما، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يَرِد به. ثم يبني عليه الأحكام. فلا يكاد حُكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبّد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته (¬1). وهذا مما سبق الإلماع إليه في مبحث التعليل والتعبّد (¬2). ويتصل بهذه القاعدة أن من المصالح والمفاسد ما لا يدركه إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم، يعرف بهما دِقَّ المصالح والمفاسد وجُلَّهما، وأرجحَهما من مرجوحهما. وتفاوت الناس في ذلك على قدر تفاوتهم فيما ذكرته. وقد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه الأخرق المفضُول، ولكنه قليل (¬3). ولا يقف تنويع المصالح والمفاسد عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى صور أخرى يوجبها الأخذ ببعض الملاحظات أو الأسباب، ثم الحرص على نوط تلك الأحكام بالحِكَم والعلل، ظاهرة كانت أم خفيّة. ومن هذا القبيل ما أورده الشيخ ابن عاشور في نهاية فصل الرخصة نقلاً عن العز بن عبد السلام من المستثنيات من القواعد الشرعية في المعاوضات: ¬

_ (¬1) المقاصد: 211؛ القواعد: 1/ 10. (¬2) المقاصد: 148 وما بعدها. (¬3) القواعد: 2/ 189؛ المقاصد: 212.

لو عمَّ الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة. ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات؛ لأنه لو وقف عليها لأدّى إلى ضعف العباد واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولا نقطع الناس عن الحرف والصنائع التي تقوم بمصالح الأنام (¬1). ثم أتبع صاحب القواعد هذا التقرير بقوله: وإنما جاز تناول ذلك قبل اليأس من معرفة المستحقّين؛ لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة. ولو دعت ضرورة واحد إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حرًّ أو برد، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة فما الظن بإحياء نفوس؟! (¬2). ونستطيع في غير تردد أن نقول: إن أهم ما عالجه العز بن عبد السلام هو المصلحة والمفسدة المتولدان عن المقاصد. وللحاجة الأكيدة إلى التعرّف على دقائق هذا العلم، وجني ثماره في مجال دراسة المقاصد الشرعية أسمى العز كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ووجدنا الشيخ ابن عاشور يعتد اعتداداً كبيراً بكتاب القواعد. وقد تابعه في مراحل كتابته للمقاصد، واستمد منه جملة من الآراء والترتيبات. فمن ذلك: عرض الشيخ ابن عاشور رأي العز بن عبد السلام في المصالح المحضة والمفاسد المحضة، إذ قال منبّهاً على ضرورة الترتيب للمقاصد: واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح، ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد .. ولا يقدم الصالحَ على الأصلح إلا ¬

_ (¬1) القواعد: 2/ 188؛ المقاصد: 362. (¬2) القواعد: 2/ 188؛ المقاصد: 362.

جاهلٌ بفضل الأصلح، أو شقيٌّ متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت (¬1). وقال العز في الفصل الثالث من قواعده: واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود، فإن المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن لا تحصل إلا بنصب مقترن بها أو سابق أو لاحق كان السعي في تحصيل هذه الأشياء كلها شاق على معظم الخلق لا ينال إلا بكدّ وتعب. فإذا حصلت اقترن بها من المضار والآفات ما ينكّدها وينغّصها (¬2). ولتأكيد ما جنح إليه صاحب القواعد يقول الإمام الأكبر: وتحقيق الحدّ الذي نعتبر به الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق في العبارة، ولكنه ليس عسيراً في الاعتبار والملاحظة؛ لأن النفع الخالص والضر الخالص وإن كانا موجودين، إلا أنهما بالنسبة للنفع والضرّ يعتبران عزيزين (¬3). وحين نعود إلى الشيخين العز بن عبد السلام والشاطبي، نجد المؤلف معقباً عليهما بقوله: وقد حام ذانك الإمامان حول تحقيق الضابط الذي به يُعتبر الوصف مصلحة أو مفسدة، لكنهما لم يقعا عليه. وفي آخر هذه القائمة من النقول الكاشفة عن التفاعل بين كتابات العز واتجاهات أبن عاشور يتضح لنا طريق النظر في المصالح المتعدّدة إذا لم يمكن تحصيل جميعها. وفي المفاسد المتعددة إذا لم يمكن درء جميعها. شرح لنا هذا العز بن عبد السلام في قواعدهِ ¬

_ (¬1) القواعد: 1/ 7؛ المقاصد: 204. (¬2) القواعد: 1/ 7؛ المقاصد: 204. (¬3) المقاصد: 204.

4 - القرافي: الفروق

بقوله: إن تقديم أرجح المصلحتين هو الطريق الشرعي، وإن درء أرجح المفسدتين كذلك. فإذا حصل التساوي من جميع الوجوه فالحكم التخيير (¬1). 4 - القرافي: الفروق: أما تلميذ العز بن عبد السلام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، فهو الفقيه الأصولي المالكي الذي انتحى منحى شيخه في ضبط القواعد وتحرير المقاصد في جملة من كتبه التي رجع إليها الإمام ابن عاشور. نخصّ بالذكر منها أوسعها مادة في المقاصد والقواعد وهو كتاب الفروق. ولشهاب الدين مؤلفات أخرى جليلة منها كتاب نفائس الأصول في شرح المحصول، وتنقيح الأصول، وكتاب الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام. وإذا عدنا إلى كتاب المقاصد وما جمع المؤلف به من فوائد، ونبَّه إليه من حقائق، ألفينا في ذلك كلَّه دلالة على اهتمام شيخنا بفقه القرافي وأصوله. وهو يساعدنا على الاغتراف من ينابيعه لما نحن في حاجة إليه من علم وبيان وضبط وإتقان. وقد نوّه المترجمون للقرافي، صاحب الفروق وغيره من الكتب في الأصول، بما تضمنته مصنّفاته وخاصة كتاب أنوار البروق في أنواء الفروق من مباحث في المقاصد. كانت فيها الإشارات الكثيرة إلى وجوه المصالح والمفاسد، المعتمدة في الترجيح بين ما قد يُرى من القواعد والضوابط والمسائل متعارضاً. وأكّد القرافي نفسُه هذا الاتجاه الذي ¬

_ (¬1) المقاصد: 226. تع 2.

سلكه عن تقدير واختيار بمنة الله وفضله. فقال واصفاً القسم الثاني من علم أصول الفقه بما يحتوي عليه من قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحِكمه: فلكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منه شيء في أصول الفقه. ولهذا الغرض وضع كتابه الفروق للقواعد خاصة، مضيفاً إليها قواعد كثيرة ليست في الذخيرة. فازدادت بذلك بسطاً وإيضاحاً، وتنبيهاً على ما اشتمل عليه كتابه الفروق من أسرار فقهية تضمّنها ما جمعه من القواعد. وهي خمسمائة وثمانية وأربعون قاعدة، أوضح كل واحدة منها بذكر ما يناسبها من الفروع حتى يزداد انشراح القلب لغيرها (¬1). واعتباراً لهذه المزايا تتبعت إحالات الشيخ ابن عاشور على كتاب القرافي الفروق. فوجدته جامعاً تفاريقها في نحو ستة موضوعات. كان فيها إما ناقلاً متأسيّاً، وإما مستدركاً ناقداً على نحو ما أشرنا إليه أعلاه. فمن الموضوعات التي يظهر الالتقاء فيهما بين الإمامين وتجاوبهما في خدمة القواعد والأسرار ما أخذه الثاني عن الأول، أو عقّب به صاحب المقاصد على كلام القرافي كما سيتجلّى لنا ذلك من الأمثلة. وعدد الموضوعات التي حصرناها لغرضنا هذا خمسة عشر رددناها اختصاراً إلى خمسة مواضع في الفروق. * * * * * ¬

_ (¬1) الفروق: 1/ 2 - 4.

الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء

الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء (1) المقاصد وكتاب الفروق للإمام القرافي: الموضع الأول: انتصاب الشارع للتشريع: في السنة النبوية الشريفة ذكر للمقاصد الشرعية وتعريف بالطرق المساعدة على تعيينها والوقوف عليها. وهي جميعها مثبتة في باب انتصاب الشارع للتشريع من كتاب المقاصد. وتبرز القضايا الكثيرة منها في جملة مواقف: الأول: تنبيه الإمام ابن عاشور في بدء كلامه إلى ما اهتدى إليه القرافي، بل إلى ما سبق به غيرَه من تقسيم ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال إلى ثلاثة أقسام عنون لها في الفرق السادس والثلاثين بما تتميّز به قاعدة تصرّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء، أو تصرّفه بالفتوى أو التبليغ، أو تصرّفه بالإمامة (¬1). الثاني: ذكرُ القرافي ما تتحقّق به الفروق الثلاثة في القاعدة السادسة والثلاثين. وهو أربع مسائل: جَعل من المسألة الأولى صورة للثبات والجزم، وعالج بقية المسائل ببيانها لكونها موضع خفاء وتردّد (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 87 - 96. (¬2) المقاصد: 90 - 96.

الثالث: لزوم التوصّل إلى التفرقة بين ما هو صادر من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقام التشريع وما ليس هو من ذلك، والحرص على التأسّي بالرعيل الأول من الصحابة الذي كان يفرّق بسهولة بين ما هو منها من قضايا التشريع وبين ما هو بخلافه (¬1). الرابع: أحاديث رواها الأئمة في تشفّع النبي - صلى الله عليه وسلم - لمغيث زوج بريرة لمراجعته، وإبائها ذلك. وتشفّع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند دائني والد جابر بن عبد الله الأنصاري، فلم يستجيبوا له (¬2). الخامس: التحذير من خطأ بعض الفقهاء في بعض تصرّفات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيعمد إلى القياس عليها قبل التثبُّت في سبب صدورها، واتفاق علماء الأصول على ردِّ الأحاديث المتصلة بآثار الخِلقة وهي الجبلة، وعدم العمل بها (¬3). السادس: تفصيل الشيخ ابن عاشور القول في أنواع الحديث وبلوغه بها اثني عشر نوعاً، بعد أن حصرها القرافي في ثلاثة أنواع. وهي عند صاحب المقاصد متنوعة الأغراض بين التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة. كما نلاحظ فيها أغراضاً أرى كالهدى، والصلاح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرّد عن الإرشاد. وقد مثل شيخنا لكل غرض من هذه الأغراض النبوية، وما كانت تصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من تصرّفات أو أقوال تستجيب لمختلف الأحوال والظروف (¬4). وقد قارن استعراضَ النصوص الحديثية التشريعية بيانُ أحكامها، وذكر القرائن المصاحبة للتشريع (¬5). ¬

_ (¬1) المقاصد: 96. (¬2) المقاصد: 96 - 98. (¬3) المقاصد: 98 - 99. (¬4) المقاصد: 99. (¬5) المقاصد: 98 - 100.

الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها

ومن الحديث عن الدليل من السُّنة النبوية، الذي لا يصحّ الاحتجاج به في حكم من الأحكام، إلا إذا كان خاضعاً لشروط، أهمّها: أن يكون الحديث صادراً في مقام التشريع؛ شاملاً القضاء أو الفتوى، فكلاهما تطبيق للشريعة، أو صادراً عن مقام الإمارة الذي يصوّر لنا في الغالب تصرّفات النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشريعاته فيما يقع خلال أحوال الحروب مما يحتمل خصوصيّة ما (¬1). الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها: من الموضوعات التي حدّد شيخنا أحكامها وفصّل القول فيها، بناء على ما كتبه الفقهاء والأصوليون من قبل، موضوع الحقوق وإسقاطها. فقد أدرج الحديث عنها في باب طلب الشريعة للمصالح، وفي الفقرات التي بينت للناس منهج الشريعة الإسلامية في المحافظة على أنواع المصالح باعتبار تصرّف الناس فيها، وبحسب تنوّعها إلى حقوق ذاتية ثابتة للإنسان على غيره، أو حقوق ثابتة للإنسان في نفسه ولا تعلّق لها بغيره. وفي التوطئة لذلك نبَّه الشيخ ابن عاشور إلى أن المحافظة على أنواع المصالح باعتبار تصرّف الناس فيها بالاتساع والتضييق تجعل لكلّ أحدٍ الاختيار في حقوقه الذاتية الثابتة له على غيره. فله أن يسقطها إن شاء، لأن كونها حقوقاً له، وكونها مطالِباً بها غيره، تحوم حوله مظنة حرصه على تقاضيها. فالشريعة تَكِله إلى الداعي الجِبِلِّي. هو داعي حب النفس والمنافسة في الاكتساب. فالإسقاط لا يكون إلا لغرض صحيح. فإن تجاوز ذلك الحد، فاختل الداعي الجبلي، سمّي سفهاً يمنع صاحبه من التصرّف. وعلى هذا النحو حدد الشيخ ابن عاشور ما يرجع إلى الحقوق الثابتة للإنسان في ¬

_ (¬1) المقاصد: 108 - 110.

الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال

نفسه، وكذلك ما يعود منها إلى قسمي المصلحة. فليس لأحد إسقاط حقه فيها، لأن حقّه ثابت مع حقّ غيره (¬1). وقد وقفتُ عند خصوص هذه الجزئية من البحث، وإن تعددت المراجع في قاعدة الحقوق، لما ذكره صاحب المقاصد من أسرار ولطائف لا ينبغي أن يطغى عليها غيرُها بكثرته وتعدد مسائله. ويرتبط هذا كله بما ورد في الفرق الثاني والعشرين من قاعدة حقوق الله وقاعدة حقوق الآدميين من كتاب الفروق. قال القرافي: فحق الله أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه، والتكاليف على ثلاثة أقسام: حق الله تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر، وحق العباد فقط كالديون والأثمان. وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله تعالى أو حق العبد كحد القذف (¬2). وقد اشتمل هذا الفرق على مسائل كثيرة وضعها الشيخ ابن عاشور مواضعها، وتحدث عنها كمسائل مفردة إبرازاً لأهميتها وتفصيلاً لأحكامها. الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال: من المسائل التي استوقفت الإمام الأكبر، وإن كانت خاضعة لقاعدة من أهم القواعد؛ هي نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال، مثل ما يعرض لبعض الفقهاء من تسليط أحكامهم على الأسماء الموضوعة لبعض المسميات، فتكون فتاواهم واحدة، وإن تغير المسمى ولم يبقَ خاضعاً لما وضع له من الأسماء أصالة أيام التشريع. وإذا كان الإمام القرافي قد افتتح الفرق الأربعين من كتابه ¬

_ (¬1) المقاصد: 223 - 225. (¬2) القرافي. الفروق: 1/ 140 - 142.

الفروق (¬1)، بموضوع التمييز بين قاعدة المسكرات، وقاعدة المرقّدات، وقاعدة المفسدات، مبيناً كل واحدة منها بقوله: فإن المتناول من هذه، أي من الثلاثة، إما أن تغيب عنه الحواس أَوْ لَا، فإن غابت معه الحواس فهو المرقد، وإن لم تغب عنه فلا يخلو إما أن يحدثَ عنه نشوةٌ وسرورٌ وقوةُ نفس عند غالب المتناول له أَوْ لَا، فإن حَدَثَ ذلك فهو المسكِر وإلا فهو المفسد. فالمسكر هو المغيّب للعقل مع نشوة وسرور كالخمر ونحوها، والمفسد هو المشوش للعقل مع عدم السرور الغالب كالبنج. اهـ. وقد استنتج من هذه التعريفات أن الحشيشة مفسدة وليست بمسكرة، وأن الخمر والمسكرات لا تكاد تجد أحداً ممن يشربها إلا وهو نشوان. فالحشيشة عند القرافي من المفسدات وليست من المسكرات، لم يوجب فيها الحدَّ، ولا أبطل بها الصلاة، بل اكتفى بالتعزير الزاجر عن ملابستها. وهكذا فرّق بين العقوبات منبّهاً إلى أن المسكرات تنفرد عن المرقدات والمفسدات بثلاثة أحكام هي: الحد والتنجيس وتحريم اليسير، والمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا تنجيس، ويجوز تناول اليسير منها. وذكرَ الشيخ ابن عاشور من هذا أمثلةً أخرى تتصل بالسحر والساحر، وبالتدخين، وبشرب القهوة، منتهياً إلى ضبط قواعد لا بد من الالتزام بها في الحكم والفتوى. قال: إن من حق الفقيه أن ينظر إلى الأسماء الموضوعة للمسمى أصالة أيام التشريع، وإلى الأشكال المتطوّرة عند التشريع، من حيث ¬

_ (¬1) القرافي. الفروق: 1/ 217.

الموضع الرابع: سد الذرائع

إنهما طريق لتعرّف الحالة الملحوظة وقت التشريع، وسبيل إلى معرفة الوصف المرعي للشارع في بناء الحكم عليه. وبعد لفته النظر إلى هذه القاعدة الكلية يأتي المؤلف إلى الجزئيات وإلى الأمثلة التطبيقية، فلا يطلق اسم الساحر على المشعوذ بل يفرّق بينهما، ولا الحشيش المخدر على التبغ، ولا الخمر على القهوة اليمانية، ويعيّرُ من يفعل ذلك بالغفلة والوهم، وتجاوز الحد في الأحكام. وفي نهاية هذا الفصل يذكر الإمام الأكبر قواعد شرعية تكشف عن أسرار التشريع، وعن الحكمة التي نيطت بموجبها الأفعال بالأحكام فيقول: ولم يزل الفقهاء يتوخّون التفرقة بين الأوصاف المقصودة للتشريع وبين الأوصاف المقارنة لها، كما أن الأسماء الشرعية تكون هي المعتبر مطابقتها للمعاني الملحوظة للشارع في مسمّياتها، عند وضع المصطلحات الشرعية. كما بيّن أحكام بعض التبرّعات عند اختلاف صيغها عند التعاقد عن صيغها الأصلية مرتباً على هذا أحكاماً أخرى فقهية (¬1). الموضع الرابع: سدّ الذرائع: قال الأصوليون في تعريفه: هو منع ما يجوز لئلا يُتَطرَّقَ به إلى ما لا يجوز. وهذا الموضوع تعرّض له القرافي غير مرّة في كتابه الفروق، وفي التنقيح. وهو قضية معتمدة عند المالكية وعند غيرهم من سواد الأمة. وقارن ابن رشد بين المذاهب في سدّ الذرائع فقال: أباح الذرائع الشافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابُهما (¬2). وذكر القرافي في الفرق 194 من كتابه (¬3) أن ذريعة الفساد ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) المقاصد: 309 - 310. (¬2) المقدمات: 2/ 524. (¬3) الفروق: 3/ 266.

ما هو مجمع على عدم سدّه؛ كزراعة العنب، والتجاور في البيوت. ومجمع على سدِّه؛ كحفر الآبار في طريق المارَّة. ومختلف فيه؛ مثل بيوع الآجال. وعلق الشيخ ابن عاشور على هذا التقسيم بقوله: "ولم يبحث القرافي عن وجوب الاعتداد ببعض هذه الذرائع دون بعض. وهو عندي التوازن بين ما في الفعل الذي هو ذريعة من المصلحة، وما في مثاله من المفسدة فيُرجع إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد. ومثّل لذلك بالاحتياط؛ وهو الأخذ بقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبالجهاد، وهو مفسدة في الأنفس والأموال، ولكنه آيلٌ إلى حماية البيضة، وحفظ سلامة الأمة، وبقائها في أمن". ومقصد سدّ الذرائع مقصد تشريعي عظيم استفيد من استقراء تصرّفات الشريعة في تشاريع أحكامها، وفي سياسة تصرّفاتها مع الأمم، وفي تنفيذ مقاصدها. فله في الشريعة ثلاثة مظاهر. وبعد ذكر التقسيم للقول بسد الذرائع، وجعل هذا الأمر واجباً حتماً يعلّل ما ذهب إليه الإمام مالك بقوله: فذلك هو وجه اعتداد مالك بالتهمة فيها، إذ ليس لقصد الناس تأثر في التشريع، لولا أن ذلك إذا سقط صار القصدُ مآلَ الفعل، وهو مقصود للناس استحلوا به ما مُنع عليهم. وينتهي الشيخ ابن عاشور من مقالته هذه في مناقشته القرافي إلى أن سدّ الذرائع قابل للتضييق والتوسّع في اعتباره بحسب ضعف الوازع في الناس وقوّته. ويضيف إلى هذا قوله: ولولا أن سدّ الذرائع قد جعل لقباً لخصوص سد ذرائع الفساد، لقلنا: إن الشريعة

الموضع الخامس: نفوذ الشريعة

كما سدّت الذرائع فتحت ذرائع أخرى (¬1). وهو ما نبّه إليه الشهاب القرافي نفسه (¬2). الموضع الخامس: نفوذ الشريعة: في نفوذ الشريعة، وتطبيقها إقامة العدل. وفيه مسلكان: مسلك الحزم في تطبيقها، ومسلك التيسير والرحمة، بقدر لا يفضي إلى انخرام مقاصد الشريعة. وقد أورد القرافي جملةً من القواعد نشأت في الفقه الإسلامي؛ من بينها: أن النهي يقتضي الفساد. ذكر هذه القاعدة الإمام القرافي في الفرق السبعين. ونبّه عليها أكثر علماء الأصول؛ كابن الوكيل والجويني والغزالي والرازي والآمدي والأصفهاني وابن حزم وابن الخباز، والعلائي في رسالة له بعنوان تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد. وهذه القاعدة من مسلَّمات علم أصول الفقه وفروعه. ولا ينبغي أن تتساهل الأمة في الغفلة عنها أو يتهاون بها؛ لأنها من مقاصد الشريعة، ولأن الاسترسال في عدم اعتبارها يستشري في الناس فينتهي بهم الأمر إلى إضاعة معظم الشريعة. وذهب الشيخ ابن عاشور يؤكّد ذلك ويضرب له الأمثلة بمحافظة الشريعة على أحكامها في الأحوال التي يتحقق فيها عدم فوات المقصد، ثم أتبع هذا بقوله: ولإكمال الوصول إلى الغاية من هذا المسلك أقام نظامُ الشريعة أمناء ووزعة لتنفيذ أحكامها ومقاصدها في الناس بالرغبة والرهبة، أعني بالموعظة والقوّة، متمسِّكاً في هذا بالقرآن الحكيم، ومستشهداً على إرادة البلوغ بالأحكام الشرعية إلى الالتزام بها والتنفيذ بها بما أورده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إقامته الحدود، وبعثه ¬

_ (¬1) المقاصد: 335 - 342. (¬2) التنقيح: 448.

الأمراء والقضاة والأمناء. وقد اعتبر ذلك كله من أصول نظام الحكومة الإسلامية. ومن ثم نجد الشيخ يكمل درس هذه المسألة بالإشارة إلى فرقين آخرين، توسع أيضاً في بيانهما. وهما الفرق السادس والتسعون بين قاعدة من يتعين تقديمه وبين قاعدة من يتعين تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية (¬1)، والفرق الثالث والعشرون بعد المائتين بين قاعدة ما ينفّذ من تصرّفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفّذ من ذلك. وهو خمسة أقسام (¬2). وقد نعتبر من ذلك سأله الوفاء بالعقود الذي حثّ عليه تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬3). واستدل على وجوب مراعاة أصل مقصد الرواج في العقود المالية بما تقتضيه تلك العقود من لزوم دون تخيير إلا بشرط. ويتعرض إلى الفرق السادس والتسعين بعد المائة (¬4). مضيفاً إليه قوله: وأما العقود التي جعلها فقهاؤنا غير لازمة بمجرد العقد، بل حتى يقع الشروع في العمل كما في الجُعل والقراض باتفاق، والمغارسة والمزارعة على خلاف، فإنما نظر فيها إلى عذر العامل. فمصلحة العقد بالأصالة في لزومه، وتأخرُ اللزوم في هذه لمانعٍ عارض، خلافاً لظاهر كلام القرافي في الفرق التاسع بعد المائتين (¬5). وهذه القواعد وما يتصل بها من بيان الشيخ ابن عاشور ¬

_ (¬1) القرافي. الفروق: 2/ 157 - 163. (¬2) المصدر السابق: 4/ 39 - 48. (¬3) سورة المائدة، الآية: 1. (¬4) القرافي. الفروق: 3/ 269 - 275. (¬5) المصدر السابق: 4/ 13.

(2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول

وتعليقاته تحتاج وحدها إلى دراسة وافية جامعة، فهو لم يتناولها في كتابه هذا إلا في أوراق محدودة معدودة (¬1). وما من شك في أن هذه الدراسة تتناول عناصر أخرى: منها ما أومأ إليه صاحب المقاصد فيما تضمنه فصل: واجب الاجتهاد، إذ اعتبر هذا العمل الديني الشرعي فرضَ كفاية على الأمة بمقدار حاجة أقطارها وأحوالها. فاقترح في عصرنا هذا إقامة مجمع فقهي إسلامي، ضَبَط شروطه ووصف أعضاءه بما يحقق المراد منه. وأشار إلى جملة من القضايا تحتاج في زماننا إلى إعادة النظر والدراسة لها مجدداً، تيسيراً على الناس وحفظاً لمصالحهم. فذكر من ذلك مسائل بيع الطعام، والمقاصّة، وبيوع الآجال، وكراء الأرض بما يخرج منها، والشفعة في خصوص ما يقبل القسمة، معلّلاً دعوته هذه بما عليه أحكام تلك المسائل الاجتهادية من تضييق على الناس. وهو يهيب بالعلماء من أهل النظر السديد في فقه الشريعة إلى وجوب مراعاة حاجة الأمة الإسلامية. وذلك بمعرفة مقصدها والتيسير بينها وبين الوسائل المعينة عليها، وبتحصيل الخيرة بمواضع الحاجة في الأمة، وبالمقدرة على إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها واسترفاء خروقها، ووضع الهناء بمواضع النقب في أديمها (¬2). (2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول: تعرض القرافي في كتابه هذا للمطلق والمقيّد. ¬

_ (¬1) المقاصد: 351 - 356. (¬2) المقاصد: 392 - 394.

1 - ذكر الشيخ ابن عاشور بعض مسائل من أصول الفقه كانت مغمورة أو مهجورة في كتب المتقدمين، بحيث لا يبلغ الدارس إلى الوقوف عليها. فبقيت ضئيلة منسية، وهي بأن تعدّ في علم المقاصد حرية. وذكر من بين تلك المباحث حمل المطلق على المقيّد، اتحد الموجِب والموجَب أو اختلفا (¬1). وهذا مما ذكرناه فيما تعرض له الغزالي في المستصفى معتبراً أن التقييد اشتراط، وأن المطلق محمول على المقيّد إن اتحد الموجِب والموجَب. وهذه القضية كانت محل خلاف بين الجمهور وبين الشافعية والحنفية، كما أن القول فيها تَبايَنَ بين ما ذهب إليه الرازي في المحصول، وما ورد بخلافه من كلام ابن العربي. وتعرض القرافي لهذه القضية بالتفصيل (¬2) فكان بما تناولها به في كتبه المصدرَ والمرجعَ لضبط هذه المسألة. 2 - إيراد رأي الأبياري في قطعيّة أدلّة أصول الفقه في المسألة الثانية من مسائل اللفظ في الأمر والنهي من شرح القرافي على المحصول، واطّلاع شيخنا عن طريقه على أقوال العلماء في الموضوع (¬3). 3 - علّق ابن عاشور على رأي الأبياري في كون مسائل الأصول قطعيّة، ولا يكفي فيها الظنّ، ومدركها قطعي. ولكنه ليس المسطور في الكتب، بل معنى قول العلماء إنّها قطعيّة أن من كثُر استقراؤُه واطلاعُه على أقضية الصحابة ومناظراتهم وفتاواهم، وموارد النصوص الشرعية لديهم حصل له القطع بقواعد الأصول. وهذا القول مردود وجوباً باطل؛ لأننا بصدد الحكم على مسائل علم أصول ¬

_ (¬1) المقاصد: 12 - 16. (¬2) النفائس: 5/ 2164 - 2176. (¬3) النفائس: 3/ 1247 - 1248؛ المقاصد: 19.

(3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول

الفقه لا على ما يحصل لبعض علماء الشريعة (¬1). 4 - نقل كلام القرافي المعقّب به على أبي الحسين البصري: إن في أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك ليست من قواعد الدين الأصلية، وإنما هي من التتمات في ذلك العلم (¬2). (3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول: جاء ذكر القرافي في كتاب المقاصد على لسان الشيخ ابن عاشور لتناوله في تحقيقاته وتقريراته بعض ما أودعه صاحب الفروق كتابه تنقيح الفصول. وذلك في ستة مواضع: 1 - قال الشيخ ابن عاشور: ليس للإنسان الإذنُ بقطع عضو من أعضائه باطلاً. وينظر هذا إلى القاعدة العامة التي تقدّمت الإشارة إليها في كتاب الفروق عند حديث القرافي عن الفرق بين قاعدة حقوق الله وقاعدة حقوق الآدميين. وملخّص ذلك تحريمُ القتل والجرح صوناً لمصلحة العبد وأعضائه ومنافعها عليه، وتحجير ذلك على الخلق لطفاً من الله بهم ورحمة منه عليهم. وقد ورد ذكر هذه القاعدة وأمثلتها عند القرافي في موضعين (¬3). 2 - تحرير لغوي قرآني يثبت إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلِّب المذكر. ومعنى هذا أنه إذا اجتمع الجنسان استقل أفراد كل منهما بوصف غُلِّب المذكر وجُعل الحكم له. وكان التناول عن طريق التغليب. ولا خلاف بين النحاة ¬

_ (¬1) المقاصد: 19 - 20. (¬2) النفائس: 1/ 161 - 162؛ المقاصد: 21. (¬3) الفروق: 1/ 141؛ التنقيح: 95.

والأصوليين في أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال، وإنما قال بعض الأصوليين بتناوله الجنسين لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور. واتفق الكل على أن المذكر لا يدخل تحت الخطابات إن وردت مقترنة بالتاء علامة التأنيث (¬1). 3 - تقرير أن القسم الثاني من الذرائع يتجلّى فيه القياس ويخفى بحسب ما يرى الفقيه من قُربه من الأصل المقيس عليه وبُعده، وترجع مراعاة هذه الذرائع إلى حفظ المصالح ودرء المفاسد. مثال ذلك بيوع الآجال. وأضاف القرافي في الذخيرة قوله: اعتبرنا نحن الذريعة منها وخالفنا غيرنا. وحاصل القضية أنا قلنا بسدّ الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنّها خاصة بنا (¬2). 4 - تبنّى الشيخ ابن عاشور الإنكار الشديد على أهل النظر والمعرفة في صدوفهم عن الاجتهاد والتفريط فيه مع الاستطاعة ومكنة الأسباب والآلات. وذلك قوله جرياً على كلام القرافي: لو لم يبق مجتهد واحد والعياذ بالله .... (¬3). وهو لذلك يقول في تعليقه في هذا الباب: يُعد آثماً في ذلك العلماءُ المتمكّنون من الانقطاع إلى خدمة التفقّه الشرعي للعمل في خاصة أنفسهم. وتُعد العامة آثمة في سكوتها عن المطالبة بذلك، بل وفي إعراضها عمن يدعوها إليه إذا شهد له أهل العلم، ويُعد الأمراء والخلفاء آثمين في إضاعة الاهتمام بحمل أهل الكفاءة على الاجتهاد (¬4). ¬

_ (¬1) القرافي. التنقيح: 198. (¬2) القرافي. الذخيرة: 1/ 152 - 153؛ الفروق: 2/ 32؛ التنقيح: 448 - 449. (¬3) التنقيح. الفصل الرابع من باب الإجماع: 341 - 343. (¬4) المقاصد: 393/ تع 2.

الشاطبي وكتاب الموافقات

5 - ترتيب المقاصد والوسائل بعد بيان الفرق بينهما أخذاً من مقالة القرافي: المقاصد هي المتضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، والوسائل هي الطرق المفضية إليها. والوسائل إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل، وإلى ما هو متوسط (¬1). 6 - قصر العز بن عبد السلام والقرافي الذرائع على تحصيلها بمبحث المصالح والمفاسد. واتجاهُ المؤلَّف أوسع، والفقيه إليه أحوج. ومن ثم قال ابن عاشور: إن الأحكام المنوطة بتصرّفات الناس في معاملاتهم الصالحة والفاسدة وإن كانت قد توجد متماثلة في الرتب المعبّر عنها، في الفقه وأصوله، بأقسام الحكم الشرعي، هي في الاعتبار الشرعي متفاوتة بحسب كون مناطها من التصرّفات مقصداً أو وسيلة في نظر الشارع، أو في نظر الناس. فلذلك تعيّن أن نبحث عن هاتين المرتبتين من التصرّفات (¬2). * * * الشاطبي وكتاب الموافقات: هو الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790، الأصولي المفسّر، والفقيه المحدّث، واللغوي النحوي. أبرزُ ما عرف به من المصنفات: الموافقات، والاعتصام. أولهما في مقاصد الشريعة، وثانيهما في محاربة البدع. ذكره الشيخ ابن عاشور بفائق التقدير والإجلال، ووصفه بالرجل الفذّ الذي تميّز بوضع تصنيف نفيس في المقاصد هو الجزء الثاني من كتاب الموافقات. فكتابه هذا عمدة لكل من جاء بعده. ¬

_ (¬1) القرافي. التنقيح: 404. (¬2) المقاصد: 401.

رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي

وفيه مسائل وفوائد وابتكارات لم يسبقه إليها غيرُه. وبدون شك كانت مقاصد الشاطبي من موافقاته أوسعَ المراجع التي عاد إليها جُلُّ الباحثين في أسرار الشريعة. وللشيخ محمد الطاهر ابن عاشور صلة أية صلة بالشاطبي. وقد نقده مع تنويهه بعمله. وسبب ذلك، فيما يبدو، هو ما قاله صاحب المقاصد في بيان الغرض من تأليفه. وهو الاستدراك على الشاطبي وعلى من سبقه جملة من الأغراض ذات العلاقة بمقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب. وقد تتبعنا موضوعات البحث المشتركة بين كتابي هذين العالِمين: الموافقات، والمقاصد فوجدنا بها كثيرة جداً. وحاولنا اختصارها بردّها إلى سبعة مواضع في هذا الفن الجديد المبتكر، تتناول جملة قضايا اخترنا ترتيبها على الوجه التالي: (1) رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي. (2) قصد الشارع من التشريع. (3) التعبّد في العبادات. (4) عرض قضية قطعية أصول الفقه وظنيتها. (5) التكاليف الشرعية. (6) المقاصد والمصالح. (7) الحيل. رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي: أما الموضع المتعلق بنقد الشاطبي وعمله فهو واقع بين تنويه

تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف

وتقدير، ومؤاخذة وتخطئة. يتجلّى الوجه الأول في وصف ابن عاشور للشاطبي بالفذاذة (¬1). وتظهر سورة النقد في التنبيه إلى بعض تصرّفاته. قال صاحب المقاصد: ولكنه تطوّح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، وأنه أتى في المسألة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة ومن النوع الرابع من كتاب المقاصد بكلام طويل في التعبّد والتعليل معظمه ضعيف ومنتقد (¬2). وربما نازعه في الاستدلال ببعض الأدلة كالتي تعقبّها عليه في المسألة الحادية عشرة بقوله: وفي بعضها نظر كحديث: "لَيَشرَبنَّ ناس من أمتي الخمر". وسنده ضعيف وهو موقوف. وحديث النهي عن هديّة المِدْيَان، وسنده مطعون فيه وضعيف أيضاً (¬3). تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف: وفي بيان قصد الشارع من التكاليف الشرعية التي تلزم المكلفين يذكر الشيخ ابن عاشور تأييده لقول الشاطبي في مسألة: "قَصْدَ الشارع من المكلّف يكون قصدُه في العمل موافقاً لقصده في التشريع. والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة، إذ قد مرّ بنا أنها موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم. والمطلوب من المكلّف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع (¬4). ومن اعتداده بكلام الشاطبي واعتماده عليه ما لخص به كلامه في الفصل الذي عقده صاحب الموافقات لبيان الجهات التي تُعرف بها مقاصد الشريعة على الحد الأوسط (¬5)؛ فقال: "لقد جاء ¬

_ (¬1) المقاصد: 28. (¬2) المقاصد: 157 - 158. (¬3) المقاصد: 324/ تع 2. (¬4) الموافقات: (3) 2/ 331. (¬5) الموافقات: (3) 2/ 391 - 397.

انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات

الشاطبي في آخر كتاب المقاصد بكلام أرى من المهم إثبات خلاصته باختصار" (¬1). انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات: إن تكاليف الشريعة منصبّة على العبادات وعلى المعاملات والعادات. والفرق بينها في ذلك أن الأصل فيما يتعلق منها بالعبادات التعبّد دون الالتفات إلى المعاني. ودليل ذلك الاستقراء، والمفهوم من حكمة التعبّد العامة، هو الانقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه. وكون التعبّد لم تقصد فيه التوسعة لعدم وجود أدلة من الشارع تقيّدها كما في العادات، وعدم الاستناد بالخصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المشهور من الأصل المنصوص عليه. ولا يُعدَل عن هذا في العبادات إلا أن يتبيّن لنا بنصّ أو إجماع معنى مراد في بعض الصور، والمناسب معدود فيما لا نظير له. وهو الوصف الذي اعتبر محققاً للحكمة في العبادات. ومن الأدلة على هذا أن وجود التعبّدات في أزمنة الفترات لم يهتدِ إليها العقلاء اهتداءَهم لوجوه معاني العادات. وأما الأصل في العادات فهو الالتفات إلى المعاني والتعليل والقياس، وأن العلّة المطلوبة في أمور العبادات هي مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان، بخلاف العادات وكثير من العبادات؛ فإن لها معنى خاصاً: هو ضبط وجوه المصالح، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. وكل ما ثبت فيه اعتبار التعبّد فلا تفريع فيه. وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبّد فلا بد فيه من اعتبار التعبّد (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 64. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 300 - 310.

مناقشة الشاطبي قوله بقطعية الأدلة

وفي التعليق على هذه النظرة يقول صاحب المقاصد: "إن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية كلها مشتملة على مقاصد الشارع؛ وهي حِكَم ومصالح ومنافع راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد. ولذلك كان الواجب على علمائها تعرُّفُ علل التشريع ومقاصده ظاهرِها وخفِيّها. فإن بعض الحكم قد يكون خفياً، وإن أفهام الفقهاء متفاوتة في التفطّن لها، فإذا أعوز العلماء في بعض العصور الإطلاع على شيء منها؛ فإن ذلك قد لا يعوز مَن بعدهم، فإن هم فعلوا ذلك فاستمر عوز الكشف عن مراد الشارع وجب عليهم ألا يتجاوزوا المقدار المأثور عن الشارع في ذلك الحُكم، ولا يفرّعوا على صورته، ولا يقيسوا فلا ينتزعوا منه وصفاً ولا ضابطاً ... وإذا جاز أن نثبت أحكاماً تعبدية لا علّة لها، ولا يُطّلع على علّتها فإنما ذلك في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية. فأما هذان فلا أرى أن يكون فيها تعبدي، وعلى الفقيه استنباط العلل فيها (¬1). مناقشة الشاطبي قوله بقطعيّة الأدلة: ورد في كتاب الموافقات حديث طويل عن أدلة أصول الفقه التي وصفها من قبل أبو الحسين البصري بالقطعيّة. وجرى على إثره في ذلك إمام الحرمين عبد الملك الجويني حين ذكر ما هو ظنيّ في أصول الفقه مع إيقانه بقطعيّة الأدلة. وحمله ذلك على الاعتذار عن صنيعه هذا. وهو وإن لزم موقفه وتبعه عليه الأبياري والشاطبي؛ فقد اعترض الشيخ ابن عاشور على موقفهم وأبطل أدلتهم (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 159. (¬2) المقاصد: 17 - 18، 20 - 22، 29، 234.

تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا

وذكر الشيخ ابن عاشور الشاطبي، معلقاً على المقدمة الأولى من كتابه الموافقات، منبّهاً إلى الاستدلال فيها على كون أصول الفقه قطعية ضعيف. وأن خلاصة ما جاء فيها أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية. والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي (¬1). ويفسّر كلامَ الشيخ ابن عاشور في تضعيف مقالة الشاطبي ما ذكره المحقق الشيخ دراز من قوله تعقيباً على قول الشاطبي: بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع (¬2): إنما يبدو هذا صحيحاً؛ لأن استقراء جميع الأفراد فيه ممكن، فإنها مسائل محصورة، وكذلك ما أورده بعدُ من أن ما هو راجع إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة قطعي، ولكن المطلوب هنا هو القطع أي الجزم. ووصف دراز كلام الشاطبي بالخَطَابي لأنه لا يتأتّى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول حتى ما اتفقوا عليه منها، وأن المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط، وهي داخلة في حفظ الضروريات (¬3). وقد تقدم الحديث عن الفرق بين القطعي والظنّي من الأدلة. تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا: عرّف ابن عاشور المصلحة والمفسدة. فقال في الأولى: إنها وصف للفعل يحصل به الصلاح أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور أو الآحاد، وقال في الثانية: هي ما قابل المصلحة. وهي وصف ¬

_ (¬1) المقاصد: 21. (¬2) الشاطبي. الموافقات: 1/ 29. (¬3) الشاطبي. الموافقات، المقدمة الأولى مع تعليقات دراز: (3) 1/ 31 - 34.

للفعل يحصل به الفساد؛ أي الضر دائماً غالباً للجمهور أو الآحاد. ثم عرض علينا تعريفات أخرى للعضد وللشاطبي وغيرهما معقّباً على هذا بقوله: "إن تعريف أبي إسحاق هو ما يتحصل منه بعد تهذيبه أن المصلحة ما يؤثر صلاحاً أو منفعة للناس، عموميةً أو خصوصيةً، ملائمة قارةٌ في النفوس في قيام الحياة". وبعد ذكر الشيخ العديد من التعريفات للمصلحة، وصف تعريف الشاطبي بكونه أقرب التعاريف السابقة على تعريفه. ووسمه رغم ذلك بكونه غير منضبط (¬1). وبجانب هذا الموقف الأساسي من التعريف بالمصلحة ننتقل مع الشيخ ابن عاشور إلى قضايا أخرى منها: إن المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا على مقتضى ما غلب. وهو لا ينكر وجود المصلحة المحضة ولا المفسدة المحضة، مثله مثل الإمامين العز بن عبد السلام والشاطبي في ذلك. ولكنه يرى من الضروري أن توضع ضوابط للمصلحة تبرزها وتتحقّق بها. وذلك: ° بأن يكون النفع أو الضر محقّقاً ومطّرداً في المصلحة. ° وأن يكون النفع والضرّ فيها غالباً وواضحاً. ° وألا يمكن الاجتزاء عنه بغيره في تحصيل الصلاح وحصول الفساد. ° وأن يكون أحد الأمرين النفعُ أو الضر، مع كونه مساوياً لضده، معضوداً بمرجح من جنسه. ¬

_ (¬1) المقاصد: 199 - 201.

° وأن يكون أحدهما منضبطاً محققاً والآخر مضطرباً (¬1). وبعد ذكره لأنواع المصالح من خاصة وعامة وتعريفه لهما، انتهى إلى أن الشريعة تسعى إلى تحقيق المقاصد في عموم طبقات الأمة بدون حرج ولا مشقة، كما أنها جاءت بمقاصد تنفي كثيراً من الأحوال التي اعتبرها العقلاء في بعض الأزمان مصالح، فتثبت لذلك، عوضاً عنها، مصالح أرجح منها (¬2). ويتبع الإمام الأكبر قوله هذا بتوجيه نصيحته لعلماء الأمة قائلاً: ومن حق العالِم بالتشريع أن يَخْبَر أفانين هذه المصالح في ذاتها وفي عوارضها. وأن يسبر الحدود والغايات التي لاحظتها الشريعة في أمثالها وأحوالها (¬3). وقسَّم المصالحَ باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة، فذكر كغيره ممن تقدمه الأقسام الثلاثة: الضروريّات والحاجيّات والتحسينيّات، وعرّف كل واحد منها تعريفاً مميّزاً، باحثاً عن طرق المحافظة على الكليّات الخمس وعلى الحاجيّات والتحسينيّات واحدة بعد الأخرى (¬4). وربط بين المشروعات المأذون فيها من قبل الشريعة، فأناط أعمال الناس بها قائلاً: ويلخِّصُ هذه المعاني أن الأعمال كلها منوطة بأسباب، وأن الأسباب ما جعلت أسباباً إلا لاشتمالها على الحِكم والمصالح التي ضبطها الشرع بها، وجعلَها علامة عليها ومعرّفاً بها (¬5). ¬

_ (¬1) المقاصد: 206 - 210. (¬2) المقاصد: 228. (¬3) المقاصد: 230، 231. (¬4) المقاصد: 231 - 236. (¬5) المقاصد: 321.

تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص

ومن أدق النتائج التي تستخلص من وراء بحثه لهذه المصالح: أن الشريعة حريصة على تحقيق الأمن والمساواة والرفق، كم تتولّى بأحكامها مراعاة مصلحة نظام العالَم بحياطتها المصالح المألوفة المطّردة بسياج الحفظ الدائم، ولو في الأحوال التي يظنّ فوات المصلحة من سائر جوانبها (¬1). تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص: إذا كانت الأعمال العبادية وحتى التعاملية متنوعة في الأمر الواحد، بحيث لا يمكن التمييز بينها أو الاطمئنان إلى ما يسوق إليه الواجب التكليفي منها، فقد انتبه الفقهاء ورجال الشريعة إلى تقسيم التكاليف عامة إلى نوعين: الأول: ما يُوصف بالعزيمة. والثاني: ما يُعرف بالرخصة. وذكر الشاطبي هذين النوعين في قوله: إن الرخصة مستمدة من قاعدة: رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصلي كلي (¬2). والشيخ - رحمه الله - لا يتردّد في إبداء رأيه الخاص في هذا الموضوع فيقول: إني وجدت بعض أنواع الرخص مغفولاً عن التعرّض لها. وقوله: إني رأيت الفقهاء لا يمثّلون إلا بالرخصة العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار. ونحن إذا تأملنا الرخصة ووجدناها ترجع إلى عروض المشقة ¬

_ (¬1) المقاصد: 203. (¬2) الموافقات: 1/ 168.

التحيل

والضرورة، صحّ لنا أن ننظر إلى عموم الضرورة وخصوصها. وأن هناك قسماً ثالثاً مغفولاً عنه أيضاً، وهو الضرورة العامة المؤقتة. ويكشف المؤلف عن هذه الضرورة بقوله: كأن يعرض الاضطرار للأمة أو لطائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة، وإبقاء قوتها ونحو ذلك. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة، وهي تقتضي تغيير الأحكام الشرعية المقرّرة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. وقد مثَّلوا لذلك بالكراء المؤبّد الذي جرت به فتوى علماء الأندلس، كابن سراج وابن منظور وبإحكار الأوقاف الذي أفتى فيه ناصر الدين اللقّاني بمصر، وبالنِّصبة والخلو والإنزال بتونس، وبالجِلسة والجزاء اللذَيْن كانا معروفين بفاس، وببيع الوفاء في الكروم الذي أفتى به علماء بخارى (¬1). التحيّل: تحدث الإمام الشاطبي عن التحيّل فقال في المسألة الثانية عشرة في القسم الثاني من كتاب المقاصد: إن الأحكام شرعت لمصالح العباد، وكانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأن مقصود الشارع فيها. فإذا كان العمل في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ولا مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قُصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها. فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 356 - 361. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 385.

وتحدث أكثر الأصوليين عن التحيّل فتناولوه من حيث إنه يفيت القصد الشرعي كله، أو بعضه، أو لا يفيته. وإنا لنجده متفاوتاً في ذلك تفاوتاً أدّى بنا الاستقراء إلى تنويعه إلى خمسة أنواع، ستَرِدُ مفصّلة في موضعها من كتاب المقاصد (¬1). ومن يتتبع الصور التطبيقية لهذه الأنواع يتبين له حُكم التحيّل بصورة واضحة. ويُدرك أن اعتماد صوره للقياس عليها يُعدُّ من الغفلة؛ لأن الحيلة لا تشتمل على معنى وحكمة يصح القياس عليها، إذ قد اتفقنا على أن الحيلة مخالفة للحِكمة ومفيتة للمقصد (¬2). ومثل هذا يجري في الرخصة، بدليل إباء أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إدخال الرضعاء الكبار عليهن، واعتبارهن ذلك بتبنّي أبي حذيفة لسالم رخصة لا يُحمل عليها غيرها من الأحوال المشابهة لها بطريق القياس (¬3). وهذه المسائل جميعها كانت موضع تجاذب بين المؤلف وبين طائفة من الروّاد في علم الأصول وعلم المقاصد المتقدم ذكرهم. ولم يمنعه هذا من تخصيص بعضها بالنظر والدرس فاستأنفَ الحديث في ذلك (¬4). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 323. (¬2) المقاصد: 334. (¬3) المقاصد: 331 - 332. (¬4) انظر: 258 - 268، 269 - 293، 294 - 335 - 370 - 371.

الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح

الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح المقاصد لغة جمع مقصد. وهو مِن قصَد يقصِد قصداً ومقصداً. ورد القصدُ أو المقصدُ في كلام العرب بمعنى الاعتزام والتوجّه والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور. وإن كان قد يخصّ في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل. ألا ترى أنك تقصد الجور كما تقصد العدل. فالاعتزام والتوجّه شامل لهما (¬1). ومن هذا التعريف اللغوي أثبتوا للمقاصد عدة معانٍ منها: (1) الاعتماد، والأَمّ، وإتيان الشيء، والتوجّه. (2) استقامة الطريق. (3) العدل، والتوسط، وعدم الإفراط. (4) الكسر في أي وجه كان. ولم يحدد القدماء من علوم أصول الفقه معنى القصد أو المقصد اصطلاحاً. ولا يفي بذلك ما نقل عن بعضهم من التنصيص على جملة من المقاصد أو التقسيم لأنواعها، أو البيان للغرض الذي يحصل به مراعاتها من جلب المصالح ودرء المفاسد. ¬

_ (¬1) ابن سيدة. المحكم: 6/ 116.

ولعل أول من عني ببيان معنى المقاصد اصطلاحاً، هو الإمام الأكبر في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية. فقد قدم للقسم الثاني منه بقوله: المقاصد العامة هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أصول التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصُّ ملاحظتها بالكون في نوع خاصًّ من أحكام الشريعة، وتدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتُها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، كما تدخل في هذا أيضاً معان من الحِكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها (¬1). ونقرأ له بعد ذلك قبل تفصيله القول في المقاصد الخاصة، وأثناء التفريق بين المقاصد والوسائل: "المقاصد هي الأعمال والتصرّفات المقصودة لذاتها، والتي تسعى النفوس إلى تحصيلها بمساع شتى، أو تُحمل على السعي إليها امتثالاً". وزاد عند حديثه عن المعاملات: "المقاصد من موارد الأحكام، وهي المتضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها". ووضع الإمام حداً ثانياً يميّز به المقاصد الخاصة عن العامة، وهو قوله: "هي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرّفاتهم الخاصة، كي لا يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيلهم مصالحهم العامة، إبطالاً عن غفلة أو عن استزلال هوى وباطل شهوة". ¬

_ (¬1) المقاصد: 165.

وتدخل في ذلك كل حكمة رعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس. ويتفرع عن هذه الحقيقة حصر مقاصد الناس في تصرفاتهم. فهي المعاني التي لأجلها تعاقدوا أو تعاطوا أو تغارموا أو تقاضوا أو تصالحوا. وذكر الإمام لهذه المقاصد رتبتين: الأولى: منهما، وهي العليا، هي أنواع التصرّفات التي اتفق عليها العقلاء أو جمهورهم لما وجدوا من ملاءمتها لانتظام حياتهم الاجتماعية. والثانية: هي الدنيا، وهي التي قصد إليها فريق من الناس وآحاد منهم في تصرّفاتهم لملاءمة خاصة لها ببعض أحوالهم. وإذا كانت المقاصد الأولى العامة تعتمد من جهة الفطرة، وتتولد عنها السماحة والمساواة والحرية وتمضي بنا إلى الغاية التي يصورها لنا المقصد العام من التشريع وهو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، والتصور الكامل للحقوق، فإن المقاصد الخاصة تشمل أحكام الأسرة، والتصرفات المالية، والأموال، والمعاملات المنعقدة على عمل الأبدان، وأحكام التبرعات، وأحكام القضاء والشهادة وما يتصل بذلك من تصرف القاضي في تعيين المؤتمن من بين أفراد المستحقين أو من غيرهم، والتعجيل بإيصال الحقوق إلى أصحابها، والمقصد الشرعي من العقوبات. وتعتبر هذه وتلك من المقاصد حقوقاً عند البعض لما في الحقوق من ضمان للمصالح. وهذه الحقوق منها ما يعرف بإضافته لله، ومنها ما يضاف للعبد، ومنها الحقوق المشتركة.

الفطرة

وليس المراد من حق الله هنا التوحيد والعبادة، فهذان داخلان في العقائد والعبادات، وإنما المقصود من حقوق الله هو حقوق الأمة التي فيها تحصيل النفع العام أو الغالب، أو حق من يعجز عن حماية حقّه. فهذه الحقوق التي تحفظ المقاصد العامة للشريعة، وتحفظ المقاصد الخاصة بحماية تصرفات الناس في اكتساب مصالحهم الخاصة، وحفظ حقّ كل من يظنّ به الضعف عن حماية حقّه؛ أوصى الشارع بها عباده، وحملهم على مراعاتها. ولم يجز لأي أحدٍ منهم إسقاطها. والمراد من حق العبد التصرّفات التي يجلب بها المرء لنفسه ما يلائمها أو يدفع بها عنها ما ينافرها. وحقوق العباد هي الغالب. والمشترك من الحقين يغلب فيه حق الله، وربما غلب حق العبد إذا لم يمكن تدارك حق الله (¬1). الفطرة: ربط الإمام مقاصد الشريعة بالفطرة. فهي الوصف الأعظم للشريعة الإسلامية. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬2). فأعرب الآية، وذكر تآويل المفسرين لكلمة الفطرة، ناقلاً عن الزمخشري وابن عطية أنها جملة الدين بعقائده وشرائعه. وهي عنده: الخِلقة بمعنى النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق. ففطرة الإنسان ما فُطر عليه، أي ما خُلق عليه ظاهراً وباطناً، جسداً وعقلاً. ¬

_ (¬1) المقاصد: 404. انظر بعد: 370. (¬2) سورة الروم، الآية: 30.

وتتنوع الفطرة، فمنها العقلية ومنها النفسية. فالفطرة العقلية، وُصف الإسلام بها، لأنها تشمل العقائد والتشريعات؛ فهي تُدرَك بالعقل، وتجري على وفق ما يشهد به العقل من المُدرَكات. ولزيادة بيان هذا الوصف أورد الإمام كلام ابن سينا في الفطرة. وهو كلام طويل جاء منه في كتاب النجاة، أن من الفطرة فطرةَ الذهن، ووصفها بأنها تكون كاذبة. والفطرةُ الصادقة لديه هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إمّا شهادةُ الكل، وإمّا شهادةُ الأكثر، وإمّا شهادةُ العلماء والأفاضل منهم. وأخرج بهذا الذائعات. وجعل أقدر الناس على تمييزها عمّا يلتبس بها من المدركات والوجدانيات، العلماءَ والحكماءَ وأهلَ العقول الراجحة. وزاد الشيخ: الفطرة النفسية. وهي الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الإنساني سالماً من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة (¬1)، وجعلها - بعد استبعاده الأوهام والتخيّلات، منشأ أو مصدر الأصول التي جاء بها الإسلام من الفطرة، وأتبعها بفروع هي الفضائل الذاتية المقبولة التي دعا إليها الإسلام وحرّض عليها. وعدّ من ذلك: الزواج، والإرضاع، والتعاوض، وآداب المعاشرة، وحفظ الأنفس والأنساب، والحضارة الحق، والمخترعات. وختم المؤلف حديثه عن الفطرة بالتنبيه: أولاً: إلى أن مقتضيات الفطرة، إذا لم يمكن الجمع بينها في العمل، فإنه يصار إلى ترجيح أولاها وأبقاها على استقامة الفطرة. وثانياً: إلى أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 179 - 183. (¬2) المقاصد: 185 - 188.

ومن خلاصة هذا الكلام يتبيّن لنا أن الفطرة تمثل خط السير الأساسَ الذي تجري عليه الأحكام الشرعية، كما أن القصد من تلك الأحكام أن تكون موسومة بسيماه وعلى وفقه. ويظهر التعانق بين الفطرة والدين القيّم من البيان العالي والتقرير السامي الذي كشف به عن المقصد الأعظم الوارد في القرآن الكريم. وذلك ما يتأتّى عن طريقه حملُ الناس على الخير والصلاح المُطلق بالأخذ بما تضمّنه التنزيل من تفصيل للمقاصد ودعوة إلى الأخذ بها. فالقرآن أنزله تعالى كتاباً لصلاح أمر الناس كافة، رحمةً لهم، لتبليغهم مراد الله منهم. والمقصد الأعلى من ذلك صلاح الأحوال الفردية والجماعية والعمرانية. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬1). ووجب على التالي لهذا الكتاب أن يعلم المقاصد التي جاء القرآن لتبْيِينها. وقد حصرها الإمام في ثمانية أمور بلغ إليها بحسب ما انتهى إليه استقراؤه وهي: (1) إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح: وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق. (2) تهذيب الأخلاق: قال تعالى مخاطباً رسوله ونبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2) وما كان هذا الخلق العظيم إلا السمت الفريد الذي جاء به القرآن، وتقمّصه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكمال تعلّقه به. (3) التشريع: وهو الأحكام خاصة وعامة. قال الشاطبي: لأن القرآن على اختصاره جامع، والشريعة تمت بتمامه، ولا يكون جامعاً لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية. ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 89. (¬2) سورة القلم، الآية: 4.

السماحة

(4) سياسة الأمة. وهي باب عظيم في القرآن، القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (¬1). (5) القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم: {أولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬2). (6) التعليم بما يناسب المعاصرين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرِها. وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار. (7) المواعظ والنذر والتحذير والتبشير: وهذا باب عجيب في الترغيب والترهيب. (8) الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬3). السماحة: في التمهيد للحديث عن المقاصد، وتحقيق فعالياتها الخيّرة في المجتمعات البشرية، ومن إمعان النظر في المقصد العام من التشريع ومسايرته لحفظ الفطرة، ومجانبته ما يمكن أن يكون سبباً في خرقها واختلالها، يتولّد المقصد العظيم في الشريعة الإسلامية وهو السماحة. ولا بدع في هذا؛ فإن السماحة هي قوام الصفات الفاضلة. فهي منبع الكمالات والاعتدال والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 103. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 90. (¬3) التحرير والتنوير: 1/ 40 - 41.

المساواة

يدلّ على ذلك وصف الله تعالى الأمة الإسلامية أو صدّرها بها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬1). وقد وردت نصوص كثيرة من القرآن والسُّنة نذكر منها جملة تشهد بأن من استقراء الشريعة يحصل العلم بأنَّ السماحة واليُسر من مقاصد الدين. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفّرا" (¬2). وتبعاً لهذا قرر الشاطبي: أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع. وإنا لندرك هنا أن السماحة كان لها الأثر الكبير في انتشار الشريعة وبقائها. فاليسر من الفطرة، ومن الفطرة حب الرفق، وفي ذلك جميعاً رحمة للناس. ومن المقاصد الشرعية المتولدة عن الفطرة حقائق وأوصاف كثيرة نذكر منها المساواة والحرية. المساواة: هي مقصد شرعي نشأ عن عموم الشريعة كقولنا: المسلمون سواءٌ بأصل الخلقة واتحاد الدين. وكل ما شهِدت به الفطرة من التساوي فيه فرضته أحكام الشريعة، وكل ما شهدت الفطرة منه بالتفاوت بين الناس كان التشريع بمعزل عن فرض الأحكام الشرعية فيه متساوية. فالناس سواءٌ في البشرية، في حقوق الحياة بحسب الفطرة، وهم متساوون في أصول التشريع. وذلك في حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسب، وحفظ المال، وحفظ العقل، وزاد بعضهم حفظ العرض. والمساواة في التشريع أصل لا يتخلف إلا عند وجود مانع. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 143. (¬2) المقاصد: 144.

والموانع هي العوارض وهي أربعة أنواع: جبليّة، وشرعية، واجتماعية، وسياسية (¬1). والمساواة هي الظاهرةُ البارزةُ المميّزةُ لهذه الشريعة. وهي مناط العدل وإثبات الحق. والأخوةُ في الدين بين جميع المسلمين تمثّل وحدة، يتحد بصفة عامة فيها، الفكر والتوجّه، ويخضع كل أفرادها إلى تشريع واحد يدينون لله به. وهو تشريع لا يتأثّر بقوّة أو ضعف، يَحمِل دوماً على مراعاة هذا الأصل، وعلى نبذ كل ما عداه من أسباب المجافاة للحق التي قد تخامر العقل، أو يحمل عليها نوع من أنواع العصبيّات النسبيّة أو القبليّة. فالمساواة حقيقة أقرها المنهج الإسلامي، وفرض سلطانها، ورعايةَ المؤمنين جميعِهِم لها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬2). وفي هذا تقرير للمساواة بين أفراد الجنس البشري، كما يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -، في القضاء وجوباً على كل ميز عنصري: "كلكم لآدم وآدم من تراب" (¬3). والتساوي في حقوق الحياة في هذا العالم بحسب الفطرة، لا على ما يكون من تفاوت في الألوان والصور والسلائل والأوطان. ومن أغراض هذا المقصد في أصول التشريع حقّ الوجود في حفظ النفس والنسب والمال، وحق الاستقرار في الأرض التي اكتسبها النالس أو نشأوا فيها، وحق حفظ أسباب البقاء على حالة نافعة ولا ¬

_ (¬1) المقاصد: 279 - 291. (¬2) سورة النساء، الآية: 135. (¬3) رواه البزار؛ مجمع الزوائد: 8/ 86.

موانع المساواة

يتم هذا إلا بحفظ العقل والعرض (¬1). وقد جاء قول الله - عز وجل - يؤكّد هذه الحقائق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). موانع المساواة: وتظهر بين الناس فروق يمتنع معها اعتبار المساواة والاعتداد بها. وذلك متى وُجِدت موانع معتبرة. وهذه الموانع أو العوارض متى تحقّقت أوجبت إلغاء حكم المساواة، إما لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء، وإما لظهور مفسدة عند إجراء المساواة. وأنواع الموانع أربعة: (1) الموانع الجِبِلِّية: كمنع مساواة المرأة الرجل فيما تقصر فيه عنه بموجب أصل الخلقة، ومنها منع مساواة الرجل للمرأة في حق كفالة الصغار. وألحقوا في الماضي منع مساواة المرأة للرجل، فيما هو من خصائص الرجال وهو الكسب والإنفاق. (2) الموانع الشرعية: وهي ما كان سببها تعيين الشرع. والتشريع الحق لا يكون إلا مستنداً إلى حِكمة أو علّة معتبرة. (3) الموانع الاجتماعية: وأكثرها ما بني على ما فيه صلاح المجتمع، أو على معان معقولة، أو على ما اعتاده الناس، وتواضعوا عليه، فأصبح أصلاً لهم يعتمدونه ويتعاملون به. (4) الموانع السياسية. وهي الأحوال التي تؤثر في سياسة الأمة فتقتضي إبطال حكم المساواة بين أصناف أو أشخاص، أو في أحوال خاصة، مراعاة لتحقيق مصلحة من مصالح الأمة. ¬

_ (¬1) المقاصد: 279 - 280. (¬2) سورة المائدة، الآية: 8.

الحرية

الحرية: يعزّز الصفات التي ذكرناها ما جاء في الشريعة من بيان مدى حرية التصرّف بين الناس. وللحرية عدة معانٍ. فهي تعني أساساً استواءَ أفراد الأمة في تصرّفهم في أنفسهم. وهذا بدون شك مقصد أصلي من مقاصد الشريعة. وتُطلق الحرية بإزاء معانٍ كثيرة أخرى: أولها: ما يضاد العبودية. فمن أهم المقاصد التي دل عليها الاستقراء إبطال العبوديّة وتعميم الحرية. ثانيها: أن يتصرّف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة، تصرّفاً غير متوقّف على رضا أحد آخر. وتطلق هذه الحريّة مجازاً على تمكّن الشخص من التصرّف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض. ولا شك أن معنيي الحرية المزدوج مراد للشارع: وذلك لنشأتها على الفطرة، ولكونها تقتضي المساواة. وهي من مقاصد الشريعة الأساسية. وباستقراء نصوص الشريعة ندرك مدى تشوُّف الشريعة إلى الحرية وحرصها على بثها بين الناس. فالحرية من مقاصد الإسلام. وتتعلّق بعدة مظاهر في المعتقد والقول والعمل ونحو ذلك. تشوف الشارع للحرية: أكد الفقهاء على تشوّف الشارع للحرية. فكان من أكبر مقاصد السياسة الإسلامية إيقاف غلواء الأمم الظالمة الطاغية، والانتصاف من الأقوياء للضعفاء. وقد سلط الإسلام عوامل الحرية على عوامل

العبودية جمعاً بين نشر الحرية وحفظ نظام العالم. وذلك بإيقاف أسباب كثيرة من أسباب الاسترقاق، وقصره على سبب الأسْرِ خاصة. فأبطل الاسترقاق الاختياري، والاسترقاق لأجل الجناية، والاسترقاق في الدَّيْن، والاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية، واسترقاق السائبة. وعالج الإسلام الرق الموجود بجميع أنواعه بروافع تدفع ضررَه. ومن معاني الحرية المعدودة في مقاصد الإسلام، تعلّق الناس بأصولهم في معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم مما يخوَّل لهم الشرعُ التصرّف فيه. وقد جعل الشيخ ابن عاشور من هذا عدداً من الحريات نذكر منها: أولاً: حرية الاعتقاد القائمة على إبطال المعتقدات الضالَّة التي يُكرِه دعاةُ الضلالة أَتباعَهم ومريديهم على اعتقادها دون فهم ولا هدى ولا كتاب، ونفيُ الإكراه في الدين، والسماحُ بإقامة البراهين على العقيدة الحق، وحُسن مجادلة المخالفين وردُّهم حين الجدل إلى الحق بالحِكمة والموعظة الحسنة. ثانياً: حرية الأقوال في التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي. وشاهد هذا قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1)، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان" (¬2). ومنها حرية الأعمال وتدخل في كل مباح. وليس أحد أرفق ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 104. (¬2) انظر المقاصد: 379.

تعريف المصلحة والمفسدة

بالناس من الله. فتصرّف المرأة في مالها غير موقوف على إجازة زوجها، والحرّية في عمل المرء المتعلّق بعمل غيره، الأصلُ فيها أنّها مأذون فيها إذا لم تكن تضرّ بغيره. ومن حرية الأعمال ما يلزم المرء به نفسه بموجب حرية تصرّفه في العقود والالتزامات لمصلحة يراها على التفصيل بين ما يجب عليه من ذلك في حال التعاقد القولي، وبين ما لا يجب إلا بالشروع في العمل. والحرية ليست مطلقة بالنسبة للمؤمن بل يكون ملزماً في واقع الأمر بإقامة المصالح إذا عُيّن لها كما في فروض الكفايات. ويقع تعزيره عند التفريط. فيجب عليه الضمان، ويكون معرضاً للعقوبة بدون قبول توبته كما في الحرابة، أو بعدَ الاستتابة كما في الردة (¬1). ومنها حرية العلم والتعليم والتأليف. وفي ظل هذه الحرية أينعت حضارة الإسلام فأبدى الناس آراءهم، ونشروا فتاواهم ومذاهبهم، ونقلوا إلى عامة الناس تجاربهم وعلومهم. ولم يكن في ذلك موجب لمناوأة أو عداء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه إلى من ليس بفقيه" (¬2). تعريف المصلحة والمفسدة: ويختلط المقصد بالمصلحة في الاستعمال. فيذكر أحدهما بمعنى الآخر. ولرفع كل لبس عقد الإمام فصلاً للتعريف بالمصلحة والمفسدة، نقل فيه تعريفين: الأول للعضد من شرحه لمختصر ابن الحاجب الأصولي، والثاني للشاطبي من موافقاته. وأتى هو بتعريف ¬

_ (¬1) المقاصد: 380 - 382. (¬2) انظر المقاصد: 139.

المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان

ثالث جاء فيه: المصلحة كاسمها شيء فيه صلاح قوي. وهي وصف للفعل يحصل به الصلاح؛ أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور والآحاد (¬1). ثم أضاف إلى ذلك ذكر أنواع المصلحة فشرح الوضع وحل المشكل بقوله: إن المصالح كثيرة، متفاوتة الآثار قوة وضُعفاً في صلاح أحوال الأمة والجماعة، وإن المعتبر منها ما نَتَحقّق أنه مقصود الشارع. فالمصالح كثيرة منبثّة. ومقصد الشارع لا يجوز أن يكون غير مصلحة، ولكنه لا يلزم أن يكون مقصوداً منه كل مصلحة. ثم عقّب على قوله هذا بأن من حق العالم بالتشريع أن يَخْبُرَ أفانين هذه المصالح في ذاتها وفي عوارضها، وأن يسبر الحدود والغايات التي لاحظتها الشريعة في أمثالها وأحوالها إثباتاً ورفعاً، واعتداداً ورفضاً، لتكون له دستوراً يقتدى، وإماماً يحتذى (¬2). المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان: المصالح والمفاسد نوعان: الأول كونهما محضتين خالصتين، والثاني كونهما مشتركتين مختلطتين. وقد انقسمت الآراء في ذلك شطرين بين فريقين: الفريق الأول: ومن أعلامه القرافي والشاطبي كانا يريا مصالح هذا العالم ومفاسده لا توجد إلا مختلطة. وحجة الأول في ذلك قوله الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬3). وقد أوضح القرافي رأيه هذا بقوله: إن استقراء ¬

_ (¬1) المقاصد: 199 - 200. (¬2) المقاصد: 230 - 231. (¬3) سورة البقرة، الآية: 219.

الشريعة يقتضي أنه ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلّت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة وإن قلّت على البعد (¬1). وقال أبو إسحاق: إن المصالح الدنيوية، من حيث هي موجودة في هذا العالم، لا تخلص لأن تكون مصالح محضة ... لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلّت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها. فإن المصالح لا تنال إلا بكد وتعب، كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمقاصد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسدة تُفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير (¬2). ويمضي في تقرير هذا قائلاً: إن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين، والاختلاط بين القبيلين. فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك. وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق. وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص (¬3). قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬4) وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬5). والفريق الثاني: ذهب إلى تقرير وجود المصلحة المحضة وكذا المفسدة المحضة. ولقد صرح هذا الإمامان العز بن عبد السلام ومحمد الطاهر ابن عاشور. قال أولهما: إن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وإن تقديم أرجح المصالح فأرجحها ودرء أرجح المفاسد فأفسدها محمود حسن (¬6). وقد ورد في السُّنة ما يدل على ذلك، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات". ¬

_ (¬1) تنقيح الفصول: 11 - 14. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 26. (¬3) الموافقات: (3) 2/ 26. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 35. (¬5) سورة هود، الآية: 7. (¬6) قواعد الأحكام: 1/ 5، 6.

وقال صاحب المقاصد مؤكداً ما ذهب إليه العزّ: إن النفع الخالص والضر الخالص وإن كانا موجودين إلا أنهما بالنسبة للنفع والضر السويين يعتبران عزيزين. وقد وجه الإمام دعواه بقوله: إن التعاون الواقع بين شخصين هو مصلحة لهما وليس فيه أدنى ضرٍّ، وإن إحراق مال أحد إضرار خالص، على أن بعض المضرة قد يكون لضعفه مغفولاً عنه ممن يلحقه، فذلك منزّل منزلة العدم، مثل المضرة اللاحقة للقادر على الحمل الذي يناول متاعاً لراكب دابة سقط منها متاعه. فإن فعله ذلك مصلحة محضة للراكب، كان ما يعرض للمناول من العمل لا أثر له في جلب ضرًّ إليه (¬1). ومن يعد إلى موقف ابن القيم من القول بوجود المصالح والمفاسد المحضة وبنظائرها المختلفة، يجده مصرّحاً بإمكان الجمع بين أقوال الفريقين: فإذا أريد بالمصلحة الخالصة أنها في نفسها خالصة لا تشوبها مفسدة فلا ريب في وجودها، وإذا أريد بالمصلحة ما لا تشوبها مشقة، ولا أذى في طريقها والوسيلة إليها ولا في ذاتها فليست موجودة بهذا الاعتبار. إذ المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسر من التعب. وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن مَن آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة (¬2). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 205. (¬2) مفتاح دار السعادة: 2/ 332 - 333.

الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها

الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها في بداية الحديث عن المقاصد العامة ذكر المؤلف أن المقاصد نوعان: معانٍ حقيقية، ومعانٍ عرفية عامة. ولمنع الاستهتار بتعيين المقاصد ومحاولة اختيارها من غير النوعين المذكورين أعلاه اشترط الإمام الأكبر في المعاني الحقيقية والمعاني العرفية كليهما وصفاً ضابطاً - لها هو الثبوت والظهور والانضباط والاطراد. أما الثبوت فهو أن تكون المعاني مجزوماً بتحقّقها أو مظنوناً بها ظناً قريباً من الجزم. وأما الظهور فهو الاتضاح بحيث لا يختلف الفقهاء في تشخيص المعنى ولا يلتبس على معظمهم بمشابهه. والانضباط هو أن يكون للمعنى حدٌّ معتبَرٌ لا يتجاوزه ولا يقصر عنه. والاطراد هو أن لا يكون مختلفاً باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار. وقسم الإمام الأكبر المقاصد إلى أنواع ثلاثة: القسم الأول باعتبار ما يكون لها من آثار في قوام أمر الأمة. وهذه ثلاثة: ضرورية وهي الكلّيّات الخمس، وحاجية، وتحسينية.

القسم الأول من المقاصد

القسم الثاني ما يكون باعتبار تعلق المقاصد بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها. ونراها على هذا الأساس تختلف بين كلية وجزئية. والقسم الثالث ما يكون باعتبار تحقّق الاحتياج إليه في قوام أمر الأمة أو الأفراد. وتختلف أنواعه بين قطعيّة وظنيّة ووهميّة. وقدم الشاطبي لهذه الأقسام الثلاثة ببيان أن المقاصد التي يُنظر فيها قسمان: أحدهما ما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر إلى ما يرجع إلى قصد المكلف. ثم ذكر التكاليف الشرعية التي ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، فبدأ بالكليات الخمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. القسم الأول من المقاصد: وعلى نحو ما جرى عليه صاحب الموافقات تعرض الإمام الأكبر إلى الأنواع الثلاثة من ضروريّة وحاجيّة وتحسينيّة. وهذه تتنوع إلى أربعة أنواع: ° النوع الأول: مقاصد وضع الشريعة ابتداءً (¬1). ° النوع الثاني: مقاصد وضع الشريعة للأفهام (¬2). ° النوع الثالث: مقاصد وضع الشريعة للتكليف (¬3). ° النوع الرابع: مقاصد وضع الشريعة للامتثال (¬4). وهذه الأنواع الأربعة مبيّنة أكمل بيان، في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية (¬5). ¬

_ (¬1) المقاصد: 165. (¬2) المقاصد: 80 - 81. (¬3) المقاصد: 291. (¬4) المقاصد: 350. (¬5) انظر: في كتاب المقاصد أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة =

أحاط الشيخ ابن عاشور بهذا القسم إحاطة كاملة، وأورد الكثير من البيانات والتقسيمات التي عرضها نقلاً عن الأئمة كالغزالي وابن الحاجب والقرافي والشاطبي. وسار على طريقتهم في ترتيب الكليّات، وخالف القرافي ونازعه في اعتبار حفظ العرض من الضروريات. وتحدّث إثر ذلك عن طرق حفظ الضروريات، وشرحَ القصد من الحاجيات وكذلك التحسينيات، وعدّل وأضاف أشياء كثيرة لم ينتبه إليها من قبله. أما تعريفه للمصالح الضرورية فقوله: هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها. فإذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش. وذلك بما قد يحصل من تفاني بعضها ببعض، أو بتسلط العدو عليها، إذا كانت بمرصد من الأمم المعادية لها. واستند الإمام إلى الغزالي في القول بأن العلم بالضروري مقصود للشارع بأدلة خارجة عن الحصر، واستدل لذلك أيضاً بقول الشاطبي: إن علم هذه الضروريات صار مقطوعاً به لتضافر أدلته. فقتل النفس مثلاً ورد الخطاب الإلهي بالنهي عنه، وأقام على ارتكابه جنس العقوبة، وأغلظ فيها بالتوعد عليه، ومقارنة شناعة ارتكابه بالشرك. ويذكر بعد هذا ما نبه إليه بعض علماء الأصول من قولهم: إن الإشارة إلى هذه الضروريات ورد بها الذكر الحكيم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ ¬

_ = المقاصد الشرعية: 79؛ انتصاب الشارع للتشريع: 87؛ الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية: 165؛ ليست الشريعة بنكاية: 292؛ نفوذ التشريع والإلزام به يكون بالشدة تارة والرحمة أخرى: 349.

شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). وفي هذه الآية العامة في مخاطبة المكلفين ذكرٌ لأصناف الضروريات من دين ومال ونسب ونفس وعقل. وسلك الإمام الأكبر مسلك الشاطبي في بيان حفظ هذه الكليات الخمس من أصول العقيدة والسلوك. فصوّر حفظ الدين بصورتين: الأولى: حفظ دين كل أحد من المسلمين من أن يدخل عقيدتَه ما يُفسدها أو يفسد عملَه اللاحق بالدين. الثانية: حفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة. وذلك بدفع كل ما من شأنه أن ينقض أصول العقيدة. وهو ما يرجع إلى حماية البيضة والذب عن الحوزة الإسلامية بإبقاء وسائل تلقّي الدين من الأمة في حاضرها وآتيها. أما حفظ النفس فمعناه صيانتها من التلف أفراداً وجماعات. والقصاص هو أضعف أنواع حفظ النفوس؛ لأن الأهم من ذلك حفظ النفس من التلف قبل وقوعه كمقاومة الأمراض السارية، ومنع الناس من أن تدركهم العدوى بدخول بلد قد انتشرت فيه أوبئة. وأما حفظ العقل فتحصينه مما يمكن أن يدخل على عقل الفرد من خلل يفضي إلى فساد جزئي، أو على عقول الجماعات وعموم الأمة من فساد أعظم، سببه تناول المفسدات من مسكر أو حشيش أو أفيون ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، الآية: 12.

وأما حفظ المال فطريقه التأدب بآداب الإسلام فيه. وذلك بالإمساك عن الإتلاف المنهي عنه شرعاً، وحفظ أجزاء المال المعتبرة من التلف بدون عوض. ولا يكون من هذا إلغاء بعض الأعواض من الاعتبار، ولا حفظ الأموال من الخروج من يد مالكها إلى يد أخرى من أيدي الأمة بدون رضا. فإن تلك من الحاجي لا من الضروري. وحفظ الأموال الفردية يؤول إلى حفظ مال الأمة وبه يحصل. وأما حفظ الأنساب فهو المعبَّر عنه بحفظ النسل. وتناوله الإمام بشيء من البسط في القول، جاعلاً حفظ الأنساب - أي النسل - من الضروري. وذلك ما يتحقق بحفظ ذكور الأمة من مثل الاختصاء أو من ترك مباشرة النساء باطراد العزوبة، وبحفظ إناث الأمة من قطع بعض أعضاء الأرحام التي بها الولادة، ومن أن تنشئ إفساد الحمل وقت العلوق، أو بقطع الثدي فإنه يكثر الموتان. ويكون حفظ النسب بتحقيق انتساب النسل إلى أصله وهو من الحاجي. لكنه لما كان لفواته عواقب وخيمة يضطرب بها أمر نظام الأمة، وتنخرم بها دعامة العائلة غلظت الشريعة في حدّ الزنى. وممّا ورد من التغليظ فيه ما قاله بعض العلماء في نكاح السر، وكذلك فيما ورد عنهم في النكاح بدون ولي وبدون إشهاد. وزاد القرافي على هذه الكليّات الواجبِ حفظُها حفظَ العِرض. وردَّ الإمام الأكبر ذلك، سالكاً منهج الغزاليَ وابن الحاجب في القول بعدم ضروريته، معلّلاً اتجاهه ورأيه بنفي التلازم بين عدِّ الأمر من الضروري، وبين ما يترتّب على تفويته من حدًّ. ويكون الضروري قليل التعرض إليه في الشريعة لاتخاذ البشر فيه ما يستوجبه من حيطة؛ لأنّه من الجبلّي المركوز في الطبع.

وتعرض الشيخ ابن عاشور بعد ذلك إلى قسمي الحاجي والتحسيني. وهما معدودان في المصالح المعتبَرِ أثرُها في قوام أمر الأمة. فالحاجي، كما قدمنا، هو ما تحتاجه الأمة لاقتناء مصالحها وانتظام أمرها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لفسد النظام، ولكنه يكون على حالة غير منتظمة فلا يبلغ مبلغ الضروري (¬1). وعرفه الشاطبي بقوله: هو ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. فلو لم يُراعَ دخل على المكلَّفين الحرجُ والمشقّةُ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد المتوقع في المصالح العامة. وتولّى المؤلف إثر هذين التعريفين المسوقين للمقارنة بينهما ذكرَ أمثلة للحاجي جعل منها الأصوليون البيوع والإجارات والقراض والمساقاة. ووضع الشيخ ابن عاشور لضبط الحاجي قاعدة يسهل عن طريقها إدراك جملة من صوره. وذلك قوله: إن معظم قسم المباح من المعاملات راجع إلى الحاجي. وألحق به النكاح الشرعي، وحفظ الأنساب كإلحاق الأولاد بآبائهم والعكس. ومنه أيضاً في البيوعات بيوع الآجال المحظورة لأجل سد الذريعة، وتحريم الربا، وأخذ الأجر على الضمان، وبذل الشفاعة. فإن هذه أكثرَها من الأحكام التكميلية لحفظ المال وليست داخلة في أصل حفظ المال. ويتلو الضروريات والحاجيات قسم التحسينيات. عرف الغزالي التحسيني من المصالح بقوله: هو الذي يقع موقع ¬

_ (¬1) المقاصد: 241.

المقاصد بين كلية وجزئية

التحسين والتزيين للمزايا، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات. ومثاله سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه أو روايته، فلأن العبد ضعيف المنزلة باستسخار المالك إياه. فلا يليق بمنصبه التصدّي للشهادة (¬1). وقال الشيخ ابن عاشور في تعريف التحسيني: هو عندي ما كان به كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، فتكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها، أو في التقرب منها. فإن لمحاسن العادات مدخلاً في ذلك سواء أكانت العادات عامة كستر العورة، أم خاصة ببعض الأمم كخصال الفطرة وإعفاء اللحية. وجعل الإمام سد ذرائع الفساد من المصالح التحسينية فهي أحسن من انتظار التورط في الممنوعات (¬2). وهذا القسم بأنواعه الثلاثة عني ببحثه العلماء، وتتبعوا تصاريف الشريعة في أحكامها فيه، فوجدوها - كما قال الإمام - دائرة حول هذه الأنواع لا تكاد تفيت شيئاً منها ما وجدت السبيل إلى تحصيله، حيث لا يعارض ذلك معارض في جلب مصلحة أعظم أو في درء مفسدة كبرى. المقاصد بين كلية وجزئية: والتقسيم الثاني للمقاصد يجعلها نوعين متمايزين هما المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة وسيأتي تفصيل القول في ذلك. والتقسيم الثالث فهو يجعلها أحدهما الكلي والآخر الجزئي، فالمقاصد الكلية هي ما تناول القسمين الأولين من المقاصد. وهو العامة والخاصة. وهما مذكوران في التقسيم الأول، إما باعتبارهما إطلاقاً على جملة ¬

_ (¬1) المقاصد: 243. (¬2) المقاصد: 243 - 244.

المقاصد بين قطعية وظنية

مقاصد أحكام الشريعة، وإما باعتبار تناوله لجميع مسائل يضمها باب واحد. وتقابل هذه المقاصد أو المصالح الكلية مصالحُ جزئية. وهي عبارة عن الفروع الفقهية وما استدل به عليها كما هو واضح من كتب الفقه، وكتب القواعد، وما وضعه العلماء من تصانيف في محاسن الشريعة الإسلامية. المقاصد بين قطعيّة وظنيّة: إن المؤلّف بعد عرضه لطرق إثبات المقاصد الشرعية المعلومة لدى السلف، وعند من لحق بهم من المجتهدين والأئمة الفقهاء، شعر بما قد نكون شاعرين به من عطاء ممدود، يمكن أن يلتمس عن طريقه أهل العلم وغيرهم تعيينَ المقاصد، والحكمَ لها بوجوب الاعتبار، ممّا يجعلهم حريصين على استنباط الأحكام الشرعية مهما كانت درجة الطريق قوة أو ضعفاً، ومهما كانت تلك المقاصد مستقاة من رأي غالب المجتهدين أو من رأي واحد شاذ لا يعدو أن يكون رأيه رأياً شخصياً لا اعتداد به عند الجمهور. فَحَمَلَه الخوف من التساهل في هذا الأمر على وجوب التأمّل والتثبت في الأدلة، والتحذير من التساهل والتسرع في تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي، يكون أصلاً تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط. ففي الخطأ في هذا خطر عظيم (¬1). ودعا المؤلف إلى تجديد علم الأصول بالإبقاء على المسائل الهامة العلمية المُتّصلة به اتصالاً أصلياً، وتفريغه مما يشوبه من ¬

_ (¬1) المقاصد: 138.

مسائل العلوم الأخرى. ثم إلى تعويضه بعلم المقاصد الشرعية الذي هو أوسع منه لما فيه من المقاصد القطعيّة والمقاصد القريبة منها والظنّية. فالمقاصد الشرعية القطعيّة هي ما يؤخذ من متكرر أدلة القرآن تكرراً ينفي احتمال قصد المجاز والمبالغة. وذلك كمقصد التيسير الذي وردت به جملة من الآي الكريمة تَتْبعها الأحاديث النبوية الشريفة. قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} (¬1)، وقال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2)، وقوله - عز وجل -: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (¬3)، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (¬4). ومثل هذا التكرار والتأكيد لطلب اليسر أو التيسير ورد في السُّنة أيضاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم من الأعمال ما تطيقون" (¬5)، "إن هذا الدين يسر وليس بالعسر" (¬6)، و"يسِّرا ولا تعسِّرا" (¬7). فاستقراء هذه النصوص وغيرها مما ورد في الكتاب يدل قطعاً على أن التيسير من مقاصد الشريعة. وهي كلها قطعيّة النسبة إلى الشارع لأنها من القرآن وهو قطعي المتن. والمقاصد الظنّية دونها. لا تحتاج إلى استقراءٍ كبيرٍ لتصرّفات الشريعة. وقد وضع العزُّ بن عبد السلام قاعدةً ترشد إلى طريق معرفة المقاصد الظنية (¬8). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 185. (¬2) سورة الحج، الآية: 78. (¬3) سورة البقرة، الآية: 187. (¬4) سورة النساء، الآية: 28. (¬5) انظر المقاصد: 144. (¬6) انظر المقاصد: 144. (¬7) انظر المقاصد: 144. (¬8) القواعد: 2/ 189.

المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة

وذكر الشاطبي في المسألة الثالثة من الطرف الأول من كتاب الأدلة أن الدليل الظنّي إمّا أن يرجع إلى أصل قطعي مثل: "لا ضرر ولا ضِرار"، وإما إلى قواعد كليّة. وذكّر الشيخ ابن عاشور، بأن خبر الآحاد لا يكون قطعياً (¬1). كما ذكر بأن النهي عن الاعتداء على الغير بشتى الأشكال المادية يقتضي اعتبار المنهي عنه من الجنايات. وهذا في غاية العموم في الشريعة. وهو مما لا شك فيه ولا مراء (¬2). ومن أهم ما أكد عليه الإمام من الحقائق أن القصد من عرض القول في قطعيّة علم الأصول التنوّر بأضواء وأفهام سلفنا، لنعلم إمكان استخلاص قواعد تحصل بالقطع أو بالظن القريب من القطع، وإن كانت قليلة. وأن طلب هذا الغرض الأساس من القطعيّة إنما يحصل بعلم مقاصد الشريعة. وأن المطلوب والغاية من النظر في هذا كله هو جمع ثلة من القواعد القطعيّة يُرجع إليها عند الاختلاف بين الفقهاء والدارسين، لوضع حد للجدل والمكابرة. وكذلك نبّه إلى أن لاحتمال قيام المعارضات لشواهد استقراء الفقه أثراً بيّناً في مقدار قوّة ظن المعارض وضعفه، كما هو مقرر في علم الحكمة (¬3). المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة: والمقاصد نوعان: أصلية وتابعة. ¬

_ (¬1) المقاصد: 146. (¬2) المقاصد: 146. (¬3) المقاصد: 140.

فأما الأصلية فهي التي لا حَظَّ فيها للمكلّف. وهي الضروريات الخمس المعتبرة في كل ملّة، التي بها القيام بمصالح عامة مطلقة. وهذه على ضربين: عينية وكفائية. فالأولى وهي العينية واجبة على كل مكلف في نفسه. فهو مأمور بحفظ دينه اعتقاداً وعملاً. وذلك بتعلّم ما يدفع به عن نفسه الشُبه التي تُورد عليه، وبحفظ نفسه قياماً بضروريات حياته. وذلك بأن يُجَنّبها ما يُرديها من أسباب الهلاك كالانتحار بأي صورة من الصور، وبحفظ عقله صوناً لمورد الخطاب من ربّه، بتوقّي الأسباب الموجبة لذهابه أو غيابه، وبحفظ نسله حرصاً على بقاء عوضه وخَلَفِه في عمارة هذه الدار، وذلك بعدم وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب. ويتوقّى ذلك بصون شهوته بألّا يضعها إلا فيما أذن الله به، وبحفظ ماله استعانة على القيام بتلك الأوجه الأربعة، وذلك بألا يتلفه فيما لا يعود عليه بالنفع إطلاقاً. وقد نبَّه الشاطبي إلى أن هذه المقاصد الأصلية مسلوب منها حظ المرء لكونه محكوماً عليه في نفسه، كان صار فيها له حظ، فمن جهة ثانية تابعة لهذا المقصد الأصلي (¬1). والثانية وهي الكفائية تعني القيام بالمصالح العامة لجميع الخلق. فبها استقامة نظام الأمة وحماية الضروريات. فالمكلف من هذه الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص؛ لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط، بل بإقامة الوجود. ومما يدلّ على كون المقصد الأصلي الكفائي معرىً من الحظ شرعاً، الأمر لمن يقوم به بعدم استجلاب الحظوظ لنفسه كِفاء ما قام به من ذلك. ويفصَّلُ ¬

_ (¬1) الموافقات: (3) 2/ 176 - 177.

الشاطبي هذا المعنى بقوله: فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرة ممّن تولّاهم على ولايته عليهم، ولا لقاضٍ أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة قضائه، ولا لحاكم على حكمه، ولا لمفتٍ على فتواه، ولا لمحسن على إحسانه، ولا لمقرض على قرضه، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة. ولذلك امتنعت الرشاوى والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة هنا مؤدًّ إلى مفسدة عامة تضاد حكمة التشريع في نصب هذه الولايات، وعلى هذا يجري العدل بين جميع الأنام ويصلح النظام (¬1). وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها حظ المكلف من استجابة لفعل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسدّ الخلاف، واكتساب ما يحتاجه من ذلك كله. وبهذا الاعتبار تصير المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها. وكما رغّبنا سبحانه في حقوقه الواجبة علينا بوعد حَظِيًّ لنا، وعجَّل لنا من ذلك حظوظاً كثيرة نستمتع بها في طريق ما كلفنا به. وهكذا تكون المقاصد الأصلية راعية لما تقتضيه معاني العبودية، وتكون المقاصد التابعة مما اقتضاه لطف المالك بالعبيد (¬2). وممّا أوردوا من أمثلة للمقاصد الأصلية والمقاصد التابعة في العبادات والعادات جعلُهم من الأول الذي ليس فيه حظ عاجل مقصود فروضَ الأعيان كالعبادات البدنية والمالية من طهارة وصلاة وصيام وزكاة وما أشبه ذلك. وجعلُهم من فروض الكفايات الولاية العامة وما تشمله من ¬

_ (¬1) الموافقات: (3) 2/ 176 - 179. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 178 - 179.

خلافة، ووزارة، ونقابة، وقضاء، وإمامة الصلاة، والجهاد، والتعليم، وغيرها مما شُرع لمصالح عامة. والقصد الأول من هذه التكاليف العينيّة الكفائية الامتثال لأمر الله والاستجابة لدعوته. وتترتّب على ذلك كلّه مقاصد تابعة. صوّرها لنا الشاطبي بقوله: ففي الصلاة يكون المقصد الأصلي منها إظهار الخضوع لله بإخلاص التوجّه إليه، والانتصاب على قدم الذلّة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بذكره. قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المصلّي يناجي ربه" (¬2). ومن المقاصد التابعة ما يشير إلى تطهر المؤمن المصلي من الأدناس بقيامه بفريضة الصلاة لقوله - عز وجل -: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬3). ومنها الاستراحة من أنكاد الدنيا لقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬4)، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرحنا بها يا بلال" (¬5). وكذلك طلب الرزق لقوله - جل جلاله -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} (¬6). وترتفع المقاصد التابعة في المرتبة فتلتحق بالأصليّة متى كانت وسيلة إليها، أو مقارنة لها غير منفكّة عنها. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 14. (¬2) حَم: 2/ 67، 4/ 344. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬5) دَ: 5/ 262؛ حَم: 5/ 364، 371. (¬6) سورة طه، الآية: 132.

وممّا فرّقوا به بين المقاصد الأصلية والتابعة جملة من الاعتبارات منها: (1) أن الأولى يقتضيها محض العبودية، والثانية يقتضيها لطف المالك بالعبيد. والضروريات ضربان: ما يؤكدّ الطلب فيه لمخالفته حظّ النفس كالعبادة، والنظر في مصالح الغير. والضرب الثاني لا يؤَكَّد الطلب فيه لما للمكلّف فيه من حظ عاجل مقصود كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات واتخاذ السكن والمسكن واللباس وما يلحق بها من المتمّمات كالبيوع والإجارات والأنكحة وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية (¬1). (2) والمقاصد الأصلية إذا رُوعيت كانت أقرب إلى إخلاص المكلّف في عمله، وتجعل من العمل عبادة، تبعده عن مشاركة الحظوظ فلا تدعها تغيِّرُ وجه محضِ العبودية، بخلاف مراعاة المقاصد التابعة؛ فإن المكلّف، وإن كان عمله فيها موافقاً لقصد الشارع لم يخالفه، إلا أنه لم يراعِ ذلك في عمله حتى يكون خارجاً عن داعية هواه. ومقتضى هذا أنه لم يفعل ما فعله التفاتاً لمقتضى خطاب الشارع بل لمجرد حاجته، وداعية شهوته، بقطع النظر عن الخطاب. (3) المقاصد الأصلية تكون راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شيء سوى ذلك، وإما إلى ما يفهم من الأمر من أنه ¬

_ (¬1) الموافقات: (5) 2/ 137 - 139.

المقاصد والوسائل

عبد استعمله سيده في سخرة عبيده، فجعله وسيلة وسبباً إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف شاء ... وهذا عامل بمحض العبودية مسقط لحظه فيها، بخلاف العامل لحظّه، فإنّه لمّا لم يفهم بذلك من حيث مجرد الأمر، ولا من حيث فهم مقصود الأمر، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظّه أو حظّ من له فيه حظّ. فهو وإن امتثل الأمر فمن جهة نفسه. فالإخلاص على كماله مفقود في حقّه، والتعبّد بذلك العمل منتفٍ. (4) القائم على المقاصد الأصلية قائم بعبء ثقيل جداً، وحملٍ كبير من التكليف مما يثبت تحته طلب الحظّ في الغالب، بل يطلب حظّه بما هو أخفّ منه (¬1). ومن المقاصد كليات وهي نوعان: قريبة كالكليات الخمسة، وعالية وهي تشمل نوعين: المصلحة والمفسدة. المقاصد والوسائل: سبق للعلماء التفريق بين المقاصد والوسائل. وقالوا إن الذرائع هي الوسائل (لأنها وسائل إلى ما يُتَذَرَّعُ إليه بها وهو المقاصد). والمقاصد قسمان: مقاصد الشرع، ومقاصد الناس في تصرّفاتهم. فمعرفة المقاصد الشرعية الخاصة بأبواب المعاملات مثلاً هي كما تقدم تصوّرُ الكيفيات المقصودة للشارع من أجل تحقيق المصالح وجلبها، ونفي المفاسد ودرئها، وحفظ المقاصد العامة في تصرفات الناس الخاصة. ¬

_ (¬1) الموافقات: (5) 2/ 149 - 151.

وبعكس ذلك الوسائل. فهي الأحكام المشروعة من أجل أن يتم بها تحصيل أحكام أخرى. وهي غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب، إذ بدونها قد لا يحصل المقصد، أو يحصل معرضاً للاختلال والانحلال. وتعد من الوسائل الأسبابُ المعرّفاتُ للأحكام، والشروط، وانتفاء الموانع وصيغ العقود ونحوُ ذلك. والوسائل مجعولة في الدرجة الثانية من المقاصد. ولذلك كان من قواعد الفقه أنه إذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة (¬1). وتتعدد الوسائل إلى المقصد الواحد، فتعتبر الشريعة في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه، بحيث يحصل كاملاً راسخاً عاجلاً وميسوراً. فإذا تساوت الوسائل في الإفضاء إلى المقصد، باعتبار أحواله كلها، سوّت الشريعة في اعتبارها، وتخيّر المكلف في تحصيل بعضَها دون الآخر. ومن الوسائل: ما يطلب من تحصيلها تحصيل المقاصد؛ وهي التي يتعلق بها خطاب التكليف، والثانية هي التي تكون سبباً في حصول المقصد الشرعي (¬2). وقد تقرر أن المقاصد الشرعية وما يكون وسيلة إلى حصولها كلها من المقاصد كما أشرنا إليه أعلاه. ولا تخفى أهميتها على أحد. شهد بذلك الأئمة الأعلام الذين نعدُّ منهم: أولاً: الإمام الجويني الذي اعتبرَ وسيلة المقاصد أحدَ المدارك العلمية، قائلاً في هذا الشأن: فإن عُدِم المطلوب في هذه الدرجات ¬

_ (¬1) المقاصد: 406. (¬2) المقاصد: 408.

لم يُخَضْ في القياس بعدُ، ولكن ينظر في كليات الشريعة ومصالحها العامة (¬1). وثانياً: الإمام تقي الدين السبكي الذي اعتبر رتبة الاجتهاد قائمة على ثلاثة أشياء، من بينها وسيلة استيعاب المقاصد الشرعية. فلا بد أن يكون للمجتهد من الممارسة، ومن التتبع لمقاصد الشريعة ما يُكسبه قوة تفهّم لموارد الشرع (¬2). ثالثاً: اعتماد الآمدي وسيلة المقاصد في مقامي الترجيح ودفع التعارض (¬3). رابعاً: وفي تحرير ضبط وسيلة المقاصد آراء صوّرها لنا الشيخ ابن عاشور في جملة من الاعتبارات للتأكيد على أهميتها. وحصرها في خمسة أنحاء: 1 - النظر في أقوال الشريعة ونصوصها. 2 - تبين وجوه التعارض الظاهري بين نصوص الشريعة. 3 - البحث عن علل الأحكام. 4 - إيجاد الحكم غير المنصوص عليه. 5 - التقليل من الأحكام التعبّدية (¬4). * * * * * ¬

_ (¬1) البرهان: 2/ 1338. (¬2) الإبهاج: 3/ 206. ط (1) 1984. (¬3) الأحكام: 4/ 376 - 377. (¬4) المقاصد: 138 - 159.

الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب

الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب إنا حين نعيد النظر في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية نجد الشيخ مع تعرّضه لشتى المسائل، ولما أشرنا إليه قبل من مباحث، لا يكاد يخلي صفحة من مؤلَّفه من ذكر المقاصد تصريحاً وكشفاً، إيماء وإشارة، نظراً وتطبيقاً، يدل على ذلك أنه: خَصَّ مقدمته ببيان الحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة، وبيان أن علم أصول الفقه لا يغني عن معرفة المقاصد الشرعية، وقابل بين العلمين بأن من المقاصد ما هو قطعي بخلاف أصول الفقه فهي ظنيّة لا ترقى إلى مبلغ القطع (¬1). وهذه الفصول الثلاثة مهمة مهَّد بها لما يليها ويتصل بها من مباحثَ تناولَها كتابُه في أقسامه الثلاثة. ففي الأول أثبت أن للشريعة مقاصد من التشريع (¬2)، وبيّن احتياج الفقيه إلى معرفتها ومعرفة مراتبها (¬3)، ونبّه إلى الخطأ العارض من إهمال النظر فيها، وفصّل القول في هذه الأغراض في أحد عشر فصلاً. وفي القسم الثاني تعرض لمقاصد التشريع العامة (¬4) وجعلهُ خمسة وعشرين فصلاً. ¬

_ (¬1) المقاصد: 6. (¬2) المقاصد: 35 - 39. (¬3) المقاصد: 40 وما بعدها. (¬4) المقاصد: 165.

وفي الثالث تتبع مقاصد الشريعة الخاصة بأنواع المعاملات (¬1) متناولاً جملة من المباحث في ثمانية عشر فصلاً. ويرتبط بهذه الغاية من البيان والتفصيل كون الأحكام والتكاليف كلية في جملتها. فإذا دعت الحاجة إلى ضبط أحوال الأفراد والجماعات بتشاريع جزئية وقع التمهيد لها بشيء من التدرّج في الأحكام. فتطورُ التشريع من البعثة إلى الهجرة مقصد للشريعة من أجل البلوغ إلى الإصلاح العام المطلوب (¬2)، وحفظ نظام العالَم مقصد للشريعة من التشريع، واهتمام هذا التشريع بضبط تصرّف الناس يتحقق به الوجه الذي يعصم الخلق من التفاسد والتهالك (¬3). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 397 - 550. (¬2) المقاصد: 199. (¬3) المقاصد: 230.

الباب الثالث في إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

الباب الثالث في إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

توطئة

توطئة يضع هذا المبحث بين أيدينا أغراضاً كثيرة للقول، منها ما في القرآن والحديث الآثار من دلائل كثيرة على: (1) إثبات المقاصد الشرعية فيما صدر عن الحكيم العليم من تشاريع لعباده. (2) وعلى احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة. (3) وعلى تصوّر طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة، وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً منها. (4) وعلى معرفة طرق إثبات المقاصد الشرعية عند الأئمة المجتهدين. وفي هذه الزمرة من الموضوعات والقضايا تتمثل الدعامةُ الأساس لدراسة علم المقاصد. فالغرض الأول المتعلق بإثبات المقاصد الشرعية يقتضي دون شك العودةَ إلى القرآن والسُّنة طلباً للأدلة والبراهين التي تُثبت تلك العلاقة القائمة بين النصوص التشريعية والأحكام، وبين الأحكام وعللها أو مقاصدها. قال الشيخ ابن عاشور: لا يمتري أحد في أن كل شريعة شُرعت للناس ترمي أحكامُها إلى مقاصد مرادةٍ لمشرّعها الحكيم. فلم تكن الأحكام الصادرة عن الشارع عبثاً من القول، أو صُدفة. يشهد

لذلك قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (¬1)، وقوله - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬2)، والدليل القطعي الآخر، الثابت من بدء الخليقة، بَعثُهُ سبحانه الرسلَ بشريعته إلى الأمم وإِلى العالمين كافة. قال جل وعلا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬3). وأعظم الشواهد على هذا دلائل ذلك الخلق الإلهي خلق الله الإنسان قابلاً للتمدن، ووضعُه الشرائعَ له، يَختصِر له بذلك الطريق، ويوجّهه إلى الذي هو أهدى. وجاء الرسل بما جاؤوا به من خير وهدى، ونور وتشريع، يُعينُ البشرَ الذي استخلفه الله في الأرض على تحمل أعباء الخلافة فيها، وبما يساعد الناس من توجيهات، وما يحدّده لهم من مسارات في كل أعمالهم. فيدفعهم ذلك في كل حركة وحين إلى اجتلاب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم، وعمن حولهم من المجتمعات. وهكذا أنزل سبحانه من آيات الذكر الحكيم، وجاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصوص السُّنة الصحيحة، تكشف كلها عن مقاصد الشارع من تشريعاته، وتبيّن أن هذا الإنسان هو الذي كرّمه الله على غيره، وأولاه ما رفع به منزلته من ولاية سامية، خصّه بها دون سواه، حين قال عزّت كلمته وجلّت قدرته: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬4). والخليفة هنا هو من يخلف صاحبَ الشيء في تصرُّفه في مملوكاته. والخليفة هو آدم - عليه السلام - وهو من تحققت خلافته بقيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض، وتلقين ذريّته قصدَ الله تعالى من خلق هذا العالَم. وممّا يقتضيه هذا التصرّف ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية: 115. (¬2) سورة الحجر، الآية: 85. (¬3) سورة الحديد، الآية: 20. (¬4) سورة البقرة، الآية: 26.

الإلهي إخلاصُ الدين لله، وتصرّفُ آدم بسن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرّفاتهم .. ولِما للخليفة من شأن في حفظ الجماعة، والذبّ عنها، وتنظيم حياتها، أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الخليفة، وحفظ نظام الأمة، وتنفيذ الشريعة. ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى من جفاة الأعراب ودعاة الفتنة. وللخليفة شروطٌ محلُّ بيانها كتب السياسة الشرعية (¬1). وبمثل هذا التفصيل والوضوح فسّر الإمام الخلافة بالاستمداد من قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬2) فجعل للخلافة أصولاً تنتظم بها أمور الأمة. وقد وردت هذه الأصول في آيات مباركة كثيرة: منها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (¬3). ومنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬4). وفي هذين أساسان عظيمان هما العدل والحق. ويقول سبحانه مقابل هذا في سياق الذم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬5). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 1/ 399 - 400 (¬2) سورة النور، الآية: 55. (¬3) سورة النحل، الآية: 90. (¬4) سورة النساء، الآية: 29. (¬5) سورة البقرة، الآية: 205.

ويقول جل وعلا: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬1). وفي السُّنة بيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصرّفات ولاةِ الأمور في شؤون الرعية وغيرها، ومتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما أوضحه الشرع لهم بلغوا المقصد الأسنى من وعد الله لهم بالاستخلاف في الأرض. وهذه التكاليف التي جعلها الله قواماً لصلاح أمور الأمة، ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن، صارت بترتيب الموعدة عليها أسباباً لها (¬2). وذهب الأئمة إلى أن شرائع الدين لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وأن مقصد الشريعة يتمثّل في غرضين: الأول منهما ما فيه صلاح المجتمع الإنساني عاجلاً أو آجلاً. والبراهين على هذا كثيرة. فالقرآن والسُّنة مملوءان بتعليل الأحكام بالحِكم والمصالح والمنافع، التي لأجلها شرع الله تلك الأحكام. يظهر من هذا وبالاستقراء أن الشريعة معلَّلة بالحِكم والمصالح. والغرض الثاني، هو حاجةُ الفقيه إلى معرفة المقاصد. وقد ذكر المؤلف لهذا خمسة أنحاء تختلف وتتغيّر بحسب تصرّفات الفقهاء في اجتهاداتهم. ويكاد يسيطر هذا الغرض على كامل كتاب المقاصد، إذ هو حجر الزاوية والمنتهى إليه في كل الجزئيات التي سوف نقف عليها عند تعرضنا لأبوابه وفصوله. ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 22. (¬2) التحرير والتنوير: 18/ 283 - 284.

الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام

الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام لم يمرّ السلف بتطوّرات الزمان، ولا بما حدث في الأجيال التي تَلَتْهم من قواعد وأصول، وطرق وضوابط. لكنهم رغم ذلك أسهموا بما أتيح لهم من أنظار واجتهادات، في التعرف على المقاصد الشرعية وتعيينها. وصف الشيخ ابن عاشور مذهبَهم بقوله أولَ الفصل الرابع من القسم الأول، معتذراً عن عدم عدّ محاولاتِهم طرائقَ فى الغرض: وهذا المبحث يُنزَّل منزلةَ طريق من طرق إثبات المقاصد الشرعية، ولكنّي لم أعدّه في عدادها، من حيث إنّي لم أجد حجّة في كل قول من أقوال السلف، فبعضها غير مُصرِّحٍ صاحبُه بأنه راعى في كلامه المقصد، وبعضُها فيه التصريح أو ما يقاربه، ولكنه لا يعدّ بمفرده حجّة؛ لأن قصاراه أنه رأي من صاحبه في فهم مقصد الشريعة (¬1). وذكر المؤلّف في هذا أمثلة استقرأها من الشريعة، وهي من جملتها تقتضي وجوب اعتبار المقاصد الشرعية. ومن هذه الأمثلة: ترك الصحابة المحاقلة لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. والنهي عن التختم بالذهب، لما في ذلك من حبس العين عن التداول. وقال العلماء: نهيُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا نهيُ تنزيه لا نهيَ تحريم (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 66. (¬2) المقاصد: 67 - 69.

ولم يثبت عند مالك حديث خيار المجلس لمنافاته البتّ في العقود، ولاعتباره الافتراق في الحديث افتراقاً في القول عند صياغة إنشاء البيع (¬1). وَرَدَّ مالكٌ حديثَ المصرّاة، لمعارضة خبر الواحد القاعدةَ الشرعية: لا خراجَ إلا بالضمان، وأن مُتلف الشيء يَغرم مثلَه أو قيمته (¬2). ومثلُ هذا نهيُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تخمير المحرم وجهه، ونهيُه في الذي وقصته الدابة فمات عن أن يُمسَّ بطيب. وفي موضوع الحديث الأول قال مالك: وإنما يعمل الرجل ما دام حياً، فإذا مات فقد انقضى العمل؛ وفي الثاني قال الشيخ ابن عاشور: الظاهر أن الراوي اشتبه عليه قوله: "لا تمسّوه بطيب" بأنه لأجل الميت، وإنما هو لأجل الأحياء الذين معه، أو هي خصوصية (¬3). ومن الباب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلةَ بنتَ سهيل زوجَ أبي حذيفة بإرضاع متبنّاها سالماً خمس رضعات فيحرم بلبنها. وذلك لِما وجدت من الحرج في منعه من الدخول عليها، وقد ضمهم سقف واحد. وعملت بهذا عائشة، ورأته بقيةُ أزواجه - صلى الله عليه وسلم - رخصةً في رضاعة سالم وحده. وهذا ما أقرّه عمر بن الخطاب وابن مسعود اللذان لا يريان الرضاعة إلا للصغير في الحولين (¬4). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 69. (¬2) المقاصد: 73، 74. (¬3) المقاصد: 75 - 77. (¬4) المقاصد: 77، 78.

الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرفات الفقهاء في طلب المقاصد

الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد النحو الأول في اعتبار شيخنا: هو وقوف الفقيه على المراد من الخطاب الشرعي الذي لا يختلف في الأصل عن الخطاب اللغوي. وإن تميّز عن هذا بما يختص به من مصطلحات، وما يعتمده الفقيه فيه من قواعد لفظية وأصول يستخدمها عند الاستدلال الفقهي، ويستعين بها على تحقيق الفهم الدقيق للخطاب الشرعي، والإحاطة بدلالته، بالرجوع إلى الآثار من السُّنة ودراستها، والاعتبار بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء. النحو الثاني: هو إيقان الفقيه بسلامة الأدلة التي يعتمدها في استنباط الأحكام الشرعية، وبيان ما يقابلها أو يعارضها من الأدلة للاستدلال بها: إما باعتقاد صحّتها أو نسخها، أو بالركون إلى الترجيح بينها؛ وإما بما تحمل عليه الأدلة المعارضة من تخصيص أو تقييد، أو باتضاح فساد الاجتهاد. ذلك أن الدليل المعارض ينفي مدلول الدليل الأول بإقامة آخر يدل على خلاف مدلوله. وزاد المؤلف بيان وجه التصرّف في مثل هذه الصورة قائلاً: فإذا استيقن أن الدليل سالم عن المعارض أَعمَلَه، وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً، أو بالراجح منهما على الآخر. النحو الثالث: يكون بإدراك الفقيه علل التشريعات الثابتة بطريق

من طرق مسالك العلّة، يتمكن بها من قياس ما لم يَرِد حكمُه في أقوال الشارع على حكم ما ورد منه فيها. النحو الرابع: هو كما عرّفه الشيخ ابن عاشور: إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه ولا له نظير يقاس عليه. وقد جاء في بيان هذا المسلك بتعريف الأصوليين للمصلحة بقولهم: هي التي تعرف علِّيَّتها، أي بدون شهادة الأصول، بمجرد الإخالة، أي بمجرد كونها مخيلة، أي مُوقعة في القلب العلَّيةَ والصحة، ولم يشهد الشرع لها بالاعتبار ولا بالإبطال (¬1). وقال صاحب الضياء اللامع في التعريف بهذا المسلك: هو ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا بالإهدار، ولكن على ما تقتضيه سُنن المصالح أو تتلقاه العقول بالقبول وهو المرسل (¬2). واعتبر المؤلف النحو الأول من موضوعات علم أصول الفقه. وحرّر بعد هذا قضيةَ التعارض بين الأدلة بذكر المهمّ منها، والتنبيه على وجه تصرّف الفقيه فيها، مورداً أمثلة على ذلك. منها: ردُّ مالك على شُريح إنكارَه صحَّة الحُبس. وردُّه حديث خيار المجلس، وإن أَثبتَ الإمام مالك نصَّه في الموطأ. وتركُ استلام الركنين اللذين هما من البيت. وتوقُّفُ عمر في حديث الاستئذان. ¬

_ (¬1) التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون: 821. (¬2) محمد الأمين الشنقيطي. المصالح المرسلة: 13.

وحكم أخذ الجزية من المجوس. وقصر النحو الثالث على القياس. وهو ما يحتاج فيه الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة كما في المناسبة. وهي ما يكون بين الوصف والحكم من ملاءمة بحيث يترتّب تشريع الحكم، بناء عليها، فتتحقّق المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم. وهي جلب منفعة للعباد أو دفع مفسدة عنهم (¬1). قال ابن عاشور في المناسبة: هي معنى في عمل من أعمال الناس يقتضي وجوب ذلك العمل، أو تحريمه، أو الإذن فيه شرعاً. وذلك المعنى وصف ظاهر منضبط يحكم العقل بأولاً ترتُّبَ الحكم الشرعي عليه مناسب لمقصد الشرع من الحكم (¬2). وأشار في النحو الرابع إلى قول الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية ولقبُوها كلها بالمناسب. وأثبت الإمام مالك حجية المصلحة المرسلة. وعلى هذا النحو أخذَ أهل الرأي بالاستحسان. وعقّب المؤلف على هذا كله بإيراد مسائل تقدمت الإشارة إليها في النحو الأول، منبّهاً إلى مواضع طلبها، ذاكراً جملة من أمثلتها. من ذلك عدم أخذ عمر بخبر فاطمة بنت قيس في نفقة المعتدّة. وردّ عائشة قبول حديث عمر: "إن الميّت يعذب ببكاء أهله عليه". ومن تفصيل القول في الأنحاء الأربعة المتقدمة تتبيّن لنا طرق الاستنباط لذكر ما يعتمد عليه فيها من علّة أو وصف أو حِكمة. ¬

_ (¬1) زكي شعبان. أصول الفقه الإسلامي: 152. (¬2) المقاصد: 47 تع 1.

وفي النحو الخامس رأى المؤلف أن الأحكام الصادرة عن الشارع فيه غير معلّلة، ولا هي ممّا عرفت حكمة التشريع في تشريعها. وقد وصفها بقوله: وهذا النوع من الأحكام يسمّى التعبّدي. والتعبّدي عند الفقهاء مقصور على العبادات وعلى ما هو نسك، لعدم بحثهم فيه عن علّة لأنّه ممّا لا قياس فيه، ولأنّه مما لا تظهر فيه للمجتهد من الأحكام علّة ولا حِكمة إلا على وجه الإجمال. فالتعبّدي هو الذي يتّهم الفقيه فيه نفسه بالقصور عن إدراك حِكمة الشارع منه، ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة. وهو موجب حيرة يمكن أن تزول تدريجياً، بمقدار ما يستحصل من مقاصد الشريعة في هذا النوع من الأحكام، وما يستكثر مما حصل في علمه منها (¬1). وعلل الشيخ ابن عاشور وجود هذه الأحكام التعبّدية بين الفقهاء بأخذهم فيها بظاهر اللفظ أو بالوصف الوارد عند التشريع، دون المقصد منها (¬2). وفي هذا ما فيه من تعطيل لملكة الفهم، وتوقّف عن طلب الأسباب. ودعا أئمةَ الفقه إلى ألا يساعدوا على وجود الأحكام التعبّدية في تشريع المعاملات، وإلى تفحّص الأحكام التي خفيت عِللُها أو دقتْ، فلا يعاني الناس من جرائها متاعب جمّة في معاملاتهم (¬3). والمكلفون بحاجة إلى معرفة المقاصد، وليس ذلك على إطلاقه. وإنما هي وظيفة العلماء. فهم الذين يجب عليهم بذل الجهد لمعرفة المقاصد، وإن كان في هذا الأمر تفاوت في تقدير المقاصد بقدر القرائح والفهوم (¬4). ¬

_ (¬1) المقاصد: 40 - 51. (¬2) المقاصد: 151 - 152. (¬3) المقاصد: 155. (¬4) المقاصد: 51.

الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية

الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية ولإكمال هذا الجانب المهم من البحث نتعرض مع المؤلف إلى طرق إثبات المقاصد الشرعية. وهذا لا يكون بالاستناد إلى الأدلة المعروفة المستخدمة في علم أصول الفقه أو في تقرير مسائل الخلاف، وإنما يكون بما رسمه بعد التأمل والرجوع في ذلك إلى صنيع أساطين العلماء من طرائق الاستدلال على صحة المقاصد الشرعية. والطرق المعتمدة في هذا الغرض ثلاثة وهي: أولاً: الاستقراء. وقد فصلنا القول فيه وأشرنا إلى أقسامه قبل. وهو نوعان: استقراء علل الأحكام، واستقراء علل أدلة الأحكام. الأول: يكون بتتبع العلل المثبتة بطرق مسالك العلّة، لما يحصل باستقرائها من استخلاص حِكمة واحدة تنتهي إليها، وبالجزم بأنها مقصد شرعي. وقد مثّل لهذا بعلّة تحريم المزابنة. وهي الجهل بمقدار أحد العوضين، وبعلّة النهي عن بيع الجزاف بالمكيل وفيه أيضاً جهل أحد العوضين، والنهي عن خِطبة المسلم على خِطبة أخيه وسومِه على سومِه نفياً للوحشة، وحرصاً على دوام الأخوة. والثاني من الطريق الأول يكون باستقراء علل أدلّة أحكامٍ اشتركت في علّة واحدة، وحصل لنا اليقين بأن تلك العلّة مقصد مراد للشارع. ومثال هذا النوع النهي عن بيع الطعام قبل قبضه خوفاً من فوات الرواج، والنهي عن بيع الطعام نسيئة تفادياً من بقاء الطعام في

الذّمة، وهو سبب كافٍ للحيلولة دون رواجه؛ والنهي عن الاحتكار الذي بسببه يقلّ الطعام في الأسواق، وفيه من التضخّم ومن أسباب الإضرار بالناس ما فيه. ومن أجل هذا اعتبر الشارع الرواج وتيسير تناول المبيعات مقصداً ثابتاً من مقاصد الشريعة. والطريق الثاني يُتوَصَّلُ به إلى تعيين المقصد الشرعي ورفع الخلاف عند الجدل فيه. ويتكوّن من انضمام ظنّية الدلالة إلى قطعيّة المتن. ومثّل لهذا بجملة من الآيات جاءت إما مصرّحة بالمقصد الشرعي، وإما منبّهة إليه. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1)، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2)، وقال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3). والطريق الثالث يقوم على الاعتداد بالعمل الشرعي القريب من المعلوم بالضرورة. وهذا كمشروعية الصدقة الجارية المعبّر عنها بالحبس. تلك هي الطرق الثلاثة التي يعيّن بها المقصد الشرعي عند الأئمة الفقهاء. ويلفت الشيخ ابن عاشور الأنظار إلى جهات طلب المقاصد التي تتحقّق بها معرفة تلك الطرق. ويحدد الجهات الثلاثة لذلك قائلاً: هي: (1) الأمر والنهي الابتدائيان، (2) عللهُما، (3) ما يقع بين أيدي الفقهاء من مقاصد شرعية كالأصلية، والتابعة. وهذه المقاصد الأصليّة والتابعة واردة في الشرع إما بالنصّ عليها، وإما بالإشارة إليها، وإما بما يكونُ مِن استقرائها من النصوص (¬4). ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 18. (¬2) سورة البقرة، الآية: 185. (¬3) سورة الحج، الآية: 56 (¬4) المقاصد: 56 - 65.

الفصل الرابع: في القواعد الشرعية

الفصل الرابع: في القواعد الشرعية عرَف المجتهدون والفقهاء، من قبل نشأة علم أصول الفقه، القواعدَ الشرعية العامة من خلال ما ضبطوه من أحكام، وأقاموه عليها من أدلة، ونظروا في مجموع ذلك نِظرتهم الدقيقة الواسعة. فمكّنهم فحصُهم لها، وشمولُها لما أرادوا جمعه من أحكام أو مسائل، من الوقوف على ما نبّهوا إليه من علل الأحكام وحِكم التشريع. وإلى هذا أشار الشيخ ابن عاشور بقوله: ومن وراء ذلك خبايا في بعض مسائل أصول الفقه أو في مغمور أبوابها المهجورة عند المدارسة، أو المملولة تَرْسُبُ في أواخر كتب الأصول، لا يصل إليها المؤلفون إلا عن سآمة، ولا المتعلّمون إلا الذين رزقوا الصبر على الإدامة. فبقيت ضئيلة ومنسيّة، وهي بأن تعدّ في علم المقاصد حَرِيّة. وهذه هي مباحث المناسبة والإخالة في مسالك العلّة، ومبحث المصالح المرسلة، ومبحث التواتر والمعلوم بالضرورة، ومبحث حمل المطلق على المقيّد إذا اتحد الموجَب والموجِب أو اختلفا (¬1). واجتمع لدينا، للدلالة على جملة من المصطلحات المتقاربة، عددٌ من الكلم نعدّ منها: الكليات والمقاصد، والعلل والحِكم، والمصالح والمفاسد ونحوها. والهدف من كلّ الصيغ التي تشترك فيما لها من علاقة بأحكام الشريعة من قريب أو بعيد، أو من أي وجه من ¬

_ (¬1) المقاصد: 12 - 15.

الكليات

الوجوه، إضاءتها لنا المسالك، ووضعها أيدينا على الحِكمة الشرعية، وعلى العلّة من التشريع الإلهي فيما قضى به الشارع الحكيم. الكليات: تطلق الكليات على القسم الضروري من أقسام المصالح. وهي الكليات الخمس: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل (¬1)، وتوسع آخرون فأطلقوها على جميع المقاصد من ضروريّات وحاجيّات وتحسينيّات، لأن الشارع قصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق. فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً وعاماً في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال (¬2). ومثل هذا الحصر أو التوسع في إطلاق مصطلح الكليات نجده في استعمال المصطلحين: المقاصد والمصالح فهما مرّة ملتقيان، وأخرى مفترقان. تطلق كلمة مقاصد ويراد بها المصالح وكذا العكس. قال الشاطبي: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد لا تعدو الأقسام الثلاثة مما ذكرنا (¬3). وقال مرّة أخرى، جاعلاً القسم الضروري من المصالح وحدَه من المقاصد: إن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة (¬4). وفي شرح التحرير: حصرُ المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات: (3) 2/ 7. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 37. (¬3) الموافقات: (3) 2/ 8. (¬4) الموافقات: (3) 2/ 17. (¬5) ابن أمير الحاج. التقرير والتحبير شرح التحرير: 3/ 143 - 144.

والمقاصد متضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها (¬1). والمصالح والمفاسد على ضربين "دنيوية وأخروية". والمصالح المجتلبة، والمفاسد المستدفعة شرعاً إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للأخرى (¬2). ويظهر من هذا الحصر دلالة المصالح والمفاسد على خصوص الجلب والدرء. وعند تأمل التركيب الإضافي "مقاصد الشريعة"، نتصوّر معناه على الجملة، وندرك أن القَصد يراد به المقصود لغة، فَهُما بمعنى. وفي الاصطلاح أطلقوه على المطلب والغرض والحكمة التشريعية، ومن ثم انصبّ القصد العام في استعمال الأصوليين على المصلحة، كما ذكر ذلك صاحب مقاصد الشريعة الإسلامية في قوله: إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع، استبان لنا من كليات دلائلها، ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان (¬3). وحاول بعض المتأخرين التفريق بين المصطلحين: المقاصد والمصالح. وقال: إن المصلحة هي مادة المقاصد ومجال فعلها. وفسّر الجملة باعتبار أن المقصد هو المبدأُ النظري أو القاعدة العامة، وقال في المصلحة: إنها المقصدُ حين يتجسّد، أي حين يتحول إلى فعل له. والظاهر أننا في غناء عن التفرقة بين المقصد والمصلحة. وكان ذلك هو الأصل والأساس من وضع كتاب المقاصد. وهو اعتبار المصالح مناطاً لأحكام الشريعة. فهي المقصودة من تلك ¬

_ (¬1) المقاصد: 400. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 37. (¬3) المقاصد: 194.

الطريق الممهدة للتعرف الدقيق على المقاصد وتعيينها

الأحكام، فحيثما كانت المصلحة فثمّ شرع الله، وأن المبحوث فيه في هذا العلم هو طلب الأخذ بالمقاصد، وتحقيق المصالح بالامتثال لأوامر الشريعة وتنفيذ أحكامها. وذلك ما تضمنه الكتاب وجاءت به السُّنة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬1)، وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬2). الطريق الممهِّدة للتعرّف الدقيق على المقاصد وتعيينها: إن المرجع في التعرّف على المقاصد وتعيينها هو الوقوفُ على الأدلة الشرعية التفصيلية وعللها أو على حِكمة التشريع التي قصد إليه الشارع. وهذان هما أولاً: الأمر والنهي الابتدائيان التصريحيان كما قدمنا. وقد جاء بيان هذا مفصلاً في قول الشاطبي: الأمر بالشيء يقتضي طلب الفعل، ووقوعُه عند وجود الأمر مقصود للشارع. وكذلك النهي، معلوم أنه مقتضٍ نفي الفعل أو الكفَّ عنه. فعدم وقوعه مقصود للشارع، وإيقاعه خلف لمقصوده (¬3). والعلم بالعلّة مثّل له الإمام بأمثلة كثيرةٍ منها: النكاح بقصد التناسل، والبيع بقصد الانتفاع بالمعقود عليه (¬4)، وإقامة الحدود بقصد الزجر عن موجباتها. ويُتوصّل إلى تحديد العِلّة بمسالكها المعلومة. فإذا تعيّنت عُلم أن مقصد الشارع هو ما اقتضته تلك العِلّة من الفعل أو الترك ومن التسبّب وعدمه، وإن كانت غير معلومة فلا بد من الوقوف على ما ورد من الشارع من قطع يفيد بأنه كان قصد كذا أو كذا. ¬

_ (¬1) سورة الفتح، الآية: 28. (¬2) سورة النجم، الآية: 3، 4. (¬3) المقاصد: 65. (¬4) المقاصد: 65.

القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد

ومراعاة المقاصد الشرعية عند وضع الأحكام، وتجنُّبُ كل ما فيه انحراف عن الأدلّة أو مناقضة لها. فالتمسك في كل هذا يكون بالآيات القرآنية بعد فقهها وفهمها الفهم الدقيق المحقّق للغرض منها، وبالسُّنة الصحيحة التي اتفق علماء الحديث ونقاده على العمل بها، حصر بعضهم هذه فيما تواتر منها تواتراً معنوياً (¬1). وبالمقاصد الشرعية المرادة للشارع، وهي التي من أَجلِ تحقيقها وضعت الأحكام. فالأحكام هي التي تتحقّق بها مصالح الخلق في الدنيا والأخرى. ويفتقر النظر فيها والتمييز لها إلى العلم بالسُّنة ومصطلحاتها. فلا يقدر على هذا غير من ثبت للناس بصرُه بمصادر الشريعة، وقدرتُه على الاجتهاد، وفق قوانين العلم بالعربية والأصول والاجتهادات الشرعية للسابقين من الأئمة. ومن لم يكن هذا شأنه كان من المتقوّلين على الله، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً وكَلامُه ردّ. ذلك أن العالِم المؤمن يقوم اجتهاده على مراعاة تلك المقاصد والمصالح المعتبرة التي أذن فيها الشارع، فيقضي ويفتي بها صائناً بذلك تشاريع ربه من أيّ تغيير أو تبديل، ومن غير تحريف للكلم عن مواضعه. وهو ما توعّد الله عليه. وقد حفظ سبحانه تشريعاته، وتولّى بنفسه - جل جلاله - حمايةَ كتابه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد: وضع كثير من شيوخ العلم من المجتهدين والفقهاء جملة من ¬

_ (¬1) المقاصد: 62 - 63. (¬2) سورة الحجر، الآية: 9.

القواعد والضوابط يتقيّد بها الفقهاء يسيرون على نهجها، ويهتدون بها، حرصاً منهم على طلب مقاصد الشريعة، وتطلعاً إلى ما يترتب على ذلك من التزام بها في الدنيا وجزاءٍ عليها في الأخرى. وهذه جملة من القواعد تسطّر منهاجاً للمجتهدين وسبيلاً للباحثين والدارسين. ° فهي: تُحدد ما يترتب على الإيمان والاستقامة والعمل الصالح من ثواب وجزاء على ذلك في الدنيا والآخرة. يشهد لهذا قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (¬1)، وقوله: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬2)، وقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (¬3). كما حَدّدت قواعدُ الشريعة ما يترتب على الكفر، والإعراض عن الحق، والفساد في الأرض من عذاب وعقاب. قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (¬4)، وقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (¬5). ومن الوعيد على الكفر العذاب الأكبر الذي أعدّه الله لهم. وهو ما ينبئ عنه قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 45 - 46. (¬2) سورة الحجر، الآية: 48. (¬3) سورة الزمر، الآية: 73. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 74 - 75. (¬5) سورة الحج، الآية: 19 - 21. (¬6) سورة طه، الآية: 74.

فهذه الآيات تحمل أولي النُّهَى على جعل الآخرة موضع اهتمامهم، واعتبارِ هذه الدار متْجراً لهم، كما تضبط المنهج السلوكي الذي دعاهم الرحمن إلى الالتزام به. والقاعدة في هذا أن المصالح المجتلبة والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقامُ الحياة الدنيا، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها أو درء مفاسدها العادية (¬1)، والمعتمد في هذا اتباع منهج الشرع. فهو - جل جلاله - العليم بالمصلحة من هذه الناحية، الموفّق بينها وبين ما أجراه في سُنة الوجود. والقاعدة بهذه الصورة ليست تلك التي عرفها علماء الأصول بكونها الأمرَ الكلي المنطبق على جميع جزئياته عند تعرف أحكامها منه، بل هي هنا كما ذكرها التهانوي في اصطلاح العلماء، أوسع من ذلك. وعلى هذا جرى العز بن عبد السلام في قواعده (¬2). وإلى جانب هذا النوع من القواعد التي لا ينبغي أن تغيب عن المرء طوال حياته، أشير إلى قسم ثان منها مثاله: ° إن مجيء الشرع كان لهداية الناس إلى مصالح العباد، وإن دور الشريعة حفظُ مصالحها في الخلق (¬3). ° إن الشريعة تحيط بجزئيات من المصالح لا يحيط بها العقل (¬4). ¬

_ (¬1) الموافقات: (5) 2/ 29. (¬2) التهانوي. اصطلاح الفنون: 5/ 1176. (¬3) الموافقات: (3) 2/ 8، 37، 3/ 5، 105. (¬4) القرافي. النفائس: 1/ 402؛ الموافقات: (3) 2/ 48.

° أن في الأمر والنهي والتخيير حظاً للمكلف وحفظاً لمصالحه، أما الله فهو غني عن الحظوظ، مُنزّه عن الأغراض (¬1). وهذه جميعها تؤكد على هدي الشريعة في الأخذ بقواعد الدين، واعتبار أن ما جاء عن طريقها هو خير الطرق وأفضلها. بل هو جماع الطرق المحققة للسعادة، الكفيلة بجلب المصالح ودرء المفاسد. ولهذا الاعتبار حذّر العلماءُ من مخالفة الشرع. ومن الاستغناء عنه بما يمليه أو يدل عليه النظر والعقل. وقد اخترت من القواعد أمثلة مما نبه إليه الإمام الغزالي: ° يجب أن يكون اتباع المصالح مبنياً على ضوابط الشرع ومراسمه (¬2). ° وجوب المحافظة على حدود الشريعة والإعراض عن المصالح (¬3). ° اتباع المصالح مع مناقضة النص باطل (¬4). وفي هذا تحذير من مجاراة الهوى واتباع الشهوات والصدوف عن الهدي الشرعي. ومن القواعد الواردة في هذا الغرض أيضاً: ° أن القصد الشرعي من التشريع هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما أنه عبد له اضطراراً (¬5). وتتعلق هذه القاعدة بالأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين ¬

_ (¬1) الموافقات: (3) 1/ 148. (¬2) شفاء الغليل: 245. (¬3) شفاء الغليل: 202. (¬4) شفاء الغليل: 220. (¬5) الموافقات: (3) 2/ 186.

والدنيا، لا من حيث هوى النفوس، ولكن من جهة دلالة الشرع عليها والدعوة إليها. والآيات الواردة في هذا الغرض كثيرة، منها قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬2)، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (¬3). ° اتباع الهوى في المحمود طريق إلى المذموم، لأنه إذا تبيّن أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفاً (¬4). وقد حذّر العلماء من قبح هذا السلوك الخطير بقولهم: متبع الهوى كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة لما في أيدي الناس لاقتناص أغراضه. ° قصد الشارع من المكلف أن يكون قصدُه في العمل موافقاً لقصده في التشريع، فإن ذلك اعتباراً لمصالح العباد على الإطلاق والعموم. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وألّا يقصد خلاف ما قصده الشارع. وقد اقترنت بالملحظ المتقدم عند الشيخ الإمام قضايا المقاصد ومسائلها بموضوعات المصالح وتفاريعها. واعتباراً لهذه القواعد، وما ينجم عن مخالفتها من محاذير، تضمن القسم الأول من مقاصد الشريعة الإسلامية فصلين هامَّين: ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 6. (¬2) سورة النازعات، الآية: 37 - 38. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 23؛ الموافقات: (3) 2/ 37، 331. (¬4) الموافقات: (3) 2/ 174.

يقرر أولهما صعوبة التوصل إلى تعيين المقاصد، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك (¬1)، وهو الذي ترجم له باحتياج الفقيه إلى معرفة المقاصد. ويكشف ثانيهما عن الطرق المعتمدة لذلك عند علماء السلف، ومن جاء بعدهم من العلماء والفقهاء (¬2). * * * * * ¬

_ (¬1) الموافقات: 2/ 6. (¬2) المقاصد: 19 - 26.

الباب الرابع أمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف

الباب الرابع أمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف: كالتحرير والتنوير، والنظر الفسيح، وكشف المُغطَّى

الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير

الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير يركز كتاب المقاصد، مع جمعه بين الجانبين النظري والتطبيقي في دراسة المقاصد، على الخطاب ومقتضياته، والأحكام وموجباتها، ويحرص على إيراد النصوص الكثيرة من الكتاب والسُّنة مفرِّعاً عليها مسائل فقهية عديدة، معلّلَةً وغير معلّلَة، لينتهي إلى ما نبه إليه من قوانين وطرق يستعملها للتوصل إلى ضبط المقاصد بأنواعها. ولما كان من المتعذِّر بيان ذلك وتصويره من خلال كتاب المقاصد وحده، نورد أمثلة من كتب الشيخ الأخرى اختلفت الأغراض فيها بين اجتهاد وتحليل لروح التشريع الإسلامي، وتمييز بين مقامات الإرشاد والتشريع والاقتضاء والاجتهاد وغير ذلك مما سبقت الإشارة إليه (¬1). وإذا تحولنا إلى كتاب التحرير والتنوير الذي بذل فيه الشيخ ابن عاشور جهداً كبيراً عميقاً وشمولياً. فلم يغفل فيه كلمة ولا تركيباً، لا فقرة ولا جملة في أيّة سورة من سور القرآن: مكيّه ومدنيّه إلّا وقف عندها في إمعان ودقّة متأملاً ومتدبراً، مسخراً لذلك علمه الواسع، وثقافته العالية، ومستخدماً العلوم الآلية المتصلة باللغة وتصاريف الكلام وما ورد لدى العرب من تفنن وروعة في مجالات فن القول. ¬

_ (¬1) انظر المقاصد: 114، 116، 306 - 311، 392 - 393.

المثال الأول: النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم -

وكانت هذه الشخصية الفريدة اللامعة قد جمعت إلى ذلك كله العلومَ الشرعية وما يتصل بها من مصادر وأصول وفروع أعانتها على التغلغل في فهم النصوص الشرعية. ويَقتضي هذا الالتفاتَ إلى الأحكام الشرعية كما دعت إلى ذلك الحاجة، وعرضَ كلام الأئمة فيها من السلف من صحابة وفقهاء ونحوهم، ومن آراء المجتهدين على اختلاف مذاهبهم، بياناً وتقريراً، مقارنة وتفصيلاً، ترجيحاً واختياراً. ولا بدع إذا وضع الإمام المقدمات العشرة الضروريُّ بحثها والنظرُ فيها قبل الشروع في تدوين تفسيره. ولم نجد فرقاً بين طرق المؤلف في تناول الآيات الكريمة، أو اختلافاً في منهجه عند بحثها والاستدلال على ما ورد بها من أحكام، وتنبيهه وإيضاحه للمقصد الشرعي منها. وحصل لدينا ما يشبه الحَصْر فاكتفينا بإيراد بعض الأمثلة لا على التعيين، نستجلي منها طريقته من حيث الشكلُ في العرض، من حيث تفصيلُه القول في الأحكام والمقاصد، بعد مناقشتِه آراءَ السابقين من المفسّرين، والنظرِ في حججهم ودلائلهم على الأخذ برأي دون آخر. ولضيق المقام نقتصر على أمثلة ثلاثة من تفسير التحرير والتنوير، نحاول فيها التنبيه على ما اشتملت عليه من مقاصد شرعية: المثال الأول: النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم -: قال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ

وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). تُبرز لنا هذه الآية علامات النبي الأمي وصفاته ومتعلقات تشريعاته. وبيان ذلك في التحرير بعد تفسير قوله جل وعلا: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}. تناولت هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف الحديثَ عن إنزال البشارة بالنبي الأمي الذي اسمه أحمد في التوراة والإنجيل، ودعوةَ أهل الكتاب إلى الإيمان به رسولاً وداعياً إلى الله. ووصفَ شريعته الخاتمة بصفات وعلامات تُميَّزها وتَظهَر بها على الدين كله. فهي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإباحة الطيبات، ووضع الإصر والأغلال عن هذه الأمة. وبالتأمل فيما جاء من هذا في التحرير والتنوير نلاحظ أن تفسير هذا النص يمكن أن يفصّل القول فيه إلى أربعة أقسام: الأول: تحدث الشيخ ابن عاشور - رحمه الله - فيه عن أمر الرسول أَهلَ الكتاب بالمعروف ونهيهم عن المنكر. واقتضى هذا بدون شك تحديد معنى {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}. فقد أراد سبحانه وجدانَ صفاتِه - صلى الله عليه وسلم - ونعوتِه في كتبهم، وهي صفات لا يشبهه فيها غيره. وهي المكتوبة دون ذاته، لأن الذات لا تُكتب. وقال أبو علي الفارسي في تفسيره لقوله سبحانه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}: إنها بيان للمكتوب عندهم. ولا يجوز أن تكون حالاً من ضمير يجدونه؛ لأن الضمير راجع للذِّكر والاسم؛ وهذان لا يأمران ويتعيّن أن يكون الضمير مجازاً. والشريعة الإسلامية التي تلك لغتها وأوصافها ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 157.

المعروف

وموضوعاتها وأغراضها، على ما تقدم، تدرِك حقيقتها الأفهام المستقيمة مما يتبادر من معاني ألفاظها من غير جهد أو تكلف. وبعد الإشارة إلى الرأيين السابقين المتعلقين بإعراب {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}، وبالهاء في {يَجِدُونَهُ} ينتقل الشيخ إلى تلك الأوصاف المنوه بها في الشريعة الإسلامية. وهي: المعروف: فالمعروف عند الإمام هو وصف لكل ما تتقبله العقول ويقتضيه النظر السليم، وبعكسه المنكر. وفي آل عمران: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬1) وهذا لا يدل في الواقع على إلغاء الفطرة مشيرة إلى الاقتصار على الشهادة بذلك للعقول وحدها؛ لأن قوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (¬2) يدلّ على كون الفطرة تجمع بين الأمرين. وهي قوام الشريعة الإسلامية كما فصّل ذلك الإمام في كتاب المقاصد وكتاب أصول النظام الاجتماعي. ووصفُ الأمر بالمعروف هو أوضحُ علامة تعرف بها أحكام الشريعة الإسلامية. الطيبات: والوصف الثاني الذي دلّت عليه الآية باعتباره علامةً وصِفةً للشريعة الإسلامية، هو الطيبات. وهذا الجمع يوميء إلى غرض أصيل لكلمة طيّب فهو الأكل والأطعمة. وهذا في واقع الأمر لا يقبل النزاع؛ لأن المقصود بالطيبات هو المأكولات. ودليله الآيات الأخرى الصريحة في ذلك، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 104. (¬2) سورة الروم، الآية: 30.

فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬1)، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬2). ولا تطلق الطيبات على الأفعال الحسنة لأن هذه سميت بالمعروف؛ والمأكولات ليس للعقل حظ في التمييز بين مقبولها ومرفوضها، وإن كان يفرق تفريقاً بيّناً بين الأفعال الحسنة والقبيحة أي بين المعروف والمنكر. وبجانب هذا الاستدلال على الاختلاف بين المأكولات وما يأتيه الإنسان من أعمال، يفسر الشيخ معنى الطيِّب ومعنى الخبيث في المأكولات، توصّلا إلى بيان مدلوليهما وبيان الحكم الشرعي المتعلق بهما من حلّ وحرمة. فالطيِّب ما لا ضرَر فيه ولا وخامة ولا قذارة. وهو المباح والحلال، والخبيث ما أضر أو كان وخيم العاقبة أو مستقذراً لا يقبله العقلاء، وهو الحرام من المأكولات. وملاك الأمر في هذا الرجوع إلى طبيعة المأكولات وأوصافها في ذاتها لا إلى تحكم العادات. وقد يرجع إلى العادات فتدخل فيما يشاؤونه من المباح لا غير. وبعد هذا البيان لإباحة الطيبات وتحريم الخبائث، والأخذ بطبيعة وأوصاف المأكولات لا بالعادات، لا يصحّ بحال أن يحجّر طعام على قوم لأجل كراهية غيرهم له، أو تقذّر عادة قوم منه. وقد يتساءل الناس عن العادات واختلافها فنذكر في غير إطناب أن فَقْعَس كانت تأكل الكلب، وأن جُرْهُم كانت لا تأكل الدجاج، وأن قريشاً لا تأكل الضب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد على مائدته ضباً فلم يطعمه ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 168. (¬2) سورة المائدة، الآية: 4.

الرحمة

وقال: "ما هو بحرام، ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافُه" (¬1). ومما قدمنا يصبح من الموقَن به أن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة مباح أكله. ولكنه قد تكون مضرّته خفيفة فيكره؛ مثل أكل ذي الناب من السباع في مذهب مالك وأشهر الروايات عنه. وقفّى الشيخ ابن عاشور على هذا بذكر المباحات مع إخضاعها لاختلاف العوائد بين الناس. فتساءل عن سبب الامتناع من أكل لحم الأسد وهو لا ضُرّ فيه. وذكر ما هو محرّم كالذي جُهلت صفاته وحرّمته الشريعة كلحم الخنزير، وجعلَ من المباح: أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية، فحظُّ الناس منها مقترن بما لهم من عادات في ذلك. وهذا الموضوع ممّا يُتساءل عنه كثيراً، ويختلف الأمر فيه بين الأقوام في مناطق المعمورة. الرحمة: الوصف الثالث، هو عنوان الرحمة للأمة الإسلامية ومدعاةُ بين ويسر في معاملاتها وتشاريعها ووضع الإصر عنها. بدأ صاحب التحرير بشرح المركب الإضافي "وضع الإصر" جاعلاً الكلمة الأولى بمعنى الحطَّ وهو مجاز في الإبطال، والكلمتين معاً بمعنى ما كان من إبطال التشريعات السابقة لِمَا فيها من شِدّة. وسَنَدُ هذا البيان قواعد الاستعمال في اللغة. ووفقها حرر كلمة "وضع" وبيّن وجه تعديتها إلى المفعول الثاني، مفرّقاً بين تعديتها بفي أو بعن أو بعلى (¬2). ¬

_ (¬1) خَ: 6/ 201؛ مَ: 2/ 1543. (¬2) التحرير والتنوير: 9/ 136.

وفي وضع الإصر استعارة لإزالة التكاليف التي تشبه الآصار. ولم يفته تحديد القصد وبيانه حين تولى شرح كلمة "الإصر" مفرّقاً فيها بين تعريفي الزمخشري وابن العربي اللذين أطلقاها إطلاقاً حقيقياً على الثقل الحسي الذي يصعب معه التحرك. وعلى تفسيره بالثقل من غير قيد، إشارة للتكاليف الشاقة والحرج في الدين، كما هو وارد في بقية المعاجم. وفي هذا المقام لا يُخفي المؤلف إعماله القيد الذي أورده الزمخشري في تعريفه شاهداً ومنبّهاً على مدى تَحققِه. وجعل وضع الإصر إثر عرضه لكلام صاحب الكشّاف والأساس عنه مع القيد المتقدم ذكره، استعارة تمثيلية، وبدون ذكر القيد استعارة مكْنية في الإصر، وتخييلية وتبعيّة في "الوضع". ولا سبيل إلى إنكار أهمية القوانين الإعرابية والقواعد البيانية البلاغية في الاستعمال كما فصّل ذلك الأشموني عند حديثه عن اللفظ العربي والإعراب. فاستخدامُ القواعد والأحكام يفتح أمام الناظر آفاقاً لا يتطلّع إليها سواه، ممن ليس بقادر على التوصّل إلى المقصد بالسليقة. ويذيل الشيخ ابن عاشور وصفَ الشريعة الإسلامية بالبعد من الحرج حين يقارن بين الإسلام والتشاريع السابقة كالتي جاءت بها التوراة. ويمثل لذلك بشيوع العقوبة بالقتل في عدد كبير من المعاصي التي من بينها العمل في السبت، وتحريم ما أحل الله لهم من الطيبات وتغليظهم التحريم في أمور هينة. ومن أشدّ صور الإصر والحرج عدم قبول التوبة عن المعاصي حكماً، وعدم الاستتابة للمجرمين. ولا يفرغ من الحديث عن هذا الوصف حتى يقرّ صحة استعمال الجمع لكلمة "إصر" وهو "آصار"، وإن انفرد ابن عامر بهذا في قراءته دون سائر أهل هذه الصناعة، مؤكداً أن المفرد والجمع في الأجناس سواء.

المثال الثاني: ضرب المرأة

والوصف الرابع المُدرج في الآية ما تميّزت به ملتنا من التحرير من الأغلال. والأغلال جمع غِلّ. وهو إطار من حديد يشدّ بجلد أو بسلسلة يسحب به الأسير والجاني. وفي استعمال الغلّ هنا أيضاً استعارة تمثيلية للتكليف بالعمل المؤلم المرهق. وكان ذلك شعارَ إذلال. وهذه كانت حال اليهود بعد تخريب بيت المقدس وزوال ملك يهوذا. وهي مقابِلة تمام المقابلة لما جاء به الإسلام من السماحة الفطرية والتخفيف والتكريم للبشر (¬1). وفي هذا التذييل ذكر لأوصاف الشريعة وتعيينٌ لمقاصدها بعد الذي جرى عليه في بيان النص القرآني وتحرير معانيه. * * * المثال الثاني: ضرب المرأة: في المثال الثاني من بحثنا عن المقاصد، يستوقفنا موضوع ضرب المرأة. قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (¬2). فهذا الخطاب الشرعي يشمل أربعة جوانب: الأول منها: تعريف النشوز بقوله: هو عصيان المرأة زوجها، والترفعُ عليه، وإظهارُ كراهيتها له. وللنشوز ضرر، أيّ ضرر بالزوج، وكذلك بالأسرة. وهو يحتاج إلى الردع بلزوم العقوبة التي شرعها الله بقوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ...}. فقد رتب على سوء معاملة المرأة لزوجها عقاباً. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 9/ 134 - 137. (¬2) سورة النساء، الآية: 34.

وهو على درجات بحسب حال النشوز ودوافعه وقوّته وضعفه. وأنواع العقاب، كما نصّت على ذلك آية سورة النساء: الموعظة، والهجر، والضرب. وعلى الزوج أن يراعي أسباب النشوز، والدوافع إليه، وقوتَه وضعفَه، ليكون العقاب مظنة للعدل، فلا يكون الزوج بإيقاعه له جائراً أو معتدياً أو متشفّياً. ولإثبات هذا الحكم وتحقيق الغرض منه نبّه الشيخ إلى ما يستند إليه من نص قرآني، وإلى جملة من الآثار تأذن للزوج بضرب امرأته الناشز، وإلى عمل بعض الصحابة بذلك في غير ظهور الفاحشة. وحُكم العقاب بالضرب ثابت بالقرآن وبالآثار والأخبار. وهي في جملتها محمولة على إباحته. وقد جرى العمل به بين طبقات من الناس وفي بعض القبائل. ولا ينسى الشيخ ابن عاشور هنا ملاحظة أن العقاب بالضرب، وإن كانت له شواهد ودلائل، مُراعى فيه العرف. ولذلك يتفاوت الناس فيه فيعتبره ذُكران البدو اعتداء على المرأة، في حين تعدّه نساؤهم أمراً عادياً لا اعتداء فيه عليهن. ويؤكد الإمام هذا المعنى بما ورد عن عمر بن الخطاب من اختلاف أحوال النساء المهاجرات عن أحوال نساء المدينة، قائلاً: "كنا معشر المهاجرين قوماً نَغْلِب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم، فأخذ نساؤنا يتأدَّبن بأدب نساء الأنصار" (¬1). ثانياً: عقوبة الضرب مأذون فيها للأزواج دون ولاة الأمور. ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من ولاة ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 5/ 41.

الأمور والأزواج، وأن الإذن ورد لهما في ذلك في الخطاب القرآني في قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬1) بجعل "لكم" للأزواج، وصرف "فإن خفتم" للولاة، وربما عَنَى الشارع بالولاة خصوص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقُصر هذا الأمر عليه دونهم. ثالثاً: اختلف الأئمة في تأويل آية الضرب. فقال عطاءٌ: لا يضرب الرجل زوجته ولكن يغضب عليها. وسانده في هذا ابن العربي في أحكامه لقوله عن عطاء في هذه القضية: من فقه عطاء وفهمه للشريعة ووقوفِه على مظانِّ الاجتهاد عَلِم أن الأمر بالضرب هنا للإباحة. وعقّب ابن العربي بأنَّ عطاء يكون قد وقف على كراهية ذلك في حديث: "ولن يضرب خيارُكم". أما رأي شيخنا في هذه القضية: فوضع الأشياء مواضعها بحسب القرائن، وإلى هذا ذهب جمع من العلماء. قال ابن الفرس في تعليل موقفهم: إنهم أنكروا الأحاديث المروية بالضرب. وقال الشيخ ابن عاشور: أو تأوّلوها. رابعاً: الإشارة إلى الأحوال المختلفة التي تكون بين الزوجين لتقرير الحكم الشرعي. يبيّن ذلك صاحب التحرير بقوله: الظاهر أن الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة تكون بين الزوجين. فأُذن للزوج بضرب امرأته ضربَ إصلاح، لقصد إقامة المعاشرة بينهما. فإن تجاوز ما تقتضيه حالة النشوز كان معتدياً. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 229.

وفيما تقدم نبّه الشيخ ابن عاشور إلى قاعدتين تتعيّن مراعاتُهما: الأولى: لا تجوز العقوبة بالوعظ، أو بالهجر، أو بالضرب لمجرد توقّع النشوز. والثانية: أن الأزواج مؤتمنون على توخّي مواقع هذه العقوبات بحسب درجة النشوز. وبعد البيان للآية بذكره أولاً ما ورد بها من أحكام تتعلّق بمعاملة المرأة في حالة خاصة قد تَعرض لها، وثانياً بأثر ضبط الحكم الشرعي في هذه القضية ومراعاة الظروف والملابسات فيها. وهذان نوعان من الاستدلال يعتمدان النص والقرائن الحافَّة به، يعود إلى تشنيع الضرب بوصفه بالخطورة من الجهة التي استوجبت الحكم به، وإلى صعوبة تحديد مقداره لأن ذلك عسير. وينتهي من هذا كله إلى تخصيص الإذن بالضرب في حالة معيّنة هي حالة ظهور الفساد. ولتوقّع تجاوز الرجل حدّه في إيقاع هذه العقوبة، ولكون الأصل في أحكام الشريعة ألا يسمح للمرء أن يقضي في حق نفسه لولا الضرورة، ولدعم موقفه في ذلك، أُخذ بتقييد الجمهور لعقوبة الضرب، وذلك بالسلامة من الإضرار، بكون القائم بها ليس ممن يعدُّ الضرب بين الزوجين إهانة، وإضراراً. ورتّب آخر الأمر على هذا الحكم المعلّل والمقيّد بإمكان التحديد من ولاة الأمور لمن يتجاوز حدَّه في هذا من الرجال بإنزال عقوبة به، لتدارك ما يمكن أن ينجم عن مباشرة الزوج لعقاب امرأته من إفراط، وخاصة بعد فقدان الوازع الديني الذي يحول بين المرء وبين كل ما يعد منكراً من تصرّفاته (¬1). * * * ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 5/ 41 - 44.

المثال الثالث: الطلاق ثلاثا بلفظ واحد

المثال الثالث: الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد: قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬1). اعتبر هذه الآية فاصلة في قضية الطلاق ثلاثاً حسب ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. ولتمام البيان والشرح أتي بفاء التفريع أول هذه الآية في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} لتكون مترتّبة على الآية السابقة وهي قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}. والطلقتان الأوليان جمعتا لأنهما يدلان بطريق الاقتضاء في كليهما على الخيار في المراجعة وعدمها اللّذين يوميء إليهما قوله - عز وجل -: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن أردفتهما ثالثةٌ فتلك هي الطلقة الثالثة التي لا تحلّ مراجعة المرأة فيها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيرهُ؛ لأنها من البتات الذي ليس معه مراجعة. فبيان نهايته، وهي المراجعة، كان صريحاً بهذه الآية: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ}. وفي هذا حدّ لما كان عليه الناس في الجاهلية من مراجعتهم المرأة بعد تطليقها، ثم يطلّقونها دواليك، فتبقى زمناً طويلاً في حالة ترك، إضراراً بها، إذ لم يكن الطلاق عندهم منتهياً إلى عدد لا يملك الزوجُ بعده المراجعة. والبتات المترتب على الطلقة الثالثة يسلب الزوج حقَّه في مراجعة زوجته، كما يسلب امرأته حق الرضا بالرجوع إلى زوجها حتى تنكح زوجاً غيره. والحكمة من هذا التشريع إنزال العقوبة على المستخفين بحقوق المرأة من الأزواج بإيقاع الطلقة الثالثة، إيلاماً لهم في وجدانهم. وسبب ذلك تهاون المطلّق بشأن امرأته التي في عصمته، ونبذه لحقوقها، حتى جعلها لعبة تَقَلَّبَها عواصفُ غضبه وحماقته. وبهذا يتبين للمطلّقين أنّهم لم ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 230.

يكونوا مُحقّين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية. وقد نظروا المراتب الثلاث للطلاق، التي جاءت الشريعة بها لردع الأزواج عن تصرّفاتهم السيئة، باعتبار الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة. فإذا حصلت الثالثة كانت فراقاً. وهذا وفاق لما فسّر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخلافَ بين الخضر وموسى - عليهما السلام -: أن جعل المخالفة الأولى بالسؤال نسياناً، والثانية شرطاً، والثالثة التي كانت عمداً فراقاً، لقول الخضر لموسى: هذا فراق بيني وبينك. واللفظ الثاني المشير للنظر والدرس هو ثلاثاً. فأكثر الفقهاء حمله على ما في الآية من تفصيل، وهو وقوع طلقتين متقدمتين تلحقهما طلقة ثالثة. وبعضهم جعل المقصود بالثلاث: إيقاع الطلاق به بلفظ واحد. وفرّق الشيخ ابن عاشور بين الاتجاهين في هذا التفسير بتقدير الحكمة والمصلحة من هذا التشريع، فجعل المبتوتة التي يحتاج معها إلى محلِّل هي الطلاق مرتين تتبعهما ثالثة. ولزاماً أن يقصر هذا الحكم على مورد النص. أما ما يقع من التطليق ثلاثاً بلفظ واحد فهو تغليظ، أو تأكيد، أو كذب. وإنزال حكم الطلاق السابق عليه متحقّق، وفيه حكمة التأديب على هذا الصنيع. غير أن التلفظ بالثلاثة في المرّة الواحدة لا يجعلها في الواقع ثلاثة، وإنما هي واحدة. فلا يعاقب بالتفريق بينه وبين زوجه، وإن تصرَّف تصرُّف الحمقى، أو كان من الكذابين. وكمال هذا الحكم: ما صوره به الإسلام. ودليل هذا حديث ابن عمر المعروف، وحديث ركانة بثت عبد يزيد المطلبي أنه طلق امرأته ثلاثاً في كلمة واحدة. فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "إنما ملَّكك الله واحدة. فأمره بأن يراجعها".

واجتهد عمر بن الخطاب، لحوادث في الطلاق جدّت، بإيقاعِ الطلاق بلفظ واحد ثلاثاً، كما أراد مُوقعُها قائلاً: أرى الناس استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وأمام الحالين اللذين وصفناهما، مما كان من عمل الناس في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحياة أبي بكر وجزء من خلافة عمر، انقسم الفقهاء في حكم الصورة الثانية. وهي التي أراد بها صاحبها التطليق ثلاثاً بلفظ واحد. فذهب الجمهور إلى إيقاعها ثلاثاً عملاً باجتهاد عمر وقضائه بذلك، وللإجماع السكوتي الذي حصل في زمنه. وقضاء عمر لا يَلزم العمل به. وذهب عدد من الأئمة الفقهاء إلى أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة. وهذا هو الأرجح من جهة النظر والأثر، واستدلوا على هذا بأدلة أخرى: أولاً: إن العمل بمنطوق الآية التي رُتّبت الطلقة الثالثة فيها على حصول تطليقتين أخريين مثلها. وانبرى الشيخ ابن عاشور إلى مذاهب الأئمة في صدر الإسلام أمثال الشافعي والباقلاني والغزالي والإمام الرازي، الذين جعلوا تعديل عمر للحكم مذهباً خاصاً به. وعندنا مذهب الصحابي لا ينهض حجة، كما أن الإجماع السكوتي الذي حصل لا يزيده قوة ولا يكسبه حجّية. وروى الشيخ ابن عاشور عن عدد من الصحابة ومن الفقهاء من مالكية وحنابلة وظاهرية أن الطلاق لا يقع في هذه الحالة إلا واحدة. وثانياً: إن القصد الإلهي من تعدّد الطلاق التوسعة على الناس، وتَرك اعتبار ذلك عند الجمهور يَرجع - كما قال الإمام نقلاً عن ابن رشد الحفيد - إلى تغليبهم حكم التغليظ في الطلاق سداً للذريعة.

ولكن هذا تبطل به الرخصة الشرعية والرفقُ المقصود من قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬1). ثالثاً: قول ابن مغيث: إن الله تعالى يقول: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، ومُوقع الثلاث غير محسن، لأن فيه تركَ توسعة الله. ومن الفقهاء كما ورد في المدونة من قال: من طلّق امرأته ثلاثاً فقد عصى ربه وبانت منه زوجه. ورد الجمهور بأنّ رواية الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد معتمدةٌ في صدر الإسلام. رابعاً: الاحتجاج بحديث ابن عباس في الصحيحين: كان الطلاق في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافته طلقة واحدة، وتُقابل رواية طاوُس لحديث ابن عباس هذا روايةٌ أخرى. وخطّأ ابن عبد البر رواية طاوس هذه وقال: إنها وهم وغلط. وبعد حديث طويل وإشارة إلى الأنظار المختلفة للأئمة في هذا الشأن، يقول الإمام الأكبر: ونحن نأخذ برواية ابن عباس وليس علينا أن نأخذ برأيه. خامساً: حديث ركانة ورواية الدارقطني له: من أنه طلق زوجه ثلاثاً في كلمة واحدة. وسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما هي واحدة فارتجعها. وأجاب الجمهور عن هذا بأن الحديث مضطرب، وعقّب عليه شيخنا بأن هذا الجواب واهٍ. سادساً: حديث تطليق ابن عمر زوجه. ذكر بعضهم أنه طلقها ثلاثاً فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها. وفي هذا شاهد منه على عدّها طلقة واحدة. والحق أن الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد لا يقع إلا طلقة واحدة. ولا يعتد يقول المطلِّق ثلاثاً. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآية: 1.

الفصل الثاني

وختم الشيخ هذا البحث بذكر موقف داود الظاهري ومقاتل بأن الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد لا يقع طلاقاً بالمرة لأن القرآن اقتصر على ذكر الطلاق المفرق. وردَّ هذا الموقف ووصفَه بالشذوذ والبطلان، وجعل من دلائل إبطاله إجماع المسلمين قاطبة على وقوع الطلاق به، خصوصاً وقد وقع التلفّظ به (¬1). * * * المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: أوُصي بمالي كلِّه؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث؟ قال: "فالثلث، والثلث كثير. إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفّفون الناس" (¬2). ورَوَى الحديث مالك عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه بلفظ: "جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي. فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي. أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا". فقلت: فالشطر؟ قال: "لا". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الثلثُ والثلث كثير. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس" (¬3). ويتّضح من الروايتين الاختلاف في تقدير الوصية بدءاً والاتفاق عليها وسطاً وآخراً. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 2/ 414 - 420. (¬2) النظر الفسيح: 108 - 109؛ خَ: كتاب الوصية، 2 باب أن يترك ورثته أغنياء: 55. (¬3) طَ: 2/ 763.

ومن المناسب أن نذكّر هنا بأن النظر الفسيح وكشف المغطّى ليسا سوى ملاحظات وتقييدات على شروح صحيح البخاري وشروح موطأ الإمام مالك التي وقف عليها الشيخ ابن عاشور عند تدريسهما بجامع الزيتونة. فهي إفادات اقتضاها النظر، ودعت إلى إبرازها مهمّة التدريس. وإنا لنجده في عمله هذا يعني في أول ما يعني به بالأحكام المستنبطة من أحاديث ذينك المصدرين يحرّرها، ويذكر أدلّتها، ويتولّى نقدها وتصحيحها من أجل الاطمئنان إليها، والتوصل من وراء ذلك إلى إدراك مقاصد الأحكام الشرعية إدراكاً تاماً. وذلك على حسب ما وقع التنبيه إليه في مستهلّ حديثنا عن الخطاب الشرعي. صدّر الشيخ تعليقه على هذا الحديث بذكر حكم الوصية الجائزة. وهو إجماع الفقهاء على رد ما زاد على الثلث. ولكنه أضاف إلى هذا مقولة ابن عباس التي أوردها البخاري. وهي: لو غضَّ الناسَ إلى الربع (¬1). ولعلّ ممّا حمل ابن عباس على استكثار الثلث جَعلُه أقصى ما يتصرّف فيه ذو المال بالوصية، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والثلث كثير". وردَّ الشيخ ابن عاشور هذا الرأي، وإن نُسب إلى ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتبر استدلاله به مشكلاً لانفراد حديث سعد بتقدير الثلث غايةً قصوى. وعدم ورود أثر آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على تعميم التشريع في هذا الباب، ولإعلان حديث الباب ردّ ما زاد عن الثلث. ثم إن سبيل ورود هذا الحديث هو مقام الاستشارة في قضية عين، يدل على ذلك حطّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الوصيّة بعد الحوار الذي كان بينه وبين سعد. والحكمة من هذا التشريع - كما يظهر من النصّ نفسه - ¬

_ (¬1) ابن حجر. الفتح: 5/ 369، ح 2743.

الحيلولةُ دون أن يُصبح الورثة بما حرموه عالة يتكفّفون الناس. وفي هذا إضرار بهم. وهو منهي عنه بصريح القرآن في قوله - عز وجل -: {غَيْرَ مُضَارٍّ} (¬1). وقد فصّل صاحب الكشف أنواع الإضرار بقوله: ويظهر أن ملاك جواز الوصية هو ما لا يضرّ بالورثة من تركهم في حاجة، أو قصدُ حرمانهم وإبعادهم عن ماله، كما يفعل بعض المغرضين، إلا أن ضبط ذلك ليس بالأمر السهل. فلعل عُسرَ انضباطه هو الذي حمل العلماء على المصير إلى إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اعتبار المال في حالة المرض المخوف قد صار فيه حق الوارث. وسماح الوارث بحقه متفاوت بتفاوت سخاء النفوس. ومن هذا الحديث نشأت أحكام أخرى هي: أولاً: أن تكون الوصية بالثلث لا تزيد عليه جائزة في حال فقر الوارث، وهذا الحكم محل وفاق بين العلماء. ثانياً: إذا كان الزائد على الثلث محتملاً ومتفاوتاً ألغى الفقهاء تفاوته وتفاوت أحوال الورثة لعسر الانضباط. ثالثاً: اعتبار باب إجازة الوارث مفتوحاً يتحقق به مقدار سماح الوارث، غير أن الظاهرية قالت بإبطال ما زاد على الثلث. وهذا من الخطأ البيّن. ومن المقاصد الشرعية في إجازة الوصيَّة ما هو معلوم عند الكافّة من أن النظام البشري قائم على أواصر كثيرة. أعلاها منزلة آصرة القرابة والزوجية. فكان هذا موجباً لانتقال مال الميت بعده إلى هذه العناصر من أسرته، تأكيداً لتلك الروابط ودعماً لها. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 12.

المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المغطى: حديث بيع الخيار

واقتضى النظر الشرعي، في مثل هذه المعاملات، تصرّفاً حراً لرب المال في ماله: يوصى بالمقدار المحدّد منه لمن شاء حسب اختياره وغيرَ مضار. وقد جاءت السُّنة النبولهة الشريفة بمراعاة الحقّين. فأبقت حقّ الوصية محترماً يعود فيه الأمر إلى رب المال، فلا يبذله لوارث، وجعلت حق القرابة محترماً أيضاً فلم تأذن في الوصيّة بأكثر من الثلث. وفي هذه الخلاصة جمع بين الأدلة من الكتاب والسُّنة، ومناقشة لبعض الأدلة الأخرى، وتحليل للأحكام الشرعية المتعلّقة بالوصية والمفصِّلة لمقاصدها وأهدافها التشريعية. * * * المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار روى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار". قال مالك: وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به (¬1). وهذا الحديث من أكثر أحاديث أبواب المعاملات دوراناً على الألسنة. أشبعه العلماء بحثاً، وتداولوه نظراً وتفقّهاً. وهو ليس بحاجة إلى الدرس أو البحث لولا المراد منه عند المالكية قد خَفِي. وبخاصة مقالة الإمام مالك فيه: ليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به. وهذه الجملة آذنت بأن في الأمر اختلافاً في الفهم، وأن قول الإمام مالك "عندنا" فيه تنظير، بل مقابلة لما عليه الأمر عند غيره ممّن حمل معنى الافتراق على المراد منه. وقد أشكل هذا. ومن ثَمّ ¬

_ (¬1) طَ: 31 كتاب البيوع، 38 باب بيع الخيار: 2/ 671، 79؛ الكشف: 280.

تعلّق غرض الشيخ ابن عاشور بالكشف عن المراد بالافتراق فردّه إلى ما قاله الفقهاء بشأنه. وفيه عند طائفة إثبات حق الخيار لكل من المتعاقدين في المجلس. وقال آخرون: لا يمكن أن يقال بهذا الخيار ومحلّه المجلس، والمجلس غير واضح ولا منضبط. وإلى تأييد الوجه الثاني ذهب القاضي ابن العربي مصرّحاً بعدم صحّة الخيار. قال في شرح القَبَس: إن المجلس المشار إليه مجهول المدة. ولو شَرَط الخيار مدّة مجهولة لبطل إجماعاً. وحجّته في ذلك أن ثبوت الحكم بالشرع لا يتم إذا كان شرطه غير جائز شرعاً. وذهبت طائفة ثانية من المالكية إلى أن الإمام أخذ بعمل أهل المدينة. وردّ عليه القاضي أشنعَ ردّ، متّهماً أصحاب هذا الرأي بقصور الفهم، وبأن تفسير مقالة الإمام إنما هي ما كشف عنه هو، وبرهن عليه. والذي يفسّر كلام القاضي هذا أن الحديث رواه ابن عمر وحكيم بن حزام فيما تعمّ به البلوى. وأن الناس قد حملوه محملاً غير بيّن لأن المجلس المذكور في الحديث غير بيّن. وهكذا دفع الشيخ ابن عاشور مقولة هؤلاء قائلاً: إن شأن التشريع في الحقوق أن يكون مضبوطاً. وبدون انضباطه لا يتمكن المُتَعامِلُون من المطالبة بالحقوق، ولا يتسنّى للقضاة فصل القضاء. وهذا من باب نقض أدلة الخصم، إبقاءً على الوجه الذي يرتضيه شرعاً في مثل هذه القضايا (¬1). ومضياً في ذلك، وتأكيداً له قال: إن الحديث محل النظر ورد مجملاً، لا يصحبه ما يبيّنه من عمل. ولذلك علّل الإمام مالك عدم الأخذ به بقوله: "ولا أمر معمول به". والأدلة المجملة لا تكون أدلّة تفقّه، ¬

_ (¬1) كشف المغطى: 280 - 281.

فيجب التوقّف. ودعا في مثل هذه الحالة إلى الرجوع إلى القواعد الشرعية. فالأصل في البيوع الانضباط وطرح الغرر. وروي عن ابن عمر، الذي كان يرى العمل بخيار المجلس، أنه كان إذا رغب في انعقاد بيع شيء ابتاعه انصرف عن المجلس. وقد حمل سلوكه هذا غيرَه من بعده على إطالة البقاء في المجلس إذا كان يرغب في بقاء حق الرد. ومهما يكن من رأي فإن مثل هذا التصرّف كان في نظر ابن عاشور مثاراً لعدم الانضباط وحصول الغرر، في حين أن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن دلالة العقود القولية والفعلية تتطلّب تحصيل آثارها في المِلْك وغيره. وتغليباً لمذهب المالكية يقول صاحب الكشف: إن الأظهر في هذا الحديث إرادة التفرّق بالأجساد. وهو التفرّق المعتاد الذي يحصل بين المتبايعين بعد إتمام إجراءات البيع من حصول التراضي ودفع الثمن وقبض السلعة. وهكذا يكون إجراء قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لم يتفرقا" على الغالب. ويحصل المقصود الأساس من البيع وهو البتُّ والتحقق، أو يكون القصد من هذا التمهيدَ إلى ما بعد انبرام العقد وحصول نتائجه وهو ما استثناه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إلا بيع الخيار". * * * وفي ختام هذا الفصل يتأكّد التنبيه إلى أن هناك فرقاً بين كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية وكُتب: التحرير والتنوير، والنظر الفسيح، وكشف المغطى. فالأول يتميز بقيامه على التعريف بالمقاصد وأنواعها، وتطوّرات النظر فيها، ودور الأئمة الرواد في الإشارة إليها، وبيان الطرق التي تُوَصّل إليها. فقد بحث الشيخ ابن عاشور الخطاب الشرعي وما يتصل به من مباحث، وأمعن النظر بصفة خاصة

في دراسة الأوامر والنواهي والمقاصد والمصالح وأنواع الحقوق، وضَبَط مستحقّيها، منتهياً إلى القواعد والأصول المتصلة بالحياة في سائر مجالاتها، غير تارك في ذلك المعاملات المادية والتصرّفات المالية والسلوكيات والآداب الإسلامية. وهذه كلها جوانب نظرية تأصيلية لقضايا علم المقاصد. وإذا التفتنا إلى مصنّفاتِه الأخرى التي ذكرناها وجدناه ينهج فيها منهج التطبيق لتلك النظريات، والتوسع في التمثيل لها. وكأنّ كتاب المقاصد قد وضع قانوناً عاماً لعلم المقاصد تجتمع فيه أغراضه ومحاوره. وهو وإن كان قد اعتمد على الأصلين من الكتاب والسُّنة، وتعرّض للكثير من المسائل الفقهية والشرعية، فقد نبّه من خلال عرضه لها على المقاصد المتصلة بمسائل العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات، فوفّاها حقها شرحاً وإيضاحاً، تحليلاً واستدلالاً، إبداعاً واكتشافاً لما لم يصل إليه الكثير من العلماء من التعليلات والنتائج التي لها ارتباط متين بمقاصد الشريعة وأسرار التشريع. ولا تقف بنا الإشارة إلى ما قدمناه من بيان لمحتويات كتاب شيخنا في المقاصد، ولكننا نتجاوزه إلى المقالات والكتب الفقهية والشرعية التي نعتد بها عند بحثه للجانب التكميلي للمقاصد. وهو ما تضمنه كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الذي أحال عليه غير مرّة في مقاصده (¬1). فلا نطيل الوقوف عنده بعد الذي عرفناه من خلال التفسير للذكر الحكيم والشرح والتحليل لجملة أحاديث من السُّنة النبوية. ولكننا نختصر الكلام فيه كما صنعنا مع تآليفه السابقة الذكر، مكتفين باستعراض مقال أو ذكر مثال. ¬

_ (¬1) المقاصد: 29، 379.

الباب الخامس منهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

الباب الخامس منهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام

الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام الإسلام حقائق لا أوهام: إن هذا الموضوع الجليل الذي تناوله الشيخ ابن عاشور مرات كثيرة في مقاصد الشريعة الاسلامية، وفي التحرير والتنوير، وفي أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، يدل على اهتمام المؤلف به، وعلى حاجة مختلف القراء إليه (¬1). وهو كما قال في بداية حديثه عنه: "أي غرض أسمى وأسنى من غرضنا الذي نشرح فيه صفة عظمى من صفات الإسلام. منها تفنّنت أفنانه، وعليها التفت أواشجه، وبها تجلّى التمايز بينه وبين غيره من الشرائع، وبإنشاء المتدينين بهذا الدين على مخامرة هذه الصفة عقولَهم كانوا أهلاً للنهوض بأعباء الأمانة التي وكلت إليهم، وهي إبانة إصلاح التفكير وإعلان الحق بين الناس" (¬2). وفي هذا التقديم ضرب من ضروب الدعوة إلى الإسلام، وكشف عن مميزاته وحقائقه، إذ هو قاعدة الدين الخاتَم وأساسه، لا يتعلق بالأوهام، ولا يقيم أصوله وهديه إلا على الحقائق والاعتبارات التي تجعل منه عقيدة صحيحة ناضجة، ومنهجاً بيّناً للحياة، يعتمد الواقع، ويعالج ما في المجتمع وعند الأفراد من انحراف، لقيامه ¬

_ (¬1) المقاصد: 29. (¬2) أصول النظام الاجتماعي: 38.

على السماحة، ودعوته إلى الفطرة بقوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1). فالفطرة أعظم أصل من أصول الشريعة، وأبرز مظهر من مظاهرها، تقوم حتماً بما هو مغروز بها في النفس البشرية، من الانصياع إلى الحق، ومجانبة الباطل، وتحقيق مقاصد هذا الدين من الخَلْق. وهذا هو إسلام الوجه إلى الله {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬2). وفرّق الإمام في مقاله هذا بين الحقائق والاعتبارات، والأوهام والتخيّلات، حتى يتبيّن للناس كيف كان بعضها وصفاً للإسلام يلازمه ويدعمه، وبعضها الآخر بعيداً عنه يجانبه ولا يرتبط به. فعقائد الإسلام وشرائعه وقوانينه حقائق تدركها العقول، وتتطلبها الحياة، ولها أثرها في الواقع الاجتماعي. وهي تستهدف تقويم المجتمع الإسلامي، أفراداً وجماعات، في الاعتقاد والتفكير وفي الأعمال. ويكون هذا بأخذ الناس بالحقائق التي تهديهم وتنشرح بها نفوسهم، وتنبذ عنهم الأوهام والتخيّلات التي تُضِلُّهم وتوقعهم في الأباطيل: فتطبع على قلوبهم وتحجب عنهم الهدايةَ والاستقامة. فالحقيقة والاعتبار المتصل بها هي الماهية الثابتة في نفسِ الأمر. وحقيقة الشيء هو مفهوم كلي مركب من معقولات ملازمة أي جواهر أو أغراض أو كليهما، غير مفارقة لجزئيات الكلّي، تقوم من مجموعها صورة متعلقة متميّزة عن غيرها تدعى حقيقة، ولكنها متحيّزة في العالم وفي مدارك العقل. وأما الاعتبارات فهي المعاني التي توجد في اعتبار المعتبر، ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 30. (¬2) سورة لقمان، الآية: 22.

بحيث لا مندوحة للذهن عن اعتبارها؛ لأن لها تعلّقاً بالحقائق، ولكن وجودها تابع لوجود الحقائق، ووجود الاعتبارات أضعف من وجود الحقائق الثابتة في ذاتها. ووجود الاعتبارات على نوعين: منه ما هو تبع في الخارج لوجود الحقائق المنتسبة تلك الاعتبارات إليها، متابعة وجود الظل للجسم في حال كونه في النور، ومنه ما هو قاصر على التقرر في التعقل في الذهن. وكلها إدراكات ذهنية أُلجئ الذهن إلى إدراكها للزوم تعقل آثارها التي في الوجود. وتقابل هذين الوصفين الأوهام والمتخيّلات. فأما الأوهام أو الوهميات، كما ذكر شيخنا، فهي المعاني التي يخترعها الوهْم من نفسه دون أن تصل إليه من شيء متحقق في الخارج. والتوهّم والوهْم مركب من الفعل والانفعال؛ لأن الذهن فيه فاعل ومنفعل، فهو يخترع المعنى الوهمي ثم يدركه. والفعل فيه أقوى من الانفعال. والوهْم أوسع من العقل في تصوراته ومخترعاته وتخيّلاته، وأضيق من العقل في الإذعان لما ليس من مألوفه. فقد يعجِز الفهم عن إدراك كثير من الأدلة كما أشار إلى ذلك الغزالي في التهافت. وليس المراد من الوهميات المعاني الجزئية غير المحسوسة الموجودة في المحسوسة. والقصد من الوهم هنا هو الوهم الزائف الكاذب. وأما المتخيّلات فهي المعاني التي تخترعها قوة الخيال بمعونة الوهم، بأن يركّبها من عدة معان محسوسة محفوظة في حافظة الذهن. والخيال قوة ذهنية بها تحفظ صور المحسوسات بعد غيبة ذواتها .. وهذه القوة الخيالية إذا استعمَلَتها النفس بواسطة القوة العقلية، أو مع تعاون القوتين العقلية والوهمية تسمى فكراً، وإذا استعملتها بواسطة القوة الوهمية؛ أي بمجرد الاختراع دون تصرّف

عقلي سُمِّيت تخيّلاً. وهذا هو المعنى المضبوط للتخيّل. والمعاني التخيّلية يقال إنها مقدمات ليس المقصود منها التصديق بها، بل المقصود تخييل شيء أنه شيء آخر على سبيل المحاكاة لقصد تنفير أو ترغيب، مثل تخيّل التهوّر شجاعة في قول سعد بن ناشب، وتخيّل الجبن احتياطاً وحكمة في كلام الحارث بن هشام المخزومي، وتشبيه الغِيبة بأكل الميتة في القرآن الكريم (¬1). وينبه الإمام إلى أن بناء الأحكام الفقهية التي يحرص عليها الأئمة المجتهدون يقتضي أولاً أن الحقائق والاعتبارات المتصلة بها لا تختلف في نفوس البشر وعوائدهم، فهي فطرية. ومن هذا يُستخلص الأصل الذي يمكن اعتماده، والبناء عليه. وهو أن دعوة الإسلام إلى الحقيقة ونبذ الأوهام تلوح في جميع أنحاء التشريع: في الاعتقادات والعبادات والمعاملات وفي المعارف. وقد فصّل القول في ذلك ذاكراً من الأمثلة في كل قسم ما يوضح هذا الأصل ويؤكّده. فهو في الاعتقادات يرجع إلى قضية وجود الخالق ووصفه بصفات الكمال وتنزيهه عن النقائص. ولدعم هذا الأصل في مجال العقيدة ورد عن الشارع قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (¬2)، وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3). ومثّل له في العبادات بإفشاء السلام وتشييع الجنائز والمواساة. فقد نعى الله على المشركين أن يعظموا الشهر الحرام، وينتهكوا ما هو أعظم حرمة كحرمة المؤمنين وحرمة البلد الحرام، إذ أخرجوا ¬

_ (¬1) أصول النظام الاجتماعي: بتصرّف 28 - 31. (¬2) سورة النحل، الآية: 74. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 144.

المؤمنين منه. يشهد لهذا قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (¬1). وفي المعاملات الحقوقية كالبيوعات والجنايات وأحكام الحنث في الطلاق ونحوها بُنيت الأحكام على اعتبار الواقع دون الأوهام والتخيّلات. يفسّر هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه: "أرأيت إن منع الله الثمرة، فَبِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟! " (¬2). وهذا مجرى للقياس عند وجود صور وقضايا لم يُعيّن لها حكم، ولكنها تَتَّحد مع ما فيه حكم في العلّة. وهذا أصل شرعي لم تخالف فيه إلا الظاهرية والباطنية. واعتبر الأئمة القضاء بما ينافي الحق جوراً. وحذر من ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقتطع له قطعةً من نار" (¬3). ومثل هذا ورد في الفتوى في قوله: "استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس" (¬4). وكما حُملت الأحكامُ على التزام الواقع إذا كان حقاً، انبنت أحكام الحقوق على اعتبار الواقع ملغىً وغيرَ معتدّ به، إذا كان هذا الواقع عائداً على مقاصد الشريعة بالإبطال ولغَزْلها بالانتقاض. ذلك أن الشريعة الإسلامية عارضت ما سوى الحق فنقضته وأبطلته وأسمته ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 217. (¬2) انظر المقاصد: 117/ تع 1، 2. (¬3) انظر المقاصد: 520/ تع 1. (¬4) حَم: 4/ 227، 228؛ دَي: 2/ 559.

من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام

ظناً: {ومَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬1)، ودعته هوى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (¬2)، وجعلته تمنّياً لمصادفته الرغبة الشخصية الذاتية وبُعدِه عن شرع الله وما اقتضته حكمته - عز وجل - من الأمر. قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (¬3). من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام: وبعد التحليل الملاحظ في الأقسام المتقدّمة انتقل الإمام إلى الحديث عن التقرير والتغيير في التشريع الإسلامي. فالتقرير هو ما تناول الحقائق الثابتة التي فطر الله خلقَه عليها فجعلها منهج إرشاد، وأساسَ تعامل الإنسان مع نفسه ومع من حوله. والتغيير هو ما جاء عن الشارع من نقضٍ للأوضاع، ورَدًّ للمنكرات، وتفريق بحن ما هو حق وما هو باطل. فحَمَى المرأة من أن تُطَلَّق ثلاثاً، مرّة بعد مرّة، من غير أن يراجعها زوجها بعد صدور الطلاق منه في كل مرّة حتى تشرف على انقضاء عدّتها، إمعاناً في مضارَّتها، وإطالةً وتمديداً لأيام عدّتها: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (¬4). وهكذا أبطل الشارع واقعاً ذميماً ودعا إلى اعتبار الحكمة والقصد من تشريع العدّة وهو استبراء للرحم، وانتظار لندامة المطلَّق. ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 36. (¬2) سورة القصص، الآية: 50. (¬3) سورة النجم، الآية: 23 - 24. (¬4) سورة البقرة، الآية: 231.

قال سبحانه: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬1). وكان فَهْمُ الناس لعدّة الوفاة أربعةَ أشهر وعشراً فهماً خاطئاً حين جعلوا العدّة حُزناً على فقدان الزوج، وصرفاً إلى اعتداد المرأة عدة الوفاة. وبيان ذلك أن المرأة إذا وضعت حملها إثر وفاة بعلها وبَرِئَت رحمُها يكون لها أن تتزوج في التوّ وهذا خلاف ما قاله أبو السنابل، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسبيعة حين جاءت تشكو أمرها: "قد حللت حين وضعت حملك فانكحي إن شئت" (¬2). ويدل هذا على أن العلة الحقيقية لعدة الوفاة كانت لأجل ما عسى أن يظهر من الحمل. أما ما ورد من نهي أهل الكتاب عن مذامًّ يأتونها؛ كمؤاخذته جل وعلا لليهود بقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} (¬3) فهو من أجل تحذير المسلمين من الوقوع في مثله. وكان الناس يعتدّون بالفوارق بين الذوات المتساوية: بين الرجال والنساء، وبين الأحرار والعبيد بصفة مطّردة. فأبطلت الشريعة ذلك، واعتبرت جميع الأحكام المتعلّقة بذوات متساوية في الوصف الواردِ لأجله الحكم، يجب أن تكون متساوية في الحكم. وممّا لم يقرّه الشرع وإن كان واقعاً في الجاهلية وصدر الإسلام التبنّي. أبطله تعالى بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآية: 1. (¬2) خَ: 6/ 182؛ مَ: 2/ 1122 - 1123؛ طَ: 2/ 589. (¬3) سورة البقرة، الآية: 85.

بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬1). وخالطت الأوهامُ الحقائق في المعارف والعادات شرعيها وعقليها، فكان متفشياً بين الناس اعتقاد أن الشمس تخسف إنذاراً بحوادث تقع في البشر، فردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتقاد، وقال حين خسفت الشمس عند وفاة ابنه إبراهيم - عليه السلام -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله؛ لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" (¬2). وكان الناس يتوهّمون عند وضع الطفل مختلفاً لونه عن لون أبويه أنه من سفاح؛ فينكرونه. وجاء فزارة (ضمضم بن قتادة)، وشكا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الحالة. فبيّن - صلى الله عليه وسلم - له خطأه، واستلَّ منه وهمه بردِّه إلى واقع مشاهد، إذ قال له: "هل لك من إبل"؟، قال: نعم. قال: "ما لونها"؟ قال: حُمْرٌ. قال: "هل فيها من أورق"؟، قال: نعم. قال: "فأنّى ذلك"؟، قال: لعله نَزَعَهُ عِزق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عِرْق" (¬3). ومن أوهامهم اعتبارهم الزمان أو الدهر يأتي بالحوادث العجيبة وبالمصائب. فكانوا يسبُّون الدهر. فنهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر" (¬4). ذلك أنهم أضافوا ما يحدث لهم من قوارع إلى الزمان، وليس الزمان سوى أمر اعتباري تؤقّت به الحوادث فأخطؤوا في الاعتقاد، وما من خالق للحوادث غير الله. وكانوا يتطيَّرون ويعتقدون أن الهامة طائر يتخيّلونه يخرج من ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 4. (¬2) خَ: 2/ 24، 30، 31؛ مَ: 1/ 623، 630. (¬3) خَ: 6/ 178؛ مَ: 2/ 233. (¬4) مَ: 2/ 1763.

رأس القتيل فلا يزال يصيح: اسقوني، حتى يؤخذ بثأر القتيل. كما كانوا يتشاءمون من شهر صفر ويخافون الكهنة، فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأوهام قائلاً: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة" (¬1)، "وإنما الطِّيَرَةُ على من تطيّر" (¬2). وردَّ على من سأل عن الكهنة فقال: "ليسوا بشيء" (¬3). فأنشأ الإسلام بسداد شريعته وحكمته العالية أمة صالحة للاستخلاف في الأرض. ولولا ما أُدخل عليها من تحريف الأفهام وتصديع الأوهام لكانت تاجاً فوق جميع الهام. ويحصل لمن لا يفقه الشريعة خلط الاعتبارات بالأوهام وهذا باطل. فلكل وصف من هذين موقع ومجال. فمن الأمور الاعتبارية قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المُصلي يناجي ربه" (¬4)، تقريباً وتقريراً وتقديراً لفعله. وهذا الأمر في الواقع غيرُ متحقّق؛ لأن الربّ موجود والتقرّب إليه مشروع، واستحضاره عسير لا بد فيه من المعونة بأمر محسوس، ومن الاعتبارات استحضار استقبال القبلة في الصلاة. ومن هذا القبيل الحقائق التي لا ثبوت لها إلا في الذهن. وذلك ما حوّلته الشريعة إلى الاعتبار كالنية، وحُسن الظن بالمؤمن، ومقام الإحسان الذي صوَّره لنا الشارع بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أن تعبد الله كأنك تراه" (¬5). ودخل هذا في التشريعات الاعتبارية؛ لما يقارن هذه ¬

_ (¬1) خَ: 7/ 27، 31؛ مَ: 2/ 1732 - 1743. (¬2) حَب: 7/ 642. (¬3) خَ: 7/ 28؛ مَ: 2/ 1750. (¬4) خَ: 1/ 106 - 107؛ مَ: 1/ 390. (¬5) مَ: 1/ 36 - 40.

الحالات من صفات تستقر في النفس فتوحي لمن تخالطه وتلازمه أنها حقائق. ومن الأمور ما تترتّب آثار خفيفة على اعتبارها فيقدر المعدوم كالموجود. ومثال ذلك مِلك المقتول حق القصاص من القاتل قبل وفاته ليصحّ عفوه عن قاتله. ومن الأمور المعدودة في العادات من الأوهام، واصطلح عليها البشر في عوائدهم، ما أصبح من الفضائل، كستر العورة الذي أقرّه الإسلام وأوجبه. وفي الحديث قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُحشرون حفاة عراة". فقالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: "الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك" (¬1). ومن الأوهام والتخيّلات ما يكون جارياً في طرق الدعوة. وهو ليس من الحقائق التي تقتضيها الشريعة أو يطلبها التشريع. وهي وإن استعملت طريقاً لتحصيل علم أو عمل، فهي لا تبلغ في ذاتها أن تكون أمراً مقصوداً حصوله. ومثال هذا قول الله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" (¬3). وإنما ورد التخييل والتشبيه بقصد التشنيع والمبالغة في النهي. ونَهَى الشرع عن العمل بالوهْم. ورد في الجامع الصحيح للبخاري: عن ابن عباس: أن الناس كانوا يستحيون أن يتخلّوا فيفضوا إلى السماء، فكانوا يثنون صدورهم يستحيون من الله، فأنزل الله فيهم: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} (¬4). ¬

_ (¬1) خَ: 7/ 195؛ مَ: 3/ 2194. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 12 (¬3) انظر المقاصد: 113/ تع 1. (¬4) سورة هود، الآية: 5.

الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية

وعلى هذا الأساس ألغَى الإجماعُ رضاعةَ الكبير. ولا بدع في هذا. فالتشريعات في أول إقامتها يكتفى فيها بما يؤذن بحرمة التشريع تهيئة لعمل الناس بها في المستقبل (¬1). الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية: أبرز ما يصوّر هذا الموضوع في القسم الأول من كتاب المقاصد فصلان السادس والسابع المتواليان. فبعد تفصيل المؤلف القول في إثبات أن للشريعة مقاصدَ من التشريع في الجملة، واستنادِه في ذلك إلى أدلة كثيرة من الكتاب والسُّنة (¬2)، وبعد تنبيهه على احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة، وتوجيهه الدارسين إلى طرق إثبات تلك المقاصد عند الأصوليين وغيرهم من علماء السلف (¬3)؛ انتهى إلى محورين أساسيين في علم المقاصد يتناولان مسائل كثيرة الفائدة، عظيمة الأهمية، نلمس من خلالهما بحثاً عن أدلة الشريعة اللفظية، وعن عدم استغنائها عن معرفة المقاصد الشرعية، وعما يعرض للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أحوال وظروف مختلفة تُدْعى مقامات. وهي التي يتكيّف خطابه بحسبها فتتمايز بها أقواله وأفعاله تبعاً لذلك، وتحمل من المعاني والإشارات ما يخفى إدراكه على كثير من الناس بسبب انصرافهم عن ملاحظة أسباب القول ودواعيه وحافاته. فالنظر في نصوص السُّنة مثلاً يقتضي التفريق بين ما له اتصال بمقام التشريع كالتبليغ والقضاء والفتوى، وبين ما لا صلة له بذلك مثل مقامات الإرشاد والهدي والنصيحة وغيرها. وقد دعت هذه الآثار في ذاتها وباختلاف مناهجها إلى تقرير ¬

_ (¬1) المقاصد: 77، 331، 332. (¬2) المقاصد: 35 - 39. (¬3) المقاصد: 40 - 78.

حقيقة علمية هي التي افتتح بها الشيخ ابن عاشور الفصل السادس المومى إليه أعلاه، إذ قال: إن الكلام لم يكن في لغة من لغات البشر، ولا كان نوع من أنواعه وأساليبه في اللغة الواحدة بالذي يكفي في الدلالة على مراد اللافظ دلالة لا تحتمل شكاً في مقصده من لفظه (¬1). ومن أجل هذا احتاج المتكلمون والمستمعون إلى الاستعانة على الفهم الصحيح بالقرائن المقالية والحالية التي تحفُّ بالكلام، وبما يقتضيه السياق في توجه الكلام، ويحدده المقام من غرض الخطاب. ولبيان هذه الحقيقة أورد الشيخ ابن عاشور صوراً من الخطاب الشرعي قصدَ إثبات تفاوت دلالتها فيما بينها، فيقول: ولذلك تجد الكلام الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بلّغه عنه مبلّغ. وهذه الصورة وإن كانت أقلّ وضوحاً وأكثر احتمالاً من الأولى، فإن ما يكون من الكلام عن طريق الكتابة هو أقل وضوحاً من الصورتين السابقتين لفقده دلالة البيان، ولغياب ملامح المتكلم عنه، وإن كانت هذه الصورة الأخيرة من الكلام أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرّف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم (¬2). وكل هذا يجب أن تُصرف فيه الجهود لتخلَص من الشك والاحتمالات، وما تقتضيه معميّات الكلام من خلط واضطراب. وإن أدقّ مقام في الدلالة وأحوجه إلى الاستعانة عليها هو مقام التشريع، لما يلزم من أعمال ما ينبغي أن يتخذ من الحيطة في هذا المحل (¬3). ¬

_ (¬1) المقاصد: 79. (¬2) المقاصد: 80 - 81. (¬3) المقاصد: 81.

فلا يلجأ بعض العلماء إلى الخطأ حين الاقتصار على اعتصار الألفاظ قصد التوصل إلى استنباط أحكام الشريعة، ويضعف اعتقادهم بأن للفظ وحده أهمية بالغة ودوراً كبيراً في الكشف عن المعنى المراد المنصوص عليه (¬1). وبالحرص الكبير على اختيار أنجع الطرق لفهم النصوص الشرعية أبطل الشيخ ابن عاشور مقالات أهل الأهواء الذين أرادوا حمل أتباعهم على الشك في مدلولات النصوص من الكتاب والسُّنة بما أذاعوه بينهم من الاحتمالات العدمية العشرة. ولفت النظر إلى ما أورده البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه من ضرورة الرجوع إلى المقام، وإلى أحوال الحرمين ومشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال المهاجرين والأنصار لفهم الحديث فهماً صحيحاً، وإبطال الشكوك والأوهام العارضة له (¬2). ومما يشهد لهذا حديثُ عاصم. قال لأنس بن مالك: "أَبَلَغَك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا حلف في الإسلام؟ قال أنس: قد حَالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار في داري التي بالمدينة". يشير بهذا إلى إبطال الحديث المروي عن أم سَلَمة، وعن جبير بن مطعم وعن ابن عباس. وفي هذا ما يحرر مقدار الاعتبار بمذاهب الصحابة فيما طريقه النقل والعمل. فقد كانوا يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عرضت لهم الاحتمالات، ويشاهدون من الأحوال ما يبصّرهم بمقصد الشارع (¬3). ولاستقصاء النظر في الأدلة وحُسن التعامل معها نبّه الشاطبي في أكثر من مناسبة إلى أن الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم ¬

_ (¬1) المقاصد: 81. (¬2) المقاصد: 82. (¬3) المقاصد: 83 - 86.

فإنها تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو مُعِينة فى طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة (¬1). ويؤكد ما ذهب إليه هنا بقوله: الأدلة المعتبرة، المستقرأة من جملة أدلة ظنيّة تضافرت على معنى واحد فأفادت فيه القطع، ذلك لأن للاجتماع من القوة ما ليس في الافتراق (¬2). ويزيد هذا تفصيلاً وبياناً بقوله: إن من الكلام ما يدل على مقصده دلالة أصلية، ولكنّه مع ذلك يحتاج إلى مكمّلات ومتمَّمات. وهذه هي الجهة الثانية من الدلالة على مقاصد الكلام. وهي تابعة للأولى مثل الوصف لها (¬3). ومضى الشيخ ابن عاشور على السَّنن نفسه في قوله، يصور النظم القرآني ونسجه: إنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها وتتدبّرها فتنهال عليك معانٍ كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي. وقد تتكاثر عليك فلا تكُ من كثرتها في حَصَر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً للبعض الآخر إن كان التركيب سمْحاً بذلك (¬4). وقال أيضاً: إن نظم القرآن مبني على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة. فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي، ولها دلالتها البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء، ولا يصل شيءٌ من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها. ويتميز نظم القرآن ببلوغه منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظاً ومعنى بأقصى ما يراد بلاغه إلى المرسل إليهم (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات: (3) 1/ 35. (¬2) الموافقات: (3) 1/ 36. (¬3) الموافقات: (3) 2/ 67 - 68. (¬4) التحرير والتنوير: 1/ 97. (¬5) التحرير والتنوير: 1/ 110.

ولكون القرآن بعموماته وديموماته جاء خطاباً إلهياً إلى الأمة قاطبة في جميع الأقطار والعصور، أُنزِل بلسان عربي للبشر؛ لأن تلك اللغة أوفر اللغات عبارة، وأقلها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرفاً في الدلالة على أغراض المتكلم. فكان القرآن جامعاً لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني في أقل ما يسمح به نظمُ تلك اللغة (¬1). وفي هذه الحقائق وأمثالها المفصّلة في التحرير والتنوير ما ينهض دليلاً على صحة ما أورده صاحب المقاصد عن مدى وفاء اللغة والاستعمالات اللغوية بما تتضمنه من معانٍ هي في حاجة إلى كمال البلاغ وتمام الإيحاء بها إلى المخاطبين. وذلك بحسب ما يحفُّ بالكلام من إشارات مقالية أو حالية. وإنا إذا ما أعدنا النظر في كلام الإمام ابن عاشور نجده متشعّباً إلى سبعة جوانب أو مسائل. واختصاراً للقول في ذلك نرد المسائل السبع التي تُستلهم من دراسته وبحثه إلى ثلاث قضايا: ° الأولى منها: تتعلّق بالخطاب، لغوياً كان أم شرعياً. ° والثانية: تتعلّق بدرجات أنواع الكلام. ° والثالثة: ترتبط بمقام التشريع، وما يتطلبّه من عمق التصور لدلالات الخطاب، تمكيناً للمجتهدين من القيام بدورهم على الوجه الأكمل. فالقضية الأولى، وهي الخطاب ودلالته، تفترض في المجال اللغوي وجود متكلم ومخاطب، وموضوع خطاب. وهي كذلك ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 1/ 98.

بالنسبة للخطاب الشرعي تقتضي وجود من يصدر عنه الخطاب وهو المشرّع، ووجود مخاطب به وهو المجتهد أو المكلف. ووجود خطاب وهو الأحكام الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية الأصولية من جعل الخطابات الشرعية الواردة بها الأدلة متنوعة بين ما هو غير واضح وهو: الخفي والمُشكل والمجمل والمتشابه. وتقابل وجوه الخفاء هذه وجوه البيان وهي: الظاهر والنص والمؤول (أو المفسَّر) والمُحكم. ونفي الاحتمالية عن النص غيرُ قائم عند علماء البلاغة. أوضح ذلك الإمام عبد القاهر الجرجاني في قوله: "اعلم أنه إذا كان بيّناً في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه، حتى لا يُشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقه وأنه الصواب، إلى فكر وروية فلا مزية. وإنما تثبت المزية ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال من الكلام وجهٌ آخر غير الوجه الذي جاء عليه ثم رأيت النفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء حسناً وقبولاً تعدِمُها إذا أنت تركته إلى الثاني (¬1). وفي قوله: الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحدَه ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة. ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. وإذ قد عرفت هذه الجملة فهاهنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول ¬

_ (¬1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الاعجاز. 286.

"المعنى" و"معنى المعنى"، تعني بالمعنى المفهومَ من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر. ومدارُ هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل (¬1). واحتمالية النص في الخطاب الشرعي غير مدفوعة بالقطع عند طائفة من الأصوليين. فهو، وإن وجب العمل به لقطعيته، يحتمل التأويل. ولا يقدح فيه ذلك ما دام الاحتمال الذي يتطرّقه غير ناشئ عن دليل. ويؤكّد هذا المعنى قول السكاكي عند تنويهه بأهمية مقام الكلمات داخل مقام المقال: ثم إذا شرعت في الكلام فلكل كلمة مع صاحبتها مقام، ولكل واحد ينتهي إليه الكلام مقال (¬2). * * * * * ¬

_ (¬1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 262 - 263. (¬2) مفتاح العلوم: 80.

الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب

الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب التفصيل والتقسيم: إبلاغ المخاطبين، بإيصال مقاصد الخطاب إليهم، لا يكون فقط باستعمال اللغة الصحيحة الفصيحة. فذلك أمر يشترك في الحاجة إليه الخاصّة وأهل المعرفة وسائر الناس. وإنما تتأكد الحاجة إلى هذه المتمّمات والمتعلّقات لدى طلاب العلم وأهل النظر العلمي والشرعي لمساعدتها لهم على الفهم الصحيح، وعلى استنباط الأحكام من الأدلة وضبطها. وقد تقدم لنا بحث قسم من هذه المتمِّمات عند عرض قضية التعليل والقياس وعند الحديث عن الاستدلال وأنواعه وأهميته، وعند بيان معنى المقام والسياق اللذين يُعتبران مجرى للخطاب، تحفّ به مختلف القرائن المقالية والحالية. وإلى جانب هذا نذكر جملة من تقريرات الإمام ومنهجه عند التعرض للقضايا الشرعية كالتفصيل والتقسيم، والضبط والشروط، والتقرير والتقعيد، والوسيلة والمقصد، والحاجة إلى إعمال النظر الشرعي. 1 - فمن هذا الباب مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتفرقة بين أنواع تصرّفاته فيها. 2 - التمييز بين مظاهر تيسير الشريعة الثلاثة: (أ) في أحكامها المعيّنة المبنيّة على التيسير في الغالب.

(ب) اعتبار ما حصل من تغيير في الأحكام الشرعية من صعوبة إلى سهولة في الأحوال العارضة للأمة أو للأفراد. (ج) بناء أحكام الشريعة على أصول مرعية من التعليل والضبط والحِكمة. فلا يقبل الصدوف عنها لما في الأحكام من مقاصد تحقق للناس النفع وتدفع عنهم الضر (¬1). 3 - تقسيم مقاصد الناس في تصرّفاتهم إلى قسمين: ° الأول: أعلاها؛ وهو عبارة عن أنواع التصرّفات التي اتفق عليها العقلاء أو جمهورهم، لما وجدوها ملائمة لانتظام حياتهم الاجتماعية. ° الثاني: أدناها. وهو الذي يقصده فريق من الناس أو آحاد منهم في تصرّفاتهم لملاءمة خاصة بأحوالهم الشخصية (¬2). 4 - تفصيل الشريعة في تعيين أصحاب الحقوق، وبيان أولويّة بعض الناس ببعض الأشياء، أو بيان كيفية تشاركهم في الانتفاع فيما يقبل التشارك على منهج فطري عادل. وجماع أصول تعيين الحقوق أحد أمرين: التكوين، أو الترجيح (¬3). 5 - تقسيم الحقوق ثلاثة أقسام: حق الله، وحق العبد، والحقان مقترنان. وهو بعد هذا يفصّل القول في تعيين أصحاب الحقوق. وقد ورد بعد استقراء الشيخ لعامة المستحقين ترتيبهُ لهم على تسع مراتب: ° الأولى: الحق الأصلي المتحقق بالتكوين وأصل الجِبِلَّة. ¬

_ (¬1) المقاصد: 355 - 356. (¬2) المقاصد: 402. (¬3) المقاصد: 410.

° الثانية: وهي قريبة من الأولى غير أنها تخالفها من حيث إن فيها شائبة من تواضع، اصطلح عليه نظام الجماعة والشريعة. ° الثالثة: أن يكون المستحق وغيره سَواء في إمكان تحصيل الحق، ولكن بعض المستوفين للحقّ قد سعى بجهد، وعمِل بيده أو بدنه، أو بابتدار إلى تحصيل الشيء قبل غيره. ° الرابعة: وهي دون الثالثة. وذلك بأن يكون الطريق إلى نوال الشيء هو الغلبة والقوة. ° الخامسة: حق السبق الذي لم يصاحبه إعمال جهد في تحصيل الحق. ° السادسة: أن يكون المستحق قد نال الحق بطريق ترجيحه على متعدّدين من المستحقين في مراتب أخرى، لتعذّر تمكين الجميع من الانتفاع بالشيء المستحق. ° السابعة: نوال الحق ببذل عوض في مقابلته يُدفع إلى صاحب الحق إرضاءً له. ° الثامنة: أن ينال الحق بعد انقراض مستحقه أقربُ الناس إليه وأولاهم بوراثته وانتقال حقوقه إليه. ° التاسعة: مجرد المصادفة دون عمل أو سعي. وهذه أضعف المراتب (¬1). 6 - بيان أصول التكسّب الذي هو معالجة إيجاد ما يسدّ الحاجة إما بعمل البدن، أو بالمراضاة مع الغير. وتعتبر تلك الأصول ¬

_ (¬1) المقاصد: 410 - 416.

الضوابط والشروط

في الاقتصاد المعاصر من أسباب التنمية وإيجاد الثروة. وهذه الأسباب أو الأصول ثلاثة: هي الأرض، والعمل، ورأس المال (¬1). الضوابط والشروط: 1 - إن ما جاء من ضبط المقاصد الشرعية، وهي المعاني الحقيقية والمعاني العرفية العامة، اشتراطَ أن يكون جميعها ثابتاً ظاهراً منضبطاً مطّرداً (¬2). 2 - لطرق الانضباط والتحديد في الشريعة بعد الاستقراء: ست وسائل: ° الأولى: الانضباط بتمييز المواهي والمعاني تمييزاً لا يقبل الاشتباه، بحيث تكون لكل ماهية خواصُّها وآثارُها المترتّبة عليها. ° الثانية: مجرد تحقّق مسمّى الاسم كنوط الحد في الخمر، ونوط صحة بيع الثمار ببدوِّ الصلاح، ونوط تقرّر إكمال المهر بمجرد المسيس، ونوط لزوم العقود بحصول صيغها من إيجاب وقبول. ° الثالثة: التقدير كنُصب الزكوات، وعدد الزوجات، ونهاية الطلاق، والنصاب عند من يشترطه في إقامة حد السرقة، وأقل المهر، والمسافة المعتبرة في انتقال ولي المحضون عن بلد الحاضنة بستة برد عند المالكية. ° الرابعة: التوقيت كمرور الحول في زكاة الأموال، وطلوع الثريَّا في زكاة الماشية، ومرور أربعة أشهر في الإيلاء ونحو ذلك. ° الخامسة: الصفات المعيّنة للمواهي المعقود عليها. ¬

_ (¬1) المقاصد: 466 - 468. (¬2) المقاصد: 165 - 168.

° السادسة: الإحاطة والتحديد كما في إحياء الموات، ومنع الاحتطاب في الحرم إلا الإذخر، وحد الحرز في إقامة حد السرقة (¬1). ومن الضبط الذي يُخرج من التيهان، ما أورده بشأن الحيل وأنواعها حيث قال: وعند صدق التأمل في التحيّل على التخلّص من الأحكام الشرعية، من حيث إنه يفيت المقصد الشرعي كله أو بعضه أو لا يفيته، نجده متفاوتاً في ذلك تفاوتاً أذى به الاستقراء إلى تنويعه إلى خمسة أنواع: ° الأول: تحيّل يفيت المقصد الشرعي كله ولا يعوّضه بمقصد شرعي آخر. ° الثاني: تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقلُ إلى أمر مشروع آخر. ° الثالث: تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلك به أمراً مشروعاً هو أخفّ عليه من المنتقِل منه. ° الرابع: تحيّل في معانٍ ليست مشتملة على معانٍ عظيمة مقصودة للشارع. ° الخامس: تحيّل لا ينافي مقصد الشارع أو هو يعين على تحصيل مقصده. فأما ما كان وارداً في آثار شريعتنا فمخارجه ظاهرهُ (¬2). 3 - إن ما تتقوّم به صفة المال الذي هو ثروة الأمة وهو خمسة أمور، هي: ¬

_ (¬1) المقاصد: 349. (¬2) المقاصد: 323 - 331.

التقرير والتقعيد

أن يكون ممكناً ادخاره، مرغوباً في تحصيله، قابلاً للتَّداوُل، محدود المقدار، مكتسباً (¬1). التقرير والتقعيد: ومما يرفع اللبس ويزيل الوهم والشك كون: 1 - الأعمال كلها منوطةً بأسباب، والأسباب ما جُعلت أسباباً إلا لاشتمالها على الحِكم والمصالح التي ضبطها الشرع بها. فإذا كان العمل مسلوباً من الحِكمة التي روعيت في سببه كان فعله خليّاً من الحِكمة التي لأجلها جُعل مسبباً على سببه (¬2). 2 - إقرار أئمة الشريعة، من عهد الصحابة فما بعد، الأحكامَ الشرعية المتلقاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها. وهي وحي من الله تعالى. 3 - تشديد النكير على القول بالرأي غير المستند إلى أحد الأصول الثلاثة: الكتاب، والسُّنة، والإجماع. وذلك لما يلاحظ فيه من انفصال بل انقطاع عن البرهان الشاهد بصحّته. 4 - أقرّت الشريعة مسلكين لبناء الآراء المستنبطة في الأحكام، هما: ° مسلك الحَزم في إقامة الشريعة بالترهيب والموعظة. ° مسلك التيسير والرحمة لابتناء الشريعة على سهولة قبولها في النفوس (¬3). 5 - لا ينتزع الحق من صاحبه إلا لضرورة تقيم مصلحة عامة (¬4). ¬

_ (¬1) المقاصد: 461 - 463. (¬2) المقاصد: 321. (¬3) المقاصد: 350 - 355. (¬4) المقاصد: 419.

الأسباب

وفي مقاصد التصرّفات المالية: 1 - نفى أن يكون المال منظوراً إليه بعين الشريعة إغضاء، واعتباره غير لاقٍ من معاملتها إلا رفضاً. 2 - الجانب الروحاني من الشريعة يقتضي جعل انصراف الهمة إلى الفضائل النفسانية والكمالات الخُلقية في الدرجة الأولى من التقدير. 3 - الشريعة لم تنهَ الناس عن اكتساب المال من وجوهه المعروفة، مبيّنة ما في وجوه صرفه من المصالح والمفاسد ترغيباً وترهيباً، مقررة مجازاة أصحاب الأموال على ما يحصل لهم من الفضائل والدرجات بسبب أموالهم، إن هم أنفقوها في مصارفها النافعة (¬1). الأسباب: هي الطرق إلى معرفة علل الأحكام واتضاحها لدى المخاطبين. نلمس هذا في: ° فسخ النكاح في مرض الموت لكونه وسيلة إلى مقصد حفظ حقوق الميراث. ° سقوط حق الحضانة عن الحاضنة عند تزوجها من أجنبي (¬2). ° إقامة أمناء على أصحاب الحقوق أو المصالح المشتركة (¬3). ° سلب الحق ممن تبيّن أنه غير أهل له. ¬

_ (¬1) المقاصد: 454 - 456. (¬2) المقاصد: 406. (¬3) المقاصد: 418 - 515.

إعمال النظر الشرعي طلبا لتحديد الأحكام

° سلب الحق ممن لا تساعده الخلقة على نواله. ° سلب حق الجهاد من النساء. ودليله {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} (¬1). ° سلب الحق لأجل ترجيح جانب من المستحقين إياه على جانب آخر. ° سلب المعتوه حق التصرّف في المال. ° سلب السفيه حق التصرّف في المال (¬2). ومن المتممات ما يتصل بذات الخطاب لما يقتضيه الأمر من إضافة أو تعميم أو تخصيص أو تقرير ونحوه. ومنها ما يرجع إلى موضوع الخطاب. وهو أمر يحتاج في ذاته إلى الانتباه والدقة وإلا اختلطت على المخاطب سبل البيان، والتبست عليه الحقائق والصور المراد إبلاغها إليه. فلا تكون في هذه الحال خالية من التردّد والإيهام والاضطراب. ويترتب على وجوب معرفة المقاصد والوسائل والتفريقِ بينها، انتفاء الالتباس، بارتباط الوسائل بمقاصدها. إعمال النظر الشرعي طلباً لتحديد الأحكام: يكون هذا بالعودة إلى ما تقتضيه القواعد والأصول والمصالح لتقرير ما يكون القضاء به جارياً على وفق تلك الأسس، يدعَم هذا المنهج سلوك المجتهد فيما اعتمده من أنظار لبناء الحكم. وهذا ما ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 32. (¬2) المقاصد: 418 - 419.

ينبغي أن تقام عليه الفتوى وقرارات المجامع الفقهية، فإن لم يتسنَّ ذلك فإن تصرفاته يمكن أن تعتمد مسالك أخرى: 1 - فمن واجب الفقيه عند تحقق أن الحكم تعبدي أن يحافظ على صورته، وألا يزيد في تعبّديتها كما لا يضيع أصل التعبّدية. وهذا ما اقتضى، في صدر الإسلام في زمن عمر - رضي الله عنه -، النظر في قضية العول في الميراث (¬1). 2 - سلوك بعض الصحابة والأئمة مسلك النظر إلى الحالة التي هي مورد النهي كما في حديث رافع بن خديج في كراء الأراضي. فقد احتُكِم في ضبطها إلى عدة آراء منها رأي ابن عمر، ورأي ابن عباس الذي أورده البخاري في كتاب المزارعة من صحيحه (¬2)، ورأي الليث بن سعد. وهكذا أخضعها بعضهم إلى ما كان عليه الأمر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدر الخلافة الراشدة. وتردد آخرون بين النهي وبين الإقرار على هذا التصرف، وقالت طائفة بعدم جواز ذلك للمخاطرة. 3 - عند اختلاط الأمر على الناس في حال نظرهم إلى المصالح المتعددة التي لا يمكن تحصيل جميعها، وإلى المفاسد المتعددة التي لا يمكن درء جميعها، نقل عن العز بن عبد السلام تنبيهه إلى طريق الحَلِّ، بقوله: تقديمُ أرجحِ المصلحتين هو الطريق الشرعي، أو درء أرجح المفسدتين كذلك (¬3). وقد تعرض الإمام ابن عاشور إلى المقاصد من مصالح ومفاسد، ولجأ في كتابه أحياناً كثيرة إلى اعتماد أمثلة تطبيقية لنظريته ¬

_ (¬1) المقاصد: 153 - 155. (¬2) خَ: 3/ 71. (¬3) تساوي المصالح مع تعذر جميعها. القواعد: 1/ 88 - 90.

الاستدلال

أو إلى ما يُتَّجَه إليه من آراء فيها. وهذه الأمثلة تبرز في جملة من المسائل العامة والمسائل الفقهية. وكان طريقه إليها الاستقراء. الاستدلال: ومما يعتمده الخطاب الشرعي الاستدلال. ومعناه لغة: طلب الدليل، وهو يُطلق عند الأصوليين أولاً على إقامة الدليل مطلقاً من نص أو إجماع أو غيرهما، وثانياً على نوع خاص منه، وهو ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس. والأصح في تعريف هذا النوع الثاني من الدليل أنه: ما يستلزم الحُكم ويُقضى به. وهو وجود السبب الخاص أو وجود المانع أو عدم الشرط المخصوص. وقد اختلفوا فيه لأنه إما عبارة عن التلازم بين الحكمين من غير تعيين علّة وإلا فهو قياس، وإما استصحاب الحال، وإما شرع مَن قبلنا. واعتبر الحنفية من ذلك الاستحسان، وأطلقه المالكية على المصالح المرسلة. وقيل هو انقضاء الحكم لانتفاء مدركه. وقال البزدوي في تعريفه: الاستدلال هو انتقال الذهن من الأثر إلى المؤثر ويحتمل العكس، وقيل مطلقاً. وبجانب هذا الموضوع الواسع الدقيق الذي نجد إفاضة القول فيه وتفصيلَه في مظانه، تتعين هنا الإشارة إلى مسألة أخرى لها أهميتها في استخدام النصوص الشرعية والاستنباط منها. ذلك أن دلالة اللفظ على معناه تتنوع إلى دلالة مطابقة ودلالة تَضَمُّن ودلالة التزام. والاستدلال يكون بعبارة النص، وبإشارته، وبدلالة النص وباقتضائه (¬1). ¬

_ (¬1) التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون: 496 - 498.

وعبارة النص هي دلالة اللفظ على المعنى، أو الحكم المقصود من سوقه أو تشريعه أصالة أو تبعاً. ويعرف قصد المشرع أو المتكلم بالقرائن الخارجية، أو من سياق النص نفسه، أو من سبب النزول. وتشمل عبارة النص أنواعَ النصوص الواضحة جميعها من ظاهر ونص ومفسر ومُحكم كما قدمنا. كما تشمل أيضاً المعنى اللازم الذاتي المتأخر. ولعل من الأوضح أن نعرّف عبارة النصّ بدلالة اللفظ على المعنى الموضوع له أو على جزئه، أو على لازمه الذاتي المتأخر، مع قصد الشارع أو المتكلم هذا المعنى وسوقه الكلام لأجله (¬1). وإشارة النص هي دلالة اللفظ على معنى أو حكم غير مقصود للشارع، لا أصالة ولا تبعاً، لكنه لازم عقلي ذاتي متأخر للمعنى الذي سيق أو شُرع النص من أجله (¬2). ودلالة النص هي أن يُفهِم نفسُ اللفظ ثبوتَ حكم الواقعة المنطوق بها لواقعة أخرى غير مذكورة لاشتراكهما في معنى، يدرك العالِم باللغة أنه العلّة التي استوجبت ذلك الحكم. وفرق أساسي بين هذه العلّة في دلالة النصّ، والعلّة التي يرتبط بها القياس. فالعلّة الأولى بيّنة واضحة تفهم من اللغة، يستوي في إدراكها المجتهد وغيره من أهل العلم باللغة، أما العلّة في القياس فهي تحتاج إلى الاجتهاد بالرأي لخفائها. ولا بد من التزام مسالك العلّة المقررة في منهج القياس في استنباطها (¬3). والاقتضاء عند الأصوليين هو دلالة اللفظ على معنى مقدّر لازم ¬

_ (¬1) خلّاف. علم أصول الفقه: 144. (¬2) الدريني. المناهج الأصولية: 229. (¬3) الدريني. المناهج الأصولية: 251.

للمعنى المنطوق متقدمٍ عليه، مقصودٍ للمتكلم، يتوقّف على تقديره صدق الكلام أو صحّته عقلاً أو شرعاً. والعناصر التكوينية لدلالة الاقتضاء ثلاثة: هي النص أو الكلام الذي يستلزم معنى مقدراً ومقدماً على المعنى المعياري المنطوق. وهو المعروف بالمقتضي، والمقتضى وهو المعنى الضروري المقدّر مقدّماً الذي يطلبه الكلام لتصحيحه. والاقتضاء هو استدعاء المعنى المنطوق نفسِه لذلك المقدّر لحاجة إليه (¬1). والاقتضاء عند البزدوي: دلالة الكلام على معنى هو لازم متقدم، توقّف على تقديره صحته شرعاً (¬2)، والتعريف الأول أوسع من المتأخر. ويضاف إلى هذين الطريقين (الاقتضاء ودلالة الكلام) من الاستدلال ما نص عليه الأصوليون من الأدلة المقبولة. وهى ستة: ° الأول: أن الأصل في المنافع الإباحة. ° الثاني: أن الباقي راجح على عدمه، وإذا كان راجحاً وجب العمل به اتفاقاً. ° الثالث: الاستقراء. ° الرابع: الأخذ بأقل ما قيل. واعتمده الشافعي في إثبات الحكم إذا كان الأقل جزءاً من الأكثر. ° الخامس: المناسب المرسل إن كانت المصلحة ضروريّة قطعيّة كليّة اعتبر، وإلا فلا. وقال مالك باعتباره مطلقاً؛ لأن اعتبار المصالح يوجب ظن اعتباره. ¬

_ (¬1) الدريني. المناهج الأصولية: 226 - 278. (¬2) كشف الأسرار: 1/ 57.

المقام والسياق

° السادس: فقدان الدليل بعد التفحّص البليغ يغلب ظنّ عدمه، وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل. وكل هذه الآليات، التي يتوصّل بها إلى معرفة معنى النصّ، وحُكمِه في عمومه وخصوصه وإطلاقه وتقييده، لا تغني وحدها عما ينبغي أن يَأخذ به المجتهدون من مناهجَ تُوجَّهُهُم، وتسلك بهم سبل الحق، ليتبيّنوا حكمة التشريع التي تميّزت بها الأحكام في الإسلام، وليقفوا على قِيمه العليا، وليدركوا من أسرار التشريع ما هم مطالبون به من تحقيق العدل ومراعاة المصالح الحقيقية المعتبرة شرعاً. وذلك استناداً إلى الدلالات الأربعة وما ثبت بها من أحكام عن طريق المنطوق. ولا نستثني من طرق الاستدلال مفهوم المخالفة لأنه من طرق إثبات الأحكام واستثمار النصوص، كيف وهو عبارة عن دلالة المنطوق على ثبوت خلاف حكمه المقيّد بقيد، لغير المنطوق عند انتفاء ذلك القيد المعتبر في تشريعه (¬1). والاستدلال الذي هو من وظيفة الأصوليين يُعتَدُّ به لديهم إلى حد كبير. فهو موضوع علمهم، ومدارُ بيان الخطابات الكثيرة الصادرة عن الشارع. وليس في متناول كل الناس التوصل إلى معرفة ذلك، أو إدراك ما تنتجه تلك المعرفة من إفادات شرعية يُطمأن إليها. فهم لذلك يعتمدون كل الاعتماد على العلماء يكشفون لهم معانيَها ويصورون أغراضها. المقام والسياق: يتصل بهذه الدلالات بحث موضوعي المقام والسياق. فقد عُني ¬

_ (¬1) الدريني. المناهج الأصولية: 315 - 316، 324.

الشيخ ابن عاشور بهما، لما لهما من أثر في استحضار الظروف والملابسات التي تحفّ بخطاب الشارع. فالمقام هو محلُّ القيام، ويطلق على المكان المعدود لأمر عظيم، كما في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬1). وهو في الغالب لا يكون إلا لأجل العمل فصرفت دلالة هذا اللفظ إلى العمل نفسه، يشهد لذلك قوله تعالى، على لسان نوح - عليه السلام -: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} (¬2). والأصل فيه لغة: الدلالةُ على الموضع أو المكان الذي يصدر عنه الناس في أقوالهم وأحوالهم وتصرّفاتهم. وهو بهذا مورد الكلام عندهم. وقد حمل المرادُ من المقام قسماً من الباحثين على ملاحظة وجود نوعين له: الأول منهما: المقام الذي ينظر فيه إلى الزمن والمكان المصادر فيه الخطاب. والثاني: وهو لبابُ علمَي المعاني والبيان؛ لأن مداره الخطاب، يقوم على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب في ذاته، وأحوال المخاطِب والمخَاطَب. ويتّضح مما قدّمناه ما نلمسه من تساوق بين ألفاظ الخطاب، ومن اشتراك وتكامل بين المقامات يعين على التوصّل إلى تحديد معنى الخطاب. وكلمة (سياق) أخصّ دلالة من كلمة (مقام)؛ لأن المقام - كما أشرنا إلى ذلك أعلاه - نوعان. ولفظ (سياق) لا يعني غير المقام المقالي ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬2) سورة يونس، الآية: 71.

للخطاب. وهو عنصر فعال في توجيه الخطاب صوب مقصد الشارع منه، كما أن من وجوه أهميته رفع التعارض الظاهر بين ألفاظ الخطاب (¬1). ويلاحظ من الفصل السادس والسابع من القسم الأول من كتاب مقاصد الشريعة الاهتمام الفائق بمقام التشريع، وتصويره أقوالَ وأفعالَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادرةً عن مقامات مختلفة استُدرِك بها على القرافي في فروقه. وقد أورد الشيخ ابن عاشور أمثلة لذلك في الفصلين المذكورين. قدم لها بقوله: ولقد أحببت أن أمثّل في هذا المبحث بأمثلة كثيرة يتجلّى بها للناظر مقدار اعتبار سلف العلماء لهذا الغرض المهم. وفيه ما يعرفك بأن أكثر المجتهدين إصابة، وأكثرهم صواباً هو المجتهد الذي يكون نجاحُه في ذلك بقدر غَوصِه في تطلب مقاصد الشريعة (¬2). ولأجل هذا يتأكد التنبيه على اختلاف المدارك بين المتلقّين للخطاب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبين المجتهدين في اعتمادهم على ذلك في استنباط الحُكم الشرعي وتحريره، أو في بيان أي غرض آخر. ومن أمثلة ذلك: حديث جابر بن عبد الله وأبي هريرة ورافع بن خديج فيما رووه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه". وفي هذا منعٌ لكراء الأرض للفلاحة ونحوها. وقد خالف في ذلك عبد الله بن عمر. وفاوضَ فيه رافع بن خديج، واستشهد بما كان منه في ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء الراشدين وصدراً من خلافة معاوية من غير نكير. لكنه خشي ¬

_ (¬1) إسماعيل الحسيني. نظرية المقاصد: 342. (¬2) المقاصد: 66.

أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحدث في ذلك شيئاً لم يكن يعلمه فترك كراء الأرض. ومما يؤكد موقف ابن عمر هنا ما رواه طاوس عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه. ولكنه قال: أن يمنح أحدكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ شيئاً معلوماً. وجرى على هذا البخاري في صحيحه في الباب الذي عقده بعنوان "ما كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً في المزارعة والثمرة". ووقف مثل موقف ابن عمر من هذا الحديث ظهير بن رافع في قوله: لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان بنا رافقاً (¬1). ويوضح اختلاف المدارك في فهم النصوص ما كان من لوم عبد الله بن مسعود لخبَّاب بن الأرتّ، وقد جاء إليه وفي أصبعه خاتم من ذهب. قال ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن يُنزع. فقال خباب: أما إنّك لن تراه بعد اليوم. فقال العلماء: وكان خبَّاب يرى نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن لبس خاتم الذهب نهيَ تنزيه لا نهي تحريم. وهذا سبب محاورة ابن مسعود له في نزعه، وأجاب خبابُ ابنَ مسعود إرضاء له. ولم يكن فيما نحسب خلف بين الرجلين؛ لأن ابن مسعود لو كان يرى حرمة ذلك لكان تغييره عليه بلهجة تغيير المنكر (¬2). ومن هذا الحديث الذي أخرجه مالك في موطئه وقد تقدّم (¬3): "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيعَ الخيار". فالإمام مالك رغم إثباته الحديث في مصنَّفه علّق عليه بقوله: وليس لهذا عندنا حدّ محدود ولا أمر معمول به فيه. ووجهه عنده حمل الافتراق على الافتراق بالقول. وهو صدور صيغة البيع دون القبول (¬4). ¬

_ (¬1) المقاصد: 66 - 68. (¬2) المقاصد: 71. (¬3) انظر: 162. (¬4) المقاصد: 71، 72.

ومن الأمثلة لبعض هذه الحالات حديث: "من قتل قتيلاً فله سلَبه". اختلف العلماء هل هذا تصرّف بالإمامة. فلا يستحق سلب المقتول إلا أن يقول له الإمام ذلك. ورآه الشافعي تصرّفاً بالفتوى فلا يحتاج إلى إذن الإمام. وخالف الإمام مالك ما ذهب إليه الشافعي لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬1). وهذه الآية جَعَلت في السَلب: الخُمس لله وبقيته للغانمين. والآية مقدمة على الحديث، ولأنّ إباحة السَلب للقاتل بدون إذن الإمام تفضي إلى فساد الأخلاق (¬2). وقد حملت هذه الاجتهادات الشيخ ابن عاشور على القول بفتح مشكاة تضيء مشكلات كثيرة، لم تزل تعنت الخلق وتُشجي الحلق. وكان الصحابة يفرّقون بين ما كان من أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادراً في مقام التشريع، وما كان منها صادراً في غير مقام التشريع. وإذا أشكل عليهم أمرٌ سألوا عنه (¬3). وعقّب المؤلف على هذا بقوله: أما حال الإمارة فأكثر تصاريفه لا يكاد يشتبه بأحوال الانتصاب للتشريع إلا فيما يقع خلال أحوال بعض الحروب مما يحتمل خصوصية كالنهي عن أكل لحوم الحُمر الأهلية في غزوة خيبر (¬4). وللمقام في مجال التأويل والاجتهاد فوائد كثيرة معتبرة: منها رفع الاحتمالات الكثيرة التي يثبت بالنظر معارضتها للخطاب. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 21. (¬2) المقاصد: 95 - 96. تع 1. (¬3) المقاصد: 96 (¬4) المقاصد: 108.

ومنها التوصّل عن طريق سياق الخطاب إلى الوقوف على العلّة التي قصدها الشارع، والتي يمكن أن تناط بها الأحكام غير المنصوصة. وقد ذكر الغزالي من هذا القبيل ما آذن به سياق آية الجمعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬1). فالآية ما نُزّلت لبيان أحكام البياعات ما يحل منها وما يحرُم. فالتعرض للبيع لأمر يرجع إلى البيع في سياق هذا الكلام يخبط الكلام ويخرجه عن مقصوده، ويصرفه إلى ما ليس مقصوداً به. وإنما يحسن التعرض للبيع إذا كان متعلقاً بالمقصود، وليس يتعلق به إلا من حيث كونه مانعاً للسعي الواجب. وغالب الأمر في العادات جريان التكاسل والتساهل في السعي بسبب البيع. فإن وقت الجمعة يوافق الخلق وهم منغمسون في المعاملات. فكان ذلك أمراً مقطوعاً به لا يُتمارى فيه. فعُقل أن النهي عنه لكونه مانعاً من السعي الواجب. فلم يقتض ذلك فساداً، ويتعدّى التحريم إلى ما عدا البيع من الأعمال والأقوال وكل شاغل عن السعي لفهم العلّة (¬2). ولتحديد الغرض الحقيقي من نصوص الكتاب ومن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعين التفريق بين ما هو غير مقصود، أو ما لا يتوَفَّر فيه القصد كالنوم والإغفاء والزلة، أو كونه صادراً عن الجِبِلّة والطبع. فهذا غير ملزِم ولا يوجب حكماً. وبين ما هو متضمن لقصد الشارع وهو على قسمين: ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬2) الغزالي. شفاء الغليل: 51 - 52.

أحدهما: لا يفيد حكماً بسبب ما ورد فيه من مقامات غير تشريعية كأحوال الوعظ والترغيب والترهيب. وثانيهما: ما قام على التشريع بدون شك كأحوال القضاء والفتوى والإبلاغ. فهذه تدل على الأحكام التي على المخاطبين بالشريعة الالتزام بها. وينظر هذا إلى ما عناه الشيخ ابن عاشور من قوله: على العالِم، المتشبع بالإطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها، أن يفرّق بين مقامات خطابها. فإن منها مقام موعظة وترغيب وترهيب وتبشير وتحذير، ومنها مقام تعليم وتحقيق. فيردّ كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق، ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المماذق. فلا يحتج أحد بما ورد في إثبات أوصاف الموصوف، وإثبات أحد تلك الأوصاف تارة، في سياق الثناء عليه ... فإذا عرضت لنا أخبار شرعية، جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير أو التحريض، لم تكن دليلاً على كون حقيقة أحدهما مركبة ومقوّمة من مجموعهما. فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي، أو بسياق التعليم والتبيين. فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة، ناشئة عن قلة تأمل وإحاطة بموراد الشريعة وإغضاءٍ عن غرضها، ويؤول إلى تكفير جمهور المسلمين وانتقاض الجامعة الإسلامية، بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء، بل يكون حُكمه في المسألة كحُكم فتاة الحي (¬1). ولا شك في أن ما يتوصل به إلى معرفة المقام وتحديده هو ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 1/ 273 - 274.

القرائنُ القولية والحالية مما يشهد لذلك المقام بكونه تشريعياً أو غير تشريعي. وعلى الدارس أن يكون ذا اعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب. فذلك هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها. وفهمُ الخطاب على الوجه الدقيق الكامل هو المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداء. وكثيراً ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسُّنة فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتَستَبهِمُ على الملتمس وتستعجمُ على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير مَعمل، ومشيه على غير طريق. والله الواقي برحمته (¬1). والطريق العلمي العملي الناجع لمعرفة مقاصد الشريعة وضَبطها عند الشيخ ابن عاشور هو الاستدلال والاستقراء وإعمال النظر الشرعي لكون الشرع عندنا مفيد للعقل في توجّهاته. قال الشاطبي في بداية مقدمته العاشرة: إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً ويتأخر العقل فيكون تابعاً. فلا يُسرَّح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يُسَرِّحُه النقل (¬2). وللعقول قوى تستن دون مدى ... إن تعدها ظهرت بينها اضطرابات وإنا لنجزم بأن الشيخ ابن عاشور قد اعتمد هذه الأدلة كلها وبخاصة ما وقع التعريف به منها أولاً. وذلك في أكثر كتبه ومؤلفاته العلمية. وإذا كان كتابه مقاصد الشريعة الاسلامية قد وضع أساساً للتعرف على مقاصد الشريعة فإن الإمام، بحكم ما أخذ به نفسه من تقريرات وتتميمات وتقسيمات وتفاصيل وضوابط وغيرها، كان دائماً ¬

_ (¬1) الشاطبي. الموافقات: (3) 2/ 87، 88. (¬2) الموافقات: (3) 1/ 87.

في حاجة أكيدة إلى الاستدلال. نجد ذلك مبثوثاً في تفسيره التحرير والتنوير، وفي النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح، وفي كشف المغطى من المعاني والألفاظ في الموطأ، وكتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. وربما وجدناه يؤكد هذه الاستدلالات كلما تطرق إلى الموضوع نفسه أو عاد إلى تناوله من جديد في أحد كتبه أو مقالاته، ملخِّصاً مرة، ومستدركاً أخرى ما يعِنّ له من الاستدلال لبعض المعاني أو الاستعمالات أو المقاصد. والشيخ الإمام كغيره من علماء الشريعة كان يشعر بالحاجة الأكيدة إلى الاستدلال على الأحكام الشرعية التي أقرّها السلف الصالح أو المجتهدون أو الفقهاء، وهو يعتمد كثيراً على علمي الأصول والمقاصد. ذلك أنهما متشاكلان ومستحوذان على اتجاهه في تحريراته وتقريراته. فكانت استدلالاته راجعة إلى مقاصد الشريعة التي جاء بها الخطاب الشرعي، وإلى المقاصد التي دل عليها أئمة الفقه عند استنباطهم الأحكام الشرعية. وموضوعات النظر كانت لديه فسيحة جداً تتناول قضايا العبادات بأنواعها، ومباحث الأطعمة والذبائح ما كان منها على الإباحة وما ورد فيها من نهي أو تحريم أو رخصة، وخص ببيانات دقيقة جداً موضوعات الأسرة وأواصرها وضبط التصرّفات الزوجية، ثم الطلاق والظهار والإيلاء والوصايا. ولم يَغفل، بحكم ارتباطه بنصوص القرآن والسُّنة، عن دراسة المعاملات المالية ومعاملات الأبدان، وما تولد عنهما من أنظار في مسائل عدة، كما عني بوجه خاص بمقاصد الشريعة في تلك التصرّفات، وما يرتبط بها من قضايا عامة وخاصة، ومن تعليل للممنوعات، وما يتصل بها من أحكام. ولم تكن النصوص كما هو معلوم مقصورة على الجوانب

الاستقراء

الفقهية التي وقف عندها كثيراً، بل تجاوز نظره في ذلك إلى العناية بجملة من المسائل الشرعية، وبما له صلة بسياسة الفرد والجماعة كأحوال الأمة في مختلف مجالات الحياة. الاستقراء: هو لغة: من (استقرأ). ويُطلق عند الأصوليين بإزاء معنيين: 1 - تصفّح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات. 2 - الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئيات، بناء على ثبوته في الأمر الكلي لتلك الجزئيات. وهذا المسلك الاستدلالي منه ما يوصف بالتام ومنه ما يعرف بالناقص. فالاستقراء التام عبارة عن إثبات الحكم في كل جزئيّ لثبوته في الكلّي. ويسمّى هذا النوع من الاستقراء بالقياس المنطقي. وهو يفيد القطع لأن الحكم إذا ثبت لكل فرد من أفراد شيء على التفصيل، فهو لا محالة ثابت لكل أفراده على الإجمال. ومثال هذا النوع من الاستقراء "لا صلاة إلا بطهارة" مطلقاً، لأن الصلاة إما أن تكون فرضاً أو نافلة. وأيّهما كانت فلا بد أن تكون مع الطهارة. فكل صلاة لا بد أن تكون مع الطهارة. وهذا الاستقراء معتمد في القطعيات من الأحكام الشرعية. والاستقراء الناقص يكون بإثبات حكم في كلّي لثبوته في أكثر جزئياته. ويعرف هذا بإلحاق الفرد بالأعم الأغلب. ويختلف فيه الظنّ باختلاف الجزئيات. فكلما كانت أكثر كان الظنّ أغلب. ويكثر هذا في الفقهيات. وعليه مبنى جلُّ أحكام الفقه الإسلامي (¬1). ¬

_ (¬1) د/ قطب مصطفى سانو. معجم مصطلحات أصول الفقه: 60 - 61.

وتعرض لهذين القسمين التام والناقص محمد باقر الصدر. فجَعَل التام عبارة عن انتقال الذهن من الحكم على جميع الجزئيات إلى الحكم على كليِّها. ولا بد فيه من تصفّح جميع الجزئيات ليحكم بما ثبت لجميعها بثبوته للأفراد التي وجدت فعلاً للمعنى الكلي؛ لأن الأفراد التي لم توجد بعد، وبالإمكان ألا توجد يمكن أن يشملها الاستقراء، وما دام عاجزاً عن فحص هؤلاء فلا يمكن للاستقراء أن يؤدّي إلى تعميم كلّي يشمل الأفراد الممكنة للكلّي جميعاً .. وبذلك يخرج الاستقراء عن كونه كاملاً. واعتبر الاستقراء ناقصاً إذا كان انتقالُ الذهن من الحكم على الجزئيات إلى الحكم على الكلي. وهو استدلال معرض للاختلال لاحتمال سقوطه بعدم استقراء جزئية واحدة (¬1). وبحسب ما ذكره علماء المنطق يظل الاستقراء ناقصاً مهما علت درجته اليقينية. فصدقه مؤقَّت ومعرّضٌ للمراجعة. ووصفه محمود زيدان بقوله: هو ليس برهاناً، وليست نتائجه يقينية ولا احتمالية، وإنما هو عبارة عن الدرجة العليا من التصديق (¬2). هذا وقد حمل أكثر الأصوليين الاستقراء عندهم على الاستقراء الناقص. وهو ما ذهب إليه ابن السبكي (¬3). وعنى ذلك الرازي بقوله: الاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في كلي لثبوته في بعض جزئياته (¬4). وعرفه القرافي بقوله: هو تتبع الحكم في جزئياته على ¬

_ (¬1) الأسس المنطقية للاستقراء: 14، 19. (¬2) الاستقراء والمنهج العلمي: 133. (¬3) الإبهاج: 3/ 174. (¬4) المحصول: 2/ 577.

حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة. وعليه اعتمد الشيخ ابن عاشور، وبه أخذ (¬1). وقد تعدد اعتماد صاحب المقاصد على الاستقراء بعد بذله الجهد في تتبع ما جرت به الأحكام الفقهية. وبث في تأليفه صوراً منه، نذكر منها إشادتَه به في قوله: إن استقراء أدلة كثيرة من القرآن والسُّنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطةٌ بحِكمٍ وعللٍ راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد (¬2). وكذلك في فصل احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة. يقول المؤلف: ألا ترى أنهم لما اشترطوا أن العلّة تكون ضابطاً لحكمةٍ كانوا قد أحالونا على استقراء وجوه الحِكم الشرعية التي هي من المقاصد (¬3). ولبيان طرق التوصّل إلى تلك المقاصد يصرّح بأن أعظمها استقراءُ الشريعةِ في تصرّفاتها. وهذا نوعان: أعظمهما استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآيلُ إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلّة. فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة (¬4). وثانيهما طريق استقراء أدلة أحكام اشتركت في علّة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلّة مقصدٌ مرادٌ للشارع (¬5). ¬

_ (¬1) التنقيح. (حاشيته التوضيح): 2/ 244. (¬2) المقاصد: 37. (¬3) المقاصد: 48. (¬4) المقاصد: 56. (¬5) المقاصد: 59.

وكان علماء السلف يتقصَّون بالاستقراء مقاصد الشريعة من التشريع (¬1). وبجانب الاستقراءات المعرّف بها اصطلاحاً ودلالة، مواضع نظر أو عمل. نلاحظ اطراد اعتماد المؤلف على هذا الصنف من الأدلة، وهو يرجع إليه في إثبات العديد من الحقائق. كما يتضح لنا ذلك في نحو ستة عشر فصلاً من كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية. ومواضع الاستقراء عنده في مصنّفه كثيرة: منها اهتداءاته في الانضباط والتحديد في الشريعة قائلاً: وقد استقريت من ذلك ست وسائل (¬2). وإننا استقرينا الشريعة فوجدناها لا تراعي الأوهام والتخيّلات، وتأمر بنبذها. فعلمنا أن البناء على الأوهام مرفوض في الشريعة إلا عند الضرورة، فَقَضَينا بأن الأوهام غير صالحة لأن تكون مقاصد شرعية (¬3). وفي حديثه عن جزئيات المصالح التي قد يتطرق إليها الاحتمال، يذكر أدلة أصول أقيسة المصالح والعلل وصحّة المشابَهة فيها، معقباً على هذا بقوله: هذه مطارق احتمالات ثلاثة، بخلاف أجناس المصالح. فإن أدلة اعتبارها حاصلة من استقراء الشريعة قطعاً، أو ظناً قريباً من القطع، وإن أوصاف الحكمة قائمة بذواتها غير محتاجة إلى تشبيه فرع بأصل، وإنها واضحة للناظر فيها وضوحاً متفاوتاً لكنه غير محتاج إلى استنباط ولا إلى سلوك مسالكه (¬4). وبعد إيراده عدداً من الآيات والأحاديث [الصحيحة] نبه على ¬

_ (¬1) المقاصد: 66. (¬2) نوط التشريع بالضبط والتحديد. المقاصد: 346. (¬3) الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية. المقاصد: 172. (¬4) أنواع المصالح المقصودة من التشريع. المقاصد: 248.

تنوع الأحكام بين التعبدي والمعلل

أن مثل هذا الاستقراء يخول للباحث أن يقول: إن من مقاصد الشريعة التيسير؛ لأن الأدلة المستقراة في ذلك كله عموماتٌ متكرّرة، وكلُّها قطعيّة النسبة إلى الشارع لأنّها من القرآن وهو قطعي المَتن (¬1). تنوُّع الأحكام بين التعبّدي والمُعلَّل: وبهذه المناسبة فرّق الشيخ بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات بما انتهى إليه استقراؤه لجميعها قائلاً: قد تتبعت تفاريع الشريعة في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوجدت معظمها في أحكام العبادات، حتى إنك لتجد أبواب العبادات في مصنّفات السُّنة هي الجزءَ الأعظم من التصنيف بخلاف أبواب المعاملات. وذلك لأن العبادات مبنية على مقاصد قارة، فلا حرج في دوامها ولزومها للأمم والعصور إلا في أحوال نادرة تحت حكم الرخصة. وأما المعاملات فبحاجة إلى اختلاف تفاريعها باختلاف الأحوال والعصور. فالحمل فيها على حكم لا يتغيّر حرج عظيم على كثير من طبقات الأمة. ولذلك كان دخول القياس في العبادات قليلاً نادراً، وكان معظمه داخلاً في المعاملات (¬2). ونجد أحكام المعاملات في القرآن والسُّنة مسوقة غالباً بصفة كلية وبعد أن فصّل الله تعالى أحكام المواريث، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تولّى قسمة الفرائض بنفسه. وهذا طرف من حديث مرسل. وقد جاء بلفظ: إن الله تعالى لم يكل قَسم مواريثكم إلى نبي مرسل ولا إلى ملك مقرّب، ولكن تولّى قسمتها بنفسه، أو تولّى بيانها فقسمها أبيَن قسم (¬3). ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية. المقاصد: 145. (¬2) من مقاصد الشريعة تجنبها التفريع في وقت التشريع. المقاصد: 338. (¬3) إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم. العذب الفائض شرح عدة الفارض: 1/ 8؛ =

وتفاريع الشريعة في المعاملات على مقصدين: تارة يكون لمقصد حمل الناس على حكم مستمر مثل تحريم الربا، وتارة يكون قضاء بين الناس. فيكون الفرع المقضي به بياناً لتشريع كلي. وقال أئمة أصول الفقه: إن لم ينص الشارع في الفرع الفقهي بشيء، فأصل ما هو مضرة أن يكون حكمه التحريم، وأصل ما هو منفعة أن يكون حكمه الحِل (¬1). وهذه القاعدة التي أدى إليها استقراء أحكام الشريعة نجدها عند الزركشي. فهو يقول في حديثه عن الأدلة فيما بعد ورود الشرع: إن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع (¬2). وإن استقراء مقصد الشريعة في النسب أفادنا أنها تقصد إلى نسب لا شك فيه ولا محيد به عن طريق النكاح بصفاته الشرعية الإسلامية التي قررنا (¬3). ولقد استقريت ينابيع السُّنة في المعاملات البدنية على قلة الآثار الواردة في ذلك، وتتبعت مرامي علماء سلف الأمة وخاصة علماء المدينة في شأنها، فاستخلصت من ذلك أن المقاصد الشرعية فيها ثمانية (¬4). ويمكن أن نلحق بهذه الشواهد الدالة على الاستقراء صوراً أخرى منها: أنه في تذييله للنهي عن الاحتكار يقول: فبهذا الاستقراء يحصل ¬

_ = شرح التحفة. باب التوارث والفرائض: 2/ 391؛ المقاصد: 388. (¬1) البحر المحيط: 6/ 12 - 15. (¬2) المقاصد: 389. (¬3) أصول النسب والقرابة. المقاصد: 434. (¬4) مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان. المقاصد: 491.

تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته

العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة (¬1). وقوله: لا بد للفقيه من استقراء الأحوال وتوسُّم القرائن الحافة بالتصرّفات النبوية. فمن قرائن التشريع انتصاب الشارع للتشريع (¬2). وحيطة في النظر والاجتهاد في طلب المقصد الشرعي يقول الشيخ: على الباحث في مقاصد الشريعة ألا يعيّن مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرّفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه (¬3). تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته: 1 - يتّسم الشيخ ابن عاشور بجزالة لغته ودقةِ استعمالاته، وكثرة مراجعاته ومناقشاته لما ينقله من آراء لأعلام المفسرين والفقهاء واللغويين. ولدسامة مادة المقاصد نراها تحتاج كما عند المتقدمين إلى شروح تفتح مغلقها وتوضح القول فيها. وهو ما قام به الإمام وحاول أن يوفيه حقه. 2 - احتفاءُ الإمام احتفاء كبيراً بالمصدرين الأساسيين من مصادر الشريعة. فهو لا ينفك يرجع إليهما ويعتمد عليهما. فكانت مادة القرآن في مصنّفه ثرية وكذلك مادة السُّنة. وإن تكرر ذكره لبعض ما في المادتين، فبحسب المواقع والأغراض التي يطرحها. وإن نظرة في الفهارس لتغني عن بيان ذلك وتعليله. 3 - نسبة الإمام جملة من الآثار إلى أصحابها أو رُواتها في ¬

_ (¬1) طرق إثبات المقاصد الشرعية. المقاصد: 61. (¬2) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 87. (¬3) مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية. المقاصد: 138.

المسائل العلمية الفقهية وغيرها، كما أراد أن يصوّر خلافاً أو يحدّد مذهباً، أو يشير إلى ما وقع في المسألة من اجتهاد للأئمة أصحاب المذاهب، ومن سبقهم أو لحق بهم. وطريقته ومنهجه في تقسيمه لكتاب المقاصد، وما احتوى عليه من أبواب وفصول، وورد به من مذهب أو قول في قضايا المقاصد يحتاج إلى شرح أو تعليق. وهو عندما يطيل القول في بحثه يعمد إثر ذلك إلى تلخيصه وإيراد فذلكة له، تيسيراً لاستيعابه، وجعله مستقراً في الذاكرة. يمهد لذلك وينبه إليه بمثل قوله: وجملة القول أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع. وهي حِكم ومصالح ومنافع (¬1). أو بقوله مثلاً تصويراً لفحوى كلام الشاطبي، وبياناً له. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قوله: إناطة الأعمال بالأسباب (¬2). إن في طريقة الشيخ في مناقشاته وتعقيباته وإبدائه لآرائه ما يُغنينا عن ذكر العديد من المسائل. وهذه الظاهرة منتشرة في كتابه. نكتفي بالإشارة إلى بعضها: (1) قول الشاطبي بقطعيّة أصول الفقه مناصرةً منه لإمام الحرمين. عارضه الشيخ ابن عاشور فيه وأبدى مخالفته الصريحة له. وقال في تعليقه على الشاطبي وعلى ما اعتمده من مبرّرات: حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب الموافقات (¬3) الاستدلال على كون أصول الفقه قطعيّة فلم يأت بطائل (¬4). ويعزّز هذا الموقف أوَّلاً ما نقله الإمام من كلام القرافي في نفائسه، ثم تعليله لما ذهب إليه بقوله: وأنا أرى سبب اختلاف الأصوليين في ¬

_ (¬1) المقاصد: 159. (¬2) المقاصد: 321. (¬3) المواففات: 2/ 29. (¬4) المقاصد: 21.

تقييد الأدلة بالقواطع إنما هو، كما أشرنا إلى ذلك، الحيرة بين ما ألفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعيّة كأصول الدين السمعية .. وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه. فنحن إذا أردنا أصولاً قطعيّة للتفقّه في الدين حقّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر. ثم يعد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة (¬1). وبهذه الطريقة يكون الرأي الذي انتهى إليه الشيخ ابن عاشور في هذا الموضوع رأياً له أُسُسُه وقواعدُه التي دلت عليها مناقشته للشاطبي، كما أنه عزّز ذلك بما قدّمه من اقتراحات لمدرسة الجويني، تُمكّنها من تحقيق غايتها وبلوغ مقصدها. (2) الحديث عما طبعت عليه الشريعة الإسلامية من خضوعها للفطرة ومسايرتها للجِبِلَّة. قال الشاطبي في الفصل الثامن، المسألة السابعة من الموانع ... : إن الأدلة على رفع الحرج في الأمة بلغت مبلغ القطع (¬2). فاعتمد في تقريره لهذا المعنى القاعدة الأصولية المعروفة، وردّ الشيخ ابن عاشور هذه الحقيقة إلى حِكمة السماحة في الشريعة الإسلامية. وذلك أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة. فهي كائنة في النفوس يسهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدّة والإعنات. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬3) ... فكانت الشريعة ¬

_ (¬1) المقاصد: 22 - 23. (¬2) الموافقات: (3) 2/ 133. (¬3) سورة النساء، الآية: 28.

بسماحتها أشدَّ ملاءمة للنفوس؛ لأنّ فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها. وكان لتلك السماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة، وطول دوامها (¬1). (3) وناقش الإمام تفسيرَ الفطرة للرازي قائلاً: إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية، ولم يهتد المشرك، فلا تلتفت أنت إليهم، وأقم وجهك للدين، أي أقبل بكلك على الدين. وقال: إن الله فطر الناس عليه، أي الدين (¬2). وناقش البيضاوي في تفسيره للفطرة: فقوّم له الدين لقوله غير ملتفت أو ملتفت عنه. وهو تمثيل للإقبال واستقامة عليه والاهتمام به. والفطرة التي فُطر الناس عليها قبولهم للحق وتمكّنهم من إدراكه أو ملة الإسلام (¬3). وعقّب الشيخ ابن عاشور على المقالتين بأن الدين في الآية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} (¬4) ليس تخصيصه بالعقائد إلا انقياداً لظاهر السياق؛ لأن الآيات قبلها وردت في ذم الشرك وإبطال عقائد المشركين والدهريين ابتداء من قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬5) إلى أن قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}، وظنّهم أن الفاء فاء التفريع. وكلا الأمرين غير ظاهر. فليس سياق الكلام بموجب تجزئة اسم الكل. فإن الدين اسم يشمل جميع ما يتديّن به ¬

_ (¬1) المقاصد: 192 - 193. (¬2) التفسير الكبير: 12/ 120 - 121. (¬3) أنوار التنزيل: 538؛ حاشية الشهاب: 7/ 121. (¬4) سورة الروم، الآية: 30. (¬5) سورة الروم، الآية: 11.

المرء كما دل عليه الحديث: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (¬1). وبعد محاولته تفسير الآية بالحديث ذكر القاعدة الأصولية وهي أنه إذا ورد في القرآن كلامٌ خاصٌّ ثم تلاه لفظٌ يشمل ذلك الخاص وغيره لمناسبهِ أن ذلك اللفظ لا يختص لبعض مدلوله لأجل السياق (¬2). (4) وذهب بعض الفقهاء إلى أن السيف هو المقصود في آية القتل الموجبة للقود استناداً منهم إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيء خطأ إلا السيف" (¬3). وفي الردّ عليهم يقول: وعندي أنه أخذ بالظنة التي كانت الغالبة على آلات القتل في الزمن الذي ورد فيه حكم القود وهو السيف. وما حصل هنا من الخطأ كان بسبب جعل الأصل في هذا الحكم اللفظَ أو الوصفَ دون المقصدِ. والتعمد في القتل في متعارف الناس ما يحصل به إزهاق الروح (¬4). (5) وذكر في قضايا عمل الأبدان أن تأجيل خدمة المغارسة جائز تحديده بقدر تبلغه الأشجار أو مدة الإثمار. وأن الذي عليه علماء المالكية القول بفساد المساقاة في الشجر الذى لا ينقطع إثماره في وقت من السنة كشجر الموز وكالقصب. وعقّب على هذه الصورة الأخيرة بقوله: وعندي أن تأجيل مدة المساقاة في الشجر المخلف للإثمار كالموز آجلاً يحصل فيه الانتفاع للعامل خير من إبطال ¬

_ (¬1) مَ: 1/ 36 - 38. (¬2) التحرير والتنوير: 1/ 96، 98؛ المقاصد: 178. (¬3) حديث النعمان بن بشير. حَم: 4/ 272؛ وبإسناد آخر 4/ 272؛ البيهقي: 8/ 42. (¬4) التحرير والتنوير: 5/ 163؛ سورة النساء، الآية: 93؛ المقاصد: 152.

المساقاة في مثله، لما علمت من المقصد الأول أن تكثير هذه المعاملات مقصود للشريعة (¬1). وفي كل هذه الملاحظات والفتاوى اعتمد الشيخ - رحمه الله - على المقصد الشرعي وتحكيمه. ومما كان يتطلع إليه الإمام التوصل بكتابه هذا، وبما وضعه له من منهج واضح، الاعتماد على بيان مقاصد شريعة الإسلام، حتى يبلغ الغاية السامية التي أشار إليها في مقدمة تأليفه بقوله: قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراساً للمتفقهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لاتباعهم على الإنصاف، في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب، والفيئة إلى الحق، إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل، وبفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب (¬2). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 499. (¬2) المقاصد: 5.

الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية

الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية إن من بين من اعتمدهم الإمام في نشر العلوم الشرعية وبناء الفكر الإسلامي جملةً من الرواد والشيوخ من قراء ومحدثين وعلماء وفقهاء، بذلوا جهوداً عظيمة في تدبر ذلك الميراث النبوي وتحليله والكشف عن جواهره وروائعه. فكان منهم المجتهدون أصحاب المذاهب، وأصحاب الطبقات والرجال على مدى العصور الماضية. فهي تنبئ عن دورهم الكبير في تصنيف العلوم، وتضع أمامنا ذلك الصرح الحضاري الخالد الذي يكفي أن تمتد إليه أيدينا لنجتني ثماره في أي فنّ من فنون الفكر والعلم. فمن عقيدة وقرآن وسُنة، وشريعة، وأصول، وفقه. وما كان يساعد على التوصّل إليها وينمّيها من علوم وفنون لها ارتباط بتصاريف الكلام وأسرار التعبير. وليس بيننا وبين إدراك هذه الحقيقة غير الرجوع إلى كتب أساتذتنا وتصانيف علمائنا، وعلى الخصوص ما دبَّجه يراع إمامنا الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. فقد كانت هذه العلوم جميعها بمفرداتها حاضرة في ذهنه، شاغلة عقله، مستقرة في قلبه، جارية على لسانه، سائلاً بها مدادُه. وإن وقفة تأمل فيما دَبجه قلمه لتكشف لنا عن نظريته في علم المقاصد، وعن موقفه عند استخدام أصوله وقواعده، وعن المنهجين النظري والتطبيقي اللذين يدلي بهما مرات كثيرة منبهاً وموجهاً، مناقشاً ومستدركاً.

وهذه الجوانب هي التي تَلِجُ بنا أعماق العِلْم الإسلامي، وتبصرنا برجالاته، وتجعلنا واعين مع التحقق والجزم بما كان بين هذا الإمام وبين نظرائه من رجال العلم الإسلامي من تجاوب. فهو بذلك خاتمة المحققين، وشاهد صدق على ما أماط عنه أثناء دراساته وبحوثه الكثيرة المتنوعة، من ثراء وخصب وجودة وإبداع وصلاحية وحِكمة اتسمت بها شريعة الإسلام. وإن صُحبتنا للمؤلف، بعد الإشارة إلى جملة من المسائل والفروع التي ضمّنها كتاب المقاصد، لتحملنا بعد إمعان القراءة، على الاحتراز من أوضاع أنكرها، وعلى التأمل في أصول ومناهج اعتمدها، وقضايا ومشاكل جمعها ثم ميّز بينها، والإفادةِ من آرائه وتوجيهاته وتنبيهاته لنا. فتلك إذن أربعة محاور تصوّر علاقاته بالعلماء ورجال الفقه والشريعة من حوله: موقف الشيخ ابن عاشور من بعض المذاهب الفقهية وطائفة من الفقهاء: ما كان ينكره الشيخ على بعض المذاهب والعلماء والفقهاء. (1) من ذلك قوله عن أصول الظاهرية: "فأنت إذا نظرت إلى أصولهم وجدتهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحِكمة؛ لأنهم نفوا القياس والاعتبار بالمعاني. ووقفوا عند الظواهر فلم يجتازوها". وأهل الظاهر برفضهم القياس يقعون في ورطة التوقّف عن إثبات الأحكام فيما لم يرد فيه عن الشارع حكم من حوادث الزمان. وهو موقف خطير يُخشى على المتردِّي فيه أن يكون نافياً عن شريعة

الإسلام صلاحَها لجميع العصور والأقطار (¬1). (2) اعتراضه على منهج بعض العلماء في استنباط الأحكام بقوله: ومن هنا يقصّر بعض العلماء، ويتوحّل في خضخاض من الأغلاط، حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجّه نظره إلى اللفظ مكتفياً ومقتنعاً به. فلا يزال يقلّبه ويحلّله ويأمل أن يستخرج لبّه، وهو في كل ذلك مهمل ما قدّمناه من ضرورة الاستعانة بما يحفّ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق (¬2). (3) إنكاره على بعض الفقهاء تسميتهم صنفاً من الحيتان "خنزير البحر" وحرّموا أكله لأنه خنزير. قال ابن العربي: سئل مالك: أيحلّ خنزير الماء؟ قال: أنتم تقولون خنزير، وأنا أكره أكله لإطلاق اسم خنزير على ما يحلّ أكله (¬3). (4) ومن الأخطاء المنهجية: غلطت جماعة من الفقهاء في بعض تصرّفات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعمَدت إلى القياس عليها قبل التثبت في أسباب صدورها (¬4). (5) القول بتحريم نكاح امرأة زوّجها وليُّها بعلاً بمهر، وزوّج ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام الشرعية وخلو بعضها عن التعليل وهو المسمى بالتعبدي. المقاصد: 152 - 153. (¬2) أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية. المقاصد: 81. (¬3) نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال. المقاصد: 306 - 307. (¬4) انتظار الشارع للتشريع. المقاصد: 87 - 99.

1 - التضييق في الرخص

هو ذلك الولي امرأة هو وليها بمهر مساوٍ لمهر الأخرى أو غير مساوٍ، باعتقاد أن هذا من الشغار؛ لأن شكله الظاهر كشكل الشغار. وهذا الحكم غير صحيح لأن من ذهب إليه أغمض عينيه عن المعنى والوصف الذي لأجله أبطلت الشريعة نكاح الشغار (¬1). (6) غلط بعض المفتين بتحريمهم التدخين بورق التبغ في الفهم؛ لأنهم لما ظهر التدخين به في أوائل القرن الثامن عشر سموه الحشيش، وتوهّموا أنه الحشيش المخدّر الذي يدخّنه الحشاشون (¬2). (7) لما ظهرت الحبوب اليمانية التي نسميها قهوة أفتى بعض العلماء أول القرن العاشر بحرمة منقوعها لأنهم سموها القهوة. والقهوة عندهم اسم للخمر في اللغة العربية (¬3). (8) أخطأ بعض الفقهاء بقتل المشعوذ باعتبار أنهم يسمّونه سحاراً، غافلين عن تحقيق معنى السحر الذي ناط الشارع به حكم القتل. فمن حقّ الفقيه إذا تكلم على السحر أو سُئل عنه أن يبين ويستبين صفته وحقيقته، وألا يفتي بمجرد ذكر اسم السحر، فيقول: يقتل الساحر ولا تقبل توبته، فإن ذلك عظيم (¬4). 1 - التضييق في الرخص: من الرخص ما هو مغفول عن التعرّض له لدى الفقهاء. فهم لا يمثّلون إلا بالرخصة العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار. ونحن ¬

_ (¬1) نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال. المقاصد: 307. (¬2) نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال. المقاصد: 309. (¬3) نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا باسماء وأشكال. المقاصد: 309. (¬4) نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال. المقاصد: 308 - 309.

2 - تعارض الروايات

نعلم أن سبب الرخصة هو عروض المشقّة والضرورة. والرخصة في التحقيق: إما أن تكون في ضرورات عامة مطّردة، كانت سببَ تشريعٍ عام في أنواع من التشريعات، مستثناة من أصول كان شأنها المنع كالسَّلَم والمغارسة والمساقاة. فهذه مشروعة باطراد لدخولها في قسم الحاجي. كما نبّه الشاطبي على ذلك في مبحث الرخصة والعزيمة. وإما أن تكون في ضرورات خاصة مؤقّتة كالتي يشير إليها القرآن في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬1). وهي التي عُنِي بها الفقهاء. ومن الضرورات العامة المؤقّتة أن يعرض للأمة أو طائفة عظيمة منها ما يستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة وإبقاء قوّتها. وهذه الضرورة عند حلولها هي أجدر وأولى بالاعتبار من الضرورة الخاصّة (¬2) وقد تقدم ذكر أمثلة لها، كالكراء المؤبّد ونحوه. وقد يطرأ من الضرورات ما هو أشد، فالواجبُ رعيُه وإعطاؤه ما يُناسبه من الأحكامِ. 2 - تعارض الروايات: مثاله ما أورده البخاري من حديث عاصم في كتاب الاعتصام من صحيحه. قال: "قال عاصم: قلت لأنس بن مالك: أبَلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حلف في الإسلام"؟ قال أنس: قد حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار في داري التي بالمدينة" (¬3). وفي هذا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 173. (¬2) المقاصد: 357 - 361. (¬3) خَ: 3/ 57؛ 7/ 92؛ 8/ 154.

3 - الإجماع

إبطال لحديث أم سلمة وجبير بن مطعم وابن عباس (¬1). 3 - الإجماعُ: هو اتفاق أهل العلم فيما يدعو إلى الانتباه والتأمّل كما أشار إليه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه في باب ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضّ فيه على اتفاق أهل العلم، وما أجمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار ومصلّى النبي والمنبر والقبر (¬2)، ومنه ما كان موضعه الأحكام ذات العلة الخفية مما استنبط له الفقهاء علةً. 4 - اختلاف الفقهاء: اختلفوا في تحريم ربا الفضل في الأصناف الستة، ومنع كراء الأرض على الإطلاق عند القائلين بالمنع من الصحابة والتابعين. وفي إثبات هذا النوع من العلل خطر على التفقّه في الدين. فمن أجل إلغائه وتوقّيه مالت الظاهرية إلى الأخذ بالظواهر ونفوا القياس، ومن الاهتمام به تعدد أساليب الخلاف بين الفقهاء، إنكار فريق منهم صحة أسانيد كثير من الآثار (¬3). أما اختلاف الفقهاء ومسائل الخلاف فقد اقتصر فيها في الغالب على ما هو راجع إلى اختلاف التأويل بين الأئمة، أو إلى الالتزام بأصل أو قاعدة أقيم عليها المذهب الفقهي عندهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والطبراني وأبو داود وابن حبان. أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية. المقاصد: 83 - 86. (¬2) أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية. المقاصد: 82. (¬3) تعليل الأحكام الشرعية وخلو بعضها عن التعليل وهو المسمى التعبّدي. المقاصد: 150 - 151.

5 - من صور اختلاف الفقهاء

5 - من صور اختلاف الفقهاء: (1) فالصورة الأولى يشهد لها ما نقله الشيخ ابن عاشور عن القرافي في فروقه، من اختلاف العلماء في تصرّفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله. وذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له". فهذا التصرّف التشريعي الذي يفيد إسناد شيء إلى أي أحد من الأفراد لتوفر الشروط فيه، انقسم حوله كبار الأئمة، فبعضهم وهو الإمام أبو حنيفة قال: هذا من التصرّف بالإمامة. فلا يجوز لأحد أن يحيي أرضاً إلا بإذن الإمام؛ لأن الفيئ لا يختص به أحد دون الإمام كالغنائم والإقطاعات. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه". وخالفه صاحباه وقالا بما قال به مالك والشافعي من أن هذا التصرّف بالفتوى. فيجوز لكل أحد أن يُحيي أرضاً ولو لم يأذن له الإمام. ولم يستثن من ذلك الإمام مالك إلا ما قرب من العمران من أراضي الموات؛ لأن هذه الأراضي تحتاج قبل إحيائها إلى النظر في تحرير حريم البلد. وكل ما كان هذا شأنه يحتاج إلى نظر وتحرير. فلا بد فيه من أحكام (¬1). (2) واختلفوا أيضاً في قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف" أهو من قبيل التصرُّف بالفتوى، فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به؟ أم هو تصرّف بالقضاء، فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقّه أو حقّه إذا تعذّر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاضٍ. وأكثر الشافعية يعتبرون هذا من قبيل الإفتاء، لأن القضاء على الغائب لا يصح حتى يكون غائباً ¬

_ (¬1) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 91 - 92.

عن البلد أو مستتراً لا يقدر عليه. ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجوداً. وجعل المالكية في مشهور مذهبهم تصرّف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة تصرّفاً بالقضاء، ورجّح منهم الأخذ بالحديث اللخميُّ وابن يونس وابن رشد والمازري (¬1). (3) ومثل هذا اختلافهم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً فله سلَبه" فمنهم من جعله من التصرّف بالإمامة. وقال: لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد. وقال مالك: لم يبلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا يوم حنين. وقال ابن حجر: ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك أو لم يقل. وأن هذا فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخبار عن الحكم الشرعي (¬2). (4) وكان الاختلاف كبيراً بين العلماء في الاحتجاج بقضايا الأعيان، وبأخبار الآحاد، إذا خالفت القواعد أي الكليات اللفظية أو المعنوية، أو خالفت القياس، أو خالفت عمل أهل المدينة. وهذا من موجبات التحرّي في العمل بخبر الواحد، وبخاصة بعد انتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى. واستمر الخلاف بعد ظهور الأئمة المجتهدين وقيام المدارس والمذاهب الفقهية. فكان فريق منهم يأخذ بالاستنباط من ذلك، قاضياً بتحكيم القواعد العامة في التشريع، راداً على ما خالفها من السُّنة، وفريق كان من احتياطه في الأمر عدم التساهل برد الحديث بمجرد عدم موافقته للأصول العامة (¬3). ¬

_ (¬1) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 93 - 94. (¬2) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 94 - 95. (¬3) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 266.

توجيه وتنبيه

(5) ومما جرى فيه الخلاف القول بتأبيد تحريم المرأة المعتدّة على من يتزوجها في عدّتها ويبني بها. قضى بذلك عمر، وقال به مالك. ومن الأئمة من يكتفي بفسخ النكاح ولا يرى تأبيد التحريم وهو الأقرب. وهذا هو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي (¬1). توجيه وتنبيه: من ذلك الدعوة إلى إخراج الناس من الجدل العقيم وجعل أهل العلم والمفكرين أبعد الناس عن التعنت والعناد والمكابرة. ومن أجل إسداء هذه النصحية لأهل العلم على الوجه المطلوب يبصرون بطريق الحق، ويفتح لهم سبيل الرشد. قال الإمام: إذا انتظم الدليل على إثبات مقصد شرعي وجب على المتجادلين فيه أن يستقبلوا قبلة الإنصاف، وينبذوا الاحتمالات الضعاف (¬2). ومن أجل مساعدة الطلاب والدارسين على بلوغ الغاية من البحث والنظر يقول في غير تردد: ويحق على العالِم أن يغوص برأيه في تتبع المصالح الخفيّة، فإنه يجد معظمها مراعىً فيه النفع العام للأمة والجماعة، أو لنظام العالَم (¬3). ومن توجيهات الإمام في كتابه المقاصد: (1) أن الفقيه محتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة في قبول الآثار ¬

_ (¬1) ليست الشريعة بنكاية. المقاصد: 294. (¬2) طرق إثبات المقاصد الشرعية. المقاصد: 55. (¬3) بيان المصلحة والمفسدة. المقاصد: 202.

من السُّنة، وفي الاعتبار بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء، وفي تصاريف الاستدلال (¬1). (2) أن علينا أن نرسم طرائق الاستدلال على مقاصد الشريعة بما بلَغنا إليه بالتأمل وبالرجوع إلى كلام أساطين العلماء (¬2). (3) على الفقيه ألا يعيّن مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه ويتثبت من ذلك. لأن الجزم بكون الشيء مقصداً شرعياً يتفاوت بمقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها. (4) وجوب التمييز بين مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتفرقة بين أنواع تصرّفاته (¬3). (5) وجوب الحفاظ على صورة الحكم إن كان تعبدياً، وألا يزيدوا في تعبّديته كما ينبغي الاحتراز عن إضاعة أصل التعبّدية (¬4). (6) على الفقيه أن يجيد النظر في الآثار التي تتراءى منها أحكام خفيت عللها ومقاصدها، وأن يُمحِّص أمرها. فإن لم يجد لها محملاً من المقصد الشرعي نظر في مختلف الروايات، لعلّه يظفر بمسلك الوهم الذي دخل على بعض الرواة، فأبرزوا الأثر في صورة تؤذن بأن حكمه مسلوبُ الحِكمة والمقصد. وعليه أن ينظر إلى ¬

_ (¬1) احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة. المقاصد: 49. (¬2) طرق إثبات المقاصد الشرعية. المقاصد: 54. (¬3) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 87. (¬4) تعليل الأحكام الشرعية وخلو بعضها عن التعليل وهو المسمى التعبّدي. المقاصد: 153.

التنبيهات

الأحوال العامة في الأمة التي وردت تلك الآثار عند وجودها (¬1). (7) من حق الفقيه، مهما لاح له ما يوهم جعل الوَهْمِ مدركَ حكم شرعي، أن يزيد في التأمل، عسى أن يظفر بما يزيل ذلك الوهم، ويرى أن ثمة معنى حقيقياً هو مناط التشريع، وقد قارنه أمر وهمي فغطّى عليه في نظر عموم الناس لأنهم ألِفوا المصير إلى الأوهام (¬2). (8) قد تأتي أحكام منوطة بمعانٍ لم نجد لها متأوّلاً إلّا أنّها أمور وهمية، مثل استقبال القبلة في الصلاة، ومثل التيمم، واستلام الحجر الأسود. فعلينا أن نثبتها كما هي، ونجعلها من قسم التعبّدي الذي لا يصلح للكون مقصداً شرعياً أو نتأوّلها، وتأتي أحكام منوطة بما يمكن له تأويل يُخرجه عن الوهم مثل طهارة الحدث، فنعالج بإمكاننا حتى نخرجه عن الكون وهمياً (¬3). التنبيهات: (1) لا يستغني المتكلمون والسامعون عما يحف بالكلام من ملامح في سياق الكلام، ومقام الخطاب، ولا عن مبيّنات من البساط، كي تتضافر تلك الأشياء الحافّة بالكلام على إزالة احتمالات كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه (¬4). (2) تتفاوت مراتب الفقهاء في عملهم؛ فهم جميعاً في الصدر ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام الشرعية وخلو بعضها من التعليل. المقاصد: 155 - 156. (¬2) الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية. المقاصد: 173. (¬3) الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية. المقاصد: 174 - 175. (¬4) أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية. المقاصد: 80.

الأول لم يستغنوا على استقصاء تصرّفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدّون الرحال إلى المدينة ليتبصّروا من آثار الرسول وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين (¬1). (3) إن للرسول - صلى الله عليه وسلم - صفاتٍ وأحوالاً تكون باعثاً على أقوال وأفعال تصدر عنه (¬2). (4) لحال الإفتاء علامات مثل حديث: "انحر ولا حرج"، "وارم ولا حرج"، "وافعل ولا حرج" (¬3). (5) أما حال القضاء فيكون حين الفصل بين المتخاصمين المتشادين كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك يا زبير حتى يبلغ الماء الجَدرَ ثم أَرسِله" (¬4). (6) أما حال الإمارة فأكثر تصاريفه - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يشتبه بأحوال الانتصاب للتشريع إلا فيما يقع في خلال أحوال بعض الحروب مما يحتمل الخصوصية (¬5). (7) تأول معظم العلماء النهي عن كراء الأرض على معنى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يواسي بعضهم بعضاً (¬6). ¬

_ (¬1) أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية. المقاصد: 81. (¬2) وهي في تقدير المؤلف اثنتا عشرة صفة. انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 96. (¬3) طَـ: 1/ 421؛ خَ: 2/ 190؛ مَ: 1/ 948 - 950؛ انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 101. (¬4) خَ: 3/ 76 - 77، 171؛ المقاصد: 102. (¬5) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 108. (¬6) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 125.

(8) تتردد المعاني بين كونها صلاحاً تارة وفساداً أخرى. وهذا بأن يكون قد اختل منها وصف الاطراد، يجعلها غير صالحة لاعتبارها مقاصد شرعية على الإطلاق، بل المقصد الشرعي منها أن توكل إلى نظر العلماء وولاة الأمور (¬1). (9) تنبيه علماء أصول الفقه على أنه إذا ورد في القرآن كلام خاص ثم تلاه لفظ يشمل ذلك الخاص وغيره لمناسبة، فإن ذلك اللفظ لا يختصّ ببعض مدلوله لأجل السياق (¬2). (10) إن المصالح المتعددة إذا لم يمكن تحصيل جميعها، والمفاسد المتعددة إذا لم يمكن درء جميعها، فإنّ تقديم أرجح المصلحتين هو الطريق الشرعي، كان درء أرجح المفسدتين كذلك. فإذا حصل التساوي من جميع الوجوه فالحكم التخيير (¬3)، كما ذكر قبل. (11) إن مقام المرتبك في دقائق المصالح والمفاسد وآثارها، وفي وسائل تحصيلها وانخرامها. تتفاوت فيه مدارك العقلاء اهتداء وغفلة، قبولاً وإعراضاً فتطلع فيه الحيل والذرائع (¬4). (12) ما ذهب إليه فقهاء المذاهب من ألفاظ الطلاق والأيمان لم يبق للناس عهد بها مثل اللازمة والحرام، ونحو ذلك من كلمات تجري على الألسن، ولم يبق للناس علم بمدلولها. فهذه أمثلة نتأمل فيها ونحتذيها (¬5). ¬

_ (¬1) الصفة الضابطة لمقاصد الشريعة. المقاصد: 168. (¬2) ابتناء المقاصد على الفطرة. المقاصد: 178. (¬3) طلب الشريعة للمصالح. المقاصد: 226. (¬4) أنواع المصلحة المقصودة من التشريع. المقاصد: 258. (¬5) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 273، 274.

6 - المقادير

(13) يدرك معنى صلاحية شريعة الإسلام لكل زمان من كون أحكامها كلّيات ومعاني مشتملة على حِكم ومصالح صالحة لأن تتفرعّ عليها أحكام مختلفة الصور متّحدة المقاصد (¬1). (14) أجمع الفقهاء على مساواة غير المسلم للمسلم في معظم الحقوق والمعاملات. وهي ثابتة يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وتلك حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة فلا يحتاج إلى تعليل (¬2). (15) اتفاق العلماء على أن عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات كمنع مساواة غير المسلم لقريبه المسلم في إرث قريبهما (¬3). (16) شرعت الزواجر والعقوبات والحدود لإصلاح حال الناس بما هو اللازم في نفعهم، دون ما دونه ودون ما فوقه (¬4). (17) لا يستثنى من دلالة السكوت على التقرير إلا الأحوال التي دلّ العقل على إلحاقها بأصول لها حكم غير الإباحة. وهي دلالة القياس بمراتبها (¬5). 6 - المقادير: عكوف الفقهاء على ما صدر في عصر الخلفاء من تحديد ¬

_ (¬1) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 276. (¬2) المساواة. المقاصد: 285 - 286. (¬3) المساواة. المقاصد: 284. (¬4) ليست الشريعة بنكاية. المقاصد: 293. (¬5) مقصد الشريعة من التشريع: تغيير وتقرير. المقاصد: 304.

7 - المصطلحات الشرعية

مقادير الجزية والخراج والديات وأُروش الجنايات، مع أن بعض تلك التقديرات طرأ ويطرأ عليه نقص القيمة أو الرواج، فلا يصلح لأن يبقى عوضاً لِما عوّض به فيما مضى (¬1). 7 - المصطلحات الشرعية: تعتبر الأسماء الشرعية باعتبار مطابقتها للمعاني الملحوظة شرعاً في مسمياتها، عند وضع المصطلحات الشرعية. فإذا تغيّر المسمَّى لم يكن لوجود الاسم اعتبار. ولذلك يقول فقهاء المالكية: إن صيغ التبرعات قد يستعمل بعضها مكان بعض. ومن التحرّي في هذا الباب اعتبار العُمْرى المُعَقّبة حبساً، والحُبس المجعول فيه شرطُ البيع يَؤُول إلى معنى العمرى، والصدقة المشروط فيها حق الاعتصار تؤول إلى الهبة، والعطايا المشروط فيها تصرّف المعطي في المعطى إلى موته تؤول إلى الوصية وإن سمّوها حبساً أو هبة أو عمرى. وقالوا: إذا قال ولي المرأة: وهبت فلانة إليك بمهر كذا كانت تلك صيغةَ نكاح، ولو سماها هبة (¬2). من المصطلحات: تغاير الأسماء في المخالفات الشرعية وهي ألقاب مراتب الفساد. وهي أسماء ليست بالكثيرة ولا المطّردة. فعند الشافعية ثلاث مراتب: الحرام، والمكروه، وخلاف الأولى، وعند الحنفية مثل ذلك ¬

_ (¬1) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 271. (¬2) نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال. المقاصد: 310 - 311.

المنهج

وهي: التحريم، وكراهة التحريم، وكراهة التنزيه (¬1). المنهج: جرى علماء الشريعة على ذمَّ بعض المباحات ترغيباً للناس في التخلّي عنها لمذمتها. وعلى هذا كان عملُ الإمام مالك في سدّ الذريعة، عند قصد المبالغة، حيث قال بنجاسة عين الخمر، وهو يعلم أن الله إنما نهى عن شربها لا عن التلطّخ بها. وإنما حمله على هذا استقراء السُّنة الذي أكد في نفسه مراعاة قصد الشريعة الانكفاف عن شربها (¬2). المسائل والأحكام في "مقاصد الشريعة الإسلامية": إذا كان المؤلف قد جَعَل من غرضه الأول بيانَه معنى الخطاب الشرعي وتفصيلَ القول فيه. ولَفَتَ النظر إلى الخطوة الثانية التي أساسها تدبر أدلة الأحكام ونقدها على الطريقة الأصولية المعهودة والتمييز بينها، وإذا حرص شديد الحرص على بيان طرق كشف الأدلة عن المقاصد الشرعية وإثباتها لدى الأئمة الفقهاء ولدى السلف في رجوعهم إلى المقاصد وتمحيص ما يصلح منها لأن يكون مقصوداً منها، فإن اهتمامه قد انصب أيضاً على الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية: يربط بينها وبين الأدلة، وينظر فيها إلى أي مدى كانت تلك خادمة أو خاضعة للمقاصد الشرعية. وهو في بحثه هذا يوضح الطريق إلى تطبيق نظرية المقاصد، ويذكر الأمثلة الثابتة فيما ضبطه العلماء من قبل. ¬

_ (¬1) بيان المصلحة والمفسدة. المقاصد: 218. (¬2) مراتب الوازع: جبلية ودينية وسلطانية. المقاصد: 365.

وقد برزت الصورة المزدوجة في كتاب المقاصد تجمع بين المسائل والأدلة والأحكام والمقاصد. ومن يَتَقَصَّ بالنظر الأقسامَ الثلاثة لمصنَّف الإمام، ويعمد بعد ذلك إلى ذكر جملة من المسائل في الأبواب أو الفصول المتفرعة عنها، يجد الإشارة إلى جملة من المسائل يذكرها مرّة أو مرات: إمّا تمثيلاً وتمثلاً للقارئ، وإمّا تفصيلاً لأحكامها إذا كانت موضع اختلاف الأنظار بين الأئمة والفقهاء السابقين، وإمّا بياناً للمقاصد الشرعية فيها. ويجمع كتاب المقاصد أكثر من ستمائة مسألة موزعة على أبواب وفصول الكتاب على النحو التالي: في مسلسل فصول الكتاب ... الموضوع ... عدد المسائل 1 ... احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة ... 7 2 ... طرق إثبات المقاصد الشرعية ... 11 3 ... طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها ... 10 4 ... أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية ... 1 5 ... انتصاب الشارع للتشريع ... 50 6 ... مقاصد الشريعة مرتبتان ... 7 7 ... مقاصد التشريع العامة والصفة الضابطة للمقاصد الشرعية ... 23 8 ... ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة ... 6 9 ... السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها ... 3 10 ... المقاصد العامة من التشريع ... 4

في مسلسل فصول الكتاب ... الموضوع ... عدد المسائل 11 ... بيان المصلحة والمفسدة ... 21 12 ... طلب الشريعة للمقاصد ... 31 13 ... أنواع المصلحة المقصودة من التشريع ... 63 14 ... عموم شريعة الإسلام ... 13 15 ... المساواة ... 20 16 ... ليست الشريعة بنكاية ... 5 17 ... مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير ... 32 18 ... أحكام الشريعة قابلة للقياس عليها باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية ... 2 19 ... التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمة المقصودة للشريعة ... 27 20 ... سدّ الذرائع ... 4 21 ... نوط الشريعة بالضبط والتحديد ... 27 22 ... نفوذ الشريعة ... 1 23 ... الرخصة ... 5 24 ... مراتب الوازع: جبلية ودينية وسلطانية ... 11 25 ... مدى حرية التصرّف عند الشريعة ... 36 26 ... مقصد الشريعة تجنبها التفريع وقت التشريع ... 2 27 ... واجب الاجتهاد ... 4 28 ... في مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس، والمعاملات في توجه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل ... 18 29 ... مقصد الشريعة تقنين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها ... 21

في مسلسل فصول الكتاب ... الموضوع ... عدد المسائل 30 ... مقاصد أحكام العائلة: آصرة النكاح ... 12 31 ... آصرة النسب والقَرابة ... 14 32 ... آصرة الصهر ... 1 33 ... طرق انحلال الأواصر الثلاثة ... 12 34 ... مقاصد التصرّفات المالية ... 4 35 ... الملك والتكسب ... 36 36 ... الصحة والفساد ... 2 37 ... مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان ... 31 38 ... مقاصد أحكام القضاء والشهادة ... 45 ... الجملة ... 622 انظر فهرس المسائل والفروع ولا يسعنا في هذا التمهيد أن نقف عند كل مسألةٍ مسألة، فنجعل من "المقاصد" كتاب مسائل أو فروع، ولكننا نقتصر على أمثلة منها كاشفين، بما نورده من إحالات، عن الإطار أو السياق الذي وردت فيه، فنلمس عن كثب الدليل الشرعي، والقصد من التشريع، والمثال أو الفرع المستخدم في ذات المقام، وفي الجوانب ذات الصلة به. فيتضح لنا بذلك أن أحكام شريعتنا في غالبها، بهذا الاعتبار، شريعة معلّلة، ذاتَ مقاصد وأهداف تتمثّل في ما تجلبه من مصالح وتدرؤه من مضارّ. 1 - ومن أجل ذلك نشير إلى أن المؤلف بدأ في الفصل الثاني، "فصل طرق إثبات المقاصد الشرعية". بتصوير الاختلاف

الحاصل بين أئمة الفقه في تحديد معنى الذي بيده عقدة النكاح، وإسناد العفو إليه في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فحمله مالك على الأب في ابنته البكر والسيد في أمته؛ لأن هذين يعقد لهما بغير إذن. وذهب الشافعي إلى جعل العفو المذكور من حق الزوج لأن بيده حل النكاح بالطلاق (¬1). وجاء بضروب كثيرة من المعاملات منهي عنها مثل المزابنة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن بيع التمر بالرطب. قال: "أينقص الرطب إذا جف؟ ". قال: نعم. قال: "لا إِذَن". وعلّة التحريم في المزابنة: الجهل بمقدار أحد العوضين. وكذلك النهي عن بيع الجزاف بالمكيل إلا أن يأتي كل منهما على أصله كقطعة أرض جزافاً وإردبّ قمح بكذا. وعلّة منعه الجهل بأحد العوضين، كما ذهب إليه الفقهاء بطريق استنباط العلّة. ويُستخلص من صور النهي عن هذه المعاملات مقصد شرعي هو إبطال الغرر في المعاوضات. ونهيُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يخطب المسلم على خِطبة أخيه أو يسوم على سومه، مشهور ومعروف. أخرجه مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه. وعلّة النهي فيه ما في هذين التصرّفين من الوحشة. وقصد الشرع من النهي دوام الأخوة بين المسلمين. وكذلك النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، طلباً لرواج الطعام في الأسواق. وبيع الطعام بالطعام نسيئة، إذا حُمل على إطلاقه عند الجمهور، وعلّته تَفادي بقاء الطعام في الذمَّة فيفوت الرواج. ومنها ¬

_ (¬1) المقاصد: 53 - 54.

القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات

أيضاً الاحتكار في الطعام لحديث مسلم عن عمر مرفوعاً: من احتكر طعاماً فهو خاطئ (¬1). وقول عمر - رضي الله عنه - لا حُكرة في سوقنا. لا يعمد رجال في أيديهم فضول أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا يحتكرونه علينا. لكن أيُّما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء أو الصيف فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء وليمسك كيف شاء. 2 - وللشريعة كما عبّر عن ذلك الشيخ ابن عاشور مقصد أساسي من التشريع يتمثلّ في مقامَيْ التغيير والتقرير. القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات: القسم الأول: يتضمن جملة من القواعد والمقاصد: 1 - العمل على تحقيق تنفيذ الشريعة مترتب على إيقاعِ حرمتها في نفوس الأمة. فالشريعة الإسلامية أعظم الشرائع بسدادها في يقين أمَّتها. وهي معصومة ومستندة إلى الوحي، وطاعتها منبعثة عن اختيار. 2 - اعتبار إقامة العلماء للشريعة، طلبَ تبليغها، هو مقصد من أهم مقاصد الشريعة. فلذلك لزم بثّها وتكثير علمائها وحَمَلتِها. 3 - الحكومة والسلطان من لوازم الشريعة لئلا تكون في بعض الأوقات معطلة. 4 - إقامة ولاة يسوسون مصالح الأمة ويقيمون العدل فيها، وينفّذون أحكام الشريعة بينها. ¬

_ (¬1) م: 2/ 1227.

5 - كل من ولي ولاية الخلافةِ فما دونها إلى الوصيّة لا يحلّ له أن يتصرّف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة. 6 - الأئمة والولاة معزولون عما هو ليس بأحسن، وما ليس فيه بذل جهد. فالمرجوح أبداً ليس بأحسن، وليس في الأخذ به اجتهاد. 7 - التأكيد على أن تكون الولاية في مظنّة المصلحة وألا يكون العزل إلا لمفسدة. 8 - من أسس المجتمع الإسلامي اشتمال نظام هيئة القضاء في الجملة على ما فيه إعانة على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفي. 9 - القضاء أمانة، والعدالة شرط في صحّة ولاية القضاء. 10 - القاضي أهم أركان القضاء. ففي صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحصل به من أحوال. 11 - تميّز القاضي بأصالة الرأي والعلم، وبالعدالة، وبالسلامة من نفوذ غيره عليه. 12 - مقدرة القاضي على فهم مدركات المسائل وعللها خير منبه له عند اشتباه المسائل واختلاطها (¬1). 13 - العالِم المقلد هو العالِمُ بالأدلة لمذهب مجتهد مشهور. وهو لا يَقصُر في استحقاق القضاء عن المجتهد. 14 - شروط رجال شورى القضاء تقارب شروط القضاء، وشرط العلم فيهم أقوى. ¬

_ (¬1) المقاصد: 526.

القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة

15 - ليس من طريق لحمل طبقات الأمة على الاقتناع بأحكام القاضي غير الأخذ بالأصلح من عموم أقوال العلماء. 16 - القضاة وأهل شوراهم وأعوانهم، والوقوف في الأقضية على الرسوم والبيانات طريقٌ لتنفيذ الشريعة في خصوص إيصال الحقوق إلى أصحابها على نحو ما رسمته الشريعة تأصيلاً وتنويعاً. 17 - على الحاكم استقصاء وجوه الحجج المبيّنة للحق بقدر ما يستطيع ولو بالوصول إلى حفظ بعض الحقوق دون بعض. القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة: ينتزع الفقهاء من القواعد فروعاً إما بطريق تحقيق المناط في الأحكام الكلّية، لأن المنتزعات جزئيّات لتلك القضايا الكلّية، وإما بطريق القياس في الأحكام الجزئية، لأن المنتزعات منها مشابهة لتلك الجزئيات في وصف آذنت به أحكامها على تفاوت بين الملحقات بسبب ظهور الأوصاف التي بها الشبه، وخفائها لتفاوت مسالك العلّة (¬1). القضاء بالعوائد: يرجع هذا التصرف إلى معنى الفطرة، لأن شرط العادة التي يُقضى بها ألا تنافي الأحكام الشرعية. فهي تدخل تحت حكم الإباحة. لأنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها، فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس، وإما لأن الفطرة تناسبها. وهو ظاهر (¬2). ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام الشرعية وخلو بعضها عن التعليل. المقاصد: 149. (¬2) ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم: وهو الفطرة. المقاصد: 187.

الأوصاف الطردية

الأوصاف الطردية: ذكر الأوصاف المقارنة للمقصد من التشريع، وهي التي لا يتعلق بها غرض الشارع، ويسمّونها الأوصاف الطردية، وهي الغالبة على الحقيقة الشرعية، مثل الكون في البرية في تصوير الحرابة. فإن ذلك أمر غالب وليس هو مقصودَ الشارع. ولذلك أفتى حُذَّاق الفقهاء باعتبار حكم الحرابة في المدينة، إذا كان الجاني حاملاً للسلاح ومخيفاً لأهل المدينة (¬1). ترجيح المصلحة الكبرى: يعلّل صاحب المقاصد ترجيح المصلحة العظمى عند التعارض بين المصلحتين بقوله: ولهذا قُدم القصاص على احترام نفس المقتصّ منه، لأن مصلحة القصاص عظيمة في تسكين ثائرة أولياء القتيل، لتقع السلامة من الثارات، ويتم انزجار الجناة عن القتل، ويتخلّص المجتمع من النفوس الشريرة (¬2). العمل بالمصلحة المرسلة: لا ينبغي التردد في صحة الاستناد إلى المصلحة المرسلة (¬3). القسم الثالث: موضوعات ذات صلة بالأصول والمقاصد للإمام عليها ملاحظات أو له بشأنها اقتراحات: جمعنا في هذا المحور ست مواد هي: الأصول والمقاصد، والتعليل، والقضاء، والإجراءات الشرعية، والسياسة الشرعية، ¬

_ (¬1) طلب الشريعة للمصالح. المقاصد: 225. (¬2) المقاصد: 225. (¬3) المصالح المرسلة. المقاصد: 245.

ومسائل الخلاف. وذلك قصد التنبيه إلى معانٍ خاصة لاحَظَها الإمام فيما هو موجود عند الفقهاء، وفيما يقترح العمل به. (1) فمن قضايا الأصول التي عُني بها الشيخ ابن عاشور إيجاد ثلة من المقاصد القطعيّة يجعلها العلماء أصلاً يصار إليه في الفقه والجدل (¬1). (2) أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع. والواجب على علمائها التعرّف على علل التشريع ومقاصده ظاهرها وخفيها (¬2). (3) من أعظم ما يقتضيه عموم الشريعة أن تكون أحكامها سواء لسائر الأمم المتبعين لها بقدر الاستطاعة، لأن التماثل في إجراء الأحكام والقوانين عون على حصول الوحدة الاجتماعية في الأمة (¬3). (4) طريق تحقيق عموم الشريعة والالتزام بها. هذا ما ورد في الكتاب من كليّات كثيرة، وفي السُّنة من قواعد عامة. وكذلك المجملات والمطلَقات التي في القرآن ومعظمها مرادٌ إطلاقه وإجماله. وللفقهاء طرائق في تطلب بيان المجمل وتقييد المطلق بحمل اللفظ المطلق في موضع على مقيد في موضع آخر، وإن لم يكونا من نوع واحد (¬4). (5) توجه الإسلام في أحكامه إلى عامة المسلمين ناشئٌ عن قابليته للتطبيق في مختلف أحوال العصور بدون حرج ولا مشقة ولا عسر، وقد غير الإسلام بعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية. المقاصد: 140. (¬2) تعليل الأحكام الشرعية وخلو بعضها عن التعليل. المقاصد: 159. (¬3) عموم شريعة الإسلام: المقاصد: 262. (¬4) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 264.

عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة، ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة (¬1). (6) لسدّ الذرائع تعلق قوي بمبحث التحيّل (¬2). (7) محافظة الشريعة على أحكامها في الأموال التي يتحقّق فيها عدم فوات المقصد. وصورة ذلك منع الوصية للوارث بما دون الثُّلث، وأباحتها للموصي إن كانت الوصية لغير الوارث. فكان الظاهر أن إعطاء الثلث لبعض الورثة أولى بالجواز. ولكن منعَه إنما هو للمحافظة على قصد المواريث. وهو تعيين أنصباء للورثة لا يتجاوزها الناس، إبطالاً لِما كان عليه أهل الجاهلية. فمن أجل ذلك منعت الوصية للوارث مطلقاً، وأنفذت للأجنبي في الثلث (¬3). (8) تعرض الإمام للقياس في مواضع كثيرة منها قوله: ومن هذا القبيل النهي عن الانتباذ في الحَنْتَم والجَرّ والمزفَّت والمُقَيَّر. والمقصود أنه يسرع إليها الاختمار وليس ذلك لمجرد الأسماء (¬4). (9) في اعتياد الفقهاء تعليل القياس توجيه الأنظار إلى التعليل بالأوصاف الظاهرة المنضبطة، مع تصريحهم بأن تلك الأوصاف يحصل من وجودها معنى هو المسمّى بالحِكمةِ أو المصلحة أو درء المفسدة (¬5). (10) التوقف والقضاء في الأحكام. وصورة ذلك مسألة العوْل في الميراث، التي بناها الأئمة الفقهاء على حالة مشكِلَةٍ وقعت زمن عمر. وقد تقدم الحديث عنها. ¬

_ (¬1) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 275. (¬2) سدّ الذرائع. المقاصد: 335. (¬3) نفوذ الشريعة. المقاصد: 352. (¬4) نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال. المقاصد: 312. (¬5) نوط الشريعة بالضبط والتحديد. المقاصد: 344.

الباب السادس مصادر التشريع

الباب السادس مصادر التشريع

الفصل الأول: أنواع مصادر التشريع إلى جانب مباحث مقاصد الشريعة وما لها به من علاقة، ننبّه من جديد إلى أنّ مهمة الدارس لهذا الفنّ لا تقتصر على التعريف بالمقاصد وبيان أقسامها، بل تمتد إلى الوقوف على أنحاء وطرق إثبات المقاصد من جهة، وإلى معرفة الأدلة التفصيلية التي تُستنبط منها أحكام الشريعة من جهة ثانية. وهكذا تكون النظرة شاملة ودقيقة تصل الأحكام بأدلّتها التفصيلية، وتربط تلك الأدلة بما تصوّره من مقاصد ومصالح يَتحقّق بها غرض الشارع من التكليف، وغرض المكلف من الحصول على الغايات والأهداف التشريعية التي كتبها الله له لاستجابته لأحكامه. وليس في قول الإمام: وقد يظن ظانٌّ أنّ في مسائل علم أصول الفقه غُنيةً لمتطلّب هذا الغرض فيقوم هذا دليلاً على جواز إلغاء مسائل علم المقاصد وعدم ذكرها والتعرّض إليها، كما أنه لا يريد من عدم اطّراح علم أصول الفقه أو إغفاله أن يبقى على ما هو عليه من جمود وخلط (¬1)، بل دعا إلى تجديده وفصْل ما ليس من القضايا الأصولية عنه. فإنّ هذا لا يقتضي أبداً تجاوزه إلى غيره من العلوم في قضاياه الأساسية، بل هو محل إفادة ونقد وتطوير. وهل هو إلا ¬

_ (¬1) المقاصد: 6.

كاشف عن محامل ألفاظ الشارع في انفرادها واجتماعها وافتراقها حتى تقرّب فهم المتضلّع فيها من أفهام أصحاب اللسان ... مثل مسائل مقتضيات الألفاظ وفروعها من عموم وإطلاق، ونص وظهور، وحقيقة وأضدادها، وكمسائل تعارض الأدلة الشرعية من تخصيص وتقييد وتأويل وجمع وترجيح ونحو ذلك (¬1). ومصادر الشريعة المتّفق عليها وما في حكمها هي الكتاب والسُّنة، ثم الإجماع والقياس. من مصادر التشريع: وألحق أئمةُ المذاهب بها مصادر أخرى اختلفوا في الاعتداد بها والاعتماد عليها. وهي: المصلحة المرسلة، والاستحسان، وسدّ الذرائع، وإبطال الحيل، وقول الصحابي، والعرف، وشرع مَن قبلنا، والاستصحاب. وبيّن الشاطبي وجهَ حصرِ الأدلة في المصادر المذكورة أعلاه في موافقاته حين قال: أصول الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض. والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض. والأول هو الكتاب والسُّنة، والثاني هو القياس والاستدلال. ويلحق بكل واحد منهما وجوه. فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهبُ الصحابي، وشرع مَن قبلنا لأنّ ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبّد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد. ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 9. (¬2) الموافقات: (3) 3/ 41.

الكتاب

الكتاب: القرآن أعظم المصادر وأصحّها. وهو قطعيّ المتن ظنّي الدلالة، متعبّد بتلاوته. وفي تصوير أهميته ودوره في التنبيه على علل الأحكام ومقاصد التشريع التي استهدفها الشارع عن طريق خطاباته وتشريعاته وردَ عن بعض أئمة الفقه: أن الكتاب كلية الشريعة، وعمدة المقصد، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر. وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه ... وإذا كان كذلك لزم بالضرورة لمن أراد الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها أن يتخذه سميرَه وأنيسَه، وأن يجعله على مرّ الأيام جليسَه (¬1). وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تنبّه على مقاصد الشريعة منها: ° شمولية الخطاب الإلهي كما يدلّ على هذا قوله - عز وجل -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬2). ° دفع الحرج عن المكلفين لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (¬3). ° تحقيق العبادة والإخلاص فيها للحق جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4)، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ ¬

_ (¬1) ابن قدامة المقدسي. روضة الناظر وجنة المناظر: 1/ 177؛ الشاطبي. الموافقات: 3/ 346. (¬2) سورة النحل، الآية: 86. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) سورة البيّنة، الآية: 5.

رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬1). ° والقيام بالعدل في كل شيء، والاستقامة لله في القول والعمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). ° ومن المقاصد المعلن عنها في الكتاب أيضاً: الانكفاف عن الفساد والإفساد، كما في قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (¬3)، وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬4). ° التمسك بالوحدة ومحاربة التفرّق والانقسام. ومما يدلّ على هذا المقصد الجليل قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬5)، وقوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (¬6). والأمثلة على هذا المقصد وما يتفرّع عنه متوافرة في الشريعة الإسلامية، لحرصها على حماية كل المصالح الأساسية: الضرورية والحاجية والتحسينية. قال الشاطبي: إذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنوية وجدناها قد تضمّنها القرآن الكريم على الكمال. وهذه هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكملُ كل واحد منها، وهذا كله ظاهر (¬7). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 36. (¬2) سورة المائدة، الآية: 8. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬4) سورة المائدة، الآية: 33. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 46. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 1. (¬7) الموافقات: (3) 3/ 367.

السنة

السُّنة: والسُّنة النبوية بيان للكتاب. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1). وقد استقلّت بأحكام وتشاريع كالذي ورد منها في الصلاة والزكاة وغيرهما من القضايا العبادية، أو ما جاء فيها من أحكام لها علاقة بالأنكحة والعقود والقصاص والحدود من العاديات. وقد ألزم الله بها في قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2)، كما حذّر سبحانه من مخالفة رسوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). فالكتاب والسُّنة في المنزلة العليا. قال الشاطبي: وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن والسُّنة. فلم يتخلّف عنها شيء. والاستقراء يبيّن ذلك. ويَسهل على من هو عالِم بالكتاب والسُّنة. ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصّوا عليه (¬4). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - مشيراً إلى جملة من الحِكَم والمقاصد والمصالح كما في قوله: "فإنما بعثتم مبشّرين ولم تبعثوا معسّرين" (¬5)، وقوله: "إن الدين يسر" (¬6). وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" (¬7)، وقوله: "وإنما جعل الاستئذان لأجل البصر" (¬8)، وقوله: "لولا أن قومك حديثو عهد بشركٍ لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم" (¬9)، وقوله: "دعه لا يتحدث الناس أن ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 44. (¬2) سورة الحشر، الآية: 7. (¬3) سورة النور، الآية: 67. (¬4) الموافقات: (3) 4/ 29. (¬5) خَ: 1/ 323. (¬6) خَ: 1/ 93. (¬7) طَ: 2/ 745. (¬8) خَ: 7/ 129 - 130؛ مَ: 3/ 1698. (¬9) خَ: 3/ 429.

الإجماع

محمداً يقتل أصحابه" (¬1). وهذان المصدران: الكتاب والسُّنة؛ والاستنباطُ منهما مستَنَدُ التشريع، تتبين المقاصد للناظر فيهما بإدراك ما تضمّناه من أهداف الأحكام، وغاياتها التشريعية. ولا شك أن السُّنة بالإضافة إلى ما ذكرناه مبيّنة للمراد من القرآن. وهي تشتمل أيضاً على بيان مقاصد بعض الأحكام التي لم ينصّ القرآن على مقاصدها، وعلى زيادة بيان لما ورد من ذلك في الكتاب. ومن المقاصد التي نبّهت إليها السُّنة في خصوص أحكام النكاح مثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج. فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج" (¬2). ومن المقاصد التي بيّنتها السُّنة قوله - صلى الله عليه وسلم - في الجمع بين المرأة وعمّتها، والمرأة وخالتها: "إنكنّ إن فعلتن ذلك قَطَعْتُنّ أرحامكن" (¬3). والحديث عن هذين المصدرين الأساسيين مستوفى أو يكاد عند أكثر الأصوليين. الإجماع: هو المصدر الثالث من مصادر التشريع المتفق عليها. وهو لغة: العزم، والاتفاق، واصطلاحاً: اتفاق مجتهدي الأمة، وقيل: اتفاق جميع من هو أهل له على حكم شرعي في عصر من العصور بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وشرطه عند الشافعية انقراض العصر، وثبوته من أهل العدالة ¬

_ (¬1) خَ: 6/ 46. (¬2) خَ: 6/ 117. (¬3) حَب. الإحسان: 9/ 426.

والاجتهاد كالثبوت بالنصّ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يَجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار أو في النار". وقال الحاكم معقّباً على هذا الحديث بأنه روي بأسانيد يصحّ بمثلها الحديث (¬1). ومن شروطه المتفق عليها شرائطُ الأهلية كالعقل والبلوغ والإسلام والعدالة، والكينونة من أهل الاجتهاد ومن أهل السُّنة والجماعة (¬2). واستدلّوا على حجيّته بما أفادوا من قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (¬3). وأما سببه فقد يكون توقيفاً على الكتاب والسُّنة، أو استنباطاً منهما، أو توفيقاً من الله للمجمِعين إلى الصواب وإلهامهم الرشد. فـ "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (¬4). وهو فيما اتفق عليه أهل العلم يدعو إلى الانتباه والتأمل كالذي أشار إليه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه في باب ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضّ فيه على اتفاق أهل العلم، وما أجمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار ومصلى النبي والمنبر والقبر (¬5). ¬

_ (¬1) المستدرك: 1/ 115. (¬2) الآمدي. الأحكام: 1/ 324 - 328؛ الغزالى. المستصفى. 1/ 181 - 185؛ البخاري. كشف الأسرار: 1/ 236؛ السرخسي. الأصول: 1/ 310. (¬3) سورة النساء، الآية: 115. (¬4) المستدرك: 3/ 87. (¬5) أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية. المقاصد: 82.

القياس

ومنه ما كان موضعه الأحكام ذات العلة الخفية ومما استنبط له الفقهاء علّة. ويقتضي الإجماع الحكم قطعاً ويقيناً، كرامةً لما اتفق عليه الأئمة وإن شذّ عنهم النظّام من المعتزلة، وقوم من الإمامية، والرافضة والخوارج. والإجماع بحكم ما بيّناه من أقوى الطرق لمعرفة الأحكام ومقاصدها. ذلك أن ما يقع عليه الإجماع من المقاصد يكون أقوى من المقاصد المختلف فيها، كما أن معرفة المقاصد شرط ضروري في الاجتهاد، والاجتهاد شرط في الإجماع، وشرط الشرط شرط في المشروط. القياس: لا شك أن الأصلَ المعتمد في القياس هو التعليل. والقياس في اللغة: هو تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويتُه به. وفي الاصطلاح - كما حدّده أبو بكر الباقلاني -: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة. وقال بعض المحقّقين: هو مساواة فرعٍ لأصلٍ في علّة الحكم، أو زيادته عليها في المعنى المعتبر في الحكم. وأحسن ما ورد في حدّه: استخراج مثلِ الحكم المذكور لما لم يذكر، لجامع بينهما. وقال ابن القيم في معنى القياس: قال الإمام أحمد: القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثلَه في كل أحواله. فأما ما أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فهو خطأ. وقد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعضها. فإذا كان مثله في كل

أنواع القياس

أحواله فما أقبلت به وأدبرت به فليس في نفسي منه شيء (¬1). وموضوع القياس: طلب أحكام الفروع المسكوت عنها من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها ليلحق فرع بأصله. والقياس هو المصدر الرابع من المصادر الأساسية في التشريع. ويترتب وجوده على وجود ركنه - وهو العلّة الجامعة بين الفرع والأصل، والتي اشترط القائلون به المثبتون له من علماء الأصول أن تكون العلّة فيه مشتملة على المناسبة. وذلك لما ينجرّ عن ترتّب الحكم عليها من جلب مصلحة أو درء مفسدة. وصرّح الغزالي بوجوب مراعاتها للمقاصد. قال: وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد. وما انفك عن رعاية أمر مقصود فليس مناسباً، وما أشار إلى رعاية أمر مقصود فهو مناسب (¬2). أنواع القياس: ينقسم القياس عند الجمهور إلى عقلي، وهو ما يكتفى فيه بالعقل، وشرعي وهو ما لا بد فيه من أصل معلوم بالشرع. ومن القياس قياس الطرد. وهو عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلّة المستنبطة من حكم الأصل. ومنه قياس العكس، وهو عبارة عن تحصيل نقيض حكم معلومٍ لما في غيره لافتراقهما في الحكم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الناس في مسمى القياس على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 269. (¬2) المستصفى: 2/ 251؛ شفاء الغليل: 159، 161، 163، 165.

أقيسة الاستدلال

1 - كونه حقيقةً في التمثيل، مجازاً في الشمول. وبهذا قال الغزالي وأبو محمد. 2 - وعند ابن حزم حقيقة في الشمول مجاز في التمثيل. 3 - والأصح الذي عليه الجمهور أنه حقيقة في التمثيل والشمول. وقياس التمثيل يصدق على ما فيه إلحاق الشيء بنظيره، وقياس الشمول عبارة عن إدخال الشيء تحت الحكم العام الذي شمله. وكل منهما متصل بالآخر. والقياس ثابت فيهما وهو التقدير والاعتبار والحسبان (¬1). أقيسة الاستدلال: وقسم ابن القيم الأقيسة المستعملة في الاستدلال، وهي التي تختلف باعتبار ذكر العلّة فيها وعدم ذكرها، إلى ثلاثة أقسام هي: (1) قياس العلّة. وهو ما صرح فيه بالوصف الجامع بين الأصل والفرع. (2) قياس الدلالة. وهو الذي يجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل لعلّة وملزومها. (3) قياس الشَّبَه. وهو ما ألغي الفارق فيه، بأن كان الوصف الجامع لم يصرّح به في القياس، كما في إلحاق الأَمَة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على العتق بواسطة نفي الفارق بينهما. وهذه الأقيسة الثلاثة واردة بأمثلتها في القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) الفتاوى: 9/ 259.

أما قياس العلّة فكثير في القرآن. قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (¬1). وردت في هذه الآية إشارة إلى من كان قبلنا من القرون. ثم الحديث عمن لحق بهم من غيرهم. وتبيّن أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم في الأصل. والجاهليون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - هم الفرع، والذنوب العلة الجامعة، والحكم الهلاك. فهذا محض قياس العلة (¬2). ومثل قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3). وقوله جل شأنه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬4). وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلّة، وملزومها. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬5). وبيانه: إنكم إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 6. (¬2) ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 134. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 59. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 137. (¬5) سورة الحج، الآية: 5.

إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى. فهما نظيران في الإمكان والوقوع، فإعادتكم بعد الموت خلقاً جديداً كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها. وقد أعاد سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه بأوجز العبارات وأدلها وأفصحها وأقطعها للعذر وألزمها للحجة (¬1). فالتمثيل في القرآن ضبط لمن تدبّره. وجملة صور ومبادئَ وأحكام دعا الله إليها عباده وأمرهم بالاستماع إليها من أجل تعقّلها والتفكّر فيها والاعتبار بها. ومن ثم عندما يبرز الطرفان في التمثيل ينظر في تسوية أحدهما بالآخر. وأساس ذلك في بناء الأحكام هو التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر. وهذا روح القياس. وقد فطر الله الناس على هذا السلوك ودعاهم إلى إلحاق النظير بنظيره. وأنكر التفريق بين المتماثلين، والجمع بين المختلفين. فالعدل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعاً وقدراً يأبى ذلك (¬2). ومنه قوله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (¬3). وأما قياس الشَّبَه فلم يحكِه الله إلا عن المبطلين. وبالجملة فهو مردود ومذموم، إما لكون التساوي فيه مجرد شَبَه صوري كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ¬

_ (¬1) ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 119 - 120. (¬2) ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 144. (¬3) سورة فُصلت، الآية: 39.

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (¬1). وجاء ذكر أعضاء الأصنام في القرآن في صورة عاطلة عن حقائقها وصفاتها. وذلك قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} (¬2). فالحقائق والصفات المذكورة في هذه الآية معدومة فارغة خالية عن الأوصاف والمعاني. فاستوى وجودها وعدمه. وفيما ذكرناه من الملاحظات ما يدحض قياس الشبه، الخالي عن العلة المؤثّرة والوصف المقتضي للحكم. والله أعلم (¬3). وقسّموا القياس أيضاً باعتبار قوّته وضعفه إلى قسمين: جليّ: ومن تعريفاته أنه ما عُلِم فيه نفي الفارق قطعاً، وخفيّ: وهو ما لم يُقطع فيه بنفي الفارق، ولم تكن علّته منصوصاً عليها أو لم تكن مجمعاً عليها. وأطلقت الحنفية على الجلي لقب القياس، وعلى الخفي لقب الاستحسان. وإلى أقسام القياس الفقهي الأصولي المبيّنة قواعده وأسسه بصورة دقيقة علمية على ما عند علماء الأصول، وإلى ظهور مذهب الظاهرية وانقسام العلماء بعده طائفتين مثبتة ونافية. أضاف الإمام ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية: 33 - 34. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 195. (¬3) ابن القيم. إعلام الموقعين: 148 - 152.

جريان القياس

الأكبر قياساً آخر تحدث عنه الناس كثيراً في أوساط المجدّدين. ذلك أن الإمام الأكبر نبَّه، كما قدمنا، إلى وجود قياس آخر هو قياس الأجناس المُحدَثَة على أجناس نظائرها الثابتة في زمن الشارع. ثم قال، بعد ذكر هذا الصنف الرابع: أليس هو الأولى والأجدر بالاعتبار من قياس جزئيات المصالح عامها وخاصها بعضها على بعض. جريان القياس: ورغم أهمية القياس، واتفاق الجمهور على اعتماده نجد الفقهاء والأصوليين مختلفين في جريان القياس. فأجاز الجمهور القياس في الحدود والكفارات، والمقدرات، والرخص. وهذا قول المحققين. وأجاز الجمهور القياس في العادات والخلقيات إلا فيما كان طريقه العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره، وأقل النفاس وأكثره فإنه لا يجوز إثباته بالقياس؛ لأن أسبابها غير معلومة لا قطعاً ولا ظاهراً. فوجب - كما قال أبو إسحاق الشيرازي - الرجوع فيها إلى القول الصادق (¬1). وعلّل الإسنوي عدم جريان القياس فيها بسبب اختلاف الأشخاص والأزمنة والأمزجة. وكذلك منعوا جريان القياس فيما طريقه الرواية والسماع كقِران النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإفراده، ودخوله مكة صلحاً أو عنوة. ومنعوا من التعبّد بالقياس في كل أحكام الشرع. واعتبروا ذلك محالاً؛ لأن القياس لا يصحّ إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل، ولكن أحكام الأصول شرعية (¬2). ¬

_ (¬1) الرازي. المحصول: (1) 2/ 477. (¬2) الرازي. المحصول: 2/ 479؛ نهاية السول: 3/ 36؛ السبكي. الإبهاج: 3/ 26.

المصلحة المرسلة

المصلحة المرسلة: تعرض كثير من الفقهاء والأصوليين عند حديثهم عن المصالح إلى اعتبارها ثلاثة أنواع: معتبرة وملغاة ومرسلة. فالمعتبرة والمُلغاة واضحتان لا تحتاجان منا إلى بيان. أما المصلحة المرسلة فهي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها أو إلغائها. قال زكي الدين شعبان في تعريفها: هي عبارة عن المعاني التي يحصل من ربط الحكم بها وبنائه عليها جلبُ منفعة أو دفع مفسدة عن الخلق (¬1)، وتعرف عند بعض الأصوليين بالاستصلاح. ويظهر لنا من تعريفها هذا أنها في واقع الأمر تلك التي سكت الشارع عن بيان حكمها، وليس لها أصل تقاس عليه، غير أنها يوجد فيها معنى يصلح أن يكون علّة ومناطاً لحكم شرعي يحكم به، بناء على ذلك المعنى المناسب. ولكونها أصلاً يعمل به وحجّة يصح الاستناد إليها. جعلها الشيخ ابن عاشور نوعاً من أنواع القياس، إذ القياس المعروف في علم الأصول والمعتمد عليه عند الأئمة، كما قدمنا، هو قياس العلّة. والمصلحة المرسلة قياس ثان هو قياس الجنس. وإذا كنا نقول بحجيّة القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع بجزئي ثابتٍ حكمهُ في الشريعة بآخر للمماثلة بينهما في العلّة المستنبطة، وهي مصلحة جزئية ظنّية غالباً لقلّة صور العلّة المنصوصة، فَلأَنْ نقول بحجيّة قياس مصلحة كلّية حادثة في الأمة، لا يعرف لها حكم على كلّية ثابتٍ اعتبارُها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظنّي قريب من القطعي، أولى بنا وأجدرُ بالقياس، وأَدخَلُ في الاحتجاج الشرعي (¬2). وعقّب الشيخ ابن عاشور على المنكرين للمصلحة المرسلة ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإسلامي: 182. (¬2) المقاصد: 245.

بقوله: وإني لأعجب فرطَ العجب من إمام الحرمين على جلالة علمه ونفاذ فهمه كيف تردّد في هذا المقام؟! وأما الغزالي فأقبل وأدبر فلحق مرّة بطرف الوفاق لاعتباره المصالح المرسلة، ومرّة بطرف رأي الجويني، إذ تردّد في مقدار المصلحة (¬1). واشترطوا للعمل بالمصلحة المرسلة شروطاً أربعة: (1) أن تكون المصلحة من المصالح التي لم يقم عليها دليل شرعي يلزم منه إلغاؤها. وذلك كالتي تقتضي جواز المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى. (2) أن تكون المصلحة من المصالح المحقّقة. وذلك كتسجيل العقود فإنه يقلّل من شهادة الزور. فإن كانت المصلحة متوهَّمة لم يَجُزْ العمل بها. (3) أن تكون المصلحة من المصالح العامة. فلا يصح تشريع الحكم لقاء المصلحة الخاصة. وهذا ما اقتضى بطلان فتوى يحيى بن يحيى بوجوب الصوم في كفارة الإفطار عمداً دون الإعتاق، وهو من القادرين عليه. أنكر ذلك الفقهاء وقالوا: إنها فتوى تخالف النصّ. (4) أن تكون المصلحة معقولة في ذاتها غير جارية في الأمور التعبّدية أو العقوبات. وهي التي تدرك العقول معناها المناسبَ من تشريعها. وقد عمل الصحابة بالمصلحة وبَنَوا كثيراً من الأحكام عليها. ومعلوم أن التشريع الإسلامي قام على مراعاة مصالح الناس وتحقيقها للجميع. ومما اعتمد الحكم فيه على العمل بالمصلحة مسائل كثيرة، نذكر منها: ¬

_ (¬1) المقاصد: 245، 246.

° جمع القرآن في المصحف. وقد أمر به أبو بكر وانشرح له صدره، ورضيه عمر، ووافق عليه زيد بن ثابت، وأجمع على اعتباره الصحابة (¬1). ° إجماع السلف على جعل حد شارب الخمر ثمانين جلدة. وأصل هذا التحديد ما ارتآه عبد الرحمن بن عوف، أو علي بن أبي طالب. وحَدُّهُ عند الشافعي وأبي ثور وداود وأهل الظاهر أربعون. ثم أصبح الحد ثمانين مجمعاً عليه. وذلك ما حكاه النووي بقوله: هو أربعون، وللإمام أن يرقى به إلى الثمانين، وما دونها، تعزيراً إن رأى ذلك (¬2). ° وضع دواوين العطاء: أول من فعل ذلك عمر بن الخطاب. رتب الناسَ فيها، وقدّر الأعطيات بعد مشاورته الصحابة. وتفرق ديوان العطاء بعد ذلك إلى ديوان الجند، وكان خاصاً بضبط ما ينوب الجند من العطاء، وديوان الخراج لمعرفة ما يرد إلى بيت المال، وما يفرض لكل مسلم من العطاء. وكان ذلك عندما أكثر الناس، وجُبيت الأموال، وفرضت الأعطيات (¬3). ° ترك عمر قسمة الغنائم من أرض سواد العراق وقت الفتوح لتكون عُدّة لنوائب المسلمين (¬4). ° تدوين الحديث في زمن عمر بن عبد العزيز وقوله: تحدث الناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (¬5). ¬

_ (¬1) المقاصد: 249 - 250 - تع: 2. (¬2) شرح مسلم: 11/ 215 - 216. (¬3) الخزاعي. تخريج الدلالات: 237. (¬4) المقاصد: 251. (¬5) المقاصد: 251، 252.

° وأضاف الشيخ ابن عاشور إلى هذا كله ما أحدثه قضاة الإسلام وأئمته من أساليب المرافعات، وضرب الآجال، واستفسار الشهود، والسجن للملدّ عن الجواب، وإحداث يمين القضاء لمن أثبت لنفسه حقاً بالحجة على ميت أو غائب ونحو ذلك (¬1) ونجد أمثلة أخرى للمصالح المرسلة عند الباحثين، فقد عدّوا منها: ° تضمين الصناع. والمصلحة في هذا ترجع إلى التيسير ورفع الحرج وحفظ الأموال (¬2). ° جواز العقاب بأخذ الأموال على بعض الجنايات (¬3). ° اختيار الأمثل للقضاء الإسلامي إذا فُرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس (¬4). ° جواز التعذيب بالتهمة (¬5). ° توظيف الإمام العدل الثقة الحصيف المأمون على شؤون المال (¬6). ¬

_ (¬1) المقاصد: 253. (¬2) الشاطبي. الاعتصام: 2/ 119؛ د/ مصطفى زيد. المصلحة في التشريع الإسلامي: 31؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 356. (¬3) الشاطبي. الاعتصام: 2/ 123، 124، 126، 127. (¬4) الشاطبي. الاعتصام: 2/ 120؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 350. (¬5) الشاطبي. الاعتصام: 2/ 120 - 121؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 191، 192، 335، 337، 340. (¬6) الشاطبي. الاعتصام: 2/ 121 - 122؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 350.

° جواز قتل الجماعة بالواحد (¬1). ° تعيين الخليفة أو اختياره مثل ما فعل أبو بكر وعمر (¬2). ° إحداث عثمان أذاناً ثانياً يوم الجمعة بالسوق (¬3). ° اتخاذ وسائل للإعلام بالقدر الذي لا يتنافى مع أصل من أصول الشريعة أو أي نص من نصوصها (¬4). وبناء على ما تقدّم وعلى ما ذكره صاحب المقاصد بشأن المصالح من قوله: لا يجوز الاختلاف في حجيتها إذا كانت مصالح محضة لا تعارضها مصالح أخرى ولا تخالطها مفاسد، نجد بعد التحليل موافقة جماعية على اعتماد المصالح مرّة بشروط كما هو الأمر عند الغزالي، ومرّة على الإطلاق. ذكر ذلك عبد الوهاب خلّاف قائلاً: والذي خلص من أقوال العلماء في المصلحة المرسلة أنه لا خلاف بينهم في التشريع بها، وأنه لم يذهب واحد منهم إلى أنه لا تشريع إلا بناء على مصلحة اعتبرها الشارع بذاتها، لأن مصالح الناس تتجدّد. وقد تقتضي ضرورات الناس وحاجاتهم في عصر من العصور مصالح لم يكن لها نظائر في عصر التشريع، ولا بد من التقنين لها (¬5). ¬

_ (¬1) الشاطبي. الاعتصام: 2/ 125 - 126؛ البوطي ضوابط المصلحة: 141 - 142، 147 - 150، 357؛ مصطفى زيد. المصلحة في التشريع الإسلامي: 32. (¬2) مصطفى زيد. المصلحة في التشريع الإسلامي: 31. (¬3) عبد الوهاب خلاف. مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص منه: 88. (¬4) البوطي. ضوابط المصلحة: 350. (¬5) عبد الوهاب خلاف. مصادر التشريع الإسلامي: 175.

الاستحسان

وذهب الدكتور مصطفى زيد إلى أنه لا محل للخلاف في أصل بناء الأحكام على المصلحة، إذ هي من أقوى الأصول الشرعية، وأثبتها وأولاها بأن تُبنى الأحكام عليها، ما دامت المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع، وما دام في بناء الأحكام عليها رفع حرج (¬1). ويمضي الدكتور البوطي مثل خلّاف وزيد إلى دعم موقف الشيخ ابن عاشور خصوصاً حين يقول: وصفوة القول إن المصالح المرسلة مقبولة بالاتفاق. والمراد من الاتفاق اتفاق الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة. وليس من المهم بعد ثبوت ذلك أن تنكرها فئة كالظاهرية أو آحاد الأصوليين كالقاضي أبي بكر الباقلاني والآمدي (¬2). الاستحسان: الاستحسان في الأصل ميل النفس إلى ما تهواه وترضاه دون رعاية دليل من الأدلة الشرعية المعروفة. وهو ما واجهه أهل الأثر بالتصدّي والإبطال حتى بلغ الأمر بالإمام الشافعي إلى القول بأن من استحسن فقد شرعّ، أي وضع شرعاً من قبل نفسه (¬3). وهذا في واقع الأمر ما لا يقول به أحد من الأئمة. ولدفع ألوان المعارضة إلى الاختفاء ضبط الفقهاء للاستحسان معناه الاصطلاحي. قال الكرخي: هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول. وممن انتصب للردّ على الإمام الأعظم أبي حنيفة لاعتماده الاستحسان قبل ضبط معناه الاصطلاحي ¬

_ (¬1) د/ مصطفى زيد. المصلحة في التشريع الإسلامي: 181. (¬2) البوطي. ضوابط المصلحة: 2. (¬3) الآمدي: 1/ 140.

الأصولي، عدد لم يتبيّن لهم أن الاستحسان قسم خامس من الحجج الشرعية عند صاحب المذهب. وهذا تسّرع في الطعن، وقدح في مقالة الإمام، ولمّا يقفوا على المراد من الاستحسان في الاصطلاح (¬1). وقال ابن العربي من المالكية: الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين. وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة: الاستحسان مذهب أحمد. وهو أن يُترك حكم إلى حكم أولى منه. وحدّد الشاطبي موضع العمل بالاستحسان في قوله: يُعمل به إذا كان القياس يؤديّ إلى فوات مصلحة أو إلى جلب مفسدة. فيجب تركه حينئذٍ لما فيه من الحرج (¬2). وذكره السرخسي وجعله أحد قياسين: أحدهما جليّ ضعيف الأثر يسمى قياساً، والآخر خفي قويّ الأثر يسمى استحساناً. والترجيح إنما يكون بالأثر لا بالخفاء والوضوح (¬3). وهو أنواع كثيرة بحسب طرق إثباته. ذلك أنه يمكن أن يثبت بطريق النص، أو بالإجماع، أو بالضرورة، أو بالعرف، أو بالمصلحة. (1) فالاستحسان الثابت بالنص يشمل جميع المسائل التي أعطاها الشارع حكماً مخالفاً لحكم نظائرها على وجه استثنائي ¬

_ (¬1) البخاري. كشف الأسرار: 4/ 3. (¬2) شلبي. المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي: 257. (¬3) المبسوط: 10/ 145.

كالسَّلَم والإجارة والتوصية والحكم ببقاء الصوم لمن أفطر ناسياً. (2) والاستحسان الثابت بالإجماع أي باتفاق المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في زمن من الأزمان على حكم شرعي لحادثة على خلاف الأصل العام المقرّر في أمثالها، أو سكوتهم على ما يفعله الناس دون إنكار عليهم. ومن أمثلته الاستصناع وإطفاء الظمأ نظير مبلغ معيّن من المال. (3) الاستحسان الثابت بالضرورة والحاجة. ويكون في كل مسألة يُعدل فيها عن القياس لحاجة الناس وضرورتهم. ومثاله الحكم بطهارة سؤر سباع الطير، والحكم بطهارة البئر التي وقعت فيها النجاسة. (4) الاستحسان الثابت بالقياس الخفيّ. ومحلّه وجود قياسين جليّ وخفيّ فيعدل عن الأول كما في وقف الأراضي الزراعية. (5) الاستحسان الثابت بالعرف كالنهي عن بيع وشرط. ومثاله أن يحْلف المرء على أن لا يأكل لحماً ويأكل سمكاً. ويتحقّق في كل مسألة جرى العرف فيها على خلاف القياس. (6) الاستحسان الثابت بالمصلحة المرسلة. ويكون في كل مسألة عُدل فيها عن الحكم الذي يَقْضِي به القياس إلى حكم آخر يثبت لها بناء على المصلحة الراجحة كعدم إنهاء عقد المزارعة بموت المتعاقدين أو أحدهما، وكدفع الزكاة إلى بني هاشم. وفرّقوا بين القول بالمصلحة المرسلة والقول بالاستحسان؛ فإذا كان الأخذ بالمصلحة في مقابل قاعدة عامة اعتبر ذلك استحساناً، وإن لم يكن فيه مخالفة للقياس لم يكن استحساناً.

سد الذرائع

سدّ الذرائع: الذريعة لغة: هي السبب، والوسيلة إلى الشيء، وجمعها ذرائع. ومثلها الدريئة، وهي الجَمل يُختَل به الصيد، يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به، ويرمي الصيد إذا أمكنه، ويسيّب ذلك الجَمل مع الوحش أولاً حتى تألفه. وللمنية أسباب تقرّبها ... كما تقرب للوحشيّة الذرع (¬1) وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين: هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة، ويتوصّل بها إلى فعل محظور. وهذا الاصطلاح يطلق في الواقع على ما اشتهر بين العلماء بسدّ الذريعة. والمراد به حسم داء الفساد، دفعاً له إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة (¬2). وقد بنى الشاطبي هذه القاعدة على أساس أن النظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعاً. وقال المازري: سدّ الذريعة منع ما يجوز لئلا يتطرّق به إلى ما لا يجوز (¬3). ومن المعلوم أن المصطلح بالمعنى الذي حدّدناه هو ما استقر عليه الأمر عند علماء الشريعة لقَصرهم الحديث عن الذرائع، في كتبهم، على ما أفضى إلى الفساد خاصة. يقول ابن تيمية: الذريعة ما كان وسيلة أو طريقاً إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرّم. ولو تجرّدت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة فليست إلا سبباً ومقتضياً (¬4). وعلى هذا النحو جرى ¬

_ (¬1) اللسان. (¬2) القرافي. الفروق: 2/ 32. (¬3) المازري. شرح التلقين مخط. باب بيوع الآجال، 2: ق 373 - 374؛ المقاصد: 335. (¬4) الفتاوى: 3/ 356.

تلميذه ابن القيم (¬1). وقد وردت تعاريف كثيرة أخرى لهذا المصطلح عند الشاطبي (¬2)، والشوكاني (¬3). وذكره ابن العربي مجارياً لما ذهب إليه الإمام المازري في تحديده، قال: هو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يُتوصَّل به إلى محظور (¬4). وأركان الذريعة ثلاثة: الوسيلة، والإفضاء، والقصد. ويفرق الشيخ محمد هشام البرهاني بين الأركان الثلاثة بقوله، منتزعاً ذلك من تعريف الذريعة: "إنها عبارة عن أمر غير ممنوع في نفسه، قويت التهمة في التطرّق به إلى الممنوع". فعبارة "أمر غير ممنوع لنفسه" إشارة إلى الوسيلة، وعبارة "قويت التهمة في التطرّق به" إشارة إلى الركن الثاني وهو الإفضاء، وعبارة "إلى ممنوع" يحدّد وصف القصد أو المتوسل إليه (¬5). ولا أظنّ أن ركن الذريعة هو على ما صوّره، لما سبق في التعريفات أنها لا يشترط فيها القصد. فقد يكون المتوسَّل إليه محرّماً، سواء أراد المتذرّع ذلك القصد السيئ أو لم يرده. وتبعاً لتقسيم القرافي الذرائع إلى ما يجب سدّه وما يجب فتحه، وما هو موضع اجتهادٍ ونظرٍ بين الفقهاء والمجتهدين يقول الشيخ ابن عاشور: الذريعة في الشريعة الإسلامية قسمان: قسم لا يفارقه كونه ذريعة إلى فساد، لاطِّراد هذا الوصف فيه، ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين: 3/ 135. ط. دار الجيل. (¬2) الموافقات: 4/ 198 - 200. (¬3) إرشاد الفحول: 3/ 247. (¬4) ابن العربي. أحكام القرآن: 2/ 743. (¬5) سدّ الذرائع في الشريعة الإسلامية: 102.

لأن الفساد من خاصة ماهيته. وهذا القسم من أصول التشريع عند الإمامين مالك وابن حنبل، وعليه بنيت أحكام كثيرة منصوص عليها مثل تحريم الخمر. والقياس أصل في هذا الباب. والقسم الثاني ما يصير مآله إلى فساد كثيراً أو قليلاً. وهذا منه ما يكون سبباً للتشريع المنصوص عليه لمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الطعام قبل قبضه، ومنه ما تكون وقائعه وصوره غير قائمة في زمن الرسول، ولكنها مما استَجدّ بعد ذلك. وقد اختلفت أنظار الفقهاء فيه؛ فربما اتفقوا على حكمه، وربما اختلفوا. وذلك بحسب مقدار اتضاح الإفضاء إلى المفسدة وخفائه، وكثرته وقلته، ووجود معارض ما، يقتضي إلغاء المفسدة وعدم وجوده، وتوقيت ذلك الإفضاء ودوامه. ومثال هذا بيوع الآجال التي لها صور كثيرة. قال مالك بمنعها لتذرّع الناس بها كثيراً إلى إحلال معاملات الربا التي هي مفسدة. فإن الاعتداد بالتهمة عند مالك قائم فيها، إذ ليس لقصد الناس تأثير في التشريع، لولا أن ذلك إذا فشا صار القصد مآلَ الفعل. وهو مقصود الناس فاستحلّوا به ما حرّم عليهم. ومن دقائق الفهوم ما اتجه إليه نظر إمام دار الهجرة: إذا كان المنع منها لأجل التهمة كان حقاً ألّا يُمنع ما صدر منها عن أهل الدين (¬1). وفي هذا إبطال لكلام الغزالي (¬2). وإنما جعلت التهمة علامة على التمالي على إحلال المفسدة الممنوعة (¬3). ¬

_ (¬1) لعل مما يشير إلى هذا المعنى من تحكيم التهمة في سد الذرائع تعريف القاضي عبد الوهاب للذريعة إلى الفساد وذلك قوله: الذرائع هي الأمر الذي ظاهره الجواز إذا قويت في التطرّق به إلى الممنوع. الإشراف على مسائل الخلاف: 1/ 275. (¬2) الفرق 194. (¬3) المقاصد: 339.

وختم الشيخ ابن عاشور كلامه عن الذريعة بالتنبيه في مجال التفقّه والاجتهاد إلى التفريق بين الغلوّ في الدين، وبين سدّ الذريعة. وهي تفرقة دقيقة، لأن سدّ الذريعة موقعه وجود المفسدة، والغلو موقعه المبالغة والإغراق في إلحاق مباح بمأمور أو منهي عنه شرعاً بدعوى خشية التقصير. وهذا من التعمّق والتنطّع المذمومين شرعاً. وهو سبب ما يعرض لكثير من الناس من الوسوسة الذميمة. ولهذا انتهى في تحرير هذا الموضوع إلى القول بأنه يجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنّبوا مواقع الغلو والتعمّق في حمل الأمة على الشريعة وما يسنّ لها من ذلك (¬1). ومما سبقت الإشارة إليه نعلم أن سدّ الذرائع أصل من الأصول المعتمدة في التشريع. أخذ به المالكية والحنابلة، كما قدمنا، مستدلين بقوله - عز وجل -: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬4). وذكر ابن رشد أن أبواب الذرائع في الكتاب والسُّنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها. وقال ابن القيم: ولو أباح الرب الوسائل والذرائع المفضية إلى الشيء المحرّم لكان ذلك نقضاً للتحريم وإغراء للنفوس به، وحكمةُ الشارع وعلمُه يأبى ذلك كلَّ الإباء (¬5). وأنكر الحنفية والشافعية الأخذ بقاعدة سدّ الذرائع. وقالوا: ¬

_ (¬1) المقاصد: 342. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 108. (¬3) سورة البقرة، الآية: 104. (¬4) تَ: 4/ 668. (¬5) إعلام الموقعين: 3/ 135.

ليست هي من أدلة الفقه لأن الذرائع هي الوسائل، والوسائل مضطربة اضطراباً شديداً. فقد تكون حراماً وقد تكون واجبة، وقد تكون مكروهة أو مندوبة أو مباحة (¬1). ومن المؤكد أن الإمامين أبا حنيفة والشافعي رُوي عنهما نفيُ اعتبارهما الذريعة دليلاً وحجّةً صراحةً، كما وردت عنهما نصوص تشهد باعتبارها عندهم. فمن ذلك ما جاء في النهي عن بيع السلاح في الفتنة. قال الشافعي: أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحاً في الظاهر لم أُبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين، وأَجزتُه بصحة الظاهر، وأكره لهما النية، إذا كانت النية لو ظهرت كانت تفسد البيع (¬2). كما أن نصوصه صريحة في عدم سد الذريعة في بيوع الآجال، وقوله فيها قولاً واحداً لم يختلف فيه عنه أصحابه. وقد نصَب القرافي والشاطبي الخلاف في الذرائع بين مالك والشافعي في هذا القسم دون غيره من أقسام الذريعة. ومما جاء عنه من النصوص ما يشهد ظاهرها بعمله بقاعدة سد الذرائع. فهو يقول: ولا نحسب مبايعة مَن أكثرُ ماله الربا أو ثمنهُ المحرّم ما كان اكتسابه المال من الغصب والمحرّم كله. وإن بايع رجل رجلاً من هؤلاء لم أفسخ البيع؛ لأن هؤلاء قد يملكون حلالاً فلا يفسخ البيع، ولا نحرم حراماً بيَّناً، إلا أن يشتري الرجل حراماً يعرفه، أو بثمن حرام يعرفه، وسواء في هذا المسلم والذمي والحربي. والحرام كله حرام (¬3). ويحمل هذا على أن الإفضاء لو كان مقطوعاً به عادة لعاد على العقد بالإبطال. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية: 24/ 278. (¬2) الأم: 3/ 37. (¬3) الأم: (1)، 3/ 33.

وأمثلة الحنفية أكثرها وارد في باب البيع الفاسد. فمن ذلك قولهم فيما إذا آجره دابته لينقل عليها الخمر أو آجره نفسه ليرعى له الخنازير. وكذلك بيع ما هو من لباس النساء للرجل يلبسه، وكذلك الإسكافي يأمره إنسان أن يتخذ له خفاً على زي المجوس أو الفسقة، أو الخياط يأمره رجل أن يخيط له ثوباً على زي الفساق. كل ذلك كرهه الصاحبان مع تصحيح العقد والقول بنفاذه. وعلَّلا لهما بأنه تعاون على المعصية، وأجازه أبو حنيفة من غير كراهة، لعدم القطع بالإفضاء إلى المآل الفاسد، وهو استعماله في الوجه الذي هو معصية (¬1). وكتب الفقه ودواوينه بها أثر من اعتبار سدّ الذرائع في أكثر الأبواب من عبادات، ومعاملات، وأنكحة، وقضاء، أو في الشهادات، وفي الحدود والجنايات، والوصايا والمواريث. ونحن وإن ضاق بنا المجال عن ذكر أمثلة لذلك من مختلف أبواب الفقه، نرى من الضروري تبعاً لما فعله المتقدّمون أن نقف على الأقل في موضوعنا هذا على أمثلة ظهر فيها أثر اعتبار الذرائع في الأحكام في قسم المعاملات. ذكروا منها ثمانية فروع موزّعة بين البيوع والسلم وتضمين الصنّاع. ومن الفروع الثمانية نهيُ الشرع عن أن يجمع الرجل بين سلف وبيع. قال ابن رشد: اتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة (¬2)، ¬

_ (¬1) الزيلعي. تبيين الحقائق: 6/ 29. (¬2) بداية المجتهد: 2/ 162.

ودليله الحديث: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف (¬1). ومن تفسير مالك له قال: آخذ سلعتك بكذا على أن تسلفني كذا وكذا. فإن عَقَد المتبايعان البيع على هذا الشرط فالبيع غير جائز، وإن ترك صاحب الشرط شرطَه جاز البيع وانعقد. وقال الصنعاني: في هذه الصورة تحيّل لأجل ما يفضي إليه من الفساد. ووجه سدّ الذريعة في هذا المثال ما صرّح به ابن القيم في قوله: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع الرجل بين سلف وبيع. ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صحّ. وإنما ذلك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفاً، ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى. فيكون قد أعطاه ألفاً وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين. وهذا هو معنى الربا. فانظر إلى حمايته الذريعةَ إلى ذلك بكل طريق (¬2). ومنها بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وقد اختلفت آراء العلماء في هذا البيع. فمنهم من يقول بجواز ذلك مطلقاً وهو مذهب الشافعي, وهو الرواية الصحيحة عن أحمد. وفي المجموع: لا ربا في الحيوان عندنا، فيجوز بيع شاة بشاتين وبعير ببعيرين ونحو ذلك، وكذا سائر الحيوان (¬3). وقال ابن قدامة: لا يحرم النَّساء في شيء من ذلك سواء بيع بجنسه أو بغيره متساوياً أو متفاضلاً (¬4). ومذهب أبي حنيفة منع بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مطلقاً. ومذهب مالك عدم جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فيما اتفقت منافعه وتشابه، مع التفاضل. وفيما عدا ذلك فهو جائز. ¬

_ (¬1) طَ: 2/ 657؛ دَ: 3/ 281؛ تَ: 3/ 525؛ نَ: 7/ 288. (¬2) إعلام الموقعين: 3/ 141. (¬3) المجموع: 9/ 399. (¬4) المغني: 4/ 131.

قال مالك: ولا بأس أن يبتاع البعيرَ النجيبَ بالبعيرين أو بالأبعرة من الحمولة من ماشية الإبل، وإن كانت من نَعَم واحدة، فلا بأس أن يشتري منها اثنان بواحد إلى أجل إذا اختلفت فبان اختلافها، وإن أشبه بعضها بعضاً واختلفت أجناسُها أو لم تختلف فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل (¬1). وقد اختلفت الأدلة بين أصحاب هذه الآراء الثلاثة ما بين سُنة وآثار وإجماع أهل المدينة. ومن أدلة مالك في أساس مراعاة منع النَّساء عند اتفاق الأغراض سد الذريعة. وذلك لكونه من باب سلف جرّ نفعاً. وهو محرّم. أما إجماع أهل المدينة فقد صوره مالك بقوله: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا بأس بالجمل بالجمل مثلِه وزيادة دراهم يداً بيد، ولا بأس بالجمل بالجمل مثله وزيادة دراهم: الجمل بالجمل يداً بيد والدراهم إلى أجل. قال: ولا خير في الجمل بالجمل مثلِه وزيادة دراهم، الدراهمُ نقداً والجمل إلى أجل، وإن أَخّرت الجمل والدراهم لا خير في ذلك أيضاً (¬2). ومنها منع بيع السلعة بالسلعة نقداً بكذا، ونسيئة بكذا إذا تفرّقا قبل تعيين الثمن. وحجّة مالك في ذلك سد الذريعة الموجبة للربا، لإمكان أن يكون مَنْ له الخيار قد اختار أولاً إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل، ثم بدا له ولم يُظهِر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الآخر فيكون كمن باع الثمنين بالثاني فيدخله بيع ثمن بثمن نسيئة أو نسيئة ومتفاضلاً. واعتمد سائر الأئمة كون الجهالة في الثمن مفضية إلى النزاع. ففي قول الشافعية: ولو قال: بعتك هذا بألف نقداً أو ألفين إلى سعة ¬

_ (¬1) طَ: 2/ 652. (¬2) طَ: 2/ 652.

فخذ بأيهما شئت أنت أو شئتُ أنا؛ فهو باطل للجهالة (¬1). وقال ابن قدامة: وإن قال: بعتك بعشرة صحاح أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة نقداً أو عشرين نسيئة لم يصح، وعللوا عدم الصحة بجهالة الثمن (¬2). ومن هذا القسم النهي عن البيع وقت صلاة الجمعة، وبيع الرجل على بيع أخيه، والنهي عن بيع السلاح في الفتنة، وبيع العنب لعاصر الخمر، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها. وذكروا فرعين في باب السَّلَم: أولهما: المسلَم فيه المتعذر تسليمه واختلاف العلماء فيه على رأيين (¬3): الأول: التخيير بين أن يأخذ المسلِمُ الثمن، أو يصبر حتى يوجَدَ المسلَمُ فيه، وهذا رأي الأئمة: الشافعي وأبي حنيفة وأحمد (¬4). الثاني: فسخ العقد وأخذ صاحب المال ماله إذا تعذر على المسلَمِ إليه تسليم المسلَمِ فيه. وهذا أحد قولي الشافعي. والقول بالرأي الأول أوْلى لما فيه من ضمان للمعاملات وإحسانٍ إلى المعسر. والفرع الثاني: الإقالة من بعض المسلَم فيه. وفي هذا الفرع اختلاف المذاهب الأربعة. فإذا حلَّ الأجلُ في السَلَم وتراضى المسلِم والمسلَم إليه على الإقالة تعددت أقوال المذاهب: قال مالك: لا تجوز الإقالة من البعض. فإما أن يقيله من الكل، وإما أن يأخذ الكل. ودليل ذلك سد الذريعة، لأن الإقالة من البعض وأخذ البعض منه تذريع إلى بيع وسلف وهو منهي عنه. وقد جاء هذا القول مفصلاً عند ابن رشد (¬5). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج: 2/ 31. (¬2) المغني: 4/ 33. (¬3) د/ محمود حامد شعبان. قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي: 349 - 353. (¬4) انظر: الأم: 3/ 121 ط الشعب، والهداية: 3/ 72، والمغني: 4/ 333، 334 ط (1). (¬5) البداية: 2/ 206.

وذهب الشافعي إلى جواز الإقالة من بعض المسلَم فيه قياساً على الإقالة من الكل؛ لأن الإقالة منهم. فإذا جازت من الكل جازت من البعض. وورد شرح وتفصيل ذلك في المذهب (¬1). وقالت الحنفية بجواز الإقالة من البعض أيضاً. ودليلهم أن الإقالة شرعت نظراً للعاقدين لدفع حاجة الندم، وفي الإقالة من البعض نظر من المتعاقدين. قال الكاساني: وإن تقايلا السلَم في بعض المسلم فيه، فإن كان بعد حِلِّ الأجل جازت الإقالة فيه بقدره إذا كان الباقي جزءاً معلوماً من النصف أو الثلث ونحوه، لما ذكرنا أن الإقالة شرعت نظراً (للعاقدين وفقاً لحاجة الندم)، وفي إقالة البعض دون البعض نظر من الجانبين (¬2). وروي عن أحمد قولان: أولهما بمنع الإقالة عن بعض المسلم فيه لأن السلف في الغالب يزاد فيه في الثمن من أجل التأجيل فلم يجز، وفيه مراعاة لسد الذرائع. ثانيهما: أن الإقالة من بعض المسلم فيه تجوز؛ لأن الإقالة مندوب إليها. وكل معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء والإنظار (¬3). ومنها تضمين الصناع. ذهبت المالكية والحنابلة والإمامان من الحنفية والشافعي في أحد قوليه إلى تضمين الأجير المشترك. قال ابن رشد: وأما تضمين الصناع ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم. فمذهب مالك أنهم يضمنون ما هلك عندهم (¬4). وقال ابن قدامة: الأجير المشترك ضامن لما جنت يداه (¬5). وذهب أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر إلى عدم الضمان إذا لم يقع تعدٍّ منه. وبهذا قال زفر والحسن بن زياد. قال الكاساني: الأجير لا يخلو إما ¬

_ (¬1) انظر: الأم: (1) 3/ 116. (¬2) البدائع: 5/ 215. (¬3) ابن قدامة. المغني: 4/ 343؛ الشربيني. الإقناع: 2/ 108. (¬4) ابن رشد. البداية: 2/ 232. (¬5) المغني: 6/ 115 - 117.

الحيلة

أن يكون مشتركاً أو خاصاً، فإن كان مشتركاً فهو أمانة في قول أبي حنيفة وزفر والحسن. وهو أحد قولي الشافعي (¬1). وقال الربيع: الذي ذهب إليه الشافعي أنه لا ضمان على الصنَّاع إلا ما جنت أيديهم. ولم يكن يبوح بذلك خوفاً من الضياع (¬2). والدليل على القول الأول، وهو القول الراجح في هذه المسألة السُّنة وسد الذرائع. أما السُّنة فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬3). وأما العمل بقاعدة سد الذرائع في هذا الفرع، فلأن الأُجراء الذين يسلّم المال إليهم من غير شهود وتُخاف الخيانة منهم، لو علموا أنهم لا يضمنون لهلكت أموال الناس؛ لأنهم لا يعجزون عن دعوى الهلاك. فسدّاً لهذه الذريعة قالوا بتضمين الصناع. ومما يؤيد هذا الاتجاه قول الإمام علي: لا يَصلح الناس إلا بذلك. وقال الشاطبي: إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصنَّاع. ووجه المصلحة منه: أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، وإلا غلب عليهم التفريط وترك الحفظ. فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى بهم ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلّية، وإما أن يهملوا ولا يضمنوا ذلك بدعوى الهلاك والضياع، فتضيع الأموال ويقلّ الاحتراز وتتطرّق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين. الحيلة: الحيلة والاحتيال والتحيّل في أصل اللغة: الحذق وجودة ¬

_ (¬1) البداية: 4/ 210، الهداية: 3/ 244. (¬2) الأم: 3/ 264. (¬3) دَ: 3/ 294، رقم 3561؛ تَ: 3/ 557، رقم 1166.

أركان الحيلة

النظر، والقدرة على دقّة التصرّف في تدبير الأمور (¬1). وعلى هذا النحو من التعريف جرى الراغب الأصفهاني في المفردات (¬2)، والبجيري في الحيل في الشريعة الاسلامية (¬3). وعلى هذا المعنى جرى استعمال المخارج والمعاريض في كتب الفقه. والاستعمال الغالب للحيل والتحيّل والاحتيال يطلق على الوسائل المُتوصَّل بها إلى المقصود السيئ. والكلمات ذات الصلة الواردة بهذا الغرض هي المكر والكيد، والخداع والخديعة والمخادعة، والمدالسة والمخاتلة، وقريب من هذه الكلم الخذل كالذي ورد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لنعيم بن مسعود: خذِّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة (¬4). وليس من باب الحيلة أو التحيّل التدبير والحرص والورع؛ لأنها عمل مأذون فيه بصورة غير صورته أو بإيجاد وسائله (¬5). وتطلق الحيلة ونحوها في الاصطلاح على ما يتوصل به إلى مقصود خفي. وهي قسمان: جائزة وغير جائزة (¬6). أركان الحيلة: أركان الحيلة أربعة، هي: أولاً: الوسيلة التي يتوصل بها إلى المقصود قولاً كانت أو فعلاً، مشروعة أم غير مشروعة. ¬

_ (¬1) الفيروزآبادي. القاموس المحيط: ح ي ل. (¬2) 267. (¬3) 16 - 17. (¬4) ابن هشام. السيرة: 3/ 265؛ ابن القيم. زاد المعاد: 2/ 291. (¬5) المقاصد: 317. (¬6) ابن حجر. الفتح: 12/ 326.

ثانياً: المقصد. وهو الغاية التي يراد التوصل إليها عن طريق الوسيلة ويكون المقصد مشروعاً أو غير مشروع. ثالثاً: القصد وهو نية التوصل إلى المقصود بسلوك الوسيلة المفضية إليه. رابعاً: الخفاء في وجه التوصل إلى المقصود. ومن الحيل مشروع وغير مشروع. فمن الحيل المشروعة قول أبي بكر وقد سألة المشركون عن الرجل الذي معه، وهو في طريقه إلى الهجرة: هاد يهديني السبيل (¬1). ومنها قول أبي حنيفة لمن سأله: يا إمام، لي ولد، ليس لي غيره. فإن زوّجته طلّق، وإن سرّيته أعتقَ. وقد عجزت عنه فهل من حيلة؟ قال الإمام: اشترِ الجارية التي يرضاها هو لنفسه ثم زوجها منه فإن طلق رجعت إليك، وإن أعتق أعتق ما لا يملك. وقد أطلقوا على الحيل الجائزة التي توافق مقاصد الشرع كلمتي المعاريض والمخارج. والمعاريض جمعٌ، واحدُه المعراض، وهو التعريض كالتورية. ويقابله التصريح. وهو اللفظ الذي له ظاهر وباطن أو قريب وبعيد، يوهم المتكلم به إرادة المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن، وهو يريد في الواقع المعنى الباطن أو البعيد، أو هو الكلام الجائز الذي يقصد به التكلم معنى صحيحاً يتوصل به إلى مقصد مشروع، ويتوهم غيره أنه قصد به معنى آخر. وقد ورد استعماله في القرآن في قوله - عز وجل - {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (¬2)؛ وورد على لسان إبراهيم - عليه السلام - حين أراد الطاغية سوءاً ¬

_ (¬1) ابن حجر. الفتح: 7/ 249. (¬2) سورة البقرة، الآية: 235.

بزوجته سارة، وسأله من تَكون؟ قال: هي أختي، يوهمه بأنها أختُه من النسب. وهو في واقع الأمر يريد أختَه في الدين. وفي هذا دَفع للظلم واتقاء لما يمكن أن يترتّب على سَورة الغضب عند عدوه (¬1). والمخارج هي التي يتخلّص بها من المكروه أو يجلب بها المحبوب. وواحدها مخرج. ورد بهذا اللفظ القرآني في قوله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬2). وهذه التسمية واردة بكثرة في كتب الحنفية. ومثال المَخرَجِ ما أشار به الإمام أبو حنيفة على رجل نهبت داره. ولما ضايق اللصوصَ استحلفوه بالطلاق ألا يدل عليهم. فذهب إلى الوالي وطلب حصر مَن في الحي وسوقهم جميعهم إلى الإمارة. ولما بدأ استعراضهم ظل الوالي يسأله عن كل واحد منهم فإن كان من غير اللصوص، قال: ليس منهم، وإن كان منهم سكت الرجل ولم يجب بكلمة. وهكذا وقع التعرف على اللصوص وأخذ ما سرقوه منه (¬3). وقال الشعبي: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز. وقد يكون في الحيلة ما هو أكبر فائدة وأعظم أثراً. فمن الحيل ما يتخلّص به من المآثم والحرام ويُخرَجُ به إلى الحلال. فما كان من هذا أو نحوه فلا بأس. وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله، أو يحتال في باطل حتى يموّه، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة. فأما ما كان على هذا القبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك (¬4). ¬

_ (¬1) ابن حجر. الفتح: 6/ 388، 393. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 65. (¬3) ابن نجيم. الأشباه والنظائر: 410؛ ابن القيم. إعلام الموقعين: 3/ 394. (¬4) الخصاف. كتاب الحيل: 40.

وقال الشاطبي في موافقاته: لا يمكن إقامة دليل من الشريعة على إبطال كل حيلة، كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة. فإنما يبطل منها ما كان مضاداً لقصد الشارع خاصة. وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة (¬1). وعرّف الفقهاء الحيل المشروعة والجائزة فقالوا: هي التي تكون وسيلتها مشروعة وغايتها كذلك. وقصر الشيخ ابن عاشور كلامه على الحيل غير المشروعة وغير الجائزة. وقد سبق تعريفه لها في كتابه (¬2). وحمله هذا الاتجاه على تأويل ما وقع من الحيل المشروعة مما اشتمل عليه الكتاب والسُّنة. وأكثرَ الفقهاءُ من ترديد ذكر الحيل في كتبهم ودواوينهم. يقول الإمام الأكبر: فأما ما كان وارداً في آثار شريعتنا فمخارجه ظاهرة، ومن ذلك: ما رخّص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما كان وقوعه في مبدأ التشريع، مثاله ما روي في الموطأ وصحيح مسلم: أنه لما أُبطل التبنّي وكان سالم مولى أبي حذيفة متبنّىً لأبي حذيفة، جاءت سهلة بنت سهيل زوج أبي حذيفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إن سالماً يدخل علينا وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه تحرمي عليه". فقالت: يا رسول الله كيف أرضعه وهو كبير؟ فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "قد علمت أنه رجل كبير". فقال نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة. وأَبَيْنَ أن يدخل عليهن أحد بهذه الرضاعة (¬3). ¬

_ (¬1) المقاصد: من كتاب الموافقات: (3) 2/ 337. (¬2) المقاصد: 317. (¬3) انظر المقاصد: 331 - 332.

ومنها ما كان من شريعة سابقة فلا نطيل القول في تأويله، إذ ليس بين أيدينا من بقية فروع تلك الشريعة ما يقنعنا في معرفة مخالفة مقدار الصورة الظاهرة المدعوّة عندنا بالحيلة لبقية أحكام تلك الشريعة. ومن أمثلة ذلك: إذن الله تعالى لأيوب بأن يصرب امرأته براً بيمينه. فقال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (¬1)، {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (¬2). ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق" (¬3). وإنه لمن الغفلة أن يقاس على مثل هذه الحيل، فتجعل أصلاً للقياس عليها، مع تحقق أن الحيلة لا تشتمل على معنى أو حكمة يصحّ القياس عليها، إذ قد اتفقنا أن الحيلة مخالفة للحكم ومفيتة للمقصد (¬4). والحيل غير المشروعة أو المحرّمة هي تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله من الظاهر إلى حكم آخر .. فمآل العمل فيها في الواقع خرم لقواعد الشريعة. كالواهب ماله عند رأس الحول، فراراً من الزكاة. فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعاً. فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة. فإذا اجتمع الأمران صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة. وهو مفسدة (¬5). وأخذ بعضهم بمذهب البخاري، وهو رأي أهل الحديث (¬6)، متوسعاً في مفهوم الحيلة: التحيّل بوجه سائغ مشروع في الظاهر أو ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 24. (¬2) سورة يوسف، الآية: 76. (¬3) خَ: 3/ 29؛ 3/ 127. (¬4) المقاصد: 334. (¬5) الشاطبي. 4/ 201، 202. (¬6) ابن حجر. الفتح: 12/ 326 - 351.

غير سائغ من إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر، بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتُفعل ليتوسل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له. وكأنّ التحيُّلَ مشتمل على مقدمتين: إحداهما: قلب الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر. وثانيتهما: جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان ووسائل إلى قلب تلك الأحكام. ولذلك عرّفه أبو إسحاق الشاطبي، في المسألة العاشرة من القسم الثاني من كتاب المقاصد من تأليفه، تعريف تمثيل بقوله: إن الله أوجب أشياء وحرم أشياء، إما مطلقاً من غير قيد ولا ترتيب على سبب، كما أوجب الصلاة والصيام والحج وأشباه ذلك، وحرّم الزنا والربا والقتل ونحوها. وأوجب أيضاً أشياء مرتبة على أسباب، وحرّم أخرى كذلك، كإيجاب الزكاة والكفارات وما أشبهها. فإذا تسبّب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرّم عليه بوجه من وجوه التسبّب، حتى يصير الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرّم حلالاً في الظاهر أيضاً، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلاً (¬1). وختم كلامه هذا، في المسألة الثانية عشرة بقوله: لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك، لأنه مقصود الشارع منها. فإذا كان العمل في ظاهره وباطنه (أي منفعته وحكمته) على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح، لأن الأعمال الشرعية غير مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها. وهي المصالح التي شرعت لأجلها. فالذي عمل من ذلك ¬

_ (¬1) الشاطبي: 2/ 379 - 380؛ المقاصد: 318 - 319.

على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات (¬1). وقال صاحب المحيط: وضابط الحيلة إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا. بل هي إثم وعدوان. وقال ابن القيم في الحيلة: هي المخادعة أو المراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرّم (¬2). وذهب ابن قدامة إلى أن الحيل كلها محرّمةٌ غير جائزة في شيء من الدين، ومثّل لذلك بقوله: كأن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرّماً مخادعة وتوسلاً إلى ما حرم الله، واستباحةِ محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق أو نحو ذلك (¬3). وبمثل هذا التعريف عرّفها شارح الاقناع وصاحبُ منتهى الإرادات. والحيل المحرّمة عبارة عن تصرّف مشروع لا يقصد به المتصرّف حقيقتَه وحكمَه الذي وضَعه الشارع له، بل يقصِد التصرّف المحرّم وقلب الحكم الشرعي. وختام ما نورده من تعاريف الحيلة تعريفُ الإمام الأكبر لها بقوله: هي إبراز عمل ممنوع شرعاً في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتدّ به شرعاً في صورة عمل معتدّ به، لقصد التفصّي من مؤاخذته. والتحيّل من هذا القبيل هو الذي يتوصّل له إلى مقصد ذميم. وهو شرعاً ما كان المنع فيه شرعياً والمانع الشارع (¬4). ¬

_ (¬1) المقاصد: 320 (¬2) إعلام الموقعين: 3/ 160. (¬3) المغني: 4/ 46. (¬4) المقاصد: 317.

أنواع التحيل

أنواع التحيّل: التحيّل، من حيث أنه يُفيتُ المقصد الشرعي كلَّه أو بعضَه، أو لا يفيته، يمكن بالاستقراء أن نردَّه إلى خمسة أنواع. قال الشيخ ابن عاشور: النوع الأول: تحيّل يفيت المقصد الشرعي ولا يعوّضه بمقصد شرعي آخر. وذلك بأن يتحيّل بالعمل لإيجاد مانع من ترتّب أمر شرعي. فهو استخدام للفعل لا في حالة جعله سبباً بل في حالة جعله مانعاً. وهذا النوع لا ينبغي الشك في ذمَّه وبطلانه، ووجوب المعاملة بنقيض مقصِد صاحبه إن اطلع عليه. النوع الثاني: تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقل إلى أمر مشروع آخر، أي استعمال الشيء باعتبار كونه سبباً. فإن ترتّب المُسبب على سببه أمر مقصود للشارع. ومثله هذا الانتقال من سبب حكم إلى سبب حكم آخر، في حين يكون المكلف مخيّراً في اتباع أحد السببين. فعلم أن أحدَهما يكلفه مشقةً فانتقل إلى الأخفّ. وهذا النوع جائر على الجملة لأنه انتقال من حكم إلى حكم، وما فوّت مقصداً إلا وقد حصّل مقصداً آخر. وتختلف في ذلك الأمثلة. النوع الثالث: تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلك به أمراً مشروعاً هو أخفُّ عليه من المنتقَلِ منه. وأمثلة هذا تدلّ عند الشيخ ابن عاشور على أن هذا ألصق بمقام الترخّص إذا لحقت المكلف مشقةٌ من الحكم المُنتقَل منه. وهذا أقوى من الرخصة المفضية إلى إسقاط الحكم من أصله. النوع الرابع: تحيّل في أعمال ليست مشتملة على معانٍ عظيمة مقصودة للشارع. وفي التحيّل بها تحقيق لمماثل مقصد الشارع من تلك الأعمال. وهذا كتحيّل من صدرت منه يمين لا يتعلق بها حق

الغير، فإنّ البر باليمين في حقّه هو الحكم الشرعي. والمقصد المشتمل عليه البر هو تعظيم اسم الله تعالى الذي جعله شاهداً عليه ليعمل ذلك العمل. فإن ثقل عليه البرّ فتحيل للتفصّي من يمينه بوجه يشبه البر، فقد حصل مقصود الشارع من تهيّب اسم الله تعالى. وللعلماء في هذا النوع مجال من الاجتهاد. فمذهب مالك لزوم الوفاء وإلّا حنث، ومذهبُ فخر الإسلام أبي بكر الشاشي فيما نقله عن ابن العربي أن لا حنث عليه إذا تحيّل مثلاً بتغيير يُلحقه بثوبه. وقد حلف ألا يلبس هذا الثوب .. وكان بعض الحنفية يفتي من حلف ألّا يدخل الدار بأن يتسوّرها وينزل من باب سطحها. وهذا بالنسبة للأعاجم لأن الدخول عندهم مقصور على الدخول العادي. النوع الخامس: تحيّل لا ينافي مقصد الشارع. وهو يعين على تحصيل مقصده ولكنّ فيه إضاعة حق لآخر أو مفسدة أخرى (¬1). وما من شك في أن الحيل المحرّمة هي كما صوّرها ابن القيم من مكائد الشيطان التي كاد بها الإسلامَ وأهلَه. فإن الحيلة متى تضمّنت تحليل ما حرّم الله، وإسقاطَ ما فَرَضَه، ومضادتَه في أمره ونهيه، لا تكون إلا باطلة. وهذا ما اتفق السلف على ذمّهِ وصاحوا بأهله من أقطار الأرض. ويؤكد هذا التصوّر ما بنيت عليه الشريعة الإسلامية من سماحة ورفق وعدل ووفاق. وهذا دليل كمالها وعظمتها. فهي الصراط المستقيم الذي لا أَمْتَ فيه ولا عوج، وملته الحنيفية السمحة التي لا ضيقَ فيها ولا حرج، بل هي حنيفيةُ التوحيد، سمحةُ العلم لم تأمر بشيء فيقول العقل: لو فهمت عنه لكان أوفق، ولم تنه عن شيء فيقول الحِجا: لو أباحته لكان أرفق، ¬

_ (¬1) المقاصد: 323 - 331.

بل أمرت بكل صلاح، ونهت عن كل فساد، وأباحت كل طيب، وحرمت كل خبيث (¬1). ومثل هذا التأكيد يحمل الناظر على التوقّف في أمر التحيّل المختلفةِ أنواعُه، المتباينةِ أغراضُه. كما يحمل على النظر في الذرائع، وما يكون بها من شدّة في إبطال كثير من الأعمال الجائزة والمباحة. ولا يتجلّى لنا هذا إلا باتباع النظر في التحيّل بالنظر في الذرائع. وفرّق د/ محمود حامد عثمان بين التحيّل وسد الذرائع بقوله: إذا كانت الحيلة عبارة عن تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، وكانت الذريعة هي ما كان ظاهره الإباحة ويُتَوصَّلُ أو يمكن أن يُتَوصَّل به إلى محظور، يتضح لنا أن الذرائع والحيل قاعدتان متشابهتان، والكلام فيهما متداخل. وهما يلتقيان أحياناً ويفترقان أخرى. ولهذا التداخل حُمل مَن كتب عنهما على التكلم على إحداهما أثناء كلامه على الأخرى. وعلى أن يستدل لإحداهما بأدلة الأخرى (¬2). وقال الشيخ ابن عاشور: للذرائع تعلّق قوي بمبحث التحيّل، إلا أن التحيّل يراد به إعمال بعض الناس في خاصّة أحواله للتخلّص من حق شرعي عليه، بصورة هي أيضاً معتبرة شرعاً حتى يظن أنه جار على حكم الشرع. وأما الذرائع فهي ما يفضي إلى فساد سواء قصد الناس به إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوه، وذلك في الأحوال العامة. فحصل الفرق بين الذرائع والحيل من جهتين: جهة العموم والخصوص، وجهة القصد وعدمه. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين: 3/ 207. (¬2) د/ محمود حامد شعبان. قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي: 93.

والحيل المبحوث فيها لا تكون إلا مبطلة لمقصد شرعي، والذرائع قد تكون مبطلة لمقصد شرعي من الصلاح، وقد لا تكون مبطِلة (¬1). وبيان الفرق بين الحيلة والذريعة يحصل بأربعة أمور هي: أولاً: إن الحيل قد تكون للتخلّص من قواعد الشريعة كما هو ظاهر من تعريفها. ثانياً: الحيل تجري في العقود خاصة، والذرائع في العقود وغيرها، فهي أوسع (¬2). ثالثاً: اشتراط القصد في الحيل، وعدم اشتراطه في الذرائع. فمتى وجد القصد في الذريعة فهي حيلة، ومتى عدم فهي ذريعة. فقد تجتمع الحيلة والذريعة. وقد يفارق كل منهما الآخر كما مرّ. فمثال ما كان ذريعةً سبُّ الأوثان عند من يعلم من حاله أنه يتجرأ فيسبّ الله. ومثال ما كان حيلة وليس ذريعة ما يحتال به من المباحات في الأصل كتفويت النصاب قبل الحول تخلّصاً من الزكاة. رابعاً: اجتماع الذريعة والحيلة: كشراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن المستحق وما شابه ذلك (¬3). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 336. (¬2) د/ وهبة الزحيلي. الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: 461. (¬3) د/ شعبان محمد إسماعيل. سدّ الذرائع بين الإلغاء والاعتبار. حولية كلية الدراسات الإسلامية والعربية. القاهرة: عدد 6/ 1408/ 1988.

الباب السابع توجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

الباب السابع توجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

توطئة

توطئة يتميز القسم الثالث من كتاب المقاصد بدراسة أغراض ومسائل لم يلتفت إليها في جملتها مَن سبق إلى بحث المقاصد والمصالح. وصرف الشيخ إليها كامل عنايته. وهي: (1) المعاملات في توجه الأحكام التشريعية إليها، والحقوق وتعيين أنواعها لأنواع مستحقيها. (2) مقاصد أحكام العائلة، والأسرة، وتفصيل الكلام في أواصر النكاح والنسب والقرابة، والصهر، وطرق انحلال هذه الأواصر. (3) مقاصد التصرّفات المالية وتشمل قضايا المال، والملك والتكسب، والإنتاج ووسائل الاستثمار من أرض وعمل ورأس مال، والمعاملات المالية، والنقود وما يتعلق بكل العقود من أسباب الصحة والفساد، وضمان المصالح التي من أجلها وضعت، والحكَم التي عليها انبنت. (4) مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان. (5) واجبات العمال وحقوقهم. (6) مقاصد أحكام التبرّعات، وهي أربعة. (7) مقاصد أحكام القضاء والشهادة، والقصد من العقوبات.

الفصل الأول: الحقوق وأنواعها

الفصل الأول: الحقوق وأنواعها الحقوق واحدها الحق. وهو لغة مقابل الباطل. ويراد به النصيب، والواجب، واليقين. وحقوق العقار مرافقه. والحق في الاصطلاح: الحكم المطابق للواقع، ويطلق على الأقوال من العقائد والأديان، والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك. وقيل الحق: هو الواجب الثابت. وهو قسمان: حق الله، وحق العباد. فحق الله هو ما يتعلّق به النفع العام للعالَم من غير اختصاص بأحد. فينسب إلى الله لعظيم خطره وشمول نفعه. وهو كما قال ابن القيم: ما لا دخل للصلح فيه كالحدود والزكوات والكفارات ونحوها. وحق العبد ما تعلقت به مصلحة خاصّة له كحرمة ماله. قال صاحب إعلام الموقعين: حقوق العباد هي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها (¬1). ونوّع القرافي الحق إلى نوعين: حق الله تعالى وهو أمره ونهيه، ¬

_ (¬1) ابن القيم: 1/ 108، شرح المنار وحواشيه: 886؛ تيسير التحرير: 2/ 174 - 181.

وحق العبد وهو مصالحه. وفرّع التكالف المبنية على هذا الحق إلى ثلاثة: (1) حق الله وحده كالإيمان وتحريم الكفر به سبحانه. (2) حق العبد كالديون والأثمان. (3) حق مختلف فيه لاشتماله على النوعين معاً. وذلك بأن يكون مما غلب فيه حق الله، أو مما غلب فيه حق العبد كحد القذف. وحق العبد المحض قابل للإسقاط إن أسقطه صاحبه. وينبغي التنبيه إلى أنه ما من حق للعبد إلا وفيه حق لله. وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى صاحبه (¬1). وقسم ابن رجب حقوق العباد خمسةَ أقسام هي: ° حق الملْك. ° وحق التملك. ° وحق الانتفاع. ° وحق الاختصاص. ° وحق التعلّق لاستيفاء الحق مثل تعلّق حق المرتهن بالرهن (¬2). وفي هذا يقول الإمام الأكبر في تقسيم الحقوق: ¬

_ (¬1) الفرق 22 بين قاعدة حقوق الله وقاعدة حقوق الآدميين. الفروق: 1/ 140 - 141. (¬2) القواعد: 188 - 195.

تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع

أولها: ما يعرف بحق الله. وهو أوسع الحقوق. والمراد به بوجه عام حقوق الأمة ليحصل لها النفع العام أو الغالب، أو حقّ من يعجز عن حماية حقه. وما كان في الحقوق من هذا القبيل مأمور بحفظه وحمايته شرعاً، ولم يجعل لأحد إسقاطه؛ لأنه مما قضت الشريعة بحفظه كتصرّفات الناس في اكتساب مصالحهم وحمايتها من الانخرام. وهذا كحق بيت المال، والقاصر، وحضانة الصغير الذي لا حاضن له. ثانيها: حقوق العباد كالتي قدمنا في التقسيم الأول للمقاصد. وهي التصرّفات التي يجلبون لهم بها المصالح، ويدرؤون بها عنهم المفاسد، دون أن يفضي ذلك إلى انخرام مصلحة عامة أو جلب مفسدة عامة، ولا إلى انخرام مصلحة شخص أو جلب مصلحة له أو جلب مضرّة له في تحصيل مصلحة غيره. وحقوق العباد هي الغالب. وثالثها: حال اقتران الحقّين: حق الله أو الحق العام، وحق العبد، كما في القصاص والقذف والاغتصاب. ويغلب في هذا حقُّ العبد، إذا لم يُمكن تدارك حق الله كما في عفو القتيل عن قاتله عمداً، لأن حق الاستحياء الذي حرّم لأجله القتل وبولغ في التهديد عليه قد فات، فرجح حق العبد على حق الله، ولا يبقى منه سوى أثر قليل هو ضرب القاتل المعفوّ عنه مائة، وحبسه عاماً (¬1). تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع: ومن المقاصد الشرعية المعتبرة نصب الحكام، ووضع الأحكام لرفع أسباب التواثب والتغالب. وتعيين مستحقي الحقوق خيرُ طريق لتحقيق هذا القصد وهو أمر لم يكن موكولاً للصدفة ولا إلى الإرغام، ولكن إلى الفطرة والعدل. وهو ما لا تجد النفوس عنه ¬

_ (¬1) المقاصد: 404.

أصحاب الاستحقاق

حولاً، ولا معه نفرة، ولا في التسليم والخضوع له هضيمة. وفي هذا الغرض يطول الكلام. وقد أتى الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، بأصول الاستحقاق وجماع أصول تعيين الحقوق وجعَلهَا نوعين؛ لأنها كما تقدم إما أن تكون من قبيل التكوين، وإما من قبيل الترجيح (¬1). والمراد من التكوين أصل الخلقة بأن ينشأ الحق مع تكوين صاحبه مقارناً له. والترجيح هو إظهار أولوية جانب على آخر في حق ما هو صالح لجانبين فأكثر. وطريق ذلك إما حجة العقل الشاهد بالرجحان، وإما الحجّة المعتمدة في الجملة بين الناس. فإن لم يكونا فإنه يصار إلى مرجّحات اصطلاحية مثل كبر السن، والسبق إلى تحصيل الشيء، والقرعة بحسب قوّة موجب تعيين أصحاب الحقوق. أصحاب الاستحقاق: فصّل صاحب مقاصد الشريعة الإسلامية أصحاب الاستحقاق إلى تسعة مراتب متوالية تدريجياً لما بينها من تفاوت. المرتبة الأولى: أن يكون الحق أصلياً مستحقاً بالتكوين وأصل الجبلة. وهو حق المرء في تصرّفات بدنه وحواسّه ومشاعره. ويلحق به نسل الأنعام المملوكة لأصحابها، وثمر الشجر، ومعادن الأرضين، وكل ما تولد من شيء ثبت منه حق معتبر. المرتبة الثانية: ما كان الحق فيها قريباً من المرتبة الأولى، ولكنه يخالفها لما به من شائبةِ تواضعٍ، دعت إلى اصطلاح نظام الجماعة أو الشريعة عليه، كحق الأب في أولاده. ¬

_ (¬1) المقاصد: 409 - 410.

المرتبة الثالثة: أن يكون المستحق وغيره سواء في إمكان تحصيل الحق، غيرَ أن بعض المستويين في ذلك قد سعى بجهد، وعمل بيده أو بدنه أو بابتدار لتحصيل الشيء قبل غيره. المرتبة الرابعة: أن يكون الطريق إلى نوال الشيء هو الغلبةُ والقوةُ كما في القتال على الأرض، والغارة على الأنعام، والأسر والسبي في الاسترقاق، والجهاد والمغانم. المرتبة الخامسة: هي حق السبق الذي لم يصحبه جهد في تحصيل الحق كمقاعد الأسواق للباعة، ومقاعد المتسوّقين والمجالس في المساجد، والسقي من السيح والأودية، وتزوج ذات الوليين، وترجيح الزوج الذي سبق بالبناء بالمرأة على الزوج الآخر، ومثل الالتقاط ونحوه. المرتبة السادسة: أن يكون المستحق قد نال الحق بطريق ترجيحه على متعدد من المستحقين في مراتب أخرى، كجعل حضانة الأولاد حقاً للأم دون الأب، وكالنظر في مال القُصَّر للأب وغير ذلك. ولحقوق هذه المرتبة أمثلة كثيرة يخضع الاستحقاق فيها للجانب المرجَّح. المرتبة السابعة: نوال الحق ببذل عوض في مقابلته، يدفع إلى صاحب الحق إرضاء له. وهذا من التعاوض فيما يقبل التعويض. وهذه المرتبة أوسع المراتب وأشهرها في نظام الحضارة الإنسانية. المرتبة الثامنة: نوال الحق بعد انقراض مستحقه من أقرب الناس إليه وأولاهم بأخذ حقوقه. وهذا هو نظام الإرث الذي حدد الشارع فروضه على اعتبار القرابة الأصلية العائلية دون النظر إلى صلات الود ونحوه. وقد حصر الإسلام حق الإرث في النسب والزوجية والولاء، وجعله في المتموّلات خاصة.

حقوق العمال

المرتبة التاسعة: مجرد المصادفة دون عمل أو سعي. وفيما قدمنا ذكره تعريف بالحقوق، وتقسيم لها، وتعيين لأصحاب الحقوق، ورفع لأسباب التنازع بينهم، وترتيب لأصحاب الاستحقاق فيما بينهم أقره الاستقراء بحسب ما يكونون عليه من تفاوت في الدرجة (¬1). وعقب المؤلف على هذا بتنبيهات ثلاثة هي: أولاً: أن يكون صاحب الحق فرداً واحداً، أو متعدداً محصوراً، أو متعدداً غير محصور تجمع أصحابه أوصافٌ مشتركة بينهم: كأفراد الجيش، والفقراء، وطلَبة العلم، وبيت المال. وربما آل التصرّف مع بعض هذه الأصناف إلى اتخاذ أمناء على استعمال الحق المشترك. ثانياً: سلب الحق، عمّن يتبين أنه غيرُ أهلٍ له مقصدٌ شرعي. ويرجع هذا إلى المراتب التي وصفناها، أو إلى سلب الحق لأجل ترجيح جانب من المستحقين على جانب آخر، كما في المرتبة السادسة، أو يكون سلبه لأجل ثبوت حق آخر كما في المرتبتين الثالثة والرابعة. ثالثاً: عدم جواز نزع الحق ممن يستحقه إلا لضرورةٍ تقيم مصلحة عامة، كأخذ أرض للحمى، أو لِدفعه في قضاء آخر انتفع به المنتزع منه كبيع القاضي ريع المدين، أو لحقًّ مرجَّحٍ كالشفعة (¬2). حقوق العمال: وإذا كان للعمال في هذا العصر دور أي دور في تحقيق النمو ¬

_ (¬1) المقاصد: 410 - 417. (¬2) المقاصد: 418 - 419.

والثروة سواء في المجالات الضيقة أو الواسعة في المجالين العمراني والاقتصادي، فإن الواجب يفرض علينا أن نعرِف حقهم، ونجزيهم الجزاء الأوفى عن أعمالهم. فمن يرجع إلى توجيهات الإمام ابن عاشور في ذلك وسياسته التعاونية والاجتماعية يسرع دون شك إلى الاستجابة لله وللرسول فيما قضى به كل منهما من أداء حقوق العمال وإعطائهم أجورهم من غير تأخير أو مطل. فأجرة كل عامل على عمله، ولو كان من العاملين على الصدقات يجمعها. فقد منح الله هؤلاء العمال أجراً في كتابه إذ يقول: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}. وهذا في الواقع من باب مكافأة العامل على عمله. والأصل في هذا أن يكون الأجير كفؤاً للعمل، وأن يكون تقدير أجرته بما وقع عليه الاتفاق بين الطرفين. فإن أعوز ذلك كان تقدير الأجرة للحاكم وبتحكيم أجر المثل. ويستحق الأجيرُ العاملُ أُجْرَتَهُ عند الفراغ من عمله، أو بإثر قيامه بما وجب عليه فيه. وهكذا يستوفي حقه كاملاً. ولا يؤخذ منه أو يقطع من أجرته ما أكله بالمعروف. فإن العادة أن العامل يأكل من ثمرة الوقف، حتى ولو اشترط الواقف منعه من ذلك. والمراد بالمعروف هنا ما عناه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين وقف أرضه التي بخيبر من قوله: "ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقه غير متمول مالاً" (¬1). والمعروف ليس الأخذ من المال بقدر أجرته على العمل، فإن ¬

_ (¬1) الحديث حوار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأن الوقف. ومنه في آخرته مقالة عمر في أرض خيبر التي لم يُصِبْ مثلها. وتمام الحديث: ويطعم غير متمول. زاد ابن سيرين: غير متأثل مالاً. 24 كتاب الشروط. 69 باب. خَ: 3/ 185؛ دَ: 3/ 298، ع 2878.

هذا يرفضه الواقع ويمنع منه الحق والعدل. وأنَّ المعروف كما فسّره القرطبي: "هو القدر الذي يمنع الشهوة" (¬1). وإنما فرضت الأجور على أصحاب الأعمال قِبل أُجرائهم، للنصوص الكثيرة التي تستوجب كفالة ما لهم من حقوق بينهم. فإن الأجرة مقدار من المال يسعى له العامل للقيام بضروراته المعيشية والاجتماعية. ومن تباطأ في إعطاء العامل حقه أو سوّفه أو ماطله فقد أثم لاستيفائه منفعته بغير عوض، فكان أكلُه لها باطلاً، واستخدامه للعامل بغير أجرة استعباداً. والأصل في مراعاة حق العامل على أوسع الوجوه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (¬2)، وقوله جل وعلا في حديث قدسي: "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا" (¬3)، وجاء تأكيدُ هذا وبيانهُ في الحديث القدسي الآخر متوعداً الظلمة بقوله: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (¬4). ¬

_ (¬1) ورد بإزاء هذا المعنى ما يمكن أن يكون تفسيراً له وذلك بإطلاق لفظ المعروف على الاقتصار على البلغة. وقال الحسن: هو طعمة من الله له. وذلك بأن يأكل ما يَسدّ حاجته ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. الجامع لأحكام القرآن: 5/ 36 - 43. (¬2) سورة النحل، الآية: 90. (¬3) هو حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 45 كتاب البر والصلة، 15 باب تحريم الظلم. ح 55. مَ: 3/ 1994. (¬4) الحديث أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة وفيه زيادة على ما ههنا بعد الجملة الأولى. وهي: ومن كنت خصمه خصمته. جَه: 2/ 816، عدد 2442.

القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية

القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية: ولا بأس أن نشير عقب هذا البيان إلى جملة من القواعد العامة التي تحكم المجتمعات الإنسانية، والتي لها علاقة بميدان العمل وبالتصرّفات العامة والخاصة بين أفراد المجتمع ككل، فمن ذلك: (1) أن حقوق العباد تضمَنُها التصرّفات الكريمة والأخلاقية التي تجلب لهم المصالح وتدرأ عنهم المفاسد. (2) أن من حكمة التشريع ألا توصد في وجوه العاملين بأموالهم أو بأبدانهم الطرق السليمة المثلى التي يستوجبها الحق والعدل. ولزوم الغض عما يتطرّق ذلك من مخالفة للتشريعات، مما بنيت عليه أحكام المعاملات المالية في المعاوضات. (3) اعتبار الحاجة إلى التعاون بين الأطراف كلها في مجالات العمل والإنتاج أكيدة. فالعامل مثلاً لا قدرة له على التمويل، وصاحب المال ليس ذا خبرة للقيام بمشروعاته وإنجازها على الوجه الكامل. ومن ثم تكثر وتتعدد الدوافع عند الطرفين حاملة لهما على التشارك والتعاون. فالعملةُ إن حرموا مساعدة أصحاب الأموال، وأصحابُ الأموال إن لم يجدوا من يخدمهم أو يقوم بمشاريعهم، تَلِفت أموالهم وضاعت منهم فرص الإنتاج. ولكون ذوي المال أقدر على التماسك أمام التطورات والشدائد لزم أن تكون معاملاتهم للعمال خالية من التحيّل والاستغلال، بقدر ما تكون علاقة العمال خالية من الحَسَدِ والغِش وإضاعة الأوقات مما يفسد أعمالهم ويحول بينهم وبين الوفاء بواجباتهم. وقد أوصت الشريعة الإسلامية، طبق مبادئها وأصولها، بالتحرّز عما يثقل العامل من العقود. وذلك لكي لا يستغلّ رب المال

اضطرار العاملِ إلى التعاقد، فينتهز ذلك ويتجاوز في أرباح نفسه. وقد علل الفقهاء إعطاء الأجير أجره، قبل أن يجفّ عرقه من غير تأخير ولا نَظْرة ولا تأجيل، بشدة حاجته إلى الانتفاع بعوض عمله، إذ ليس له في الغالب موئل مال. كما جوّزوا تنفيل العملة فيما يبرمونهُ من عقود بمنافع زائدة مما يقتضيه العمل، ولا يُنفّل بمثل ذلك صاحبُ المالِ أو صاحبُ العمل. وقصد الشريعة من هذه التصرّفات والتوجيهات الحياطة لجانب العَمَلة سداً لذريعة ذهاب عملهم باطلاً أو مغبوناً. وليس معنى هذا أنها بأحكامها تحابي العمال دون أصحاب الأعمال. فإن في حراسة حقوق العمال من الاعتداء عليها عدلاً وصلاحاً للفريقين. وبالإضافة إلى هذا كله أوصت الشريعة باحترام العامل والحفاظ على كرامته. فمنعت كل عقد أو شرط يكون فيه إضرار بالعامل، أو إيهام الاستعباد له، وربما ذهبت إلى أكثر من هذا. فقد جاء في خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوبُ التزام دائرة الوسع والطاقة، وعدم تكليف العامل إلا بما هو في وسعه. وأكد - عليه السلام - هذا المعنى بقوله: "عبيدكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق، فإن كلفه فليُعِنْه" (¬1). ومن رحمة الإسلام بالأُجراء والإحسان إلى من يُستخدم منهم ألا يقل أجر الأجير الذي يقيم مع صاحب العمل عن كفايته من الطعام والثياب، أما السكنى فهو يساكن صاحب العمل في بيته. ويكون هذا في كل عصر بما يناسبه. ¬

_ (¬1) انظر المقاصد: 111.

ويهمنا في المحل الأول، قبل الحديث عن ميادين العمل التي اتجه إليها الناس في الماضي وما يزالون، ويتجهون إليها في الحاضر مع اختلاف أنواعها وتطوراتها والغايات منها وأهدافها، أن نقف عند المبادئ والأصول الإسلامية التي تحكم أعمالنا فنحوطها بأسباب الجد والقدرة والقوة وزيادة الإنتاج، سواء من طرف أهل اليسار والمموّلين أو من طرف العمال الكادحين. وكلاهما إما مجاهد بماله وإما مجاهد بعمله يبتغون من وراء ما يبذلونه من جهد فضلَ الله ليحِلَّ في مجتمعاتنا وبين أهل ملتنا الغنى محل العوز، والتقدم والسبق محل التأخر والتخلف، والرقي والعزة بدل الانحطاط والمذلة. وإن التأكيد على العمل الإنساني ليظل كبير الأثر في الإنتاج وفيما نجنيه من خير عن طريقه، كما أن له القدرة الفائقة على تطوير الإنتاج، وفتح آفاق أخرى للعمل تدفع إلى مزيد من التقدم والرقي. وإذا كانت كل المعاملات والتصرّفات المالية خاضعة للعقود ليتم إنجازها على الوجه المأذون فيه، والمعتبر شرعاً، فإن هذه العقود تعتبر ضوابط شرعية تحدد وجوه التصرّف المالي في المعاملات. ويقتضي هذا النظر في صور العقود، لمعرفة صحّتها من فسادها، والنظر في غاياتها ومآلاتها من أجل التحقق من المقصد الشرعي فيها أو من أجل الالتزام بها، وفاء بما يتفق عليه الطرفان المتعاقدان من شروط فيها. * * * * *

الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة

الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة اعتنى الشيخ بمقاصد أحكام العائلة الأصلية والتابعة. وافتتح قوله بأن انتظام أمر العائلة في الأمة أساسُ حضارتها وانتظامِ جامعتها. وهذه الحقيقة غير خاصةٍ بالتشريع الإسلامي أو مقصورةٍ عليه، بل هي التفاتٌ إلى الحِكمة الإلهية في تشريع أحكام الأُسرة، وإلى بنائه سبحانه المجتمعات الإنسانية على ما سنه لها من شرائع تمكّنها من ضبط وإقامة أصول حياتها المدنية. فقد عنيت الشعوب من أقدم العصور بنظام تكوين العائلة. وهو اقتران الذكر بالأنثى المعروف بالنكاح. وسعت إلى اختيار أكمل صورة وأشرفها له، حتى لم تعُد الداعيةُ إلى ذلك الاقتران هي قضاء الشهوة كما هو الأمر عند سائر أنواع الحيوان، ولكنّها الارتفاعَ بالإنسان إلى مراتب عالية ودرجات سامية، بنيت عليها الحياة الصالحة، وأقيمت على أسبابها سياسة العمران البشري. وإن الله الخبير العليم كرّم ابن آدم فلم يجعله كغيره من الخلق. وجعل من إتيان الرجل للمرأة، واندفاعِه إليها، دوراً لا يقف عند الميل الجنسي، بل جعله بما فضّله به على غيره يَنشُد حباً ووداً، ولطفاً ورحمة، وتعاوناً وتناسلاً، واتحاداً وإقامةً لنظامِ الأسرة، ولنظام القبيلة، ثم لنظام الأمة. وإنها للمحامد والغايات التي أثمرتها الشرائع، وصيّرت جُذورَها الأُولى شيئاً ضئيلاً في جنب ما حُبي به الإنسان من عظيم

الكمالات. فأصبح بحق مشرَّفاً بشرف آثاره ونتائجه (¬1). وإثر هذه الملاحظات ينتقل - رحمه الله - ليواكب المسائل الفقهية التي من الضروري الحديث عنها في هذا الباب. فذكر حقيقة النكاح مع ما يكتنفها من أحكام، ويُمثلها من صور، ويُثبتُها من عقد، ويُبذل فيها من مهر. ثم تعرّض كسائر الفقهاء إلى مسائل أخرى ذكروا منها الولي، والشهرة، والتوقيت والتأجيل، وحُسن المعاشرة، والقوامة على النساء، وتعدد الزوجات إلى الأربع، والإنفاق، والإرث. ولا بدع أن يكون لكل قضية من هذه القضايا السابقة حُكم، وأن تكون لها شروط. وتترتّب على ذلك بدون شك أهداف وغايات هي المقاصد المطلوبة من ورائها. كان النكاح عند العرب في الجاهلية متعدد الأنواع: الأول منها: النكاح الشرعي الذي عليه الناس اليوم. وذلك أن يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو ابنتَه فَيُصْدِقَها، ثم ينكحها. والثاني: هو الاستبضاع. والثالث: نكاح الرهط. والرابع: البغاء. وهذه الأربعة ورد ذكرها في حديث عائشة (¬2). والنوع الخامس: هو الذي اختص القرآن بذكره في قوله - عز وجل -: ¬

_ (¬1) المقاصد: 421 - 422. (¬2) انظر المقاصد: 303، 422 - 423.

آصرة النكاح

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (¬1). وقد ذمّ القرآن هذين النوعين في الرجال والنساء، ورغّبَ عنهما الشارع. فالسفاح والمخادنة من البغاء. ويدخلان في الأنكحة الباطلة والمحرّمة. وهي التي تخالطها المذام، أو تحفّ بها آثار قبيحة (¬2). وإنما عنيت الشريعة بأمر النكاح وحده دون بقية العلاقات التي حُكمُها الهجرُ والبطلان، فجعل من غايتها قَصْرَ الأُمَّةِ عليه لكونه أسمى مقاصدها؛ ولأن النكاح جِذم نظام العائلة. والقصدُ الشرعي من اعتباره هو جَعْلُه العلاقة الوحيدة الموثوق بها في اختصاص الرجل بالمرأة أو بنساءٍ هُنَّ قرارات نسله حتى يثق من جراء ذلك الاختصاص بثبوت انتساب نسلها إليه (¬3). آصرة النكاح: والنكاح الشرعي هو الذي تنبني على أساسه العائلة. وقد صوّر لنا ذلك الإمام الأكبر بقوله: هو أصل تكوين النسل، وتفريع القرابة بفروعها وأصولها. واستتبع ذلك ضبطَ نظام الصهر. فلم يلبث أن كان لذلك الأثرُ الجليل في تكوين نظام العشيرة فالقبيلة فالأمة. فَمِن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة. ومن هذا تتكون الأخوة وما دونها من صور العصبة. ومن امتزاج رابطة النكاح برباط النسب ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 5. (¬2) المقاصد: 422 - 423. (¬3) المقاصد: 424.

تحدث رابطة الصهر. وهكذا جاءت شريعة الإسلام مهيمنة على جميع الشرائع. فكانت الأحكام التي شرعها الله للعائلة أعدلَ الأحكام وأوثقَها وأجلَّها (¬1). ويتم النكاح بالعقد ويزيده هذا تشريفاً وتنويهاً، إذ المقصد الديني منه، حُرمتُه في نفوس الأزواج، وفي نظر الناس عامة. ينطق بهذا المقصد الشريف قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬2). وكذا الإيجاب والقبول فهما أساس العقد الذي يشهد "بالتعبير" عن رضا المرأة ورضا أهلها بذلك القِران، والحرصُ على تحقيقِ حُسن قصدِ الرجل مع زوجته، بما يُترجم عنه سلوكهُ وعمله على دوام المعاشرة، وعلى إخلاص المحبّة بين الطرفين. ولتقرير العقد وإعطائه ما يستحقّه من الثبوت والدوام اشترط جمهور فقهاء الأمصار أن يتولّى أمره الوليّ. وورد من الأحاديث الشريفة: "لا نكاح إلا بولي" (¬3). وصرّح جمعٌ من الفقهاء بأن الآيات وكذلك السُّنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها في هذا المقام مُحتمِلةٌ كلُّها لم يثبت منها سوى حديث ابن عباس: "الأيم أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها" (¬4). ويتم النكاح ويُبَرمُ عَقدُه بشرطِ أن يبذل الرجل لزوجته مهراً يسمّيه لها. ولا يُعتبر المهر عوضاً عن البضع. فهو ليس ثمناً كما كان ¬

_ (¬1) المقاصد: 420. (¬2) سورة الروم، الآية: 21. (¬3) دَ: 2/ 568؛ تَ: 3/ 407؛ دَي: 2/ 459. (¬4) الشوكاني. نيل الأوطار: 6/ 252.

يتصوّره أهل الجاهلية في الأزمان القديمة البعيدة، لأن العقد في تصوّرهم شبه تمليك. وهو ليس أجراً للمنفعة المنضبطة عند الفقهاء. وتكون المنفعة المقصودة من العَقد غيرَ قابلة لتحديده، ولكنه العطيّة المحضة أو النِحلة كما سماها القرآن في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬1)، وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬2). وفي هذه الآية تأكيد لما اشتهر بين الفقهاء من أن النكاح مبني على المكارمة، بخلاف البيع فهو مبني على المكايسة (¬3). وعلّل الشيخ ابن عاشور هذا الشرط في العقد بألا تفقد المرأة خفرها، وتتولّى بذاتها الركون إلى الرجل دون علم ذويها. فالمرأة حين يتولّى وليُّها الأقربُ أو الأبعدُ، الخاص أو العام، تزويجَها يتّضح القصد الشرعي من اشتراط الولي في العقد، وهو أن يكون عوناً على حراسة جمالها وحصانتها، وأن تكون عشيرتُه وأنصاره وعائلته وجيرانُه عوناً له في الذبِّ عن ذلك (¬4). وذهب أبو حنيفة دون صاحبيه إلى ذلك في نكاح الصغير والمجنون والرقيق لا في الحرّة البالغة بكراً كانت أو ثيّباً؛ لأن النكاح ينعقد برضاها، ولأن لها التصرّف في خالص حقها، وهي من ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 4. (¬2) سورة النساء، الآية: 20. (¬3) المكايسة في اصطلاح الفقهاء: عَقد معاوضة على غير منافع ولا مُتعةِ لذَّةٍ، ذو مكايسة، أحدُ عوضيه غير ذهب ولا فضة، معيّنٌ غير العين فيه. الرصاع. حدود ابن عرفة: 1/ 326. (¬4) المقاصد: 426.

أهله. ورجع إلى رأي الإمام صاحبُه أبو يوسف وهو الصحيح، كما ذكر ذلك الإسبيجابي. ورُوي أيضاً رجوعُ محمد بن الحسن الشيباني إلى مقالة إمامه. قال ذلك المحبوبي والنسفي (¬1). ومن المقاصد الشرعية ذكر المهور وتسميتها في العقد. فلا يُغفل عما كتبه الله للزوجات من حقوق. قال الشيخ ابن عاشور: إن محاسن المرأة نعمةٌ من الله منَّ بها عليها، وخوَّلَها حقَّ الانتفاع بها من أجل رغبات الرجال في استصفائها. ويتأكد هذا المقصد الشرعي بما نبهت عليه الشريعة من أن يكون صداق المرأة مناسباً لنفاستها. فجمال المرأة وخلقها هما من وسائل رزقها. ولهذا لم يكن للوصي ولا للسلطان تزويج اليتيمة بأقلّ من مهر مثلها (¬2). واشترطوا لصحة النكاح الشهرة أو الإشهار تأكيداً لحصانة المرأة، ولأن الشهرة تحث الزوج نفسه على مزيد الحصانة لزوجه. ونكاح السرّ باطل في بعض المذاهب. وهو يقرِّب صاحبَه من الزنا، ويحول بين الناس وبين الذبّ عنه، ويعرّض النسل إلى اشتباه أمره، ويُنقص من معنى حصانة المرأة (¬3). وحَرُم نكاحُ الشغار لخلوّه من المهر. ولا يلتبس عليك ما يشبهه من الصور الجائزة والنافذة شرعاً. وحَرُم نكاح المتعة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه يوم خيبر (¬4). وكذا كل عقد نكاح دخله التوقيت والتأجيل. فإن ذلك يقرّبه من عقود الإجارات والأكرية، ويخلع عنه المعنى المقدس الذي تطمئن له نفس الزوجة، من نية كليهما أن ¬

_ (¬1) الميداني. اللباب في شرح الكتاب: 3/ 8. (¬2) المقاصد: 428. (¬3) المقاصد: 429. (¬4) خَ: 5/ 78، 6/ 129.

آصرة النسب

يكون قريناً للآخر، ما صلح الحال بينهما، فلا يتطَلَّبان إلا ما يعين على دوامه إلى أمد مقدور (¬1). ونُهي عن نكاح اليتامى لما ورد فيه من أحكام وعلل وأسباب. وهو الذي بيّنته عائشة بقولها: هي اليتيمة تكون في حجر وليّها، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوّجها من غير أن يقسط في صداقها، فيعطيها أقل مما يعطيها غيرُه. فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يُقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنّتهن من الصداق. فأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء من سواهن (¬2). هذه صور لبعض الأحكام المتعلّقة بالنكاح أردنا التنبيه إلى مقاصدها والتنويه بأهميتها. ولا نقف عند كل مسائل الباب التي تعرّض إلى ضبط أحكامها الإمام الأكبر. فهي مفصّلة في محالها من كتابيه المقاصد والتحرير والتنوير. ويمكن أن نعدّ منها: تعدد الزوجات، والمحرّمات من النساء، ومراجعة المطلقات، والطلاق بلفظ الثلاث، وعدة المتوفَّى عنها زوجُها، وعدة الحوامل، وضرب المرأة ونحو ذلك، وحُسن المعاشرة بين الأزواج، والقوامة على النساء، وحكم إنفاق الرجل على زوجه، واعتبار الزوجية سببَ إرث ببقاء آصرة النسب والقرابة. والنسل المعتبر هو ما كان طريقه الشرعي عقدَ النكاح المعتمد. آصرة النسب: ولاختلاف الأوضاع التشريعية والاجتماعية بين العصرين الجاهلي والإسلامي كان لزاماً الاعتراف بصحة النسب في مثل البغاء ¬

_ (¬1) المقاصد: 431. (¬2) خَ: 5/ 176 - 177.

والاستبضاع لوثوق الناس في جاهليتهم بهذا النسب، ولأن الثقة بالنسل قبل تحديد قواعد الإسلام في النكاح موكولة إلى ما في الجبلة من إباية الناس التحاق من ليس منهم بأنسابهم. ولكون أصناف المقارنة الواقعة في الجاهلية قد اختلط نادرها بغالب الأنساب الصحيحة، ووثق أهلها بالأنساب الملحقة بهم من جرائها. ومن أجل الحفاظ على حرمات البيوت والأنساب سكتت الشريعة عما اعتمده واعتاده أصحاب الجاهلية، وارتضت لهم ما ارتضوه لأنفسهم، قبل أن يُضبط النكاح على الوجه الشريف الكامل، وما حفّ به من اهتمامات وسلوكيات لم تُبق لغيره من الأنواع حظاً ولا وجوداً معتبراً. وأُلحق التسرّي في صحّة النسب، وارتفعت منزلة أم الولد عن أن تكون مجردَ أَمَة. ومن أحكام آصرة النسب مَنعُ الشريعة الزوجَ الحر من التزوج بالأمة إذا كان ذا طولٍ. وورد في هذا قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬1) دفعاً لما في اجتماع سِيادتَين على المرأة من شبه تعدّد الرجال. ومن القصد الأول عند الشيخ ابن عاشور أن صدق انتساب النسل إلى أصله سائقٌ النسل إلى البرّ بأصله، كما هو سائق الأصلَ إلى الرأفة والحنوِّ على النسل سوقاً جبلياً. ولهذا المطلب بل المقصد معنى عظيم نفساني من أسرار التكوين الإلهي علاوة على ما فيه من إقرار نظام العائلة، ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن الغيرة المجبولة عليها النفوس، وكذلك رفع الشك عند الأصول في انتساب النسل أو عدمه إليها. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 25.

وأُلحقت آصرة الرضاعة بآصرة النسب. وذلك لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬1)، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرُم من الرضاع ما يحرُم من النسب" (¬2). والمقصد الشرعي من تحريم ما حَرُم تزوّجُه، مختلف بحسب اختلاف أنواع المحرّمات. وهي عندنا ثمانية: (1) المحرّمات من النسب كالأمهات والبنات: ذكر الفخر الرازي في تفسيره: أن السبب في تحريم الأمهات الوطءُ لأنّه إذلال وإهانة. وإذا أوجب الرحمن الإحسان إليهن وصونَهن فلأنّ إنعامهن على أولادهن كان أعظمَ وجوه الإنعام، فوجب صرف الأمهات عن هذا الإذلال. وقال في البنات مثل ذلك: لأن البنت جزء من الإنسان وبعض منه، فيجب صونها عن الإذلال؛ لأن المباشرة لها تجري مجرى الإذلال (¬3). وعلق الشيخ ابن عاشور على هذا بقوله: وتحرير ذلك حيث كان معظم القصد من النكاح الاستمتاع. فكانت مخالطة الزوجين غير خالية من نبذ الحياء. وذلك ينافي ما تقتضيه القرابة من الوقار لأحد الجانبين والاحتشام لكليهما. وهو ظاهر في أصول الشخص وفروعه وفي صنوان أصوله. (2) وأما محرّمات الصهر فملحقة بمحرّمات النسب وهن سبعة: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 23. (¬2) انظر المقاصد: 169 تع 1. (¬3) الرازي: 10/ 27.

(3) والمحرّمات بالصهر والرضاع هن: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب، وحلائل الأبناء، ونساء الآباء، والجمع بين الأختين. وذلك لدفع ما يعرض من شقاق يفضي إلى قطع الرحم. قال الطحاوي: وجلُّ هذا من المحكم المتفق عليه (¬1). وفي هذه الصور يسري وقار الآباء إلى أخواتهم وهن العمات. ووقار الأمهات إلى أخواتهن وهن الخالات. ويرجع تحريم هؤلاء إلى قاعدة المروءة التابعة لكلية حفظ العرض من قسم المناسب الضروري وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري (¬2). (4) وأما المحرّمات للرضاع فلأن آصرة الرضاع نُزِّلت منزلة النسب. (5) وأما المحرّمات لأجل حق الغير فأمرهن ظاهر. (6) وأما الملاعنة فلأن ما جرى بين الزوجين بسببها يتعذّر بعده حُسن المعاشرة بينهما. (7) وأما ما كان من المحرمات رعاية لحق الله فمثل المطلقة ثلاثاً على من طلقها (¬3). ومثل ما تقدم في الحرمة تعدّد الأزواج للمرأة الواحدة، وإباحة تعدّد الزوجات للرجل إلى حدّ معيّن. ومن مقاصد الشريعة حفظ حقوق النسل من تعريضه للإضاعة والتلاشي وفساد الشأن. وكما بيّن الشيخ ابن عاشور المقاصد من هذه الأحكام في ¬

_ (¬1) القرطبي. الجامع لأحكام القرآن: 5/ 105 - 106. (¬2) التحرير والتنوير: 4/ 296. (¬3) المقاصد: 437.

آصرة الصهر

حماية ذوي آصرة النسب والقرابة أشار إلى طرق تقويتها. وذلك بالنفقة على الأبناء والآباء باتفاق، وعلى الأجداد والأحفاد عند بعض الأئمة. قال أبو شجاع: الإنفاق على الأبوين والأجداد والجدات الفقراء واجب على الموسرين من الأولاد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، كما تجب النفقة على الأب فيما فضل من قوته وقوت زوجته على ولده الحر المعسر حتى يبلغَ قادراً على الكسب، وعلى ابنته الحرة المعسرة، حتى تتزوج ويدخل بها زوجها (¬1). وقال الشافعي: تجب على الأصول الموسرين وإن علوا نفقة الأولاد وإن سفلوا لفقر وصغر، أو فقر وزمانة، أو فقر وجنون (¬2). وقال صاحب الهداية: ليس من الإحسان أو من المعروف أن يعيش المرء في نعم الله تعالى ويتركهما يموتان جوعاً (¬3). ومن أسباب تقوية آصرة النسب والقرابة ما أوجبه الله من الميراث. آصرة الصهر: وثالثة الأواصر آصرة الصهر. وهي متولدة عن اجتماع آصِرَتيَ النكاح والنسب. فالصهر آصرة بقرابة أهل آصرة النكاح كالربائب وأخت الزوجة وعمتها وخالتها وأم الزوجة. أو عن نكاح أهل آصرة القرابة كزوجة الابن وزوجة الأب. فهذان يستوجبان الجلال والوقار. وذلك مما يدعو إليه قول الله تعالى: ¬

_ (¬1) الشيباني: 3/ 244. (¬2) الشربيني. الإقناع في حلِّ ألفاظ أبي شجاع: 2/ 140. (¬3) العَيني. البناية: 4/ 906.

{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬1). ومن هذه الآصرة قريب وبعيد. فقد حرّم الشارع أم الزوجة وابنتها على الزوج، وحرم أبا الزوج وابنه على الزوجة، اعتباراً للحرمة المركّبة من قرابة أولئك بالزوجة أو الزوج، ومن صهرهما للزوج أو الزوجة، كما حرمت الشريعة زوجة الابن على الأب وزوجة الأب على الابن. وليس المقصد من ذلك مجرد حفظ أواصر المودة لأن تحريم الصهر يبقى مستمراً بعد موت الشخص المحرّم أو فراقه وبين الشخص الذي وقع التحريم بسببه. ثم أتبع الشيخ رحمه الله هذا الكلام ببيان معنى وحُكم الصهر القريب، وذكرَ البعيد وجعلَه مراتب إذ منه ما يحرّم. وفيه الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها ونحو ذلك، ومنه ما لا يحرم بحال لضعف آصرته. وهذه العلاقات الأُسرية التي أقامها الإنسان ليحيى بها حياة كريمة مأمونة من كل ما يسلبها الخير والنعمة والسعادة والبهجة، هي التي رعاها الله، وأوجد لها نظاماً تسير عليه، وقوانين تخضع لها، وحدوداً وأحكاماً تلتزم بها وتقف عندها، راغبة أن يتحقق من المقاصد أهمها كالعدل والاستقامة، والأمن والطمأنينة. وبذلك تخرج العلاقات من الحيرة والتباس الأمر، ومن الظلم والإصرار عليه، ومن الاستخفاف الكبير بحقوق الغير، والظهور مظهر المسرفين المتكبّرين الضالّين فلا يزيدهم ذلك إلا عنتاً وحقداً، وأنانية وكبراً. وكما تُساس المجتمعات الإنسانية بالحِكمة والنصيحة وحُسن المعاملة نجد بعضها ينحرف عن الجادة وعمّا شرعه الله له، وما هداه إليه، وحدّده له في كل حالة وفي كل معاملة من التصرّفات العملية ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 23.

طرق انحلال الأواصر الثلاث

السديدة. وهؤلاء المنحرفون هم الذين أقام الله عليهم الحجة بقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (¬1)، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (¬2). وكل تلك الأواصر العائلية والروابط الاجتماعية قد حُفَّ بالمكاره والشهوات، واختلط به من الهوى المتبع والبُعد عن الدين ما جعله يقوى ويضعف بحسب الأخذ بأسباب الحزم والقوة، أو بوسائل الانفكاك والانحلال. فهذا التشريع الإسلامي، لضبطه أحوال المجتمعات وتعليمه إياها الكتاب والحِكمة، وتلقينها إياه نظرياً وعملياً، هو جملة ما يُحتاج إليه من قواعد وأصول ومبادئ، تلاشت حقائقها باتباع سبيل الغَي والبُعد عن طريق الحق. ذلك أنهم {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (¬3). طرق انحلال الأواصر الثلاث: في الباب الثالث من القسم الثالث من كتاب المقاصد تحدث الإمام الأكبر عن أمثلة من أحكام الأسرة وأدلتها. وحصر الكلام في دائرتين: الأولى: دعائم الأُسرة وما ينبغي أن يراعى فيها من وسائل تحقّق الترابط المتين بين الأواصر الثلاث: النكاح، والنسب والقرابة، والصهر. فهذه الأصول في تكوين العائلة قد وضع لها الشارع قوانين وأحكاماً تضبطها وتنظمها، وتكون بها أعدل المجتمعات وآمنها، وأكثرها عزة ومنعة وسؤدداً وشرفاً. وكل هذا من فضل الله عليها، وحمايته سبحانه لها. فالعائلة في جميع تصرّفاتها، ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 50. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬3) سورة المائدة، الآية: 77.

تساندها التوجيهات الإلهية، وتحدوها صور من التعاون المثالي، والنصيحة التامة. وهي بتلاوتها القرآن العظيم، وتدبّرها معاني آياته، تتوصّل إلى تعيين ومعرفة المقاصد الشرعية التي خصّها الله بها. الثانية: هذا المدد الرباني الكريم الذي يحدد سلوك الأفراد والمجتمعات منفصلة عن بعضها، أو ممتزجةً جميعُها باتباعها المنهج الرشيد الوحيد الصادر عن الحق سبحانه، والمتمثل في الطريقة العملية التفصيلية التي جاء بها الرسول الأمين خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -. فاجتمعت من هذا وذاك آيات الأحكام وأحاديثها، وكل ما يرتبط بها من نصوص حُكمية وحِكمية فيها الدعوة إلى الحق، والتوجه إلى الخير، والتنافس في العمل الصالح. ومثلما كانت المرحلة الأولى تأسيساً وتعليماً وتلقياً وإدراكاً لأسباب العناية الإلهية، الكاشفة عن المقاصد الشرعية في تشريعنا وفقهنا، بدت لنا تشاريع أخرى تدني الطبيعة الإنسانية من النصوص التكليفية، تضيف إلى ما في الأولى من قوة وإيجابية طرقاً أساسية وقواعد وأحكاماً جديدة تضمن تدارك الأوضاع المرتبِكة في العائلة، وتنفي عنها الظلم، وتجعلها متكافئة في الحالين بانبناء أحكامها وتصرّفات المؤمنين فيها على حسب الأوامر والنواهي التي لابست الأُسرة في أحوالها المختلفة، في حال إقامة عُمَدها وأصولها، وحال محافظتها على المصالح الباقية، وحال مساعدتها على انحلال الأواصر الضعيفة، انحلالاً طبيعياً وشرعياً حسب القواعد والأصول. قال صاحب المقاصد: قد جعلت الشريعة لكل آصرة وسيلةً إلى انحلالها إذا تبيّن فساد تلك الآصرة أو تبيّن عدم استقامة بقائها (¬1). ¬

_ (¬1) المقاصد: 443.

وأقوى الأسباب القاضية بانحلال النكاح: الطلاق. وهو صور كثيرة معروفة عند الفقهاء منها: تصرّفٌ مملوكٌ للزوج يُحدثه بلا سبب، فيقطع النكاح (¬1). وقيل: هو رفع عقد النكاح في الحال أو المآل، بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه (¬2). والنسب والصهر ليسا آصرة عقدية، والأمر ظاهر. ويقع الطلاق من الزوج بذاته. ويقع بالرفع إلى الحاكم إن حصل إضرار. ويكون بالفسخ. وهو حل رابطة العقد. وبه تنهدم آثار العقد وأحكامه التي نشأت عنه (¬3). ويقع الطلاق من المرأة في صفة الخُلع. والخُلع إزالة ملك النكاح بلفظ الخلع أو ما في معناه، مقابلَ عوض تُلزم به الزوجة أو غيرها (¬4). وفي صور أخرى يكون الطلاق بيد المرأة، بالخُلع إذا اشترطته أو اشترطه الزوج. وبه يكون تخلّص مما عسى أن يكون عليه في بعض الرجال، أو في العرف المنتشر بين الناس، أو في بعض القبائل أو العصور من حماقة أو غلظة جلافة، أو تسرعٍ إلى الطلاق اتباعاً لعارض الشهوات بأن تشترط أن يكون طلاقها بيدها، أو أمر الداخلة ¬

_ (¬1) مغني المحتاج: 3/ 279. (¬2) مغني المحتاج: 3/ 279؛ الدر المختار: 3/ 226 - 227؛ الشرح الكبير: 2/ 347؛ المغني: 7/ 296. (¬3) الحموي. شرح الأشباه والنظائر: 2/ 195. (¬4) الدر المختار: 3/ 86؛ الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 347؛ بداية المجتهد: 2/ 72؛ فتح الجليل 2/ 182؛ مغني المحتاج: 2/ 262.

عليها بيدها، أو إن أضرّ بها زوجها فأمرها بيدها (¬1). واستشهدوا على صحة هذا التصرّف بحديث عقبة بن عامر: "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم من الفروج" (¬2). وأبطل سعيد ابن المسيب الشروط اللاحقة لعقدة النكاح مطلقا، وقال مالك لو شرطه لها، ثم أَسقطت الشرط، وأباحت له التزوّج أو التسرّي أو الخروج. فإن كان بقرب إرادة فعل الزوج لزمها الإسقاط ولا رجوع لها، وإن تراخى فعل الزوج كان لها الرجوع فيما أباحت له. وهو قول ابن القاسم (¬3). وتحرير القول في العقد مع الشرط عند المالكية: أن الشرط إذا انعقد عليه النكاح كان شرطاً باطلاً غير لازم، وإن وقع طوعاً من الزوج بعد عقدة النكاح لزم، بناء على إلزام المرء بما التزم به (¬4). والتفريق عبارة عن إلغاء العلاقة الزوجية بين الزوجين بُحكم القاضي بناء على طلب أحدهما لسبب كالشقاق والضرر، وعدم الإنفاق، أو بدون طلب حفظاً لحق الشرع كما إذا ارتد أحد الزوجين. وحكمُ هذا الطلاق البينونة في بعض الأحوال، والفسخ في أخرى، كما يقع طلاقاً رجعياً (¬5). والقصد الشرعي من الطلاق والفراق ارتكابُ أخفّ الضرر عند تعسّر استقامة المعاشرة، وخوف ارتباك حال الزوجية، وتسرّب ذلك ¬

_ (¬1) المقاصد: 443 - 444. (¬2) خَ: 3/ 175. (¬3) جعيط. الطريقة المرضية: 161. (¬4) المقاصد: 445. (¬5) ابن عابدين: 2/ 396؛ الزرقاني: 5/ 242.

إلى ارتباك حالة العائلة (¬1). أما بقية أواصر العائلة مثل آصرة النسب فإنها لا تطلق على الإبطال إلا تسامحاً؛ لأن انحلال أواصر النسب منوطٌ بآصرة البنوة التي هي أصل النسب. والنسب الثابت لا يقبل انحلالاً ولا إسقاطاً إلا من طريقين هما: اللعان، وإثبات انتساب الولد إلى أب غير الذي يَنسِبه إلى نفسه أو ينسِبُه الناس إليه. وألغى الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتماد عدم الشبه بين الولد ووالده المنتسب إليه، فإنه غير صحيح ولم يرخص فيه كما في حديث ضمضم الفزاري (¬2). وأكد النووي على هذا بقوله: إن التعريض بنفي الولد ليس نفياً، وإن التعريض بالقذف ليس قذفاً. وهو مذهب الشافعي. وفيه إثبات القياس، والاعتبار بالأشياء، وضرب الأمثال، وفيه الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد الإمكان (¬3). ومن المقاصد الشرعية الهامة: إبطال التبنّي وإعطاء الولد المنتسب الحق في الدفاع عن نفسه، وقد قال العلماء أن لا تعجيزَ في حق إثبات النسب (¬4). وأشار المؤلف بعد هذا إلى بيان انحلال آصرة الصهر مصرّحاً بأن الانحلال يكون تاماً كما في أخت المرأة وعمتها وخالتها، إذا انفكت عصمة تلك المرأة بموت أو طلاق، ومنه ما لا انحلال فيه مثل أم الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن والربائب كما هو مبسوط ومفصّل في محله من دواوين الفقه. ¬

_ (¬1) المقاصد: 443 - 444. (¬2) خَ: 6/ 178؛ مَ: 2/ 1137. (¬3) النووي. شرح مسلم: 10/ 133 - 134. (¬4) المقاصد: 448.

الفصل الثالث: الأموال

الفصل الثالث: الأموال ° تعريف المال: المال: هو ما تقوم عليه المعاملات جميعها، فإليه تستند، وبه تتحقق وتُنجز. وقد جاء في تعريف المال عن اللغويين والمحدّثين والفقهاء عبارات مختلفة كثيرة تضيق وتتسع بحسب تصوّرهم له، وبحسب ما يمليه الحال في كل عصر. قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان. وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنها كانت أكثرَ أموالهم ذكراً. وفي اصطلاح الفقهاء من الحنفية عرّفه ابن عابدين بما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقته (¬1). وشرطه أن يكون عيناً مادية لها وجود خارجي بحيث يمكن إحرازها وحيازتها وادخارها. وبهذا الوصف لا يطلق المال عندهم على المنافع خلافاً للجمهور. وهو عند الشافعي فيما نقل عنه لا يقع إلا على ما له قيمة يُباع بها وتلزم بتلفه. وذهب الشاطبي من المالكية إلى أن المال هو ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره، إذا أخذه من وجهه. ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار: 2/ 57، 4/ 501 - 502.

° أنواع المال

وتوسع جمهور الفقهاء فأطلقوه على ما يشمل الحقوق المقوّمة والمنافع جميعاً. فهو يطلق على كل ما له قيمة مادية بين الناس، وجائز الانتفاع به انتفاعاً مشروعاً حال السعة والاختيار (¬1). وهذا احترازاً من الخمر والنجاسات والخنزير. وعرّفه الشيخ ابن عاشور بتعريفين خاصًّ وعامًّ. ذكر الأولى في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2) قال: هو ما بقدره يكون قدر إقامة نظامِ معاشِ أفرادِ الناس، في تناول الضروريّات والحاجيّات والتحسينيّات بحسب مبلغ حضارتهم، حاصلاً بكدْح (¬3). وذكر التعريف الثاني وهو العام الذي لا يتعلق بمداخيل الفرد فحسب، قائلاً والمال الذي يدال بين الآحاد هو على وجه الجملة حق للأمة عائد عليها بالغنى عن الغير. وبناء على هذا الاعتبار تكون للمال أنواع متعددة. فالمال الذي يقام به نظام المعاش ثلاثة أنواع على ما فصّله الإمام الأكبر (¬4). ° أنواع المال: منه ما تحصل به إقامة نظام المعاش بذاته دون توقّف على شيء آخر من غيره. وهذا كالحبوب والأطعمة والثمار. وكذلك الحيوان فيما أذن لنا بأكله، والانتفاع به: بصوفه وشعره، ولبنه وجلوده. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬5)، وقوله: {وَالْأَنْعَامَ ¬

_ (¬1) د/ أحمد الحصري. السياسة الاقتصادية والنظم المالية في الفقه الإسلامي: 471. (¬2) سورة البقرة، الآية: 188. (¬3) التحرير والتنوير: 2/ 187. (¬4) التحرير والتنوير: 2/ 188 - 189. (¬5) سورة الحج، الآية: 28.

خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1)، وقوله: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2). وهذا النوع من الرزق هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها. ومنافعه حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاونين على كسبه، ولا على ما جرى به اصطلاح التنظيم له بين الناس. والنوع الثاني: ما يحصل ويكمل به نظام العيش. وهذا كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الخشب والصوف ونحو ذلك. وهذه الأشياء التكميلية قد تكون بأيدي أناس يضنُّون بها، وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق أو غير ذلك. وهي دون شك ذات أهمية بالغة. وإليها يرجع مَوْردان من الموارد المالية هما الفلاحة والصناعة. والنوع الثالث: هو ما تحصل إقامة العيش به مما اصطلح البشر على جعله عوضاً عما يراد تحصيله. وهذا كالنقد والعملة مما هو متوافر اليوم، وكالمعاوضات التي كان يحصل بها التبادل والتعاون للاكتساب والتملك قديماً، كما تَبرز صورة ذلك في أنواع التجارات والمعاوضات التي ضبطتها الشريعة الإسلامية بقوانين فقهية وأحكام استنبطها العلماء من أئمة وفقهاء في كل عصر من مصادر التشريع الإسلامي المختلفة المتنوعة وهو ما أدّى بهم إلى تفصيل القول فيها ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 5 - 8. (¬2) سورة النحل، الآية: 11.

لإناطة الأحكام بها فيما اعتبره الشارع من المقاصد جالباً للمصالح ودارئاً للمفاسد. ولا بدع في ذلك فإن المال جميعه، الذي بأيدي الناس، هبة من الله لهم، تقتضي شكرَ المنعم، والامتثالَ لمنهجه وأحكامه التي وَجَّه بها عباده للقيام بواجباتهم تحصيناً ووقاية للإنسان من الأمراض الخُلقية والسلوكية المزمنة. وبقدر ما تحدّث القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة عن الأنواع المختلفة للمال تكسباً وامتلاكاً في مجالي المعاوضات والتبرعات، فإن الإسلام يصرف المسلمين عن اتخاذ المال هدفاً لذاته، ويأمرهم بالسعي إلى تحقيق المقصد الشرعي منه بما سخره الله لنا في السموات والأرض، فنفيد منه ونستخدمه استخداماً صالحاً كريماً، من أجل إشباع حاجاتنا وحاجات مجتمعاتنا، ضمن الإطار الديني العام وتعاليم الإسلام، ووفقاً للمفهوم الأساس للاقتصاد الإسلامي الرشيد. وفي الآيات الكريمة أحكام للمعاملات تنظم حياة الناس وتقيهم الظلم والعدوان في المكاسب. من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1)، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2). وفي الآيتين تحذير للناس من التجرؤ على أكل المال بالباطل، أي ظلماً ومن غير وجه حق، إلا أن تكون الأموال عن تجارة. فإنه يُحصَل عليها بالتبادل بين الطرفين وعن طيب نفس، ولقصد المتصدّي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 188. (¬2) سورة النساء، الآية: 29.

° أقسام المال في الملكية

للتجارة الحصولَ على مال زائد على قيمة ما بذله المشتري. فمن هذا الوجه الذي قد يكون به اشتباه خصّت التجارة في الآية بالاستدراك والاستثناء. والمقصد الشرعي من ذلك هو إباحة الجزء الزائد المتراضى عليه لاعتبار التجارة مدارَ رواج السلع الحاجية والتحسينية. ولولا تصدّي التجار وجلبهم السلع لما وجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج. ° أقسام المال في الملكية: قسم علماؤنا المال إلى أقسام أربعة مختلفة: القسم الأول: تقسيم المال بالنسبة للملكية. وهو ثلاثة أنواع: (1) ما لا يجوز تمليكه ولا تملّكه بحال. وهذا كالطرق والجسور والحصون والسكك الحديدية ونحوها. فهذه أموال عامة ليس لأحد أن يمتلكها لتعلّق حق الناس جميعهم بها. (2) ما لا يَقبل التمليك إلا عند وجود المسوّغ الشرعي. وهو الأعيان الموقوفة والعقار المملوك لبيت المال. والوقف لا ملك فيه لأحد عند أكثر الفقهاء، وهو عند غيرهم مملوك للواقف أو للمستحقين لريعه. وملكيتهم له ليست ملكية مطلقة. وأما المملوك لبيت المال فإنه ملك لجماعة المسلمين. (3) ما يقبل التمليك بلا شرط دائماً وفي كل حال. وهو ما هو حق في متناول الأفراد والجماعات كلهم كالصيد (¬1). القسم الثاني: كون المال من الثوابت كالعقار من أرض ومبانٍ، أو كونه من المنقول. وهو على نوعين: إما سلعة كالنبات والجماد والحيوان، وإما ثمن. ¬

_ (¬1) د/ علي الخفيف. أحكام المعاملات الشرعية: 52.

والقسم الثالث: يشمل الأموال الخاصة مضافة إلى أصحابها، وكذلك الأموال العامة، وما يتجمع في بيت المال من مختلف الموارد فهي أموال المسلمين. وكان هذا النوع في صدر الإسلام يتمثل في أموال الزكاة التي كانت تعم أذواد الإبل المعدّة لحمل المجاهدين، واللامة المرصودة للبس المجاهدين، وكذلك الأدرع والأعتدة تحبس في سبيل الله، وما جعل لمنفعة المسلمين كبئر رومة (¬1). والقسم الرابع للمال: هو ما اختلف بين نقدي وعيني. ويحتاج الناس في معاملاتهم إلى التفريق بين الثمن والقيمة. أما الثمن فهو إما أن يكون ثمناً بالخلقة كالذهب والفضة، وإما أن يكون ثمناً بالاصطلاح كسائر النقود من غير النقدين، سواء أكانت ورقية أم من المعادن. وأما القيمة فهي ما يقوّم به المقوّمون الشيء استناداً إلى ما بذل في تحصيله من جهد ومال مع إضافة ربح معقول تعارف الناس عليه. وقد اتسمت السياسة المالية في الإسلام بالوسطية لأهمية المال عند الشارع وعند الناس. ووَرَدَ في المصدرين: الكتاب والسُّنة منهج شرعي إلهي يحدد ما أمر به سبحانه من سياسة مالية ينجو بها المرء من غوائل الدهر، ويحصل بها التكافل والتراحم بين أفراد الناس كافة. فالرزق جميعه بيد الله، أنعم به على عباده. وقضى لكل واحد منهم بما قسم له مما يليق به، بحسب ما جبلت عليه نفسه، وما يحفُّ به من أحوال النظم المحيطة به في هذا العالم {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) المقاصد: 459 - 460.

قَدَرًا مَقْدُورًا} (¬1)، و {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (¬2). ويحملنا هذا على التطلع إلى معرفة المقاصد الشرعية الحاكمة للمعاملات وللتصرّفات المالية بين الناس. فنتبين أسرار التشريع فيما يعود إلى مقاصد البشر النافعة، وما تتحقق به الموازنة بين جميع طبقات المجتمع الإنساني. فإن من السياسة الدينية ما يقوم على توجيه العباد في تصرّفاتهم المالية، وإن كانوا أحراراً في الأساس في مباشرة ما عهد به إليهم من رزق حُرِمَ منه غيرهم. ومنها بيان حقيقة الإنفاق لذلك المال في السبل المشروعة. وكذلك وجوب الاستجابة للأوامر والنواهي الشرعية التي تقتضي مراعاة أحكام الله التي لا يجوز إغفالها ولا تجاوزها نفياً للظلم، وحماية للحقوق، وإقامة للعدل. ولكون المال وهو الذهب والفضة والحلي والنقود مما تُقتنى به أعواض الأشياء المحتاج إليها، وكذلك الجنات والحوائط وحقول الزرع مما أنعم الله به على عباده، وائتمنهم عليه وامتحنهم فيه، اعتُبر ذلك كله من متاع الحياة الدنيا، تحرِص النفوس على الحصول عليه، والتنافس فيه، والتواثب عليه. وتغلب عليهم شقوتُهم بقدر تعلق نفوسهم به وإفراطها في طلبه، استجابة لشهوتها النزاعة إليه، غير ناظرة إلا إلى جانبه المغري، ساهية عما يخفيه وينطوي عليه من مذام. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 38. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 30.

ففي الذكر الحكيم جاء تصوير الأموال بالفتنة إذا كانت مقصودة من الناس لذاتها، لا لأداء ما يتعلق بها من واجبات أو صرفها في وجوه البر كما أمر الله المنعمُ بها. قال - عز وجل -: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬1). وإلى جانب هذه الحقيقة الثابتة التي تعتبر في الخَلق فطرةً وجبلةً وُجودُ ما يساعد النفوس على الاستقامة والرشد فيما يصدر عنها من تصرّفات يمليها الشارع وتقتضيها طبيعة أحكامه. وهذه هي القاعدة الأولى قاعدة حُسن التصرّف. وإنك لتجدها مع قواعد أخرى في أبواب المعاملات، تأسست على توجيهات وتعاليم دينية، وعلى تشاريع وأحكام شرعية، إذا خرج عنها العبد ولم ينقد إليها، سُمجت نفسه، وطاش عقله، وقويت شهوته، واقتعد الهوى غاربَه. فإذا صدر عنه بعد ذلك أي عملٍ، كان حجة عليه شاهداً بتجاوزاته، وتعريةً لأمراضه النفسية، وحجاباً بينه وبين المصلحة الكلية التي أوجب الباري مراعاتَها والسيرَ على وفقها إصلاحاً للبشر ودعماً للأمة وإقامة للعمران. والقاعدة الثانية هي الوسطية في البذل والعطاء. وهي الواقعة بين الحدَّين الذميمين: الإفراط والتفريط. فالله، جلّت حكمته، أمرنا بالتزامها في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬2)، وفي قوله: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (¬3)، وفي قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (¬4). وقال أحدهم في تحديد السرف: لا ¬

_ (¬1) سورة التغابن، الآية: 15. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 67. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 26، 27. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 29.

خير في السرف، فأجيب بأنه لا سرف في الخير. ولهذه النظرة مؤدّاها، والمقصد منها. وفي هذا التوجيه والتشريع الإلهيين: التنبيهُ أولاً على أنه سبحانه جعل المال عوضاً لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينيات كما قدمنا، وأنه قدّر ثانياً أن يكون المال مرصوداً لإقامة مصالح الأمة. وربما دلت الثروة على معنى المال وأطلقت بإزائه. فقد قرن بينهما الشيخ ابن عاشور حين أراد استجلاء المقصد الشرعي منهما وذلك في قوله: مال الأمة ثروتها (¬1). وأمعن المعاصرون في تحديد الثروة، وجعلوها قسمين باعتبارٍ أوسع وأدق. فقالوا: هي من جهة تشارُك في الأعمال الإنتاجية في شكل نقدي، ومن جهة ثانية ما يتحول إلى معدات إنتاجية تتخذ أشكالاً مختلفة عدداً، وآلات ومولدات طاقة ومبانيَ وأثاث، يترتّب على إنتاجها التضحية بإنتاج مختلف السلع والخدمات الاستهلاكية. وهي العنصر الإنتاجي الذي نسميه رأس المال في حين أن الشكل النقدي الأول ليس إلا تعبيراً نقدياً عن عنصر التنظيم الذي يواجه المخاطرة وعدم التأكد (¬2). ويقتضي هذا النظر حماية مكاسب الناس أولاً بعدم انتزاع الملك من صاحبه بدون رضاه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" (¬3). ¬

_ (¬1) المقاصد: 460. (¬2) د/ عبد العزيز فهمي هيكل. المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي: 122. (¬3) خَ: 45 كتاب الحرث والمزارعة، 15 باب من أحيا أرضاً مواتاً: 3/ 70. واللفظ عنده: ليس لعرق ظالم فيه حق.

° الفوارق بين الأموال العينية والنقدية

فإذا تعلق حق الغير بما ملكه المالك كان للحاكم أن يتدخل بالبيع، أو بالقضاء بالاستحقاق، وبإنزال العقاب بكل من أكل سحتاً أو تصرّف في أموال الناس بغير حق. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاسب عماله وولاته. ووعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته مقارناً بين ألوان السلوك القويم والجائر، موصياً بالعدل والتعفف عن المحاباة والجور في الأحكام، قائلاً: "إنما أهلك الذين من قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" (¬1). ° الفوارق بين الأموال العينية والنقدية: ومن الفوارق بين الأموال العينية والأموال النقدية أن الأولى يلحقها العرض والطلب، بخلاف الثانية وهي النقود فإنها لا تعرض إلا نادراً. ومما يفرّق به بين الأعيان والنقود ما رواه البراء بن عازب وزيد بن أرقم من سؤال تاجرين النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصرف فقال: "إن كان يداً بيد فلا بأس، وإن كان نَساء فلا يصلح". وحديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابتياع التمر الجنيب بالجمع (¬2). ومما ورد من نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن تكسر سكة المسلمين إلا من بأس (¬3). ¬

_ (¬1) خَ: 60 كتاب الأنبياء، باب 54: 4/ 151. (¬2) طَ: 2/ 623. (¬3) حديث علقمة عن أبيه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كسر سكة المسلمين الجارية بينهم. دَ: 3/ 730، ع 3449؛ جَه: 2/ 761، ع 2263.

المقايضة

ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن استعمال الرجال للذهب والفضة لحكمة هي عدم تعطيل رواج النقدين بكثرةِ الاقتناء المفضي إلى قلّتهما (¬1). وفي المقايضة تختلف أموال المعاوضات فيها بناء على تقابل إرادة العرض والطلب في زمن معين وبطريق محدد. ومن ثم تظهر صعوبة التعامل بها كما أشار إلى ذلك الشيخ ابن عاشور لأسباب كثيرة، منها: ° توافق رغبات المتبادلين. ° وتحديد نسبة التبادل. ° وعدم إمكانية تجزئة السلع والخدمات. المقايضة: كان التعامل بين الناس في القديم قائماً على المقايضة. وهي تبادل سلعة بسلعة، أو خدمة بخدمة، أو سلعة بخدمة. وقلما وجد التعاوض بالنقود، إلا أن تُعتَبَرَ هي نفسها سلعة. وكانت أنواع المتموّلات في أموال المعاوضات من حبوب وفواكه وألبان ولحوم وسمك وعسل وأنعام ونحو ذلك. ولم تكن الغاية من الإنتاج في العصور الأولى الإثراء وجمع الثروات بل هي على العكس من ذلك تكاد تنحصر في إشباع الحاجات وتحقيق الاكتفاء الذاتي. وبناء على هذا لم تكن أموال المعاوضات تحتاج إلى وسيط نقدي وفقاً لظروف كل حالة من أحوال التبادل. ومتموّلات المعاوضات مختلفة متباينة، بحسب أنواعها في التمييز بين مبيع وثمن. ¬

_ (¬1) المقاصد: 480.

النقود

فالأعيان القيمية هي غير التي من ذوات الأمثال وتُعتبر عند مقابلتها بالمثليات المعينة كالمبيع ومثال القيمية والمثلي هو الثمن مطلقاً وهو الثياب والدور والعقارات، والعدديات المتفاوتة كالغنم والبطيخ إذا بيع بالعدد لا بالوزن. وإذا قوبلت الأعيان القيمية بالأموال غير المعينة، أي الملتزم بها في الذمة، فالعبرة في الثمنية بمقارنة حرف الباء مثل بعتك قنطاراً من السكر بهذا المشاع. والمثليات هي أنواع من المكيلات والموزونات والذرعيات والعدديات متقاربة، إذا قوبلت أفرادها بالنقود فهي المبيعة، وإذا قوبلت بأمثالها كبيع قمح بزيت: فما كان منها معيناً يكون مبيعاً، وكل ما كان منها موصوفاً في الذمة يكون ثمناً. وإذا بيعت القيميات ببعضها يكون كل من العوضين مبيعاً من وجه، وثمناً من وجه آخر. وهذه الأنواع من التصرّف، ما عدا ما كان أحد عوضيه نقداً، كانت أكثر دوراناً بين الناس، جاريةً بها معاملاتهم. وقد عرفت هذه الظاهرة، كما قدمنا في الأزمان الخالية وبخاصة في المناطق التي غلبت عليها البداوة والبساطة. ولما تطورت المجتمعات في أكثر البلاد وامتدت الحضارة إليها أصبح طلب الناس في تصرّفاتهم المالية منصباً في الغالب على أهم أنواع المتموّلات وهي النقود. النقود: اصطلح الناس في نظام حضارتهم المالية على اعتبار النقدين أعواضاً للتعامل. وهي في واقع الأمر نوع من المتموّلات استبدلت بالتعامل بالأعيان.

ونظرة في المعاوضات بالأعيان تحملنا على ترتيبها باعتماد الناس عليها في معاملاتهم: فالحبوب من القمح والشعير ونحوهما أيسر رواجاً من التمر والزبيب والتين المجفف. وهي أخف نقلاً، وأطول ادخاراً، وأكثر مرغوبية، وأيسر تجزئة. والفواكه دون ذلك في جميع هذه الصفات. والألبان واللحوم ضعيفة في جميعها. والسمن والعسل مستويان في صفة الادخار والنقل، ومختلفان في وفرة المرغوبية. والأنعام أقوى في وفرة المرغوبية وخفة النقل، وأعسر ادخاراً وتجزئة. والرباع والعقار دون غيرها في معظم الصفات عدا صفة المرغوبية فالناس في اقتنائها أرغب، وعدا صفة الادخار لأن الخطر عنها أبعد. ومما تقدم يظهر أن النقود من الذهب والفضة عوضان صالحان بغالب أحوال البشر، وخاصة في حالات الأمن واليسر والخصب. وبهما يكون التعامل أيسر من التعامل بالأعيان من سائر الجهات. وبخاصة من جهة سهولة تجزئة القيمة وسهولة التعاوض في الأمور الثقيلة في التسليم كالمقادير الكثيرة، وفيما يعسر فيه تعاوض الأعيان. وأضاف الشيخ هنا ملاحظة دقيقة هي أن النقدين عند حالة الاضطرار في مثل حالات الحصار والجدب والمجاعة لا تغني عن أصحابها شيئاً. وتبدو المزية الواضحة في التعامل بالنقدين في حالات أخرى منها:

من النقود السلعية إلى النقود المعدنية

° أولاً: إمكان تمييز البائع من المشتري. فباذل المال مشترٍ، وباذل العوض بائع. ° ثانياً: أن النقدين يُطلبان ولا يُعرضان بخلاف بقية المتموّلات فإنّها يلحقها العرض والطلب. ولا يلحق العرض بالنقدين إلا نادراً. ° ثالثاً: وضع صاحب النقد مقداراً من ماله لمن يرغب في المعاملة به معه مثل وضع رأس مال السَّلَم، ورأس مالِ القراضِ، وترويج أوراق البنوك. وتختلف النقود بعامة بين ذهب وفضة وفلوس معدنية مسكوكة رائجة، وأوراق نقدية كالتي يُتعامل بها في العصر الحاضر. والنقود أسهل رواجاً وأخف وزناً في النقل، وأطول مدة في الادخار، والرغبة فيها أشد لدى المتعاملين، لقابليتها للتجزئة إلى أجزاء قليلة. وصارت النقود اعتباراً لذلك كله أهمَّ ما اصطلح عليه البشر في حضارتهم المالية، ووضعوا النقدين أعواضاً بدل التعامل الطبيعي الذي كان تقايضاً بين الناس. من النقود السلعية إلى النقود المعدنية: ولما تطورت المعاملات انتقل التجار في الأسواق والمزارعون والفلاحون وأرباب الصنائع وغيرهم من اعتماد النقود السلعية في مبادلاتهم إلى النقدين: الذهب والفضة، طلبا لتيسير المعاملات، وتخلصاً من الصعوبات، ولكونها أثبتَ قيمة من غيرها من السلع. وقد عرف العرب الجاهليون والمسلمون من بعدهم هذين المعدنين النفيسين. وورد ذكرهما في القرآن والسُّنة. ونحن نذكر عن طريق التنزيل الحكيم تبايع أهل الكهف بالورِق. وهو السكة من

رأي الغزالي والمقريزي في النقدين

الفضة، كما نعلم أن النقد بدأ ينتشر في بلاد العرب وما حولها وتَعامل الناس به، وسمّوا العينين الذهب والفضة نقدين. واعتبر الفقهاء هذين المعدنين أثماناً بأصل الخلقة. وإثر ذلك ولمواجهة البيوعات والمبادلات البسيطة أو المهينة أحدثوا أثماناً دون الدينار والدرهم. فضربوا القيراط والدانق وهي الفلوس، وجعلوا قيمة الدانق سدس الدرهم، والقيراط نصف الدانق. فإذا كانت هذه الفلوس نافقة وأقبل عليها الناس فهي الرائجة، وإلا فهي فلوس كاسدة (¬1). رأي الغزالي والمقريزي في النقدين: نوّه الغزالي شديد التنويه بثمنيّة النقدين في قوله: إن الله تعالى خلق الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما ... وخلقهما لحكمة أخرى هي التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما، ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال واحدة. فَمَن ملَكَهما فكأنه ملك كل شيء. ومن يتدبر هذه الجمل على اقتضابها يتبين سبق هذا العقل الجبار النافذ إلى إدراك حقائق هذه المعادن وخصائصها، والتعرف على ما لم يسبقه إليه أحد في ذلك. فهو يعلن من خلال هذا النص عن رغبات المتبادلين في التبادل، وعن كون الدنانير والدراهم خُلِقا ليكون تقديرُ الأموال عن طريقهما، وأنه من المتعيّن تثبيت قيمة النقدين فلا يكونان سلعاً. ومضى في تحليله مضيفاً أن كل من أجرى معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر بنعمة الله وظلم؛ لأنهما ¬

_ (¬1) محمد سلامة جبر. أحكام النقود في الشريعة الإسلامية: 11.

خلقا لغيرهما لا لنفسيهما، وذلك قوله: "إذ لا غرض في عينيهما". ولفتة أخرى إلى حجة الإسلام ترينا كيف توصل إلى تفسير صعوبات المقايضة، فهو يقول في معرض حديثه: إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته. وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه. ويحدد بعد هذا نِسب التبادل، ويطرح صعوبة تجزئة السلع والخدمات على أساس أن السِلع تختلف من حيث حجمُها وطبيعتُها. فبعض السلع لا تقبل التجزئة لكبر حجمها، وهو ما يشكل عقبة في سبيل إتمام التبادل. وتناول المقريزي نفس القضية في كتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة قائلاً: "إن النقد [يريد المعدنين الذهب والفضة] أمر أساسي في حياة المجتمعات، يتخذ أساساً لتعيين ثمن المبيعات وقيم الأعمال. وقد لازم الناس من قديم الزمان في سائر البلدان، ولا يُعلم خبر صحيح ولا سقيم، عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر، أنهم اتخذوا في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما" (¬1). ولِما انتاب المجتمعات من نوائب، وحدث بها من تضخم في الأسعار، انتُقل في التعامل من اعتماد المقايضة إلى استعمال النقود. وتعرض عدد آخر من علماء ومفكري العرب والمسلمين لقضية النقود من جوانب مختلفة، نذكر منها مقالة عبد الرحمن بن خلدون: "الكسب هو قيمة الأعمال البشرية. وأن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمةً لكل متموّل، وإن اقتني ¬

_ (¬1) المقريزي. إغاثة الأمة بكشف الغمة: 41 وما بعدها.

غيرهما في بعض الأحيان، فهما الذخيرة والقِنية وأصل المكاسب" (¬1). وأودع صاحب المقدمة في هذا الفصل حقائق كثيرة تُصوّر مدى علاقة النقود بالقدرة الإنتاجية للدولة، والعلاقة بين الرخاء وسرعة تداول النقود. وأبرز لنا خاصية النقود بقوله: "وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل". وبهذا يقرّر خاصيات الثبات النقدي للنقدين: الذهب والفضة، ويشير إليه بقوله: "إن للذهب والفضة وظيفتين هامتين، فهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب، كما أنهما القيمة لكل متموّل"، وبنى على ذلك "أن الناس اتخذوهما أداة للمبادلة والادِّخار". وحدد ابن خلدون العلاقة بين النقود وبين القدرة الإنتاجية للدولة، وصرح في غير تردد: "أن الأموال من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة إنما هي معادن ومكاسب كالحديد والنحاس والرصاص، وسائر العقارات والمعادن. والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها. وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث. وربما انتقل من قطر إلى قطر أو من دولة إلى دولة أخرى بحسب أغراضه والعمران الذي يستدعي له". وهو لا يلبث أن يحدثنا عن أن أكثرية الاقتصاد يقوم على تبادل المنفعة والحصول على الذهب والفضة ابتغاء الحصول بهما على سلع أخرى. وأن هذا رهين بنشاط الدولة ومن لنظرها من أرباب الأموال وأصحاب المهن والصنائع. يشهد لهذا قوله: "إن ¬

_ (¬1) ابن خلدون. المقدمة: 380 - 381.

النقود عند ابن القيم وابن عابدين

أقطار المشرق مثل مصر والشام وعراق العجم الهند والصين وناحية الشمال وأقطار ما وراء البحر الرومي لمّا كثر عمرانها كثر المال فيها، وعظمت دولهم، وتعددت مدنهم وحواضرهم، وعظمت متاجرهم وأموالهم. فإنه بلغنا عنهم في باب الغنى والرَّفَه غرائب تسير الركبان بحديثها، وربما تُتَلقى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب ما يسمع من العامة، يعزون ذلك لزيادة أموالهم، أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم، أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم. وليس كذلك فمعدن الذهب من بلاد السودان. وهي إلى بلاد المغرب أقرب، وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال، ولاستغنوا عن أموال الناس بالجملة" (¬1). وهذا الوضع من الرخاء والرَّفَه مما يقتضيه العمران. فالعمران يظهر النقود بالأعمال الإنسانية فيزيد منها أو ينقصها. النقود عند ابن القيم وابن عابدين: إلى جانب نظرة المؤرخين للنقدين يذكر الفقهاء كابن القيم في إعلام الموقعين شيئاً عنهما أثناء حديثه عن ربا الفضل. ومن ذلك قوله: "فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات. والثمن هو المعيار، به يُعرف تقويم الأموال. فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع. وحاجة الناس إلى الثمن يعتبرون ¬

_ (¬1) ابن خلدون. المقدمة: 357.

أنواع النقود

به المبيعات حاجة ضرورية عامة. وذلك لا يمكن إلا بسعر تُعرَف به القيمة. وذلك لا يكون إلا بثمن تقوّم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يُقَوّمُ هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخُلفُ، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح. فعمَّ الضرر وحصل الظلم. ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوّم به الأشياء ولا تقوّم هي بغيرها لصلح أمر الناس" (¬1). وخص ابن عابدين النقود برسالة مستقلة هي تنبيه الرقود على مسائل النقود. لخّص بها رسالة الغزّي التمرتاشي بذل المجهود في مسأل تغيّر النقود. وموضوع الرسالة، كما صرح بذلك مؤلفها بحث موضوع النقود من جهة الرخص والغلاء والكساد والانقطاع. وقد نقل فيها أكثر ما وقف عليه من كلام الأئمة. أنواع النقود: وظهرت بعد السلعة الوسطية التي كانت تستخدم في المقايضات النقودْ المعدنية. فاستعملوا لهذا الغرض الحديد، ثم النحاس، ثم المعدنين النفيسين، ثم البرونز. وبدأ ترتيب هذه النقود في التداول بالفضية ثم الذهبية. واتجهت كل واحدة منهما إلى مجال من المعاملات. وبقيت تُستخدم في المبادلات الصغيرة القليلةِ الأهمية نقودٌ أخرى من النحاس والبرونز والرصاص وأحياناً النيكل. وإنما اتخذت إنجلترة في منتصف القرن التاسع عشر الذهب أساساً لنظامها النقدي، حين توافرت لديها كميات معتبرة من الذهب. وذلك بعد قيام الثورة الصناعية واستعمال المحركات الميكانيكية، وتقدم التجارة ¬

_ (¬1) ابن القيم. إعلام الموقعين (2): 2/ 156.

الخارجية بفضل تطوّر وسائل النقل باستعمال البخار. وفي تلك الفترة من الزمن اكتشفت مناجم الذهب في الأورال وكاليفورنية وأسترالية. فعجل ذلك بسقوط العملة الفضية وتدنّيها وأصبحت من بين النقود الثانوية. لكنّ تَميّز المعدنين: الذهب والفضة ببريقيهما جعلهما يُقدّمان على غيرهما من المعادن. وكان من أهم خصائصهما رغبة الناس فيهما وشغفُهم المتزايد بالزينة والتحلّي، وسهولة حملهما وسلامتهما من التلف، وقابليتهما للتجزئة، والتشابه والتجانس بين القطع المسكوكة من الذهب والفضة، وصعوبة تزييفهما وثبات قيمتهما. كل ذلك قضى لهذين النقدين على سائر المعادن. فكان لهما بذلك الرواج والادَّخار. ولهذين النقدين قيمتان حقيقية ومعدنية. فالأولى هي قيمة المعدن في ذاته، والثانية القيمة الاصطلاحية التي تحددها الدولة للتعامل بذلك النقد. وقد تتساوى القيمة الحقيقية للنقود مع قيمتها الاسمية فتعتبر النقود في هذه الحالة جيّدة. وإن كانت القيمة الحقيقية للنقود أكثر من قيمتها الاسمية وصفت النقود بالقويّة. وإن نزلت القيمة الحقيقيّة لهما دون قيمتهما الاسمية فهي نقود ضعيفة. ويُضاف إلى هذه القيم النقدية ما يسمى بالنقود الرديئة: وهي التي تطرد النقود الجيّدة. ومعنى ذلك أن النقود الجديدة لا تلبث أن تختفي من التداول غير قادرة على مزاحمة النقود القديمة. ووجه ذلك أن الجديدة تصدر إلى الخارج لتسديد الديون، وتُنتقى القديمة للاكتناز أو لتستخدم في الأغراض الصناعية أو لتُصنع وتُباع في شكل سبائك.

النقود المساعدة

النقود المساعدة: اتخذ الناس نقوداً أخرى مساعدة، حين عمّت أطرافَ العالَم قُطراً فقُطراً موجةٌ جديدة اقتصادية قامت المعاملات فيها على النقود الورقية. وهذا ابتداء من منتصف القرن السابع عشر. وعزّزت هذه النقود الورقية تزايد نشاط التجارة الخارجية. وبدأ الصيارفة والتجار من القساوسة يجمعون النقود المعدنية حريصين على حفظها خوفاً من مخاطر السرقة والضياع، ومحافظةً منهم على عملة ذات قيمة عينية لا تشاركها فيها النقود الورقية. وظهرت البنكنوت أو النقود النائبة والمثيلة. وهذه الأوراق لا تعتبر نقوداً في حقيقة الأمر، وإنما هي أوراق تنوب عن نقود حقيقية مودعة في البنوك. وبسبب هذه النيابة أو التمثيل أطلق عليها اسم نقود، وإن لم تكن كذلك. وهي تقوم مقامها على الوجه الكامل لكونها مغطاة 100 %. فإذا قدمت هذه الأوراق إلى البنك اعتبرت بمثابة دين عليه، فيتلقى الوديعة ويدفع ما بذمته من المعادن. وظهرت بعد هذا النقودُ الورقية الائتمانية التي أصدرتها البنوك حين رأت أن ليس من الضروري أن تغطِّي ما صدر من الأوراق النقدية بغطاء معدني مقداره 100 % من قيمتها. وجرياً وراء الربح أصدرت من الأوراق النقدية ما يتجاوز قيمة المعادن المحتفظ بها كغطاء أو ضمان لطلبات التحويل. وتم ذلك بالفعل عن طريق منح البنوك قروضاً تجارية وخاصة. وبدأ يظهر هذا في صورة عمليات الخصم أو صكوك الائتمان التي كثر إصدارها. وتدفّقت الأوراق النقدية في التداول بجانب النقود التي سبق إصدارها بغطاء. وبذلك أصبحت في أيدي الأفراد كميات من أوراق النقد لا تقابلها أرصدة نقدية.

وتتولى هذه العمليات البنوكُ التجارية التي آلت إلى بنوك مركزيّة تشرف عليها الحكومات. واطردت عمليات الإصدار هذه، وارتفعت أثمان السلع والخدمات، وزاد الشعور بعدم الثقة. واصطلحوا على تسمية هذه النقود الجديدة بالنقود الورقية الإلزامية أو القانونية. وأصبحت أوراق البنكنوت مجرد أوراق تستمد قوتها الشرائية من قوة القانون، ومن ثقة المتعاملين بها. ولا بد من ملاحظة أن هذه النقود الإلزامية تنسحب على كافة المسكوكات فضية كانت أو برونزية. وهي لا تحتوي من المعادن إلا ما يقل في قيمته عما تمثله من قيمة نقدية. ثم استقلت البنوك المركزية الموزعة على الدول عامة بإصدار تلك الأوراق النقدية. وتعامل الناس بها في تصرّفاتهم المالية، وسعوا إلى تحصيلها بمساعٍ شتى، أو حملوا على السعي إليها امتثالاً (¬1). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 401.

الفصل الرابع: مقاصد التصرفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال

الفصل الرابع: مقاصد التصرّفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال في تمهيد كتاب مقاصد الشريعة إشارة واضحة من صاحبه إلى كون القصد من مصنّفه هذا هو بحث مقاصد الشريعة في قوانين المعاملات، وفي الآداب التي يتميّز بها الإسلام باعتبارها قواعد التشريع الإسلامي وأساسَ قوانينه وسياساته الاجتماعية (¬1). وإذا كان المتقدمون من الفقهاء قد صرفوا جهودهم لكشف أسرار التشريع في العبادات خاصّة، فإن أهميّة هذا الموضوع والحاجة إليه، حملت الشيخ ابن عاشور على الاستدراك عليهم، وعلى الالتفات إلى مثل ما أبدوه من مقاصد وخصائص في العبادات، بمحاولة الوقوف على مثل ذلك في المعاملات. * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 5.

من مقاصد المعاملات المالية

من مقاصد المعاملات المالية وعند بحث مقاصد التصرّفات الماليّة وما بعده، ذكر الإمام ثالثة أركان الإسلام "زكاة الأموال"، منوّهاً بها، ومعتبراً بقاءها شعاراً للمسلمين، وانتفاءها علامة للمشركين. وفي هذا تنبيه على ما للمال من قدرة على القيام بمصالح الأمة اكتساباً وإنفاقاً. وأشار إثر ذلك إلى أهمية المال البالغة، كما تدلّ على ذلك الآيات الكثيرة الكريمة. فقد ورد ذكر المال في معرض المواساة به، ثناء وتحريضاً، وأكّد المؤلّف على ما يكون به من قضاء على نوائب الأمة، مشيراً إلى تنويه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدور المال في قوله: "ذهب أهل الدثور بالأجور"، و"اللهم أعطِ منفقاً خلَفاً وممسكاً تلَفاً". وبعد ذكر الأدلة من المصدرين على أهميته وازن بين وجوه إنفاقه، وأشار إلى ما طُبعت عليه النفوس من حب له، واعتبارها إياه فتنة. فذكر إجماع الصحابة على طلبه والسعي إليه خلافاً لموقف أبي ذر منه. وعدّ العلماء المال من الكليات الخمس. وجعل الفقهاء نظام نمائه وطرق دورانه معظم مسائل الحاجيات، كالبيع والإجارة والسَّلَم. واعتبرت الشريعة حفظ مال الأمة، وتوفيره لها، مقصداً من أهم مقاصدها. وهو حق الحاصلين عليه، وثروةٌ للأمة ينتفع به الناس آحاداً وجماعات في جلب نفع، أو دفع ضُرّ، في مختلف الأحوال والأزمان والدواعي، انتفاعَ مباشرة أو وساطة. وذكر بعد هذا الأوصاف الخاصة المقوّمة له (¬1). ¬

_ (¬1) المقاصد: 168 - 169، 450 - 463.

وفصّل الإمام القول في التملّك والتكسّب. جاعلاً التملّك من أصول الحضارة البشرية، وأنه الأصل الأصيل للإثراء البشري وللاختصاص. وهو عبارة عن اقتناء الأشياء التي يستحصل منها ما تُسَدُّ به الحاجة بغلاته أو بأعواضه. وتتفرّع عنه من الحقوق ما ترجمت عنه كثير من المعاملات كإحياء الموات والمغارسة. وقيدت الشريعة تصرّف الناس فيه للأحرار الرشداء. ولا يتوقّف هذا الحق إلا بسبب صبا أو سفه أو إفلاس ونحوه. والتكسب وهو الوجه الثاني للتصرّفات المالية عبارة عن معالجة إيجاد ما يسدّ الحاجة إما بعمل البدن أو بالمراضاة مع الغير. وأصول التكسب ثلاثة: الأرض، والعمل، ورأس المال. وذكر علماء الاقتصاد أن التملك والتكسب سببٌ للقيام بالعديد من الوظائف الاجتماعية، وجعلت الشريعة ما يتفرع عنهما من أحكام مبنياً على الشروط والالتزامات. ومن أمثلة ذلك حديث العداء بن خالد أنه اشترى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبداً أو أمة فأمره أن يكتب له بذلك: هذا ما اشتراه العداء بن خالد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اشترى منه عبداً أو أمة بيع المسلم للمسلم لا داء ولا خبئة ولا غائلة (¬1). ومما تقتضيه مقاصد التملك إعطاء المالك حقَّ التصرّف في ماله، وتحرم مُضارَّة المسلم غيره في ملكه، وعدم التعامل بالربا لما فيه من إضرار بالعامة والخاصة. وكل ما دخل في ملك الإنسان عن طريق غير شرعي مهدر، وهو ظلم ينبغي أن يُرفع. ولا يجبر الإضرار بحقوق الناس، ولا يحافظ على أموالهم وعلى الإنتاج، غير محاسبة الناس وإقامة العدل بينهم. فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من استعملناه منكم على عمل فَكَتَمَنا مخيطاً فما فوقه فهو غالٌّ يأتي بما غلّ يوم ¬

_ (¬1) ابن حجر. الفتح: 4/ 357، تع 933.

أ - مصارف المال: البر، والصدقات، والزكاة

القيامة .. ألَا من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره. فما أعطي منه أخذ وما نهي عنه انتهى". أ - مصارف المال: البرّ، والصدقات، والزكاة: رغَّبت الشريعة في وجوه البرّ والصدقات، وفَرضت الزكاة على مَن ملك نصاباً. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تذكّر أهل الوفرة والثروة بأن ما أتيح لهم من وفرٍ آت من أبواب اتسعت لبعض فضاقت على آخرين. ومن ثَم وجب أن يكون ذلك الوفر محفوظاً لإقامة أود المعوزين، وأهل الحاجة الذين يتزايد عددهم بقدر وفرة الأموال. وخير البذل ما يكون في اكتساب الزلفى من الله. "السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد عن النار؛ والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار. وَلَجاهلٌ سخيّ أحبّ إلى الله من عابد بخيل" (¬1). ومن أجل هذا قال أحدهم وهو يدعو: اللهم هب لنا حمداً وهب لنا مجداً. فإنه لا حمد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال. ولكون أموال الأفراد من أموال الأمة، فإن لذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقاً في تلك الأموال. ¬

_ (¬1) الحديث لأبي هريرة. 6 كتاب الزكاة، 5 باب الإنفاق وكراهية الإمساك؛ الطيبي. شرح المشكاة: 4/ 79 - 80؛ ملا علي قاري. مرقاة المفاتيح: 4/ 372، 1869؛ قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة، وإلا من حديث سعيد بن محمد الكوفي الوراق، ضعفه الأئمة: 28 كتاب البر، 40 باب ما جاء في السخاء. تَ: 4/ 342 - 343، 1960 - 1961.

الزكاة

وقد أوضح الإمام الأكبر أن القصد الشرعي من عدم التبذير ومن عدم الإمساك والبخل أن تكون للأمة أموال هي عدّةٌ لها، وقوةٌ لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها، حتى تكون مرهوبة الجانب، مرموقة بعين الاعتبار، غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها، فيبتز منافعها، ويدخلها تحت نير سلطانه (¬1). الزكاة: من الواجب والفضل إنفاق المال في البر. وأول البر الزكاة. والزكاة لغة: النماء والريع والزيادة. قال علي بن أبي طالب: المال يزكو بالإنفاق. وترد بمعنى الصلاح كما جاء في قوله تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} (¬2)، وقوله سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3) بمعنى صلح ويصلح. وأطلقت أيضاً على ما يُخرج من حق الله في المال لكونها تطهيراً للمال مما اختلط به من حق الغير. وفي الحديث: زكاة الفطر طُهرة للصائم (¬4). كما وردت بمعنى التثمير والإصلاح والنماء بالإخلاف من الله تعالى. قال النسفي: سميت الزكاة زكاةً لأنه يزكو بها المال بالبركة ويطهّر بها المرء بالمغفرة (¬5). ولعل هذا مأخوذ من قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬6). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 15/ 79. (¬2) سورة الكهف، الآية: 81. (¬3) سورة النور، الآية: 21. (¬4) هو حديث ابن عباس: "فرض رسول الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث". دَ: 2/ 262 - 263. (¬5) د/ نزيه حماد. معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: 149. (¬6) سورة التوبة، الآية: 103.

وفي الاصطلاح عرفها الماوردي بقوله: الزكاة عبارة عن أداء حق مخصوص من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة لطائفة مخصوصة. وهي فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه. قَرَنَها الله بالصلاة في غير ما آية. فهي عبادة لله، وحق معلوم للمحاويج الذين ذكرهم سبحانه في كتابه. وهي محددة المقدار والوعاء والتوقيت والشروط. وقد حذر الله من الإمساك عن أداء هذا الحق وأنزل في ذلك وعيده بقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). وفي بيان مصارف هذه الصدقة وتعيين مستحقيها يقول - عز وجل -: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). وكلمة "فريضة" هنا مصدر يفيد معنى فَرَضَ الله وأَوجب. وتأتي بعد هذه البشرى للمنفقين المتصدّقين المزكّين الذين استجابوا لربهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3). ومن الدلائل على تنويه الشرع بالزكاة ورود ذكرها في القرآن الكريم فى نحو اثنتين وثمانين آية. وفي السُّنة في صحيح البخاري وحده سبعةٌ وثمانون باباً حوت نحو سبعة عشر ومائتي حديث. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 34 - 35. (¬2) سورة التوبة، الآية: 60. (¬3) سورة التوبة، الآية: 101.

وفي سورة التوبة يقول جل وعلا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1) وفي هذا بيان من الله للناس لما وعدهم به عند أمرهم بالزكاة من تنقية لقلوب المتصدّقين من الآثام، ومغفرة لهم، وشرح لصدورهم، وتنمية للخير بينهم، معقباً ذلك كله بأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء لهم بتسكين نفوسهم وملئِها طمأنينة وأمناً، واعداً بفيض من بركات الله ورحماته عليهم. ولعلّ مما يوقع الناس في الضلال والغفلة موازنتُهم السطحية بين سلبية الزكاة المتمثلة فيما ينقص من أموالهم أو يقتطع منها بسببها، وبين إيجابيتها المتمثلة في الزكاء والنماء والطُّهرة والإخلاف والمثوبة من الله لمن بذلها وأدّاها، عن رضا وطواعية. وقد أبدع في تصوير التعامل مع المال على وجه العموم الإمام الزَّبيدي في حديثه عن الساهين عن الحق الغافلين عن الواجب بقوله: "اعلم أن الله تعالى أوجد أعراض الدنيا بُلغة فاتخذها الناس عُقدة، وصيّر الدنيا مرتحلاً وممراً فصيروها موطناً ومقراً. ومِن وجهِ مِنحة مُنحت للإنسان لينتفع بها مدة ويذرَها لينتفع بها غيرُه من بعده، ومن وجه وديعة في يده رخّص له استعمالُها والانتفاع بها بعد ألا يسرف فيها، لكن الإنسان لجهله ونسيانه لَمَّا عُهد إليه اغترّ بها وظنّ أنها جعلت له هبة مؤبّدة. فركن إليها واعتمد عليها، ولم يؤدِّ أمانةَ الله فيها، ولَمَّا طولب بردّها تضرّر منه وضجر. فلم ينزع عنها إلا بنزع روحه أو كسر يده. وبعضهم - وهُم الأقلون - حفظوا ما عُهد إليهم بها. فتناولوها تناول العارية والمنحة والوديعة فأدّوا فيها الأمانة، ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 103.

وعلموا أنها مسترجعة. فلما استردت منهم لم يغضبوا ولم يجزعوا، وردُّوها شاكرين لما نالوه، ومشكورين لأداء الأمانة فيها" (¬1). هذا وإن الإسلام، الذي هو خاتمُ الشرائع وأكملُها، جاء مسوّياً بين أتباعه. فكلما وجدت ثغرة في بناء المجتمع الإسلامي أو تطرّق إليه خلل ما، وجدنا في هذه الشريعة ما يسدّ الثغرة ويصلح أمر المجتمع. وفيما نشاهد ونرى في مجتمعاتنا من ضرورات عامة وخاصة ما يقتضي تشريع هذه الزكاة وتوفير الصدقات لعلاج أوضاعها. فالضرورة الحتمية الأولى والمزدوجة هي القضاء على البؤس والفقر، وتحرير الإنسان من عبودية المال بسب ما يعترض سبيله من حاجات لا يقوى على دفعها ولا على التخفيف من حدّتها. وقد شرع الله - عز وجل - الزكاة لنا. فهي أعظم مؤسسة للتضامن الاجتماعي، وإن في تأدية الزكوات على وجهها إصلاحاً للأوضاع والأخلال في المجتمع، من بطالة وبؤس وفقر ونوائب وكوارث وديون. كما تتمثل أبعاد مشروعيتها في ضمان حاجات الأفراد وضمان استقرار الحياة الإنسانية بينهم. وإن الشريعة مع ذلك حين تضيّق على الفرد مداخله، وتقتطع من جهده وكسبه، لِتَجتزئ منه شيئاً لصالح إخوانه ينشأ عنه توسيع قاعدة التوزيع، وتحول دون بقاء المال محصوراً في جهة واحدة، وتأمر بأن تتداوله الأيدي فتقوى بذلك الأمة، وتحافظ على كيانها من عوادي الدهر. وما من شك في أن مقادير الزكاة في كل أوعية الصدقات تزيد بزيادة الكسب. وفي هذا دفع للنمو الاقتصادي وزيادةٌ ¬

_ (¬1) الزبيدي. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: 4/ 4.

ب - التملك والتكسب

في الإنتاج مع ما فيه من التزام بالعبادة القائمة على السعي والإنفاق معاً، وتحقيقُ للعدل الاجتماعي بالإغناء والإثراء للفقراء، وتطورٌ حميد سليم يخرج الناس من الفاقة والحاجة إلى اليسار، ومن أخذ الصدقات إلى القيام بها وبذلها لإخوانهم. ومن الدلائل على حرص الشارع على حماية الأموال من التلف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي اليتيم بالاتجار في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة. وهذه كلمات بليغة ووصايا مفيدة نتلمَّسُها عند الأئمة في صدر الإسلام، ولدى الفقهاء والمجتهدين. فإن أبا بكر الصديق حين ثارت، في حرب الرِدّة، طوائف من المتردّدين ضعيفي الإيمان، تدعو لتعطيل الزكاة وعدم جبايتها بعد انتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، صدع بقوله - رضي الله عنه -: "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة". ثم وافقه ابن الخطاب معلناً معاضدته له بقوله: "فوالله ما هي إلا أن رأيتُ الله شرح صدر أبي بكر للقتال" (¬1). وقال أيضاً: "إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها"، وقال موجهاً للمتصدّقين: "إذا أعطيتم فأغنوا". ب - التملُّك والتكسُّب: تقدم التعريف بالتملك والتكسب. فهما عند علماء الاقتصاد الوضعي سبب القيام بالعديد من الوظائف الاجتماعية. وهما في الإسلام يتجاوزان هذا الاعتبار، لكونهما في الأصل صورةً من صور العبادة يلازمها صاحب المال وتلازمه، وتجعله في كل أمره في خشية ¬

_ (¬1) انظر المقاصد: 255.

1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك

من ربه ومراقبة له، فهو يؤدّي لذلك واجباته التي ناطها الله بمالِه على وجه عبادة. والمقصد من الاكتساب كالمقصد من التملك. فالأحكام مبنية فيهما على الوفاء بالشروط والالتزامات. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1). وفي الحديث: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً" (¬2). وقامت سياسة الإسلام المالية في كل المعاملات على اكتساب المال من وجوهه الطيبة المعروفة، وبيّنت ما في وجوه صرفه من المصالح والمفاسد، مؤكّدة لأصحابه ما يحصل لهم بسببه من الفضائل والدرجات إن هم أنفقوا أموالهم في مصارفها النافعة. ولا شك أن المقاصد الشرعية محكّمة فيما قدّمناه من معاملات وتصرّفات مالية. 1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك: عدّ الفقهاء من أسباب التملّك في الشرع ثلاثة: (1) الاختصاص بشيء لا حقّ لأحد فيه كإحياء الموات. (2) العمل في الشيء مع مالكه كما في المغارسة. (3) التبادل بالعوض في البيع وغيره من عقود المعاوضات، أو الانتقال من المالك إلى غيره عن طريق التبرع أو الميراث أو الوصية. ومن الأسباب غير المشروعة في التملّك: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 282. (¬2) خَ: 37 كتاب الإجارة، 14 باب أجر السمسرة: 3/ 52.

(1) الربا بصوره المختلفة. (2) ربح ما لا يضمن لقوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬1). ولأن القاعدة الفقهية العامة تأباه. وهي: "لا خراج إلا بضمان" (¬2). (3) ما اعتُمد فيه على الحظ والمصادفة في الكسب. وذلك كالقمار والميسر. وقد جاء النهي عنهما بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬3). (4) كل كسب أو تملّك عن طريق محرّم ممنوعٌ وباطلٌ. وهذا كالكسب من الجريمة والبغاء، وبيع المخدرات والخمر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4). (5) ومنها أيضاً البيوع المنهي عنها للغش أو الغرر أو الغبن الفاحش، أو ما كان منها من باب أخذ مال الغير بدون إذنه أو رضاه مثل السرقة والغصب والاختلاس، أو أخذ المال بإذن مالكه ظلماً وبغير حق كالرشوة والمصانعة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 278 - 279. (¬2) وردت القاعدة بصيغ كثيرة منها: الخراج بالضمان، والغرم بالغنم، والنعمة بقدر النقمة. علي حيدر. درر الأحكام في شرح مجلة الأحكام: 1/ 87 - 89. وانظر ما يلزم به الضمان في المال. الحصيري. القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير: 443؛ المنجور. شرح المنهاج: 519. (¬3) سورة المائدة، الآية: 90 - 91. (¬4) انظر المقاصد: 23.

2 - أصول التكسب

2 - أصول التكسّب: أصول التكسّب ثلاثة، كما قدمنا، وهي عناصر الإنتاج وركائزه: الأرض والعمل ورأس المال. وقد جعل بعضهم الطبيعة بدل الأرض، وزاد آخرون فاعتبروا العناصر أربعة بإضافة التنظيم إليها. وجمع د/ إبراهيم دسوقي أباظة بين العمل والتنظيم وقال: العمل المنظم، وقالت د/ سعاد إبراهيم صالح: إن عناصر الإنتاج في الإسلام هي العمل ورأس المال والتقوى. ورد الدكتور العربي جملة هذه العناصر إلى عنصرين أساسيين هما: رأس المال، والعمل. ° الأرض: عرف الشيخ ابن عاشور الأرض تعريفاً، يخرج بنا عن الظاهر من أمرها. وذلك في قوله: "للأرض المكانة الأولى في هذه الأصول الثلاثة. والمراد من الأرض كل ما يصل إليه عمل الإنسان في الكرة الأرضية بما فيها من بحار وأودية ومعادن ومنابع مياه وغيرها، إلا أن الحظ الأوفر من ذلك، وهو الأسبق، هو للأرض، يعني سطحَها الترابي. فإنه منبت الشجر والحَب والمرعى ومنبع المياه. قال تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (¬1)، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (¬2)، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬3)، وقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النازعات، الآية: 31. (¬2) سورة الملك، الآية: 15. (¬3) سورة البقرة، الآية: 29. (¬4) سورة عبس، الآية: 24 - 31.

° العمل

وليست الأرض كلها معطاءً أو عنصرَ إنتاج، فإن منها القاحلة الجرداء والرمال. ومما يؤكّد إرادة هذا المعنى الواسع لكلمة أرض ما أفاض فيه رجال الاقتصاد اليوم مما يكسب الأرض تلك الأهمية الكبرى. فهي مستقر موارد الطاقة وجميع أنواع الوقود، وكذلك المعادن المختلفة والموارد النباتية، وكذا الحيوانية في البر، وفي أعماق المياه، والأراضي الزراعية والغابات والمروج ومصادر المياه الصالحة للاستعمالات المختلفة. ومما يشير إلى بعض هذه العناصر الدالة على عجيب خلق الله قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (¬1). ° العمل: العمل هو العنصر الثاني للإنتاج. وهو وسيلة استخراج معظم منافع الأرض، ويضمّ كل مجهود بدني أو ذهني مقصود ومنظم، يبذله الإنسان لإيجاد زيادة مادية أو منفعة. واعتباراً لهذا فإن عقود التمليك استهدفت العمل للوصول إلى تنمية الإنتاج واطراده، ولا يتم ذلك إلا بشروط هي: سلامة العقل للتمكّن من تدبير طرق الإثراء، وصحة الجسم ليقوم بتنفيذ الخطة العملية لذلك، واستعمال ما يلزم من آلات أو استخدام ما يحتاج إليه من حيوان. وتحقيق الغرض بالغرس والزرع لجلب الأقوات والسلع. فهذا من فضل الله على عباده. وتلك هي النعمة التي يمدّ الله بها حياة الناس على وجه الأرض ويستخلفهم ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 9 - 10.

° أنواع العمل

فيها. وقد وهبهم من قوى الحركة العقلية والجسمية تنفيذاً لإرادته، وعوناً لهم على بناء وجودهم، وتوفير المنفعة لهم. والقرآن جاء دستوراً شاملاً، منسقةً حِكمُه وآياتُه، تفي بمطالب البشرية في حياتها الفردية والاجتماعية، وتهدي إلى طرق الكمال في هذا الوجود. وإن حياتنا لَعَرَض زائل نقدم منه من العمل لغدنا ما نحرص على اكتسابه في يومنا {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). وإن في آياته الكريمة ما يحثنا على العمل الصالح شكراً لله على مننه، وامتثالاً منا لأوامره، وائتساء بنبيه، وحفاظاً على سُنته. فالعمل هو الوسيلة الأولى للارتزاق. وعلى قدر عمل المرء يكون انتفاعه وجزاؤه. وقد عرّف الإمام ابن عاشور العمل بقوله: العمل هو وسيلة استخراج معظم المنافع. ويكون بمثل الإيجار والاتجار، وقوامه ما قدمنا ذكره من شروط. وورد أيضاً في تعريفه: أنه المجهود الإرادي الواعي الذي يستهدف منه الإنسان إنتاج السلع والخدمات لإشباع حاجاته. ° أنواع العمل: الأول: العمل الصادر عن جامع المال لتحصيل ما يتملكه تملكاً كالاحتطاب وإحياء الموات، أو تكسباً مثل مبادلة مالِهِ بما هو أوفر. والثاني: العمل من غير جامع المال. وهو العمل في مال غير العامل ليحصِّل العامل بعمله جزءاً من مال صاحبه. وهذا كالإجارة على عمل الأبدان (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 97. (¬2) المقاصد: 467.

° اختيار المسؤولين والعمال

ومما ورد في الأثر أن أشرف الكسب كسب الرجل من عمل يده (¬1)، وأن من الذنوب ما لا يغفره إلا السعي في طلب الرزق (¬2). ° اختيار المسؤولين والعمال: راعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملة من الأصول والمبادئ في تكليف المسؤولين والعمال. فأسند المهام إلى أهليها والمسؤوليات إلى من يقوى على تحملها والقيام بها. واختار الرسول الكريم خاتمُ النبيين هذا المنهج في تعيين أعضاده فيما يحسنونه من مال، ويكون مناسباً لكل خطة أو جهد. فاختار معاذ بن جبل، وهو من تشرف بمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، للولاية على اليمن، وذلك لدينه وفقهه ورجاحة عقله وكمال خلقه. واختار عمر بن الخطاب عاملاً على الصدقات لعدله وحزمه، وخالداً لإمارة الجيش لبسالته ومهارته وحنكته العسكرية، وبلالاً الأمين الحافظ لبيت مال المسلمين لرجاحة أمانته وحُسن تدبيره. ولم يكن يحكّم في اختياراته ولا في إسناده الولايات، قرابةً أو صداقة أو علاقة مادية أو غيرها. وحذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقال: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخل جهنم" (¬3). وقد جعل من أسباب التهارج، وظهور الفتن ¬

_ (¬1) البزار في مسنده، والحاكم في مستدركه. من رواية سعيد بن عمر عن عمه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وهو عندهما بلفظ المتن. ورواه أحمد من حديث رافع بن خديج. قال: يا رسول الله أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. الزبيدي: 5/ 415. (¬2) وورد بلفظ: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهمّ في طلب المعيشة. رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية؛ الزبيدي: 5/ 414. (¬3) حَم: 1/ 6.

وفساد الأمر، إسنادَ الأشياء إلى غير أهلها. وذلك قوله: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" (¬1). ولا يقف اختيار العامل المسلم، ولا إسناد الأمر إليه عند الحد الذي وصفنا، حتى يلتزم بما أمر الله به، ويحافظ على الكليات الخمس التي عمت كل الشرائع واتفق عليها الناس جميعهم. فتلك المحافظة هي التي تقي الناس العدوان، وتمنعهم الظلم، وتحقق لهم المقاصد، وتجلب لهم المصالح، وتدرأ عنهم المفاسد. ومن كريم صفات العامل أن يخشى الله ويتقيَه. قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2)، وقال جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬3). وقد أتيحت للعامل فرص الاكتساب بمعونة الله وفضله. فعليه أن يستقيم كامل الاستقامة في أموره كلها. فيؤدي عملَه على الوجه المطلوب غير منقوص ولا معيب، وبدون غش أو خيانة، لأي سبب من الأسباب التي تحمل على الانحراف عن الحق. فإن الواقع في هذا واقع في الحرام، لا يُبعد عنه أخطار التجاوز في العمل بما يسيء به إلى الناس، ولا ينجيه من عقاب الله إلا أن يضع نصب عينيه قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (¬4). وتتطلب هذه الأنواع من السلوك الإخلاص والإتقان في العمل. فالله يوفي المستقيم أجره. ¬

_ (¬1) ملا قاري. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 5439. (¬2) سورة فاطر، الآية: 10. (¬3) سورة الكهف، الآية: 110. (¬4) سورة سبأ، الآية: 37.

والإنسان حيثما كان لا ينبغي أن يشعر بالضعف والانهزام أمام المشاكل الاقتصادية المتزايدة يوماً بعد يوم. فإن في هذه الصعوبات من الدوافع والحوافز ما يحمل على التفكير الجدي، وبذل أقصى الجهد لتغيير وجه الحياة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها" (¬1). والتنمية الاقتصادية التي يقوم بها المسلم في وطنه هي جزء من مضمون استخلاف الله له في الأرض. ومتى تحقق التطور والرقي فيمن حوله من الأفراد والجماعات رضيت نفسه، وشكر الله على ما هيأه وأتاحه له من أسباب النجاح. وهذا ما يدعو له سبحانه في قوله: {تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (¬2). وجعَلت الدراسات الحديثة عناصرَ الإنتاج التي يكاد يجمع عليها الاقتصاديون اليوم أربعةً: هي الطبيعة والعمل ورأس المال والتنظيم. وكل واحد من هذه العناصر يؤدي بذاته وظيفة مستقلة. ولكن الإنتاج يمكن أن يتأتّى باشتراك هذه العناصر جميعها مجتمعة أو متعاونة بدرجة معينة لكل منها .. وصدرت في هذا المجال البحوث العلمية المتطورة باستمرار نحو فهم أكمل لأسرار الطبيعة وقوانينها. وأصبح الإنتاج عملاً تقنياً يعتمد بدرجة كبيرة الآلات الكهربائية والإلكترونية، ويزداد الاتجاه في تسارعه نحو الوصول إلى إتمام العمليات الإنتاجية في كثير من النشاطات، وإلى تطوير مختلف المنتجات التي تحويها الأرض في جوفها. وهكذا أصبحت الطبيعة ¬

_ (¬1) تمامه: حتى ما تجعل في فم امرأتك. حديث سعد بن أبي وقاص. 2 كتاب الإيمان، 41 باب ما جاء أن الأعمال بالنيات. خَ: 1/ 20. (¬2) سورة هود، الآية: 61.

ج - رأس المال

ورأس المال يقومان بدور هام في النشاطات الإنتاجية المتطورة. ولا يعني هذا تراجع الدور الذي يقوم به الإنسان، وإنما يعني تطور طبيعة الأعمال التي يقوم بها في مختلف النشاطات وتقدُّمها نحو أن تكون أعمالاً ذهنية تتفق مع تكريم الخالق للإنسان (¬1). ج - رأس المال: هو العنصر الثالث من عناصر الإنتاج. والمراد به هنا وعند رجال الاقتصاد وفي مجالات التنمية، ليس مجرد التملك والتكسب. وقد تعددت أنواعه عند الاقتصاديين وجعلوا منه رأسَ المال الكاسب، وهو ما يغلُّ لصاحبه دخلاً من غير أن يستخدم ماله في الإنتاج ورأسَ المال المنتج. وألحقوا بهما أنواعاً كثيرة أخرى: منها رأسُ المال الزراعي والصناعي والتجاري. فرأس المال المنتج هو: الثروة التي أنتجت لتستخدم بدورها في إنتاج ثروة أخرى. والمال المنتج ينقسم إلى قسمين: الأول: رأس المال الثابت. ويشمل المصانع والمنشآت والمباني وما في حكمها. الثاني: رأس المال المتداول الذي لا يستخدم في الإنتاج غير مرة واحدة مثل البذور والسماد والفحم والبترول والمواد الأولية. ورأس المال الزراعي والصناعي والتجاري يختلف في مقوماته بين الثلاثة. فالزراعي يشمل المواد التي تستخدم في الإنتاج الزراعي. ومثال ذلك الآلات الزراعية والسماد والماشية والترع ¬

_ (¬1) د/ عبد العزيز فهمي هيكل. المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي: 112 - 113.

والسواقي ومساكن العمال والمخازن. ولا تعتبر الأرض رأس مال عند محمد الباقر. وهي ألحق بإطار التوزيع عنده منها بإطار الإنتاج. ويخالف هذا الرأي كثير من رجال الاقتصاد كما بيّن ذلك (جِيد) حين قال: إن كل ما يبذل في الأرض من عمل ورأس مال يصبح جزءاً منها ويسري عليه ما يسري على الأرض من القوانين مثل الغلة المتناقصة (¬1). ويشمل رأسُ المال الصناعي المواد التي يستعين بها الإنسان في الإنتاج الصناعي كالآلات الصناعية، وأبنية المصانع والمواد الأولية. وأما رأسُ المال التجاري فكالسفن والعربات وسكك الحديد والموانئ والمخازن والطائرات والمطارات مما يسهّل على أصحاب هذه المهنة التنقل والاستبدال. وبعض هذه الوسائل يضاف أحياناً إلى المجالات المستخدمة فيها كالمجال الزراعي والصناعي. ورؤوس الأموال المنتَجة تقتضي: أولاً: وجود فائض من المنتجات يعيش منه العمال الذين يعملون على توفيره. وثانياً: الادخار واستثمار الثروات المدخرة. قال الإمام الأكبر: وأما رأس المال فوسيلة لإدامة العمل للإثراء. وهو مال مدّخر لإنفاقه فيما يجلب أرباحاً (¬2) أي للاستثمار. وما كان هذا شأنه، وقد أديت زكاته، لا يكون من قبيل الاكتناز Thesaurisation المنهي عنه شرعاً. ومن مقاصد الشريعة عدم تجميد الأموال ولزوم تحريكها فيما ينفع الناس من ألوان العمل الاستثماري. ¬

_ (¬1) مجموعة دروسه: 1/ 183 - 184. (¬2) المقاصد: 467.

وثالثاً: وجود من يقوم من المدّخرين بتجميع رأس المال للمشروعات الإنتاجية التي تتطلب التمويل من أجل مضاعفة الإنتاج وتطويره. وهذه المشروعات هي التي تقوم على إيجاد رؤوس الأموال دون غيرها. وذلك بتوفير العمل وآلاته ومختلف المواد الأولية، وإنتاج الثروات الاستهلاكية. وهي تتجه إلى هذا الإنتاج أو ذاك بحسب قصد المدخرين، أو بحسب الخطة التي. يرسمونها لتحقيقه وإنجازه. ومن أهم العوامل، بل الحوافز، المتعددة في هذا العصر للمساعدة على الادخار والزيادة في رؤوس الأموال، تلك الاختراعات الحديثة التي يرجع إليها الفضل في إيجاد المشروعات الكثيرة، وتطوير طرق الاقتصاد في مختلف المجالات من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومشروعات الأمن الغذائي والسكاني والثورة البيضاء التي يسود بها الأمن، وتعم بها الطمأنينة ربوع البلاد وسائر الأرجاء (¬1). ويتنوع رأس المال المعدّ لأن يكون عنصراً من عناصر الإنتاج في المفهوم الاقتصادي ما أو مأنا إليه قبل: رأس المال الإنتاجي، ورأس المال التجاري. فرأس المال الإنتاجي إما أن يكون عينياً، وهو عبارة عن مجموع الأموال المادية التي تزيد في إنتاجية العمل متى استخدم في العملية الإنتاجية، وإما أن يكون نقدياً وهو مجموع المبالغ النقدية المستخدمة في تمويل العملية الإنتاجية. ¬

_ (¬1) د/ محمد عبد المنعم الجمال. الموسوعة الاقتصادية: 124 - 132.

ورأس المال التجاري هو مجموع الأموال الاقتصادية، عينية كانت أو نقدية، المستخدمة في المبادلات من أجل الحصول على الأرباح. وبخصوص النقدية يلاحظ أنها قادرة على تمويل العمليات التجارية، لبلوغ نفس الغرض. وذلك مثلاً عن طريق شراء السلع وإعادة بيعها (¬1). وتجب في رأس المال التجاري الزكاة مهما كانت أنواعه. قال الجمهور: تقوّم باليوم الذي تجب فيه، فتؤدّى الزكاة من قيمته. وذهب الشافعي إلى تقويمها بالثمن الذي اشتريت به وتؤدى الزكاة (¬2). وعائد هذا النوع من رأس المال ربح أو خسارة، وعلى الشركاء فيه مثل ذلك. وليس لواحد منهم اشتراط ربح مخصوص لنفسه، لما في ذلك من اختلال العدل في توزيع الربح بين الشركاء. ولا يخلو أن يكون رأس المال نقوداً أو عروضاً. فإن كان الأول فقد اتفق الفقهاء على صحة الشركة فيه، وإن كان رأس المال عروضاً، قوّمت تلك العروض وجعلت القيمة رأسَ مال للشركة. ولا مندوحة هنا من الوقوف على المعاملات المالية. وقد أشرنا قبلُ إلى أن منها ما يكون من باب التملك كبيع ديار السكنى، والأطعمة المأكولة، ومنها ما يكون من قبيل التكسب كبيع أرض الحراثة وأشجار الزيتون، وعقود الشركات من قراض ومزارعة ومغارسة ومساقاة، وعقود الإيجار في الذوات والدواب والآلات والسفن والبواخر والأرتال. والمقصود الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور هي: الرواج، والوضوح، والحفظ، والثبات، والعدل فيها. ¬

_ (¬1) د/ محمد عبد المنعم الجمال. الموسوعة الاقتصادية: 124 - 135. (¬2) ابن هبيرة. الإفصاح عن معاني الصحاح: 1/ 209.

د - مجالات التكسب

د - مجالات التكسب: اعتبر رجال الاقتصاد أن في مجالات التكسب ميادين تطبيقية ترعاها وتقوم بها وهي ثلاثة: التجارة والصناعة والفلاحة. وجرى على هذا التقسيم من قبل الإمامُ البخاري فيما رواه من أحاديث المعاملات. ونحن نعرض لهذه الوسائل بإلماعات تكفل الوفاء بتصورها على وجه دقيق، إن شاء الله. ° التجارة: إن القصد من التجارة هو تنمية المال، بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأعلى من ثمن الشراء. إما بانتظار حوالة الأسواق، أو بنقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى، أو ببيعها بالغلاء على الآجال. وهذا الربح بالنسبة إلى رأس المال نزر يسير، لأن المال إن كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير. ثم لا بد من محاولة هذه التنمية التي هي الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع وبيعها، ومعاملتهم في تقاضي أثمانها، وأهلُ النصفة قليل. وقد كان تعلق الصدر الأول من المسلمين بالتجارة يحملهم على الرغبة في هذا العمل وتقديمه على غيره من الأعمال. كانوا يفاخرون به ويتمنون القيام عليه. قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). حملت هذه الآية المسلمين على بذل جهودهم للفوز في الدارين الأولى والأخرى: أولاً: بالضرب في الأرض ابتغاء الرزق، ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية: 20.

وثانياً: بالقتال في سبيل الله لنشر دينه وإعلاء كلمته. وتأول ابن مسعود الضرب في الأرض بقوله: "أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسباً فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء" (¬1)، وقال عمر: "ما خلق الله موتة [أموتها] بعد الموت في سبيل الله أحبَّ إليَّ من أن أموت بين شعبَتَي رحلي أبتغي من فضل الله ضارباً في الأرض" (¬2). والابتغاء من فضل الله في الأرض هو السفر للتجارة. قال بعض الصحابة: "تكشف هذه الآية عن فضيلة التجارة والسفر للتجر، حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين للمال الحلال" (¬3). وقد تَعرِض أسباب تُخيف الممارسين للتجارة فتحملهم على عدم الاطمئنان على أموالهم. فمن ذلك ما حذر منه ابن خلدون مما لا بد أن يقع في المعاملات التجارية كالغش والتطفيف المجحف بالبضائع، ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح كتعطيل المحاولة في تلك المدة وبها نماؤه، ومن الجحود والإنكار المسحِتِ لرأس المال إن لم يتقيد بالكتاب والشهادة. وغَناءُ الحكام في ذلك قليل، لأن الحكم إنما هو على الظاهر، فيعاني التاجر من ذلك أحوالاً صعبة (¬4). ¬

_ (¬1) القرطبي. الجامع: 16/ 56. (¬2) أخرج الأثر سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. قال عمر: ما من حال يأتيني عليها الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي رحلي ألتمس من فضل الله. السيوطي. الدر المنثور: 8/ 323. (¬3) التحرير والتنوير: 29/ 285، 286. (¬4) الفصل العاشر في: أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة. المقدمة: 395، المكتبة التجارية مصر.

° الفلاحة

° الفلاحة: هي أقدم الصنائع وهي إثارة الأرض وازدراعها وعلاج نباتها وتعهده بالسقي (¬1). فثمرة الفلاحة إنماء الأقوات والحبوب إلى بلوغ حصاد سنبله، واستخراج حبه من غلافه، وإحكام الأعمال لذلك وتحصيل أسبابه ودواعيه. والفلاحة وإن اختصت بالبدو قديماً لهي ذات أهمية كبرى، لأنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً" (¬2). ومن ثم نجد في القرآن الإيماء إلى جملة من أنواعها والتنويه بها، كما في قوله - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬3)، وقال جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬4)، وقال - جل جلاله -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬5). فالفلاحة بأنواعها والأشجار والزروع، وما تحتاجه من عمل وجهد بالحرث والسقي وحصاد الزرع وجني الثمار، وما خلقه سبحانه لنا في هذا الكون كالليل والنهار والسبات والنشور والرياح اللواقح الرخية، والماء الطهور الذي أنزله تعالى علينا من السماء، وأجراه ينابيع في الأرض لآيات تدل على قدرة الله سبحانه ¬

_ (¬1) ابن خلدون. المقدمة: 406. (¬2) المصدر السابق نفسه. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 141. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬5) سورة الفرقان، الآية: 47، 48.

وخالقيته ووحدانيته وتوجيهه لعباده ليعمروا الأرض التي استخلفهم فيها. ولن يكون منهم ذلك إلا بالعمل والمثابرة عليه والإتقان له. وتطورت الفلاحة في العصور الأخيرة، وخصّت بالدراسات الكثيرة. وتعدّدت أنواعها، وتضاعفت أهميتها وأصبحت مورداً مدراراً من موارد الرزق خصوصاً بعد ما دخلتها الصناعة. فوفّرت تلك الموارد، مع ما حققته من جودة في الزروع والغراسات، وما قامت به من جهود لحمايتها من الأمراض والعوارض المفسدة لها، وما تخيّرته من مشاتل ومركّبات نوعية لها، عملت على مزاحمتها في الأسواق لكثير من البضائع الأخرى، وجعلتها من أجود ما يقتنى. وهي في عصرنا الحاضر تتطلب جهوداً كبرى مع ما يقبل عليه الناس وتقتضيه الفلاحة بأنواعها الفصلية من حراثة وسماد وجهد غير قليل. وإن البال لمنشغل بها، ويداوم التفكير في تطويرها لمضاعفة الإنتاج. وهكذا أصبحت الفلاحة في هذا العصر تحتاج إلى العديد من الخبراء والعمال الذين يُعنَون بها، وينصرفون إليها طمعاً في الكسب الجيد والرزق الواسع الحسن الذي لا ينقطع بفضل التربة الخصبة وأيدي المهرة من العمال، وأصحاب الخبرة في هذا المجال. والذي تتأكد ملاحظته في ميدان الفلاحة في بلادنا العربية ثلاثة أشياء هي: أولاً: أن مساحة الأرض عندنا تأتي ثانية بعد مساحة الاتحاد السوفييتي سابقاً، وأن الأراضي المزدرعة عندنا تبلغ فقط 47,3 مليون هكتار أي نحو 3 % من جملة مساحة أرضنا وهي نحو 3,2 % من كل المساحة الزراعية على وجه البسيطة. ثانياً: أن الأرض الزراعية من قديم كانت تمثل العمود الفقري

للاقتصاد العربي فيما عدا معظم الأقطار النفطية. وهي، وكأنها قد نشأت بالبلاد العربية، وانتشرت منها إلى بلاد العالم، تشهد لِذلك السدود والقنوات القديمة في بلادنا: بمصر وبلاد الرافدين وديار الشام واليمن السعيد وليبية وأنحاء متفرقة من الجزيرة العربية. وهي اليوم بسبب التحولات والعوارض الطبيعية من جفاف وتصحُّر وأمطار إعصارية ونحوها فقدت نضارتها وتدنَّت ثروتها. ثالثاً: أن الكثير من شعوبنا بسبب الفقر والجهل بالوسائل الحديثة ما يزال يعتمد الطرائق البدائية في الفلاحة، مبقياً على الزراعة التقلدية المتخلّفة، التي تقوم على الحيوان وعضلات الإنسان. فإن المزاحمةَ الصناعية تهدّدها، وعليها أن تطلب المخصّبات لزراعتها، وتحرص على إيجاد المدخلات الزراعية، وتنشئ من الآلات ما يوفر عليها الطاقة والإنتاج، وتهتم بمكافحة الحشرات الضارة، وتطبيق أحدث المبتكرات العلمية والتكنولوجية كما في البلاد المتطوّرة. وإنما يبدأ هذا بإصلاح الأراضي الزراعية، وإنشاء أطر فنية تكون عنواناً على مدى حضارة الفلاح وقدرته. فوجود الأرض وحدها لا يغني، ولكن رؤوس الأموال والبذل والتحديث والخبرة هي التي تحيي الموات، وتغير وجه الأرض وترفع من مداخيلها وريعها (¬1). ولا بد أن نقتبس مما قدمنا توجيهاً وتنويراً. فإن العرب والمسلمين بتداول العصور واختلاف الأوضاع واختلالها أصبحوا عاجزين معدمين، سواء في ذلك أسرهم وأفرادهم، شعوبهم أو جماعاتهم. وقد تفشّى مع العوز والحاجة التشكي مما آلوا إليه. وقامت في وجوههم الصعاب والمشاكل المعقدة. وهذه لمن يشعر ¬

_ (¬1) د/ محمد علي الفرا: 53 - 116.

بواجبه ويقدّر نعمة الله عليه بالاستخلاف في الأرض، من أسباب النهضة والحوافز لها، تجيش بذلك مشاعر الفلاح وعقيدته، فيكون هذا طريقاً للحفاظ على دينه وأمانته، ومخرجاً له من كل ضيق، خاصة إذا اتَّحدت القوى، وكان التنسيق، واستولت الإرادة على التدبير لصنع عالم ومجتمع جديدين. ولعل من دواعي ذلك ما عليه العالم العربي والإسلامي بخاصة، والعالم المحيط به بعامة، من حرص على مضاعفة الإنتاج الغذائي. فإنه يحظى بمقدار أكبر من الاهتمام بجمع رؤوس الأموال في كثير من الأقطار، وتطوير الأرض تطويراً صالحاً ينمي مزارعها، ويمدها بما يحقق لها الخير والنماء. ويكون هذا من العمل الجليل لنفع الناس كافة، وسدّ حاجاتهم. وسبيل ذلك، كما دلت عليه البحوث المعاصرة في مجالات الفلاحة، يعتمد جملة وسائل: أولاً: توسيع المساحات الزراعية بحُسن إعدادها ومدّها بما تحتاجه من مدخلات الزراعة تنهض بها وتثريها. ثانياً: تكثيف الإنتاج والزيادة في المحاصيل واعتماد طرق الري الصناعي. ثالثاً: توسيع المساحات السقوية ومضاعفة الإنتاج عن طريقها. وفي هذا مقاومة للمجاعة في كثير من الأقطار الإفريقية، واضطلاع بواجبات تفضي إلى تحقيق المقاصد الضروريّة والحاجيّة لكثير من الناس. ونحن ما نزال نسمع دعاة الأمن والسلم، يحذرون من الإفراط في الشح ومن الإعداد للصراعات والحروب الفتاكة، إذ بسبب ذلك تركت الميادين المحتاجة للإنفاق، بعيدة عن القيام بدورها في تغذية

° الصناعة

المجتمعات الإنسانية، وبعث الحياة فيها، وتغيير ما عليه الحشود البشرية من فاقة وبؤس. ° الصناعة: الصناعة معدودة في الرتبة الثالثة قديماً، إذ لم تكن تحتاج إلى علم وتكوين دقيقين. وهي لا ترتقي إلا بالارتقاء الحضاري وازدياد الحاجة إليها وطلب الناس لها. وقد نبهتنا إلى هذه الحقائق آيات الله الحكيمة الخالدة كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬1)، وقوله أيضاً: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (¬2)، وهي تشير إلى بعض الصناعات كما في قوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬3)، وقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} (¬4)، وقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} (¬5)، وقوله: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬6)، وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُون} (¬7)، وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 25. (¬2) سورة سبأ، الآية: 10. (¬3) سورة النحل، الآية: 67. (¬4) سورة هود، الآية: 38. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 80. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 26. (¬7) سورة النحل، الآية: 80 - 81.

الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). ففي هذه الآيات الكريمة امتنان من الله على عباده بما وفّره لهم، رحمة منه ولطفاً، من ضروريّات وحاجيّات وتحسينيات في هذه الحياة: تقيم أودهم، وتلبّي رغباتهم، وتَقِيهم أنواع المخاطر والمهالك. وهو سبحانه يطوي فيها أمرهم باتخاذ معدن الحديد الذي سخَّرهُ لهم يليّنونه رغم متانته وصلابته، لاستخدامه في شتى المجالات في حالتي السلم والحرب. فمنه آلة الحرث، والدروع والسيوف، والمراكب على اختلاف أنواعها، والآلات والأجهزة، وأمدّهم بالمواد الأولية لصناعة الثياب واللباس، وجعل ذلك ستراً لهم ووقاية، كما سخر لهم البحر والينابيع الجارية من الماء، وفيها رزقهم من الأسماك والحيوانات البحرية وما يحرصون على اقتنائه من جواهر ولآلئ تكون لهم حلية وزينة. إنه التذكير بالنعمة، والتحريك للمواهب، والهداية والتوجيه إلى ضروب الصناعات التي يحتاجون إليها لتحقيق الإنتاج وتنمية الثروة الزراعية والحيوانية والتطور بها. وقد تمايزت الشعوب والبلدان بصناعاتها، وتزاحمت بذلك في ميادينها بصورة مطردة وعجيبة. فمن الصناعات ما يخدم الزراعة وينمي الإنتاج الفلاحي، ومنها ضروريّ لا يستغنى عنه، وشريف بموضوعه يحرص الناس على الإفادة منه والظهور به، ومنها ما دون ذلك مما يعدّ صنائع تابعة وممتهنة في الغالب. ولكن هذا الميدان ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 12.

أصبح اليوم رئيساً وشهد من القدرات والإمكانات ما لم ينكشف للناس أمره إلا في هذا العصر. وهو لا يقف في أنواعه وأشكاله، وفي تطوره وتقدمه عند ما بلغ إليه الآن بفضل التقدم العلمي والتقانة والتكنولوجيا. وإنا لنشاهد من الصناعات شعباً ثلاثة: الصناعات الاستخراجية، والصناعات التحويلية، والخدمات. فأما الأولى فكالزراعة واستخراج المعادن والانتفاع بمصادر القوة والطاقة. وهذا النوع من العمل يشهد تطوراً وزيادة على مر العصور وبخاصة في عصرنا الحاضر. وأما الأعمال التحويلية التي يطلبها الكثير من الناس فهي في الأصل من الصناعات الاستخراجية. ومن أمثلتها في المحل الأول الصناعات التحويلية الثقيلة التي يمكن أن يتوفر القيام بها، ويتم إنجازها في بلادنا الثرية بالغاز الطبيعي والنفط خاصة. وهي ترتكز بشكل أساسي على أمرين: الأول استخدام هاتين المادتين، والثاني توفر القدرة على التمويل. فهي تتطلب أن يكون رأس المال كثيفاً لإنشاء صناعات تستخدم أحدث أساليب التقنية، تكون في مراحلها الأولى موجّهة للتصدير، ثم تتحوّل تدريجياً إلى التكامل التحتي بتشجيع القيام بالعديد من الصناعات المستخدمة لمنتجاتها. وتتمثل هذه الصناعات وفقاً لما تدل عليه نتائج الدراسات الاقتصادية: في صناعة التكرير، والأسمدة الكيماوية، والبتروكيماويات (¬1). وأما الخدمات فهي كالطب والتدريس اللذين عدهما ابن ¬

_ (¬1) د/ علي خليفة الكواري. دور المشروعات العامة في التنمية الاقتصادية: 34.

° الاحتكار

خلدون في الصناعات. وسكت عنهما الاقتصاديون من بعده إلى أن جاء آدم سميث فاعتبر الخدمة عامل إنتاج لما تؤدي إليه من صناعة أشياء مادية (¬1). وهذه الأعمال بأنواعها تحتاج إلى دراسة وتنظيم يكون بهما الإنطلاق إلى نهضة ملموسة وتنمية فعلية عملية ينكبّ عليها الأخصائيون في شتى البلاد في كل ميدان. فالأول من تلك الأصول أو الأعمال تحكمه الفطرة وتميل إليه النفس الكريمة الطيبة. فلا يتكلف المرء معه ما يرهقه أو ينوء به من تبعات النشاط، كما لا يسند إليه فيه من الأعمال ما لا يقدر عليه أو لا يُحسنه فتلحق مضرة ذلك بالمجتمع كله، وتحول تلك العوارض دون تحقيق المراد من التكوين والاستخلاف والتثمير والإنتاج. ° الاحتكار: عرّفه الإمام أبو حنيفة بقوله: كل ما أضرّ حبسه فهو احتكار. وقيل: هو حبس ما يتضرر الناس بحبسه تربصاً للغلاء. وهو من أشدّ الظلم، وسببُ إفساد العمران والدولة. والحكر هو الجمع والإمساك. والاحتكار حبس السلع عن البيع، والحُكرة: الاحتكار. ويكون الاحتكار بمعناه العام بالتسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع. وهو من أكل أموال الناس بالباطل. وليس البيع والشراء ¬

_ (¬1) ابن خلدون. المقدمة: 364، 384؛ د/ محمد عبد المنعم الجمال. موسوعة الاقتصاد الإسلامي: 90.

كالاحتكار، فالأولان يقومان على المكايسة، وهذا النوع الأخير من التعامل يقوم على الفرض والقسر والإكراه والغصب. وعلّة تحريم الاحتكار إلحاق الضرر بالناس من فساد الأسواق، ومنع الطعام من الرواج بها، وبطلان معاش الرعايا، وغلاء الأسعار، والزيادة في المكوس والضرائب، وانتشار الفقر والجوع، وقيام شركات الاحتكار، وإلغاء التعامل الحرّ. وقد واجهت الشريعة هذا التصرّف المقيت بإجراءات وقائية كمنع تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي. وهدفها من ذلك قطع السبل على المحتكرين. وأخرى بطرق علاجية كالسيطرة على المال المحتكر، وتعزير المحتكرين، وجبرهم على البيع، وتسعير البضائع عليهم، ومنافستهم في البيع. ومن قواعد الشريعة الإسلامية أنه "لا يحتكر إلا خاطئ" (¬1) أي آثم. وأن "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" (¬2). وتمتد الحرمة الشديدة إلى محتكري البضاعة الضرورية. وهذا ما حمل فقهاء الملة على مقاومة الاحتكار، وجَعَلهم يحاربونه ولا يسمحون بوجوده، معلنين أنّه من الضروري والواجب إبطاله في الطعام. وصدع عمر بن الخطاب بأن لا حكرة في أسواقنا. وقال مقاوماً لهذه الظاهرة، متعقباً من يعتمدها في تجارته: "لا يعمد رجال في أيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ¬

_ (¬1) مَ: 2/ 1165. (¬2) الحديث مروي من طريق علي بن سالم بن ثوبان. قال البخاري: لا يتابع حديثه. وأنكر المنذري علي بن سالم هذا وعده في المجهولين. جَه. السنن: 2/ 728.

ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر. فليبع كيف شاء وليمسك كيف شاء" (¬1). وهكذا نظرت الشريعة الإسلامية إلى الاحتكار من زاوية المصلحة العامة للناس. وجعلت منه محرّماً ومذموماً. نهت عنه وحرّمته على الفرد والدولة، لما فيه من تضييق على الناس في معيشتهم وإضرارٍ بهم. وأباح النظام الرأسمالي الاحتكار للفرد، وبنى عليه نظامه، وأباحته الاشتراكية للدولة (القطاع العام) توفيراً لمواردها المالية ومداً لخزائنها بما تحتاج إليه من موارد (¬2). هذا وإن في الاحتكار لَمَا يحمل على الهرج والمرج والفتنة. يثير القُوى الشعبيةَ والأفرادَ على تتبع أصحاب هذا العدوان بما ينشرونه من ظلم وكيد. فهو يفضي إلى الخلل والفساد. وبين القصد من البيع والشراء، والقصد من الاحتكار في المعاملات والتجارات وردت الأحكام مشجعة على ضروب الخير في التعامل، ومقاومةِ التصرّفات الظالمة لما تُلحقه بالخاصة والعامة من أضرار. وواجهت هذا المنكر والتصرّف الخطير تشريعات إسلامية متنوعة. قضت بإبطال الاحتكار وإبطال ما يترتب عليه من نتائج، جاعلة المقصد الأعظم في المعاملات رواج الأموال، وحماية المجتمع ¬

_ (¬1) يبدأ هذا الأثر بقول عمر: لا حكرة في سوقنا، وبدَل: فليبع كيف شاء وليملك كيف شاء: فليبع كيف شاء الله. وليمسك كيف شاء الله. وهو بلاغ وقع لمالك عن ابن الخطاب. 31 كتاب البيوع، 24 باب الحكرة والتربص. الحديث 56. طَ: 2/ 651. (¬2) د/ قحطان عبد الرحمن الدوري. الاحتكار في الإدارة المالية في الإسلام: 1/ 269 - 363. مآب.

والأفراد من عبث العابثين وكيد المحتكرين، ونشر الأمن الاجتماعي، وتوفير أسباب الراحة والسعة في الحياة الفردية والاجتماعية. وتعددت صور الاحتكار في العصر الحاضر في الدول الرأسمالية، وبهذا انتشر الحيف والظلم في أقطار الأرض، وصار من سمات الأسواق العالَمية. وأصبحت مقاضاته والتحكم فيه أمراً محدوداً. ومن صور الاحتكار اليوم: (1) ما يعرف بـ Trust. يقول الدكتور محمد عبد الله العربي: هو أن تتألف هذه الصورة من هيئة أمناء. مهمتها اشتراء جميع السلع المطلوب احتكارها من السوق، بل ابتياع كمية من أسهم الشركات المنتجة لهذه السلع، أو لعناصر إنتاجها، كمية تمكنها من السيطرة الكاملة على عمليات هذه الشركات وعلى سياستها. (2) الشركة القابضة Holding company وهي هيئة الأمناء المذكورة في الصورة السابقة. تتولّى شراء أي كمية من أسهم الشركات الأعضاء، فتتمكن بذلك من السيطرة على هذه الشركات. وقد ظل هذا العمل مشروعاً طوال المدة فيما بين 1900 - 1914. (3) ولجأ المحتكرون بعد ذلك إلى صورة ثالثة، هي صورة الاندماجات Amalgamation Merger. والاندماج هو اتحاد شركتين أو أكثر تشتري إحداهما جميع أسهم الشركات الأخرى، بحيث لا يبقى من هذه الشركات سوى واحدة هي الداعية إلى الاندماج، أو تقوم شركة جديدة، تشتري جميع أسهم هذه الشركات وتحلُّها جميعها فتتحكم دونها في السوق. وقد يفرض الوضع الاحتكاري تأسيس منشآت متعددة: Multiple-unit Monopoly. تستجيز الاحتكار في صورٍ متعددة:

(1) ويكون ذلك باتفاقات الأثمان، كأن يتفق المنتجون على تحديد أثمان السلع فيما بينهم، أو أن يتفقوا على تحديد كمية الإنتاج. وغرضهم الحصول على أعظم الربح بالرغم من تعدد المنتجين. (2) وأخرى تقوم بقيادة الأثمان، فتتولى باعتبارها المنتج الصناعي الأكبر، تحديد ثمن البضاعة، فيتبعها سائر المنتجين الصغار. ثم تخفض الثمن الذي حددته لذلك الإنتاج المشترك لمدة معينة، فتلحق بالمزاحمين لها في السوق الخسائر الفادحة. (3) تجميع إمكانيات فئة من المنتجين يتماثل نشاطها الإنتاجي وإحصاء هذه الإمكانيات، ثم الاتفاق بينهم على نبذ الصراع التنافسي وتحديد الثمن، فيعود عليهم بأقصى ربح احتكاري عن منتجاتهم. (4) ومن صور الاحتكار "الكارتل" Cartle. وهو اتفاق المنتجين في الفرع الواحد من فروع الإنتاج على بعض المسائل ليتخلصوا من مضار المنافسة مع احتفاظ كل منهم باستقلاله في كل الأمور التي لا يتناولها الاتفاق. وللكارتل أنواع متعددة: فمنه الضيّق، والواسع، والدولي. ومن الأسف أن يساند هذه الصور والهيئات الاحتكارية في معاملاتها اليوم تطورُ أساليب الصناعة الحديثة من جهة، والاشتراكُ بين أقطاب الصناعة الحديثة وبين المصارف المالية الربوية من جهة ثانية (¬1). واضطر برلمان الولايات المتحدة سنة 1890 إلى إصدار أول قانون يعرف بقانون شرمان. وتبعت ذلك تشريعات مماثلة، وأصدرت المحكمة العليا بولاية أوهايو أحكاماً تدين شركة البترول ¬

_ (¬1) د/ محمد عبد المنعم الجمال. موسوعة الاقتصاد الإسلامي: 159 - 170.

° الرواج

Standar Oil. ولم تلبث أن انتقلت من الصنف الأول Trust إلى الصنف الثاني "الشركات القابضة". وصدر تشريع من البرلمان الاتحادي سنة 1914 حرّم قيام الشركات القابضة أيضاً، واعتبر عملها غير مشروع. ورغم كل ذلك تفاقم خطر تلك الشركات. وهذه المؤسسات بممارستها أساليب الاحتكار المشهورة عن طريق إقفال الأسواق، والتحكم في الإنتاج عن طريق منع غيرها من المؤسسات من استخدام المواد الخام، أو منعها من استخدام منافذ التسويق، وإغراق Dumping الأسواق بتدمير المؤسسات الناشئة. وظهرت بذلك عولمة الاحتكار في كل بلد ومجتمعٍ بحسبه، وبحسب المتولّين له والمتساكنين به. ولِرَد هذه الألوان من العدوان المتتابع يتعين على الدول أن تتدخل لترشد عملية الإنتاج، فتمنع التحكّم في الأسواق، وتمحق أساليب الاحتكار (¬1). ° الرواج: الرواج لغة: هو نَفاق الشيء والإقبال عليه وكثرة طلبه. واصطلاحاً: هو كما عرّفه الشيخ ابن عاشور دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق. وهو مقصد عظيم شرعي يدل عليه الترغيب في المعاملة التي يؤذن بها قول الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل طير أو إنسان أو بهيمة منه إلا كان له صدقة" (¬3). ¬

_ (¬1) د/ محمد عبد المنعم الجمال. موسوعة الاقتصاد الإسلامي: 162 - 172. (¬2) سورة المزمل، الآية: 20. (¬3) خَ: 3/ 66، 7/ 78؛ مَ: 2/ 1188.

استنفاد بعض الثروة

ومن صور الرواج: انتقال الأموال بين أيدي كثير من أفراد الأمة بالتجارة لما يترتب عليها من أعواض. وكان العرب يحرّمون التجارة في الحج، إذا دخل شهر ذي الحجة، بأسواقهم. فأبطل المولى سبحانه عادتهم بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1) أي في موسم الحج (¬2). استنفادُ بعض الثروة: ربط الشيخ هذا الموضوع بالرواج. وتوسع في هذا الغرض فجعل من الاستنفاد للمال ما يصلح أن يكون طريقاً من طرق الرواج. وهذا كالنفقات الواجبة على الزوجات والقرابة. وكذلك نفقات التحسين والترفيه. وهي وسيلة عظيمة لانتفاع الطبقتين الوسطى والدنيا في الأمة من أموال الطبقة العليا. وهي عون عظيم على ظهور مواهب الصناع وأصحاب الفنون في تقديم نتائج أذواقهم وأناملهم. وهذه النفقات هي المشار إليها بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬3). وقوله - عز وجل -: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (¬4). وفي هذا الإذن الإلهي، وفيما يمارسه الناس من أعمال تجارية وفلاحية وصناعية ما يحمل على طلب المقصد الشرعي وتيسيره بجعل الأموال دُولة بين الناس، يعين على دورانها بين آحاد الأمة: إحكام التوزيع والالتجاءُ في المعاملات إلى الطرق الواضحة المشروعة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 198. (¬2) المقاصد: 451؛ التحرير والتنوير: 2/ 237. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 32. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 31.

من أحكام المعاوضات

من أحكام المعاوضات: وللمحافظة على مقصد الرواج شرعت عقود المعاملات التي منها ما هو من قبيل المعاوضات، ومنها ما هو من التبرّعات. فبهذه العقود يتمّ نقل الحقوق المالية وفق شروط وقوانين هي من هندسة الفقهاء الذين تدبّروا مصادر التشريع، وعلى الأخصّ المصدرين الأساسيين. وكان لهم من ذلك ما يسّر عليهم استنباط الأحكام ووضع القواعد والأصول، وضبط ما تقتضيه العقود من صور يتم عن طريقها مراعاة المصالح. فمن هذه الأحكام ما تُواجه الشريعة به الشرّ، وتصدّ به الظلم. مثل ما وقع للمعاملات الربوية الممنوعة شرعاً، وكذلك البيوعات المتمثلة في كل ما دخلته جهالة بأحد العضوين أو اشتمل على غرر وغبن، أو كان حكراً من التصرّفات المالية والمعاملات يقف في وجه رواج السلع والبضائع. ومن صور ذلك نهيُ الشارع عن المزابنة. وهي ضربٌ من الربا. وبيع الطعام بالطعام نسيئة كما ذكرنا قبل. وذلك لتفادي بقاءِ الطعام ديناً في الذمةِ، فيمنع ذلك رواجه. ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه وفيه حديث ابن عباس. ولفظه في البخاري: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع الرجُل طعامه حتى يستوفيه (¬1). وحديث ابن عمر: من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه (¬2)، ونهى الشارع عن بيع الغرر. ومثاله بيعُ الجنين في بطن أمه لحديث أبي سعيد الخدري: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع (¬3). وعلةُ النهي عن ¬

_ (¬1) خ: 3/ 22 - 23. (¬2) م: 2/ 1165. (¬3) جه: 2/ 740.

هذا البيع الجهالة في صفته وحياته وكونُهُ غير مقدور التسليم. ولذلك أبطل الشارع الغرر في المعاوضات، في كل تعاوضٍ يشتمل على خطر أو غررٍ في ثمن أو مثمن أو أجل. ومن التشاريع الرفيقة بالناس ما علم الله أنها تساعدهم على الالتزام بالشريعة، وتيسر عليهم حياتهم، وتضمن لهم معاشهم، وتمكنهم من تحقيق ما ينفعهم من الرواج. وسبيل ذلك إباحة التجارة في الحج، وتشريع عقود المعاملات. وهي من قسم الحاجي. وتلزم بحصول صيغها، وبالأقوال الدالة على التراضي فيها بين المتعاقدَين، وبالوفاء بما اتفقا عليه من شروط فيها مصلحة للطرفين. وتجاوزت الشريعة عن الغرر الذي لا تخلو منه المقايضات في الغالب، أو الذي تقتضيه المطالب المجتمعية مما كان رفيقاً بالناس، مساعداً لهم على تحقيق مقاصدهم. وذلك كإباحة الشريعة المغارسة والسَّلَم والمزارعة والقراض. وجعلِها اللزوم المترتّب على العقد غير جارٍ على عقود عمل الأبدان. وتركت لأصحاب هذه المعاملات التخيير، ولم تجعله مرتبطاً بالعقد ولكن بالشروع في العمل. ومن هذه العقود الجعل والقراض باتفاق بين الفقهاء، والمغارسة والمزارعة على خلاف بينهم. وأفتى الشيخ ابن عاشور بأن ما هو من أعمال الأبدان لا يلزم إلا بالشروع. وحصر ذلك القرافي في خمسة أنواع من العقود هي: الجعالة، والقراض، والمغارسة، والوكالة، وحكم الحاكم. فهذه لا تلزم بالعقد (¬1). ¬

_ (¬1) الفروق: 4/ 13 - ف 209.

وجوّزت الشريعة بيع الطعام قبل قبضه في الشركة والتولية والإقالة. ولم تلزم بالتوثّق بالإشهاد في حالات من التعامل حرصاً على نفي العوائق عن طريق المتعاملين. ومن الرفق في التشريع تجويز كراء الأرض لعد المنع من ذلك، وتشريع المعاملات كما في المغارسة والمساقاة، وفي البيوع على الأوصاف كبيع البرنامج. ونظمت الشريعة المعاملات بين الناس وأقامتها على قانونٍ عدلٍ يضمن النتائج الصالحة لحياة ذوي المال وأصحاب الثروة. وهي لم تهمل جانب ما بعد الموت في التشريع، إذ تولى سبحانه قسمة الفرائض بنفسه، وشرّع الوصية للأقارب وغيرهم، حصرها في ثلث المال ولغير وارث. والحكمة من هذا التوزيع جعل مال الفرد آيلاً إلى قرابة صاحبه. وبه يكون عوناً على حفظ أموال الأسرة أو المجموعة. ولم تَحرِم الشريعة أولي الأرحام حقَّهم في المال والميراث. وسمى الله تعالى ذلك فريضة في قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬1). وتوصف بالرواج الأموال التي يتعامل بها الناس. وقد تحول المجتمع البشري من التقايض بالأعيان إلى التعاوض بالنقد. ويبرر ذلك ما اشترطوه في الأموال من الرواج، وأن تكون قابلة للادخار، مرغوباً في تحصيلها، قابلة للتداول، محدودة المقدار. وكان دور المحتسب في القديم إجراءاً إدارياً يحرص به على تطبيق ما تقدم الإلماع إليه من التشريعات. ومن دوره منع المتاجرين ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 11.

توسيع الدراسات الفقهية

بأقوات الناس من احتكار ما يحتاجون إليه في معاشهم، أو إغلاء الأثمان عليهم استغلالاً واعتداء. فلذلك أُسندت إلى المحتسب مهام كثيرة أخرى منها مراقبة الأسواق التجارية ومحلات البيع والشراء والمؤسسات الاقتصادية، ومراقبة الصناع والحِرفيين، كما وُكل إليه تحكيم قوانين العرض والطلب في المعاملات التجارية، ومراعاة جودة الصناعة، ومراقبة غذاء الشعب. وكل ذلك من أجل صيانة الأسواق من الغشّ في المبيعات، والتدليس في العقود، والغبن في الأثمان والأجور. فهو لكل ذلك بالمرصاد، يرشد الناس ويعظهم، ويتولّى تتبع المحتكرين وتعنيفهم بالقول الغليظ، ويغير منكرهم بيده، ويهددهم ويخوّفهم، ويستعمل ما يناسب ذلك من وسائل التعزير ويستعين على أداء مهمته بالأعوان والشرطة. وتصرّفه في هذا كله تصرّف أصحاب الولايات، لأن ولاية الحِسبة ولاية عامة شرعية كولاية القضاء. وقد أسندت هذه المهمة إلى رجال الشرطة ورجال التموين، وإلى النيابة الإدارية وحتى العامة (¬1). توسيع الدراسات الفقهية: كان جمهور المتقدمين من أئمة الفقه والأصول يكاد يحصر جدله واستدلالاته وتعليقاته في مسائل العبادات، وبعض مسائل الحلال والحرام في البيوع. أما اليوم فقد أصبح لزاماً على الفقهاء وعلماء الشريعة أن يعكفوا على بحث أسرار التشريع في المعاملات، وفي الكيفيات المقصودة للشارع فيها، من أجل تحقيق مقاصد الناس النافعة، وحفظ مصالحهم العامة في تصرّفاتهم الخاصة، وتدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع الأحكام. وانبنت أحكام ¬

_ (¬1) د/ الحصري. السياسة الاقتصادية: 458 - 462.

المعاملات على مراعاة المقاصد الشرعية فيها، لأن الأصل فيها تحقيق مصالح العباد في سبل الحياة والمعاش، ورفع الحرج عنهم، بعيداً عن الباطل والحرام (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من تصرّفات العباد، في الأقوال والأفعال، عادات يحتاجون إليها في دنياهم. الأصل فيها العفو، فلا يُحظر فيها إلا ما حرمه الشرع. والغفلة عن هذه الحقيقة تعرّضنا للوقوع في منكر شديد. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} (¬2). فالبيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاملاتهم كالأكل والشرب واللباس. وقد جاءت الشريعة في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرّمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت وندبت إلى ما فيه مصلحة راجحة في هذه الأنواع ومقاديرها وصفاتها" (¬3). * * * * * ¬

_ (¬1) د/ العسال، ود/ فتحي أحمد عبد الكريم. النظام الاقتصادي في الإسلام: 153. (¬2) سورة يونس، الآية: 59. (¬3) الفتاوى: 29/ 16 - 18.

الفصل الخامس: العقود

الفصل الخامس: العقود العقود جمع عقد. وهو لغة: الربط والشد، ويطلق على الجمع بين أطراف الشيء. وهو عند الفقهاء: ما يتم به ارتباط إرادتين من كلام وغيره، ويترتب عليه التزام بين طرفين. قال الجرجاني في تعريفاته: هو ربط أجزاء التصرّف بالإيجاب والقبول. وللعقد صيغة هي المظهرة لإرادة المتعاقدين. والإرادة أمر خفي لا يدرك إلا بما يظهرها من لفظ أو ما يقوم مقامه مما يكون به الإيجاب والقبول. وصيغة العقد قول يكشف عن الرغبة والقصد من لفظ العاقد وعبارته. وقد ضبط الفقهاء، لكل عقد، الألفاظَ التي تدل على مراد قائلها في إنشائه، معتمدين على ما أفصحت عنه اللغة، أو ما دلّ عليه العرف وما اعتاده الناس في كل المعاملات. ويقع التعاقد بالأفعال أي بالتعاطي فيما جرى به العرف من المعاملات كركوب سيارة الأجرة ونحوه. وأجازت المالكية والحنابلة التعاقد بالتعاطي مطلقاً. ومنعه الشافعية والشيعة في أصل مذهبهم لعدم وضوح الأفعال في الدلالة على الإرادة إلا في التافه من الأمور كبيع رغيف (¬1). والمختار في القول بالتعاطي ما ذهب إليه الإمام مالك في قوله: "ينعقد البيع بكل ما يعده الناس بيعاً". واستحسن ¬

_ (¬1) الحصكفي. كفاية الأخبار في حل غاية الاختصار: 1/ 147 - 148.

هذا الرأي ابن الصباغ. وقال النووي: "هذا الذي استحسنه ابن الصباغ هو الراجح دليلاً، إذ لم يصحّ في الشرع اشتراط اللفظ، فوجب الرجوع إلى العرف" (¬1). وأما قضية الرضا بالعقد والإقدام على إنشائه فهو يتبع ما جرى عليه جمهور الفقهاء. فالعقد الصحيح هو الصادر عن اختيار ورضا، مستوفياً للشروط الواجب توافرها في العاقد والمعقود عليه وصيغة العقد. والعقد الباطل هو الصادر ممن لا عبارة له شرعاً. فهو عقد لا اختيار فيه للعاقد ولا رضا. والعقد الفاسد هو ما تحقق فيه اختيار العاقد وقصده إلى تكوين العقد وإنشائه لكن هذا الاختيار فَقَدَ رضا منشئه بآثاره. فإذا تحقق الرضا انقلب إلى عقد صحيح. وفرّقوا في الفقه الإسلامي بين العقود الشكلية التي لا بد فيها مع صيغة العقد من شهادة الشهود أو التوثق أو التسجيل والتسليم كعقد الزواج والهبة، وبين العقود الرضائية وهي الأغلب، والتي تتم بمجرد تكوينها والرضا بها وبآثارها. وعقود المعاملات مشروعة. وهي من قسم الحاجي، يحصل لزومها بصيغ العقود. واشترطت فيها شروط لفائدة المتعاقدين كليهما. فإذا استوفَتْ شروطها فهي صحيحة، وبصحة العقد يترتب أثره. والأصل فيها اللزوم بحصول الصيغ (¬2). ويتنوع تقسيم العقود بين القدامى والمحدثين. والذي اخترناه من ذلك اعتبار العقود ست مجموعات، هي: ¬

_ (¬1) المرجع نفسه. (¬2) المقاصد: 471.

• الأولى: بحسب المشروعية وعدمها. • الثانية: بحسب النفاذ أو التوقّف على إجازة من له الإجازة. • الثالثة: بحسب اللزوم والجواز من الجانبين أو من أحدهما. • الرابعة: بحسب الاكتفاء بإرادة المتعاقدين أو باشتراط شيء آخر وراءها كالقبض. • الخامسة: بحسب وجوب الضمان وعدمه فيها (¬1): ° وهي عقود ضمان كعقود البيع والصلح والتخارج، وكذا المهر والخلع والطلاق على مال، والمغارسة عند الشافعية والحنابلة. ° وعقود الأمانة كالإيداع، والإيجار عند الحنفية والمالكية. ° وكذلك عقود مزدوجة بينهما كالإجارة والشركة والمضاربة والوكالة. • والسادسة: التي تتمايز عقودها بحسب موضوعها والغرض المقصود منها. وكل أنواع هذه العقود والمعاملات تتحقق بها مقاصد الشريعة لأنها إنما شرعت لجلب المصالح والمنافع، ودرء المفاسد والمضار، ولأنها حين يصوغها المتعاقدون بينهم لا يريدون منها إلا غاياتها، بتحقيق مقاصدهم عن طريقها. والعقود من هذا النوع كثيرة منها: المضاربة، والعنان، والوجوه، والأبدان، والتفويض، والمساقاة، والمزارعة. وهي تغطي حاجات المجتمع والأفراد. ونقتصر في هذا المقام على مجموعة عقود التمليك. ¬

_ (¬1) د/ عثمان المرشد. المقاصد من أحكام الشارع. القسم الأول، الجزء الثاني: 282.

المجموعة الأولى: عقود التمليك

المجموعة الأولى: عقود التمليك: المِلْك حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو (¬1). وقال ابن الهمام: الملك هو قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرّف (¬2). وقال ابن تيمية: الملك هو القدرة على التصرّف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسيّة (¬3). وعرّفه صدر الشريعة بقوله: هو اتصال بين الإنسان وبين الشيء يكون مطلقاً للتصّرف فيه وحاجزاً عن تصرّف الغير (¬4). وعقود التمليك هي التي تنقل الملك أو تنشئ الحِلّ. وهي تتنوع أولاً: باعتبار محل الملك الحاصل بها إلى خمسة أنواع: • الأول الملك التام والمطلق وهو ملك العين والمنفعة. قال ابن عابدين: هو المملوك رقبة ويداً (¬5)، وهو قول الحنابلة (¬6)، والشافعية (¬7)، والمالكية (¬8). وترد على الأعيان المملوكة بالأسباب التي اقتضتها كالبيع والهبة والصدقة والوصية. ويقابله الملك الناقص أو الضعيف على حد تعبير الزركشي في قواعده. وضبطه ابن الرفعة بما يقدر الغيرُ على إبطاله قبل استقراره. ولا يكون لصاحبه فيه كمال التصرّف. • الثاني ملك عين بلا منفعة. وصورته عند الحنابلة الوصية لواحد بالمنافع، ولآخر بالرقبة، أو بشرط أن تكون الرقبة للورثة. ¬

_ (¬1) القرافي. الفروق: 2/ 208. (¬2) فتح القدير: 5/ 74. (¬3) الفتاوى: 29/ 178. (¬4) شرح الوقاية في مسائل الهداية: 2/ 196. (¬5) حاشية ابن عابدين: 2/ 263. (¬6) كشاف القناع: 1/ 426 - 427. (¬7) حاشية الجمل: 2/ 288. (¬8) حاشية الدسوقي: 1/ 431.

• الثالث: ملك منفعة بلا عين. وهو ضربان: أ - ملك مؤبّد: ومن صوره الوصية بالمنافع، والوقفُ عند من يرى أنه الحبس على المنفعة دون العين. ومثّلوا لهذا بالأراضي الخراجية تكون بيد من يديرها أو يستغلها. فهو يملك منافعها على التأبيد. ب - ملك غير مؤبّد: ومنه الإجارة، ومنافع البيع المستثناة في العقد لمدة معلومة عند من يرى أن الملك الثابت بها هو ملك منفعة لا ملك انتفاع. ذكر ذلك المالكية (¬1)، والحنفية (¬2)، وكذا الحنابلة (¬3). • الرابع ملك الانتفاع: وله صور كثيرة منها ملك المستعير عند الشافعي (¬4) وهو ما اعتمده الحنابلة، ومنها المنتفع بملك جاره بما اكتسبه من حقوق الارتفاق. وقد فرق جمهور الفقهاء من الحنابلة والشافعية والمالكية بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، فقالوا: إن مَن مَلَك المنفعة مَلَك الانتفاع والمعاوضة، ومَن مَلَك الانتفاع لم يملك المعاوضة (¬5). • الخامس ملك الدين. هو أن يكون لشخص في ذمَّة آخر مبلغٌ من المال وجب بسبب من الأسباب الشرعية. فهو كثمن الشيء المشترى، وبدل القرض المقترَض. ولا يسمّى ديناً إلا إذا كان المبلغ التزاماً في الذمة. ثانياً: تتنوع الملكية باعتبار أصحابها إلى ملكية خاصة وملكية ¬

_ (¬1) الدردير. الشرح الصغير: 3/ 470. (¬2) حاشية ابن عابدين: 2/ 263. (¬3) الإنصاف: 6/ 101. (¬4) مغني المحتاج: 2/ 368. (¬5) الكاساني. بدائع الصنائع: 7/ 3؛ القرافي. الفروق: 1/ 193؛ ابن رجب. القواعد: 195؛ السيوطي. الأشباه والنظائر: 326.

عامة، وباعتبار وضع الملك إلى ملكية متميّزة وملكية شائعة. ومحل الملك المال (¬1). ثالثاً: تتنوع عقود التمليك أيضاً من حيث وجود العوض في مقابلة ما وقع عليه التمليك من عين أو منفعة، أو من حيث عدم وجوده، إلى ثلاثة أضرب: (1) عقود معاوضة: وهي التي تقع فيها المبادلة بين عوضين. وفي الاصطلاح: عبارة عن ضرب من التمليكات تقوم على أساس إنشاء حقوق واستخدامات متقابلة بين العاقدين. وهي أنواع: مبادلة مال بمال، ومبادلة مال بمنفعة، ومبادلة مال بغير مال ولا منفعة على اصطلاحهم. وتضاف إلى هذه الأنواع مبادلة المنفعة بالمنفعة، ومبادلة المنفعة بما ليس بمال ولا منفعة بالمعنى الاصطلاحي لديهم. وتشمل المعاوضةُ البيعَ بأنواعه من مطلق، ومقايضة، وصرف، وسَلَم، واستصناع، وصلح عن إقرار، وقسمة الأعيان، والتخارج، وحوالة الحق، والإجارة، والجعالة، والمساقاة، والزواج، والخلع ونحوها (¬2). (2) عقود تبرّع: تقوم في بدايتها ونهايتها على أساس المعونة والمساعدة والإحسان من أحد المتعاقدين للآخر، كالهبة، والإعارة، والصدقة، والوصية، والكفالة من غير طلب المدين. (3) عقود تبرّعات في الابتداء ومعاوضات في الانتهاء: وهذه كالقرض، وهبة الثواب، والكفالة بأمر المدين. ولا خلاف في أن لمعظم هذه التصرّفات عقوداً يلزم لانعقادها الإيجاب والقبول، ولا تكفي فيها إرادة واحدة. وذهب بعض الفقهاء ¬

_ (¬1) الكاساني. بدائع الصنائع: 7/ 352. (¬2) ابن عابدين. رد المحتار: 4/ 212؛ أحمد إبراهيم. الالتزمات: 48.

إلى مخالفة هذه القاعدة في الهبة والعارية والقرض والكفالة والرهن. وقالوا: إن العقود تتم بإرادة واحدة، وقيل: تتم بإرادتين على تفصيل في ذلك (¬1). والأصل في العقود المالية اللزوم دون التخيير إلا بشرط. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2) كما استدل لذلك القرافي في الفرق 196. أما العقود التي جعلها فقهاؤنا غير لازمة بمجرد العقد بل حتى يقع الشروع في العمل؛ فهي - كما قدمنا - الجعل والقراض باتفاق، والمغارسة والمزارعة على خلاف. وقد نظر فيها إلى عذر العامل لأنه قد يخفّ إلى العقد لرغبة في العوض ثم يتبيّن له أنه لا يستطيع الوفاء بعمله. ومصلحة العقد بالأصالة في لزومه، وتأخّر اللزوم في هذه لمانع عارض خلافاً لظاهر كلام القرافي (¬3). وتقدم القول في المغارسة والسَّلَم والمزارعة والقراض. وعدّها بعض علمائنا رخصاً، باعتبار أنها مستثناة من قاعدة الغرر، وإن لم يكن فيها تغيير حكم من صعوبة إلى سهولة لعذر. واعتبروا في إطلاق اسم الرخصة عليها أن تغيير الحكم أعم من تغييره بعد ثبوته، أو تغيير ما لو ثبت لكان مخالفاً للحكم المشروع (¬4). ومن العقود ذات المقاصد المعتبرة المعاملاتُ المنعقدة على الأبدان. وهي إجارة الأبدان والمساقاة والمغارسة والقراض والجعل والمزارعة. وفي المغارسة لا بد من إحضار متمول قليل من طرف ¬

_ (¬1) د/ محمد زكي عبد البر. التصرّفات المالية: 78 - 81. (¬2) سورة المائدة، الآية: 1. (¬3) القرافي. الفروق: الفرق 209؛ المقاصد: 471 - 472. (¬4) المقاصد: 471.

التبرعات

عاملها. وكذلك ما يحصل بالمساقاة بقلة من إصلاح ولو إصلاح حوض. وهذه العقود لا تخلو من غرر، كما قدمنا، لعسر انضباط مقادير العمل المتعاقد عليه فيها، وعسر معرفة العامل ما ينجر إليه من الربح من جراء عمله، ولعسر انضباط ما ينجر إلى صاحب المال فيها من إنتاج أو عدمه، غير أن الشريعة ألغت هذا الغرر، لأن أضرار مراعاته أشدُّ من أضرار إلغائه، لما في مراعاته من حرمان كثيرٍ من أفراد الأمة فوائد السعي والاكتساب (¬1). التبرعات: التبرّعات من عقود التمليك. التبرع لغة: التطوّع بغير شرط. وفي اصطلاح الفقهاء: بذل المكلف مالاً أو منفعة لغيره في الحال أو في المآل بلا عوض بقصد البر والمعروف غالباً. التبرّعات من التمليكات وهي قسيمة لها وتتنوع إلى: هبة، ووصية، ووقف، وقرض، وعارية. ويندرج تحتها ما يلي: • تبرّعات ابتداء وانتهاء. كالهبة المطلقة والصدقة والوصية والعارية. • وتبرّعات ضمن عقد معاوضة. • وتبرّعات ابتداء. وقد ينتهي بها الأمر إلى أن تصير تبرّعات في النهاية، أو تنقلب إلى معاوضات. وتشمل الهبة، والصدقة، والوصية، والإعارة، والقرض، والوقف، والإبراء من جهة كونه تمليكاً، والعمرى، والرقبى، والإباحة، والصلح عن إنكار، والهبة بشرط ¬

_ (¬1) المقاصد: 490.

الرهن

العوض على قول، واقتصر القول المشهور على حصرها في الهبة. وتنقسم التبرّعات إلى قسمين متفاوتين أثراً وأهمية. فالأول منها هو مطلق العطايا مثل الصدقات اليومية والعطايا الموسمية والنفقات والقربات، والثاني هو العطايا الأخرى التي قصد منها التمليك والإغناء وإقامة المصالح الكائنة في الغالب بأموال يتنافس في مثلها المتنافسون ويتشاكس في الاختصاص بها المتشاكسون. فمن القسم الأول الصدقة والهبة والعارية مما يدخل في عداد النفقات. قال الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة الخادمة لمعنى الأخوة. فهي مصلحة حاجيّة جليلة" (¬1). الرهن: هو لغة: الحبس واللزوم، وقيل: الثبوت والدوام. قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬2)، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬3). ويطلق أيضاً على الشيء المرهون. وعدّه ابن عابدين في التبرّعات (¬4). وهو في الاصطلاح: حبس عين مالية، توثقةً لدين يستوفى منها أو من ثمنها عند تعذر الوفاء من غيرها لعجز أو غيبة أو مماطلة. وهذا ما عناه ابن شاس بما أورده من قوله: احتباس العين وثيقة بالحق يستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذّر أخذه من الغريم (¬5). وقالت المالكية: إنه شيء متموّل يؤخذ من مالكه، توثّقاً به، ¬

_ (¬1) المقاصد: 502 - 514. (¬2) سورة الطور، الآية: 21. (¬3) سورة المدثر، الآية: 38. (¬4) رد المحتار: 5/ 340. (¬5) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة: 2/ 577.

في دين لازم أو آئل إلى اللزوم (¬1). وهو جائز غير واجب بالاتفاق؛ لأنه وثيقة دين. وحكمه في هذا كحكم الكفالة. ويصح بكل حق لازم في الذمة ثابتٍ غير معرض للإسقاط من الراهن كدين السَّلَم وعوض القرض وثمن المبيعات وقيم المتلفات، والمهر وعوض الخلع غير المعينين، والدية على العاقلة بعد حلول الحول والأجرة في إجارة العين (¬2). واشترطت الحنفية في صيغة الرهن ألا يكون معلقاً بشرط، ولا مضافاً إلى زمن مستقبل، لأن عقد الرهن يشبه عقد البيع من ناحية كونه سبيلاً إلى إيفاء الدين واستيفائه (¬3). وقالت المالكية: يصح الشرط الذي لا يتنافى مع مقتضى العقد. فهو شرط فاسد، ولا يؤول إلى حرام. أما ما يتنافى مع مقتضى العقد فهو شرط فاسد مبطل للرهن (¬4). ويقع الرهن في السفر والحضر باتفاق المذاهب، لم يخالف أحد في ذلك إلا مجاهداً والضحاك (¬5). ولا يستحق المرتهن الرهن لعجز الراهن عن فكاكه لما رواه أبو هريرة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه" (¬6). ¬

_ (¬1) الشرح الصغير: 2/ 303 - 325. (¬2) الموسوعة الفقهية: 32/ 178. (¬3) الكاساني. البدائع: 6/ 135. (¬4) الشرح الكبير: 3/ 240 وما بعدها؛ ابن رشد. بداية المجتهد: 2/ 278. (¬5) ابن قدامة. المغني 4/ 362؛ الشوكاني. نيل الأوطار: 352؛ المجموع: 13/ 137. (¬6) الشافعي. المسند: 148؛ الدارقطني. السنن: 3/ 32 - 33 بإسناد حسن متصل وآخر مرسل من رواية سعيد بن المسيب؛ موارد الظمآن إلى زوائد صحيح ابن حبان: 274.

وله حالات ثلاث يصح فيها: الأولى: أن يقع مع العقد المنشئ للدين، كأن يشترط البائع على المشتري بثمن مؤجل إلى المستقبل في مدة معينة تسليم الرهن بالثمن. الثانية: أن يقع بعد الحق أو نشوء الدين. ويصح أيضاً بالاتفاق؛ لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة فيه كالكفالة في الضمان. الثالثة: أن يقع قبل نشوء العقد، مثل رهنتك متاعي هذا بمائة تقرضنيها. وهذه الصور جائزة وصحيحة عند المالكية والحنفية، لأنها وثيقة بحق، ولا تصح في ظاهر المذهب عند الشافعية والحنابلة، لأن الوثيقة بالحق لا تلزم قبله لأنها كالشهادة. ومشروعية الرهن ثابتة بالكتاب والسُّنة. قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1). ومن السُّنة ما روته عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد (¬2). والحكمة من تشريع الرهن توثيق الديون. مثله في ذلك مثل الكفالة. فهذه توثق الدين شخصياً، والرهن يوثق مالياً. وهو طريق لتسهيل القروض، كما أنه يفيد الدائن بإعطائه حق الامتياز والأفضلية على سائر الغرماء من الدائنين. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 283. (¬2) ابن حجر. الفتح: 5/ 53.

الوقف

الوقف: الوقف لغة: الحبس. ومنه وقفُ الأرض والدابة أو غير ذلك (¬1). وفي الاصطلاح: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (¬2) أخذاً من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "حبَّس الأصل وسبَّل المنفعة". رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر (¬3). واختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الوقف باختلاف شروطه وأحكامه بينهم. وهذا من حيث لزومه وعدمه، واشتراط القربة من الواقف، وتعيين الجهة المالكة للعين بعد وقفها، وما يتصل بذلك من اشتراط القبول أو التسليم لتمامه. وذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية والظاهرية والزيدية والجعفرية إلى القول بجوازه في الدور والأرضين بما فيها من البناء والغراس، وفي السلاح والكراع والثياب والمصاحف ونحوها. لم يشذّ عن هذا غير أبي حنيفة وزفر في رواية عنهما. واستدل المجيزون للوقف من الفقهاء بأدلة عامة وخاصة. فمن الأولى قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬4)، قال القرطبي: ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه (¬5). ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ¬

_ (¬1) الزمخشري. أساس البلاغة: 2/ 507. (¬2) ابن قدامة. المغني مع الشرح الكبير: 6/ 185. (¬3) ابن حجر. الفتح: 5/ 259؛ الشوكاني. نيل الأوطار: 6/ 19؛ الشافعي. المسند: 112. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 92. (¬5) القرطبي. الجامع لأحكام القرآن: 4/ 132.

ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (¬1). ومن السُّنة الفعلية ما روته عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل سبع حيطان له بالمدينة صدقة على بني عبد المطلب وبني هاشم (¬2). وذكر الإمام الأكبر أن من الصدقات الجارية والأوقاف التي كانت في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم -: صدقة عمر، وقد أشار عليه بها، وكذلك صدقة أبي طلحة الأنصاري فإنها كانت أيضاً بإشارة منه - صلى الله عليه وسلم -. وصدقة عثمان ببئر رومة. قال - صلى الله عليه وسلم -: من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين؟ فاشتراها عثمان وتصدّق بها على المسلمين، وتصدق سعد بن عبادة بمخراف له عن أمه بعد وفاتها. وكانت هذه الصدقات أوقافاً ينتفع المسلمون بثمرتها على تفصيل في شروطها (¬3). وفي تفصيل المقصد الشرعي يقول: والحُبس والعمرى والوصية والعتق لا تقع إلا في الشق الثاني (وهو غير النفقات الواجبة وما يلحق بها) فتكون غنى وتمليكاً سواء أكانت لأشخاص معينين أم لأصحاب أوصاف مقصودة بالنفع، أم لمصالح عامة للأمة كالذي يعطى لطلبة العلم والفقراء وأهل الخير والعبادة، وإقامة الحصون، وتجهيز الجيوش، ومداواة المرضى (¬4). وذكر الكبيسي أن الوقف من أنواع الصدقات التي يقصد بها التقرب إلى الله. فهو من القرب المشروعة. وهو طريق من طرق إدرار الخير، وإجزال المثوبة للمتصدّق إذا اقترن عمله بنية صالحة ¬

_ (¬1) رواه مسلم. النووي: 11/ 85؛ تَ: 3/ 117؛ جَه: 1/ 88؛ تحفة الأحوذي: 2/ 398؛ الساعاتي. الفتح الرباني: 15/ 177. (¬2) البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 160. (¬3) المقاصد: 504، 506. (¬4) المقاصد: 503.

ورغبة صادقة ... والتصور الإسلامي للوقف ينطلق من التصور الإسلامي للملكية وللوظيفة الاجتماعية للمال (¬1). وقال القاضي شُريحُ بنُ الحارث الكندي، قاضي الكوفة بتعيين عمر بن الخطاب له، بحظر التحبيس. ولما بلغت مقالته سمعَ الإمام مالك، قال: رحم الله شُريحاً تكلم ببلاده، ولم يَرِد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدهم، وما حبّسوا من أموالهم. وهذه صدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع حوائط. وينبغي للمرء ألّا يتكلّم إلا فيما أحاط به خبراً (¬2). والحبس أو الوقف تبرع. وهو الصدقة الجارية. وشرط التبرّعات أن تكون عن طيب نفس، وتكون مهلة لزوم عقد التبرع عقب العزم عليه وإنشائه أوسعَ من مهلة انعقاد عقود المعاوضة ولزومها. وفي تلك المهلة يتم التحويز والإشهاد. فلا يعتبرُ عقد التبرّع إلا بعد التحويز. وحدوث مرض الموت قبل تحويز العطيّة مفيت لها. والإشهاد بالعطيّة قائم مقام الحوز في الانعقاد. يدل على ذلك حديث النعمان بن بشير (¬3). ويهرع المتبرّع إلى الإشهاد إن تأخّر الحوز. وهذا كاف في تحقّق التبرّع عند المالكية. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الحوز شرط صحة لانعقاد التبرّع فلا يلزم الوفاء بالتبرع إذا لم يحصل الحوز. وقالت الحنفية بجواز الرجوع في الهبة في سبع صور هي: الزيادة المتصلة بنفس الموهوب إذا كانت سبباً في رفع قيمته، وموت أحد المتعاقدين، وقبول الواهب عنها عوضاً ولو من أجنبي، وخروج ¬

_ (¬1) د. محمد عبيد الكبيسي. أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية: 1/ 134 - 135. (¬2) المقاصد: 506. (¬3) المقاهد: 117 - 118.

الموهوب عن ملك الموهوب له، وهلاك العين الموهوبة (¬1). وأباحت الشريعة تعليق العطيّة على حصول موت المعطي كما في الوصية. وأمضى المالكية الشروط في الوقف والهبة والصدقة. وذلك كاشتراط الاعتصار في الصدقة والهبة، وكذلك في العمرى والتخلية. وما كان من هذه التصرّفات قد دلت القرائن على قصد الصدقة والدار الآخرة فيه فهو غير قابل للاعتصار إلا أن يشترطه المتصدّق أو الواقف. ومن شروط المتصدق أو الواهب ما لم يجزه كثير من الفقهاء، وذلك كعدم تصرّف المتصدق عليه، أو الموهوب له، فلا يبيع ولا يهب. وفي هذا اختلاف المذاهب على أقوال خمسة. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الباب عدم جعل الوصية والتبرع وسيلة إلى تغيير المواريث أو رزيةً لمالٍ دائنٍ. ورُوي عن مالك بطلان الحبس على البنين دون البنات، لأنه من فعل الجاهلية. وإن عمل بهذا بعضُ المالكية مع كراهتهم له، اعتماداً على رواية المغيرة عن مالك. قال ابن رشد: ومن مذهب مالك أن يدخلن فيه، وإن نص المحبّس على إخراجهن منه ما لم يفت الأمر (¬2). ومما يلزم تجنّبه اعتماد تبرع المريض في حال مرضه المخوف، فيمنع من ذلك لحق الورثة. وتجوز له المعاوضة بالبيع ونحوه. ومنع التبرع في هذا المقام للتهمة، وجاز الإذن في البيع لما يحصل فيه من عوض. ¬

_ (¬1) الكاساني. بدائع الصنائع: 6/ 128 - 129. (¬2) المقدمات: 2/ 438.

الهبة

الهبة: الهبة لغة: العطيّة بلا عوض. قال الراغب: هي أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض. وفي اصطلاح الفقهاء: هي عقد يفيد تمليك العين بلا عوض في حال الحياة تطوعاً. وقال ابن عرفة: الهبة لا لثواب تمليك ذي منفعة لوجه المعطى بغير عوض. ويتنوع تمليك العين بلا عوض إلى أنواع ثلاثة (¬1): (1) الهبة: وهي نقل المال من يد إلى يد. (2) الصدقة: وهي التمليك بغير عوض لمحتاج في حال الحياة يراد به ثواب الآخرة. (3) الهدية: وهي التمليك بغير عوض في حال الحياة مقصوداً به التودد والإكرام والتعظيم، مع حملها إلى المُهدَى إليه وإيصالِها إلى مكانه. وهذه الأنواع الثلاثة هي التي عناها النووي بقوله: "الهبة والهدية وصدقة التطوع: أنواع من البرّ متقاربة، يجمعها تمليك عين بلا عوض. فإن تمحّض فيها طلب التقرب إلى الله بإعطائها لمحتاج فهي صدقة، وإن حملت إلى مكان المهدَى إليه إعظاماً وإكراماً وتودداً فهي هدية، وإلا فهي هبة" (¬2). وتضاف إلى هذه الأنواع الثلاثة الهبة المجرّدة. وهي تمليك العين بلا عوض في حال الحياة تطوّعاً غير مقصود به ثواب الآخرة ولا محمولاً إلى مكان الموهوب له قصد تعظيمه وإكرامه. ¬

_ (¬1) المغني: 5/ 531؛ كشاف القناع: 4/ 330؛ شرح المنتهى: 2/ 588. (¬2) تصحيح التنبيه: 92.

المجموعة الثانية: عقود المعاوضات

والهبة وسائر ما اتصل بها أو جاء بمعناها تكون بصيغة مفيدة الملك المؤبد. وتكون الهبة من باب المعاوضة، إذا كانت هبة ثواب. وذلك بأن يعطي الرجل شيئاً من ماله لآخر يثيبه عليه. وحكمها الجواز. والموهوب له إما أن يردّ القيمة أو نفس ما وهب له إن كان قائماً. المجموعة الثانية: عقود المعاوضات: البيع: هو رأس عقود المعاوضات. وهو لغة: مطلق المبادلة، مالية كانت أو غير مالية. والمبادلة: إعطاء شيء وأخذ شيء مكانه. واصطلاحاً: مبادلة مال بمال على التأبيد مِن غير ربا ولا قرض. وورد في تعريف البيع أيضاً قولهم: هو تمليك البائع مالاً للمشتري بمال يكون ثمناً للمبيع. وقال المناوي في حدّه: هو تمليك عين مالية أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي (¬1). وينقسم البيع باعتبارين مختلفين: الأول باعتبار المبيع، والثاني باعتبار تحديد الثمن. فمن الأول أربعة أنواع: البيع المطلق، وبيع السَّلَم، وبيع الصرف، وبيع المقايضة. ومن الثاني ثلاثة أنواع أيضاً: بيع المساوقة، وبيع المزايدة، وبيع الأمانة. ¬

_ (¬1) د/ نزيه كمال حمّاد. معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: 83.

وبيع الأمانة: هو ما فيه اطمئنان من قبل البائع، لأنه أمانة في يد المشتري. وهو بيع مبني على الثقة والاطمئنان في التعامل. ويختلط به ببيوعات ثلاثة هي: المرابحة، والتولية، والوضيعة. أما بيع المرابحة: فهو بيع ما ملكه بما قام عليه وبفضل بين الطرفين. وأما بيع التولية: فهو نقل جميع المبيع إلى المُولَى بما قام عليه من غير زيادة ربح ولا نقصان. وأما بيع الوضيعة: فهو بيع الشيء بنقصان معلوم من الثمن الأول. وهو مقابل للمرابحة (¬1). وبالاعتبار الثاني كأن يكون الثمن منجزاً أو مؤجلاً. أو أن يكون المبيع مؤجلاً أو يكون البدلان مؤجلين. وأضافوا إلى هذه التقسيمات تقسيمات أخرى تكون بحسب حصول المبيع وغيبته، أو بحسب رؤيته وعدمها، أو بحسب تحقق العقد أو التخيير فيه، أو باعتبار الحكم الشرعي. وهي أنواع كثيرة (¬2). وقد ثبت مشروعية البيع بالكتاب وهو قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬3)، وبالسُّنة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا" (¬4). وبالإجماع على جوازه. وحكم البيع: أنه أحد أسباب المِلْك، يثبت للمشتري في ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية: 9/ 48 - 49/ ف 1، 6، 7، 9. (¬2) انظر المزيد من البيان والتفصيل لأقسام البيع. الموسوعة الفقهية: 9/ 5 - 10. (¬3) سورة البقرة، الآية: 275. (¬4) انظر المقاصد: 71.

المبيع، وللبائع في الثمن إذا كان البيع تاماً غير موقوف على الخيار، ولا على موافقةِ ولي الأمر إذا كان أحد المتعاقدين صبياً أو سفيهاً. كما تثبت الملكية عند الإجابة إذا كان البيع موقوفاً. والمقصد المباشر منه هو انتقال الملك في البدلين، وتبادل الأموال على أعدل وجه وأكمله. ومن مقاصد البيع الأصلية: • قضاء حاجات الناس بما بأيدي غيرهم من الأموال أعياناً كانت أم منافع بطريق التمليك أو التملك المؤبد. • قيام التعاون مع كل العناصر المنتجة الباذلة في المجتمع، ولا غنى للإنسان عن ذلك. ولولا مشروعية البيع لما حصل المرء على حاجته إلا بحرج ومشقة وعسر. • رفع أوجه التغالب والتناحر حماية لنظام العالم من الفساد والاختلال. • صد الأقوياء عن أكل أموال الضعفاء. وبه حفظ ضروريّ الإنسان في النفس والمال. وهما من الكليات الخمس. والأصل في البيع أن يكون حاجيّاً، ويجوز أن يكون تكميليّاً تحسينيّاً. وقد أوضحت هذه الحقائق الآية الكريمة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬1). وترتبت على مشروعية البيع مقاصد تابعة ككسب الرزق ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 70.

الحلال عن طريق تحريك الأموال بالتجارة، وباستثمارها في أكثر من مجال من مجالات الحياة. ورواج الأموال وتوفير السلع وتيسير طرق الحصول عليها وخاصة فيما يتعلق منها بالطعام. ويكره تداول أثمانها في الذمم لما يترتب على ذلك أحياناً كثيرة من حبس أعيانها وتعطيل الاستفادة منها. وفي هذا مناقضة للمقصد الأساس من تشريع البيع. ومن المقاصد أيضاً تحصيل ما يحتاج إليه المرء من القوّة الماليّة لتكثير أصول المعاش وتنميتها. ودليل ذلك حضّ الإسلام عليها، والمبادلة في البر والبحر. قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2)، وقال جل وعلا: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -، لمن سأله: أي الكسب أطيب؟. قال: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور". والبيع المبرور هو ما يجري في الأمور المباحة. فلا يدخله أي نوع من عقود الربا، ولا يكون من العقود المجهولة، لما يحدث فيها من الغرر في الثمن أو المثمن. ومن غير المبرور كل وسائل الكسب الخبيث مثل الاتجار في أندية الملاهي، والقمار والميسر وما جرى مجراها. ومن كلام الأئمة في ذلك أن الكسب مباح على الإطلاق، بل هو فرض عند الحاجة (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، الآية: 10. (¬2) سورة النحل، الآية: 14. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 66. (¬4) محمد بن الحسن الشيباني. الاكتساب: 17/ 18.

الإجارة

الإجارة: الإجارة في اللغة: الأجر، وفي الاصطلاح: تمليك المنافع بِعِوَض، سواء أكان ذلك العوض عيناً أم دَيناً أم منفعة (¬1). وقال الحنابلة هي عقد يفيد تمليك منفعةٍ مباحة معلومةٍ بعوض معلوم إلى أجل معلوم (¬2). وهذا أضبط وأدق من التعريف الأولى. وتستند مشروعية الإجارة إلى الكتاب: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬3)، {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (¬4)، {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} (¬5)، وقوله - عز وجل -: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (¬6)؛ وإلى السُّنة القولية كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (¬7)، ولفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت عائشة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر استأجرا رجلاً خريتاً عالماً بالهداية (¬8). وإلى الإجماع بما روي عن عمر وابن عباس من تأويلهما قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬9) قالا: هو أن الرجل يحج عن الرجل ويؤجّره نفسه. ¬

_ (¬1) شرح المجلة: 5421. (¬2) كشاف القناع في شرح الإقناع: 3/ 537 - 538. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 7. (¬4) سورة الكهف، الآية: 77. (¬5) سورة العنكبوت، الآية: 27. (¬6) سورة الزخرف، الآية: 32. (¬7) انظر المقاصد: 498 - 499. (¬8) سيرة ابن هشام: 1/ 491؛ خَ: 4/ 256. (¬9) سورة البقرة، الآية: 198.

السلم

وعقد الإجارة ملزم لكل من المتعاقدين. فليس لأحدهما فسخه لأنه عقد معاوضة ومبادلة كالبيع تماماً فكان لازماً مثله، ولأن الإجارة لا تختلف عن البيع إلا باختصاصها باسم معين. وأقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يستأجرون ويؤاجرون ونهاهم عن مفسداتها. والإجارة ضربان: إجارة عين. وهي ما يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها كاستئجار الدار الصالحة للسكنى. وإجارة منفعة في الذمة على شيء معين أو موصوف بصفات يمكن ضبطها بالعلم أو المدة كخياطة الثوب ونحوه. والاستئجار، كما قال ابن رشد الجد، هو الذي أذن الله به لعباده، وجعله قواماً لأحوالهم، وسبباً لمعاشهم وحياتهم ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بما أحكمته السُّنة والشريعة؛ فمنه الجائز، ومنه المحظور. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬1). وللإجارة مقاصد منها: قضاء حاجات الناس، على وجه يحقق المصلحة والعدل فيما بينهم. فلكل عملية من العمليات، أو تصرّف معتبر من التصرّفات عقدٌ خصّه الشارع به. فاحتياجات الإنسان اليومية لا يمكن له وحده أن يقوم بها لكثرتها، ولعدم قدرته على توفيرها كلها عملياً، واحتياجِه إلى وجود سوق الشغل واستخدام الكثير من أصحاب القدرات والمواهب الراقية، دفعاً للمشقّة ورفعاً للحرج، شرع الله لعباده عقد الإجارة، عقداً يكون به تمليك المنفعة بعوض. السَّلَم: هو لغة: الإعطاء والترك والتسليف. ¬

_ (¬1) ابن رشد الجد. المقدمات: 2/ 164.

واصطلاحاً: بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلاً. وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه. فهو عند الحنفية والحنابلة: بيع مؤَجَّلٍ بمُعجَّل، اعتماداً على شروط صحّته عندهم. وهي قبض رأس المال في المجلس وتأجيل المسلم فيه. وقالت الشافعية: هو عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلاً. وقد نظروا إلى شروطه عندهم. وهي قبض رأس المال في المجلس، وإجازة أن يكون السَّلَم مؤجلاً. وذهبت المالكية إلى: أنه عبارة عن بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما في حكمها، إلى أجل معلوم. وقولُهم هذا مبنيٌّ على منعهم السلم الحالّ، وعدم اشتراطهم تسليم رأس المال في المجلس (¬1). فالسَّلَم نوع من أنواع البيع، ينعقد بما ينعقد به، وبلفظ السلم والسلف. وقد أقرّ الكتاب والسُّنة والإجماع مشروعيتَه. ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬2). شهد ابن عباس أنها نزلت في السَّلَم يعني بيع الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجل. وقد كان السَّلَم من معاملات أهل المدينة، أذن فيه الشارع وإن اعتبر الأصوليون السبب الخاص لا يخصص العموم (¬3). ودليل مشروعية السَّلَم من السُّنة قوله - صلى الله عليه وسلم - من رواية ابن عباس: "من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل ¬

_ (¬1) د/ نزيه كمال حماد. معجم المصطلحات الاقتصادية: 193. (¬2) سورة البقرة، الآية: 282. (¬3) التحرير والتنوير: 3/ 99.

المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان

معلوم" (¬1). وهذا هو الأصل والقاعدة التي اعتمدها الفقهاء. وأما الإجماع فهو ما حكاه ابن المنذر من قوله: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السَّلَم جائز. وفي هذا ترخيص من الشارع وإذن منه بجواز السَّلَم. قال الإمام الأكبر: وقد وجدنا من الضرورات ضرورات عامة مطردة كانت سبب تشريع عام في أنواع من التشريعات مستثناة من أصول كان شأنها المنع مثل السلم والمغارسة والمساقاة. فهذه مشروعة باطراد. وكان ما تشتمل عليه من أضرار وتوقع ضياع المال مقتضياً منعها، لولا أن حاجات الأمة إليها داعية. فدخلت في قسم الحاجي (¬2). وفي هذا التشريع حكمة بالغة جرت على لسان الشيخ ابن عاشور في تفسيره عند قوله: التداين من أعظم أسباب رواج المعاملات، لأن المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال، فيضطر إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأن المترفّه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبَلٌ به بعد حين. فإذا لم يتداين اختلّ نظام ماله. فشرع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنّوا أن تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كله. وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمل له. وهو التوثق له بالكتابة والإشهاد (¬3). المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان: هذا النوع من المعاملات مثّل له الإمام بالمساقاة والمغارسة ¬

_ (¬1) كتاب 35، باب السَّلَم. خَ: 3/ 44. (¬2) المقاصد: 356، 357. (¬3) التحرير والتنوير: 3/ 98.

المضاربة

والقراض والجعل والمزارعة. وهذه معاملات مما يراد تكثيره لتأكد الحاجة إليه. وفرّق بين هذه المعاملات صاحب المقاصد وبيّن أنها مما يدخله الغبن والغرر، وهو مغتفر فيها بخلاف المعاملات المالية، فإنها لا يدخلها شيء من ذلك الغرر على أيّ طرف من أطراف العقد. وإنما جاز العقد على عمل الأبدان لصعوبة انضباط مقادير العمل المتعاقد عليه فيه، وتعسر معرفة ما ينجر للعامل من الربح، وما يحصل لصاحب المال فيها من إنتاج. ومن حِكمة الشريعة في إلغاء اعتبار الغرر والضرر في هذه العقود الخوف من بقاء أهل العمل عاطلين. وهذا أشد عليهم مما يلحقهم من الخيبة في بعض الصور والأحوال. وقد دلّ على مشروعية هذه الأعمال البدنية عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود في إعطائهم نخل خيبر للعمل فيه مقابل نصف الثمرة من محصولها. وكذلك ما فعله الأنصار مع المهاجرين حين سلَّموا إليهم حوائطهم للعمل بها. وخشية الإطالة في شرح هذه المسألة نقف عند أنواع أربعة من المعاملات المشار إليها آنفاً هي: المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، والمغارسة. المضاربة: المضاربة عند أهل العراق هي القراض في بلاد الحجاز. والتسمية الأولى مستمدة من الضرب في الأرض. قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (¬1)، ومن قوله - عز وجل -: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 101.

مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬1). والتسمية الثانية مأخوذة من اصطلاح أهل المدينة. وذلك قول الصحابة لعمر بن الخطاب في قصّته مع ابنيه: لو جعلته قراضاً. والقراض لم يرد التنصيص عليه في الكتاب ولا في السَّنة. وهو مأخوذ من الإجماع الذي لا خلاف فيه لأحد من أهل العلم. وكان في الجاهلية فأقرّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام (¬2). ونصّ على الاستعمالين وفرّق بينهما في أصل التشريع ابنُ عبد البر. قال: أصل هذا الباب إجماع العلماء - يريد القراض - وقال: المضاربة سُنة معمول بها. وروي عن عمر وعائشة وابن مسعود وابن عمر أنهم كانوا يقولون: اتجروا في أموال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة. وكانوا يضاربون بأموال اليتامى (¬3). وهي عبارة عن شركة فيها المَغْنَمُ والمَغْرَمُ لطرفي المضاربة، وأن الكسب فيها ثابت لهما مهما قلّ أو كثر. وحَدُّ شركة المضاربة أو المقارضة دفع معلوم لمن يتّجر به بجزء معلوم مشاع من ربحه كالنصف والثلث والربع والسدس (¬4). وفي المجلة هي نوع شركة على أن رأس المال من طرف، والسعيَ والعملَ من الطرف الآخر (¬5). والمضاربة عند الفقهاء نوعان: مطلقة، ومقيّدة. أما المطلقة فهي التي لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولا نوع تجارة ولا بتعيين بائع ولا مشتر. وأما المقيّدة فهي التي تقيّدت بواحد من هذه الصفات. ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية: 20. (¬2) ابن عبد البر. الاستذكار: 21/ 119 - 120/ ف 30707 - 30709. (¬3) ابن عبد البر. الاستذكار: 21/ 121/ ف 30711، 30712. (¬4) الروض المربع: 297؛ كشاف القناع: 3/ 507. (¬5) المجلة العدلية: م. 1404.

وهي مما اتفق عليه الفقهاء في الجملة. والخلاف في تفاصيلها (¬1). والمقصد الشرعي كقصد تشريع عقود المشاركة كلها، منه أصلي وتابع. أما القصد الأصلي فهو تحصيل المال الحلال الطيب، أو تنمية الموجود منه في أيدي ملاكه بالعمل ممن لا يجده، أو لا يجد القدر الكافي منه لمباشرة التجارات الواسعة والمكاسب العظيمة، مع قدرته على العمل ومعرفته بوسائل استخراج المكاسب وتنمية الثروات. ومن مقاصد المشاركة التابعة: (1) إشاعة تداول الأموال بين الناس وتكثير عدد المستفيدين منها من أفراد الأمة حتى لا تبقى دُولَةً بين عدد قليل من الناس، لا يُحسن التصرّف فيها أو لا تستوعب قدراته وطاقات الفردية تشغيلها. (2) تشغيل أكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة ذات القوة البدنية والمهارة والخبرة مما يكون سبباً لزيادة الإنفاق، وتكثير المكاسب وتوفير السلع في الأسواق بأسعار رخيصة تكون في متناول الطالبين والمستهلكين. (3) تشغيل العاطلين، وتنمية أموال المالكين، وعموم النفع لأفراد المجتمع وفئاته المختلفة. (4) مظهر من مظاهر التعاون على البر والتقوى تتوثق به عرى الأخوة والتضامن والتكامل بين كل طبقات المجتمع وعناصره (¬2). ¬

_ (¬1) د/ نزيه كمال حماد. معجم المصطلحات الاقتصادية: 253 - 272؛ د/ عثمان المرشد. المقاصد من أحكام الشارع. القسم الأول، الجزء الثاني: 304. (¬2) د/ عثمان المرشد. المقاصد من أحكام الشارع. القسم الأول، الجزء الثاني: 501 - 506.

وفي ذيل هذا التعريف بالمضاربة وبيان المقصد الشرعي منها ومن بقية عقود المشاركات، لا يفوتنا أن ننبه إلى نوع آخر من المضاربة، يتأكد التحذير منه، وهو معروف وجارٍ في الاقتصاد الغربي. وهو يشبه ما كان يعرف في العصر الجاهلي بالقرض الإنتاجي الربوي. وهو يقوم أساساً على تحديد الفائدة الربوية، للمبلغ المقترض، كما يحدّد الزمن الذي يستغرقه القرض كأن يكون 10 % سنوياً من رأس المال، مهما كانت نتائج القرض من كسبٍ كثير أو قليل أو من خسارة. وقد أبطله الإسلام لما فيه من تضارب مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومناقَضة لها. وأضاف د/ علي السالوس في تفريقه بين شركة المضاربة والقرض الإنتاجي الربوي أنّ العلاقة بين صاحب القرض وآخِذِه ليست من باب الشركة. فصاحب القرض له مبلغ معين محدّد، ولا شأن له بعمل من أخذ القرض، والمقترض يستثمر ما أخذ من مال لنفسه فقط باعتباره مالكاً لذلك المال. وهو ملتزم برد مثله مع الزيادة الربوية عند حلول أجل الوفاء بذلك الدين. فإن كسب كثيراً فلنفسه، وإن خسر تحمَّلَ وحده الخسارة (¬1). والمضاربة في الاقتصاد المعاصر عبارة عن عمليات بيع وشراء تنتقل معها العقود والأوراق المالية من يد ليد، دون أن يكون في نية البائع أو المشتري تسليمُ أو تسلمُ موضوع العقد المتفق عليه. وإنما غاية كل طرف من الطرفين ربِ المال والمضاربِ أو العامل الاستفادة من فرق السعر بين ما اشتراه بالأمس وما باعه اليوم، وبين ما يشتريه اليوم ويبيعه غداً. وهكذا تدور الصفقة عدَّة دَورات بين الطرفين إلى ¬

_ (¬1) الاقتصاد الإسلامي: 1/ 134 - 136.

المساقاة

أن تنتهي إلى آخر مشتر يتسلم الموضوع محل الصفقة (¬1). وقد اهتزت لمخاطر هذا النوع من التعامل أسواق كثيرة في العالم، وزلزلت هذه المضاربات، من نحو عشر سنوات أو أكثر، كيان اقتصاد دول النمور الآسيوية في جنوب شرقي آسية. المساقاة: المساقاة كذا في لغة أهل الحجاز، وهي المعاملة عند أهل العراق (¬2). وهي في اللغة: مفاعلَة من السقي، بأن يقوم شخص على سقي النخيل والكروم ومصلحتهما. ويكون له من ريع ذلك جزء معلوم (¬3). وهي في الاصطلاح الشرعي: معاقدة دفع الشجر والكروم إلى من يصلحه بجزء معلوم من ثمره (¬4). ولها تعريفات أخرى منها أنها نوع شركة، على أن يكون الشجر من واحد وتربيته من آخر، ويقسم ما يحصل من الثمرة بينهما (¬5). ومنها أنها دفع شجر مغروس معلوم ذي ثمر مأكول لمن يعمل عليه، بجزء شائع معلوم من ثمره (¬6). ¬

_ (¬1) د/ عبد الهادي النجار: 119. (¬2) د/ وهبة الزحيلي. الفقه الإسلامي وأدلته: 5/ 630. (¬3) ابن فارس: مادة ع م ل. (¬4) الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 284؛ الكاساني. بدائع الصنائع: 6/ 185؛ الحصكفي. الدر المختار: 5/ 200؛ اللباب: 2/ 233؛ ابن جزي: 279؛ مغني المحتاج: 2/ 322؛ كشاف القناع: 3/ 502. (¬5) المجلة العدلية: م. 1441. (¬6) علي فرهود أحمد. مجلة الأحكام الشرعية. المادة 1947.

ومنها كذلك أن يدفع الرجل كرمه أو حائط نخله أو شجر تينه أو زيتونه أو سائر مثمر شجره لمن يكفيه القيام بما يحتاج إليه من السقي والعمل مقابل أن ما أطعم الله من ثمرها يكون بينهما نصفين، أو للعامل جزء معلوم من الثمرة. وهذه رخصة مستثناة من كراء الأرض بما يخرج منها، ومن بيع الثمرة والإجارة بها، ومن الإجارة المجهولة، ومن بيع الغرر (¬1). ومحلّ المساقاة عند الحنفية: الشجر المثمر كالنخل والشجر والكروم والرطاب وأصول الباذنجان. وجوازها للحاجة وهي تعمُّ الجميع. وزاد المتأخرون من أهل المذهب من مواضعها الشجر غير المثمر كشجر الجوز والصفصاف والشجر المتخذ للحطب إذا كان يحتاج إلى السقي والحفظ، وإلا لم تجز المساقاة فيه. وتقع عند المالكية على الزروع ما عدا البقول، وعلى الأشجار المثمرة ذات الأصول الثابتة ككرم العنب والنخيل والتفاح بشروط. ورجح الشيخ ابن عاشور جريانها في الزرع كما في الشجر إذا كان الزرع يحتاج إلى العمل (¬2). وتَرِد عند الحنابلة على الأشجار المثمرة المأكولة فقط. فلا تصح في غير المثمر منها كالصفصاف والجوز، والعفص والورد ونحوها. وذهب الشافعي في الجديد إلى أن مورد المساقاة محصور في النخل والعنب لا غير. وللمساقاة الصحيحة أحكام تختلف بين المذاهب. ¬

_ (¬1) التسولي. شرح التحفة: 2/ 189. (¬2) المقاصد: 494.

فعند الحنفية لها خمسة أحكام. هي: (1) أن كل ما كان من أعمال المساقاة مرتبطاً بالشجر ونحوه كالسقي وإصلاح النهر، والحفظ والتلقيح مما هو من توابع المعقود عليه فهو على العامل. وأن كل ما تدعو إليه الحاجة من مصاريف على المساقاة كالسِّرقين وتقليب الأرض، والجذاذ والقطاف فعلى المتعاقدين كليهما. (2) أن الخارج عن المساقاة يكون للطرفين على الشرط المتفق عليه. فإن لم يخرج الشجر شيئاً فلا شيء لواحد منهما على الآخر. (3) أن العقد لازم للجانبين، ولصاحب الأرض إجبار العامل على العمل إلا لعذر. (4) أنّ الزيادة على الشرط والحطّ فيه جائزة كما في المزارعة. وتكون الزيادة من الطرفين، ولا تجوز من صاحب الأرض للعامل ولا زيادة صاحب الأرض. (5) ليس للعامل مساقاة غيره إلا بتفويض من صاحب الأرض. فإن خالف العامل بأن عامل غيره على زرع الشجر كانت الثمرة لصاحب الشجر، ولا شيء للعامل الأول، وللثاني أجر مثل عمله على العامل الأول. وأحكام المساقاة عند المالكية تتفق في الغالب مع ما عند الحنفية. وعمل المساقي فيما لا تعلّق له بالثمرة لا يجوز اشتراطه عليه، ولا يَلزم العقدُ العاملَ به إلا فيما لا بال له كَشدِّ الحظيرة وإصلاح الضفيرة. وتفسد المساقاة في شجر لا ينقطع إثماره في وقت من السنة كشجر الموز والقضب. وإذا كان الشجر مما يخلف لم تصحّ مساقاته

حيث كان لا ينقطع. أما ما يخلف مع كونه يقطع كالسدر فيصحّ (¬1). وتعتمد المساقاة أيضاً فيما تطول مدة إثماره لصغره كالمساقاة على ودي النخل ونشء شجر الزيتون (¬2). أما ما يتعلق بالثمرة فما كان مما يبقى بعدها كحفر البئر، وإقامة الساقية وبناء محل للتخزين وغرس للشجر فهو مما لا يقتضيه العقد فلا يُلزَمُ به ولا يجوز أن يُشترطَ عليه. وأما ما يتعلق بالثمرة وما يبقى بعدها فهو على العامل بمقتضى العقد. وذلك كالتقليم والجذاذ والسقي. وعليه جميع المؤن من الآلات والأسمدة والأجراء ونفقتهم من كل ما يلزم الشجر عُرفاً. وحق العامل جزء من الثمرة حسبما يقع الاتفاق عليه بين الطرفين، ويجوز أن تكون كلها له. وإذا لم يثمر الشجر فلا شيء لأحد المتعاقدين. وأما الشافعية والحنابلة فهما يتفقان مع المالكية في تحديد الملزَم بالعمل، وفي حق العمل. ويقولون في ذلك: كل ما يتكرر كل عام فهو على العامل وما لا فعلى رب المال (¬3). وعلى العامل ما يحتاج إليه لصلاح الثمر ونمائه، مما يتكرر كل سنة في العمل ولا يقصد به حفظ الأصل. وأما ما يقصد به حفظ الأصل أي الشجر ولا يتكرر كل سنة فهو على المالك. واختلف قولهم في الجِذاذ فهو على العامل في المذهبين وعند الحنابلة. وهو على المالك والعامل معاً بقدر نصيبهما عند الحنفية. ¬

_ (¬1) الزرقاني. شرح خليل: 6/ 236. (¬2) المقاصد: 500. (¬3) مغني المحتاج: 2/ 228؛ المُهذب: 1/ 392؛ ابن قدامة. المغني: 5/ 369؛ كشاف القناع: 3/ 518، 521.

والمساقاة عقد لازم من الجانبين كالإجارة عند الجمهور من الشافعية والحنفية والمالكية. وغير لازم عند الحنابلة. وإن هرب العامل عند هؤلاء، فلرب المال الفسخ لكون المساقاة عندهم عقداً جائزاً غير لازم. وذهب الجمهور ممن يقول بلزوم العقد: لو هرب العامل قبل الفراغ من العمل، وأتمّه المالك متبرّعاً بالعمل بقي استحقاق العامل كتبرع الأجنبي بأداء الدين، ولو لم يتبرّع المالك بالعمل استأجر الحاكمُ بعد رفع الأمر إليه على العامل من يتم العمل من مال العامل. فإن عجز المالك عن مراجعة الحاكم أشهد المالك على العمل بنفسه، أو على الاتفاق إن أراد الرجوع بما يعمله أو ينفقه. ذلك أن الشهادة حالّ قيام العذر كالحكم، ويلزمه التصريح في الإشهاد بحق الرجوع على العامل. ولم يجز أبو حنيفة وزفر المساقاة لأنها من قبيل الاستئجار ببعض الخارج من الأرض وهو منهي عنه. وقال بمشروعية المساقاة أبو يوسف ومحمد صاحبا الإمام أبي حنيفة، وجمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد استدلالاً بمعاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر. وفي هذا قوله ليهود خيبر: أقرّكم فيها ما أقرّكم الله - عز وجل - على أن الثمر بيننا وبينكم. وفي رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر دعا اليهود فقال: نعطيكم على أن تعملوها. أقرّكم ما أقرّكم الله (¬1). وقد جرى على هذا الصحابة، لعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة الراشدين وأهل المدينة، ولإجماع الصحابة عليه (¬2). ¬

_ (¬1) ابن عبد البر. الاستذكار: 21/ 195 - 196/ ف 31007. (¬2) ابن قدامة. المغني: 5/ 384؛ تكملة فتح القدير: 8/ 45؛ مغني المحتاج: 2/ 322.

المزارعة

والحكمة من تشريع المساقاة سدّ حاجة الناس الكبيرة إليها؛ وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك عند الحديث عن حكمة تشريع المشاركة والشركات. المزارعة: المزارعة هي عقد على الزرع ببعض الخارج. وفيها الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه. وهي لا تصح إلا بشروط هي صلاحية الأرض، وأهلية المتعاقدين، وبيان المدة، ورب البذر، وجنسه، وحظ الآخر، والتخلية بين الأرض والعامل، والشركة في الخارج. وصور المزارعة ثلاثة: • أن تكون الأرض والبذر لواحد، والعمل والباقي لآخر. • أو تكون الأرض لواحد والباقي لآخر. • أو يكون العمل لواحد والباقي لآخر. وأجازت المالكية المزارعة بشرطين عند ابن القاسم: الأول السلامة من كراء الأرض بما تنبت، والثاني: تكافؤ الشريكين فيما يخرجان. ومنها أوجه أخرى ذكرها ابن جزي (¬1). ومن أحكام المزارعة أنه لا يشترط على العامل حرث أرض المزارعة عند تسليمها إلى صاحبها مقابل أنه سلمه إياها محترثة، لما في ذلك من الإلجاء (¬2). ¬

_ (¬1) القوانين الفقهية: 285. (¬2) المقاصد: 496.

المغارسة

المغارسة: عقد على تعمير أرض بشجر بقدر معلوم كالإجارة والجعالة، أو بجزء من الأصل. وهي جائزة لازمة بالعقد على الراجح. قال بها المالكية وأهملها الحنفية والشافعية (¬1). وأتبع المؤلف حديثه عن المغارسة بذكر جملة من أحكامها. كترجيحه ما جرى عليه العمل بالأندلس من إعطاء أرض الحبس مغارسة. وهو ما أفتى به أبو زيد عبد الرحمن الفاسي كما في نوازل الزياني. وقول صاحب المعيار: المغارسة في أرض الحبس ماضية (¬2). ولا يجوز أن يشترط على عاملها تكسير الأرض الشعراء وهي الروضة الكثيرة الشجر. ولا جعل جدار للأرض المغترسة. وجاز تأجيل خدمة المغارسة إلى مدة تبلغها الأشجار أو مدة الإثمار. ولا يجوز أن يكون التأجيل إلى مدة تتجاوز إبان الإثمار. وإن ذلك لموجب من موجبات فساد العقد. قال ابن رشد: وأما إن كان الحد فوق الإطعام فلا يجوز (¬3). ومن غرر مسائل الفقه المالكي أن لعامل المغارسة أن يبيع حقه في العمل لآخر يقوم مقامه (¬4). ويلحق تلقيح جَبُّوز الزيتون بالمغارسة ولا يجري مجرى المساقاة (¬5). ¬

_ (¬1) التسولي. البهجة. 2/ 196؛ ابن رشد. المقدمات: 2/ 236، 237. (¬2) الونشريسي: 7/ 436، 8/ 171. (¬3) المقدمات: 2/ 283. (¬4) البهجة: 2/ 199. (¬5) المقاصد: 500.

وفرق الشيخ ابن عاشور بين ذكر هذه الأنواع الثلاثة من عمل الأبدان: المساقاة، والمزارعة، والمغارسة، وبيّن ما توصل إلى ضبطه من مقاصدَ شرعيةٍ وآداب تعاملية تُطلب من ورائها، وذلك كوجوه الرفق بالعمال، وعدم استعبادهم أو إلحاق الضرر بهم، والتعجيل بدفع مستحقاتهم وتنفيلهم بمنافع زائدة على ما يقتضيه العمل (¬1). ومما سبق نخلص إلى أن مقاصد الشريعة في التصرّفات المالية خمسة هي: الرواج، والوضوح، والحفظ، والثبات، والعدل، كما تقدم وكما ذكره الشيخ - رحمه الله - (¬2). ولا يسعنا بعد استعراض هذه النماذج من العقود المختلفة من عقود التمليك وعقود التبرع، وعقود التوثق وعقود المشاركة أو عقود الأبدان، وبعد الحرص على بيان المقصد الشرعي أو الحكمة من تشريعها، كما هو الشأن في سائر العقود، إلا أن ننبه إلى أن الأئمة من الفقهاء المبرّزين بذلوا في كل العصور من الجهود ما استقامت عليه هذه الشريعة من أحكام وضوابط وعلل وأقيسة بغية التوصل إلى الوفاء بالغرض منها. وما ذلك إلا بالرجوع إلى الكتاب والسُّنة، وفهمهما فهماً صحيحاً، والاستنباط منهما، والاعتماد على إجماع علماء الأمة، وما قاموا به من ضروب القياسات لعلاج ما يعرض لهم مع تطورات الزمان، وما يقتضيه ذلك أو يتطلبه من دراسة للمستجدات، وبيان لحكم الشارع فيها باستخدام ما بين أيديهم من آلات النظر والبحث والاستنباط والاستنتاج والوقوف على ما هو من مقاصد الشريعة مما أُمرنا فيه بجعل مناهجنا في تصورها وتحديدها ¬

_ (¬1) المقاصد: 492 - 500. (¬2) المقاصد: 467 - 470.

وفق ما جاءت به المصادر الأساسية للاجتهاد، وما يتبع ذلك من استحسان واستصلاح ونحوه، وبيان أنواع الدلالات والتفريق بين العموم والخصوص، والاستثناء والشرط والفرق بينهما، ومراعاة القواعد الأصولية والفقهية العامة. فإن ذلك كله وقاية من المخاطر والمزالق، تحمي السلوك الإنساني من الاضطراب، ومن مخالفته لقوانين العقل وأحكام الشرع التي لم يَرِد بها الحكماء ولا رجال الشريعة إلا لأجل حمل الناس على الجادة والاستقامة ما عاشوا. وذلك هو المطلب الثاني بعد الإيمان. يدل عليه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن منهج الإسلام: "قل آمنت بالله ثم استقم" (¬1). وقد تفطن لهذه الحقيقة العالمان الجليلان محمد الخضر حسين ومحمد الطاهر ابن عاشور. فقال الأول في محاضرة ألقاها بعنوان مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها إن المقصد من وضع قوانين المعاملات والجنايات تمكين الناس من حقوقهم التي تهوى إليها أفئدتهم، ووقايتُهم مما يدخل على قلوبهم من الآثار المؤلمة. وليس كل ما فيه ألم يستحق أن يدفع، ولا كل ما فيه لذة هو أهل لأن يجلب. فقد يتجرّع الشخص مشقة تعود عليه بسعادة، ويلتذ براحة تلقي به في التهلكة، كالمريض تلذ له بعض الأطعمة تسوق له منيتَه، ويشمئز ذوقه من بعضها وفيها غنيمة شفائه (¬2). وتعرّض الشيخ ابن عاشور لكلام الشاطبي في المسألة الثانية عشرة من كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية (¬3) قائلاً: "إن الأعمال كلها ¬

_ (¬1) مَ: 1/ 65؛ حَم: 3/ 413. (¬2) محمد الخضر حسين. مدارك الشريعة الإسلامية: 10. (¬3) المقاصد: 320 - 321.

تحريم المعاملات الربوية كلها

منوطة بأسباب، وما جعلت الأسباب إلّا لاشتمالها على الحكم والمصالح. فيكون في إلغائها تفريغها من حكمة التشريع التي عني بها الشارع وهذا أول الطريق في خرق الأحكام والاختلاف بها عن المنهج الشرعي الموثوق به". تحريم المعاملات الربوية كلها: إذا كان الشرع بحكمته قد أحلّ ما أحلّ من بيوعات ومعاملات كثيرة، وسمحَ ببعض ما كان أصله المنع رفعاً للمشقة ودفعاً للضرورة، فأباحه وأبطل ما سوى ذلك من أنواع التصرّفات المالية والمداينات القائمة على الأثرة والظلم والاستغلال، أو المجافية لروح الشريعة، ولما تقتضيه الحكمة النظرية العقلية السليمة. فقد صدع القرآن بالحق والعدل، وجاء بالحكم الفصل في هذه المعاملات، وبالتحذير والوعيد لمن يخالف أمر الله فيها {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). والربا: مطلق الزيادة. وفي اصطلاح الفقهاء: الزيادة المشروطة في أموال مخصوصة، في عقود مخصوصة، وفي حالات مخصوصة. وهو سبب في انقطاع المعروف بين الناس لتعطيل القروض. وبتحريم الربا تطيب النفوس بقرض الدراهم للمحتاج واسترجاع مثلها من غير زيادة ابتغاء للأجر من الله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 275.

وقد جاءت أحاديث كثيرة في تحريم الربا، منها: (1) حديث أبي سعيد الخدري: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمِثل يداً بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي في ذلك سواء" (¬1). (2) حديث عبادة بن الصامت: "الذهب بالذهب تِبرُها وعَينُها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبُر بالبر مُدْيٌ بمُدْي، والشعير بالشعير مُدي بمُدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مُدْي بمُدْي. فمن زاد أو ازداد فقد أربى. ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البُر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا" (¬2). (3) سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التفاضل في بيع الطعام صاعين بصاع ربا. وقال لبلال: "أوّه أوّه، عين الربا، عين الربا! لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبع ببيع آخر ثم اشترِ به" (¬3). (4) ومثل هذا الحديث ما أثبتناه من رواية أبي هريرة من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أخذ الصاع بالصاعين من الجمع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتعْ بالدراهم جنيباً" (¬4). (5) حديث عائشة. قالت: لما أُنزلت هذه الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن هديه تحريم التجارة في الخمر (¬5). ¬

_ (¬1) الكتاب 22، الباب 15، ح 820، مَ: 2/ 1211. (¬2) 17 كتاب البيوع والإجارات، 12 باب الطرف. دَ: 3/ 643، عدد 3349. (¬3) خَ: 3/ 64 - 65. (¬4) انظر المقاصد: 479، 480. (¬5) خَ: 1/ 112.

(6) حديث مالك. إن امرأة قالت: وفدت من المدينة إلى الكوفة فلقيت عائشة فأخبرتها أنها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم إن زيداً باع الجارية فاشترتها المرأة منه بستمائة نقداً. فقالت لها عائشة: بئسما شريت وما اشتريت. أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب. قالت: فقلت لها: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ قالت عائشة: نعم فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية (¬1). وقد اعتمد الفقهاء على الآية وعلى هذه الآحاديث فأثبتوا أن الربا ثلاثة أنواع في اصطلاح الشرع: (1) ربا الجاهلية. وهو الزيادة على الدين لأجل التأخير. (2) ربا الفضل. وهو الزيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف الستة المذكورة. (3) ربا النسيئة. وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخراً. (4) وأضافت المالكية: ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا. وهو المعروف ببيوع الآجال. (5) وأضاف ابن العربي نوعاً خامساً يشمل كل بيع فاسد. قال الإمام الأكبر معقباً على هذه الأنواع الربوية المأخوذة من السُّنة: إن أظهر المذاهب في هذا هو مذهب ابن عباس، وإن أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة: "إنما الربا في النسيئة" (¬2) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 275. أخرج هذا الأثر عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عائشة. السيوطي. الدر المنثور: 2/ 105. (¬2) 34 كتاب البيوع، 79 باب بيع الدينار بالدينار. خَ: 3/ 31.

ليجمع بين الحديثين. وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعبادة دليل على ما قلناه. وإن ما رعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى التعامل بالربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن، وما عداه إغراق في الاحتياط. وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في الموطأ وغيره أن انتفاء التهمة لا يبطل العقد (¬1). ولا تمسك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأن المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية. فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع. وربا الجاهلية المحرّم لذاته لا يباح إلا للضرورة التي تبيح أكل الميتة. وقال ابن عرفة: إن ما يحرم به فضل القدر والنَّساء هو عوض متحدي جنس الذهب أو الفضة، وربوي الطعام، وإن ما يحرم فيه النَّساء فقط هو عوض اختلف في جنسه، أو الذهب والفضة. وباتخاذ العوضين في درجة الطيب من الطعام تحصل المماثلة، فلا يجوز بيع فريك الحنطة بيابسها، ولا السمن بالزبد متماثلاً ولا متفاضلاً (¬2). واعتقادي أنه لا يجوز التصرّف بسرعة وارتجال في إلحاق عدد كبير من المبادلات المالية بما تقرَّر حظرُه ومنعُه. فإن للفقهاء في بعض هذه المعاملات توقفاً أو خلافاً. فما كان من العقود لا ينطبق عليه النهي الوارد من الشارع دخل باتفاق في دائرة المعاملات المشروعة، وما اختلفت فيه وجهة النظر من حيث شمول النهي أو عدم شموله كان موضع اختلافهم. فمن أدخل هذا النوع من التبادل ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 2/ 88 - 89. (¬2) الرصاع. شرح حدود ابن عرفة: 1/ 335 - 336.

المالي، ضمن دائرة النهي، أي في عموم النهي قال بحظر التعامل به لحرمته. فنهيُ الشارع عنه موجِبٌ لحُرمَته، فينبغي تركه والخروج عنه وهو معدود في العقود المحرّمة. والمقصد الشرعي من تحريم الربا وحكمتُه منع الظلم، والحثُّ على العمل ليكون سبيلاً للتكسّب وتدريباً للنفوس على البرّ والمعروف والصدقة والقرض الحسن والتعاون على الخير. ويؤكد هذه المعاني قوله - عز وجل -: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (¬1). وذهب ابن القيم إلى أن تحريم هذا النوع من الربا دفعٌ لما يربو على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر. وقد قابل الله - عز وجل -، كما في الآية الأولى، بين حِلِّ البيع وحرمة الربا فتوعد طائفة ووعد أخرى قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬2). ومن وعده سبحانه للمنفقين في سبيل الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). وقد حدَث في عصرنا كثير من التصرّفات المالية استوجبت النظر والتعليل وبيان حكم الشارع فيها. وهذه كثيرة كتلك التي تقوم بها البنوك التجارية مثل الفائدة والودائع والقروض وفتح الاعتماد ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 39. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 130 - 131. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 133، 134.

العقود المنهي عنها

وخطابات الضمان والأعمال المصرفية الاستثمارية ونحوها. وكلها مما عرض على المجامع الفقهية لاتخاذ القرار بشأنه. العقود المنهي عنها: يمكن اختصار القول في هذه العقود بردّها إلى أربعة أنواع من التصرّفات المالية ترمز عناوينها إلى حقائقها، وتدل على أسباب منعها والنهي عنها. فمن ذلك: • أولاً: البيوع الممنوعة بسبب عدم أهلية العاقد. • ثانياً: البيوع الممنوعة بسبب الصيغة. • ثالثاً: البيوع الممنوعة بسبب محل العقد. • رابعاً: البيوع الممنوعة بسبب وصف أو شرط أو نهي شرعي. ومما يذكر من بين هذه البيوعات الممنوعة صور منها: بيع حاضرٍ لبادٍ ممن لا يعرف الأسعار، ومن كل وارد على مكان وإن كان من مدينة: حُكمه: الحرمة. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (¬1). والقصد من هذا الحكم الرفق بأهل البلد، ومنع الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم في الرخص، وقطع الموارد عنهم. وللفقهاء تخصيصات لعموم هذا النهي. قالت الحنفية بالمنع (كراهة التحريم) خاص بزمن الغلاء، وبما يحتاج إليه أهل المصر. واعتبرت الشافعية والحنابلة المنع منوطاً بالبادي ومن شاركه في معناه، وهو عدم معرفة السعر. وجعلت المالكية البداوة قيداً لهذا الحكم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. نيل الأوطار: 5/ 164.

تلقي الركبان

وهذا البيع يقع فاسداً ويجوز بقيمته كالنجس عند المالكية، وهو صحيح عند الحنفية، وذهبت الشافعية والحنابلة إلى القول بالخيار. تلقي الركبان (¬1): التلقّي حرام، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تَلقَّوا الجلب. فمن تلقّاه فاشترى منه فإذا أتى صاحبُه السوقَ فهو بالخيار" (¬2). وكرهته الحنفية كراهة للضرر أو الغرر، فإذا انتفيا فلا بأس ولا يكره. وبذلك صرح المرغيناني، والكاساني، والزيلعي، والحصكفي وآخرون (¬3). وفي الحديث عن ابن عباس: "لا تَلقَّوا الركبان، لا يبع حاضر لباد". اختلف الفقهاء في هذا النهي. فاعتبر قوم التلقّي جائزاً ومنعه آخرون. قال ابن تيمية: في الخبر دليل على صحة البيع (¬4). والراجح أن هذا البيع وبيع الحاضر للبادي صحيح غير فاسد. وبهذا قالت الحنفية. وفيه خيار الغبن عند الشافعية والحنابلة، ولا يجوز لحقِ أهل الأسواق، ويقع فاسداً عند المالكية. ومما وقع النهي عنه من ذلك بيع السلع حيث تبتاع. فعن ابن عمر أن زيد بن ثابت رآه يفعل ذلك فقال له: "لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث ¬

_ (¬1) تلقي الجَلب أو السلع. (¬2) مَ: 3/ 1157. (¬3) البدائع: 5/ 232؛ الهداية بشرح العناية: 6/ 107؛ تبيين الحقائق: 4/ 281؛ الدر المختار: 4/ 234. (¬4) يوافق تلقي الركبان بيع الحاضر للبادي. وفيه أحاديث كثيرة منها لأبي هريرة وابن عباس وأنس. وفي كلام ابن تيمية إشارة إلى أن المنع مقيد بقيود وشروط شتى. انظر الموسوعة الفقهية: 9/ 83 - 84/ ف 8 - 15.

البيع وقت النداء لصلاة الجمعة

تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" (¬1). البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: ومنع ذلك من الأذان الأول عند الحنفية وقال غيرهم من حين يصعد الإمام المنبر إلى أن تنقضي الصلاة. وحكمه كراهة التحريم عند الحنفية، ويقع صحيحاً. وهو حرام عند الشافعية. ويفسخ في المشهور عند المالكية، ولا يصح أصلاً عند الحنابلة. البيع والشرط وهو ما يسميه الفقهاء بيع الثُّنْيَا وبيع الوفاء: الثنيا في الاصطلاح هي البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن رد المشتري المبيع إليه. وهذا معنى الوفاء، أي الالتزام بالشرط من المشتري. وله أسماء كثيرة: يعرف عند الحنفية ببيع الوفاء، وبيع المعاملة، وعند الشافعية بيع العهدة، وعند الحنابلة بيع الأمانة، وبيع الطاعة وبيع الجائز (¬2). وذهبت المالكية والحنابلة والمتقدّمون من الحنفية والشافعية إلى القول بفساد بيع الوفاء؛ لأن الشرط المذكور في التعريف يخالف مقتضى البيع وحكمه. وهو أن مِلْك المشتري على وجه الاستقرار والدوام، وفيه منفعة للبائع. ولم يرد عن الشارع دليل معين على جوازه. وهكذا يكون الشرط فاسداً، يَفسُدُ البيع باشتراطه. وقالت المالكية: البيع والشرط باطلان. وقالت الحنابلة لا يبطل البيع بشرط واحد فيه منفعة لأحد ¬

_ (¬1) دَ: 3/ 765. (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/ 243 وما بعدها، 260.

المتعاقدين. ويبطل بالشرطين لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فعن عبد الله بن عمرو عن ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك" (¬1). وقال المتأخّرون من الحنفية والشافعية بجواز بيع الوفاء لإفادة هذا البيع بعض أحكامه، وهو انتفاع المشتري بالمبيع دون بعضها وهو البيع من آخر. ودليل الجواز عندهم أن البيع بهذا الشرط قد تعارفَ عليه الناس، وتعاملوا به لحاجتهم إليه، فراراً من الربا. فيكون صحيحاً لا يفسد البيع باشتراطه فيه، وإن كان مخالفاً للقواعد لأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع (¬2). ومما ذهب إليه بعض المتأخرين كأبي شجاع وعلي السعدي والقاضي أبي الحسن الماتريدي: أن بيع الوفاء رهن وليس ببيع، له جميع أحكام الرهن. فلا يملكه المشتري ولا ينتفع به، ولو استأجره لم تلزمه أجرته، كالراهن إذا استأجر المرهون من المرتهن، ويسقط الدين بهلاكه ولا يضمن ما زاد عليه. وإن مات الراهن كان المرتهن أحقَّ به من سائر الغرماء. وحجتهم في ذلك أن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني (¬3). * * * * * ¬

_ (¬1) حَم: 2/ 178 - 179؛ دَ: 3/ 769 - 775؛ تَ: 3/ 535 - 536؛ نَ: 7/ 288؛ جَه: 2/ 737 - 738. (¬2) الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 184؛ ابن نجيم. البحر الرائق: 6/ 8؛ ابن عابدين: 4/ 246 - 247؛ الفتاوى الهندية: 3/ 208 - 209؛ نهاية المحتاج: 3/ 433؛ بغية المسترشدين: 133؛ الإقناع: 3/ 58. (¬3) الموسوعة الفقهية: 9/ 260 - 261/ ف 2، 3.

الفصل السادس: مسائل مختلفة

الفصل السادس: مسائل مختلفة تصرّفات المكلفين وأفعالهم، وما يترتب عليها من تشاريع وأحكام تناط بها أغراض الشارع ومقاصده اختار الإمام الأكبر جملة من التشاريع والأحكام معتمداً في ذلك على المصدرين الأساسيين. ولم يكن دوره في هذا مقصوراً على العناية بالجانب الفقهي وحده، ولكنه عزز نظرته إلى التشاريع والأحكام بإقامتها على المصالح والمقاصد التي تمثل حِكمة التشريع من جهة، وتحرص على خدمة المجتمعات والأفراد بما تجلُبُه لهم تلك الأحكام من مصالح وتدرؤه عنهم من مفاسد. وهذا منهج في النظر والدرس متميز. كانت جهود الشيخ ابن عاشور شاملة في المشاريع والأحكام المشار إليها للجانبين النظري والتطبيقي. فهي تربط بين ما اهتم به من مقاصد الشرع، وما اعتبره في ذلك وسائل لتطبيق تلك النظريات في قضايا الفقه العامة. أثر المقاصد والمصالح في التشاريع والأحكام التي تحكم تصرّفات المكلفين: من البديهي أن تكون أعمال الخلق وتصرّفاتُهم الحرةُ الاختيارية مقتضيةً جزاء، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ولا يكون هذا الجزاء إلا عدلاً؛ لأن الجزء كما هو معلوم من جنس العمل، والغاية من

الجزاء في أي صورة من صوره ترغيبٌ أو ترهيبٌ وتوصلٌ إلى تحقيق المقاصد القريبة والعالية. ولإدراك القضايا الفقهية والأصولية والمقاصد على وجهها لا بد بعد تحققنا من أن للشريعة مقاصد من التشريع، وأن حاجة الفقيه إلى معرفتها كبيرة، من أن نتجه مع المؤلف إلى الخط الذي رسمه للتعريف بطرق إثبات المقاصد الشرعية. فنتبيّن من ذلك ما كان معتمداً لهذا الغرض في الزمن المتقدم عند السلف، وما هو من تلك الطرق أساسي وعلمي يمكن اعتماده من المجتهدين اليوم. ويضطرنا الأمر في هذه الحال إلى الجمع بين المسائل الفروعية التي هي مجالات التطبيق، وبين النظريات الحِكمية للمقاصد التي تعلل بها الأحكام أو توجه بها، لفرط ارتباطها بالمصالح وبالغايات التي أنيطت بها. فطريقة السلف في طلب المقاصد، وإن كان الشيخ ابن عاشور مع ذكره لها لم يعدّها من الطرق لأنه لم يجد حجة لذلك في كل قول من أقوالهم، أو لأن بعضها غير مصرِّح صاحبُه بأنه راعى في كلامه المقصد، وبعضها فيه التصريح أو ما يقاربه لكنه لا يعد بمفرده حجة؛ وقصاراه أن يكون رأياً لصاحبه في فهم مقصد الشريعة (¬1)، يقتضي بحثاً ويتطلّب درساً لما ذكروه في هذا الغرض، فإن أقوالَهم كما بيّن ذلك الإمام الأكبر دالة على أن مقاصد الشريعة على الجملة واجبة الاعتبار، ولأن أقوالهم لما تكاثرت أنبأتنا بأنهم كانوا يتقضَّون بالاستقراء مقاصد الشريعة من التشريع (¬2). وبياناً لذلك ذكر المؤلف أحكام بعض قضايا فروعية، تولّى من خلالها ¬

_ (¬1) المقاصد: 66. (¬2) المقاصد: 66.

جواز كراء الأرض بالخارج منها

بحث المجتهدين التوصل إلى تحديد مقاصدها الشرعية. ومن أمثلة ذلك: (1) النهي عن كراء الأرض. (2) النهي عن التختم بالذهب. (3) حكم الخيار في البيع. (4) مسألة ورود خبر الواحد معارضاً لقاعدة من قواعد الشرع، هل يجوز العمل به؟ ومثال ذلك حكم تصرية الإبل. (5) النهي عن تخمير رأس الميت ووجهه إذا مات مُحرماً، وعدم مسه بطيب، والنهي عن أن يُمس المُحرم بالطيب إذا وقصته ناقته فمات. (6) حكم التبنّي والرضاعة للكبير (¬1). وسار المؤلف في بحث المنهج وعرضه كالتالي: (1) ذكر حكم الفرع الفقهي المنظور فيه. (2) ذكر الدليل الناطق بحكم الفرع. (3) تحديد المقصد الشرعي المفروض التوصل إليه بالدرس أو المقارنة بين صيغ النصوص الواردة فيه وما يلابسها من أحوال. جواز كراء الأرض بالخارج منها: إن دليل الحكم بذلك وردت فيه روايات متعددة ومختلفة. القسم الأول منها يفيد منع كراء الأرض. وهو خمسة أحاديث: (1) حديث جابر بن عبد الله وأبي هريرة ورافع بن خديج أن ¬

_ (¬1) المقاصد: 66 - 78.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانت له أرض فليزْرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه" (¬1). (2) حديث الموطأ: النهي عن المحاقلة. وفسرها مالك بأنها كراء الأرض بالحنطة، واشتراء الزرع بالحنطة. (3) كان ابن عمر يكري الأرض مزارعة حتى خشي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحدث في ذلك شيئاً لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض. (4) حديث رافع بن خديج الذي ورد فيه قوله: كنا أكثر أهل المدينة مزدرعاً، فكنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيدِ الأرض. فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذٍ (¬2). (5) منع الليث كراء الأرض قائلاً: لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه للمخاطرة، وذلك شأن ما كان آيلاً إلى بيع ممنوع، وفي حكمه جمع بين الأدلة. وروت جماعة أحاديثَ في جواز كراءِ الأرض منها: (1) حديث الزهري عن سالم عن رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع. قال الزهري لسالم: أتكريها أنت؟ قال: نعم، إن رافعاً أكثر على نفسه. (2) عن ابن عمر عن رافع قال: كنا نكري مزارعنا على الأَربِعاء وشيء من التبن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المقاصد: 66 - 67. (¬2) المقاصد: 71.

(3) عن رافع عن عمه ظهير بن رافع. قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تصنعون في محاقلكم؟ قال: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير. وممن أجاز هذه المعاملة ابن عباس فيما روي عنه: (4) قال طاوس: روي عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه، ولكنه قال: "لأن يمنح أحدُكم أخاه خيراً من أن يأخذ منه شيئاً معلوماً". فحمل هذا على الترغيب والكمال. (5) روى البخاري في صحيحه حديث رافع بن خديج. ترجم للباب الذي أدرجه فيه بما يفيد عنده فقه الحديث. وذلك قوله: باب ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً. وفي هذا العرض تعليل المنع وذكر وجه الجواز. فالأول كان القصد منه الاحتياط من الوقوع في المخاطرة. وذلك حديث رافع ومقالة الليث. والثاني هو ما حمل على مواساة المسلمين بعضهم لبعض. وهو حديث ابن عباس، وترجمة البخاري للباب كما ذكرنا. * * * * *

الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة

الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة إن الطرق المعتمدة لدى الأئمة والمجتهدين للتعرف على هذه المقاصد وتعيينها، هي بذل الباحث الجهد للتوصل إلى غرضه، واقتفاء أثر كبار العلماء فيما انتهجوه من مناهج وسبقوا إليه من نتائج. وما زال الإمام الأكبر يعيد توجيهه النصح لأولي العلم وطلاب المعرفة، بأن يكون اتخاذهم للقرار بعد طول الدرس والمثافنة، حتى إذا انتظم الدليل على إثبات مقصد شرعي وجبَ على المتجادلين فيه أن يستقبلوا قِبلة الإنصاف، وينبذوا الاحتمالات الضعاف (¬1). وفي هذا الفصل تناول الشيخ ابن عاشور بيان طرق التوصل إلى المقاصد. وهي: ° الطرق الكاشفة عن الحِكم والمقاصد الشرعية من الأحكام. ° وبِمَ يعرف ما هو مقصود الشارع من الأحكام؟ ° وما هي الجهات التي تعرف منها المقاصد؟ أما الصورة الأولى في تحديد الطرق الملمع إليها قبل، فهي استقراء الأدلة من القرآن، ومن السُّنة المتواترة كمصدر لمعرفة تلك ¬

_ (¬1) المقاصد: 55.

الطرق. والاستقراء أوسع المسالك لبلوغ القصد. وقد تقدم لنا التعريف به وبيانه. وهو نوعان: أولهما: استقراء الشريعة وتصرّفاتها من أجل الوقوف على الأحكام المعروفةِ عللُها بطريق مسالك الإيماء. وهذا يتضمن استقراء العلل نفسها. ويحصل من استقراءِ العلل في ذاتها طريق العلم بمقاصد الشريعة بغاية السهولة. والنوع الثاني: هو استقراء أدلّة أحكام اشتركت في علة واحدة وقد تقدّم ذكره، فيحصل بذلك اليقين بأن متحصل العلة مقصد مراد للشارع. وعلى المهيع الذي جرى عليه المصنف في بيان مقاصد الأحكام حصروا أحكام بعض المعاملات المالية في مجموعات ثلاث: أ - أما المجموعة الأولى فمنها: (1) النهي عن بيع التمر بالرطب. وهو المزابنة. (2) النهي عن بيع الجزاف بالمكيل. لعلّة جهالة أحد العوضين، وطريقة معرفته استنباط العلة. (3) إباحة الغبن في القيام بالبيع. ودليله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمن جاء يخبره: إني أُخدع في البيوع. فقال: "إذا بايعت فقل: لا خلابة". وهذه الأمثلة الثلاثة يستخلص منها مقصدٌ واحد هو إبطال الغرر في المعاوضات. ب - أما المجموعة الثانية: فكالنهي عن خطبة المسلم على خطبة أخيه المسلم، والنهي عن السوم على سوم أخيه. وذلك

طرق التعرف إلى المقاصد

للوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مبتغاة. ودليل المنع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه". والقصد من هذا النهي دوام الأخوة بين المسلمين. ج - وأما المجموعة الثالثة فهي التي مثَّل الإمام لها بصور ثلاث: ° النهي عن بيع الطعام قبل قبضه. ° النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة. ° النهي عن الاحتكار. والمقصد من المجموعة الثالثة هو طلب رواج الطعام في الأسواق، وعدم بقاء الطعام في الذمة فيفوت رواجه، وعدم إقلال الطعام في الأسواق. فالمقصد الشرعي في المعاملات رواج الطعام وتيسير تناوله. ويعتبر هذا المقصد أصلاً. وهو يجري في صور من المعاملات. ويكون الإقلال جائزاً في بعض الصور كالتي لا يمكن ترك التبايع فيها، مع كونها من المعاوضات التي لا يخشى معها عدم رواج الطعام. ومثّل لذلك بالشركة والتولية والإقالة في الطعام قبل قبضه، ويمثّل لهذا القصد الشرعي بعتق الرقاب الذي يدل عليه حرص الشريعة على مقصد تحريرها. طرق التعرف إلى المقاصد: إن المنهج المعتمد في طلب العلم بالمقصد الشرعي هو القرآن الكريم وهو المرجع الأصلي اليقيني المتن المحتمل المراد منه. فروايته قطعية لا شك فيها، ويشترط في المتن ألا يكون المراد منه

غير ما هو ظاهره. ويؤكد المصنف على هذا المعنى بذكر القاعدة القاضية بأنه إذا انضمت إلى قطعية المتن قوةُ ظنية الدلالة تسنّى لنا أخذ مقصد شرعي منه، يضعف معه تطرق معنى ثانٍ إليه. والآيات الدالة على ذلك كثيرة: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬1)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2)، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬3)، {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (¬4)، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬5)، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬6). وفي كل آية من الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه على مقصد (¬7). والسُّنة النبوية المتواترة. ولها صورتان. الأولى: المعلوم من الدين بالضرورة. وهو حالان: الأولى ما وصفه الإمام بالتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - له. فإن ذلك ينتهي بهم دون شك إلى الإيقان والعمل به. ويظهر مثل هذا في المعلل الشرعي القريب من المعلوم من الدين بالضرورة مثل الحُبس. والصورة الثانية من التواتر العملي هي أن تتكرر المشاهدة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد الصحابة دون جميعهم. فإن ذلك يحصل منه للصحابي علم بالمقصد الشرعي كالذي حصل للأزرق بن قيس حين ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 205. (¬2) سورة النساء، الآية: 29. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 15. (¬4) سورة المائدة، الآية: 91. (¬5) سورة البقرة، الآية: 185. (¬6) سورة الحج، الآية: 78. (¬7) المقاصد: 62.

شردت ناقته. فانقطع عن صلاته، وذهب في طلبها ثم عاد فأكمل صلاته. وعجب أصحابه من فعله فقال لهم: ما عنّفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكان يرى من تيسير الرسول ما حمله على ما فعل (¬1). وقد ألحق صاحب مقاصد الشريعة هذه الأمثلة في بيان طرق التوصل إلى معرفة المقاصد بمبحثين ذكرهما تيسيراً على الفقهاء وتوجيهاً لهم في طلب هذا المهم: المبحث الأول هو عين المبحث الذي عقده الشاطبي للإجابة عن تساؤل طلاب العلم الشرعي: بم يعرف ما هو مقصود للشارع؟ ونوَّه الشيخ ابن عاشور في هذا المقام بكلام أبي إسحاق قائلاً: إني أرى فيما أتى به الشاطبي في موافقاته ما يعدّ من المهم إثبات خلاصته (¬2). وعلى هذا السنن جرى المصنف معتمداً في تحليله التقسيم العقلي. والمقصد الشرعي أحد ثلاثة: مقصد شرعي غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يعرّفنا به. ويقتضي هذا الحمل على الظاهر مطلقاً. وهو قد يعني في سياق تعريفه مخالفة القائلين به، فالرأي رأي الظاهرية، وهم يحصرون العلم بذلك في المعاني من النصوص والظواهر. والاتجاه الثاني هو رأي الباطنية الذين يدّعون أن المقاصد ¬

_ (¬1) المقاصد: 63 - 64. (¬2) الشاطبي. الموافقات: (3) 2/ 391.

الشرعية ليست في الظواهر ولا فيما يفهم منها، وإنما هي أغراض من وراء ذلك تتناول النصوص والظواهر بالتعطيل عن مدلولاتها ويقولون فيها برأيهم، ويؤوّلونها تآويل مردودة تُناقض الشريعة. والاتجاه الثالث هو القائم على الاعتبارين جميعاً على وجه دقيق وواضح، لا يخلُّ فيه المعنى بالنص ولا العكس؛ لأن الشريعة تسير على نظام واحد لا خلاف فيه ولا تناقض. وهذا هو الرأي الذي أخذ به جمهور الأئمة وأكثر العلماء. والمبحث الثاني الذي ختم به الإمام هذا الفصل هو ذكر الجهات التي تعرف منها المقاصد. وهي ثلاثة أيضاً: إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي الذي يقتضي الأمرُ العملَ به بوقوع الفعل عنده مقصوداً للشارع، وكذا القول في النهي لاقتضائه بمجرد صدوره النفي للفعل أو الكف عنه. الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي كاعتبار النكاح سبيلاً لتحقيق مصلحة النسل، واعتبار البيع طريقاً لبلوغ مصلحة الانتفاع بالمبيع. الثالثة: اختلاف مقاصد الأحكام الشرعية بين أصلية وتابعة لها. فمنها المنصوص عليه، ومنها المشار إليه، ومنها ما وقع استقراؤه من النصوص كما تقدم (¬1). وبهذا يتضح أن النصوص وحدها، كما ذهبت إلى ذلك الظاهرية، صالحة لإفادة ذلك. فما خفي من المقاصد. وإن منها ما لم يدل عليه النص لكنه يحصل بالاستقراء، الاستدلال به على أن ما هذا شأنه يعتبر مقصوداً للشارع (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 64 - 65. (¬2) المقاصد: 65.

دلالات المقاصد

دلالات المقاصد: إن المحور الأساس الذي يدور حوله البحث في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية، هو المقاصد ذاتها. ومن خلال ما وقفنا عليه من استعمالات لكلمة المقاصد رأينا أحياناً ألفاظاً أخرى بإزائها تطلق بمعناها. وهي من قبيل المدلول العام كالكليات فقد أطلقوها على الضروريات وحدها باعتبار وعليها وعلى الحاجيات والتحسينيات باعتبار آخر. وربما أطلقوا الجنسين العاليين: المصلحة والمفسدة بإزائها. وهي بدون شك راجعة إليهما. ومصطلح المقصد مختلف المعاني، باعتبار مدلولها، مواءمةً أو مساوقةً له كالمعاني الحقيقية والمعاني العرفية، والمعاني الاعتبارية، أو مناقضة له غير قابلة للاندماج فيه كالمعاني الوهمية أو التخيلية. فليس شيء من هذين بصالح لأن يعدّ مقصداً شرعياً. وقد تقدم ذكر الشروط الواجب مراعاتها في تعيين المقاصد، وهي: الثبوت والظهور والانضباط والاطِّراد. والمقاصد الشرعية كثيرة ومتعددة بتعدد الأحكام الجزئية التفصيلية، وإن أدلّتها لموذنة بذلك. وتكون كما قدمنا ظاهرة وخفية. فمن المقاصد الشرعية ما شاع الحديث عنه في المجتمع الإسلامي بل المجتمعات الإنسانية لكونه ملاحظاً بالإجماع، مرغوباً فيه من الأفراد والجماعات، مدعو إلى الالتزام به كالحرية والمساواة والأمن والرفق والمواساة. والمقاصد أقسام: منها: ما يرجع أمره إلى الأمة جمعاء، أو ما يقوم عليه نظامها. ومنها: ما يرجع إلى طبيعة الحكم الإسلامي، أو إلى صفة من

الصفات والمعاني تكون أساساً للتشريع الإسلامي وقاعدة للتصرّف بين أفراد الملة كلها. ومنها: مسالك التشريع المتفاوتة بين الحزم والتيسير، وكذلك لزوم الشريعة ونفوذها. ويمكن أن نرد المقاصد جميعها إلى جملة أقسام بياناً لصورها وتفصيلاً لأغراضها: فمنها ما يتصل بنظام العالم والمجتمعات وما تتطلبه من مصالح. وله عدة صور: ° فللقسم الأول أمثلة كثيرة من المقاصد نذكر منها: حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان (¬1). وصلاح العالم المقصود للشارع. وهو منة كبرى يمنُّ الله بها على عباده الصالحين جزاء لهم. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬2). والمقصد الأعظم للشريعة يتجلّى في جلب الصلاح ودرء الفساد (¬3). ومنه حياطة الشريعة المصالح المألوفة المطردة بسياج الحفظ الدائم. وهذا كمصلحة نظام العالم باحترام بقاء النفوس في كل حال، مع الأمر بالصبر على ما يلوح من شدّة الأضرار الراجعة لحياة بعض الأحياء. ومن أهم مقاصد الشريعة في انتظام أمر الأمة صلاح أحوال ¬

_ (¬1) المقاصد: 194. (¬2) سورة النور، الآية: 55. (¬3) المقاصد: 197.

المجموع وانتظام أمر الجامعة فهذا أسمى وأعظم من صلاح حال الأفراد وانتظام أمورهم (¬1). (5) إقرار الشريعة الحرية وكذا المساواة بين الناس مع تقييد لها في مختلف تصرفات الناس بما نبه عليه الشارع. ° والقسم الثاني: راجع إلى دور الحكومة في الإسلام وتطبيق أحكامه. ومن صوره: (1) إقامة الإمام، ومَن يكون المجتمع أو الأمة في حاجة إليه من وزراء وأهل الشورى في الإفتاء والشرطة والحِسبة ونوابِهم ومساعديهم ليتم تنفيذ الأحكام المتعلقة بالحقوق العامة للأمة، والأحكام المتعلقة بالحقوق الخاصة بين أفراد الأمة (¬2). (2) حراسة ولاة الأمور للوازع الديني من الإهمال حتى يكون الامتثال من الناس اختيارياً، وإلا لجأوا إلى استخدام الوازع السلطاني الذي به يكون تنفيذ الوازعين الديني والجِبِلّي (¬3) ° القسم الثالث تابع لما قبله. ويتضح بجلاء في طبيعة التشريع الإسلامي ومقوماته، أصوله وقواعده. ومن أمثلته التي أوردنا قبل: (1) عموم الشريعة ودعوتها جميع البشر إلى اتباعها. فهي خاتمة الشرائع، ويستلزم عمومُها مخاطبةَ المكلفين جميعاً أينما وجدوا في أقطار العالم وحيثما كانوا في أزمانه. وأدلة ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (¬4)، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬5). ولتحقيق ¬

_ (¬1) المقاصد: 390. (¬2) المقاصد: 354. (¬3) المقاصد: 369. (¬4) سورة سبأ، الآية: 28. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 158.

عموم الخطاب الشرعي أقام الله أحكامه على وصف مشترك بين الناس جميعاً استقر في نفوسهم وارتضته العقول السليمة فيهم وهو الفطرة. وقد جعل التماثل في إجراء أحكامه عوناً على حصول الوحدة الاجتماعية في الأمة، كما أرساها على اعتبار الحِكم والعلل التي هي من مدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد. ومما يؤكد عموم الشريعة الكليات الكثيرة الواردة في القرآن، والقواعد العامة التي نجدها في السُّنة، ثم ما انبنت عليه الشريعة من مجملات ومطلقات يتولّى أمرَ بيانها وبيان محاملها أئمة هذا الدين من مجتهدين وفقهاء. وقد أردف المؤلف حديثه عن عموم الشريعة بذكر أمثلة كثيرة غَمرت كتب الأصول والقواعد (¬1). (2) اقتضاء الأوصاف المتقدمة صلوحية الشريعة للناس كافة في كل زمان ومكان. وذكر الكيفيات التي تتحقق بها صلوحيتها الدائمة، كقبول الشريعة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر. وكأن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة، كما أمكن للإسلام تغيير بعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصينيين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما لزموه من قديم أحوالهم الباطلة، أو انسلخوا عنه مما تعارفوه من العوائد المقبولة (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 274 - 278. (¬2) المقاصد: 274 - 275.

(3) قيام مقصد الشريعة على المنزع السوي في إناطة أحكامها مرتّبة على أوصاف ومعانٍ، وقيامها بضبط وتحديد ذلك على وجه يتبيّن به وجود الأوصاف والمعاني التي جاءت الشريعة برعايتها. وقد نصبت لذلك أمارات التشريع بها، والحدود والضوابط الصالحة لأن تكون عوناً للعلماء، تهديهم عند خفاء معاني الأوصاف، أو وقوع التردد فيها (¬1). (4) تحقيق الأحكام الشرعية العدلَ في المجتمع الإنساني والإسلامي. (5) تنويع المقاصد إلى أصلية وتابعة مما يكون من اليسير معه طلب الأحكام. ° القسم الرابع: وهو عبارة عن الأوصاف والمعاني التي ترتبط بها الأحكام. يتضح ذلك فيما اعتمده أكثر الفقهاء من القياس، وسد الذرائع، الخاضعين لملاحظة العلل والأوصاف، التي تترتب عليها الأحكام: (1) فمقصد الشريعة من أحكامها إثبات أجناس الأحكام لأحوال وأوصافٍ وأفعالٍ تنتج صلاحاً ونفعاً، أو فساداً وضراً قويين أو ضعيفين. مما يتأكد التوقف عنده لعلاج ما صدر من أحكام خاطئة في مثل: (أ) إبطال نكاح المرأة من رجل زوّجها وليها منه بمهر، وزوّج هو ذلك الولي امرأة هو وليها بمهر مساوٍ لمهر الأخرى أو غير مساوٍ. فالحكم بالإبطال في هذا مردود لأنه ليس شغاراً بأي معنى من المعاني. ¬

_ (¬1) المقاصد: 343.

(ب) تحريم بعض الفقهاء التدخين بوضع ورقة التبغ في الفم حملاً له على ما يفعله الحشاشون باطل، لمفارقة التبغ للحشيش المخدر. وبهذا فرّق الفقهاء بين الأوصاف. فإن منها ما هو مقصد للتشريع، ومنها ما هو مقارب له لا يتعلق به غرض الشارع وأسموه الأوصاف الطردية (¬1). (2) قابلية الشريعة القياس على أحكام ثابتة. وذلك للاتحاد بين المقيس عليه والمقيس في الوصف أو العلة، وكذلك أجازوا قبول الأحكام المقيسة عليها، عند الشعور بجهات الاتحاد بين مماثلاتها في الأحكام ... وقد أكسب استقراءُ الشريعة في تصرّفاتها فقهاءَ الأمة يقيناً بأنها ما سوت في جنس حكم من الأحكام بين جزئيات متكاثرة إلا ولتلك الجزئيات اشتراك في وصف يتعين عندهم أن يكون هو موجب إعطائها حكماً مماثلاً. والأوصاف المقصودة للشارع من أحكامه إما أوصاف فرعية قريبة كالإسكار أسميناها عللاً، وإما كليات مثل حفظ العقل سميناها مقاصد قريبة، وإما كليات تشمل النوعين المصلحة والمفسدة دعوناها مقاصد عالية. ودلالة النظير على المعنى المرعي للشارع حين حكم له بحكم مّا دلالة مضبوطة ظاهرة مصحوبة بمثالها .. ومن أجل هذا صرّح العلماء بأن لاستحضار المُثل والنظائر شأناً ليس بالخفي في إبراز دقائق المعاني ورفع الأستار عن الحقائق. ومن ثم كفت الشريعة الفقيه مؤونة الانتشار في البحث عن المعنى في أجناسه العالية. ويتضح أن الأصل في الأحكام الشرعية كلها قبول القياس عليها ما قامت منها معانٍ ملحوظة للشارع (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد: 309. (¬2) المقاصد: 313 - 316.

(3) مقصد سد الذرائع مقصد تشريعي عظيم استفيد من استقراء تصرّفات الشريعة في تشاريع أحكامها، وفي سياسة تصرّفاتها مع الأمم، وفي تقنين مقاصدها. ولا يمنع مثل هذا التصرّف في الأحكام من الانتباه إلى أن الشريعة قد عمدت لذرائع المصالح ففتحتها (¬1). ° القسم الخامس: مميزات التشريع الإسلامي علل ودلائل لا تصورات وظواهر: (1) أساس مقصد الشريعة في الوصول إلى الإصلاح المطلوب هو تطور التشريع كالذي حصل من ابتداء البعثة إلى ما بعد الهجرة. ولعل هذا هو ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أجاب ابا عمرة الثقفي عن سؤاله عن الكلمة الجامعة في الإسلام فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "قل آمنت بالله ثم استقم" (¬2). (2) قصد الشريعة من التشريع التغيير والتقرير. ويكون الأول من هذين للأحوال الفاسدة، وهو ما عناه تعالى بقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬3). ويكون التغيير في الأحكام. تخفيفاً ورحمة بالمكلّفين ومثاله قصر عدة الوفاة في الظروف العادية على أربعة أشهر وعشر بدل استيفاء العام. كما يكون حزماً مثل التغيير إلى ما هو أشد كنهي المرأة عن الاكتحال في عدة وفاة زوجها ولو من مرض. والحكمة في هذا الحرصُ على المحافظة على الحكم. ومسلك التيسير والرحمة تقتضيه فطرية الشريعة وسماحتها. فهي ¬

_ (¬1) المقاصد: 340. (¬2) المقاصد: 199. (¬3) سورة البقرة، الآية: 257.

ليست بنكاية، ولا مقتضية لحرج أو مشقة ومن مظاهر تيسير الشريعة: (أ) كون أحكامها مبنية على التيسير في غالب الأحوال. (ب) لم تترك الشريعة للمكلفين بها عذراً للتقصير عن العمل بها، لأنها بنيت على أصول الحِكم والتعليل والضبط والتحديد كما قدمنا. (ج) اعتماد الشريعة تغيير الحكم الشرعي من صعوبة إلى سهولة في الأحوال العارضة للأمة وللأفراد. قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬1). وهذا من الرخصة. وأما التقرير فللأحوال الصالحة استدامةً لها وإكثاراً منها. وهي ما يُنعتُ بالمعروف. قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2). (3) المقصد الأعظم للشريعة الإسلامية هو نوط أحكامها المختلفة بأوصاف تقتضيها، وأن يتسع تغيّر الأحكام بتغيّر الأوصاف. وفسّر الشيخ ابن عاشور هذا المقصد، موضّحاً ومعللاً له بقوله: ويحق علينا أن نأتي بشيء من استقراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصرّفه لطمأنة الناظر في هذا المقام الذي قد يكثر منكروه ويعثر مبصروه. والدليل على اعتبار هذا المقصد كراهية الرسول - صلى الله عليه وسلم - السؤال في النوازل (¬3)، وقوله من حديث سعد بن أبي وقاص: أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّم من أجل مسألته (¬4). قد نَبَّه الشارع إلى مسلك الحزم في إقامة الشريعة. ودليل ذلك قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية 173. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 157. (¬3) المقاصد: 386. (¬4) المقاصد: 386.

الرخصة

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1). ومن الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ" (¬2)، و"من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق" (¬3). كما دعا إلى الأخذ بالرخص. الرخصة: والرخصة في الاصطلاح الشرعي: تغيّر الفعل من صعوبة إلى سهولة لعذر عرض لفاعله وضرورة اقتضت عدم اعتداد الشريعة بما في الفعل المشروع من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، مقابل دفع المضرّة العارضة الداعية لارتكاب الفعل المشتمل على المفسدة. ومثال هذا أكل المضطر الميتة. وعرف الشاطبي الرخصة بقوله: هي مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف. وكلاهما أصل كُلِّي (¬4). وبتتبع صور الرخصة نجدها ترجع أيضاً إلى عروض المشقة والضرورة. ولما قدمنا استُثنيت من الأصل التشريعي صور وأحكام كإباحة السلم والمغارسة والمساقاة. ومن الرخصة ما تَقضي به الضرورة المؤقتة، تحقيقاً لمقصد شرعي كسلامة الأمة وإبقاء قوتها (¬5). ° القسم السادس: من مقاصد الشريعة أن تكون نافذة في الأمة، إذ لا تحصل المنفعة المقصودة منها كاملة بدون نفوذها. وهذا راجع كما هو معلوم إلى الوازع الديني اختيارياً كان أم جبرياً وما ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 229. (¬2) المقاصد: 350. (¬3) المقاصد: 351. (¬4) المقاصد: 356. (¬5) المقاصد: 357 - 361.

الإصلاح والمصلحة

ألحق به. ولذلك وجب على ولاة الأمور حراسة الوازع من الإهمال (¬1) في نفوس المكلفين، والحرص على معالجة مختلف الأوضاع بالإصلاح. الإصلاح والمصلحة: لا مجال لتطهير المجتمعات ولا الأفراد، ولا سبيل إلى تخليصها مما يحيق بها في هذه الحياة من ضروب الانحراف وملابساته إلا بإصلاح الاعتقاد وتزكية النفس وتصفية الباطن وإصلاح العمل. فذلك هو الأساس لاستقامة الإنسان وأخذه بما تمليه عليه تعاليم الإسلام، وما وضعته التشريعات الإلهية لتقويمه. فإنه لا يسع المؤمن العاقل غيرُ الاستناد إلى الإصلاح والقيام به. والإصلاح يؤثر صلاحاً ومصلحة. ويكون بإزالة الفساد عن الشيء. والصلاح صيرورة الإصلاح نافعاً ومناسباً، والمصلحة غير الصلاح. وفي الاصطلاح يُطلق اصطلاح المصلحة على معان كثيرة متقاربة. فالصلاح عند الغزالي عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة، وتلك هي مقاصد الخلق. ولا يتم لهم ذلك إلا بصلاحهم. ويطلق لفظ الصلاح على المصلحة بمعنى المحافظة على مقصد الشارع. وكل ما يقابل ذلك مما هو من قبيل تفويت الكليات الخمس أو بعضها يسمى مفسدة (¬2). وعرفه الرازي بقوله: هو ما يوافق الإنسان تحصيلاً واتقاء. وفي التحصيل جلب للمنفعة، وفي الاتقاء دفع للمضرة. ¬

_ (¬1) المقاصد: 366 - 369. (¬2) المستصفى: 1/ 284.

وتسمى المصلحة منفعة. وهي عبارة عن تحصيل اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، وبعكس ذلك أُطلقت المفسدة على الألم أو ما يكون وسيلة إليه (¬1). وهذه الطريق وما يتوصل إليه بواسطتها منزَّلة منزلة المسبب والسبب المتولّدة عنه اللذة. وأضاف العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى: أن المصالح ضربان: حقيقي وهي الأفراح، ومجازي وهو أسبابها. والمعتد به من ذلك ما كانت المصلحة مرعية عند الشارع يقرها ولا يقتضي غيرها. فليس كل نفع معتبراً شرعاً. والمفسدة بعكس ذلك. وهي وصف للفعل يحصل به الفساد أو الضر دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد (¬2). * * * * * ¬

_ (¬1) الرازي. المحصول: جـ 2، ق 3، ص 146. (¬2) القواعد: 1/ 14.

الباب الثامن مقاصد أحكام القضاء والشهادة

الباب الثامن مقاصد أحكام القضاء والشهادة

توطئة

توطئة قدّم صاحب المقاصد لهذا المبحث ببيان توجّه الأحكام الشرعية المنوطة بتصرّفات الأمة ومعاملاتها إليها، مميزاً بين ما هو من قبيل المقاصد، وما هو من قبيل الوسائل، ومفرّقاً بين هذين الطرفين بكون المقاصد هي المتضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، وكون الوسائل عبارة عن الطرق المفضية إلى تلك المقاصد، نازعاً في هذا منزعاً فريداً لا يلتبس بالذريعة، ولم يسبقه لمثله سوى العزّ بن عبد السلام في قواعده (¬1)، وشهاب الدين القرافي في فروقه (¬2). وقد نبه إلى ذلك بقوله: لم أر من سبق إلى عرض هذا في غير بحث سدّ الذرائع سوى ما ذَكره العز بن عبد السلام في كتاب القواعد، وما أضافه إليه شهاب الدين القرافي في كتابه الفروق في الفرق الثامن والخمسين. ثم رتب الشيخ على هذا قوله: وأنت ترى كلامهما مقتصراً على تخصيصها بمبحث المصالح والمفاسد. فغرضنا نحن أوسع، والفقه إليه أحوج (¬3). والمقاصد والحِكم، التي شرعت من أجلها الأحكام، هي أكثر ما تضمنه القسم الثالث من صنوف المعاملات وضروب التصرّفات، ¬

_ (¬1) القواعد: 123 - 129. (¬2) الفرق: 58: 2/ 32 - 34. (¬3) المقاصد: 401.

جاعلاً من صور ذلك التوثّق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام الذي تسوء به المعاشرة في مشروعية الطلاق. ويتميّز قسم مقاصد القضاء والشهادة بطرح جملة قضايا، لفَتَ إليها الإمام الأكبر النظر وهي أولاً الفقيه والقاضي. فهذا بعد مثافنته للعلم الشرعي، وممارسته للقضاء، تبرز مهارته بما اكتسبه من تجربة، وبما يتوقّعه من تطورات، ويتسم به من فهم وحزم. ولاعتماد مصنّفه كله على العناية بإبراز المقاصد في كل مجال، نجده يتناول في هذا الباب عدداً من المواضيع أبرزها: (1) المقاصد التي هي المحور الأساس لكل الأحكام وتصرّفات الحكام. (2) جملة من القواعد الفقهية التي يُحتكم إليها في الإثبات والنفي والاختيار والترجيح. (3) الوزعة. وهي متفاوتة متنوعة بين دينية وجبلية وسلطانية. (4) التفريق بين السلطتين التنفيذية وهي الولاية، والسلطة القضائية وهي المحاكم. (5) الاجتهاد، والقضاء، والإجراءات الشرعية. (6) الآثار. (7) أقضية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (8) المسائل: كالحقوق والائتمان. (9) الشهادات. (10) العقوبات.

والمقاصد التي توّج بها المؤلف موضوعات هذا الباب، في القضاء والشهادات كثيرة متنوّعة. صدّر بها بحثه منبّهاً إلى ذلك بقوله: أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرّفاتها بأن مقصدها: أن يكون للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحها، ويقيمون العدل فيها، ويُنفّذون أحكام الشريعة بينها؛ لأن الشريعة ما جاءت بما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة، وتعيين الحقوق لأصحابها، إلا وهي تريد تنفيذ أحكامها وإيصال الحقوق إلى أربابها (¬1). وهذا المقصد الجليل والهدف السامي للشريعة معلّل بما هو منتشر بين الناس من ظروف وأحوال عبّر عنها المصنّف بقوله إثر ذلك: لأن الحقوق معرّضة للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة، ومعرّضة لسوء الفهم وللجهل والتناسي (¬2). وإنما تزيل ذلك الشريعة بحملها الناس على الاستقامة. وأكبر مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة، وليس يُحفظ نظامها إلا بسدّ ثَلمات الهرج والفتنة والاعتداء (¬3). ويتبع الشيخ - رحمه الله - ذكر هذا المقصد بمقصد آخر أساسه ما بنيت عليه الشريعة من هداية، وقام به السلطان من دعوة، وحثٍّ على الالتزام به من أحكام الشريعة، ودفع ورفع أسباب الغواية. ويُثنّي المؤلف على ذلك بوجوب تعيين ولاة لإقامة أمورها، وإيجاد قوة تعين على تنفيذ أحكام الشريعة بينها. وهذا ما يستوجب وجودَ حكومة وسلطان هما من لوازم إقامة الشريعة لئلا تتعرّض في بعض الأوقات إلى التعطيل. ¬

_ (¬1) المقاصد: 515. (¬2) المقاصد: 515. (¬3) المقاصد: 546.

ويتّجه الشيخ إثر ذلك إلى غرضين هامين: الأول منهما ناتج عن العناية بالشريعة، والثاني عن إحلال مهابتها في النفوس بجعل الآخذين بها المنتسبين إليها متمسكين بما تميّزت به من منهج في الحياة، ومحافظين على مقاصدها. وقد جاء تصوير ذينك الغرضين في كتاب المقاصد بقوله: إن أهم المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها بثّ علومها وتكثير علمائها وحملتها. وذلك فرض كفاية على الأمة بمقدار ما يسدّ حاجتها، ويكفي مهماتها، في سعة أقطارها وعظمة أمصارها (¬1). ويعقب على بيانه هذا بالتأكيد على أن تحقيق تنفيذ الشريعة يكون بإيقاعِ حرمتها في نفوس الأمة. ويقينُ الأمة بسداد شريعتها، شريعة الإسلام، يقوم على الأدلة القاطعة بأنها معصومة لاستنادها إلى الوحي (¬2). وهو ينبّه إثر ذلك إلى أن النظر في مثل هذا المهم ينبغي أن يكون منصباً على مقاصد الشريعة وما تقتضيه من إيصال الحقوق إلى أصحابها، على نحو ما رسمه الشرع تأصيلاً وتفريعاً. والذين يتولون هذا هم القضاة، وأهل شوراهم، وأعوانهم، وما تتألف منه طرق أقضيتهم من بيّنات ورسوم (¬3). ونظام هيئة القضاء كفيل بالإعانة على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفي، والدلائل على هذا كثيرة نجدها في الأحاديث والأخبار الواردة بكتب الأقضية والشهادات ودواوين السُّنة كالصحيحين وموطأ الامام مالك وجامع الترمذي وسُنن أبي داود (¬4). ¬

_ (¬1) المقاصد: 517. (¬2) المقاصد: 517. (¬3) المقاصد: 519. (¬4) المقاصد: 520 - 521.

وكل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية كما نبه على ذلك القرافي في الفرق الثالث والعشرين بعد المائتين، لا يحل له أن يتصرّف إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة. فيكون الأئمة والولاة معزولين عما ليس بأحسن. والمرجوح أبداً ليس بأحسن، وليس الأخذ به بذلاً للاجتهاد (¬1). وأصل هذه القاعدة قول الله - عز وجل -: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2). وهي تستهدف مقصداً سامياً هو التمكن من رعاية المجتمع بتنقيته من الشوائب الضارة به، ونشر الحق والعدل فيه. ومن أجل هذا عاد الشيخ ابن عاشور يذكّر بواجبات هيئة القضاء وبدور القاضي قائلاً: إن مقصد الشريعة من القاضي إبلاغه الحقوق إلى طالبيها. وذلك يعتمد أموراً عديدة منها أصالة الرأي، والعلم، والسلامة من نفوذ الغير عليه، والعدالة. ومن لوازم أصالة الرأي العقل، والتكليف، والفطنة، وسلامة الحواس. والعلم، هو العلم بالأحكام الشرعية التي يجري بها القضاء فيما ولي عليه القاضي من نوازل. ومن اجتمع فيه من القضاة خصلتان: العلم والورع، تعيّن أن يكون أمثل العلماء الصالحين، وبمقدار قوة علمه يزداد ترجّحه (¬3). وسلامة القاضي من نفوذ غيره عليه شرطٌ لتحقّق حريته وقدرته على الوفاء بما يقتضيه استقلال القضاء، وهو ما يعرف في المصطلح المعاصر بمبدأ تفريق السلط. وفي هذا قال أشهب: إن من واجبات القاضي أن يكون مستخفاً بتوسّطات الولاة في النوازل، وشفاعتهم ¬

_ (¬1) الفروق: 4/ 39. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬3) المقاصد: 522 - 523.

فيها، وفي إنفاذ الحقّ عليهم وعلى ذويهم. وليس المراد بذلك أن يكون مستخفاً بحقوق الأئمة في تقرير الطاعة العامة (¬1). وإن في تحقق هذه السلامة ما يكفل للقاضي حسن القيام بدوره من الحرص على تحقيق العدل بين الناس. والعدالة في القاضي هي الوازع الذي يزعُهُ عن الجور في الحكم وعن التقصير في تقصّي النظر في حجج الخصوم. فهو بحق، بثبوت هذا الوصف له يكون أميناً، معتزاً بانتصاره للحق واستجابته لربه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬2). ويكون لهذا الوصف عظيمُ الاعتبار بجعله شرط صحة في ولاية القضاء. صرّح بهذا ابن فرحون ناقلاً عن سحنون: وأما العدالة، في اعتبارها شرطَ صحة، فلأنه لا تصحّ ولاية غير العدل. فمَن لا تجوز شهادته لا تصحّ ولايته. وقيل: تصحّ، ويجب عزله (¬3). وجاء في المقدمات: أن العدالة مشترطة في صحّة الولاية كالإسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة على مذهبنا، والتوحد (¬4). ومن بين الشروط والقواعد التي ذكرها الفقهاء في هذا الباب ما يدل على الغاية منه، وعلى القصد المطلوب من شرطه. ونوّه صاحب المقاصد بصفات أخرى يتميز بها المُوكَلُ إليهم أمر الناس في القضاء، وهي مما توحي به القواعد العامة المتصلة بالقضاء، أو بهيئته. فيجب على الإمام أو الولي نصب القضاة لرفع التهارج ودرء ¬

_ (¬1) المقاصد: 526. (¬2) سورة النساء، الآية: 58. (¬3) ابن فرحون: 1/ 18. (¬4) ابن رشد. المقدمات: 2/ 259.

النوائب، ومنع الظلم ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬1). وأضاف المؤلف: والنصيحة لكل مسلم استناداً إلى حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أما بعد فإني أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت أُبايعك على الإسلام؟ فشرط عليّ: والنصح لكل مسلم. فبايعته على هذا. وربَّ هذا المسجد: إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل (¬2). وقد جعلوا القضاء أمانة (¬3)، كما اعتبروا القاضي أهمّ أركان القضاء. فإن في صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحفّ به من أحوال (¬4). ومن الإضافات الإجرائية ما يدلّ عليه قول الشيخ: سنخصّ بحثنا هذا بمقاصد الشريعة. وذكر أن الفقهاء ما زالوا يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابط وشروطاً كثيرة ما كان السلف يراعونها (¬5). وكان الولاة حين تولية أحد الفقهاء القضاء يجعلون ولاية الفقيه المقلد إنما تكون للفقيه في المذهب الذي تقلّده الناس الذين يقضي بينهم، فإذا كان في المصر أتباع لمذاهب كثيرة نصبوا فيه قضاة بعدد أتباع تلك المذاهب (¬6). ومن خير ما ثبت فى هذا الغرض أنه ليس من طريق لحمل طبقات الأمة على الاقتناع بأحكام القاضي غيرُ الأخذ بالأصلح من مجموع أقوال العلماء (¬7). ¬

_ (¬1) مغني الحكام: 7؛ تبصرة الحكام: 1/ 13؛ مغني المحتاج: 4/ 372؛ مجموع الفتاوى 35/ 355. (¬2) خَ: 1/ 20. (¬3) المقاصد: 527. (¬4) المقاصد: 522. (¬5) المقاصد: 522. (¬6) المقاصد: 523. (¬7) المقاصد: 523.

وأن ليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محموداً إذا لم يكن الفصل قاطعاً لعود المنازعة، ومقنعاً في ظهور كونه صواباً وعدلاً (¬1). ومن أمثلة المقاصد في الإثبات والتوثيق، ما يعرف عندنا بالإجراءات الشرعية. ومنها ترجيح العلماء التصريح من القاضي في حكمه بمستنده تحقيقاً لنفي الحرج من الحكم الشرعي بقدر الإمكان (¬2). وقديماً اتخذ قضاة الإسلام دواوين لكَتْب ما يصدر عنهم من آجال، وقبول بيّنات ونحو ذلك، لتكون مذكّرة للقاضي ولمن يجيئ بعده، فيبني على فعل سلفه لكيلا تعود الخصومات أُنفا، وربما كتبوا ذلك كله بشهادة عدلين (¬3). ومن المقاصد توثيق المشهود به وحفظه، وأداؤه عند الاحتياج إليه. وذلك يقتضي كتابة ما يشهد به الشهود، وكتابة التوثّقات إذا كان الحق من شأنه أن يدوم متداولاً مدَّةً يبيد في مثلها الشهود. ولذلك تعيّنت مشروعية كتابة التوثّقات. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (¬4) واتصل عمل المسلمين في الأقطار كلها بكتابة التوثّقات في المعاملات كلها، مثل رسوم الأملاك والصدقات، وكذلك إثبات صحة رسوم التملّك والتعاقد بمثل وضع الختم والخطاب عليها إعلاماً بصحّتها (¬5). ¬

_ (¬1) المقاصد: 536. (¬2) المقاصد: 518. (¬3) المقاصد: 541. (¬4) سورة البقرة، الآية: 282. (¬5) المقاصد: 545.

وقد اهتم العلماء والفقهاء، من حين بدأ اجتراء الناس على الحقوق تدريجياً، بوضع أساليب في إجراء الخصومات، لقطع الشغب ومَحْقِه وتحقيق الحق. وأول ذلك البحث عن أحوال الشهود. قال علماء المدينة: إن اليمين لا تتوجه على المدعّى عليه حتى تثبت الخلطة، أو يكون المدّعى عليه ظَنيناً أي متهماً (¬1). وحين تتطرّق التهمة إلى الحاكم في قضائه تزول حرمة القضاء من النفوس. أما العقوبات فأول ما يطالعنا منها عند صاحب المقاصد: أن الزواجر والعقوبات والحدود ما شرعت إلا من أجل إصلاح الأفراد الذين منهم يتقوّم مجموع الأمة (¬2). ومقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزير وأروش الجنايات ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجنيّ عليه، وزجر المقتدي بالجناة (¬3). ومن المحقق أن في إقامة العقاب على الجناة على قواعد معلومة ما يُؤْيِس أهل الدعارة من الإقدام على إرضاء شياطين نفوسهم في ارتكاب الجنايات (¬4). ولطول هذا البحث وكثرة المقاصد المعروضة فيه نقتصر على النظر في قضايا أَوْلاها المؤَلَّفُ أهميةً بالغة، وهي علم القاضي، وتوليته وعزله. وكلها معلّل بالأهداف والمقاصد المرعية المترتبة عليها أحكامها. ¬

_ (¬1) المقاصد: 538 - 539. (¬2) المقاصد: 546. (¬3) المقاصد: 547. (¬4) المقاصد: 550.

تولية القاضي

تولية القاضي: لعلو منزلة القضاء، وجعله أمانة في المجتمعات الإنسانية ولها، ولاعتبارهم القاضي أهم أركان القضاء، إذ في صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحفّ به من أحوال كما قدمنا. تعرض أكثر الفقهاء في كتبهم، في أبواب القضاء والشهادات، وفي مصنفاتهم الخاصة بهذه المرتبة السنية وهي أدب القاضي، إلى ذكر جملة من الصفات أو الشروط التي يلتزمون بها في تولية القضاة. فمن جملة النصوص المعرّفة بواجب الولاة في اختيار مَن يصلح لهذا المهم الذي يتوقّف عليه تبيين الحقوق وإسنادها إلى مستحقيها، قول الإمام ابن تيمية: يجب على ولي الأمر البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة .. فيجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل، فيما تحت يده في كل موضع، أصلحَ من يقدر عليه (¬1). وقد تتبعنا أقوال الأئمة في كثير من المذاهب فوجدناها تشترط لولاية القضاء شروطاً صحيحة متفقاً عليها إجمالاً. وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، وسلامة الحواس، والعلم بالأحكام الشرعية، والعدالة. وشروط مختلف فيها كالذكورة، والاجتهاد. ولم يكن يعنينا في هذا المحل غير شرط العلم الذي يتعين تحريره لضبط الرأي الشرعي فيه. ولا يتم ذلك إلا بالنظر في أحوال المجتهد والعالم والمقلِّد، والعامي أو الجاهل. ¬

_ (¬1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 2.

(1) أما المجتهد فهو من يبذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بالنظر المؤدّي إليها. ورجّح ابن السمعاني، على هذا التعريف، قولَ بعضهم في الاجتهاد: هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه. فهو أليق بكلام الفقهاء. ووضع علماءُ الأصول شروطاً للمجتهد منها: الإسلام، والعلم باللسان وبالكتاب، وبالناسخ والمنسوخ، وبالسُّنة، ومواضع الإجماع، وأن يتوافر له صحة الفهم وحُسن التقدير، وسلامة الاعتقاد، وإخلاص النية. والاجتهاد بالنسبة للقضاء يُطلق على المسلك الذي يتبعه القضاة في أحكامهم، سواء منها ما يتعلق بنصوص الشرع، أم باستنباط الحكم الواجب تطبيقه عند عدم النص، وخاصة في البلاد التي لها قانون مدوّن جامع. وإنما يتقيّد الحاكم باجتهاد المحاكم العليا التي تتقيد بدورها باجتهادها السابق. وتُمثل في الواقع هذه الاجتهادات العرف العام (¬1). وقال العطار محدداً وظيفة الاجتهاد: لا يقبل الاجتهاد من المجتهد أو من غيره إلا إذا اتفق مع قواعد هذا المهم. ويحصر أدلة هذا العلم في أدلّة الأحكام الشرعية ومصادرها في القرآن والسُّنة والإجماع والقياس والاستحسان والعرف والمصلحة المرسلة والذرائع والاستصحاب وشرع مَن قبلنا (¬2). (2) وأما العالم المقلِّد الذي يُعدّ في الدرجة الثانية بعد المجتهد، فهو ضد الجاهل. دليل ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) د/ صبحي المحمصاني. فلسفة التشريع الإسلامي: 144. (¬2) عبد الناصر توفيق العطار. الوجيز في تاريخ القانون: 189 - 190. (¬3) سورة الزمر، الآية: 9.

والعلم يُطلق على إدراك المسائل. ولهذا السبب قالوا: الفقه هو الفهم، ويُطلق على المسائل نفسها، وعلى الملكة الحاصلة للمتمرس به وبقضاياه. وعلى هذا النحو قالوا: العلم هو الوجود الذهني، إذ لا يعقل ما هو معدوم صِرف بحسب الخارج كالممتنعات (¬1). واعتمد الماوردي على نفي مساواة العالم بغيره في الآية، لأنها وردت مورد الزجر، فأصبح الزجر أمراً في معنى الأمر بالعلم ونهياً عن الجهل. وبحكم هذا التفسير أو الاتجاه في وصف القاضي يصبح المقصود من العلم العلمَ بأصول الأحكام التي نصّ عليها معاذ في حديث: "كيف قضيت"؟ (¬2). وإذا كان العالِم المقلّد هنا هو الفقيه في اصطلاحاتنا الشرعية، فإن هذا الفقيه هو من يكون ذا علم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، والفقه هو نفس هذه الأحكام التي نحتاج في معرفتها إلى التأمل والفهم، وبعضٍ من الاجتهاد وإعمال الرأي (¬3). (3) وأما العامي الذي يمكن اعتباره في الدرجة الثالثة بعد المجتهد والفقيه في بعض المذاهب، والذي قد تقتضي المصلحة وجودَه، فهو مَن لا يستطيع أن ينهض بأعباء القضاء على وجه قريب من المطلوب إلا بواسطة الاستشارة والجنوح إلى أقوال من سبقه من ¬

_ (¬1) القنوجي: أبجد العلوم: 2، (21)، 1، 14. (¬2) الماوردي: أدب القاضي: 2/ 272. (¬3) د/ محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد: 23 - 24.

الفقهاء والمفتين. وأكثر المذاهب لا تبيح تقليدَه خطة القضاء لأنها وإن صحّت نسبته إليها فإن جهله يحول دون قضائه بالحق، ويقع الحكم منه باطلاً من حيث لا يشعر. قال الماوردي: ويدخل في الوعيد لأنه قَضَى على جهل (¬1). وبنظرة سريعة إلى المذاهب الأربعة يمكن التفريق بينها فى شأن العلم. فالحنفية، وإن كانوا لا يعتبرون العلم شرطَ صحة في تولية القضاء بل شرطَ ندب واستحباب؛ منقسمون إلى فريقين: الأول: يجيز تقليد العامي القضاء، لأنه قد يحكم بعلم غيره باعتماده في هذا المهم فتاوى وأحكام مَن تقدمه من القضاة فيقضي بها. الثاني: لا يَقبل تقليدَ العامي القضاء بحال. فَتَوْلِيته وإن جازت شكلاً عند أصحاب الفريق الأول فلا ينبغي أن يتصرّف بحكم هذا التقليد في قضايا الناس، لما يترتب على تصرّفه هذا في الأحكام من إضرار بالمجتمع، وجور على الخلق. وهذا باطل شرعاً لا يقبل تبريراً، ولا يمكن القيام به لما فيه من ردٍّ وإبطال لحديث معاذ، ولمخالفته إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذ، ورضاه بما ذكره من الأصول التي تبعها القاضي مطمئناً. فهو إما أن يحكم بالكتاب، وإما أن يحكم بالسُّنة، وإما بما يلتمسه من مصادر التشريع الأخرى. ولا يتأتّى هذا للعامي إذ هو مقطوع الصلة بهذه المصادر وبالوجوه الثلاثة من الحكم، فأين سبيله إليها؟!. وقد توعّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من ¬

_ (¬1) أدب القاضي: 1/ 639.

المستخفِّين بحقوق الخلق قائلاً: "القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار" (¬1). ويدل هذا على أن القضاء بغير علم مدرجة للحكم بالباطل، وللوقوع في الظلم ولو من غير شعور أو توقّع. وقالت الشافعية: الشرائط المعتبرة في تولية القضاء عشرة. وذكروا منها الاجتهاد. والاجتهاد هو العلم بالكتاب والسُّنة والإجماع والقياس وأقوال العلماء ولسان العرب (¬2). فلو لم يصل القاضي باجتهاده إلى حكم الحادثة ففي جواز تقليده وجهان: الأول: قول ابن سريح: يجوز أن يقلّد فيها للضرورة، ويحكم لأنه ما من عالِم إلا وتُشكل عليه أحكام بعض الحوادث. الثاني: قول المروزي: لا يجوز أن يقلَّد في قضائه، ويستخلف عليها من يحكم باجتهاده، إن ضاق وقت الحادثة. وذلك الحاكم ملزَم، فلا يجوز أن يلزمه ما لا يعتقد لزومه. قال المزني: قال الشافعي - رحمه الله -: ولا يشاوِرُ إذا نزل به المشكلُ إلا عالماً بالكتاب والسُّنة والآثار وأقاويل الناس والقياس ولسان العرب (¬3). والمجتهد ثلاثة أقسام: مجتهدٌ مطلق، ومجتهدُ مذهب، ومجتهدُ فتوى. واشترطت الحنابلة الاجتهاد أيضاً فيمن يلي رتبة القضاء، وأَوْلَوا الأمرَ أعدَلَ المقلِّدين وأعرَفَهم عند غياب المجتهد حتى لا ¬

_ (¬1) دَ: 4/ 5؛ تَ: 3/ 613؛ جَه: 2/ 776. (¬2) الموسوعة الفقهية: 33/ 293. (¬3) الماوردي. الحاوي الكبير: 20/ 103.

تسقط الأحكام ولا يختلَّ النظام. واشترطوا في المجتهد أن يقتصر في الاجتهاد على مذهب إمامه للضرورة. فإن كان مقلداً جرى على نفس المهيع الذي عَمِل به الناس من مدة طويلة (¬1). وذهبت المالكية إلى اشتراط العلم في تولية القاضي. وقالت: ينبغي أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية التي ولي القضاء بها، ولو مقلداً لمجتهد على المعتمد، خلافاً لخليل (¬2). وتوسّع الإمام الأكبر في بيان اشتراط العلم للقاضي في مذهبه عند المالكية وقال: الشرط الأول الاجتهاد إن وجد، وأن يكون صاحبه، أي المجتهد، مشتهراً بذلك، وسلّمت له مرتبة الاجتهاد من طائفة علماء عصره. ثم عقّب على هذا الرأي بقوله: (1) إن العالِم المقلّد لمذهب مجتهد مشهور، العالِم بالأدلة لا يقصرُ في استحقاقه القضاء عن المجتهد. وولاية الفقيه المقلَّد إنما تكون للفقيه في المذهب الذي تقلّده الناس الذين يقضي بينهم. (2) وجوب استحضار القاضي للأحكام الشرعية في المسائل الكثيرة النزول، وأن يكون مقتدراً على الإطلاع على أحكام والنوازل ونوادرها، عند دعاء الحاجة إليها، بسهولة. ونقل لنا الإمام بعد هذا عن ابن القاسم أنه لا يُستقضَى من ليس بفقيه. ومضى يصوّر درجات القضاة مومئاً إليها بعدُ بذكر ما يحصل للقاضي بها من العلم التام الكفيل بنجاحه في مهمته. فيروِي عن أصبغ وأشهب ومطرف وابن الماجشون: أنه لا يصلح أن يكون ¬

_ (¬1) كشاف القناع: 6/ 295 - 296. (¬2) الدسوقي: 4/ 129؛ الشرح الصغير: 4/ 187.

عزل القاضي

القاضي صاحب حديث لا فقه معه، ولا صاحب فقه لا حديث معه، مؤذناً بالحاجة الأكيدة إلى جمع كل هذه المعارف والفنون: الفقه وأدلته، والأحكام ومراتبها جمعاً يثبت لديه ما ينشأ له بذلك من ملكة يتفوق بها على غيره من الفقهاء. ويقابل ما ذكرناه من آراء في اشتراط العلم للقاضي، تصحيحاً لولايته، وتمكيناً له من الوفاء بواجبه عند فصل النزاعات قولُ قاضي مصر نفيس الدين بن شكر: إنه يجوز تولية المتأهّل لمعرفة استخراج المسائل من مواضعها. حكى ذلك ابن راشد القفصي عنه في كتابه الفائق، مؤيداً هذا بقوله: لا يلزم المجتهد أن يكون حافظاً لآيات الأحكام. وهاتان في واقع الأمر قضيتان: قضية حفظ المجتهد لآيات الأحكام. قال الشيخ - رحمه الله - مثنيّاً على كلام صاحب الفائق: وكلام ابن راشد هو الصواب، لأن المجتهد غير مطلوب بفصل القضاء بين الناس. فإذا ولي المجتهد القضاء كان الشرط فيه أضيق من شروط مطلقِ مجتهد. وفي قضية تولية المتأهّل لمعرفة استخراج المسائل من مواقعها للقضاء، لم يُسَلِّم ابن راشد بمقالة ابن شكر القاضي تسليماً مطلقاً بل رفض موافقته على ذلك بقوله: وفي هذا من التضييق على الخصوم، لأنه يطيل عليهم فصل نوازلهم حتى يفهمها. وفيه وسيلة إلى تولية الجهال. اهـ (¬1). عزل القاضي: العزل التنحية، أو إنهاء الولاية. ومحلهما أن تكون الولاية في ¬

_ (¬1) المقاصد: 524، 525.

مظنّة المصلحة. ولا يكون العزل إلا لمظنّة المفسدة. فجميع تصرّفات الأمراء منوطة بالمصالح كما بَيَّنا (¬1). وإن حفظ حرمة المناصب الشرعية، وإعانة القائمين بها على المضي في سبيلهم، غيرَ وجِلين ولا مغضوضين لَمِن أكبر المصالح (¬2). وورد في المقاصد عند الحديث عن إنهاء ولاية القضاة ما نصّه: تكلم العلماء في عزل القاضي، وتردّدت أنظارهم في ذلك، بناء على اعتباره وكيلاً عن الأمير من جهة، وعلى وجوب حرمة هذا المنصب في نظر الناس من جهة أخرى. وهي مسألة لها مزيد تعلّق بالسلامة من نفوذ غيره عليه، لأن العزل غضاضة عليه، وتوقّعه ينقص من صرامته إن لم يغلبه دينه (¬3). وبعد التقديم لهذه الولاية وما يعتري المنتصب لها من أحكام، وما ينبغي أن يُرعى فيها من ذمام له وللقضاء، يَنقُل إلينا المؤلف جملة من الآراء المتقاربة حيناً، والمتباعدة أخرى. فيصوّر موقف بعض الأئمة ووجهات أنظارهم فيما صدروا عنه من أحكام. فمن ذلك ما ذكره عن المازري من قوله: إن عُلم عِلْمُ القاضي وعدالته ولم يقدح فيه قادح لم يعزل بالشكية، وسئل عن حاله بسببها سراً. وذكر بعد هذا -فيمَن لم تتحقق عدالته - أن أصبغ قال: يُعزل، وقال غيره: لا يُعزل. وتعرّض بعد ذلك لما جرى عليه السلف وما رواه من كلام ابن عرفة أحدِ المحققين من علماء المالكية، قال: إن في عزل القاضي توهيناً لحرمة منصبه، على أنه قد صار، فيما بعد عصر السلف، لصاحب الخطة حق في بقائها، نظراً لضعف آراء وعدالة ¬

_ (¬1) انظر الفروق: 4/ 39. (¬2) المقاصد: 529. (¬3) المقاصد: 527.

الأمراء الذين يولون القضاة. ولم يكن هذا على إطلاقه، فقد عقّب عليه الخطّاب بقوله: ويجب تفقد الإمام له حال قضائه فيعزل مَن في بقائه مفسدة وجوباً وفوراً (¬1). ولم يحفظ أن عمر عزل قاضياً أصلاً. وهذا خلاف ما أورده البيهقي في سننه (¬2) مع كونه عزل الأمراء بمجرد الشكيّة. عزل سعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وشرحبيل. وأضاف إلى هذا: أنه لم يَثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزل قاضياً ولا أبا بكر عزل قاضياً أيضاً (¬3). وفي ختام هذه الإفادات التي ظفرنا بها من المقاصد ختم الشيخ حديثه عن العزل ببيان اصطلاح بني حفص قائلاً: إنهم كانوا لا يبقون أحداً في حالة القضاء أكثر من ثلاث سنين (¬4). فرد هذا القول واعتبره خطأ في التصرّف (¬5). والعزل ثلاثة أنواع: الأول: أن يَعْزِل القاضي نفسه. الثاني: أن يُعزَل بموت الإمام أو بِعزله عن الإمامة. الثالث: أن يكون عزل القاضي من طرف الإمام. أما عزل القاضي نفسه رغبة منه في ذلك، فإنه يكون بصريح ¬

_ (¬1) مواهب الجليل: 6/ 113. (¬2) 10: 108؛ كتاب آداب القاضي، عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لأنزعن فلاناً عن القضاء ولأستعملن على القضاء رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه. (¬3) المقاصد: 527. (¬4) المراكشي: تاريخ الدولة الموحدية والحفصية: 44. (¬5) المقاصد: 528.

قوله، أو بعزله بالكتابة إلى الإمام. ووجه ذلك أن القاضي بمنزلة الوكيل وللوكيل عزل نفسه. وذهبت الحنفية إلى أنه ينعزل بعد سماح الإمام له بذلك لا قبله (¬1). وقالت المالكية: لا يتم عزله إلا بشرط عدم تعلّق حق لأحد في قضائه، حتى لا يؤدي عزلُه إلى حصول ضرر لمن التزم القضاء بينه وبين خصمه (¬2). وأما عزل القاضي بموت الإمام، أو بعزله عن الإمامة فلا يصحّ، لأن الخلفاء ولَّوا حكاماً في زمانهم، فلم ينعزلوا بموتهم، ولأن في عزل القضاة بموت الإمام ضرراً على المسلمين. فإن البلاد تتعطل من الحكام، ولأن القاضي لم يتولَّ لمصلحة الإمام بل لعامة مصلحة المسلمين (¬3). وأما عزل القاضي من قِبل الإمام فله حالتان: إذا توافرت شروط القضاء فيه، وليس فيه ما يوجب عزله، فقيل: يملك الإمام عزله، وقيل: لا. واختلف الفقهاء في هذا على ثلاثة آراء: الأول: يملك الإمام عزله مطلقاً. فإذا عزله نفذ عزله. وهو رأي الحنفية وأحد رأيي الحنابلة. ودليلهم ما قدمنا الإشارة إليه من تصرّف الخلفاء الراشدين في ما هذا شأنه. ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية: 2/ 328. (¬2) التبصرة: 1/ 62. (¬3) بدائع الصنائع: 7/ 16؛ الخرشي: 7/ 144؛ مغني المحتاج: 4/ 383؛ المغني: 7/ 103.

الثاني: يملك الإمام عزل القاضي لسبب من الأسباب التالية: (1) حصول خلل من القاضي ولو بغالب الظن. ومن ذلك كثرة الشكاوى منه. (2) ألا يحصل منه خلل، ولكن يوجد من هو أفضل منه لتلك الولاية. فيجوز العزل تحصيلاً لتلك المزية للمسلمين بتولية من هو أفضل منه. (3) ألا يحصل منه خلل، وليس هناك من هو أفضل منه، لكن في عزله مصلحة للمسلمين كتسكين فتنة. وعزل الإمام القاضي دون حصول هذه الأسباب إثم. واختلفوا في تنفيذ عزله في تلك الحالة. فإمام الحرمين يرى التنفيذ وهو الأهم. وعلّلوا هذا الحكم بمراعاة أمر الإمام، إلا أن لا يوجد من يخلف المعزول في القضاء بين الناس، فيتعين إبقاؤه وعدم عزله. وقال آخرون بعدم النفاذ لعدم وجود الخلل أو المصلحة. وهذا رأي الشافعية. وبه قالت المالكية، لكنهم احترزوا فذهبوا إلى وجوب عزله إن تحققت المفسدة في بقائه، ويستحب إن خُشيت مفسدته (¬1). الثالث: عدم جواز عزله مطلقاً. وهو الرأي الثاني للحنابلة. وقالوا: إن تولية القضاء أمر تعود مصلحته للمسلمين. فلم يملك الإمام عزله، كما لو عقد النكاح على موليته فإنه لم يكن له فسخه (¬2). * * * * * ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية: 3/ 307. (¬2) المغني: 9/ 103؛ المبدع: 10/ 16؛ الخرشي: 7/ 146.

الباب التاسع الغرض من مقاصد الشريعة

الباب التاسع الغرض من مقاصد الشريعة

مع علم مقاصد الشريعة

الفصل الأول: المقاصد والتجديد مع علم مقاصد الشريعة: الموضوع الأساس لعلم مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان، كما سبق بيانه، ذكر ذلك الشيخ في كتابيه مقاصد الشريعة الاسلامية، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ولفت إليه النظر أيضاً في كتب أصول الفقه عند حديثه عن المناسبة والإخالة من مباحث المسالك ونحوها. وقد عدّوا من ذلك مباحث كثيرة، لها اتصال بالمقاصد وإن كانت تبحث أساساً في كتب علم أصول الفقه. وهي المصالح المرسلة والمتواتر والمعلوم بالضرورة وحمل المطلق على المقيد إذا اتحد الموجِب والموجَب، أو اختلفا (¬1). وأشار الإمام إلى مقاصد أخرى كثيرة وردت في طوالع الأبواب من كتب علم أصول الفقه، تعتبر مِن مقاصد أنواع المشروعات. وهي بلا شك دون مقاصد التشريع العامة (¬2). ونقد صاحب المقاصد علم أصول الفقه بما عرفناه عن طريقه من أسباب أوجبت ضعفاً أو نقصاً في هذا العلم، أو أوجب اختلالاً في تعاطيه. من ذلك: ¬

_ (¬1) المقاصد: 15. (¬2) المقاصد: 10 - 11.

أولاً: توسيع علم أصول الفقه بإدراج ما لا يُحتاج إليه فيه، حيث قصدوا منه أن يكون علم آلات الاجتهاد، فضمّنوه مسائل كثيرة من علم المنطق والكلام والعربية والأحكام. ثانياً: تأخّر تدوين علم أصول الفقه على تدوين الفروع. وقد أدّى هذا إلى ما زاد به الاختلاف بين المذاهب، بظهور كثير من التعارض، وحمل المؤلفين عند حصول ذلك منهم، أو عند أخذ أحدهم بغير ما يجري على أصول مذهبه على القول بأن فلاناً خالف أصلَه، وفلاناً طردَ أصلَه. وربّما قال كما عبر عن ذلك البخاري في تعليقاته على مثل هذه الحال ناقضَ فلان أصلَه. وهو في الحقيقة ما خالفَ ولا طردَ، وإنما تأصَّل الأصلَ من بعد الفرع. ثالثاً: تضمُّنُ علم أصول الفقه مسائل خارجة عن حدِّه، لا علاقة لها بموضوعه. وذلك كالتساؤل عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان متعبّداً بشرع قبل نبوءته. رابعاً: الغفلة عن إيراد مقاصد الشريعة، إذ لم يدوّنوها في الأصول. وهي الأحرى بأن تكون الأصلَ الأول. ومن ثم استدرك أبو إسحاق الشاطبي، على الأصوليين، فخصّ جزءاً من كتابه الموافقات بالتعريف بالمقاصد الشرعية، وبحثَ قضاياها في الجزء الثاني منه. خامساً: ما انتشر بين الفقهاء من قعود وكسل حُرِموا به الاجتهاد في القضايا المستجدّة التي كان عليهم شرحها لأهل الملة، حتى يأخذوا بها، مقدّمين لها على غيرها، حماية لشريعة ربنا، وتمسكاً بأصول هذا العلم وقواعده. وقد عُدّت قوادح أخرى أسرعت إلى هذا العلم مع توالي ما مرّ

به من مراحل تاريخية، وجرت بالحديث عنها الألسن. وهي في جملتها ترجع إلى عدم الأخذ بالقياس الكلّي والاكتفاء بالجزئيّ منه (¬1). والموضوع الأساس هو ما نبّه إليه الإمام الأكبر عند تعريفه للمصالح المرسلة. وقد تقدّمَ الإمام الأكبر باقتراحه العلمي الدقيق طالباً أولاً تجديد علم أصول الفقه على أساس تطويره (¬2) وجعلِه صالحاً للاستفادة منه والاستعانة به في استنباط الأحكام وضبطها، وفي حرصه ثانياً على المصالح ضبطاً لأحكامها. فقد قضى العلماء ردحاً من الزمن يعملون على تحكيم علم أصول الفقه في المنازعات والاختلافات كما فعل القدامى من علماء الدين أو الفقه فلم يظفروا بطائل. وفي هذه الفترة ظهرت الدعوة مرّة أخرى إلى تطوير علم أصول الفقه وتجديده، والتزم الشيخ تداركَ علم أصول الفقه مما لَامَسه من ضعف، وخالطه من مسائل لا صلة له بها، ومحاولةَ تطويره تطويراً علمياً واضح المعالم وصفه به في التمهيد من مقدمة كتاب المقاصد (¬3). وإن اختيار هذا المنهج لتطوير علم أصول الفقه، أو جعلِه وعلمَ المقاصد علماً واحداً، ليضع به الإمام خطة لمن يأتي بعده حتى اليوم ممن يحاول التجديد. وتتمثل هذه الخطة على النحو الذي يراه، أو على وجه قريب منه فيما يزيل ما تراكم على علم أصول الفقه من إضافات كان ينبغي حذفها. ¬

_ (¬1) أليس الصبح بقريب: 203 - 205. (¬2) المقاصد: 21 - 22. (¬3) المقاصد: 22 - 23.

النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء

ومما دعا الإمام إلى الإقبال على تجديد علم أصول الفقه ما أوحت به السُّنة النبوية الشريفة، التي عن طريقها حدّد علماء الدين والملة حقيقة التجديد وذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها" (¬1). النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء: التجديد للدين كما عرفه الإمام الأكبر: إرجاعُهُ إلى حالة الجِدَّة، أي الحالة الأولى التي كان الشيء عليها في استقامته وقوة أمره. وذلك أن الشيء يوصف بالجديد إذا كانت متماسكة أجزاؤه، واضحاً رُواؤه، مترقرقاً ماؤه (¬2). وعرفه من العلماء العلقمي والمناوي وأبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي وغيرُهم. قال المناوي في تعريفه: يجدِّدُ لها دينها؛ أي يُبيِّن السنة من البدعة، ويكثِّر العلم، وينصُر أهلَه، ويكسِّرُ أهل البدعة ويذلُّهم. قالوا: ولا يكون المجدّد إلا عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة (¬3). واختار العلماء والأئمة من اعتبروهم مجدّدين، واختلفوا في اختياراتهم بحسب تصوّراتهم لما ثبت لهذه الصفوة أو تلك من أوصاف تؤهّلهم لهذه المرتبة المنيفة. ووضع الشيخ الإمام رسالة في هذا الغرض أغنى عن ذكرها هنا ما أوردناه في القسم الأول من هذا الكتاب، عند عرضنا لآثار المؤلف. ¬

_ (¬1) دَ: 4/ 480، ع 4291؛ كم: 4/ 522. (¬2) مقالات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: 277. (¬3) فيض القدير: 2/ 281.

أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس

أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس: قال الشيخ ابن عاشور إثرَ الحديثِ عن فقهاء المدينة ورواتها: ثم انحصر علمهم في مالك بن أنس عالِم المدينة، فأزبد عنده ذلك المخض، وأفصح عن الخالص المحض، وانفرد في زمنه بحمل السنة الصحيحة، وعرْضِ المرويات على محكِّ النقد. وكان اعتماده في النقد على معايير ثلاثة: - عمل أهل المدينة. - قواعد الشريعة. - وصفات الرواة. ولم تجتمع هذه المعايير لغير مالك في عصره ولا قبل عصره. كان ظهور مالك في أوائل القرن الثاني في حدود سنة 112؛ لأن مالكاً قد نبغ وهو شاب، وكانت ولادته سنة 93 أو 96، فيكون في حدود سنة 110 قد بلغ الحلم أو تجاوزه. وفيه تأوّل أهل عصره حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة" (¬1). قالوا: وفيه إشارة إلى مالك بن أنس. ذهب إلى هذا سفيان بن عيينة وابن مهدي ويحيى بن معين وابن المديني، وجمعٌ كثيرٌ (¬2). إمام الحرمين: سبق الإمامَ ابنَ عاشور إلى دعوة التجديد لعلم أصول الفقه إمامُ ¬

_ (¬1) حَم: 2/ 299؛ تَ: 5/ 47، ع: 2680؛ كم: 1/ 90 - 91. (¬2) مقالات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: 89.

الحرمين عبد الملك الجوينى. ذكر ذلك الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، منوهاً بعلمه وبمنهجه في تجديد علم أصول الفقه. قائلاً: إن التجديد الذي أبرز ثوابتَه ومعالِمه الواضحة، التي لا يعزب عن المتخصّصين الذين يعيشون على الفكر الأصولي في مدوّناته ومصادره الأصلية .. ، هو كما يقتضيه الإنصاف بالحكم ما تَفَرَّدَ به إمام الحرمين، في هذا المجال بكل ما قيل، بل والأحرى أن يعدّ كتابه البرهان في أصول الفقه مشروعاً لتجديد هذا العلم، بكل ما يعنيه التجديد موضوعاً ومضموناً وشكلاً أيضاً في صورة غير مسبوقة وغير ملحوقة، أنموذجاً رفيعاً لتحقيق هذه الغاية (¬1). ثم ذكر الأستاذ الدكتور في حديث طويل عناصر تجديد الفكر الأصولي. وجعل منها: (1) التسليم التام لأصول الشريعة وإبقاؤها على الرأي. (2) التحليل الموضوعي وتصويب المجتهدين في المظنونات. (3) تفهم آراء المخالفين وإنصافهم. (4) كيفية استخلاص الرأي الصحيح. (5) إعطاء كل موضوع خاصيته وعدم اعتباره بغيره. (6) إحكام صياغة حدود المصطلحات الأصولية. وذيل هذا البحث بقوله: بهذا يكتمل الفكر الأصولي: الموضوع والمضمون والمنهج. ولا يسلم كل هذا إلا بالخلو عن العوائق والموانع التي تناولها العرض آخر هذا البحث. وقد عُدّ منها في هذه الرسالة: ¬

_ (¬1) أبو سليمان. الفكر الأصولي: 546 - 549.

التطور والتجديد

التعصب المذهبي، وإساءة فهم رأي المخالفين، والتأويلات البعيدة، وإهمال المقاصد، وعدم اكتمال بحث المسائل. وللتجديد عند إمام الحرمين عناصر وركائز. فلا يتمّ إلا على أصول ثابتة ونصوص موثّقة، ولا يكون على مجرد أمثلة غير مسلم بثبوتِها. وتلقَّف الدعوة إلى التجديد عدد كبير من رجال الفكر وأهل العلم في عصرنا هذا، لم تتّحِد في ذلك أسبابُ القيام به عندهم، وتعرّضت فئة منهم إلى الفتنة لوقوعها في محاذير، وتردّيها بسبب توجيهات المستشرقين وإيهامات مقالات غير ذوي الاختصاص في مهامه خطيرة. التطوّر والتجديد: فرق العلماء والكتاب المعاصرون في تعريفهم بين التطوّر والتجديد: فالتطور الذي ينادون به، أساسه أن العقل الإنساني لا يقف قط، والمعرفة تسير دائماً إلى الأمام. وأما التجديد فهو يجري في رأي الإنسان عن العالم ليستقرّ في ترجمة جديدة إعادةُ تقدير الحقائق الأساسية للعقيدة .. وهذه المميّزات يجب ألا تفرض على العقيدة من الخارج، بل يجب أن تنمو داخل نظام الاعتقاد ذاته. وبغير هذا لا تستطيع تلك التفسيرات أن تقنع المسلمين الآخرين (¬1). والتطور مسألة حتمية في كل شيء. وكل شيء يتطور: تتطورُ البيئة، ويتطور سكانُ البيئة من الأحياء. فلا عجب إذن أن يكون ¬

_ (¬1) فضل الرحمن مريم جميلة: 84.

التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير

قانون هذه البيئة الاجتماعية هو التطوّر. ولن تقف حركة التطوّر الكوني والإنساني إلا حين تقف عجلة هذه الحياة الأرضية البشرية ونواميسها كلها، وتدع المكان لحياة أخرى في عالم جديد، له خصائص جديدة ترشّحه للثبات والخلود (¬1). وحقيقة التجديد لا تعني لدينا، نحن المسلمين، غير السعي للتقريب بين وقائع المجتمع المسلم في كل عصر وبين المجتمع النموذجي الأول الذي أنشأه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وذلك هو المطلوب لغةً، والمقصود عملاً وديانةً. وليس من التجديد في شيء المفهوم الذي تقدمه العصرانية. وهو ما شاع عند أولي الظن كأثر من آثار مواجهة الحضارة الغربية للإسلام. فهي تقدم خليطاً من الإسلام ومن جاهلية الغرب، وتجتهد في إيجاد المواءمة بينهما، وتعتمد بذلك أسلوب التحوير والتأويل لتعاليم الإسلام، وأسلوب التنازلات والتسويغ باسم الاجتهاد (¬2). التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير: برز اتجاهان خارجي وداخلي، متحامل ومستسلم. ينطق بالأول التوجيه الغربي لحركة التجديد الفقهي بل الفكري الإسلامي. فهذا أحد المستشارين الإنجليز بوزارة الخارجية يقول في كتابه إلى أين يتّجه الإسلام؟: يبدو للنظرة الأولى أن الجمهرة العظمى من المسلمين لم تتأثّر بمؤثرات دينية أوروبية، وأن التفكير الديني الإسلامي قد ظلّ وثيق الاتصال بأصوله الدينية التقليدية. ولكن ذلك ليس هو الحقيقة كلها. فالواقع أن التعاليم الدينية ومظاهرها عند أشد ¬

_ (¬1) د. فتحي عثمان. الفكر الإسلامي والتطور: 22. (¬2) بسطامي محمد سعيد. مفهوم تجديد الدين: 281.

المسلمين محافظة على الدين وتمسكاً به، قد أخذت في التحوّل ببطء، خلال القرن الماضي. فإن دخول عناصر جديدة على الحياة الإسلامية كان يقتضي إبراز بعض تعليمات الدين، وتوجيه عناية أكبر إليها، ووضعها في المكان الأول، ووضع تعليمات أخرى في مرتبة غير أساسية. وإذا حدث هذا أيقنا بأن الموازين الدينية والتعاليم الأخلاقية في الإسلام آخذة في التحوّل. وأن هذا التحوّل يتّجه نحو تقريب الموازين الغربية في الأخلاق، من تلك التي تتمثل في التعاليم الأخلاقية للكنيسة المسيحية. وبجانب هذا التأويل للتجديد الذي ورد من الخارج نجد المستشرق الإنجليزي صاحب كتاب التشريع الإسلامي يقول في وصفه لأكذوبة التناقض التي يتصوّرها في التشريع: توصف الشريعة الإسلامية بأنها شريعة الوحي وشريعة الفقهاء. وهذا التناقض الظاهري في الوصف يكشف عن وجود توتّر أساسي في النظام الذي يتجاذبه الوحي الإلهي من ناحية، والمنطق البشري للفقهاء من ناحية أخرى (¬1). وبينما يلحُّ أحدُهم في الدعوة إلى تجديد أصول الفقه التقليدي وإسقاطه, مصرّحاً بقوله: إن علم الأصول التقليدي الذي نلمس فيه الهداية، لم يعد مناسباً للوفاء بحاجاتنا المعاصرة حقَّ الوفاء، فهو مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل بطبيعة القضايا التي كان يتوجّه إليها البحث الفقهي (¬2). وتصدرُ الآن عن آخرين مقالات لا تشجّع على الأخذ بهذا التجديد ولا تسمح بالمضي فيه. ¬

_ (¬1) المسلم المعاصر: 3 يوليو 1975 ترجمة د. جمال الدين عطية. (¬2) قضايا التجديد: 12.

المحاذير من التجديد

المحاذير من التجديد: حذّر أصحاب الاتجاه الرافض للحركة الإصلاحية التطويريّة التجديدية معلّلين ذلك بقولهم: (1) إن حركة تطوير الفقه وأصوله بديل مُتطورٌ لحركة تركيا الثورية نحو العلمانية. (2) إن العمل الجاد التجديدي لهو الذي يقوم على مبدأ المصلحة وحدها. (3) وصف الفقه بالوضعي، وإقامة الرأي في الأصول على النص يستهدف هدم الحواجز القائمة بين شريعة البشر وشريعة الله. (4) حصر النصوص في الأمور الثابتة، وترك الفقه الوضعي للأمور المتغيرة. (5) استخدام هذا المنهج لإضفاء صفة الشرعية للأفكار الغربية على الأسرة والاقتصاد والقانون (¬1). ويقابل هذا التوجيه من الخارج تحذير للطبقة المستسلمة في الداخل يَنصحها بالمحافظة على التراث الإسلامي. التراث عروبة وإسلام: يقول عماد خليل: "التراث جذور الأمة، ومكوّنات شخصيتها، ومسارها الحيوي عبر الزمان والمكان. وهو القاعدة والمنطلق وحجر الزاوية. وهو قدر الأمة ونسيج وجودها الذي لا يمكن لإنسان أن ¬

_ (¬1) يوسف كمال محمد: تطور أم تحول. المسلم المعاصر. المجلد الثاني: 84 - 85.

ينكره إلا على مستوى الجدل النظري الذي لا رصيد له في عالم التجربة الحية والواقع المعاشي". وهو من خلال بحثه يؤكد بأن كل المحاولات التي تستهدف الفصل بين تراثنا وإسلامنا إنما هي محاولات تسعى لإقامة الحواجز بين العروبة والإسلام. وهي محاولات انفصالية موقوتة غير دائمة. ولن تكون نتيجتها سوى الفشل المحتوم (¬1). وبعودتنا إلى التجديد والتطوير، تستوقفنا من بين المجموعة التي بين أيدينا جملة من الكتب والدراسات منها: كتابُ علم أصول الفقه وهو بحث د. جابر فياض. درج المؤلف في كتابه هذا على تصوير المراحل المختلفة لهذا العلم. فمن التشريع في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصحابة، إلى التشريع بعد صدر الإسلام. ومن تدوين الشافعي لأصول الفقه، والتنويه بعمله والتفصيل لمذهبه يظهر به أثر الشافعي في دراسة الأصول، يتخلص إلى بحثِ وضبطِ المبادئ والأسس التي قام عليها هذا العلم. وينتقل من حديثه عن رسالة الشافعي إلى ذكر التطوّرات التي وقعت في هذا العلم عن طريق إمام الحرمين بكتابه البرهان، والغزالي بالمستصفى، وظهور طريقة الحنفية إلى جنب طريقة المتكلمين. ومن التمحّض لقواعد الفقه الكلية إلى تقدير ما ينبغي أن يكون عليه علم أصول الفقه في عصرنا الحاضر. ويقف المؤلف، ليقول في مرارة: إنه منذ القرن الثالث عشر لم يوضع في علم أصول الفقه ما يمكن أن يعتبر تطويراً لهذا العلم ¬

_ (¬1) صلاح الدين حفني. المسلم المعاصر: 85.

الجليل باستثناء بعض الرسائل الجامعية. ويرجع هذا عنده إلى سد باب الاجتهاد، واكتفاء الناس بما وصلهم من كتب السلف. وربما كان من أشد الأسباب في ذلك إلغاء الشريعة الإسلامية كنظام يحكم حياة المسلمين (¬1). ومن هذه اللفتة الدقيقة لمختلف مراحل الكتابة والتأليف في علم أصول الفقه، يستوقفنا كتاب المنطلق في التجديد لحسين أتاي الذي لخّص بعض ملاحظاته فيه بقوله: (1) يحتاج التجديد إلى تثبيت وتعيين نقطة البداية، ووضع منهج خاص للقيام بعمل نافع. (2) توجيه النظرة من قبل العمل التجديدي في علم أصول الفقه إلى وجوب التفريق بين الشريعة والفقه، وبيان العلاقة بينهما. (3) وجوب مسايرة الفقه أو العلم بالأحكام الشرعية التي يُتوصل بها بواسطة الاستدلال والاستنباط إلى معالجة وضع معين في زمن معين لمقتضيات الحياة المتطورة للبشر، بحيث لا تخرج عن إطار الدين. أما الشريعة فثابتة لا يمكن تبديلها، لأن القرآن قد حصر سلطة التشريع في الإسلام، فجعلها بيد الله وبيد رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (4) تمسك أكثر العلماء بما ظهر من مذاهب شغلتهم عن دراسة علم أصول الفقه، وفي هذا تحوّل بالفروع بجعلها أصولاً. وهو ما يعوق الأئمة في الغالب عن ولوج باب الاجتهاد. وبجانب هذه التأملات والملاحظات، تقدم صاحب المنطلق في التجديد بالدعوة إلى مفهومين. ¬

_ (¬1) صلاح الدين حفني. تلخيص لكتاب المؤلف. المسلم المعاصر. السنة العاشرة، عدد 40: 88 - 89.

(1) دراسة تراثنا الفقهي للاستفادة منه في كيفية فهم المتقدمين للنصوص، وليس لغرض الاتباع والتدين. فإن أصول الفقه والفقه ما هما إلا من الله الواحد الأحد، وهما من مشكاة واحدة، وواسطة لفهم القرآن والسنة لا غايةً في ذاتهما. (2) أن يكون القرآن والسُّنة مصدرين رئيسيين مهما كان الحكم الفقهي، وبغضّ النظر عن صاحب الحكم، وأن يرجع إلى الكتاب والسُّنة كلما حدث حادث أو أريد وضع قانون أو نظام. ويمكن أن يتبع ما قدمناه، من ذكر لعلم أصول الفقه، بيانُ المنهج الأصولي الثابت المعروف بين مذاهبنا الفقهية بالمذهب الظاهري، فقد تولى الكتابة في ذلك د. عبد الحليم عويس حين قام بتقويم عمل ابن حزم وجهوده، وبيان مذهبه في مجال التشريع الإسلامي. ويتمثل اتجاه ابن حزم هذا كما هو معلوم في الاعتماد على البيان وهو السنة. وابن حزم لا يقبل من السنة إلا القولي منها. وقد ضمن كتابه المحلَّى نحو ثمانين حديثاً من المتواتر. ومذهبه الاحتجاج بأحاديث الآحاد، والأخذ بظواهرها من الأوامر والنواهي. وهو يحصر الإجماع في إجماع الصحابة وإجماع من بعدهم ممن أتى تبعاً لهم. وفي مقابل هذه الأصول المقرّرة المعتدّ بها عند الظاهرية نجد ابن حزم ينكر في شدةٍ القياسَ والتعليلَ والاستحسانَ وسدَّ الذرائع (¬1). وحاول إسماعيل راجي الفاروقي في بحثيه تسليط الضوء على أسرار التشريع في العبادات. والتنبيه إلى أنها الركن الركين في موضوعات المقاصد الشرعية. وفي بيان ذلك أورد في رسالته عن ¬

_ (¬1) المسلم المعاصر: 40 - 84.

أبعاد العبادات في الإسلام جوانب ثلاثة: يتجلّى الأول في البعد الاقتصادي. وهو البعد المادي المتضمن لجميع أنواع الخَير المادي، من بقاء وصحة وقوة علمية ومادية للتغلّب على المشاكل والأزمات والتخلص من آثارها. والإيقان بأن الإسلام مركزٌ على العمل الشريف. ويتمثل الجانب الثاني في البعد الاجتماعي. وهو مجد الإسلام في علمه وحكمته، في تحكيم الأخلاق في القوانين وتعييرها بها. والجانب الثالث هو البعد السياسي. وأركانه هي الوحدة والمساواة والعدل والتعبئة (¬1). أما كتابه الثاني: الاجتهاد والاجماع وهما طرفا الديناميكية في الإسلام فقد تساءل فيه عن أشياء لا بد أن تحضرنا ذهنياً في كل حين للإجابة عنها قولاً وفعلاً. وهي: من يجتهد؟ وفيمَ يجتهد؟ وكيف يجتهد؟. وقد أضاف إلى بحثه هذا الشروط الإسلامية المعروفة. أهمها: (1) فهم مقاصد الشريعة الحضارية، وتحقيقها والولاءُ لها. (2) إتاحة فرصة للإسلام لأن يدبِّر كل ناحية من نواحي الحياة، بناء على ما تنطق به تشريعاته. (3) العمل على حلّ أهمّ مشاكل العصر الحديث بالاجتهاد. وذلك بالخوض في أمهات المبادئ، وربط القيم الإسلامية بعضها ببعض. (4) جعل المنطلق الأساسي في هذا الاجتهاد ما يعمر القلب ¬

_ (¬1) المسلم المعاصر: عدد 40/ 86.

تصورات للتجديد

والفكر والروح من حقائق التوحيد (¬1). وتمحض الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي من بين هؤلاء الدارسين لنظرة شاملة موضوعية في دراسة الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد مركّزاً على جملة من الاعتبارات والأسس قائلاً: "ليس التجديد هو تطويعَ الفقه الإسلامي حتى يساير القوانين الوضعية: لا اللاتينية ولا الجرمانية، لا الرأسمالية ولا الاشتراكية. فهذا ليس من التجديد في شيء بل هو تحريف وتزييف. إنما التجديد الحق هو تنمية الفقه الإسلامي من داخله وبأساليبه هو، مع الاحتفاظ بخصائصه الأصلية وبطابعه المميّز. وهي الخصائص التي يرتكز عليها. والأساس الرباني، والوازع الديني، والإنسانية، والوسطية، والتوازن بين الفردية والجماعية، مع الالتزام بأصوله وضوابطه الكلية، والقدرة على النماء والتجدّد" (¬2). وأضاف إلى هذه الفقرة المصوّرة لمنهجه المعتمد في التجديد ذكر معالم التجديد والوسائل المساعدة لها المثبتة لأسسه وقواعده. تصورات للتجديد: تناولَت ثلةٌ من الأساتذة البحثَ والعرضَ لتجديد وتطوير علم أصول الفقه ونشرت في مجلة المسلم المعاصر جملةً من الدراسات، مثل اعتبار التيسير مقصداً من مقاصد الشريعة، والدعوة إلى إنشاء مجلس لشؤون المجتهدين، وقضايا فقهية جزئية كإنكار تقسيم النكاح إلى فاسد وباطل، واعتبار الإجراءات الطبّية الحديثة قائمة على أساس ¬

_ (¬1) المسلم المعاصر: 40/ 87. (¬2) المسلم المعاصر: 40/ 95.

قواعد الفقه الإسلامي، ودراسة مسائل علمية مهمّة ذات أثر، يُعنى بها الأصوليون والفقهاء، مثل: التفرقة بين السنة التشريعية وغير التشريعية، وحكم العمل بالسُّنة الفعلية في مجال الأمور الدنيوية، والتقليد والتلفيق في الفقه الإسلامي، والفتوى بين الماضي والحاضر. وإلى جانب هذه الطائفة من الآراء والتصوّرات التي يقوم بها دعاة التجديد، ظهرت بين رجال الفكر ورجال القانون والفقه جماعة اعتمدت في الترويج لآرائها مقدمات خطابية، أساسها اعتبار الفقه محصوراً في المسائل الجزئية، متناولةً في جملتها بعض المظاهر المميزة للفقه الإسلامي وأصوله. ومن الملاحظ في هذا الاتجاه الذي سلكه دعاة التجديد جمعهم بين أمرين معاً هما تجديد أصول الفقه وتجديد الفقه. وفي هذا المجال تقدمت طائفة بالإشارة إلى أن الفقه في عصرنا الحاضر وبين أصحاب الاختصاص فيه من دارسين وباحثين، لا يتناول إلا القضايا الجزئية غير ملتفٍ إلى القضايا العامة، التي نحتاج إلى دراستها مع اعتبار حاجة الأمة ملحّة إليها. فكان من مستلزمات ذلك ما أصاب الفقه من انحسار. ودعوا إلى أن تكون في الفقه دراسات عامة وكلية تتناول مسائل العبادات والمعاملات والأنكحة، ثم قضايا الملكية وما تخضع له في مختلف البلاد والعصور من سياسة واتجاهات، وتحديد سلطان الدولة، ومدى تدخّلها في تنظيم الحياة، والحديث عن الخلافة، وشروط الخليفة أو الحاكم ودوره، وقضايا السلم والحرب، وعقد المعاهدات والاتفاقات بين الدول والإجبار على العمل بها، وبجانب هذا بالخصوص الفقه العام وقضاياه المتعددة والسياسة الشرعية حسب آراء الأئمة المعتدّ بأقوالهم كالجويني والغزالي والشيباني والباقلاني

والماوردي وابن تيمية وابن القيم ومن نحا نحوهم من العلماء المعاصرين أمثال محمد بيرم الأول وعبد الرحمن تاج ومحمد يوسف موسى. وكانت غايتهم من هذه الملاحظة إظهارَ فوائد هذا الاتجاه، وما يمتد إليه الاهتمام عندهم، برعاية المجتمعات الإسلامية في المجالات المختلفة، وإعادة المنعة والقوة للأمة، ونشر الخير ووسائل المعرفة بين أفرادها، مع بذل الوسع والتوجيه لما يحقق لها التقدم والازدهار الحضاري من بحث ثروة الأمة وطرق تنميتها، وما إلى ذلك مما هو موضع عناية كثير من الشرعيين ورجال الفقه. وهذا جانب آخر من التجديد يقتضي الإعداد والترتيب وجمع مختلف الوسائل وبحثها بعمق وموضوعية، وإن كان لا يخضع لما نحن فيه من النظر والدرس لقضايا علم أصول الفقه بخصوصه.

الباب العاشر الاجتهاد

الباب العاشر الاجتهاد

الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد الاجتهاد عبارة عن بذل الفقيه جهده في استنباط حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي الشرعي على وجه يحس معه من نفسه العجز عن المزيد. والمراد بالفقيه هنا مَن يُمكنه استنباط الأحكام العملية من الأدلة الشرعية. وذهب المتأخرون إلى أن الفقيه يطلق على المجتهد، وعلى كل من يحفظ المسائل الفقهية في مذهب من المذاهب، ويعلم عامها من خاصها، ومطلقها من مقيدها، ومشكلها من مجملها (¬1). وربما احتيج إلى شيء من الدقة في التعريفين ليُتخلّص قدَر الطاقة من الاضطراب الحاصل للأصوليين. فإنهم اختلفوا اختلافاً واسعاً في إصابة المجتهد من عدمها في اجتهاده على أقوال منها: ° إن المصيب واحد فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات، وقواعد العقائد، والباقون على الزلل والخطأ. ° خالف في ذلك العدل الحافظ الأديب المفسر أبو زكريا يحيى العنبري بقوله: إن كل مجتهد مصيبٌ في المعقولات والمظنونات جميعاً. وردَّ هذا الرأي إمام الحرمين بما أورده في ¬

_ (¬1) د/ بدران أبو العينين بدران. أصول الفقه الإسلامي: 401.

البرهان من قوله: وهذا لا بد أن نتكلف له مَحْمَلاً، ونبين له وجهاً. ثم نزيّفه، إذ لا يُظَنُّ بذي عقل أن يقول: الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل، كالاجتهادات الواقعة في المظنونات حتى يصوّب فيه كل مجتهد. وفي هذا انسلال من الدين بالكلية، وكيف يعتقد ذلك والعلم بأحد الجانبين أو ما يعارضه جهل، فكيف يعتبر الجاهل مصيباً؟. والقول الحق في هذه القضية أن مَطالِب الخلقِ الوصول إلى الحق، ولكن اكتفي منهم بعقدٍ هم عليه مصمّمون. فإذا خاضوا في طلب الحق، ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيُعذرون على اعتقادهم. والذي يُستند إليه في نهاية هذا التقرير: أن الأعراب في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسألون. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة. ولم يطالبوا وراء ذلك بأعمال الفكر والنظر، فيتبين من مجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك، وهكذا يكون المصيب واحداً في المعقولات. ° واختُلف في المظنونات. والحق أن المصيب واحد، لأن في القول بتصويب المجتهدين كلهم سَفسطة في أوله وزندقة في آخره. وهذا هو المشهور من كلام الشافعي (¬1). ° وانقسم القائلون بالتصويب فريقين: الأول: هم المقتصدون الذين يعتبرون الوقائع العريَّة عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين، ولكنها موكولة إلى الطلب والاجتهاد. فإذا غلب على ظن المجتهد أمر فحكم الله فيه اتباع غلبة ظنه وموجبه. الثاني: الغلاة وهم القائلون بأن الناس غير مطالبين بالاجتهاد فلا اجتهاد. ويفعل المكلف ما يختار أيَّ الطرفين يشاء (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان: 1219، عدد 1462. (¬2) البرهان: 1220، عدد 1464.

وانقسم القائلون بأن المصيب واحد إلى مقتصدين وغلاة أيضاً. فالمقتصدون يرون أن من أصاب منهم فله أجران، والمخطئ معذور (¬1). وقال الغلاة: المخطئ آثم معاقب معاتب (¬2). وفصّل القرافي في هذا القول. وعقب الجويني على ما تقدم بقوله: إن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه، كالنص في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النصَ والشوفَ مصيب من جهة العمل، مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف. ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه، أو درك النص فيما فيه الكلام. وإن كان النص يفيد ركون النفس، ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن (¬3). فإذا حصرنا الاجتهاد بصفة مجملة في إدراك حكم الله في أفعال العباد، وفي التعرّف على الأدلة التي تُستقى منها الأحكام، يكون لزاماً علينا أن ننبّه: أولاً: إلى أن من الأحكام ما هو تشريع إلهي محضٌ. وذلك كالذي ثبت من تواتر أو بحديث نبوي قولي أو فعلي أو تقريري. وكذلك ما سنَّه المجتهدون في عصورهم المختلفة من قوانين من عموم استنباط النصوص، ومن روح التشريع وأهدافه العامة بواسطة الأمارات التي جعلها الشارع منهجاً وطريقاً لمعرفة الحكم ¬

_ (¬1) البرهان: 1320، عدد 1465. وورد بلفظ معذور مأجور. انظر النفائس: 9/ 879. (¬2) البرهان: 1320، عدد 1465. (¬3) البرهان: 2/ 1329، عدد 1481.

الشرعي. وهذا القسم هو الغالب في أحكام الشريعة. وهو سماوي إلهي باعتبار الأصل والأساس، وهو تشريعي وصفي بالنظر إلى جهود المجتهدين في استمداد الأحكام واستنباطها. ثانياً: إلى أن الدليل التفصيلي المقصود بالنظر فيه التوصّلُ إلى إدراك حكمٍ شرعي على سبل العلم أو الظن. وقد اشتهر عند علماء الأصول أن من الأدلة ما هو قطعي يفيد القطع، ومنها ما هو ظني في دلالته على الحكم. وذهبت طائفة كما قدمنا إلى أن الدليل هو ما يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى إدراك حكم تشريعي على سبيل العلم والجزم فقط. واعتبروا ما يتوصل بالنظر فيه إلى إدراك حكم شرعي على سبيل الظنّ أمارةً لا دليلاً. واختار الجويني أن الأمر مختلِف وكأنّه ملتَقَط من الطرفين، وهو يجمع المحاسن. فإن عنينا أنه لا يوجب العمل بمقتضى الظن، فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره، إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله اتباع موجب ظنه، ولا يناط ظنه بظن آخر. فإن رأينا أن المجتهد كلف ما وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر، فلا وجه له أيضاً إذ الأمر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل (¬1). ولعلنا بعد ما عرفناه في الطور الأول من الفقه في صدر الإسلام، وما وقفنا عليه بعد ذلك من فقه أصحاب المذاهب، نجد علماً متيناً وآراء ناضجة وتحقيقات وفتاوى بذل أصحابها أقصى ما يملكون من الجهد. وتبعت هذه الأطوار فترة طويلة من الاستقرار والجمود امتدت نحو خمسة قرون أو أكثر. وإنا لنلمس بحمد الله من ¬

_ (¬1) الجويني. البرهان: 2/ 1323 - 1324. عدد 1471.

منتصف القرن الماضي نهضة جديدة بما ظهر من مظاهر اليقظة والانبعاث. وبعد أن انتشرت القوانين الوضعية الأجنبية والالتزام بالعمل بها قسراً عاد علماء الإسلام ورجال القضاء إلى الشريعة الإسلامية يلوذون بتراثهم الفقهي وأحكام شريعتهم، يحيونها مُراعين في ذلك مراحل التطور للخروج بالحكم الإسلامي من سيطرة الغرب إلى واقع معاش يرجع فيه الناس إلى حكم الله وحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكانت الخطوة الأولى في التقنين، وإعطاء الفقه الإسلامي طابعه النظري الذي يجمع بين الأصول والاجتهادات المعاصرة. وهذه مجلة الأحكام العدلية شاهدة بذلك. صدرت سنة 1286، وبدأ العمل بها 1292، غير أن أحكامها كانت مقصورة على المذهب الحنفي. ورغم ذلك فقد اندفع علماء الفقه وأصوله إلى توسيع هذه النهضة وكتابة الفقه في مقالات ورسائل وكتب، وتكونت لجان الفتوى في كل مكان، وأُحدث مجمع البحوث الإسلامية ومجامع الفقه الإسلامي في بلاد كثيرة. وفي 1920 خرجت الأحكام الشرعية في مصر عن الاقتصار طى المذهب الحنفي، وتجاوزت ذلك إلى الأخذ بالمذاهب الأربعة. وفي 1929 تجاوز الأخذ بالأحكام في الأحوال الشخصية عن خصوص المذهب الحنفي إلى الأخذ ببعض المذاهب الفقهية الإسلامية الأخرى. وتجلّى ذلك بالخصوص في أحكام الوقف والمواريث والوصية. وذلك ما اقتضته مراعاة مصالح الناس ومسايرة التطور الاجتماعي. واتسعت النظم بعد هذا إلى الأخذ بالقوانين الشرعية المختلفة تحقيقاً لمصالح الناس، ومسايرة لروح العصر وتطوراته، شرط ألا يخالف ذلك نصاً من القرآن أو السُّنة الصحيحة.

واجب الاجتهاد

واجب الاجتهاد: توجيهاً لعلماء العصر وفقهائه أطلق الإمام الأكبر دعوته بوجوب الاجتهاد، منبهاً إلى أن ذلك لا يتم لأحد إلا متى توافرت لديه شروط ثلاثة: (1) أن يكون الفقيه، كما قدمنا، ذا نظر سديد في فقه الشريعة. (2) أن يكون متمكّناً من معرفة مقاصد الشريعة. (3) أن يكون خبيراً بمواضع الحاجة في الأمة، قديراً على إمدادها بالمعالجة الشرعية استبقاءً لعظمتها، واسترفاءِ خروقها، ووضعِ الهناء بمواضع النقب من أديمها. وقد بيّن صاحب المقاصد أن الاجتهاد فرض كفاية على الأمة بمقدار حاجة أقطارها وأحوالها. وتأثم الأمة بتركه، خاصة إذا كانت متمكنة من الانقطاع إلى خدمة الفقه للعمل به في خاصة نفسها. وتأثم العامة بعزوفها عن المطالبة بذلك، وتدعو إليه من شهد له أهل العلم بذلك، كما يأثم الأمراء والخلفاء في إضاعة الاهتمام بحمل الكافة عليه (¬1). وقالت جماعة من الفقهاء: إن الحكم في هذا على ثلاثة أوجه: (1) يكون الاجتهاد واجباً عينياً في حالتين: (أ) حال من سئل عن حادثة وقعت فعلاً، وتعيّن المجتهد لبيان حكمها، وضاق الوقت بحيث يُخاف فوتُها إن لم يجتهد ويصدر حكمه. (ب) حال المجتهد الذي تنزل به الحادثة، ويريد معرفة حكمها. فإنه يجب عليه أن يجتهد، ولا يجوز أن يقلّد غيره في حق نفسه ولا في حق غيره. ¬

_ (¬1) المقاصد: 392 - 395.

إعادة النظر في قضايا اجتهادية

(2) يجب الاجتهاد وجوباً كفائياً في حالتين: (أ) إذا سئل المجتهد عن حكم حادثة نزلت بفرد من الأفراد، وهناك غيره من المجتهدين، ولم يَخَفْ فوت الحادثة، فإذا تركوه كلهم أثموا جميعاً، وإذا أفتى أحدهم بعد اجتهاده سقط الطلب عن الجميع. (ب) إذا تردد الحكم بين قاضيين مختلفين في الظن، فإن الاجتهاد يكون فرضاً مشتركاً يقع عليهما. فأيهما اجتهد وتفرد بالحكم سقط عن الآخر. (3) يكون الاجتهاد مندوباً في حالتين: (أ) الاجتهاد في حادثة لم تقع سواء سئل عنها أو لم يُسأل. (ب) إذا استفتى أحد الناس المجتهد في حادثة لم تقع، فاجتهد بحكمها لم يأثم (¬1). إعادة النظر في قضايا اجتهادية: ولما ظهر من العنت في فرض أحكام اختلف فيها القضاة، بسبب اختلاف المذاهب المعتمدة، فإن من الخير إعادة النظر والبتّ فيها على أساس ما هو مقصد أصلي للشارع، وعلى أساس ما يقبل التيسير من أقوال المجتهدين. الإجراءات الشرعية: (1) ومن الإجراءات الشرعية ما قام به فقهاء المالكية من تحديد مقادير الآجال للحُجج ونحوها. ذلك أن الأمر موكول إلى ¬

_ (¬1) بدران: 482 - 483.

الاجتهاد في ضرب الآجال بحسب حُسن النظر في أمر الخصوم. وليس فيه حد محدود لا يتجاوز، وإنما هو الاجتهاد (¬1). (2) تغيير الأحكام بالتجديد ووضع الإجراءات أو الزيادة منها اعتباراً لاختلاف الأحوال وما نشاهده من اختلاف وتطور في كل عصر. وذلك ما يشير إليه قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (¬2). أما السياسة الشرعية فمثالها ما تواجه به الرعونة بترك الطعام، وبالإمساك عن الزواج، وترك أسباب الاكتساب. وللقائم بالشريعة ولأصحاب العلم بها من المعنيّين بذلك أن يقفوا في هذا المقام موقف ردع هذه العوارض النادرة بإرشاد يزيل الضلال والخطأ ويفضح الأفِن. لكن هذا يتعيّن في حالة كون العارض منها مقصوراً على نفس صاحبه لا يتعدّى ضرره إلى غيره. وما كان فيه الضرر متعدّياً من الفرد إلى الناس بدعوته لهم بالقول وبالفعل، بعزمه على نشر تلك الرعونات تنزَل به العقوبة على قدر ما كسبت يداه. ومن ترك الاكتساب مع قدرته عليه وله عيال يجبره وليُّ الأمر على الاكتساب (¬3). وكلما حصل التردد في أمانة من وكلت الشريعة حقاً إلى أمانته صح أن يُوكَل تنفيذ ذلك الحق إلى السلطان (¬4). ¬

_ (¬1) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 271 - 272. (¬2) عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 271. (¬3) طلب الشريعة للمصالح. المقاصد: 221 - 222. (¬4) مراتب الوازع. جبلية ودينية وسلطانية. المقاصد: 367.

الفصل الثاني: عالمية الشريعة والعمل بها

الفصل الثاني: عالميّة الشريعة والعمل بها عالمية الشريعة وأسباب العمل بها: ومن الشواهد على عالمية الشريعة وأنها للناس كافة: (1) قيامُها على التماثل في إجرائها الأحكام والقوانين، رغم اختلاف بلاد الإسلام وتعدّد أجناسها. وذلك لما انبنت عليه الشريعة الإسلامية من اعتبار الحِكم والعلل. وهي من مدركات العقول. (2) الإجماع على أن علماء الملّة مأمورون بالاعتبار في أحكام الشريعة والاستنباط منها. ودليل هذا قوله سبحانه مخاطباً عامة المسلمين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (¬1)، وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (¬2). (3) اشتمال القرآن على كلّيات كثيرة، واشتمال السُّنة على قواعد عامة. وهما مصدرا التشريع. وكذلك ورود المجملات المطلقات في القرآن الكريم، ومعظمها ممّا أراد الشارع بقاءَهُ على إطلاقه وإجماله. (4) احتمال إرادة تعميم قضايا الأعيان، وهي تشريعات جزئية، كما يحتمل تخصيصها. ¬

_ (¬1) سورة التغابن، الآية: 16. (¬2) سورة الحشر، الآية: 2.

(5) اختلاف قضايا الأعيان وأخبار الآحاد في حجّيتها على مذاهب معروفة، إذا هي خالفت القواعد أي الكليات، أو خالفت القياس، أو خالفت عمل أهل المدينة. (6) مراعاة عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي. (7) ليس من المباح مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة، وإنما يصار في ذلك إلى العوائد. (8) عادات قوم لا يحقّ لها بما هي عادات، أن يحمل عليها أصحابها في التشريع، ولا أن يُحمَل عليها قوم آخرون فيه. (9) إجماع العلماء على أن عمومات الشريعة صالحة للناس في كل زمان ومكان. (10) تجنب التشريع الإسلامي التفريع والتحديد، والنهي عن كثرة السؤال عن الأحكام. (11) اشتمال القرآن على أنواع من أساليب التشريع: منها التشريع العام الكلي، ومنها التشريعات الجزئية النازلة في صور أحكام لنوازل حلّت. (12) في القرآن جزئيات تساوي الجزئيات التي وردت في السُّنة، وفيه التشريعات المنسوخة تماماً. ولكن الغالب عليه من التشريعات النوع الكلي. (13) معظم تشريعات السُّنة جزئية لورودها في قضايا عينيّة، وفيها أيضاً تشريعات كليّة واضحة صالحة لأن تكون أساس التشريع. (14) تقسيم المجتهدين التشريع إلى قسمين، وصرفهم كل

العمل بالشريعة

الوسع عن النظر العقلي في تمييز ما اشتمل عليه الكتاب والسُّنة، وإلحاق كل نصّ بنوعه. ويُلحق بهذه الصفات اليُسر. فاليسر من الفطرة، ومن الفطرة حب الرفق ورفع الحرج، وفي هذا رحمة للناس. فهذه الاعتبارات تُبرز صلوحية هذه الشريعة؛ لأنّها قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال، كما أن مختلف أحوال العصور والأمم قابل للتشكل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر. العمل بالشريعة: المقصد الأساس من العمل بالشريعة الإسلامية يقوم على جملة دعائم منها: أولاً: أن مقصد الشريعة من أحكامها كلها إثباتُ أجناس تلك الأحكام، من الوجوب والحرمة، ومن الصحة والفساد والبطلان، ونحو ذلك من الغرم والعقوبة والجزاء الحسَن وسواها من آثار الأعمال. وهذا بحسب الأحوال والأوصاف والأفعال من التصرّفات خاصِّها وعامِّها، وباعتبار ما تشتمل عليه تلك الأحوال والأوصاف والأفعال من المعاني المنتجة صلاحاً ونفعاً، أو فساداً وضراً قويين أو ضعيفين (¬1). ثانياً: مجيء الشريعة الإسلامية عامة، داعية جميع البشر إلى اتباعها. وهذا ما نطق به القرآن في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ¬

_ (¬1) المقاصد: 306.

يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬1) , وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). وصدَعَتْ به السُّنة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعطيتُ خمساً لم يعطهن أحد قبلي ... - ذكر منها - أن الرسول كان يبعث إلى قومه خاصَّة، وبعثت إلى الناس عامّة" (¬3). ويتحقق هذان الأمران بالالتزام بأمرين آخرين هما: أولاً: إقامة الشريعة الإسلامية. بأن يكون للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحها، ويُقيمون العدل فيها، وينفّذون أحكام الشريعة بينها. ثانياً: من أهم مقاصد الشريعة إقامتها وحراستها وتنفيذها بعد تبليغها، وإقامة علماءَ للشريعة قصد التبليغ والإقامة (¬4). وتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها يكونان ببثّ علومها وتكثير علمائها وحَمَلتها (¬5). * * * * * ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬2) سورة سبأ، الآية: 28. (¬3) انظر المقاصد: 259. (¬4) المقاصد: 515. (¬5) المقاصد: 517.

الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام

الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام مسائل بيع الطعام: أجمع العلماء، غير عثمان البتي، على منع بيع الطعام قبل قبضه. ودليلهم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وهو ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر؛ ونصه: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه" (¬1). وقال الشوكاني: وحكى ابن حجر في الفتح عن مالك أنه أجازه في بيع الجزاف، وبه قال الأوزاعي وإسحاق. ودليلهم أن الجزاف يرى فيكفي فيه التخلية، والاستبقاء في المكيل والموزون (¬2). وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة في ثلاثة مواضع: • الأول: فيما يشترط فيه القبض في المبيعات. • الثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط فيها ذلك. • الثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلاً وجزافاً. وقد فصل ابن رشد القول في ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) خَ: 3/ 21، 23؛ مَ: 2/ 1159 - 1162؛ حَم: 1/ 56، 356، 368. (¬2) نيل الأوطار: 5/ 178. (¬3) بداية المجتهد: 3/ 1598 - 1605.

المقاصة

المُقاصّة: هي إسقاط دين مطلوب لشخص عل غريمه في مقابلة دين مطلوب من ذلك الشخص لغريمه (¬1). وهي طريقة من طرق قضاء الديون. عرّفها ابن جزي بقوله: هي اقتطاع دين من دين. وفيها متاركة، ومعاوضة، وحوالة (¬2). وهي مشروعة نقلاً وعقلاً. أما نقلاً فلِما ورد عن عبد الله بن عمر فيها من قوله: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم. آخذ من هذه وأعطي من هذه، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله رُوَيدَك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطى هذه من هذه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرّقا وبينكما شيء" (¬3). وهذا نص على جواز الاستبدال من ثمن المبيع الذي في الذمة بغيره. وأما عقلاً فإن قبض الدين يحصل بقبض بدله. فالعين المقبوضة مضمونة على القابض، وفي ذمة المقبوض منه مثلها في المالية فيلتقيان قصاصاً. وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين أن يكون المقبوض من جنس ما هو عليه، أو من خلاف جنسه؛ لأن المقاصّة إنما تتحقق بالمعنى وهو المالية، والأموال كلها جنس واحد (¬4). وللمقاصّة صور. فهي تجري في الزكاة، وفي دين الزوج بنفقة ¬

_ (¬1) مرشد الحيران: المادة 224. (¬2) القوانين الفقهية: 297. (¬3) دَ: 3/ 651. الحديث ضعفه الشافعي. ابن حجر. التلخيص: 2/ 26. (¬4) مواهب الجليل: 5/ 549.

بيوع الآجال

زوجها ومهرها، وفي الغصب، وكذا في الوديعة والوكالة والسَّلَم، والكفالة والوقف والوصيّة. والمقاصّة نوعان: اختيارية تقع بتراضي الطرفين، وجبرية وهي التي تحصل بتقابل الدينين بشروط معيّنة. ويشترط في المقاصّة الجبرية عند الجمهور اتحاد الدينين جنساً ووصفاً، وحلولاً، وقوة وضعفاً. ولا يشترط ذلك في المقاصّة الاختيارية. والمالكية لا يقولون بالمقاصة الجبرية التي لا تقع بنفسها إلا نادراً. فغالب أحوالها الجواز، أما وجوبها فهو قليل. وهو في أحوال ثلاثة: إذا حلّ الدينان، أو اتفقا أجلاً، أو طلبها من حَلَّ دَينه فالمذهب وجوب الحكم بالمقاصّة (¬1). وتقع المقاصّة مطلقاً بقدر الأقلّ من الدينين. واختلفت آراء المذاهب فيها، وفصّلوا القول في أحكامها (¬2). بيوع الآجال: نوع من أنواع البيوعات المحظورة سداً للذريعة. أثبت مالك وأبو حنيفة وجوب سدّ الذريعة في بيوعات الآجال، وقال الإمامان بعدم جوازها (¬3)، وأنكر ذلك الشافعي لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬4) وقوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ¬

_ (¬1) الدسوقي. الحاشية: 3/ 227. (¬2) الموسوعة الفقهية: 38/ 329 - 340. (¬3) مخط. شرح المازري للتلقين: 3/ وظ؛ انظر المقاصد: 338، 339. (¬4) سورة البقرة، الآية: 275.

تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) .. وبيوع الآجال معدودة ضمن بيوع الذرائع الربوية. وهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بثمن آخر إلى أجل آخر نقداً. وهذه البيوعات لا تخلو من: • أن يكون البَيعان، الأول والثاني، نقداً. • أن يكون البَيعان، الأول والثاني، مؤجّلين. • أن يكون البيع الأول مؤجّلاً، والثاني نقداً. • أن يكون البيع الأول نقداً، والثاني مؤجّلاً. فإن كانا جميعاً - الأول والثاني - نقدين فإنّ ذلك ممّا لا تقدّر فيه التهم والتحيّل على ما لا يجوز، إلا أن يكون المتبايعان من أهل العِينَة، فإنهما تتطرق إليهما التهمة، لاعتيادهما التحيّل على ما لا يجوز. وكذلك إن كان أحدهما من أهل العِينة، والآخر ليس من أهلها، فإن التهمة تتطرق إلى هذا العقد لأجل كون أحدهما ممن يُتهم. فأما كونهما جميعاً يتّهمان كما وقع في المذهب في منع أهل العينة فصحيح على أصل المذهب. وأما إن كانا مؤجّلين جميعاً فإن ذلك يتهم فيه سائر الناس، لأن بياعات النقود يقل فيها الاضطرار إلى التحيّل على ما لا يحل، وبياعات الآجال يكثر فيها ذلك لشدة الحاجة إلى شراء المبيع نسيئة لعدم الأثمان عند مشتريه. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 29.

كراء الأرض بما يخرج منها

وإن كانت البيعة الأولى لأجَلٍ والثانية نقداً، فإن التهمة تتطرق فيها ويؤخذ بالذريعة عموماً لما قدمناه. وإن كانت الأولى نقداً والثانية إلى أجل فإن في ذلك اختلافاً في المذهب. فمن حمى الذريعة فيه عموماً جعل الحكم للبيعة الثانية لحاجة الناس إلى الشراء نسيئة. ومن لا يتهم البيعتين إذا كانت نقداً فلا يتهم فيهما إلا أهل العينة. وقد جعل المازري الأقسام التي تجري فيها بيوع الآجال اثني عشر قسماً. وهي كون البائع للثوب يشتريه نقداً بمثل الثمن أو أكثر منه أو أقل، وإلى أجَلٍ أقرب من الأجل: الأول يشتريه أيضاً بمثل الثمن أو أكثر منه أو أقل، أو إلى الأجل نفسه بمثل الثمن الأول أو الأقل أو الأكثر أو إلى أبعد من الأجل بمثل الثمن أيضاً أو أقل أو أكثر. فجميع هذه الأقسام لا يمنع منها شيء إلا ثلاثة أقسام. وهي: (1) أن يشتريها بأقل من الثمن نقداً. (2) أو إلى أجل أقرب من الأجل الأول. (3) أو يشتريها بأكثر من الثمن إلى أبعد من الأجل على غير جهة المقاصة بالثمنين (¬1). كراء الأرض بما يخرج منها: كراء الأرض أو إجارتها. عرّفه الفقهاء بأنه عقد معاوضة على ¬

_ (¬1) شرح التلقين: كتاب بيوع الآجال؛ بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 3/ 1562 - 1563.

الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة

تمليك منفعة بعوض. والعوض ركن في الإجارة. وقد اختلف الفقهاء في جواز الإجارة أو الكراء ببعض المعمول أو بعض الناتج من العمل المتعاقد عليه. فمنع ذلك الحنفية والمالكية والشافعية لما فيه من غرر؛ لأنه إذا هلك ما يجري فيه العمل ضاع على الأجير أجره. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قَفِيز الطحان (¬1). وأجاز ذلك الحنابلة إذا كانت الأجرة جزءاً شائعاً مما عمل فيه الأجير تشبيهاً بالمغارسة والمساقاة. ومن هذه القاعدة العامة كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، أي بما تنبته الأرض. فقد أجاز ذلك الحنابلة لأن منفعتها مقصودة ومعهودة فيها. ومنعت المالكية والشافعية هذه الإجارة إلا إذا كانت الأرض المأجورة لها ماء تسقى به، ولو ماء المطر إلا أن تكون الإجارة لمدة طويلة فاشترطوا أن تكون مأمونة الري (¬2). الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة: الشفعة: تمليك البقعة جبراً على المشتري بما قام عليه، أو هي حق تملّك قَهري يثبت للشريك القديم على الحادث فيما ملك بعِوَض (¬3). وهي مشروعة وجائزة فيما لم يقسم لحديث جابر بن عبد الله قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم. فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬4). وقال الشبراملّسي من ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد. وفي إسناده من لا يعرف. وإن وثقه ابن حبان. قاله ابن حجر. التلخيص الحبير: 3/ 60. (¬2) الهداية: 3/ 235؛ الدسوقي: 4/ 6؛ الرملي. كاية البيان: 1/ 227. (¬3) ابن عابدين. رد المحتار: 5/ 142؛ حاشية سعدي جلبي على هامش فتح القدير: 6/ 406؛ الخرشي على مختصر خليل: 6/ 161. (¬4) خَ: 4/ 436.

الشافعية: والأخذ بها مستحب بل واجب إن تعيّن طريقاً لدفع ما يريده المشتري من الفجور (¬1). وقد اختلف الفقهاء في محل جوازها. فذهب مالك في إحدى روايتيه والشافعي في الأصح والحنابلة في ظاهر المذهب إلى أن كل ما لم يقسم لا شفعة فيه (¬2). وذهب الحنفية ومالك في الرواية الثانية والشافعية في الصحيح والحنابلة في رواية إلى أن الشفعة تجب في العقار سواء قَبِل القسمة أم لم يقبلها (¬3). وإذا كانت الشفعة إنما شُرعت لدفع الضر اللاحق بالشركة فإنها تجوز فيما لا يقسم. فمن الجائز أن نقول بأن الضرر بالشركة فيما لا يقسم أبلغ من الضرر بالعقار الذي يقبل القسمة (¬4). * * * * * ¬

_ (¬1) حاشية نهاية المحتاج: 5/ 195. (¬2) الدسوقي: 3/ 476؛ الخرشي: 2/ 228؛ نهاية المحتاج: 5/ 195؛ الأم: 2/ 4؛ المغني: 5/ 461. (¬3) المغني مع الشرح الكبير: 5/ 466. (¬4) الموسوعة الفقهية: 26/ 136 - 139.

الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي

الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي كان الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور يدعو إلى بذل الجهد في إقامة أحكام جديدة لما يستجد من قضايا ونوازل. وفي الوقت نفسه، ومن خلال توجيهاته وتنبيهاته التي ذكرنا منها جملةً، يُمكن أن نُهذبَ طرائقَنا في البحث، ومعالجتَنا للمشاكل القائمة اليوم. وقد دعا من قبل إلى تكوين مجالس الفتوى في كل بلد، تقوم بأطراف العالم الإسلامي بمهمة النظر والبحث والتحرير والتقرير وإيجاد الحلول الشرعية الحكيمة لما يشغل الناس من مشاكل، وتواجههم من تحديات، ودعا بعد ذلك دعوة صريحة إلى إقامة مجمع فقهي. وهو وإن كان يعلم أن الأمر صعب، يحتاج إلى جهد لتوحيد النظر، والصدور بتوصيات وقرارات واحدة، يفيد منها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يؤكد حاجة الأمة الإسلامية إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشريعة، وتمكُّنٍ من معرفة مقاصدها، وخبرةٍ بمواضع الحاجة في الأمة، ومقدرةٍ على إمدادها بالمعالجة الشرعية الضرورية اللازمة. وبعد إشارته إلى ما ينبغي أن يكون عليه المجتهد في هذا العصر والعالِم المتميز الذي بلغ درجة المقارنة والترجيح بين المذاهب الفقهية في الأحكام الشرعية (¬1)، يذكّر، على عادة الأئمة ¬

_ (¬1) المقاصد: 394.

المتقنين المتقدمين، بحكم الاجتهاد والأسباب الحاملة عليه، قائلاً: الاجتهاد فرض كفاية على الأمة بقدر حاجة أقطارها وأحوالها، وأن الأمة تأثم بالتفريط فيه مع الاستطاعة ومِكْنَة الأسباب والآلات. وإنه لمن الضروري الانتباه إلى ما ظهر في ذلك من آثار في الأحوال التي بدت متغيّرة عن الأحوال التي كانت في عصور المجتهدين، والأحوال التي طرأت، ولم يكن نظيرها معروفاً في تلك العصور، والأحوال التي ظهرت حاجة المسلمين فيها إلى العمل بعمل واحد لا يناسبه ما هم عليه من اختلاف المذاهب. فهم بحاجة في الأقل إلى علماء يرجحون لهم العمل بقول بعض المذاهب المقتدى بها الآن بين المسلمين ليصدر المسلمون عن عمل واحد .. وإن أقلّ ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي، أن يسعَوا إلى جمع مجمع علمي يحضره أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويَبسُطوا بينهم حاجات الأمة، ويصدُروا فيها عن وفاق فيما يتعين عمل الأمة عليه، ويُعلمِوا أقطار الإسلام بمقرراتهم (¬1). ويشترط في أعضاء المجمع أن يقيموا من بينهم أوسعهم علماً وأحدَّهم نظراً في فهم الشريعة. فيشهدوا له بالتأهُّل للاجتهاد في الشريعة، ويتعين أن يكونوا قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة، لتكون أمانة العلم فيهم مستوفاة، ولا تتطرق إليهم الريبة في النصح للأمة. أما الموضوعات التي على المجمع أن يوليها من العناية ما هي به جديرة فقضايا العقيدة والعبادات التي هي بها بناء كيان المسلم، وبها تتحقّق ذاته، وقضايا العصر ومستجداته في المعاملات والمسائل ¬

_ (¬1) المقاصد: 393.

الاقتصادية والاجتماعية. ونبّه الإمام إلى ما كان يجده أكثر الناس من الحرج في بعض الأحكام التي كانت شديدة عليهم، وحَرَمتهم من مواجهة الصعاب. وهي مسائل تحتاج في حاضرنا إلى إعادة النظر. ذكر منها الشيخ خمسة أمثلة إجمالية: هي بيع الطعام، والمقاصّة، وبيوع الآجال، وكراء الأرض بما يخرج منها، والشفعة في خصوص ما يقبل القسمة. وفي الكثير منها تضييق (¬1). * * * * * ¬

_ (¬1) المقاصد: 394.

الخاتمة

الخاتمة وعلى نحو ما قدمنا في الحديث عن أقسام المقاصد استهل الإمام الأكبر كتابه مقاصد الشريعة بحملنا على اعتقاد أنه بما يقدمه من مباحث جليلة يرجو أن يضع بين أيدي المتفقهين في الدين نبراساً لهم، ومرجعاً بينهم، يحد من اختلاف الأنظار، ويدرب الفقهاء وأتباعهم على الإنصاف، ونبذ التعصب والخلاف، والفيئة إلى الحق فيما يبدون فيه آرائهم أو يُعرضون له من أنظار عند إرادة الترجيح بين الأقوال. ذلك أنهم لم يجدوا في علم أصول الفقه منتهى ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه منهم، وعُسر أو تعذر الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال. واعتقاد الشيخ ابن عاشور أنهم واجدون في علم مقاصد الشريعة ما فقدوه في علم الأصول لأن هذا العلم محصورة قضاياه في استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تنتزع بها الفروع أو الأوصاف التي تؤذن بها تلك الألفاظ من غير أن تكون متناولة لبيان حكمة الشريعة. وإن كان لبعض مباحثه صلة بالمقاصد. وذلك كالمناسبة والإخالة في مسالك العلة، ومباحث المصالح المرسلة والمتواتر، والمعلوم من الدين بالضرورة، وحمل المطلق على المقيد. واستعرض إثر ذلك موضوع قطعية أصول الفقه، وقارن القول فيها بين الجويني صاحب البرهان والمازري شارحِه، وبين الأبياري

والبصري، وبين القرافي والشاطبي، رادّاً على القائلين بالقطعية مؤكداً ما ذهب إليه القرافي في نفائس الأصول، ومعترضاً على الشاطبي، مفنّداً أدلته التي ناصر بها إمام الحرمين. وتناول في تمهيده الحديث عن القواعد القطعية للتفقه، وهي التي وضعتها جماعة من العلماء، كما تحدث عن روّاد علم المقاصد منوّهاً بهم ومقارناً بينهم. وفي القسم الأول من الكتاب تعرض لإثبات مقاصد الشريعة، وإلى مدى احتياج الفقيه إلى معرفتها، منبهاً إلى أن كل مكلَّف بحاجة إلى معرفة ذلك، لكنّ عُسر طلبها يحول بينها وبين العامة، وأن العلماء أنفسهم متفاوتون في تقديرها على قدر تفاوتهم في القرائح والفهوم. وذكر جملة من المقاصد منها علة تحريم المزابنة، وعلة تحريم بيع الجزاف بالمكيل، وإباحة الغبن القليل تيسيراً على الناس كما في معاملات الأبدان، وإبطال الغرر في المعاوضات، وطلب الرواج، معقباً على هذا ببيان الجهات الثلاث لمعرفة مقصد الشارع، وبتقسيمه المقاصد إلى أصلية وتابعة. وقد اهتم بما عُني به العلماء المتقدمون من أهل السلف، ومن المجتهدين فبيّن منهاجهم والطرائق التي اعتمدوها للتوصل إلى معرفة المقاصد وتقسيمها، معتمداً أساساً على الاستقراء والاستدلال. وتوقف عند الخطاب الشرعي، ذاهباً - كما ذهب غيره - إلى أن الكلام لا يكفي وحده للدلالة على مراد اللافظ دلالةً لا تحمل شكاً في مقصده من لفظه. وتحدث عما يلابس الخطاب من وجوه البيان

والخفاء، ودعا إلى الاستعانة على فهم المعاني بمعرفة السياق والمقام وما يحف بالكلام من دلالات وقرائن مقالية وحالية، وحمل على الخطأ كل الفقهاء الذين كانوا يقتصرون في استنباط الأحكام على اعتصار الألفاظ. وأشار إلى تقصير الظاهرية وبعض المحدّثين في ذلك. ونقد بعض الأحاديث ووجه الدارسين إلى القيام بتحرير مقدار الاعتبار بمذاهب الصحابة فيما طريقه النقل والعمل. وعلى غرار الإمام القرافي اهتم بالتمييز بين مقامات أقوال وأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفرَّق بدقة بين التبليغ والإمامة القضاء. وجعل المقامات بما تختلف فيه بينها من أحوال ليست مقصورة على مقامات التشريع، بل تتجاوزها إلى ما وراءها، وأورد اثنتي عشرة حالة هي كما ذكرنا أولاً مما كان يختلف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحوال التشريع أو الفتوى أو القضاء أو أحوال كثيرة أخرى كحال الإمارة، وحال الهدي، وحال المصالحة بين الناس، وحال الإشارة على المستشير، وحال النصيحة، وحال طلب حمل النفوس على الأكمل، وحال تعليم الحقائق العالية، وحال التأديب، وحال التجرد عن الإرشاد. ثم خلص من ذلك وهو ماض في نفس السياق إلى بيان أن مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية، وأن تعيين مقصدٍ شرعيٍ، كلياً كان أو جزئياً، أمرٌ تتفرع منه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط. ففي الخطأ فيه خطر عظيم. وهو يقترح على من يزعم قطعية علم الأصول تجنب هذا المسلك لأن مسائل أصول الفقه ظنية لا يمكن أن ترقى إلى درجة أصول الدين. ولكن الذي ينبغي الاتجاه إليه والحرص على الظفر به

هو أن نسير على منهج الإمام العز بن عبد السلام في كتابه القواعد الكبرى فنجمع جملة من القواعد القطعية، يتأتّى لنا الرجوع إليها في التحكيم عند الاختلاف والمكابرة. وتستمد هذه القواطع من متكرر أدلة القرآن النافي لاحتمال المجاز أو المبالغة، ومن اطراد النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم وكل ما فيه ضرر أو إضرار. ومن بين ما تناوله القسم الأول من الكتاب النظر في تعليل الأحكام الشرعية، والتفريق بين ما هو منها معلل وما هو تعبدي. وفي هذا أبرزَ وظيفة الفقهاء في انتزاع الفروع من الأصول إما بطريق تحقيق المناط، وإما بطريق القياس، وإما باعتماد أحكام ثبت صدورها عن الشارع في علم المجتهد وهو موقن بها، لكنه لم يقف على مراد الشارع منها لخفائها، وهو التعبدي. وقد نبّه إلى مقالة عمر أن السنن ووجوه الحق تأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بداً من اتباعها كقضاء الحائض الصوم، وعدم قضائها الصلاة، وكون العمة تورِث ولا تَرث. وكشف المؤلف عن رأي الظاهرية في هذا المحل، وذهب مسانداً لابن العربي في موقفه منهم قائلاً: يضطر الظاهرية (بنزعتهم هذه) إلى التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكماً من حوادث الزمان. كما أن في اتجاههم هذا نفيَ مواكبة الشريعة لجميع العصور والأقطار. ومثل لما أبداه الصحابة من الاجتهاد بقضية العول في الميراث. ونصح الفقهاء بأن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبدية في تشريع المعاملات، وأن يعتبروا أن التعبدي من الأحكام هو ما خفيت علله ودقت. وأنه وإن جاز إثبات أحكام تعبدية لا علة لها في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية، فإن عليهم استنباط العلل في

أقسام المعاملات الأخرى كما فعل الأئمة الثلاثة في بيان علةِ تحريمِ ربا الفضل قياساً على الأصناف الربوية. وفي القسم الثاني من الكتاب الموضوع لمقاصد التشريع العامة بدأ الإمام الأكبر بتعريف المقاصد، وبيان الصفة الضابطة لها في المعاني الحقيقية والمعاني العرفية العامة. واشترط فيها الثبوت والظهور والانضباط والاطراد. فإذا توفرت الشروط حصل اليقين بأنها مقاصد شرعية، وإذا اختلطت المعاني وترددت بين الصلاح والفساد تعين الرجوع إلى نظر العلماء وولاة الأمر لتحديد المقصود منها ولا يعتد بما هو أوهام أو تخيلات في المعاني. فإن البناء على الأوهام مرفوض في الشريعة إلا عند الضرورة. ومن حق الفقيه أن يتعمق في التأمل من أجل إزالة ذلك الوهم والتوصل إلى المعنى الخفي الذي هو مناط التشريع. والأمور الوهمية وإن لم تصلح لأن تكون مقصداً شرعياً فهي صالحة لأن يُستبان بها في تحقيق المقاصد الشرعية، فتكون طريقاً للدعوة والموعظة ترغيباً وترهيباً. وتوقف الإمام طويلاً عند وصف الفطرة وذكر ما قالها المفسرون فيها، وفي أقسامها، وأورد في ذلك مقالة ابن سينا نقلاً عن كتاب النجاة. وفي وجوه الحث عليها والجري على مقتضاها يقول: إن الشريعة الإسلامية داعية أهلها إلى تقويم الفطرة والحفاظ على إعمالها وإحياء ما اندرس منها، وأن المقصد العام من التشريع يتعين أن يكون مسايراً لها، سالماً من خرقها أو اختلالها، وأن الوصف المترتب عليها وهو أكبر مقاصدها هو السماحة. وهي سهولة المعاملة في اعتدال، وتظهر سهولتها المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه، ومن ثم كان من الفطرة النفور من الشدة والإعنات.

والمقصد العام من التشريع هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ذلك أن مقصد الشريعة أساساً وبالذات هو الإصلاح وإزالة الفساد. وقد جعل الإسلام صلاح الإنسان بصلاح أفراده وبصلاح مجموعه. فبدأ بإصلاح الاعتقاد ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنة، وتصفية الباطن تُحرِّك دون شك الإنسانَ إلى الأعمال الصالحة. وللارتباط الجذري بين المقصد والمصلحة عرف الإمام المصلحة بكونها الوصف الذي يحصل به الصلاح أي النفع دائماً أو غالباً للجمهور وللآحاد. وذكر في هذا المقام تعريفات أخرى لها وللمفسدة، نقلها عن الإيجي والشاطبي. ثم قسم المصلحة باعتبار العموم والخصوص، وباعتبار الظهور والخفاء. وتميز عن الإمامين العز بن عبد السلام والشاطبي بذكر ضوابط المصلحة. وهي خمسة أمور: كون النفع والضر محققين، غالبين، واضحين لا يمكن الاجتزاء عنهما بغيرهما، وكون أحدهما في حال المساواة بضده يعضده مرجح من جنسه، وكون أحدهما منضبطاً محققاً والآخر مضطرباً. وتعرف مصالح الدنيا ومفاسدها وأسبابها، كما قال العز بن عبد السلام، بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. وأكد بعد ذلك على أن تشريع جلبِ المصالح ليس فيه تحصيلُ مفسدة كما أن تشريع درءِ المفاسد ليسَ فيه إضاعةُ مصلحة. وختم البحث بذكر أن المنهيات كلَّها مشتملة على مفاسد. أما طلب الشريعة للمصالح فقد جعله قسمين: الأول: ما ليس

من شأن الشارع أن يطلبه لداعي الجبلة فيه ولكنها إلى ذلك تزيل عنه موانع حصوله، والثاني: ما لا تتحقق به المصلحة إلا أن يقوم بها الجميع كحفظ النفس الواجب على الأعيان، وكالواجب على الكفاية على الفرد أو على الجماعة مثل إنقاذ الغريق وإطفاء النار الملتهمة للبيت. ووقع البحث مع ذلك في جزئيات أخرى كثيرة تدخل في إطار هذا الموضوع منها أن للإنسان أن يتصرف في الحقوق الثابتة له، ولا تعلق لها بغيره بالإسقاط إن شاء، ومنها أنه ليس لأحد إسقاط شيء من مصالح القسم الثاني لأن المصلحة فيه حق ثابت له مع حق غيره. وإذا تعارضت المصالح ترجحت في التقديم العظمى. فتقديم أرجح المصلحتين هو الطريق الشرعي، ودرء أرجح المفسدتين كذلك. فإن حصل التساوي من جميع الوجوه بين المصالح والمفاسد كان الحكم في هذه الحالة التخيير. والشريعة تسعى إلى تحقيق المقاصد في عموم طبقات الأمة بدون حرج ولا مشقة، فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع. ويمكن أن نضيف إلى هذا ذكرَ أنواع المصلحة المقصودة من التشريع. والعالِم المتمكن ذو الملكة في علم المقاصد يمكنه التعرف بيسر على مقصود الشارع. فمن ذلك اعتبار مقصد الشريعة من التشريع حفظ نظام العالم، وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم من التفاسد والتهالك. وكذلك بيان أمثلة ونظائر لأنواع المصالح المعتبرة شرعاً والمفاسد المحذورة. ويتنبه إلى أن مقصد الشارع لا يجوز أن يكون غير مصلحة، ولكنه لا يلزم شرعاً أن يكون مقصوداً منه كل مصلحة. فالمصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.

وهي باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها تتنوع إلى كلية وجزئية. وباعتبار تحقق الاحتياج إليها في قوام أمر الأمة أو الأفراد تختلف بين أن تكون قطعية أو ظنية أو وهمية، كما تتنوع بين خالصة محضة ومشوبة. وبدأ بالكليات الخمس فذكر حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب وخالف القرافي والطوفي في اعتبارهما حفظ العرض ملحقاً بتلك الكليات. وبعد حديثه المفصل عن الكليات تعرض لقسمي الحاجي والتحسيني. وقال عن الأول: هو ما تحتاجه الأمة لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن، ولولا مرعاة ذلك لما فسد النظام، ولكنه يكون على حالة غير منتظمة، وهو لا يبلغ مبلغ الضروري. وبعد إيراد أمثلة كثيرة لهذا النوع أفرد التحسيني بالبيان، وعرّفه بأنه ما يكون به كمال حال الأمة في نظامها حتى تكون مرغوباً في الاندماج فيها وفي التقرُّب منها، وهي ما تُراعَى به المدارك الراقية البشرية. وينتقل المؤلف من الحديث عن التكاليف الشرعية الراجعة إلى جهة مقاصدها في الخلق إلى قضية جدّ هامة هي من عيون المسائل التي كان له موقف مميّز فيها، وهي قضية المصلحة المرسلة. فعرفها بأنها المصلحة التي أرسلتها الشريعة فلم تُنِط بها حكماً معيناً ولا يُلفى في الشريعة لها نظير معين له حكم شرعي فتقاس هي عليه. وقد ذكر لها أمثلة كثيرة منها جمع القرآن وإحداث الدواوين، ووضع فقهاء الإسلام لجملة من الإجراءات في أساليب المرافعات ونحوها. ولما لها من الاعتبار ولحاجة الناس إليها في كثير من حوادث الزمان أثبت

مالك حجيّتها. ووجه ذلك: إننا إذا كنا نقول بحجية القياس وهو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع بجزئي آخر ثابت حكمه في الشريعة للماثلة، فلأن نقول بحجية قياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يعرف لها حكم على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة أولى بنا وأجدر بالقياس وأدخل في الاحتجاج الشرعي. وبعد تقرير هذه الحقيقة وركون الإمام الأكبر إلى قياس الأجناس المحدثة على أجناس نظائرها الثابتة في زمن التشريع يبدي فرط عجبه من موقف إمام الحرمين من الاستدلال، وموقف الغزالي المتردد فيه بين طرف الوفاق على اعتباره، وطرف التردد في مقدار المصلحة الذي أخذ به الجويني. وبعد بيان موقفه المساند لموقف إمامه واستغرابه من موقفي صاحب البرهان وصاحب كتاب المستصفى يعلن أن أدلة اعتبار أجناس المصالح حاصل من استقراء الشريعة قطعاً أو ظناً قريباً من القطع، وأن أوصاف الحكمة قائمة بذواتها، ولأن هذه الأوصاف واضحة وضوحاً متفاوتاً غير محتاجة إلى استنباط ولا إلى سلوك مسالكه، ولا يقتصر في بيان أنواع المصالح على ذلك، فيلحق بما قدمه اختلافَها بين أن تكون من مصالح الشارع أو من مصالح الناس، وبين ما يكون منها حاصلاً من الأفعال بالقصد أو حاصلاً منها بالمآل. ويستأنف الحديث عن أوصاف الشريعة وينعتها بالعموم موضحاً ذلك بقوله: إن أحكام الشريعة ميسرة لانتشارها وقيامها على التماثل في إجراء الأحكام والقوانين، ولكونها مبنية على اعتبار الحكم والعلل، وهي من مدركات العقول. وأن مصدري التشريع قائمان على كليات كثيرة في الكتاب، وعلى المجملات مما أراد الشارع بقاءه على إطلاقه وإجماله، وعلى قواعد عامة مما اشتملت عليه السُّنة.

وربما عقّب هذا البيان بذكر قواعد يتعين الانتباه إليها مثل أن قضايا الأعيان وأخبار الآحاد إذا خالفت القواعد أو الكليات، أو خالفت القياس أو عملَ أهل المدينة تصبح مختلفاً في حجيّتها على مذاهب معروفة في أصول الفقه. وأن علة الصلوحية للعمل بالشريعة أن لا يكون في اتباعها والالتزام بها هلاك أو عنت. وأن من مقاصد الشريعة تجنُّب التفريع في وقت التشريع. ويذكر من مقاصد الشريعة المساواة، ويعتبرها أصلاً في التشريع. والمساواة في التشريع للأمة ناظرة إلى تساوي أفرادها في الخلقة وفروعها. فالناس سواء في البشرية وفي حقوق الحياة، وهم متساوون في أصول التشريع كحفظ النفس وحفظ النسب وحفظ المال، وحقّ القرار في الأرض لمن نشأ فيها أو استوطنها، وفي أسباب البقاء على حالة نافعة، ويكون التساوي بين الناس في الضروري والحاجي. وإلى جانب ذلك لا بد من الانتباه إلى عوارض المساواة وهي الموانع بأنواعها الجبلية والشرعية والاجتماعية والسياسية التي تحول دونها. وإنما يكون لتلك العوارض آثارُها في تقرير المساواة إذا كان في إلغاء حكم المساواة ظهورُ مصلحة راجحة أو اقتضى إجراء المساواة ظهورَ مفسدة. وهو بعد ذلك ينفي عن الشريعة اشتمال أحكامها على النكاية، كما يلحق بهذه الأوصاف مقاصد تشريعية كاختلاف أحكامها من تغيير وتقرير، ونوط تلك الأحكام بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال، ومن مقاصد الشريعة الحرية، فإن الشريعة متشوفة إلى الحرية. وتثبت الحرية في أصول الناس في معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم وفي النهي عن تحريم المباحات. ويقابل ذلك ما للشريعة من حقوق على أتباعِها

بتقييد حرياتهم. ومن تجاوز منهم حدود حريته أوقف عند الحد الشرعي بضمان التفريط أو العقوبة. وقد حاطت الشريعة حرية العمل بسد ذرائع خرمِ تلك الحرية كمنع وكالة الاضطرار، ومنع الشروط الواقعة من رب المال على العامل في القراض والمزارعة والمساقاة ونحوها. وعقِب هذا ذكر الإمام جملة من المقاصد لا يجوز إغفالها ولا إهمالها. فهو بعد ذكره مقصد الشريعة من نظام الأمة بجعلها قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال يذكر بأن صلاح الأفراد مقصود للشارع بلا شك، ولكن صلاح أحوال المجموعة وانتظام أمر الجماعة أسمى وأعظم، وبأن تشريع الرخص في الأحوال العامة له اعتباره. والرخصة في تغيُّر الفعل من صعوبة إلى سهولة لعذر عرض لفاعله، أو ضرورة اقتضت عدم اعتداد الشريعة بما في الفعل المشروع من جلب مصلحة أو دفع مفسدة مقابلَ المضرة العارضة لارتكاب الفعل المشتمل على مفسدة. ومن الضرورات المقتضية للترخيص ضرورات عامة كما في السَّلَم والمغارسة والمساقاة. وضرورات خاصة مؤقتة، تكون في حالة الاضطرار. وضرورات عامة مؤقتة تقتضي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة وإبقاء قوتها ونحوه. وقد ألح الإمام على اعتبار هذه الضرورة عند حلولها، فإنها كانت مغفولاً عنها، وهي تقتضي تغير الأحكام الشرعية كالكراء المؤبد في أرض الوقف، والحكر، وبيع الوفاء. وقد دعت الإمام مثل هذه الأحوال والحاجات العارضة للأمة

إلى التفكير في طلب المعالجة الشرعية لها بالاجتهاد فيها اجتهاداً يضطلع به العلماء من أهل النظر السديد في فقه الشريعة، العارفين بمقاصدها، ممن لهم خبرة بمواضع حاجة الأمة ومقدرة على حل مشاكلها حلاً شرعياً، ونادى بتكوين مجمع تَصدُر الفتوى فيه عن وفاق، تعلم أقطار الإسلام بمقرراته، ويتعين على الأمة العمل بها. وبالفراغ من القسم الثاني المتعلق ببحث المقاصد العامة وضع الإمام القسم الثالث من كتابه. وإنّ أبرز ما دعا إلى الاهتمام به في هذا القسم قضايا ثلاثة: 1 - المعاملات المالية في الإسلام وما ترتبط به من مقاصد، وما يتعلق بها من حقائق التملك والتكسب ومقاصد التبرعات، وما يمكن أن يلحق بها من المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان. 2 - مقاصد أحكام العائلة. 3 - مقاصد الشريعة ذات الصلة: أ - بالنظر في أحكام القضاء والشهادة. ب - بتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها. ج - ببيان القصد من العقوبات. وتمهيداً لدراسة هذه الموضوعات يعود المؤلف إلى التفريق بين المقاصد والوسائل. فالمقاصد هي المتحملة للمصالح، والمفاسد في أنفسها. والوسائل هي الأحكام التي شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فهي غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل. والوسائل هي التي تترتب عليها المقاصد، وترتيب الوسائل يكون بترتيب المصالح والمفاسد. وهكذا يكون ترتيب الأحكام المنوطة بتصرفات الناس في معاملاتهم الصالحة والفاسدة،

فتوجد متماثلة في الرتب في أقسام الحكم الشرعي، وإن كانت متفاوتة بحسب كون مناطها من التصرفات مقصداً أو وسيلة في نظر الشارع وفي نظر الناس. والوسائل في الدرجة الثانية من المقاصد فإذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة. ومعرفة المقاصد الشرعية الخاصة بأبواب المعاملات، والكيفيات المقصودة للشارع من أجل تحقيق مقاصد الناس النافعة، أو من أجل حفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة تدخل فيها كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس. ومقاصد الناس في تصرفاتهم هي المعاني التي لأجلها تعاقدوا أو تعاطوا أو تغارموا أو تقاضوا أو تصالحوا، وهي نوعان: عليا ودنيا. أ - ومقاصد التصرفات المالية يدل عليها مجيء الشريعة لحفظ نظام الأمة وتقوية شوكتها وعزتها. فلثروة الأمة في نظر الشريعة المكان السامي من الاعتبار والاهتمام، وللمال في نظر الشريعة حظ لا يُستهان به، وهو ليس منظوراً إليه بعين الشريعة إلا إغضاء أو أنه غير لاقٍ من معاملتها إلا رفضاً، لأن الشريعة لم تنهَ الناس عن اكتساب المال من وجوهه المعروفة، ولا تغبن أصحابَ الأموال ما يحصل لهم من الفضائل والدرجات بسبب أموالهم إن أنفقوها في مصارفها النافعة. وقد رأينا فيما تقدم أن حفظ الأموال معدود من كليات الشريعة الراجعة إلى القسم الضروري، وأن نظام الأموال وطرق دورانها هو معظم مسائل الحاجيات كما أن معظم قواعد التشريع المالية متعلقة بحفظ أموال الأفراد وآيلة إلى حفظ مال الأمة. والشريعة تضبط إدارة المال بأسلوب يحفظه موزعاً بقدر المستطاع، وتعين على نمائه في نفسه أو بأعواضه.

ومال الأمة هو ثروتها، والثروة هي ما ينتفع به الناس آحاداً أو جماعات في جلب نافع أو دفع ضار، والكسب لا يعدّ ثروة إلا إذا صلح للانتفاع به مدداً طويلة. وتتقوّم صفة المال بخمسة أمور، هي: قابليته للادخار، وكونه مرغوباً في تحصيله، وقابلاً للتداول، ومحدود المقدار، ومكتسباً. ولثراء الأمة والأفراد طريقان، هما: التملك والتكسب. فالتملك أصل للإثراء البشري وهو اختصاص، يدأب المرء على تحصيله قوتاً ووقوداً ومسكناً وركوباً وسلاحاً وزينةً. وأسبابه في الشرع ثلاثة: الاختصاص، والتبادل في العوض، والانتقال من مالك إلى غيره. والتكسب هو معالجة ما يسد الحاجة، وأصولهُ: الأرض، والعمل، ورأس المال. والمعاملات المالية بعضها راجع إلى التملك كبيع دار للسكنى والأطعمة المأكولة، وبعضها راجع إلى التكسب كبيع أرض الحراثة وأشجار الزيتون. والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها. ومن أهم أصول النظام في التعامل المالي وضع النقدين أعواضاً للتعامل. فالتعامل بالنقدين أيسر من التعامل بالأعيان، والنقدان عوضان صالحان بغالب أحوال البشر، يطلبان ولا يعرضان بخلاف بقية المتموّلات فإنها يلحقها العرض والطلب.

ومن الواجب إبطال الاحتكار في الطعام لقول عمر: "لا حكرة في سوقنا". وعقود التبرعات تقوم على أساس المواساة بين أفراد الأمة الخادمة لمعنى الأخوة. وهي تمثل مصلحة حاجية جليلة بها تحصل مساعفة المعوزين، وإغناء المقترين، وإقامة الجم من مصالح المسلمين، ومما يقصد من التبرعات الإغناء وإقامة المصالح المهمة. ومقاصد الشرع في التبرعات كثيرة: الأول: منها هو تكثيرها لما فيها من المصالح العامة والخاصة، والمقصد الثاني منها: أن تكون صادرة عن طيب نفس، والمقصد الثالث: التوسع في وسائل انعقاد التبرع حسب رغبة المتبرعين، والرابع: أن لا يكون التبرع ذريعة إلى إضاعة مال الغير من حق وارث أو دائن. ومقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان أساسها إنتاج الثروة للأفراد ولمجموع الأمة. فالعمل أحد أركان الثروة. ومن ثم لا يجوز أن توصد في وجوه الفريقين: العامل وصاحب المال، الطرقُ المثلى بوجه عادل. وتنعقد المعاملات على الأبدان بإجارة الأبدان، وبالمساقاة، والمغارسة، والمزارعة، والقراض، والجعل. وهذه العقود لا تخلو من غرر لعسر تقدير عمل التعاقد عليه، وعسر معرفة ما ينجر إلى العامل من الربح، وعسر انضباط ما ينجر إلى صاحب المال من إنتاج وعدمه. ومقصد الشريعة في هذه المعاملات الحياطة لجانب العملة، كي لا يذهب عملهم باطلاً أو مغبوناً. وقد التفت علماء الشريعة إلى ما ينبغي أن يوفر للعملة من حقوق، فجعلوها بالاستقراء ثمانية: 1 - تكثير المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان.

2 - الترخيص في اشتمال عقود هذه الأعمال على الغرر المتعارف في أمثالها. 3 - التحرز عما يثقل على العامل في هذه العقود. 4 - العقود على عمل الأبدان يتم انعقادها بمجرد القول، ولكن ذلك يترتب على الشروع في العمل عند المالكية، في غير المساقاة، وهو في الجعل والقراض باتفاق، وفي المغارسة والمزارعة على الراجح. 5 - إجازة تنفيل العملة بمنافع زائدة على ما يقتضيه العمل في ذلك. 6 - التعجل بإعطاء عوض عمل العامل دون تأخير ولا نظرة ولا تأجيل. 7 - إيجاد وسائل إتمام العمل للعامل، فلا يلزمه إتمامه بنفسه. 8 - الابتعاد عن كل شرط أو عقد فيه شبهة استعباد العامل. ومما تحدث عنه الإمام الأكبر نوع من الشراكة في المزارعة تسمى بتونس شركة الخماس. ذكر صورتها وأحكامها وعقب على ذلك بكونها شركة منافية لمقاصد الشريعة لا محالة، وإن كانوا يزعمون أن الضرورة دعت إليها. ب - وفي أحكام الأسرة ومقاصدها يوزع صاحب المقاصد الأصول التشريعية في العائلة على ثلاثة أواصر فيجعل منها أحكاماً خاصة بآصرة النكاح، وأخرى خاصة بأحكام آصرة القرابة، وثالثة دعاها بأحكام آصرة الصهر أو المصاهرة، ثم ذكر ما تنقض به كل هذه الأواصر لما يعرض لها أو يصيبها من انحلال. فآصرة النكاح ليست مقصورة على داعية اقتراب الذكر من

الأنثى في الجنس الإنساني. وإنما هي جذم نظام العائلة ينبني عليه اختصاص الرجل بالمرأة، والوثوق من انتساب نسلها إليه، وتتضاعف بها أسباب حصانة المرأة، ويضفي عليها عقد الزواج تشريفاً وتنويهاً في نظر الشرع ونظر الناس، يشهد له قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1). وفي هذا ما يفاد اقتران الرجل بالمرأة المحرمة مثل نكاح الاستبضاع، ونكاح الرهط دون العشرة، ونكاح البغايا، وما يقوم منه على السفاح أو المخادنة أو الضماد، أو الزواج من المحَرّمات. ويتميز النكاح الشرعي بالحرص على تحقق رضا المرأة وأهلها، وتحقيق حُسن قصد الرجل من إخلاص المحبة ودوام المعاشرة. ويجب فيه المهر، وأن لا يكون العقد مدخولاً فيه على التوقيت والتأجيل. واشترطوا الولي، وقصر أبو حنيفة هذا على الصغير ومن في حكمه، ودعوا إلى الشهرة في النكاح لأن الإسرار به يقربه من الزنا، وحرم نكاح الشغار لخلوه من المهر، ووجب إنفاق الرجل على زوجه، وإن كانت غنية، وجعل الزوجية سبباً للتوارث، واعتُبِرَ الإخلال بحُسن المعاشرة، وبالقوامة مفضيين إلى فسخ عقدة النكاح بحكم الحاكم بالطلاق عند ثبوت الضرر. وأما آصرة النسب والقرابة فتبدأ بنسبة البنوة والأبوّة من نسب مقطوع به. وأبرز مسائلها المحرمية والنفقة وإبداء الزينة. والمحرمية ثلاثة أنواع: فقد قررت الشريعة المحرمية بالنسب فحرمت الأصول والفروع وصنوانَهم في النكاح، صوناً لهم مما ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 21.

يقتضيه الوطء من إذلال وإهانة لا يساير ما تقتضيه القرابة من وقار واحتشام، وحرمت الأخوة والأخوات قصد إيجاد معنى الوقار بينهما، وحرمت بالصهر أم الزوجة والربيبة إلحاقاً لها بالنسب، وحرمت الجمع بين الأختين لما قد يفضي إليه هذا الجمع في النكاح من الشقاق القاطع للرحم، وكذلك الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لنفس السبب، وألحقت بهذه المحرمات محرمات الرضاع اللاتي نزلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزلة المحرمات بالنسب. ويشمل التحريم أحوالاً أخرى كالملاعنة لتعذر حُسن المعاشرة بعدها، واختلاف الدين بين المسلم وتابعات الأديان غير السماوية، والمطلقة ثلاثاً لما قضى به الله، وتعدد الأزواج للمرأة الواحدة، والاقتصار على الأربعة من النساء للرجل. وذلك تقديراً لما في هذه المحرمات من أسباب اقتضى التشريع الإسلامي اعتبارها ومراعاتها. ولتقوية آصرة القرابة وردت أحكام النفقة على الآباء والأبناء وعلى الأجداد والأحفاد في بعض المذاهب، وشرع الميراث باتفاق بسببها على الجملة. وحفت بهذه الآصرة آداب وواجبات كالأمر ببر الوالدين، والاعتداد بصلة الأقارب وذوي الأرحام، والترخيص للمرء أدْ يطعم في بيته أقاربُه دون دعوة ولا إذن. ونهت الشريعة النساء عن إبداء زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو بناتهن أو أبناء بعولتهن، وكذلك لأخواتهن وبني إخوانهن وبني أخواتهت، وأثبتت لآصرة النسب حقوق الميراث. وتنشأ آصرة الصهر من آصرتي النكاح والنسب. وتثبت هذه الآصرة للربائب وأخت الزوجة وعمتها وخالتها وأم الزوجة كما تكون

بنكاح أهل آصرة القرابة كزوجة الابن وزوجة الأب. وجعلت للمصاهرة درجتان: قريبة وبعيدة. أما الأولى فهي الزوجة وابنتها فهما محرمتان على الزوج، وأبو الزوج وابنته منهما محرمان على الزوج، وكذلك حرمت زوجة الابن على الأب وزوجة الأب على الابن، والثانية، وهي المصاهرة البعيدة على مراتب، منها ما يحرم كالجمع بين الأختين والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، ومنها ما لا يحرم لضعف آصرته. وفي ختام العرض للأواصر الثلاثة ذكر صور انخرامها ببيان طرق تعطيلها أو إبطالها. فانحلال آصرة النكاح يكون بالطلاق من الزوج، أو بطلاق الحاكم أو بالفسخ، وذلك عند تعسر استقامة المعاشرة وما يترتب على ذلك من ارتباكات تحل بالزوجين أو بالأسرة كلها. وإنما جعل الطلاق بيد الرجل لأنه في غالب الأحيان الأحرص على استبقاء الزوج، والأنفذ نظراً في مصلحة العائلة. وأعطيت المرأة حق الخُلع بطريق الرفع إلى الحاكم إن حصل لها ضرر وتكون به المفارقة. وفي بعض الأحوال تشترط المرأة أن يكون الطلاق بيدها، أو طلاق أمر الداخلة عليها بيدها، أو يكون أمرها بيدها إن أضر بها الزوج. واختلف في الشروط اللاحقة بعقدة النكاح. وقال مالك: الشرط إذا انعقد عليه النكاح يكون شرطاً باطلاً غير لازم، وإن وقع طوعاً من الزوج بعد عقدة النكاح لزم. أما انحلال آصرة النسب فإنها مبنية على انكشاف بطلان ما كان يظن أنه نسب، لأن النسب الثابت لا يقبل انحلالاً ولا إسقاطاً.

ويكون إثبات النسب الحق بالبينة الظاهرة أو بالإقرار الذي لا تهمة فيه. أما في آصرة الصهر فانحلالها تابع لانحلال آصرة أصل منشئه. ويكون الانحلال فيها تاماً في مثل أخت المرأة وعمتها وخالتها إذا انفكت عصبة المرأة بموت أو طلاق، ومنها لا انحلال فيه مثل أم الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن والربائب. افتتح الشيخ ابن عاشور حديثه عن الحقوق بفصول تتعلق بهذا الغرض فذكر مقصد الشريعة من تعيين أنواع الحقوق لمستحقيها. وصرّح بأن الشريعة لم تترك هذا الأمر للصدفة أو للقوة والقهر، ولكنها نصت في تعيين أصحاب الحقوق وبيان أولوية بعض الناس ببعض المستحقات على انتهاج طريق فطري عادل يضمن الاقتناع ويحقق العدل. وجماع أصول تعيين الحقوق التكوين أو الترجيح. فأما التكوين فهو يرجع إلى كون أصل الخلقة قد أوجد الحق وكوّن صاحبه، وقرن بينهما، وأما الترجيح فبإظهار الأولية في إثبات الحق لأحد الطرفين، ويكون هذا بحجة العقل أو بالحجة المقبولة بين الناس، أو بجملة من المرجحات الاصطلاحية. وبالاستقراء توصل الإمام إلى جعل الحقوق متنوعة إلى تسع مراتب. وقد تقدم تفصيل ذلك في محله. إن في تعيين المستحقين ما يعين القضاء، عند الفصل بين الخصوم، على إيصال الحق إلى صاحبه. ومن مقاصد الشريعة اشتمال نظام هيأة القضاء في الجملة على ما فيه إعانة على إظهار الحق وقمع الباطل. والقاضي هو أهم أركان القضاء. وهو الذي يتولى إبلاغ الحقوق إلى طالبيها. ولا يكون ذلك إلا مع أصالة الرأي

والعلم والسلامة من نفوذ الغير عليه في قضائه، والعدالة. وإذا كانت الحقوق في هذا العالم معرضة للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة أو معرضة لسوء الفهم وللجهل والتناسي، فإن في إقامة ولاة لأمور الأمة، وإقامة سلطة تعينهم على التنفيذ ما يكون به نشر العدل وحفظ الحقوق. ورجح العلماء، نفياً للحرج واطمئناناً للمتقاضين، أن يتولى القاضي التصريح بمستنده في الحكم. واختلفوا فيمن يولَّى هذا المنصب الجليل. قال ابن القاسم: لا يستقضى من ليس بفقيه. وقال أصبغ وأشهب ومطرف وابن الماجشون: لا يصلح كون القاضي صاحب حديث لا فقه معه ولا صاحب فقه لا حديث معه. وقال ابن عبد البر: لا يولّى القضاء إلا من كان موثوقاً في دينه وعلمه وفهمه. فالقضاء أمانة، ومن شرطه القدرة على فهم مدركات المسائل وعللها. وإلى جانب هذا قواعد وآداب أخرى كثيرة تلزم القاضي والشهود وغيرَهم. فمن ذلك أنه ليس من طريق لحمل طبقات الأمة على الاقتناع بأحكام القاضي غير الأخذ بالأصلح من مجموع أقوال العلماء. وأن في تطوير الإجراءات في مجال القضاء بحسب ما تدعو إليه الحاجة ما حمل الفقهاء على إضافة جملة من الضوابط والشروط في أحكام المرافعات ما كان السلف يرعونها. وعلى القضاة أن يسعوا إلى فصل القضايا في آجال محدودة نسبياً. فالإبطاء بإيصال الحق إلى صاحبه عند تعيينه يثير مفاسد كثيرة، كما أن الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده ليس محموداً إذا لم يكن الفصل قاطعاً يمنع أن تعود المنازعة. والمنوط بهم تنفيذ أحكام الشريعة، في خصوص إيصال

الحقوق إلى أصحابها على نحو ما رسمته الشريعة تأصيلاً وتفريعاً، هم القضاة وأهل الشورى وأعوانهم وما تتألف منه طرق أقضيتهم من بيّنات ورسوم. وقول عمر بن الخطاب في هذا هو الفصل: فاقض إذا فهمت وأنفذ إذا قضيت. أما العقوبات فإن التحقق من إقامتها على الجناة على قواعد معلومة يؤيس أهل الدعارة من الإقدام على إرضاء شهواتهم بارتكاب الجنايات. والزواجر والعقوبات والحدود لم تشرع إلا من أجل إصلاح حال الناس. وأكبر مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة والتوصل بالعقاب إلى تأديب الجاني وإرضاء المجني عليه وزجر المعتدي. ونحن بعد أن استعرضنا أكثر ما ورد بكتاب مقاصد الشريعة من الموضوعات تاركين ما اختصرناه من ذلك إلى همة الدَارس والمُطالع للكتاب مثل قضية الذرائع والتحيل والوازع بأنواعه وصور تحكيمه نؤكد على جملة مما ورد من مسائل في التمهيد وفي الأقسام الثلاثة من الكتاب، مبدين بذلك كمال التنسيق بين أغراضه، وحُسن الترتيب لموضوعاته، ومشيرين إلى ظواهر مميزة لطريق الإمام الأكبر في معالجته لمسائله. وهي أولاً كثرة الأمثلة والفروع التي خصصناها بجدول جامع تقديراً لأهميتها ولربطه فيها بين الأحكام والأدلة والمقاصد. وثانياً ما أظهره من عناية بالقواعد والمقاصد. وقضية المقاصد عرضت لنا في موضعين الأول عند ذكر المؤلف سبقها في الوجود لحكم أصول الفقه، وبيانه مدى استعانة الفقهاء بها، والخلوص منها إلى الأحكام. وذلك قوله: تُمَكّن

القواعد العارف بها من انتزاع الفروع منها، أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ، يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع، كما تمكن تلك القواعد المتضلع فيها من تأييد فروع انتزعها الفقهاء بواسطة تلك القواعد مقبولة في نفوس المزاولين لها من مقلدي المذاهب. وتولى بعد هذا بيان موضوعاتها بقوله: وقصارى ذلك أنها تؤول إلى محامل ألفاظ الشارع في انفرادها واجتماعها وافتراقها حتى يقربَ فهم المتضلع فيها من أفهام أصحاب اللسان العربى القح كمسائل مقتضيات الألفاظ وفروقها من عموم وإطلاق، ونص، وظهور وحقيقة واطراد، وكمسائل تعارض الأدلة الشرعية من تخصيص وتعيين وتأويل وجمع وترجيح. وقد قصروا مباحثها على ألفاظ الشريعة، على المعاني التي أنبأت عليها الألفاظ، وهي علل الأحكام القياسية. وقد نفى المؤلف في غضون هذه المقالة بيان الحكمة أو القصد. وذلك قوله: فهي في تصاريف مباحثها بمعزل عن بيان حكمة الشريعة وعن مقاصدها العامة والخاصة في أحكامها. وقد ضمّ العز بن عبد السلام في كتابه القواعد الكبرى المقاصد إلى القواعد، كما أنه لم يتعرض إلى القواعد الفقهية خاصة. فهي عنده لم تبلغ العشرين. وقد جعل منها: قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقاعدة تعذر العدالة في الولايات، وقاعدة الحقوق الخالصة والمركبة، وقاعدة حقائق التصرفات، وقاعدة ما يوجب الضمان والقصاص، وقاعدة اختلاف التصرفات لاختلاف المصالح. وهو فيما يبدو قد جعل كتابه قائماً على بيان القواعد المتعلقة بالمصالح والمفاسد وما يتصل بها، متوسعاً في ذلك، معلناً عنه في مقدمة كتابه القواعد. وهو بذلك مخالف لما سار عليه الدبوسي في

تأسيس النظر، والقرافي في الفروق، والزركشي في المنثور، والمقري في قواعده بقوله: الغرض من وضع هذا الكتاب بيانُ مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات، ليسعى العبادُ في كسبها، وبيان مقاصد المخالفات، ليسعى العبادُ في درئها، وبيانُ مصالح المباحات، ليكونَ العبادُ على خِيَرَةِ منها، وبيانُ ما يقدم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد عن بعض، مما يدخل تحت أكساب العباد، دون ما لا قُدرةَ لهم عليه، ولا سبيل لهم إليه (¬1). ولحاجة صاحب مقاصد الشريعة إلى ذكر القواعد بحسب ما تقتضيه طبيعة عمله لم يقتصر في كتاب المقاصد على إدراج القواعد الفقهية أو الأصولية لديه بل تجاوز ذلك كما فعل العز بن عبد السلام، إلى الغرض العام منها معتمداً على ما ذهب ليه التهانوي في تعريفه له بقوله: القواعد ترادف الأصل والقانون والمسألة والضابط والمقصد. ويتضح ذلك مما جمعناه منها وإن تباينت صيغه. * * * * * ¬

_ (¬1) القواعد الكبرى: 14

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ لشَيخِ الْإِسْلَامِ الإِمَامِ الْأَكْبَر مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عَاشُور

طبعَة وزارةِ الْأَوْقَاف والشؤونِ الإسلاميَّة دوْلة قطَر عَلَى نَفَقَةِ حَضْرَة صَاحبِ السُّمُوِّ الشَّيْخ حمد بن خَليفَة آل ثَانِي أَمِير دولة قطر - حَفِظَهُ الله - حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة 1425 هـ - 2004 م

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة المؤلف الحمد لله على ما وهب من الهَدْي إلى شرعه ومنهاجه، وألهم من استخراج مقاصده وتنسيق حِجاجه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أقام به صَرْح الإصلاح بعد ارتجاجه، وعلى أصحابه وآله نجوم سماء الإسلام وجواهر تاجه، وأئمة الدين الذين بهم أضحى أفقُ العلم إثر بزوغ فجره وانبلاجه. هذا كتاب قصدتُ منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها، والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراساً للمتفقِّهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظارِ وتبدل الأعصار، وتوسُّلًا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُربة لأَتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يَسْتتب بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب، والفَيْئَة إلى الحق إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببُلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل، وبفَصْل من القول إذا شَجَرت حجَج المذاهب، وتبارت في مناظرتها تلكم المقانب (¬1). ¬

_ (¬1) المقانب: - جمع مِقْنَب -، بكسر الميم وسكون القاف وفتح النون: اسم جماعة كثيرة من الفرسان. وهو هنا مستعار لجماعات العلماء كما يستعار الفارس للعالم الفائق. اهـ. تع ابن عاشور.

دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيتُ من عُسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة، إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلّة ضرورية، أو قريبة منها، يذعن إليها المكابر ويهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهلُ العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلى الأدلّة الضروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة؛ فينقطعُ بين الجميع الحجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لَجاج. ورأيت علماء الشريعة بذلك أولى، وللآخرةُ خير من الأولى. وقد يَظنُّ ظانٌّ أن في مسائل علم أصول الفقه غُنيةً لمُتطلّب هذا الغرض، بَيْد أنه إذا تمكّن من علم الأصول، رَأَى رَأيَ اليقين أن معظم مسائله مُخْتلَف فيها بين النُظَّار، مستمرٌّ بينهم الخلاف في الفروع تبعاً للاختلاف في تلك الأصول. وإن شئت فقل: قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع، إذ كان علم الأصول لم يُدوّن إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين (¬1)!. على أن جمعاً من المتفقّهين كان هزيلاً في الأصول، يَسيرُ ¬

_ (¬1) اختلفت أقوال العلماء في تحديد نشأة علم أصول الفقه، وفي أول مَن دون هذا العلم ووضع قواعده. فنسبت ذلك جماعةٌ إلى فقهاء الصحابة مثل: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود. وقالوا: نزّل الإمام علي عقوبة القذف حداً على شارب الخمر، لكون متناوله إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فاستحق عقوبة المفترين، إعمالاً منه للمآل، وسداً للذريعة في تقرير الأحكام. وروَوْا عن ابن مسعود أن عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها وضع حملها، لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وأنه علّل هذا بقوله: أشهد أن سورة النساء الصغرى - الطلاق - نزلت بعد سورة النساء الكبرى - البقرة -. يلمع بهذا إلى أن المتأخّر يأتي ناسخاً أو مخصِّصاً عند اختلاف الحكم. ولا شك أن هذين الموقفين وما أشبههما كان قد تلقاها الصحابة، رضوان الله عنهم، فيما تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي عصر التابعين ظهرت طائفتان من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الفقهاء: الأولى بالمدينة، كسعيد بن المسيب وجماعته. والثانية بالعراق، مثل: علقمة، وإبراهيم النخعي. فكانت الأولى عند فقدان النص تُعمل المصلحة، والآخرى تُعمل القياس. أبو زهرة. أصول الفقه: 8 - 10. وقال أهل الرأي: أول من صنف في علم الأصول فيما نعلم الإمام أبو حنيفة. فقد حدّد مناهج استنباطه الأساسية: بالكتاب، فالسنة، ففتاوى الصحابة يأخذ بما يجمعون عليه، ويتخيّر من آرائهم فيما يختلفون فيه، ولا يخرج عن ذلك. ولا يعتمد رأي التابعين. ويسير في القياس والاستحسان على منهاج بين. وأن أصحابه ينازعونه القياس. فإذا قال: أستحسن لم يلحق به أحد. أبو زهرة. أصول الفقه: 9 - 10. وتلاه صاحباه: القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، والإمام محمد بن الحسن الشيباني، ثم الإمام محمد بن إدريس الشافعي. انظر مقدمة أبي الوفاء الأفغاني لأصول السرخسي: 1/ 3. وقالت طائفة أخرى: كان مالك أشار في الموطأ إلى بعض القواعد الأصولية. فاحتج بعمل أهل المدينة، واشترط شروطاً في رواية الحديث، وردّ من الآثار ما كان مخالفاً لنصوص القرآن أو لما هو مقرّر من قواعد الدين، كرده خبر: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم غسله سبعاً"، ورده خبر خيار المجلس، وخبر أداء الصدقة عن المتوفّى. انظر الحجوي: الفكر السامي: (1) 2/ 183 = (2) 1/ 404؛ أبو زهرة: 7. ونسب أبو هلال العسكري المبادرة إلى الاشتغال بهذا الفن وتجلية بعض قواعده إلى إمام المعتزلة أبي حذيفة واصل بن عطاء في كتاب الأوائل: 2/ 119. وذهب السيد حسن الصدر إلى أن أول من وضع أصول الفقه وفتح بابه وفتق مسائله الإمام أبو جعفر محمد الباقر، ثم من بعده ابنه أبو عبد الله جعفر الصادق. فقد أمليا على أصحابهما قواعده، وجمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون. فأودعوا ذلك كتب مسائل الفقه المروية عنهما، مثل: كتاب أصول آل السيد الرسول لهاشم بن زين العابدين الخونساري =

فيها وهو راجل، وقلّ من ركب متن التفقه فدُعِيت نزال فكان أولَ نازل. لذلك لم يكن علم الأصول منتهًى ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه، وعسُرَ أو تعذَّرَ الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال. على أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعدَ تمكِّن العارف بها من انتزاع الفروع منها، أو من انتزاع أوصاف تُؤذن بها تلك الألفاظُ يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع، فتقاسُ فروع كثيرة على مورد لفظ ¬

_ = الأصفهاني، وكتاب الأصول الأصلية لعبد الله بن محمد الرضا الحسيني، وكتاب الفصول المهمة في أصول الأئمة لمحمد بن الحسن بن علي الحر العاملي. انظر الشيعة وفنون الإسلام: 78. وقال علماء الشافعية: أول من صنف في أصول الفقه بالإجماع: الإمام الشافعي المطلبي محمد بن إدريس. فهو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع. انظر الإسنوي. التمهيد: 45. وقال الفخر الرازي: اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم هو الشافعي. وهو الذي رتّب أبوابه وميز بعض أقسامه عن بعض، وشرح مراتبه في الضعف والقوة ... وأن نسبة الشافعي إلى علم أصول الفقه كنسبة أرسطاطاليس الحكيم إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض ... والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه إلا أنهم كلهم عالة على الشافعي في كتاب الرسالة له. الرازي. مناقب الإمام الشافعي: 153، 156 - 157. وهذا الرأي هو الرأي الغالب المشهور. والذي عليه أكثر أهل العلم. قال الشيخ ابن عاشور: كان علم الأصول قريناً لعلم الجدل ومخلوطاً به. ألف فيه الشافعي رسالته في الأوامر والنواهي والبيان والخبر وحكم العلة والنسخ، وبيّن وجه الحاجة إلى الأدلة السمعية. فهو أول من كتب في أصول الفقه كتاباً خاصاً به، وأول من ميّز الجدل عن الأصول. أليس الصبح بقريب: 203.

منها، باعتقاد اشتمال تلك الفروع كلها على الوصف الذي اعتقدوا أنه مرادٌ من لفظ الشارع، وهو الوصف المسمى بالعلّة (¬1). وبعبارة أقرب: تُمَكِّن تلك القواعدُ المتضلِّعَ فيها من تَأْيِيد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول، لتكون تلك الفروع بواسطة تلك القواعد مقبولةً في نفوس المزاولين لها من مقلِّدي المذاهب. وقُصارَى ذلك كله: أنها تؤول إلى محامل ألفاظ الشارع في: انفرادها، واجتماعها، وافتراقها، حتى تقرِّب فهمَ المتضلِّع فيها من ¬

_ (¬1) العلة: جمعها علل. وهي شرط في صحة القياس ليجمع بها بين الأصل والفرع. وقد استعمل الأصوليون ألفاظاً كثيرة بإزائها، منها: السبب، والإشارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر. وزاد بعضهم: المعنى. الزركشي. البحر المحيط: 5/ 111، 115. واختلف العلماء في تعريفها على أقوال كثيرة. منها: أنها المعرِّف للحكم، أي: جعلت علمَاً على الحكم، إن وجد المعنى وجد الحكم؛ ومنها: أنها الموجب للحكم، على معنى: أن الشارع جعلها موجبة لذاتها. وقالت المعتزلة: إنها موجبةٌ للحكم بذاتها لا بجعل الله. واختار فخر الدين الرازي أنها الموجبة بالعادة. وقال آخرون: إنها الباعث على التشريع بمعنى: أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملاً على مصلحة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم. الزركشي 5/ 111 - 113. وفرق الجصّاص بين علل الأحكام وعلل المصالح. فالأولى وهي علل الأحكام: أوصاف في الأصل المعلول، ليست من علل المصالح في شيء، تكون علامات وأمارات للأحكام غير موجبة لها، لأنها قد توجد بدون الأحكام؛ والثانية وهي علل المصالح: إنما هي معانٍ في المتعبِّدين لا في الأصول المتعبَّد بها، أي: الحكم. وليست هي من العلل التي تقاس عليها أحكام الحوادث، ولا تدرك إلا من طريق التوقيف. الجصّاص. الفصول في الأصول: 4/ 135 - 141.

أفهام أصحاب اللسان العربي القُحّ، كمسائل مقتضيات الألفاظ وفروقها: من عموم، وإطلاق، ونصًّ، وظهور، وحقيقة، وأضداد ذلك؛ وكمسائل تعارض الأدلة الشرعية: من تخصيص، وتقييد، وتأويل، وجمع، وترجيح، ونحو ذلك. وتلك كلها في تصاريف مباحثها بمعزل عن بيان حكمة الشريعة ومقاصدها العامة والخاصة في أحكامها، فهم قَصَروا مباحثهم على ألفاظ الشريعة، وعلى المعاني التي أنبأت عنها الألفاظ، وهي عِلل الأحكام القياسية. وربَّما يجد المطّلِع على كتب الفقه العالية مَن ذكر مقاصد الشريعة [و] كثيراً من مهمات القواعد (¬1) لا يجد منه شيئاً في علم الأصول. وذلك يخصُّ مقاصد ¬

_ (¬1) قاعدة وجمعها قواعد تقدم تعريفها في الجزء الثاني. وهي لغةً: الأساسُ والأصلُ. وفي الاصطلاح: تطلق على عدة معانٍ، ترادف: الأصل، والقانون، والمسألة، والضابط، والمقصد. كما عُرفت بأنها: أمر كلي منطبق على جميع جزئياته عند تعرف أحكامها منه ... وهي الكلية التي يسهل تعرف أحوال الجزئيات منها. التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 5/ 1176 - 1177. وعرفها الجرجاني بأنها: قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها. التعريفات: 171. وقال أبو البقاء الكفوي: هي قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها. الكليات: القسم الرابع: 48، وحددها التفتازاني بأنها: حكم كلي ينطبق على جزئياته، لتعرف أحكامها منه. التلويح على التوضيح: 1/ 20. وتتنوع القواعد إلى فقهية، وأصولية، وتلحق بها الضوابط وهي التي يستقل بها باب أو موضوع. والقواعد الكلية الكبرى التي اتفق الفقهاء على اعتبارها والاعتداد بها خمس، هي: "الأمور بمقاصدها"، و"اليقين لا يزول بالشك"، و"الضرر يزال"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"العادة محكّمة". وهي أعمُّ القواعد وأشملها. وهناك أخرى كثيرة، منها ما يندرج تحت هذه القواعد، ومنها ما لا يندرج. وتعرف بالقواعد الفرعية أو الجزئية. وتوجد بإزاء ذلك قواعد مذهبية =

أنواع المشروعات في طوالع الأبواب دون مقاصد التشريع العامة (¬1). ¬

_ = تختص بمذهب دون مذهب. والقواعد الكلية الفقهية جليلة القدر، كثيرة العدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه. القرافي، الفروق: 1/ 3. ومظانُّ وجود هذه القواعد: أمهات كتب الفقه ومدوناته الواسعة في جميع المذاهب. وقد توجد مجموعة مصنّفات خاصة بها وهي كثيرة. فمنها في المذهب الحنفي: أصول الكرخي، وتأسيس النظر للدبوسي، والأشباه والنظائر لابن نجيم؛ ومنها في المذهب المالكي: الفروق للقرافي، والقواعد للمقَّرِي، وإيضاح السالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي؛ ومنها في المذهب الشافعي: قواعد الأحكام لابن عبد السلام، والأشباه والنظائر لابن الوكيل، والمجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي؛ ومنها في المذهب الحنبلي: القواعد النورانية لابن تيمية، وقواعد ابن قاضي الجبل، والقواعد لابن رجب. علي أحمد الندوي. القواعد الفقهية: 128 - 229. (¬1) من أمثلة ذلك: بيان مشروعية البيع التي ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع، واقتضتها الحكمة. وهي: أنه به تقضى الحاجات، مع المحافظة على الكرامة من جراحات ذل السؤال، وتجنب التغالب والتقاتل، لتحصيل ما تقوم به أمور الحياة. ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن الحرمة الثابتة بالإرضاع ترجع إلى شبهة البعضية، لما يتولد عن الرضاع من نشوز العظم وإنبات اللحم. العيني. البناية شرح الهداية: 4/ 342. ومنها أن الوكالة إنما شرعت لأن الإنسان قد يعجز عن مباشرة التصرُّفات وعن حفظ ماله، فيحتاج إلى الاستعانة بغيره أشد الاحتياج، فتكون الوكالة مشروعة لدفع الحاجة. الزيلعي. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4/ 254. ومن ذلك - في تحريم نكاح المتعة -: أن العقد لا يجرى فيه على مستلزمات عقد النكاح الشرعي، ولا تظهر فيه المتطلَّبات والأحكام المترتبة على العقد الصحيح المتعارف عليه والمأذون به. فنكاح المتعة لا ميراث فيه ولا طلاق ولا عدَّة. وهو ليس بنكاح، وهو سفاح. ابن عبد البر. الاستذكار: 16/ 305، ع 24589. ومنها: استثناء المساقاة من الأصول الممنوعة لضرورة الناس إلى ذلك =

ومن وراء ذلك خبايا، في بعض مسائل أصول الفقه، أو في مغمور أبوابها المهجورة عند المدارسة، أو المملولة، ترسُب في أواخر كتب الأصول، لا يصل إليها المؤلفون إلّا عن سآمة، ولا المتعلمون إلّا الذين رزقوا الصبر على الإدامة، فبقيت ضئيلة ومنسية، وهي بأن تعد في علم المقاصد حَرِيَّة. وهذه هي مباحث المناسبة والإخالة في مسالك العلة (¬1)، ¬

_ = وحاجتهم إليه، إذ لا يمكن للناس عمل حوائطهم بأيديهم، ولا بيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها للاستئجار من ثمنها على ذلك إن لم يكن لهم مال. فلهذه المصلحة رخص في المساقاة. ابن رشد. المقدمات: 2/ 552. وفي كتب الشافعية أمثلة لما ألمع إليه المؤلف هنا. ففي بيان وجه الرجعة قال الشافعي: ينبغي لمن راجع أن يُشهد شاهدين عدلين على الرجعة، لما أمر الله تعالى به من الشهادة، لئلا يموت قبل أن يُقِرَّ بذلك، أو يموت قبل [أن] تعلم الرجعةَ بعد انقضاء عدتها، فلا يتوارثان إن لم تعلم الرجعةُ في العدّة، ولئلا يتجاحدا، أو يصيبها فتنزّلَ منه إصابةَ غير زوجة. الشافعي. الأم: (1) 5/ 226 - 227 (2) 11/ 350/ 19729. ومنها: في جواز السَّلَم أن فيه رِفقا. فإن أرباب الضياع قد يحتاجون لما ينفقونه على مصالحها فيستسلفون على الغلّة، وأرباب النقود ينتفعون بالرخص، فجوّز لذلك، وإن كان فيه غرر، كالإجارة على المنافع المعدومة. محمد الرملي. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 4/ 182. ومثل ذلك ما في كتب الحنابلة. فقد ورد في مشروعية المضاربة أن بالناس حاجة إليها. فإن الدراهم والدنانير لا تُنمَّى إلا بالتقلّب والتجارة، وليس كل من يملكها يحسن التجارة، ولا كل من يحسن التجارة له رأس مال، فاحتيج إليها من الجانبين، فشرعها الله لدفع الحاجتين. ابن قدامة. المغني: (2) 7/ 134. وفي مشروعية الإجارة: أن الحاجة داعية إليها، إذ كل أحد لا يقدر على عقار يسكنه، ولا على حيوان يركبه، ولا على صنعة يعملها. وهم لا يبذلون ذلك مجاناً، فجُوِّزَت طلباً لتحصيل الرزق. وجوز ذلك الشيخ تقي الدين للحاجة. ابن مفلح. المبدع شرح المقنع: 5/ 62. (¬1) عدّ الرازي في الطرق الدالة على علّية الوصف في الأصل عشرةٌ: النص، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والإيماء، والإجماع، والمناسبة، والتأثير، والشبه، والدوران، والسبر والتقسيم، والطرد، وتنقيح المناط. المحصول: 2/ 191. والمناسبة المذكورة من بينها - تسمى أيضاً: الإخالة، والمصلحة، والاستدلال، ورعاية المقاصد، وتخريج المناط - وهي: أن يكون بين الوصف والحكم ملاءمة، بحيث يترتب على تشريع الحكم عنده تحقيق مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة للناس أو دفع مفسدة عنهم. وإنما تعددت التسميات لهذه العلة بحسب اختلاف جهة النظر إليها. وقد تحدث الأصوليون عن المناسب، واختلفت تعريفاتهم له. قال أبو زيد الدبوسي: المناسب: هو ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول، وهو يصلح حجة للناظر، دون المناظر. وقال الغزالي: المناسب ما هو على منهاج المصالح، بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم. وجعله الرازي قسمين فقال: هو عند من لا يعلل أحكام الله: الملائم لأفعال العقلاء في العادات. وهو عند من يعللها: ما يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً أو إبقاء. فهو الوصف المفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً. وقال الاَمدي: هو عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم، سواء كان ذلك الحكم نفياً أو إثباتاً، وسواء كان ذلك المقصود جلب منفعة أو دفع مفسدة ... وهو غير خارج عن وضع اللغة، لما بينه وبين الحكم من التعلق والارتباط. وكل ما له تعلق بغيره وارتباط فإنه يصحُّ لغة أن يقال: إنه مناسب له. وقد تفرعت عن أصول التعريفات هذه تعريفاتٌ أخرى لابن الحاجب والبيضاوي والقرافي. والأمر الذي لا ينبغي أن يغفل عنه هو: أن التعريفات المتقدمة، جميعَها مُجْمِعة على أن المصلحة المترتبة على ربط الحكم بالوصف هي الميزان الذي تعرف به المناسبة. فمتى خلا ذلك الوصف عنها خرج عن دائرة المناسبة. وكما اختلفوا في تعريف المناسبة، اختلفوا في تقسيمها. فهناك طرائق متعددة بتعدد الاعتبارات تنسب للغزالي والرازي والآمدي وابن الحاجب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وابن السبكي. فمن تقسيم المناسبة باعتبار كون المناسب حقيقياً أو إقناعياً، وهو ثلاثة أنواع: ضروري أو حاجي أو تحسيني؛ أو باعتبار المقصود الحاصل من ترتب الحكم عليه دنيوياً أو أخروياً، أو باعتبار إفضائه إلى المقصود إلى ما تفضي إليه قطعاً أو ظنًّا أو شكًّا أو وهمًا، أو ما يقطع بانتفائه في بعض الصور؛ أو باعتبار الشارع إياه معتبَراً أو ملغى أو مرسلاً. وقد قسم ابن السبكي الوصف المناسب لهذا الاعتبار أربعة أقسام، فجعل منه: المؤثر، والملائم، والغريب، والمرسل. فالمؤثّر هو ما ثبت بالنص أو الإجماع أنه علّة. والملائم هو ما ثبت اعتباره بترتيب الحكم على وفقه في محل آخر، بسبب اعتبار جنسه في جنس الحكم أو في عينه، أو عينه في جنس الحكم بنص أو إجماع. والغريب هو ما لم يعلم اعتباره ودل الدليل على إلغائه. والمرسل هو: المناسب الذي لم يدل الدليل على اعتباره ولا إلغائه، وهو المعبر عنه بالمصلحة المرسلة. وفيه الخلاف، ولئن سوّى الأصوليون بين المناسب والمخيِّل، أو بين المناسبة والإخالة، فقال إمام الحرمين في بحث تصحيح العلة: ومما اعتمده المحققون وارتضاه الأستاذ أبو إسحاق: إثبات علة الأصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقة الأصول. وقال ابن الحاجب: المناسبة: الإخالة، وتسمى: تخريج المناط، وهي: تعيين العلّة بمجرد إبداء المناسبة من ذاته، لا بنص ولا غيره. وصرح بذلك ابن السبكي في جمع الجوامع، وجرى عليه شارحه المحلي. قال: المناسبة والإِخالة؛ سمّيت مناسبة الوصف بالإخالة، لأنها بها يخال، أي: يظن أن الوصف علّة. وسُميّ استخراجها تخريج المناط. وقد جعل الحنفية الإخالة مرتبةً فوق المناسبة، فقالوا: إن الوصف يكون علة بمجرد الطرد، بل لا بد من صلاحه وعدالته كالشاهد. ويتحقق صلاحه بمناسبته وملاءمته، أي: موافقته للعلل المنقولة عن السلف، وألا يكون نابياً عن الحكم. أما عدالته فتحققها بالتأثير. وعند الشافعية بالإخالة. محمد مصطفى شلبي. تعليل الأحكام: 239 - 260.

ومبحث المصالح المرسلة (¬1)، ومبحث التواتر (¬2)، والمعلوم بالضرورة (¬3)، ومبحث حمل المطلق على المقيّد إذا اتحد الموجِبُ والمُوجَبُ أو اختلفا (¬4). ¬

_ (¬1) هي مناسب المرسل كما قدمنا. وهي ما لا يستند إلى أصل كلي ولا جزئي من غير أن تخالف نصًّا قطعياً في ثبوته ودلالته. محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد في الاسلام: 228 - 289. وقد تعرَّض لها المؤلف هنا شارحاً ماهيتها بقوله: هي التي أرسلتها الشريعة، فلم تنط بها حكماً معيناً، ولا يلفى في الشريعة لها نظير معين له حكم شرعي فتقاس عليه: 245. (¬2) يعني الخبر الذي اتصل بك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتصالاً بلا شبهة، حتى صار كالمعَايَن المسموع منه، وذلك بأن يرويه قوم لا يحصى عددهم ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب، لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم. ويدوم هذا الحدُّ فيكون آخره وأوسطه كطرفيه. وهو يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علماً ضرورياً. البزدوي. كنز الوصول إلى معرفة الأصول: 150. والتواتر في أحاديث الأفعال متحقق ولا ريب فيه. وأما في أحاديث الأقوال فقد قال ابن الصلاح: إنه يعزّ وجوده، بل منهم من قال: إنه لا يوجد مطلقاً. وكلاهما يقصد بذلك المتواتر بلفظه، أما المتواتر بالمعنى فكثير. والتواتر اللفظي أو المعنوي يفيد اليقين. وهو حجة فيما ورد فيه، والأخذ به محل اتفاق الفقهاء. محمد سلام مدكور: 128، الطريق الثالث في إثبات مقاصد الشريعة: 63. (¬3) المعلوم من الدين بالضرورة هو: ما لا يسوغ الاجتهاد فيه، لأن مصدر تحديده وتبيانه من الشارع، وكان طريق ثبوته متواتراً. محمد سلام مدكور: 344. (¬4) في المستصفى: إن التقييد اشتراط، والمطلق محمول على المقيّد إن اتحد الموجب والموجب، كما لو قال: لا نكاح إلا بولي وشهود، وقال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فيحمل المطلق على المقيّد. فلو قال في كفارة القتل: فتحرير رقبة، ثم قال فيها مرّة أخرى: فتحرير رقبة مؤمنة، فيكون هذا اشتراطاً ينزل عليه الإطلاق. وهذا صحيح، ولكن على مذهب من لا يرى بين الخاص والعام تقابل الناسخ والمنسوخ. الغزالي: 2/ 185. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي القضية خلاف الشافعية والأحناف، وخلاف بين كلام الرازي وكلام ابن العربي في المحصول. انظر القرافي. نفائس الأصول: 5/ 2164 - 2176. وتلخيص القول في تقييد المطلق وعدمه عند الأصوليين أربع صور: 1 - إذا اتحد السبب والحكم. فإن المطلق يحمل على المقيد. ومثّل الحنفية لذلك بقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} البقرة: 196، فإن هذا مقيّد عندهم بالتتابع الوارد في قراءة ابن مسعود المشهورة. أما غيرهم فلا يرون هناك نصًّا مقيداً لهذا الإطلاق، لأن غير المتواتر عندهم كله من قبيل أخبار الآحاد، فلا يقيّد بها مطلق الكتاب. 2 - إذا اتحد السبب واختلف الحكم. فأكثر الشافعية يحملون المطلق على المقيّد، ويرى فريق آخر من الفقهاء عدم حمل المطلق على المقيد، لاختلاف الحكم. قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} المائدة: 6، وفي مسح اليدين جاء في التيمم مطلقاً عن هذا القيد: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} المائدة: 6. 3 - إذا اختلف السبب واتحد الحكم. فإذا كان التقييد مختلفاً فإن المطلق لا يحمل على المقيد لاختلاف القيد، وإلا كان ترجيحاً بلا مرجح. ككفارة الصوم، فإنها جاءت في كفارة اليمين مطلقة كما جاء قضاء رمضان مطلقاً، مع أن الصوم جاء في كفارة القتل مقيداً بالتتابع وكذا في كفارة الظهار. وجاء التقييد بالتفريق لا بالتتابع في صوم التمتع بالحج. أما إذا كان التقييد واحداً كالرقبة في الكفارة فقد وردت مقيدة بالمؤمنة في كفارة القتل الخطأ، وجاءت مطلقة في كفارة الظِّهار وفي كفارة اليمين. فالمالكية وأكثر الشافعية يحملون المطلق على المقيد، ويشترطون في الرقبة أن تكون مؤمنة في الكل، والحنفية لا يحملون المطلق على المقيَّد. 4 - وإذا اختلف كل من السبب والحكم فلا يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً. وذلك كاليد في الوضوء والسرقة، فإنها في الوضوء جاءت مقيدة إلى المرافق، وفي السرقة جاء القطع مطلقاً؛ فيبقى المطلق على إطلاقه فيها، ويعمل بالقيد في المقيَّد، ولا تعارض في هذا. محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد في الإسلام: 211.

وقد وقع لإمام الحرمين رحمه الله (¬1) في أول كتاب البرهان اعتذار عن إدخال ما ليس بقطعي في مسائل الأصول، فقال: "فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا تُلْفَى إلا في أصول الفقه، وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القواطع في وجوب العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط بالدليل" (¬2). ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، 419 بنيسابور - 478 بِبُشْتَنِقَان. سمع من أبيه أبي محمد كتباً كثيرة، والحديث من أبي بكر أحمد بن محمد الأصبهاني التميمي، ومن أبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النيسابوري، ومن أبي حسان محمد بن أحمد المُزَكِّي وغيرهم. واْخذ الأصول عن أبي القاسم الإسْكَاف الإسفراييني. وقرأ القراءات على أبي عبد الله الخبازي. ودرس النحو على أبي الحسن علي بن فَضَّال المُجَاشَعِي. رحل إلى بغداد وأصبهان .. وله مصنفات في الكلام وأصول الفقه والخلاف والجدل والفقه والتفسير والخطب والمواعظ والوصايا. ومن أشهر مؤلفاته في الأصول: البرهان، والورقات، والتلخيص. وله في الفقه: نهاية المطلب، ومختصره، وربما ألحقنا بذلك كتاب الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم، وفي الكلام: الإرشاد، والشامل، والعقيدة النظامية. وفي الخلاف: الأساليب، والكافية، والدرّة المضية. وله الأربعون في الحديث. د/ عبد العظيم الديب. فقه إمام الحرمين، ومقدمة البرهان. وقد تضمن كتاب البرهان مباحث جليلة في المقاصد في كتاب القياس: 2/ 923 - 964، الفقرات 901 - 952. وفي كتاب الاستدلال: 2/ 1123 - 1135، الفقرات: 1127 - 1157. وبنى كتابه الغياثي في بيان مسائله على مراعاة المقاصد واتباع وجوه المناسبات التي لا شاهد لعينها بالاعتبار، وإن كان يشهد لجنسها بالاعتبار مجموع أدلة وتفاريق أمارات وعلامات. وهذا يرد مفصلاً في قسمي الكتاب. (¬2) حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به. الجويني. البرهان: 1/ 86، ف: 6.

وهو اعتذار واهٍ؛ لأنا لم نَرَهُمْ دونوا في أصول الفقه أصولاً قواطعَ يمكن توقيف المخالف عند جريه على خلاف مقتضاها، كما فعلوا في أصول الدين. بل لم نجد القواطعَ إلّا نادرة، مثل ذكر الكليات الضرورية: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعِرض (¬1). وما عدا ذلك فمعظم أصول الفقه مظنونة. وقد استشعر الإمام أبو عبد الله المازَريّ (¬2) ذلك فقال عند شرحه قول إمام الحرمين في البرهان: "وأقسامها - أي: أدلة الأحكام - نص الكتاب، ونص السنة المتواترة، والإجماع" (¬3): ¬

_ (¬1) هي في الأصل خمسة بدون ذكر العرض. الشاطبي. الموافقات: (2) 2/ 4 = (3) 2/ 10 = (4) 1/ 20. وعليه جرى الغزالي في المستصفى، وابن الحاجب في مختصره. وعدّه بعض العلماء من الضروري كتاج الدين السبكي في جمع الجوامع. وبه أخذ الحلي والطوفي وزكريا الأنصاري وابن النجار والشوكاني والشنقيطي. ولعل ذلك لما رأوه من التلازم بين الضروري وبين ما في تفويته حد. وقد ورد في الشريعة حد القذف حماية للعرض. قال الشيخ ابن عاشور في فصل أنواع المصلحة المقصودة من التشريع: وأما عدّ حفظ العرض في الضروري فليس بصحيح. والصواب أنه من قبيل الحاجي. انظر: 240. (¬2) هو أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري. نسبة إلى مازرة بصقلية 536 هـ. دخل البلاد التونسية، ونزل بالمهدية. أخذ عن اللخمي وابن الصائغ، وعنه البرجيني وابن الفرس وابن تومرت والشلبي وابن المقري وغيرهم، وعنه بالإجازة ابن أبي جمرة وابن خير وابن رشد الحفيد وعياض وجماعة. تعلم الطب. ولم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه ولا أقوم لمذهبه منه. وهو واحد الأربعة الذين اعتمد خليل ترجيحهم وأقوالهم. له شرح صحيح مسلم، وشرح البرهان لإمام الحرمين، وشرح التلقين لعبد الوهاب، وإيضاح المحصول في برهان الأصول. الحجوي. الفكر السامي: (2) 2/ 221، ع 536؛ مخلوف: 1/ 127، ع 371. (¬3) قول الجويني في البرهان: 1/ 85، ف 5.

"اختلفت عبارات الأصوليين في هذا: فمنهم من لا يقيد هذا التقييد - أي: قيد كلمة نص -، ويذكر الكتاب والسنة - أي: يقتصر على هاتين الكلمتين، ولا يذكر كلمتي نص - والإجماعَ. فإذا قيل لهم: فالظواهر وأخبار الآحاد؟ يقولون: إنما أردنا بذلك ما تحقق اشتمال الكتاب عليه، ولم نتحقق اشتمال الكتاب على الصورة المعيّنة من صور العموم. وكذلك يقولون في أخبار الآحاد: لم نتحقق كونه سنة. ومنهم من لا يقيد لإزالة هذا اللبس. ومنهم من يقول: ما دلَّ على الحكم ولو على وجه مظنون فهو دليل. فهذا لا يفتقر إلى التقييد" اهـ (¬1). ورأيت في شرح القرافي على المحصول، في المسألة الثانية من مسائل اللفظ في الأمر والنهي، أن الأبياري (¬2) قال في شرح البرهان: ¬

_ (¬1) ما نقله الشيخ ابن عاشور هنا ساقط من بين ما سقط من أول شرح البرهان للمازري في المخط. (العاشورية: عدد 5). تبدأ النسخة بما بعد مسألة شُكر المُنعم. وهي الفقرة 15 من البرهان إثر المقدمات. والذي يظهر أن الشيخ ابن عاشور نبَّه على ما وقف عليه من أصل هذه النسخة. يوحي بذلك قوله في أول نسخته بخطه: من قطعة أمالي الامام المازري على البرهان لإمام الحرمين في أصول الفقه، أخرجها العالم الموثق الفقيه النبيه محمد بن رمضان أحد تلامذة الشيخ العلامة المفتي إسماعيل التميمي بخطه من أصل عتيق فيه خرم. وهاته السياقات هي إثر تخريم في الأصل. وقد وقفت على الأصلِ. محمد الطاهر ابن عاشور. (¬2) بالأصل ابن الأنباري. وهو تصحيف. والصحيح الأبياري كما أثبتناه. وهو شمس الدين أبو الحسن علي بن إسماعيل بن عطية الصنهاجي. (557 - 618) الفقيه الأصولي الرّحلة. أحد أئمة الإسلام المحققين. أخذ عن القاضي عبد الرحمن بن سلامة وناب عنه في القضاء. وتفقّه بجماعة، =

"مسائل الأصول قطعية، ولا يكفي فيها الظن. ومُدْرَكُها قطعي، ولكنه ليس المسطورَ في الكتب، بل معنى [قول العلماء: إنها قطعية]: أن من كثُر استقراؤه واطِّلاعه على أقضية الصحابة [رضوان الله عليهم]، ومناظراتهم، [وفتاواهم]، وموارد النصوص الشرعية، [ومصادرها] حصل له القطع بقواعد الأصول، ومتى قصر عن ذلك لا يحصل له إلّا الظّن" اهـ (¬1). وهذا جواب باطل، لأننا بصدد الحكم على مسائل علم أصول الفقه لا على ما يحصل لبعض علماء الشريعة (¬2). وفي شرح القرافي على المحصول في الفصل الثاني من المقدمات [فائدة]: "إن أبا الحسين (¬3) قال في شرح العُمد: لا يجوز ¬

_ = منهم: أبو الطاهر بن عوف. وعنه جماعة، منهم: ابن الحاجب، وعبد الكريم بن عطاء الله. له سفينة النجاة المحاكية للإحياء، وشرح التهذيب، وتكملة الكتاب الجامع بين التبصرة والجامع لابن يونس، والتعليقة للتونسي. وربما فضلوه على الإمام الفخر الرازي في الأصول، لجملة تآليفه التي من أهمها شرحه لكتاب الجويني البرهان في الأصول. مخلوف: 1/ 166، 520. (¬1) القرافي. نفائس الأصول في شرح المحصول: 3/ 1247 - 1248. (¬2) وفي هذا يكمن سر اختلاف القول في كون أصول الفقه قطعيّة. ولا يخفى أن من العلماء من بنى حكمه على موضوع علم أصول الفقه، ومنهم من قصد من أصول الفقه ما يتوصل به عن طريقها إليه من الأحكام والقواعد الشرعية. ويؤكد الشيخ ابن عاشور هذا المعنى بما ذكره بعد مؤيداً لمنزع من ينظر إلى أصول الفقه نظرة موضوعية مرجحاً بذلك رأيه واختياره. انظر ذلك في الصفحة الموالية ابتداء من قوله: "وأنا أرى ... إلى نهاية الفقرة الأولى". (¬3) هو أبو الحسين البصري محمد بن علي بن الطيب، 436 هـ ببغداد. أحد أعلام المعتزلة. سمع من طاهر بن لبؤة وغيره. له شهرة بالذكاء والديانة =

التقليد في أصول الفقه، ولا يكون كل مجتهد فيه مصيباً، بل المصيب واحد [بخلاف الفقه في الأمرين]. والمخطئ فى أصول الفقه ملوم، بخلاف الفقه [فهو مأجور] ". اهـ. وعقّبه القرافي بقوله: "إن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك، كالإجماع السكوتي، [والكلام على الحروف]، ونحو ذلك. [فإن الخلاف فيها أقوى]، والمخالف فيها لم يخالف قاطعاً بل ظناً فلا ينبغي تأثيمه، كما أنّا في أصول الدين لا نؤثّم من يقول: "العَرَض يبقى زمانين"، وينفي الخلاء، [وإثبات الملأ]، وغير ذلك من المسائل التي مقصودها ليس من قواعد الدين الأصليّة، وإنما هي من التتمّات في ذلك العلم" (¬1). وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي فى المقدمة الأولى من كتاب الموافقات الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية (¬2)، فلم يأت بطائل (¬3). ¬

_ = على بدعته. وله تصانيف منها: المعتمد في أصول الفقه، وتصفح الأدلة، وشرح العمد، وغرر الأدلة، والإصابة. ابن خلكان. وفيات الأعيان: 4/ 271، ع 609؛ الخطيب. تاريخ بغداد: 3/ 100، ع 1096؛ المراغي. الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 1/ 233. (¬1) القرافي. نفائس الأصول: 1/ 161 - 162. (¬2) الشاطبي. الموافقات: (2) 1/ 10 - 12= (3) 1/ 29 - 34= (4) 1/ 17 - 24. (¬3) وقد نبّه على هذا الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته حين قال معقباً على كلام الشاطبي: وإن تفاوتت في الرتبة فإنها قد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة، بما نصه: استدلال خطابي لأنه لا يتأتى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول حتى ما اتفقوا عليه منها. إنما المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط. وكان يجدر به، وهو في مقام الاستدلال العام على قطعية مسائل الأصول ومقدماتها ألا يذكر مثل هذا الدليل. الشاطبي. الموافقات: (3) 1/ 29 - 32.

وأنا أرى: سبب اختلاف الأصوليين في تقييد الأدلة بالقواطع هو: الحيرة بين ما ألفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعية كأصول الدين السمعية. فهم قد أقدموا على جعلها قطعية، فلما دوَّنوها وجمعوها ألفوا القطعي فيها نادراً ندرة كادت تذهب باعتباره في عداد مسائل علم الأصول. كيف وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه؟!. فنحن إذا أردنا أن ندون أصولاً قطعية للتفقّه في الدين حقّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذَوْبها في بُوتَقَةِ التدوين، ونُعَيِّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثمّ نعيد صوغ ذلك العلم ونسمّيه "علم مقاصد الشريعة"، ونترك علم أصول الفقه على حاله نَستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية، ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير مُنْزَوٍ تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل: "علم مقاصد الشريعة" (¬1). فينبغي أن نقول: أصول ¬

_ (¬1) من أجل بيان ما بين علمي أصول الفقه والمقاصد الشرعية من صلات، يحسن بنا أن نحصر مسائل كل واحد منهما وموضوعه، لإدراك مدى العلاقة بينهما. فعلم أصول الفقه عبارة عن أدلة الفقه الإجمالية وقواعده الكلية التي تستنبط منها أحكامه. وهذه وتلك إما نقلية محضة كالكتاب والسنة وقول الصحابي. وإما اجتهادية تستند في حجيتها واعتبارها إلى النقل، وتؤخذ من معقوله بوجه من الوجوه المعتبرة المبيّنة عند الأصوليين، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ونحوها. وإما اجتهادية تستند إلى أحد النوعين السابقين، فما يلزم فيهما يلزم فيه وهو الإجماع. وعلم المقاصد: كل ما يكشف عن وجوه الإعجاز التشريعي القائمة على جلب مصالح العباد أو تكميلها، ودفع المفاسد عنهم أو تقليلها، في دينهم ودنياهم. أو يفيد بياناً أو تعليلاً لبعض الأحكام الجزئية بذكر حكمته =

الفقه يجب أن تكون قطعية، أي: من حق العلماء أن لا يدوّنوا في أصول الفقه إلّا ما هو قطعي، إما بالضرورة أو بالنظر القوي. وهذه المسألة لم تزل معترك الأنظار. ومحاولة الانفصال فيها ملأت دروس المحققين لها في أختام الحديث في شهر رمضان (¬1). ولقد فاضت كلمات مباركة من بعض أئمة الدين، أمست قواعدَ قطعية للتفقّه، إلّا أن تناثرَها وانغمارَها بوقوعها في أثناء استدلال على جزئيات، يسارع ذلك إليها بإبعادها عن ذاكرة من قد ينتفع بها عند الحاجة إليها. وهذه مثل قولهم: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2)، وقول ¬

_ = التشريعية، أو العلة المناسبة له. وهو علم تختلف وظيفته عن وظيفة علم الأصول كما نبه على ذلك المؤلف. وهو مما يستعان به على دفع ما يظهر من التعارض أحياناً بين أدلة الكتاب والسنة، فيتولى المجتهد البصير به عن طريقه حمل النص على ما يكون أحرى من الوجوه المحتملة بتحقيق غايات الشارع ومراميه، أو على الذبِّ عن نصوص السنة الصحيحة كما ذهب إلى ذلك الشافعي بردّه طعون الطاعنين فيها، بسبب مخالفتها للأصول والقواعد. وذلك ببيان ما في تلك النصوص من الحكم والمصالح التي تجعلها أصولاً شرعية مستقلة برأسها، وبإزالة ما قد يتوهم من التعارض بينها. (¬1) إشارة إلى ما كان يقوم به كبار علماء الشريعة - من شيوخ الإسلام، والمفتين، والقضاة، وغيرهم، ممن رقى إلى رتبتهم من أهل العلم - في شهر رمضان بتونس، في عهد الدولة الحسينية ومن قبلها: من دروس في الحديث النبوي الشريف، يلقونها بالمساجد الجامعة بحضور أمير البلاد، على أقدارهم لا على قدره. وقد كانوا يتناولون فيها العويص من المسائل يتبارون في حل معاقدها واستكناه أسرارها. وهي ببلدنا سنة قديمة سبق إلى ذكرها ابن أبي دينار في كتابه المؤنس، وتوارثها الخلف عن السلف إلى أيامنا هذه. ولهذه الأختام في الحديث الشريف نظام ورسوم عرفت بها. محمد ابن الخوجة. تاريخ معالم التوحيد في القديم والجديد: 337 - 349. (¬2) هذه القاعدة العامة وردت بها أحاديث كثيرة، منها: حديث أبي سعيد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ضرر ولا ضرار في ديننا" وهو بمعنى النهي. حديث حسن، رواه جَه مسنداً عن ابن عباس في: 13 كتاب الأحكام، 17 باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2/ 784، ع: 234. ورواه بسند رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً عن عبادة بن الصامت. والدارقطني عن أبي سعيد، وعن عائشة، وعن ابن عباس، 4/ 227 - 228، ع: 85، 83، 84. وأخرجه الحاكم في المستدرك عنه في كتاب البيوع بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه". وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2/ 58. وكذلك هو في كتاب آداب القاضي، باب ما لا يحتمل القسمة 10/ 133. وأخرج أحمد الحديث عن ابن عباس بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره". حَم: 1/ 313. وعن عبادة بن الصامت من أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه حَم: 5/ 327. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث جابر بن عبد الله، وفي إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنه. ورواه مالك مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسقط أبا سعيد، في 36 كتاب الأقضية، 26 باب القضاء في المرفق طَ: 2/ 745، ع 31. وله طرق يقوّي بعضها بعضاً. قال ابن عبد البر: لم يُختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا يسند من وجه صحيح. وقال أبو عمرو بن الصلاح: مجموع روايات هذا الحديث يقوّيه ويحسنه. وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به. وقال أبو داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها. انظر ابن رجب. جامع العلوم والحكم، الحديث: 32: 285 - 293. كما تشهد لهذا الحديث الأصول من حيث الجملة. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يبيع حاضر لبادٍ. وقال: "دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض". كما نهى عن تلقّي الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق، ترجيحاً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ومن هذا القبيل تضمين الصناع. الشاطبي. الاعتصام: 2/ 119.

عمر بن عبد العزيز: "تحدُث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" (¬1) وقول مالك في الموطأ: "ودين الله يُسْرٌ" (¬2). وقوله أيضاً في ما جاء في الخطبة: "وتفسير قول رسول الله: "لا يخطب أحدكم على خِطبة أخيه" (¬3): أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه [ويتفقان على صداق ¬

_ (¬1) انظر ابن أبي زيد. متن الرسالة: 83، باب في الأقضية والشهادات 245؛ الآبي. الثمر الداني: 605؛ ابن رشد. المقدمات: 2/ 309. وفي تغيّر الأحكام بتغير الأحوال أيضاً مقالة زياد بن أبيه لأهل البصرة: "قد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة". الحجوي. الفكر السامي (1) الربع الأول: 11= (2): 1/ 15. (¬2) مالك: 18 كتاب الصيام، 15 باب ما يفعل المريض في صيامه، 41. طَ: 1/ 302. وترجم خ لأحاديث في 2 كتاب الإيمان، 29 باب الدين يسر. وسيأتي في بقية الحديث عن التيسير والترغيب فيه: 190/ 6. (¬3) مالك: ما حدَّث به أبو هريرة وعبد الله بن عمر: 28 كتاب النكاح، باب ما جاء في الخطبة، ح 1. 2 طَ: 2/ 523؛ خ: 67 كتاب النكاح، 45 باب لا يخطب على خطبة أخيه خَ: 6/ 136. الشافعي. الرسالة: 307، ف 847، 848؛ الحديثان بصيغ مختلفة عند مسلم. باب كتاب النكاح، 6 باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه، ح 49، 55، 51، 52، 54, 55، 56. مَ: 2/ 1032؛ انظر 6 كتاب النكاح، 18 باب في كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، ح 2080، 2081. دَ: 2/ 564 - 565؛ ورواه ت: 9 كتاب النكاح، 38 باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ح 1134. 3/ 440؛ جَه: 9 كتاب النكاح، 10 باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه. 1/ 600؛ دَي: 11 كتاب النكاح، 7 باب النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، ح 2181 - 1282. 2/ 459 - 460. وقد اختلف الفقهاء في محمل النهي: فبعضهم حمله على الحرمة وهم الأغلب، والبعض حمله على الكراهة. وقال العيني: النهي منسوخ بخطبة الشارع لأسامة فاطمة بنت قيس على خطبة معاوية وأبي الجهم، وفقهاء =

واحد معلوم، وقد تراضيا. فهي تشترط عليه لنفسها. فتلك التي نهى أن يخطبها الرجلُ على خطبة أخيه]. ولم يعنِ بذلك إذا خطب الرجل المرأة فلم يوافقها أمرُه [ولم تركن إليه] أن لا يخطبها أحد. فهذا باب فساد يدخل على الناس" (¬1). ولَحِق بأولئك أفذاذ، أحسب أن نفوسهم جاشت بمحاولة هذا الصنيع، مثل: عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام المصري الشافعي في قواعده (¬2)، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المصري المالكي ¬

_ = الأمصار على عدم النسخ. وفصّل ابن قدامة فيه القول تبعاً لاختلاف حال المخطوبة إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن تسكن إلى الخاطب لها فتجيبه أو تأذن لوليِّها في إجابته. فهذه يحرم على غير خاطبها خطبتُها لصريح الحديث، ولأن في ذلك إفساداً على الخاطب الأول وإيقاعاً للعداوة بين الناس. فوجب درء الفساد وهو المقصد الشرعي من المنع. ابن عاشور. كشف المغطى: 245. ولا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم إلا أن قوماً حملوا النهي على الكراهة، والقول بالحرمة أولى. والقسم الثاني: أن تردَّه أو لا تركنَ إليه. فهذه يجوز خِطبتها، لخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس لأسامة بن زيد على خطبتي معاوية وأبي الجهم، أو لا يعلم موقفها من الخاطب الأول، كخطبة عمر بن الخطاب على خطبة جرير بن عبد الله ومروان بن الحكم، وعبد الله بن عمر الواحد تلو الآخر. والقسم الثالث: أن يوجد من المرأة ما يدل على الرضا والسكون تعريضاً لا تصريحاً، وحكمه حكم القسم الأول. ومذهب الشافعي في الجديد إباحة خطبتها في هذه الحالة. ابن قدامة. المغني: (2) 9/ 567 - 569. (¬1) ط: 28 كتاب النكاح، 1 باب ما جاء في الخطبةح 2. 2/ 523 - 524. (¬2) هو أبو محمد العز عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السُّلَمي. سلطان العلماء 577 أو 578 - 660 هـ. أخذ عن الخُشوعي وعبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي والقاسم ابن عساكر وابن طبرزد وابن الحرستاني وغيرهم. وعنه ابن دقيق العيد والدمياطي واليونيني. تفقه بفخر =

في كتابه الفروق (¬1)؛ فلقد حاولا غير مرة تأسيس المقاصد الشرعية. ¬

_ = الدين ابن عساكر، وقرأ الأصول والعربية، ودرّس وأفتى وصنف. خرج له الدمياطي أربعين حديثاً من العوالي. له الغاية في اختصار النهاية في الفقه. والقواعد الكبرى وهو قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تكلم فيه على المصالح والمفاسد ووجوه المناسبات وما يقدم منها وما يؤخر عند التزاحم والتعارض، وجعل جماع القواعد الشرعية في جلب المصالح ودرء المفاسد. وله أيضاً: القواعد الصغرى، ومقاصد الرعاية. الكتبي. فوات الوفيات: 2/ 350، ع 287؛ السبكي. الطبقات: 8/ 209 - 255، 1183؛ ابن كثير. البداية والنهاية: 13/ 235 - 236؛ السيوطي. حُسن المحاضرة: 1/ 314 - 316؛ الذهبي. العبر: 5/ 260؛ أبو الفدا. المختصر: 3/ 215؛ ابن تغري بردي. النجوم الزاهرة: 7/ 208. (¬1) القرافي المصري الصنهاجي المالكي 626 - 682 أو 684 هـ بالقاهرة. وهو الفقيه الأصولي ذو الدراية بالعلوم العقلية والمعرفة بالتفسير. أخذ عن العز بن عبد السلام والشريف الكركي وأبي بكر المقدسي، وتخرج به جمع من الفضلاء، ودرس في الصالحية. وله نفائس الكتب. منها: نفائس الأصول في شرح المحصول للرازي. والفروق والقواعد، وشرح التهذيب، وشرح الجلاب، والتعليقات على المنتخب، والأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على أهل الكتاب. والأمنية في درك النية، والاستغناء في أحكام الاستثناء. والإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام. واليواقيت في أحكام المواقيت. وشرح الأربعين في أصول الدين للرازي. والعقد المنظوم في الخصوص والعموم، والاعتماد في الانتقاد وغير ذلك. وقد بث في ثنايا كتبه وخاصة في الفروق جملة لا بأس بها من مباحث المقاصد، وكان كثير الإشارة إلى وجوه المصالح والمفاسد يعتمدها في الترجيح بين ما قد يرى من القواعد والضوابط والمسائل متعارضاً، وكذلك في الكشف عن وجوه الجوامع والفوارق بينها. الصفدي. الوافي: 6/ 233، ع 2708؛ ابن فرحون. الديباج: (2) 1/ 236، ع 124.

والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي (¬1)، إذ عني بإبراز القسم الثاني من كتابه المسمى عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه (¬2)، وعنون ذلك القسم بـ كتاب المقاصد. ولكنه تطوَّح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جِد الإفادة. فأنا أقتفي آثاره، ولا أهمل مهمّاتِه، ولكن لا أقصد نقله ولا اختصاره. وإنّي قصدت في هذا الكتاب خصوصَ البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب، التي أرى أنها الجديرة بأن تخصَّ باسم الشريعة، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وتراجيحها مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية، لحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع (¬3). ¬

_ (¬1) هو الإمام الشاطبي الغرناطي الأندلسي 790 هـ. أصولي مفسر وفقيه محدث، ونحوي لغوي. أخذ عن ابن الفخار الألبيري، وأبي القاسم السبتي، والشريف التلمساني، وأبي عبد الله المقري، وأبي سعيد بن لب، وابن مرزوق الجد، ومنصور الزواوي، وأبي عبد الله البلنسي، وأبي جعفر الشقوري، وأبي العباس القباب، وأبي عبد الله الحفار، وغيرهم. باحث القباب وابن عرفة. وعنه أبو يحيى بن عاصم، وأخوه أبو بكر، وأبو عبد الله البياني. له المصنفات النفيسة منها: الموافقات، والاعتصام، والمجالس في شرح كتاب البيوع في صحيح البخاري، والمقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية. وعنوان الاتفاق في علم الاشتقاق. وأصل النحو، والإفادات والإنشادات وفتاوى كثيرة. التنبكتي. نيل الابتهاج على هامش الديباج لابن فرحون: (1) 46 - 50. (¬2) هو كتاب الموافقات. (¬3) وقد تعددت مناهج الأئمة في تتبع ذلك مع تفصيلهم القول في المقاصد، =

فمصطلحي إذا أَطلقتُ لفظ التشريع: أني أريد به ما هو قانون للأمة، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع. فالمندوب والمكروه ليسا بمرادين لي. كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة، ولها أسرار أخرى تتعلق بسياسة النفس وإصلاح الفرد الذي يلتئم منه المجتمع. لذلك قد اصطلحنا على تسميتها بنظام المجتمع الإسلامي، وقد خصصتها بتأليف سميته: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. وفي هذا التخصيص نلاقي بعض الضيق في الاستعانة بمباحث الأئمة المتقدمين، لنضوب المنابع النابعة من كلام أئمة الفقه وأصوله ¬

_ = وتمييزهم بين المقصد الكلي العام والمقصد الخاص لما شُرعت له بعض الأحكام، وبين المقصد الأصلي والمقصد التابع له الذي لا يستقل بنفسه، وبين المقصد القطعي والمقصد المظنون. وهي كلها مستنبطة من نصوص الشرع وإيماءاته وأماراته وتنبيهاته ووجوه المناسبات المعتبرة التي روعيت في الأحكام الجزئية. وقد نبّه إلى ذلك علماء المقاصد كالعز بن عبد السلام والقرافي والشاطبي، وعلماء الأصول كالآمدي في الإحكام، والغزالي في شفاء الغليل، والمستصفى، والفقهاء في مدوّناتهم في أكثر الأبواب عند بيانهم الأحكام الشرعية ووجوهها وذكرِ عللها. كما ذهبت طائفة أخرى من الدعاة وعلماء الأمة إلى تفصيل القول في حِكَم الأحكام، وأسرارها، وغاياتها، ومصالحها، وأغراضها، ومراميها، ومحاسن التشريع. وذلك ما نجده في مثل إحياء علوم الدين للغزالي وكتبه ورسائله الوعظية، وفي مجالس وعظ ابن الجوزي. ومحاسن الإسلام وشرائعه لمحمد بن عبد الرحمن البخاري، وكتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وكتاب تفصيل النشأتين ومحصل السعادتين للراغب الأصبهاني. ومفتاح دار السعادة، وقسم كبير من إعلام الموقعين لابن القيم. =

والجدل، إذ قد فرضوا جَمهرة جدلهم واستدلالهم وتعليلهم خاصةً بمسائل العبادات وبعض مسائل الحلال والحرام في البيوع. وتلك الأبواب غيرُ مجدية للباحث عن أسرار التشريع في أحكام المعاملات. فإنها وإن صلُحت للأصولي في تمثيل قواعده، وللجدلي في تركيب مناظراته، وللفقيه في مقدمات الأبواب الأولى من تأليفه حين يظهر عليه نشاط الإقبال، وقبل أن تعترضه السآمة والملال، فهي لا تصلح لصاحب فقه المعاملات. ولهذا تجَشّمتُ إيجاد أمثلة من المعاملات ونحوها، مما علق بذهني واعترضني في مطالعاتي. وقد أُضطَرُّ إلى الاستعانة بمُثُل من مسائل الديانة والعبادات، لما في تلك المثل من إيماء إلى مقصد عام للشارع أو إلى أفهام أئمة الشريعة في مراده. وقد قسَّمت هذا الكتاب ثلاثةَ أقسام: القسم الأول: في إثبات مقاصد الشريعة، واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها. القسم الثاني: في المقاصد العامة من التشريع. القسم الثالث: في المقاصد الخاصة بأنواع المعاملات المعبَّر عنها بأبواب فقه المعاملات.

مثال مما حذفه الإمام الأكبر من الطبعة الأولى بخطه وبقلمه قبل تقديم الكتاب إلى الطبع ثانية

مثال لما أضافه بخطه وبقلمه إلى نص كتابه في الطبعة الأولى

القسم الأول في إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها, وطرق إثباتها ومراتبها

القسم الأول في إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها, وطرق إثباتها ومراتبها أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع. ب - احتياج الفَقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة. جـ - طرق إثبات المقاصد الشرعية. د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة. هـ - أدلّة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية. و- انتصاب الشارع للتشريع. ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية. حـ - تعليل الأحكام الشرعية، وخلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي.

أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع لا يمتري أحد في أن كل شريعة شُرعت للناس أن أحكامها ترمي إلى مقاصد مرادة لمشرّعها الحكيم تعالى، إذ قد ثبت بالأدلة القطعية أنّ الله لا يفعل الأشياء عبثاً، دلّ على ذلك صنعه في الخلقة كما أنبأ عنه قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬1)، وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (¬2). ومن أعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان خلقُ قبوله التمدن (¬3)، الذي أعظمُه وضع الشرائع له. وما أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الشرائع إلا لإقامة نظام البشر، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬4). وشريعة الإسلام هي أعظم الشرائع وأقومها، كما دلّ عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬5) بصيغة الحصر المستعمل في المبالغة. فإذا وجدنا أن الله قد وصف الكتب المنزلة قبل القرآن بأوصاف الهدى وسمّاها ديناً في قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (¬6) يعني شريعة موسى، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬7)، وسمَّاها ¬

_ (¬1) الدخان: 38، 39. (¬2) المؤمنون: 115. (¬3) خلق قبوله التمدن فيه. ط. الاستقامة: 9. (¬4) الحديد: 25. (¬5) آل عمران: 19. (¬6) النساء: 171؛ المائدة: 77. (¬7) الشورى: 13.

شرائع في قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (¬1)، وعلمنا أنه وصف القرآن بأنه أفضلُها، أيقنا بأن القرآن هو أفضل الهدى وأعلاه. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (¬2)، ثم قال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (¬3)، ثم قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (¬4)، فوصَفَهُ بوصفين: تصديق ما بين يديه من الكتاب، أعني: تقرير ما جاء به التوراة والإنجيل من التشريع الذي لم ينسخه القرآن، وكونه مهيمناً على ما بين يديه من الكتاب، وذلك فيما نُسخ من أحكام التوراة والإنجيل، وفيما جاء به من أصول الشريعة التي خلا منها التوراة والإنجيل. فهو مهيمن، أي: شاهد وقيم على الكتب السالفة. فالشرائع كلها وبخاصة شريعة الإسلام جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، أي في حاضر الأمور وعواقبها. وليس المراد بالآجل أمورَ الآخرة، لأن الشرائع لا تحدد للناس سَيْرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاءً على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا. وإنما نريد أن من التكاليف الشرعية ما قد يبدو فيه حرج وإضرار للمكلّفين، وتفويتَ مصالحَ عليهم، كتحريم شرب الخمر وتحريم بيعها. ولكن المتدبّر إذا تدبّر في تلك التشريعات ظهرت له مصالحها في عواقب الأمور (¬5). ¬

_ (¬1) المائدة: 48. (¬2) المائدة: 44. (¬3) المائدة: 46. (¬4) المائدة: 48. (¬5) تفسير المؤلف الآجلَ بهذا الوجه منظور فيه إلى أصل المآل في الأفعال. فالشارع إنما شرع الأسباب لأجل المسببات، أي: لتحصل المصلحة =

واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطةٌ بحكمٍ وعللٍ راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد كما سيأتي. ومقصودُنا هنا إثبات أن للشريعة مقاصد في الجملة، ونترك تفصيلَها لمواضعها الآتية. وقد ذكر أبو إسحاق الشاطبي - في مقدمة كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف - أدلة لمصالح [العباد] (¬1) ¬

_ = المسببة أو تدرأ المفسدة المسببة. انظر تعليق الشيخ دراز. الشاطبي. الموافقات: (3) 4/ 194. (¬1) فصّل ابن القيم هذا المعنى بقوله: "وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة، بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدَّم أهمها وأجلها، وإن فاتت أدناها. وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناها. وعلى هذا وَضَع أحكمُ الحاكمين شرائع دينه، دالةً عليه، شاهدة له بكمال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم ... وإن القرآن وسنةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع الله تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان. ولو كان في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على الألف موضع بطرق متنوعة: فتارة يذكر "لام التعليل" الصريحة، وتارة يذكر المفعول لأجله الذي هو المقصود بالفعل، وتارة يذكر "من أجل" الصريحة في التعليل، وتارة يذكر أداة "كي"، وتارة يذكر "الفاء" و"إن"، وتارة يذكر أداة "لعل" المتضمّنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق، وتارة ينبّه على السبب بذكره صريحاً، وتارة يذكر الأوصاف المشتقّة المناسبة لتلك الأحكام، ثم يرتّبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها، وتارة ينكر على =

منها (¬1) قوله تعالى عقب آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬2) وقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬3). ونزيد على ذلك أدلة كثيرة مثل قوله تعالى عقب الأمر باجتناب الخمر والميسر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (¬4). وقال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬5). وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬6). وستأتي أمثلة في مبحث طريق ¬

_ = من زعم أنه خلق خلقه وشرع دينه عبثاً وسدى، وتارة ينكر على من ظن أنه يسوّي بين المختلفين اللذين يقتضيان أثرين مختلفين، وتارة يخبر بكمال حكمته وعلمه المقتضي أنه لا يُفرِّق بين متماثلين ولا يسوّي بين مختلفين، وأنه ينزل الأشياء منازلها ويرتبها مراتبها، وتارة يستدعي من عباده التفكر والتأمل والتدبّر والتعقل لحسن ما بعث به رسوله وشرعه لعباده، كما يستدعي منهم التفكّر والنظر في مخلوقاته وحكمها وما فيها من المنافع والمصالح، وتارة يذكر منافع مخلوقاته منبهاً بها على ذلك وأنه الله الذي لا إلا إله إلا هو، وتارة يختم آيات خلقه وأمره بأسماء وصفات تناسبها وتقتضيها. والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما وما تضمَّناه من الآيات الشاهدة الدالة عليه، ولا يمكن من له أدنى اطلاع على القرآن إنكار ذلك. اهـ. ابن القيم. مفتاح دار السعادة: 23؛ شفاء العليل في مسالك القضاء والقدر والحكمة والتعليل: 186 - 278. (¬1) الشاطبي: الموافقات: (1) 2/ 1، 2 = (2) 2/ 312 = (3) 1/ 7 (4) 2/ 12. (¬2) المائدة: 6. (¬3) البقرة: 179. (¬4) المائدة: 91. (¬5) النساء: 3. (¬6) البقرة: 205.

إثبات المقاصد الشرعية الآتي (¬1)، وفي قسم تفصيل مقاصد الشريعة من التشريع (¬2). ¬

_ (¬1) 52. (¬2) 230.

ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة إنّ تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء: النحو الأول: فهمُ أقوالها، واستفادةُ مدلولات تلك الأقوال، بحسب الاستعمال اللغوي، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي. وقد تكفَّل بمعظمه علمُ أصول الفقه. النحو الثاني: البحثُ عمّا يعارض الأدلّة التي لاحت للمجتهد، والتي استكمل إعمالَ نظره في استفادة مدلولاتها، ليستيقن أن تلك الأدلة سالمةٌ مما يُبطل دلالتَها ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح (¬1). فإذا استيقن أن الدليل سالمٌ عن المُعارِض أعمله، وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً، أو رجحان أحدهما على الآخر. النحو الثالث: قياسُ ما لم يرِد حكمُه في أقوال الشارع على حكمِ مَا ورد حكمُه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة المُبيَّنةَ في أصول الفقه. ¬

_ (¬1) أردت بالإلغاء النسخ أو الترجيح لأحد الدليلين أو ظهور فساد الاجتهاد. وبالتنقيح نحو التخصيص والتقييد. اهـ. تع ابن عاشور.

النحو الرابع: إعطاءُ حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظيرٌ يقاس عليه. النحو الخامس: تلقِّي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلِقِّيَ من لم يعرف عِلَلَ أحكامها ولا حكمةَ الشريعة في تشريعها. فهو يتّهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، ويستضعف علمه في جَنْب سَعَةِ الشريعة، فيسمَّي هذا النوع بالتعبّدي. فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلَّها. أمّا في النحو الرابع فاحتياجه فيه ظاهر. وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا. وفي هذا النحو أثبت مالك، رحمه الله، حجيّة المصالح المرسلة (¬1). وفيه أيضاً قال الأئمة بمراعاة ¬

_ (¬1) وتعرف عند بعض الأصوليين بالاستدلال. وذكروا أن المذاهب في قبوله واعتماده ثلاثة: ردُّه أو نفيه مطلقاً، وحصر المعنى فيما استند إلى أصل، والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل، وهو رأي الباقِلّاني وطائفة من المتكلمين؛ وقبولُه وإن لم يستند إلى أصل، بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة وقواعد الشرع الكلية، وهو رأي الشافعي وأكثر الحنفية؛ واعتماده مطلقاً، قَرُب من موارد النص أو بعُدَ إذا لم يصدَّ عنه أصل من الأصول الثلاثة. وهو مذهب مالك. الجويني. البرهان: 2/ 1114 - 1131؛ الإسنوي. شرح المنهاج: 3/ 135. فهو أول من اعتمد المصلحة المرسلة واشتهر بها. قال الشاطبي في التنويه بذلك: بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه، ولا يناقض أصلاً من أصوله. الشاطبي. الاعتصام: 2/ 132 - 133. =

الكليات الشرعية الضرورية، وألحقوا بها الحاجيّة والتحسينيّة، ¬

_ = والوجه العملي في المصالح المرسلة يقوم على اعتبار أمور ثلاثة: أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله. الثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية. الثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين. وأيضاً مرجعها إلى حفظ الضروري من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. الاعتصام: 2/ 129 - 133. وقد ذكر الشاطبي في هذا الكتاب أمثلة عشرة للاستدلال أو للمصالح المرسلة. انظر: 2/ 115 - 129. وتعليقاً على مثل هذا الكلام قال الشيخ محمد الخضر حسين بهامش كتاب الموافقات في هذا الغرض: إنها مصلحة يتلقّاها العقل بالقبول، ولا يشهد لها أصل خاص من الشريعة بإلغائها أو اعتبارها، وإن مالكاً يتمسك بها على شرط التئامها بالمصالح التي تشهد بها الأصول. محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد: 1/ 292. وفيما رواه الإمام مالك في اعتبار المصلحة المرسلة والأخذ بها خلافُ الضحاك بن خليفة مع محمد بن مسلمة، وقضاء عمر فيه. انظر: 36 كتاب الأقضية، 26 باب القضاء في المرفق، ح 33. طَ: 2/ 746. وكذا قول مالك بضرب المتّهم بالسرقة حتى يقرّ إن كان ممن ثبتت عليه السرقة من قبل بالبينة. الحجوي. الفكر السامي (2): 1/ 98. واعتبرت المالكية المصالح المرسلة من جملة المخصّصات. قال مالك في المرأة إذا كانت شريفة القدر: لا يلزمها إرضاع ولدها إن قَبِل ثديَ غيرها، لمصلحة المحافظة على جمالها جرياً على عادة العرب. حكى ذلك ابن العربي في ذيل المسألة السادسة، في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}. الأحكام: 1/ 204.

وسَمُّوا الجميع بالمناسب، وهو مقرر في مسالك العلة من علم أصول الفقه (¬1). وفي هذا النحو هرع أهلُ الرأي إلى إعمال الرأي والاستحسان. فقامت في وجوههم ضجة علماء الأثر الذين اطلعوا على أدلة من الأثرِ والعملِ، فيها أحكامُ الأحوال والحوادث التي فاتت أهلَ الرأي معرفتُها، كما أنكر مالك على شُريح قولَه بعدم صحة الحُبس (¬2). وقامت أيضاً ضجّة العلماء الجامعين بين الأثر والنظر فيما أَلْفَوه من أقوال أهل الرأي مخالفاً لما دل عليه استقراءُ مقاصد الشريعة، كما أنكر مالك على القائلين من السلف بخيار المجلس في البيع. فقال في الموطأ: "وليس لهذا عندنا حدٌّ محدود ولا أمر معمول به [فيه] " (¬3). وفسّره أصحابه بأنه أراد أن المجلس ¬

_ (¬1) انظر الرازي. الفصل الثالث في بيان علّية الوصف بالمناسبة: المحصول، 2/ 319 - 344. (¬2) هو أبو أمية شريح بن الحرث بن قيس الكندي، المعروف بشريح القاضي بالكوفة 78. ولي قضاء الكوفة أيام عمر وعثمان وعلي ومعاوية. وكان ثقة في الحديث، مأموناً في القضاء، ذا باع في الأدب والشعر. ابن العماد. الشذرات: 1/ 85؛ ابن سعد. الطبقات: 6/ 90؛ الأصفهاني أبو نعيم. الحلية: 4/ 132؛ الحجوي. الفكر السامي: 1/ 255 - 59. وقد عرف به المؤلف في كتابه بعد: 506. والمسألة ذكرها عياض. قال: قال عبد الملك بن الماجشون: سأل رجل من أهل العراق مالكاً عن صدقة الحُبسُ، فقال: إذا حيزت مضت. فقال العراقي: إن شريحاً قال: لا حَبس عن كتاب الله. فضحك مالك، وكان قليل الضحك. وقال: يرحم الله شُريحاً لم يدرِ ما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا. عياض. المدارك: 2/ 120. (¬3) انظر تعقيب مالك: 31 كتاب البيوع، 38 باب بيع الخيار، ح 79 طَ: 2/ 671. وأضاف ابن العربي في القبس أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعاً. فكيف يثبت حكم بالشرع بما =

لا ينضبط، وأنه ينافي مقصد الشريعة من انعقاد العقود. وأما الأنحاء الثلاثة الأولى: فاحتياجه في النحو الأول منها إلى ذلك احتياجٌ مّا ليجزم بكون اللفظ منقولًا شرعاً مثلًا. واحتياجُه إليه في النحو الثاني أشدّ، لأنّ باعث اهتدائه إلى البحث عن المعارِض، ثم إلى التنقيب على ذلك المعارض في مظانّه، يَقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في نفسه، وقتَ النظر في الدليل الذي بين يديه، من أنَّ ذلك الدليل غيرُ مناسب لأن يكون مقصوداً للشارع على عِلَّاته. فبمقدار تشكُّكِه في أن يكون ذلك الدليل كافياً لإثبات حكم الشرع فيما هو بصدده يشتد تنقيبُه على المعارض، وبمقدار ذلك التشكك يحصل له الاقتناع بانتهاء بحثه عن المعارض عند عدم العثور عليه. مثاله: ما في الصحيح: أن عبد الله بن عمر، لما بلغه قولُ عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ألمْ تَرَيْ قَومك حين بنوا الكعبة قصُرت بهم النفقة فاقتصروا عن قواعد إبراهيم فلم يدخلوا الجَدْر في البيت؟، وهو من البيت" (¬1) فقال ابن عمر: "لئن كانت ¬

_ = لا يجوز شرطاً في الشرع ... والحديث مجمل ولم يصحبه ما يبيّنه من عمل فوجب الرجوع فيه إلى القواعد الشرعية، وهي أن الأصل في البيوع الانضباط وطرح الغرر. ابن عاشور. كشف المغطى: 280 - 281. (¬1) أخبر بهذا الحديث عبدُ الله بن محمد بن أبي بكر عبدَ الله بن عمر عن عائشة، ونص ذلك في الصحيح: "ألم ترَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ... " الحديث. خَ 25 كتاب الحج، 42 باب فضل مكة وبنيانها، ح 2، ح 2/ 156. وعن يزيد عن عائشة قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجَدر أمن البيت هو؟ قال: "نعم ... ولولا أن قومك حديثُ عَهدُهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أَدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض". ح 3، خَ: 2/ 156.

عائشة سمعت هذا من رسول الله، ما أُرَى رسول الله ترك استلام الركنين اللذين يليان الحِجْر إلا أن البيت لم يُتمّم على قواعد إبراهيم" (¬1). فعلمنا من كلامه أنه كان يرى الدليل الذي بلغه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ترك استلام الركنين، حالّاً محل الحيرة من نفسه، وكان ينقدح في نفسه أن لدلالة ذلك الدليل موجباً لم يعلمه. فلماه سمع حديث عائشة أيقن أنه الموجِب وانثلج لذلك صدره. وأيضاً يكون الاقتناع عند وجود المعارض سريعاً أو بطيئاً بمقدار قوّة الشك في أن يكون ذلك المعارض مناسباً للمقصد الشرعي أو غير مناسب. ألا ترى أن عمر بن الخطاب لما استأذن عليه أبو موسى الأشعري ثلاثاً فلم يجبه. فرجع أبو موسى فبعث عمر وراءه. فلما حضر عتَبَ عليه انصرافه. فذكر أبو موسى أنه: سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه إذا لم يؤذن للمستأذن بعد ثلاث ينصرف. فطالبه عمر بالبيّنة على ذلك وضايقه حتى جعل أبو موسى يسأل في مجلس الأنصار عمّن يشهد له بعلم بذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال له مشيخة الأنصار: لا يشهد لك إلّا أصغرنا، وهو أبو سعيد الخدري (¬2). فلما ¬

_ (¬1) قول ابن عمر هذا كالاستنتاج من حديث عائشة. أثبته البخاري في ذيل الحديث المتقدم وهو الثاني في الباب. (¬2) أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي. وفاته بين 65 - 74 هـ. اسْتُصْغِرَ بِأُحُدٍ واستشهد أبوه بها، وغزا هو ما بعدها. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثير، وعن الأربعة، وعن زيد بن ثابت وغيرهم؛ وعنه عدد من الصحابة كابن عباس وابن عمر وجابر ومحمود بن لبيد وأبو أمامة بن سهل وأبو الطفيل. وهو من أفقه الصحابة، ومن أفضلهم، وممن بايع الرسول على أن لا تأخذه في الله لومة لائم. ابن حجر. الإصابة: 2/ 32، عدد 3196. =

شهد بذلك عند عمر اقتنع عمر، وعلم أن كثيراً من الأنصار يعلم ذلك، لأنه كان في شك قويّ أن يكون معارض أصل الاستئذان بأن يقيّد بثلاث ويرجع بعد الثلاث، لأن في ذلك بياناً للإجمال الذي في قول الله تعالى: {فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} (¬1). وبعكس ذلك نجده لما تردد في أخذ الجزية من المجوس فقال له عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله يقول: "سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬2) قبله ولم يطلب شهادة على ذلك لضعف شكّه في ¬

_ = وحديث الاستئذان رواه له البخاري. ولفظه عنده: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور. فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت. وقال رسول الله: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع. فقال: والله لتقيمن عليه البينة. أفيكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك". 79 كتاب الاستئذان، 13 باب التسليم والاستئذان ثلاثاً خَ: 7/ 130؛ مَ: 38 كتاب الآداب، 7 باب الاستئذان، خ 33، 34. مَ: 2/ 1694 رواه مَ. وفي الباب روايات أخرى كثيرة: ودَ: 35 كتاب الآداب، 138 باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، ح 5180، 5182. 5/ 371؛ وفي 33 كتاب الأدب، 17 باب الاستئذان، ح 3706؛ جَه: 2/ 1221 مَ: وفي 19 كتاب الاستئذان، 1 باب الاستئذان ثلاثاً، ح 2632. وفي 2/ 585. وهي روايات متعددة مختلفة اللفظ في خصوص ما ورد بها من التعقيب على موقف عمر. وفي حديث الاستئذان هذا إشكال أورده المؤلف وأجاب عنه. ابن عاشور. كشف المغطى: 362 - 364. (¬1) النور: 28. (¬2) الحديث أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمورهم؟! فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =

المعارض. بخلاف حاله في قضية استئذان أبى موسى. وأَمَّا احتياجه إليه في النحو الثالث فلأنّ القياس يعتمد إثباتَ العلل، وإثباتُ العلل قد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة كما في المناسبة (¬1)، أي: تخريج المناط، وكما في تنقيح المناط (¬2)، ¬

_ = يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". انظر: 17 كتاب الزكاة، 24 باب جزية أهل الكتاب والمجوس، ح 42. طَ 1/ 278؛ وفي أول الباب: حديث ابن شهاب قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس البحرين. ط 1/ 278. وزاد في البخاري أن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس فارس، وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر. خ: 57 كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة، وعن بجالة أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر. ت: 19 كتاب السير، 31 باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس. الجزء الرابع: 1586 - 1588، ص 146 - 147. (¬1) المناسبة: معنى في عمل من أعمال الناس يقتضي وجوبَ ذلك العمل أو تحريمه أو الإذن فيه شرعاً. وذلك المعنى وصفٌ ظاهر منضبط يحكم العقل بأنّ ترتب الحكم الشرعي عليه مناسب لمقصد الشرع من الحكم. ومقصد الشرع: حصولُ مصلحة أو دفع مفسدة. فالوصف مثل حكم القصاص من القاتل عدواناً. فالقصاص مناسب لمقصد الشريعة. والمقصود منه: مجازاة المعتدي بمثل ما اعتدى به، وانزجار غير المعتدي عن أن يعتدي بمثله. ومثل حكم الإسكار في شرب الخمر، فالإسكار وصف تترتب عليه مفاسد تقتضي تحريم ارتكابه. واستخراج المجتهد للوصف المناسب يسمى تخريج المناط. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) وتنقيح المناط: هو إلغاء بعض الأوصاف أو الأحوال التي يشتمل عليها الفعل عن أن يكون علةً للحكم، وجعل مناط الحكم ما عدا ذلك الملغَى، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركاً له في عَبد فكان له مال يبلغُ ثمن =

وإلغاء الفارق (¬1). ألا ترى أنهم لمّا اشترطوا أن العلّة تكون ضابطاً ¬

_ = العبد، قُوِّم عليه قيمةَ عدل فأعطي شركَاؤُه حصَصُهم، وعتق عليه العبدُ، وإلا فقد عَتق منه ما عَتق". فلفظ "عبد" يقتضي أن هذا العتق لا يجري إلا في الذكور، والإجماع على أن ذلك جارٍ في الأمة بطريق تنقيح المناط. اهـ. تع ابن عاشور. وهذا الحديث الذي أوردَه المؤلف هنا في تعليقه، أخرجه في 47 كتاب الشركة. 5 باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل. واللفظ عنده: "من أعتق شقصاً له من عبد أو شركاً - أو قال نصيباً - وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق، وإلا فقد عتق منه ما عتق" خَ: 3/ 111؛ وأخرجه في 47 كتاب الشركة، 14 باب الشركة في الرقيق، وهو حديث ابن عمر: "من أعتق شركاً له في مملوك وجب عليه أن يُعتِق كله إن كان له مال قدر ثمنه يقام قيمة عدل ويُعطى شركاؤُه حصتهم، ويخلّى سَبيل المعتق". خَ: 3/ 113؛ وأخرجه أيضاً في 49 كتاب العتق، 4 باب إذا أعتق عبداً بين اثنين، أو أمة بين الشركاء. وهو حديث عمرو عن سالم عن أبيه، ولفظه: "من أعتق عبداً بين اثنين، فإن كان موسراً قوِّم عليه ثم يعتق"، وحديث ابن عمر: "من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد قيمةَ عدل فأعطَى شركاءَه حصَصَهم وعَتَقَ عليه، وإلا فقد عتق منه ما عتق". خَ: 3/ 117 - 118. وفي 20 كتاب العتق، ح 1 مَ: 2/ 1139؛ وأخرجه أيضاً في 28 كتاب الأيمان، 12 باب من أعتق شريكاً له في عبد، ح 47، 49. مَ: 2/ 1286؛ وفي دَ، 23 كتاب العتق، 6 باب فيمن روى أنه لا يستسعى، ح 3940. دَ: 4/ 256؛ وفي 13 كتاب الأحكام، 14 باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، ح 1346. تَ: 3/ 629؛ وفي 19 باب العتق. 7 باب من أعتق شركاً له في عبد، ح 2528؛ جَـ: 2/ 844 - 845؛ وأخرجه حَم: 2/ 15. (¬1) إلغاء الفارق: طريق من طرق تنقيح المناط، كما في مثال: "من أعتق شركاً له في عبد". اهـ. تع ابن عاشور.

لحكمة كانوا قد أحالونا على استقراء وجوه الحكم الشرعية التي هي من المقاصد (¬1). وبعد هذا فالفقيه محتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة في قبول الآثار من السنة، وفي الاعتبار بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء، وفي تصاريف الاستدلال. وقد أبى عمر من قبول خبر فاطمة ابنة قيس في نفقة المعتدة (¬2)، وأبت عائشة من قبول خبر ابن عمر في أن ¬

_ (¬1) ذلك أن دلالة الاستقراء على تعليل الأحكام بالمصالح، مستفادة من نصوص الكتاب والسنة التي وردت معلّلة بالأوصاف المناسبة المشتملة على الحِكَم المقصودة للشارع من شرع الأحكام، والتي لا تخرج عن جلب المصالح ودرء المفاسد. انظر تفصيل ذلك وبيانه في: حديث المؤلف عن الطريقين: الأول طريق استقراء الأحكام المعلّلة واستقراء عللها من طرق إثبات المقاصد الشرعية، والثاني طريق استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة. المقاصد: 56 - 62. (¬2) أخرجه: 27 كتاب الطلاق، 7 باب الرخصة في ذلك، نَ: 6/ 144؛ 72 باب نفقة البائنة. نَ: 6/ 210؛ حَم: 6/ 373، 417؛ وأخرجه مَ: 18 كتاب الطلاق، 6 باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 6، عن أبي إسحاق قال: "كنت مع الأسود بن يزيد جالساً في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي. فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأسود كفاً من حصى فحصبه به. فقال: ويلك تحدث مثل هذا! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت". لها السكنى والنفقة. قال الله - عز وجل -: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} مَ: 2/ 1118 - 1119؛ وفي حديث 40 من الباب، وقال عروة: إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس، وفي الحديث 52 من الباب: قالت عائشة: ما لفاطمة بنت قيس خيرٌ في أن تذكر هذا الحديث: مَ: 2/ 1120. وقد بيّن النووي الخلاف بين العلماء في حكم النفقة والسكنى للمطلقة =

الميت يعذب ببكاء أهله عليه (¬1)، وقرأت قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ ¬

_ = البائن الحائل. فقال عمر بن الخطاب وأبو حنيفة وآخرون: لها السكنى والنفقة لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الطلاق: 6، وتجب عليه النفقة لأنها محبوسة عليه. وقال ابن عباس وأحمد: لا سكنى لها ولا نفقة؛ لأن السكنى والنفقة إنما تجب لامرأة لزوجها عليها الرجعة. وقال مالك والشافعي وآخرون: تجب لها السكنى ولا نفقة لها، وقالوا: لأن الذي في كتاب ربنا إنما هو إثبات السكنى. النووي. شرح مسلم: 10/ 95؛ ابن قدامة. المغني: (2) 10/ 66 - 67، المسألة 1182. (¬1) الحديث متفق عليه من رواية عمر وعبد الله بن عمر. انظر 33 كتاب الجنائز، 37 باب ما جاء في عذاب القبر، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، ح 3؛ وفي 45 باب البكاء عند المريض، ح 1 خَ: 2/ 80، 85؛ وانظر: 11 كتاب الجنائز، 9 باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ح 16 مَ: 1/ 638 - 641، وانظر 15 كتاب الجنائز، 19 باب النوح، ح 3129. دَ: 3/ 494؛ وفي 8 كتاب الجنائز، 24 باب ما جاء في كراهية البكاء، ح 1002؛ وفي 25 باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت، ح 1004، تَ: 3/ 326 - 327؛ وفي كتاب الجنائز، 14 باب النهي عن البكاء على الميت، نَ: 4/ 15. قال ابن قدامة: وأنكرت عائشة رضي الله عنها حمل هذه الأخبار على ظاهرها، ووافقها ابن عباس. قالت: يرحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله قال: "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه". وقالت حَسْبكم القرآن: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 164. وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى. وذكر ذلك ابن عباس لابن عمر حين روى حديثه، وحمله قوم على من كان النوح سنتَه. المغني: (2) 3/ 493 - 494. وبإثر هذا الحديث من سنن دَ بالهامش نقلٌ مختصرٌ عن ابن القيم: قال: هذا أحد الأحاديث التي روتها عائشة واستدركتها، ووهّمت فيه ابن عمر. والصواب فيه مع ابن عمر. فإنه حفظه ولم يُتَّهم فيه. وقد رواه عن =

وِزْرَ أُخْرَى} (¬1). وأما احتياجه إليه في النحو الخامس، فلأنّه بمقدار ما يستحصل من مقاصد الشريعة ويستكثر مما حصل في علمه منها، يقلّ بين يديه ذلك النحوُ الخامس الذي هو مظهرُ حيرة. وليس كل مكلف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة، لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم. فحقّ العامي أن يتلقّى الشريعة بدون معرفة المقصد، لأنه لا يُحسن ضبطه ولا تنزيلَه. ثم يتوسع للناس في تعريفهم المقاصد بمقدار ازدياد حظهم من العلوم الشرعية، لئلا يضعوا ما يُلقَّنون من المقاصد في غير مواضعه، فيعود بعكس المراد. وحقُّ العالم فهمُ المقاصد. والعلماء - كما قلنا - في ذلك متفاوتون على قدر القرائح والفهوم. ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - أبوه عمر. وهو في الصحيحين. وقد وافقه من حضره من جماعة الصحابة. كما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر قال: لما طعن عمر أغمي عليه فصيح عليه، فلما أفاق قال: أما علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي"، اهـ. باختصار. دَ: 3/ 495. (¬1) الأنعام: 164؛ الإسراء: 15؛ فاطر: 18.

ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية أحسبك قد وثقت ممّا قرّرته لك آنفاً بأنّ للشريعة مقاصد من التشريع بأدلة حَصل لك العلمُ بها تَحقّق الغرض على وجه الإجمال. فتطلّعتَ الآن إلى معرفة الطرق التي نستطيع أن نبلغ بها إلى إثبات أعيان المقاصد الشرعية في مختلف التشريعات. وكيف نصل إلى الاستدلال على تعيين مقصدٍ ما من تلك المقاصد استدلالًا يجعله بعد استنباطه محل وفاق بين المتفقّهين سواء في ذلك من استنبطه ومن بلغه، فيكون ذلك باباً لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين. فاعلم أننا لسنا بسبيل أن نستدل على إثبات المقاصد الشرعية المتنوّعة بالأدلة المتعارفة التي ألفنا الخوضَ فيها في علم أصول الفقه، وفي مسائل أدلة الفقه، وفي مسائل الخلاف، لأن وجود القطع والظن القريب منه بين تلك الأدلة مفقود أو نادر، لأن تلك الأدلة إن كانت من القرآن وهو متواتر اللفظ فمعظم أدلته ظواهر. وفي القرآن أدلة على مقاصد الشريعة قريبة من النصوص سنذكرها في تقسيمها الآتي. وإن كانت الأدلة من السنة فهي كلها أخبار آحاد، وهي لا تفيد القطع ولا الظن القريب منه (¬1). ولذلك قد كان القرآن بين يدي جميع المجتهدين فلم ¬

_ (¬1) يريد بالأدلة أكثرها كما هو معلوم. وهي الأدلة على المقاصد المراد استنباطها لا على الأحكام. ومن المعلوم أن أخبار الآحاد قد اعتمدها جمهور الفقهاء، =

يتّفقوا على الأحكام التي استنبطوها منه، ولو مع ظهور بعضها دون الآخر. فقد قال الله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬1) قال مالك في الموطأ: "هو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته" (¬2)، أي لأنهما اللذان يعقدان نكاح ولاياهما. وقال الشافعي: "هو الزوج" (¬3) ¬

_ = إذا صحت، في استنباط الأحكام. وما صرّح به المؤلف في هذا المحل يؤكّده قولُه بعد: على أننا غير ملتزمين للقطع وما يقرب منه في التشريع، إذ هو منوط بالظن. وإنما أردت أن تكون ثلة من القواعد القطعية ملجأ نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة، وأن ما يحصل في تلك القواعد هو ما نسميه مقاصد الشريعة، وليس ذلك بعلم أصول الفقه. المقاصد: 142 - 143. ولم يقف المؤلف في الواقع عند هذا الحد الذي جارى فيه الأصوليين، بل أخذ في تحديد المقاصد الشرعية بالسنة الموافقة للقرآن والمؤكّدة له، وبالسنة المبيّنة للقرآن، وبالسنة المستقلة؛ كالنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها. وقد أورد من نصوص السنة في بيان المقاصد الشرعية في كتابه ما لا يحتاج إلى تنبيه أو إحالة. وكما بينت السنة مقاصد الأحكام الجزئية الواردة في القرآن، بينت مقاصد كلية مستخرجة من جملة نصوص القرآن، مثل: "لا ضرر ولا ضرار". وقد أكد الشاطبي على هذه الحقيقة في قوله: "وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن والسنة فلم يتخلّف عنها شيء. والاستقراء يبيّن ذلك. ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة. ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصّوا عليه حسب ما تقدم عن بعضهم فيه ... ". الشاطبي. الموافقات: (3) 4/ 29. (¬1) البقرة: 237. (¬2) انظر: 28 كتاب النكاح، 3 باب ما جاء في الصداق والحباء، عقب ح 11 في آخر الباب. طَ: 2/ 528. (¬3) مذهب مالك في الذي بيده عقدة النكاح الأب في ابنته، والسيد في أمته كما تقدم، لأن هذين يعقدان لهما بدون إذن، كما يدل عليه قوله: "بيده"، الدال في كلام العرب على أنه مستقل به. ولا يصح أن يكون المراد به =

وجعل معنى كون عقدة النكاح بيده: أن بيده حلّها بالطلاق. فعلينا أن نرسم طرائق الاستدلال على مقاصد الشريعة بما بلغنا إليه بالتأمل، وبالرجوع إلى كلام أساطين العلماء. ويجب أن يكون الرائدُ الأعظم للفقيه في هذا المسلك هو الإنصافَ، ونبذَ التعصب لبادئ الرأي، أو لسابق الاجتهاد، أو لقول إمام، أو أستاذ. فلا يكون حال الفقيه في هذا العلم كحال صاحب ابن عرفة (¬1) الذي قال في حق ابن عرفة: "ما خالفته في حياته فلا ¬

_ = الزوج. وحملُ العفو على التكميل بعيدٌ كما يؤذِن بذلك كلام الزمخشري. ابن عاشور. كشف المغطى: 245 - 246. وذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى أنه الزوج، وهو المصرّح به في الجديد. ومعنى قوله: بيده عقدة النكاح، أي: بيده التصرف فيها بالإبقاء والفسخ بالطلاق. ومعنى عفوه تكميله، أي: إعطاؤه كاملاً، قاله ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 464. وفي الجامع لأحكام القرآن شاهد لجعل ولي عقدة النكاح الزوج؛ فقد روى الدارقطني مرفوعاً من حديث قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وليُّ عقدة النكاح الزوج". وأسنده من طرق أخرى. ثم قال: واختاره أبو حنيفة. ثم قال: وكلهم لا يرى سبيلاً للولي على شيء من صداقها، للإجماع على أنَّ الوليّ لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز، فكذلك بعده. والولي لا يملك أن يهب شيئاً من مالها، والمهرُ مالُها، وإن من الأولياء من لا يجوّز عفوهم، وهم: بنو العم وبنو الإخوة، فكذلك الأب. القرطبي. الجامع: 3/ 206 - 207. (¬1) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عَرفة. أصله من وِرْغِمَةَ بالجنوب التونسي 716 - 803 هـ. الإمام الفقيه المالكي. أخذ عن محمد بن سلامة، ومحمد بن عبد السلام، ومحمد بن هارون، والسطي، ومحمد بن الجلاب، وابن قداح، ومحمد بن حسين الزبيدي، ومحمد الأجمي، =

أخالفه بعد وفاته" (¬1)، بحيث إذا انتظم الدليلُ على إثبات مقصد شرعي وجب على المتجادلين فيه أن يستقبلوا قبلة الإنصاف، وينبذوا الاحتمالات الضعاف. ¬

_ = ومحمد الواد آشي، والشريف التلمساني؛ وعنه البرزلي، والأبيّ، وابن ناجي, وابن عقاب، وأحمد ومحمد ابنا القلشاني، وابن الخطيب القسنطيني، وعيسى الغبريني، والزنديوي، وابن علوان، والزعبي، والوانوغي، وابن الشماع، وابن مرزوق الحفيد، والدماميني، وابن فرحون، وابن عمار. تولّى إمامة جامع الزيتونة بتونس سنة 756 هـ، والخطبة به سنة 772 هـ، وتولى بهذا الجامع تدريس مختلف العلوم وبخاصة التفسير والفقه. وحج، وأخذ عنه مصريون ومدنيون. وله مصنفات كثيرة منها: المختصر في الفقه ويعرف بـ المبسوط، والمختصر في أصول الدين، ومختصر في المنطق، ومختصر في الفرائض، والحدود الفقهية. وأكثرها عليه شروح من معاصريه، ومن جاء بعدهم. ومن تآليفه: نظم قراءة يعقوب، وتساعيات في الحديث، ونظم تكلمة القصد لخلف بن شريح. وتقييد في تحقيق القول في الجهة والسمت. السراج. الحلل السندسية: 1/ 561 - 577؛ مخلوف. شجرة النور الزكية: 1/ 227، 817؛ محمد النيفر. عنوان الأريب: 1/ 105؛ حسن حسني عبد الوهاب. كتاب العُمر: 1/ 2، 762، 213. (¬1) قائل هذا هو عيسى الغبريني، أحد تلامذة الشيخ محمد بن عرفة، في نازلة أخ قبض عن أخته ريعاً مشتركاً بينهما وادعى أنه دفع لها حظها منه. اهـ. تعليق ابن عاشور. والغبريني: هذا هو أبو مهدي عيسى بن أحمد. قاضي الجماعة بتونس 813 - 815 هـ. حافظ للمذهب. أخذ عن ابن عرفة. وعنه أبو زيد الثعالبي، وابن ناجي، وأحمد وعمر القلشانيان، والبسيلي، وابن عقيقة، والزنديوي، وأبو القاسم القسنطيني، وأبو الحسن بن عصفور. القرافي. توشيح الديباج: 138، ع 135؛ السراج. الحلل السندسية: 1/ 594 - 596.

الطريق الأول: وهو أعظمها، استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين: أعظمهما: استقراء الأحكام المعروفة عللُها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة، فإن باستقراء العلل حصولَ العلم بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطاً لحكمة متّحدة أمكن أن نستخلص منها حكمةً واحدة، فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يُستَنتج من استقراء الجزئيات تحصيلُ مفهوم كلّي حسب قواعد المنطق. مثاله: أننا إذا علمنا علّة النهي عن المزابنة الثابتة بمسلك الإيماء في قول رسول الله، عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح لمن سأله عن بيع التمر بالرطب: "أينقص الرُّطَبُ إذا جفّ؟ " قال: نعم، قال: "فلا إذن" (¬1). فحصل لنا أنّ علة تحريم المزابنة، هي: الجهل بمقدار أحد العوضين، وهو الرُّطَب منهما المبيعُ باليابس. وإذا علمنا النهي عن بيع الجزاف بالمكيل (¬2)، وعلمنا أن ¬

_ (¬1) انظر 31 كتاب البيوع، 12 باب ما يكره من بيع التمر، ح 22 طَ: 2/ 624؛ الشافعي. الرسالة: 331 - 332، ف 7 في 17 كتاب البيوع والإجارات، 18 باب في التمر بالتمر، ح 3359. حَـ: 3/ 654؛ وفي 12 كتاب البيوع، 14 باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1225؛ تَ: 3/ 528؛ وفي 44 كتاب البيوع، 36 باب اشتراء التمر بالرطب، ح 4542. نَ: 7/ 268؛ وفي 12 كتاب التجارات، 53 باب بيع الرطب بالتمر، ح 2264؛ جَه: 2/ 761. (¬2) يعني أنه لا يجوز بيع جزاف مع مكيل في صفقة واحدة إلا أن يأتي كل منهما على أصله، كقطعة أرض جزافاً، وإردب قمح بكذا، لأن الأصل =

علّته جهل أحد العوضين بطريق استنباط العلة. وإذا علمنا إباحة القيام بالغبن، وعلمنا أن علّته نفي الخديعة بين الأُمة بنصّ قول الرسول، عليه السلام، للرجل - الذي قال له: إني أخدع في البيوع -: "إذا بايعتَ فقُل لا خِلابة" (¬1). إذا علمنا هذه العلل كلها استخلصنا منها مقصداً واحداً، وهو: إبطال الغرر في المعاوضات. فلم يبق خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطر أو غرر في ثمن، أو مثمن أو أجل فهو تعاوض باطل. ومثال آخر: وهو أننا نعلم النهيَ عن أن يخطب المسلم على ¬

_ = في بيع الأرض الجزاف، والأصل في بيع الحب الكيل. أما بيع جزاف حب مع مكيل منه، أو جزاف أرض مع مكيل منها فلا يجوز، سواء كان من جنسه أو لا؛ لخروج أحدهما عن الأصل. الدسوقي. حاشية الشرح الكبير: 3/ 23. محمد الشيباني الشنقيطي. تبيين المسالك: 3/ 296. (¬1) انظر 31 كتاب البيوع، 46 باب جامع البيوع، ح 98 طَ: 2/ 685؛ 34 كتاب البيوع، 48 باب ما يكره في الخداع في البيع خَ: 3/ 19؛ 43 كتاب الاستقراض، 19 باب ما ينهى عن إضاعة المال، ح 1، خَ: 3/ 87؛ 44 كتاب الخصومات، 3 باب من باع على الضعيف ونحوه، ح 2، خَ: 3/ 89؛ 90 كتاب الحيل، 7 باب ما ينهى من الخداع في البيوع، خ: 7/ 61؛ 21 كتاب البيوع، 12 باب من يخدع في البيع، ح 48، مَ: 2/ 1165؛ 17 كتاب البيوع والإجارات، 68 باب الرجل يقول في البيع لا خلابة دَ: 3/ 765 - 767؛ 12 كتاب البيوع، 28 باب فيمن يخدع في البيع، ح 1250، تَ: 3/ 552؛ 44 كتاب البيوع، 13 باب الخديعة في البيع، 46، نَ: 7/ 252؛ 13 كتاب الأحكام، 24 باب الحجر على من يفسد ماله، ح 2354 جَه: 2/ 389؛ حَم: 2/ 72، 80، 129 - 130.

خِطبة مسلم آخر (¬1)، والنهيَ عن أن يسوم على سومه (¬2)، ونعلم أن ¬

_ (¬1) تقدم 26/ 2. (¬2) 34 كتاب البيوع، 58 باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن له أو يترك خَ: 3/ 24؛ 16 كتاب النكاح، 4 باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، ح 38، 6 باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه، وفيه النهي عن البيع على بيع أخيه والسوم على سومه، أحاديث أبي هريرة، ح 51، 54، 55. مَ: 2/ 1029، 1033؛ وفي 21 كتاب البيوع، 4 باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه، ح 9. مَ: 1154؛ 12 كتاب البيوع، 57 باب ما جاء في النهي عن البيع على بيع أخيه، ح 1292. تَ: 3/ 587؛ 12 كتاب التجارات، 13 باب لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يسوم على سومه، ح 2171، 2182. جَه: 2/ 733 - 734؛ حَم: 2/ 394، 411، 427، 457، 463، 487، 489، 508، 512، 516، 529. وفقه هذا الحديث تحريم البيع على البيع والشراء على الشراء بإجماع. وذلك بأن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد. وفصّل ابن حجر الكلام في السوم على السوم قائلاً: وصورته أن يأخذ شيئاً ليشتريه فيقول له: ردّه لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص. أو يقول للمالك: استردَّه لأشتريه منك بأكثر. ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر. فإن كان ذلك صريحاً فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهراً ففيه وجهان للشافعية. ونقل ابن حزم اشتراط الركون عن مالك. وتُعُقّب بانه لا بد من أمر مبيّن لموضع التحريم في السوم، لأن السوم في السلة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم اتفاقاً. واستثنى بعض الشافعية من تحريم البيع والسوم على الآخر ما إذا لم يكن المشتري مغبوناً غبناً فاحشاً. وهو قول ابن حزم. وذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله. وفي القول بفساده روايتان عند المالكية والحنابلة، وبفساده جزم أهل الظاهر. ابن حجر. الفتح: 4/ 353 - 354.

علّة ذلك هو ما في ذلك من الوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مبتغاة، فنستخلص من ذلك مقصداً هو: دوام الأخوة بين المسلمين، فنستخدم ذلك المقصد لإثبات الجزم بانتفاء حرمة الخطبة بعد الخطبة والسوم بعد السوم، إذا كان الخاطبُ الأول والسائمُ الأول قد أعرضا عما رغبا فيه. النوع الثاني من هذا الطريق: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علّة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلّة مقصدٌ مرادٌ للشارع. مثاله: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه (¬1)، علته طلب رواج الطعام في الأسواق. ¬

_ (¬1) لحديث ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه"، وحديث ابن عمر: "مَن ابتاع طعاماً فلا يَبِعه حتى يقبضه": انظر 34 كتاب البيوع، 54 باب ما يذكر في بيع الطعامَ والحكرة، ح 2، 55 باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك خَ: 3/ 22، 23؛ 21 كتاب البيوع، 8 باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، ح 30، 35، 36، مَ: 2/ 1160 - 1161؛ 17 كتاب البيوع والإجارات، 67 باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى، ح3492. دَ: 3/ 760 وما بعدها؛ 44 كتاب البيوع، 56 باب النهي عما اشتري من الطعام بكيل حتى يستوفي نَ: 7/ 286؛ 12 كتاب التجارات، 37 باب النهي عن بيع الطعام قبل ما لم يقبض جَه: 2/ 749 - 750. فلا خلاف بين الأئمة في منع بيع الطعام قبل قبضه. وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر. النووي. المجموع: 9/ 270 - 271. وشذّ عثمان البتي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه. قال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة، والحجّة المجمعة على النهي في الطعام، ومثل هذا لا يلتفت إليه. واختلفوا في غير الطعام: فمذهب مالك جوازُ البيع قبل قبضه في غير =

والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئةً (¬1) إذا حمل على إطلاقه ¬

_ = الطعام لظاهر الحديثين. ومذهب الشافعي منع بيع أي شيء قبل قبضه طعاماً كان أو غيره، فلا يختص النهي بالطعام، لقول ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله، ولحديث زيد بن ثابت: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه إلا في الأرض والدور. فاستثنى العقار وما لا ينقل لأنه لا يتوهم انفساخ العقد فيهما بالهلاك وهما مقدورا التسليم. وقال أحمد: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون والمعدود ونحوه. فمن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه. انظر ابن حجر. الفتح: 4/ 349 - 350؛ ابن قدامة. المغني: (2) 6/ 188 - 191؛ الموسوعة الفقهية: 9/ 123 - 137؛ الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 345. (¬1) النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة هو مقتضى حديث أبي سعيد الخدري الذي جاء به التنصيص على الأصناف الستة الربوية. وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل يدًا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء". وقد فصّل الفقهاء القول في تحريم النَّساء في الطعام، وذكر ذلك الدسوقي. وقال ابن شاس: أما الجنس الأول وهو: ربا النَّساء، فعلّة تحريمه ووجوب التقابض الطعم، فتتطلب المناجزة في كل ما يطلق عليه اسم طعام، ربوياً كان أو غير ربوي. ويدخل في ذلك رطب الفواكه والخضر والبقول. وإذا تقرر تعلق الحكم بالطعام لم يعمّ بسائر ما يتطعم غذاء كان أو دواء بل يخصّ منه الغذاء دون الدواء. حاشية الشرح الكبير: 3/ 47؛ ابن شاس. عقد الجواهر الثمينة: 2/ 352؛ وجاء في التحفة قول ابن عاصم: والبيع للطعام بالطعام ... دون تناجز من الحرام انظر التسولي. البهجة في شرح التحفة: 2/ 24. ويزيد كلام المؤلف بياناً =

عند الجمهور، علّتهُ أن لا يبقى الطعامُ في الذمة فيفوت رواجه. والنهي عن الاحتكار في الطعام لحديث مسلم عن معمر مرفوعاً: "من احتكر طعاماً فهو خاطئ" (¬1)، علته إقلال الطعام من الأسواق. فبهذا الاستقراء يحصل العلمُ بأن رواج الطعام وتيسيرَ تناوله مقصد من مقاصد الشريعة. فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصلاً ونقول: إن الرواج إنما يكون بصور من المعاوضات، والإقلالَ إنما يكون بصور من المعاوضات، إذ الناس لا يتركون التبايع. فما عدا المعاوضات لا يُخشى معه عدم رواج الطعام. ولذلك قلنا: تجوز الشركة والتولية والإقالة في الطعام قبل قبضه. ومن هذا القبيل كثرة الأمر بعتق الرقاب الذي دلَّنا على أن من مقاصد الشريعة حصول الحرية. ¬

_ = لعلّة تحريم بيع الطعام بالطعام نسيئة عند الجمهور قولُ ابن القيم: وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها، لأنها أقوات العالم وما يصلحها. فمن رعاية مصالح العباد أن مُنعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف ... وسر ذلك - والله أعلم - أنه لو جوّز بيع بعضها ببعض نَساءً لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح، وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتدّ ضرره ... فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان. ابن القيم. إعلام الموقعين: (4) 2/ 157. ط. ابن شقرون. إبريل 1968. (¬1) أي آثم. اهـ. تعليق ابن عاشور. وقد ورد الحديث بلفظ: "من احتكر - أي: الطعام - فهو خاطئ - أي: آثم - ولا يحتكر إلا خاطئ". انظر 22 كتاب المساقاة، 26 باب تحريم الاحتكار في الأقوات، 129، 130. مَ: 2/ 1227.

الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحةُ الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي، بحيث لا يَشُك في المراد منها إلّا من شاء أن يُدخِل على نفسه شكًّا لا يعتدّ به. ألا ترى أنا نجزم بأن معنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬1): أن الله أوجبه. ولو قال أحد: إن ظاهر هذا اللفظ أن الصيام مكتوب في الورق لجاء خطأً من القول. فالقرآن لكونه متواترَ اللفظ قطعيَّهُ يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع تعالى، ولكنه لكونه ظنّيّ الدلالة يحتاج إلى دلالة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثانٍ إليها. فإذا انضمَّ إلى قطعيّة المتن قوّة ظَنّ الدلالة تَسَنّى لنا أخذُ مقصد شرعي منه يرفع الخلافَ عند الجدل في الفقه، مثل ما يؤخذ من قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬2)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬3)، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬4)، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (¬5)، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬6)، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬7). ففي كلّ آية من هذه الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه على مقصد. ¬

_ (¬1) البقرة: 183. (¬2) البقرة: 205. (¬3) النساء: 29. (¬4) الأنعام: 164؛ الإسراء: 15، فاطر: 18. (¬5) المائدة: 91. (¬6) البقرة: 185. (¬7) الحج: 78.

الطريق الثالث: السنة المتواترة. وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلّا في حالين: الحال الأول: المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. وإلى هذا الحال يرجع قسمُ المعلوم من الدين بالضرورة، وقسمُ العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة، لمثل مشروعية الصدقة الجارية المعبَّر عن بعضها بالحُبُس. وهذا العمل هو الذي عناه مالك حين بلغه: أن شريحاً يقول بعدم انعقاد الحُبُس، ويقول أن لا حَبس عن فرائض الله. فقال مالك: "رحم الله شريحاً تكلّم ببلاده - يعني الكوفة - ولم يَرِد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدَهم وما حبَّسوا من أموالهم [لا يطعن فيها طاعن]، وهذه صدقات رسول الله سبعةُ حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبراً" (¬1) اهـ. وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة، ككون خطبة العيدين بعد الصلاة. الحال الثاني: تواتر عملي، يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً. ففي صحيح البخاري: عن الأزرق بن قيس قال: "كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء. فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فقام يصلي وخلّى فرسه، فانطلقت الفرس. فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس. ¬

_ (¬1) ابن رشد. المقدمات: 2/ 417 - 418.

فأقبل فقال: ما عنّفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال: إن منزلي متراخٍ، فلو صليت وتركت الفرس لم آت أهلي إلى الليل. وذكر أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى من تيسيره" (¬1). فمشاهدته أفعال رسول الله - عليه السلام - المتعددة استخلص منها أن من مقاصد الشرع التيسير. فرأى أن قطع الصلاة من أجل إدراك فرسه ثم العود إلى استئناف صلاته أولى من استمراره على صلاته مع تجشّم مشقة الرجوع إلى أهله راجلاً. فهذا المقصد بالنسبة إلى أبي برزة مظنون ظناً قريباً من القطع، ولكنه بالنسبة إلى غيره - الذين يَرْوي إليهم خبرهُ - مقصد محتمل، لأنه يُتلقّى منه على وجه التقليد وحسن الظن به. ولقد جاء الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من تأليفه الموافقات بكلام أرى من المهم إثبات خلاصته باختصار (¬2) قال: "بماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس مقصوداً له؟ والجواب: أن النظر بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يُعَرِّفُنا به. وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقاً. وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص. ¬

_ (¬1) انظر 31 كتاب العمل في الصلاة، 11 باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة. ح 1. خَ: 2/ 61 - 62. (¬2) انظر ص 247 - [251] ج 2 من الموافقات، طبع بتونس. اهـ. تع ابن عاشور فصل بيان الجهات التي تعرف بها مقاصد الشارع على الحد الأوسط. الشاطبي. (2) 2/ 273 - 279 = (3) 2/ 391 - 397 = (4) 3/ 132.

الثاني: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمرٌ آخرُ وراءه. ويطّرد ذلك في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك تعرف منه مقاصد الشارع. وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية. الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض. وهذا الذي أمَّه أكثر العلماء. فنقول: إن مقصد الشارع يعرف من جهات: إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي. فإن الأمر كان أمراً لاقتضائه الفعلَ، فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع، وكذلك النهي في اقتضاء الكف. الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمبيع. الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة. فمنها منصوص عليه، ومنها مشار إليه، ومنها ما استُقرئ من المنصوص. فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما ذلك شأنه هو مقصود للشارع". انتهى حاصل كلامه.

د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصودا لها

د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها وهذا المبحث يتنزل منزلة طريق من طرق إثبات المقاصد الشرعية، ولكنّي لم أعدّه في عدادها من حيث إني لم أجد حجّة في كل قول من أقوال السلف، إذ بعضها غير مصرِّح صاحبُه بأنه راعى في كلامه المقصد، وبعضها فيه التصريح أو ما يقاربه، ولكنّه لا يعدّ بمفرده حجّة لأن قصاراه أنّه رأي من صاحبه في فهم مقصد الشريعة. ولكنّ مناط الحجّة لنا بأقوالهم أنها دالة على أن مقاصد الشريعة على الجملة واجبة الاعتبار، وأن أقوالهم أيضاً لما تكاثرت قد أنبأتنا بأنهم كانوا يتقصَّون بالاستقراء مقاصد الشريعة من التشريع. ولقد أحببت أن أمثّل في هذا المبحث بأمثلة كثيرة يتجلَّى بها للناظر مقدارُ اعتبار سلف العلماء لهذا الغرض المهم. وفيه ما يعرفك بأن أكثر المجتهدين إصابة، وأكثرَ صواب المجتهد الواحد في اجتهاداته يَكونان على مقياس غَوصِه في تطلّب مقاصد الشريعة. وسنشرح ذلك في أبواب القسم الأول (¬1). المثال الأول: روى جابر بن عبد الله وأبو هريرة ورافع بن خديج رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانت له أرض ¬

_ (¬1) 79، 138.

فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أَبَى فليمسك أرضه" (¬1). فبلغ هذا الحديث عبد الله بن عمر، فذهب إلى رافع بن خديج فقال: قد علمتَ أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الأَرْبِعاء (¬2) وشيء من التبن. قال نافع: وكان ابن عمر يكري مزارعه على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وصدراً من خلافة معاوية، ثم خَشِي عبدُ الله أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحدث في ذلك شيئاً لم يكن يعلمه فترك كراء الأرض (¬3). ¬

_ (¬1) الحديث من رواية جابر بن عبد الله: "كانت لرجال منا فضول أرضين. فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه". انظر 51 كتاب الهبة، 35 باب فضل المنيحة، ح 5. خَ: 3/ 145؛ 21 كتاب البيوع، 17 باب كراء الأرض. ح 89، 91. مَ: 2/ 1176 - 1177؛ انظر 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2451 جَه: 2/ 819؛ ح 2454. جَه: 2/ 820؛ حَم: 3/ 354، 373. ومن رواية أبي هريرة انظر 21 كتاب البيوع، 17 باب كراء الأرض. ح 102. مَ: 2/ 1178؛ 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2452. جَه: 2/ 820. ومن رواية رافع بن خديج: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعاً، إذا كان لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: إذا كان لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها". انظر 13 كتاب الأحكام، 42 باب، المزارعة، ح 1384. تَ: 3/ 667 - 668. ومنه في النهي عن المحاقلة والمزابنة بلفظ آخر. انظر 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2449. جَه: 2/ 819؛ حَم: 1/ 286، 3/ 464. (¬2) الأرْبِعاء: بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الموحدة، جمع ربيع، وهو: النهر الصغير. والمراد هنا: أنهم يكرون الأرض بحظ من ماء النهر المملوك. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) الحديث: 41 كتاب الحرث والمزارعة، 18 باب ما كان أصحاب =

وقال طاوُس عن ابن عباس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه، ولكنه قال: "أن يمنح أحدكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ شيئاً معلوماً" (¬1) فحمله على أمر الترغيب والكمال. وبذلك أخذ البخاري. فقال في صحيحه: باب ما كان [من] أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً [في الزارعة والثمرة] (¬2). وأخرج حديث رافع بن خديج عن عمه ظُهَير بن رافع: "لقد نهانا رسول الله عن أمر كان بنا رافقاً". قلت: ما قال رسول الله فهو حق. قال: دعاني رسول الله، قال: "ما تصنعون بمحاقلكم؟ " قلت: نؤاجرُها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير. فقال: "لا تفعلوا، ازرعوها أو أَزرِعوها أو أمسكوها". قال رافع: قلت: سمعاً وطاعة (¬3). فأشار البخاري في ترجمة الباب - التي هي دأبه ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً في المزراعة والثمرة. ح 5. خَ: 3/ 72؛ 31 كتاب البيوع، 17 باب كراء الأرض، ح 112 مَ: 2/ 1181؛ النووي. شرح مسلم: باب كراء الأرض: 10/ 197؛ 35 كتاب الأيمان والنذور، 45 باب النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع. نَ: 7/ 46، 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2450. جَه: 2/ 819؛ حَم: 1/ 234، 2/ 6، 64، 3/ 465. (¬1) انظر الحديث: 41 كتاب الحرث، 10 باب. خَ: 3/ 69؛ 18 باب ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً في الزارعة والثمرة، ح 3 خَ: 3/ 72؛ 51 كتاب الهبة، 35 باب الهبة، ح 7. وفي: 3/ 145؛ 21 كتاب البيوع، 21 باب الأرض تمنح، ح 120 - 122 مَ: 2/ 1184 - 1185؛ 13 كتاب الأحكام، 42 باب المزارعة، ح 1385، تَ: 3/ 668؛ حَم: 1/ 281، 313. (¬2) انظر 41 كتاب الحرث والمزارعة، باب 18، خَ: 3/ 71. (¬3) الحديث الأول في الباب.

وفقهه (كما قالوا) - إلى أن ذلك من قبيل المواساة، والمواساة لا تجب ولا يقضى بها. وفسَّر مالك بن أنس في الموطأ النهي عن المحاقلة بأنها كراء الأرض بالحنطة (¬1)، واشتراء الزرع بالحنطة (¬2). وقال، ابن شهاب: سألت سعيد بن المسيب عن استكراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس بذلك (¬3). وقال البخاري، قال الليث: "أرى أن ما نُهي عنه من كراء الأرض، ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة" (¬4). فجعل مَحملَ النهي ما كان منها آيلًا إلى بيع ممنوع، جمعاً بين الأدلة. ¬

_ (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري: النهي عن المزابنة والمحاقلة. قال مالك: المحاقلة: كراء الأرض بالحنطة. انظر: 31 كتاب البيوع، 13 باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، ح 24. طَ: 2/ 625؛ 16 كتاب الرهون، 8 باب كراء الأرض. جَه: 2/ 820. (¬2) من حديث سعيد بن المسيب: النهي عن المزابنة والمحاقلة. قال مالك: والمحاقلة: اشتراء الزرع بالحنطة واستكراء الأرض بالحنطة. انظر 31 كتاب البيوع، 13 باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، ح 25. طَ: 2/ 625. (¬3) بإثر الحديث 25 السابق. طَ: 2/ 625. (¬4) انظر 41 كتاب المزارعة، 19 باب كراء الأرض بالذهب والفضة. راجع ذيل حديث الباب، ولفظه: وقال لليث: وكان الذي نُهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه؛ لما فيه من المخاطرة. خَ: 3/ 73. قال ابن حجر: وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن كرائها =

وفي باب من شهد بدراً من مغازي صحيح البخاري: عن الزهري عن سالم عن رافع بن خديج: "أن رسول الله نهى عن كراء المزارع"، قال الزهري: قلت لسالم: أتكريها أنت؟ قال: نعم، إن رافعاً أكثر على نفسه (¬1). ويظهر أن رافع بن خديج لما أكثر الصحابة من مخالفته تأوَّل ¬

_ = مطلقاً حتى بالذهب والفضة. ثم أضاف مبيّناً الاختلاف بين الفقهاء في الحكم قائلاً: ثم اختلف الجمهور في جواز كرائها بجزء مما يخرج منها: فمن قال بالجواز حَمَلَ أحاديث النهي على التنزيه. ويدل عليه قول ابن عباس الماضي في الباب الذي قبله حيث قال: ولكن أراد أن يرفق بعضهم ببعض. ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج منها قال: النهي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها، أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الأرض لما في كل ذلك من الغرر والجهالة. وقال مالك: النهي محمول على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر؛ لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام. وفي التحفة: والأرض لا تكرى بجزء تخرجه ... والفسخ مع كراء مثل مخرجه ولا بما تنبته غير الخشب ... من غير مزروع بها أو القصب ولا بما كان من المطعوم ... كالشهد واللبن واللحوم ابن عاصم. البهجة: 2/ 164. قال ابن المنذر: ينبغي أن يحمل ما قاله مالك على ما إذا كان المكرى به من الطعام جزءاً مما يخرج منها، فأما إذا اكتراها بطعام معلوم في ذمة المكتري أو بطعام حاضر يقبضه المالك فلا مانع من الجواز، والله أعلم. ابن حجر. الفتح: 5/ 26. (¬1) انظر 57 كتاب المغازي، 12 باب من شهد بدراً. وتمام لفظه: عن الزهري أن سالم بن عبد الله أخبره، قال: أخبر رافع بن خديج عبد الله بن عمر أن عميه - وكانا شهدا بدراً - أخبراه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع. قلت لسالم: فتكريها أنت؟ قال: نعم، إن رافعاً أكثر على نفسه. خَ: 5/ 18.

روايته. ففي كتاب المزارعة من صحيح البخاري عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر أهل المدينة مُزْدَرعاً، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمًّى لسيد الأرض، [قال:] فممّا يصاب ذلك وتسلمُ الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. وأما الذهب والورِق فلم يكن يومئذ" (¬1) اهـ. فجعل محمل النهي ما في عقود قومه من المخاطرة. المثال الثاني: أخرج البخاري في باب وفد اليمن: "إن خباب بن الأرتّ جاء إلى عبد الله بن مسعود وفي أصبعه خاتم من ذهب. فقال له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن ينزع؟! فقال له خباب: أما إنك لا تراه عليّ بعد اليوم. فنزعه" (¬2) اهـ. قال العلماء: كان خباب يرى نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس خاتم الذهب نهيَ تنزيه لا نهيَ تحريم. ولذلك كان ابن مسعود يحاوره في نزعه، ويستبطئ تريُّث خباب عن نزعه، إلى أن رضي خباب بنزعه إرضاء لصاحبه، ولم يكن تغيير ابن مسعود عليه بلهجة تغيير المُنكِر. المثال الثالث: أخرج مالك في الموطأ حديث: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا" (¬3) ثمّ عقّبه بقوله: وليس لهذا عندنا حد محدود ¬

_ (¬1) انظر 41 كتاب المزارعة، باب 7. خَ: 3/ 68؛ وروى مَ مثله من طريق سليمان، بن يسار: "ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة". ابن حجر. الفتح: 5/ 25. (¬2) انظر 64 كتاب المغازي، 74 باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، الحديث الأخير في الباب. وهو بلفظ "يلقى" بدل "ينزع"، و"ألقاه" بدل "نزعه". خَ: 5/ 123. (¬3) ولفظه عند مالك: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيعَ الخيار". 31 كتاب البيوع، 38 باب بيع الخيار، 79. طَ: 2/ 671.

ولا أمر معمول به [فيه] (¬1)، أي في تقدير مدّة عدم تفرّقهما ولم يقل به مالك في مذهبه. وعلّلوا ذلك بمنافاته لمقصد الشارع من بتّ العقود. فمحمل الافتراق عنده أنه الافتراق بالقول وهو صدور صيغة البيع [الإيجاب دون القبول]. المثال الرابع: ذكر أبو إسحاق الشاطبي في المسألة الثانية من كتاب الأدلة عن ابن العربي (¬2) قال: "إذا جاء خبر الواحد معارضاً لقاعدة من قواعد الشرع هل يجوز العمل به [أم لا]؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به (¬3). وقال الشافعي: يجوز. [وتردّد مالك في ¬

_ (¬1) تقدم ذكره: 43/ 3. (¬2) الشاطبي. الموافقات: (1) 3/ 10 = (2) 3/ 11 = (3) 3/ 24 - 25 = (4) 3/ 186. مثاله حديث المصرّاة احتج به ابن أبي ليلىَ ومَالك والليث والشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو سليمان وزفَر وأبو يوسف في بعض الروايات. العيني. عمدة القاري: 11/ 270. وقال ابن عبد البر: هذا حديث مجمع على صحّته وثبوته من جهة النقل، واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها. ابن حجر. الفتح: 4/ 365. (¬3) لم يقبله أبو حنيفة. وعلّل الأحناف عدم العمل به بأعذار كثيرة منها: 1 - أنه من رواية أبي هريرة، وهو ليس كابن مسعود من فقهاء الصحابة. 2 - أنه مضطرب لذكر التمر فيه تارة، والقمح مرة، واللبن أخرى، واعتباره بالصاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارة أخرى. 3 - أنه معارض لعموم القرآن. 4 - أنه منسوخ وناسخه حديث: "الخراج بالضمان". 5 - أنه من أخبار الآحاد وهو لا يفيد إلا الظن. 6 - أنه مخالف لقاعدة الربا. 7 - أنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها. 8 - أنه يلزم منه إثبات الردّ بغير عيب. ابن حجر. الفتح: 4/ 366 - 367.

المسألة، قال:] ومشهور قوله، والذي عليه المعوَّل: أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه (¬1). وقد رد مالك حديث المُصرَّاة (¬2)؛ لمَّا رآه مخالفاً للأصول، [فإنه قد خالف أصل ¬

_ (¬1) شرط مالك لقبول خبر الواحد عرضه على ما اجتمع عليه القرآن ونصوص السنة. ومما تركه الإمام مالك من الأحاديث للعلة نفسها: حديث خيار المجلس، وحديث المصرّاة، وحديث جواز العرايا في ثمر النخل. وقد ناقش الشافعي ذلك في باب بيع الخيار. الأم: 3/ 3، وفي باب المصراة، والخلاف فيها، وباب الخلاف في العرايا. اختلاف الحديث. هامش الجزء السابع من الأم: 332، 336، 343. ويرى المتمسّكون بالسنة أن ما خالف منها الأصول والقواعد، قد يكون بذاته عند التأمل مشتملاً على حكم ومصالح تجعل منه أصلاً شرعياً مستقلاً برأسه، فيزول ما يتوهّم من التعارض بينه وبين الأصول العامة والقواعد الكلية. (¬2) انظر 34 كتاب البيوع، 64 باب النهي للبائع أن لا يحفّل الإبل والبقر والغنم، ح 1. روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَصُرُّوا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فإنه بخير النظرين بين أن يحتلبها. إن شاء أمسك، وإن شاء ردّها وصاعَ تمر". وورد الحديث بصيغ أخرى مختلفة من طرق متعددة. وفي الباب حديث عبد الله بن مسعود خَ: 3/ 25 - 26؛ 15 باب إن شاء رد المصرّاة وفي حلبتها صاع من تمر. خَ: 3/ 26؛ انظر 21 كتاب البيوع، 4 باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وتحريم النجش وتحرجم التصرية، ح 11، حديث أبي هريرة. مَ: 2/ 1155. 7 باب حكم مبيع المصرّاة، ح 23 - 28. مَ: 2/ 1158 - 1159؛ 17 كتاب البيوع والإجارات، 48 باب من اشترى مصراة فكرهها، ح 3443 - 3446. دَ: 3/ 722 - 728؛ 44 كتاب البيوع، 14 باب النهي عن المصراة. نَ: 7/ 253؛ 31 كتاب البيوع، 45 باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة، ح 96. طَ: 2/ 683 - 684. حَم: 2/ 242، 417، 460، 465. وحديث المصرّاة هذا حديث صحيح لا خلاف بين أهل الحديث في صحته. الباجي. المنتقى: 5/ 36.

(الخراج بالضمان)] (¬1)، ولأن متلف الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته، ¬

_ = وقال المازري: وحديث المصراة أصل في تحريم الغش، وفي الرد بالعيب، لأن العيب في المبيع أو في غلّته. وفيه أن التدليس لا يفسد البيع وإنما يوجب الخيار. المعلم: 2/ 161 - 165، عدد 658. وقول المؤلف هنا: وقد رد مالك حديث المصرّاة إشارة منه إلى ما ورد في المنتقى: قال ابن القاسم: قلت لمالك: أتأخذ بحديث المصرّاة؟ قال: نعم. قال ابن المواز: ولم يأخذ به أشهب. وقال: جاء ما يضعفه أن الغلة بالضمان، وسألت عنه مالكاً فكأنّه ضعفه. وقال أشهب: وهو لو ردها بعيب وقد أكل لبنها فلا شيء عليه. الباجي: 5/ 105. ونقل عن الأبي قوله: أخذ مالك في المشهور عنه بهذا الحديث، ولم يأخذ به في قوله الآخر الذي له في العتبية ومختصر ابن عبد الحكم. وقال: قد جاء حديث "الخراج بالضمان". اهـ. الكاندهلوي. أوجز المسالك: 11/ 377. (¬1) أخرجه أصحاب السنن عن عائشة. ووجه الدلالة منه: أن اللبن فضلة من فضلات الشاة. ولو هلكت لكان من ضمان المشتري، فكذلك فضلاتها تكون له، فكيف يغرم بدلها للبائع؟ ابن حجر. الفتح: 4/ 365. وقد ورد الكلام عن "الخراج بالضمان" في القاعدة العاشرة. ابن نجيم. الأشباه: 175؛ علي حيدر. شرح مجلة الأحكام: 1/ 78 - 79؛ الأتاسي. شرح المجلة: 1/ 241؛ أحمد الزرقاء. شرح القواعد الفقهية: المادة 85، 361؛ البورنو. الوجيز: 236 - 240. وغيرها. وقال أصحاب الحديث: توقّف ابن تيمية عند قاعدة "الخراج بالضمان"، مؤكّداً أن حديث المصرّاة أصحُّ منها باتفاق أهل العلم، مع أنه لا منافاة بينهما. فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري، ولفظ الخراج اسم للغلّة مثل كسب العبد، وأما اللبن ونحوه فإنه يلحق بذلك. وهنا كان اللبن موجوداً في الضرع فصار جزءاً من المبيع. ولم يجعل الصاع عوضاً عمّا حدث بعد العقد؛ بل عوضاً عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد. وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع فإن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد، فتعذّرت معرفة قدره. فلهذا قدر الشرع البدل قطعاً =

وأما غرم جنس آخر من الطعام أو العروض فلا. المثال الخامس: أخرج مالك في الموطأ [عن نافع] في تخمير المُحرم وجهه: "أن عبد الله بن عمر كفَّن ابنه واقدَ بنَ عبد الله، ومات بالجحفة مُحرماً، وخمّر رأسه ووجهه. وقال: لولا أنَّا حُرُم لطيّبناه. قال مالك: وإنما يعمل الرجل ما دام حياً، فإذا مات فقد انقضى العمل" (¬1) اهـ. أشار إلى أن المحرم إذا مات يطيب إن كان ¬

_ = للنزاع. وقدر بغير الجنس، لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيؤدي إلى الربا، بخلاف غير الجنس، فإنه كأنه ابتاع لذلك اللبن الذي تعذَّرَت معرفة قدره بالصاع من التمر. والتمر كان طعام أهل المدينة، وهو مكيل مطعوم يقتات به. كما أن اللبن مكيل مقتات، وهو أيضاً يقتات به بلا صنعة ... فهو أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن. ابن تيمية. الفتاوى: 20/ 556 - 558. وقال ابن القيم - على لسان أنصار الآخذين بالحديث حديث المصرّاة وكذا حديث الخراج بالضمان -: إن كل ما ذكرتموه بشأن مخالفتهما للأصول والقواعد الشرعية خطأ. فالحديث - وهو حديث المصراة - موافق لأصول الشريعة وقواعدها، ولو خالفها لكان أصلاً بنفسه، كما أن غيره أصل بنفسه. وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض، كما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض، بل يجب اتباعها كلها, ويقر كل منها على أصله وموضعه. فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه، وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح. إعلام الموقعين: حديث المصرّاة يوافق القياس 2/ 38. وتعقب صاحب إعلاء السنن هذا الجدل الواسع بين الجمهور وأبي حنيفة بقوله: وقد ظهر أن الاعتذارات التى اعتذر بها الحنفية عامتها صحيحة، والأجوبة التي أجاب بها المخالفون مردودة عليهم. ظفر أحمد العثماني. إعلاء السنن: 14/ 67 وما بعدها، فليتأمل. (¬1) انظر 20 كتاب الحج. 6 باب تخمير المحرم وجهه، ح 14 طَ: 1/ 327. =

معه من الناس غيرُ مُحرم يجوز له مس الطيب (¬1). وأشار إلى تأويل الحديث المروي في صحيح البخاري في المحرم الذي وقصته ناقته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمسّوه بطيب" (¬2). والظاهر أن الراوي ¬

_ = والأصل الذي لا خلاف فيه: تحريم تخمير الوجه على المحرم. وبه قال ابن عمر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن. وفيه الفدية على المشهور. ولا يجوز تغطية الرأس إجماعاً. وحديث مالك عن نافعٍ عن ابن عمر: أن عبد الله بن عمر كفن ولده واقداً وقد مات محرماً بالجحفة فخمر رأسه ووجهه. ولم يعامل ولده معاملة الحي المحرم؛ لسقوط التكليف عنه في هذه الحال. وهو ما عبر عنه بانقضاء العمل. وكان ابن عباس وابن عوف وابن الزبير وزيد بن ثابت وسعيد وجابر يرون التخمير جائزاً غير واجب. وقد غطى عثمان وجهه بقطيفة وهو محرم في يوم صائف، وهو متأوِّل. وبالجواز قال الشافعي. (¬1) جرى الخلاف في مسّ المحرم الطيب. فقالوا: هو حرام، ولمن مات محرماً جائز. وأن المنع من ذلك ليس من أجل الميت، وإنما هو من أجل المحرم الحي، لأن تطييبه للميت يقتضي منه مسّ الطيب، وهو حرام. (¬2) انظر 28 جزاء الصيد، 14 باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، ح 2، وهو بلفظ: "ولا تقرّبوه طيباً" خَ: 2/ 215؛ 20 باب المحرم يموت بعرفة، ح 3، 21 باب سنة المحرم إذا مات، حديث ابن عباس، ولفظه: أن رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً" خَ: 2/ 217؛ 15 كتاب الحج، 14 باب ما يفعل بالمحرم إذا مات ح 99. مَ: 1/ 866. ولم يأخذ مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم بحديث ابن عباس حديث من وقصته الدابة بعرفة، وفيه أنه حين أتي به قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث ملبياً"؛ وذلك لأنه شهيد، وهي خصوصية وواقعة عين لا عموم لها. انظر شرح الزرقاني: 2/ 232؛ النووي. شرح مسلم: 8/ 126 - 127.

اشتبه عليه قوله: "لا تمسّوه بطيب" بأنه لأجل الميت، وإنما هو لأجل الأحياء الذين معه، أو هي خصوصية. وعلّة الرّد أن ذلك مخالف لتواعد الشريعة، وليس لورود خبر آخر يعارضه، إذ لم يُرو غيرُ ذلك. المثال السادس: أخرج مالك في الموطأ: "أن أبا حذيفة كان تبنّى سالماً وكان يرى أنه ابنه. فلما نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬1) جاءت سَهلة بنت سُهيل زوجُ أبي حُذيفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنا نرى سالماً ولداً، وكان يدخل علي وأنا فُضُل (¬2)، وليس لنا إلّا بيت واحد، فماذا ترى في شأنه؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه خمس رضعات، فيحرم بلبنها" (¬3). وكانت تراه ابناً من الرضاعة. فأخذت بذلك عائشة [أم المؤمنين] فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال. [فكانت] تأمر أختها [أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها من الرجال] (¬4). وأبى سائرُ أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل عليهن بتلك ¬

_ (¬1) الأحزاب: 5. (¬2) فُضُل، بضمتين: وصف يستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره، معناه في ثوب واحد هو ما يفضل من الثياب بعد نزع أكثرها. قال امرؤ القيس [البيت 26 من المعلقة]. فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل [ابن النحاس. شرح المعلقات: 18]. اهـ. تعليق ابن عاشور. (¬3) انظر 30 كتاب الرضاع، 2 باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، ح 12 طَ: 2/ 605 - 606؛ 17 كتاب الرضاعة، 7 باب رضاعة الكبير، ح 26 - 31 مَ: 2/ 1076 - 1078. (¬4) وكان ما رأته عائشة في ذلك شذوذاً لم يأخذ به أحد من الصحابة سوى =

الرضاعة أحدٌ [من الناس] وقلن: [لا والله] ما نرى الذي أمر [به] رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سهلةَ إلا رخصة [من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] في رضاعة سالم وحده. [لا] والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد"، قال مالك بعد ذلك: "وكان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود لا يريان الرضاعة إلّا في الصغر في الحولين" (¬1) اهـ. ¬

_ = أن أبا موسى الأشعري أفتى به، ثم خطّأ نفسه حين راجعه عبد الله بن مسعود. ولم يكن ما فعلته عائشة إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصحبه تقرير شرعي. ابن عاشور. كشف المغطى: 268. (¬1) جاء رجل إلى عمر بن الخطاب؛ فقال: إني كانت لي وليدة وكنت أطؤها، فعمدت امرأتي فأرضعتها فدخلت عليها فقالت: دونك. فقد والله أرضعتها، فقال عمر: أوجعْها وأت جاريتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. وقال ابن مسعود: لا رضَاعة إلا ما كان في الحولين. انظر 30 كتاب الرضاع، 2 باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، ح 13، 14 طَ: 2/ 606, 607.

هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية إن الكلام لم يكن في لغة من لغات البشر، ولا كان نوعٌ من أنواعه وأساليبه في اللغة الواحدة بالذي يكفي في الدلالة على مراد اللافظ دلالةً لا تحتمل شكاً في مقصده من لفظه، أعني: الدلالة المعبّر عنها بالنص الذي يفيد معنى لا يحتمل غيره (¬1)، ولكن تفاوت ¬

_ (¬1) تقرير هذه الحقيقة من غير احتراز يصبح معها الدليل اللفظي محتملاً لأزيد من معنى، فلا يقطع بإرادة المعنى الواحد منه. وذلك ما ذهب إليه أهل الأهواء، حين أرادوا أن يشكّكوا في مدلولات النصوص من الكتاب والسنة بما أذاعوا من الاحتمالات العشرة العدمية. وهي: عدم الاشتراك المعنوي، وعدم المجاز، وعدم النقل إلى معنى شرعي، وعدم النقل إلى معنى عادي عرفي، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص للعموم، وعدم التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي. وبهذا تتعطل أحكام الشريعة إذا كان الدليل مجرداً غير مقترن بما يبين المراد منه كالتصاريف القولية. أما إذا اقترنت الأدلة اللفظية (النصيّة) بما تكشف علوم اللغة والبلاغة عن المراد منها فإن المباني تتَّضِح، ولا يكون فيها بإذن الله إيهام ولا لبس. وقد أكد المؤلف هذا المعنى بما ساقه بعدُ من قوله: وبذلك لم يستغنِ المتكلمون والسامعون ... وقال الإسنوي: صحح الإمام في المحصول والآمدي في الأحكام =

دلالة ألفاظ اللغات، ودلالة أنواع كلام اللغة الواحدة تفاوتاً في تطرّق الاحتمال إلى المراد بذلك الكلام. فبعض أنواع الكلام يتطرّقه احتمالٌ أكثر ممَّا يتطرق إلى بعض آخر، وبعضُ المتكلمين أقدر على نصب العلامات في كلامه على مراده منه من بعض آخر. ومن هنا وُصف بعضُ المتكلّمين بالفصاحة والبلاغة. على أن حظ السامعين للكلام في مقدار الاستفادة منه متفاوت أيضاً؛ بحسب تفاوت أذهانهم، وممارستهم لأساليب لغة ذلك الكلام، ولأساليب صنف المتكلم بذلك الكلام. وبذلك لم يستغنِ المتكلمون والسامعون عن أن تحف بالكلام ملامحُ من سياق الكلام، ومقام الخطاب، ومبيّناتٌ من البساط، لتتظافر تلك الأشياءُ الحافة بالكلام على إزالة احتمالاتٍ كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه. ولذلك تجدُ الكلامَ الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بَلَّغَه عنه مبلَّغ، وتجد الكلامَ المكتوب أكثرَ احتمالاتٍ من الكلام المبلّغ بلفظه ¬

_ = أن الإجماع ظني. وبناء على ذلك فقد ورد في منتهى السول قول الإسنوي: أما السنة فالآحاد منها لا تفيد إلا الظن، وأما المتواتر فهو كالقرآن متنه قطعي ودلالته ظنية لتوقفه على نفي الاحتمالات العشرة، ونفيها ما ثبت إلا بالأصل، والأصل يفيد الظن فقط. منتهى السول: 1/ 41. ويزيد المؤلف تأكيداً لرأيه هذا بقوله في هذا الفصل: يخطئ الفقهاء حين يقتصرون في استنباط الأحكام على اعتصار الألفاظ وتوجيه آرائهم إلى اللفظ مقتنعين به، وإنّ أدق مقام في الدلالة وأحوجه إلى الاستعانة عليها مقام التشريع، وأن التابعين كانوا يتبصّرون من آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لدفع الاحتمالات ومعرفة ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد. 79 - 86.

بله المشافه به؛ من أجل فقده دلالة السياق وملامح المتكلّم والمبلّغ، وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم (¬1). ومن هنا يقصر بعض العلماء ويتوحّل في خَضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجّه رأيه إلى اللفظ مقتنعاً به، فلا يزال يقلَّبه ويحلّله ويأمل أن يستخرج لُبَّه. ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحفَ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق. وإنّ أدق مقام في الدلالة وأحوجه إلى الاستعانة عليها مقام التشريع. وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرّفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا على استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدّون الرحال إلى المدينة ليتبصّروا من آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين. هنالك يتبيّن لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، وليتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد. وفي هذا المقام ظهر تقصير الظاهرية وبعض المحدّثين المقتصرين في التَفَقُّه على الأخبار (¬2). ¬

_ (¬1) أسقط المؤلف بعد مراجعته للطبعة الأولى من كتابه مقاصد الشريعة الفقرة التي أثبتها إثر هذا فيها وهي التي أولها: وإذا كان التضلع في معرفة خصائص كلام العرب .... ، وقبل قوله في بداية الفقرة الموالية: ومن هنا يقصر بعض العلماء. وهذا ما وقفت عليه بنفسي في نسخته المصححة. وهي بين يدي. ق (1) 24، بـ (2) 27. (¬2) استبدل المؤلف بكلمة "الآثار" الواردة في الطبعة الأولى لكتابه، كلمة "الأخبار" كما هو وارد هنا. وحذف نحو عشرة أسطر هي ما بين "الآثار بل الأخبار" وقوله بعدُ: "ولله درّ البخاري": ق (1) 25، بـ (2) 28. وسقط =

ولله درُّ البخاري إذ ترجم في كتاب الاعتصام من صحيحه بقوله: باب ما ذكَر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضّ على اتفاق أهل العلم، وما أجمع عليه الحَرَمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار ومصلّى النبي والمنبر والقبر (¬1). ثمّ أخرج ¬

_ = من الطبعة الثانية التي اعتمدناها ما أثبته المؤلف في ط (1) ثم حذفه وهو قوله: وظهر بطلان ما روي عن الشافعي من أنه قال: إذا صح الحديث عن رسول الله فهو مذهبي، إذ مثل هذا لا يصدر من عالم مجتهد. وشواهد أقوال الشافعي في مذهبه تقضي بأن هذا الكلام مكذوب أو محرّف عليه، إلا أن يكون أراد من الصحة تمام الدلالة أي إذا تعضد بما شرحناه وسَلَم من المعارضة بما حذرنا منه. وحينئذ يكون قوله هذا يؤول إلى معنى: إذا رأيتم مذهبي فاعلموا أنه الحديث الصحيح. وكذا ما نقله الشاطبي في كتاب الاعتصام عن أحمد بن حنبل من أنه قال: إن الحديث الضعيف خير من القياس. وهذا لا يستقيم لأنه إن كان به ما في القياس من احتمال الخطأ، فإن في الحديث الضعيف احتمال الكذب. وهذا احتمال له أثر أقوى في زوال الثقة بالحديث الضعيف من أثر احتمال الخطأ في القياس فنجزم أن أحمد بن حنبل قد حُرّف عليه هذا القول. ط (1). الاستقامة: 25. (¬1) انظر 90 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، 16 باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضّ على اتفاق أهل العلم وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة وما كان بها من مشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمنبر والقبر. خَ: 8/ 151. وفي فتح الباري نقل عن الكرماني - في باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضّ على اتفاق أهل العلم -: في بعض الروايات: (وما حض عليه من اتفاق) وهو من باب تنازع العاملين. وهما: ذكر وحض ... قال - أي الكرماني -: الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد، أي المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من الأمور الدينية، واتفاقُ مجتهدي الحرمين دون غيرهم ليس بإجماع عند الجمهور. وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجّة. قال: =

حديث عاصم قال: "قلت لأنس بن مالك: أبلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حلف في الإسلام" (¬1)؟ قال أنس: قد حالف النبي بين قريش ¬

_ = وعبارة البخاري مشعرة بأن اتفاق أهل الحرمين كليهما إجماع. قلت: لعله أراد الترجيح به لا دعوى الإجماع. وإذا قال مالك ومن تبعه في الرأي بإجماع أهل المدينة وحدها، فهم قائلون به إذا وافقهم أهل مكة بطريق الأَولى. ونقل ابن التين عن سحنون اعتبار إجماع أهل مكة مع أهل المدينة، حتى لو اتفقوا كلهم، وخالفهم ابن عباس في شيء لم يعدّ إجماعاً. وهو مبني على أن ندرة المخالف تؤثر في ثبوت الإجماع. الفتح: 13/ 306. وفي نهاية شرح الباب من الكتاب نقل ابن حجر عن ابن بطال عن المهلب قال: غرض البخاري بهذا الباب وأحاديثه تفضيل المدينة بما خصّها الله به من معالم الدين ... وإنما المراد هنا تقدم أهلها في العلم على غيرهم. فإن كان المراد من ذلك تقديمهم في بعض الأعصار، وهو العصر الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مقيماً بها فيه، والعصر الذي بعده من قبل أن يتفرق الصحابة في الأمصار، فلا شك في تقديم العصرين المذكورين على غيرهما. الفتح: 13/ 312. (¬1) الحديث: "لا حلف في الإسلام، وأيّما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة". انظر 39 كتاب الكفالة، 2 باب قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}، ح 3، وهو حديث عاصم هذا بلفظه خَ: 3/ 57؛ وفي 71 كتاب الآداب، 67 باب الإخاء والحلف، ح 2. خَ: 7/ 92؛ 90 كتاب الاعتصام، 16 باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم، ح 18. الحديث عن عاصم الأحول عن أنس، وتمامه: "وقَنَتَ شهراً يدعو على أحياء من بني سُلَيم". خَ: 8/ 154؛ انظر 44 كتاب فضائل الصحابة، 55 باب مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه رضي الله عنهم. ح 204، 205. مَ: 2/ 1960 - 1961؛ انظر 13 كتاب الفرائض، 17 باب في الحلف، ح 2926. دَ: 3/ 338 - 339. ورد الحديث بألفاظ متقاربة، وهناك أحاديث أخرى بمعناه. ويظهر أن =

والأنصار في داري التي بالمدينة. يشير إلى إبطال الحديث المروي عن أم سلمة وعن جبير بن مطعم وعن ابن عباس. أخرجه أحمد والطبراني وابن حبان وأبو داود (¬1). وفيه ما يحرر مقدار الاعتبار ¬

_ = الحلف المنفي في الأحاديث هو خصوص حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه. وأما ما يدل عليه عَجْزُ الحديث من الأحلاف التي تجوز في الإسلام ولا يزيدها الدين إلا ثباتاً وتأكيداً كالمؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة الحق، فهذا باقٍ لم يُنْسَخ. قاله النووي. شرح مسلم: 16/ 81 - 82. (¬1) وفي فتح الباري: كأن عاصماً يشير بذلك إلى ما رواه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جبير بن مطعم مرفوعاً: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" أخرجه مسلم. ولهذا الحديث طرق. منها: عن أم سلمة مثله، أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة عن أبيه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ... وورد عن قيس بن عاصم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف، فقال: "لا حلف في الإسلام، ولكن تمسّكوا بحلف الجاهلية" أخرجه أحمد، وعمر بن شبة واللفظ له. ومنها: عن ابن عباس رفعه: "ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدَّة وحدّة". أخرجه عمر بن شبة واللفظ له، وأخرجه أحمد، وصححه ابن حبان. كما ورد الحديث في المراسيل: مرسل الشعبي، رفعه: "لا حلف في الإسلام، وفي الجاهلية مشدود". ومرسل عدي بن ثابت قال: "أرادت الأوس أن تحالف سلمان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " مثل حديث قيس بن عاصم، أخرجه عمر بن شبة. ابن حجر. الفتح: 4/ 473؛ ابن حبان. الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 7/ 26، 453. انظر الحديث عن طريق جبير بن مطعم 44 كتاب فضائل الصحابة، 50 باب مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، ح 206. مَ: 2/ 1961؛ وعنه انظر 13 =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كتاب الفرائض، 17 باب في الحلف ح 2925. دَ: 3/ 338؛ وانظر حَم: 4/ 83؛ والطبراني في المعجم الكبير: 2/ 143، 1580، 149، 1597. وأخرجه عن طريق ابن عباس: في 17 كتاب السير، 81 باب لا حلف في الإسلام، ح 2529 دَي: 2/ 558. وكذا الطبراني. المعجم الكبير: 11/ 281، 11740. وانظر عن عبد الله بن عمر. حَم: 2/ 180، 205، 207، 213، 215؛ وعن قيس بن عاصم. حَم: 5/ 61؛ وعن أنس. حَم: 3/ 162. وقد تناولت آيتانِ في كتاب الله موضوع الحلف: الأولى قوله سبحانه: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} النساء: 33, والثانية قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الأنفال: 75. وتعرضت السنة له أيضاً في أحاديث كثيرة منها حديث جبير بن مطعم وحديث أنس السابقان. والحلف في الجاهلية كالإخاء في الإسلام. والفاصل بين الزمنين إما نزول آية النساء، وإما نزول آية الأنفال، وقال بعضهم: هو الهجرة، وقال آخر: هو وقعة الحديبية. وهذا الوجه الأخير هو رأي عمر بن الخطاب، وهو المقدَّم والأقوى. ابن حجر الفتح: 4/ 472. كان الناس في الجاهلية يتحالفون فيما بينهم، فيتعاقدون ويتعاهدون بقولهم: "ثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك، وترِثني وأرِثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك". ومن أحلاف الجاهلية حلف الأحابش، وحلف قريش وأزد وثقيف ودوس، وحلف المطيبين، وحلف الفضول. والحديث النافي لوقوع الحلف في الإسلام حديث جبير: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة". والحديث المثبت لوقوعه في الإسلام حديث عاصم: "قال: قلت لأنس: =

بمذاهب الصحابة فيما طريقه النقل والعمل. فقد كانوا يسألون رسول الله إذا عرضت لهم الاحتمالات، وكانوا يشاهدون من الأحوال ما يبصرّهم بمقصد الشارع. ¬

_ = أبلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا حلف في الإسلام؟ قال أنس: قد حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - قريش والأنصار في بيتي بالمدينة". قال الطبري: ما استدلّ به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة وكانوا يتوارثون به، ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن. ابن حجر. الفتح: 4/ 473. والفرق بني الحلفين - الحلف في الجاهلية والحلف في الإسلام - مرده قول عكرمة: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر. وبمثله في الإسلام من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية. وعن سعيد بن جبير: "كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه". وعاقد أبو بكر رضي الله عنه مولى فورثه. وكان للمولى السدس في تركة الميت أقرته الآية. قاله ابن عباس والحسن وقتادة وابن جبير. ولعل مرادهم أن المسلمين جعلوا للمولى السدس وصية، لأن أهل الجاهلية لم تكن عندهم موازين معيّنة. ثم نسخ ذلك بما فرض الله من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات. الطبري: 8/ 274 - 275.

و - انتصاب الشارع للتشريع

و - انتصاب الشارع للتشريع ممّا يهمُّ الناظرَ في مقاصد الشريعة تمييز مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتفرقةُ بين أنواع تصرّفاته. وللرسول عليه الصلاة والسلام صفات كثيرة صالحة لأن تكون مصادر أقوال وأفعال منه. فالناظر في مقاصد الشريعة بحاجة إلى تعيين الصفة التي عنها صدر منه قول أو فعل. وأول من اهتدى إلى النظر في هذا التمييز والتعيين العلامة شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، في كتابه: "أنوار البروق في أنواء الفروق". فإنه جعل الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء، وقاعدة تصرّفه بالفتوى - وهي التبليغ -، وقاعدة تصرفه بالإمامة (¬1). ¬

_ (¬1) القرافي. الفروق: 1/ 206 - 209؛ الإحكام: (2) 99 - 120. وقد سبق إلى قريب من هذا - وهو بيان أحوال التشريع وملابساته - عالم من علماء السنة من رجال القرن الثالث هو الإمام أبو محمد بن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث، حيث قال: "والسنن عندنا ثلاث. سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنكح المرأة على عمتها وخالتها ... ". والثانية: سنة أباح الله له أن يسنها وأمره باستعمال رأيه فيها. فله أن يترخَّص فيها لمن شاء على حسب العلّة والعذر، كتحريم الحرير على الرجال، وإذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به والثالثة: ما سنّه لنا تأديباً، فإنْ نحن فعلناه كانت الفضيلة في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ذلك، وإن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله، كأمره في العِمِّة بالتلَحِّي ... ". انظر ابن قتيبة: 132 - 134. وبعد القرافي - الذي نوّه به المؤلف محللاً مقولته في أنواع السنن - الإمامُ الفقيه ابن قيم الجوزية حيث يقول: "ومأخذ النزاع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول. فقد يقول الحُكمَ بمنصب الرسالة، فيكون شرعاً عاماً إلى يوم القيامة، كقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ... ". وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهند بنت عتبة: " ... خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدعُ أبا سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البيّنة. وقد يقوله بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم مَنْ بعده من الأئمة مراعاة ذلك على سبيل المصلحة". زاد المعاد: 3/ 489 - 490. وَجاء بعدَ ابنِ القيم من الأصوليين الإسنوي. فصرّح بمثل مقالة الإمامين القرافي وابن القَيّم، حيث قال: "النبي - صلى الله عليه وسلم - له منصب النبوة المقتضية لنقل الأحكام بالوحي عن الله تعالى، ومنصب الإمامة المقتضية للحكم والإذن فيما يتوقف عليه الإذن من الأئمة ... ومنصب الإفتاء بما يظهر رجحانه عنده، فإنه سَيِّد المجتهدين". انظر المسألة الرابعة من الكتاب السادس في التعادل والترجيح التمهيد: 509. وفي القرن الثالث عشر ظهر العلامة شاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، وفضل القول في أنواع الحديث - عند بيانه أقسام علوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قائلاً: "اعلم أن ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودوّن في كتب الحديث على قسمين: أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. فمنه: علوم المعاد، وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي ... ؛ ومنه: شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات بوجوه الضبط المذكورة. وهذه بعضها مستند إلى الوحي =

وقال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم. فهو - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم ¬

_ = وبعضها مستند إلى الاجتهاد ... ؛ ومنه حِكَم مرسلة ومصالح مطلقة لم يؤقَّتْها ولم يبين حدودها كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها، ومستندها غالباً الاجتهاد ... ؛ ومنه فضائل الأعمال ومناقب العمال، وأرى أن بعضها مستند إلى الوحي وبعضها إلى الاجتهاد .... وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". ومنه الطب، ومنه باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالأدهم الأقرح" ومستنده التجربة؛ ومنه ما فعله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل العادة وبحسب الاتفاق دون القصد؛ ومنه ما ذكره كما ذكره قومه كحديث أم زرع ... ؛ ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة ... ؛ ومنه حُكم وقضاء خاص. وإنما كان يتبع فيه البينات والأيمان ... ". الدهلوي. حجة الله البالغة: 1/ 128 - 129. وفي القرن الماضي جاء محمد رشيد رضا يتحدث عن الاتباع ويفسر قول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}. "فتلك من اتّباع القرآن خاصة. وتصرّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً وإقراراً. ولزم اتباعه فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه ... واتّباعه في اجتهاده واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعاً ... ولا يدخل في اتّباعه فيما كان من أمور العادادت ... ". سورة المائدة: 30 تفسير المنار: 9/ 317. وفي هذا العصر تناول الموضوع ذاتَه - مثلَ مؤلف المقاصد - الشيخُ محمود شلتوت، حين "قسم السنة إلى ما كان منها للتشريع وما ليس للتشريع، وجعل ما كان منها للتشريع إما عاماً ودائماً، وإما ما ليس كذلك". انظر تفصيل هذه المقالات وما ترتب عليها أو تفرع عنها من مواقف لدى المعاصرين: القرضاوي. السنة مصدراً للمعرفة والحضارة. الجانب التشريعي في السنة النبوية: 13 - 99. ندوة مآب عن السنة النبوية: 2/ 976 - 1029.

العلماء. [فجميع المناصب الدينية فوَّضها الله تعالى إليه في رسالته. وهو أعظم من كل من قد تولّى منصباً منها في ذلك إلى يوم القيامة] (¬1). فما من منصب ديني إلّا وهو متَّصف به في أعلى رتبة، غير أن غالب تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ، لأن وصف الرسالة غالب عليه. ثم تقع تصرّفاته - صلى الله عليه وسلم -: منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً؛ ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء؛ ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة؛ ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردّده بين رتبتين فصاعداً. فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى. ثم تصرّفاته - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة. فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة. فإن كان مأموراً به أقدم عليه كل أحد بنفسه، وكذلك المباح. وإن كان منهياً عنه اجتنبه كل أحد بنفسه. وكل ما تصرّف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يُقدِم عليه إلا بإذن الإمام، [اقتداء به عليه السلام] (1)، ولأن سبب تصرّفه فيه عليه السلام بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك. وما تصرّف فيه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يُقدِم عليه إلا بحكم حاكم، لأن السبب الذي لأجله تصرّف فيه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء يقتضي ذلك. وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاثة. وتحقيق ذلك بأربع مسائل: المسألة الأولى: بعث الجيوش، وصرف أموال بيت المال ¬

_ (¬1) الجملة بين العاقفتين مستدركة، انظر: القرافي. الفروق: 1/ 205 - 206. وانظر الإحكام: (2) 109 - 120.

في جهاتها، وجمعها من محالِّها، وتولية الولاة، وقسمة الغنائم ... فمتى فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك شيئاً علمنا أنه تصرّف فيه بطريق الإمامة دون غيرها. ومتى فصل بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان ونحوها بالبيّنات أو الأيمان والنكولات ونحوها، فنعلم أنّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما تصرَّف في ذلك بالقضاء دون الإمامة، وكل ما تصرّف فيه - صلى الله عليه وسلم - من العبادات بقوله أو فعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ. فهذه المواطن لا خفاء فيها. وأما مواضع الخفاء والتردّد ففي بقية المسائل. وهي: المسألة الثانية قوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" (¬1). ¬

_ (¬1) روي الحديث عند البخاري بصيغ مختلفة. ففي ترجمة الباب عن علي: "من أحيا أرضاً مواتاً"، وقال عمر: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له". وفي أخرى زاد عمر وابن عوف في غير حقِّ مُسلم: "وليس لعرقٍ ظالم فيه حق". وهو بذلك يروى عن جابر. وانظر 41 كتاب الحرث والمزارعة، 15 باب من أحيا أرضاً مواتا خَ: 3/ 70؛ وعن سعيد بن زيد: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق". انظر 14 كتاب الخراج والإمارة والفيء، 37 باب في إحياء الموات، ح 3073 دَ: 3/ 453 - 454؛ وعن يحيى بن عروة عن أبيه: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له"، ح 3074 دَ: 3/ 453 - 454؛ وعنه أيضاً: "ومن أحيا مواتاً فهو أحق به"، ح 3076 دَ: 3/ 455 - 456. ومن رواية سعيد بن زيد 13 كتاب الأحكام، 38 باب ما ذكر في إحياء أرض الموات، ح 1378 تَ: 3/ 662؛ ومن رواية جابر: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له"، ح 1379 تَ: 3/ 663 - 664. انظر 18 كتاب البيوع، 65 باب من أحيا أرضاً ميتة فهي له، ح 2610 دَي: 2/ 570. =

اختلف العلماء في هذا القول هل هو تصرُّف بالفتوى فيجوز لكل أحد أن يُحيي أرضاً ولو لم يأذن له الإمام؟ وهذا قول مالك والشافعي، أو هو تصرّف بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يُحيي إلّا بإذن الإمام؟ وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). ¬

_ = مالك من رواية عروة: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق". والحديث مرسل باتفاق الرواة. وذكر الاختلاف فيه على عروة ابنُ عبد البر، وقال: وهو أيضاً صحيح مسند، تلقاه بالقبول فقهاء المدينة وغيرهم. الزرقاني. شرح الموطأ: 4/ 28. وقال مالك: العرق الظالم: كل ما احتفر أو أخذ أو غرس بغير حق. 36 كتاب الأقضية، 24 باب القضاء في عمارة الموات، ح 26 طَ: 2/ 743؛ وعن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له"، قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا، ح 27 طَ: 2/ 744، وعن جابر: 3/ 304، 327، 338، 356، 363، 381؛ وعن عبادة بن الصامت الجزء الثاني من الحديث، وقضى أنه ليس لعرق ظالم حق 5/ 327. راجع ابن الطلاع: 466 - 467. (¬1) الخلاف في هذا جارٍ بين الحنفية أنفسهم. فالإمام يرى أن من أحياه بإذن الإمام ملكه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه"، ولأن هذه الأراضي كانت في أيدي الكفرة، ثم صارت في أيدي المسلمين. فصارت فيئاً، ولا يختص بالفيء أحد دون رأي الإمام كالغنائم والإقطاعات. وقال الإمامان: يملكه من أحياه، ولا يشترط فيه إذن الإمام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له"، رواه أحمد والترمذي وصحّحه، ولأنه مباح سبقت يده إليه، فكان أحق به كالماء والحطب والحشيش والصيد والركاز. الزيلعي. تبيين الحقائق: 6/ 35. وقول الإمام هنا هو المختار. ابن عابدين: 5/ 278. والحديث المذكور ضعيف. نصب الراية: 3/ 430. واستثنى مالك ما قرب من العمران من أراضي الموات، فلا بد فيه من إذن الإمام عنده، لأن إحياء ما قرب يحتاج إلى النظر في تحرير حريم البلد، فهو كتحرير الإعسار في فسخ النكاح. وكل ما يحتاج لنظر وتحرير =

المسألة الثالثة: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان لما قالت له: "إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفينا"، فقال لها: "خذي من ماله ما يكفيك وولدَك بالمعروف" (¬1). ¬

_ = فلا بد فيه من الحكام. القرافي. الإحكام: (2) 111. وجاء تفصيل أقوال الفقهاء على هذا النحو: رجّح القرافي في هذه المسألة أحد الرأيين على الآخر وقال: ومذهب مالك والشافعي في الإحياء أرجح، لأن الغالب في تصرفه - صلى الله عليه وسلم - الفتيا والتبليغ، والقاعدة أن الدائر بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى. الفروق: 1/ 208، وتبعه الشيباني في تبيين المسالك: 4/ 246 - 247. وذكر القرضاوي أن المصلحة العامة تقتضي الأخذ بمذهب أبي حنيفة، لأن هذا من ضبط الدولة لملكية الأرض البور وتنظيمها. انظر الجانب التشريعي في السنة النبوية: 989. (¬1) انظر 30 كتاب البيوع، 95 باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم .... واللفظ فيه: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" خَ: 3/ 16؛ 79 كتاب النفقات، 9 باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، واللفظ: "إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" خَ: 6/ 193؛ 14 باب وعلى الوارث مثل ذلك، حديث عائشة، ولفظه: "إن أبا سفيان رجل شحيح فهل عليّ جناح أن آخذ من ماله ما يكفيني وبنيّ؟ قال: خذي بالمعروف" خَ: 6/ 194؛ 93 كتاب الأحكام، 28 باب القضاء على الغائبِ خَ: 8/ 115؛ وانظر 30 كتاب الأقضية، 4 باب قضية هند، ح 7 مَ: 2/ 1388؛ وانظر 17 كتاب البيوع، 81 باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده 3532 دَ: 3/ 803؛ انظر 49 كتاب آداب القضاة، 31 باب قضاء الحاكم على الغائب إذا عرفه نَ: 8/ 246؛ انظر 11 كتاب النكاح، 54 باب في وجوب نفقة الرجل على أهله، ح 2264 دَي: 2/ 479 - 480؛ حَم: 6/ 39، 50، 206؛ ابن الطلاع: 338 - 340. =

اختلف العلماء هل هذا تصرّف بطريق الفتوى فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به؟ أو هو تصرُّف بالقضاء، فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقّه أو حقَّه إذا تعذر أخذه من الغريم إلّا بقضاء قاضٍ؟ (¬1). المسألة الرابعة: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا فلْه سَلبهُ" (¬2). ¬

_ = وفقه الحديث هذا لا ينصب على حقوق الله تعالى بالاتفاق. وهو في حقوق العباد خاصة، اعنمده مالك والليث والشافعي وأبو عبيد. واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار، إلا إن طالت غيبته وانقطع خبره. ومنع أبو حنيفة القضاء على الغائب مطلقاً، واستثنى من له وكيل فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى على وكيله. ودليله حديث علي بن أبي طالب مرفوعاً: "لا يقضي لأحد الخصمين حتى يسمع من الآخر". ابن حجر. الفتح: 13/ 671. (¬1) يشير إلى الخلاف قول الرافعي في القضاء على الغائب: إن الشافعية احتجت على الحنفية في منعهم القضاء على الغائب بقصة هند. وكان ذلك قضاء من النبي على زوجها وهو غائب. وقال النووي: شرط القضاء على الغائب أن يكون غائباً من البلد أو مستتراً لا يقدر عليه، ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجوداً، فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء. وقد وقع في كلام الرافعي في عدة مواضع أنه كان إفتاء. ابن حجر. الفتح: 9/ 510. ومشهور مذهب مالك أنه لا يأخذ جنس حقَّه إذا ظفر به، وإن تعذر عليه أخذ حقّه ممن هو عليه، إلا بقضاء قاضٍ. وقال خليل في باب الشهادة: وإن قدر على شيئه فله أخذه إن يكن غير عقوبة، وأمن فتنة ورذيلة. وقال المواق في كتاب الوديعة: وحاصل كلام اللخمي وابن يونس وابن رشد والمازري. ترجيح الأخذ. محمد علي بن حسن. تهذيب الفروق: 1/ 207؛ القرافي. الإحكام: (2) 112 - 114؛ ابن الطلاع: 338. (¬2) انظر كتاب 21 الجهاد، 10 باب ما جاء في السلب في القتل، ذيل الحديث 19. قال: وسئل مالك عمن قتل قتيلاً من العدو، أيكون له سلبه =

اختلف العلماء هل هذا تصرف بالإمامة؟ فلا يستحق القاتل سلَب المقتول إلّا أن يقول له الإمام ذلك. ورآه الشافعي تصرفاً بالفتوى. فلا يحتاج إلى إذن الإمام. هذا حاصل كلام ¬

_ = بغير إذن الإمام؟ قال: لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام. ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد. ولم يبلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل قتيلاً فله سلبه" إلا يوم حنين. طَ: 2/ 455. انظر 57 كتاب فرض الخمس، 18 باب من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلاً فله سلبه من غير أن يخمس، وحكم الإمام فيه. ح 2 وفيه "من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سَلَبُه". خَ: 4/ 57؛ وانظر 32 كتاب الجهاد والسير، 13 باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح 41 مَ: 2/ 1370. وانظر 9 كتاب الجهاد، 147 باب في السلب يُعطى القاتل. ولفظه: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" 2717، "من قتل كافراً فله سلبه" 2718 دَ: 3/ 159 - 162. انظر 22 كتاب السير، 13 باب ما جاء فيمن قتل قتيلاً فله سلبه، ح 1562 تَ: 4/ 131؛ حَم: 3/ 123، 190، 279؛ 5/ 12. راجع ابن الطلاع: 258. وفي الفتح بيان مذاهب الأئمة الفقهاء في المسألة، قال: ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك: "من قتل قتيلاً فله سلبه" أو لم يقل. وهو فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخبار عن الحكم الشرعي. ودليل الجمهور نصّ الحديث؛ فإنه خصص العموم. ورد بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: "من قتل قتيلاً فله سلبه" إلا يوم حنين. وأجيب عن هذا بأن ذلك الحكم حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة مواطن؛ منها يوم بدر ... إلخ. وقال المالكية والحنفية: لا يستحقه القاتل إلا إن شرط له الإمام ذلك. وعن مالك: يُخيّر الإمام بين أن يعطي القاتل السلب أو يخمسه. واختاره إسماعيل القاضي. وعن إسحاق: إذا كثرت الأسلاب خمست. ومكحول والثوري يخمس مطلقاً. وحكي مثله عن الشافعي. ومتمسكهم عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الأنفال: 41. ابن حجر. الفتح: 6/ 247 - 248.

الشهاب القرافي (¬1). ومن ورائه نقول: إن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفات وأحوالًا تكون باعثاً على أقوال وأفعال تصدر منه. فبنا (¬2) أن نفتح لها مشكاة تضيء في مشكلات كثيرة لم تزل تُعنت الخلق، وتشجي الحلق. وقد كان الصحابة يفرّقون بين ما كان من أوامر الرسول صادراً في مقام التشريع، وما كان صادراً في غير مقام التشريع. وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه. ففي الحديث الصحيح أن بريرة لما أعتقها أهلها كانت زوجة لمغيثٍ العبد، فَمَلَكَتْ أمر نفسها بالعتق، فطلقت نفسها. وكان مغيث شديد المحبة لها، وكانت شديدة الكراهية له. فكلم مغيث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فكلّمها رسول الله في أن تراجعه. فقالت: ¬

_ (¬1) انظر تحرير القولين في الفروق. فإن مالكاً رأى هذا التصرّف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمامة. فلا يجوز لأحد أن يختص بسلب إلا بإذن الإمام في ذلك قبل الحرب. وقد خالف مالك هذه القاعدة التي اعتمدها في المسألتين السابقتين؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الأنفال: 41، حيث جعل في السلب الخمس لله وبقيته للغانمين. والآية مقدمة على الحديث، ولأن إباحة السلب للقاتل بدون إذن الإمام تفضي إلى فساد الإخلاص، وأن يحمل الإنسان بنفسه على قرنه من الكفار لما يرى عليه من السلب فربما قتله الكافر وهو غير مخلص في قتاله فيدخل النار، ولأن مقالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً فله سلبه" إنما كانت منه ترغيباً في القتال، وهي مقيدة هنا بالمصلحة يراها الإمام. وذهب الجمهور إلى أن تصرّف الرسول - صلى الله عليه وسلم - هنا كان على سبيل الفتيا لأنها الغالب على تصرّفه، إذ شأنه الرسالة والتبليغ. القرافي. الفروق: 1/ 208 - 209. (¬2) فحريٌّ بنا. وقد تكرر هذا الاستعمال في كتاب المقاصد نحو ثلاث مرات: 180، 362، ومع النفي: فليس بنا: 518.

أتأمرني يا رسول الله؟. قال: "لا، لكني أشفع". فأبت أن تراجعه (¬1). ولم يُثرّبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا المسلمون. وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله أنه مات أبوه عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دين. فكلم جابرٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يكلم غرماء أبيه أن يضعوا من دينه، فطلب النبي عليه الصلاة والسلام منهم ذلك، فأبوا أن يضعوا منه. قال جابر: "فلمّا كَلّمهم رسول الله كأنهم أُغروا بِي" (¬2). ولم يُثرّبهم المسلمون على ذلك. ونظائر ذلك ستأتي (¬3). على أن علماء أصول الفقه قد تعرّضوا في مسائل السنة النبوية ¬

_ (¬1) شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمغيث العبد عند بريرة، بوب لها البخاري في: 68 كتاب الطلاق، 16 باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة، وذكر طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها مراجعة زوجها. خ: 6/ 171. وانظر 7 كتاب الطلاق، 19 باب في المملوكة تعتق، وهي تحت حر أو عبد، 2231. دَ: 2/ 670. ومما يستفاد من هذا الحديث أن من يُسأل من الأمور مما هو غير واجب عليه فعلهُ فله رد سائله وترك قضاء حاجته، وإن كان الشفيع سلطانه أو عالماً أو شريفاً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على بريرة ردّها إياه فيما شفع فيه. العيني. عمدة القاري: 20/ 269. وفي الفتح: أنه لا ضرر ولا إلزام ولا لوم على من خالف، ولا غضب. ولو عظم قدر الشافع. ولا يجب على المشفوع عنده القبول. ابن حجر: 9/ 414. (¬2) انظر 55 كتاب الوصايا، 36 باب قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة، الحديث الأخير في الباب خ: 3/ 199؛ 64 كتاب المغازي، 18 باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، الحديث 3 خَ: 5/ 32. (¬3) انظر بعدُ: الشواهدَ التي أوردها المؤلف لغير حالات التشريع والإفتاء والقضاء، ولأكثر التصرفات الحاصلة بالإمارة.

إلى ما كان من أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جِبِلِّياً أنه لا يدخل في التشريع (¬1). وما ذلك إلّا لأنهم لم يهملوا ما كان من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثراً من آثار أصل الخلقة لا دخل للتشريع والإرشاد فيه. وتردّدوا في الفعل المحتمل كونه جِبِلِّياً وتشريعياً كالحج على البعير (¬2). وقد يغلط بعض العلماء في بعض تصرفات رسول الله ¬

_ (¬1) ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان من الأفعال الجبِلِّية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوها فلا نزاع في كونها على الإباحة، أي بالنسبة إليه وإلى أمته، كما قاله الآمدي. الإسنوي. شرح منهاج الأصول للبيضاوي: 3/ 631. وهي بذلك لا يتعلق بها أمر ولا نهي عن مخالفتها، فلا تكون دليل تشريع؛ وفي شرح المحلى: وما كان من أفعاله جبلياً ... لسنا متعبَّدين به. المحلي: 2/ 102؛ ابن الحاجب. مختصر المنتهى الأصولي: 2/ 22؛ الغزالي. المنخول: 225؛ الزركشي. البحر المحيط: 4/ 137؛ الشوكاني. القسم الثاني من إرشاد الفحول: 35. (¬2) ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب ناقته القصواء في الحج كما ذكر ذلك جابر في حديثه في حجة الوداع. قال: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدى بصري بين يديه من راكب وماشٍ. وقال النووي: فيه جواز الحج راكباً وماشياً. وهو مجمع عليه. وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وفي المفاضلة بين الحالين قال في الفتح: ذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب، لكونه - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة راكباً، ومن حيث النظر فإن في الركوب عوناً على الاجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ كما ذكروا مثله في الفطر. وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعلم منه. وعن الشافعي قوله: إنهما سواء. واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وأن النهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا أجحف بالدابة. ابن حجر. الفتح: 25 كتاب الحج، 88 قوله باب الوقوف على الدابة بعرفة: 3/ 513. وقال شارح مسلم مثله: واختلف العلماء في الأفضل منهما. فقال مالك =

عليه الصلاة والسلام فيعمد إلى القياس عليها قبل التثبت في سبب صدورها. وقد عرض لي الآن أن أعدّ من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي يصدر عنها قول منه أو فعل - اثني عشر حالًا. منها ما وقع في كلام القرافي، ومنها ما لم يذكره. وهي: التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرّد عن الإرشاد. 1 - فأما حال التشريع فهو أغلب الأحوال على الرسول عليه الصلاة والسلام إذ لأجله بعثه الله، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (¬1). وقرائن الانتصاب للتشريع ظاهرة، مثل خطبة حجة الوداع (¬2)، وكيف أقام مسمِّعين يُسمِّعون الناس ما يقوله رسول ¬

_ = والشافعي وجمهور العلماء: الركوب أفضل اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أعون له على وظائف مناسكه، ولأنه أكثر نفقة؛ وقال داود: ماشياً أفضل لمشقّته. وهذا فاسد، لأن المشقة ليست مطلوبة. النووي. حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 8/ 174. وعند الأصوليين أن فيما تردد من فعله - صلى الله عليه وسلم - بين الجبِلِّي والشرعي، كالحج راكباً، تردداً ناشئاً عن القولين في تعارض الأصل والظاهر يحتمل أن يلحق بالجبِلِّي، لأن الأصل عدم التشريع فلا يستحب لنا، ويحتمل أن يلحق بالشرعي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لبيان الشرعيات لنا فيستحب لنا. وبهذا جزم الزركشي قائلاً: أما الجبِلِّي فللندب لاستحباب التأسي به. المحلى: 2/ 102. (¬1) آل عمران: 144. (¬2) انظر 15 كتاب الحج، 19 باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ح 147 مَ: 1/ 889 - 890.

الله - صلى الله عليه وسلم - (¬ 1)، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام في حجّة الوداع: "خذوا عني مناسككم" (¬2)، وقوله عقب الخطاب: "ليبلغ الشاهدُ منكم ¬

_ (¬1) وهم المعبّرون الذين يعبّرون عنه - صلى الله عليه وسلم -. فمن ذلك اتخاذه - صلى الله عليه وسلم - علياً ليعبّر عنه. روى ذلك مسدّد برجال ثقات عن هلال بن عامر المزني عن أبيه. وروى الطبراني برجال ثقات عن ابن عباس قال: لما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أمر ربيع بن أمية بن خلف فقام تحت يدي الناقة وكان رجلاً صيتاً، فقال: "اصرخ أيها الناس أتدرون أيّ شهر هذا؟ " فصرخ. انظر عبد الحي الكتاني. التراتيب الإدارية: (1): 1/ 70؛ انظر 5 كتاب المناسك، 73 باب في أي وقت يخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، ح 1956: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس في منى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلي رضي الله عنه يعبّر عنه، والناس بين قاعد وقائم" دَ: 2/ 489؛ 26 كتاب اللباس، 21 باب الرخصة في الحمرة، ح 4073. دَ: 4/ 338؛ وأورده حَم: 3/ 477. وحديث عامر المزني، وهو رجل من أهل بدر - بين يديه - يعبّر عنه: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس على بغلة شهباء، وعلي يعبّر عنه". وربما دعي المعبّر بالمنادي، كالذي أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينادي ألا إن الخمر قد حرمت خَ، وكالذي نادى يوم خيبر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاكم عن لحوم الحمر خَ، أو كالذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ينادي في الناس: "إن من ضيّق منزلاً أو قطع طريقاً فلا جهاد له". انظر الخزاعي. تخريج الدلالات السمعية: 301. وسمّى ابن هشام المعبّر الصارخ. ابن هشام، حجة الوداع، اسم الصارخ بكلام الرسول وما كان يردّده. السيرة: 4/ 605. (¬2) ورد الحديث بلفظ: "خذوا مناسككم"، وبلفظ: "لتأخذوا مناسككم". انظر 15 كتاب الحج، 51 باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذوا مناسككم"، ح 310. مَ: 1/ 943. وانظر: 5 كتاب المناسك، 78 باب في رمي الجمار، ح 1970. دَ: 2/ 495 - 496 وانظر 24 كتاب المناسك، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم. نَ: 5/ 269 - 270؛ حَم: 3/ 318، 337، 366، 378. =

الغائب" (¬1). 2 - وأما حال الإفتاء فله علامات، مثل ما ورد في حديث الموطأ والصحيحين عن عبد الله بن عمرو وعن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع على ناقته بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: لم أشعُرْ فحلقت قبل أن أنْحَر، فقال: "انحر ولا حرج"، ثم جاء آخر فقال: نحرت قبل أن أرمي، قال: "ارم ولا. حرج"، ثم أتاه آخر فقال: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، قال: "ارم ولا حرج". فما سئل عن شيء قُدَّم ولا أخَّر ممّا ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض إلّا قال: "افعل ولا حرج" (¬2). ¬

_ = وفي شرح مسلم: "لتأخذوا مناسككم". اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم. وهكذا وقع في رواية غير مسلم. وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته، وهي مناسككم فخذوها عنّي واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلّموها الناس. النووي: 9/ 45. (¬1) انظر 3 كتاب العلم، 37 باب ليبلغ العلمَ الشاهدُ الغائب. خَ: 1/ 34 - 35؛ 25 كتاب الحج، 132 باب الخطبة أيام منى، ح 1، 3. خَ: 2/ 213؛ 64 المغازي، 51 باب ثنا سعيد بن شرحبيل، ح 3. خَ: 5/ 94 - 95؛ انظر 15 كتاب الحج، 82 باب تحريم مكة، وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، ح 446. مَ: 1/ 987 - 988؛ انظر 7 كتاب الحج، 1 باب ما جاء في حرمة مكة، ح 809. تَ: 3/ 173 - 174. (¬2) انظر 20 كتاب الحج، 81 باب جامع الحج، ح 242. طَ: 1/ 421؛ انظر 15 كتاب الحج، حديث ابن عباس، 130 باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً، ح 1، 2. خَ: 2/ 190؛ 131 باب الفتيا على الدابة عند الجمرة، ح 1، 2، 3. خَ: 2/ 190؛ انظر 15 كتاب =

3 - وأما حال القضاء فهو ما يصدر حين الفصل بين المتخاصمين المتشادّين مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "أمسك يا زبير حتى يبلغ الماء الجَدْر ثم أرسله" (¬1). ومثل قضائه في خصومة الحضرمي والكندي في أرض بينهما الوارد في صحيح مسلم (¬2). فكلُ تصرُّفٍ كان بغير حضور خصمين ¬

_ = الحج، 57 باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي، أحاديث 327 - 334. مَ: 1/ 948 - 950. (¬1) انظر 42 كتاب المساقاة، 8 باب شرب الأعلى إلى الكعبين. خَ: 3/ 76 - 77؛ 53 كتاب الصلح، 12 باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى؛ حكم عليه بالحكم البين. خَ: 3/ 171؛ انظر 43 كتاب الفضائل، 36 باب وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، 129. مَ: 2/ 1829 - 1830؛ وانظر 28 كتاب الأقضية، 31 أبواب من القضاء، ح 3637. دَ: 4/ 51 - 52؛ انظر 13 كتاب الأحكام، 26 باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء، ح 1363. تَ: 3/ 644 - 645؛ انظر 49 كتاب آداب القضاة، 19 باب الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان. نَ: 8/ 238 - 239، 27 باب إشارة الحاكم بالرفق. نَ: 8/ 245؛ انظر 16 كتاب الرهون، 20 باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء، ح 2480. جَه: 2/ 829. ابن الطلاع: 469. (¬2) التخاصم بين الحضرمي، وهو في رواية الأشعث: جرير بن معدان، ويعرف بالخفشيش والكندي. أورده ابن الطلاع. أقضية الرسول: 454. وهو عند مسلم من رواية قتيبة بن سعيد عن أبي الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: "جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي. فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق. فقال رسول الله للحضرمي: "ألك بينة؟ " قال: لا. قال: "فلك يمينه". قال: يا رسول الله. إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، =

فليس بقضاء، مثل ما في حديث هند بنت عتبة المتقدم (¬1). ومن أمارات ذلك قول الخصم للرسول عليه الصلاة والسلام: اقضِ بيننا، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لأقضين بينكما". مثاله: ما في حديث الموطأ عن زيد بن خالد الجهني، قال: جاء أعرابي ومعه خصمه، فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال خصمه [وكان أفقه منه]: صدق، اقضِ بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم. وذكرا قضيتهما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأقضين بينكما بكتاب الله .. " (¬2) إلخ. ¬

_ = وليس يتورّع من شيء. فقال: "ليس لك منه إلا ذلك". فانطلق ليحلف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أدبر: "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض". انظر 1 كتاب الأيمان، 61 باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، ح 223. مَ: 1/ 123 - 124. وفي حديث مثله بعده، من رواية زهير بن حرب عن أبي الوليد، تسمية الخصمين: امرئ القيس بن عابس الكندي الشاعر - ويقال: هو خال أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف -، وربيعة بن عبد الله الحضرمي، ح 224. مَ: 1/ 124. الخطيب البغدادي. الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة: 427. (¬1) تقدم: 93/ 1. (¬2) انظر حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: 41 كتاب الحدود، 1 باب ما جاء في الرجم، ح 6. طَ: 2/ 822. انظر 40 كتاب الوكالة، 13 باب الوكالة في الحدود، ح 1. خَ: 3/ 65؛ 83 كتاب الأيمان والنذور، 3 باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ح 5. خَ: 7/ 218؛ 86 كتاب الحدود، 30 باب الاعتراف بالزنى. خَ: 8/ 24 - 25؛ 38 باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنى عند الحاكم. خَ: 8/ 30؛ 46 باب هل يأمر الإمام جلاداً (أو رجلاً) فيضرب الحد غائباً عنه. خَ: 8/ 34؛ انظر 29 كتاب الحدود، 5 باب من اعترف على نفسه بالزنا، ح 25. مَ: 2/ 1324 - 1325. انظر 85 =

وقد استقصى الإمام محمد بن فرج مولى ابن الطلاع القرطبي معظم أقضية رسول الله في كتاب ممتع. وقوله: حين شكت إليه حبيبة بنت سهل الأنصاري زوجة ثابت بن قيس، وذكرت أنها لا تحبّه، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أتردّين عليه حديقته؟ " قالت: كل ما أعطاني هو عندي، فقال رسول الله لثابت: "خذ منها". فأخذ حديقته وطلقها (¬1). وهذه الأحوال الثلاثة كلُّها شواهد التشريع، وليست التفرقة بينها إلا لمعرفة اندراج أصول الشريعة تحتها. والفتوى والقضاء كلاهما تطبيق للتشريع. ويكونان في الغالب لأجل المساواة بين الحكم التشريعي والحكم التطبيقي، بحيث تكون المسألة أو القضية جزئياً من القاعدة الشرعية الأصلية، بمنزلة لزوم ¬

_ = كتاب الحدود، 5 باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، ح 1429. تَ: 4/ 36 - 37؛ 8 باب ما جاء في الرجم على الثيب، ح 1433. تَ: 4/ 39 - 40؛ انظر 49 كتاب آداب القضاء، 22 باب صون النساء عن مجلس الحكم، ح 5407، 5408. نَ: 8/ 240 - 242؛ ابن الطلاع: 150. (¬1) انظر 68 كتاب الطلاق، 12 باب الخلع وكيف الطلاق فيه. خَ: 6/ 170؛ انظر 7 كتاب الطلاق، 18 باب في الخلع، ح 2227 - 2229. دَ: 2/ 667 - 670. انظر 27 كتاب الطلاق، 34 باب ما جاء في الخلع. نَ: 6/ 168 - 170؛ انظر 10 كتاب الطلاق، 22 باب المختلعة تأخذ ما أعطاها، ح 2056 - 2057. جَه: 1/ 663؛ انظر 29 كتاب الطلاق، 11 باب ما جاء في الخلع، ح 31. طَ: 2/ 564. ولفظه: باختلاف رواياته عند ابن الطلاع. أقضية الرسول في حكمه - صلى الله عليه وسلم - في الخلع: 374.

المقدمة الصغرى للكبرى في القياس. وقد يكونان لأجل عموم وخصوص وجهي بين الحكم التشريعي العام وبين حكم المسألة أو القضية بأن يكون المستفتي قد عرض لفعله عارض أوجب اندراجه تحت قاعدة شرعية، لا لكون الفعل نفسه مندرجاً تحت قاعدة شرعية، بمنزلة لزوم إحدى القضيتين للأخرى في قياس المساواة المنطقي بواسطة مقدمة غريبة (¬1). مثاله في الفتوى: النهي عن الانتباذ في الدُّبَّاء والحَنْتَم والمُزَفَّت والنَّقير (¬2)، فإن هذا النهي تعيّن كونه لأوصاف عارضة توجب تسرّع ¬

_ (¬1) المساواة - عند المناطقة: - عبارة عن صدق كل من المفهومين على جميع ما يصدق عليه الآخر. التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 3/ 727. وقياس المساواة عند المناطقة: هو ما يتركب من قضيتين، متعلقُ محمولِ أولاهما يكون موضوع الأخرى، كقولنا (أ) مُساوٍ لـ (ب) و (ب) مُساوِ لـ (ج)، فإنه يستلزم أن (أ) يكون مُساوياً لـ (ج) لكن لا لذاته بل بواسطة مقدمة أجنبية - وتكون حدودها مغايرة لحدود مقدمات القياس - وهي أن كل مساوي المساوي مساوٍ. ولهذا لم يتحقق ذلك الاستلزام إلا حيث تصدق هذه المقدمة، وحيث لا فلا؛ كقولنا (أ) نصفُ (ب) و (ب) نصف (ج) لم يلزم منه أن يكون (أ) نصفَ (ج) لأن نصف النصف لا يكون نصفاً. الخبيصي. شرح التهذيب: 223 - 224. (¬2) ورد النهي عن هذه الأربعة في أحاديث كثيرة في الكتب الستة، وعند الدارمي والإمام أحمد. وقد اختلفت صيغها. فمنها: ما جاء بالوجه الذي ذكره المؤلف. وربما ورد النقير أو المقيّر في: 3 كتاب العلم، 25 باب تحريض النبي وفد عبد القيس، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت. قال شعبة ربما قال: "النَّقير" وربما قال: "المقَيَّر". خَ: 1/ 30؛ وربما ورد "المقَيَّر" بدل "المزفّت" كما في 9 كتاب مواقيت الصلاة، 2 باب {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. خَ: 1/ 133. وربما قصر النهي عن "الدباء والمزفت" كما في 74 كتاب الأشربة، 8 باب =

الاختمار لهذه الأنبذة في بلاد الحجاز. فلا يؤخذ ذلك النهي أصلاً يُحرّم لأجله وضعُ النبيذ في دباءة أو حنتمة مثلاً لمن هو في قطر بارد. ولو قال بعض أهل العلم بذلك لعرَّض الشريعة للاستخفاف. وكذلك القول في الأقضية مثل: قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة للجار (¬1). فإن ذلك يُحمل على أن الراوي رأى جاراً قُضِي له بالشفعة ولم يعلم أنه شريك. ¬

_ = ترخيص النبي في الأوعية والظروف بعد النهي. عن إبراهيم. قلت للأسود: هل سألت عائشة أم المؤمنين عما يكره أن ينتبذ فيه؟ قالت: نهانا في ذلك أهل البيت أن ننتبذ في الدباء والمزفت. قلت: أما ذكَرَتْ الجرَّ والحَنتم؟ قال: إنما أحدّثك بما سمعت! أحدّث ما لم أسمع! ح 5. خَ: 6/ 244. وفي مسلم بيان وتفصيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - للأربع أوعية المنهي عنها جاء فيه: "وأنهاكم عن أربع: عن الدُّبَّاء والحَنتم والمزفّت والنَّقير". قالوا: يا نبي الله ما علمك بالنَّقير؟ قال: "بلى، جذع تنقُرُونه فتقذفون فيه من القُطَيعاء، ثم تصبون فيه من الماء، حتى إذا سكن غليانه شربتموه، حتى إن أحدكم ليضرب ابن عمه بالسيف". وانظر 10 كتاب الإيمان، 6 باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائعه، ح 26. مَ: 1/ 48 - 49. وورد عند مسلم ما لا يُحتاج معه إلى تأويل أو تعليل لأنه من باب نسخ نصّ بنصّ ففي صحيح مسلم نسخ لهذه الأحاديث كلها بما رواه بريدة عن أبيه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً"، وفي رواية: "وإن الظروف أو ظرفاً لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وكل مسكر حرام"، وفي أخرى: "فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً". 36 كتاب الأشربة، 6 باب النهي على الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ، وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكراً، ح 63 - 66. مَ: 2/ 1584 - 1585. (¬1) الشفعة: هي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه مِنْ يد مَنْ انتقلت إليه. وعرفها المالكية بأنها: استحقاق شريك في عقار مشاع أخذ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ما عاوض شريكه بثمنه أو قيمته بصيغة. والأحاديث فيها كثيرة مختلفة ومتنوعة. منها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أرض بيعت وليس لها شريك ولها جار، فقال: "الجار أحقّ بشفعتها"، وروي: "الجار أحق بسقَبه"، و: "الجار أحق بشفعته". انظر 37 كتاب الشفعة، 32 باب عرض الشفعة على صاحبها. خَ: 3/ 47؛ 90 كتاب الحيل، 15 باب احتيال العامل ليهدى له. خَ: 8/ 66؛ انظر 17 كتاب البيوع، 75 باب في الشفعة، ح 3516. دَ: 3/ 786؛ انظر 13 كتاب الأحكام، 32 باب ما جاء في الشفعة للغائب. تَ: 3/ 651؛ انظر 44 كتاب البيوع، 109 باب ذكر الشفعة وأحكامها. نَ: 7/ 320 - 321؛ انظر 17 كتاب الشفعة، 2 باب الشفعة بالجوار، ح 2495، 2496. جَه: 2/ 833 - 834؛ حَم: 3/ 303، 6/ 10، 390. ومن ذلك: حديث عمرو بن الشريد أن أبا رافع جاء إلى سعد بن أبي وقاص فقال: يا سعد، ابتع منّي بيتَيَّ في دارك. فقال سعد: والله ما أبتاعهما. فقال المسوّر بن مخرمة: والله لتَبْتَاعنَّهما. فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعَة. قال أبو رافع: لقد أُعطيتُ بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الجار أحق بسقبه" ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياه؛ انظر 36 كتاب الشفعة، 2 باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع. خَ: 3/ 47. وحديث جابر: "الجار أحق بشفعته يُنتَظر به، وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً". انظر 22 كتاب البيوع، 73 باب في الشفعة، ح 3518. دَ: 3/ 787 - 789. انظر 13 كتاب الأحكام، 32 باب الشفعة للغائب، ح 1369. تَ: 3/ 651؛ انظر 18 كتاب الشفعة، 2 باب الشفعة بالجوار، ح 2464. جَه: 2/ 833. وذكر محمد بن الحسن الشيباني قال: ذكر أبو عبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قضى أن لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منفعة ولا ركح ولا زهو". وأهل المدينة لا يقضون بالشفعة إلا للشريك المخالط. وعند الشافعي لا تثبت عنده =

4 - وأما حال الإمارة فأكثر تصاريفه لا يكاد يشتبه بأحوال الانتصاب للتشريع إلا فيما يقع في خلال أحوال بعض الحروب مِمَّا يحتمل الخصوصية، مثل: النهي عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية في غزوة خيبر (¬1). فقد اختلف الصحابة: هل كان نهيُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

_ = بالخلطة، وكذا بالجوار، وإنما هي حق للشريك فقط. وقصرها المالكية؛ لقضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما لم يقسم، وقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". انظر 36 كتاب الشفعة، 1 باب الشفعة فيما لم يقسم خَ: 3/ 46 - 47. وأورد الإمام مالك في ذلك حديث عبد الرحمن بن عوف: 35 كتاب الشفعة، 1 باب ما تقع فيه الشفعة، وقال بإثره: وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا. طَ: 2/ 713. وأوّلوا الجار في حديث عمرو بن الشريد بشريك أبي رافع، لأن أبا رافع كان شريكاً لسعد في البيتين. ولهذا دعاه للشراء منه. الشوكاني. نيل الأوطار: كتاب الشفعة 6/ 86 - 87. وأهل العراق يثبتون الشفعة للجار الملاصق وإن لم يكن شريكاً. وفي كتاب أبي عبيد: "أن النبي قضى بالشفعة للجار". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الجار أحق بسقَبه". ابن الطلاع. أقضية الرسول: 475 - 477. وقال أبو حنيفة: يقدم الشريك. فإن لم يكن وكان الطريق مشتركاً كدرب لا ينفذ، تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب، الأقرب فالأقرب. فإن لم يأخذوا؛ تثبت للملاصق من درب آخر خاصة. ابن قدامة. المغني: 7/ 436 - 437. (¬1) ووردت بهذا النهي أحاديث كثيرة مختلفة الصيغ. انظر 57 كتاب الخمس، 20 باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ح 3. خَ: 4/ 61 - 62؛ 64 كتاب المغازي، 38 غزوة خيبر، ح 2، 3، 28. خَ 5/ 72 - 73، 79؛ 67 كتاب النكاح، 31 باب نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخراً، ح 1. خَ: 6/ 129؛ 72 كتاب الذبائح، 28 باب لحوم الحمر الأنسية خَ: 6/ 229. انظر 162 كتاب النكاح، 3 باب نكاح المتعة، ح 30، 31، 32. مَ: 2/ 1027 - 1028؛ 34 كتاب الصيد، 5 باب تحريم لحم الحمر الإنسية. =

أكل الحمر الأهلية وأمرُه بإكفاء القدور التي طبخت فيها نهيَ تشريع، فيقتضي تحريم لحوم الحمر الأهلية في كل الأحوال؟ أو نهيَ إمرة لمصلحة الجيش (¬1)، لأنهم في تلك الغزوة كانت حمولتهم الحمير. ¬

_ = مَ: 2/ 1537 - 1540؛ وانظر 9 كتاب النكاح، 29 باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة، ح 1121. تَ: 3/ 429 - 430؛ 26 كتاب الأطعمة، 6 باب ما جاء في لحوم الحمر الأهلية. تَ: 4/ 254 - 255؛ انظر 26 كتاب النكاح، 71 باب تحريم المتعة. نَ: 125 - 126؛ 42 كتاب الصيد، 31 باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية. نَ: 7/ 202 - 204؛ انظر 27 كتاب الذبائح، 13 باب لحوم الحمر الوحشية. جَه: 2/ 1064 - 1066؛ انظر 6 كتاب الأضاحي، 21 باب في لحوم الحمر الأهلية، ح 1996 - 1997. دَي: 2/ 412؛ 11 كتاب النكاح، 16 باب النهي عن متعة النساء، ح 2201 - 2203. دَي: 2/ 462؛ حم: 3/ 115، 121، 164؛ 4/ 132. (¬1) استخرج العلماء من اختلاف الروايات وما لابسها أسباب النهي، ويظهر ذلك بالرجوع إلى حديث ابن أبي أوفى في ذلك. قال: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر. فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها. فلمّا غلت القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكفِئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئاً". وقال قوم: حرّمها لعارض مثل: سعيد بن جبير، وقال آخرون: حرّمها لذاتها ... والحاصل أن الصحابة اختلفوا في علّة النهي عن لحم الحمر، هل هو لذاتها أو لعارض؟. ابن حجر. الفتح: 57 كتاب فرض الخمس، 20 باب ما يصيب، من الطعام في أرض الحرب، ح 3 ع 3155. خ: 6/ 255 - 257. وفي كتاب المغازي أحاديث كثيرة بهذا المعنى عن ابن عمر وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله وابن أبي أوفى والبراء وابن عباس. وقد وقف ابن حجر عند حديث ابن أبي أوفى: "إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها لم تخمس". وذيله بقوله: "فتحدثنا أنّه إنّما نهى عنها لأنها لم تخمس؛ وقال =

وقد تقدم كلام الشهاب القرافي في الإذن بإحياء الموات (¬1). وقد قال رسول الله عليه السلام يوم حنين: "من قتل قتيلاً فله سلَبُه" (¬2). رواه مالك في الموطأ و [رجاله] رجال الصحيح. فجعل مالك ذلك تصرّفاً بالإمارة. فقال: لا يجوز إعطاءُ السَّلَب إلّا بإذن الإمام، وهو من النفل، وهو خارج من الخمس الذي هو موكول لاجتهاد أمير الجيش. وبذلك قال أبو حنيفة أيضاً. وقال الشافعي وأبو ثور وداود: لا يتوقّف ذلك على إذن الإمام، بل هو حق للقاتل (¬3). فرأوه تصرّفاً بالفتوى والتبليغ. 5 - وأمّا حالُ الهدي والإرشاد: فالهدي والإرشاد أعمّ من التشريع (¬4)؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يأمر وينهى. ¬

_ = بعضهم: نهى عنها البتة، لأنها كانت تأكل العذرة"؛ وعن ابن عباس: لا أدري أنَهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم؟ أو حرّم في يوم خيبر لحم الحمر الأهلية؟. ابن حجر. الفتح: 7/ 481 - 483؛ 9/ 653. وفي الصحيح: 72 كتاب الذبائح والصيد، 28 باب لحوم الحمر الإنسية، عن أنس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه جاءٍ فقال: أكلت الحمر. ثم جاءه جاءٍ فقال: أكلت الحمر. ثم جاءه جاءٍ فقال: أفنيت الحمر. فأمر منادياً فنادى في الناس: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحُوم الحُمر الأهلية فإنها رجس" فأكفئت القدور، وإنها لتفور باللحم". خَ: 6/ 230؛ ابن حجر. الفتح: 9/ 653 - 656. (¬1) راجع 91 - 92. (¬2) تقدم: 94/ 2. (¬3) تقدم: 96/ 1. (¬4) أردت من التشريع ما يؤذن به ظاهر الفعل النبوي أو القول من وجوب أو تحريم مع أن المقصود غير ذلك الحكم، وإلا فإن الهدي والإرشاد يدلان على مشروعية مّا، كما تقدم في آخر ديباجة الكتاب. اهـ. تع ابن عاشور.

وليس المقصود العزم، ولكن المقصود الإرشاد إلى طرق الخير. فإن المرغّبات، وأوصاف نعيم أهل الجنة، وأكثر المندوبات من قبيل الإرشاد. فأنا أردت بالهدي والإرشاد هنا خصوصَ الإرشاد إلى مكارم الأخلاق وآداب الصحبة، وكذلك الإرشاد إلى الاعتقاد الصحيح. وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عبيدُكم خَوَلُكم جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليُلْبسْه مما يلبس، ولا يكلَّفه من العمل ما لا يطيق، فإن كلَّفه فليعنه". قال الراوي: "لقيت أبا ذر وغلاماً له، وعلى غلامه حلّة، فقلت لأبي ذر: ما هذا؟ فقال: تعال أحدثْك إني ساببت عبداً لي، فعيّرته بأمه، فشكاني إلى رسول الله فقال رسول الله: أعيّرته بأمه يا أبا ذر؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية، عبيدكم خَوْلُكم ... " (¬1) الحديث. 6 - وأما حال المصالحة بين الناس فهو حال يخالف حال القضاء. وذلك مثل تصرّف رسول الله عليه الصلاة والسلام حين ¬

_ (¬1) انظر 3 كتاب الإيمان، 22 باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك. خَ: 1/ 13؛ 49 كتاب العتق، 15 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: العبيد إخوانكم، ح 1. خَ: 3/ 123؛ 78 كتاب الأدب، 44 باب ما ينهى من السباب واللعن، ح 57. خَ: 7/ 85؛ انظر 27 كتاب الأيمان، 10 باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، 40. مَ: 2/ 1283؛ انظر 28 كتاب البر والصلة، 29 باب ما جاء في الإحسان إلى الخدم، ح 1945. تَ: 4/ 334؛ انظر 33 كتاب الأدب، 10 الإحسان إلى المماليك، ح 3690. جَه: 2/ 1216؛ حَم: 5/ 158: 161.

اختصم إليه الزبير وحميد الأنصاري في شِراج الحَرّة (¬1) كانا يسقيان به. فقال رسول الله للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك". فلما غضب حميد الأنصاري قال رسول الله للزبير: "اسق ثم احبس حتى يبلغ الماء الجَدْر" (¬2). قال عروة بن الزبير: وكان رسول الله أشار برأي فيه سعة للزبير وللأنصاري، ثم استوعى رسولُ الله للزبير حقَّه في صريح الحكم (¬3). ومثل قضية كعب بن مالك حين طالب عبد الله بن أبي حدرد بمال كان له عليه، فارتفعت أصواتهما في المسجد، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا كعب وأشار بيده، أي ضع الشطر. فرضي كعب، فأخذ نصف المال الذي له على ابن أبي حدرد (¬4). ¬

_ (¬1) الشراج - بكسر الشين المعجمة آخره جيم - جمع شَرَج (بالتحريك)، وهو: مسيل الماء. والحَرَّة بفتح الحاء وتشديد الراء أرض متسعة تحيط بالمدينة. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) الجَدّر هو محيط الحوض باصل النخلة. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) تقدم ذكر الحديث: 102/ 1. (¬4) انظر 8 كتاب الصلاة، 83 باب رفع الصوت في المساجد، ح 2. خَ: 1/ 121؛ 44 كتاب في الخصومات، 4 باب كلام الخصوم بعضهم مع بعض، ح 2. خَ: 3/ 90؛ 53 كتاب الصلح، 14 باب الصلح بالدين والعين. خَ: 3/ 172؛ انظر 22 كتاب المساقاة، 4 باب استحباب الوضع من الدين، ح 20. مَ: 2/ 1192؛ انظر 18 كتاب الأقضية، 12 باب الصلح، ح 3595. دَ: 4/ 20 - 21؛ انظر 49 كتاب آداب القضاء، 20 باب حكم الحاكم في داره. نَ: 8/ 239؛ انظر 18 كتاب البيوع، 49 باب إنظار المعسر، ح 2590. ديَ: 2/ 574؛ حم: 6/ 390؛ ابن الطلاع. أقضية الرسول: 489. وتستخرج من هذا الحديث فوائد كثيرة. منها: جواز المطالبة بالدَّيْن في =

7 - وأما حال الإشارة على المستشير فمثل: ما في حديث الموطأ: "أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله، فأضاعه الرجل الذي أعطاه عمر إياه ورام بيعه، فرام عمر أن يشتريه، وظنّ أن صاحبه بائعه برُخص، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله: "لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم [واحد]، فإن الراجع في صدقته كالكلب يعود في قيئه" (¬1). فهذه إشارة من رسول الله على عمر. ولم يعلم أحد أن رسول الله نهى عن مثل ذلك نهياً علناً. فمن أجل ذلك اختلف العلماء في محمل النهي. فقال الجمهور: هو نهي تنزيه كي لا يتبع الرجل نفسه ما تصدق به فجعله لله. وحُمل على هذا قول مالك في الموطأ (¬2) والمدونة (¬3) لجزمه بأن ذلك البيع لو وقع لم ¬

_ = المسجد، والشفاعة إلى صاحب الحق، والإصلاح بين الخصوم، وحسن التوسط بينهم، وقبول الشفاعة في غير معصية، وجواز الإشارة واعتمادها. النووي. شرح مسلم: 10/ 220. (¬1) ورد الحديث بصيغ مختلفة. انظر 17 كتاب الزكاة، 26 باب اشتراء الصدقة والعود فيها، ح 49. طَ: 1/ 282؛ وانظر 24 كتاب الزكاة، 59 باب هل يشتري صدقته، ولا بأس أن يشتري صدقته غيره. خَ: 2/ 134؛ وانظر 24 كتاب الهبات، 1 باب كراهة شراء الإنسان ما تصدّق به ممن تصدّق عليه. مَ: 2/ 1239؛ حَم: 1/ 40، 54؛ 2/ 259، 289، 430، 492. (¬2) قال مالك - وقد سئل عن رجل تصدّق بصدقة، فوجدها مع غير الذي تصدّق بها عليه تباع: أيشتريها؟ فقال -: تركها أحب إليّ. انظر 17 كتاب الزكاة، 26 باب اشتراء الصدقة والعود فيها، ذيل ح 50. طَ: 1/ 282. وعلّة منع النبي - صلى الله عليه وسلم - عُمُر من اشتراء الفرس ... صرف النفس عن اتباع ما جادت به لوجه الله تعالى، ليكون ذلك أعرق في إخلاص العَطِيَّة لله، وسدًا لذريعة الندامة على الخير. ولذلك اختلف في أن هذا النهي نهي تحريم أو نهي تنزيه. ابن عاشور. كشف المغطّى: 159 - 161. (¬3) قال مالك في المدونة: لا يشتري الرَّجل صدقته لا من الذي تصدق بها =

يفسخ. وحمله في الموازية (¬1) على التحريم. ولم يقل إن البيع يفسخ، مع أنه لو كان نهي تحريم لأوجب فسخَ البيع، لأن أصل المذهب أن النهي يقتضي الفساد إلّا لدليل. وعلى هذا المحمل يُحمل عندي حديثُ بريرة حين رام أهلها بيعها، ورغبت عائشة في شرائها، واشترط أهلُها أن يكون ولاؤها لهم، وأبت عائشة ذلك، وأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك كالمستشيرة. فقال لها: "لا عليك أن تشترطي لهم الولاء" (¬2). وفي رواية: "خذيها ¬

_ = عليه ولا من غيره. المدونة: 4/ 349. وقال ابن القاسم: إن من تصدق بصدقة على رجل ثم وجدها بيد غيره فابتياعه إياها مكروه، لأنه كان أزال ملكه عنها لله عز وجل، وهو مضارع للرجوع في الصدقة من هذا الوجه. الباجي. المنتقى: 2/ 181. (¬1) نقل ابن المواز اختلاف المذهب. فمن قائل بالكراهة كراهة تنزيه، ومن قائل بكراهته كراهة تحريم. فمن ذهب إلى التنزيه لم يفسخ البيع، ومن ذهب إلى التحريم فسخه؛ لأن مقتضى النهي الفساد. وتعقب القول بالفساد بقوله: وفيه نظر، لأن عدم الفسخ قد يحمل عليه حتى على القول بكراهة التحريم. وذلك مراعاة للخلاف. الرهوني. الحاشية: 7/ 236. وفي الموازية: أجاز بعض العلماء شراء الرجل صدقته وكرهه بعضهم. فإن نزل عندنا لن نفسخه. وبهذا قال أبو محمد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال الشيخ أبو إسحاق: يفسخ الشراء؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وزاد بعد ذلك قوله: ولا يشتريها من المتصدق عليه ولا يدسُّ من يشتريها منه. ووجهه أن المتصدق عليه ربما سامحه في بعض الثمن لما تقدم من صدقته عليه، والأجنبي لا يتوقع ذلك منه غالباً. ولو وجد ذلك منه لما كان في ذلك معنى الرجوع في الصدقة. الباجي. المنتقى: 2/ 181. (¬2) في رواية ابن عمر عن عائشة: "لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق". انظر 38 كتاب العتق والولاء، 10 باب مصير الولاء لمن أعتق، ح 18. طَ: 2/ 781؛ انظر 34 كتاب البيوع، 73 باب إذا اشترط شروطاً في البيع =

واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" (¬1). ففعلت عائشة ذلك. ثم خطب، رسول الله في الناس خطبة، قال فيها: "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟! [ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. قضاء الله أحق، وشرط الله أحق]. وإنما الولاء لمن أعتق" (¬2). فلو كان قوله لعائشة تشريعاً ¬

_ = لا تحل، ح 2. خَ: 3/ 29؛ انظر 20 كتاب العتق، 2 باب الولاء لمن أعتق، ح 5. مَ: 2/ 1141. (¬1) أخرجه مالك من رواية هشام بن عروة عن أبيه: 38 كتاب العتق والولاء، 10 باب مصير الولاء لمن أعتق، ح 17. طَ: 2/ 780؛ وبلفظ: "اشتريها وأعتقيها" عن عمرة بنت عبد الرحمن: 38، باب 10، ح 19. طَ: 1/ 781؛ ومن حديث عروة: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء"؛ كتاب العتق، 2 باب الولاء لمن أعتق، ح 8. مَ: 2/ 1143. (¬2) انظر 8 كتاب الصلاة، 70 باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، حديث عائشة، وهو بلفظ: "فليس له، وإن اشترط مائة مرة". خَ: 1/ 117؛ 34 كتاب البيوع، 67 باب البيع والشراء مع النساء، وهو بلفظ: "فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق". خَ: 3/ 27؛ 50 كتاب المكاتَب، 1 باب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم، ولفظه: "فهو باطل، شرط الله أحق وأوثق". خَ: 3/ 126؛ 2 باب ما يجوز من شروط المكاتب: "فليس له، وإن شرط مائة مرة. شرط الله أحق وأوثق". خَ: 3/ 127؛ 54 كتاب الشروط، 13 باب الشروط في الولاء، وهو بلفظ: "فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". خَ: 3/ 177؛ 17 باب المكاتب وما لا يحل من الشروط، ح 1: "فهو باطل وإن شرط مائة مرة"، ح 2: "فليس له وإن اشترط مائة شرط". خَ: 3/ 184. انظر 20 كتاب العتق، 2 باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 6: "فليس له وإن اشترط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق"؛ 8: "فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق". مَ: 2/ 1142، 1143؛ انظر =

أو فتوى لكان الشرط ماضياً، ولَعَارَض قوله في الخطبة: "إنما الولاء لمن أعتق". ولكنه كان إشارة منه على عائشة بحق شرعي حتى تسنَّى لها التحصيل عليه مع حصول رغبتها في شراء بريرة وعتقها. وهذا منزع في فهم هذا الحديث هو من فتوحات الله عليَّ. وبه يندفع كل إشكال حيَّر العلماء في محمل هذا الحديث (¬1). وعلى مثل هذا المحمل حمل زيد بن ثابت نهي رسول الله عن ¬

_ = 23 كتاب العتق، 2 باب بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، ح 3929. "فليس له وإن شرط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق". دَ: 4/ 248؛ انظر 31 كتاب الوصايا، 7 باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت، 2124: "فليس له وإن اشترط مائة مرة". تَ: 4/ 436؛ انظر 27 كتاب الطلاق، 31 باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك: "فهو باطل وإن كان مائة شرط". نَ: 6/ 164، 165؛ 44 كتاب البيوع، 85 باب بيع المكاتَب: "فليس له وإن اشترط مائة شرط. وشرط الله أحق وأوثق"، 86 باب المكاتب يباع قبل أن يقضي من كتابته شيئاً. "فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". نَ: 7/ 305، 306؛ انظر 38 كتاب العتق، 10 باب مصير الولاء لمن أعتق، ح 17: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق" ... طَ 2/ 780 - 781؛ حَم: 6/ 82، 213، 272. (¬1) راجع الإيرادات على الحديث وتأويلات: "اشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق". استشكلوا صدور الإذن منه - صلى الله عليه وسلم - في البيع على شرط فاسد. واختلف العلماء في رواية الحديث ومعناه. ومما ورد من ذلك أن هشام بن عروة روى الحديث عن أبيه بالمعنى. وضعف الشافعي رواية حديث هشام المصرحة بالاشتراط، لانفراده بها دون أصحاب أبيه. وروايات غيره قابلة للتأويل. وحمل بعضهم "اشترطي" على الإباحة على جهة التنبيه على أنه لا ينفعهم؛ فوجوده وعدمه سواء. الزرقاني. شرح الموطأ: 4/ 91 - 93؛ الكاندهلوي. أوجز المسالك: 10/ 38.

بيع الثمر قبل بدوِّ صلاحه. ففي صحيح البخاري عن زيد: كان الناس في عهد رسول الله يبتاعون الثمار، فإذا جذّ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمرَ الدُّمان، أصابه مُراض، أصابه قُشام: عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة: "فإمَّا لا فلا تتبايعوا حتى يبدوَ صلاحُ الثمر" (¬1). قال زيد بن ثابت: كالمشورة يشير بها عليهم لكثرة خصومتهم (¬2) اهـ. 8 - وأما حال النصيحة فمثاله ما في الموطأ والصحيحين عن النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد نحَلَ النعمان ابنه غلاماً من ماله دون بقية أبنائه، فقالت له زوجُه عمرة بنت رواحة، وهي ¬

_ (¬1) و (¬2) حديث أنس: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تُزْهِي"، قيل: يا رسول الله وما تُزْهي؟ قال: "حتى تحمر". قال البخاري: هذا طرف من الحديث: 24 كتاب الزكاة، 58 باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه؛ والحديث كامل في: 34 كتاب البيوع، 87 باب إذا باع الثمار قبل بدو صلاحها. خَ: 3/ 34؛ وانظر 22 كتاب المساقاة، 3 باب وضح الجوائح، 15. مَ: 2/ 1190؛ وانظر 44 كتاب البيوع، 29 باب شراء الثمار قبل أن يبدو صلاحها على أن يقطعها ولا يتركها إلى أوان إدراكها، 4524. نَ: 7/ 264؛ وانظر 31 كتاب البيوع، 8 باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ح 11. طَ: 2/ 618. وقد اختلف الأئمة في حكم البيع قبل بدو الصلاح على مذاهب. فمنهم من قال ببطلان البيع للنهي مطلقاً، وهم: ابن أبي ليلى، والثوري؛ ومنهم من أجاز البيع مطلقاً، ولو شرط المشتري التبقية، وهو: قول يزيد بن حبيب؛ ومنهم من أجاز البيع بشرط القطع، وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور ورواية عن مالك؛ ومنهم من قال بصحة البيع إن لم يشترط التبقية، حاملاً النهي على بيع الثمار قبل أن توجد أصلاً، وهو رأي أكثر الحنفية؛ ومنهم من يحمل الحديث على ظاهره، جاعلاً النهي للتنزيه لا للتحريم. اهـ. ملخص من كلام ابن حجر. الفتح: 4/ 396.

أم النعمان: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله. فذهب بشير وأعلم رسول الله بذلك. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكلَّ ولدك نحلت مثلَه؟ " قال: لا، قال: "لا تشهدني على جور" (¬1) وفي رواية: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ " قال: نعم، قال: "فلا إذن" (¬2). فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: إن رسول الله نهى بشيراً عن ذلك نظراً إلى البر والصلة لأبنائه، ولم يرد تحريمه ولا إبطال العطية. ولذلك قال مالك: يجوز للرجل أن يهب لبعض ولده ماله. وما نظروا إلّا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما لم يشتهر عنه هذا النهي علمنا أنه نهيُ نصيحة لكمال إصلاح أمر العائلة، وليس تحجيراً. ويؤيّد ذلك ما في بعض روايات الحديث أنه قال: "لا، أَشهِدْ غيري" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر 36 كتاب الأقضية، 33 باب ما لا يجوز من النحل، ح 39. طَ: 2/ 752؛ انظر ومن رواية ابن شهاب قال: "لا فارجعه": 51 كتاب الهبة، 12 باب الهبة للولد. خَ: 3/ 134؛ انظر الحديث بروايات عديدة: منها رواية الشعبي عن النعمان بن بشير. 24 كتاب الهبات، 3 باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، ح 16 مَ: 2/ 1243؛ قال رسول الله: "فارتجعه"، ح 9؛ ومنها بلفظ: "فاردده"، ح 10. مَ: 2/ 1241 - 1242؛ ومنها قال رسول الله: "فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور"، ح 14 مَ: 2/ 1243؛ وبلفظ: "فلا أشهد على جور"، و"لا تشهدني على جور"، ح 15، 16. مَ: 2/ 1243؛ وورد أيضاً بلفظ "لا، اتقوا الله واعدلوا في أولادكم"، ح 13. مَ: 2/ 1243؛ وبلفظ "لا، فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق"، ح 19. مَ: 2/ 1244. (¬2) ومن طريق إسحاق بن إبراهيم ويعقوب الدورقي، انظر 24 كتاب الهبات، 3 باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، ح 17. مَ: 2/ 1244. وورد بألفاظ كثيرة أخرى عند النسائي وأحمد وابن حبان وغيرهم. (¬3) حديث النعمان هذا بلفظه، كما هو وارد عند البخاري: 51 كتاب الهبة. 13 باب الإشهاد في الهبة. خَ: 3/ 134. وقد أورده مسلم بألفاظ مختلفة تباينت بها النقول: 24 كتاب الهبات، 3 باب كراهة تفضيل بعض الأولاد =

وذهب طاوُس وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وسفيان وداود بن علي إلى تحريم مثل هذه النِّحلة؛ وقوفاً منهم عند ظاهر النهي [من غير غوص إلى المقصد] (¬1). ¬

_ = في الهبة. مَ: 2/ 1241 - 1244؛ وكذلك أورده النسائي من طرق كثيرة مختلفة: 31 كتاب النحل، 1 باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل. نَ: 6/ 258 - 262. (¬1) هذه الزيادة عدل عنها المؤلف وضرب عليها عند مراجعته لـ ط (1). انظر أصلها. ط الاستقامة: 34. ورد تفصيل الأحكام المستنبطة من هذا الحديث معزوة إلى أصحابها مع ذكر الأدلة عليها. فمن الأئمة من أوجب التسوية في العطية بين الأولاد بما دلت عليه هذه الروايات من معنى واحد كطاوس، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، والبخاري، وبعض المالكية. والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة. وعن أحمد: تصح، وعنه: يجوز التفاضل لسبب، كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين. وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الاضرار. واحتجوا أيضاً بأنها مقدمة لواجب، لأن قطع الرحم والعقوق محرمان. فالمؤدي إليهما حرام. وقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض المالكية والشافعية: العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث لأنه حظ الأنثى لو أبقاه الواهب حتى مات. وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى. وفارق الإرث بأن الوارث راضٍ بما فرض الله له بخلاف هذا، وبأن الذكر والأنثى إنما يختلفان في الميراث بالعصوبة، أما بالرحم المحددة فهما فيها سواء كالإخوة والأخوات من الأم. والهبة للأولاد أُمر بها صلةً للرحم، وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهذا القول. واستأنسوا له بحديث ابن عباس رفعه: "سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء". وقال الجمهور: التسوية مستحبة، فإن فضل بعضاً صح وكره، وندبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع حملاً للأمر على الندب، والنهي على التنزيه ... ابن عبد البر. التمهيد: 7/ 223 - 243. الزرقاني على الموطأ: 3/ 320. =

ومن هذا أيضاً حديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم: أنها ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها. فقال لها رسول الله: "أمّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك" (¬1) لا يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتزوج برجل فقير. ولكنها استشارت رسول الله فأشار عليها بما هو أصلح لها. 9 - وأما حال طلب حمل النفوس على الأكمل من الأحوال فذلك كثير من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه، الراجعة إلى تكميل نفوس أصحابه، وحملِهم على ما يليق بجلال مرتبتهم في الدين، من الاتصاف بأكمل الأحوال، ممّا لو حُمل عليه جميع الأمة لكان حرجاً عليهم. وقد رأيت ذلك كثيراً في تصرّفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت في غفلة بعض العلماء عن هذا الحال من تصرّفاته وقوعاً في أغلاط فقهية كثيرة، وفي حمل أدلّة كثيرة من السنة على غير محاملها. وبالاهتداء إلى هذا اندفعت عنّي حيرة عظيمة في تلك المسائل. فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه مشرعاً لهم بالخصوص. فكان يحملهم على أكمل الأحوال: من شدّ أواصر الأخوّة الإسلامية بأجلى مظاهرها، والإغضاء عن زخرف هذه الدنيا، وألّا يغال في الإقبال على الدين وفهمه، لأنهم أُعِدُّوا ليكونوا حملة هذا الدين وناشري لوائه. وقد نوّه الله تعالى بهم في آية سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ = وحديث ابن عباس المذكور ضعيف، في إسناده سعيد بن يوسف اليمامي ضعيف. الطبراني: المعجم الكبير: 11/ 280، ع 11997؛ ابن عدي. الكامل: 3/ 1217؛ البيهقي. الكبرى: 6/ 177. (¬1) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة. 18 كتاب الطلاق، 6 باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 36. مَ: 2/ 1114. وله صلة بحديث: "لا يخطب المسلم على خطبة أخيه"، وما ذكر في ذلك من أحكام. انظر 26 تع 2.

وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬1) الآية. ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم" (¬2)، وقوله: "لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصِيفَهُ" (¬3). وقوله في مرض سعد بن أبي وقاص في مكة في عام الفتح: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم لكن البائسُ سَعْدُ بن خولة (¬4) يرثي له رسول الله أن مات بمكة"؛ لأنه طلب لهم الكمال في حالي الحياة والممات، وإن كان موت المهاجر بمكة لا ينقض هجرته (¬5). ¬

_ (¬1) الفتح: 29. (¬2) حديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". رواه عبد بن حميد عن ابن عمر في مسنده. وابن عدي في الكامل بإسناده عن نافع عن ابن عمر، ورواه البيهقي في المدخل من حديث عمر ومن حديث ابن عباس. ولعل معناه مقتبس من قوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، ويقويه: "العلماء ورثة الأنبياء". أخرجه الدراقطني في الفضائل، وابن عبد البر من طريقه من حديث جابر. وصرح بأن إسناده لا تقوم به الحجة. وقال البزار: منكر لا يصح. وقال فيه البيهقي: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة. ملا علي قاري. شرح الشفا: 3/ 689 - 690. (¬3) حديث أبي سعيد الخدري: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق ... ". وقد ورد من طرق كثيرة؛ انظر 62 كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، 5 باب حدثنا الحميدي ومحمد بن عبد الله. خَ: 4/ 191؛ وانظر 44 كتاب فضائل الصحابة، 54 باب تحريم سب الصحابة، ح 222. مَ: 2/ 1967؛ حَم: 3/ 61؛ أحمد بن حنبل. فضائل الصحابة، الحديث الخامس: 1/ 50 - 51. (¬4) هو سعد بن خولة القرشي العامري، من بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤي. قال ابن هشام: هو فارس من اليمن حالف بني عامر. توفي في حجة الوداع. ابن حجر. الإصابة: 2/ 24، ع 3145. (¬5) انظر حديث شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه: 32 كتاب الجنائز، 37 باب =

وأمثلة هذا الحال كثيرة. ففي كتاب اللباس من صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال: "أَمَرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن آنية الفضة، وعن المياثر (¬1) الحمر والقَسِّية والإستبرق والديباج والحرير" (¬2). فجَمَع مأمورات ومنهيات مختلطة. بعضها مما عُلم وجوبه في مثل نصر المظلوم مع القدرة (¬3)، ¬

_ = رثى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة. خَ: 2/ 82 - 83؛ 64 كتاب المغازي، 77 باب حجة الوداع، ح 16 خَ: 5/ 127 - 128؛ 80 كتاب الدعوات، 43 باب الدعاء يرفع الوباء والوجع، ح 2 خَ: 7/ 160؛ انظر 12 كتاب الوصايا، 2 باب ما لا يجوز للوصي في ماله، 2864. دَ: 3/ 284؛ انظر 31 كتاب الوصايا، 1 باب ما جاء في الوصية بالثلث 2116. تَ: 4/ 430؛ 37 كتاب الوصية، 3 باب الوصية في الثلث، لا تتعدى، ح 4. طَ: 2/ 763. (¬1) المياثر جَمعَ مِيثرة بكسر الميم: فِراش صغير بقدر الطنفسة تحشى بقطن، ويجعلها الراكب على الرحل تحته فوق الرحل لتكون ألين له. والقَسَّية بفتح القاف وتشديد السين المهملة: ثياب، واحدها قَسِّي، ثياب مصرية فيها أضلاع ناتئة كالأترج، من حرير. والإستبرق: ثياب من حرير غليظ. والديباج: ثياب رقيقة من حرير. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) ورد الحديث بغير هذا الترتيب مع اختلاف قليل في اللفظ. انظر 77 كتاب اللباس، 45 باب خواتيم الذهب: "نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبع: نهى عن خاتم الذهب - أو قال: حلقة الذهب - وعن الحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقَسِّي، وآنية الفضة؛ وأمرنا بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار القسم، ونصر المظلوم". خَ: 7/ 50 - 51. (¬3) دليله من الكتاب قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} النساء: 148، قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} =

وتحريمُه في مثل الشرب في آنية الفضة (¬1). وبعضها ممّا علم عدم وجوبه في الأمر مثل تشميت العاطس وإبرار المقسم، أو عدم تحريمه في النهي مثل المياثر والقَسِّية. فما تلك المنهيات إلّا لأجل تنزيه أصحابه عن التظاهر بمظاهر البذخ والفخفخة للترفه وللتزين بالألوان الغريبة، وهي الحمرة وبذلك تندفع الحيرة في وجه النهي عن كثير ممّا ذكر في هذا الحديث، ممّا لم يهتد إليه الخائضون في شرحه. ويشهد لهذا ما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب أنه قال: ¬

_ = الشورى: 39، ومن السنة حديث البراء المتقدم: "أمرنا النبي بسبع ... " وجعل منها: "نصر المظلوم". قال ابن حجر: هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح. ويتعين أحياناً على من له القدرة عليه وحده، إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر. فلو علم وغلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور. فلو تساوت المفسدتان تخير. ابن حجر. الفتح: باب نصر المظلوم، ح 2445، 2446: 5/ 99. (¬1) حديث البراء المتقدم، وحديث حذيفة: أنه استقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أنّي نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول لم أفعل هذا. ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة". انظر: 70 كتاب الأطعمة، 29 باب الأكل في إناء مفضض. خَ: 6/ 207؛ وانظر: 37 كتاب اللباس والزينة، 2 باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، ح 4. مَ: 2/ 1637. وكذلك عند مسلم أيضاً حديث أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". 37 كتاب اللباس والزينة، 1 باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، ح 1 مَ: 2/ 1634.

"نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القَسِّي، وعن لبس المُعَصفَر، وعن تختّم الذهب، وعن القراءة في الركوع والسجود، ولا أقول نهاكم" (¬1) يعني أن بعض هذه المنهيات لم ينهَ عنها جميعَ الأمة بل خصَّ بالنهي علياً. ومن الأمثلة حديث أبي رافع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجار أحقُّ بِصَقَبه" (¬2) أي ما يليه، أي: أحق بشرائه إذا باعه جاره. فما هو إلا لحمل أصحابه على المواساة والمؤاخاة، ولذلك جعل الجار منهم أحق بالشفعة لأجل الصَّقَب، أي القرب. ولولا كلمة (أحق) لجعلنا الحديث لمجرد الترغيب. فلمّا وجدنا كلمة أحق علمنا أنه يعني: [أن] الجار من الصحابة أحق بشفعة عقار جاره، فلا تعارض بينه وبين حديث جابر: أن رسول الله قال: "الشفعة في ما لم يقسم، فإذا حُدّدت الحدود وصرِّفت الطرق فلا شفعة" (¬3). وكذلك حديث الموطأ والصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع أحدُكم جارَه خشبةً يغرزها في جداره" ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم (¬4). فحمل ذلك أبو هريرة على التشريع، وحمله مالك على ¬

_ (¬1) انظر 26 كتاب اللباس، 11 باب من كرهه، 4044 - 4046. دَ: 4/ 322 - 323. (¬2) تقدمت الإشارة إلى الحديث وتخريجه: 106/ 1. (¬3) تقدم في التعليق نفسه. (¬4) انظر 36 كتاب الأقضية، 26 باب القضاء في المرفق، ح 32. طَ: 2/ 745؛ 46 كتاب المظالم، 20 باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره. خَ: 3/ 102؛ 22 كتاب المساقاة، 29 باب غرز الخشب في جدار الجار، ح 136. مَ: 2/ 1230.

معنى الترغيب، فقال في الموطأ: أن لا يقضي على الجار بذلك (¬1)، أي: لأنه يخالف قاعدة إطلاق تصرّف المالك في ملكه، وأن لا حق لغيره فيه. وعلى هذا النحو يحمل حديث رافع بن خديج عن عمه ظُهير بن رافع أنه قال: "لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان بنا رافقاً". قال رافع: قلت: ما قال رسول الله فهو حق. قال: دعاني رسول الله فقال: "ما تصنعون بمحاقلكم؟ " قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير؟ فقال: "لا تفعلوا، ازرَعوها أو أزرِعوها أو أمسكوها". قال رافع: قلت سمعاً وطاعة (¬2). فتأوله معظم العلماء على معنى أن رسول الله أمر أصحابه أن يواسي بعضهم بعضاً. ولذلك ترجم البخاري هذا الحديث بقوله: باب ما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمرة (¬3). 10 - وأما حال تعليم الحقائق العالية فذلك مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاصةِ أصحابه. ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة، 36 كتاب الأقضية، 26 باب القضاء في المرفق. وفيما رواه ابن نافع عن مالك أن ذلك على وجه المعروف والترغيب في الوصية بالجار، ولا يقضى به. وقال ابن القاسم: لا ينبغي له أن يمنعه ولا يقضى به عليه. وظاهر الأمر عند مالك وأكثر أصحابه أنه على الوجوب، ولكنه يعدل عنه بالدليل. وبذلك قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: هو على الوجوب إذا لم يكن في ذلك مضرة بيِّنة على صاحب الجدار. وبه قال أحمد. الباجى. المنتقى: 6/ 43. (¬2) تقدم ذكره وتخريجه: 68/ 3. (¬3) تقدم ذكره: 68/ 2.

ومثاله ما روى أبو ذر، قال: قال لي خليلي: "يا أبا ذر أتبصر أُحُدًا؟ " قلت: نعم. قال: "ما أحب أن لي مثل أُحُد ذهباً أنفقه كُلَّهُ إلّا ثلاثة دنانير" (¬1). فظن أبو ذر أن هذا أمر عام للأمة، فجعل ينهى عن اكتناز المال. وقد أنكر عليه عثمان رضي الله عنه قول ذلك كما سيجيء (¬2). 11 - وأما حال التأديب فينبغي إجادة النظر فيه؛ لأن ذلك حال قد تحف به المبالغة لقصد التهديد. فعلى الفقيه أن يميز ما يناسب أن يكون القصدُ منه بالذات التشريعَ، وما يناسب أن يكون القصد منه بالذات التوبيخَ والتهديدَ، ولكنه تشريع بالنوع أي بنوع أصل التأديب. ومثال ذلك ما في الموطأ والصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمرَ بحطب فيُحطبَ، ثم آمُرَ بالصلاة فيُؤَذّن لها، ثم آمرَ رجلاً فيؤمَّ الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأُحرِّقَ عليهم بيوتَهم، والذي نفسي بيده لو يعلم ¬

_ (¬1) هذا ما حدث به الأحنف بن قيس، وقد لقي أبا ذر، فقال له: قال لي خليلي. قال: قلت: من خليلك؟ فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: "يا أبا ذر أتبصر أحُداً؟ " قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسلني في حاجة له، قلت: نعم. قال: "ما أحبّ أنَّ لي مثلَ أحُد ذهباً أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا. لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله". 24 كتاب الزكاة، 4 باب ما أدّي زكاته فليس بكنز، ح 3. خَ: 2/ 112؛ 81 كتاب الرقاق، 14 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحب أن لي مثل أحُد ذهباً". خَ: 7/ 178؛ وبمثل الرواية الأولى: 12 كتاب الزكاة، 10 باب في الكنازين للأموال والتغليظ عليهم، ح 34. مَ: 1/ 689 - 690. (¬2) انظر بعد: 456 - 457.

أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو مِرماتين حسنتين (¬1) لشهد العِشاء" (¬2). فلا يُشتَبَهُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليحرَّق بيوت المسلمين لأجل شهود صلاة العشاء في الجماعة، ولكن الكلام سيق مساق التهويل في التأديب، أو أن الله أطلعه على أن أولئك من المنافقين، وأذن له بإتلافهم إن شاء. ومنه أيضاً ما ورد في صحيح البخاري عن أبي شريح قال: قال رسول الله: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، [والله لا يؤمن] ". فقلنا: ومن هو يا رسول الله؟ قال: "من لا يأمَن جارُه بوائقَه" (¬3)، فخرج ¬

_ (¬1) المرماة، بكسر الميم: ما بين ظلفي الشاة من اللحم من الساقين، ولذلك ثني في الحديث. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) انظر 8 كتاب صلاة الجماعة، 1 باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، ح 3. طَ: 1/ 129؛ 10 كتاب الأذان، 29 باب وجوب صلاة الجماعة. خَ: 1/ 158؛ وانظر الحديث بلفظ قريب منه. 5 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 42 باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، 251. مَ: 1/ 451. وقد ذكر الإمام ابن عاشور في وجه إخراج مالك الحديث في باب فضل صلاة الجماعة أن الهمَّ بالإحراق معطل أو منسوخ، فلم يبق دليلاً على حكم شرعي، وإنما هو دليل على أهمية ما غضب لأجله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا كان قد وقع التعبير بالهم بعقاب المتخلفين عن الجماعة والعدول عنه فلذلك لأن ما صنعوه لا يبلغ أن يستحقوا هذه العقوبة. فيبقى الحديث دالاً على أهمية صلاة الجماعة. انظر مزيداً من التفصيل لحديث تاركي صلاة الجماعة: كشف المغطى: 109 - 111. (¬3) انظر 78 كتاب الأدب، 29 باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه. خَ: 7/ 78.

الكلامُ مَخرج التهويل لمن يسيء إلى جاره، حتى يخشى أن لا يكون من المؤمنين. والمراد نفي الإيمان الكامل. 12 - وأما حال التجرد عن الإرشاد فذلك ما يتعلق بغير ما فيه التشريع والتدين وتهذيب النفوس وانتظام الجماعة. ولكنه أمر يرجع إلى العمل في الجبلة وفي دواعي الحياة المادية. وأمره لا يشتبه. فإن رسول الله يعمل في شؤونه البيتية ومعاشه الحيوي أعمالاً لا قصد منها إلى تشريع ولا طلب متابعة. وقد تقرّر في أصول الفقه أنّ ما كان جبلِّياً من أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون موضوعاً لمطالبة الأمة بفعل مثله، بل لكل أحد أن يسلك ما يليق بحاله (¬1). وهذا كصفات الطعام واللباس والاضطجاع والمشي والركوب ونحو ذلك، سواء كان ذلك خارجاً عن الأعمال الشرعية كالمشي في الطريق والركوب في السفر، أم كان داخلاً في الأمور الدينية كالركوب على الناقة في الحج (¬2). ومثل الهُوِيّ باليدين قبلَ الرجلين في السجود عند من رأى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهوى بيديه قبل رجليه حين أسَنَّ وبدَن، وهو قول أبي حنيفة (¬3). ¬

_ (¬1) تقدمت الإشارة إلى ذلك: 98/ 1. (¬2) تقدمت الإشارة إلى ذلك: 98/ 2. (¬3) المذاهب في الهوي باليدين قبل الركبتين في السجود مختلفة. ودليل تقديم الركبتين حديث وائل بن حُجر. قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". وفي الباب مثله عن أنس: "أنه - صلى الله عليه وسلم - انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه". وإلى هذا ذهب الجمهور. وحكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الفقهاء، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب والنخعي ومسلم بن يسار وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي. الشوكاني. نيل الأوطار، باب هيئات السجود وكيف الهوي إليه: 2/ 281. =

وكذلك ما يروى: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل في حجّة الوداع بالمحصّب، الذي هو خَيف بني كنانة ويقال له: الأبطح (¬1)، فصلّى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم هجع هجعة، ثم انصرف بمن معه إلى مكة لطواف الوداع" (¬2). فكان ابن عمر يلتزم النزول به ¬

_ = وحجة التقديم لليدين على الركبتين حديث أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سجد أحدكم فلا يَبْرُك كما يَبْرُك البعير، وليضع يديه ثم ركبتيه". رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وله شاهد من حديث ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه". الحطاب. مواهب الجليل: 1/ 541؛ وهو رواية عن أحمد. ابن قدامة. المغني: 2/ 193 ف 161، وهو قول أكثر المحدثين. وقد قارن بين هذه المذاهب الطحاوي في شرح معاني الآثار، باب ما يبدأ بوضعه في السجود: اليدين أو الركبتين: 2/ 254، وفصّل القول ابن القيم في صفة السجود. زاد المعاد: 1/ 222 وما بعدها. (¬1) المُحَصَّب - بالضم ثم الفتح والصاد المشددة - هو بطحاء مكة. وقيل: سمي االأبطح لانبطاحه، وهو خيف بني كنانة، يقع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب. وحده من الحجون ذاهباً إلى منى، وقيل: حده ما بين شعب عمرو إلى شعب بني كنانة التي في أرضه، سمي بذلك للحصباء التي في أرضه. ويقال: أيضاً لموضع رمي الجمار من منى: المحصَّب، لرمي الحصباء فيه. البغدادي. مراصد الإطلاع: 3/ 1235. وقال المواق: الأبطح حيث المقبرة بأعلى مكة تحت عقبة كَداء، وهو من المحصّب. والمحصّب ما بين الجبلين إلى المقبرة، وسمي المحصب لكثرة الحصباء فيه من المسيل. التاج والإكليل: 3/ 136؛ القرافي. الذخيرة: 3/ 282. والخَيْفُ: ما انحدر من غِلظ الجبل وارتفع عن سيل الماء. (¬2) يشهد لهذا حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة بالمحصّب، ثم ركب إلى البيت فطاف به. انظر 25 كتاب الحج، 146 باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح، ح 2. خَ: 2/ 196.

في الحج، ويراه من السنة، ويفعل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي البخاري عن عائشة أنها قالت: "ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه إلى المدينة". تعني: لأنه مكان متسع يجتمع فيه الناس. وبقولها قال ابن عباس (¬2) ومالك بن أنس (¬3). وكذلك حديث الاضطجاع على الشق الأيمن بعد صلاة الفجر (¬4). ¬

_ (¬1) وللتأسي كان الخلفاء يحصّبون بعد رسول الله. قال نافع: وقد حصّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده. وقال ابن عمر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر ينزلون بالأبطح. وأخرج الإسماعيلي وأبو داود أن ابن عمر كان يفعل ما فعله رسول الله، يصلي بالأبطح الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يهجع هجعة. ابن حجر. الفتح: 3/ 590 - 592. (¬2) إشارة لحديثي باب المحصّب عند البخاري، الأول: حديث عائشة قالت: إنما كان منزلاً ينزله النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه تعني (الأبطح)، والثاني: حديث ابن عباس قال: ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر 25 كتاب الحج، 147 باب المحصب. خَ: 2/ 196. وعلى هذا فليس بسنة ولا هو من المناسك فلا يلزم بتركه شيء. وقد دل على ذلك ما رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي رافع قال: "لم يأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكن جئت فضربت قبته فجاء فنزل". وبذلك كان النزول به مستحباً. ابن حجر. الفتح: 3/ 591. (¬3) قال مالك: وإذا رجع الناس من منى نزلوا بالأبطح فصلوا به الظهر والعصر والمغرب والعشاء. القرافي. الذخيرة: 3/ 282. ثم يدخلون مكة بعد العشاء أول الليل، واستحب مالك لمن يُقتدى به أن لا يدع النزول بالأبطح. المواق. التاج والإكليل: 3/ 136. (¬4) حديث عائشة قالت: "كان النبي إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقّه =

وفي حديث يوم بدر: أن رسول الله سبق قريشاً إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر، فنزل به بالجيش. فقال له الحُباب بن المنذر: يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأيُ والحربُ والمكيدةُ؟ قال رسول الله: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فإني أعرف غزارة مائه وكثرتَه، ¬

_ = الأيمن. انظر 19 كتاب التهجد، 23 باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر. خَ: 2/ 50؛ وأخرجه مسلم، ونصّه: "إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة". 6 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 17 باب صلاة الليل، ح 122. مَ 1/ 508. وفي الباب حديث أبي هريرة وهو بلفظ: "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جانبه الأيمن". انظر 2 كتاب الصلاة، 311 باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. تَ: 2/ 281؛ انظر 2 كتاب الصلاة، 293 باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر 1261. دَ: 2/ 47؛ انظر 5 كتاب إقامة الصلاة، 126 باب ما جاء في الضجعة بعد الوتر وبعد ركعتي الفجر، ح 1199. جَه: 1/ 378. وبجانب هذه الأحاديث روي أن ابن عمر نهى عن ذلك، واعتبره بدعة، وكان يحصب الناس إذا رآهم يضطجعون على أيمانهم. والخلاف في العمل بهذه الأحاديث على أربعة مذاهب: مذهب جماعة أهل الظاهر أوجبوا الاضطجاع وأبطلوا الصلاة بتركها كابن حزم ومن وافقه. ومذهب جماعة من العلماء يكرهون هذه الضجعة ويعتبرونها بدعة. وتوسط مالك وغيره فلم يروا بها بأساً لمن فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استناناً. واستحبها آخرون على الإطلاق سواء استراح بها أم لا. فصَّل القول في ذلك ابن القيم. زاد المعاد: 1/ 318 - 320.

فننزله، ثم نغوِّر ما عداها من القُلُب؛ فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله: "لقد أشرت بالرأي" (¬1). وفي جامع العتبية في سماع ابن القاسم قال مالك: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الحوائط وهم يؤبّرون النخل ويلقّحونها. فقال لهم: "ما عليكم ألّا تفعلوا". فترك الناس الإبار في ذلك العام، فلم تطعم النخل، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما أنا بشر فاعملوا بما يُصلِحُكم". قال أبو الوليد ابن رشد في البيان والتحصيل: روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة. منها أنه قال: "ما أظن هذا يغني شيئاً، ولو تركوه لصلح -[أو لا لقاح] أو - ما أرى اللقاح شيئاً"، فتركوه فقُشِم (¬2)، ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1/ 620؛ عبد السلام هارون. تهذيب سيرة ابن هشام: 143. وذكر الحاكم مناقب الحباب بن المنذر، وأورد الخبر ولم يصححه، وأنكره الذهبي. الحاكم. المستدرك: 3/ 426. ووصله ابن حجر من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن رومان عن عروة. والسند إلى عروة صحيح، لكن عروة لم يدرك ابن المنذر. فالحديث مرسل. وقد ذكر ابن حجر له شاهداً بإسناد ضعيف عند ابن شاهين. الإصابة: 1/ 427. وتلقته الأمة بالقبول كما يظهر ذلك من إيراد كتب السيرة له. ابن القيم. زاد المعاد: 3/ 175. (¬2) ابن رشد. البيان والتحصيل: 17/ 236. قشم: لم يضبط، فيحتمل أن يكون بضم القاف وكسر الشين، أي: أصابه القُشام، بضم القاف. وهو تساقط التمر قبل أن يصير بسراً. ولم أقف على صيغة الفعل الماضي والمضارع في اللسان ولا القاموس ولا التاج ولا النهاية ولا المشارق ولا الفائق. اهـ. تع ابن عاشور. [قشم: أكل؛ وقشام المائدة: ما نفض منها، وقشم بمعنى شُق، وكل ما شق منه فهو قشام. ابن فارس. معجم مقاييس اللغة: 5/ 91].

فأُخبر بذلك رسول الله، فقال: "ما أنا بزارع ولا بصاحب نخل، لقِّحوا" (¬1). ¬

_ (¬1) ورد بلفظ: "فتركوه فشيص" بدل "فقشم". مخط. البيان والتحصيل للشيخ ابن عاشور. وفي حديث رافع بن خديج: "فتركوه فنفضت" أو "فنقصت". وتمامه: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". انظر 43 كتاب الفضائل، 38 باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، ح 140. مَ: 2/ 1835. وفي ح 141 بعده من حديث عائشة وأنس: "فخرج شيصاً". وفي آخره: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". مَ: 2/ 1836. وورد أيضاً بصيغة أخرى في رواية طلحة 139 من الباب: "ما يصنع هؤلاء (أي بالنخل)؟ " فقالوا: يلقّحونه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظن يغني ذلك شيئاً". قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً. فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله". وهذه الأحاديث الثلاثة تدل على أن إشارته بترك التأبير لم تكن سوى مجرد ظن منه. فهو ليس خبيراً بالزراعة وأحوالها، لأنه نشأ بمكة بواد غير ذي زرع. وقد جاء هذا التأويل صريحاً في الرواية الثانية التي أثبتها المؤلف هنا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا بزارع ولا بصاحب نخل، لقّحوا". انظر ابن رشد. البيان والتحصيل: 17/ 236 - 237. وإن وجوب امتثال أمره كما ذكره النووي لا يكون إلا فيما قاله شرعاً، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي. شرح مسلم: 15/ 116 - 118. وقد اتخذ كثير من أصحاب الأهواء والضلال هذه الأحاديث، وبخاصة ما ورد في حديث عائشة وأنس من قوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" تكأة لإقصاء السنة عن مجالات الحياة الدنيا، وإبطال ما ثبت عن طريقها من تشاريع اقتصادية وأحكام معاملات ونظم ومناهج اجتماعية أو سياسية، مما استوجب تعليق أحمد محمد شاكر على هذا بقوله: هذا الحديث مما =

وبعد، فلا بد للفقيه من استقراء الأحوال وتوسُّم القرائن الحافَّة بالتصرّفات النبوية. فمن قرائن التشريع: الاهتمام بإبلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العامة، والحرص على العمل به، والإعلام بالحكم وإبرازه في صورة القضايا الكليّة مثل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألَا لا وصية لوارث" (¬1)، ¬

_ = طنطن به ملحدو مصر وصنائع أوروبة فيها من عبيد المستشرقين وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يحاجون به أهل السنة وأنصارَها وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شؤون الدنيا يتمسكون برواية أنس. والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين ولا بالألوهية ولا بالرسالة ولا يصدقون القرآن في قرارة نفوسهم. ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة ولكن تقليداً وخشية ... والحديث واضح صريح لا يعارض نصاً، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن. وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم: "ما أظن ذلك يغني شيئاً". فهو لم يأمر ولم ينه ولم يخبر عن الله ولم يسن في ذلك سنة حتى يتوسع في هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع، بل ظن ثم اعتذر عن ظنه، قال: "فلا تؤاخذوني بالظن". فأين هذا مما يرمي إليه أولئك؟ هدانا الله وإياهم سواء السبيل. انظر تعليق الشيخ شاكر على الحديث رقم 1395. الإمام أحمد. المسند: 2/ 1396 - 1397. (¬1) الحديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث". روي الخبر من حديث أبي أمامة، وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه؛ ومن حديث عمرو بن خارجة، أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه؛ ومن حديث أنس، وأخرجه ابن ماجه؛ ومن حديث ابن عباس، وأخرجه الدارقطني؛ ومن حديث عمرو بن شعيب، وأخرجه الدارقطني أيضاً؛ ومن حديث جابر، وأخرجه ابن عدي؛ ومن حديث زيد والبراء، وأخرجه ابن عدي أيضاً؛ وكذا من حديث علي بن أبي طالب؛ ومن حديث خارجة بن عمرو، وأخرجه الطبراني؛ ومن حديث ابن عمر أورده أبو أسامة في =

وقوله: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬1). ومن علامات عدم قصد التشريع عدم الحرص على تنفيذ الفعل، مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض الوفاة: "آتوني أكتبْ لكم كتاباً لن تضلوا بعده". قال ابن عباس: فاختلفوا. فقال بعضهم: حسبنا كتاب الله؛ وقال بعضهم: قدّموا له يكتب لكم، ولا ينبغي عند نبيِّ تنازع. فلما ¬

_ = مسنده. الزيلعي. نصب الراية: 4/ 403 - 405. انظر 12 كتاب الوصايا، 6 باب ما جاء في الوصية للوارث. قال أبو أمامة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، ح 2670. دَ: 3/ 290 - 291؛ وانظر 31 كتاب الوصايا، 5 باب ما جاء "لا وصية لوارث" حديث أبي أمامة الباهلي 2120. تَ: 4/ 433؛ وحديث عمرو بن خارجة 2121. تَ: 4/ 434؛ 20 كتاب الوصايا، 5 باب إبطال الوصية للوارث، حديث عمرو بن خارجة نَ: 4/ 247؛ انظر 22 كتاب الوصايا، 6 باب لا وصية لوارث، حديث عمرو بن خارجة 2712، حديث أبي أمامة الباهلي 2713. جَه: 2/ 905؛ حديث أنس 2714. جَه: 2/ 906؛ انظر 22 كتاب الوصايا، 28 باب الوصية للوارث، ح 3263. دَي: 2/ 699 - 700؛ حَم: 4/ 186، 187، 238، 239؛ 5/ 267. وهذه الروايات جميعها تمنَع الوصية للوارث، فإذا وقعت وقعت باطلة. وعلى هذا عمل أهل المدينة. قال مالك: السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت، وأنه إن أجاز له بعضهم وأبى بعض جاز له حق من أجاز منهم، ومن أبى أخذ حقه من ذلك. طَ: 2/ 765. ابن حجر. بلوغ المرام: 243، ع 988. (¬1) تقدم: 115/ 1 - 2. وقال الزيلعي: أخرجه الستة عن عائشة. أخرجه البخاري في المكاتب، ومسلم وأبو داود في العتق، والترمذي في الولاء، والنسائي وابن ماجه في الأحكام. نصب الراية. كتاب الولاء. الحديث الثاني: 4/ 149.

رأى اختلافهم قال: "دعوني فما أنا فيه خير" (¬1). واعلم أن أشد الأحوال التي ذكرناها اختصاصاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي حالة التشريع، لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته، حتى حصر أحواله فيه في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (¬2). فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادراً مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك. وقد أجمع العلماء على الأخذ بخبر سعد بن أبي وقاص، حيث سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوصي في ماله. قال له: "الثلث والثلث كثير". فجعلوا الوصية بالزائد على الثلث مردودة إلا أن يجيزها الورثة. ولم يحملوه محمل الإشارة والنصيحة، مع ما قارنه مما يسمح بذلك، وهو قوله: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" (¬3). فإنه مؤذن بالنظر إلى حالة خاصة بسعد وورثته ¬

_ (¬1) الخبر في هذا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشتد به مرضه ووجعه، فقال: "ائتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً" فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: إن رسول الله يهجر، فجعلوا يُعيدون عليه. فقال: "دعوني فما أنا فيه خير مما تدعوني إليه" ابن الأثير. الكامل: 2/ 217؛ انظر 56 كتاب الجهاد، 176 باب هل يستشفع إلى أهل الذمة. خَ: 4/ 31؛ 58 كتاب الجزية، 6 باب إخراج اليهود. خَ: 4/ 65؛ 96 كتاب الاعتصام، 26 باب كراهة الخلاف. خَ: 8/ 160 - 161؛ انظر 250 كتاب الوصية، 5 باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، ح 20، 21، 22. مَ: 2/ 1257 - 1259. (¬2) آل عمران: 144. (¬3) الحديث طويل. وقد ورد بدواوين السنة مطولاً ومختصراً. فمنها: انظر 23 كتاب الجنائز، 37 باب رثى النبي سعد بن خولة. خَ: 2/ 82؛ =

وشدة فقرهم، ومع كونه جرى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين سعد خاصة، ولم يفعل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا رواه عنه غير سعد. فكان للفقيه أن يجيز الوصية بأكثر من الثلث لمن كان ورثته أغنياء - ولم يقل به أحد من أهل العلم - أو لمن لم يكن له وارث. وقد قال بذلك بعض أهل العلم فيما نقل ابن حزم في المُحلّى عن ابن مسعود وعبَيدة السلماني وطائفة (¬1)، وهو قول شاذ. ¬

_ = 55 كتاب الوصايا، 2 باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس؛ 3 باب الوصية بالثلث، ح 2. خَ: 3/ 186 - 187؛ 63 كتاب مناقب الأنصار، 49 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم". خَ: 4/ 267؛ 69 كتاب النفقات، 1 باب فضل النفقة على الأهل، ح 4. خَ: 6/ 189؛ 76 كتاب المرضى، 13 باب وضع اليد على المريض. خَ: 7/ 6؛ 16 باب قول المريض: إني وجع، ح 4. خَ: 7/ 9؛ 80 كتاب الدعوات، 43 باب الدعاء برفع الوباء والوجع، ح 2. خَ: 7/ 160؛ 85 كتاب الفرائض، 6 باب ميراث البنات. خَ: 8/ 5. ومنها 25 كتاب الوصية، 1 باب الوصية بالثلث، ح 5. مَ: 2/ 1250؛ ح 8. مَ: 2/ 1253؛ انظر 12 كتاب الوصايا، 2 باب ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله، ح 2864. دَ: 3/ 284 - 287؛ وانظر 8 كتاب الجنائز، 6 باب ما جاء في الوصية بالثلث والربع، ح 975. تَ: 3/ 305؛ 31 كتاب الوصايا، 1 باب ما جاء في الوصية بالثلث، ح 4116. تَ: 4/ 430؛ 30 كتاب الوصايا، 3 باب الوصية بالثلث. نَ: 6/ 241؛ 22 كتاب الوصايا، 5 باب الوصية بالثلث، ح 2708. جَه: 2/ 903 - 904؛ 22 كتاب الوصايا، 7 باب الوصية بالثلث، ح 3198، 3199. دَي: 2/ 691؛ انظر 37 كتاب الوصية، 3 باب الوصية في الثلث لا تتعدى. طَ: 2/ 763؛ حَم: 1/ 168، 172، 176، 179, 183؛ ابن دقيق العيد. إحكام الأحكام: 4/ 6 وما بعدها. (¬1) قال ابن حزم وقالت طائفة: من لا وارث له فله أن يُوصي بماله كله. =

ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي. وإياه والتساهل والتسرع في ذلك، لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط. ففي الخطإ فيه خطر عظيم. فعليه أن لا يعيّن مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم، وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع، فإن هو فعل ذلك اكتسب قوةَ استنباط يَفهم بها مقصود الشارع. ¬

_ = صح ذلك عن ابن مسعود وغيره. وقول ابن مسعود يرويه ابن حزم من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، قال: قال لي عبد الله بن مسعود: إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحمًا، فلا يمنعه إذا كان ذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين. ومن طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق أنه قال فيمن ليس له مولى عتاقة: أنه يضع ماله حيث يشاء، فإن لم يفعل فهو في بيت المال. وقول عبيدة السلماني برواية صاحب المحلى من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عنه أنه قال: إذا مات وليس عليه عقد لأحد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء. عبد الرزاق. المصنف: 9/ 68 - 69. ابن حزم. المحلّى: 9/ 317، 1753.

ثم هو بعد الاضطلاع بهذا العمل العظيم لا يجد الحاصل في نفسه سواءً في اليقين بتعيين مقصد الشريعة، لأن قوة الجزم بكون الشيء مقصداً شرعياً تتفاوت بمقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها. وليس هذا التَّوَفُّر وضده بعالة على مقدار استفراغ جهد الفقيه الناظر واستكمال نشاطه، بل إن الأدلة علي ذلك متفاوتةُ الكثرة والقلة في أنواع التشريعات بحسب سعة وضيق الزمان الذي عرض في وقت التشريع، وبحسب كثرة وقلة الأحوال التي عرضت للأمة في وقت التشريع. ألا ترى أن مسائل العبادات والآداب الشرعية أكثرُ أدلةً وآثاراً عن الشارع من مسائل المعاملات والنوازل؟ إذ كان معظم التشريع قبل الهجرة مقصوراً على النوعين الأولين دون الثالث، لأن جهل الأمة في مبدأ أمرها بمعرفة الله ورسله واليوم الآخر والعبادات كان أعرق وأشد من جهلهم بطرائق الإنصاف في المعاملة. وعلى هذا فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علماً قطعياً أو قريباً من القطعي، وقد يكون ظناً. ولا يعتبر ما حصل للناظر من ظن ضعيف أو دونه، فإن لم يحصل له من عمله سوى هذا الضعيف فليفرضه فرضاً مجرداً ليكون تهيئة لناظر يأتي بعده، كما أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (¬1). ¬

_ (¬1) الحديث طويل، ورد بصيغ مختلفة متقاربة. انظر 3 كتاب العلم، 9 باب قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رب مبلغ أوعى من سامع، ليبلغ الشاهد منكم الغائب، عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". خَ: 1/ 24 - 25؛ 25 كتاب الحج، 132 باب الخطبة أيام منى، ح 3. خَ: 2/ 191؛ 73 كتاب الأضاحي، 5 باب من قال: الأضحى يوم النحر. خَ: 6/ 235 - 236؛ 93 كتاب الفتن، 8 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كفاراً"، ح 3. =

وإن أعظم ما يهم المتفقهين إيجادُ ثلةٍ من المقاصد القطعية، ليجعلوها أصلاً يصار إليه في الفقه والجدل. وقد حاول بعضُ النظار من علماء أصول الفقه أن يجعلوا أصولاً للفقه قطعية، فطفحت بذلك كلمات منهم، لكنهم ارتبكوا في تعيين طريقة ذلك. وأحسب أن أول من حاول ذلك إمام الحرمين في كتاب البرهان. فإنه قال في تفسير أصول الفقه: "إنها القواطع في عرف الأصولين" (¬1). ولا شك أنه يعني بها القواطع من الأدلة السمعية؛ إذ لا سبيل إلى تحصيل القواطع العقلية إلّا في أصول الدين. ثم قال "وأقسامها: نص ¬

_ = خَ: 8/ 91؛ 97 كتاب التوحيد، 24 باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: 22 - 23 الحديث آخر الباب. خَ: 8/ 185 - 186؛ 28 كتاب القسامة، 9 باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، ح 29، 30. مَ: 2/ 1305 - 1306. وهو عند أبي داود بلفظ: "نضَّر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغَه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه"، وفي روايات أخرى: "ورُب حامل فقه ولا فقه له". انظر 19 كتاب العلم، 10 باب نشر العلم 3660. دَ: 4/ 68 - 69؛ انظر 39 كتاب العلم، 7 باب الحث على تبليغ السماع، ح 2656 - 2658. تَ: 5/ 33 - 35؛ انظر المقدمة، 18 باب من بلغ علماً، 230، 231، 234، 236. جَه: 1/ 84 - 86؛ 25 كتاب المناسك، 76 باب الخطبة يوم النحر 3056. جَه: 2/ 1015؛ انظر المقدمة، 24 باب الاقتداء بالعلماء، ح 233 - 235. دَي: 1/ 65 - 66؛ 5 كتاب المناسك، 72 باب في الخطبة يوم النحر، 1922. دَي: 2/ 393 - 394؛ حَم: 1/ 437؛ 3/ 225؛ 4/ 82؛ 5/ 183. (¬1) يوضح هذا حكاية إمام الحرمين رأي المحققين: أن أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملاً لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العمل بالعمل، وهي الأدلة القاطعة على وجوب العمل عند رواية أخبار الآحاد وإجراء الأقيسة. الجويني. البرهان: 1/ 84، 85، ف 4.

الكتاب، ونص السنة [المتواترة]، والإجماع" (¬1). قال المازري في شرحه على البرهان: "قيّد في الدليلين الأولين ولم يقيد في الإجماع لأمرين: أحدهما: أن يكون جعل الألف واللام في الإجماع للعهد، يعني الإجماع الذي هو حجة (أي قاطعة). الثاني: أن الشروط المعتبرة في كون الإجماع حجة كثيرة، لا يمكن ضبطها إلّا بتفريع المسائل وتمهيد الأبواب (¬2) ". ثم قال إمام الحرمين: "فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يُلْفَى إلّا في أصول الفقه وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في وجوب العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبطَ الدليل به" (¬3). فجعل حظ القطعيّ من هذه الأمور الظنّية هو القطع، باعتبارها أدلة شرعية يجب العمل بها على الجملة، لا في تفصيل جزئياتها. وفي شرح شهاب الدين القرافي على المحصول - في المسألة الأولى من مسائل اللفظ في باب الأوامر-: "قال [الأبياري] في شرح البرهان: مسائل الأصول قطعيّة، ولا يكفي فيها الظن، ومُدركها قطعيّ، ولكنه ليس المسطور في الكتب، بل معنى قول العلماء: "إنها قطعيّة" أن من كثر استقراؤه واطلاعه على أقضية الصحابة [رضوان الله عليهم و] مناظراتهم وفتاواهم وموارد النصوص الشرعية ومصادرها، ¬

_ (¬1) الجويني. البرهان: 1/ 85، ف 5. (¬2) انظر أعلاه: 11/ 1. (¬3) الجويني. البرهان: 1/ 86، ف 66.

حصل له القطع بقواعد الأصول. ومتى قصر عن ذلك، لا يحصل له إلّا الظن. وإنما وضع العلماء هذه الظواهر في كتبهم ليبيّنوا أصل المدرك لا [أنها] مدرك القطع، فلا تنافي بين كون هذه المسائل قطعية وبين كون هذه النصوص لا تفيد إلّا الظن" (¬1) اهـ. وأبو إسحاق الشاطبي حاول في المقدمة الأولى من كتابه عنوان التعريف طريقةً أخرى لإثبات كون أصول الفقه قطعية. وهي طريقة لا يوصل منها إلّا قوله: "الدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي (أي: لو تحققنا رجوع شيء معين إلى تلك الكليات). وأعني بالكليات: الضروريات والحاجيات والتحسينيات" (¬2). ثم ذهب يستدل على ذلك بمقدمات خطابية وسفسطائية، أكثرُها مدخول ومخلوط غير منخول. وقد تقدمت الإشارةُ إلى كلامهم في صدر هذا الكتاب. وذلك حاصلُ ما لسلفنا في هذا الغرض (¬3). وإنما قصدت منه التنوّرَ بأضواء أفهامهم، لتعلم إمكان استخلاص قواعد تحصل بالقطع أو بالظن القريب من القطع ولو كانت قليلة. على أننا غير ملتزمين للقطع وما يقرب منه في التشريع، إذ هو منوط بالظن. وإنما أردت أن تكون ثُلةٌ من القواعد القطعية ملجأً نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة، وأن ما يحصل من تلك القواعد ¬

_ (¬1) تقدم في 20/ 1. (¬2) صدر المقدمة الأولى. الموافقات: (1) 1/ 9 = (2) 1/ 10 - 11 = (3) 1/ 29 - 30 = (4) 2/ 17. (¬3) انظر أعلاه: 9 - 18.

هو ما نسميه علم مقاصد الشريعة، وليس ذلك بعلم أصول الفقه. فأما المقاصد الظنية فتحصيلها سهل من استقراءٍ غيرِ كبير لتصرّفات الشريعة، لأن ذلك الاستقراء يكسبنا علماً باصطلاح الشارع وما يراعيه في التشريع. قال عز الدين بن عبد السلام في قواعده الفقهية - في مبحث ما خالف القياس من المعاوضات - بعد ذكر المثال الحادي والعشرين: "إن من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يُؤثره ويكرهه في كل وِرد وصَدْر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قولَه فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عَهِده من طريقته وأَلِفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة" (¬1). مثال المقاصد الشرعية القطعيّة: ما يؤخذ من متكرّر أدلة القرآن تكرراً ينفي احتمال قصد المجاز والمبالغة، نحو كون مقصد الشارع التيسير. فقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2). فهذا التأكيد الحاصل بقوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} عقب قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} قد جعل دلالة الآية قريبة من النصّ. ويضمّ إليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3)، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (¬4)، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬5)، ¬

_ (¬1) ابن عبد السلام. القواعد: 2/ 189. (¬2) البقرة: 185. (¬3) الحج: 78. (¬4) البقرة: 286. (¬5) البقرة: 286.

وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (¬1)، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (¬2). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السمحة" (¬3)، وقوله: "عليكم من الأعمال ما تطيقون" (¬4)، وقوله: "إن هذا الدين يسر وليس بالعسر" (¬5)، وقوله لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: "يسّرا ولا تعسّرا" (¬6)، ¬

_ (¬1) البقرة: 187. (¬2) النساء: 38. (¬3) أصل الحديث: "لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وإنّي أرسلت بالحنيفية السمحة". أخرجه أحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عائشة في حديث الحبشة ولعبهم. حَم: 6/ 116، 233. وهو حديث حسن. السخاوي. المقاصد الحسنة: 109/ 214. (¬4) انظر 2 كتاب الإيمان، 32 باب أحب الدين إلى الله أدومه. خَ: 1/ 16؛ وانظر: 6 كتاب صلاة المسافرين، 30 باب فضيلة العمل الدائم، ح 215. مَ: 1/ 540؛ 31 باب أمر من نعس في صلاته، ح 221. مَ: 1/ 542. وتمامه: "فإن الله لا يملّ حتى تملّوا". الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين. وقال الهيثمي: إسناده حسن. وورد بألفاظ أخرى عند خَ، مَ، تَ، جَه، نَ، حَم. المناوي. فيض القدير: 4/ 354، ع 5885. (¬5) لم أقف على صيغة هذا الحديث وإنّما على صيغة قريبة منها وبمعناها. فمن ذلك: "إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". انظر 2 كتاب الإيمان، 29 باب الدين يسر. خَ: 1/ 15؛ انظر 47 كتاب الإيمان، 28 باب الدين يسر. نَ: 8/ 121 - 122. (¬6) هو حديث ابن أبي بردة ومعاذ. ورد بصيغ مختلفة متقاربة. انظر 56 كتاب الجهاد، 164 باب ما يكره من التنازع. خَ: 4/ 26؛ 78 كتاب الأدب، 80 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يسروا ولا تعسروا". خَ: 7/ 101؛ 93 كتاب الأحكام، 22 باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع. خَ: 8/ 114؛ =

وقوله: "إنما بعثتم ميسِّرين" (¬1). فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن [من] مقاصد الشريعة: التيسير، لأن الأدلة المستقراة في ذلك كله عمومات متكررة، وكلها قطعية النسبة إلى الشارع، لأنها من القرآن، وهو قطعي المتن. ومثال المقاصد الظنية القريبة من القطعي ما قال الشاطبي في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة: "الدليل الظني إما أن يرجع إلى أصل قطعي ... مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2)، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات، وقواعد كليات، كقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (¬3)، وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (¬4)، وقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (¬5). ¬

_ = انظر 32 كتاب الجهاد، 3 باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير. مَ: 2/ 1358؛ 36 كتاب الأشربة، 7 باب بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام، ح 70، 71. مَ: 2/ 1586 - 1587. (¬1) حديث أبي هريرة. انظر 78 كتاب الأدب، 80 باب يسروا ولا تعسروا. ذيل الحديث الخامس. خَ: 7/ 102. (¬2) انظر: 2/ 24. (¬3) البقرة: 231. (¬4) الطلاق: 6. (¬5) البقرة: 233. والفرق بين التمثيل بالتيسير للقطعي وبرفع الضرر للظني أن أدلة الأول قطعية، ودليل الثاني ظني وافق أدلة قطعيّة. ولا التفات في هذا إلى تقارب المعنى أو الغرض التشريعي في المثالين. فلينتبه.

ومنها النهي عن التعدّي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغضب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار وضِرار. ويدخل تحته الجنايةُ على النفس أو العقل أو النسل أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك" (¬1) اهـ. فإن الأدلة المذكورة في كلام الشاطبي - وإن كانت كثيرة إلّا أنها - أدلةٌ جزئيّة. والدليل العام منها وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" هو خبر آحاد وليس بقطعيّ النقل عن الشارع، لأن السنة غير المتواترة ليست قطعيّة المتن. وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا في مبحث "طرق إثبات المقاصد الشرعية" (¬2) من كتابنا هذا. واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتةٌ بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء الدلالة وقوتها. فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظَ العقول عن الفساد العارض دلالةٌ واضحة. ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكار. وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدُّ ذريعة إفساد العقل، حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتلك دلالةٌ خفية. ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر، وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر. فمن غلب ظنه بذلك سوّى بينهما ¬

_ (¬1) الشاطبي. الموافقات: (1) 3/ 7 = (2) 3/ 7 - 8 = (3) 3/ 16 - 17 = (4) 3/ 184. (¬2) انظر أعلاه: 52 - 65.

في التحريم وإقامة الحد والتجريح به؛ ومن جعل بينهما فرقاً، لم يسوِّ بينهما في تلك الأمور. على أن لاحتمال قيام المعارضات لشواهد استقراء الفقيه أثراً بيَّناً في مقدار قوّة ظنّه وضعفه، كما تقرّر في علم الحكمة (¬1). فإن صاحب هذا المقام تلوح له عند النظر شواهد الأدلة بيّنة لا يشذّ عليه منها شيء، أو إلا شيئاً قليلاً. فإن قصُر الاستقراء وامتد احتمال المعارض ضعف الظنُّ بالمقصد الشرعي. ¬

_ (¬1) تقرر في علم الحكمة أن أبعد العلوم عن الشك وأقربها إلى اليقين العلم الذي لا تتعارض فيه الأنظمة والنواميس، مثل علم الحساب؛ ثم [الـ]ـعلم الرياضي، لقلة الاحتمالات المخالفة فيه؛ ثم علم الطبيعة، لأن الباحث فيه وإن وجد القضية العلمية وهي الناموس الطبيعي فهو لا يجزم بانتفاء ناموس، آخر يعاكس ذلك الناموس، ثم علم الفلسفة والنفس. اهـ. تع ابن عاشور.

ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخلو بعضها عن التعليل وهو المسمى التعبدي

ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي إن الطريقة التي رسمها الفقهاء لأنفسهم في الاستدلال في الفقه وأصوله ألجأتهم بغير اختيار إلى الاقتصار على الاستدلال بألفاظ الكتاب، والسنة وبأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكوته، وبالإجماع. على أن تلك الأقوال قد تفيد أحكاماً كلّية مثل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1)، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} (¬2)، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" (¬3)، ¬

_ (¬1) المائدة: 1. (¬2) البقرة: 185. تقدم: 143/ 2. (¬3) الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وخوّات بن جبير، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. انظر 20 كتاب الأشربة، 5 باب النهي عن المسكر 3681. دَ: 4/ 87؛ انظر 27 كتاب الأشربة، 3 باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام 1865. تَ: 4/ 292؛ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. انظر 51 كتاب الأشربة، 25 باب تحريم كل شراب أسكر كثيره. نَ: 8/ 300؛ وعن عبد الله بن عمر وعن جابر، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. انظر 30 كتاب الأشربة، 10 باب ما أسكر كثيره فقليله حرام 3392، 3394. جَه: 2/ 1124 - 1125؛ انظر الحديث بلفظ قريب منه عن سعد وهو: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" 9 كتاب الأشربة، 8 باب ما قيل في المسكر، ح 2105. دَي: 2/ 437. =

وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1). وقد تفيد أحكاماً جزئيّة، وهو الغالب كقوله: "أمسك يا زبير حتى يبلغ الماء الجَدْر ثم أرسل إلى جارك" (¬2). والفقهاء ينتزعون من كل ذلك فروعاً: إما بطريق تحقيق المناط (¬3) في الأحكام الكليّة، لأن المنتزعات جزئياتٌ لتلك القضايا الكليّة؛ أو بطريق القياس في الأحكام الجزئيّة، لأن المنتزعات مشابهةٌ لتلك الجزئيات في وصف آذنت به أحكامُها، على تفاوت بين الملحقات بسبب ظهور الأوصاف التي بها الشبه وخفائها لتفاوت مسالك العلة. ثم عمدوا إلى أحكام ثبت صدورُها من الشارع في علم المجتهد وخفي عنه مرادُ الشارع منها، فاتَّهم علمه وبذل جهده في جنب سعة الشريعة فسمَّوه بالتعبّدي، أي أن الشريعة تعبدتنا بذلك الحكم، ولم تشرح مرادها منه في نظر ذلك المجتهد. روى البخاري (¬4) عن أبي الزناد أنه قال: "إن السُّنن ووجوهَ ¬

_ = وقال ابن حجر: أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي. وصححه ابن حبان من طريق محمد بن المنكدر عن جابر. وقال الترمذي: حسن. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه النسائي وابن ماجه وعبد الرزاق. ورفعه ابن عمر وأخرجه إسحاق والطبراني في معجميه، ومثله عن خوات بن جبير أخرجه الدارقطني والحاكم والعقيلي. الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/ 250، 991. (¬1) تقدم: 24/ 2، 145/ 2. (¬2) تقدم: 102/ 1، 112/ 3. (¬3) هو إثبات القاعدة أو العلة في بعض الصور التي تندرج تحتها. اهـ. تع ابن عاشور. (¬4) في باب ترك الصوم للحائض. [خَ: 30 كتاب الصوم، 41 باب الحائض تترك الصوم والصلاة. اهـ 2/ 239]. تع ابن عاشور.

الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بدًّا من اتباعها. من ذلك: أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة" (¬1). وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: "عجباً للعمة تُورَث ولا تَرِث" (¬2). فكانت الأحكام عندهم قسمين: معلّل، وتعبّدي. وقد تفاوت المجتهدون في إثبات هذا النوع الأخير، غير أننا وجدنا الفقهاءَ الذين خاضوا في التعليل والقياس قد أوشكوا أن يجعلوا تقسيم أحكام الشريعة بحسب تعليلها ثلاثة أقسام: 1 - قسم معلّل لا محالة. وهو ما كانت علّته منصوصة أو مومأً إليها، أو نحو ذلك. 2 - وقسم تعبّدي محض. وهو ما لا يُهتدى إلى حكمته. 3 - وقسم متوسّط بين القسمين. وهو ما كانت علّته خفيّة، واستنبط له الفقهاء علّة، واختلفوا فيه، كتحريم ربا الفضل في الأصناف الستة (¬3)، وكمنع كراء الأرض على الإطلاق عند القائلين ¬

_ (¬1) تذييل من البخاري لترجمة الباب: 30 كتاب الصوم، 41 باب الحائض شرك الصوم والصلاة. خَ: 2/ 239. (¬2) حديث محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الرحمن بن حنظلة عن ابن مرسي. انظر 27 كتاب الفرائض، 10 باب ما جاء في العمة، ح 98. طَ: 1/ 516 - 517. (¬3) الأصناف الستة الربوية، التي لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا مثلاً بمثل، يدًا بيد، يحرم فيها ربا النسيئة وربا الفضل. وقد وردت فيها أحاديث الباب. وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. فإذا اختلف العوضان جنساً واتحدا في العلة جاز التفاضل وحرم النساء. وأهل الظاهر لمنعهم القياس لا يحملون عليها غيرها مما شاركها في العلّة. =

بالمنع على الإطلاق من الصحابة والتابعين (¬1). وفي إثبات هذا النوع من العلل خطر على التفقه في الدين. فمن أجل إلغائه وتوقّيه مالت الظاهرية إلى الأخذ بالظواهر ونفوا القياس. ومن الاهتمام به تفنّنت أساليب الخلاف بين الفقهاء، وأنكر فريق منهم صحّة أسانيد كثير من الآثار. ولقد نرى كثيراً من الفقهاء الذين جعلوا من أصولهم التمسكَ بظاهر لفظ الشارع، أو بالوصف الوارد عند التشريع، لم يسلَموا من ¬

_ = واختلف الفقهاء في علة الربا المضافة إلى الجنس، فقالت الحنفية والحنابلة: هي القدر والمراد بالقدر: الكيل والوزن. ابن نجيم. البحر: 6/ 138؛ ابن قدامة. المغني: (2) 6/ 54, 55. وأضافت الشافعية إلى الجنس الطعم في الأصناف الأربعة، والثمنية في الذهب والفضة؛ وقالت المالكية: فيما عدا النقدين، العلة فيها الاقتيات والادخار؛ وعند العترة: الجنس والتقدير كيلاً أو وزناً، وقال ربيعة: اتفاق الجنس ووجوب الزكاة. الزيلعي. تبيين الحقائق: 4/ 85؛ الشوكاني. نيل الأوطار: 5/ 302 - 303؛ الدسوقي. حاشية الشرح الكبير: 3/ 47. (¬1) وهؤلاء أمثال الحسن وطاوس وأبي بكر الأصم، لأن المزارع إذا استؤجرت وخربت، لعلها يحترق زرعها فيردّها وقد زادت وانتفع ربها ولم ينتفع المستأجر. ومن حجتهم حديث الصحيحين: "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها. فإن لم يفعل فليمسك أرضه". الزرقاني. شرح الموطأ، كتاب كراء الأرض: 3/ 252. أو للغرر والجهالة فإنهم كانوا يكرون الأراضي ببعض ما خرج منها. أما الذهب والورق فلم يكن يومئذ. ودليل ذلك قول ابن عمر: كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله بما على الأربعاء وشيء من التبن، وقول رافع بن خديج: كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض، فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما يسلم ذلك وتصاب الأرض، فنهينا. الزيلعي. نصب الراية: 4/ 180.

الوقوع فيما يشبه أحوال أهل الظاهر من الاعتبار بالتعبّد. مثاله ما وقع لبعض الفقهاء من القول في آية القتل العمد الموجبة للقَود. فقد نُقِل عن بعضهم أنه أخذ بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيء خطأٌ إلا السيف" (¬1). وعندي أنه أخذ بالصفة التي كانت الغالبة على آلات القتل في الزمن الذي ورد فيه حكم القود وهي السيف. ثم ألحق بالسيف كل آلة محدّدة بطريق القياس في وصف الأصل، ثم ألحق الخنق المزهق للروح، والحرق بالنار، والذبح بالقصب بطريق القياس أيضاً. وَوَقف عند ذلك. فنَفى القصاص في القتل برمي صخرة صماء من علو على جالس تحته، والقتل بضرب الرأس بدبوس، والإغراق مكتوفاً، والتجويع أياماً متوالية. وما ذلك إلّا لأنه جعل أصله في هذا الحكم اللفظ أو الوصف دون المقصد (¬2). وأنت إذا نظرت إلى أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحكمة، لأنهم نفوا القياس والاعتبار ¬

_ (¬1) هو حديث النعمان بن بشير، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش". رواه سفيان الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي عازب عنه. انظر حَم: 4/ 272. وبإسناد آخر حَم: 4/ 275؛ البيهقي. السنن الكبرى: 8/ 42 بأسانيد ثلاثة؛ الزيلعي. نصب الراية: 4/ 333. وبهذا الحديث فسر بعضهم العمد في الآية، وقال: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب الأغلب منه أنه يقتل. الطبري. التفسير: 9/ 59. (¬2) المتعمد: القاصد. ويعرف التعمد بكونه فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلا وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه، بما تزهق به الأرواح في متعارف الناس. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 5/ 163، النساء: 93.

بالمعاني, ووقفوا عند الظواهر فلم يجتازوها. ولذلك ترى حِجاجَهم وجدَلَهم لا يعدو الاحتجاجَ بألفاظ الآثار وأفعال الرسول وأصحابه. ويتجلّى ذلك واضحاً إذا طالعت كتاب "الإعراب عن الحيرة والالتباس الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس" (¬1) لابن حزم. فقد كان هذا الأصل محورَ مناظراته مع أصحاب القياس. على أن أهل الظاهر يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يُروَ فيه عن الشارع حكم من حوادث الزمان. وهو موقف خطير يُخشى على المُتردّي فيه أن يكون نافياً عن شريعة الإسلام صلاحَها لجميع العصور والأقطار. ورحم الله أبا بكر بن العربي (¬2)، إذ قال في كتاب العارضة - عند الكلام على حديث افتراق الأمة، وذَكَر مذهب الظاهرية، فأنشد فيهم أبياتاً، منها قوله -: قالوا: الظواهرُ أصل لا يجوز لنا ... عنها العدولُ إلى رأي ولا نظر إن الظواهر معدودٌ مواقعُها ... فكيف تحصي بيانَ الحكم في البشر (¬3)! ولذلك كان واجب الفقيه عند تحقق أن الحكم تعبّدي أن يحافظ على صورته، وأن لا يزيد في تعبديتها، كما لا يُضيع أصل التعبدية. ¬

_ (¬1) توجد من هذا الكتاب قطعة في مجموع بالعاشورية: 1599، ولم تذكره فهرسات الكتب المشهورة. وطبع في الستينات بدمشق تلخيص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل - بتحقيق سعيد الأفغاني - وليس هو. وقد أشار المحقق إلى الأصل في الخزانة العاشورية. (¬2) تأتي ترجمته: 367/ 1، تبعاً لما جرى عليه المؤلف. (¬3) البيتان هما الأول والرابع من قصيدة لابن العربي يرد فيها على أهل الظاهر. انظر آخر أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي: 10/ 112.

ومثال ذلك كله يتّضح في مسألة العول في الميراث. فمقادير الفرائض مثبتة بنصّ القرآن، متلقاةٌ عند الأمة بتلقّي التعبّدي، لأن الله أمر بذلك في قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬1). فلم يُسِغ لنا زيادة في المقدار ولا نقصٌ على حسب زيادة النفع أو البر أو الصلة وقلّة ذلك. ثم لما نزل بالمسلمين حادثُ ميراثٍ كانت فرائض أصحاب الفرائض فيه أكثر من المال الموروث، وكان ذلك في زمن عمر، لم يتأخّر عمر عن استشارة الصحابة، وعن إعمال الرأي والتعليل في تلك المقادير بطريقة العول. وتلك قضية امرأة ماتت وتركت زوجها وأمّها وأختها. فأشار العباس أو علي بن أبي طالب وقال: "أَرَأيتَ لو أن رجلاً مات وعليه لرجال سبعة دنانير، ولم يخلف إلّا ستة دنانير. أليس يُجعلُ المالُ سبعة أجزاء ويدخل النقص على جميعهم؟ " (¬2). فصوّبه عمر ومن حضر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فها هنا نراهم قد احتفظوا على معنى التعبد في أصل إعطاء الجميع على نسبة واحدة، وفي عدم إهمال البعض من الورثة، ولكنهم لم يحتفظوا على معنى التعبّد في المقادير لتعذّر ذلك، فأدخلوا التعليل في هذا المكان خاصة. ¬

_ (¬1) النساء: 11. (¬2) وممن ذكروا في الإشارة على عمر بالعول: العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت. والظاهر أنهم جميعاً، بدأ أحدهم ووافقه الآخرون، كما هو الشأن في هذه الأحوال. والأصل في العول أحاديث، منها: حديث ابن عباس: البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 253؛ الحاكم. المستدرك: 4/ 340؛ ابن حزم. المحلى: 9/ 262 - 263. وحديث زيد بن ثابت: البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 253. وحديث علي بن أبي طالب: البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 253, ابن حجر. التلخيص الحبير: 3/ 90.

وكان عبد الله بن عباس يرى خلاف ذلك ويقول: من باهلني باهلته، إن الذي أحصى رملَ عالِج عدداً (يعني الله تعالى) لم يجعل للمال نصفاً ونصفاً وثلثاً، أي لم يجعل في الأجزاء نصفين وثلثاً. وقال: إن النقص يدخل على الأخت من مقدار فرضها لأنها أضعف من الزوج، ومن الأم؛ لأنها قد تنتقل من أن تكون ذاتَ فرض إلى أن تكون من العصبة، أي مع البنات. فأبى ابن عباس من إدخال التعليل، ومن نقص فرضي الأمّ والزوج، وجعل الأخت تأخذ البقية بطريقة أن المال قد نفد. فلم يُعمِل التعليل هنا، ولكنه أعمل شيئاً من الترجيح بالتنظير (¬1). وكان حقاً على أئمة الفقه أن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبّدية في تشريع المعاملات، وأن يوقنوا بأن ما ادُّعي التعبّد فيه منها إنما هو أحكام قد خفيت عللُها أو دقت. فإن كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقاها بعض الأئمة تلقيَ الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمّة في معاملاتهم، وكانت الأمة في كبد على حين، يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). ¬

_ (¬1) يقدم ابن عباس في تقسيم التركة مَن ينقل من فرض مقدر إلى فرض مقدر كالأم والزوجين، ومن لا يتغيّر فرضه كالجدة وأولاد الأم، ويرى إدخال النقص على بعض أصحاب الفروض، وهم: الذين ينقلون من فرض مقدر إلى نصيب غير مقدر، وهن البنات والأخوات؛ حيث ينقلن من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب. محمد مصطفى شلبي. أحكام المواريث بين الفقه والقانون: 256 - 257؛ زكريا البري. الوسيط في أحكام التركات والمواريث: 191 - 197 ف 117 - 119. (¬2) الزيادة من ط. الاستقامة: 48، وقد عدل عنهما المؤلف وضرب عليها. والآية: الحج: 78.

وعلى الفقيه أن يجيد النظر في الآثار التي يتراءى منها أحكام خفِيت عللُها ومقاصدها، ويمحّص أمرها. فإن لم يجد لها محملاً من المقصد الشرعي نظر في مختلف الروايات، لعله أن يظفر بمسلك الوهم الذي دخل على بعض الرواة، فأبرز مرويه في صورة تُؤذن بأن حكمه مسلوبُ الحكمة والمقصد. وعليه أيضاً أن ينظر إلى الأحوال العامة في الأمة التي وردت تلك الآثار عند وجودها. مثال ذلك في الأمرين حديث رافع بن خديج وأنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة، أي كراء المزارع (¬1). فقد حمله ابن عباس على أن رسول الله لم ينه عنه، ولكنه قال: "لأنَ يمنح أحدُكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ خراجاً معلوماً" (¬2). ¬

_ (¬1) في المحاقلة - وهي استكراء الأرض بالحنطة واشتراء الزرع بالحنطة - تقدم حديث رافع بن خديج: 67/ 3. وحديث أنس بن مالك: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة والمحاقلة". انظر 24 كتاب البيوع، 82 باب بيع المزابنة، وهي بيع التمر بالثمر وبيع الزبيب بالكرم، وبيع العرايا. خَ: 3/ 31؛ 93 باب بيع المخاضرة، ونص الحديث عن أنس: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة". خَ: 3/ 35. ومثلهما حديث أبي سعيد الخدري. انظر 31 كتاب البيوع، 13 باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، ح 24. طَ: 2/ 625. وكذا حديث سعيد بن المسيب في النهي عن المزابنة والمحاقلة. قال ابن عبد البر: وقد روى النهي عنهما (عن المزابنة والمحاقلة) جماعة، منهم: جابر وابن عمر وأبو هريرة ورافع بن خديج. الزرقاني على الموطأ: 3/ 158. (¬2) تقدم: 68/ 1.

وحمله مالك وابن شهاب وابن المسيَّب على تفسير أبي سعيد الخدريّ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة. والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة. ولذلك ترجم هذا الحديث مع غيره في الموطأ بترجمة المزابنة والمحاقلة. فلم يَرَ للمحاقلة معنى غير هذا (¬1). وسلك بعض الصحابة والأئمة مسلك النظر إلى الحالة التي هي مورد النهي، وهي ما ورد في حديث رافع بن خديج في صحيح البخاري، قال: "كنا أكثر أهل المدينة مُزدَرعاً فكنا نكري الأرض بالناحية منها مسمًّى لسيد الأرض (أي بالزرع الذي يحصل في الناحية المعيّنة) فممّا يصاب من ذلك وتسلمُ الأرض (أي بقيتها)، وممّا تصاب الأرض ويسلم ذلك (أي ما في الناحية المعيّنة لرب الأرض) فنُهينا عن ذلك. وأما الذهب والورِق فلم يكن يومئذ (¬2)، وفي رواية: فلربّما أَنبتَت هذه ولم تُنبت الأخرى" (¬3) اهـ. ولذلك قال الليث بن سعد: "كأنّ - بتشديد النون - الذي نهي عنه من ذلك - أي من كراء الأرض - ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة". رواه عنه البخاري في كتاب المزارعة (¬4). ¬

_ (¬1) تقدمت الإشارة إلى ذلك: 69/ 1. انظر كلام الإمام في تفصيل القول في المزابنة. طَ: 2/ 625 - 627. (¬2) تقدم في حديث البخاري. انظر 71/ 1. (¬3) وفي رواية أخرى: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر 41 كتاب الحرث، 12 باب ما يكره من الشروط في المزارعة. خَ: 2/ 69. (¬4) تقدم: 68 - 71.

واعلم أن أبا إسحاق الشاطبي ذكر في المسألتين: الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من النوع الرابع من كتاب المقاصد كلاماً طويلاً في التعبد والتعليل معظمه غير محرر ولا متجه (¬1). وقد أعرضت عن ذكره ¬

_ (¬1) الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني؛ وكل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد فيه من اعتبار التعبد. الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 190 - 201 = (2) 2/ 211 - 223 = (3) 2/ 300 - 320 = (4) 2/ 513. ومن ضعف التحرير في الفصلين أن الشاطبي، في الاستدلال أولاً بالاستقراء على قاعدته التي جعلها عنوان الفصل، جاء قوله: فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها، وينقض الاستقراء طهارة الثوب والبدن والمكان من الأخباث فإنها لا تتعدّى. وقوله: أكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص كقوله: سها فسجد. فإنا لم نقف على لفظ هذا الحديث. وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده لذلك. وقوله ناقلاً من تعريف أبي زيد للمناسب: وأكثر ما علل به في تشريع باب العادات أنه إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا لا يمكن إثباته في المناظرة. وكان الأحسن به أن يقول في تعريفه: إنه وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء. وهو حصول مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها. وفي أول المسألة التاسعة عشرة قال: كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا تفريع فيه، يريد أن يثبت التعبد. وليس الغرض أن يثبت اعتبار عدم التعبد، وإلا لتناقض الكلام. وقوله: قال: فلا بد فيه من اعتبار التعبد؛ ليس المراد به هنا التعبد بالمعنى الخاص الذي يجب ألا يدخله القياس والتفريع، بل المراد أن يكون لله فيه حق إذا قصده المكلف بالفعل أثيب، وتكون مخالفته قبيحة يستحق العقاب عليها. انظر تع عبد الله دراز. الموافقات: (3) 2/ 300، 302، 306، 310.

هنا لطوله واختلاطه فإن شئت فانظره وتأمّله ثم اعرضه على ما ذكرتهُ لك هنا. وجملة القول أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع، وهي حكم ومصالح ومنافع. ولذلك كان الواجب على علمائها تعرّفُ علل التشريع ومقاصده ظاهرها وخفيها فإن بعض الحكم قد يكون خفياً، وإن أفهام العلماء متفاوتة في التفطُّن لها. فإذا أعوز في بعض العصور الاطلاع على شيء منها فإن ذلك قد لا يعوز من بعد ذلك؛ على أنّ من يعُوزه ذلك يحقّ عليه أن يدعو نظراءه للمفاوضة في ذلك مشافهة ومراسلة، ليمكن لهم تحديد مقادير الأحكام المتفرعة من كلام الشارع. فإن هم فعلوا ذلك فاستمر عوزُ الكشف عن مراد الشارع وجب عليهم أن لا يتجاوزوا المقدار المأثور عن الشارع في ذلك الحكم، ولا يفرّعوا على صورته، ولا يقيسوا فلا ينتزعوا منه وصفاً ولا ضابطاً، لأن فوارق الأحوال المانعة من القياس تخفى عند عدم الاطلاع على العلة، ومن الفوارق مؤثر وغير مؤثر. وإذا جاز أن نثبت أحكاماً تعبّدية لا علّة لها ولا يُطلع على علّتها فإنّما ذلك في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية. فأمّا هذان فلا أرى أن يكون فيها تعبّدي، وعلى الفقيه استنباط العلل فيها. ولذلك جزم مالك وأبو حنيفة والشافعي بالقياس على الأصناف الستة الربوية باستنباط علّة لتحريم ربا الفضل فيها، إلّا أن جميعهم إنّما استنبط لها علّة ضابطة، ولم يبينوا لها حكمة.

القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة أ - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية. ب - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة. جـ - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها. د - المقصد العام من التشريع. هـ - بيان المصلحة والمفسدة. و- طلب الشريعة للمصالح. ز - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع. ح - عموم شريعة الإسلام. ط - المساواة. ي - ليست الشريعة بنكاية. يا - مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير. يب - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال. يج - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية. يد - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمة المقصودة للشريعة.

يه - سد الذرائع. يو - نوط التشريع بالضبط والتحديد. يز - نفوذ الشريعة. يح - الرخصة. يط - مراتب الوازع جبلية ودينية وسلطانية. ك - مدى حرية التصرف عند الشريعة. كا - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع. كب - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قريبة مرهوبة الجانب مطمئنة البال. كج - واجب الاجتهاد.

أ - مقاصد التشريع العامة

أ - مقاصد التشريع العامة مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصّ ملاحظتُها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحِكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها. ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية المقاصد الشرعية نوعان: معانٍ حقيقية، ومعان عرفية عامة. ويشترط في جميعها أن يكون ثابتاً ظاهراً منضبطاً مطّرداً. فأما المعاني الحقيقيّة فهي التي لها تحقّق في نفسها (¬1) بحيث تدرك العقولُ السليمةُ ملاءَمَتَها للمصلحة أو منافرَتَها لها، أي تكون جالبة نفعاً عاماً أو ضُراً عاماً، إدراكاً مستقلاً عن التوقّف على معرفة عادة أو قانون، كإدراك كون العدل نافعاً، وكون الاعتداء على ¬

_ (¬1) ليس المراد هنا بالحقيقي معناه في الحكمة - أعني ما له وجود في الخارج ونفس الأمر، وهو الذي يقابل الأمر الاعتباري - بل المراد ما يشمل الاعتباريات وهي المعاني التي توجد في اعتبار المعتبر، ولكن وجودها تابع لوجود حقيقة أو حقيقتين. ويدخل تحت هذا الأمورُ النسبية كالزمان والمكان، والأمور الإضافية كالأبوة والأخوة. اهـ. تع ابن عاشور.

النفوس ضاراً، وكون الأخذ على يد الظالم نافعاً لصلاح المجتمع. والتقييد بالعقول السليمة لإخراج مدركات العقول الشاذّة كمحبة الظلم في الجاهلية، كما في قول الشَّمَيذَر الحارثي من شعراء الحماسة مفتخراً: فلسنا كمن كنتُم تصيبون سَلَّةً ... فَنَقْبَلَ ضَيمًا أو نُحَكِّمَ قاضيا ولكنَّ حكمَ السيف فيكم مسلّط ... فَنَرَضَى إذا ما أصبَحَ السيفُ راضيا (¬1) وقول سَوَّارِ بنِ المضَرَّب السَّعدي مفتخراً: وأنّي لا أزال أخا حروب ... إذا لم أَجْنِ كُنتُ مِجَنَّ جَانِ (¬2) وأما المعاني العرفية فهي المُجَرَّبات التي ألفتها نفوس الجماهير، واستحسنتها استحساناً ناشئاً عن تجربة ملاءمتها لصلاح الجمهور، كإدراك كون الإحسان معنى ينبغي تعامل الأمة به، وكإدراك كون عقوبة الجاني رادعةً إياه عن العود إلى مثل جنايته، ورادعةً غيره عن الإجرام، وكون ضدّ ذينك يؤثر ضدّ أَثَرَيهما، وإدراك كون القذارة تقتضي التطهّر. وقد اشترطتُ لهذين النوعين: الثبوت، والظهور، والانضباط، والاطراد. فالمراد بالثبوت: أن تكون تلك المعانى مجزوماً بتحقّقها أو مظنوناً ظناً قريباً من الجزم. والمراد بالظهور: الاتّضاح، بحيث لا يختلف الفقهاء في ¬

_ (¬1) البيتان هما الثاني والثالث من مقطّعة ذات خمسة أبيات، عزاها البرقي لسويد بن جميح المرثدي من بني الحارث. المرزوقي. شرح ديوان الحماسة: 1/ 125، 16. (¬2) هذا هو البيت الرابع والأخير من المقطعة المنسوبة لسوّار. المرزوقي. شرح ديوان الحماسة: 1/ 132، 18.

تشخيص المعنى، ولا يلتبس على معظمهم بمشابهه، مثل حفظ النسب الذي هو المقصد من مشروعية النكاح. فهو معنى ظاهر ولا يلتبس بحفظه الذي يحصل بالمخادنة أو بالإلاطة، وهي إلصاق المرأة البغيّ الحملَ الذي تَعْلَقه برجل معين ممن ضاجعوها. والمراد بالانضباط: أن يكون للمعنى حدّ معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، بحيث يكون القدر الصالح منه لِأَن يعتبر مقصداً شرعياً قدراً غير مشكَّك، مثل حفظ العقل إلى القدر الذي يخرج به العاقل عن تصرّفات العقلاء الذي هو المقصد من مشروعية التعزير بالضرب عند الإسكار (¬1). والمراد بالاِطِّراد: أن لا يكون المعنى مختلفاً باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار، مثل وصف الإسلام، والقدرة على الإنفاق فى تحقيق مقصد الملاءمة للمعاشرة المسماة بالكفاءة المشروطة في النكاح في قول مالك وجماعة من الفقهاء (¬2)، بخلاف التماثل في الإثراء أو في القبيلة. ¬

_ (¬1) الأصل في ذلك حديث أنس بن مالك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. انظر 86 كتاب الحدود، 2 باب ما جاء في ضرب شارب الخمر. خَ: 8/ 13؛ وجلد عمر ثمانين، وبه أخذ الجمهور، والخبر أنّ عمر استشار في الخمر يشربُها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجلده ثمانين. فإنه إذا شرِب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. فجلد عمر في الخمر ثمانين. انظر 42 كتاب الأشربة، 1 باب الحد في الخمر، ح 2. طَ: 4/ 842. (¬2) الأوصاف المعتبرة في الكفاءة وفاقاً وخلافاً ستة، أشار إليها بعضهم بقوله: نسب ودين صنعة حرية ... فقد العيوب وفي اليسار تردّد والمعتمد عند المالكية اشتراط الكفاءة، أي المماثلة في التديّن أي كون الزوج ذا ديانة، احترازاً من أهل الفسوق، وفي الحال أي السلامة من =

وقد تتردّد معان بين كونها صلاحاً تارة وفساداً أخرى، أي بأن اختلّ منها وصفُ الاطراد. فهذه لا تصلح لاعتبارها مقاصدَ شرعية على الإطلاق، ولا لعدم اعتبارها كذلك، بل المقصد الشرعي فيها أن توكَلَ إلى نظر علماء الأمة وولاة أمورها الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد، ليعينوا لها الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره. وذلك مثل القتال والمجالدة. فقد يكون ضراً إذا كان لشق عصا الأمة، وقد يكون نفعاً إذا كان للذب عن الحوزة ودفع العدو. ألا ترى أن الله تعالى قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} (¬1) الآية، فجعل قتالهم وهو الحرابة موجباً للعقاب لأنها فساد. وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬2)، فأعلمنا أن هذا التقاتل ضر. فلذلك أمر البقية بالإصلاح بينهما لتنهية القتال. ثم قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا (أي الطائفتين) عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬3)، فأمر بإيقاع قتالٍ للإصلاح. وقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في آيات كثيرة (¬4). ¬

_ = العيوب الموجبة للرد لا بمعنى الحسب والنسب، وكالحرية على الأوجَه. وإليه ذهب المغيرة وسحنون. ولا تشترط فيها المساواة والمماثلة فيما دون الثلاثة. فمتى ساوى الرجل المرأة في هذه الثلاثة كان كفؤاً. الدردير. الشرح الصغير: 2/ 399 - 401. (¬1) المائدة: 33. (¬2) الحجرات: 9. (¬3) الحجرات: 9. (¬4) {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} البقرة: 190، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة: 244، {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}، آل عمران: 167.

فبمثل هذه المعاني بشروطها هذه يحصل اليقين بأنها مقاصد شرعية. فإن دلت أدلة شرعية على أن الشريعة اعتبرت من مقاصدها معاني اعتبارية، أو معاني عرفية خاصة احتاجت الشريعة إلى اعتبارها في مقاصدها لما تشتمل عليه من تحصيل صلاح عام أو دفع ضر كذلك، كاعتبار الرضاع سبباً لتحريم التزوج بالأخت منه ومعاملته معاملة النسب في ذلك (¬1)، وكاعتبار القرشية في شرط الخليفة (¬2)، ¬

_ (¬1) دليله قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} النساء: 23، وحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". انظر 52 كتاب الشهادات، 7 باب الشهادة على الأنساب والرضاع، ح 2. خَ: 3/ 149؛ 67 كتاب النكاح، 20 باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. خَ: 6/ 124 - 125؛ 27 باب لا تنكح المرأة على عمتها، ح 13. خَ: 6/ 128؛ 117 باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع. خَ: 6/ 160؛ 57 كتاب فرض الخُمس، 4 باب ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ح 7. خَ: 4/ 46. انظر 17 كتاب الرضاع، 1 باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. مَ: 2/ 1068؛ 2 باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل، ح 5. مَ: 2/ 1069؛ انظر 16 كتاب النكاح، 7 باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، ح 2055. دَ: 2/ 545؛ انظر 9 كتاب النكاح، 34 باب يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ح 1937، 1938. جَه: 1/ 623؛ انظر 11 كتاب النكاح، 48 باب ما يحرم من الرضاع. بلفظ: "من الولادة" بدل "من النسب"، ح 2253 - 2255. دَي: 2/ 476 - 477؛ انظر 30 كتاب الرضاع، 1 باب رضاعة الصغير، ح 1. طَ: 2/ 601؛ حَم: 1/ 275، 290، 329؛ 6/ 44، 66، 72، 102، 178. (¬2) حديث أنس بن مالك وأبي برزة الأسلمي: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند باب بيت أحد من الأنصار وقال: "الأئمة من قريش، إنّ لهم عليكم حقاً ولكم عليهم حقاً مثل ذلك، ما إن استُرحموا فرحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا. فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس =

وجب على الفقيه سبرُ تلك الاعتبارات. فإن حصل له الظن في الجملة بأنها مقصودة للشارع أثبتها كمسائل فرعية قريبة من الأصول، ولا يجترئ على أن يتجاوز مواقع ورودها. وإن قوي الظنُّ بأنها مقاصد شرعية مطّردة فله حينئذ تأصيلها ومجاوزة مواقع ورودها كاعتبار الذكورة شرطاً في الولايات القضائية والإمارة بناء على العرف العام المطرد في العالم يومئذ (¬1)، واعتبار التبنّي مؤثراً في جميع آثار ¬

_ = أجمعين". حَم: 3/ 129، 183؛ 4/ 421؛ وحديث عبد الله بن حنطب، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة فقال: "قدموا قريشاً ولا تتقَدَّموها، وتعلّموا منها ولا تعلموها - أو ولا تعالموها". أخرجه الشافعي في مسنده؛ والبيهقي في المعرفة كلاهما عن ابن شهاب الزهري بلاغاً، والشافعي وأحمد في المناقب مرفوعاً، وعبد الرزاق بإسناد صحيح. المناوي. فيض القدير: 4/ 511 - 512. وتصرف أبي بكر في الاحتجاج على الأنصار يوم السقيفة. الماوردي. الأحكام السلطانية: 32؛ الفراء. الأحكام السلطانية: 20؛ ابن خلدون. المقدمة: 194. (¬1) ذكروا في شروط الإمامة أن يكون الإمام من أهل الولاية الكاملة في الإسلام، أي ذكراً مسلماً حراً بالغاً عاقلاً. والذكورة شيء مجمع عليه عند جميع الفرق من أهل السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة وغيرهم. د/ محمد عبد القادر أبو فارس. القاضي الفراء وكتابه الأحكام السلطانية: 358 - 359. واختلف الأئمة الفقهاء في اشتراط الذكورة لجواز ولاية القضاء. فذهب بعضهم إلى جواز الولاية وإن اختلفوا في نوع القضاء الذي تتولاه المرأة. فأجاز الطبري وأهل الظاهر لها ولاية القضاء بصفة عامة. ابن حزم. المحلى: 10/ 621. وأجازها الأحناف في غير الحدود والقصاص. ابن الهمام. فتح القدير: 7/ 297. وذهب الجمهور إلى أنه لا يصح تولّي المرأة القضاء لأن الذكورة شرط في هذه الولاية. ولكل فريق أدلته. د. فاروق عبد العليم مرسي. القضاء في الشريعة الإسلامية: 144 - 155.

البنوة الحقيقية في صدر الإسلام (¬1) قبل نسخ ذلك بآية: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬2) الآية. فيستخلص من هذا كله أن المقاصد الشرعية معان حقيقية لها تحقّقٌ في الخارج. وتلحق بها المعاني الاعتبارية القريبة من الحقيقية (¬3)، ومعان عرفية عامّة متحقّقة. وتلحق بها معان عرفية خاصة تقرب من المعاني العرفية العامة. فأما الأوهام، وهي المعاني التي يخترعها الوَهَمُ من نفسه دون أن تصل إليه من شيء محقق في الخارج، كتوهم كثير من الناس أن في الميت معنى يوجب الخوف منه أو النفور عنه عند الخلوة. وهذا الإدراك مركب من الفعل والانفعال لأن الذهن الواحد نجده في هذا فاعلاً ومنفعلاً معاً. فهو يفعل الاختراع ثم يدركه. وكذلك التخيّلات، وهي المعاني التي تخترعها قوةُ الخيال بمعونة الوهم بأن يركِّبها الخيال من عدّة معان محسوسة محفوظةٍ في ¬

_ (¬1) كان الناس في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنّى الرجل ولد غيره أجريت اْحكام البنوّة عليه. وقد تبنّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطَّابُ عامر بن ربيعة، وأبو حذيفة مولاه سالماً، إلى غير ذلك. الألوسي. روح المعاني: 21/ 146. (¬2) الأحزاب: 5. (¬3) الاعتبارات، هي: المعاني التي لها حقائق متميزة عن بقية الحقائق ولكنها غير موجودة إلا في اعتبار العقلاء، بحيث لا مندوحة للعقل عن تعقلها، لأن لها تعلقاً بالحقائق. ولكن وجودها تابع لوجود الحقيقة مثل الزمان والمكان، أو حقيقتين مثل الإضافات كالأبوة. اهـ. تع ابن عاشور.

الحافظة، كتمثيل صنف من الحوت أنه خنزير بحري (¬1). فليس شيء من هذين بصالح لأن يُعدّ مقصداً شرعياً. [لأن الله تعالى قال لرسوله: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي الذي ليست فيه شائبة من باطل أو فساد] (¬2). ثم إننا استقرينا الشريعة فوجدناها لا تراعي الأوهام والتخيلات وتأمر بنبذها، فعلمنا أن البناء على الأوهام مرفوض في الشريعة إلا عند الضرورة، فقضينا بأن الأوهام غير صالحة لأن تكون مقاصد شرعية. ففي الموطأ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة. فقال له: "اركبها"، فقال: يا رسول الله إنها بدنة. فقال: "اركبها ويلك" في الثانية أو في الثالثة (¬3). وفي الموطأ: أن عبد الله بن عمر كَفَّنَ ابنه واقدَ بن عبد الله حين مات بالجحفة وهو مُحرِم. وقال: لولا أننا حُرُم لطيّبناه (أي ما منعهم من تطييبه إلّا أن الجماعة كلَّهم محرمون لا يجوز لهم مس الطيب). قال مالك: "وإنما يعمل الرجل ما دام حياً. فإذا مات فقد ¬

_ (¬1) وحكم خنزير البحر وكلبه مختلف فيه. فمشهور مذهب مالك الكراهة فيهما. وصرح بهذا خليل في مختصره. وقاله الباجي وابن حبيب. وقال ابن القاسم في المدونة: لم يكن مالك يجيبنا في خنزير الماء بشيء، ويقول: أنتم تقولون: خنزير! الشنقيطي. أضواء البيان: 1/ 154. (¬2) هذه الزيادة من ط. (1) حذفها المؤلف في نسخته المصححة بالضرب عليها. انظر ط. الاستقامة: 54، والآية من النمل: 79. (¬3) انظر 20 كتاب الحج، 45 باب ما يجوز من الهدي، ح 139. طَ: 2/ 377؛ انظر 35 كتاب الحج، 103 باب ركوب البدن. خَ: 2/ 180؛ انظر 15 كتاب الحج، 65 باب جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، ح 371. مَ: 1/ 960.

انقضى العمل" (¬1). والمقصود من ذلك نسخ الحديث الوارد أن رجلاً وَقَصَتْه ناقتُه وهو محرم فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تخمِّروا وجهه ولا تمسُّوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" (¬2). وقد قيل: إن تلك خصوصية له، قد علم الله سرًّا أوجب اختصاصه بتلك المزية (¬3). والصواب عندي: أن ذلك لئلا يتلطخ محنطوه. فالنهي لأجل الأَحياء لا لأجل الميت، وجعل حرمانه من الحنوط سبباً لحشره ملبياً تنويهاً بشأن الحج، كما ورد في الشهيد، وسنذكره قريباً (¬4). وقد أبطل الإسلام أحكام التبنّي التي كانت في الجاهلية وفي صدر الإسلام لكونه أمراً وهمياً. ومن حق الفقيه مهما لاح له ما يوهم جعل الوهْم مُدْرَك حكم شرعي أن يتعمق في التأمل، عسى أن يظفر بما يزيل ذلك الوهْم، ويرى أن ثمة معنى حقيقياً هو مناط التشريع قد قارنه أمر وهمي فغطّى عليه في نظر عموم الناس، لأنهم أَلِفوا المصير إلى الأوهام. مثاله: النهي عن غسل الشهيد في الجهاد (¬5)، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشهيد: "إنه يبعث يوم القيامة ودمه يثعب، اللون لون الدم والريح ريح المسك" (¬6). فيتوهّم كثير من الناس أن علّة ترك ¬

_ (¬1) و (¬2) تقدما: 2/ 75، 2/ 76. (¬3) ابن حجر. الفتح: 4/ 54 - 55؛ الزرقاني. شرح الموطأ: 2/ 233، 732؛ الباجي. المنتقى: 2/ 200. (¬4) المثال المذكور بعده: النهي عن غسل الشهيد في الجهاد. (¬5) انظر 21 كتاب الجهاد، 16 باب العمل في غسل الشهيد، ح 37. طَ: 1/ 463. (¬6) جاء عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لشهداء أحد: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة". =

غسله هي بقاء دمه في جروحه يبعث بها يوم القيامة. وليس كذلك، لأنه لو غسل جهلاً أو نسياناً أو عمداً لما بطلت تلك المزية، ولجعل الله له في جرحه دماً يَثْعَبُ شهادة له بين أهل المحشر. ولكن علّة النهي هي أن الناس في شغل عن التفرّغ إلى غسل موتى الجهاد. فلمّا علم الله ما يحصل من انكسار خواطر أهل الصفّ - حين إصابتهم بالجراح من بقاء جراحتهم، ومن دفنهم على تلك الحالة، وعلم انكسار خواطر أهليهم وذويهم - عوّضهم الله تلك المزية الجليلة. فالسبب في الحقيقة معكوس، أي السبب هو المسبّب والمسبّب هو السبب. وكذلك الأمر بستر العورة للذي يصلي في خلوته (¬1)، فإن ذلك للحرص على عدم الاستخفاف بالعادات الصالحة تحقيقاً لمعنى المروءة وتعويداً عليها. ¬

_ = وأمر بدفنهم ولم يصلَّ عليهم ولم يغسلوهم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ادفنوهم في دمائهم" يعني يوم أحد ... وفي رواية عنه أنه قال في قتلى أحد. وجاء حديث جابر من وجه آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيهم: "لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة" ولم يصل عليهم، وإنما كانت صلاته عليهم دعاء لهم. ابن حجر. الفتح: 3/ 212، 74. (¬1) وهو ما عناه خليل بقوله: وإن بخلوة، ستر العورة من واجبات الصلاة. وشرط فيها مع الذكر القدرة. وفي تعليل الحكم جاء في بدائع الصنائع الأمر بها في قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف: 31، وفي الحديث: "لا صلاة للحائض إلا بخمار"، وإجماع الأمة، ولأن ستر العورة حال القيام بين يدي الله سبحانه من باب التعظيم وأنه فرض عقلاً وشرعاً، وإذا كان الستر فرضاً كان الانكشاف مانعاً جواز الصلاة ضرورة. الحطاب. مواهب الجليل: 1/ 497؛ الكاساني. البدائع: 1/ 116 - 117.

وقد تأتي أحكام منوطة بمعان لم نجد لها متأوّلاً إلا أنّها أمور وهمية، مثل استقبال القبلة في الصلاة، ومثل التيمم، واستلام الحجر الأسود. فعلينا أن نثبتها كما هي، ونجعلها من قسم التعبّدي الذي لا يصلح للكون مقصداً شرعياً. أو نتأوّلها بما سنقول: وتأتي أحكام منوطة بما يمكن له تأويلٌ يخرجه عق الوهْم مثل طهارة الحدث، فنعالج بإمكاننا حتى نخرجه عن الكون وهْمياً. وتفصيل ذلك يجيء في القسم الثالث في المقاصد الخاصة (¬1). واعلم أن الأمور الوهْمية وإن كانت لا تصلح للكون مقصداً شرعياً للتشريع، فهي صالحة لأن يستعان بها في تحقيق المقاصد الشرعية، فتكون طريقاً للدعوة والموعظة ترغيباً أو ترهيباً، كقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" (¬3). فعلى الفقيه أن يفرق بين المقامين. فلا يذهب يفَرِّع على تلك المواعظ أحكاماً فقهية، كمن توهّم أن الصائم إذا اغتاب أحداً أفطر لأنه قد أكل لحم أخيه (¬4). وقد تكون الوهْميات في أحوال نادرة مستعاناً بها على تحقيق مقصد شرعي حين يتعذر غيرها. ولعل ما ذكرناه من التيمم والاستقبال يرجع إلى ذلك، فلنتفطنْ له. ¬

_ (¬1) 397. (¬2) الحجرات: 12. (¬3) تقدم: 113/ 1. (¬4) إيماء إلى قوله تعالى في التغليظ على الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} الآية، الحجرات: 12، المتقدمة الذكر. تع 2.

ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1). والمراد بالدين دين الإسلام لا محالة، لأن الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فهو مأمور بإقامة وجهه للدين المرسل به. ومعنى إقامة الوجه للدين: القصد إليه والجدّ فيه. والمراد بوجهه جميع ذاته، فخصّ الوجه بالذكر لأنّه جامع الحواس وآلات الإدراك، و {حَنِيفًا}: حال من {وَجْهَكَ}. والحنيف: المائل. والمراد هنا: الميل عن غير ذلك الدين من الشرك. قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (¬2). ودخل في هذا الخطاب جميعُ المسلمين باتفاق أهل التأويل. وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ} منصوب على البدل من {حَنِيفًا} المنصوب على الحال من "الدين". فقوله: {فِطْرَتَ} في معنى حال ثانية. فيكون المعنى: فأقم وجهك للدين الحنيف الفطرة. والمراد من الدين: مجموع ما يسمى بالدين من عقائد وأحكام. ¬

_ (¬1) الروم: 30. (¬2) الحج: 31.

وليس تخصيصه بالعقائد في كلام بعض المفسرين مثل فخر الدين الرازي (¬1) والبيضاوي (¬2) إلا انقياداً لظاهر سياق الكلام السابق، لأن الآيات قبلها وردت في ذم الشرك وإبطال عقائد المشركين والدهريين، ابتداء من قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3) إلى أن قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، وبظنهم أن الفاء فاء التفريع. وكِلا الأمرين غير ظاهر. فليس سياق الكلام بموجب تجزئةَ اسم الكُل. فإن الدين اسم يشمل جميع ما يتدين به المرء كما دل عليه حديث: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (¬4). ¬

_ (¬1) حيث قال: إذا تبيّن الأمر وظهرت الوحدانية، ولم يهتد المشرك فلا تلتفت أنت إليهم وأقم وجهك للدين، أي أقبل بكلك على الدين، وقال: إن الله فطر الناس عليه أي الدين، حيث أخذهم من ظهر آدم، وسألهم ألست بربكم؟ فقالوا: بلى. ولا تبديل لخلق الله، أي الوحدانية مترسخة فيهم لا تغيير لها لكن الإيمان الفطري غير كاف. الفخر. التفسير الكبير: 12/ 120 - 121 (¬2) حيث قال في تفسير الآية: فقوّمه له غير ملتفت أو ملتفت عنه وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به. والفطرة التي فطر الناس عليها قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه أو ملّة الإسلام .... البيضاوي. أنوار التنزيل وأسرار التأويل: بحاشية الشهاب على البيضاوي: 7/ 121. (¬3) الروم: 11. (¬4) انظر 1 كتاب الإيمان، 1 باب الإيمان والإسلام والإحسان، ح 1. مَ: 1/ 36 - 38؛ انظر 34 كتاب السنة، 17 باب في القدر، 4695. دَ: 5/ 69 - 73؛ انظر 41 كتاب الإيمان، 4 باب ما جاء في وصف جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان والإسلام، 2610. تَ: 5/ 6 - 7؛ انظر حديث أبي هريرة: 6 كتاب المواقيت، 6 باب آخر وقت الظهر. نَ: 1/ 249 - 251؛ =

وقد نبّه أئمة أصول الفقه على أنّه إذا ورد في القرآن كلام خاص ثم تلاه لفظ يشمل ذلك الخاص وغيره لمناسبة، أن ذلك اللفظ لا يختص ببعض مدلوله لأجل السياق (¬1). وأما الفاء فالظاهر أنها فاء الفصيحة لا فاء التفريع. والفصيحة هي الفاء التي تؤذن بشرط مقدر إذا وقعت بعد كلام يقصد به إثبات أمر مطلوب للمتكلم بعد التمهيد له بذكر مقدماته ودلائله. فيقع ما بعد الفاء موقعَ النتيجة من القياس. والتقدير في الآية: إذا علمت ما بينّاه للناس من دلائل ¬

_ = انظر حديث عمر. المقدمة، 9 باب الإيمان، ح 63. جَه: 1/ 24، 25. وإلى جانب ما ورد في هذا الحديث اعتبار الفطرة صفة للعقيدة وللدين جميعاً. وهذا ما عناه المؤلف في تفسيره حين قال: وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه. أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية. وهذا ما أفاده قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} التوبة: 36، فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح لجميع الأمم. ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة، وللعصور عامة. وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يُسْراً، لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة. التحرير والتنوير: 21/ 92. (¬1) قال الشيخ ابن عاشور: أصل المسألة هنا هو ورود العام على سبب ظاهر. وهو الذي اعتنى به الأصوليون. وذكروا في صورته أنه إذا اقترن العام في سياقه بخصوص فإن ذلك لا يقضي على عموم اللفظ بالتخصيص. وقال الآمدي: ولعل من هذا الباب قولهم: اتفق الجمهور على أنه إذا ورد لفظ عام، ولفظ خاص يدل على بعض ما يدل عليه العام، لا يكون الخاص مخصصاً للعام بجنس مدلول الخاص، ومخرجاً عنه ما سواه خلافاً لأبي ثور من أصحاب الشافعي. الآمدي. الأحكام، المسألة الثانية عشرة: 2/ 205.

الوحدانية وإبطال الشرك فأقم وجهك. أي توجَّه لدين الإسلام الذي هو الفطرة. فالتعريف في {الدِّينُ} تعريف العهد، وهو ما عهده الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أنزل عليه من العقائد والشريعة كلِّها. كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬1). فالفطرة في هذه الآية مراد بها جملة الدين بعقائده وشرائعه. وبذلك فسر ابن عطية والزمخشري. قال ابن عطيّة: "والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة (الفطرة) أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدّة ومهيّئة لأن يميز بها [مصنوعات] الله تعالى ويستدلّ بها على ربّه ويعرف شرائعه [ويؤمن به] " (¬2). وقال الزمخشري في الكشاف: "والمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام" (¬3). فبنا (¬4) أن نبيّن معنى كون الإسلام الفطرة إذ هو معنى لم أَرَ من أتقن الإفصاح عنه: الفطرة: الخلقة، أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق ففطرة الإنسان هي ما فطر، أي خُلق عليه الإنسان ظاهراً وباطناً، أي: جسداً وعقلاً. فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، فمحاولة أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة. واستنتاج المسبّبات من أسبابها والنتائج من مقدّماتها فطرة عقليّة، فاستنتاج الشيء من غير سببه ¬

_ (¬1) الشورى: 13. (¬2) ابن عطية. المحرر الوجيز: 12/ 258. (¬3) الزمخشري. الكشاف: 3/ 222. (¬4) تقدم معناها: 96/ 2.

المسمّى في علم الاستدلال بفساد الوضع خلاف الفطرة العقليّة (¬1). والجزم بأن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقليّة، فإنكار السفسطائية (¬2) ثبوت ذلك خلاف الفطرة العقليّة. فوصف الإسلام بأنه الفطرة، معناه: أنه فطرة عقليّة لأنّ الإسلام عقائد وتشريعات، وكلّها أمور عقلية أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به. وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتاب النجاة فقال: ¬

_ (¬1) الأصل في الفطرة كما جاء في معاجم اللغة: الابتداء والاختراع {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فاطر: 1. وهي الجبلة القابلة لدين الحق. الفيروز آبادي. البصائر: 4/ 200 بمعنى الخلقة. أنشد ثعلب: هوّن عليك فقد نال الغنى رجل ... في فطرة الكلب لا بالدين والحسب وأطلقت على ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به. وفرقوا بين الفطرة التي يفطر عليها المولود، وهي الخلقة التي يوجد عليها في بطن أمه: {الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} الزخرف: 27، {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} يس: 22، وبين الفطرة الثانية وهي فطرة الدين، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الكلمات التي يصير بها العبد مسلماً. يشهد لهذا حديث البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علّم رجلاً أن يقول إذا نام كلمة الشهادتين، وقال: "فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة". وجعلوا من هذا قوله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم: 30. فهذه فطرة فُطر عليها المؤمن. اللسان: مادة فطر؛ ابن القيم. شفاء العليل: 559. وسيرد في كلام الشيخ ما يزيد الفطرة بياناً وإيضاحاً عند علماء الإسلام ورجال الحكمة. (¬2) فرقة من فلاسفة اليونان تنكر الحسيات والبديهيات وغيرها، وتلفّق لإبكات خصومها أقيسة مركبة من الوهميات.

"ومعنى الفطرة: أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل، لكنّه لم يسمع رأياً ولم يعتقد مذهباً ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات، ثم يَعرض على ذهنه شيئاً ويتشكّك فيه. فإن أمكنه الشكّ فالفطرةُ لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة. وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق، إنما الصادق فطرة القوّة التي تسمى عقلاً. وأمّا فطرة الذهن بالجملة فربّما كانت كاذبة. وإنّما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات، بل هي مبادئ للمحسوسات. فالفطرة الصادقة هي مقدّمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إما شهادةُ الكل مثل أن العدل جميل، وإما شهادةُ الأكثر، وإما شهادةُ العلماء أو الأفاضل منهم. وليست الذائعات من جهة ما هي ذائعات ممّا يقع التصديق بها في الفطرة. فما كان من الذائعات ليس بأوَّلي عقلي ولا وَهْمي (¬1) فإنها غير فطرية، ولكنّها متقرّرة عند الأنفس، لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا. وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناعُ المضطرُّ إليهما الإنسان، أو شيءٌ من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستيناس، أو الاستقراء الكثير، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقاً (¬2) صِرفاً فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذُ على الإطلاق" (¬3) اهـ كلامه. ¬

_ (¬1) كذا فإن لم يكن تحريفاً فالظاهر أنه أراد بالوهمي الاعتباري لا ما تدركه القوة الواهمة. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) قوله: (لأن يكون حقاً) متعلق بشرط دقيق. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) ابن سينا. نقل بتصرف من النجاة: 96 - 98.

ولقد أبدع في الإفصاح عن معنى الفطرة والتنبيه على وجوب الحذر من اختلاطها بالمدركات الباطلة المتأصّلة في النفوس بسبب عوارض عرضت للبشر، مثل: العوائد الفاسدة المألوفة، ودعوة أهل الضلالات إليها. وفي كلامه ما ينبّه على أن المخاطبين بتمييز الفطرة عن غيرها هم العلماء والحكماء أهل العقول الراجحة، فلا يعوز هؤلاء تحقيق معنى الفطرة وتمييزها عما يلتبس بها من المدركات والوجدانات. على أنّه إن عسر على أحدهم تحقيق معنى فطري دقيق، أو شديدٍ التباسُ غيره به، وخاف هوى نفسه أن يخيّل له الأمر غير الفطري، فعليه حينئذ أن يعمِّق النظرَ طويلاً، وأن يعتبر بشهادة العلماء الأفاضل المشهود لأفكارهم بكثرة العصمة من الخطأ. وقد استبان لك أن الفطرة النفسية للإنسان هي الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الإنساني سالماً من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة. فهي المراد من قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (¬1). وهي صالحة لصدور الفضائل عنها كما شهد به قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬2). فلا شك أن المراد بالتقويم في الآية تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة (¬3). وأن ¬

_ (¬1) الروم: 30. (¬2) التين: 4 - 6. (¬3) اقتصر المؤلف هنا على أحد مدلولي التقويم الذي يقتضيه السياق. وفي تفسيره ذكرَ المعنيين. وعرف الأول - وهو المعنى العام - بقوله: التقويم جعل الشيء في قَوام، أي عدلاً وتسوية، وحُسن التقويم: أكملهُ وأنيقُه بنوع الإنسان، أي أحسن تقويم له. وهذا يقتضي أنه تقويم خاص =

المراد برده أسفل سافلين انتقال الناس إلى اكتساب الرذائل بالعقائد الباطلة والأعمال الذميمة. وليس المراد تقويم الصورة لأن صورة الناس لم تتغير إلى ما هو أسفل، ولأن الاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} يمنع أن يكون المستثنى منه صوراً ظاهرة، إذ ليس للمؤمنين الصالحين اختصاص بصور جميلة. فالأصول الفطرية هي التي خلق الله عليها الإنسان المخلوق لعمران العالم، وهي إذن الصالحة لانتظام هذا العالم على أكمل وجه، وهي إذن ما يحتوي علمه الإسلام الذي أراده الله لإصلاح العالم بعد اخلاله. ومعنى وصف الإسلام بأنه {فِطْرَتَ اللَّهِ}: أن الأصول التي جاء بها الإسلام هي من الفطرة، ثم تتبعها أصول وفروع هي من الفضائل الذائعة المقبولة. فجاء بها الإسلام وحرَّض عليها، إذ هي من العادات الصالحة المتأصّلة في البشر، والناشئة عن مقاصد من الخير سالمة من الضرر. فهي راجعة إلى أصول الفطرة، وإن كانت لو تركت الفطرة وشأنها لما شهدت بها ولا بضدّها. فلما حصلت ¬

_ = بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات. ويتضح في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه مُوقعة له فيما يفسده، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته فإن غيَّره من جنسه كان دونه في التقويم. التحرير والتنوير: 30/ 424. وهذا التفسير يجمع بين التقويم للجسد والتقويم للعقل. وقال آخر من المفسرين: إن عناية الله بأمر هذا المخلوق لتتجلّى في خلقه وتركبه على هذا النحو الفائق سواء في تكوينه الجسماني البالغ الدقة والتعقيد، أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الروحي العجيب. وقد قفى الإمام الأكبر على تفصيله لهذه المعاني بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" فإن العقل أشرف ما خص به نوع الإنسان من بين الأنواع. التحرير والتنوير: 30/ 424.

اختارتها الفطرة، ولذلك استقرت عند الفطرة واستحسنتها. مثال ذلك: الحياء والوقاحة، فإنّهما إذا لم يخرجا إلى حد الاستعمال في الإضرار كانا سواء في شهادة الفطرة. وقد كان بعض الحكماء معروفاً بالوقاحة والسلاطة، مثل: الحكيم ديوجينوس اليوناني (¬1). ولكنا نجد الحياء محبوباً للناس فصار من العادات الصالحة، وصلح لأن تنشأ عنه منافع جمة في صلاح الذات وإصلاح العموم، فلذلك كان من شعار الإسلام. ففي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برجل من الأنصار يعظ أخاه في الحياء (أي ينهاه عما تلبس به من الحياء)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعه فإن الحياء من الإيمان" (¬2). فلم تسلم حكمة أصحاب الشدّة والغلظة من نفور الناس عنها وعنهم، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬3). ويستبين لك من هذا أن الوجدان الإنساني العقلي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتباريات، ولا يدخل فيه الأوهام والتخيّلات، لأنها ليست مما فطر عليها العقل، ولكنها مما عرض ¬

_ (¬1) الحكيم اليوناني، حوالي (413 - 327) قبل الميلاد. من أشهر تلاميذه أنتيستان، يحتقر الثروات، ويعارض كل القوانين الاجتماعية ويراها تجاوزات للحرية، كما يدعو إلى التخلص من المتع والاكتفاء بالأدنى من الحاجات. سأله الإسكندر الأكبر عن حاجته فقال له: أن تتنحى عن شمسي. (¬2) انظر 2 كتاب الإيمان، 16 باب الحياء من الإيمان. خَ: 1/ 11؛ كتاب الأدب المفرد، باب الحياء، ح 602. خَ: 235؛ انظر 1 كتاب الإيمان، 12 باب بيان عدد شعب الإيمان، ح 59. مَ: 1/ 63. (¬3) آل عمران: 159.

للفطرة عروضاً كثيراً حتى لازمت أصحاب الفطرة في غالب الأحوال فاشتبهت بالفطريات. وإنما كان عروضها للفطرة بسوء استعمال العقل وسوء فهم الأسباب. ولذلك تجد العقلاء متفقين في الحقائق والاعتباريات، ولا تجدهم متفقين في الوهميات والتخيلات، بل تجد سلطان هذين الأخيرين أشد بمقدار شدة ضعف العقول، وتجد أهل العقول الراجحة في سلامة منهما. ويتفرع لنا من هذا أن الشريعة الإسلامية داعية أهلها إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها، وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها. فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة في الخلقة، والتعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء، وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة، والحضارة الحق من الفطرة، لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة، لأنها نشأت عن تلاقح العقول وتفاوضها. والمخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير، وفي الفطرة حب ظهور ما تولد عن الخلقة. ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع - الذي سيأتي بحثه (¬1) - نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها. ولعل ما أفضى إلى خرق عظيم فيها يعدّ في الشرع محذوراً وممنوعاً، وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجباً، وما كان دون ذلك في الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة، وما لا يمسّها مباح. ثم إذا تعارضت مقتضيات الفطرة ولم يُمكن الجمع بينها في ¬

_ (¬1) في هذا القسم من الكتاب: 194.

العمل يصار إلى ترجيح أَوْلاها وأَبقاها على استقامة الفطرة. فلذلك كان قتل النفس أعظم الذنوب بعد الشرك (¬1)، وكان الترهّب منهياً عنه (¬2)، وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات (¬3)، ولم يجز الانتفاع بالإنسان ¬

_ (¬1) كما في حديث أبي بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبؤكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور". انظر 1 كتاب الإيمان، 38 باب بيان الكبائر وأكبرها، ح 143. م: 1/ 91؛ وحديث أنس عنه "قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور": 1 كتاب الإيمان، 38 باب بيان الكبائر وأكبرها، ح 144. مَ: 1/ 91. تقدم ذكر مثله عند البخاري: 170/ 2. (¬2) الترهب: التبتل. أخرجه الدارمي عن عائشة قالت: "نهى رسول الله عن التبتل"؛ وعن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاطب عثمان بن مظعون، وقد ترك النساء، قائلاً: "إني لم أومر بالرهبانية. أرغبت عن سنتي؟ " قال: لا يا رسول الله. قال: "إنّ مِن سنتي أن أصلي وأنام وأصوم وأطعم وأنكح وأطلق. فمن رغب عن سنتي فليس مني. يا عثمان إن لأهلك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً". قال سعد: فوالله لقد كان أجمع رجال من المسلمين على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هو أقر عثمان على ما هو عليه أن نختصي فنتبتل. دَي: 11 كتاب النكاح، 3 باب النهي عن التبتل: 2/ 455، 456؛ وحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التبتل. حَم: 3/ 158، 245؛ 5/ 17؛ 6/ 125، 157، 253. (¬3) فيه حديث سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه". انظر 45 كتاب القسامة، 11 باب القود من السيد للمولى. نَ: 8/ 20 - 21؛ وفيه حديث قيس عن عبد الله قال: "ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك". انظر 67 كتاب النكاح، 8 باب ما يكره من التبتل والخصاء، ح 3. خَ: 6/ 119. والنهي في الحديث نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم. وفيه من المفاسد تعذيب النفس، والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك، كما أن فيه إبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله وكفر النعمة. ابن حجر. الفتح: 9/ 119.

انتفاعاً يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد (¬1)، بخلاف الانتفاع بالحيوان، وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعاً (¬2). ومن هنا تعلم أَنّ القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة، لأن شرط العادة التي يُقْضى بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية. فهي تدخل تحت حكم الإباحة. وقد علمت أنها من الفطرة: إما لأنها لا تنافيها وحينئذ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس، وإمّا لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) وكانت عقوبة من فعل ذلك تحرير العبد الممثل به، إذ يعتق بالمثلة. انظر 2 كتاب الإيمان، 22 باب المعاصي من أمر الجاهلية. خَ: 1/ 13؛ 49 كتاب العتق، 15 باب العبيد إخوانكم. خَ: 3/ 123؛ انظر 21 كتاب الديات، 29 باب من مثل بعبده فهو حر، ح 2679، 2680. جَه: 2/ 894. (¬2) لحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: "من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة". انظر كتاب الضحايا، 41 باب من قتل عصفوراً بغير حقها. نَ: 7/ 239؛ انظر 6 كتاب الأضاحي، 13 باب النهي عن مثلة الحيوان: "لعن رسول الله من مثّل بالحيوان" - أورد فيه دجاجة بدل عصفوراً -، ح 1979 - 1981. دَي: 2/ 408.

د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها السماحة: سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل. وهي راجعة إلى معنى الاعتدال، والعدل، والتوسط. ذلك المعنى الذي نوّه به أساطين حكمائنا الذين عنوا بتوصيف أحوال النفوس والعقول، فاضلَها ودنيَّها وانتسابَ بعضها من بعض. فقد اتفقوا على أن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، أي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، لأن ذينك الطرفين يدعو إليهما الهوى الذي حذّرنا الله منه في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وقوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (¬2)، وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (¬3)، فإن ذلك متعلق بأهل الكتاب ابتداء، ومراد منه موعظة هذه الأمة؛ لتجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة وسقوطَها. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليهود: "لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم" (¬4). ¬

_ (¬1) ص: 26. (¬2) النساء: 171، المائدة: 77. (¬3) الحديد: 27. (¬4) حديث أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم". أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وذكره ابن كثير من رواية ابن مردويه وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة: 1/ 194. الشوكاني. فتح القدير: 1/ 162.

فالتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط هو منبع الكمالات. وقد قال الله تعالى في وصف هذه الأمة أو وصف صدرها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬1). روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معنى الآية أن الوسط هو العدل أي بين طرفي الإفراط والتفريط (¬2)، وبذلك جزم المحقّقون في تفسير هذه الآية (¬3). وبه فسر أيضاً قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (¬4) أي أعلمهم وأعدلهم. وقد شاع هذا المعنى في الوسط (¬5). وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي: "خير الأمور أوساطها". وبعضهم يرويه حديثاً، وهو مشهور على الألسنة ولكنه ضعيف الإسناد (¬6). فالسماحة السهولة المحمودة فيما يظنّ الناس التشديد فيه. ومعنى كونها محمودة أنها لا تفضي إلى ضر أو فساد. وفي الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذ اقتضى" (¬7). وقريب منه ¬

_ (¬1) البقرة: 143. (¬2) حديث أبي سعيد الخدري. انظر 48 كتاب تفسير القرآن، 3 باب ومن البقرة، ح 2961. تَ: 5/ 207. (¬3) راجع كلام المؤلف في تفسير الآية التحرير والتنوير: 2/ 17، 18. (¬4) القلم: 28. (¬5) [حتى قال أبو تمام: كانت هى الوسط المحمية فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا] ما أوردناه هنا مثبت ص 61 - 62. ط (1) الاستقامة. لكن المؤلف اختصره وضرب عليه في نسخته المصححة. (¬6) السخاوي. المقاصد: 205، ع 455. (¬7) يشير إلى حديث جابر ونصه: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" هكذا بدون تكرار الوصف. انظر 34 كتاب البيوع، 16 =

في رواية أبي هريرة (¬1). ووصفُ الإسلام بالسماحة ثبَتَ بأدلة القرآن والسنة. فقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2)، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3)، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (¬4)، وقال: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬5). وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَحبُّ الدّين إلى الله الحنيفية السمحة". رواه ابن أبي شيبة، وأخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً، وأخرجه في الأدب المفرد مسنداً (¬6)، أي أحبُّ الأديان إلى الله دين الإسلام الذي هو الحنيفية ¬

_ = باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع. خَ: 3/ 9. والنص المذكور هو نص ابن ماجه لكنه قال: عبداً بدل رجلاً؛ انظر 12 كتاب التجارات، 28 باب السماحة في البيع، ح 2203، جَه 2/ 742. (¬1) ونصه: "إن الله يحب سَمحَ البيع، سمح الشراء، سمح القضاء". الترمذي والحاكم في كتاب البيوع عن أبي هريرة. قال الترمذي: غريب، وقال الحاكم: صحيح، أقروه. المنذري. الترغيب والترهيب، باب الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضي والقضاء، ح 5، 2/ 563؛ المناوي. التيسير: 1/ 271؛ فيض القدير: 2/ 294، 1885. (¬2) البقرة: 185. (¬3) الحج: 78. (¬4) المائدة: 6. (¬5) البقرة: 286. (¬6) ورد الحديث تعليقاً عند البخاري. فلم يسنده في صحيحه لأنه ليس على شرطه. انظر 2 كتاب الإيمان، 29 باب الدين يسر. ذكر ذلك في ترجمة الباب. خَ: 1/ 15. وأخرجه موصولاً عن ابن عباس في كتاب الأدب المفرد: باب حسن الخلق إذا فقهوا خ: 1/ 138، ح 287. ووصله =

السمحة. فقد أثبت أن السماحة هي وصف الإسلام. وفيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه" (¬1) أي كان الدين غالباً. وفي الحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة" (¬2)، وهو ضعيف السند بهذا اللفظ، ولكنه في معنى الحديث الذي قبله. واستقراء الشريعة دل على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين. وفي الحديث الصحيح - في البخاري وغيره - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث علياً ومعاذاً إلى اليمن وقال لهما: "يسِّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنّفرا" (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "إنما بعثتم مُيسّرين ولم تبعثوا معسّرين" (¬4). وعن عائشة: "كان رسول الله ما خير بين أمرين إلّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً" (¬5). والمراد من الإثم ما دلت الشريعة على تحريمه. ¬

_ = أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس؛ والطبراني في الكبير. وذكره المناوي بلفظ: "الأديان" جمعاً بدل "الدين" جنساً وصححه. فيض القدير: 1/ 169 - 170، 208؛ ابن حجر. الفتح: 1/ 93 - 95. (¬1) تمام الحديث: "فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" - تقدم تخريجه: 144/ 5. (¬2) تقدم: 144/ 3. (¬3) تقدم: 144/ 6. (¬4) تقدم: 145/ 1. (¬5) ورد بصيغ مختلفة متقاربة. انظر 61 كتاب المناقب، 23 باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ح 18. خَ: 4/ 166؛ 78 كتاب الأدب، 80 باب قول =

قال الشاطبي في الفصل الثاني من المسألة السابعة من نوع الموانع (¬1)، وفي مواضع متكرّرة من كتابه: "إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع" (¬2)، واستدل لذلك بكثير من الأدلة التي ذكرناها آنفاً. وأقول: إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يسروا ولا تعسروا". خَ: 7/ 101؛ 86 كتاب الحدود، 10 باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله. خَ: 8/ 16؛ انظر 43 كتاب الفضائل، 20 باب مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته. ح 77، 78. مَ: 2/ 1813؛ انظر 35 كتاب الأدب، 5 باب في التجاوز في الأمر، 4785. دَ: 5/ 142؛ انظر 47 كتاب حسن الخلق، 1 باب ما جاء في حسن الخلق. ح 2. طَ: 2/ 902, 903. (¬1) جاء في مقاصد الشريعة من كتاب الموافقات، الفصل الثاني: وينبني أيضاً على ما تقدم أنه ليس للمكلف الدخول في المشقة باختياره فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهياً عنه، وغير صحيح في التعبّدية، لأن الشارع لا يقصد الإحراج فيما أذن فيه. الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 80 - 81 = (2) 2/ 89 - 91 = (3) 2/ 133 - 135 = (4) 2/ 229. (¬2) ومثل ما ورد من ذلك قول الشاطبي في آخر الفصل الأول من المسألة السابعة نفسها: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل بقوله: "من رغب عن سنتي فليس مني". ورده التبتل عن عثمان بن مظعون بقوله: ولو أذن له لاختصينا، ورده على من نذر أن يصوم قائماً في الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام في الشمس، وقال: "هلك المتنطّعون". ونهيه عن التشديد شهيرٌ في الشريعة بحيث صار أصلاً فيها قطعياً". الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 79 - 80 = (2) 2/ 89 = (3) 2/ 132 - 133 = (4) 2/ 222.

النفوس سهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬1). وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً. ولا يكون ذلك إلّا إذا انتفى عنها الإعنات. فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها. وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها. فعلم أن اليسر من الفطرة، لأن في فطرة الناس حب الرفق. ولذلك كره الله من المشركين تغيير خلق الله فأسنده إلى الشيطان، إذ قال عنه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬2). وذلك من حيث يكون التغيير خلوًا عن المصلحة. فأما إذا كان لمعنى أدخل في الفطرة لا يصير مذموماً بل يكون محموداً، مثل: الختان، وتقليم الأظفار (¬3)، وحلق الرأس في الحج (¬4). ¬

_ (¬1) النساء: 28. (¬2) النساء: 119. (¬3) وردت في ذلك أحاديث تحثّ عليها، مثل حديث أبي هريرة: "الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب". انظر 77 كتاب اللباس، 63 باب قص الشارب. خَ: 7/ 56. ابن حجر. الفتح: 10/ 334 - 349. (¬4) لكونه نسكاً في الحج، ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعن ابن عمر: "حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله المحلقين" مرّة أو مرّتين. والحلق أفضل من التقصير فإنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والمذلة، وأدل على صدق النية. وفيه معنى التجرد. واستحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة. ابن حجر. الفتح: 3/ 562 وما بعدها.

هـ - المقصد العام من التشريع

هـ - المقصد العام من التشريع إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا - من كليات دلائلها، ومن جزئياتها المستقراة - أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ويشمل صلاحه وصلاحَ عقله وصلاحَ عمله وصلاحَ ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه. قال الله تعالى حكاية عن رسوله شعيب وتنويهاً به: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} (¬1). فعلمنا أنّ الله أمر ذلك الرسول بإرادة الإصلاح بمنتهى الاستطاعة. وقال: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (¬2). وقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (¬3). فعلمنا أن الصفات التي أجريت على فرعون كلها من الفساد، وأن ذلك مذموم، وأن بعثة موسى كانت لإنقاذ بني إسرائيل من فساد فرعون، فعلمنا أن المراد من الفساد غير ¬

_ (¬1) هود: 88. (¬2) الأعراف: 142. (¬3) القصص: 4.

الكفر، وإنما هو فساد العمل في الأرض، لأن بني إسرائيل لم يتبعوا فرعون في كفره. وقال حكاية عن شريعة شعيب لأهل مدين: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (¬1)، وفي آية أخرى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬2). وقال حكاية عن رسول ثمود: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬3). وقال الله تعالى مخاطباً هذه الأمة: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (¬4). وقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬5). وقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (¬6). فهذه أدلة صريحة كلية دلت على أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد، وذلك في تصاريف أعمال الناس. وهناك آيات كثيرة في القرآن ذكر فيها الصلاح في معرض الحث والمدح، وذُكِر فيها الفساد في معرض التحذير والذم، تركت سوقها هنا لأنها لم تكن صريحة في أن المراد من الصلاح والفساد صلاح وفساد الأعمال، بل تحتمل أن يراد منهما الإيمان والكفر. ¬

_ (¬1) الأعراف: 85. (¬2) هود: 85، الشعراء: 183، العنكبوت: 36. (¬3) الأعراف: 74. (¬4) الأعراف: 85. (¬5) البقرة: 205. (¬6) محمد: 22 - 23.

وتَتْبَعُها أدلة من قبيل الإيماء جاءت دالة على أن صلاح الحال في هذا العالم منة كبرى يَمُنُّ الله بها على الصالحين من عباده جزاء لهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (¬1). وقال مخاطباً المسلمين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬2). وقال في معرض الوعد: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬3). وامتن على بني إسرائيل بالإنقاذ من الأسر الدنيوي بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (¬4). فلولا أن صلاح هذا العالم مقصود للشارع ما امتن به على الصالحين من عباده. ولقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوّه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل كما قد يتوهم، بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية. فإنّ قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (¬5) أنبأنا بأن الفساد المحذّر منه هنالك هو إفساد موجودات هذا العالم، وأن الذي أوجد هذا العالم وأوجد فيه قانون بقائه لا يظن فعله ذلك عبثاً. وهو يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ¬

_ (¬1) الأنبياء: 105 - 106. (¬2) النور: 55. (¬3) النحل: 97. (¬4) المائدة: 20. (¬5) البقرة: 205.

عَبَثًا} (¬1). ولولا إرادة انتظامه لما شرع الشرائع الجزئية الرادعة للناس عن الإفساد. فقد شرع القصاص على إتلاف الأرواح (¬2) وعلى قطع الأطراف (¬3)، وشرع غرم قيمة المتلفات، والعقوبة على الذين يحرقون القرى ويغرقون السلع (¬4). ولَمَا أباح تناول الطيبات والزينة (¬5). وأقامت الشريعة لإصلاح معاملة الناس بعضهم مع بعض نظام الحق. وهو لدفع الفساد قطعاً، كما صرح به قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (¬6). فجعل الحقَّ ممانعاً للفساد. ومن عموم هذه الأدلة ونحوها حصل لنا اليقين بأن الشريعة متطلِّبةٌ لجلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبرنا هذا قاعدة كلية في الشريعة. فقد انتظم لنا الآن أن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد. وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع فساده. فإنّه لما كان هو المهيمنَ على هذا العالم كان في صلاحه صلاح العالم وأحواله. ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله. فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدأ التفكير ¬

_ (¬1) المؤمنون: 115. (¬2) {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. البقرة: 179. (¬3) {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. المائدة: 185. (¬4) لما قررته الشريعة من حفظ المتمولات. نبه على ذلك المؤلف: 201. (¬5) {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. الأعراف: 32. (¬6) المؤمنون: 71.

الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم. ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه، لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة، كما ورد في الحديث: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب" (¬1). وقد قال الحكماء: الإنسان عقل تخدمه الأعضاء (¬2). ¬

_ (¬1) حديث النعمان بن بشير. انظر: 2 كتاب الإيمان، 39 باب فضل من استبرأ لدينه. خَ: 1/ 19؛ انظر 22 كتاب المساقاة، 20 باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 107. مَ: 2/ 1219 - 1220؛ انظر 36 كتاب الفتن، 14 باب الوقوف عند الشبهات، 3984. جَه: 2/ 1318 - 1319؛ انظر 18 كتاب البيوع، 1 باب الحلال بيّن والحرام بيّن، ح 2534. دَي: 2/ 559. (¬2) نسب المؤلف هذه المقالة الحكيمة للفيلسوف الفرنسي بونالد (1754 - 1840 م)، وذلك عند تفصيله القول في ذكر أسباب تأخر التعليم. وجعلها تنبيهاً على وجوب مراعاة المصالح الصحية وعدم خلوه عنها. مبيناً ذلك بقوله: الإنسان خُلق ليعلم ويعمل، فالعلم بالعقل والعمل بالبدن، وهما متكافئان في وجوب التحفظ عليهما. انظر: أليس الصبح بقريب: 129 - 130. وقد وردت من قبل بإزاء هذا المعنى أو ما يقرب منه أقوال أئمة الفكر الإسلامي، نذكر منها أن العقل هو الشيء الذي يدرك به الإنسان ما لا يدرك بالحواس ... ولولا خدمة الحواس للعقل ما أدركنا شيئاً. فإن الكسبيات فرع البديهيات، والبديهيات فرع المحسوسات ... والعقل من صفاته وأفعاله اليقين والشك والتوهّم، وطلب الأسباب لكل حادث والتفكر في حيل جلب المنافع ودفع المضار. شاه ولي الله دهلوي. حجة الله البالغة: 2/ 88 - 90. وقالوا: إن اكتمال قيام العقل بجميع وظائفه يحصل من التئام العقل التمييزي والعقل التجريبي، وصيرورته عقلاً محضاً ونفساً مدركة تعتمد الاعتبار والتنبيه وحسن النظر في تصرفاتها وأحكامها، وترتقي بذلك من المعارف الحسية إلى المعارف العقلية، ومن مراتب الشك إلى درجة =

ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل، وذلك بتقنين التشريعات كلها. فاستعداد الإنسان للكمال وسعيه إليه يحصل بالتدريج في مدارج تزكية النفس. ولنا من تطور التشريع من ابتداء البعثة إلى ما بعد الهجرة هاد يهدينا إلى مقصد الشريعة من الوصول إلى الإصلاح المطلوب. وقد أشار إلى مجمل ما أطلناه ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي عمرة الثقفي أنه قال: "قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك"، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" (¬1). وإذا لم يكن غرضنا في هذا الكتاب الكلام عن الإصلاح العام في الإسلام فلنلْوِ عنان القلم عن الخوض في صلاح الاعتقاد وفي صلاح الأنفس وفي صلاح عمل العبادات، ولنثن ذلك العنان إلى خصوص البحث في صلاح أحوال المسلمين في نظام المعاملات المدنية، وهي ما يعبر عنه بجلب المصلحة ودرء المفسدة. ¬

_ = اليقين. وهكذا يتبيّن فضل العقل وتتضح ضرورة الحفاظ عليه التي أمر بها الشرع حين دعا إلى وجوب معالجة الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه. فالعقل مستقر الحقيقة الإنسانية والفكر خاصة البشرية، به ميَّز الخالق المبدع الكريم البشر عن غيره، وجعله مستخلفاً في الأرض. (¬1) انظر 1 كتاب الإيمان، 13 باب جامع أوصاف الإسلام، ح 62. مَ: 1/ 65.

و - بيان المصلحة والمفسدة

و - بيان المصلحة والمفسدة أما المصلحة: فهي كاسمها شيء فيه صلاح قوي. ولذلك اشتق لها صيغة المَفْعَلة الدالة على اسم المكان الذي يكثر فيه ما منه اشتقاقه، وهو هنا مكان مجازي. ويظهر لي أن نعرفها بأنها وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد. فقولي: "دائماً"، يشير إلى المصلحة الخالصة والمطّردة، وقولي: "أو غالباً"، يشير إلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال، وقولي: "للجمهور أو للآحاد"، إشارة إلى أنها قسمان كما سيأتي (¬1). وعرف عضد الدين في شرح مختصر ابن الحاجب الأصلي المصلحةَ بأنها اللذة ووسيلتها (¬2). وعرفها هو في المواقف بأنها ملاءمة الطبع (¬3). وعرفها الشاطبي في مواضع من كتابه عنوان التعريف - بما ¬

_ (¬1) انظر إثر هذا: وأما المفسدة فهي ما قابل المصلحة ... وقد لاح من التعريف أن المصلحة قسمان: مصلحة عامة وهي ما فيه صلاح عموم الأمة أو الجمهور، ومصلحة خاصة وهي ما فيه نفع الآحاد. وقد زاد ذلك بياناً وتفصيلاً: 253 - 258. (¬2) النص عنده: المصلحة اللذة ووسيلتها، والمفسدة الإثم ووسيلته، وكلاهما نفسي وبدني، دنيوي وأخروي. العضد الإيجي. شرح مختصر المنتهى: 2/ 239. (¬3) اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم. والملائم هو كمال الشيء الخاص به. المقصد الأول. العضد الإيجي. شرح المواقف: 158 ص 146 ج 3 طبع الأستانة. اهـ. تع ابن عاشور.

يتحصل منه بعد تهذيبه - أنها ما يؤثر صلاحاً أو منفعة للناس عمومية أو خصوصية، وملاءمةً قارة في النفوس في قيام الحياة (¬1). وهو أقرب التعاريف السابقة على تعريفنا، ولكنه غير منضبط. وأما المفسدة فهي ما قابل المصلحة. وهي وصف للفعل يحصل به الفساد، أي الضر دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد. ¬

_ (¬1) انظر ص 13 وصفحة 14 من ج 2، طبع تونس [= (2) 1/ 241 - 259 = (3) 2/ 24، 25 = (4) 2/ 44]. اهـ. تع ابن عاشور. وكذا ما ورد من أحكام وتقسيمات للمصلحة والمفسدة عند الشاطبي: (3) 2/ 25 - 48. ومن المناسب في هذا المقام أن نذكّر بجملة تعريفات للمصلحة وردت في كتب الأصوليين. فهي عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة. والمقصود من هذا أن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم. قال الغزالي: المصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق خمسة. وهي الكليات الضروريات. فكل ما تقع به المحافظة على هذه الأصول مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصول مفسدة. شفاء الغليل: 102؛ المستصفى: 1/ 284. وإلى مثل هذا ذهب الخوارزمي. فالمصلحة عنده المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق. قاله في الكافي. انظر الزركشي، البحر: 6/ 76. وقال الصفي الهندي عند تعريف المناسب: فهو في الاصطلاح الملائم لأفعال العقلاء في العادات، أو الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاء. والمراد بالتحصيل جلب المنفعة، وهي عبارة عن اللذة وما يكون طريقاً إليها، وإزالة المضرة وهي الإثم وما يكون طريقاً إليه. نهاية الوصول في دراية الأصول: 8/ 287. وفسر الطوفي المصلحة بقوله: إن المصلحة بحسب العرف تطلق على السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الإطلاق الشرعي هي عبارة عن السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة. ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات، وإلى ما يقصد لنفع المخلوقات وانتظام أحوالهم كالعادات. مصطفى زيد. المصلحة في الشريعة الإسلامية: 48.

وقد لاح من التعريف أن المصلحة قسمان: مصلحة عامة: وهي ما فيه صلاحُ عموم الأمة أو الجمهور، ولا التفاتَ منه إلى أحوال الأفراد إلّا من حيث إنهم أجزاء من مجموع الأمة، مثل حفظ المتموّلات من الإحراق والإغراق. فإن في بقاء تلك المتموّلات منافع ومصالح، هي بحيث يستطيع كل من يتمكّن من الانتفاع بها نوالها بالوجوه المعروفة شرعاً. فإحراقها وإغراقها يفيت ما بها من المصالح عن الجمهور. وهذا هو معظم ما جاء فيه التشريع القرآني. ومنه معظم فروض الكفايات، كطلب العلم الديني والجهاد وطلب العلم الذي يكون سبباً في حصول قوة للأمة. ومصلحة خاصة: وهي ما فيه نفع الآحاد باعتبار صدور الأفعال من آحادهم ليحصل بإصلاحهم صلاح المجتمع المركب منهم. فالالتفات فيه ابتداء إلى الأفراد، وأما العموم فحاصل تبعاً. وهو بعض ما [جاء] به التشريع القرآني، ومعظم ما جاء به في السنة من التشريع. وهذا مثل حفظ المال من السرف بالحجر على السفيه مدة سفهه (¬1). فذلك نفع لصاحب المال ليجده عند رشده أو يجده وارثه من بعده وليس نفعاً للجمهور. ويحق على العالِم أن يغوص برأيه في تتبع المصالح الخفية. فإنه يجد معظمها مراعًى فيه النفع العام للأمة والجماعة، أو لنظام العالم. مثل الدية في قتل الخطأ فإنها وجبت على القرابة من القبيلة (¬2)، وليس ¬

_ (¬1) وذلك عندما يكون منه تبذير المال على خلاف مقتضى الشرع أو العقل. وهذا كالإسراف في النفقة، وأن يتصرف تصرفات لا لغرض، أو لغرض لا يعده العقلاء من أهل الديانة غرضاً، والغبن في التجارات من غير محمدة قول الصاحبين والشافعي. ابن عابدين: 5/ 192. (¬2) الدية ترضية لأهل القتيل. والأحق بها الأقرب، وهم ورثة القتيل على حسب الميراث، وتجب على العاقلة وهي القرابة من القبيلة. تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدم فى التعصيب. وأكثر ما ورد في السُّنة من =

فيها في ظاهر الأمر نفع لدافعيها، حتى قال زهير: تُعَفَّى الكلوم بالمئينَ فأصبحت ... يُنَجِّمها من ليس فيها بمجرم (¬1) وفيها مصلحة خاصة للقاتل خطأً إذ استُبقي مالُه. ولو كان النظر إلى تلك المصلحة الخاصة لكان النظرُ يوجب إلغاء مصلحة القاتل في مقابلة مضرة أقاربه من قبيلته. ولكن غوص النظر ينبئنا بأنها روعي فيها نفع عام، وهو حق المواساة عند الشدائد، ليكون ذلك سنة بين القوم في تحمل جماعاتهم بالمصائب العظيمة. فهي نفع مدّخَر لهم في نوائبهم كما قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬2)، مع ما في ذلك من إرضاء أولياء القتيل حتى تنتزع الإحن من قلوبهم. تلك الإحن التي قد تدفعهم إلى الاجتراء على إذاءة القاتل، فإن فرحهم بمال الدية الكثير يجبر صدعهم. ولو كلف القاتل دفع ذلك لأعوزه أو لصار بحالة فقر. فبذلك كله حصلت مقاصد الأمن والمواساة والرفق. ومثال مراعاة مصلحة نظام العالم حياطةُ الشريعة المصالح المألوفة المطردة بسياج الحفظ الدائم، ولو في الأحوال التي يظن ¬

_ = تقدير الدية هو مائة من الأبل مخمسة: عشرون حقة، وعشرون جَذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون. وفي دية العمد تكون مربعة خمس وعشرون من كل صنف من الأصناف الأربعة الأول. ابن عاشور، التحرير والتنوير: 5/ 159، 160. (¬1) البيت الرابع والعشرون من معلقة زهير بن أبي سلمى التي طالعها: أمن أم أوفى دمْنة لم تكلم ... بحَومانة الدراج فالمتثلم التبريزي. شَرح القصَائد العشر: 138؛ ابن النحاس: 110. أورده المؤلف مشيراً به إلى أن الدية كانت أيضاً عند العرب على ما يتراضون عليه. وذلك قوله: وإذا رضي أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه. ابن عاشور. التحرير: 5/ 159. (¬2) البقرة: 237.

فوات المصلحة من سائر جوانبها، كما يقال في الشيخ الهرم المنهوك بالمرض، الفقير الجاهل الذي لم يبق فيه رجاء نفع ما، فهو مع هذه الأحوال محترم النفس محافظة على مصلحة بقاء النفوس، لأن مصلحة نظام العالم في احترام بقاء النفوس في كل حال، مع الأمر بالصبر على ما يلوح من شدة الأضرار اللاحقة لحياة بعض الأحياء، كيلا يتطرق الوهن والاستخفاف بالنفوس إلى عقول الناس، فتتفاوت في ذلك اعتباراتهم تفاوتاً ربما يفضي إلى خرق سياج النظام. فالحفاظ على ذلك تأمين للأحياء من تلاعب أهواء الناس وأهواء نفوسهم بهم، وتأمين لنظام العالم من دخول التساهل في خرم أصوله. هذا وتحقيق الحد الذي نعتبر به الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق في العبارة، ولكنه ليس عسيراً في الاعتبار والملاحظة، لأن النفع الخالص والضر الخالص وإن كانا موجودين إلّا أنهما بالنسبة للنفع والضر يعتبران عزيزين. ولذلك قال عز الدين بن عبد السلام في الفصل الثالث من قواعده: "واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود. فإن تحصيل المنافع المحضة للناس كالمأكل والمسكن لا يحصل إلا بالسعي في تحصيلها بمشقة الكد والنصب. فإذا حصلت فقد اقترن بها من المضار والآفات ما ينغصها" (¬1). وقال فيه أيضاً: "واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد ... ولا يُقدَّمُ الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقيٌ متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت" (¬2). ¬

_ (¬1) نقل بتصرف. العز بن عبد السلام. كتاب القواعد. فصل فيما تعرف به المصالح والمفاسد، وفي تفاوتهما: 1/ 7. (¬2) نقل بتصرف. العز بن عبد السلام. القواعد: 1/ 7.

وقال الشاطبي في المسألة الخامسة من أول كتاب المقاصد من الموافقات: "فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غَلب. فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عُرفاً. وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عُرفاً. ولذلك كان الفعلُ ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة. وإذا غلبت جهةُ المفسدة فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة، على ما جرت به العادات في مثله" (¬1) اهـ. وإياك أن تتوهم من كلامهما اليأسَ من وجود النفع الخالص والضر الخالص، فإن التعاون الواقع بين شخصين هو مصلحة لهما وليس فيه أدنى ضر، وإن إحراقَ مال أحد إضرار خالص. على أننا لا نلزم فرض الأمرين في خصوص تعامل شخصين أو أكثر بل إذا صورناه في فعل الشخص الواحد نستطيع أن نكثر من أمثلته. على أن بعض المضرة قد يكون لضعفه مغفولاً عنه ممّن يلحقه، فذلك منزّلٌ منزلة العدم، مثل المضرة اللاحقة للقادر على الحمل الذي يُناول متاعاً لراكب دابة سقط منها متاعه. فإن فعله ذلك مصلحة محضة للراكب، وإن ما يعرض للمناول من العمل لا أثر له في جلب ضر إليه. وكأنّ عز الدين تصور ذلك عزيزاً، لأنه نظر إليه من جهة المعاملة بين شخصين. وقد حام ذانك الإمامان حول تحقيق الضابط الذي به نعتبر الوصف مصلحة أو مفسدة، لكنهما لم يقعا عليه. ¬

_ (¬1) الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 15 = (2) 2/ 17 = (3) 2/ 26 = (4) 2/ 44, 45.

وأنا أقول تبعاً لذلك: إن ضابط تحقُّق ذلك الحد أحدُ خمسةِ أمور. أولها أن يكون النفع أو الضر مُحَقَّقاً مطَّرِداً. فالنفع المحقق مثل الانتفاع بانتشاق الهواء، وبنور الشمس، والتبرد بماء البحر أو النهر في شدة الحر، مما لا يدخل في الانتفاع به ضرُّ غيره. والضرّ المحقَّق مثل حرق زرع لقصد مجرد إتلافه من دون معرفة صاحبه ولا تشف، وكما حرق (نيْرون) (¬1) مدينة رومة. الثاني أن يكون النفعُ أو الضر غالباً واضحاً تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء بحيث لا يقاومه ضدُّه عند التأمل. وهذا أكثرُ أنواع المصالح والمفاسد المنظور إليها في التشريع. وهو الذي لاحظه عزّ الدين والشاطبي، مثل إنقاذ الغريق مع ما فيه من مضرة للمنقذ كشدّة التعب أو شدّة البرد أو حدوث مرض، لكنها لا تُعدُّ شيئاً في جانب مصلحة الإنقاذ، وأمثلة هذا كثيرة في معظم المصالح والمفاسد. الثالث أن لا يمكن الاجتزاء عنه بغيره في تحصيل الصلاح وحصول الفساد، مثل شرب الخمر. فقد اشتمل على ضُرٍّ بيِّن وهو إفساد العقل وإحداث الخصومات وإتلاف المال، واشتمل على نفع بيَّن وهو إثارة الشجاعة والسخاء وطرد الهموم. إلّا أننا وجدنا مضارَّه لا يخلُفُها ما يصلحها، ووجدنا منافعه يَخلُفها ما يقوم مقامها من الحث على الخير بالمواعظ الحسنة والأشعار البليغة. ¬

_ (¬1) الأمبراطور الروماني 37 ميلادي، عهد إليه بالأمبراطورية سنة 54 م وبعد سنين من الحكم - لا تتجاوز خمسة أعوام - أثار الحفائظ واشتد ظلمه وطغيانه، وثار عليه الولاة، وقضى منتحراً في 9 يونيو 68 م.

وقولي: "أن لا يمكن الاجتزاءُ عنه بغيره في تحصيل الصلاح وحصول الفساد". فيه إجمال في استخلاص المراد دعاني أن أشرح هذه الجملة. اعلم أن المقصود من هذا القسم الثالث تصويرُ مرتبة في النفع أو الضر دونَ مرتبة القسم الثاني (¬1) وفوقَ مرتبة القسم الرابع (¬2). فالمراد بقولي: "أن لا يمكن": أن لا يُلفِيَ المجتهدُ عند سَبره مراتبَ المصلحة أو المفسدة من حيث إنها خالصةٌ أو مختلطةٌ بضدها، بعد السبر والبحث عن المُعارض. فالمراد بكلمة "الاجتزاء": الاكتفاءُ، أي اقتناع المجتهد بتحقّق وصفٍ للفعل غير الوصف الذي بَدَا له في ذلك الفعل المبحوث عن وصفه. فمعنى الاجتزاء: الاعتياضُ عنه بوصف آخَرَ، بحيث لا محيص للفعل الموصوف عن مقارنة الوصف إياه، على حاله في النفع أو الضر دون تخفيف في ذلك. ومعنى قولي: "بغيره"، أي بوصف آخر من نوع النفع بالنسبة إلى الوصف النافع، أو من نوع الضر بالنسبة إلى الوصف الضار. والضميران في قولي: "عنه" وقولي: "بغيره" عائدان على النفع أو على الضر. فجاء الضميران مفردين، لأن المَعَاديْن متعاطفان بـ (أو) (كما ذُكر ذلك في الضابط الأول)، و (أَوْ) لأحد الشيئين. ومعنى قولي: "لا يخلفها ما يصلحها" أن لا توجد حالة ¬

_ (¬1) الذي يكون النفع أو الضر غالباً واضحاً فيه. (¬2) الذي يأتي، وهو ما يكون النفع أو الضر فيه مع مساواته لضده معضوداً بمرجع من جنسه.

تشتمل على وصف مع الأوصاف المذكورة يُعدِّل فسادَها وضُرَّها أو ينفيه من أصله، بحيث نظن أن أوصاف فسادِها مطردةٌ ملازمَةٌ للفعل لا تتخلف عنه إلا في أحوال طَردْية لا يَعتدُّ بها الشارع، شأنَ كل الأوصاف الطردية. وهذا مثل البُطءِ أو السرعة في حصول نَشوة الخمر لشاربيها، ومثلُ تناول الخمر صرفاً أو ممزوجة. فعند عروض الأحوال الطردية لا يجوز التسامح في الاعتداد بالوصف، وترتُّبِ أثره على طمع أن يَخِفَّ فساده وضره في نادر الأشخاص أو نادر الأوقات، إذ العبرة في مناط الأحكام هي الأحوال الغالبة. ومثال هذا أن لا نلتفت إلى قول عُمارة بن الوليد بن المُغيرة (¬1) يخاطب امرأته، وكانت شَرَطَت عليه عند تزوّجه أن يترك الشُّرب، ثم شَرب واعتذَر لها بشعر منه قوله: أَسَرَّكِ لمّا صَرَّعَ القومَ نَشوةٌ ... خُروجيَ منها سالماً غيرَ غارم بريئاً كأنِّي قبلُ لم أكُ منهم ... وليس النزاع مُرتضًى في المكارم (¬2) ¬

_ (¬1) عُمارة بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. شاعر جاهلي مات على كفره. أرسلته قريش إلى النجاشي، فجرت له معه قصة أصيب بإثرها بعقله وهام مع الوحوش. ابن حجر. الإصابة: 3/ 171، 6817. (¬2) في البيت الأول رواية أخرى بلفظ: "أن اخرج" بدل "خروجي"، وورد الثاني بلفظ: خَلياً كأنّي لم أكن كنت فيهُمُو ... وليس الخداع مرتضى في التنادم والبيتانَ يتقدمهما بيتان آخرانَ هما: ولسنا بشَرب، أمَّ عمرو، إذا انتشوا ... ثيابُ الندامى عندهم كالغنائم ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الريّان ليس بعائم الأصبهاني. الأغاني: 18/ 72 وما بعدها.

فهذا شخص نادر، إن كان صادقاً فيما زعمه. فلا يؤثر مِثلُه نقضاً لكلية الحكم الشرعي. ومما يصلح مثالاً للاجتزاء عن الوصف بغيره في صورة الضُّر تجارةُ المسلم في الخمر مع غير المسلمين، فإنَّ ما يُتوقع في شرب الخمر من المفاسد حاصل من الكافر والمسلم سواء، لارتفاع الوازع باختلال العقل. لكنْ يخلُفُ ما فيها من الضُّر في هذه الحالة شيءٌ قد يكون مسيغاً للتسامح في الإذن بالتجارة فيها مع الكفار. وهو: أن الضر الذي يصدر من الكافر لا يعدو قومَه وأهلَ مَحلته أو بلده غالباً. فالمسلمون في أمن من إضرار أهل الكفر، ويُضم إليه أن المسلمين غير مطالبين بحمل أهل الذمة على ترك ما تبيحه لهم ملَّتُهم. فبهذا قد يُعتبر الضر في التجارة بالخمر مع الكفار أضعفَ من النفع الحاصل للمسلمين بأرباح تجارة الخمر. فجانب ما في التجارة بها معهم من النفع قد يُرجَّحُ على جانب المفاسد اللاحقة لهم، أو يرجّح على ذريعة أن يتناولها المسلمون في حانات أهل الذمة أو في ديارهم. فإذا تكاثر تردد المسلمين على حاناتهم أَمْكنَ تحجير التجارة في الخمر تحجيراً خاصاً ببعض الأوقات أو بعض الجهات بحسب فُشُوِّ ذلك. الرابع أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر مع كونه مساوياً لضده معضوداً بمرجِّح من جنسه، مثل تغريم الذي يُتلف مالاً عمداً قيمة ما أتلفه. فإن في ذلك التغريم نفعاً للمتلَف عليه، وفيه ضررٌ للمتلِف، وهما متساويان. ولكن النفع قد رجّح بما عضَّده من العدل والإنصاف الذي يشهد أهل العقول والحكماء بأحَقِيَّتِه. الخامس أن يكون أحدهما منضبطاً محقَّقاً والآخر مضطرباً.

وهو مثل الضر الذي يحصل من خطبة المسلم على خطبة أخيه، ومن سومه على سومه، الواقع النهيُ عنهما في حديث الموطأ عن أبي هريرة (¬1). فإن ما يحصل من ذلك عند مجرد الخِطبة والتساوم قبل المراكنة والتقارب ضررٌ مضطرب، لا ينضبط ولا تجده سائر النفوس. فلو عملنا بظاهر الحديث لكانت المرأة إذا خطبها خاطب ولم تتم خطبته، والسلعةُ إذا سامها مساوم ولم يُرض السومُ ربَّها، أن يحظر على الرجال خطبة تلك المرأة وسوم تلك السلعة. ففي هذا فساد للمرأة، ولصاحب السلعة، وفساد يدخل على الناس الراغبين في تحصل ذلك. فلذلك قال مالك في الموطأ بعد أن ذكر حديث الخطبة: "وتفسير قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما نَرى، والله أعلم، [لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه] أن يخطب الرجل المرأة، فتَركنَ إليه، ويتفقان على صداق [واحد معلوم] وقد تراضيا، [فهي تشرط عليه لنفسها]. فتلك التي نهى أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه، ولم يَعن بذلك إذا خطب الرجل المرأةَ فلم يوافقها أمرُه، ولم تَركن إليه، أن لا يخطبها أحد. فهذا بابُ فسادٍ يدخل على الناس" (¬2). وقال في باب ما ينهى عنه من المساومة بعد أن ذكر حديث ابن عمر وأبي هريرة: "ولا يَبعْ بعضكم على بيع بعض" (¬3). وتفسير ¬

_ (¬1) تقدم 26/ 2، 58/ 1 - 2. (¬2) تقدم في 26/ 2 - 27/ 1. (¬3) انظر 31 كتاب البيوع، 45 باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة، ح 96. ونصّه كاملاً: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تلَقّوا الركبان للبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لبادٍ، ولا تصروا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظر من بعد أن =

قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى، والله أعلم: "أنه إنما نَهى أن يَسُومَ الرجلُ على سَوْمِ أخيه، إذا ركن البائعُ إلى السائم. وجعل يشترط وزن الذهب، ويتبرأ من العيوب وما أشبه هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم. فهذا الذي نُهي عنه .... ولو ترك الناسُ السوم عند أول من يسوم بها أُخِذت بشبه الباطل في الثمن، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه" (¬1). قال عز الدين بن عبد السلام: "قاعدة فيما يعرف به الصالح والفاسد: وأما مصالح الدنيا وأسبابها، ومفاسدها وأسبابها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. فمن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحَها ومرجوحَها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام. فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلّا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته" (¬2). وقال في أول الفصل الثالث من قواعده: "إن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وإن تقديم أرجح المصالح فأرجحِها ودرء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وإن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وإن درء المفاسد الراجحة على تقديم ¬

_ = يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمر". طَ: 2/ 683, 684. (¬1) شرح مالك للحديث. طَ: 2/ 684. (¬2) نقل بتصرف قليل من الفصل العاشر ما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدها. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 10.

المصالح المرجوحة محمود حسن. اتفق الحكماء على ذلك ... وإن اختُلف في بعض ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي أو الرجحان" (¬1). وقال أيضاً في المثال الحادي والعشرين من أمثلة ما خالف القياس من المعاوضات: "ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص. فإن فَهْمَ نفسِ الشرع يوجب ذلك. ومَثَلُ ذلك: من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وأَلِفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة ... وهذا ظاهر في الخير الخالص والشر الخالص. وإنما الإشكال إذا لم تفهم خير الخيرين وشر الشرين، أو تعرف ترجيح المصلحة على المفسدة، أو ترجيح المفسدة على المصلحة أو جهلنا المصلحة والمفسدة. ومن المصالح والمفاسد ما لا يعرفه إلّا كلُّ ذي فهم سليم وطبع مستقيم، يعرف بهما دِقَّ المصالح والمفاسد وجلَّهما وأرجحهما من مرجوحهما. ويتفاوت الناس في ذلك على قدر تفاوتهم فيما ذكرته. وقد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه [الأخرق] المفضول ولكنّه قليل" (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) نقل بتصرف قليل من الفصل الثالث فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 5، 6. (¬2) نقل بتصرف. ابن عبد السلام. القواعد: 2/ 189.

وقد أتى في فصل اجتماع المصالح والمفاسد بأمثلة كثيرة: أحسنها: "أن الحجر على المريض فيما زاد على ثلث ماله مضرة له ومفسدة تلحقه، لكنه مصلحة لورثته. فقُدِّم حقُّ ورثته في ثلثي ماله" (¬1). "وأنَّ وضع يد غير المالك على الملك مفسدة للمالك. ولذلك وجب الضمان بالإتلاف. ولم تُعتبر هذه المفسدةُ في تصرفات الحكام إذا أخطؤوا في الاجتهاد في الحكم. فلم يجب الغُرم على الحاكم تقديماً لمصلحة إقدام القضاة على مفسدة المحكوم عليه خطأ" (¬2). وقد يسمى الصلاح خيراً والمفسدة شراً كما ورد في حديث حذيفة: "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر، مخافة أن أقع فيه" (¬3). وكما ورد في قول أبي بكر لعمر ¬

_ (¬1) نقل بتصرف. المثال الثامن عشر. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 104، 105. (¬2) نقل بتصرف. انظر المثال الثاني والعشرين. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 106. (¬3) انظر 61 كتاب المناقب، 25 باب علامات النبوة، ح 34. خَ: 4/ 178؛ 92 كتاب الفتن، 11 باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة. خَ: 8/ 92، 93، وتمام الحديث: "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير. فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخَنُه؟ قال: قوم يستنّون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوهم فيها. فقلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله فما تَرى إن أدركني =

في جمع القرآن، إذ قال: "هو والله خير" (¬1)، أي جمعه في مصحف. ويتحصَّل مما ذكرناه علمٌ بأن تشريع جلب المصالح ليس فيه تحصيل مفسدة، وأن تشريع درء المفاسد ليس فيه إضاعة مصلحة. بل التشريع كله جلب مصالح، لأن طرف المفسدة المغمور في جانب المصلحة الغامرة، أو طرف المصلحة المغمور في جانب المفسدة الغامرة لا يؤثر في نظام العالم شيئاً. وإذا تعطّل حصول الأثر بوجود مانع من تأثير المؤثِّر لم يبق عبرةٌ بوجود المؤثر. ومنه نعلم أن ليست المصلحة هي مطلق الملائم ولا المفسدة هي مطلق المنافر والمشقة. فإن بين المصلحة والمفسدة وبين ما ذكرناه عموماً وخصوصاً وجهياً، ولذلك أثبت القرآن أن في الخمر والميسر منافع إذ قال: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬2) وليست تلك المنافع بمصالح لأنها لو كانت مصالح لكان تناوله مباحاً أو واجباً. ¬

_ = ذلك. قالَ: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". انظر 33 كتاب الإمارة، 13 باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، ح 51. مَ: 2/ 1475، 1476؛ انظر 29 كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، ح 4244 وما بعدها. دَ: 4/ 444؛ انظر 36 كتاب الفتن، 13 باب العزلة، ح 3979. جَه: 2/ 1317. (¬1) قال أبو بكر: فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ... ولم يزل أبو بكر يراجع (زيد بن ثابت) حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. السجستاني. كتاب المصاحف: 6 وما بعدها؛ انظر 66 كتاب فضائل القرآن 3 باب جمع القرآن. خَ: 6/ 98. (¬2) البقرة: 219.

وقد تقدم في مقصد الفطرة ما يجب أن نتذكره هنا فَعُدْ إليه (¬1). ويجب التنبه إلى أن المفسدة الراجحة على جانب المصلحة أو الخالصة نجدها متفاوتة في جنسها تفاوتاً بيّنًا، تنبئ عنه آثار الأفعال المشتملة على المفاسد في خَرم المقاصد الشرعية، والكليات الضرورية أو الحاجية أو بعض التحسينية القريبة من الحاجية. وتنبئ عنه أيضاً مقادير أثرها من الإضرار والإخلال في أحوال الأمة بكثرة ذلك وقِلَّته وانتشاره وانزوائه وطول مدته وقصرها مع اختلاف العصور والأحوال. فالمنهيات كلها مشتملة على المفاسد. ومع ذلك فقد رتبتها الشريعة مراتب مجملة فصلها الفقهاء من بعد. فقد جاء في الشريعة ذكع الفواحش والكبائر واللمم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (¬2)، وجاء ذكر الإثم والبغي: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (¬3)، وجاء وصفُ المنهيات بأن بعضها أكبرُ من بعض: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (¬4). وفي أحاديث من الصحيح ذكرُ أكبر الكبائر (¬5) أو ذكر جواب أي الذنب أعظم، مرتباً بعضها عقب بعض (¬6). ¬

_ (¬1) انظر ضابط حصول النفع والضر: 206 - 211. (¬2) النجم: 32. (¬3) الأعراف: 33. (¬4) البقرة: 217. (¬5) تقدم ذكره: 186/ 2. (¬6) كحديث عبد الله قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم عند الله؟ =

وقد ذكر القرآن الفساد مطلقاً تارة، ومقيّداً بالكِبَر تارة فقال: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (¬1)، وقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (¬2)، وقال: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} (¬3). وباعتبار مقادير المفاسد جعل الصحابة عقوبة اللوطيَيْن - بصيغة التثنية - الرجم مساوية عقوبة الزاني المحصن، سواء كانا محصنين أم لم يكونا محصنين، لأنهم وجدوا مفسدة ذلك أشد، والعذر عن فاعله أبعد (¬4). ¬

_ = قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: قلت له: إن ذلك لعظيم. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك". انظر 1 كتاب الإيمان، 37 باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده، ح 141، 142. مَ: 1/ 90، 91. وهو بمعنى حديث أنس المذكور أعلاه: 186/ 2. (¬1) القصص: 4. (¬2) البقرة: 12. (¬3) الفجر: 12. ليس وصف الإكثار من الفساد في هذه درجة دون الطغيان في البلاد، وما ارتكبه فرعون ذو الأوتاد. ف 12 تابعة لما قبلها 9 - 11. والفساد هو بمعنى الطغيان وهو شدة العصيان والظلم. وهو يجزئ صاحبه على دحض حقوق الناس. فهو من جهة يكون قدوة سوء لأمثاله وملئه. فكل واحد منهم يطغى على من دونه وذلك فساد عظيم. وهو من جهة أخرى بما يثيره من الحفائظ والضغائن في المطغي عليه ... فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوض أن تتحد على أعدائها، فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل. وذلك يفضي إلى فساد عظيم. فلا جرم أن كان الطغيان سبباً لكثرة الفساد. ابن عاشور، التحرير والتنوير: 30/ 321. (¬4) في إقامة الحد عليهما حديث عكرمة، يرويه الخمسة إلا النسائي. ونصه: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". ورغم ما قيل في الحديث ورجاله فإن الصحابة اتخذوا منهما موقفاً. =

وجعل علي بن أبي طالب عقوبة شارب الخمر مساوية حد القذف، لما رأى القذف مظنة لازمة للسكران غالباً (¬1). وكذلك تجد آثار هذا المعنى ظاهرة في تصرفات الصحابة ومن بعدهم في مراتب العقوبات والعفو. فعقوبة الحرابة جعلت أشدّ من عقوبة قتل الغيلة في التنكيل وعدم قبول العفو: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬2). ¬

_ = قال علي بن أبي طالب: هذا ذنب لم تعصِ به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع بها ما قد علمتم. نرى أن نحرقه بالنار. فاجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرق بالنار. وذهب الشوكاني إلى وجوب إقامة الحد عليهما وقتلهما بالرجم أو السيف أو الرمي من شاهق ونحوه. ثم ذيّل بيان الحكم عند الصحابة وعند أئمة مختلف المذاهب بقوله: وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارف هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيباً يكسر شهوة الفسقة المتمردين. نيل الأوطار. حكم اللواط، ح 3: 7/ 288. (¬1) وذلك لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. تقدم ذكر الحديث وتخريجه: 167/ 1. (¬2) الحرابة، عند مالك، هي حمل السلاح على الناس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة بين المحارب والمحارَب سواء في البادية أو في المصر. وعقوبتها أشد العقوبات لقوله تعالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. المائدة: 33. وفي الآية حدود كثيرة: القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف والنفي. وإيقاعها يكون على التخيير كما ذهب إلى ذلك مالك وسعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والنخعي. وعلى الإمام أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده. =

وجعل قتل الغيلة غير قابل للعفو من الأولياء (¬1). وجعلت السرقة دون ذلك، والخِلسة دون السرقة، وكذلك الاغتصاب والغصب. وقد وضع بعض الفقهاء لبعض مراتب المفاسد أسماء ليست بالكثيرة ولا بالمطردة. فرتب الشافعيةُ مراتبَ: الحرام، والمكروه، وخلاف الأولى (¬2). ورتب الحنفيةُ مراتب: التحريم، وكراهة التحريم، وكراهة التنزيه (¬3). ¬

_ = وذهب بعض العلماء إلى أن الحد في الآية للتقسيم لا للتخيير فمن قَتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن لم يقتل ولا أخذ مالاً عزر، ومن أخاف الطريق نفي، ومن أخذ المال فقط قطع. وبذلك قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدي والشافعي. والعقوبة في الآية لأجل الحرابة، وليست لأجل حقوق الأفراد من الناس، فلا تسقط عقوبة المحارب بإسقاط المعتدى عليهم حقوقهم. وذلك معنى لزومها وعدم قبول العفو فيها. ابن عاشور، التحرير والتنوير: 6/ 180، 185. (¬1) قتل الغيلة هو القتل خفية، يخدعه ليذهب به إلى محل فيقتله فيه لأخذ المال. قال مالك: ولا عفو فيه، وصلح الولي فيه على الدية مردود، والحكم فيه للإمام. الزرقاني على خليل: 8/ 3. (¬2) الحرام ما طلب الشرِع تركه على وجه الحتم والإلزام، وهو المحظور الذي يذم فاعله شرعاً، أو ما ينتهض فعله سبباً للذم شرعاً بوجه ما من حيث هو فعل له. والمكروه ما طلب الشرع تركه لا على وجه الحتم والإلزام، وهو ما يمدح تاركه شرعاً. وخلاف الأولى هو ترك السُّنة غير المؤكدة والمستحب والمندوب لا لنهي ورد عن الترك بل لكثرة الفضل في فعلها مثل ترك صلاة الضحى. زكي الدين شعبان. أصول الفقه الإسلامي: 238، 239، ف 175 - 181. (¬3) التحريم ما اقتضى طلبَ تركه دليلٌ قطعي لا شبهة فيه. وكراهة التحريم ما اقتضى الشرع طلب تركه على وجه الحتم والإلزام بدليل ظني. وكراهة =

ز - طلب الشريعة للمصالح

ز - طلب الشريعة للمصالح المصلحة بأنواعها تنقسم قسمين: أحدهما ما يكون فيه حظ ظاهر للناس في الجبلة يقتضي ميل نفوسهم إلى تحصيله لأن في تحصيله ملاءمةً لهم. والثاني ما ليس فيه حظ ظاهر لهم. ووصفتُ الحظ بأنه ظاهر للتنبيه على أن كثيراً من المصالح من القسم الثاني ليس الحظ فيه ظاهراً للناس، ولكنّ فيه حظوظاً خفية يغفلون عنها. مثال القسم الأول: تناول الأطعمة لإقامة الحياة، ولبس الثياب، وقربان النساء. ومثال الثاني: توسيع الطرقات وتسويتها، وإقامة الحرس بالليل. فهذا ونحوه ليس فيه حظ ظاهر لفرد من الأفراد. فإن جمهور ¬

_ = التنزيه ما اقتضى الشرع طلب تركه طلباً غير جازم ولا مشعر بالعقوبة. ومحل الخلاف بين الجمهور والحنفية جعل الشافعية ما ثبتت كراهته بدليل ظني حراماً، ويقابل كراهة التنزيه عند الحنفية خلاف الأولى عند الجمهور. الرازي. المحصول: 1/ ق أ، 127، 131؛ الآمدي. الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 156، 166؛ زكي الدين شعبان. أصول الفقه الإسلامي: 239 - 241، ف: 182 - 184.

الناس لا يشعرون بالمنافع التي تنجر إليهم من معظم المصالح العمومية ما دامت قائمة، وإنما يشعرون بها متى فقدوها، على أن بعض الناس قد يعيش دهراً لا ينتفع ببعض المصالح العامة، مثل الزمِنِ بالنسبة إلى مصلحة توسيع الطريق وتسويته. ولكل من قسمي المصلحة خصائص من عناية الشارع. فالقسم الأول ليس من شأن الشارع أن يتعرض له بالطلب، لأن داعي الجِبلة يكفي الشريعة مؤونة توجيه اهتمامها لتحصيله. وإنما شأنها أن تزيل عنه موانع حصوله، كمنع الاعتداء على أحد بافتكاك طعامه ولباسه، وكتحديد كيفية عقد النكاح لإزالة موانع التناسل كالغيرة والعضل. ولذلك نجد البيع والنكاح في قسم الإباحة، وإن كانا مصلحتين مهمتين يقتضيان لهما حكم الوجوب. والقسم الثاني يتعرّض له التشريع بالتأكيد، ويرتّب العقوبة على تركه والاعتداءِ عليه. وقد أوجب بعضَه على الأعيان، وبعضَه على الكفايات بحسب محل المصلحة. فالذي مصلحته لا تتحقّق إلا بأن يقوم به الجميع، مثل حفظ النفس يكون واجباً على الأعيان. والذي مصلحته تتحقَق بأن يقوم به فرد أو طائفة يجب على الكفاية على الفرد أو على الجماعة، كإنقاذ الغريق وإطفاء النيران الملتهمة الديار. ومن هذا القسم الإنفاقُ على الزوجات والأبناء، ومواساةُ ذي الحاجة، وإضافةُ الغريب، وإجراءُ الوظائف لمن يقوم بأمور الأمة. وقد يلتحق بهذا القسم أنواع من القسم الأول يعرض لها ما يغشى الجبلة من العوائد والتعاليم الفاسدة التي تحجب الجبلة عن التأثير، مثل من يصاب برعونة ترك الطعام. كما يذكر عن بعض الجاهلية أنه جلس يتغدَّى حذو غدير، فرأى في الماء صورة نفسه

يزدرد الطعام، فكره تلك الهيئة وآلى أن لا يذوق طعاماً حتى مات جوعاً. فهذا من اختلال العقل. ومثل ما عرض لبعض أحياء العرب من وأد بناتهم، خشيةَ أن يلحقهم العارُ من جرائهن بالأسر أو الفقر. ومثل الهاجس الذي هجس بنفس المعرِّي، فأعرض عن التزوج كيلا يأتي بنسلٍ غايته الموت، إن صحّ ما نسب إليه أنه أوصى أن يكتبوا على قبره: هذا جناه أبي عليْـ ... ـيَ وما جنيتُ على أحد (¬1) وكذلك ما يعرض من الكسل عن الاكتساب لبعض الناس، وما يعرض لبعض الزهاد من الانقطاع إلى العبادة حتى يفضي بهم إلى إضاعة منافع أخرى. فللقائم بالشريعة ولأصحاب التفريع في التشريع أن يقفوا في هذا المقام موقفَ ردع هذه العوارض النادرة بإرشاد يزيل الضلال والخطأ، ويفضح ذلك الأفن. كما قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬2). وكما قال تعالى: ¬

_ (¬1) يروى هذا البيت مفرداً. قاله وهو يحتضر. وأوصى المعري - كما قال المؤلف - بكتابته على قبره. ومن شعره في ترك التزوج وعدم الولد: وتركت فيهم نعمة العدم التي ... سبقت وصدت عن نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة ... ترمي بهم في موبقات الآجل وينظر إلى هذا المعنى ذاته ابن رشيق في قوله: قبّح الله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفقد ... فإيجادنا علينا بلاء الآلوسي. روح المعاني: 15/ 61. (¬2) الأعراف: 32.

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (¬1). وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: "ألم أُخْبَر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ " قال: قلت: إني أفعل ذلك. قال: "فإنك إذا فعلت هجمت عينك ونَفِهت (¬2) نفسك، وإن لنفسك حقاً، ولأهلك حقاً، ولزوجك حقاً؛ فصم وأفطر وقم ونم" (¬3). فما كان من هذه العوارض خاصاً بنفس صاحبه فعلاجُه الموعظة الشرعية والتربية. وما كان متعدّياً إلى إضرار الناس بالفعل أو بالقول - مثل من يدعو الناس إلى اتباعه في هذه الرعونات - فعلاجهُ العقوبات. فوليُّ الأمر يُجبر تارك الاكتساب بأن يكتسب لعياله، وينفي مَن يدعو الناس إلى بدعته كما نفى عمر صَبِيغاً (¬4) عن البصرة. وقد كان ¬

_ (¬1) الإسراء: 31. (¬2) بفاء، وهو من باب تعب، وبمعناه أيضاً، وفسر بمعنى كلت. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) انظر 19 كتاب التهجد بالليل، 20 باب حدثنا علي بن عبد الله. خَ: 2/ 49؛ وبلفظ آخر 30 كتاب الصوم، 59 باب صوم داود عليه السلام، وبمثله ورد في 54 كتاب الأنبياء، 37 باب قول الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}، ح 3، حديث عبد الله عمرو بن العاصي. خَ: 4/ 134؛ انظر 13 كتاب الصيام، 35 باب النهي عن صوم الدهر، ح 188. مَ: 1/ 816؛ انظر بألفاظ مختلفة، 22 كتاب الصيام، 78 باب ذكر الزيادة في الصيام والنقصان، وذكر اختلاف الناقلين لخبر عبد الله بن عمرو فيه. نَ: 4/ 212 - 213. (¬4) بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة. اهـ. تع ابن عاشور. وهو صبيغ بن عسل العراقي. رجل طلب العلم فأخطأه. فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم. كان يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد =

عمرُ ألزمَ المحتكرين للطعام بأن يبيعوا ما يحتاج الناس إلى شرائه من الحبوب، كما في الموطأ (¬1)، فقد ألزمهم بنوع من البيوع مع كون أصل التصدّي للبيع والشراء مباحاً، لأن إباحته نشأت بالاعتماد على داعي النفوس للاكتساب وحب الربح، واختلاف الأغراض هو مَعدِلُ الحاجة. وعلى هذا المنهج تنتهج الشريعة في المحافظة على أنواع المصالح باعتبار تصرف الناس فيها بالتسامح والتضييق في القسمين المذكورين آنفاً. فلكل أحد الاختيار في حقوقه الذاتية الثابتة له على غيره التي هي من القسم الأول. فله أن يسقطها إن شاء، لأن كونها حقوقاً له، وكونها مطلوباً بها غيرُه له مَظِنَّةُ حرصه على تقاضيها. فالشريعة تكله إلى الداعي الجبلي، وهو داعي حب النفس والمنافسة في الاكتساب. فالإسقاط لا يكون إلا لغرض صحيح. فإن تجاوز ذلك الحدَّ فاختل الداعي الجبلّي سُمِّي سفهاً يُمنعُ صاحبُه من التصرف. وأما الحقوق الثابتة للإنسان في نفسه، ولا تعلُّقَ لها بغيره، ¬

_ = المسلمين حتى قدم مصر. فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب فضربه برطائب من جريد مرة أولى وثانية، وفي الثالثة أذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين. انظر 19 باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع ح 150. دَي: 1/ 51؛ القرطبي. التفسير، القسم الرابع، الآية: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}: 4/ 14 - 15؛ وتفسير آية: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}: 17/ 29؛ الذهبي. المشتبه: 414. (¬1) يشير إلى البلاغ الذي ذكره مالك 31 كتاب البيوع، 24 باب الحِكرة والتربص، ح 56. طَ: 2/ 651.

فتصرّفه فيها بالإسقاط صحيح. ولذلك صحَّت الهباتُ والعفو عن الجنايات دون القتل، وعن الديون في الأحوال الجارية على المقاصد الحسنة. فإن اختل الداعي الجبلّي سُمِّي التصرف سفهاً، إلا إذا ترتّب على إسقاطه مفسدة. فإن ترجيح تلك المفسدة دلّ على اختلال الداعي الجبلّي. ألا ترى أن للمرء أن يأذن الطبيب بقطع عضو من أعضائه إذا رأى الطبيبُ ذلك مع كون المصلحة مظنونةً، وله بذل نفسه في الذب عن الحوزة بشروطه (¬1)، وليس له الإذن بقطع عضو من أعضائه باطلًا (¬2). ¬

_ (¬1) وذلك من الجهاد، قال أبو عمر: وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم. فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل الدار أن ينفروا أو يخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، ولا يتخلّف أحد يقدر على الخروج من مقلّ ومكثر ... ولا يتخلف عن ذلك إلا ذو علة أو أعمى أو أعرج، ومن لا يجد ما ينفق في سفره وما يترك لعياله، ومن عليه دين لا يجد له وفاء، أو كان له أبوان يكرهان خروجه أو أحدهما. ابن عبد البر. الكافي: 1/ 462 - 464. (¬2) يخضع هذا للقواعد العامة. انظر الفرق بين قاعدة حقوق الله وقاعدة حقوق الآدميين قال: تحريم القتل والجرح صوناً لمصلحة العبد وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضاه، ولم ينفذ إسقاطه ... فتحجير الرب على العبد ذلك لطفاً ورحمة منه به. القرافي. الفروق: 1/ 141؛ التنقيح، الفصل 18: 95؛ الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 25 وما بعدها؛ الكاساني. بدائع الصنائع: 7/ 177؛ ابن نجيم. البحر الرائق: 8/ 74. وفي كتاب الأحكام الشرعية للأعمال الطبية: إذا كان قتل المسلم بغير حق لا يحتمل الإباحة، وكذا قطع عضو من أعضائه فإنه لا يحل شيء من ذلك بإذن المجني عليه؛ لأن الحق في سلامة الحياة، والجسد حق مشترك بين العبد وربه. د. أحمد شرف الدين: 26.

وأما ما كان من القسم الثاني من قسمي المصلحة فليس لأحد إسقاطُ حقه فيه لأن حقه ثابت مع حق غيره. وخلاصة القول: إن الشريعة تحافظ أبداً على المصلحة المستخفِّ بها، سواء كانت عامةً أم خاصة، حفظاً للحق العام أو للحق الخاص الذي غلب عليه هَوَى الغير أو هواه هو نفسه. ومتى تعارضت المصلحتان رُجِّحت المصلحةُ العظمى. ولهذا قدم القصاص على احترام نفس المُقتَصِّ منه، لأن مصلحة القصاص عظيمة في تسكين ثائرة أولياء القتيل، لتقع السلامة من الثارات، وفي انزجار الجناة عن القتل، وفي إزالة نفس شريرة من المجتمع. فلو أسقط وليُّ الدم القصاص زالت أعظم المصالح. فبقيت مصلحتان أخريان: إحداهما حاصلة من توقّع عدم العفو، والأخرى تحصل باستصلاح حال الجاني بالضرب والسجن. فلذلك سقط القصاصُ بالعفو فيما عدا قتل الغيلة وما عدا الحرابة، لأن عِظَم الجريمة رجَّحَ جانبَ مصلحةِ إزالةِ نفسٍ ظهرَ شرُّها وَبَعُد رجاءُ خيرها. ولأجل هذا أيضاً كان إتلاف النفوس في الذب عن الحوزة غرضاً صحيحاً. وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحةَ بن عبيد الله حين وقف يدفع بسيفه ونَبله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حتى ضربت يده (¬1)، لأنّ في ¬

_ (¬1) طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي هو أبو محمد، ويعرف بطلحة الخير وطلحة الفياض. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشورى. آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين كعب بن مالك. شهد أُحداً. وأبلى فيها بلاء حسناً. وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه. فعن قيس: رأيت يد طلحة شلاء وَقَى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد. انظر 64 كتاب المغاي: 18 باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ =

بقاء الرسول بقاء الأمة جمعاء، وليس بقاء طلحة كذلك. وقد عَلم [أبو] طلحة ذلك فكان يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: "لا تشرف على القوم يصيبك سهم، نحري دون نحرك" (¬1). ومن هنا يتضح لنا طريق النظر في المصالح المتعددة إذا لم يمكن تحصيل جميعها، وفي المفاسد المتعددة إذا لم يمكن درء جميعها. وقد بيّن عز الدين بن عبد السلام في كتاب القواعد أن تقديم أرجح المصلحتين هو الطريق الشرعي، وأن درء أرجح المفسدتين كذلك. فإذا حصل التساوي من جميع الوجوه فالحكم التخيير (¬2). ¬

_ = أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، ح 12. خَ: 5/ 33. وفي ذلك قال يومئذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ظاهر يوم أُحُد بين درعين واحتمل طلحة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصخرة: "أوجب طلحة" حين صنع يوم أحد ما صنع وضرب الضربة في رأسه. وبعد موت صحبه الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذودون عنه قال: أنا للمشركين قتّال. ومات شهيداً في وقعة الجمل، رماه مروان بن الحكم بسهم فأرداه. ابن حجر. الإصابة: 2/ 229؛ ابن عبد البر. الاستيعاب على هامشه: 2/ 220؛ ابن حجر. الفتح: 7/ 359، 4063. وذكر المؤلف، بعد إشادته بموقف أبي محمد طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي هذا موقفاً يجري في نفس النسق. وذلك ببيان موقف أبي طلحة. (¬1) نسب البخاري هذه المقالة لأبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وهو زوج أم أنس بن مالك. وكان كما ورد في حديثه مُجَوِّباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - بحَجَفة له، وكان رامياً شديد النزع. 64 كتاب المغازي، 18 باب إذ همت طائفتان، ح 13. خَ: 5/ 33؛ ابن حجر. الفتح: 7/ 361، 4064. (¬2) نقل بتصرف. فصل في تساوي المصالح مع تعذر جمعها. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 88 - 90.

وأقول: قد مُثّل في أصول الفقه بمن سقط على جماعة من الجرحى، بحيث إذا وطئ على واحدٍ قتله، فإذا انتقل على غيره قتله أيضاً. فقيل: يبقى واطئاً لمن نزل عليه. وقيل: يخيّر (¬1). ويظهر التخيير واضحاً في تصرّفات ولاة الأمور عند تعارض المصلحتين العامتين كتوسيع طريق بين جبلين يفضي إلى بلد بتضييق طريق بينهما يفضي إلى بلد آخر (¬2). وممّا يجب التنبّه له أن التخيير لا يكون إلّا بعد استفراغ الوسع في تحصيل مُرجِّح مّا ثم العجز عن تحصيله. وفي طرق الترجيح قد يحصل اختلاف بين العلماء، فعلى الفقيه تحقيقُ الأمر في ذلك. ويُعرفُ الترجيح بوجوه منها: أهميةُ ما يترتب على المصلحة على ما يترتب على غيرها، كتقديم مصلحة الإيمان على مصلحة الأعمال، وتقديم إنقاذ الأنفس عند الأخطار على إنقاذ الأموال، ¬

_ (¬1) ورد هذا المثال افتراضاً بلفظ "الصرعى" بدل "الجرحى". ونصه ما ذكر في البرهان: من تردى في بئر من غير تعدٍّ ووقع على مصروع، ولو مكث عليه لمات، وفيه صرعى، لو انتقل إلى غيره، لمات المنتقل إليه. هذه واقعة بحسب المفترض خلت عن حكم الله - قال في الجواب: لا - لم تخل من حكم الله - ولا يعتقد خلو واقعة عن حكم الله ولا نرى ذلك في قواعد الدين، ولأن التردد أو التخير في هذه الواقعة للمتردي استواء الإقدام والإحجام وهو حقيقة الإباحة. الجويني. البرهان، المسألة 1531، 1534: 2/ 1350 - 1351. وصورة قريبة منها، إذا وقع رجل على طفل من بين أطفال إن أقام على أحدهم قتله. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 96. (¬2) قريب من هذه الصورة، الطريق يشق أرض رجل فيريد أن يحولها إلى موضع آخر من أرضه هو أوفق به وبأهل الطريق. قال ابن الماجشون: أرى أن يرفع أمرها إلى الإمام، لأن الإمام هو الناظر لجميع المسلمين، وهو بمكانهم في ذلك. ابن فرحون. التبصرة: 2/ 274، 275.

وتقديم ما حضّ الشارع على طلبه على ما طلبه طلباً غير محثوث، وتقديم الأصل على فرعه. ومن طرق الترجيح الخفيّة عن المدركات الشائعةِ آثارُها في المعاملات: ترجيح إحدى المصلحتين الفرديتين على مساويتها بمرجِّح مراعاة الأصل. فإن كثيراً من أنواع التجارات إذا احترف به التاجرُ لجلب مصلحته فدخل بمقداره إضرار على مماثله في التجارة، فمصلحة أحد التاجرين في الاحتراف بالتجارة ومصلحة الآخر في ترك غيره ذلك الاحتراف، وهما متساويتان، ولا يمكن الجمع بينهما. فراعت الشريعة طريق الترجيح في مثل هذا، بأن الأصل إرسال الناس في ميدان الاختيار والجلب، فتترجح إحدى المصلحتين باختيار جالب تلك المصلحة لنفسه. ولذلك أباحت الشريعة أن يشتغل أحد بالتجارة في ضرب من ضروب السلع مع وجود مماثل له في تلك التجارة سابق له بله المقارن. فإذا قصد بذلك الإضرار كان آثماً على نيّته ولم يكن ممنوعاً من العمل (¬1). فالشريعة تسعى إلى تحقيق المقاصد في عموم طبقات الأمة بدون حرج ولا مشقة. فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع. فهي تترقى بالأمة من الأدون من نواحي تلك المقاصد إلى الأعلى، بمقدار ما تسمح به الأحوال ويتيسر حصوله، وإلّا فهي تتنازل من الأصعب إلى الذي يليه مما فيه تعليق الأهم من المقاصد. ¬

_ (¬1) مأخوذ من كلام الشاطبي في المسألة الخامسة من القسم الثاني من كتاب المقاصد بتصرف .. [الموافقات: (1) 2/ 217 - 228 = (3) 2/ 348 - 364 = (4) 3/ 53] اهـ. ابن عاشور.

وقد مضى في مبحث الفطرة ما يمكن معه أن يجعل لأحكام المصالح والمفاسد وتعارضهما سبباً يربطها بمراعاة إقامة الفطرة وانخرامها. ولا يعوزك تتبعه في أحوال التعارض، فكن فيه على بصيرة (¬1)!. ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 176 - 180؛ 184 - 186، 186 - 188.

ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع قد ثبت مما قررته في المبحثين قبل هذا أن مقصد الشريعة من التشريع، حفظ نظام العالم، وضبطُ تصرّف الناس فيه، على وجه يعصم من التفاسد والتهالك. وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة. فحقيق عَلَيَّ أن أبين أمثالاً ونظائر لأنواع المصالح المعتبرة شرعاً والمفاسد المحذورة شرعاً، لتحصل للعالِم بعلم مقاصد الشريعة مَلَكةٌ يعرف بها مقصود الشارع. فينحو نحوه عند عروض المصالح والمفاسد لأحوال الأمة جلباً ودرءاً. ووجهُ حاجة هذا العالِم إلى ذلك: أن المصالح كثيرة متفاوتة الآثار قوة وضعفاً في صلاح أحوال الأمة أو الجماعة، وأنّها أيضاً متفاوتة بحسب العوارض العارضة والحافة بها من مُعضَّدات لآثارها أو مُبطلات لتلك الآثار كلًا أو بعضاً. وإنّما يُعْتَبرُ منها ما نتحقق أنه مقصودٌ للشريعة، لأن المصالح كثيرة منبثة. وقد جاءت الشريعة بمقاصد تنفي كثيراً من الأحوال التي اعتبرها العقلاء في بعض الأزمان مصالح، وتُثبِت عوضاً عنها مصالحَ أرجحَ منها. نعم إن مقصد الشارع لا يجوز أن يكون غير مصلحة، ولكنه ليس يلزم أن يكون مقصوداً منه كل مصلحة. فمن حق العالِم بالتشريع أن يَخْبُرَ أفانين هذه المصالح في ذاتها وفي عوارضها، وأن

يَسْبُرَ الحدود والغايات التي لاحظتْها الشريعة في أمثالها وأحوالها إثباتاً ورفعاً، واعتداداً ورفضاً، لتكون له دستوراً يُقتدَى، وإماماً يُحتذى (¬1)، إذ ليس له مطمع - عند عروض كل النوازل النازلة والنوائب العارضة - بأن يظفر لها بأصل مماثل في الشريعة المنصوصة ليقيس عليه، بله نصٍّ مقنع يفيء إليه. فإذا عَنَّتْ للأمة حاجةٌ وهرع الناس إليه يتطلّبون قوله الفصلَ فيما يُقدمون عليه وَجَدُوه ذكيَّ القلب صارم القول غير كسلان ولا متبلِّدٍ. وتنقسم المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة إلى ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجيَّة، وتحسينية. ¬

_ (¬1) عبارة الغزالي - في الإشارة إلى أول هذه التقسيمات - أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في مرتبة الضرورات، وإلى ما هي في مرتبة الحاجيات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات. المستصفى: 1/ 826. وقال الشاطبي: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد: ضرورية وحاجية وتحسينية. الموافقات: (3) 2/ 8. وقد تتبع هذه المسالة د/ حسين حامد حسان. ولاحظ في بيان أهمية هذه التسمية أن من الأصوليين كالغزالي من يشترط في المصالح الحاجية والتحسينية الأصل المعين الذي يمكن القياس عليه إلا أن تجري هذه المصالح مجرى الضرورات، وأن منهم مثل الشاطبي من يحكم بمجرد المصالح الحاجية ويضعها مع المصالح الضرورية في رتبة واحدة. ولا يشترط في كل منهما الأصل المعين ما دامت شروط العمل بالمصلحة قد توافرت عنده. ثم ذكر الطوفي الذي لم ير في تقسيم المصلحة إلى ضرورية وحاجية وتحسينية فائدة، وألحق به بعض الكتاب المعاصرين الذي رأى رأيه أن كل مصلحة يؤخذ بها مجردة عن الأصل المعين دون فرق بين الأقسام الثلاثة. نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: 31، 32؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 119.

وتنقسم باعتبار تعلّقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى: كلية، وجزئية. وتنقسم باعتبار تحقق الاحتياج إليها في قوام أمر الأمة أو الأفراد إلى: قطعيّة، أو ظنيّة، أو وهميّة (¬1). فأما التقسيم الأول إلى: ضرورية، وحاجية، وتحسينية. فهذه ثلاثة أصناف: فالمصالح الضرورية، هي التي تكون الأمةُ بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها، بحيث لا يستقيم النظامُ باختلالها، بحيث إذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش. ولست أعني باختلال نظام الأمة هلاكَها واضمحلالها، لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم في الوثنية والهمجية، ولكنَّي أعني به أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام، بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها. وقد يُفضي بعضُ ذلك الاختلال إلى الاضمحلال الآجل بتفاني بعضها ببعض، أو بتسلط العدو عليها إذا كانت بمرصد من الأمم المعادية لها أو الطامعة في استيلائها عليها. كما أوشكت حالة العرب في الجاهلية على ذلك مثلما قال زهير: تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عِطرَ مَنشَم (¬2) ¬

_ (¬1) فرق بين هذا وبين الاعتبار الأول. فالوهمية لا يمكن أن تكون لا ضرورية ولا حاجية ولا تحسينية، بل هي ناشئة عن توهم المرء أن مصلحة الناس تقتضي مثلاً حلّية تعاملهم بالربا. فهذه مصلحة وهمية تناقض المصلحة الشرعية من كل الوجوه، كما تُعارض ما قضى به كتاب الله من ضرورة إغلاق باب الربا. (¬2) البيت من المعلقة. التبريزي: 136. ابن النحاس: 1/ 105.

وقد مثّل الغزالي (¬1) - في المستصفى (¬2) - وابن الحاجب (¬3) لقرافي (¬4) والشاطبي (¬5) هذا القسم الضروري بحفظ الدين والنفوس ¬

_ (¬1) هو حجة الإسلام أبو حامد زين الدين محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي 450 هـ بقصبة الطابران، - 505 هـ بها. رعاه وأخاه أحمد أحدُ الشيوخ الصوفية من أصدقاء والده. قرأ الفقه في صباه ببلده على أحمد بن محمد الراذكاني، وعلق التعليقة بجرجان عن أبي نصر الإسماعيلي، ولازم بنيسابور إمام الحرمين وبرع في المذهب، والخلاف، والجدل، والأصلين، والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة حتى غدا بحراً مغدقاً. ثم خرج إلى المعسكر وبه ناظَر الأئمة، وقدم بغداد. ودرّس بالنِّظامية. وصنف في الأصول والفقه والخلاف. وتزيد مؤلفاته على الخمسمائة ومن أجَلِّ كتبه التي أولى فيها مقاصد الشريعة عناية فائقة عند تحريره للمباحث الأصولية والفقهية، والتوجيهية الوعظية والتربوية: شفاء الغليل في بيان الشَّبَه والمُخيل ومسالك التعليل، والمستصفى وهو آخر كتبه الأصولية. وفيه عني بقضية المصلحة وفصل فيها القول، وإحياء علوم الدين الذي بيّن فيه مقاصد وأسرار ومصالح العبادات والعادات من المعاملات والأخلاق والآداب. محمد حسن هيتو، مقدمة المنخول. (¬2) المصلحة المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفْسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. الغزالي. المستصفى: 1/ 286 - 287. (¬3) والمقاصد ضربان: ضروري في أصله. وهي أعلى المراتب كالخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ابن الحاجب. منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل: 2/ 240. (¬4) والمناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة. والمناسب أقسام: ما هو من قبيل الضرورات نحو الكليات الخمس وهي: حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال، وقيل: والأعراض. القرافي. التنقيح: 391. (¬5) قال: ومجموع الضروريات خمسة. وهي: حفظ الدين والنفس والنسل =

والعقول والأموال والأنساب. وزاد القرافي نقلًا عن قائلٍ: حفظَ الأعراض. ونُسب في كتب الشافعية إلى الطوفي (¬1) *. قال الغزالي: "وتحريمُ تفويت هذه الأصول الخمسة يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة [من الملل] وشريعة [من الشرائع] التي أريد بها إصلاح الخلق" (¬2). وقد علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر. وقال الشاطبي (¬3) *: "وعلم هذه الضروريات صار مقطوعاً به، ولم يثبت ذلك بدليل معين بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد. فكما لا يتعين في التواتر المعنوي أن يكون المفيد للعلم خبراً واحداً من الأخبار دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على انفرادها. فنحن ¬

_ = والمال والعقل. وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة. الشاطبي. الموافقات: (2) 2/ 4 = (3) 2/ 10 = (4) 2/ 20. (¬1) * في ذيل كتاب اللباب في الأنساب لأحد تلامذة السيوطي: الطوفي نسبة إلى طُوفَى قرية من أعمال صرصر بناحية بغداد. منها [نجم الدين أبو الربيع] سليمان بن عبد القوي الطوفي الفقيه الأصولي. [حنبلي رافضي ظاهري ... أشعري، هذه إحدى العبر] ذكر في طبقات الحنابلة اهـ. 2/ 366، ع 476؛ ترجمه [ابن العماد] في شذرات الذهب، وذكر أنه توفي سنة 716. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) انظر الغزالي. المستصفى: 1/ 288. (¬3) * صفحة 13 جزء 1 موافقات، طبع تونس. اهـ. تع ابن عاشور. [النقل بتصرف. متصيد في جملته من المقدمة الثالثة. الأدلة السمعية لا تفيد القطع بآحادها بل باجتماعها. الشاطبي: (2) 1/ 13 وما بعدها = (3) 1/ 38 وما بعدها = (4) 1/ 31].

إذا نظرنا في حفظ النفس مثلًا نجد النهي عن قتلها (¬1)، وجعل قتلها سبباً للقصاص ومتوعَّداً عليه ومقروناً بالشرك (¬2)، ووجوب سد الرمق على الخائف على نفسه ولو بأكل الميتة (¬3). فعلمنا تحريم القتل علم اليقين. وإذا انتظم الأصل الكلي جارياً مجرى دليل عام فاندرجت تحته جميعُ الجزئيات التي يتحقق فيها ذلك العموم" اهـ. وقد تنبّه بعض علماء الأصول إلى أن هذه الضروريات مشار إليها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} (¬4) إذ لا خصوصية للنساء المؤمنات. فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ البيعة على الرجال بمثل ما نزل في المؤمنات كما في صحيح البخاري (¬5). ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}. الأنعام: 101، الإسراء: 23. (¬2) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. البقرة: 178، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. النساء: 93، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}. الأنعام: 137. (¬3) قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. المائدة: 3. (¬4) الممتحنة: 12. (¬5) في التحرير والتنوير، وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضاً: 28/ 165. ونص الحديث المشار إليه هنا هو حديث عبادة بن الصامت: "قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تُبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تَسْرِقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا البهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم =

قال الشاطبي: "وحفظ هذه الضروريات بأمرين: أحدهما ما يقيم أصل وجودها. والثاني ما يدفع عنها الاختلال الذي يعرض لها" (¬1) اهـ. وأقول: إن حفظ هذه الكليات معناه حفظها بالنسبة لآحاد الأمة وبالنسبة لعموم الأمة بالأولى. فحفظ الدين معناه حفظ دين كل أحد من المسلمين أن يدخل عليه ما يفسد اعتقادهُ وعملَه اللاحق بالدين. وحفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة، أي دفع كل ما شأنه أن ينقض أصول الدين القطعية. ويدخل في ذلك حمايةُ البيضة والذبُّ عن الحوزة الإسلامية بإبقاء وسائل تلقي الدين من الأمة حاضرها وآتيها. ومعنى حفظ النفوس حفظُ الأرواح من التلف أفراداً وعموماً، لأن العالَم مركب من أفراد الإنسان، وفي كل نفس خصائصُها التي بها بعضُ قِوام العالم. وليس المرادُ حفظَها بالقصاص كما مثل به الفقهاء، بل نجد القصاص هو أضعفَ أنواع حفظ النفوس، لأنه تداركُ بعضِ الفوات. بل الحفظ أهمه حفظُها عن التلف قبل وقوعه، ¬

_ = ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فى الدنيا فهو كفّارة له. ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء الله عاقبه وإن شاء عفا عنه. فبايعناه على ذلك". انظر 93 كتاب الأحكام، 49 باب بيعة النساء خَ: 8/ 125، وليس فيه وقرأ آية النساء. والجملة مثبتة في 65 كتاب التفسير، 60 الممتحنة، 3 باب إذا جاءك المؤمنات، ح 3. خَ: 6/ 61. (¬1) نقل بتصرف. الموافقات: (1) 2/ 4 = (2) 2/ 3 = (3) 2/ 8 = (4) 2/ 17.

مثل مقاومة الأمراض السارية. وقد منع عمر بن الخطاب الجيش من دخول الشام لأجل طاعون عمواس (¬1). والمرادُ النفوس المحترمة في نظر الشريعة، وهي المعبر عنها بالمعصومة الدم. ألا ترى أنه يُعاقَب الزاني المُحصَن بالرجم مع أن حفظ النسب دون مرتبة حفظ النفس. ويلحق بحفظ النفوس من الإتلاف حفظُ بعض أطراف الجسد من الإتلاف، وهي الأطراف التي يُنزَّل إتلافُها منزلة إتلاف النفس في انعدام المنفعة بتلك النفس. مثل الأطراف التي جُعلت في إتلافها خطأَ الديةُ كاملة (¬2). ¬

_ (¬1) حدث الطاعون - طاعون عمواس - 17 هـ. وكان موتاناً لم ير مثله. طمع له العدو في المسلمين، وتخوفت له قلوب المسلمين. كثر موته وطال مكثه. الطبري. تاريخ الأمم والملوك: 5/ 3530، 3531. وعدة من مات في هذا الطاعون خمسة وعشرون ألفاً. وقبلَ منع عمر الجند من دخول الشام استشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، ثم استشار مهاجرة الفتح من قريش فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعَود. فنادى عمر في الناس، إني مصبح على ظهر. فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله! فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. وقد كان من ضحايا هذا الطاعون جماعة. مات فيه أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعتبة بن سهيل وعمر بن غيلان الثقفي. ابن الأثير. الكامل: 2/ 236. (¬2) تكون دية الأطراف كاملة في الجنايات التي تقع على وجه الخطأ، وتترتب عليها إزالة جنس منفعة العضو بإبانته أو بتعطيل منفعته. وذلك في كل عضو مفرد في الجسم لا نظير له. وتجب الدية كاملة في اليدين والرجلين والعينين والأذنين والشفتين والثديين والحلمتين والأنثيين والشفرين والأليتين واللحيين، وفي غير ذلك مما اتفق عليه الفقهاء. والأصل في هذا حديث سعيد بن المسيب: "في النفس الدية، وفي اللسان الدية، وفي المارن الدية"؛ وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم، وجهه =

ومعنى حفظ العقل: حفظُ عقول الناس من أن يدخل عليها خلل، لأن دخول الخلل على العقل مؤدٍّ إلى فساد عظيم من عدم انضباط التصرف. فدخول الخلل على عقل الفرد مفض إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم. ولذلك يجب منع الشخص من السكر، ومنع الأمة من تفشّي السكر بين أفرادها. وكذلك تفشّي المفسدات مثل الحشيشة والأفيون والمورفين والكوكايين والهروين، ونحوها مما كثر تناوله في القرن الرابع عشر الهجري. وأما حفظ المال فهو حفظُ أموال الأمة من الإتلاف، ومن الخروج إلى أيدي غير الأمة بدون عوض، وحفظُ أجزاء المال المعتبرة عن التلف بدون عوض. وليس من الضروري إلغاء بعض الأعواض عن الاعتبار كإلغاء دفع العوض على التأجيل وهو ربا الجاهلية، وإلغاء التعويض على الضمان وعلى بذل الجاه وعلى القرض، ولا حفظُ المال من الخروج ¬

_ = به إلى اليمن، وفيه الفرائض والسنن والديات. ومنه: "إن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية ... "؛ وحديث معاذ: "وفي اليدين والرجلين الدية". الزيلعي. نصب الراية: 4/ 369؛ الحاكم. المستدرك: 1/ 397؛ انظر 45 كتاب القسامة، 46، 47 باب ذكر حديث عمرو بن حزم في الفتوى واختلاف الناقلين له، ح 4850. نَ: 8/ 57. وقد فصّل القول في ذلك صاحب البدائع بذكر الأعضاء التي تجب فيها الدية كاملة والتي يجب فيها ما دونها. الكاساني: 7/ 311. انظر الديات والحكومات في الأطراف. الموسوعة الفقهية: 21/ 64 - 90.

عن يد مالكه إلى يد أخرى من أيدي الأمة بدون رضًى، لأن هذين من الحاجي لا من الضروري. ثم إن حفظَ الأموال الفردية يؤول إلى حفظ مال الأمة. وبه يحصل حصول الكلُّ بحصول أجزائه. وأما حفظ الأنساب - ويعبّر عنه بحفظ النسل - فقد أطلقه العلماء ولم يبيّنوا المقصود منه، ونحن نفصل القول فيه. وذلك أنه إن أريد به حفظ الأنساب أي النسل من التعطيل فظاهرٌ عدُّه من الضروري، لأن النسل هو خِلفَةُ أفراد النوع. فلو تعطل يؤول تعطيلُه إلى اضمحلال النوع وانتقاصه، كما قال لوط لقومه: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} (¬1) على أحد التفسيرين (¬2). فبهذا المعنى لا شبهة في عده من الكليات لأنه يعادل حفظ النفوس. فيجب أن تحفظ ذكور الأمة من الاختصاء مثلًا، ومن ترك مباشرة النساء باطراد العزوبة ونحو ذلك. وأن تحفظ إناث الأمة من قطع أعضاء الأرحام التي بها الولادة، ومن تفشّي إفساد الحمل في وقت العلوق، وقطع الثدي، فإنه يكثر الموتان في الأطفال بعسر الإرضاع الصناعي على كثير من النساء وتعذره في البوادي. وأما إن أُريد بحفظ النسب حفظ انتساب النسل إلى أصله، وهو الذي لأجله شرعت قواعد الأنكحة، وحرم الزنا وفرض له الحد، فقد يقال: إن عَدَّه من الضروريات غير واضح، إذ ليس بالأمة من ضرورة إلى معرفة أن زيداً هو ابن عمر وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم. ¬

_ (¬1) العنكبوت: 29. (¬2) وهو الإكراه على الفاحشة، والمراد: قطع سبيل النسل في ترك النساء وإتيان الرجال. ابن عطية. المحرر الوجيز: 12/ 217.

ولكن في هذه الحالة مضرّة عظيمة، وهي أن الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه، والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه وكمال جسده وعقله بالتربية والإنفاق على الأطفال إلى أن يبلغوا مبلغ الاستغناء عن العناية. وهي مَضَرّة لا تبلغ مبلغ الضرورة لأن في قيام الأمهات بالأطفال كفاية مّا لتحصيل المقصود من النسل. وهو يزيل من الفرع الإحساس بالمبرة والصلة والمعاونة والحفظ عند العجز. فيكون حفظ النسب بهذا المعنى بالنظر إلى تفكيك جوانبه من قبيل الحاجي. ولكنه لما كانت لفوات حفظه من مجموع هذه الجوانب عواقب كثيرة سيئة يضطرب لها أمر نظام الأمة وتنخرم بها دعامة العائلة، اعتبر علماؤنا حفظ النسب في الضروري، لما ورد في الشريعة من التغليظ في حد الزنا، وما ورد عن بعض العلماء من التغليظ في نكاح السر والنكاح بدون ولي وبدون إشهاد، كما سنبيّنه عند الكلام على مقصد الشريعة في نظام العائلة الراجع إلى حفظ حقوق الأولاد (¬1). وأما حفظ العِرض في الضروري فليس بصحيح. والصواب أنه من قبيل الحاجي. وإن الذي حمل بعض العلماء - مثل تاج الدين السبكي في جمع الجوامع - على عدّه في الضروري هو ما رأوه من ورود حد القذف في الشريعة (¬2). ونحن لا نلتزم الملازمة بين ¬

_ (¬1) انظر بعد: 420. (¬2) قال السبكي: والمناسب ضروري فحاجي فتحسيني. والضروري كحفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال والعرض. قال البناني: المشروع له حد القذف. وهذا زاده المصنف كالطوفي، وعطفه بالواو إشارة إلى أنه في رتبة المال، وعطف كلاً من الأربعة قبله بالفاء لإفادة أنه دون ما قبله في الرتبة. السبكي بحاشية البناني وتعليقات الشربيني: 2/ 293 - 294.

الضروري وبين ما في تفويته حد. ولذلك لم يَعدَّه الغزالي وابن الحاجب ضرورياً. وهذا الصنف الضروري قليل التعرض إليه في الشريعة، لأن البشر قد أخذوا حيطتهم لأنفسهم منذ القدم فأصبح مركوزاً في الطبائع. ولم تخل جماعة من البشر ذات تمدن من أخذ الحيطة له. وإنما تتفاضل الشرائع بكيفية وسائله. ولننتقلْ إلى صنف الحاجي، وهو ما تحتاج الأمة إليه لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاتُه لَمَا فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة فلذلك كان لا يبلغ مبلغ الضروري. قال الشاطبي: "هو ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الحرج. فلو لم يراعَ دخَل على المكلَّفين الحرجُ والمشقةُ [على الجملة]، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد [العادي] المتوقع في المصالح العامة" (¬1) اهـ. ومثّله الأصوليون بالبيوع والإجارات والقراض والمساقاة. ويظهر أن معظم قسم المباح في المعاملات راجع إلى الحاجي. والنكاح الشرعي من قبيل الحاجي. وحفظ الأنساب، بمعنى إلحاق الأولاد بآبائهم من الحاجي للأولاد وللآباء. فللأولاد للقيام عليهم فيما يحتاجون ولتربيتهم النافعة لهم، وللآباء لاعتزاز العشيرة وحفظ العائلة. ¬

_ (¬1) النقل بتصرف. الموافقات: (1) 2/ 4 = (2) 2/ 4 - 5 = (3) 2/ 10 - 11 = (4) 2/ 20.

وحفظ الأعراض - أي حفظ أعراض الناس من الاعتداء عليها - هو من الحاجي، لينكف الناس عن الأذى بأسهل وسائله وهو الكلام. ومن الحاجي ما هو تكملة للضروري، كسد بعض ذرائع الفساد، وكإقامة القضاة والوزعة والشرطة لتنفيذ الشريعة. ومن الحاجي ما يدخل في الكليات الخمسة المتقدمة في الضروري إلّا أنه ليس بالغاً حد الضرورة. كما أشرنا إليه فيما مضى من الأمثلة. فبعض أحكام النكاح ليست من الضروري ولكنها من الحاجي مثل اشتراط الولي والشهرة. وبعض أحكام البيوع ليست من الضروري، مثل بيوع الآجال المحظورة لأجل سد الذريعة، ومثل تحريم الربا، وأخذ الأجر على الضمان، وعلى بذل الشفاعة. فإن كثيراً من تلك الأحكام تكميلية لحفظ المال، وليست داخلة في أصل حفظ المال. وعناية الشريعة بالحاجي تقرب من عنايتها بالضروري. ولذلك رتّبت الحد على تفويت بعض أنواعه، كحد القذف (¬1). وفيما دونه مجال للمجتهدين. فلذلك نراهم مختلفين في حد الشرب لقليل من المسكر (¬2)، ¬

_ (¬1) من أجل حفظ العرض ودفع العار على المقذوف فرضه الشارع بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. النور: 4. (¬2) حد شرب الخمر مختلف عند الحنفية عنه في بقية المذاهب. فهم يذهبون إلى أن حد الأشربة المحرمة نوعان: هما حد الشرب وحد السكر. فحد الشرب يجب بشرب الخمر خاصة، شرب قليلها أو كثيرها، ولا يتوقف وجوب الحد على حصول السكر منها، لقوله عليه السلام: "من شرب الخمر فاجلدوه". وحد السكر سبب وجوبه السكر الحاصل بشرب =

وفي تحريم نكاح المتعة (¬1). والمصالح التحسينية هي عندي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها أو في التقرب منها. فإن لمحاسن العادات مدخلًا في ذلك سواء كانت عادات عامة كستر العورة، أم خاصة ببعض الأمم كخصال الفطرة وإعفاء اللحية. والحاصل أنها مما تراعى فيها المدارك الراقية البشرية. قال الغزالي: "هي التي تقع موقع التحسين والتيسير للمزايا ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، لأن العبد ضعيف المنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة" (¬2) اهـ. ¬

_ = ما سوى الخمر من الأشربة المعهودة المسكرة كالسكر ونقيع الزبيب والمطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب أو التمر ونحوها. ومذهب الجمهور أنه لا فرق بين شرب الخمر وغيرها. [من السكران] في وجوب الحد لحديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام". الكاساني. البدائع: 7/ 39. (¬1) هذا النكاح نوعان: متعة ومؤقت. فالأول كأن يقول لامرأة: أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال، وهو باطل بإجماع الفقهاء خلافاً للشيعة التي عملت برأي ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وأما الثاني فكأن يتزوج امرأة بشهادة شاهدين عشرة أيام، وهو باطل عند الجمهور. وأجازته الشيعة، وذهب زفر إلى أنه صحيح لازم، لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. العيني. البناية: 4/ 101. (¬2) نقل بتصرف قليل. الغزالي. المستصفى: 1/ 290 - 291.

ومن التحسيني سد ذرائع الفساد (¬1). فهو أحسن من انتظار التورّط فيه. فهذه أنواع المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة. ولقد تتبع العلماء تصاريف الشريعة في أحكامها فوجدوها دائرة حول هذه الأنواع الثلاثة. ووجدوها لا تكاد تفيت شيئاً منها ما وجدت السبيل إلى تحصيله حيث لا يعارضه معارض من جلب مصلحة أعظم أو درء مفسدة كبرى. وليس غرضنا من بيان هذه الأنواع مجردَ معرفة مراعاة الشريعة إياها في أحكامها المتلقاة عنها، لأن ذلك مجرد تفقه في الأحكام. وهو دون غرضنا من علم مقاصد الشرعية، ولا أن نقيس النظائر على جزئيات تلك المصالح، لأن ذلك ملحق بالقياس وهو من غرض الفقهاء. وإنما غرضنا من ذلك أن نعرف كثيراً من صور المصالح المختلفة الأنواع المعروف قصدُ الشريعة إياها، حتى يحصل لنا من تلك المعرفة يقين بصور كلية من أنواع هاته المصالح. فمتى حلت الحوادث التي لم يسبق حلولها في زمن الشارع، ولا لها نظائر ذات أحكام متلقاة منه، عرفنا كيف ندخلها تحت تلك الصور الكلية، فنثبت لها من الأحكام أمثال ما ثبت لكلياتها، ونطمئن بأننا في ذلك مثبتون أحكاماً شرعية إسلامية. ¬

_ (¬1) وحسم مادة الفساد بسد الذرائع دفع لها. فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، فإن مالكاً يمنعه في كثير من الصور. وليس هذا خاصاً بالمالكية، فإن الذرائع ثلاثة أقسام: أحدها أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كحفر الآبار في طريق المسلمين، وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تحسم كالمنع من زراعة العنب، وقسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ كبيوع الآجال عند المالكية، والحكم بالعلم. وقد بلغ نحو ألف مسألة. القرافي. الفروق: 2/ 32، 3/ 266.

وهذا ما يسمى بالمصالح المرسلة (¬1). ومعنى كونها مرسلة أن الشريعة أرسلتها فلم تُنِط بها حكماً معيناً، ولا يُلفى في الشريعة لها نظير معين له حكم شرعي فتقاس هي عليه. فهي إذن كالفرس المرسل غير المقيَّد. ولا ينبغي التردد في صحة الاستناد إليها، لأننا إذا كنا نقول بحجية القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يُعرف له حكمٌ في الشرع بجزئي ثابت حكمُه في الشريعة للمماثلة بينهما في العلة المستنبطة، وهي مصلحة جزئية ظنّية غالباً لقلة صور العلة المنصوصة، فَلَأَنْ نقول بحجية قياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يُعرف لها حكم على كلية ثابت اعتبارُها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي أولى بنا وأجدرُ بالقياس وأدخلُ في الاحتجاج الشرعي. وإني لأعجب فَرط العجب من إمام الحرمين - على جلالة علمه ونفاذ فهمه - كيف تردّد في هذا المقام (¬2). وأما الغزالي، فأقبل ¬

_ (¬1) تلك هي التسمية الشائعة التي انبنت المصلحة المرسلة فيها على ملاحظة مراعاة الحكم لها واقتضائه إياها، وهي الوصف المناسب عند ابن الحاجب والغزالي لتوجه النظر فيها إلى أقسام الوصف وفروعه من حيث هو مؤثر وملائم، أو غريب أو مرسل وهو ملائم المرسل، وتعرف أيضاً بالاستصلاح أو الاستدلال كما عبر بالأول الغزالي، وبالثاني إمام الحرمين. البوطي. ضوابط المصلحة: 328 وما بعدها (¬2) يظهر تردده في قبول العمل بالمصالح المرسلة أو بالمناسب المرسل أو المرسل الملائم أو الاستدلال والاستصلاح عند ذكره الاستدلال، وتقسيمه الآراء فيه ثلاثة أقسام. فهو بجانب ذكر مذهبي الإمامين مالك والشافعي إزاءه يصدر كلامه بذكر المذهب الأول الصريح في نفيه والداعي =

وأدبر، فلحق مرّة بطرف الوفاق لاعتبار المصالح المرسلة، ومرّة بطرف رأي إمام الحرمين إذ تردد في مقدار المصلحة (¬1). ¬

_ = إلى الاقتصار على اتباع كل معنى له أصل. ويقول: أما القاضي فإنه احتج بأن قال: الكتاب والسنة متلقيان بالقبول، والإجماع ملتحق بهما، والقياس المستند إلى الإجماع هو الذي يعتمد حكماً وأصله متفق عليه. أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة، وليس يدل بعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها، فانتفاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العَمل به. الجويني. البرهان، الكتاب الرابع، القول في الاستدلال: 2/ 1113، ف: 1127 - 1132. (¬1) بيّن علماء الأصول ما كان من إقبال الغزالي وإدباره في القول بالمصلحة المرسلة. فقال العضد في شرحه على ابن الحاجب، والكمال بن الهمام في كتابه التحرير، وغيرهما ممن جرى على طريقتهما: إن الغزالي لا يقول بالاستصلاح إلا حيث استند إلى مصلحة ضرورية قطعية كلية. وبهذا الرأي أخذ البيضاوي في المنهاج والآمدي في الأحكام. وقال السبكي في جمع الجوامع: إنما شرط الغزالي في المصلحة أن تكون قطعية ضرورية كلية لإخراجها من محل النزاع، وبيان أن مثل هذه المصلحة يؤخذ بها اتفاقاً دون خلاف، ولبيان أن ما لم تتوفر فيه هذه الشروط فهو محل الخلاف والبحث. وقال البناني في شرح جمع الجوامع: إن الغزالي قائل بالمرسل إذا لم تكن المصلحة بالصفات المذكورة. البناني: 2/ 294. ويظهر التردد واختلاف القول في المصلحة المرسلة عند الغزالي فيما أورده في كتبه عنها. فهو في شفاء الغليل لم يحصر اعتبار المصالح المرسلة بالمصالح الضرورية فقط ودليل هذا قوله: أما الواقع من المناسبات في رتبة الضروريات أو الحاجيات فالذي نراه فيها أنه يجوز الاستمساك بها إن كان ملائماً لتصرفات الشارع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريباً لا يلائم القواعد. الغزالي: 188. ونراه في المنخول لا يشترط لاعتبارها أي مرتبة من مراتب المصالح. وذلك قوله: كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع لا يرده أصل مقطوع به يقوم عليه من كتاب أو سنة أو =

وجلبُ كلام إمام الحرمين في كتاب البرهان وكلام الغزالي في المستصفى يطول. ثم إني أقفي على أثرهما فأقول: لا ينبغي الاختلاف بين العلماء بتصاريف الشريعة المحيطين بأدلتها في وجوب اعتبار مصالح هذه الأمة ومفاسد أحوالها عندما تنزل بها النوازل وتحدث لها النوائب. وإنه لا يترقب حتى يجد المصالح المثبتة أحكامها بالتعيين، أو الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس. بل يجب عليه تحصيل المصالح غير المثبتة أحكامها بالتعيين، ولا الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس. وكيف يخالف عالم في وجوب اعتبار جنسها على الجملة، وبدون دخول في التفاصيل ابتداء، ثقةً بأن الشارع قد اعتبر أجناسَ نظائرها التي ربما كان صلاحُ بعضها أضعفَ من صلاح بعض هذه الحوادث. ثم لا أحسب أن عالماً يتردّد - بعد التأمل - في أن قياس هذه الأجناس، - المحدثة على أجناس نظائرها الثابتة في زمن الشارع أو ¬

_ = إجماع فهو مقول به، وإن لم يشهد له أصل معين. الغزالي. المنخول: 364. ورأيه أنه ليس ثمة ما يمنع من الأخذ بها ما دامت المصلحة داخلة في مقاصد الشارع. البوطي. ضوابط المصلحة: 394 - 395. والقدر المشترك فيما كتبه الغزالي عن الاستصلاح في كتبه الثلاثة: هو اعتبار المصالح المرسلة ما دامت داخلة في مقاصد الشارع ملائمة لتصرفاته. أما اشتراط الضرورية والقطعية والكلية فهو شيء لم يرد إلا في المستصفى. ولا سبيل لفهم مجموع كلامه بشكل منسجم إلا باتباع ما قاله السبكي: من أن هذه الشروط الثلاثة إنما أوردها للإشارة إلى الأمكنة التي لا يمكن إلا أن تجتمع فيها آراء المسلمين على اعتبارها والأخذ بها. أما نفي ما وراء ذلك فمجال بحث واجتهاد. القرافي. نفائس الأصول، المسألة التاسعة في المصالح المرسلة: 9/ 4082 - 4087.

زمان المُعتَبَرين من قدوة الأمة المجمعين على نظائرها - أولى وأجدر بالاعتبار من قياس جزئيات المصالح عامها وخاصها بعضها على بعض، لأن جزئيات المصالح قد يطرق الاحتمال: 1 - إلى أدلة أصول أقيستها. 2 - وإلى تعيين الأوصاف التي جُعلت مشابهاتها فيها بسبب الإلحاق والقياس، وهي الأوصاف المسماة بالعلل. 3 - وإلى صحة المشابهة فيها. فهذه مطارق احتمالات ثلاثة، بخلاف أجناس المصالح. فإن أدلة اعتبارها حاصلة من استقراء الشريعة قطعاً أو ظناً قريباً من القطع، وأن أوصاف الحكمة قائمة بذواتها غير محتاجة إلى تشبيه فرع بأصل، وإنها واضحة للناظر فيها وضوحاً متفاوتاً لكنه غير محتاج إلى استنباط ولا إلى سلوك مسالكه. أفليست بهذه الامتيازات أجدرَ وأحقَّ بأن تقاس على نظائر أجناسها الثابتة في الشريعة المستقراة من تصاريفها. فإن كان بعض تلك المصالح مصالح محضة بحيث لا تعارضها مصالح أخرى ولا تخالطها مفاسدٌ، فلا يحسنُ بأهل النظر في الشرع أن يختلفوا في تحصيلها. وإن كانت تعارضها مصالحُ أخرى أو تخالطُها مفاسد، فهي حينئذ يُرجَع بها إلى حكم تعارض المصالح والمفاسد المشروح في المبحث قبل هذا (¬1). وإنه مجال للاجتهاد بحسب قوة آثار المصالح المجتَلبَة وقوة ما يعارضها من المصالح والمفاسد، وبحسب تفاوت مراتب العلم بقوتها، فتلحق بنظائر أجناسها الثابت بالاستقراء ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 223 - 226.

كونُها مقصودةً للشارع في تحصيل الراجح وإهمال المرجوح، وفي اعتبار عموم الحاجة إلى التحصيل وخصوصها. ويشبه أن يكون المخالف في تحصيلها بدون تردّد ملحقاً بنفاة القياس. على أنك إذا افتقدت أحوال تحصيل المصالح ودرء المفاسد تجدها مختلفة. فليس أحوال إجراء العدل بين الناس في حقوقهم الخاصة والاجتماعية التي هي قوام المدنية في حالة السِّلم بمماثلة لأحوال مختلف إجراء المصالح الجندية والسياسية الحربية في حال الحرب والخوف عند مواجهة العدو، لأن أوقات الحروب ليس فيها متَّسع للتأمل والنظر في جزئيات المصالح، بل هي ساعات مُكنَة أو خروج من ضيقة تقتضي البدار إلى تحصيل أو دفع ما عنَّ من الفرص بقطع النظر عما عسى أن يلحقها من الأضرار الجزئية اللاحقة أو المصالح الجزئية الفائتة. على أنك تجد فرقاً واضحاً بين حالة دفع جيش العدو النازل وبين حالة قصدنا إلى بلاد العدو من حيث ما يتسع من التأمل لموازنة المصالح. ونحن إذا افتقدنا إجماع سلف الأمة، من عصر الصحابة فمن تبعهم، نجدهم ما اعتمدوا في أكثر إجماعهم - فيما عدا المعلوم من الدين بالضرورة - إلّا الاستناد إلى المصالح المرسلة العامة أو الغالبة بحسب اجتهادهم الذي صير تواطؤَهُم عليه أدلة للظنية قريبة من القطع. وإنهم قلّما كان مستندهم في إجماعهم دليلاً من كتاب أو سنة، ولأجل ذلك عدّ الإجماع دليلاً ثالثاً، لأنه لا يدرى مستنده. ولو انحصر مستنده في دليل الكتاب والسنة لكان ملحقاً بالكتاب والسنة ولم يكن قسيماً لهما. مثاله: جمع القرآن في المصحف. قد أمر به أبو بكر بطلب من

عمر، وتبعه بقية الصحابة. روى البخاري أن زيد بن ثابت قال: "أرسَلَ إليّ أبو بكر مَقتلَ أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. قال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك. وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال أبو بكر: هو والله خير" (¬1). فقول عمر: "هو والله خير"، ثم انشراح صدر أبي بكر، نعلم منه أنه من المصالح، لأن الخير مراد به الصلاح للأمة. وقول أبي بكر وزيد بن ثابت: "لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، نعلم منه أنه مصلحة مرسلة ليس في الشريعة ما يشهد لاعتبارها. وقد أجمع الصحابة على اعتبار ذلك. وكذلك إجماعهم على جعل حد شارب الخمر ثمانين جلدة في خلافة عمر، وتبعه الخلفاء وقضاة الإسلام (¬2). وتدوين ديوان ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 214/ 1. (¬2) لم يكن حد الشرب مقدراً في الشرع، بل "أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشارب، فأمر به فضرب بالنعال وأطراف الثياب وحثي عليه التراب". ولما آل الأمر إلى أبي بكر قدر الجلد بأربعين، ورآه قريباً مما كان يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكم بذلك عُمر مدة، ثم توالت عليه الكتب من أطراف البلاد، بتتابع الناس في الفساد وشرب الخمر واستحقار هذا القدر من الزجر، فجرى ما جرى في معرض الاستصلاح تحقيقاً لزجر الفساق. الغزالي. شفاء الغليل: 216 - 217. =

العطاء (¬1). وترك عمر قسمة المغانم من أرض سواد العراق (¬2)، لتكون عُدة لنوائب المسلمين إذا قلَّتْ الفتوح، وكتابة حديث ¬

_ = وهكذا فإن عبد الرحمن بن عوف - وقيل: علي بن أبي طالب - أشار - أو أشارا - على عمر بأخفّ الحدود وهو حد القذف ثمانون جلدة. وإليه ذهب عمر وعثمان وعلي. وهذا الحد هو المجمع عليه. وقيل: الحد أربعون كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وآخرون، لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين، وأن للإمام أن يرقى به إلى الثمانين أو ما دونها تعزيراً إن رأى ذلك. النووي. شرح مسلم: 11/ 215 - 221. (¬1) أول من وضع الديوان في الإسلام للعطاء الخليفة عمر بن الخطاب، ورتب الناس فيه وقدّر الأعطيات بعد مشاورته الصحابة. وقد تفرعت هذه المؤسسة إلى دواوين منها ديوان الجند لمعرفة ما يخص الجنود من العطاء، وإلى ديوان الخراج لمعرفة ما يرد إلى بيت المال، وما يفرض لكل مسلم من العطاء. وكان ذلك عندما كثر الناس وجبيت الأموال وفرضت الأعطيات وتأكدت الحاجة إلى ضبطهم. الخزاعي، تخريج الدلالات: 237. (¬2) وطول حد السواد: من لدن تخوم الموصل، مادًّا مع الماء إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة. وعَرْضُه حده منقطع الجبل من أرض حلوان إلى منتهى طرف القادسية المتصل بالعُذَيْب من أرض العرب. فهذه حدود السواد، وعليه وقع الخراج. أبو عبيد. الأموال: 72؛ الماوردي. الأحكام السلطانية: 165؛ صبحي الصالح. النظم الإسلامية: 348. وقد عدل عمر عن تقسيم هذه الأرض بين الغزاة المحاربين وجعلها أرض خراج. كتب بهذا إلى القواد، حتى تكون الأراضي التي فتحها المسلمون وقفاً للأمة بجميع أجيالها لأنها فيء محبوس لا ملك موروث. وقد كان على رأي عمر في ذلك أكابر المهاجرين: علي وعثمان وطلحة ومعاذ. صبحي الصالح. النظم الإسلامية: 346؛ ابن الخوجة. الخراج والعشر: 5 وما بعدها، 20 - 45.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمن عمر بن عبد العزيز (¬1). وقول عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" (¬2). فقد تبعه على جعله أصلاً كثيرٌ من العلماء، منهم مالك بن أنس (¬3)، ¬

_ (¬1) مما ورد في ذلك عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز قوله: قيدوا العلم بالكتاب. ابن عبد البر. جامع بيان العلم وفضله: 1/ 86، 91 - 92؛ الرامهرمزي. المحدث الفاصل: 365، 368. وكتابه إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. ابن حجر. فتح الباري: 1/ 204؛ ابن سعد. الطبقات: 2/ 134، 8/ 353؛ الخطيب. تقييد العلم: 105 - 106. وأمر عمر بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري على رأس المائة بتدوين العلم. (¬2) تقدم في: 25/ 1. (¬3) اعتُمد هذا الأصل من كلام عمر بن عبد العزيز المقتدى به، في القول والفعل، في استنباط عدد من الأحكام وفي الاجتهاد فيما لا نص فيه, مراعاة للمصلحة وتحقيقاً للعدالة. وبعد أن كانت الإجراءات الشرعية في مجال التقاضي والقضاء بسيطة أيام السلف، تغيّرت وتشعّبت بقدر تعقد الأحوال وتطور المجتمعات، وتقدم الزمان، وما تبع ذلك من نزوع إلى الشر ورغبة فيما بأيدي الناس عن طريق المغالطة والتحيل، أحدث الأئمة والفقهاء والقضاة جملة من الضوابط والشروط تقتضيها الأوضاع الجديدة، وتسايرها بحسب الأمكنة والأزمنة، صيانة منهم للحريات وحماية للحقوق. ولأهمية هذا الأمر الذي ظل يزداد استكناهاً للأحوال، وتقديراً للأعراف، ودقة في طرائق الحكم، نبّه المؤلف رحمه الله عليه بعد في الفصل الذي عقده للحديث عن مقاصد أحكام القضاء والشهادة، فقال أولاً: "ولم يزل الفقهاء يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابط وشروطاً ... " 522، وقال ثانية معللاً أسباب ذلك ومبيناً نتائج تلك التصرفات: "ثم إن الناس =

وكذلك ما أحدثه قضاة الإسلام وأئمته من أساليب المرافعات، وضرب الآجال، واستفسار الشهود، والسجن للمُلِدٍّ عن الجواب، وإحداث يمين القضاء لمن أثبت لنفسه حقًّا بالحجة على ميت أو غائب ونحو ذلك. ولننتقل الآن إلى التقسيم الثاني للمصالح. وذلك باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعتها أو أفرادها. فتنقسم بهذا الاعتبار إلى كلية وجزئية. ويراد بالكلية في اصطلاحهم ما كان عائداً على عموم الأمة عوداً متماثلاً، وما كان عائداً على جماعة عظيمة من الأمة أو قطر، وبالجزئية ما عدا ذلك. فالمصلحة العامة لجميع الأمة قليلة الأمثلة، وهي مثل حماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين حرم مكة وحرم المدينة من أن يقعا في أيدي غير المسلمين، وحفظ القرآن من التلاشي العام أو التغيير العام بانقضاء حفاظه وتلف مصاحفه معاً، وحفظ علم السنة من دخول الموضوعات، ونحو ذلك مما صلاحُه وفسادُه يتناول جميعَ الأمة وكلَّ فرد منها، وبعض صور الضروري والحاجي مما يتعلق بجميع الأمة. وأما المصلحة والمفسدة اللتان تعودان على الجماعات العظيمة، فهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات المتعلقة بالأمصار والقبائل والأقطار على حسب مبلغ حاجاتها، مثل التشريعات القضائية لفصل النوازل، والعهود المنعقدة بين أمراء ¬

_ = اجترؤوا على الحقوق تدريجياً وابتكروا التحيلات، فأضيفت، إلى ما سبق التنويه به، ضوابط كثيرة مفصلة في كتب النوازل". 538 - 540.

المسلمين وبين ملوك الأمم المخالفة في تأمين تجار المسلمين بأقطار غيرهم إذا دخلوها للتجارة، وتأمين البحار التي تحت سلطة غير المسلمين لتمكين المسلمين من مخرها آمنين إذا مروا بأسْماتِ شطوط غير المسلمين، والعقود المنعقدة مع تجار غير المسلمين إذا دخلوا إلى مراسي الإسلام على عُشُر أثمان ما يبيعونه ببلاد الإسلام من السلع والطعام أو على نصف العُشُر إذا جلبوا الطعام إلى الحرمين خاصة (¬1). والمصلحة الجزئية الخاصة، هي مصلحة الفرد أو الأفراد القليلة. وهي أنواع ومراتب. وقد تكفلت بحفظها أحكام الشريعة في المعاملات. وأما التقسيم باعتبار تحقّق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها، فتنقسم بذلك إلى: قطعية، وظنية، ووهمية. ¬

_ (¬1) قالت الحنابلة: إذا دخل منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر. وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منهم شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئاً فنأخذ منهم مثله، ولا يؤخذ منهم شيء حتى يبلغ ما يحملونه النصاب. وقال الشافعي: إن دخل إلينا بتجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوض يشرطه عليه، ومهما شرط جاز. ويستحب أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر، وإن أذن مطلقاً من غير شرط لا يؤخذ منهم شيء لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق منهم شيء كالهدنة. ويحتمل أن يجب العشر إن كان على ذلك العرف، والعرف في هذا ينزل منزلة الشرط. وإذا دخلوا في نقل ميرة للناس بها حاجة أذن لهم في الدخول بغير عشر يؤخذ منهم. وذهب المالكية إلى أخذ نصف العشر منهم ليكثر الحمل إلى المدينة فيخفف عنهم، وقضوا بالترك أيضاً إذا رأوا المصلحة. ويؤخذ نصف العشر من كل ذمي تاجر. وقال الحنابلة: وكذلك يجب العشر أو نصفه في مال النساء. ولا يعشرون في السنة إلا مرة، ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير. وقال بعض أصحاب الشافعي: يعشر الحربي كلما دخل إلينا. ابن قدامة. المغني: 13/ 234 - 236.

فالقطعية هي التي دلت عليها أدلةٌ من قبيل النصّ الذي لا يحتمل تأويلاً نحو: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1)، وما تظافرت الأدلّةُ الكثيرةُ عليها مما مُستَندُه استقراء الشريعة، مثل الكليات الضرورية المتقدمة. أو ما دل العقل على أن في تحصيله صلاحاً عظيماً، أو في حصول ضدّه ضر عظيم على الأمة، مثل قتال مانعي الزكاة في زمن أبي بكر (¬2) رضي الله عنه في الضروري. وأما الظنية فمنها ما اقتضى العقلُ ظنَّه، مثل اتخاذ كلاب ¬

_ (¬1) آل عمران: 97. (¬2) في هذا سنة ثابتة صريحة عن ابن عمر وأبي هريرة. قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإن فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". ولما تمردت قبائل شتى من العرب بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أداء الزكاة. واجهها أبو بكر بموقفه الحازم وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها. وخالفه عمر في ذلك في الأول ثم وافقه وقال: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. وفي المجموع: إذا منع واحد أو جمع الزكاة وامتنعوا بالقتال، وجب على الإمام قتالهم لما ذكره المصنف. وثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا أولاً في قتال مانعي الزكاة. ورأى أبو بكر رضي الله عنه قتالهم واستدل عليهم. فلما ظهرت لهم الدلائل وافقوه فصار قتالهم مجمعاً عليه. النووي. المجموع: 5/ 334. وفي قتال مانعي الزكاة جحوداً صونٌ للدين وحفاظ على أركان الشريعة جميعها، وضمانٌ لحقوق الفقراء والمساكين والفئات الضعيفة في المجتمع. القرضاوي. فقه الزكاة: 1/ 78 - 84.

الحراسة في الدور في الحضر في زمن الخوف في القيروان (¬1): كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد اتخذ كلباً بداره فقيل له: إن مالكاً كره اتخاذ الكلاب في الحضر. فقال: لو أدرك مالك مثل هذا الزمن لاتخذ أسداً على باب داره (¬2)؛ أو دلّ عليه دليلٌ ظنِّيٌ من الشرع، مثل حديث: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬3). ¬

_ (¬1) المذهب أنه لا يتخذ كلب في الدور في الحضر، ولا في دور البادية، إلا لزرع أو ماشية يصحبها في الصحراء ثم يروح معها، أو لصيد يصطاده لعيشه لا للهو. ابن أبي زيد: 106. والأصل فيه حديث ابن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان". رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي. ومثله حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان. ابن الصديق: 431. وقد تفرقت الأقوال في بيع الكلب بين الجواز والكراهة والمنع وهو أشهرها. وعند الضرورة حين وقعت الفتنة بين الشيعة والسنة جوّز المالكية اتخاذ الكلاب في الحضر للحراسة كما أجازوا بيعها. واتفقوا أن كلاب الماشية ... يجوز بيعها ككلب البادية وعندهم قولان في ابتياع ... كلاب الاصطياد والسباع والاتفاق المنوه به هنا هو اتفاق الفقهاء المتأخرين المستدل عليه بقول ابن أبي زيد الذي أورده المؤلف هنا. التسولي. البهجة شرح التحفة: 2/ 46. (¬2) زروق. شرح الرسالة: 2/ 413 - 414؛ علي بن خلف المنوفي. كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 4/ 441 - 442. التسولي، البهجة شرح التحفة: 2/ 46. (¬3) ورد الحديث بألفاظ مختلفة. أخرجه البخاري من رواية أبي بكرة: 93 كتاب الأحكام، 13 باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، ح 1. خَ: 8/ 108. انظر 30 كتاب الأقضية، 7 باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، ح 16. مَ: 2/ 1342 - 1343. انظر 23 كتاب الأقضية، 9 باب =

وأما الوهمية فهي التي يُتَخَيَّل فيها صلاحٌ وخيرٌ، وهو عند التأمل ضر: إما لخفاء ضُرّه، مثل تناول المخدرات من الأفيون والحشيشة والكوكايين والهروين. فإن الحاصل بها لمتناوليها ملائِم لنفوسهم، وليس هو بصلاح لهم. وإما لكون الصلاح مغموراً بفساد، كما أنبأنا عنه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1). هذا جماعُ القول في المصالح المُعتَبَرة شرعاً. ولإطالة الكلام في ذلك فائدة عظيمة، ليتعلّمَ مزاولُ هذا العلم أن طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك. وأنه إن لم يتبع هذا المسلكَ الواضح والمحجةَ البيضاءَ فقد عطَّل الإسلام عن أن يكون ديناً عاماً وباقياً. [ولم يأمن أن يسلك وادياً أخوف إلا ما وفى الله ساريا] (¬2). وللمصالح والمفاسد تقسيم آخر باعتبار كونها حاصلةً من ¬

_ = القاضي يقضي وهو غضبان. دَ: 4/ 16، انظر 13 كتاب الأحكام، 7 باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان، ح 1334. تَ: 3/ 620 - 621. انظر 49 كتاب القضاة، 32 باب النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين، ح 5418. نَ: 8/ 247؛ انظر 13 كتاب الأحكام، 4 باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، ح 2316. جَه: 2/ 776؛ حَم: 5/ 52. (¬1) البقرة: 219. (¬2) الإضافة من ط. الاستقامة: 91. لكن المؤلف ضرب عليها بقلمه في ط (1).

الأفعال بالقصد، أو حاصلةً بالمآل. وهو تقسيم يسترعي حذق الفقيه. فإن أصول المصالح والمفاسد قد لا تكاد تخفى على أهل العقول المستقيمة. فمقام الشرائع في اجتلاب صالحها ودرء فاسدها مقام سهل، والامتثال إليه فيها هيَّن، واتفاق علماء الشرائع في شأنها يسير. فأما دقاق المصالح والمفاسد وآثارها ووسائل تحصيلها وانخرامها فذاك المقام المرتبك. وفيه تتفاوت مدارك العقلاء اهتداء وغفلة، وقبولاً وإعراضاً، فتطلع فيه الحيل والذرائع. وفيه التفطن للعلل وضدُّه، وفيه ظهر تفاوت الشرائع، وفازت شريعة الإسلام فيه بأنها الصالحة للعموم والدوام. وسيظهر ذلك في مبحث الحيل (¬1)، ومبحث سد الذرائع (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: 317 وما بعدها. (¬2) انظر: 335 وما بعدها.

ط - عموم شريعة الإسلام

ط - عمومُ شريعة الإسلام معلومٌ بالضرورة من الدين أن شريعة الإسلام جاءت شريعة عامةً داعيةً جميع البشر إلى اتباعها، لأنها لما كانت خاتمة الشرائع استلزم ذلك عمومها - لا محالة - سائرَ أقطار المعمورة، وفي سائر أزمنة هذا العالم. والأدلة على ذلك كثيرة من نصوص القرآن والسنة الصحيحة، بحيث بلغت مبلغ التواتر المعنوي. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (¬1). وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬2). وفي الحديث الصحيح: "أُعطيت خمساً لم يُعطَهن أحدٌ قبلي" فعدّ منها: "وكان الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" (¬3). ¬

_ (¬1) سبأ: 28. (¬2) الأعراف: 151. (¬3) هو حديث جابر. وتمامه: "ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة". انظر 7 كتاب التيمم، 1 باب حدثنا عبد الله بن يوسف، ح 2. خَ: 1/ 86؛ 8 كتاب الصلاة، 56 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: جُعلت لي الأرض مسجداً. خَ: 1/ 113. انظر 5 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ح 3. مَ: 1/ 370 - 371؛ انظر كتاب الغسل والتيمم، 26 باب التيمم بالصعيد. نَ: 1/ 209 - 211 انظر 2 كتاب =

فعمومُ الشريعة معلومٌ للمسلمين بالضرورة، فلا حاجة بنا إلى الإطالة به، إذ لسنا الآن في مقام إثباته على منكريه، وإنما غرضنا الإفضاء إلى ما يترتّب عليه. وإذ قد أراد الله بحكمته أن يكون الإسلام آخر الأديان التي خاطب الله بها عباده تعَيَّن أن يكون أصلُه الذي ينبني عليه وصفاً مشتركاً بين سائر البشر، ومستقراً في نفوسهم، ومرتاضةً عليه العقولُ السليمة منهم، ألا وهو وصف الفطرة، حتى تكون أحكام الشريعة مقبولة عند أهل الآراء الراجحة من الناس، الذين يستطيعون فهم مغزاها، فيتقبّلوا ما يأتيهم منها بنفوس مطمئنة، وصدور مثلجة، فيتبعوها دون تردد ولا انقطاع، وحتى يتسنّى لأرفعهم قدراً في الفهم محاذاةُ نظائرها وتفريعاتُ فروعها، وحتى يكون تلقّي بقيَّة طبقات الأمة الذين لم يبلغوا مستوى أهل الآراء الراجحة إياها تلقياً عن طيب نفس، ويسهل امتثالُهم لما يؤمرون به منها. وإذ قد تعذّر أن يكون الجائي بالشريعة جماعة من الرسل من جميع أجناس البشر أو قبائلهم، إذ لا يستقيم الأمر في ذلك التعدد، اختار الله تعالى للإرسال بهذه الشريعة رسولاً من الأمة العربية، إذ هو واحد من البشر كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (¬1). ولله تعالى حِكَمٌ جَمَّة في أن اختار لهذه الرسالة رجلاً ¬

_ = الصلاة، 111 باب الأرض كلها طهور ما خلا المقبرة والحمام، ح 1396. دَي: 1/ 263. (¬1) الإسراء: 94، 95.

عربياً - ليس هذا موضع بيان ما بلغ إليه العلم من تلك الحِكَم - وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬1). بَيْدَ أنا نقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان عربياً كان بحكم الضرورة يتكلّم بلسان العرب. فلزم أن يكون المتَلَقُّون منه الشريعة بادئ ذي بدء عرباً. فالعرب هم حملة شريعة الإسلام إلى سائر المخاطبين بها، وهم من جملتهم. واختارهم الله لهذه الأمانة لأنهم يومئذ امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم. وتلك هي جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم. فهم بالوصف الأول أهلٌ لفهم الدين وتلقينه. وبالوصف الثاني أهل لحفظه وعدم الاضطراب في تلقّيه. وبالوصف الثالث أهل لسرعة التخلّق به، إذ هم أقرب إلى الفطرة السليمة ولم يكونوا على شريعة معتد بها متماثلة حتى يصمِّموا على نصرها (¬2) *. وبالوصف الرابع أهلٌ لمعاشرة بقية الأمم، إذ لا حزازات بينهم وبين الأمم الأخرى. فإن حزازات العرب ما كانت إلّا بين قبائلهم، بخلاف حال الفرس مع الروم، وحال القبط مع الإسرائيليين. ولا عبرة بما جرى بين بعض قبائل العرب وبين الفرس والروم في نحو ¬

_ (¬1) الأنعام: 124. وبالجمع قرأها الجمهور (رسالاته)، وقرأها ابن كثير وحفص عن عاصم بالإفراد. ولما كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 8/ 1، 55. (¬2) * من أجل ذلك كان نصارى العرب أبعدهم عن الدخول في الإسلام، لأنهم رأوا أنفسهم على دين قويم. ومن أجله صمم اليهود بالمدينة على ملازمة دينهم إلا نفراً قليلاً. اهـ. تع ابن عاشور.

يوم ذي قار (¬1) ويوم حليمة (¬2)، لأنها حوادث نادرة. على أن العرب كانوا فيها يقاتلون انتصاراً لغيرهم من الفرس أو الروم فإحنهم معهم محجوبة بإحن من قاتلوا هم وراءهم. ومن أعظم ما يقتضيه عموم الشريعة أن تكون أحكامها سواءً لسائر الأمم المتبعين لها بقدر الاستطاعة، لأن التماثل في إجراء الأحكام والقوانين عون على حصول الوحدة الاجتماعية في الأمة. ولهذه الحِكمة والخصوصية جعل الله هذه الشريعة مبنيةً على اعتبار الحِكم والعلل التي هي من مُدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد. وقد أجمع علماء الإسلام في سائر العصور، إلّا الذين لا يُعتدُّ بمخالفتهم، على أن علماء الأمة مأمورون بالاعتبار في أحكام الشريعة، والاستنباط منها. وجعلوا من أدلة ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)، وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي ¬

_ (¬1) ويوم ذي قار، هو يوم الحنو، ويوم قُراقر، ويوم الجبايات، ويوم ذات العَجرم، ويوم بطحاء ذي قار. وقد كانت هذه الوقعة بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين العرب والفرس. وقد قال يخبر أصحابه: "اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا". ابن سعد. الطبقات: 7/ 77؛ البخاري. التاريخ الكبير: 2/ 106، 8/ 313. ابن عبد ربه. العقد الفريد: 5/ 262؛ ابن حجر. الإصابة: 1/ 164. والحديث مرويٌّ بإسنادين ضعيفين، أحدهما فيه الأشهب الضبعي مجهول العين، والآخر فيه الكلبي متهم بالكذب. والخبر عنه طويل. انظر أيام العرب في الجاهلية: 6 - 39. (¬2) يوم الوقعة بين المنذر بن ماء السماء وبين الحارث الأكبر الغساني. وسمي يوم حليمة في رواية الكلبي، لأن حليمة بنت الحارث بن أبي شمْر وجّه أبوها جيشاً إلى المنذر فأخرجت لهم مِركَنا فطيبّتهم. اللسان، القَاسم بن سلام، كتاب الأمثال: 92، 206. (¬3) التغابن: 16.

الْأَبْصَارِ} (¬1). وهما دليلان خطابيان، ولكننا نتمسك في هذا بالإجماع وعمل الصحابة وعلماء الأمة في سائر العصور. ومن آثار ذلك ورود الكليات الكثيرة في آي القرآن نحو قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2)، وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬3)، وقوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬4)، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬5). وفي الأحاديث نجد القواعد العامة، مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام" (¬6)، وقوله: "ما أسكر كثيره ¬

_ (¬1) الحشر: 2. (¬2) البقرة: 185. (¬3) البقرة: 205. (¬4) الحديد: 25. (¬5) البقرة: 179. (¬6) ورد الحديث مطولاً بصيغ متقاربة في دواوين السنة. انظر 3 كتاب العلم، 37 باب ليبلغ الشاهد الغائب، ح 2. خَ: 1/ 35؛ 25 كتاب الحج، 132 باب الخطبة أيام منى. خَ: 2/ 191؛ 64 كتاب المغازي، 77 باب حجة الوداع، ح 8، 11. خَ: 5/ 126؛ 73 كتاب الأضاحي، 5 باب من قال الأضحية يوم النحر. خَ: 6/ 235 - 236؛ 78 كتاب الأدب، 43 باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، ح 2. خَ: 7/ 83 - 84؛ 86 كتاب الحدود، 9 باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق. خَ: 8/ 15 - 16؛ 92 كتاب الفتن، 8 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، ح 3. خَ: 8/ 91؛ 97 كتاب التوحيد، 24 باب قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، ح 12. خَ: 8/ 185 - 186. انظر: 15 كتاب الحج، 19 باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ح 147. مَ: 1/ 886 - =

فقليله حرام" (¬1)، وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). وكذلك المُجملات والمُطلقات التي في القرآن معظمُها مُرادٌ إطلاقُه وإجمالُه. وللفقهاء في تَطَلُّب بيان المجمل وتقييد المطلق بحمل اللفظ المطلق في موضع على مقيد في موضع آخر - وإن لم يكونا من نوع واحد - طرائق. وقد وقع ذلك في عصر الصحابة في فهم عبد الله بن مسعود وهو بالكوفة قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (¬3) أن العقد على الأم لا يحرم البنت حتى يدخل بالأم حملاً على قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (¬4) حتى رجع ابن مسعود إلى المدينة فأخبر أن السنة مضت على اعتبار الإطلاق ¬

_ = 892؛ 28 كتاب القسامة، 9 باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. مَ: 2/ 1305 - 1307. انظر 34 كتاب الفتن، 2 باب ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام، 2615. تَ: 4/ 461 - 462؛ 48 كتاب تفسير القرآن، 10 باب ومن سورة التوبة، 3087. تَ: 5/ 273 - 274؛ انظر 25 كتاب المناسك، 76 باب الخطبة يوم النحر، 3055. جَه: 2/ 1015؛ 84 باب حجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - 3074. جَه: 2/ 1022 - 1027؛ 36 كتاب الفتن، 2 باب حرمة المؤمن وماله 3931. جَه: 2/ 1297؛ انظر باب خطبة يوم النحر، ح 1922، دَي: 1/ 393 - 394. وأكثر هذه الأحاديث جاءت بلفظ: "دمائكم وأموالكم"، وبعضها بزيادة "أعراضكم"، وواحد منها بزيادة لفظ "أبشاركم". (¬1) تقدم تخريجه: 148/ 3. (¬2) تقدم: 23/ 2، 145/ 2، 149/ 1. (¬3) النساء: 23. (¬4) النساء: 23.

في أمهات نسائكم. ومن العجيب أن أهل الأصول توسّعوا في حمل المطلق على المقيد ولو كان الإطلاق في حكم والتقييد في جنسه. وما كان من التشريعات جزئياً، وهي قضايا الأعيان، تحتمل أن يراد تعميمها، وتحتمل أن يراد تخصيصها. ولعل هذا النوع هو الذي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كتابته فقال: "لا تكتبوا عني غير القرآن" (¬1) خشية أن تتخذ الجزئياتُ الخاصة كلياتٍ عامة. ولذلك احتاج المسلمون إلى صدور إذن من الرسول عليه الصلاة والسلام حين أراد أبو شاة أن يكتبوا له قول رسول الله عليه الصلاة والسلام في تحديد الحرم، فقال لهم: "اكتبوا لأبي شاة" (¬2). ولذلك نجد بين العلماء ¬

_ (¬1) حديث أبي سعيد الخدري. ولفظه: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحُه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". انظر 53 كتاب الزهد، 16 باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، 72. مَ: 3/ 2298 - 2299. انظر المقدمة، 42 باب من لم ير كتابة الحديث، ح 456. دَي: 1/ 98. (¬2) أبو شاة اليماني. فارسي من الأبناء الذين قدموا اليمن في نصرة سيف بن ذي يزن. ورد ذكره في الصحيحين في حديث أبي هريرة يستأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تكتب له خطبته يوم الفتح. ولعل العلة في إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلبه الأمن من اختلاط القرآن بغيره في ذلك الوقت. ابن حجر. الإصابة: 4/ 100، 606. انظر 3 كتاب العلم، 39 باب كتابة العلم، ح 2. خَ: 1/ 36؛ 45 كتاب اللقطة، 7 باب كيف تعرف لقطة أهل مكة. خَ: 3/ 94 - 95. انظر كتاب المناسك، باب تحريم حرم مكة، 2017. دَ: 2/ 518 - 521؛ 33 كتاب الديات، 4 باب ولي العمد يرضى بالدية، 4505. دَ: 4/ 645. انظر 42 كتاب العلم، 12 باب ما جاء في الرخصة فيه، 2667. تَ: 5/ 39.

اختلافاً كثيراً في الاحتجاج بقضايا الأعيان، وبأخبار الآحاد إذا خالفت القواعد أي الكليات اللفظية أو المعنوية، أو خالفت القياس، أو خالفت عمل أهل المدينة على مذاهب معروفة في أصول الفقه (¬1). ¬

_ (¬1) أصل الاختلاف في العمل بأخبار الآحاد ما كان عليه الصحابة من مواقف إزاء تلك الأخبار. فهم لا يعملون بخبر الواحد إلا إذا اطمأنوا لصحته ووثقوا بصدوره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ثمّ كانوا بعد انتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى يتحرّون في الرواية. فمنهم من كان لا يقبله حتى يشهد اثنان بصحّته. وهذا موقف الشيخين أبي بكر وعمر؛ ومنهم من كان يستحلف الرواي أنه سمع الحديث كعلي بن أبي طالب؛ ومنهم من كان يرده ولا يعمل به لضعف ثقته بالراوي كرد علي حديث معقل بن سنان الأشجعي، أو لعلمه بأن الحديث منسوخ ومعرفة الناسخ له كرد سعد بن أبي وقاص حديث التطبيق الذي كان يرويه عبد الله بن مسعود، أو لمعارضته لما هو أقوى منه في نظره كرد ابن عباس حديث أبي هريرة في الوضوء من حمل الجنازة، وكرد عائشة حديث أبي هريرة في وجوب غسل اليدين في الوضوء قبل إدخالهما في الإناء، لمعارضته أصل رفع الحرج والضيق على الناس. وبعد ظهور الأئمة المجتهدين وقيام المدارس أو المذاهب الفقهية بدا الاختلاف بينها في هذا الشأن. فكان فريق منها يأخذ بالاحتياط فيها، قاضياً بتحكيم القواعد العامة في التشريع، راداً ما خالفها من السنن، وفريق كان من احتياطه في الأمر عدم التساهل برد الأحاديث لمجرد عدم موافقتها للأصول العامة. فالأحناف يردون الخبر إذا كان مخالفاً للقياس والأصول الشرعية إلا من راو معروف بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود. وتطبيقاً لهذا المنهج لم يأخذوا بحديث المصرّاة الذي رواه أبو هريرة لكون راويه ليس معدوداً في فقهاء الصحابة، ولمخالفة الخبر أصلاً من الأصول الشرعية حيث جاء فيه الأمر برد صاع من التمر بدل اللبن، وفي ذلك مخالفة للقياس، ولقاعدة أن الضمان يكون =

إذن فمراعاةُ عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي. وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم. لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك في العوائد. فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها، أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم، ولهذا نرى التشريعَ لم يتعرّض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب، ¬

_ = بالمثل في المثليات والقيمة في القيميات، ولقاعدة الخراج بالضمان. وربما ترك الحنفية هذا الموقف وظهرت مخالفتهم له في حالات كثيرة، كأخذهم بحديث أبي هريرة فيمن أفطر ناسياً، وخالفوا بذلك القياس والأصل. والراجح أن القائل بذلك الشرط إنما هو عيسى بن أبان أحد فقهاء الحنفية المتقدمين وهو اختيار أبي زيد الدبوسي. وهم الذين خرج أصحابهم حديث المصرّاة على وفق قولهم. والمالكية لا يقبلون حديثاً يخالف عمل أهل المدينة. وهذا ظاهر من قول مالك في رفضه لخيار المجلس إذ قال عقبه: "وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به فيه". ومثله فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الخروج من الصلاة يسلم سلامين؛ أحدهما عن يمينه، وثانيهما عن يساره، لم يعمل به مالك واكتفى بتسليمة واحدة استناداً إلى عمل أهل المدينة فإنهم كانوا يسلمون سلاماً واحداً. ودليل المالكية في هذا أن عمل أهل المدينة بمنزلة روايتهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورواية جماعة عن جماعة أولى بالتقديم من رواية فرد عن فرد. وقد ناقش ذلك الليث بن سعد في رسالته إلى مالك. ابن القيم. إعلام الموقعين: 3/ 94 - 100. كما رده الشافعي وأصحابه في باب حكاية قول من رد خبر الخاصة. الأُم: 7/ 254 وما بعدها؛ الرسالة: 533 - 535، ف 1556 - 1559. الجويني. البرهان: 2/ 1170 - 1172، ع 1206 - 1208.

فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الأسفار. ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير، ولا أهل الهند والترك من الحمل على البقر. ولذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال العجل والعربات والأرتال. وكذلك أصناف المطاعم التي لا تشتمل على شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلّا من جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع. فنحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها - بما هي عادات - أن يُحمَل عليها قوم آخرون في التشريع، ولا أن يُحمل عليها أصحابُها كذلك. نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيّروها، لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها مُنَزَّلة مَنْزِلَة الشروط بينهم يُحملون عليها في معاملتهم إذا سكتوا عما يضادُّها. ومثاله قول مالك رحمه الله: بأن المرأة ذات القدر لا تجبر على إرضاع ولدها في العصمة، لأن ذلك عرف تعارفه الناس، فهو كالشرط (¬1)، وجعل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬2) ¬

_ (¬1) قال ابن العربي: قال مالك: كل أم يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها، إلا أن مالكاً - دون فقهاء الأمصار - استثنى الحسيبة. فقال: لا يلزمها إرضاعه. فأخرجها من الآية وخصّها فيها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالمصلحة. وهذا فن لم يتفطن له مالكي. وقد حققناه في أصول الفقه. والأصل البديع فيه هو أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب. وجاء الإسلام عليه فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفِع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه، فقال به، وإلى زماننا فحققناه شرعاً. المسألة الخامسة في تفسير 233 من البقرة. ابن العربي. الأحكام: 1/ 206. (¬2) البقرة: 233.

مخصوصاً بغير ذات القدر، أو جعله مسوقاً لغرض التحديد بالمدة، وليس مسوقاً لأصل إيجاب الإرضاع. ومن معنى حمل القبيلة على عوائدها في التشريع - إذا روعي في تلك العوائد شيء يقتضي الإيجاب أو التحريم - يتضح لنا دفع حيرة وإشكال عظيم يعرض للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه مفسدة بحال، مثل تحريم وصل الشعر للمرأة، وتفليج الأسنان، والوشم، في حديث ابن مسعود: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الواصلات والمستوصلات، والواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن، المغيّرات خلق الله" (¬1). فإن الفهم يكاد يضل في هذا إذ يرى ذلك صنفاً من أصناف التزين المأذون في جنسه للمرأة كالتحمير والخلوق والسواك فيتعجب من النهي الغليظ عنه. ووجهه عنديَ الذي لم أر من أفصح عنه، أن تلك الأحوال كانت في العرب أماراتٍ على ضعف حصانة المرأة. فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها. وفي القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ¬

_ (¬1) انظر 77 كتاب اللباس، 82 - 87 من أبواب المتفلجات للحسن ووصل الشعر، والمتنمصات، والموصولة، والواشمة. خَ: 7/ 61 - 63. انظر 37 كتاب اللباس، 33 باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة، والمتفلجات والمغيرات خلق الله، ح 115، 117، 119. مَ: 2/ 1676 - 1677. انظر 27 كتاب الترجل، باب في صلة الشعر 4167 - 4170. دَ: 4/ 396 - 399. انظر 25 كتاب اللباس، 25 باب ما جاء في مواصلة الشعر 1759. تَ: 4/ 236. انظر 48 كتاب الزينة، 22 - 26 أبواب الواصلة والمستوصلة والمتنمصات والمتوشمات والمتفلجات، نَ: 8/ 145 - 149؛ انظر 9 كتاب النكاح، 52 باب الواصلة والواشمة، 1987 - 1989. جَه: 1/ 639 - 640.

يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (¬1). فهذا شرع روعيت فيه عادة العرب. فالأقوام الذين لا يتخذون الجلابيب لا ينالهم من هذا التشريع نصيب. والتفقه في هذا والتهمّمُ بإدراك علل التشريع في مثله يلوح لنا منه بارقُ فرق بين ما يصلح من جزئيات الشريعة لأن يكون أصلاً يقاس عليه نظيره، وبين ما لا يصلح لذلك. فليس الأمر في التشريع على سواء. ولقد يُعدّ مما يناسب عموم الشريعة أنها أوكلت أموراً كثيرة لاجتهاد علمائها مما لم يقم دليل على تعيين حكمه وإرادة راويه. وفي الحديث: "إن الله حدَّد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" (¬2). وإلى هذا يرجع ما قدمنا عن نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبوا عنه غير القرآن خشية التباس التشريع العام بالتشريع الخاص، وقد كان الصحابة يتأسون ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قضى به، ولم يرد فيه نص لفظي يقتضي الدوام لأنه ينير لهم وجوه الحق، ولأن أحوالهم كانت قريبة من الحال التي ¬

_ (¬1) الأحزاب: 59. (¬2) نص الحديث كاملاً كما رواه مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عزّ وجلّ فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحرّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها". الدارقطني. آخر كتاب الرضاع: 4/ 183 - 184، ع 42؛ الحاكم: 4/ 115. وقد حسّن إسناده الإمام النووي في الأربعون النووية، الحديث الثلاثون. وله لفظ آخر رواه طاوس اليماني عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تكلفوها، رحمة من ربكم؛ فاقبلوها". الدارقطني. آخر كتاب السنن، باب الصيد والذبح والأطعمة: 4/ 297، ع 104.

كانت في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز في خلافته أو إمارته أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (¬1) بكتابة ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآثار، أَحْسَب أنه أراد أن تكون نبراساً يستضيء به علماء الأمة في تفهّم مقاصد الشريعة ومنازعها، إذ قد يضيق الوقت ويقصر النظر عن الاستنباط من أصول أدلة الشريعة مع أنهم ربما جدّدوا أحكاماً لتلك الجزئيات إذا تجدّدت الأحوال. وقد قال عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" (¬2). ومثال هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب في شرب الخمر ضرباً غير محصور العدد ولا الآلة. وضرب أبو بكر وعمر أربعين سَوطاً، ثم ضرب عمر ثمانين برأي من علي إذ قال له: "إن السكران إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. فأرى أن عليه حد الفرية" (¬3). فيه إقامة الحد مع الشك في حصول مسببه اعتباراً بالظِنَّة، وهو منزع غريب. ومن الأمثلة في التحديد عكوف الفقهاء على ما صدر في عصر الخلفاء من تحديد مقادير الجزية والخراج والديات وأروش الجنايات، مع أن بعض تلك المقادير قد يطرأ عليه نقص القيمة أو الرواج، فلا يصلح لأن يبقى عوضاً لما عُوض به فيما مضى. ومن أمثلة ذلك ما حدّد به فقهاء المالكية مقادير الآجال ¬

_ (¬1) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة وأميرها. توفي 120 هـ عن نيف وثمانين سنة. كان قاضي المدينة وأميرها، وكانت له خبرة بالسير. الذهبي. العبر: 1/ 152. (¬2) تقدم: 25/ 1. (¬3) تقدم: 167/ 1، 217/ 1، 250/ 2.

للحجج ونحوها (¬1). ¬

_ (¬1) ضرب الأجل مصروف إلى اجتهاد الحكام بحسب حسن النظر في أمر الخصمين، وليس فيه حد محدود لا يتجاوز، إنما هو الاجتهاد. والذي عليه فقهاء المالكية أنه يختلف بحسب الصور والأحوال والحقوق. فالتأجيل فيما يطول النظر فيه والإثبات، كدعوى الرباع والأصول والوراثات، شهر مختلف في توزيعه بين الفقهاء ويجمع فيه بين الأجل والتلوّم. وقال أبو القاسم الجزيري في وثائقه: التأجيل في الأصول شهران وثلاثة، بخاصة إذا ادعى مغيب البيّنة. وإن كان التأجيل في إثبات الديون فثلاثة أيام ونحوها. وإن كان في الأعذار في البيّنات وأصول العقود فثلاثون يوماً. وإن كان الأجل في إثبات شيء مما يدعى فيه ما عدا الأصول فأقصاه أحد وعشرون يوماً، وهو جمعة فيمن يدعي الشيء على الرجل ويقيم شاهداً أو لطخاً ويدعي شاهداً آخر، وفي الشاهد على دعوى الحرية شهران أو ثلاثة، وفي العبد والأمة اليوم واليومان. وفيه تفصيل وكلام كثير، وإن كان للمديان في بيع الأصول يؤجل نحو الشهرين. وإن كان في الإعسار بالصداق يؤجل الشهر والشهرين ... إلخ. والأجل في حق الزنادقة شهر عند الحاجة إلى دفع البيّنات. وبعض الآجال لا يدخلها اجتهاد القاضي، كأجل المعترض وهو مدة سنة، وأجل المجنون جنوناً حادثاً يعزل عن زوجته سنة، وأجل المفقود خبره إذا رفعت زوجتُه أمرَها إلى الحاكم أربع سنين، وأجل المولي تمام أربعة أشهر من يوم الحلف، وأجل وقف ميراث الحمل على الخلاف في مدة الحمل ونحو ذلك. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 137 - 140. وذكر ذلك ابن عاصم في التحفة: بيع الخيار جائز الوقوع ... لأجَلٍ يليق بالمبيع كالشهر في الأصل وبالأيام ... في غيره كالعبد والطعام انظر التسولي. البهجة في شرح التحفة: 2/ 58. وضبط الزقاق جملة من الآجال كالأجل لإثبات دعوى ما سوى الأصل =

وما ذهب إليه فقهاء المذاهب من ألفاظ الطلاق والأيمان. فتسمع ألفاظاً لم يبقَ للناس عهد بها مثل اللازمة والحرام (¬1) ونحو ¬

_ = ولبيع الملك لقضاء الدين، ولإثبات عداوة الحاكم مع من ثبت عليه موجب الإعدام، ولإثبات مشارطة جماعة له، ولإثبات حائز الأصل بأقوى من حجة الخصم، ولإثبات أصل غير محوز ببينة غائبة، ولإثبات الدين، وللشفيع للإتيان بالثمن الحال ونحو ذلك .. انظر: الصنهاجي. مواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الزقاق: 1/ 168 وما بعدها. (¬1) قال ابن العطار: اليمين باللازمة يمين لم تعرف بالمشرق ولم تصل إلينا فيها رواية، إلا أن الشيوخ شبهوها بما روي عن ابن القاسم في نذور العتبية فيمن قال؛ عليّ عهد الله وغليظ ميثاقه وكفارته وأشدّ ما اتخذ على أحد. وقال ابن عبد البر: هي يمين محدثة لا أذكر لها في أمهات كتب الفقهاء والحجازيين والعراقيين مما علمت نصاً. وذكر الباجي أنه رآها في بيعة أهل المدينة ليزيد بن معاوية وما بعدها. وحكى ابن النحوي أنها كانت في أيام الحجاج في البيعة. وقد اختلف في هذه اليمين. فقيل: لا توجب شيئاً، وقيل: توجب كفارة اليمين بالله لا غيره، وقيل: توجب كفارة واحدة لا غير، وقيل: كفارة ثلاثة أيمان، وقيل: توجب الأيمان كلها، وقيل: توجب الطلاق والعتاق والمشي والصدقة واختلف في الظهار. عياض. مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، كتاب الأيمان بالطلاق: 286 - 298. والحرام موضوع جدل وخلاف. قال المازري في معلمه: كثر اختلاف الصحابة ومن سواهم من العلماء في مسألة القائل: "الحلال عليه حرام" هل هو ظهار أم يمين تكفر، أو لا يلزمه فيه شيء إلا في الزوجة كما قال مالك. والذي يلزم في الزوجة في المشهور من قوله: إنها ثلاث. وينوي في غير المدخول بها الأقل، وقيل: واحدة فيمن لم يدخل بها وثلاث في المدخول بها. وقيل: واحدة بائنة. وحكى ابن سحنون أنها واحدة رجعية. المازري. المعلم: 1/ 195 - 197؛ عياض. مذاهب الحكام: 293 - 294.

ذلك من كلمات تجري على الألسن، ولم يبق للناس علم بمدلولها. فهذه أمثلة نتأمل فيها ونحتذيها. فعموم الشريعة ساير البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون. وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان. ولم يبيّنوا كيفية هذه الصلوحية. وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين: الكيفية الأولى أن هذه الشريعة قابلةٌ بأصولها وكليّاتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامُها مختلفَ الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر. وشواهد هذه الكيفية ما نجده من محامل علماء الأمة أدلةً كثيرة من أدلة الأحكام على مختلف الأحوال. ولكل من أئمة الشريعة نصيب من هذه المحامل. فإذا جُمعت أنصباؤهم تَجَمَّعَ منها شيء وفير من تأويل ظواهر الأحكام على محامل صالحة لمختلف أحوال الناس. مثاله النهيُ عن كراء الأرض. قال مالك والجمهور: محملُ النهي على التورّع وقصدِ مواساة بعض المسلمين بعضاً دون جزم بنقض عقدة كراء الأرض (¬1)، وكالنهي عن جر السلف منفعة (¬2). وقد حمله جماعة من فقهاء الحنفية على ما ليس فيه ¬

_ (¬1) هذا ما صرح به وبينه ابن عباس في روايته من إرادة الرفق والتفضيل، وأن النهي عن ذلك ليس للتحريم، ويفهم من هذا جواز الكراء. وجعل مالك النهي محمولاً على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام. ابن حجر، الفتح: 5/ 25، 26. وقال أيضاً فيما حكاه الباجي: وفيه دليل على جواز كراء الأرض، ولا بأس أن تكرى الأرض بأرض أخرى خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا يجوز ذلك. الباجي، المنتقى: 5/ 149. (¬2) حديث مالك أنه بلغه أن رجلاً أتى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أسلفت رجلاً سلفاً، واشترطت عليه أفضل مما أسلفته. =

ضرورة. ولذا رخّصوا في بيع الوفاء في كروم بخارى (¬1). الكيفية الثانية أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة. ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة. [وهاتان الكيفيتان متآيلتان وقد جمعهما معاً مغزى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}] (¬2). ¬

_ = فقال عبد الله بن عمر: فذلك الربا. قال: كيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ قال عبد الله: السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلِّفه تريد به وجه الله فذلك وجه الله، وسلف تسلَّفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف تسلِّفه لتأخذ خبيثاً بطيِّب فذلك الربا ... انظر: 31 كتاب البيوع، 44 باب ما لا يجوز من السلف، ح 92. طَ. 2/ 681 - 682. (¬1) قال صاحب الهداية: بيع الوفاء مركب من رهن وبيع جائز باتّ. فهو رهن بالنسبة للبائع حتى يسترد العين عند قضاء ما عليه من الدين، ويضمنها له المشتري بالهلاك أو الانتقاض بضمان الرهن، وهو بيع بات صحيح بالنسبة للمشتري في حق نزله ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره والانتفاع به سكنى وزراعة وإيجاراً ... وقد حمل الناس على اعتماد هذا الوجه حاجة الناس إلى بيع الوفاء وتعاملهم به. والقواعد تترك بالتعامل ... وما ضاق على الناس اتسع. ولا بدع في إعطائه حكم عقدين، إذ كثير من العقود كذلك. بيرم الثاني، الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء: 92 - 93؛ مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 7، 1412/ 1992، ج 3: 157 - 324؛ ابن قاضي سماوة. جامع الفصولين: 1/ 237؛ الزيلعي: 5/ 183 - 184. (¬2) هكذا في الأصل في ط. (1) لكن المؤلف ضرب عليها في نسخته المصحّحة. انظر ط. الاستقامة: 98.

فلا يجدر بحال أن يكون معنى صلوحية التشريع للبشر أن الناس يُحملون على اتّباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان التشريع، ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريعُ بين ظهرانيهم، سواءً لاءم ذلك أحوالَ بقية الأمم والعصور أم لم يلائم، فتكون صلوحيتهُم مشوبةً بحرج ومخالفةً ما لا يستطيع الناس الانقطاعَ عنه. وَيُعلَّل معنى الصلوحية بأن يعمل الناسُ بها في كل عصر فلا يهلكوا ولا يُعنَتوا، إذ لو كان هذا هو معنى صلوحية الشريعة لكل زمان ومكان لما كان هذا من مزايا شريعة الإسلام وخصائصها، إذ لا نجد في شريعة من الشرائع المتّبعة أحكاماً، لو حُمِل الناس عليها لهلكوا أو صاروا فوضى. إذن يكون في مستطاع أهل كل شريعة أن ينحلوا شريعتهم وصف الدوام. فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملةً على حِكَم ومصالح، صالحةً لأن تتفرع منها أحكام مختلفةُ الصور متحدةُ المقاصد. ولذلك كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد كما قال الله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} (¬1) ولم يذكر ضرباً ولا رجماً. وورد في القرآن والسنة النهي عن كثرة السؤال عن الأحكام. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا ¬

_ (¬1) النساء: 16.

بِهَا كَافِرِينَ} (¬1). وفي الحديث: "وسكتَ (أي الله) عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" (¬2)، وفي الحديث: "إن شر الناس من سأل عن شيء فحُرِّم من أجل مسألته" (¬3). [وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يكتبوا عنه غير القرآن، لأنه كان يقول أقوالاً، ويعامل الناس معاملة هي أثر أحوال خاصة قد يظن الناقلون أنها صالحة للاطراد مثل حديث: "قضى بالشفعة للجار". قال علماؤنا لا حجة فيه لاحتمال خصوصية لذلك الجار. أي بأن صادف كونه شريكاً وجاراً فظن الراوي أن القضاء له لأجل الجوار] (¬4). وكان مالك يكره افتراض النوازل للتفقّه، ويقول لمن يسأله عن حادثة مفروضة الوقوع: دعها حتى تقع (¬5). غير أن القرآن لما أنزل في أحوال مختلفة الصور، وكان المقصد منه إرشاد الأمة إلى طرق من الإرشاد كثيرة، وكان المقصد من لفظه الإعجاز، نجده قد اشتمل على أنواع من أساليب التشريع. ففيه التشريع العام الكلِّي، وفيه التشريعات الجزئية النازلة في صورة أحكامٍ ¬

_ (¬1) المائدة: 101 - 102. (¬2) تقدم: 270/ 2. (¬3) هو حديث ابن أبي وقاص. وورد بلفظ: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحرّم فحُرِّم من أجل مسألته". انظر: 96 كتاب الاعتصام، 3 باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ح 1. خَ: 8/ 142؛ انظر 43 كتاب الفضائل، 37 باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ح 132، 133. مَ: 2/ 1831؛ انظر 34 كتاب السنة، 6 باب لزوم السنة، 4610، دَ: 5/ 16 - 17. (¬4) الإضافة من ط. الاستقامة: 99 لكن المؤلف ضرب عليها بخطه. (¬5) وكان ذلك منه لكثرة خوفه من الله تعالى والحياء منه أن يراه يفتي بغير مراده سبحانه. الراعي. انتصار الفقير السالك: 186.

لنوازلَ حلَّت، وهي أيضاً بمنزلة الأمثلة والنظائر لفهم الكليات. ففي القرآن جزئيات تساوي الجزئيات التي وردت في السنة مثل قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬1)، وقوله: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (¬2)، وفيه التشريعات المنسوخة تماماً (¬3) لكن الغالب على أنواع التشريع منه هو النوع الكلّي. وأما السنة فقد أحصاها العلماءُ من الصحابة، ومن تلقّى منهم. واختلفت الدواعي للإحصاء، كما اختلفت الشروط في القبول. فكان في معظمها تشريعاتٌ جزئية لأنّها في قضايا عينية، وكان فيها تشريعات كلية واضحة صالحة لأن تكون أساسَ التشريع. فمن أجل ذلك لم يكن للمجتهدين غُنية عن تقسيم التشريع إلى قسميه، وعن صرف جميع الوُسع من النظر العقلي في تمييز ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من موارد التشريع، وإلحاق كلّ نصّ بنوعه. وهذا عمل عظيم ليس بالهيّن. وقد بذل فيه سلف علمائنا غاية المقدور، وحصلوا من البصيرة فيه على شيء غير منزور. ¬

_ (¬1) النور: 2. (¬2) النساء: 34. (¬3) مثاله قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} النساء: 15، فإن هذا الحكم وهو الحبس في البيوت لم يبق حداً للزنى. وقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} البقرة: 240، فإن عدة الوفاة لم تبق حولاً. وقوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} المجادلة: 12، نسخ حكمها قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} المجادلة: 13، وقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} البقرة: 184، حيث نسخ حكم التخيير بين الصوم والفدية بقوله: {فَلْيَصُمْهُ}. السرخسي. أصول: 2/ 80.

ي - المساواة

ي - المساواة ومن أول الأشياء التي تنشأ عن عموم الشريعة، ويتوقف النظرُ فيها على تحقيق معرفة عمومها ومواقع ذلك العموم وكيفيته، المساواةُ بين الأمة في تناول الشريعة أفرَادَها، وتحقيقُ مقدار اعتبار تلك المساواة ومقدار إلغائها. ذلك أن المسلمين مستوون في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية بحكم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1). فمعنى الأخوة يشمل التساوي على الإجمال بجعل المسلمين سواءً في الحقوق المخوَّلة في الشريعة، بدون تفاوت فيما لا أثر للتفاوت فيه بين المسلمين من حيث إنهم مسلمون. فإذا علمنا أن المسلمين سواءٌ بأصل الخلقة واتحاد الدين تحققنا أنهم أحقاء بالتساوي في تعلق خطاب الشريعة بهم، لا يؤثر على ذلك التساوي مؤثرٌ من قوة أو ضعف، فلا تكون عزة العزيز زائدةً له من آثار التشريع، ولا ضعف الذليل حائلاً بينه وبين مساواته غيرَه في آثار التشريع. وبناء على الأصل الأصيل، وهو أن الإسلام دين الفطرة، فكلُّ ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين، يفرضُ فيه التساوي بينهم. وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن ¬

_ (¬1) الحجرات: 10.

فرض أحكام متساوية فيه. ويكون ذلك موكولاً إلى النظم المدنية التي تتعلق بها سياسةُ الإسلام لا تشريعه. ففي المقام الأول قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (¬1)، وفي المقام الثاني قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (¬2). فالمساواة في التشريع للأمة ناظرةٌ إلى تساويهم في الخلقة وفروعها، ممَّا لا يؤثر التمايز فيه أثرًا في صلاح العالَم. فالناس سواء في البشرية "كلكم من آدم" (¬3)، وفي حقوق الحياة في هذا العالم بحسب الفطرة ولا أثَرَ لما بينهم من الاختلاف بالألوان والصور والسلائل والمواطن. فلا جرم نشأ عن هذا الاستواء فيما ذكر تساويهم في أصول التشريع، مثل حق الوجود المُعَبَّر عنه بحفظ النفس وحفظ النسب، وفي وسائل الحياة المعبَّر عنها بحفظ المال. ومن أول ذلك حقوق القرار في الأرض التي اكتسبوها أو نشأوا فيها مثل مواطن القبائل، وفي أسباب البقاء على حالة نافعة وهو المعبَّر عنه بحفظ العقل وحفظ العرض. وأعظم ذلك حق الانتساب إلى الجامعة الدينية المعبَّر عنه بحفظ الدين. ووسائل كل ذلك ومكمَّلاته لاحقةٌ بالمُتوسَّل إليه وبالمكمَّل. فظهر تساوي الناس في نظر التشريع في الضروري ¬

_ (¬1) النساء: 35. (¬2) الحديد: 10. (¬3) ويروى: "كلكم بنو آدم". والحديث حسن، يرويه البزار عن حذيفة. المناوي. فيض القدير: 5/ 37، 6368.

والحاجي، ولا نجد بينهم فروقاً في الضروري، وقلَّما نجد فروقاً في الحاجي، مثل سلب العبد أهلية التصرف في المال إلَّا بإذن سيده، وإنما تنشأ الفروق عند وجود موانع معتبرة تمنع اعتبار المساواة. فالمساواة في التشريع أصلٌ لا يتخلّف إلَّا عند وجود مانع. فلا يحتاج إثباتُ التساوي في التشريع بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة، بل يكتفي بعدم وجود مانع من اعتبار التساوي. ولذلك صرّح علماء الأمة بأن خطاب القرآن بصيغة التذكير يشمل النساء. ولا تحتاج العباراتُ من الكتاب والسنة في إجراء أحكام الشريعة على النساء إلى تغيير الخطاب من تذكير إلى تأنيث ولا عكسَ ذلك (¬1). وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ... " وقرأ آية النساء ... الحديث (¬2) ... وإن الأصل في ¬

_ (¬1) أجمع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر. ومعناه أنه إذا اجتمع الجنسان استقل أفراد كل منهما بوصف فغلب المذكر وجعل الحكم له. فدل على أن المقصود هو الرجال، والنساء توابع. وكان التناول على طريقة التغليب ولا خلاف بين الأصوليين والنحاة أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال. وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى تناوله الجنسين لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور. واتفق الكل على أن الذكر لا يدخل تحت الخطابات إن وردت مقترنة بعلامة التأنيث. كتاب العموم، المسألة الحادية عشرة. الشوكاني. إرشاد الفحول: 112؛ الإسنوي. نهاية السول مع حواشيه: 2/ 262 وما بعدها؛ القرافي. التنقيح: 198. (¬2) تقدم: 235/ 5.

الأفعال الصادرة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها مشروعة للأمة حتى يدلَّ دليل على الخصوصية. وموانع المساواة هي العوارض التي إذا تحقّقت تقتضي إلغاءَ حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء، أو لظهور مفسدة عند إجراء المساواة. وأعني بالعوارض اعتباراتٍ تلوح في أحوال معروضات المساواة، فيصير إجراءُ المساواة في أحوال تلك المعروضات غير عائد بالصلاح في بابه، ويكون الصلاح في ضدّ ذلك، أو يكون إجراء المساواة عندها - أي عند تلك العوارض - فساداً راجحاً أو خالصاً. وليست تسميتُها بالعوارض مراداً منه أنها أمور عارضة مؤقتة، لأن هذه العوارض قد تكون دائمةً أو غالبةَ الحصول. وإنما تسميتُها بالعوارض من حيث أنها تبطل أصلاً منظوراً إليه في الشريعة نظراً أول فجعلت لأجل ذلك أموراً عارضة إذ كانت مُبطِلةً أصلاً أصيلاً، لأننا بيَّنا أن المساواة هي الأصل في التشريع. وقاعدة اعتبار هذه الموانع واعتبار تأثيرها في منع المساواة أنَّ اعتبارها يكون بمقدار تحقّقها وبمقدار دوامها أو غلبة حصولها، وأنّ اعتبارها موانعَ للمساواة يكون في الغرض الذي من حقّها أن تمنع المساواة فيه لا مطلقاً. فالفضائل مثلاً تمنع مساواة الفاضل للمفضول في الجزاء والمنح، ولا تمنع مساواتَهما في الحقوق الأخرى. والمرجِع في معرفة تقدير ما تمنع هذه الموانعُ التساويَ فيه هو إما المعنى الذي اقتضى المنع، وإما قواعد التقنين. فمعرفة مساواة العالِم بعلم مّا لمن ليس بعالِم به في آثار ذلك العلم ترجع إلى المعنى. وكذلك معرفةُ عدم مساواة غير المسلمين من أهل ذمّة

الإسلام للمسلمين في بعض الحقوق، مثل ولاية المناصب الدينية، ترجع إلى المعنى، لأن صلاح الاعتقاد من أصول الإسلام. فيكون اختلالُ اعتقاد غير المسلم موجباً انحطاطه في نظر الشريعة عن الكفاءة لولاية أمور المسلمين، لأن ذلك الاختلال لا ينضبط عندنا، فلا ندري مقدار ما ينجزُ للجامعة من تصرفاته إذا أُسندت إليه. ولذلك اتفق العلماء على منع ولاية غير المسلم في كثير من الولايات، واختلفوا في بعضها مثل الكتابة والحسابة (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر الونشريسي في تقييد له أن الولايات في العهود الإسلامية الأولى التي تجري فيها الأحكام على أيدي أصحابها كثيرة. وقد جعل أولاها وأهمها الولاية الكبرى أو الإمامة العظمى. ثم ذكر جملة من الولايات: ولاية الوزارة، وولاية القضاء، وولاية الشرطة، وولاية الإمارة على البلد، وولاية الإمارة على الغزو، وولاية المظالم، وولاية الحسبة، وولاية الرد، وولاية المدينة، وولاية عقود الأنكحة وفسوخها، وولاية التحكيم، وولاية السعاية، وجباية الصدقة، وولاية الخرص، وولاية صرف النفقات والقروض المقدرة لمستحقيها، وإيصال الزكاة إلى أصنافها، وقسمة الغنائم، وإيصال أموال الغائبين إليهم، وولاية القسم والكتب والترجمة والتقويم، وولاية الحَكَمين في جزاء الصيد، وولاية الحكمين في الشقاق. واستدركوا عليه ولايات أخر منها: النظر في الأحباس، وولاية أبي الموارث على حيازة مال من مات من غير وارث أصلاً أو لا يحاط بجميع ماله ليوصله إلى بيت المال، وولاية وكيل الغياب، وولاية النقابة على الأشراف والمرابطين، وولاية شيخ الجماعة على العلماء. اهـ. وقد حصرها ابن سهل في ستة خطط تتصل سلطتها بالحكم، وهي القضاء وأجلها قضاء الجماعة، والشرطة الكبرى، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، وولاية المظالم، وصاحب الرد، وصاحب مدينة، وصاحب سوق. الصنهاجي: 1/ 62 - 66. ودليل كون أكثر الولايات العامة لا تسند لغير المسلم قوله تعالى: =

وأما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات مثل منع مساواة غير المسلم لقريبه المسلم في إرث قريبهما المسلم باتفاق العلماء (¬1)، ومثل منع مساواة غير المسلم للمسلم في القصاص له من المسلم (¬2)، وفي قبول الشهادة على ¬

_ = {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} آل عمران: 28، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} آل عمران: 118. ومن السنة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فلن أستعين بمشرك". وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري من اتخاذ الذمي كاتباً وأمره بعزله. وقد كان المسلمون كما قال عمر بن عبد العزيز يستعينون في أمر الخراج بالعجم. وتجوزوا في بعض الولايات. واشترطوا الإسلام في وزراء التفويض لا في وزراء التنفيذ، ولم يشترطوه في الكتابة والحسابة. والحق أن الولايات في الإسلام لا ترتبط بالأشخاص والأفراد بقدر خضوعها لسيادة الشريعة وعدالتها التي ينبغي أن يخضع لها الأفراد والجماعات، ولأن الذميين لا يخلصون النصيحة ولا يؤدون الأمانة وبعضهم أولياء بعض. انظر الخزاعي. كتاب تخريج الدلالات السمعية، باب النهي عن استعمال غير المسلمين من الكفار وغيرهم وعن الاستعانة بهم: 779. وقد حكم تعالى أن من تولاهم فإنه منهم. ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبداً. ابن القيم. أحكام أهل الذمة: 1/ 242. (¬1) وذلك بمنع التوارث بين المسلم والكافر لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله: "لا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". انظر 85 كتاب الفرائض، 26 باب لا يرث المسلم الكافر. خَ: 8/ 11. (¬2) وهذا لحديث: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرُدّ مشدّهُم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم. لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده". =

اختلاف بين العلماء في ذلك (¬1)، فترجع إلى قواعد التقنين من فروع الشريعة. وهي من نظر الفقيه في الدين. وأما معرفة مساواة غير المسلم للمسلم في معظم الحقوق في المعاملات الثابتة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" (¬2)، ¬

_ = انظر 15 كتاب الجهاد، 147 باب في السرية ترد على أهل العسكر، ح 2751. دَ: 3/ 183. (¬1) ولا تقبل شهادة كافر غير ذمي على مسلم مطلقاً لنفي الولاية الذي اقتضاه قول الله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} النساء: 141. وتقبل شهادة الذمي في الوصية أو الإيصاء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} المائدة: 106. أي من غير أهل دينكم. وبهذا قال جمع من المفسرين. وقال جماعة من الفقهاء وهم الأحناف: ولا تقبل من أهل الأهواء ولا من كافر على مسلم إلا في الوصاية والنسب إذا ادعي حق على الميت على خصم حاضر. ويشهد لهذا حديث ابن عباس الذي يروي قصة رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء واحتكامهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشوكاني. نيل الأوطار: 9/ 204؛ ابن عاشور. التحرير والتنوير: 8/ 79 وما بعدها؛ ملا خَسْرُو. درر الحكام في شرح غرر الأحكام: 2/ 378. (¬2) لا يقاتل الكفار حتى يُدعَوا إلى الإسلام أو تجدد لهم الدعوة لكَون دعوة البيان أهون من دعوة البنان إلا أن يكونوا مشركين أو مرتدين. فإن استجابوا كَفُّوا عنهم القتال، وإن أبوا الإجابة دعوا إلى الذمة، فإن أجابوا كُفَّ عن قتالهم: "فإن قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ... ". الكاساني. البدائع: 7/ 100. وهذه المقالة مأخُوذة من كلام علي رضي الله عنه؛ منها: من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا ودينه كديننا. عبد الكريم زيدان. أحكام الذميين والمستأمنين (2): 70 وما بعدها.

فتلك حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة فلا يحتاج إلى التعليل. وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله ذلك تنبيهاً على أن ذلك الأصل مقرر ثابت. ومن موانع المساواة ما ليس في الحقيقة بمانع، ولكنه حال تعذرت فيها أسباب المساواة مثل امتناع مساواة أحد من الأمة في فضيلة أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفوات المزية وهي مزية رؤية نور الرسول مع الإيمان به. ثم إن العوارض المانعة من المساواة في بعض الأحكام أقسام أربعة: جبلية، وشرعية، واجتماعية، وسياسية. وكلها قد تكون دائمة أو مؤقتة، طويلة أو قصيرة. فالجبلية والشرعية والاجتماعية تتعلق بالأخلاق، واحترام حق الغير، وبانتظام الجامعة على أحسن وجه. والسياسية تتعلق بحفظ الحكومة الإسلامية من وصول الوهن إليها. فالموانع الجبلية الدائمة: كمنع مساواة المرأة للرجل فيما تقصر فيه عنه بموجب أصل الخلقة، مثل إمارة الجيش والخلافة عند جميع العلماء (¬1)، ومثل القضاء في قول جمهور من علماء ¬

_ (¬1) ذلك أن الذكورة شرط أساسي في الولايات العامة فلا يجوز أن يتولاها النساء. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قوم وَلَّوا أَمرهم امرأة". انظر 64 كتاب المغازي، 82 باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر، ح 2. خَ: 5/ 136؛ 92 كتاب الفتن، 18 باب، ح 1. خَ: 8/ 97؛ انظر 34 كتاب الفتن، 75 باب، ح 2262. تَ: 4/ 527 - 528؛ انظر 49 كتاب القضاة، 8 باب النهي عن استعمال النساء في الحكم. نَ: 8/ 227؛ حَم: 5/ 38، 43، 50، 51؛ الماوردي. الأحكام السلطانية: 67.

الإسلام (¬1). وكمنع مساواة الرجل للمرأة في حق كفالة الأبناء الصغار (¬2). ويلحق بالجبلي ما هو من آثار الجبلة كمنع مساواة الرجل ¬

_ (¬1) إذ اشترطوا فيه الذكورة لأنه من الولايات. قال عياض في التنبيهات: وشروط القضاة التي لا يتم القضاء إلا بها، ولا تنعقد الولاية ولا يستدام عقدها إلا معها عشرة: الإسلام والعقل والذكورية والحرية والبلوغ والعدالة والعلم وكونه واحداً وسلامة حاسة السمع والبصر وسلامة اللسان. ولا يصح من المرأة لنقصها، ولأن كلامها ربما كان فتنة. وبعض النساء تكون صورتها فتنة. ابن فرحون. تبصرة الحكام: 1/ 18. وأجاز ابن جرير الطبري تولي المرأة القضاء في جميع الأحكام. ورد ذلك الماوردي بقوله: لا عبرة بقول يرده الإجماع. الأحكام السلطانية: 130. وقال أبو حنيفة: تتولى المرأة القضاء فيما تجوز فيه شهادتها. وبين ذلك الكاساني بقوله: وأما الذكورة فليست من جواز التقليد في الجملة، لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تقضي في الحدود والقصاص، لأنه لا شهادة لها في ذلك. وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة. الكاساني. البدائع: 7/ 3. (¬2) ذلك أن الأب إذا كان موجوداً موسراً أو قادراً على الكسب تجب عليه وحده نفقة أولاده، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233. أما الحضانة وهي حفظ من لا يستقل بأموره وتربيته بما يصلحه ويقيه مما يضره فتقدم المرأة فيها على الرجل، لأنها أعين بها وأقدر عليها. وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحقية الأمهات بحضانة ولدهن، يشهد لذلك حديث عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني كانت بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت أحق به ما لم تُنكحي". ابن حجر. بلوغ المرام: 242 - 243. وذهب الشافعي إلى أن الولد إذا ميَّز خُيّر بين أبيه وأمه، لحديث أبي هريرة: أن امرأة شكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: زوجي يريد أن يذهب بابني. وقال =

للمرأة في أن زوجته تنفق عليه لما تقرر في العوائد من كون الرجل هو الكاسب للعائلة. وتلك العادة من آثار جبلة الرجل المخوِّلة إياه بالقدرة على الاكتساب ونَصَبه. ويلحق بالجبلي أيضاً صفات مكتسبة ناشئة عن قابليةٍ وعن سعي تترك آثاراً في الخلقة لا يبلغ إلى مثلها إلَّا من اكتسب أسبابها فتفيد كمالَه في الإحساس والتفكير، مثل تفاوت العقول والمواهب في الصلاحية لإدراك المدركات الخفية. فلا مساواة بين العالم وغيره في كل عمل فيه أثر بيّن لتفاوت الإدراك، مثل التصدّي لتفهم الشريعة، والقدرة على تلقّي ما طريق تلقيه الاستنباط، والمقدرة على تعرف أحكام الشريعة في مختلف النوازل، وعلى تنزيلها في الأحوال الصالحة لها كإدراك التفرقة بين مشتبه النوازل، وإدراك حيل الخصوم، وعدالة الشهود. فلذلك كان بلوغ مرتبة الاجتهاد موجباً ترجيح صاحبه لولاية القضاء، ومانعاً من مساواته لمن هو دون مرتبته من العلماء، وكذلك القرب من مرتبة الاجتهاد بالنسبة لذي البعد عنها (¬1). ¬

_ = الزوج: من يحاقني في ابني؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام هذا أبوك، وهذه أمك. فخذ بيد أيهما شئت" فأخذ بيد أمه فانطلقت به. ابن حجر، بلوغ المرام: 211، ع 985. (¬1) في هذا كلام مهم لابن شاس قال: لا تصح تولية مقلد في موضع موجود فيه عالِم. فإن تقلد فهو جائر متعدِّ لأنه قعد في مقعد غيره ولبس خلعة سواه من غير استحقاق. وقال ابن عبد السلام: ولا ينبغي أن يولى في زماننا هذا من المقلدين من ليس له قدرة على الترجيح بين الأقوال فإن ذلك غير معدوم وإن كان قليلاً. انظر كلام المازري عن رتبة الاجتهاد وأنها لانعدامها اليوم لا تقتضي منع المقلد رتبة القضاء، لما في ذلك من تعطيل للأحكام وإيقاع للهرج والفتن والنزاع ... إلخ!. ابن شاس. الجواهر: 3/ 97. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 18 - 19.

فحقيق بالفقهاء وولاة الأمور أن يراعوا هذه الموانع ومقاديرها وتأصَّلها، فيُعملوا آثارها في المساواة بعد تحقّق ثبوتها، ويَعلَموا ما كان منها متعلقاً تعلقاً ضعيفاً بالجبلة يقبل الزوال لحصول أضداد أسبابه، فلا ينوطوا به أحكاماً دائمة. وما كان منها خفياً حصولُه لا ينبغي مراعاته إلَّا بعد التجربة. وأما الموانع الشرعية فهي ما كان تأثيرُها بتعيين التشريع الحق، إذ التشريع الحق لا يكون إلَّا مستَنِداً لحكمة وعلَّة معتبرة. ثم تلك الحكمةُ قد تكون جليةَ وقد تكون خفية. فالشريعة هي القدوة في تحديد هذه الموانع، وتحديد ما ينشأ عن مراعاة أصول تشريعية تَعتبر إجراءها أرجحَ من إجراء المساواة. وتُعرف هذه الأصول إمَّا بالقواعد، مثل قاعدة حفظ الأنساب في منع مساواة المرأة للرجل في إباحة تعدد الأزواج، إذ لو أبيح للمرأة لما حصل حفظُ لحاق الأنساب، ومثل قاعدة إزالة الضر، فإنها منعت مساواةَ المرأة الشريفة لغيرها من الأزواج في إلزامها بإرضاع الولد عند مالك؛ وإمّا أن تُعرف بتتبع الجزئيات المنتشرة في الشريعة مثل اعتبار شهادة المرأتين في خصوص الأموال (¬1). ¬

_ (¬1) ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} البقرة: 282. وهو مذهب جمهور الشافعية والمالكية والحنابلة. فلا تقبل شهادة النساء عندهم مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها، كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والكفالة. وهذا خلاف ما اعتمده الأحناف إذ أجازوها لهن في الحقوق المدنية كلها مالية أو غير مالية. وتقبل شهادة امرأة واحدة فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة والعيوب بالنساء. ولا تقبل شهادة النساء في الحدود عند الجمهور خلافاً لأهل الظاهر فإنها تقبل عندهم إذا كان معهن رجل =

وأما الموانع الاجتماعية فأكثرُها مبنيٌ على ما فيه صلاح المجتمع، وبعضُها يرجع إلى المعاني المعقولة، وبعضُها يرجع إلى ما تواضع عليه الناس واعتادوه فتأصّل فيهم. مثال الأول منع مساواة الجاهل للعالِم في التصدِّي للنظر في مصالح الأمة. ومثال الثاني منع مساواة العبيد للأحرار في قبول الشهادة. ومعظم الموانع الاجتماعية نجده مجالاً للاجتهاد، ولا نجد فيه تحديدات شرعية إلَّا نادراً. وأما الموانع السياسية فهي الأحوال التي تؤثر في سياسة الأمة، فتقتضي إبطالَ حكم المساواة بين أصناف أو أشخاص، أو في أحوال خاصة. كل ذلك لمصلحة من مصالح دولة الأمة. وهذا النوع من الموانع يكثر فيها اعتبار التوقيت. فمثال الدائم منه اختصاص قريش بإمامة الأمة (¬1). ¬

_ = وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية. العبادي. الجوهرة: 2/ 290 - 291؛ الميداني. اللباب: 4/ 54؛ ابن رشد. البداية: 2/ 464. (¬1) وهو ما ذهب إليه أهل السنة اعتماداً على حديث: "الأئمة من قريش" الذي سبق تخريجه، وأخذاً بإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك. انظر 169/ 2. ووجه أخذ أهل السنة بذلك - فيما يظهر - ما نبه إليه العلماء من حقائق كانت ثابتة في قريش مسلماً بها لهم. فما دامت فيهم كانوا المقدمين على غيرهم في هذا الأمر المهم. وقد كشف عنها صاحب حجة الله البالغة في كتابه حين قال: "والسبب المقتضي لهذا أن الحق الذي أظهر الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء بلسان =

ومثال المؤقّت منه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" (¬1). ¬

_ = قريش، وفي عاداتهم. وكان أكثر ما تعين من المقادير والحدود ما هو عندهم، وكان المعد لكثير من الأحكام ما هو فيهم. فهم أقوم به وأكثر الناس تمسكاً بذلك. وأيضاً فإن قريشاً قومُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحزبُه. ولا فخر لهم إلا بعلو دين محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد اجتمع فيهم حمية دينية وحمية نسبية. فكانوا مِظنّة القيام بالشرائع والتمسك بها. وأيضاً فإنه يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس من طاعته لجلالة نسبه وحسبه، فإن من لا نسب له يراه الناس حقيراً ذليلاً، وأن يكون ممن عَرف منهم الرئاسات والشرف ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال، وأن يكون قومه أقوياء يحمونه وينصرونه ويبذلون دونه الأنفس. ولم تجتمع هذه الأمور إلا في قريش لا سيما بعد ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وَنُبه به أمر قريش". شاه ولي الله الدهلوي: 2/ 149. (¬1) انظر 32 كتاب الجهاد، 31 باب فتح مكة، ح 86. مَ: 3/ 1407 - 1408؛ انظر كتاب الخراج والإمارة والفيء، 24، 25 باب ما جاء في خبر مكة، 3021، 3022. دَ: 3/ 416 - 418.

يا - ليست الشريعة بنكاية

يا - ليست الشريعة بنكاية لقد تأصَّل مما أفضنا به القول في مبحث سماحة الشريعة ونفي الحرج عنها ما فيه مَقنع من اليقين بأن الشريعة لا تشتمل على نكاية بالأمة. فإن من خصائص شريعة الإسلام أنها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها في عموم الأمة وفي خويصة الأفراد. فلذلك كان الأهمُّ في نظرها إمكانَ تحصيل مقاصدها، ولا يتم إلا بسلوك طريقة التيسير والرفق. وأحسب أن انتفاء النكاية عن التشريع هو من خصائص شريعة الإسلام لما دل عليه القرآن من أنه قد أوقع النكاية ببعض الأمم في تشريع لها. قال الله تعالى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (¬1). فدلَّ على أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل كان عقاباً لهم على ما صدر منهم من التوغّل في مخالفة الشريعة. فالإسلام إذا رخّص وسهّل فقد جاء على الظاهر من سماحته، وإذا شدَّد أو نسخ حكماً من إباحة إلى تحريم أو نحو ذلك فلرَعْيِ صالح الأمة والتدرج بها إلى مدارج الإصلاح مع الرفق. فتحريم الخمر مقصود للإسلام من أول البعثة. وأما السكوت عليه مدة حتى بقي مباحاً ثم تحريمُه في وقت الصلاة فذلك تمهيد لتحريمه الباتّ (¬2). ¬

_ (¬1) النساء: 160 - 161. (¬2) يدرك هذا من التدرج في تحريمه بعد أن كان مباحاً بقوله سبحانه: =

ولذلك لم يجز أن تكون الزواجرُ والعقوباتُ والحدودُ إلَّا إصلاحاً لحال الناس بما هو اللّازم في نفعهم دون ما دونه ودون ما فوقه، لأنه لو أصلحهم ما دونه لما تجاوزته الشريعةُ إلى ما فوقه، ولأنه لو كان العقابُ فوق اللازم للنفع لكان قد خرج إلى النكاية دون مجرد الإصلاح. ولهذا كان معظم العقوبات أذًى في الأبدان لأنه الأذى الذي لا يختلف إحساس البشر في التألم منه، بخلاف العقوبة بالمال فإنها لم تَجِئْ في الشريعة، وإنما جاء غرم الضرر (¬1). فلو نزلت الجنايات التي لم يثبت لها عقاب في الشريعة وكان الباعث عليها حب الاستكثار من المال لم يكن بعيداً في نظر المجتهد أن يعاقب عليها بمصادرة مالية، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عقاب رويشد الثقفي الذي كان اتخذ بيته حانة يجمع إليها الشِّرب لمعاقرة الخمر. فقد أمر عمر بحرق ذلك البيت (¬2)، وقد روى يحيى عن مالك أن تحرق بيت ¬

_ = {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} النساء: 43، ثم قوله جل وعلا: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المائدة: 90. (¬1) يرجع غرم الضرر إلى القاعدة الفقهية العامة: (الضرر يزال). انظر: الصور التطبيقية لذلك. أحمد الزرقا. شرح القواعد الفقهية: 125، المادة: 20، القاعدة الثانية. السبكي. الأشباه والنظائر: 1/ 41؛ الأتاسي. شرح المجلة، المادة 20: 53. (¬2) الأصل في الإحراق: أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهدم مسجد الضرار وإحراقه لما كان تفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين. انظر ابن تيمية. الحسبة في الإسلام: 55؛ ابن القيم. الطرق الحكمية: 250 - 258؛ زاد المعاد: 3/ 572؛ ابن فرحون. التبصرة: 2/ 203؛ عبد العزيز عامر. التعزير في الشريعة الإسلامية: 345.

الخمار (¬1). ووقع في الواضحة عن مالك أنه رأى أن تُباع الدارُ التي تُجعل مأوى لأهل الفسوق (¬2). وقول ابن القاسم خلاف ذلك في المسألتين (¬2). ومن قبيل العقوبة التي تتردد بين النكاية وبين كونها أذى في الناحية التي هي مثار الجناية القولُ بتأبيد تحريم المرأة المعتدّة على من يتزوجها في عدّتها ويبني بها فيها. وقد قضى به عمر بن الخطاب وقال به مالك (¬3). ومن الأئمة من يفسخ النكاح ولا يرى تأبيد التحريم. وهو أقرب (¬4). ولذلك استحسن بعض فقهاء المالكية أن ¬

_ (¬1) روى يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أن يحرق بيت الخمار. وقال: أخبرني بعض أصحابنا أن مالكاً كان يستحب أن يحرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر. ابن رشد. البيان: 9/ 417. (¬2) قال أبو زيد: قال ابن القاسم: سئل مالك عن فاسد يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به؟ قال: يخرج من منزله وتحرز عليه الدار أو البيوت. قال: فقلت: لا تباع؟ قال: فلعله يتوب فيرجع إلى منزله. قال ابن القاسم: يتقدم إليه مرة أو مرتين فإن لم يتب أخرج وأكري عليه ... وفي الواضحة عن مالك: تباع عليه. ابن رشد. البيان: 9/ 416 - 417؛ ابن القيم. الطرق الحكمية، إجلاء الفاسق عن داره: 258. وفي التبصرة: والفاسق إذا آذى جاره ولم ينته تباع عليه داره. وهي عقوبة في المال والبدن. ابن فرحون: 1/ 204. (¬3) في الأحكام: إذا نكح في العدة وبنى فسخ ولم ينكحها أبداً. قاله مالك وأحمد والشعبي. وبه قضى عمر لأنه استعمل ما لا يحل له فحُرِمه، كالقاتل في حرمان الميراث. ابن العربي. أحكام القرآن، آية البقرة: 235: 1/ 215. (¬4) قاله علي وابن مسعود. وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي. فالنكاح يفسخ ولا يتأبد التحريم، والزوج بعد العدة خاطب من الخطاب. وقد رجع عمر إلى هذا القول، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها. =

للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الذي يبني بالمعتدة في عِدّتها ألّا يزيد في حكمه تأبيد التحريم، إذ لعلهما يجري أمرهما على رأي من لا يرى تأبيد التحريم. وكذلك مسألة من يفسد المرأة على زوجها ويهرب بها ليتزوّجها (¬1). ولا يشكل على هذا ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم أن بعض أصحابه يواصل الصيام فنهاهم. فقال له رجل: يا رسول الله إنك تواصل. فقال: وأيُكم مثلي إِني أَبيت يطعُمني ربي ويسقيني. فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال لهم: لو تأخر الشهر لزدتكم" (¬2) ¬

_ = واستحسن المتأخرون من المالكية للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأبيد تحريمها لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه. فينبغي له أن يترك التعريج عليه لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأبيد التحريم. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 455؛ القرطبي. الجامع لأحكام القرآن، المسألة السادسة: 3/ 193 - 195؛ ابن عطية. المحرر الوجيز: 2/ 222 - 225. (¬1) ورد هذا في ضوء الشموع. وأفتى في مثل هذه القضية أحد فقهاء المالكية قائلاً: يتأبد تحريمها عليه معاملة له بنقيض مقصوده، ولئلا يسارع الناس إلى إفساد الزوجات. والظاهر أنه تأبيد مقيد بدوام أثر الإفساد لا إن طال الزمن جداً أو طلقها الأول باختياره أو مات عنها. عليش. فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك: 1/ 397. والأصل في هذا الحكم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من خبّب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا". رواه أبو داود، ونسبه المنذري للنسائي. وبناء على ذلك قالوا: من أفسد زوجة امرئ، أي: أغراها بطلب الطلاق. ولذا ضيق فقهاء المالكية عليه وبلغ من زجرهم له تأبيد تحريم المرأة المخببة على من أفسدها على زوجها. الموسوعة الفقهية: 5/ 291. (¬2) وقد كان الوصال منهم حرصاً على اتباعه في ذلك وهم يعلمون أن أمره =

كالمنكِّل بهم حين أبوا أن ينتهوا، لأن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا لا يعدّ من التشريع العام، بل هو من تربية الأصحاب وخاصةِ الرجل. فهو من باب النصيحة لأصحابه لا من باب التشريع العام. ¬

_ = ونهيه لا يحمل جزماً ولا إلزاماً. وكان نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم عنه على سبيل الرفق بهم. والحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة: 30 كتاب الصوم، 49 باب التنكيل بمن أكثر الوصال. خَ: 2/ 242 - 243.

يب - مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير

يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ قد يَستكِنُّ في معتقد كثير من العلماء قبل الفحص والتغوّص في تصرفات التشريع أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس. والتحقيق أن للتشريع مقامين: المقام الأول تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها. وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬1)، وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). والتغيير قد يكون إلى شدّة على الناس رعيًا لصلاحهم، وقد يكون إلى تخفيف إبطالاً لغلوِّهِم. مثل تغيير اعتداد المرأة المتوفّى زوجها من تربص سنة إلى تربص أربعة أشهر وعشر (¬3)، إذ لا فائدة فيما زاد على ذلك، إذ التربّص لا تظهر منه فائدة للميت ولا للمرأة، إلَّا لحفظ نسب الميت لو ظهر حمل. وتلك المدّة كافية لظهور الحمل وتحرّكه. وكذلك تغيير حكم الإحداد بتهذيبه، إذ كانت المرأة ¬

_ (¬1) البقرة: 257. (¬2) المائدة: 16. (¬3) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية. البقرة: 234.

- في الجاهلية - المتوفّى زوجها تلبس شر الثياب وتمكث في حفش، وهو بيت حقير، ولا تتنظّف ولا تتطيّب مدة سنة، فأبطل الإسلام ذلك بأن لا تلبس المصبوغ إلا الأسود ولا تتطيّب ولا تكتحل مدة أربعة أشهر وعشر. ومن حكمة التغيير الحرصُ على المحافظة عليه، لأنّه يتطرّقه التساهل من طرفيه. فإن كان تغييراً إلى أشد تطرقه طلب التفصي منه، وإن كان إلى أخف تطرّقه توهم أن تخفيفه عذر للأمة في نقصه. فلذلك لم يرخِّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمرأة السائلة عن اكتحال عيني ابنتها في عدّة وفاة من زوجها لعذر مرض عينيها، وقال لها: "لا لا (مرتين أو ثلاثاً) إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تَرمي بالبعرة على رأس الحول". رواه مالك في الموطأ من حديث أم سلمة رضي الله عنها. قالت زينب بنت أبي سلمة: كانوا إذا مضى الحول أتوا للمرأة بدابةٍ حمار أو شاة أو طائر فتفتض به ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها (¬1). قال مالك: تفتض أي تمسح جلدها به كالنُّشرة (¬2). والمقام الثاني تقريرُ أحوال صالحة قد اتبعها الناس. وهي الأحوال المعبَّرِ عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (¬3). وأنت إذا افتقدت الأشياء التي انتحاها البشر منذ ¬

_ (¬1) الافتضاض: الاغتسال بالماء العذب للإنقاء حتى تصير كالفضة، والنشرة: ضرب من الرقية والعلاج، سميت بذلك لأنها تنشر عن المريض ما خامره من داء أي تكشفه وتزيله. والحديث لأم سلمة. انظر 29 كتاب الطلاق، 35 باب ما جاء في الإحداد، 103. طَ: 2/ 597. (¬2) روى مالك القصة عن حميد بن نافع وعقّب عليها مفسراً. طَ: 2/ 597 - 598. (¬3) الأعراف: 157.

القدم، وأقاموا عليها قواعد المدنية البشرية، تجدها أموراً كثيرة من الصلاح والخير تُوُورِثَت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والرسل والحكماء والحكام العادلين حتى رسخت في البشر، مثل إغاثة الملهوف، ودفع الصائل، وحراسة القبيلة والمدينة، والتجمع في الأعياد، واتخاذ الزوجة، وكفالة الصغار، والميراث. إلَّا أن هذه الفضائل والصالحات ليست متساويةً الفشو في الأمم والقبائل. فلذلك لم يكن للشريعة العامة غُنية عن تطرّق هذه الأمور ببيان أحكامها من وجوب أو ندب أو إباحة، وبتحديد حدودها التي تناط أحكامُها عندها. فالنظر إلى اختلاف الأمم والقبائل في الأحوال من أهم ما تقصده شريعة عامة كما أنبأ عن ذلك حديث الموطأ (¬1) وصحيح مسلم: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقد هممت أن أحرّم الغِيلَة (في الرضاع) لولا أن قوماً من فارس يفعلونها ولا تضرّ أطفالهم" (¬2). ¬

_ (¬1) بالأصل: حديث الموطأ والصحيحين. (¬2) روى مالك عن عائشة أم المؤمنين عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك. فلا يضرّ أولادهم": 30 كتاب الرضاع، 3 باب جامع مما جاء في الرضاعة، ح 17. طَ: 2/ 607 - 608؛ انظر 16 كتاب النكاح، 23 باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع، ح 140 - 142. مَ: 2/ 1066 - 1067. وأورده أيضاً أصحاب السنن. انظر 22 كتاب الطب، 16 باب في الغَيْل، ح 3882. دَ: 4/ 211؛ انظر 29 كتاب الطب، 27 باب ما جاء في الغيلة، ح 2076، 2077. تَ: 4/ 405 - 406؛ انظر 26 كتاب النكاح، 54 باب الغيلة، ح 3324. نَ: 6/ 106 - 107؛ انظر 11 كتاب النكاح، 33 باب في الغيلة، ح 2223. دَي: 2/ 468؛ انظر 9 كتاب النكاح، 61 باب الغيل، ح 2011. جَه: 1/ 648. ولم أقف عليه في البخاري. وأخرج مثل هذا الحديث مسلم من رواية =

وكذلك النظر إلى اختلاف النفوس في التسرع إلى النزوع عن الصالحات عند طرو معارضها في شهواتهم من جهة ما في الصالحات من الكلفة. كما ترى من تحريض الشريعة على التزوج (¬1)، ¬

_ = أسامة بن زيد عن رجل قال: إني أعزل عن امرأتي أشفق على ولدها، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان ذلك ضاراً ضرّ فارس والروم"، وفي رواية زهير: "إن كان لذلك فلا. ما ضار ذلك فارس ولا الروم": 16 كتاب النكاح، 24 باب جواز الغيلة، ح 143. مَ: 2/ 1067. وأخرج أبو داود حديثاً آخر بمعناه رواه عن أسماء بنت يزيد بن السكن. "قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقتلوا أولادكم سراً فإن الغَيْل يدرك الفارس فيُدَعثره عن فرسه": 22 كتاب الطب، 16 باب في الغَيل، ح 3881. دَ: 4/ 211. وأخرج هذا الحديث بلفظ قريب منه ابن ماجه: 9 كتاب النكاح، 61 باب الغيل، ح 1012. جَه: 1/ 648؛ حَم: 6/ 453. (¬1) ورد ذلك في الكتاب. قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} النساء: 3، وقوله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} النور: 32، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". حديث عبد الله، انظر 30 كتاب الصوم، 10 باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة. خَ: 2/ 288 - 289؛ 67 كتاب النكاح، 2 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من استطاع منكم الباءة، 3 باب: من لم يستطع الباءة فليصم. خَ: 6/ 117؛ انظر 16 كتاب النكاح، 1 باب استحباب النكاح، ح 1، 3 مَ: 2/ 1018 - 1019؛ انظر 22 كتاب الصيام، 43 باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم. نَ: 4/ 165 - 172؛ ابن ماجه: 9 كتاب النكاح، 1 باب ما جاء فضل النكاح، ح 1845 جَه: 1/ 592؛ انظر 11 كتاب النكاح، 2 باب من كان عنده طَول فليتزوج، ح 2171، 2172. دَي: 2/ 455؛ حَم: 1/ 57، 378، 424، 425، 432.

ومن إيجابها نفقة القرابة (¬1). وأكثر ما يحتاج إليه في مقام التقرير هو حكم الإباحة لإبطال غلو المتغالين بحملهم على مستوى السواد الأعظم من البشر الصالح كما قال الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬2). فإن الطيبات تناولتها الناس وشذَّ فيها بعضُ الأمم وبعضُ القبائل فحَرَّموا على أنفسهم طيبات كثيرة. وقد كان ذلك فاشياً في قبائل العرب مثل تحريم بني سُليم على أنفسهم أكلَ الضب لزعمهم أنه مسخ من اليهود (¬3)، وتحريم كثير من العرب ما تلده البَحيرة والسائبة ¬

_ (¬1) على الإنسان أن ينفق على ولده الحر الذكر المعسر حتى يبلغ قادراً على الكسب، وعلى ابنته المعسرة حتى تتزوج ويدخل بها زوجها عند مالك. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233. وعند الشافعي تجب على الأصول الموسرين نفقة الأولاد، وذلك بشروط: الفقر والصغر، أو الفقر والزمانة، أو الفقر والجنون. ولا تجب عنده للبالغ السليم ذكراً كان أو أنثى. وقال أبو حنيفة وأحمد: تجب نفقة الأولاد على الأصول الموسرين، فإن لم يوجد موسر من جهتي الأصل أو الفرع وجب على من أيسر من قرابتهم أن ينفق عليهم الأقرب فالأقرب بقدر الإرث. الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 244 - 245؛ الزيلعي. تبيين الحقائق: 3/ 62 - 64. وعلى الإنسان أن ينفق على أقاربه إذا كانوا محتاجين كالآباء والأجداد وفروعهم. وأما الإخوة وفروعهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات فقد اختلف الأئمة بشأن الإنفاق عليهم. أوجب ذلك الأحناف على كل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والعم والخال، وأوجبت الحنابلة النفقة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم، ولم تُلزم بها لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة. (¬2) الأعراف: 157. (¬3) ورد هذا فيما أخرجه أبو داود من حديث ثابت بن وديعة، قال: نزلنا =

حيّاً على النساء دون الرجال (¬1)، وما تلده ميتاً حلال للفريقين كما وصف الله تعالى بقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (¬2)، وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬3)، ثم قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬4). ويحتاج أيضاً فيه إلى دفع ما يعلق بالأوهام من العوارض يخيل إليهم أن الصالحات مفاسد لصدورها من المتلبس بالفساد. فقد سأل حكيم بن حزام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت أعمالاً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتق وصلة رحم، [فهل فيها من أجر؟] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمت على ما سلف من خير" (¬5). ¬

_ = أرضاً كثيرة الضباب. وفيه أنهم طبخوا منها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض [فأخشى أن تكون هذه فأكفؤوها] وإني لا أدري أي الدواب هي". قال: فلم يأكل ولم ينه: 21 كتاب الأطعمة، 28 باب في أكل الضب. 3795. دَ: 4/ 154 - 155. أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي. وسنده على شرط الشيخين، إلا الضحاك، فلم يخرجا له. ابن حجر. الفتح: 9/ 665 - 666؛ النووي. شرح مسلم: 13/ 97 وما بعدها إلى آخر باب إباحة الضب؛ الزرقاني. شرح الموطأ، آخر كتاب الاستئذان: 4/ 371. (¬1) ابن عاشور. التحرير والتنوير: 7/ 70 - 73؛ 8 ق 1/ 110 - 111. (¬2) الأنعام: 139. (¬3) الأعراف: 32. (¬4) الأعراف: 33. (¬5) ورد الحديث بألفاظ متقاربة. انظر 24 كتاب الزكاة، 24 باب من تصدق في الشرك ثم أسلم. خَ: 2/ 119؛ 49 كتاب العتق، 12 باب عتق المشرك. خَ: 3/ 121؛ 78 كتاب الأدب، 16 باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم. خَ: 7/ 73 - 74؛ انظر 1 كتاب الإيمان، 55 باب بيان =

ولهذا قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1). وقد قرر الإسلام من أنكحة الجاهلية النكاح المعروف وأبطل البغاء والاستبضاع والسفاح (¬2). والتقرير لا يحتاج إلى القول. فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلَّا عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم، أو جواب سؤال، أو تحريض على التناول. وفيما عدا تلك الأسباب ونحوها يعتبر سكوت الشارع تقريراً لما عليه الناس. فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر. وقد تواتر هذا المعنى تواتراً من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصرّفاته. ويشهد له ويعضده الحديث الذي رواه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" (¬3)، ولأجل هذا كره ¬

_ = حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، 194، 195، 196. مَ: 1/ 113 - 114. (¬1) المائدة: 5. (¬2) وبيان ذلك في حديث عائشة. انظر 67 كتاب النكاح، 36 باب من قال لا نكاح إلا بولي، ح 1. خَ: 6/ 132؛ انظر 7 كتاب الطلاق، 33 باب وجوه النكاح التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية، ح 2272. دَ: 2/ 302 - 303. وفي نيل الأوطار: باب ذكر أنكحة الكفار وإقرارهم عليها. فقد أحل رسول الله النكاح المعروف المشروع، وحرم ما سوى ذلك من الأنكحة كالاستبضاع، ونكاح الرهط ما دون العشرة، وتلحق المرأة الولد بمن أحبت، ونكاح البغايا وإلحاق الولد بواحد من الزناة بالقافة. الشوكاني: 6/ 300. (¬3) تقدم: 270/ 2، 277/ 1.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل لأن السؤال عن غير المشكل عبث. ولا يُستثنى من دلالة السكوت على التقرير إلَّا الأحوالُ التي دلَّ العقل على إلحاقها بأصولٍ لها حكمٌ غير الإباحة، وهي دلالة القياس بمراتبها. وليس مرادنا بالتغيير تغييرَ أحوال العرب خاصة، ولا بالتقرير تقريرَ أحوالهم كذلك، بل مرادنا تغيير أحوال البشر وتقريرُ أحوالهم سواءٌ كانوا العرب أم غيرهم. وذلك أن جماعات البشر كانوا غيرَ خالين من أحوال صالحة هي بقايا الشرائع أو النصائح أو اتفاق العقول السليمة. فقد كان العرب على بقية من الحنيفية، وكانت اليهود على بقية من شريعة عظيمة، وكانت النصارى على بقية منها ومن تعاليم المسيح عليه السلام. وكان مجموع البشر على بقية من مجموع الشرائع الصالحة نحو شرائع المصريين واليونان والروم، وعلى اتباع ما دلت عليه الفطرة السليمة مثل عدّ قتل النفس جريمة. فالتغيير والتقرير قد يصادفان أحوالَ بعض الأمم دون بعض وهو الغالب، مثل تحريم الربا، ووجوب المهر، وأداء الدّية. وقد يصادفان أحوال البشر كلَّهم مثل تحريم الخمر، وإبطال الوصية لوارث، وبما زاد على الثلث، وتقرير أنكحة الذين يدخلون في الإسلام. ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم مُعتادَها وأحوالَها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على فساد. ففي الموطأ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قَسْم الجاهلية، وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قَسْم الإسلام" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر 36 كتاب الأقضية، 27 باب القضاء في قسم الأموال، 35. طَ: 2/ 746 - 747. وانظر: 485/ 2.

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: "وهل ترك لنا عقيل من دار! " (¬1)، يريد أن عقيل بن أبي طالب فوتها في حكم الجاهلية فلم ينقضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فتح مكة. ¬

_ (¬1) من حديث أسامة بن زيد قال: يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك عقيل من رباع أو دور ... وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين. انظر 25 كتاب الحج، 44 باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها. خَ: 2/ 157.

يج - نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال

يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال (¬1) إذ قد علمتَ ما تقدم من المبحثين قبل هذا، وفي مبحث المقصد العام من التشريع، والمباحث المتفرّعة عليه، لا يعوزك أن تعلم هنا أن مقصدَ الشريعة من أحكامها كلِّها إثباتُ أجناس تلك الأحكام (¬2) * لأحوال وأوصاف وأفعال من التصرِّفات خاصَّها وعامِّها، باعتبار ما تشتمل عليه تلك الأحوالُ والأوصافُ والأفعالُ من المعاني المنتجة صلاحاً ونفعاً، أو فساداً وضراً، قويين أو ضعيفين. فإيّاك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوطٌ بأسماء الأشياء أو بأشكالها الصورية غير المستوفاة المعاني الشرعية فتقع في أخطاء في الفقه، مثل قول بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير البحر، أنه يحرم أكله، لأنه خنزير (¬3) *، ومن يقول بتحريم ¬

_ (¬1) ينظر هذا إلى القاعدة الكلية الثانية: أحمد الزرقا. شرح القواعد الفقهية: 13 - 35؛ علي حيدر. شرح المجلة، المادة 3: 1/ 18 - 19؛ الأتاسي: 1/ 16 - 18؛ سليم رستم: 2/ 19 - 20؛ منير القاضي: 1/ 55 - 58. (¬2) * عبرت بالأجناس لأني أردت إثبات نحو الوجوب والحرمة، ونحو الصحة والفساد والبطلان، ونحو الغرم والعقوبة والجزاء الحسن وغير ذلك من آثار الأعمال. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) * قد كره مالك أن يسمى خنزير البحر. قال ابن العربي في باب ما جاء في =

نكاح امرأة زوّجها إياه وليها بمهر، وزوج هو ذلك الولي امرأة هو وليها بمهر مساوٍ لمهر الأخرى، أو غير مساوٍ باعتقاد أن هذا من الشغار، لأن شكله الظاهر كشكل الشغار، مُغْمَضَ العينين عن المعنى والوصف الذي لأجله أبطلت الشريعة نكاح الشغار (¬1). ¬

_ = الصدق والكذب من كتابه القبس على موطأ مالك: إن مالكاً سئل أيحل خنزير الماء؟ فقال: أنتم تقولون: خنزير؛ وإنه إنما كره إطلاق هذا الاسم على ما يحل أكله. اهـ. [مخط 89/ 213 مكتبة الحرم. ورقة 93 ب س. 12]. تع ابن عاشور. [انظر في هذا ما تقدم ذكره: 172/ 1]. (¬1) وهو أن ينكح الرجل موليته على أن ينكحه الآخر موليته. وفيه الخلو من المهر وعدم العوض. وذلك بجعل الصداق أو المهر الزواج بامرأة أخرى. وهو نكاح غير جائز، لثبوت النهي عنه بحديث ابن عمر "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار". قال: والشغار أن يتزوج الرجل ابنة الرجل على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق. انظر 28 كتاب النكاح، 11 باب جامع ما لا يجوز من النكاح، ح 24. طَ: 2/ 535؛ انظر 67 كتاب النكاح، 28 باب الشغار. خَ: 6/ 128؛ انظر 16 كتاب النكاح، 7 باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه. م: 2/ 1034. كما روي الحديث عن أبي هريرة. واللفظ لفظ الأول. وزاد ابن نمير فيه: "والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي". ح 61. مَ: 2/ 1035. وقد اجتمع في هذا النكاح مفسدان: عدم تسمية الصداق بينهما، وتوقف زواج إحدى المرأتين على زواج الأخرى. وهذا هو صريح الشغار عند المالكية، ويفسخ قبل الدخول وبعده. وبه قال الشافعي وأحمد. وهو جائز عند أبي حنيفة وأصحاب الرأي، ولكل واحدة من الزوجين مهر مثلها. فإذا سمى لكل واحدة منهما مهراً مساوياً أو غير مساوٍ لمهر الثانية على شرط توقف إحدى الزيجتين على تمام الأخرى فسخ النكاح قبل الدخول، ويمضي بعده بالأكثر من المهر وصداق المثل. وفي حال تسمية المهر لكلتا الزيجتين وعدم اشتراط توقف أحد العقدين على الآخر =

وإنما حقُّ الفقيه أن ينظر إلى الأسماء الموضوعة للمسمَّى أصالة أيام التشريع، وإلى الأشكال المنظور إليها عند التشريع، من حيث إنهما طريق لتعرف الحالة الملحوظة وقت التشريع، لتهدينا إلى الوصف المرعي للشارع كما سيجيء في مبحث نوط التشريع بالضبط والتحديد. ولقد أخطأ من هنا بعض الفقهاء أخطاء كثيرة، مثل ما أفتى بعض الفقهاء بقتل المشعوذ باعتبار أنهم يسمّونه سحاراً، مغمضين أعينهم عن تحقيق معنى السحر الذي ناط الشارع به حكم القتل (¬1) *. فمن حقّ الفقيه إذا تكلّم على السحر أو سئل عنه أن يبيّن ¬

_ = وحصول العقدين اتفاقاً فإنه جائز وإن ماثل شكلاً نكاح الشغار، إذ العبرة للمعاني لا للصورة، خصوصاً وقد فقد الوصف الذي من أجله حرم الشغار. الدردير. الشرح الصغير: 2/ 446؛ محمد الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 60 - 61. (¬1) * هو الذي لأجله عدّ السحر ثاني الموبقات بعد الإشراك بالله في حديث: "اتقوا السبع الموبقات"، وذلك أن السحر يومئذ كان أول معانيه عبادة الجن وتجنب التوحيد والإيمان بالرسول والأديان. وليس كما يفهمه الناس اليوم من ترسيم حروف وطلسمات أو ما جعل لمجرد اللهو والإغراب من أعمال المشعوذين. اهـ. تع ابن عاشور. [حكم الساحر يدخل في عقاب المرتدين والمقاتلين والمتحيّلين على الأموال. ولا يدخل في أصول الدين. وشدّد الفقهاء العقوبة على متعاطي السحر. قال مالك: يقتل ولا يستتاب إن كان مسلماً، وإن كان ذمياً لا يقتل بل يؤدب إلا إذا أدخل بسحره أضراراً على مسلم، فإنه يقتل لأنه يكون ناقضاً للعهد. ورأى مالك أن السحر كفر وشرك ودليلٌ عليه. وقال أبو حنيفة: يقتل الرجل الساحر ولا يستتاب. وأما المرأة فتحبس حتى تتركه. وقال الشافعي: يسأل الساحر عن سحره، فإن ظهر منه ما هو كفر فهو كالمرتد يستتاب، فإن أصر قتل، وإن ظهر منه تجويز تغيير الأشكال ونحوه فحكمه حكم الجناية. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 637 - 638. راجع =

أو يستبين صفته وحقيقته، وأن لا يفتي بمجرد ذكر اسم السحر فيقول: يقتل الساحر ولا تقبل توبته، فإن ذلك عظيم. وقد غلط بعض المفتين فأفتى بحرمة التدخين بورق التبغ في الفم، لأنه لما ظهر التدخين به في أوائل القرن الثامن عشر سمّوه الحشيش، وتوهّموه أنه الحشيش المخدِّر الذي يدخن به الحشاشون (¬1)، وكذلك لما ظهرت الحبوب اليمانية التي نسميها قهوة أفتى بعض العلماء أول القرن العاشر بحرمة منقوعها لأنهم سمّوها القهوة الذي هو اسم الخمر في اللغة العربية، مع أن تسمية تلك الحبوب قهوة اسم محرف من اسم غير عربي هو كفا. [Cafe] ولم يزل الفقهاء يتوخّون التفرقة بين الأوصاف المقصودة للتشريع وبين الأوصاف المقارنة لها، التي لا يتعلق بها غرض الشارع، ويسمّونها الأوصاف الطردية وإن كانت هي الغالبة على الحقيقة الشرعية مثل الكون في البرية في حقيقة الحرابة. فإن ذلك أمر غالب وليس هو مقصودَ الشارع. فلذلك أفتى حذاق الفقهاء باعتبار حكم الحرابة في المدينة إذا كان الجاني حاملاً للسلاح ومخيفاً لأهل المدينة. ولذلك فإن الأسماء الشرعية إنما تعتبر باعتبار مطابقتها للمعاني الملحوظة شرعاً في مسميّاتها عند وضع المصطلحات الشرعية. فإذا تغير المسمَّى لم يكن لوجود الاسم اعتبار. ولذلك يقول فقهاء المالكية: إن صيغ التبرعات قد يستعمل بعضها في بعض. فالعمرى ¬

_ = معنى السحر وموقعه عند العرب وحكمه وآراء الفقهاء فيه. القرافي. الفرق 242، الفروق: 4/ 136. (¬1) القرافي. الفرق الأربعون، الفروق: 1/ 217.

المعقّبة تصير إلى معنى الحبس (¬1)، والحبس المجعول فيه شرط البيع يؤول إلى معنى العمرى (¬2)، والصدقة المشروط فيها حق الاعتصار تؤول إلى الهبة (¬3)، والعطايا المشروط فيها تصرف المعطي في ¬

_ (¬1) العمرى - كما حددها ابن عرفة -: تمليكُ منفعةٍ حياةَ المعطي بغير عوضٍ إنشاءً. الرصاع. شرح الحدود: ق 2/ 550. ولو قال الواهب: أسكنتك هذه الدار وعقبك من بعدك، أو قال: هذه الدار لك ولعقبك سكنى، فهي بمعنى الحبس. قال الباجي نقلاً عن ابن عبد البر: العمرى هبة منافع الملك عمر الموهوب له أو مدة عمره وعمر عقبه لا هبة الرقبة. الزرقاني. شرح الموطأ: 4/ 48. فإن مات فإلى أولى الناس به يوم مات أو إلى ورثتهم. وهذا يفيد التحبيس عليه وعلى عقبه من غير تمليك للعين. الحطاب. مواهب الجليل: 6/ 61. (¬2) قال خليل: وأُتبعَ شرطُه إن جاز، كتخصيص مذهب أو ناظر أو تبدئة فلان بكذا ... أو إن احتاج مَن حُبِس عليه باع. مواهب الجليل من أدلة خليل: 4/ 168. قال الدردير: فيعمل بشرطه. اعلم أن الاحتياج شرط لجواز اشتراط البيع لا لصحة اشتراطه. الشرح الصغير بحاشية الصاوي: 4/ 120. وقال ابن جزي: إن المحبس إذا اشترط شيئاً وجب الوفاء بشرطه. القوانين الفقهية: 281. وفي بلغة السالك في قوله في تعريف الوقف ولا يشترط فيه التأبيد: يؤخذ منه أن اشتراط التغيير والتبديل والإخراج معمول به، وفي المتيطي ما يفيد منع ذلك ابتداء، ويمضي إن وقع. وعند الحطاب عن النوادر وغيرها: أنه إذا شرط في وقفه إن وجد فيه ثمن رغبة بيع واشترى غيره لا يجوز له ذلك. فإن وقع ونزل مضى وعمل بشرطه. الحطاب. مواهب الجليل: 6/ 33؛ البناني: 7/ 85؛ الصاوي: 2/ 277. وإذا تم البيع لم يبق من معنى التحبيس غير الانتفاع بالوقف قبل التفويت فيه فيؤول الحبس إلى معنى العمرى. (¬3) إذ الاعتصار غير جائز في الصدقة. قال مالك: الأمر عندنا الذي =

المعطى إلى موته تؤول إلى الوصية، وإن سَمَّوها حبساً أو هبة أو عمرى. وقالوا: إذا قال ولي المرأة: "وهبت فلانة إليك بمهر كذا" كانت تلك صيغة نكاح ولو سماها هبة (¬1). وقد أنذر النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنذاراً بإنكارٍ بناس من أمته، يشربون الخمر يُسمّونها بغير اسمها. رواه أحمد (¬2) وابن أبي شيبة (¬3). فكما كان تغيير الاسم غير مؤثر في تحليل الحرام كذلك لا يكون مؤثراً في تحريم الحلال. وبعبارة أشمل لا تكون التسمية مناط الأحكام، ¬

_ = لا اختلاف فيه أن كل من تصدق على ابنه بصدقة قبضها الابن، أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن يعتصر شيئاً من ذلك لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة. طَ: 2/ 755. فإذا اشترط الاعتصار انقلبت بذلك الصدقة هبة. قال خليل: وللأب اعتصار موهوبه لولده مطلقاً. ودليل هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ... ". الحديث أخرجه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. انظر: ابن الساعاتي. الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام وشرحه بلوغ الأماني: 15/ 173؛ البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 180. (¬1) قال خليل: والإيجاب قول الولي: أنكحت أو زوجت، بصداق، أو وهبت. اهـ. فبهذه الصيغ ينعقد النكاح. الزرقاني. شرح المختصر: 3/ 168. (¬2) حديث عبادة بن الصامت قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه". حَم: 5/ 318. (¬3) حديث أبي مالك الأشجعي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير". باب من حرم المسكر وقال: هو حرام ونهى عنه. ابن أبي شيبة. المصنف: 8/ القسم 1/ 107، ح 381.

ولكنها تدلّ على مسمًّى ذي أوصاف؛ تلك الأوصاف هي مناط الأحكام. فالمنظور إليه هو الأوصاف خاصَّة. ومن هذا القبيل النهي عن الانتباذ في الحنتم والجر والمزفت. والمقصود أنها يسرع إليها الاختمار، وليس ذلك لمجرد الأسماء.

يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية لا أحسب لمن يتطرّقه شك في قبول الأحكام للقياس حساباً من سعة النظر في الشريعة، ولا أعدّه إلَّا عاكفاً على تلقي الجزئيات المأثورة دون شعور بجهات الاتحاد بين متماثلها في الأحكام، ولا أحسبه إلَّا متحيّراً عند تطلب أحكام لصور وأعمال غير ثابتة في الآثار أحكامٌ لها، وأنه لا يلبث إلَّا أن يجد نفسه مضطراً للقياس، وإذا افتقد نفسه وجد نفسه قد قاس. فإن استقراء الشريعة في تصرّفاتها قد أكسب فقهاء الأمة يقيناً بأنها ما سوّت في جنس حكم من الأحكام جزئيات متكاثرة إلا ولتلك الجزئيات اشتراك في وصف يتعيّن عندهم أن يكون هو موجب إعطائها حكماً متماثلاً. ومن ثمّ استقام لهم من عهد الصحابة إلى هلم جرًا أن يقيسوا بعض الأشياء على بعض، فينوطوا بالمقيسة نفس الأحكام الثابتة بالشرع للمقيس عليها في الأوصاف التي أنبئوا أنها سبب نوط الحكم، وأنها مقصود الشارع من أحكامه. فإن كانت تلك الأوصاف فرعيَّة قريبة سميناها عللاً مثل الإسكار، وإن كانت كليات سميناها مقاصد قريبة مثل حفظ العقل، وإن كانت كليات عالية سميناها مقاصد عالية، وهي نوعان مصلحة ومفسدة. وقد تقدّم ذلك كله. وإنما هرع الفقهاء في التشريع والتفريع إلى القياس على النظائر

والجزئيات، ولم يعمدوا إلى الفحص عن المعاني الكليات القريبة، ولا إلى الفحص عن إثبات وجود الكليين العاليين وهما المصلحة والمفسدة، لأنهم رأوا دلالة النظير على نظيره أقربَ إرشاداً إلى المعنى الذي صرّح الشارع باعتباره في نظيره، أو أومأ إلى اعتباره فيه، أو أوصل الظنُ بأن الشارع ما راعى في حكم النظير إلا ذلك المعنى. فإن دلالة النظير على المعنى المرعي للشارع حين حكم له بحكم مَّا دلالة مضبوطة ظاهرة مصحوبة بمثالها. فقد قال بعض أساطين علمائنا (¬1) *: "ولاستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق" (¬2). فتكفي الفقيه مؤونة الانتشار في البحث عن المعنى من أجناسه العالية. ثم بما فيها من التمثيل والضبط تنتقل بالمجتهد إلى المعنى الذي اشتمل عليه النظير غير المعروف حكمُه، فَيُلْحقُه في الحكم بحُكم كلياته القريبة، ثم بحكم كلياته العالية، إذ لا يعسر عليه ذلك الانتقالُ حينئذ فتتجلى له المراتب الثلاث انجلاء بيِّنًا. ولم يزل من طرق الاستدلال لدى ذوي العقول من الحكماء والرياضيين الوصول إلى الأشياء الدقيقة السامية بواسطة الأشياء الواضحة القريبة. فكذلك نعدّ الفقهاء في عدادهم إذ هي طريقة مثلى لجميع أهل المدارك العالية. ¬

_ (¬1) * هو العلامة الزمخشري في تفسيره المعروف بالكشاف عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ} البقرة: 26. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) ينظر المؤلف إلى قول الزمخشري في تفسيره: ضرب المثل أن التمثيل يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب وإدناء المتوهم من المشاهد ... الزمخشري. الكشاف: (1) 1/ 54 = (2) 1/ 263.

فإذا تقرّر عندك هذا علمتَ أن الأصل في الأحكام الشرعية كلها قبولُ القياس عليها، ما قامت منها معان ملحوظة للشارع. فيجب أن تكون أنواعُ الأحكام التي لا يجري في مثلها القياس قليلةً جداً. من أجل ذلك اختلف أئمة الفقه في جريان القياس في الحدود والكفارات والرُّخَص (¬1)، وفي الأسباب والشروط والموانع (¬2). ومن أجل ذلك اتفقوا على امتناع القياس في إثبات أصول العبادات (¬3). وقد قاس أبو بكر وعمر رضي الله عنهما الجدة للأب على الجدة للأم في الميراث، فجعل أبو بكر السدس بينها وبين الجدة للأم. ففي الموطأ: "جاءت الجدتان إلى أبي بكر. فأراد أن يجعل ¬

_ (¬1) قال الشافعي: القياس يجري في الشرعيات حتى الحدود والكفارات لعموم الدلائل. ومنعه أبو حنيفة فيهما وفي الرخص والتقديرات لأنها لا يدرك المعنى فيها، ولأن التقديرات التي اشتملت عليها الحدود لا تعقل بالرأي. وأجيب بأنه يدرك في بعضها، وبأن عدم معقولية التقادير ابتداء مسلم ولا يضر. السبكي. جمع الجوامع. شرح البناني وتعليقات الشربيني: 2/ 214؛ الأُسنوي. نهاية السول بحاشية محمد بخيت المطيعي: 4/ 35 وما بعدها. (¬2) دليل القائلين بالمنع فيها أن القياس فيها يخرجها عن أن تكون كذلك، إذ يكون المعنى المشترك بينها وبين المقيس عليها هو السبب والشرط والمانع، لا خصوص المقيس عليه أو المقيس. وأجيب بأن القياس لا يخرجها عما ذكر، والمعنى المشترك فيه كما هو علة لها يكون علة لما ترتب عليها. السبكي. جمع الجوامع: 2/ 215 - 216. (¬3) نسب السبكي منع القياس في أصول العبادات إلى قوم. ودليلهم أن الدواعي تتوافر على نقل أصول العبادات وما يتعلق بها. والمراد من أصول العبادات أعظمها وأدخلها في التعبد كالصلاة بخلاف الكفارة. السبكي. جمع الجوامع: 2/ 216.

السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل من الأنصار: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث، فجعل أبو بكر السدس بينهما" (¬1) اهـ. فهذا قياس بطريق إعمال دلالة الفحوى نبّهه إليه كلام الأنصاري، وجعله السدس بينهما تحقيقُ مناطٍ، كشأن كل ذوي فرض إذا تعدّدوا مع انعدام النص على توفير الفرض عند التعدد. وفي الموطأ: "جاءت الجدة أم الأب إلى عمر تسأله ميراثها من ابن ابنها، فقال: ما لكِ في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلَّا لغيرك - يعني ما قضى به أبو بكر باستناد إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في حديث الموطأ - وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً، ولكنه ذلك السدس فإن اجتمعتُما فهو بينكما وأيكما خَلَت به فهو لها" (¬2) اهـ. فقاس في الاشتراك في السدس، وأمسك عن القياس بزيادة الفرض بأن يجعله عند التعدد الثلث قياساً على الإخوة للأم. ¬

_ (¬1) انظر 27 كتاب الفرائض، 8 باب ميراث الجدة، ح 5. طَ: 2/ 513 - 514. (¬2) انظر 27 كتاب الفرائض، 8 باب ميراث الجدة، ح 4. طَ: 2/ 513.

يه - التحيل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمة المقصودة للشريعة

يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة اسم التحيّل يفيد معنى إبراز عمل ممنوع شرعاً في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتدّ به شرعاً في صورة عمل معتدّ به لقصد التفصّي من مؤاخذته. فالتحيّل شرعاً هو ما كان المنعُ فيه شرعياً والمانعُ الشارعَ. فأما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته أو بإيجاد وسائله فليس تحيلاً ولكنه يسمى تدبيراً، أو حرصاً، أو ورعاً. فالتدبير مثل من هوِي امرأة فسعى لتزوّجها لتحلّ له مخالطتها. والحرص كركوع أبي بكرةَ رضي الله عنه لما دخل المسجد فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكعاً وخشي فوات الركعة، وأحب أن يكون في الصف الأول تحصيلاً لفضله، فركع ودبّ راكعاً حتى وصل الصف الأول. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زادك اللهُ حرصاً، ولا تَعُد" (¬1). والورع مثل أن يتخذ من يوقظه إلى صلاة الصبح إذا خشي أن ¬

_ (¬1) انظر 10 كتاب الأذان، 114 باب إذا ركع دون الصف. خَ: 1/ 109؛ انظر 2 كتاب الصلاة، 101 باب الرجل يركع دون الصف، 683، 684. دَ: 1/ 404 - 441؛ انظر 10 كتاب الإمامة، 63 باب الركوع دون الصف. نَ: 2/ 118.

يغلبه النوم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى الغزوات في قضية بلال حين غلبته عيناه، كما في حديث الموطأ (¬1). ومثل التحيل باللفظ الموجه يصدرُ ممن أكره بتهديد بالقتل على أن يقول كفراً أو حراماً مع أن الإكراه يُحلُّ له القول. قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬2). كما يُحكى أن بعض أهل السنة كان في مجلس من غلاة الشيعة، فسئل فيه عن أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: الذي كانت ابنتُه تحتَه، أراد أبا بكر، وظنوا أنه يريد علياً على احتمالي معاد الضمير المضاف إليه "ابنةُ" والضمير المضاف إليه "تحتَ". ومثل اللفظ الخفي الدلالة على العامة يصدر ممن يُخاف فِتنَتَهم، كقول أبي عبد الله البخاري لما امتحن بالسؤال عن كون القرآن مخلوقاً: أقوالنا من أفعالنا وأفعالنا محدثة. ولا يدخل في التحيّل المبوب له التحيّل على الناس في المعاملات بإيقاعهم في لوازم شرعية يجهلونها. وهو المسمى بالتغرير، مثل ادّعاء المُصالح أنه إنما يُصالح ليحصُل على إقرار خصمه له. فالمراد بالتحيّل إذا أطلق في اصطلاح أهل الشريعة هو الذي صدَّرتُ بتعريفه. ولذلك عرفه أبو إسحاق الشاطبي في المسألة ¬

_ (¬1) الحديث طويل انظر 1 كتاب وقوت الصلاة، 6 باب النوم عن الصلاة، 25، 26. طَ: 1/ 13 - 15. والحديث مرسل. وله روايتان الأولى عن سعيد بن المسيب، والثانية عن زيد بن أسلم. وصل أولاهما مسلم عن أبي هريرة، 5 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 55 باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 309. مَ: 1/ 471. (¬2) النحل: 106.

العاشرة من القسم الثاني من كتاب المقاصد من تأليفه تعريفَ التمثيل بقوله: "إن الله أوجب أشياء وحرم أشياء [إما مطلقاً من غير قيد ولا ترتيب على] سبب، كما أوجب [الصلاة و] الصيام [والحج وأشباه ذلك] وحرّم [الزنى و] الربا، [والقتل ونحوها]. وأوجب أيضاً أشياء مرتبة على أسباب، وحرّم أخر كذلك، كإيجاب الزكاة [والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك] و [كـ] تحريم [المطلقة و] الانتفاع بالمغصوب [أو المسروق وما أشبه ذلك]. فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه [بوجه من وجوه التسبب] حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر [أيضاً]، فهذا التسبب يسمّى حيلة وتحيّلاً" (¬1) وذكر أمثلة فارجع إليها (¬2). وهذا هو الذي أراده البخاري رحمه الله من كتاب الحيل من الجامع الصحيح، وأخرج فيه الأحاديث الدالة على إبطالها مُبَوّبة على أبواب من تصرفات المكلَّفين كترتيب كتب الفقه (¬3). ¬

_ (¬1) الشاطبي. الموافقات، المسألة العاشرة في تعريف الحيل وذكر أمثلة منها: (1) 2/ 239 = (2) 2/ 265 = (3) 2/ 379 - (4) 3/ 106. والنقل بتصرف. (¬2) من أمثلة إسقاط الواجب أو تحليل الحرام التسبب في إسقاط الصلاة بشرب الخمر، أو دواء مسبت، أو قصر الرباعية بإنشاء سفر، أو السفر في رمضان ليفطر، أو هبة ماله أو إتلافه بأي وجه من وجوه الإتلاف حتى لا يلزمه الحج ونحو ذلك. ومن أمثلة تحريم الحلال: الزوجة ترضع جارية الزوج أو الضرة لتحرم عليه، والوصية لوارث في قالب الإقرار بالدين. الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 239 - 240 = (2) 2/ 265 - 266 = (3) 2/ 379 - 380 = (4) 3/ 107. (¬3) انظر 90 كتاب الحيل وترتيبه على أبواب الفقه من نحو باب في الصلاة، وفي الزكاة، وفيما حكى من الاحتيال في البيوع وفي النكاح، وفي الهبة =

ولا شك في أن هذا التحيّل باطل. قال أبو إسحاق الشاطبي في القسم الثاني من كتاب المقاصد: "المسألة الثانية عشرة: لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمالُ معتبرةً بذلك، لأنه مقصود الشارع فيها [كما تبين]. فإذا كان العمل في ظاهره وباطنه (أي منفعته وحكمته) على أصل المشروعية فلا إشكال. وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح [وغير مشروع] لأن الأعمال الشرعية (أي المقصود منها الجري على الشرع) ليست مقصودة لأنفسها (أي لمجرد صورها وأشكالها)، وإنما قُصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها. فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات" (¬1). وقال في المسألة الثانية منه: "قصد الشارع من المكلَّف أن يكون قصدُه في العمل موافقاً لقصده - أي الشارع - في التشريع. والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة، إذ قد مرّ أنها موضوعة لمصالح العباد" (¬2). وقال في المسألة الثالثة منه: "إن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد. فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة" (¬3). ¬

_ = والشفعة ونحو ذلك. خَ: 8/ 59 - 67. (¬1) النقل بتصرف. الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 242 = (2) 2/ 268 = (3) 2/ 385 = (4) 3/ 120. (¬2) الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 207 = (2) 2/ 230 = (3) 2/ 331 = (4) 3/ 23. (¬3) الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 208 = (2) 2/ 231 = (3) 2/ 333 = (4) 3/ 27.

ويلخّص معاني كلامه أن الأعمال كلَّها منوطةٌ بأسباب، وأن الأسباب ما جعلت أسباباً إلا لاشتمالها على الحِكم والمصالح التي ضبطها الشرعُ بها، وجعلها علامة عليها، ومعرِّفاً بها. فإذا كان العمل مسلوباً من الحكمة التي رُوعيت في سببه كان فعلُه خلياً عن الحكمة التي لأجلها جعل مُسبَّباً على سببه، مثل القتال له صورة واحدة وأسباب متعددة. فمنه الجهاد، ومنه قتال الفئة الباغية وهما مشروعان ويختلف حكمه فيهما (¬1)، ومنه ما ليس مشروعاً مثل القتال ¬

_ (¬1) دليل مشروعية الجهاد قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} الحج: 78، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...} التوبة: 111، وحديث: "أي العمل أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله". خَ مَ تَ نَ وابن خزيمة عن أبي هريرة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". خَ مَ. وفرضية الجهاد باتفاق الفقهاء عند التقاء الزحفين وتقابل الصفين لقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الأنفال: 45. وعند نزول الكفار ببلد مسلم حماية للدماء ودفعاً لشرهم وقهرهم. الكاساني. البدائع: 7/ 98. وعند استنفار الإمام لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} التوبة: 38. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استنفرتم فانفروا". متفق عليه. أما البغاة: "فكل من نزع يده من طاعة إمامه. فَمَن فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية، ومن خرج عن السلطان شبراً مات ميتة جاهلية". انظر: 92 كتاب الفتن، 2 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: سترون بعدي أموراً تنكرونها. خَ: 8/ 87. وفيه حديث مسلم عن أبي هريرة: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمّيّة يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عهده فليس مني ولست منه"، 33 كتاب الإمارة، 13 باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، ح 53، 54. 55. مَ: 2/ 1476 - 1487؛ انظر حديث أبي ذر، "من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"، 39 كتاب السنة، 27 باب الخوارج، ح 4758. دَ: 5/ 118 - 119؛ انظر حديث عرفجة بن شريح الأشجعي: "فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كائناً من كان فاقتلوه"، 37 كتاب تحريم الدم، 6 باب قتل من فارق الجماعة، ح 4018. نَ: 7/ 92 - 93؛ 28 باب التغليظ فيمن قاتل تحت راية عمية، ح 4111، 4112. نَ: 7/ 123؛ حَم: 2/ 133، 296، 306، 488؛ 3/ 445، 446؛ 5/ 180، 387. ابن الأثير. جامع الأصول: 4/ 69 - 70، ع 2052، 2053. ومن عناهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري: "من حمل علينا السلاح فليس منا". الشوكاني. نيل الأوطار: 7/ 173. وقتال البغاة مشروع في الأساس بقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات: 9. والأمر في قوله سبحانه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} للوجوب وجوب الكفاية، ويتعين بتعيين الإمام جيشاً يوجهه لقتالها. والإصلاح الثاني المأمور به في قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} مقيّد بأن تفيئ الباغية بقيد بالعدل. ومن العدل في الصلح - كما قال ابن العربي -: "أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال. فإنه تلف على التأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح ... ". ولا ضمان عليهم في نفس ولا مال عند المالكية، وقال أبو حنيفة يضمنون، وللشافعي قولان. وحكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم، ولا يتبع =

للغنيمة والقتال للذكر. وفي الحديث: "يقال له: كنت تقاتل ليقال: فلان شجاع؛ فقد قيل" (¬1). وعند صدق التأمل في التحيل على التخلص من الأحكام الشرعية من حيث إنه يفيت المقصد الشرعي كلَّه أو بعضَه، أو لا يفيته، نجده متفاوتاً في ذلك تفاوتاً أدّى بنا الاستقراء إلى تنويعه إلى خمسة أنواع: النوع الأول تحيلٌ يفيت المقصدَ الشرعي كلَّه ولا يعوضه بمقصد شرعي آخر. وذلك بأن يُتحيَّل بالعمل لإيجاد مانع من ترتب أمر شرعي. فهو استخدام للفعل لا في حالة جعله سبباً بل في حالة ¬

_ = مُدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسترق أسراهم. وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدى عليها، والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 26/ 241 - 243. (¬1) ورد بلفظ: "جريء" بدل "شجاع". والحديث لأبي هريرة، وهو طويل. ونص محل الشهادة منه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به. فعرّفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت. ولكنك قاتك لأن يقال: جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار". انظر 33 كتاب الإمارة، 43 باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، ح 152. مَ: 2/ 1513 - 1514، وبترتيب آخر في الثلاثة الذين خلت أعمال البر عندهم من الإخلاص. ولفظه قريب من الأول. انظر 34 كتاب الزهد، 48 باب ما جاء في الرياء والسمعة، ح 2382. تَ: 4/ 591 - 593؛ انظر 25 كتاب الجهاد، 22 باب من قاتل ليقال: فلان جريء، ح 3135. نَ: 5/ 23 - 24.

جعله مانعاً. وهذا النوع لا ينبغي الشكُّ في ذمه وبطلانه، ووجوب المعاملة بنقيض مقصد صاحبه إن اطّلِع عليه. والأدلة من القرآن والسنة الصريحة طافحة بهذا المعنى، بحيث صار قريباً من القطع. وقد ساق أبو عبد الله البخاري جملة منها في كتاب الحيل من صحيحه (¬1). وذكر الشاطبي جملة من الأدلة في المسألة الحادية عشرة (¬2)، وفي بعضها نظر. ¬

_ (¬1) ذكر ابن حجر أن كتاب الحيل اشتمل من الأحاديث المرفوعة على أحد وثلاثين حديثاً، المعلق منها واحد، وسائرها موصول، وكلها مكررة فيه، وفيما تقدمه من الكتب. وفي الكتاب أثر واحد عن أيوب. الفتح: 12/ 351. (¬2) قال الشاطبي قبل إيراد الأدلة المومى إليها: الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة، لكن في خصوصات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها إلى القطع. وقد جعل الشاطبي من الأدلة التي أوردها من القرآن والسنة ما فيه إظهار للطاعة، لقصد دنيوي يتوصل بها إليه، وما هو من قبيل التصرفات التي يراد بها إسقاط الحكم أو قلبه إلى حكم آخر بفعل سائغ أو غير سائغ، وما تدور معانيه منها على قلب الأحكام ظاهراً، وهو غير جائز. الموافقات: (1) 2/ 240 - 242 = (2) 2/ 266 = (3) 2/ 380 - 384 = (4) 3/ 109 - 119. ومن الأدلة المتعَقَّبة على الشاطبي حديث: "ليشربن ناس من أمتي الخمر". إسناده ضعيف ورجاله ثقات غير مالك بن أبي مريم. لم يرو عنه غير حريث، ولم يوثقه غير ابن حبان. قال ابن حزم: لا يدرى من هو. وقال الذهبي: لا يعرف. وقد تضمن الوعيد بالخسف والمسخ. يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير. وهذا يتعارض مع ما هو مقرر من أمن أمته - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. وإن أجيب عنه بأن الأمن المبشر به والوعود هو فيما عدّ ما بين يدي الساعة. والحديث موقوف. ومنها أيضاً حديث النهي =

وهذا مثل من وهب ماله قبل مضي الحول بيوم لئلا يعطي زكاته، واسترجعه من الموهوب له من غد (¬1). ومن شرب مخدّراً ليغمى عليه وقت الصلاة فلا يصليها (¬2). ومثل كثير من بيوع النسيئة التي يقصد منها التوصل إلى الربا (¬3). ¬

_ = عن هدية المِدْيَان. وسنده في السنن الكبرى للبيهقي مطعون فيه. وهو ضعيف. وله علل هي ضعف إسماعيل بن عياش وعتبة بن حميد، وجهالة ابن أبي يحيى، واضطراب إسناده، وكونه موقوفاً. انظر: تع أبي عبيدة، مشهور بن حسن آل سلمان الموافقات: (4) 3/ 113 - 118. (¬1) قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه إذا حال الحول أنه لا يحل التحيل بأن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين متفرق. وقال مالك: من فوت من ماله شيئاً ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول شهراً أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول. وقال أبو يوسف في كتاب الخراج: ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر مغ الصدقة ولا إخراجها عن ملكه لملك غيره ليفوتها بذلك فتبطل الصدقة عنها بأن يصير لكل واحد منهما ما لا تجب فيه الزكاة. وقال محمد: ما احتال به مسلم حتى يبطل حقاً أو يحق باطلاً أو ليدخل به شبهة في حق فهو مكروه، والمكروه عنده إلى الحرام أقرب. ابن حجر. الفتح: 90 كتاب الحيل، 3 باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة: 12/ 330 - 332. (¬2) يكون قد حجب عقله اختياراً، فلا يكون مكلفاً في هذه الحالة. وفي هذه الحيلة مخادعة لله. ومخادعة الله حرام، وتهرب من أداء ما فرض الله من حق قبله. (¬3) وقد ذكر الفقهاء صور ذلك في حديثهم عن بيوع الآجال المتنوعة. وهي كل ما أدى منها إلى حرام يكثر قصده، كسلف جر نفعاً، أو ضمان بجعل، أو شرط بيع وسلف، أو صرف مؤخر، أو بدل مؤخر، أو فسخ =

النوع الثاني تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقل إلى أمر مشروع آخر، أي استعمال الشيء باعتبار كونه سبباً. فإنَّ ترتب المسبب على سببه أمر مقصود للشارع. مثل أن تعرض المرأة المبتوتة نفسها للخطبة رغبة في التزوج مضمرة أنها بعد البناء تخالع الزوج أو تغضبه فيطلقها لتحل للذي بتّها، فالتزوج سبب للحل من حكم البتات. فإذا تزوجت حصل المسبب وهو حصول شرعي. ومثل التجارة بالمال المتجمع خشية أن تنقصه الزكاة، فإنه إذا فعل ذلك فقد استعمل المال في مأذون فيه، فحصل مسبب ذلك وهو بذل المال في شراء السلع. وترتب عليه نقصانه عن النصاب فلا يزكى زكاة النقدين، ولكن انتقلت مصلحة ذلك المال من نفع الفقير إلى منافع عامة تنشأ عن تحريك المال، وانتقَلَتْ زكاتُه إلى زكاة التجارة. وكذلك الانتقال من سبب حكم إلى سبب حكم آخر في حين المكلف مخير في اتباع أحد السببين، فعلم أن أحدهما يكلفه مشقة فانتقل إلى الأخف. مثل من هَوِي سُرّية رجل فسعى ليزوجه إياها ثم علم أنه إن تزوجها وجب عليها الاستبراء بثلاثة أقراء، وأنه إن اشتراها من سيدها فاستبراؤها حيضة فعدل عن تزوجها إلى شرائها. ¬

_ = ما في مؤخر أو غير ذلك من علل المنع. ومثَّلوا لتلك البيوع ببيع الرجل سلعة بعشرة لأجل ثم يشتريها بخمسة نقداً أو إلى أجل أقل، أو بيع الرجل سلعة بعشرة لأجل واشترائه بمثلها للأجل مع اشتراط نفي المقاصة، أو بيعه سلعة بعشرة دنانير لأجل واشترائها بمائة درهم حالة أي ولأجل أقل أو أكثر. الدردير. الشرح الصغير: 3/ 116 - 117.

ومثل من له نصاب زكاة أشرف أن يمر عليه الحول في آخر شهر ذي الحجة فأوجب على نفسه حجاً أنفق فيه ذلك فصادفه الحول وقد أنفق ذلك المال. وهذا النوع على الجملة جائز لأنه ما انتقل من حكم إلا إلى حكم، وما فوّت مقصداً إلا وقد حصّل مقصداً آخر، بقطع النظر عن تفاوت الأمثلة. النوع الثالث تحيل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلك به أمراً مشروعاً هو أخف عليه من المنتقل منه. مثل لبس الخف لإسقاط غسل الرجلين في الوضوء، فهو ينتقل إلى المسح. فقد جعل لبس الخف في سببيته وهو المسح، ولم يستعمله في مانعيته. ومثل من أنشأ سفراً في رمضان لشدّة الصيام عليه في حر أو مدة انحراف خفيف منتقلاً منه إلى قضائه في وقت أرفق به. وهذا مقام الترخّص إذا لحقته مشقة من الحكم المنتقل منه. وهو أقوى من الرخصة المفضية إلى إسقاط الحكم من أصله. النوع الرابع تحيل في أعمال ليست مشتملة على معان عظيمة مقصودة للشارع. وفي التحيل فيها تحقيق لمماثل مقصد الشارع من تلك الأعمال. مثل التحيل في الأيمان التي لا يتعلق بها حق الغير، كمن حلف أن لا يدخل الدار أو لا يلبس الثوب فإن البرّ في يمينه هو الحكم الشرعي، والمقصد المشتمل عليه البر هو تعظيم اسم الله تعالى الذي جعله شاهداً عليه ليعمل ذلك العمل. فإذا ثقل عليه البر فتحيل للتفصي من يمينه بوجه يشبه البر، فقد حصل مقصود الشارع من تهيب اسم الله تعالى.

قال القاضي أبو بكر بن العربي في آخر كتاب العواصم: "وكنت أشاهد الإمام أبا بكر فخر الإسلام الشاشي في مجلسه بباب العامة من دار الخلافة يأتيه السائل فيقول له: حلفت أن لا ألبس هذا الثوب، فيأخذ من هدبته مقدار الأصبع ثم يقول له: البسْه لا حنث عليك" (¬1) اهـ. وللعلماء في هذا النوع مجال من الاجتهاد، ولذلك كثر الخلاف بين العلماء في صوره وفروعه. ومذهب مالك فيه لزوم الوفاء وإلَّا حنث. والشاشي شافعي المذهب، ولعله يفتي بما ذكره ابن العربي لمن يعلم منه أنه إن حنث لم يكفّر، أو لمن يعلم منه أنه لا يجد إطعاماً ولا إعتاقاً وأنه يعجز عن الصوم أو يشق عليه مثل أهل الأعمال البدنية فيفتيه بما ذكر إبقاءً على حرمة اليمين في نفسه. وكان بعض الحنفية يفتي من حلف "لا يدخل الدار" بأن يتسوّرها أو ينزل من باب سطحها (¬2). النوع الخامس تحيل لا ينافي مقصد الشارع، أو هو يعين على تحصيل مقصده، ولكن فيه إضاعة حق لآخر أو مفسدة أخرى. مثل التحيل على تطويل عدة المطلقة حين كان الطلاق لا نهاية ¬

_ (¬1) ابن العربي. العواصم من القواصم: (1) 2/ 213 - 214؛ الرملي: إذا حَلف لا يلبس الثوب الفلاني ثم قطع منه قطعة لا يحنث إن لبسه لأن المحلوف عليه لبسه لجميع أجزاء الثوب وليس بحاصل، الفتاوى، باب الأيمان: 4/ 76 - 77. (¬2) لعلها مقالة الإمام أبي بكر محمد بن الفضل: "يحنث إن كانت اليمين بالعربية، وإن حلف على ذلك بالفارسية لا يحنث لأن تلك الصور لا تعد دخولاً عند الأعاجم، وهو المختار". فتاوى قاضيخان على هامش الفتاوى الهندية: (1) 2/ 77 = (2) 1/ 317 - 318.

له في صدر الإسلام. فقد روى مالك في الموطأ من طريقين: أن الرجل كان إذا طلق امرأته له أن يرتجعها قبل انقضاء عدتها ولو طلقها ألف مرة. فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها، وقال: والله لا آويك إلي ولا تَحِلين أبداً (¬1). فأنزل الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2)، وأنزل: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (¬3) اهـ. فجعل الله صورة الفعل المشروع استهزاء بالشريعة لمّا قصد بها إضرار الغير. ونسخ بذلك عدد الطلاق فصار لا يتجاوز الثلاث. ويأتي في الاعتداد للثلاث من المقصد ما أتى في الاعتداد قبل التحديد. وكذلك من تزوج المرأة المبتوتة قاصداً أن يحلّلها لمن بتّها فإن فعله جار على الشرع في الظاهر، وخادم للمقصد الشرعي من الترغيب في المراجعة، وفي توفر الشرط وهو أن تنكح زوجاً غيره، إلَّا أنه جرى لعن فاعله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رواية عبد الله بن مسعود في سنن الترمذي وقال: هو حسن صحيح (¬4). ولا أَحْسَبُ ¬

_ (¬1) انظر 29 كتاب الطلاق، 29 باب جامع الطلاق 80، 81. طَ: 2/ 588. والحديث الأول مرسل وصله الترمذي عن عائشة، 11 كتاب الطلاق، 16 باب حدثنا قتيبة، ح 1992. تَ: 3/ 497. (¬2) البقرة: 229. (¬3) البقرة: 231. (¬4) رواه محمود بن غيلان، ثنا أبو أحمد الزهري، ثنا سفيان عن أبي قيس عن هذيل بن شُرَحْبيل عن عبد الله بن مسعود قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المُحِلَّ والمحلَّل له". انظر 9 كتاب النكاح، 28 باب ما جاء في المحل والمحلل له، ح 1120. والحديث صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من =

التغليظَ فيه إن صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا لما فيه من قلة المروءة، لأن شأن التزوُّج أن يكون لقصد المعاشرة فلا يجعل الرجل زوجه عرضة لغيره، أو لما فيه من توقيت النكاح إن قلنا بحرمة نكاح المتعة، أو لكليهما، فكل منهما جزءُ علة. ولقد اختلف العلماء في تحليل المبتوتة بذلك النكاح وعدم تحليلها (¬1). والمسألة ذات نظر، لأن المفسدة راجعة إلى المحلِّل لا إلى المحلَّل له، إلَّا إذا كان إبطال ذلك النكاح معاملة بنقيض المقصد الفاسد من الحيلة. وفي الحديث الصحيح: "لا يُمنع فضلُ الماء لِيُمنع به الكلأ" (¬2)، فمنعُ فضل الماء المملوك جائز لأنه تصرف في المملوك ¬

_ = أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب وعثمان وعبد الله بن عمرو وغيرهم. وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا ... وقال سفيان: إذا تزوج المرأة ليحللها ثم بدا له أن يمسكها فلا يحل له أن يمسكها حتى يتزوجها بنكاح جديد. تَ: 3/ 428 - 429. (¬1) الحديث دليل على تحريم التحليل عند الجمهور، وعلى كراهة النكاح المشروط به التحليل عند صاحب الهداية. وظاهره يقتضي التحريم كما هو مذهب أحمد. ذلك أن اللعن يقتضي النهي عن هذا الفعل وحرمته. والحرمة في النكاح تقتضي عدم الصحة. قال الخطابي في المعالم: إذا كان التحليل عن شرط بينهما فالنكاح فاسد لأن العقد متناه إلى مدّة كنكاح المتعة، وإذا لم يكن شرطاً وكان نية وعقيدة فهو مكروه. ذكره غير واحد من العلماء أن يضمرا أو ينويا أو أحدهما التحليل وإن لم يشترطاه. وقال النخعي: لا يحلها لزوجها الأول إلا أن يكون نكاح رغبة. فإن كانت أحد الثلاثة الأول أو الثاني أو المرأة تُقَدِّرُ أنه محلل فالنكاح باطل، ولا تحل للأول. المباركفوري. التحفة: 4/ 264 - 267. (¬2) انظر 42 كتاب الشرب والمساقاة، 2 باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى. خَ: 3/ 75؛ 90 كتاب الحيل، 5 باب ما يكره من =

بناء على عدم وجوب المعروف وهو قولنا، ولكن لمَّا اتخذ حيلة إلى منع الكَلَأ الذي حوله لأن الرعاة لا يرعون مكاناً لا ماء فيه لسقي ماشيتهم، صار منع الماء منهياً عنه. وكذلك القول في إبطال الحيلة اللفظية في الأيمان التي تقطع بها الحقوق فكانت الأيمان على نية المستحلِف. فإذا تقرَّرت هذه الأنواع لدى من يستعرضها بفهم ثاقب، ويجعل المكابرة ظهرياً، يوقن بأن ما يجلب لصحة التحيل الشرعي من الأدلة إنما هي أدلة غير متبصر بها ولا يعسر عليه بعد هذا تنزيلها منازلها وإبداء الفروق بينها. فأما ما كان منها وارداً في آثار شريعتنا فمخارجه ظاهرة، مثل الأعمال التي جعلت لها صور غير جارية على أحكام نظائرها المقررة، إما لوقوعها في مبدأ التشريع فرخص فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل ما روي في الموطأ (¬1) وصحيح مسلم (¬2) أنه لما أُبطل التبني وكان سالم مولى أبي حذيفة مُتبنًى لأبي حذيفة، فجاءت سَهلة بنت سُهيل زوج أبي حُذيفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن سالماً يدخل علينا وأنا فضل، وليس لنا إلَّا بيت واحد، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرضِعيه ¬

_ = الاحتيال في البيوع، ولا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ، حديث أبي هريرة خَ: 8/ 61؛ انظر 17 كتاب البيوع، 62 باب في منع الماء، 3473. دَ 3/ 747 - 749؛ انظر 12 كتاب البيوع، 44 باب ما جاء في بيع فضل الماء، 1272. تَ: 3/ 572؛ انظر 16 كتاب الرهون، 19 باب النهي عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، 2478، 2479. جَه: 2/ 828؛ انظر 36 كتاب الأقضية، 25 باب القضاء في المياه، 29. طَ: 2/ 744. (¬1) و (¬2) تقدم التخريج: 2/ 77.

تَحرُمي عليه" فقالت: يا رسول الله كيف أرضعه وهو كبير؟. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "قد علمتُ أنه رجل كبير" فقال نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما نرى هذا إلَّا رخصة أرخصها رسول الله لسالم خاصة. وأَبَيْنَ أن يدخُلَ عليهن أحد بهذه الرضاعة. فهل يشك الفقيه في أن هذه رخصةٌ أوجبتها شدة حدوث إبطال حكم التبنّي مع عدم سبق تمهيد له، ولا أخذٍ لعُدته عند بعض الناس؟ فكان الترخيص بالإذن مع التماس وجه صوري للإذن جمعاً بين الرفق في ابتداء التشريع وبين حصول صورة حكم شرعي ليحصل احترام الحكم الشرعي، لتكون مخالفة الحكم في جزئية خاصة في ابتداء الأمر مشوبة بحرمة الحكم. ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأزواجه - بعد ذلك لا محالة -: "انظرن من يدخل عليكن بالرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة" (¬1). وكذلك ما ورد في حديث الرجل الذي زوجه رسول الله المرأة التي عرضت نفسها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الرجل لما قال: "لا أجد لها مهراً" قال له رسول الله: "قد زوجتكها بما معك من القرآن" (¬2). فتلك خصوصية جعلت لها صورة تشبه الصور المعروفة، ¬

_ (¬1) انظر 52 كتاب الشهادات، الحديث الأخير من 7 باب الشهادة على الأنساب والرضاع، حديث عائشة إنما الرضاعة من المجاعة. خَ: 3/ 150؛ انظر 46 كتاب النكاح، 51 باب القدر الذي يحرم من الرضاعة. نَ: 6/ 100 - 102. (¬2) انظر 66 كتاب فضائل القرآن، 21 باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ح 3. خَ: 6/ 108؛ 67 كتاب النكاح، 37 باب إذا كان الولي هو الخاطب، ح 2. خَ: 6/ 134؛ 40 باب السلطان ولي. خَ: 6/ 134؛ انظر 9 كتاب النكاح، ح 2030، الباب الثاني في ما جاء في مهور النساء، =

إبقاء على حرمة حكم المهر بقدر الإمكان على أحد تأويلين في معنى قوله: "بما معك من القرآن". وأما ما كان من شريعة سابقة فلا نطيل القول في تأويله، إذ ليس بين أيدينا من بقية فروع تلك الشريعة ما يقنعنا في معرفة مقدار مخالفة الصورة الظاهرة المدعوة عندنا بالحيلة لبقية أحكام تلك الشريعة. فقوله تعالى في قصة أيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (¬1) ورد تفسيره بأنه حلف أن يضرب امرأته ضربات. ولما ذهب غضبه أشفق عليها، أي وتوقَّف في برّ يمينه - فأمره الله بأن يضربها بضغث من عصي. فلعل ذلك شرع شرعه الله له، فيكون أحد وجهين في برّ الحالف بمثل تلك اليمين، كما شرع لنا في الإسلام الكفارة، أو لعل تلك رخصة رخّصها الله لنبيه فإن الله يحلّ لنبيه ما شاء، إذ كان معصوماً من أن يستخف بحرمة اسم الله تعالى. وأما قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (¬2) فنحن في غُنية عن الخوض فيه، لأن تلك حيلة على تحصيل أمر محبوب لا يوجد لمنعه شرع إلهي محترم. ألا ترى قوله: {فِي دِينِ الْمَلِكِ}، والملك هو فرعون. فإضافة الدين إليه إيماء إلى أنه ليس بدين إلهي. كما استدلوا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "خذيها واشترطي لهم ¬

_ = 1114 تَ: 3/ 421 - 422؛ انظر 9 كتاب النكاح، 17 باب صداق النساء، 1889. جَه: 1/ 608؛ انظر 11 كتاب النكاح، 19 باب ما يجوز أن يكون مهراً، ح 2207. دَي: 2/ 463. (¬1) ص: 44. (¬2) يوسف: 76.

الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" (¬1)، إذ لا يخفى على المتأمل أن ما يلوح فيه من الحيلة إنما هو حيلة على بائع بريرة. ولنا في بيان توجيه معناه تحرير ذكرناه في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ (¬2). وقد تقدم شيء منه في بحث انتصاب الشارع للتشريع (¬3). وبعد، فمن الغفلة أن يُقاس على مثل هذه الحيل فَتُجعلَ أصلاً للقياس عليها، مع تحقق أن الحيلة لا تشتمل على معنى وحكمةٍ تصحح القياس عليها، إذ قد اتفقنا على أن الحيلة مخالفة للحِكَم ومُفيتة للمقصد. ولذلك سميت حيلة. فكيف نجعلها أصلاً للقياس عليها! وكيف يُلحِق بها النظائرَ من يمنع القياس على الرخص! وقد اتضح لك من الأمثلة المتقدمة الفرقُ بين أن يستعمل الفعل المتحيَّل به بصفة كونه سبباً لتحصيل مسبّبه فيفوّت مسبّب سبب آخر، وبين استعماله الحيلة بصفة كونها مانعاً من فعل آخر سواءً كانت مع ذلك سبباً في فعل لا يشبه الفعل الذي قام له المانع أم لم تكن سبباً في شيء. فزده إتقاناً بتكثير أمثلته. ¬

_ (¬1) تقدم: 115/ 1. (¬2) انظر ذلك في: فصل "من لا ميراث له" من كتاب الفرائض. فهو بعد نقله كلام الباجي في هذا الموضوع، ومقالة الزرقاني أفاد بنقله عن جده الوزير أن قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} الأحزاب: 5، يراد منه الولاء المطلق وهو الأعم ولا يرث به إلا الرجال. فليست المرأة مستحقة إياه، وإنما ثبت لها ميراث خاص بالعتق. وهو ولاء خاص بحديث بريرة. ابن عاشور. كشف المغطى: 242 - 244. (¬3) تقدم للمؤلف كلام في هذا حيث جعل مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة من باب الإشارة عليها بحق شرعي وليست تشريعاً أو فتوى، ولو كان كذلك للزم الشرط وكان معارضاً لما في خطبته: "إن الولاء لمن أعتق": 115/ 2.

يو - سد الذرائع

يو - سد الذرائع (¬1) هذا المركب لقب في اصطلاح الفقهاء لإبطال الأعمال التي تؤول إلى فساد معتبر، وهي في ذاتها لا مفسدة فيها. قال المازري (¬2) في شرح التلقين لعبد الوهاب (¬3): "سدّ الذريعة: منع ما يجوز لئلا يُتَطرَّق به إلى ما لا يجوز" (¬4) *. ¬

_ (¬1) الذرائع: جمع ذريعة. وهي في الأصل: دابة تشد في موضع ليأوي إليها البعير الشارد، لأنه كان يألفها قبل شروده. فإذا رآها اقترب منها فأمسكوه. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) تقدم: ص 19/ 1. (¬3) هو القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي. الحافظ الحجة النظار 363 - 421. أخذ عن الأبهري، وتفقه بابن القصار وابن الجلاب والباقلاني وعبد الملك المرواني. وتفقه به ابن عمروس وعبد الحق بن هارون وابن الشماع والمازري. له: المختصر لمذهب مالك، والمعونة، وشرح الرسالة، والممهد، والتلقين، وشرح المدونة، والإشراف. وهو من عناه المعري بقوله عند زيارته للمعرة: والمالكي ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً ... وينشر الملك الضليلَ إن شعرا مخلوف: 1/ 103 - 104، ع 266. (¬4) * في طالع باب بيوع الآجال. اهـ. تع ابن عاشور. [وعبارة المازري: فالجواب عن السؤال الأول أن يقال إن حقيقة الذريعة عند الفقهاء أنها منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز ... وقال =

ولهذا المبحث تعلق قوي بمبحث التحيّل، إلَّا أن التحيّل يُراد منه أعمال يأتيها بعض الناس في خاصة أحواله، للتخلّص من حقّ شرعي عليه بصورة هي أيضاً معتبرةٌ شرعاً حتى يظن أنه جارٍ على حكم الشرع. وأما الذرائع فهي ما يفضي إلى فساد سواء قصد الناس به إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوا، وذلك في الأحوال العامة. فحصل الفرق بين الذرائع وبين الحيل من جهتين: جهة العموم والخصوص، وجهة القصد وعدمه. وأيضاً الحيلُ المبحوث عنها لا تكون إلَّا مُبطلةً لمقصد شرعي، والذرائع قد تكون مبطلة لمقصد الشارع من الصلاح، وقد لا تكون مبطلة كما سنبيّنه في تقسيمها. فهذا فرق ثالث. واعلم أن إفضاء الأمور الصالحة إلى مفاسد شيء شائع في كثير من الأعمال، بل ربما كان ذلك الإفضاء إلى الفساد غير حاصل إلَّا عند كمال الأمور الصالحة. مثل النار فإن حالة كمالها، وهو اشتعالها الذي به صلاح الموقدين، هي حالة إفضائها إلى مفسدة الإحراق. فاعتبار الشريعة بسد الذرائع يحصل عند ظهور غلبة مفسدة المآل على مصلحة الأصل. فهذه هي الذريعة الواجب سدُّها. وقد قسم شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع والتسعين والمائة ذريعةَ الفساد إلى ثلاثة أقسام: - مُجمَع على عدم سدّه، مثل زراعة العنب خشية ما يعتصر منه من الخمر، ومثل التجاور في البيوت خشية الزنا. ¬

_ = بعده: وهي حماية الذريعة إلى أن يتطرق بالحلال إلى الحرام. مخط. الوزير المدينة: 2/ 373 - 374].

- ومجمعٌ على سدّه، كحفر الآبار في طريق المارة دون سياج. - ومختلف فيه، مثل بيوع الآجال (¬1). ولم يبحث عن وجوب الاعتداد ببعض هذه الذرائع دون بعض. وما هو عندي إلَّا التوازنُ بين ما في الفعل - الذي هو ذريعةٌ - من المصلحة وما في مآله من المفسدة، فترجع إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد. وقد قدمناها في مبحث المقصد العام من التشريع (¬2). فما وقع منعُه من الذرائع قد عظم فيه فساد مآله على صلاح أصله، مثل حفر الآبار في الطرقات. وما لم يقع منه قد غَلَب صلاح أصله على فساد مآله كزراعة العنب، على أن في احتياج الأمة إلى تلك الذريعة بقطع النظر عن مآلها، وفي إمكان حصول مآلها بوسيلة أخرى، وعدم إمكانه، أثراً قوياً في سدّ بعض الذرائع وعدم سد بعضها. ولا يظنّ أن المراد باحتياج الأمة إلى الذريعة اضطرارُها إلى وجودها، بل المراد به أنه لو أبطل ذلك الفعل الذي هو ذريعة لحق جمهوراً من الناس حرجٌ. فإن العنب تستطيع الأمة أن تستغني عنه إلا أن في تكليفها ذلك حرماناً لا يناسب سماحة الشريعة. فكانت إباحة زراعة العنب بهذا الاعتبار أرجحَ مما تؤول إليه من اعتصار نتائجها خمراً، بخلاف التجاور في البيوت فإنه لو مُنع لكان منعه حرجاً عظيماً يقرب مما لا يطاق. فهو حاجي قوي للأمة، على أن ما يؤول إليه من الزنا مثال بعيد، وإن كانت مفسدته أشدَّ من تناول الخمر. فمقصد سد الذرائع مقصد تشريعي عظيم استفيد من استقراء ¬

_ (¬1) القرافي. الفرق 194 بين قاعدة ما يسدّ من الذرائع وقاعدة ما لا يسدّ منها. الفروق: 3/ 266؛ وانظر 2/ 32. (¬2) تقدم: 243 - 255.

تصرّفات الشريعة في تشاريع أحكامها، وفي سياسة تصرّفاتها مع الأمم، وفي تنفيذ مقاصدها. فله في الشريعة ثلاثة مظاهر. وقد تأمّلنا فوجدنا الذريعة على قسمين: قسم لا يفارقه كونه ذريعة إلى فساد بحيث يكون مآله إلى الفساد مطرداً، أي بحيث يكون الفساد من خاصة ماهيته، وهذا القسم من أصول التشريع في الشريعة. وعليه بنيت أحكام كثيرة منصوصة، مثل تحريم الخمر. وقسم قد يتخلّف مآله إلى فساد تخلفاً قليلاً أو كثيراً. وهذا القسم بعضه كان سبباً للتشريع المنصوص، مثل منع بيع الطعام قبل قبضه، وبعضه لم يحدث موجبه في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكانت أنظار الفقهاء فيه من بعده متخالفة. فربّما اتفقوا على حكمه، وربّما اختلفوا، وذلك تابع لمقدار اتضاح الإفضاء إلى المفسدة وخفائه، وكثرته وقلّته، ووجود معارض ما يقتضي إلغاء المفسدة وعدم المعارض، وتوقيت ذلك الإفضاء ودوامه. والقسم الأول أصل القياس في هذا الباب. والقسم الثاني يتجلَّى فيه القياس ويخفى، بحسب ما يرى الفقيه من قربه من الأصل المقيس عليه وبعده. فيرجع مراعاة هذه الذرائع إلى حفظ المصالح ودرء المفاسد، مثاله بيوع الآجال التي لها صور كثيرة. قال مالك بمنعها لتذرعّ الناس بها كثيراً إلى إحلال معاملات الربا التي هي مفسدة (¬1). فرأى مالك أن قصد الناس إلى ذلك أفضى إلى ¬

_ (¬1) قال القاضي عبد الوهاب: وقد دلت السنة على أن تحريم ما صيّر إلى الحرام كتحريم قصده. وفي حديث ابن رشد عن سد الذرائع مقارنة بين المذاهب في اعتماد هذه القاعدة وإعمالها. قال: وأباح الذرائع الشافعي وأبو حنيفة =

شيوعها وانتشارها، فحصلت بها المفسدة التي لأجلها حرّم الربا. فذلك هو وجه اعتداد مالك بالتهمة فيها، إذ ليس لقصد الناس تأثير في التشريع، لولا أن ذلك إذا فشا صار القصد - مآل الفعل - هو مقصوداً للناس فاستحلوا به ما منع عليهم. ولم أر من فهم هذا المعنى من نكت مالك، حتى أن بعض حذاق الفقهاء يقول: إذا كان المنع منها لأجل التهمة كان حقاً أن لا يمنع ما صدر منها عن أهل الدين والفضل. كما أشار إليه القرافي في الفرق الرابع والتسعين والمائة (¬1)، وليس كما ظن. فإن المقاصد لا تأثير لها في اختلاف التشريع، وإنما جعلت علامةً على التمالي على إحلال المفسدة الممنوعة. ألا ترى أن المقصد لا يؤثر في غير هذه الأحوال. فإن كانت عادته المعاملة بالربا في الجاهلية فأسلم فحوّل معاملته إلى السَّلَم لم يكن في فعله منع، لأنه وإن كان قد استبدل أرباحه من الربا بأرباحه من السَّلَم قد سلِمت معاملتُه من المفسدة التي تشتمل عليها معاملات الربا وحرمت لأجلها، واشتملت معاملته على المصلحة التي لأجلها أبيح السَّلَم. وليست الشريعة نكاية ¬

_ = وأصحابهما. والصحيح ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ومن قال بقوله، لأن ما صيّر إلى الحرام وتطرّق به إليه حرام مثله. المقدمات: 2/ 524. وفي مقدمة الذخيرة: وثالثها - يعني القسم الثالث من الذرائع - مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا، وحاصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة بنا. القرافي. الذخيرة: (1) 1/ 145 = (2) 1/ 152 - 153؛ التنقيح: 448 - 449؛ الفروق: 2/ 32 وما بعدها. (¬1) القرافي. التنبيه الذي ذيل به الفرق بين قاعدة ما يسدّ من الذرائع وقاعدة ما لا يسدّ منها، الفروق: 3/ 268.

كما قدمناه حتى تحرمه من ربحه الجاري على الطريقة المشروعة لأجل مقصده. فيظهر لنا أن سَد الذرائع قابل للتضييق والتوسع في اعتباره بحسب ضعف الوازع في الناس وقوته، كما سيأتي في مبحث الوازع (¬1). ولولا أن لقب سدَّ الذرائع قد جعل لقباً لخصوص سدّ ذرائع الفساد كما علمت آنفاً، لقلنا: إنّ الشريعة كما سدّت الذرائعَ فتحت ذرائعَ أخرى، كما قال شهاب الدين القرافي في كتاب تنقيح الفصول (¬2). فأما وقد درجنا على أن اصطلاحهم في سدّ الذرائع أنه لقب خاص بذرائع الفساد فلا يفوتنا التنبيه على أن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها، بأن جعلت لها حُكْمَ الوجوب، وإن كانت صورتُها مقتضيةً المنعَ أو الإباحة. وهذه المسألة هي الملقَّبة في أصول الفقه بأن ما لا يتم الواجب إلَّا به هو واجب. وهي الملقّبة في الفقه بالاحتياط. ألا ترى أن الجهاد في صورته مفسدةُ إتلاف النفوس والأموال، وهو آيل إلى حماية البيضة وحفظ سلامة الأمة وبقائها في أمن. فكان من أعظم الواجبات، إذ لو تركوه لأعقبهم تركه تلفاً أعظم بكثير مما يُتْلِفُهم الجهاد. وهذه جزئية من جزئيات قاعدة تقسيم الأعمال إلى وسائل ومقاصد. وسنذكرها في القسم الثالث (¬3)، فلا ينبغي أن يختلط المبحثان على الناظر. وممّا يجب التنبّه له في التفقّه والاجتهاد التفرقةُ بين الغلو في ¬

_ (¬1) انظر: 362 وما بعدها. (¬2) انظر التنقيح: 448 - 449. (¬3) انظر: 399 وما بعدها.

الدين وبين سدّ الذريعة، وهي تفرقةٌ دقيقة. فسدُّ الذريعة موقعُه وجودُ المفسدة، والغلوُّ موقعُه المبالغة والإغراق في إلحاق مباح بمأمور أو منهي شرعي، أو في إتيان عمل شرعي بأشدَّ مما أراد به الشارع، بدعوى خَشية التقصير عن مراد الشارع. وهو المسمى في السّنة بالتّعمق والتنطّع (¬1). وفيه مراتب، منها: ما يدخل في الورع (¬2) * في خاصة النفس الذي بعضُه إحراجٌ لها، أو الورع في حمل الناس على ¬

_ (¬1) هما بمعنى المغالاة في الكلام والتكلم بأقصى الحلق. وفي زبدة شرح الشفاء: وصف للخائضين فيما لا يعني، وقيل: هم المتكلفون للبحث عن مذاهب أهل الكلام الخائضون فيما لا يبلغ عقولهم. ونعى الطيبي في شرح المشكاة على أهل اللسان ما يرومونه من سبي قلوب الرجال بسبك الكلام. وفي الحديث: "لن تزالوا بخير ما عجلتم الفطر، ولم تنطّعوا تنطّع أهل العراق"، أي تتكلفوا القول والفعل. ومنه: "إياكم والتنطع والاختلاف" أراد النهي عن الملاحاة في القراءات المختلفة. وقال النووي في شرح مسلم: نطع: أي بسط. محمد طاهر الصديقي الجراتي. مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، مادة نطع: 4/ 724 اللسان. (¬2) * الورع: يرجع إلى طلب حصول اليقين مما نحن مكلفون فيه بالظن، مثل التحري في رسم القبلة بالقواعد الفلكية التي لم نُكَلَّف بها، واستمرار الإمساك في رمضان حصة بعد الغروب لتقوية التحقق للغروب، وكذلك ابتداء الإمساك فيه زماناً قبل الفجر، وأعظم منه تجنب السواك للصائم. وصوم يوم الفطر إذا ثبت الشهر برؤية الهلال عند الغروب إذا كان قد رأوه صباحاً وقت الفجر. ومنه ما يدخل في الوسوسة مثل المبالغة في صب الماء عند الغسل والوضوء. ومنه إلحاق مباح بمأمور ومنهي. فذلك من عمل بعض المجتهدين نادراً مثل القول ببطلان صلاة من مرّ حمار بين يديه، ومثال إتيان عمل شرعي بأشد مما أراده الشارع، كصوم المريض المتعب. اهـ. تع ابن عاشور.

الحرجِ، ومنها ما يدخل في معنى الوسوسة المذمومة. ويجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنّبوا مواقع الغلو والتعمق في حمل الأمة على الشريعة، وما يُسنُّ لها من ذلك. وهو موقف عظيم.

يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد بيّنتُ فيما سلف أن مقصد الشريعة في إناطة أحكامها أن تكون مرتبةً على أوصاف ومعان. وأقفّي ذلك هنا بأن الشريعة لما قصدت التيسير على الأمة في امتثال الشريعة وإجرائها في سائر الأحوال، عمدت إلى ضبطٍ وتحديدٍ يتبيّن به جلياً وجودُ الأوصاف والمعاني التي راعتها الشريعة. فبذلك قد نصبت للعلماء أمارات التشريع بالأوصاف والمعاني المراعاة في التشريع، ونصبت لِمَن دونهم حدوداً وضوابطَ تحتوي على تلك المعاني التي قد تخفى على أمثالهم، وهي صالحة لأن تكون عوناً للعلماء تَهدِيهم عند خفاء المعاني في الأوصاف أو وقوع التردد فيها. كما كانت الحدود والضوابط هاديةً لمن انحطّ عن درجة العلماء إلى أن يرتقي قليلاً إلى فهم المعاني والأوصاف المقصودة من التشريع فيما تحتويه تلك الضوابطُ من المعاني والأوصاف الخفية. فلذلك لم يكن لمتعرِّف مقاصدِ الشريعة غِنَى عن معرفة جميع ما ذكرناه. وهذا مسلك قد دقّ على كثير من الفقهاء. وقد أشار إليه قول مالك في بيع الخيار من الموطأ. فقد أخرج حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬1). ثم قال مالك عقبه: "وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به [فيه] " (¬2) ¬

_ (¬1) تقدم: 71/ 3. (¬2) تقدم: 43/ 3.

يعني: أنه قد تعذَّر جعلُه أصلاً في تشريع خيار المجلس، لخلوِّه عن تحديد مقدار المجلس، وعدم وجود عمل في شأنه يفسّره. فإن المجلس لا ينضبط، وقد يكونان في سفينة أو في شُقْدُف (¬1). ولأجل هذا نجدهم في تعليل القياس يوجهون أنظارهم إلى التعليل بالأوصاف الظاهرة المنضبطة، مع أنهم يصرحون بأن تلك الأوصاف يحصل من وجودها معنى هو المسمَّى بالحِكمة أو المصلحة أو درء المفسدة. ولقد تنزَّهتِ الشريعةُ عن أن لا تكون أحكامُها منوطة بالانضباط، فإن من صفات حُكم الجاهلية الذي حذّر الله منه بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (¬2) عَدَم الانضباط، إذ كانت أمورُهم تجري على خواطر تعرض عند وقوع الحوادث. كما كان حكمُ الطلاق والرجعة غير ذي نهاية، وذلك ما جاء القرآن بإنكاره في قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (¬3). وكذلك قسمة مال الميت. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق (¬4): "لم يكن أهل الجاهلية يعطون الزوجة مثل ما نعطيها، ¬

_ (¬1) جمعه شقادف. مركب أكبر من الهودج يستعمله العرب، ويركبه الحجاج إلى بيت الله الحرام. الوسيط. (¬2) المائدة: 50. (¬3) البقرة: 231. (¬4) هو الجهضمي الأزدي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي 200 هـ بالبصرة - 282 هـ ببغداد. فقيه مالكي جليل التصانيف، معدود في طبقات القراء وأئمة اللغة. من بيت مشهور بالعلم والفضل والعدالة والجلالة. انتشر به مذهب مالك بالعراق، وعن أفراده وأعلامه أخذ. وقد تخرج بالفقيه أبي إسحاق إسماعيل كثير من أهل العراق. له: الموطأ، وأحكام القرآن، والمبسوط، ومختصره، وكتاب في الفرائض، =

ولا يعطون البنات ما نُعطيهم. وربّما لم تكن لهم مواريث معلومة يعملون عليها" (¬1). وكذلك عدد الزوجات وكيفية لحوق الأنساب. ولا يستثنى من ذلك إلا أحكامٌ قليلة مثل مقدار الدية في العامة والخاصة: كانت ديّةُ العامة عندهم مائةً من الإبل، وديَّةُ السادة ضِعفَها أو أكثر، ويسمى عندهم التكايل (¬2). وجاءت أحكام الإسلام ¬

_ = وشواهد الموطأ، وكتاب الاحتجاج بالقرآن، وكتاب الأصول، وكتاب الشفاعة، وكتاب في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان معظَّماً بين قومه. وقد قام المبرد حين مرّ به هذا الفقيه اللغوي ذات يوم فقبّل يده وأنشده: كريم إذا ما أتى مقبلاً ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما فلا تنكرنّ قيامي له ... فإن الكريم يجل الكراما ابن فرحون. الديباج: 1/ 282؛ الخطيب. تاريخ بغداد: 6/ 284؛ مخلوف: 1/ 65، ع 55. (¬1) طريقة التوارث في الجاهلية كما ورد في التفسير الكبير: أنهم كانوا يتوارثون بشيئين: أحدهما النسب، وما كانوا يورّثون الصغار ولا الإناث وإنما كانوا يورّثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة. وثانيهما العهد، وهو إما على وجه الحلف لقولهم فيه: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وإما على وجه التبنّي، وهو من أنواع المعاهدة. الرازي: 9/ 203. (¬2) التكايل: من الكيل، والأصل في ذلك أن التكايل والمكايلة المكافأة بالسوء وترك الإغضاء والاحتمال فهي المقايسة بالقول والفعل. ونقل اللفظ من هذا إلى الدلالة على التفاوت في الدماء بحسب تفاوت السؤدد والشرف في القصاص في الجاهلية. وهو ما أبطله الإسلام كما قالت الطائية بنت بهدل بن قرقة: أما في بني حصن من ابن كريهة ... من القوم طلاب التِّرات غَشَمْشَمِ فيَقتُلَ جبراً بامرئ لم يكن له ... بواءً ولكن لا تكايل بالدم ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 136.

في تلك الأبواب كلها مبطلةً للفوضى المتَبَّعة، وما ذلك إلا بالضبط والتحديد. ولذلك أمرت الشريعة بالمحافظة على حدودها، فلو صلى [المرءُ] الظّهر قبل الزوال بطلت صلاته. وقد استَقْرَيْتُ من طرق الانضباط والتحديد في الشريعة ستَ وسائل: الوسيلة الأولى: الانضباط بتمييز المواهي والمعاني تمييزاً لا يتقبل الاشتباه، بحيث تكون لكل ماهيةٍ خواصُّها وآثارُها المرتبةُ عليها، مثل طرق القرابة المبيّنة في أسباب الميراث، وفي تحريم من حُرّم نكاحه. فتعيَّنَ المصيرُ إليها دون ما لا ينضبط من مراتب المحبة والصداقة والنفع والتبنّي، ولذلك قال الله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬1). وقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (¬2). وقال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬3). وفي الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب أبا بكر ابنتَه عائشةَ، قال له أبو بكر: إنما أنا أخوك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت أخي وهي حلال لي" (¬4). ومن هذا نوط حُكم شرب الخمر بحصول ¬

_ (¬1) النساء: 11. (¬2) الأحزاب: 4. (¬3) الأحزاب: 37. (¬4) حديث عروة ولفظه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب عائشة إلى أبي بكر. فقال له =

الإسكار القليل من مثله دون كونه شرابَ عنب أو فضيخَ تمر (¬1). وقولي: "لا يقبل الاشتباه" أردتُ به أن لا يقبل الاشتباه عند نظر الفقيه المتبصّر في خواص المواهي الشرعية، وإن كان قد يبدو لبعض الناس مشتبهاً في بعض المواهي المتقاربة الصفات كما قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2). فالبيع والربا قد يشتبهان في الأصل بكون كليهما معاملة مالية، مقصودة منها الربح، ولا سيما إذا كان في البيع تأجيل. وقد نبَّه الله تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3) إلى أنه ما أحلَّ أحدهما وحرّم الآخر إلَّا لأجل اختلاف المعنى والخواص. فالبيع معاملة من جانبين وببذل العوضين، والربا معاملة من جانب واحد هو جانب المسلِف لقصد سدّ حاجة المتسلّف. ومن آثار ذلك أن أبيح للمتعاوضين في البيع تطلب الأرباح ولم يُبَح للمتعاقدين في التسلّف تطلبُ الأرباح، بل إمَّا أن يعطي قصداً لسدّ الحاجة وإمَّا أن يمسك. الوسيلة الثانية: مجرد تحقّق مسمّى الاسم، كنَوط الحد في الخمر بشرب جرعة من الخمر، لأنه لو نيط الحد بحصول الإسكار لاختلف دبيب السكر في العقول، فلم يكد ينضبط. فلا يتحقق حالُ حصول الحد إلا بعناء والتباس. ولو نيط بنهاية السكر وهو حد الإطباق لحصلت مفاسد جمة قبل حصول تلك النهاية. وكذلك نوطُ ¬

_ = أبو بكر: إنما أنا أخوك. قال: "أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال". انظر 67 كتاب النكاح، 11 باب تزويج الصغار من الكبار. خَ: 6/ 120. (¬1) كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسكر كثيره فقليله حرام، وكل مسكر حرام". وقد تقدم تخريجه: 148/ 3. (¬2) البقرة: 275. (¬3) البقرة: 275.

صحة بيع الثمار بحصول الاحمرار والاصفرار في أصناف التمر، ونوطُ تقرر إكمال المهر بمجرد المسيس، ونوطُ لزوم العقود بحصول صيغها من إيجاب وقبول. الوسيلة الثالثة: التقدير، كنُصُب الزكوات في الحبوب والنقدين، وعدد الزوجات ونهاية الطلاق، ونصاب القطعِ في السرقة عند القائلين بالنصاب، وأقل المهر، والمسافة المعتبرة في انتقال وليِّ المحضون عن بلد الحاضنة بستة بُرُد عند المالكية. الوسيلة الرابعة: التوقيت، مثل مرور الحول في زكاة الأموال، وطلوع الثريا في زكاة الماشية (¬1)، ومرور أربعة أشهر في الإيلاء، والحول في بعض العيوب، والشهرين في الإعسار بالإنفاق، وأربعة أشهر وعشر في عدة الوفاة، والحول في سقوط الشفعة. ومن ثمَّ قال بعضُ علمائنا بعدم تصديق المعتدّة في انقضاء عدّتها في أقلّ من خمسة وأربعين يوماً. وقال ابن العربي بعدمه في أقل من ثلاثة ¬

_ (¬1) طلوع الثريا في زكاة الماشية عبارة توقيتية لإخراج زكاة الماشية. وبهذا اللفظ وردت في المختصر. قال خليل: "وخرج الساعي طلوع الثريا بالفجر". قال الزرقاني: خروج الساعي لجباية الزكاة كل عام. وطلوع الثريا بالفجر أول فصل الصيف عند اجتماع أرباب المواشي بمواشيهم على المياه للتخفيف عليهم وعلى السعاة. وهذا عمل أهل المدينة، كما نبّه عليه القرافي في ذخيرته. القرافي. الذخيرة: 3/ 101. الزرقاني. شرح مختصر خليل: 2/ 126. وقد حدد بعض الفقهاء أوان طلوع الثريا بقوله: وطلوعها بالفجر منتصف أيار على حساب المتقدّمين، وعلى حساب المغاربة والفلاحين السابع والعشرين من بشنس والشمس في عاشر درجة من برج الجوزاء. قاله السنهوري. تيسير الجليل شرح مختصر خليل. انظر: السراج. الحلل السندسية: 1/ 183. وورد ذكر خروج الثريا عند ابن حجر، الفتح: 4/ 314.

أشهر (¬1). وبه عمل أهل إفريقية ميلاً للضبط والتحديد. الوسيلة الخامسة: الصفات المعيِّنة للمواهي المعقود عليها، كتعيين العمل في الإجارة، وكالمهر والولي في ماهية النكاح ليتميّز عن السفاح. الوسيلة السادسة: الإحاطة والتحديد، كما في إحياء الموات فيما بَعُد عن القرى، بحيث لا يصل إلى الأرض دُخان القرية، وكمنع الاحتطاب من الحرم عدا الإذخر، وحدود الحِرز في تحقّق معنى السرقة تفرقة بينها وبين الخلسة. ¬

_ (¬1) حكى الرأي الأول الفلالي، بقوله نقلاً عن مختصر النهاية: قال في الكتاب - يعني: المدونة -: قضى أبان بن عثمان في مطلقة ادعت بعد خمسة وأربعين يوماً أن عدّتها قد انقضت أنها مصدّقة وتحلف. وليس العمل على أن تحلف. قال في غير المدونة: ولا تصدق في أقل من ذلك وبه جرى العمل عند الشيوخ ... العمليات: 82. وإلى هذين الرأيين أشار الفلالي بقوله: إن عادة النساء عندنا مرة واحدة في الشهر. وقد قلّت الأديان في الذكران فكيف بالنسوان! فلا أرى أن تمكن المطلقة من الزواج إلا بعد ثلاثة أشهر من يوم الطلاق، ولا يسأل عن الطلاق كان في أول الطهر أو آخره. ابن العربي. أحكام القرآن، المسألة السابعة: 1/ 255.

يح - نفوذ الشريعة

يح - نفوذ الشريعة تكسبك المباحث المتقدمة أن من مقاصد الشريعة أن تكون نافذة في الأمة، إذ لا تحصل المنفعة المقصودة منها كاملة بدون نفوذها. فطاعة الأمة الشريعة غرض عظيم. وإن أعظم باعث على احترام الشريعة ونفوذها أنها خطابُ الله تعالى للأمة. فامتثال الأمة للشريعة أمر اعتقادي تنساق إليه نفوس المسلمين عن طواعية واختيار، لأنها تُرضي بذلك ربَّها، وتستجلب به رحمتَهُ إياها، وفوزَها في الدنيا والآخرة. وقد قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (¬1). فالأحكام الشرعية المتلقاة من الرسول عليه الصلاة والسلام كُلُّها وحي من الله تعالى. ثم لم يزل أئمة الشريعة من عهد الصحابة فما بعد يتوخّون أن تكون آراؤهم في استنباط الأحكام مستخرجةً من التفريع عن أصول الكتاب والسنة. ولذلك كانوا كثيراً ما يشدّدون النكيرَ على القول بالرأي غير المستند إلى ذلك. واستتب للشريعة أن تسلك لتحصيل ذلك مسلكين سلكتهما جميعاً. المسلك الأول مسلك الحزم في إقامة الشريعة. والمسلك الثاني مسلك التيسير والرحمة بقدر لا يفضي إلى انخرام مقاصد الشريعة. ¬

_ (¬1) المائدة: 15.

فأما المسلك الأول فقد مهدته الشريعة بالترهيب والموعظة، كقول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1) وغير ذلك من الآيات. وفي الحديث الصحيح: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ" (¬2). وفي قضية بريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله. من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" (¬3). ومن هنا نشأت في الفقه قاعدة: إن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً (¬4)، ولها فروع كثيرة. وقاعدة: إن النهي يقتضي الفساد (¬5)، ¬

_ (¬1) البقرة: 229. (¬2) انظر 34 كتاب البيوع، 60 باب النجْش ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، وأوله: الخديعة في النار. خَ: 3/ 24؛ 53 كتاب الصلح، 5 باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ح 2، ولفظه: "من أحدث في أمرنا" خَ: 3/ 167؛ 96 كتاب الاعتصام، 20 باب إذا اجتهد العالِم أو الحاكم فأخطأ ولفظه الأول. خَ: 8/ 156؛ انظر 30 كتاب الأقضية، 8 باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، ح 18، حديث القاسم بن محمد عن عائشة. مَ: 2/ 1343 - 1344؛ انظر 34 كتاب السنة، 6 باب في لزوم السنة، 4606 من حديث القاسم بن محمد عن عائشة وبلفظ: "مَن أحدث"، وقال ابن عيسى: "من صنع". دَ: 5/ 12 - 13؛ انظر مقدمة، 2 باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتغليظ على من عارضه: "من أحدث"، ح 14. جَه: 1/ 7. (¬3) تقدم: 115/ 2. (¬4) انظر: المقري. القواعد، القاعدة التاسعة بعد المائة: المعدوم شرعاً كالمعدوم حقيقة، وهو المشهور عند المالكية: 1/ 333 - 334. الونشريسي. إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، القاعدة الثانية: المعدوم شرعاً هل هو كالمعدوم حساً أو لا؟: 138 - 140. (¬5) ورد تفصيل هذه القاعدة واختلاف الآراء فيها عند القرافي. الفروق: =

وهي مسلَّمَةٌ في أصول الفقه وعلم فروعه، لأنه لا ينبغي أن تتساهل الأمةُ في تفريط مقاصد الشريعة، لأن الاسترسال في ذلك يتسرَّى فيهم إلى إضاعة معظم الشريعة. ولذلك نرى الشريعة تحافظ على أحكامها في الأحوال التي يتحقق فيها عدم فوات المقصد، مثل منع الوصية للوارث بما دون الثلث مع أنها أباحت للموصي أن يعطي لغير الوارث. فكان الظاهر أن إعطاء الثلث لبعض الورثة أولى بالجواز. ولكنّ منعَه إنما هو للمحافظة على مقصد المواريث. وهو تعيين أنصباء للورثة لا يتجاوزها الناس إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية. فلذلك منعت الوصية للوارث مطلقاً، وأنفذت للأجنبي في الثلث. ولإكمال الوصول إلى الغاية من هذا المسلك أقام نظامُ الشريعة أمناءَ ووَزَعَةً لتنفيذ أحكامها ومقاصدها في الناس بالرغبة والرهبة أعني بالموعظة والقوة. كما أشار إليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬1). وقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحدود، وبعث الأمراء والقضاة إلى الأقطار البعيدة عنه، بحيث صار ذلك من المتواتر من ¬

_ = قاعدة اقتضاء النهي الفساد في نفس الماهية، واقتضائه الفساد في أمر خارج عن الماهية، الفرق السبعون: 2/ 82. ابن الوكيل. الأشباه والنظائر: 1/ 119؛ الجويني. البرهان: 1/ 283؛ الغزالي. المستصفى: 1/ 315؛ الرازي. المحصول: 1 ق 2/ 486؛ الآمدي. الأحكام: 2/ 275؛ الأصفهاني. بيان المختصر: 2/ 88؛ ابن حزم. الإحكام: 3/ 259؛ ابن النجار. شرح الكوكب المنير: 3/ 83؛ العلائي. تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد. (¬1) الحديد: 25.

فعله عليه الصلاة والسلام (¬1). وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) إن كتب السيرة وكتب السنة طافحة بهذه الأخبار. فإقامة الحدود كانت تَقع بين يديه - صلى الله عليه وسلم - وبإذنه. وقد تولى ضرب الأعناق بمحضره علي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن عمرو ومحمد بن سلمة وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح والضحاك بن سفيان الكلابي. ابن القيم. زاد المعاد: 1/ 127. وقام - صلى الله عليه وسلم - بإرسال رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. فكان منهم دعاة ومبلغون عنه كتبه. أرسل عمرو بن أمية الضَّمري إلى النجاشي، ودحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل قيصر الروم، وعبد الله بن حُذافة السَّهمي إلى كسرى، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، وشجاع بن وهب الأسدي إلى ملك البلقاء الحارث بن شمر الغساني، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة، وعمرو بن العاص إلى عُمان يدعو جَيْفَر وعبد الله ابني الجُلَندى الأزديين، والعلاء بن الحضرمي إلى ملك البحرين المنذر بن ساوى العبدي، والمهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كُلال الحميري باليمن، وأبا موسى الأشعري ومعاذاً وعلي بن أبي طالب إلى اليمن، وجرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري وذي عمرو، وعمرو بن أمية الضمري إلى مسلمة والسائب بن العوام إليه أيضاً، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي أرسله بكتاب إلى الحارث ومسروح ونعيم بني عبد كلال من حمير. ابن القيم. زاد المعاد: 1/ 119 - 124. وَوُلِّيَ على أطراف البلاد أمراء يديرون شؤونها يعلمون الناس دينهم ويقضون بينهم. وُلِّي باذان بن ساسان على أهل اليمن ومن بعده ابنه شهر بن باذان على صنعاء وأعمالها، وجعل مكانه بعد وفاته خالد بن سعيد بن العاص؛ وولى المهاجرَ بن أبي أمية المخزومي كندة والصَّدَف، وزياد بن أمية الأنصاري حضرموت، وأبا موسى الأشعري زبيد وعدن والساحل، ومعاذ بن جبل الجَنَد، وأبا سفيان صخر بن حرب نجران، وابنه يزيد تيماء، وعتاب بن أسيد مكة، وعلي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها، وعمرو بن العاص عُمان وأعمالها، وأبا بكر إقامة الحج. ابن القيم. زاد المعاد: 1/ 125 - 126. وعقد الألوية لأمراء السرايا وجعل على سرية نخلةَ عبد الله بن جَحش =

"يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" (¬1). فكان من أصول نظام الحكومة الإسلامية إقامةَ الخلفاء والأمراء والقضاة وأهل الشورى في الإفتاء والشرطة والحسبة ونواب كلٍّ، ليتم تنفيذُ الأحكام المتعلقة بالحقوق العامة للأمة، والأحكام المتعلقة بالحقوق الخاصة بين أفراد الأمة. وشَرَطَت في أنواع هذه الولايات من الصفات الذاتية والعقلية والعلمية ما تستقيم به الأمورُ الموكولةُ إليهم على الوجه الأكمل، كما أشار إليه الشهاب القرافي في الفرق السادس والتسعين والفرق الثالث والعشرين والمائتين (¬2). ¬

_ = الأسَدي، وأرسل عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي فقتله، وغالب بن عبد الله الكلبي إلى بني المُلَوَّح بالكَديد، وبشير بن سعد إلى جموع من يمن وغطفان وحيان، وابن أبي حَدْرَد الأسلَمي إلى رجل من جُشَم بن معاوية، وعبد الله بن حُذافة السهمي وعمرو بن العاص إلى جماعة من قضاعة، وأبا عبيدة بن الجراح في سرية الحَبَط، وخالد بن الوليد إلى بني جذيمة، وقُطْبَة بن عامر بن حديدة إلى خثعم، والضحاك بن سفيان الكلابي في سرية إلى بني كلاب، وعلقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة، وعلي بن أبي طالب إلى صَنَم طيء ليهدمه، وخالد بن الوَليد إلى أكَيدر دُومة. ابن القيم. زاد المعاد: 3/ 167، 243، 362، 363، 364، 366، 368، 386، 389، 415، 514، 517، 538. (¬1) مقالة عثمان هذه وردت بألفاظ قريبة من التي اشتهر بها. قال مالك: بلغني أن عثمان قال: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن. وفي لفظ آخر: ما يزع الإمام الناس أكثر مما يزعهم القرآن. قال: يزعهم: يكفُّهم. ابن عبد البر. التمهيد: 1/ 118؛ ابن رشد. البيان والتحصيل: 17/ 59. وفي النهاية في مادة وزع فيها: من يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. أي من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن يكفه مخافة القرآن والله تعالى. ابن الأثير: 5/ 180. (¬2) انظر: الفرق السادس والتسعين بين قاعدة من يتعين تقديمه وبين قاعدة من =

وأما المسلك الثاني، مسلك التيسير والرحمة، فإنّ الشريعة كما علِمتَ قد بُنيت على سهولة قبولها في نفوس الناس، لأنها شريعة فطرية سمحة، وليست نكايةً ولا حرجاً كما تقدم. فهي تحمل الناس على المصالح حملاً أقصى ما يمكن أن يكون الحمل من الرحمة والتيسير، إذ لا فائدة في التشريع إلا العمل به. وقد كان تيسير الشريعة ذا مظاهر ثلاثة: أحدها: أن أحكامها المعيّنة مبنية على التيسير نظراً لغالب الأحوال كما قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) ونحو ذلك. والمظهر الثاني: أنها تعمد إلى تغيير الحكم الشرعي من صعوبة إلى سهولة في الأحوال العارضة للأمة أو الأفراد، فتيسّر ما عرض له العسر، قال الله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، (¬3) وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬4). ولذلك كان من أصول قواعد التشريع قاعدة المشقّة تجلب التيسير (¬5). وهذا هو مبحث الرخصة. ¬

_ = يتعين تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية. القرافي. الفروق: 2/ 157 - 163، والفرق الثالث والعشرين والمائتين بين قاعدة ما ينفذ من تصرفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك، وهو خمسة أقسام. القرافي. الفروق: 4/ 39 - 48. (¬1) الحج: 78. (¬2) البقرة: 185. (¬3) الأنعام: 119. (¬4) البقرة: 173. (¬5) راجع في هذا: الزرقاء. شرح القواعد الفقهية، القاعدة السادسة عشرة: 105 - 110.

والمظهر الثالث: أنها لم تَترك للمخاطبين بها عذراً في التقصير في العمل بها، لأنها بنيت على أصول الحكمة والتعليل والضبط والتحديد. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬1)، وقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) المائدة: 50. (¬2) البقرة: 138.

يط - الرخصة

يط - الرخصة إذ قد اقتحمنا الحديث على الرخصة كان حقاً أن نفيَ مبحثَ الرخصة حقَّهُ من البيان، لأني وجدتُ بعضَ أنواع الرخص مغفولاً عن التعرض لها (¬1). فقد أطبقت كلمةُ الفقهاء على أن الرخصة تُغَيِّر الفعلَ من صعوبة إلى سهولة، لعذر عرض لفاعله، وضرورةٍ اقتضت عدمَ اعتداد الشريعة بما في الفعل المشروع من جلب مصلحة أو دفع مفسدة مقابلَ المضرَّة العارضة لارتكاب الفعل المشتمل على المفسدة، وَمثّلوا الرخصة بأكل المضطر الميتة. قال الشاطبي: "إن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف وكلاهما أصل كلي" (¬2) *. غير أني رأيت الفقهاء لا يمثلون إلَّا بالرخصة العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار. ونحن إذا تأمّلنا الرخصة فوجدناها ترجع إلى عروض المشقة والضرورة صحَّ لنا أن ننظر إلى عموم الضرورة وخصوصها. فقد وجدنا من الضرورات ضروراتٍ عامةً مطردةً كانت سببَ ¬

_ (¬1) ط (1) الأولى: ورد بدل عن التعرض لها، المثبتة هنا ما نصّه: "عن اعتبارها عند الفقهاء". والإصلاح من المؤلف وبخطه من نسخته ط (1) المصححة، كذا في ط. الاستقامة: 132. (¬2) * الموافقات: صفحة 93، جزء 1، طبع تونس. اهـ. تع ابن عاشور [= (2) 1/ 112 = (3) 1/ 168 = (4) 1/ 263].

تشريع عام في أنواع من التشريعات مستثناة من أصول كان شأنها المنع، مثل السَّلَم والمغارسة والمساقاة، فهذه مشروعة باطِّراد. وكان ما تشتمل عليه من أضرار وتوقع ضياع المال مقتضياً منعَهَا لولا أنّ حاجات الأمة داعيةٌ إليها، فدخلت في قسم الحاجي، كما قال الشاطبي في مبحث الرخصة والعزيمة (¬1) *، فكان حكمها حكم المباح باطَّراد. وكذلك وجدنا من الضرورات ضروراتٍ خاصةً موقتة جاء بها القرآن والسنة كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬2). وقد اقتصر الفقهاء عليها في تمثيل الرخصة. وبينَ القسمين قسم ثالث مغفول عنه وهو الضرورة العامة الموقّتة. وذلك أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها، تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة، وإبقاء قوتها، أو نحو ذلك. وهذا التوقيت وهذا العموم في هذا القسم مقول على كليهما بالتفاوت. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدرُ من اعتبار الضرورة الخاصة، وأنَّها تقتضي تغييراً للأحكام الشرعية المقرِّرة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. وليست أمثلةُ هذا النوع من الرخصة بكثيرة. فمنها الكراء المؤبّد الذي جرت به فتوى علماء الأندلس: ابن سراج (¬3) ¬

_ (¬1) * نفس المصدر: صفحة 180، جزء 1، طبع تونس. اهـ. تع ابن عاشور [= (2) 1/ 210 = (3) 1/ 302 = (4) 1/ 464]. (¬2) البقرة: 173. (¬3) هو أبو القاسم محمد بن سراج الغرناطي 848 بغرناطة. مفتيها وقاضي الجماعة بها. حامل لواء المذهب مع التحصيل. أخذ عن ابن لب والحفار وابن علاق وجماعة، وعنه أبو يحيى بن عاصم والسرقسطي =

وابن منظور (¬1)، في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع لما تحتاجه أرض الزرع من قوة الخدمة ووفرة المصاريف [لطول تبويرها] (¬2)، وزهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لمثلها. ولإباية الباني أو الغارس أن يبني أو يغرس ثم يقلع ما أحدثه في الأرض. فأفتى ابن سراج وابن منظور بكرائها على التأبيد، ورأيا أن التأبيد لا غرر فيه لأنها باقية غير زائلة (¬3) *. ¬

_ = وابراهيم بن فتوح والراعي والمواق وأبو عمر بن منظور. له: شرح المختصر الذي اعتمده المواق. وذكر له الونشريسي جملة من الفتاوى. مخلوف: 1/ 248، ع 893. (¬1) هو الإمام الكبير أبو عمرو أو أبو عمر محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن منظور الأندلسي الغرناطي. كان قاضي الجماعة بغرناطة، معمّر توفي بعد 887 هـ. أخذ عن أبيه القاضي أبي بكر وعن ابن سراج وغيرهما. كان رفيقاً لابن الموّاق وهو الذي نقل عنه في سنن المهتدين، كما نقل عنه شراح خليل في باب الميراث. له: فتاوى ذكر بعضها في المعيار، وعنه أبو القاسم بن أبي طاهر الفهري، وأجاز الحافظ التنسي. القرافي. توشيح الديباج: 269؛ التنبكتي. نيل الابتهاج: (2) 558 ع 684. (¬2) الإضافة من ط. الاستقامة: 134 لكن المؤلف ضرب عليها بخطه. (¬3) * انظر فتواهما في المعيار للونشريسي. اهـ. تع ابن عاشور. [فتوى ابن سراج: قد يباح بيع الحبس ويباع من الحبس ما لا منفعة منه في الحبس. الونشريسي. المعيار: 7/ 140، 153. وفتوى ابن منظور: الجزاء كراء على التبقية. ويجري فيه حكم الكراء أنه لا بد فيه من مدة معلومة، ولكن جرت العادة أن الجزاء يمضي حكمه ويستمر وسكنت نفوس الناس لذلك. الونشريسي. المعيار: 5/ 37 - 38. وأجاز القاضي أبو الحسن سيدي علي محسود بيع أرض المساكين أيام المسغبة لعيشهم وحياة أنفسهم بل جعله أمراً حتماً. المعيار: 7/ 332].

ثم تبعهما على ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني (¬1) في إحكار الأوقاف (¬2). وجرى العمل بذلك في المغرب في فاس وتونس في العُقَد المسماة عندنا في تونس بالنَّصبة والخلو (¬3) وأُلحق بها الإِنزالُ، ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن اللقاني 873 - 958 هـ. أقرأ العلم نحواً من ستين سنة، وانحصر الأزهر في تلامذته وتلامذتهم. واستفتي من سائر الأقاليم. له: طرر على التوضيح، وحاشية على المحلي، وأخرى على شرح السعد للعقائد، وشرح على خطبة المختصر. مخلوت: 1/ 271، ع 1006. (¬2) جوز ناصر الدين اللقاني أخذ الخلو للمستأجر، لأنه يملك المنفعة. كذا قاله الزرقاني وعقب عليه بأنه لم يقف على ذلك. وإنما كانت الفتوى تتعلق بحكم خلو الحوانيت وصحة إرثه وخلاص الدين منه. ونصها: بعد الحمدلة: نعم إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوت مورثه عملاً بعرف ما عليه الناس، وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال، وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه فإنه يُوفّى من خلو حانوته. الزرقاني. شرح مختصر خليل: 6/ 128. وإحكار الأوقات والحكر والتحكير والاستحكار والإجارة الطويلة والإنزال بمعنى عند أهل تونس، ويعرف بالجزاء عند المغاربة. وهو عقد إجارة يقصد به إبقاء الأرض الموقوفة في يد المستأجر الذي يسمى محتكراً ما دام يدفع أجر المثل. ابن عابدين: 5/ 20، وعرّفه زهدي يكن وذكر بعض أنواعه. الوقف في الشريعة والقانون: 101 - 104، 121 - 124؛ أحمد الغرقاوي الفيومي. رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية: 4؛ محيي الدين قادي. بدل الخلو في الفقه الإسلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة: ع 4، ج 3، 2248. (¬3) الخلو، كما عرفه الشيخ علي الأجهوري: اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلها. وهو يقع على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يتسلم ريعاً داراً أو حانوتاً أو رحى أو ما أشبه ذلك - =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من مالكه أو ناظر وقفه أو مستحقه - لينتفع بذلك بالسكنى ووضع آلة صناعته وضروب تجارته وغير ذلك مما يقبله المكان ويحتاج إليه فيما يراد منه، ويكري ذلك إن أحب ويهب ويعير وغير ذلك من أنواع التصرفات، على وجه لا يملك معه صاحب الريع إخراجه ولا إزالة يده عنه، على أن يدفع له عوضاً معجلاً، ويلتزم له بقدر من الكراء سنوي أو شهري. فلا يبقى لصاحب الريع من منفعته إلا قدر ذلك الكراء، وما زاد عليه فهو لدافع العوض على سبيل الملكية الخالدة الأبدية. فهذه المنفعة التي تقابلها الزيادة عن الأجرة الأصلية هي المسماة بالخلو إن كانت في حانوت، وتسمى عندنا أيضاً بالمفتاح، وإن كانت في دار يعمرها اليهود سميت عندهم بالحزقة. فالخلو والمفتاح والحزقة اسم لشيء واحد. وهو المنفعة المذكورة بشرطها وهو الاستمرار. والوجه الثاني: أن يكتري المرء حانوتاً أو رحى أو ما أشبه ذلك من رباع الغلة مشاهرة أو مساناة أو وجيبة لمدة معينة، وشمتمر على ذلك لعدم من يزيد عليه في الكراء، أو لعدم احتياج أرباب الحوانيت إليها فلا يخرجونه، فتعرف تلك الحانوت بإضافتها لمعمرها وتصير له يد فيها يقدم بها على غيره. فإذا بدا له الخروج منها تخلى عنها لغيره، وأخذ منه عوضاً على ذلك، وتَنَزَّل الآخر منزلته. وكثر ذلك وفشا حتى صار عرفاً. فمن أكرى ريعاً يراد للغلة فإنما يكريه على التبقية وأنه لا يخرج مكتريه، وتكون له يد يُقدَّم بها على غيره إذا وضع فيه آلته وموازينه. وهذه المنفعة التي يستحقها هذا المكتري بالسبق والتقدم هي المسماة عند المغاربة بالجلسة، وتسمى أيضاً خلواً. وفائدة الخلو والجلسة عندهم هو عدم إزالة يد صاحبها. فالخلو كراء على التأبيد والتبقية، وإن حدوه في الظاهر بمدة، فإن ذلك التحديد غير مراد لانعقاد الضمائر على خلافه. وفائدة الخلو في هذه الصورة الاستمرار. ويسمى عندنا في تونس النصبة وهو ما يقع في بعض حوانيت العطارين وغيرهم، وراغلة إن كان في حانوت سوقي أو صابون، وعدة إن كان في طاحونة. الوجه الثالث: أن الخلو في عرف مصر لا يقابل المنفعة أصلاً، وإنما يتوصل =

وفي فاس بالجَلسة والجزاء (¬1). ومنها فتوى علماء بخارى من الحنفية ببيع الوفاء في الكروم، لحاجة غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها كل سنة، فاحتاجوا إلى اقتراض ما ينفقونه عليها (¬2). وقد يطرأ من الضرورات ما هو أشد من ذلك فالواجب رعيُه وإعطاؤه ما يناسبه من الأحكام. وفي قواعد عز الدين بن عبد السلام في أواخر قاعدة المستثنيات من القواعد الشرعية في المعاوضات: "لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد [فيها] حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ¬

_ = به لتخليد المحل بيد المستأجر على معنى أنه لا يزاد عليه في الأجرة، وبتقدير أن يزاد لا تقبل تلك الزيادة ولو كانت الأجرة الأولى دون أجرة المثل بكثير. ومتى أراد رب الخلو خروجاً أخذه بتمامه بل ربما زاد عليه. إسماعيل التميمي. رسالة في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين: 1 - 6. انظر: مجموع مسائل الإنزالات والخلوات والكردار وما يتبعها على مشهور المذهبين الحنفي والمالكي. (¬1) وهو كراء الأرض على التأبيد لمن يبني بها داراً أو غيرها أو يغرس بها أشجاراً بكراء شهري أو سنوي، وهو جار بتونس ويعرف عند المغاربة بالجزاء، وفي الأندلس بسينسو، وعند المصريين بالحكر. إسماعيل التميمي: 7. وبالإطلاق الأخير نجده عند الشيخ محمَّد العزيز جعيط بدليل ما أورده في المادة 1293 من قوله: إن كان الواقف للأرض غير الواقف للبناء، وكانت الأرض في تصرف واقف البناء بوجه الحكر (الإنزال)، وقوله في نفس المادة: فإن كانت الأرض محتكرة - (متنزلة) - كذا في المادة 1294 فإن كانت الأرض محتكرة، مستنزلة فوقف الشجر صحيح وإلا فلا. انظر: لائحة مجلة الأحكام الشرعية: 432 - 433. (¬2) تقدم: 275/ 1.

ما تدعو إليه الحاجة. ولا يقف تحليلُ ذلك على الضرورات لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد [واستيلاء أهل الكفر والعناد] على بلاد الإِسلام، ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع التي تقوم بمصالح [الأنام]. ولا يُتبسط في هذه الأموال كما يُتبسط في المال الحلال بل يقتصر في ذلك على ما تمس إليه الحاجة [دون أكل الطيبات وشرب المستلذات ولبس الناعمات التي هي بمنزلة التتمات]. وصورة هذه المسألة أن يُجهل المستحِقون بحيث يتوقع أن نعرفهم في المستقبل. ولو يئسنا من معرفتهم لَمَا تصورت هذه المسألة, لأنه يصير - أي المال - حينئذ إلى المصالح العامة. وإنما جاز تناول ذلك قبل اليأس من معرفة المستحقين, لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة. ولو دعت ضرورةٌ إلى غصب أموال الناس لجاز له (¬1) * ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد. وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة فما الظن بإحياء نفوس" (¬2). وهذا مقام راعاه المجتهدون في تصاريف استنباطهم، ودنوا منه وابتعدوا. فقد تجد المجتهد الواحد يدنو منه ويبتعد في مختلف أقواله بحسب تعارض الأدلة وغير ذلك. ¬

_ (¬1) * الضمير راجع إلى المكلف المفهوم من المقام. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) ابن عبد السلام. قواعد الأحكام، المثال الحادي والعشرون: 2/ 188.

يك - مراتب الوازع جبلية ودينية وسلطانية

يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية نحن الآن أشبه بأن نكون رجعنا إلى مبحث نفوذ الشريعة واحترامها بعد أن فصل بيننا وبينه بيان الرخصة. فبنا أن نبين كيف استخدمت الشريعة بنفوذ تشريعها واحترامه في نفوس الناس أنواعَ الوازع الذي يزع النفوس عن التهاون بحدود الشريعة. فاعتمدت في ذلك ابتداءً على الوازع الجِبِلّي، فكان كافياً لها من الإطالة بالتشريع للمنافع التي تتطلبها الأنفس من ذاتها، وبالتحذير من المفاسد التي يكون للنفوس منها زاجرٌ عنها مثل منافع الاقتيات واللباس وحفظ النسل والزوجات. فلا تجد في الشريعة وصايات تحفظ الأزواج لأنه في الجبلة إذ كانت الزوجة كافية في ذلك كما قال عمرو بن كلثوم: يَقُتن جيادَنا وَيَقُلن لستم ... بعولتَنا إذا لم تمنعونا (¬1) وقلّ في الشريعة التعرض لحفظ الأبناء لأحوال عرضت للعرب من التفريط فيه كما فعلوا في الوأد. قال الله تعالى فيها: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (¬2). ولذلك كانت الشريعة تعمد إلى الأمور العظيمة التي ¬

_ (¬1) البيت الثاني والتسعون من المعلقة. وله رواية ثانية بلفظ "يقدن" بدل "يقتن". التبريزي: 27. (¬2) الإسراء: 31.

تخشى أن لا يُغنِيَ فيها الوازع الديني الغَناء المرغوبَ فتصبغها بصبغة الأمور الجبلية، كما فعلت في تحريم الصهر لتُلحق الصهر بالنسب في جعل الوازع عن الزنا فيه كالجبلي. فألحقت أبوي الزوجين بالأبوين في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (¬1). قال فخر الدين: "من تزوج امرأة، فلو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنُه، ولم تدخل على الرجل أمُّ المرأة وابنتُها, لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح. ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتدت أعينُ البعض إلى البعض وحصل الميلُ [والرغبة]. وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرةُ الشديدة بينهن، ولأن صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعاً وأشدُّ إيلاماً وتأثيراً، [وعند حصول النفرة الشديدة] (¬2) * يحصل التطليق والفراق. أما إذا حصلت المحرمية [وانحبست الشهوة] فقد انقطعت الأطماع فلا يحصل ذلك الضرر فيبقى النكاح بين الزوجين سليماً من المفسدة. فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية السعيُ في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين" (¬3) اهـ. وقد يزاد على ما ذكره الفخر أن الشارع قصد قلب ذريعة الزنا ¬

_ (¬1) النساء: 23. (¬2) * يشير إلى قولة طرفة: [من معلقته، البيت: الخامس والسبعون]. وظلم ذوى القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند اهـ. (تع ابن عاشور). [انظر التبريزي: 115]. (¬3) الرازي. التفسير الكبير، بيان المقام الأول من الحجة الرابعة: 10/ 23.

المتوقع من شدة المخالطة إلى نفرة منه باستخدام الوازع الجِبِلي بدلاً من الوازع الديني لتعذر سدِّ الذريعة في هذه المخالطة بما قرّره فخر الدين. وليس من العسير قلبُ الوازع الديني إلى وازع جبلّي بتحذير العقاب وبث التشنيع في العادة. فإن كثيراً من الأمور التي تظهر في صورة الجبليات ما كانت إلَّا تعاليم دينية، مثل ستر العورة، ومحرمية الآباء والأبناء. وقد نجد مباحاتٍ مذمومةً يتنزَّهُ الناس عنها لمذمَّتها. فقد كان أهل الجاهلية يبيحون تزوج الابن زوجة أبيه بعد موته، ومع ذلك فهم يسمُّونه نكاح المقت. وقد قيل لأبي علي الجبائي (¬1): إنك ترى إباحة شرب النبيذ وأنت لا تشربه فقال: "تناولتْه الدعارةُ. فسمج في المروءة". ولعلماء الشريعة نسجٌ على منوالها هذا عند قصد المبالغة في سدّ الذريعة. فقد قال مالك رحمه الله بنجاسة عين الخمر، وهو يعلم أن الله إنما نهى عن شربها لا عن التلطخ بها. ولكنه حصل له من استقراء السنّة ما أفاده مراعاةَ قصدِ الشريعة الانكفاف عن شربها. وإذا كان ذلك عسِرًا لشدّة ميل النفوس إليها بكثرةِ ما نَوَّه الشاربون بمحاسن رقتها ولونها أراد تقوية الوازع الديني عن شربها بإشراب النفوس معنى قذارتها وجعلها كالنجاسات، في حين أنه لم يقل بنجاسة الخنزير الحي. وقد صار من أمثال عامة بلدنا إذا أرادوا نسبة ¬

_ (¬1) هو أبو علي محمَّد بن عبد الوهاب الجبائي 235 - 303 بِجُبّى، قرية من قرى البصرة. من أكابر دعاة الاعتزال، وإليه تنسب الطائفة الجَبائية. درس على أبي يعقوب الشحام شيخ معتزلة البصرة. له: تفسير بلغة أهل بلده، والرد على الراوندي، وكتاب الأصول. وهو الذي استهدفه الأشعري بردوده بعد انصرافه عن الاعتزال. محمَّد يوسف موسى. الجبائي، دائرة المعارف الإِسلامية: 6/ 270؛ الزركلي: 6/ 256.

قول لأحد في ذم شيء أن يقولوا: "قال فيه ما قال مالك في الخمر". وفي الحديث الصحيح: "ليس لنا مثل السوْء: العائد في صدقته كالكلب العائد في قيئه" (¬1). ولكن معظم الوصايا الشرعية منوطٌ تنفيذُها بالوازع الديني، وهو وازعُ الإيمان الصحيح المتفرع إلى الرجاء والخوف. فلذلك كان تنفيذ الأوامر والنواهي موكولاً إلى دين المخاطَبين بها. قال الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬2)، وقال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} (¬3)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (¬4)، وغير ذلك من الآيات والآثار النبوية، وفي استقرائها كثرةٌ. فمتى ضعف الوازع الديني، في زمن أو قوم أو في أحوال يُظَنُّ أن الدافع إلى مخالفة الشرع في مثلها أقوى على أكثر النفوس من الوازع الديني، هنالك يُصار إلى الوازع السلطاني، فيناطُ التنفيذُ بالوازع السلطاني. كما قال عثمان بن عفان: "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" (¬5). ولذلك قال ابن عطية (¬6) * "والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغنى عن دفعه إلى السلطان، وثبوت الرشد عنده، لما ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 113/ 1. 175/ 3. (¬2) البقرة: 228. (¬3) البقرة: 235. (¬4) البقرة: 235. (¬5) انظر أعلاه: 354/ 1. (¬6) * هو القاضي عبد الحق بن عطية الغرناطي، ولد سنة 481 هـ وتوفي سنة 546 هـ. له: تفسير القرآن المسمى المحرر الوجيز. وهو تفسير ممتع. اهـ. تع ابن عاشور.

حُفظ من تواطئ الأوصياء على أن يرشد الموصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله من ذلك الوقت" (¬1). ولم يرهم مصداق أمانة الشريعة في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬2). واستحسن قولَه فقهاءُ المالكية بعده. وقال ابن العربي (¬3) *: "لا تصدق المرأة في دعواها انقضاء عدتها في مدّة أقلَّ من خمسة وأربعين يوماً" (¬4) لضعف الديانة، مع أن القرآن وَكَلَ ذلك إلى أمانتهن، إذ قال: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬5). وبقول ابن العربي جرت الفتوى والقضاء عند علماء المالكية، كما نظمه صاحب العمليات العَامَة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: المحرر الوجيز: 3/ 500. (¬2) النساء: 6. (¬3) * هو القاضي أبو بكر محمَّد [بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن أحمد] بن العربي [المعافري] الأشبيلي. ولد سنة 468 هـ[بأشبيليه] وتوفي سنة 543 هـ[بمراكش ودفن بفاس. تولى القضاء ببلده. ومن تلاميذه القاضي عياض]. له: التآليف الجمة [في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ]. منها: أحكام القرآن [وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك، والقبس على الموطأ، وعارضة الأحوذي، والعواصم من القواصم، وغيرها]. اهـ. تع ابن عاشور. [ابن خلكان. الوفيات: 1/ 489؛ الزركلي. الأعلام: 6/ 230]. (¬4) أشار المؤلف بهذا إلى رأي أبان بن عثمان المتقدم. ونص كلام القاضي في إبطاله في أول المسألة السابعة قال: وقال في كتاب محمَّد: لا تصدق في شهر ولا في شهر ونصف، وكذلك إن طوّلت. ابن العربي: 1/ 187. (¬5) البقرة: 228. (¬6) قال أبو عبد الله الفُلالي السجلماسي: =

وعلى هذا الاعتبار يصحّ كلّما حصل التردّدُ في أمانة من وَكَلَت الشريعة حقًا إلى أمانته أن نكِل تنفيذ ذلك الحق إلى السلطان. كما قال مالك في جمع الأختين من ملك اليمين: "إن السيد إذا تسرّى إحداهما حرمت عليه الأخرى، وتحريمُها موكولٌ إلى أمانته. فإن أراد الانتقال من تلك الأخت إلى تسري الأخرى وجب عليه قبل ذلك أن يُحرِّم عليه التي كانت سرية له بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق أو تزويج وذلك أيضاً موكولٌ فعله إليه. فإن تعجل فتسرى الأخت قبل أن يحرم على نفسه الأولى كما وصفنا وقفه القاضي عنهما معًا حتى يحرم الأولى ولم يبق ذلك موكولاً إلى أمانته لأنه متهم" (¬1) *. وعليه، فللفقهاء تعيينُ المواضع التي تسلب فيها أمانة تنفيذ ¬

_ = وصُدِّقت ذات القروء في انقضا ... مدّتها دون يمين تُقتضى من بعد خمسة وأربعينَ ... لا قبل. وابن العربي الفطينا يرى انتفا التصديق في أقلّ ... من أشهر ثلاثة إذ قلّا دين الرجال، كيف بالنسوان ... لا سيما في هذه الأزمان العمليات العامة: 82 - 83. (¬1) * نقله الشيخ ابن عطية في تفسيره عند قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} في سورة النساء. اهـ. تع ابن عاشور. [ونصه عند ابن عطية: ومذهب مالك رحمه الله: إذا كان أختان عند رجل بالملك، فله أن يطأ أيتهما شاء. والكف عن الأخرى موكول لأمانته. فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج عن الملك، أو تزويج، أو عتق إلى أجل، أو إخدام طويل. فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما. ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى. ولم يبق ذلك إلى أمانته, لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهماً إذ كان لم يطأ إلا واحدة ... المحرر الوجيز: 3/ 556].

أحكام الشريعة من المؤتمنين عليها عند تحقق ضعف الوازع أو رقة الديانة أو تفشي الجهالة. وفي نصوص الشريعة ما يسمح بذلك, لأن معظم الخطاب القرآني في مثل هذه الأمور ورد بضمائر الجمع الصالحة لاعتبار التوزيع أو لاعتبار مخاطبة جماعة المسلمين، أي أولياء أمورهم. فنجعل هذا الأسلوب في الخطاب إيماء إلى إعداد الجماعة للإشراف على تلك الحقوق. ولهذا أحدث عمر بن الخطاب ولاية الحِسبة (¬1) وجعلها غير ولاية القضاء, لأن من الحقوق ما قصدت الشريعةُ حفظَه، وليس في تفريطه تضرُّرُ شخصٍ معين حتى يقوم لدى القاضي أو يكون المتضرَّر من تفريطه ضعيفاً عن القيام بحقه. واعلم أن الوازع الديني ملحوظٌ في جميع أحوال الاعتماد على نوعي الوازع. فإن الوازع السلطاني تنفيذ للوازع الديني، والوازع الجبلي تمهيد للوازع الديني. فالمهم في نظر الشريعة هو الوازع الديني اختيارياً كان أم جبرياً. ولذلك يجب على ولاة الأمور حراسة الوازع الديني من الإهمال، فإن خيف إهمالُه أو سوءُ استعماله وجب عليهم تنفيذُه بالوازع السلطاني. ¬

_ (¬1) الحسبة من أعظم الخطط الدينية. وهي - بين خطة القضاء وخطة الشرطة - جامعة بين نظر شرعي ديني وزجر سياسي سلطاني. ولعموم مصلحتها وعظيم منفعتها تولى أمرها الخلفاء الراشدون والأمراء المهتدون. ثم أوكل عمر بن الخطاب أمرها إلى ابنه عبد الله ولم يلبث أن عزله لما أخبر أنه فيه شفقة. وولي بعده هذه الخطة من المحتسبين أو أصحاب السوق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن أبي عبيد مسعود الهذلي 98 هـ مفتي المدينة واحد الفقهاء السبعة. الصنهاجي: 1/ 89؛ الزركلي: 7/ 195.

كا - مدى حرية التصرف عند الشريعة

كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة لمَّا تحقّق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإِسلامية، لزم أن يتفرّع على ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرّفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحريّة. جاء لفظ الحرية في كلام العرب مطلقاً على معنيين أحدهما ناشئ عن الآخر. المعنى الأول ضد العبودية. وهي أن يكون تصرّف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرّفاً غير متوقّف على رضا أحد آخر. وقولي: "بالأصالة" لإخراج نحوِ تصرّف السفيه سفهاً مالياً في ماله، وتصرّف الزوجين فيما يتعلّق به حقوقُ الزوجية، وتصرّف المتعاقدين بحسب ما تعاقدا عليه؛ لأن ذلك كلّه يتوقّف على رضا غير المتصرّف بتصرّفه، ولكن ذلك التوقّف ليس أصلياً بل جعلياً أوجبه المرء على نفسه بمقتضى التعاقد. فهو في التحقيق تصرّف منه في نفسه بحريّته. فهو بحريّته وضع لنفسه قيوداً لمصلحته. ويقابل الحرية بهذا المعنى العبوديةُ. وهو أن يكون المتصرّف غير قادر على التصرّف أصالة إلَّا بإذن سيّده. وقد نشأ هذا الوصف - أعني العبودية - عن الغلبة والقوة في أزمنة تحكيم القوة. فكان من أجلّ مظاهره وأسبابه الأسر في الحروب والغارات. فالأسير في مدّة

الأسر هو العاني، ثم إذا شاء الذين أسروه إبقاء حياته جعلوه عبداً يخدمهم ولا يتصرّف إلَّا على حسب إرادتهم، وجعلوا ذلك الوصف قابلاً للنقل من يد إلى يد. فكان القوم الذين يأسِرون الأسيرَ ربّما دفعوه إلى قوم آخرين لهم معه إحن وترات ليقتلوه أو يعذّبوه بالخدمة، وربّما باعوه فانتفعوا بثمنه فصار عبداً لمن دفع فيه الثمن. المعنى الثاني ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال، وهو تمكّن الشخص من التصرّف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض. ويقابل هذا المعنى الضربُ على اليد، أو اعتقالُ التصرّف. وهو أن يُجعل الشخصُ الذي يسوء تصرُّفه في المال، لعجز، أو لقلة ذات يد، أو لقلة كافٍ، أو لحاجة، بمنزلة العبد في وضعه تحت نير إرادة غيره في تصرّفه، بحيث يسلب منه وصف إباء الضيم ويصير راضياً بالهون. وكلا هذين المعنيين للحريَّة جاء مراداً للشريعة إذ كلاهما ناشئ عن الفطرة، وإذ كلاهما يتحقّق فيه معنى المساواة التي تقرّر أنها من مقاصد الشريعة. ولذلك قال عمر رضي الله عنه: "بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" (¬1)، أي: فكونهم أحراراً أمرٌ فطري. فأمّا المعنى الأول فإطلاقه في الشريعة مقرر مشهور. ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: "الشارع متشوِّف للحرية" (¬2). فذلك استقراؤه ¬

_ (¬1) ابن الجوزي. مناقب عمر بن الخطاب: 98 - 99. وانظر: 383/ 1. (¬2) بيان هذه القاعدة يأتي مفصلاً فيما ذكره المؤلف إثر تقريرها من قوله: "فذلك استقراؤه" إلى نهاية الفصل في بيان أنواع الحرية، فقد أورد من تطبيقات هذه القاعدة في الإِسلام: تعطيل الشريعة الاسترقاق، ومعالجتها للرق الموجود بتكثير أسباب رفعه، والترغيب في عتق العبيد، والنهي عن =

من تصرفات الشريعة التي دلّت على أن من أهم مقاصدها إبطالَ العبودية وتعميمَ الحرية. ولكن دأب الشريعة في رعي المصالح المشتركة وحفظ النظام وقف بها عن إبطال العبودية بوجه عام وتعويضها بالحرية، وإطلاق العبيد من ربقة العبودية، وإبطال أسباب تجدّد العبودية مع أن ذلك يخدم مقصدها. وكان ذلك التوقّفُ من أجل أن نظام المجتمعات في كل قطر قائم على نظام الرق. فكان العبيد عَمَلةً في الحقول، وخَدَمةً في المنازل والغروس، وَرُعاة في الأنعام. وكانت الإماء حلائل لسادتهن، وداياتٌ لأبنائهم. فكان الرقيق من أكبر الجماعات التي أقيم عليها النظام العائلي والاقتصادي لدى الأمم حين طرقتهم دعوة الإِسلام. فلو جاء الإِسلام بقلب ذلك النظام رأساً على عقب لانفرط عقد نظام المدنية انفراطاً، تعسَّرَ معه عودةُ انتظامه. فهذا موجب إحجام الشريعة عن إبطال الرقّ الموجود. وأما إحجامها عن إبطال تجدّد سبب الاسترقاق الذي هو الأسر في الحروب، فلأن الأمم التي سبقت ظهور الإِسلام قد تمتّعت باسترقاق من وقع في أسرها وخضع إلى قوتها. وكان من أكبر مقاصد سياسة الإِسلام إيقافُ غُلواء تلك الأمم والانتصافُ للضعفاء من الأقوياء. وذلك ببسط جناح سلطة الإِسلام على العالم، وبانتشار أتباعه في الأقطار. فلو أن الأمم التي استقرّت لها سيادة العالم من قبلُ أمِنت عواقب الحروب الإِسلامية، وأخطرُ تلك العواقب في نفوس الأمم السائدة هو الأسر والاستعباد والسبي، لما تردّدت الأمم ¬

_ = التشديد عليهم في الخدمة. ثم فيما نبه إليه من حرص على تحقيق حرية الاعتقاد والقول والعلم والتعليم والتأليف، والعمل في الإِسلام، وما وضعته الشريعة من ضوابط وأحكام لصيانة هذه المبادئ ورعايتها الرعاية اللازمة.

من العرب وغيرِهم في التصميم على رفض إجابة الدعوة الإِسلامية اتكالاً على الكثرة والقوة، وأمنا من وصمة الأسر والاستعباد. كما قال صفوان بن أمية (¬1) في مثله: "لأَنْ تَرُبْني قريشٌ خير من أن ترُبْني هوازن" (¬2). وكما قال النابغة: حذاراً على أن لا تُنال مقادتي ... ولا نِسْوَتي حتَّى يَمُتْنَ حرائرا (¬3) فنظر الإِسلام إلى طريق الجمع بين مقصديه نشر الحرية وحفظ نظام العالم بأن سلط عوامل الحرية على عوامل العبودية مقاومة لها بتقليلها وعلاجاً للباقي منها. وذلك بإبطال أسباب كثيرة من أسباب الاسترقاق، وقصره على سبب الأسر خاصة. فأبطل الاسترقاقَ ¬

_ (¬1) هو صفوان بن أمية بن خلف بن وهب. قتل أبوه الذي كان إليه أمر الأزلام في الجاهلية يوم بدر كافراً. وأسلمت أمه ناجية بنت الوليد بن المغيرة من المؤلفة قلوبهم. ويروى عنه قوله: لقد غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما خلق الله خلقاً أبغض إلي منه، فما زال يعطيني حتى ما خلق الله خلقاً أحب إلى منه. وقال الترمذي: كان صفوان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية ووصل له الإِسلام من عشر بطون. ونزل صفوان على العباس بالمدينة، وأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجوع إلى مكة وتوفي بها مقتل عثمان. ابن حجر. الإصابة: 1/ 181/ 4073؛ ابن عبد ربه. العقد: 1/ 277. (¬2) قالها مجيباً أبا سفيان في وقعة حنين. قال هذا الأخير: غلبت والله هوازن. وتمام قوله: بفيك الكثكث, لأن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إلى من أنَّ يرُبَّني رجل من هوازن، بمعنى لأن يملكني. ابن منظور. اللسان: مادة رب. (¬3) البيت من قصيدته التي يمدح بها النعمان ويعتذر إليه فيها. وطالعها: كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً ... وهَمَّيِن: هَمًّا مستكناً وظاهرا الديوان: 115.

الاختياري وهو بيعُ المرءِ نفسَه، أو بيعُ كبير العائلة بعضَ أبنائها. وقد كان ذلك شائعاً في الشرائع. وأبطل الاسترقاق لأجل الجناية بأن يحكم على الجاني ببقائه عبداً للمجني عليه. وقد حكى القرآن عن حالة مصر: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} (¬1)، ثم قال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (¬2). وأبطل الاسترقاق في الدَّين الذي كان شرعاً للرومان، وكان أيضاً من شريعة سُولون (¬3) في اليونان من قبل. وأبطل الاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية الواقعة بين المسلمين. وأبطل استرقاق السائبة كما استرقّت السيارة يوسفَ إذ وجدوه. ثم إن الإِسلام التفت إلى علاج الرق الموجود والذي يوجد، بروافع ترفع ضرر الرق. وذلك بتقليله بتكثير أسباب رفعه، وبتخفيف آثار حالته. وذلك بتعديل تصرف المالكين في عبيدهم الذي كان غالبه معنتاً. فمن الأول، وهو تكثير أسباب رفعه: جعل بعض مصارف الزكاة في شراء العبيد وعتقهم بنص قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (¬4)، ¬

_ (¬1) يوسف: 75. (¬2) يوسف: 76. (¬3) أحد الحكماء السبعة باليونان 640 - 558 ق م. كان رجل دولة. عرف بإصلاحاته الاجتماعية والسياسية التي كانت منطلق نهضة أثينا كما أنه واضع أسس الديمقراطية بها. (¬4) أحد المصارف الثمانية المنصوص عليها في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة: 60.

وجعل العتق من وجوه الكفارات الواجبة في قتل الخطأ (¬1)، وفطر رمضان عمداً (¬2)، والظهار (¬3)، وحنث الأيمان (¬4). وأمره بمكاتبة العبيد إن طلبوا المكاتبة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} (¬5) أمر وجوب أو ندب على خلاف بين العلماء (¬6). ¬

_ (¬1) {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} النساء: 92. (¬2) حديث أبي هريرة أن أعرابياً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعتق رقبة". انظر 30 كتاب الصوم، 30 باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفّر، حديث أبي هريرة، خَ: 2/ 235 - 236؛ 51 كتاب الهبة، 20 باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل: قبلت، خَ: 3/ 137؛ 69 كتاب النفقات، 13 باب نفقة المعسر على أهله. خَ: 6/ 194؛ 84 كتاب كفارات الأيمان، 3 باب من أعان المعسر في الكفارة، 4 باب يعطي في الكفارة عشرة مساكين قريباً كان أو بعيداً. خَ: 7/ 236؛ انظر 13 كتاب الصيام، 14 باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه، ح 8. مَ: 1/ 781 - 782؛ انظر 8 كتاب الصوم، 37 باب كفارة من أتى أهله في رمضان، ح 2390. دَ: 2/ 783 - 785؛ انظر 6 كتاب الصوم، 28 باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان، ح 724. تَ: 3/ 102 - 103؛ انظر 7 كتاب الصيام، 14 باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان، حديث أبي هريرة 1671. جَه: 1/ 534؛ حَم: 2/ 241 وبلفظ "احترقت" بدل "هلكت" في حديث عائشة. حَم: 6/ 276. (¬3) {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} المجادلة: 3. (¬4) {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} المائدة: 86. (¬5) النور: 33. (¬6) الأمر بالمكاتبة، قيل: للندب، وهو مذهب مالك، وقيل: للوجوب وهو =

ومن أعتق جزءاً له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه فدفعه وعتق العبد كله (¬1). ومن أولد أمته صارت كالحرة فليس له بيعها ولا هبتها ولا له عليها خدمة ولا غلة، وتعتق من رأس ماله بعد وفاته (¬2). والترغيب في عتق العبيد، قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} (¬3) الآية. وكان الترغيب في عتق من يتنافس فيه أقوى. ففي حديث أبي ذر: "أفضل الرقاب أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها" (¬4)، وفي الحديث: "ورجل له أمة فعلّمها فأحسن تعليمها، وأدّبها ¬

_ = قول عطاء، قال: ذلك واجب، وهو ظاهر قول عمر لأنس بن مالك حين سأله هذا الكتابة. فقال عمر: كاتبه أو لأضربنك بالدرة. وهو قول عمرو بن دينار والضحاك. ابن عطية، المحرر الوجيز: 11/ 301. (¬1) لحديث ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعتق شركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوّم عليه قيمة العبد، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". انظر 49 كتاب العتق، 4 باب إذا أعتق عبداً بين اثنين. خَ: 3/ 117؛ انظر 20 كتاب العتق، ح 1. مَ: 2/ 1139؛ انظر 38 كتاب العتق والولاء، 1 باب من أعتق شركاً له في مملوك. طَ: 2/ 772. (¬2) قال عمر بن الخطاب: "أيما وليدة ولدت من سيدها، فإنه لا يبيعها ولا يعصبها ولا يورثها، وهو مستمتع بها. فإذا مات فهي حرة". انظر 38 كتاب العتق والولاء، 5 باب عتق أمهات الأولاد، 6. طَ: 2/ 776. وحديث: "أيما رجل ولدت أمته منه فهي معتقة". انظر 19 "كتاب العتق، 2 باب أمهات الأولاد، 2515. جَه: 2/ 841؛ انظر 18 كتاب البيوع، 38 باب في بيع أمهات الأولاد، ح 2577. دَي: 2/ 570. (¬3) البلد: 11 - 12. (¬4) انظر 49 كتاب العتق، 2 باب أي الرقاب أفضل. حديث أبي ذر: "قال: قلت: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله. قال: قلت: أيّ الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها =

فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوّجها فله أجران" (¬1). وأحسب أنَّ من حكمة هذا أن ما كان من العبيد بهذا الوصف يكون بقاؤه في الرق تعطيلاً لانتفاع المجتمع به انتفاعاً كاملًا، ويكون إدخاله في صنف الأحرار أفيد لهم. ومن الثاني النهي عن التشديد على العبيد في الخدمة. ففي الحديث: "لا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلّفه فليعنه" (¬2). والأمر بكفاية مؤنتهم وكسوتهم. ففي حديث أبي ذر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عبيدكم خولكم (¬3) * إنّما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم. فمن جُعل أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس" (¬4). والنهي عن ضربهم الضرب الخارج عن الحد اللازم، فإذا مثل الرجل بعبده عتق عليه (¬5). وفي الحديث: "النهي عن أن يقول الرجل: عبدي أو أمتي. ¬

_ = ثمناً ... ". خَ: 3/ 117؛ انظر 1 كتاب الإيمان, 36 باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 136. مَ: 1/ 89، وبلفظ: "أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً". انظر 19 كتاب العتق، 4 باب العتق، 2523 جَه: 2/ 843؛ انظر 38 كتاب العتق والولاء، 9 باب فضل عتق الرقاب، 15. طَ: 2/ 779 - 780؛ حَم: 2/ 388؛ 5/ 150، 171، 265. (¬1) انظر 3 كتاب العلم، 31 باب تعليم الرجل أمته وأهله. خَ: 1/ 32 - 33. (¬2) تقدم: 111/ 1. (¬3) * الخول: الذين يتخولون الأمور، أي يصلحونها. وذلك بيان لمزيتهم. اهـ. تع ابن عاشور. (¬4) تقدم: 111/ 1. (¬5) تقدم الحديث مع بيان حكمه: 187/ 2.

وليقل: فتاي وفتاتي، والنهي عن أن يقول العبد لمالكه: سيدي وربِّي. وليقل: مولاي" (¬1). فمن استقراء هاته التصرّفات ونحوها حَصَلَ لنا العلم بأن الشريعة قاصدة بثَّ الحرية بالمعنى الأول. وأما المعنى الثاني فله مظاهرُ كثيرة هي من مقاصد الإِسلام. وهذه المظاهر تتعلق بأصول الناس في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم. وبجمعها أن يكون الداخلون تحت حكم الحكومة الإِسلامية متصرفين في أحوالهم التي يخوّلهم الشرعُ التصرف فيها غيرَ وجلين ولا خائفين أحداً. ولكل ذلك قوانين وحدود حدّدتها الشريعة لا يستطيع أحد أن يحملهم على غيرها. ولذلك شدّد اللهُ النكيرَ والتقبيح على قوم أشارت إليهم آية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2)، فشمل قولُه: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} تحريمَ المباحات الذي صُدِّرت الآية بالاستفهام عنه استفهام إنكار. ¬

_ (¬1) انظر 49 كتاب العتق، 17 باب كراهية التطاول على الرقيق، ح 3. خَ: 3/ 124؛ انظر 40 كتاب الألفاظ، 3 باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد، ح 13، 14، 15. مَ: 2/ 1764، 1765؛ انظر 35 كتاب الأدب، 83 باب لا يقول المملوك ربي وربتي، 4975، 4976. دَ: 5/ 256، 257؛ حَم: 2/ 316، 319، 423، 463، 484، 491، 508. (¬2) الأعراف: 32، 33.

فحرية الاعتقادات أسّسها الإِسلام بإبطال المعتقدات الضالة التي أَكره دعاةُ الضلالة أتباعَهم ومريديهم على اعتقادها بدون فهم ولا هدى ولا كتاب منير، وبالدعاء إلى إقامة البراهين على العقيدة الحق، ثم بالأمر بحسن مجادلة المخالفين وردهم إلى الحق بالحكمة والموعظة وأحسن الجدل، ثم بنفي الإكراه في الدين. وقد بسطتُ القول في ذلك في كتاب أصول نظام الاجتماع الإِسلامي (¬1). ولولا أن من أصول الشريعة حرية الاعتقاد ما كان عقاب الزنديق الذي يسرّ الكفر ويظهر الإيمان غير مقبولة فيه التوبة إذ لا عذر له فيه. وأما حرية الأقوال فهي التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي. وقد أمر الله ببعضها في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (¬3). ¬

_ (¬1) ابن عاشور. أصول النظام الاجتماعي في الإِسلام: 171 - 173. (¬2) آل عمران: 104. (¬3) انظر 1 كتاب الإيمان, 20 باب كون النهي عن المنكر من الإيمان, 78. مَ: 1/ 69؛ انظر 31 كتاب الملاحم، 17 باب الأمر والنهي، 4340. دَ: 4/ 511؛ انظر 34 كتاب الفتن، 11 باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، 2172. تَ: 4/ 469 - 470؛ انظر 47 كتاب الإيمان, 17 باب تفاضل أهل الإيمان. نَ: 8/ 111 - 112؛ انظر كتاب إقامة الصلاة، 155، باب ما جاء في صلاة العيدين، 1275. جَه: 1/ 406؛ 36 كتاب الفتن، 20 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 4013. جَه: 2/ 1330؛ حَم: 3/ 10، 20، 49، 52، 53.

ومنها حرية العلم والتعليم والتأليف. ولقد ظهرت هذه الحرية في أجمل مظهر في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإِسلام، إذ نشر العلماء فتاواهم ومذاهبهم، واحتج كل فريق لرأيه، ولم يكن ذلك موجباً لمناوأة ولا لحزازات. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها. فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه" (¬1). وهذا هو المقام الذي تحقق فيه مالك بن أنس حين قال له أبو جعفر الخليفة: إني عزمت أن أكتب كُتُبك يعني الموطأ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها. فقال الإِمام: "لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم [وعملوا به ودانو له] من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإنّ ردهم عما اعتقدوه شديد. فدع الناس وما هم عليه [وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم] (¬2) ". ولولا اعتبار حرية الأقوال لما كانت الإقرارات والعقود والالتزامات وصيغ الطلاق والوصايا مؤثّرةً آثارها. ولذلك يسلب عنها التأثير متى تحقق أنها صدرت في حالة الإكراه. وأما حرية الأعمال فهي تكون في عمل المرء في خويصته، وفي عمله المتعلّق بعمل غيره. فأما الحرية الكائنة في عمل المرء في الخويصة فهي تَدْخل في تناول كل مباح. فإن الإباحة أوسع ميدان لجولان حرية العمل، إذ ليس لأحد أن يمنع المباح عن أحد، إذ لا يكون أحد أرفق بالناس من الله تعالى. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه: 139/ 1. (¬2) عياض. ترتيب المدارك: 2/ 72.

ونريد بالمباح هنا المأذون فيه ولو بالعموم فيدخل المكروه. ومن تناول المباح الاحتراف بأنواع الحرف المباحة، والنزول بالمَوَاطن المأذون في نزولها، وتناول ما أبيح للناس من الماء والكلأ، والتصرف في المكاسب بالوجوه المباحة، واختيار المطاعم والملابس والمساكن، وتناول الشهوات المأذون فيها. ولذلك كان تصرف الزوجة في مالها غير موقوف على رضي زوجها على اختلاف في مقدار ذلك (¬1). وأما الحرية الكائنة في عمل المرء المتعلّق بعمل غيره فالأصل فيها أنها مأذون فيها، إذا لم تكن تضر بغيره. (وهذا المقام يتحقّق فيه معنى الجمع بين فرعين من مقاصد الشريعة: وهما حرية العمل الذي لا يتجاوز عاملَه، وحرية العمل الذي يؤثر في عمل غيره تأثيراً لا إضرار فيه. والإضرار يتحقّق بتعطيل حقًّ مأذونٍ فيه لمستحقه، أو إتلاف ذلك ¬

_ (¬1) للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من روايته. ابن قدامة. المغني: (2) 4/ 513 - 514. والأصل في هذا حديث جابر: "يا معشر النساء تصدقن ... فجعلن يتصدقن من حُلَّيهنَّ يُلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن". ابن دقيق العيد. إحكام الأحكام: 2/ 129 - 130، وحديث زينب امرأة عبد الله قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن". انظر 12 كتاب الزكاة، 14 باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين وإن كانوا مشركين، ح 45، 46. مَ: 2/ 694. وذهب المالكية إلى أن المرأة إذا تزوجت يحجر زوجها عليها في تبرع يزيد على ثلث مالها. فإن تبرعت بزائد مضى تبرعها حتى يرده الزوج، وإن لم يعلم به حتى تأيّمت أو مات أحدهما مضى تبرعها. الدردير. الشرح الصغير بحاشية الصاوي: 3/ 402.

الحق، ويترتب على ذلك غُرْم ما أتلفه. وفيه تفاصيل طويلة) (¬1). ومن حرية الأعمال المتعلقة بأعمال الغير ما يلزم المرء نفسه بموجب حرية تصرّفه من العقود والالتزامات لمصلحة يراها. فإن إلزامه نفسَهُ بها أثرٌ من آثار حرية العمل أوجب به حقاً لغيره عليه على التفصيل في العقود التي تجب بمجرد التعاقد القولي والتي لا تجب إلَّا بالشروع في العمل. ثم إن للشريعة حقوقاً على أتباعها تُقيَّد حريةُ تصرّفاتِهم بقدرها، وذلك في صلاحهم في الحال أو في المستقبل. مثل إلزامهم بإقامة المصالح العامة كفروض الكفايات، أو بإقامة مصالح مَن جعلت الشريعة مصالحَهم موكولةً إلى شخص معين كنفقة القرابة. ومتى تجاوز المرء حدود حريته في هذا النوع أوقف عند الحد الشرعي بالغرم مثل ضمان التفريط، أو العقوبة بدون قبول توبة كالحرابة، أو بعد الاستتابة كالردة، وأمثلة ذلك لا تعوزك. واعلم أن الاعتداء على الحرية نوع من أنواع الظلم. ولذلك لزم أن يكون تمحيص مقدار ما يخول للمرء من الحرية في نظر الشارع موكولاً إلى ولاة الأمور المنصوبين لفصل القضاء بين الناس. فلذلك كان انتصاف المعتدى عليه لنفسه بنفسه ظلماً يستحق التعزير. قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (¬2). ولذلك سمّى عمرُ رضي الله عنه بعض هذا الانتصاف استعبادًا في قضية ابن عمرو بن العاص مع الذي وطئ ثوبه ¬

_ (¬1) التغيير في هذه الجملة من عمل المؤلف في نسخته المصحّحة من ط. (1) حذف الجملة المثبتة أولاً وهي قوله: من يمارس عمله إلى: العقوبة. ط. الاستقامة: 144 - 145. ويتلوها قوله: ومن حرية الأعمال كما هو هنا. (¬2) الإسراء: 33.

فضربه ابن عمرو، فلما شكاه إلى عمر قال له عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". فإن ابن عمرو جرى عليه اعتداء خطأ بوطء ثوبه، إذ ربما اتسخ الثوب أو هلهل. ولكنه لما باشر الانتصافَ لنفسه بنفسه تجاوز عن حدِّ الحق فعامل غيرَه معاملةَ عبد له، ثم أذن عمر المعتدى عليه بأن يقتص من ولد عمرو بن العاص فضربه ضربات بمقدار ما ضربه ابن عمرو (¬1). ومن أجل هذا كان السجن موكولاً للحكام. وليس لغيرهم السجن، لما فيه من التسلط على الحرية، وكذلك التغريب. وقد حاطت الشريعة في كثير من تصاريفها حرية العمل بحائط سدِّ ذرائع خرم تلك الحرية. كما منعت وكالة الاضطرار، وهي توكيل المدين ربَّ الدين على بيع ونحوه عند محل الأجل (¬2)، وكما منعت ¬

_ (¬1) ونص خبر عمر مع المصري كما أخرجه ابن عبد الحكم عن أنس بن مالك: "أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم. فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضربه. فجعل يضربه بالسوط. ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب. والله لقد ضربه ونحن نحبّ ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضع على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر: ومُذْ كم تعبَّدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني". منتخب كنز العمال: 4/ 420؛ الكاندهلوي. حياة الصحابة: 2/ 97. (¬2) أشار الدردير إلى هذه المسألة في باب الرهن عند قوله: وللأمين، الذي وضع الرهن تحت يده، بيعه إن أذن له كالمرتهن بعده. وقال: إن للأمين بيع الرهن في الدين إذا أذن له الراهن في بيعه، ولو في عقد الرهن سواء =

كثيراً من الشروط الواقعة من رب المال على العامل في القراض والمزارعة والمغارسة والمساقاة ونحو ذلك. كما سنبينه في موضعه من المقاصد الخاصة بأنواع المعاملات (¬1)، وبعضُه ذُكر في مبحث سدّ الذرائع (¬2). ¬

_ = أذن له في بيعه قبل الأجل أو بعده لأنه وكيل عن ربه حينئذ. ويجوز للمرتهن بيع الرهن إن أذن له الراهن بعده أي بعد العقد الصادق ببعد الأجل لا في حال العقد. ومحل الجواز إن لم يقل الراهن لواحد منهما: إن لم آت بالدين، وإلا بأن قال ذلك أو أذن للمرتهن في صلب العقد، قال: أو لم يقل، لم يجز البيع. قال الصاوي: قوله: إن أذن له بعده، أي وأما إن أذن الراهن للمرتهن في حال العقد فيمنع ابتداء لأنها وكالة اضطرار. الدردير. الشرح الصغير على أقرب المسالك بحاشية الصاوي: 3/ 332. وإنما منع ابتداء لأن الشرط في العقد يخالف سنة الرهن، ولتهمة استغلال حاجة المدين عند استقراضه أو شرائه بالدين لاضطراره لهذه الوكالة. انظر البناني: 5/ 252. وقال ابن غازي بعد نقل كلام التوضيح: والذي لابن رشد في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون أن مذهب المدونة والعتبية أن ذلك لا يجوز ابتداء لأنها وكالة اضطرار لحاجته إلى ابتياع ما اشترى أو استقراض ما استقرض. الحطاب: 5/ 21 - 22؛ ابن رشد. البيان: 11/ 18. (¬1) انظر بعد: 468. (¬2) تقدم أعلاه: 244 - 255، 335.

كب - مقصد الشريعة تجنبها التفريع في وقت التشريع

كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع لقد بان من استقراء أقوال الشارع - صلى الله عليه وسلم - وتصرّفاته، ومن الاعتبار بعموم الشريعة الإِسلامية ودوامها، أن مقصدها الأعظم نوطُ أحكامها المختلفة بأوصاف مختلفة تقتضي تلك الأحكام، وأن يتبع تغيرُ الأحكام تغيرَ الأوصاف، إذ لو كانت الشريعة مؤقتة بقوم بخصوصهم أو بعصور بخصوصها لأمكن أن يدَّعي مدَّعٍ أن ما قرر فيها من الأحكام لا يختلف لأن غاية دوامه معلومة. فإذا حَلَّت تلك الغاية بعلم الله تعالى خاطب الناس بنسخ تلك الشريعة. فأما وشريعة الإِسلام عامة دائمة، وتغيرُ الأحوال سنة إلهية في الخلق لا تتخلف، فبقاء الأحكام مع تغير موجبها لا يخلو من أن يكون إقراراً لنقيض مقصود الشارع من تعليق ذلك الحكم بذلك الموجب. فيصير أحد العملين عبثاً، أو أن يكون مكابرة في تغير الموجب وذلك ينافي المشاهدة القطعية أو الظنية في أحوال كثيرة، ويؤول ذلك على التقديرين إلى أن تكون الأحكام مقصودةً لذاتها لا متابعة لموجباتها. ويحق علينا أن نأتي بشيء من استقراء كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصرفه في هذا الشأن لزيادة اطمئنان الناظر في هذا المقام الذي قد يكثر منكروه ويعشو مبصروه. فمن ذلك حديث عاصم بن عدي الأنصاري في الموطأ

والصحيحين في اللعان: أن عويمراً العجلاني سأل عاصماً أن يسأل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ فسأل عاصم رسول الله. قال عاصم: فكره رسول الله المسائل وعابها (أي كره السؤال سواء كان في هذه النازلة أم في غيرها, لأنه قال: كره المسائل) (¬1). وفي حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح البخاري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته" (¬2). وفي حديث قيام الليل في الصحيح: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة فقام المسلمون معه. فتكاثر الناس في الليلة الثانية والثالثة فلم يخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنه لم يخفَ علي مكانكُم وخشيت أن يكتب عليكم القيام، ولو كتب عليكم ما قمتم به" (¬3). وفي حديث أبي ثعلبة الخشني صراحة في هذا: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها وحدَّد حدوداً فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" (¬4) *. ¬

_ (¬1) انظر 68 كتاب الطلاق، 4 باب من أجاز طلاق الثلاث. خَ: 6/ 164 - 165؛ انظر 19 كتاب اللعان. مَ: 2/ 1129 وما بعدها؛ انظر 29 كتاب الطلاق، 13 باب ما جاء في اللعان، 34. طَ: 2/ 566 وما بعدها. (¬2) تقدم الحديث وتخريجه: 277/ 1. (¬3) انظر 11 كتاب الجمعة، 29 باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، ح 2 بلفظ: "أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها". بدل: "ولو كتب عليكم القيام ما قمتم به". خَ: 1/ 222؛ 31 كتاب صلاة التراويح، 1 باب فضل من قام رمضان، 4. خَ: 2/ 252. (¬4) * رواه الدارقطني، وسنده حسن. اهـ. تع ابن عاشور. =

وقال ابن عباس: ما رأيت خيراً من أصحاب محمَّد. ما سألوه إلَّا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلها في القرآن: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} - {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} ونحوهما (¬1). وللحذر من أن يكثر تقوُّل الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، أو أن يستند كثير من المتفقهين إلى تصرفاتٍ صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جزئيات، أو إلى أقوال أُثرتْ عنه غير مؤداةٍ كما صدرت منه، أو غير مبين فيها الحال الذي صدرت فيه، من أجل ذلك ما حكى ابن العربي في العواصم: "كان عمر لا يمكّن الناس أن يقولوا قال رسول الله، ولا يذيعوا أحاديث النبي حتى يُحتاج إليها وإن درست (¬2). وهذا لحكمة بديعة، وهي أن الله قد بين المحرّمات والمفروضات في كتابه. وقال تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬3). وقد اتفقت الصحابة على جمع ¬

_ = [تقدم تخريجه: 270/ 2، 277/ 1، 303/ 3]. (¬1) في الجامع لأحكام القرآن ذكر الأثر المنسوب لابن عباس. رواه جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه. قال: "ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن: يسألونك عن المحيض، يسألونك عن الشهر الحرام، يسألونك عن اليتامى، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم". والثلاث عشرة مسألة الواردة في القرآن ست منها في البقرة. الآيات: 189, 215، 217، 219، 220، 222. والمسائل الباقية منثورة في المائدة: 4، والأعراف: 187، والأنفال: 1، والإسراء: 85، والكهف: 83، وطه: 105، والنازعات: 44. وقد عقَّب ابن عبد البر على هذا الأثر بقوله: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث. القرطبي: 3/ 40. (¬2) ابن العربي. العواصم من القواصم: 2/ 74. (¬3) المائدة: 101.

القرآن لئلا يدرس، وتركت الحديث يجري مع النوازل. وأكثر قوم من الصحابة التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فزجرهم عمر" (¬1) اهـ. وأقول: قد تتبعت تفريعَ الشريعة في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوجدت معظمَهُ في أحكام العبادات، حتى إنك لتجد أبواب العبادات في مصنفات السنة هي الجزء الأعظم من التصنيف بخلاف أبواب المعاملات. وذلك لأن العبادات مبنيةٌ على مقاصد قارة، فلا حرج في دوامها ولزومها للأمم والعصور إلا في أحوال نادرة تدخل تحت حكم الرخصة. فأما المعاملات فبحاجة إلى اختلاف تفاريعها باختلاف الأحوال والعصور. فالحملُ فيها على حكم لا يتغيّرُ حرجٌ عظيم على كثير من طبقات الأمة. ولذلك كان دخول القياس في العبادات قليلاً نادراً، وكان معظمه داخلاً في المعاملات. ولذلك نجد أحكام المعاملات في القرآن مسوقةً غالباً بصفة كلية، حتى إن الله تعالى لمّا فصّل أحكام المواريث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تولّى قسمة الفرائض بنفسه" (¬2). ¬

_ (¬1) عن الداروردي: سئل أبو هريرة أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمن عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته. وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الذهبي. التذكرة: 1/ 7/ 2. (¬2) هذا طرف من حديث نصه: "إن الله تعالى لم يَكِلْ قسمة مواريثكم إلى نبي مرسل، ولا ملك، ولكن تولى قسمته بنفسه". أحمد النفراوي. الفواكه الدواني على شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 2/ 270؛ محمَّد بن أحمد بنيس. بهجة البصر في شرح فرائض المختصر: 18 - 19. وقد ورد نحو هذا في مصاريف الزكاة. أبو داود؛ السنن: 2/ 281، ح 1630. البيهقي. السنن: 4/ 174، 7/ 6. وأورد الحديث بلفظ قريب مما ذكره المؤلف قال: وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: =

وتفاريعُ الشريعة في المعاملات على مقصدين: تارة يكون المقصد حملَ الناس على حكم مستمر مثل تحريم الربا، وتارة يكون قضاء بين الناس فيكون الفرع المقضيُّ به بياناً لتشريع كلي. وهذا مقام يحتاج إلى تدقيق الفرق فيه. وقد قال أئمة أصول الفقه: إن لم ينصّ الشارع فيه بشيء، فأصلُ ما هو مضرّة أن يكون حكمه التحريم، وأصلُ ما هو منفعة أن يكون حكمه الحِل (¬1). وإذ قد جعلنا سدَّ الذرائع من أصول التشريع، وكان سدُّها في أحوال معينة، لزم أن يكون موكولاً لنظر المجتهدين سدّاً وفتحاً بأن يراقبوا مدّة اشتمال الفعل على عارض فساد فيمنعوه، فإذا ارتفع عارض الفساد أرجعوا الفعلَ إلى حكمه الذاتي له (¬2). ¬

_ = "إن الله تعالى لم يكل قسم مواريثكم إلى نبي مرسل، ولا إلى ملك مقرب، ولكن تولى بيانها فقسمها أبين قسم". إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم. العذب الفائض شرح عمدة الفارض: 1/ 8؛ شرح التحفة، باب التوارث والفرائض: 2/ 391. قال: وهو علم قرآني جليل. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لم يكل قسمة ميراثكم إلى أحد بل تولاه بنفسه فبينها أتم بيان" التاودي: 2/ 351. وفي السنن: نا أحمد بن محمَّد بن زياد، نا عبد الرحمن بن مرزوق، نا عبد الوهاب أنا سعيد عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة. قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى فقال: "إن الله عز وجل قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث. فلا يجوز لوارث وصية إلا من الثلث". الدارقطني: 4/ 152؛ محمَّد يوسف الكافي. إحكام الأحكام على تحفة الحكام: 331. (¬1) من الأدلة - فيما بعد ورود الشرع - أن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع. الزركشي. البحر المحيط: 6/ 12 - 15. (¬2) القرافي. الفروق: 58 الفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل: 2/ 32 - 34.

كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال لم يبق للشك مجال يخالج به نفسَ الناظر في أن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظامُ أمر الأمة، وجلبُ الصالح إليها، ودفعُ الضر والفساد عنها. وقد استشعر الفقهاء في الدين كلُّهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد. ولم يتطرّقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام. ولكنهم لا ينكر أحد منهم أنه إذا كان صلاحُ حال الأفراد، وانتظامُ أمورهم مقصد الشريعة، فإن صلاح أحوال المجموع وانتظامُ أمر الجامعة أسمى وأعظم. وهل يُقصد إصلاحُ البعض إلَّا لأجل إصلاح الكل؟ بل وهل يتركَّب من الأجزاء الصالحة إلا مركَّب صالح؟! وهل ينبت الخطيَّ إلا وشيجُه (¬1)؟! وبذلك فلو فرض أن الصلاح الفردي قد يحصل منه عند إلاجتماع فساد، فإنّ ذلك الصلاح يذهب أدراجاً، ويكون كما لو هبت الرياح فأطفأت سراجاً. وقد امتنّ الله على المسلمين وغيرهم من الأمم الصالحة بما ¬

_ (¬1) تمام البيت: وتُغْرَسُ، إلا في منابتها، النخلُ هذا الشاهد نهاية قصيدة لزهير ذات واحد وأربعين بيتاً. قالها في مدح سنان بن أبي حارثة المري. وطالعها: صحا القلب عن سلمى، وقد كان لا يسلو ... وأقفر عن سلمى التَعانيقُ فالثَّقل ديوان زهير: 51 - 55.

مكَّنَ لهم في الأرض وما أصلح من أحوالهم. فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬1)، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬2)، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (¬3)، وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4). فعلينا أن نتخيّل الأمة الإِسلامية في صورة الفرد الواحد من المسلمين فتعرِضُ أحوالها على الأحكام التشريعية كما تُعرَضّ أحوال الفرد. فهنالك يتّضح لنا سبيل واضحة من الإجراء التشريعي في أحوال الأمة. وإن من أعظم ما لا ينبغي أن يُنسى عند النظر في الأحوال العامة الإِسلامية نحو التشريع هو باب الرخصة. فإن الفقهاء إنّما فرضوا الرخص ومثّلوها في خصوص أحوال الأفراد. ولم يعرجوا على أن مجموع الأمة قد تعتريه مشاق اجتماعية تجعله بحاجة إلى الرخصة كما قدمناه في فصل الرخصة (¬5). وليس القول في سدّ الذرائع ورعي المصالح المرسلة بأقلّ أهمية من القول في الرخصة. وتعلّقُهما بمجموع الأمة من خواصهما بحيث لا يفرضان في أحوال الأفراد بخلاف الرخصة. ¬

_ (¬1) النور: 55. (¬2) النحل: 97. (¬3) آل عمران: 103. (¬4) المنافقون: 8. (¬5) انظر أعلاه: 356.

كد - واجب الاجتهاد

كد - واجب الاجتهاد من أجل هذا كانت الأمة الإِسلامية بحاجة إلى علماء أهلِ نظر سديد في فقه الشريعة، وتمكّن من معرفة مقاصدها، وخبرةٍ بمواضع الحاجة في الأمة، ومقدرةٍ على إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها، واسترفاء خروقها، ووضع الهناء بمواضع النقب من أديمها. ولقد هدانا الله إلى هذا بما أمر به من الاعتبار في أدلة الشريعة، وبذل الجهد في استجلاء مراده. حصل لنا ذلك من استقراء آيات كثيرة من الكتاب، وأخبار صحيحة من السنة. وقد ذمَّ أمماً في وقوفهم عند الظواهر وإعراضهم عن النظر والاستنباط. كما في قوله تعالى في توبيخ بني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} (¬1). فدلّت على أنهم لم يؤخذ عليهم الميثاق أن لا يأخذوا الفدية من أسرى قومهم, لأن ذلك لا يتصوّر وقوعُه مباشرة، وإنّما أخذ عليهم أن لا يخرجوهم من ديارهم لأن ذلك قد تدعو إليه المغاضبة ¬

_ (¬1) البقرة: 84 - 85.

والمعاقبة. فلمَّا عصَوا الأمر وأخرجوا بعضَ قومهم، ثم عاملوهم معاملة الأمم العدوة، فحاربوهم وأسروهم ولم يطلقوهم إلَّا بعد أن أخذوا عليهم الفداء، نعى عليهم ذلك لأن المفاداة تقتضي أنهم اعتبروهم غرباء في أوطانهم، أرقاء عندهم، حتى يفدوا أنفسهم فيقروهم. وذم أيضاً الذين أخذوا يسألون التوقيف في حكم كل مسألة كما جاء في قصّة البقرة. وقد بيناه في مبحث تجنب التحديد والتفريع من هذا الكتاب (¬1). فالاجتهاد فرض كفاية على الأمة بمقدار حاجة أقطارها وأحوالها. وقد أثِمت الأمة بالتفريط فيه مع الاستطاعة ومِكْنة الأسباب والآلات (¬2) *. وقد اتفق العلماء على أنه مما يشمله الأمر في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)، وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (¬4). وشهاب الدين القرافي يقول في كتاب التنقيح في باب الإجماع: "لو لم يبق مجتهد واحد والعياذ بالله" (¬5) *. ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 385. (¬2) * يعد آثماً في ذلك العلماء المتمكنون من الانقطاع إلى خدمة التفقه الشرعي للعمل في خاصة أنفسهم. ويعد آثماً العامة في سكوتهم عن المطالبة بذلك، بل وفي إعراضهم عمّن يدعوهم إليه إذا شهد له أهل العلم، ويعد آثماً الأمراء والخلفاء في إضاعة الاهتمام يحمل أهل الكفاءة عليه. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) التغابن: 16. (¬4) الحشر: 2. (¬5) * انظر: الفصل الرابع من باب الإجماع من التنقيح [341 - 343]. اهـ. تع ابن عاشور.

والتقصير في إيجاد الاجتهاد يظهر أثرهُ في الأحوال التي ظهرت متغيّرة عن الأحوال التي كانت في العصور التي كان فيها المجتهدون، والأحوال التي طرأت ولم يكن نظيرها معروفاً في تلك العصور، والأحوال التي ظهرت حاجة المسلمين فيها إلى العمل بعمل واحد لا يناسبه ما هم عليه من اختلاف المذاهب، فهم بحاجة في الأقل إلى علماء يُرجِّحون لهم العمل يقول بعض المذاهب المقتدى بها الآن بين المسلمين ليصدر المسلمون عن عمل واحد. وفي كل هذه الأحوال قد اشتدّت الحاجة إلى إعمال النظر الشرعي والاستنباط والبحث عمَّا هو مقصد أصلي للشارع وما هو تبع، وما يقبل التغيّرَ من أقوال المجتهدين وما لا يقبله. ونستعرض هنا أمثلة إجمالية. منها مسائل بيع الطعام، ومسائل المقاصّة، ومسائل بيوع الآجال، ومسألة كراء الأرض بما يخرج منها، ومسألة الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة، ففي كثير منها تضييق. وإن أقلّ ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي هو أن يسعَوا إلى جمع مجمع علمي يَحْضُرُهُ من أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويبسطوا بينهم حاجات الأمة ويصدروا فيها عن وفاقٍ فيما يتعين عمل الأمة عليه، ويُعلموا أقطار الإِسلام بمقرراتهم؛ فلا أحسب أحداً ينصرف عن اتباعهم (¬1) ¬

_ (¬1) لعل في إنشاء مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي وفي تأسيس غيره من المجامع الفقهية في كثير من البلاد في هذا العصر تحقيقاً، بإذن الله، لهذا القصد.

ويعيّنوا يومئذ أسماء العلماء الذين يجدونهم قد بلغوا مرتبة الاجتهاد أو قاربوا. وعلى العلماء أن يقيموا من بينهم أوسعَهم علماً وأصدَقهم نظراً في فهم الشريعة. فيشهدوا لهم بالتأهّل للاجتهاد في الشريعة. ويتعيّن أن يكونوا قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة لتكون أمانة العلم فيهم مستوفاة، ولا تتطرّق إليهم الريبة في النصح للأمة (¬1). ¬

_ (¬1) هذه إيماءات لبعض صفات المجتهدين ولشروط الاجتهاد.

القسم الثالث في مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

القسم الثالث في مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

أ - المعاملات في توجه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل هذا الباب هو المدخل لتمييز الأحكام الشرعية المنوطة بتصرفات الأمة ومعاملاتها, ليعرف ما هو منها في رتبة المقصد، فهو في المرتبة الأولى في محافظة الشرع على إثباته وقوعاً ورفعاً، وما هو في رتبة الوسيلة فهو في المرتبة الثانية تابع لحالة غيره. وهو مبحث مهمّ لم يفِ المتقدّمون بما يستحقه من التفصيل والتدقيق، واقتصروا منه على ما يرادف المسألة الملقبة بسدّ الذرائع، فسمّوا الذريعة وسيلة والمتذرع إليه مقصداً. ونحن قد قضينا حق البحث في سدّ الذرائع. وجعلنا مبحث المقاصد والوسائل متطلعاً إلى ما هو أعلى من ذلك. ولم أر من سبق إلى فرض هذا في غير بحث سدّ الذرائع سوى ما ذكر في كتاب القواعد لعز الدين بن عبد السلام (¬1)، وما زاده شهاب الدين القرافي في الفرق الثامن والخمسين (¬2)، وأنا أجمع بين كلاميهما لعدم استغناء أحدهما عن الآخر وهو هذا: ¬

_ (¬1) ابن عبد السلام. القواعد، بحث في بيان وسائل المصالح ووسائل المفاسد: 1/ 123 - 129. (¬2) القرافي. الفرق 58 الفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل، الفروق: 2/ 32 - 34.

"انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل والمقاصد: فموارد الأحكام ضربان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل. فالمقاصد هي المتضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. والوسائل هي الطرق المفضية إليها. والوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل. وإلى [ما هو متوسط] (¬1). ثم تترتب الوسائلُ بترتب المصالح والمفاسد. فمن وفّقه الله للوقوف على ترتب المصالح عرف فاضلها من مفضولها، ومقدمها من مؤخرها. وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح فيختلفون في تقديمها عند تعذر الجمع. وكذلك من وفّقه الله لمعرفة رتب المفاسد فإنه يدرأ أعظمها بأخفَّها عند تزاحمها. وقد يختلف العلماء في بعض رتب المفاسد فيختلفون فيما يُدرَأُ منها عند تعذر دفع جميعها. والشريعة طافحة بما ذكرناه" (¬2) اهـ. ثم قال عز الدين - في أثناء كلام في فصل بيان رتب المصالح -: "وجعل الجهاد تلو الإيمان في الحديث لأنه ليس بشريف في نفسه وإنما وجب وجوب الوسائل" (¬3). وقال: "ولا شك أن نصب القضاة والولاة من الوسائل إلى جلب المصالح [العامة والخاصة]. وأما نَصب أعوان القضاة [والولاة] فمن وسائل الوسائل، وكذلك تحمُّلُ الشهادات وسيلةٌ إلى أدائها، وأداؤها وسيلة إلى الحكم بها، والحكم بها وسيلة إلى جلب المصالح ودرء المفاسد" (¬4). ¬

_ (¬1) القرافي. التنقيح: 449. (¬2) ابن عبد السلام. القواعد، فصل انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل والمقاصد: 1/ 53 - 54. (¬3) ابن عبد السلام. القواعد، فصل في بيان رتب المصالح: 1/ 54. (¬4) ابن عبد السلام. القواعد، فصل في تقسيم المصالح 1/ 58.

وأنت ترى كلامهما مقتصراً على تخصيصها بمبحث المصالح والمفاسد، فغرضنا نحن أوسع، والفقيه إليه أحوج. إن الأحكام المنوطة بتصرّفات الناس في معاملاتهم الصالحة والفاسدة، وإن كانت قد توجد متماثلةً في الرتب المعبَّرِ عنها في الفقه وأصوله بأقسام الحكم الشرعي، هي في الاعتبار الشرعي متفاوتةٌ بحسب كون مناطِها من التصرّفات مقصداً أو وسيلة في نظر الشرع، أو في نظر الناس. فلذلك تعين أن نبحث عن بيان هاتين المرتبتين من التصرفات.

ب - المقاصد والوسائل

ب - المقاصد والوسائل المقاصد هي الأعمال والتصرّفات المقصودة لذاتها، والتي تسعى النفوس إلى تحصيلها بمساعٍ شتى، أو تُحمل على السعي إليها امتثالاً. وتلك تنقسم إلى قسمين: مقاصد للشرع، ومقاصد للناس في تصرّفاتهم. قال الإِمام الأكبر: مقاصد الشرع فبصرك فيها حديد وعهدك بها غير بعيد، إذ سبق تفصيلها في القسمين الأول والثاني من هذا الكتاب (¬1). وإنّما يتفرعّ عنها ما يختصّ بهذا القسم الثالث من الكتاب، وهو معرفة المقاصد الشرعية الخاصة بأبواب المعاملات. وهي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرّفاتهم الخاصة، كي لا يعود سعيهُم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أُسِّس لهم من تحصيل مصالحهم العامة، إبطالاً عن غفلة أو عن استزلال هوًى وباطِل شهوةٍ. ويدخل في ذلك كلُّ حكمة رُوعيت في تشريع أحكام تصرّفات الناس، مثل قصد التوثّق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق. وأمّا مقاصد الناس في تصرّفاتهم فهي المعاني التي لأجلها ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 35، 157، 161، 393.

تعاقدوا أو تعاطَوا أو تغارموا أو تقاضَوا أو تصالحوا. وهي قسمان: قسم هو أعلاها، وهو أنواع التصرّفات التي اتفق عليها العقلاء أو جمهورهم لمّا وجدوها ملائمة لانتظام حياتهم الاجتماعية، مثل البيع والإجارة والعارية، وما كان من أحكام تلك الأنواع مقصوداً بها لذاته لكونه قوام ماهيتها، كالتوزيع في الإجارة، والتأجيل في السَّلَم، والمنع من التفويت في التحبيس. ويعلم هذا النوع باستقراء أحوال البشر. وقسم هو دون ذلك، وهو الذي يقصده فريق من الناس أو آحاد منهم في تصرّفاتهم لملاءمة خاصّة بأحوال مثل العُمْرى والعريّة، ومثل الكراء المؤبّد المعروف بالإنزال عندنا في تونس، وبالحكْر في مصر، وبالنصبة في حوانيت التجارة في أسواق تونس، ويعبّر عنها بالجِلسة في المغرب الأقصى، ورهن غلة الوقف الخاص - أعني أوقاف الذرّية في بلاد الجريد التونسي -، وبيع الوفاء عند الحنفية في كروم بخارى. وهذا القسم يُتعَرَّف عليه بالأمارة والقرينة والحاجة الطارئة. وهذه المقاصد بقسميها منها ما يدُعى بحق الله، ومنها ما هو حق للعبد. فحقُّ الله تعالى لا يراد به ما يعطيه ظاهر هذه الإضافة، من أنه حقّ لذات الله تعالى, لأن حقّ ذات الله تعالى إنّما يدخل في العقائد والعبادات المشار إليهما بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" (¬1) وبقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ ¬

_ (¬1) انظر حديث أنس عن معاذ: 56 كتاب الجهاد، 7 باب اسم الفرس والحمار، ح 3. خَ: 3/ 216؛ 73 باب اللباس، 101 باب إرداف الرجل =

وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (¬1). فذلك ليس مرادَنا هنا، بل المراد بها حقوق للأمة فيها تحصيل النفع العام أو الغالبَ أو حقُّ من يعجز عن حماية حقّه. أوصى الله تعالى بحمايتها، وحمل الناس عليها, ولم يجعل لأحد من الناس إسقاطها. فهي الحقوق التي تحفظ المقاصد العامة للشريعة، وتحفظ تصرّفات الناس في اكتساب مصالحهم الخاصة بأفرادهم أو بمجموعهم من أن تتسبب في انخرام تلك المقاصد. وتحفظ حق كلّ من يُظَنُّ به الضعف عن حماية حقه مثل حق بيت المال، والقاصر، وحضانة الصغير الذي لا حاضن له. وحق العباد التصرّفات التي يجلبون بها لأنفسهم ما يلائمها، أو يدفعون بها عنهم ما ينافرهم، دون أن يفضي ذلك إلى انخرام مصلحة عامة أو جلب مفسدة عامة، ولا إلى انخرام مصلحة شخص أو جلب ¬

_ = خلف الرجل. خَ: 7/ 68؛ 79 كتاب الاستئذان، 30 باب من أجاب بلبيك وسعديك. خَ: 7/ 137؛ 81 كتاب الرقاق، 37 باب من جاهد نفسه في طاعة الله. خَ: 7/ 189؛ 97 كتاب التوحيد، 1 باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ح 2. خَ: 8/ 164؛ انظر 1 كتاب الإيمان, 10 باب الدليل على أنه من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح 48 - 50. مَ: 1/ 58 - 59؛ انظر 41 كتاب الإيمان, 18 باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، ح 2643. تَ: 5/ 76 - 77؛ انظر 37 كتاب الزهد، 35 باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، ح 4296. جَه: 2/ 1435؛ حَم: 2/ 309، 525، 535؛ 3/ 260 - 261. انظر تفصيل القول في حق الله البخاري، كشف الأسرار: 4/ 134؛ القرافي. الفرق 22 بين قاعدة حقوق الله وقاعدة حقوق الآدميين، الفروق: 1/ 140. (¬1) الذاريات: 56 - 57.

مصلحة له، أو جلب مضرّة له في تحصيل مصلحة غيره. وحقوق العباد هي الغالب. ويقترن الحقان - حق الله، وحق العبد - في مثل القصاص والقذف والاغتصاب، فيغلب حق الله في الغالب. وقد يغلب حق العبد إذا لم يمكن تداركُ حقِ الله، مثل عفو القتيل عن قاتله عمداً، لأن حق الاستحياء الذي حرُم لأجله القتلُ وبولغ في التهديد عليه قد فات، فرجح حقُ العبد، على أنَّ حق الله قد يبقى منه أثر قليل، فلذلك يضرب القاتل المعفو عنه مائة ويحبس عاماً (¬1). ¬

_ (¬1) هذا مذهب مالك. قال خليل: وعلى القاتل المسلم عتق رقبة إذا قتل مثله معصوماً خطأ. اهـ. وعلى البالغ القاتل عمداً - إذا لم يقتص منه، لعفو ونحوه - جلد مائة وحبس سنة، سواء كان حراً أو رقيقاً، مسلماً أو كافراً، ذكراً أو أنثى، ولو كان القتيل عبده أو مجوسياً معصوماً. الدردير. الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 287. قال مالك والليث في قاتل العمد، يعفى عنه: إنه يجلد مائة ويسجن سنة. انظر 43 كتاب العقول، 22 باب العفو في قتل العمد. طَ: 2/ 874. وبه قال أهل المدينة، وروي ذلك عن عمر. ابن رشد. البداية: 2/ 338. وحددوا عقوبة قاتل العمد، إن عفي عنه أو صولح، بأنها: ضربه مائة جلدة، وسجنه عاماً مستقبلًا. وإن كان ضربه في أول أمره أجزأ عن إعادة الضرب عليه. وأما سجنه فيستقبل عاماً من وقت العفو عنه. ابن عبد الرفيع. معين الحكام: 2/ 872: 1726. وخالف أحمد والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأبو ثور في ذلك، وقالوا: إذا عفي عن القاتل لم تلزمه عقوبة. ودليلهم أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه، فلم يجب عليه شيء آخر، كما لو أسقط الدية عن القاتل خطأ. ابن قدامة. المغني: (1) 7/ 746 = (2) 11/ 584. ومستند الإِمام مالك في ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلاً قتل عبده عمداً، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة جلدة ونفاه سنة ومحا =

وأما الوسائل فهي الأحكام التي شرعت لأن يتمّ بها تحصيل أحكام أخرى. وهي غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل، إذ بدونها قد لا يحصل المقصدُ، أو يحصل معرّضاً للاختلال والانحلال. فالإشهادُ في عقد النكاح وشهرتُه غيرُ مقصودين لذاتهما، وإنما شُرعا لأنهما وسيلة لإبعاد صورة النكاح عن شوائب السفاح والمخادنة. والحَوز للرهن ليس مقصوداً لذاته ولكنه شرع لتحقيق ماهية الرهن وحصول التوثّق الأمّ، حتى لا يرهنه الراهن مرّة أخرى عند دائن آخر فيفوت الرهن الأول. وتنقسم الوسائل - كانقسام المقاصد - إلى ما هي حقوق الله تعالى مثل منع الرشوة عن ولاة الأمور. فهي حقّ الله تعالى ليس مقصوداً لذاته، ولكنه شرع لقصد تحقّق إيصال الحقوق إلى أصحابها من أهل الخصومات، وتحقّق أهلية من تُسنَد إليهم الولايات. والتنجيز في العطايا وسيلةٌ لإتمامها خشية حصول مانعها. وهي من حقوق الله تعالى، لئلا تكون العطايا إبطالاً للمواريث، أو توسعاً في الإيصاء بأكثر من الثلث. وكون العقود لازمة بالعقد أو بالشروع في العمل وسيلة لعدم ¬

_ = سهمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة". وهذا تعزير من الإِمام. قال ابن الماجشون: روي ذلك عن أبي بكر وعلي. قال القاضي أبو محمَّد: وقد كان يلزمه القتل فلما لم يقتل وجب تأديبه، وألحق بالزاني يقتل مع الإحصان. فإذا لم يقتل لعدم الإحصان ضرب مائة وحبس سنة. وقال أيضاً: إنه لما عفا عنه من له العفو وبقيت لله عقوبة جعلناها كعقوبة الزنى من البكر جلد مائة وحبس سنة. الباجي. المنتقى: 7/ 124.

نقضها. وهي حق الله تعالى ليحصل مقصد الشريعة من رفع الخصومات بين الأمة. ويدخل في الوسائل الأسبابُ المعرَّفات للأحكام، والشروط، وانتفاء الموانع. ويدخل أيضاً ما يفيد معنى كصيغ العقود، وألفاظ الواقفين في كونها وسائل إلى تعرف مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه. وقد اتضح أن الوسائل مجعولةٌ في الدرجة الثانية من المقاصد. فلذلك كان من قواعد الفقه أنه إذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة (¬1) * ومن الأمثلة الصالحة لهذا مسألةُ النكاح في المرض فإنه مفسوخ، وفسخه وسيلة إلى مقصد حفظ حقوق الميراث. فإذا لم يفسخ حتى برئ المريض فقد رجع مالك إلى عدم فسخه وأمَرَ بمحو ما كان قاله في فسخه (¬2). وكذلك تزوّج الحاضنة بأجنبي يُسقِط حقَّها في الحضانة. فإذا لم يقم وليُّ المحضون حتى طلقت الحاضنة فالأظهر أنه لا ينتزع منها المحضون, لأن ذلك الانتزاع وسيلة لمقصد عدم ضيعة المحضون. فلما سقط اعتبار الضيعة بعد طلاق الحاضنة لم يبق وجه لاعتبار الوسيلة. وكذلك حكمُ استعمال بعض صيغ العقود في غير ما وُضعت له إذا قرن بها ما يصرفها إلى مقصود، مثل استعمال لفظ "وهبتُ" في عقد الإنكاح إذا قرن بلفظ "صداق"، وكذلك لفظ "مَلكتُكَها". ¬

_ (¬1) * انظر: الفرق الثامن والخمسين [بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل] من كتاب الفروق لشهاب الدين القرافي [2/ 32 - 34]. اهـ. تسع ابن عاشور. (¬2) قال خليل: ومرض أحد الزوجين مانع من العقد فيفسخ إلا لصحة قبله. والمرض من أحدهما مانع. اهـ. فإن صح المريض قبل الفسخ أمضي نكاحه. الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 23.

ومنه تعارُضُ لفظ الواقف مع مقصده إذا قام على مقصده دليل غيرُ لفظه، وكان لفظه يخالف ذلك. ولذلك قال الفقهاء: إذا استقامت المعاني فلا عبرة بالألفاظ. وقد تتعدد الوسائلُ إلى المقصد الواحد، فتعتبر الشريعةُ في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً للمقصد المتوسَّل إليه بحيث يحصل كاملاً، راسخاً، عاجلاً، ميسوراً، فتُقدِّمها على وسيلة هي دونها في هذا التحصيل. وهذا مجال مُتسِّع ظهر فيه مصداقُ نظر الشريعة إلى المصالح، وعصمتها من الخطإ والتفريط. ولم أر من نبّه على الالتفات إليه. وأحسب أن عظماء المجتهدين لم يغفلوا عن اعتباره. ويجب أن يكون تَتبع أساليب مراعاة الشريعة لهذا الأصل من أكبر ما يهتم به المجتهدون والفقهاء في الاستنباط والتشريع وتعليل الشريعة، وما يهتمُ به القضاة والولاة في تنفيذ الشريعة، فإنه متشعب متفنن. فإذا قدَّرنا وسائلَ متساويةً في الإفضاء إلى المقصد باعتبار أحوالِه كلِّها سوّت الشريعةُ في اعتبارها، وتخيَّر المكلّفُ في تحصيل بعضها دون الآخر، إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها، مثاله قوله تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (¬1). فهذا خطاب للناس والمقصود منه حصول هذا العقاب. فإذا قام به وليُّ المرأة أو قام به زوجها أو قام به القاضي كان ذلك سواء. فإذا عرضت أحوالٌ في الناس أضعفت سلطةَ ولي المرأة أو سلطة الزوج، كان تكليفُ القضاة بمباشرة ذلك متعيّناً, لأنه أوقعُ في دوام ذلك الإمساك وتعجيله وعدم اختلاله. فإنا نجد في الأزمان التي بلغ فيها نظام القضاة أقصى حدِّه ¬

_ (¬1) النساء: 15.

قد لا يستطيع وليُّ المرأة أن يمسكها مثلما يمسكها حكم القاضي، وبالعكس نجد في أزمان الحياءَ وسذاجة الناس مباشرةَ وليَّ المرأة ذلك أيسر وأسرع وأمكن. هذا كله بالنسبة إلى الوسائل التي يُطلب تحصيلُها لتحصيل المقصد، أعني التي يتعلق بها خطاب التكليف. فأمّا الوسائل باعتبار تسبُّبها في حصول المقصد، إذا حصل ذلك التسبب، وترتب عليه حصولُ أثره، فلا التفات إلى تفاوتها في كيفية تحصيل المقصد المتُوسَّل إليه وفي ترتُّب آثاره عليه. ولذلك كان الراجحُ اعتبارَ حكم شرب خمر العنب ونبيذ التمر وغيره من الأنبذة المسكرة حكماً متحداً في التحريم، وإقامة الحدِّ إثباتاً أو نفياً، إذ لا فرق بينها عند حصول الأثر المتوسَّل إليه. وكذلك كان الراجحُ اعتبارَ حكم القصاص عن القتل العمد العدوان إذا حصل بآلة من شأنها القتلُ إذا توجهت إلى المصاب بها. ولا التفات إلى الآلات ذات الوصف المذكور في سرعة تحصيل القتل أو كثرة الاستعمال، فيستوي القصاصُ في القتل العدوان إن حصل بسيف، أو بجعبة الرصاص النارية، أو برمي صخرة من عل، أو بوضع المقتول تحت أرجل الفيلة، أو إلقائه إلى السباع.

ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها

ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها إن تعيين أصول الاستحقاق أعظم أساس وأثبته للتشريع في معاملات الأمة بعضها مع بعض. فإنه يُحصِّل غرضين عظيمين هما أساس إيصال الحقوق إلى أربابها, لأن تعيينها ينوِّرها في نفوس الحكام، ويقرّرها في قلوب المتحاكمين، فلا يجدوا عند القضاء عليهم بحسبها حرجاً. وسيأتي في مقاصد نصب القضاة والحكام أن من مقاصد الشريعة رفعَ أسباب التواثب والتغالب، فيُعلم هناك أن تعيين مُستحقي الحقوق أولُ عون على ذلك المقصد، وأن ذلك المقصد غايةٌ وعلّةٌ لهذا المقصد. وحقوق الناس هي كيفيات انتفاعهم بما خلق الله في الأرض التي أوجدهم عليها، كما أنبأ على ذلك قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1). فهذا نص القرآن قد جعل ما في الأرض جميعاً حقاً للناس على وجه الإجمال المحتاج إلى التفصيل والبيان. فلو أن ما في الأرض يفي برغبات كل الناس في كل الأحوال وكل الأزمان لما كان الناس بحاجة إلى تعيين حقوق انتفاعهم بما في عالمهم الأرضي. ولكن الرغبات قد تتوجَّه إلى أشياء في أزمان أو بقاع أو أحوال نراها لا تفي بإرضاء تلك الرغبات كلِّها، إمّا لأنّها أقلُّ من حاجات الراغبين، وإمّا لأنّ بعضَها آنقُ من ¬

_ (¬1) البقرة: 29.

بعض، فتنهال الناس إلى طلب الأينق وترك غيره. فلا جرمُ يتوقّع من ذلك تزاحم كثير على متاع قليل، لعله يفضي إلى التواثب والتغالب فيدحض القويُ حقوق الضعيف. وربّما كان عاقبة ذلك تفاني المتكافئين في القوة على التناول، وفناءَ المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. وقد قضت الشريعةُ في تعيين أصحاب الحقوق وبيان أولوية بعض الناس ببعض الأشياء، أو بيان كيفية تشاركهم في الانتفاع بما يقبل التشارك، على طريق فطري عادل، لا تجد النفوس فيه نفرة ولا تُحسّ في حكمه بهضيمة. فلم تعتمد الشريعةُ على الصُدفة ولا على الإرغام، ولكنها توخّت نظرَ العدل والإقناع حتى لا يجد المنصفُ حَرجاً. ثم لما أحكمت سداه وركزت مداه أمرت الأمة بامتثاله وحدّدته تقريباً لنواله. وجماعُ أصول تعيين الحقوق هو أحد أمرين: إما التكوين وإما الترجيح. فالتكوين أن يكون أصلُ الخلقة قد كوّن الحق مع تكوين صاحبه وقرن بينهما، وهو أعظم حق في العالم. والترجيح هو إظهارُ أولويةِ جانبٍ على آخر في حق صالح لجانبين فأكثر. وطريق إثبات هذه الأولوية إمّا حجّةُ العقل الشاهد بالرُّجحان، وإمّا الحجّة المقبولة بين الناس في الجملة. فإن لم يكن شيءٌ من هذين المرجّحين فقد يُصارُ إلى مرجّحات اصطلاحية وضعية مثل السبق إلى التحصيل، وكبر السن الذي هو سبق في الوجود. فإذا فُرض الاستواء بين المراتب المتنازعة الحق فقد يصارُ إلى القرعة،

وهي من حكم البخت، وقد يُصارُ إلى قسمة الشيء بين المتعددين اكتفاءً ببعض الانتفاع. و [نستطيع أن] (¬1) نستقري ما بدا لنا من أنواع الحقوق على مراتبها إلى تسع مراتب، مرتّبة على حسب قوّة موجب الاستحقاق فيها لمستحقِّيها: المرتبة الأولى: الحق الأصلي المستحَق بالتكوين وأصل الجبلة. وهو حقّ المرء في تصرّفات بدنه وحواسه ومشاعره، مثل التفكير والأكل والنوم والنظر والسمع. وحقّهُ أيضاً فيما تولّد عنه، كحق المرأة في الطفل الذي تلده ما دام لا يعرف لنفسه حقاً، أو لم تُثبت له الشريعة حقاً، فإذا ميّز وعرف لنفسه الضرَّ والنفع ارتفع حق الأم بمقدار تمييز الطفل، وصار القولُ له في مقدار ما يُميز. ولذلك قال إبراهيم لابنه إسماعيل وهو غلام مميز: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (¬2) فجعل له التخييرَ في الإذن بأن يذبحه وعدمه. ويلتحق بهذه المرتبة الحقُّ في كلّ ما تولّد من شيء فيه حقّ معتبر، مثل نسل الأنعام المملوكة لأصحابها، وثمر الشجر، ومعادن الأرضين. فإن الحق في أصولها ثابت بمرتبة دون هذه المرتبة. ويكون في المتولِّد منها أقوى منه في أصولها. المرتبة الثانية: ما كان قريباً من هذا, ولكنه يخالفه بأنّ فيه شائبةً من تواضع اصطلح عليه نظامُ الجماعة أو الشريعة. وذلك مثل حقّ الأب في أولاده الذين جعلهم الشرع بسبب ¬

_ (¬1) كذا بالأصل. ط. (1)، لكن المؤلف ضرب عليها بخطه. ط. الاستقامة: 160. (¬2) الصافات: 102.

الاختصاص أولاداً له واعتبرهم نسلاً منه, لأن اختصاص المرأة بالرجل بطريقة الزواج، وصيانَتَه إياها، وتحقق حصانة نشأتها، اقتضى اعتبارَ الحمل العالق بها في مدة ذلك الاختصاص حملاً من ذلك الزوج. فجعل الزوج أباً لذلك الولد، وسَفَهَ كلُّ من ينفيه عن صاحب عصمة أمه. ولم يجعل حقَّ محاولة نفيه إلا لصاحب العصمة إن ثبت عنده قطعاً أن الحمل ليس منه. وقد كانوا في الجاهلية يثبتون الأنساب بطرق شتى. فكانوا يأخذون بقول الأم غير ذات العصمة، إن حملت بولد من سفاح، أن تقول: هو من فلان - أحدِ أخدانها - وربّما عاضدوا ذلك بالقافة أو باستنطاق الكهان. وكان الأمرُ في بغاء الإماء أوسعَ من ذلك. المرتبة الثالثة: أن يكون المستحقُ وغيرُه سواءً في إمكان تحصيل الحق، ولكن بعض المستَوِين قد سعى بجهد، وعمل بيده أو بدنه، أو بابتدار لتحصيل الشيء قبل غيره، كالاحتطاب والاختباط والصيد والقنص واستنباط المياه وإقامة الأرحاء على الأنهار والمصائد على الشطوط. المرتبة الرابعة دون هذه، وهي أن يكون الطريقُ إلى نوال الشيء هو الغلبة والقوة. وقد كان ذلك في اصطلاح البشر في مدد الفوضى أقوى من النوع الذي في المرتبة الثالثة، غيرَ أن ذلك لمّا كان معظمه مذمومًا في نظر الشريعة والعقول السليمة جعلناه دون المرتبة التي قبله. وهذا مثل القتال على الأرض، والغارة على الأنعام، ومثل الأسر والسبي في الاسترقاق. وقد أقرّت الشريعة ما وجَدته بأيدي الناس من آثار هذه الوسيلة. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قال لمولاه هُنَيْءٍ حين جعله

على الحمى: "وايم الله إنّهم ليرون أني قد ظلمتهم. إنها لبلادُهم قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإِسلام. والذي نفسي بيده، لولا المال (أي الإبل) الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً" (¬1). ومثل هذا النوع ما أقرّته الشريعة في الحقوق العامة دون الخاصة. وذلك حقوقُ الجهاد والمغانم والسبي، لكنه حقّ لعموم المسلمين. ثم يختص ببعضِهم بالقسمة أو بتنفيل أمير الجيش. المرتبة الخامسة: حقّ السبق الذي لم يصاحبه إعمال جهد في تحصيل الحقّ. وذلك مثل مقاعد الأسواق للباعة غير أصحاب الدكاكين، ومقاعد المتسوّقين فيها، ومجالس المساجد، ومثل السقي من السيح والأودية من كل ماء ليس بمملوك، وتزوج ذات الوليين لأول الزوجين اللذين زوج كلاً منهما أحدُ الوليين إذا لم يكن دخول، وترجيحُ الزوج الذي سبق بالبناء بالمرأة على الزوج الآخر وإن كان أسبق عقداً، ومثل الالتقاط على تفصيل فيه في الإِسلام وعدم تفصيل في بعض الشرائع، مثلما حكى الله عن السيارة: {قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} (¬2) بشر نفسه بأنه ملكه بالالتقاط. المرتبة السادسة: أن يكون المستحق قد نال الحق بطريق ¬

_ (¬1) حديث زيد بن أسلم عن أبيه، انظر 60 كتاب دعوة المظلوم، 1 باب ما يتقى من دعوة المظلوم، ح 1. طَ: 2/ 1003؛ انظر 56 كتاب الجهاد، 180 باب إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون، فهي لهم، ح 2. خَ: 4/ 33. (¬2) يوسف: 19.

ترجيحه على متعدد من المستحقين في مراتب أخرى لتعذر تمكين الجميع من الانتفاع بالشيء المستحق. وهذا مثل جعل حضانة الأولاد حقّاً لأمهم دون أبيهم إذا حصل الفراق بين الأبوين. فإنهما كانا معاً صاحبَي ذلك الحق حين الاجتماع. فلما تفرّقا تعذّر قيامهما به جميعاً، فرجح جانبُ الأم. ومثل جعل النظر في مال الأولاد الصغار للأب دون الأم ترجيحاً لتدبير الأب مع أن حقّ الأم في ذات الولد أقوى, لأن حقّها من المرتبة الأولى. وفي هذه المرتبة صورٌ وأمثلة كثيرة في الولايات. وحقوق أصحاب هذه المرتبة تُعتبَرُ بالنسبة للجانب المرجّح. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في الإشراف في باب الإيلاء: "الحقوق معتبرة بمن جُعِلت له. فالتربص في الإيلاء حق للزوج. فلذلك لا ينظر فيه إلى حال الزوجة من حرية ورقّ" (¬1). المرتبة السابعة: نوالُ الحقّ ببذل عوض في مقابلته يدفع إلى ¬

_ (¬1) واللفظ في الإشراف في دليل المالكية لرأيهم: أن الأربعة أشهر - المضروبة للإيلاء - ليست بمحل يوجب الفيء، وأنه بعد مضيها لا تبين إلا بعد أن يوقف. فإما فاء أو طلق، لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية، البقرة: 226، ففيها أنه تعالى أضاف مدة التربص إلى الزوج وجعلها حقاً له، وما كان حقاً للإنسان لم يكن محلاً لوجوب حق عليه كالآجال في الديون وغيرها ... ولا معتبر في الأجل بالنساء خلافاً لأبي حنيفة. ودليلنا أن مدة التربص حق للزوج على ما بيناه، والحقوق معتبرة بمن جعلت له كالطلاق وغيره. وتحريره أن يقال: لأنه معنى وضع حقاً للشخص فليس للرق تأثير في نقصانه. فكان الاعتبار لمن هو حق له كالطلاق. عبد الوهاب. المعونة: 2/ 885؛ 4/ 141 - 142.

صاحب الحقّ إرضاء له, لأنه ثابت له بمرتبة من المراتب المتقدمة، وهو التعاوض فيما يقبل التعويض، وسيأتي (¬1). وقد قال عمر في كلامه مع هنيء مولاه: "إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإِسلام" (¬2). وهذه المرتبة هي أوسعُ المراتب وأشهرُها في تحصيل الحقوق في نظام الحضارة الإنسانية. المرتبة الثامنة: أن يَنَال الحقَّ - بعد انقراض مستحقّه - أقربُ الناس إليه وأولاه بأخذ حقوقه. وللعوائد والشرائع أنظار متفاوتة في تعيين صفة القرب. والإِسلام أعدل الشرائع في ذلك حين رسم حقوق الإرث، وبناها على اعتبار القرابة الأصيلة والعارضة بقطع النظر عن المحبّة وضدها كما سيأتي. قال تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬3). وجعل الأصل في ذلك هو الرابطة العائلية. فالإرث سببه النسب والزوجية والولاء. وجعل لكلًّ حدّاً ينتهى إليه. فإذا انتهى إليه صار المالُ بمنزلة مال لا مالك له، فيعود إلى الأصل - أعني جامعة الأمة -. وقد بنى الإِسلام ذلك على أصل الفطرة. فلم يمنع قرابة النساء منه، وما كن يأخذن شيئاً من مال الميت عند أكثر الأمم، إلَّا أنه عَدَّلَ ذلك على كيفية سنشرحها في آصرة القرابة (¬4). وقد حصر ¬

_ (¬1) انظر بعد: 462. (¬2) انظر أعلاه: 413/ 1. (¬3) النساء: 11. (¬4) انظر: 434 وما بعدها.

الإسلام حقّ الإرث في المُتَموَّلات خاصّة، وكان أمر الجاهلية يخوّل أبناء الميت وإخوته أن يرثوا زوجته. المرتبة التاسعة: مجردُ المصادفة دون عمل أو سعي. وهذه أضعف المراتب. وللعلماء في اعتبارها خلاف. فلذلك لا تجري أمثلتها إلَّا على رأي بعض العلماء مثل القرعة في القسمة في مذهب مالك (¬1)، ومثل ما ورد في حديث الاستهام على الأذان (¬2)، ومثل اعتبار كبر السنن في المحاورة كما ورد في حديث حُوِيِّصة ومُحِيِّصة (¬3)، ومثل الجلوس ¬

_ (¬1) القسمة أنواع ثلاثة: قرعة، ومراضاة في أصل الشيء المقسوم على البت، ومهايأة أو مهانأة وتقع في المنافع. وقسمة القرعة: تمييز حق في مشاع بين الشركاء، وليست ببيع، ولذا يرد فيها بالغبن. وإذا طلبها أحد الشركاء من ورثة وغيرهم وامتنع بعضهم، أجبر عليها الممتنع إن انتفع كل منهم بما ينوبه انتفاعاً تاماً كانتفاعه قبل القسم، وكان المقسوم لا يفسده القسم، ولم يكن قسمه ممنوعاً كثمر على رؤوس الشجر قبل بدو صلاحه، وإن مع أصله، إلا إذا دخلا على جذه عاجلاً فلا يمنع. الدردير. الشرح الصغير: 3/ 759 - 671؛ الشيباني. تبيين المسالك: 4/ 152 - 153. (¬2) عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستَهموا عليه لاستَهَموا, ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً". انظر 10 كتاب الأذان، 9 باب الاستهام في الأذان، 1. خَ: 1/ 152. (¬3) حُويَّصة ومُحيِّصة ابنا مسعود بن كعب بن عامر الأنصاري الأوسيان أخوان. ومُحيِّصة أصغر سناً من حُويِّصة وأسلم قبله. شهد الأول أُحداً والخندق وسائر المشاهد. ابن حجر. الإصابة: 1/ 363 ع 1881؛ 3/ 388 ع 7825. وقد جاء ذكرهما في الصحيحين وفي الموطأ. وألفاظ الحديث مختلفة متقاربة. =

على اليمين في استحقاق الابتداء بالشرب من يد الجليس كما ورد في حديث ابن عباس (¬1). ¬

_ = ونص الحديث كما ورد في البخاري: ثنا مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، عن سهل بن أبي حثمة، أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه: أن عبد الله بن سهل ومحيَّصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم. فأخبر محيِّصة أن عبد الله قتل وطُرح في فقير أو عين. فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه. قالوا: ما قتلناه والله. ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم، وأقبل هو وأخوه حويِّصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل. فذهب ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحيّصة: "كبَّر كبَّر" يريد السنن. فتكلم حويِّصة ثم تكلم محيصة. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب". فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم به، فكُتب: ما قتلناه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويِّصة ومحيَّصة وعبد الرحمن: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا: لا. قال: "أفتحلف لكم يهود؟ ". قالوا: ليسوا بمسلمين. فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده بمائة ناقة حتى أدخلت الدار. قال سهل: فركضتني منها ناقة. انظر: 93 كتاب الأحكام، 38 باب كتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه. خَ: 8/ 119 - 120؛ انظر 28 كتاب القسامة، 1 باب القسامة، ح 1. وفيه: فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كبر"، والكبر في السنن, فصمت. مَ: 2/ 1291 - 1295؛ انظر 44 كتاب القسامة، 1 باب تبدئة أهل الدم في القسامة، ومن لفظه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كبّر كبّر" يريد السنن. فتكلم حويِّصة. طَ: 2/ 877 - 880. (¬1) عن سهل بن سعد قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره. فقال: "يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ؟ " فقال: ما كنت لأوثر بفضل منك أحداً يا رسول الله. فأعطاه إياه. متفق عليه. التبريزي. مشكاة المصابيح: 2/ 1232، ح 4274. وفي الكاشف عن حقائق السنن: أن الغلام ابن عباس، وإنما استأذنه تطييباً =

تنبيه: قد يكون صاحب الحق واحداً وهو أخص كيفية الانتفاع. وقد يكون متعدداً محصوراً مثل الشركاء في الأشقاص في دار أو أرض، وقد يكون متعدداً غير محصور. وذلك في حقوق أصحاب الأوصاف، كالجيش والفقراء وطلبة العلم فيما جعل لهم، وكالمرعى للقبيلة، وفي الحقوق العامة للمسلمين مثل حق بيت المال. ومتى طلب بعض المتعدد انفراده بما يختص به من الحق أجيب إليه, لأنه الأصل فيما يقبل التجزئة. وقد يؤول التصرف في بعض أصناف هذا النوع إلى إقامة أمناء على استعمال الحق المشترك. وهو ما سنتكلم عليه في المقصد من وضع الحكام (¬1). تنبيه ثان: إن سَلْبَ الحق لمن تبيّن أنه غير أهل له مقصد شرعي. وقد يرجع إلى المراتب المتقدمة، مثل سلب الحق عمن لا تساعده الخلقة على نواله، ومنه سلب حق الجهاد عن النساء كما في الحديث المفسر لقوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} (¬2). ¬

_ = لنفسه، لا سيما والأشياخ أقاربه، ومنهم خالد بن الوليد. الطيبي: 8/ 190 - 191. (¬1) انظر 515 وما بعد. (¬2) النساء: 32. والحديث المشار إليه هنا، والذي يصوّر سبب نزول الآية، هو قول أم سلمة: "يا رسول الله، تغزو الرجالُ ولا نغزو، ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث". أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي والحاكم وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مجاهد. وإنّما ورد النهي عن التمنّي لما فيه من تحكم على الشريعة، وتطرق إلى الدفع في صدر حكم الله. فهذا النهي عن كل =

وللعلماء في أمثلة من هذا اختلافٌ، مثل سلب حق القضاء عن المرأة (¬1). وقد يكون سلب الحق لأجل ترجيح جانب من المستحقّين إياه على جانب آخر، كما تقدم في المرتبة السادسة. وقد يكون سَلْبُ الحق لأجل ثبوت حقّ آخر، كما تقدم في المرتبة الثالثة والمرتبة الرابعة. ومن هذا أيضاً: سَلْبُ حقّ التصرف في المال عن المعتوه، وهو يرجع إلى زوال ما في الخلقة من المقدرة على تدبير الأمور. وسَلْبُ حقِّ التصرف أيضاً عن السفيه، وهو يرجع إلى شيء من هذا، مع مراعاة حق صاحب المال الذي لا يستطيع حفظَ حقه، ومراعاة حقوق عائلته وورثته. تنبيه ثالث: لا يُنتزع الحق من مستحقّه إلَّا لضرورة تقيم مصلحةً عامة، كأخذ أرض للحِمى أو لنزول جيش يدفع عن الأمة، وإلَّا لِدَفعه في قضاء حق آخر انتفع به المنتزَعُ منه كبيع القاضي رَبع المدين، وإلَّا لِحق مرجَّح كالشفعة. ¬

_ = تمنّ لخلاف حكم شرعي. راجع ابن عطية. المحرر الوجيز: 4/ 34 - 35. (¬1) إذ الشرط الأول، عند الجمهور: أن يكون القاضي رجلاً. ويجمع هذا الوصف بين البلوغ والذكورية. وإنما اشترطوا ذلك لنقص المرأة عن رتب الولايات، وإن تعلقت بقولها أحكام. وأجاز أبو حنيفة قضاءها فيما تصح فيه شهادتها. وشذ ابن جرير الطبري فجوّز قضاءها في جميع الأحكام. وهو قول يرده الإجماع. مع قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء: 34. الماوردي. الأحكام السلطانية: 130.

د - مقاصد أحكام العائلة

د - مقاصد أحكام العائلة انتظام أمر العائلات في الأمة أساس حضارتها وانتظام جامعتها. فلذلك كان الاعتناء بضبط نظام العائلة من مقصد الشرائع البشرية كلها. وكان ذلك من أول ما عُني به الإنسان المدني في إقامة أصول مدنيته بإلهام إلهي روعي فيه حفظ الأنساب من الشك في انتسابها، أعني أن يثبت المرء انتساب نسله إليه كما قد أشرنا إليه في مبحث أنواع المصلحة المقصودة من التشريع (¬1). ولم تزل الشرائعُ تُعنى بضبط أصل نظام تكوين العائلة الذي هو اقتران الذكر بالأنثى المعبَّر عنه بالزواج أو النكاح. فإنه أصل تكوين النسل، وتفريع القرابة بفروعها وأصولها. واستتبع ذلك ضبط نظام الصهر، فلم يلبث أن كان لذلك الأثرُ الجليل في تكوين نظام العشيرة فالقبيلة فالأمة. فمن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة. ومن هذا تتكون الأخوة وما دونها من صور العصبة. ومن امتزاج رابطة النكاح برابطة النسب والعصابة تحدث رابطة الصهر. وجاءت شريعة الإِسلام مهيمنة على شرائع الحق، فكانت الأحكام التي شرعتها للعائلة أعدل الأحكام وأوثقها وأجلّها. ولا جرم أن الأصل الأصيل في تشريع أمر العائلة هو إحكام آصرة النكاح، ثم إحكام آصرة القرابة، ثم إحكام آصرة الصهر، ثم إحكام كيفية انحلال ما يقبل الانحلال من هذه الأواصر الثلاث. ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 239.

هـ - آصرة النكاح

هـ - آصرة النكاح لما أراد مبدع الكون بقاء أنواع المخلوقات جعل من نظام كونها ناموس التولد. وجعل من ذلك الناموس داعية جبلية تدفع أفراد النوع إلى تحصيله بدائع من أنفسها غير محتاج إلى حدوٍ إليه أو إكراه عليه، ليكون تحصيل ذلك الناموس مضموناً، وإن اختلفت الأزمان والأحوال. وتلك الداعية هي داعية ميل ذكور النوع إلى إناثه. وقد ميّز الله تعالى نوع الإنسان بالاهتداء إلى الفضائل والكرامات واستخلاصها من بين سائر ما يحفُّ بها من شريف الخصال ورذيل الفعال. وجعل له العقل الذي يعتبر الأعمالَ باعتبار غاياتها ومقارناتها، وأخذه منها لبابها كيفما اتفق. فبينما كان قضاء شهوة الذكور مع الإناث اندفاعاً طبيعياً محضاً لم يلبث الإنسان منذ النشأة الموفقة أن اعتبر ببواعثه وغاياته ومقارنتها، فرأى في مجموع ذلك حباً ووداً ولطفاً ورحمة وتعاوناً وتناسلاً واتحاداً وإقامةً لنظام العائلة ثم لنظام القبيلة ثم الأمة. وفي خلال تلك المعاني كلها معان كثيرة من الخير والصلاح والعلم والحضارة. فألهم إلى أن تلك الداعية ليست هي بالنسبة إلى نوعه كحالها بالنسبة إلى بقية أنواع الحيوان الذي لا يفقه منها غير اندفاع الشهوة. وعَلِم أن مراد خالقه من إبداعها في نوعه مراد أعلى وأسمى من المراد في إيداعها في الأنواع الأخرى. فأخذ الإنسانُ بإرشاد هداته وإعانة امتثاله يكسو هاته الداعية إهاباً غير الإهاب الذي برزت فيه بادئ بدء الخلقة. فإن

المحامد والغايات السامية التي أثمرتها هذه الداعية صيرت جذرها الأول شيئاً ضئيلاً في جنب ما حبي به من عظيم الكمالات. فأصبح بحق مشرَّفاً بشرف آثاره ونتائجه. وقد أشار إلى هذا التطور قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (¬1). فاعتبر قوله: {مِنْهَا} وقوله: {لِيَسْكُنَ} وقوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} وقوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} وقوله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، فإن ذلك كله مظاهر اهتداء إلى ما في تلك الحالة من الفضائل والعواقب الصالحة. كما تكون تلك الداعية الشهوانيّة أمراً ذميماً إذا حفّت بها آثار قبيحة سيئة مثل مفاسد الزنا والبغاء والوأد والاستهتار والتهتك. وتلك المذمات قد كانت مغضوضاً عن قبحها في الجاهلية كما في بعض العوائد السخيفة. أخرج البخاري في صحيحه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها: "أنها أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء: فنكاح منها هو نكاح الناس اليوم يخطبُ الرجل إلى الرجل وَلِيَّتَه أو ابنته فَيُصْدِقها ثم يَنكِحها. ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهُرت من طَمْثِها: "أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه"، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبيَّن حملُها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد. فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع. ¬

_ (¬1) الأعراف: 189.

ونكاح آخر يجتمع الرهطُ ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلُّهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فَيُلْحَقُ به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا، وكُنَّ ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها اجتمعوا لها، ودعوا لهم القافّة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون. فالتاطَ به ودُعي ابنُه ولا يمتنِع من ذلك. فلما بعث سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم" (¬1) اهـ. وقد اقتصرت في حديثها على ما هو متعارفُ جَهْرٍ بينهم. ولم تذكر السفاح والمخادنة المشار إليهما بقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (¬2) مقتصراً القرآن على هذين, لأن تلك التي في حديث عائشة كانت مباحة في الجاهلية فأبطلت. فأما ما يقع سرّاً وهو السفاح والمخادنة (¬3) * فلم يكن مباحاً في الجاهلية، إذ كان أولياء النساء والبنات لا يقرّون ذلك. قال امرؤ القيس: تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشرًا ... عَليَّ حراصاً لو يشرُّون مقتلي (¬4) ¬

_ (¬1) تقدم ذكر هذا الحديث وتخريجه: 303/ 2. (¬2) النساء: 24. (¬3) * السفاح: الزنا بدون التزام ولا مداومة. والمخادنة: زناء مع التزام ومداومة. اهـ. تع ابن عاشور. (¬4) البيت الثالث والعشرون من المعلقة، وفيه روايتان: "يسرون" و"يشرون". التبريزي: 37.

وقال عبد بني الحسحاس: وهن بنات القوم إن يشعروا بنا ... تكن في بنات القوم إحدى الدهارس (¬1) في: تعليلية، والدهارس: المصائب. وكانت عندهم علاقة أخرى تقرب من السر وهو الضماد (¬2) *. وعند غير العرب من الأمم كيفيات أخرى عديدة. فكان اعتناء الشريعة بأمر النكاح من أسمى مقاصدها, لأن النكاح جِذم نظام العائلة. وأن مقصدها منه قصرُ الأمة على هذا الصنف من الزواج دون ما عداه مما حكي في حديث عائشة. وحقيقته، هو اختصاص الرجل بامرأة أو نساء هُن قرارات نسله حتى يثق من جراء ذلك الاختصاص بثبوت انتساب نسلها إليه. فإن هذا الاختصاص حفّت به أشياء منذ القدم كانت وازعة للمرأة عن الوقوع فيما يفضي إلى اختلاط النسب. تلك الوازعة هي حصانة ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله سحيم بن وثيل. زنجي حبشي أسود فصيح. كان يشبب بالنساء ومن بينهن أخت مولاه، وبنت سيده. وهذا البيت ثان من قصيدة له من الطويل طالعها: كأن الصبيريات يوم لقيننا ... ظباء حنت أعناقها للمكانس فكم قد شققنا من رداء منيَّر ... ومن برقع عن ناظر غير ناعس الكتبي. الفوات: 1/ 238، ع 134؛ الأصبهاني. الأغاني: 22/ 326 - 338؛ البغدادي. الخزانة: 2/ 102 - 106؛ شرح أبيات المغني: 2/ 340 - 342. (¬2) * الضَّماد - بكسر الضاد المعجمة، ويقال: الضَّمْد بفتح الضاد وسكون الميم - هو أن تتخذ المرأة ذات الزوج خليلاً في وقت شدّة القحط لينفق عليها حين تقلّ نفقة زوجها، وفي الغالب يكون ذلك بغض نظر من زوجها أو خفية منه. اهـ. تع ابن عاشور.

المرأة في نفسها بحسب نشأتها وتربيتها ودينها. وحصانة مقرها بحسب صيانة زوجها إياها، وذب جيرتها عنها, لأنهم أمثال لحال زوجها. ولذلك لم تر الشريعة نقض ما انعقد من عقود هذا النكاح في الجاهلية لأنه كان جارياً على تلك الأحوال الكاملة. وليس من مقصد الإِسلام فيه لزوم أن يقصد المتعاقدان من عقدهما أنهما يجريان فيه على امتثال الوصايا الشرعية المعبر عنه بالنية، إذ ليس للنيّة مدخل في تقوية تلك الاعتبارات الناشئة على الشعور الغالب بالرُّجلة والمروءة. بَيْدَ أن الشريعة زادت عقدة النكاح تشريفاً وتنويهاً لم يكونا ملحوظين قبلها، إذ اعتبرتها أساساً لهذه الفضائل، ليزيدها المقصد الديني تفضيلاً وحرمة في نفوس الأزواج وفي نظر الناس، بحيث لم يبق معدوداً في عداد الشهوات. وقد نبّه الأمة لذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1). وقد ظهر من جميع ما تقدّم أنّ صورة التعاقد في تكوين صلة النكاح على الوجه الأكمل صورة عرضت له من الحرص في تحقق معنى رضى المرأة وأهلها بذلك الاجتماع، وفي تحقق حسن قصد الرجل معها من دوام المعاشرة وإخلاص المحبة، وإلَّا فقد كان الزواج يحصل في أول تاريخ المدنية بمجرد الانسياق بين الرجل والمرأة والمراودة والمرضاة من كليهما حتى يطمئن كل إلى الآخر، ويستقر أمرهما على الوفاق والإلف وبناء العائلة والنسل. ¬

_ (¬1) الروم: 21.

وقد استقريت ما يستخلص منه مقصد الشريعة في أحكام النكاح الأساسية والتفريعية فوجدته يرجع إلى أصلين: الأصل الأول: اتضاح مخالفة صورة عقدهِ لبقية صور ما يتفق في اقتران الرجل بالمرأة. الأصل الثاني: أن لا يكون مدخولاً فيه على التوقيت والتأجيل. فأما الأصل الأول فقد اتضح لك أمره مما قدمناه آنفاً، وقد راعت الشريعةُ فيه تلك الصور المشروحة في حديث عائشة رضي الله عنها التي قِوامُها التفرقة بين النكاح وبين غيره من المقارنة المذمومة المعرَّضة للشك في النسب. وقوامُ ذلك يحصل بثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يتولّى عقدَ المرأة وليٌّ لها خاصٌّ إن كان أو عامٌّ, ليظهر أن المرأة لم تتولَّ الركون إلى الرجل وحدها دون علم ذويها, لأن ذلك أول الفروق بين النكاح وبين الزنا والمخادنة والبغاء والاستبضاع. فإنها لا يرضى بها الأولياء في عرف الناس الغالب عليهم، ولأن تولّي الوليّ عقد مولاته يهيئه إلى أن يكون عوناً على حراسة حالها وحصانتها، وأن تكون عشيرتُه وأنصارُه وغاشيتُه وجيرتُه عوناً له في الذبّ عن ذلك [وهذا متفق عليه في الجملة بين فقهاء الأمصار فيما به الفتوى] (¬1). واشتراط الولي في عقد النكاح هو قول جمهور فقهاء الأمصار. وقال أبو حنيفة: هو شرط في نكاح الصغير والمجنون والرقيق (¬2). والوليّ العام القاضي إن لم يكن للمرأة وليّ من العصبة. ¬

_ (¬1) الإضافة مضروب عليها في نسخة المؤلف المصححة من ط (1). انظر الاستقامة: 169. (¬2) دون الحرة البالغة العاقلة بكراً كانت أو ثيباً, لأن النكاح ينعقد برضاها، ولأن لها التصرف في خالص حقها, وهي من أهله. ولهذا كان لها التصرف =

الأمر الثاني: أن يكون ذلك بمهر يبذله الزوج للزوجة. فإن المهر شعار النكاح لأنه أثر من المعاملات القديمة عند البشر التي كان النكاح فيها شبيهاً بالملك. وكانت الزوجة شبيهة بالرقيق. فليس المهر في الإِسلام عوضاً عن البضع كما يجري على ألسنة الفقهاء على معنى التقريب، إذ لو كان عوضاً لروعي فيه مقدار المنفعة المعوض عنها, ولوجب (¬1) تجدد مقدار من المال كلّما تحقق أن المقدار المبذول قد استغرقته المنافع الحاصلة للرجل في مدة من مدد بقاء الزوجة في عصمته، مثل عوض الإجارة، ولو كان ثمنَ المرأة لوجب إرجاعُها إياه للزوج عند الطلاق. كيف وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬2) الآية. فهو عطية محضة، ولكن المهر شعار من شعار النكاح وفارق بينه وبين الزنا والمخادنة. ولذلك سماه الله تعالى نحلة. فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬3). فأما تسميته أجراً في قوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬4) فمؤول (¬5). ومن أجل هذا حرم نكاح الشغار لخلوّه من المهر. وقد اصطبغ النكاح في صورته الشرعية بصبغة العقود من أجل الإيجاب ¬

_ = في المال. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينعقد إلا بولي. وقال الأسبيجابي: وعن أبي يوسف أنه رجع إلى قول أبي حنيفة وهو الصحيح. وصرح في الهداية بأنه ظاهر الرواية. ثم قال: ويروى رجوع محمَّد إلى قولهما. واختاره المحبوبي والنسفي. الميداني. اللباب في شرح الكتاب: 3/ 8. (¬1) ورد بلفظ: ولوجوب بالأصل والتغيير من ط. الاستقامة: 169. (¬2) النساء: 20. (¬3) النساء: 4. (¬4) المائدة: 5. (¬5) انظر التحرير والتنوير: 6/ 124.

والقبول، وصورة المهر. وما هو إلَّا اصطباغ عارض. ولذلك قال علماؤنا: "النكاح مبني على المكارمة، والبيع مبني على المكايسة" (¬1). ولست أريد بهذا أن الشريعة لم تلتفت إلى ما في الصداق من المنفعة الراجعة إلى الزوجة، ولكني أردت أن ذلك ليس هو المعنى الأول في نظر الشريعة، وإلَّا فأنا أعلم أن محاسن المرأة ومحامدها نعمة منَّ الله بها عليها، وخوّلها حقّ الانتفاع بها من أجل رغبات الرجال في استصفائها. فللمرأة حقّ في أن يكون صداقُها مناسباً لنفاستها, لأن جمال المرأة وخلقها من وسائل رزقها. ولذلك لم يكن للوصي والسلطان تزويج اليتيمة بأقل من صداق مثلها. قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬2). فمعنى ترتّب هذا الجواب على هذا الشرط هو ما ورد عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن ذلك فقالت: "هي اليتيمة تكون في حجر وليّها [تشركه في ماله] فيعجبه مالها وجمالها، فيريد [وليّها] أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فَنُهُوا [عن] أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن ¬

_ (¬1) المكايسة، من كايسته فَكسْته: غلبته. الصحاح واللسان: كيس. وقد ورد هذا اللفظ فصلاً في تعريف ابن عرفة للبيع حين قال: هو عقد معاوضة على غير منافع ولا مُتعة لذةٍ، ذو مكايسة أحدُ عوضيه غيرُ ذهب ولا فضة، مُعَيَّن غيرُ العَينِ فيه، وبقَوله ذو مكايسة أخرج هَبة الثواب ... الرصاع: 1/ 326. والمقصود من المكايسة هنا المعنى اللغوي، وهو أن لكل واحد من طرفي العقد أن يدبّر ويحرّك فطنته للظفر بما هو الأفضل له في المعاملة. وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى: 443/ 1. (¬2) النساء: 3.

من الصداق. فأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. [قال عروة: و] قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (¬1). والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب هو الآية الأولى التي قال فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (¬2) الآية. فقوله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (¬3) يعني رغبة أحدهم عن يتيمته التي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال. [قالت عائشة:] فَنُهُوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها [من يتامى النساء] إلَّا بالقسط من أجل أنهم يرغبون عن نكاح اليتامى من اللاتي يكن قليلات المال والجمال" (¬4) اهـ. فعلمنا أن انتفاع المرأة بالصداق وبمواهبها التي تسوق إليها المال شيء غير ملغى في نظر الشريعة, لأنه لو أُلغيَ لكان إلغاؤه إضراراً بالمرأة. ولذلك قال الله في شأنه: {أَلَّا تُقْسِطُوا} أي أن لا تعدلوا. فسماه بما يساوي الجور. الأمر الثالث: الشهرة, لأن الإسرار بالنكاح يقرّبه من الزنا, ولأن الإسرار به يحول بين الناس وبين الذبّ عنه واحترامه، ويعرَّض النسل إلى اشتباه أمره، وينقص من معنى حصانة المرأة. نعم قد يدعو داعٍ ¬

_ (¬1) النساء: 127. وحديث عائشة انظر 65 كتاب التفسير، 4 سورة النساء، 1 باب {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}. خَ: 5/ 176 - 177. (¬2) النساء: 3. (¬3) النساء: 127. (¬4) تمام حديث عائشة المتقدم بتصرّف.

إلى الإسرار به عن بعض الناس مثل الضرة المغيارة. فلذلك قد يُغتفر إذا استُكمل من جهة أخرى مثل الإشهاد وعلم كثير من الناس. وقد قيل: إن المتواصى بكتمانه المطلق نكاح سر، ولو كان الشهود ملءَ الجامع. وفيه خلاف والأظهر أن السرّ في مثل ذلك مبطل (¬1)، وأما الإسرار به عن بعض الناس فلا يضرّ. ويجب النظر في أن التوثيق بتسجيل الإشهاد لعقد النكاح تسجيلاً يقطع تأتّي إنكاره أو الشك فيه هل يقوم مقام الشهرة في معظم حكمتها؟ فذلك مجال للاجتهاد. فالشهرة بالنكاح تحصَّل معنيين: أحدهما: أنها تحث الزوج على مزيد الحصانة للمرأة إذ يعلم أن قد علم الناس اختصاصه بالمرأة فهو يتعيّر بكل ما تتطرق به إليها الريبة. الثاني: أنها تبعث الناس على احترامها وانتفاء الطمع فيها إذ صارت محصنة. وقديماً قال عنترة: يا شاةَ ما قَنَصٍ لِمَن حلّت له ... حَرُمت عليّ وليتها لم تَحرُمِ (¬2) أراد أنها صارت ذات زوج فمنع هو من التطرق إليها مروءة. ومن أجل هذا الأصل الذي ذكرناه جعل القرآن النكاح ¬

_ (¬1) قال الشافعي: كل نكاح حضره رجلان عدلان خرج عن حدّ السر، وإن تواصوا بكتمانه. وقال أبو حنيفة: إذا حضره رجلان كانا عدلين أو محدودين، أو رجل وامرأتان فقد خرج عن حد السرّ ولو تواصوا بكتمانه. وذهبوا إلى أن الإعلان المأمور به هو الإشهاد. وقال أصحابنا من غير خلاف: إن نكاح السرّ أن يتواصوا مع الشهود العدول على الكتمان، ولا يجوز ذلك. ابن العربي. عارضة الأحوذي: 4/ 308. (¬2) البيت التاسع والخمسون من المعلقة. التبريزي: 243.

إحصاناً، فسمّى الأزواج محصِنين بصيغة اسم الفاعل، وسمّى الزوجات محصَنات بصيغة المفعول. فقال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (¬1)، وقال: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (¬2). وأطلق على النساء ذوات الأزواج لقب المحصَنات. وقال: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} (¬3) بالبناء للنائب، أي أحصنهن الزواج. وفي غير هذه الآيات أيضاً (¬4). وأما الأصل الثاني: فإن الدخول في عقدة النكاح على التوقيت والتأجيل يقرّبه من عقود الإجارات والأكرية، ويخلع عنه ذلك المعنى المقدس الذي ينبعث في نفس الزوجين من نية كليهما أن يكون قريناً للآخر ما صلح الحال بينهما، فلا يتطلبا إلَّا ما يعين على دوامه إلى أمد مقدور. فإن الشيء المؤقّت المؤجل يهجس في النفس انتظارَ مَحِلِّ أجله، ويبعث فيها التدبير إلى تهيئة ما يخلفه به عند إبان انتهائه. فتتطلع نفوس الزوجات إلى رجال تعدنهم وتمنينهم، أو إلى افتراض في مال الزوج. وفي ذلك حدوث تبلبلات واضطرابات فكرية، وانصراف كل من الزوجين عن إخلاص الود للآخر. وهذا يفضي لا محالة إلى ضعف تلك الحصانة التي ألمحنا إليها آنفاً. ولذلك رُخِّص نكاح المتعة في صدر الإِسلام ثم نُسِخ يوم خيبر (¬5). ¬

_ (¬1) المائدة: 5. (¬2) النساء: 25. (¬3) النساء: 25. (¬4) منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} النور: 4، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} النور: 23، وقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}. النور: 33. (¬5) هو النكاح إلى أجل قريب أو بعيد، ويسمى النكاح المؤقت. كان جائزاً =

واتفق جمهور علمائنا على بطلانه وفسخه. ومن العلماء من شذّ فجوّزه، قيل: مطلقاً وينسب إلى الشيعة الإمامية (¬1)، وقيل: في ضرورة السفر خاصة. وكأن قائل هذا ينظر إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين خشية الوقوع في الزنا. وينسب إلى ابن عباس نسبة مشهورة (¬2). ¬

_ = في الجاهلية وفي صدر الإِسلام. ودليل ذلك حديث ابن عباس، "كان الرجل يقدم البلدة ليس بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه" حتى نزلت هذه الآية: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} المؤمنون: 6. قال ابن عباس: فكل فرج سواها حرام. انظر 9 كتاب النكاح، 29 باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة، 1122، تَ: 3/ 430. والأصل في تحريم هذا النكاح وفساده حديث علي بن أبي طالب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر"؛ انظر 67 كتاب النكاح، 31 باب نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخراً. خَ: 6/ 129؛ 64 كتاب المغازي، 38 باب غزوة خيبر ح 20. خَ: 5/ 78؛ انظر 16 كتاب النكاح، 3 باب نكاح المتعة: 29 - 32. مَ: 2/ 1027 - 1028؛ انظر 28 كتاب النكاح، 18 باب نكاح المتعة، 41. طَ: 2/ 542؛ ومن الباب حديث الربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة وقال: "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعْطَى شيئاً فلا يَأخُذْه". انظر 16 كتاب النكاح، 3 باب نكاح المتعة، 28. مَ: 2/ 1027. (¬1) بالأصل: الزيدية، وهم أتباع الإِمام زيد بن علي. وهذا تَقَوُّلٌ على ما ذهب إليه جمهور العلماء. فحديث زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة عام خيبر". الحسين بن أحمد السياغي. الروض النضير: 4/ 22. وإنما هي كما ذكرناه أعلاه الشيعة الإمامية. (¬2) التحقيق أن رأي ابن عباس قد اختلف. قال مرة بالإباحة المطلقة، وقيدها أخرى بالضرورة، ورجع في الثالثة إلى قول الجمهور وهو المنع. وشاهد الرأي الأول قول علي بن أبي طالب لابن عباس وقد سمع أنه يليّن في =

ولما استقام معنى قداسة عقدة النكاح في نظر الشرع أمر الزوجين بحسن المعاشرة وبالقوامة على النساء. وجعل الإضرار باختلال ذلك مفضياً إلى فسخ عقدة النكاح بحكم الحاكم بالطلاق إذا ثبت الضرر. ففي القرآن: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1)، وقال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (¬2). وقال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬3). ¬

_ = متعة النساء: "مهلاً يا ابن عباس فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية". انظر مسلم 16 كتاب النكاح، 3 باب نكاح المتعة، 31. مَ: 2/ 1028. ونقل عنه في هذا الغرض قوله: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله عز وجل رحم بها أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. ولولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنى إلا شقي. روى ذلك عنه ابن جريج وغيره. وشاهد إباحته المتعة للضرورة أنه لما تقول عليه الناس، وسار بفتواه الركبان وقالت الشعراء مرددين: قلت للشيخ لما طال محبسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس وهل ترى رخصة الأطراف أمنية ... تكون مثواك حتى مصدر الناس قال: سبحان الله! والله ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر. الشوكاني. نيل الأوطار: 6/ 270. ودليل رجوعه عن هذا، وقوله بتأييد تحريم نكاح المتعة وفقاً لما عليه الجمهور من السلف والخلف حديثُه المتقدم الذي رواه الترمذي. قال ابن القيم: إن ابن عباس أفتى بحل المتعة للضرورة. فلما توسع الناس فيها ولم يقتصروا على موضع الضرورة أمسك عن فتياه ورجع فيها. زاد المعاد: 4/ 6. (¬1) النساء: 19. (¬2) النساء: 34. (¬3) النساء: 128.

وأحسب أن تحديد تعدد الزوجات إلى الأربع، دون زيادة، ناظرة إلى تمكين الزوج من العدل وحسن المعاشرة، كما أومأ إليه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬1). حكم وجوب إنفاق الرجل على زوجه ولو كانت غنية تحقيقٌ لآصرة الزوجية، كما أن جعل الزوجية سبب إرث تحقيق لقوة تلك الآصرة. ¬

_ (¬1) النساء: 3.

و - آصرة النسب والقرابة

و - آصرة النسب والقرابة تبتدئ آصرة القرابة بنسبة البنوّة والأبوّة، [فعن اتصال الذكر بالأنثى نشأ النسل] (¬1) ولكن النسل المعتبر شرعاً هو الناشئ عن اتصال الزوجين بواسطة عقدة النكاح المتقدمة المنتفي عنها الشك في النسب. واستقراء مقصد الشريعة في النسب أفادنا أنها تقصد إلى نسب لا شك فيه ولا محيد به عن طريقة النكاح بصفاته التي قررناها. فأما ما كان قبل الإِسلام من الأنساب المعتبرة في اصطلاحهم الناشئة من بغاء أو استبضاع أو نحوهما مما عدا النكاح فقد أقرته الشريعة اعتماداً على ثقة أهل الجاهلية به, لأن الثقة بالنسل قبل تحديد قواعد النكاح في الإسلام موكولةٌ إلى ما في الجبِلّة من إباية الناس التحاقَ من ليس من نسبهم بهم. فأصناف المقارنة الواقعة في الجاهلية قد اختلط نادرها بغالب الأنساب الصحيحة, وقد وثق أهلها بالأنساب الملحقة بهم من جرائها. وفي التنقيب عنها وتمحيصها تعذر أو تعسر لا يحسن الاشتغال به وإحداث فتنة فيه، ولأنه يصير ذريعة إلى طعن بعض الناس في أنساب بعضِ التي نشأت في حالة قلة ضبط فلم تهتم الشريعة إلَّا بإبطال الكيفيات التي من شأنها تطرق الشك إليها حتى لا يعود إليها الناس في الإسلام. وأُلحِق التسرِّي بالنكاح في صحّة النسب الناشئ عنه, لأن ¬

_ (¬1) الإضافة من ط. الاستقامة: 172. وقد تولى المؤلف الضرب عليها.

السيد إذا اتخذ أمته سُرِّيّة له حاطها من حراسته بأقوى مما يحوط به إماء الخِدمة بدافع مركب من الجبلة والعادة. فإذا صارت أمَّ ولد له صارت لها أحكام خاصة. ولم ترخّص الشريعة في أن يتزوّج الحر الأمة إذا كان يجد طَوْلاً ولم يخش عنتاً، لما في اجتماع سيادتين على المرأة من شبه تعدد الرجال للمرأة الواحدة, لأن سيادة سيد الأمة تثلم تَحققَ حصانتها. ورخصت للعبد أن يتزوج الأمة إذ لا ترضى الحرائر في الغالب بتزوج العبد. ورخصت للحر أن يتزوج الأمة إن خشي العنت ولم يجد طَوْلاً لأجل ضرورة. ولا شك عندي في أن حفظ النسب الراجع إلى صدق انتساب النسل إلى أصله سائقٌ النسلَ إلى البر بأصله، والأصلَ إلى الرأفة والحنو على نسله سوقاً جبلياً، وليس أمراً وهمياً. فحرص الشريعة على حفظ النسب وتحقيقه، ورفع الشك عنه، نظر إلى معنى عظيم نفساني من أسرار التكوين الإلهي، علاوة على ما في ظاهره من إقرار نظام العائلة، ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن المغيرة المجبولة عليها النفوس، وعن تطرق الشك من الأصول في انتساب النسل إليها والعكس. وأُلحقت آصرةُ الرضاع بآصرة النسب بتنزيل المرضعة منزلة الأم، وتنزيل الرضيع منزلة الأخ بقوله تعالى في عد المحرّم تزويجه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬1) وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬2). ثم نشأ عن قداسة آصرة القرابة إكساؤها إهاب الحرمة والوقار. ¬

_ (¬1) النساء: 23. (¬2) تقدم تخريجه: 1/ 169.

فقررت الشريعة معنى المحرمية بالنسب، وهو تحريم الأصول والفروع في النكاح، حتى تكون القرابة التامة مرموقة بعين ملؤها عظمة ووقار وحب بجلال لا يخالطه شيء من معنى اللهو والشهوة. فلأجل ذلك حرم نكاح القرابة المنصوص عليها. وحكمة تحريم ما حرم تزوجُّه مختلفة بحسب اختلاف أنواع المحرّمات. فأما المحرمات بالنسب فقال الفخر في تفسيره: "ذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم أن الوطء إذلال وإهانة، فإن الإنسان يستحيي من ذكره. فوجب صون الأمهات عنه" (¬1). وكذلك القول في البقية. أقول: وتحرير ذلك، حيث كان معظم القصد من النكاح الاستمتاع كانت مخالطة الزوجين غير خالية من نبذ الحياء. وذلك ينافي ما تقتضيه القرابة من الوقار لأحد الجانبين والاحتشام لكليهما. وذلك ظاهر في أصول الشخص وفروعه وفي صنوان أصوله من عمة أو خالة. وأما صنوان الشخص وهم الإخوة والأخوات فلقصد إيجاد معنى الوقار بينهما. أما محرّمات الصهر فبعضها إلحاق بالنسب مثل أم الزوجة فإنها ¬

_ (¬1) تمام ما جاء في التفسير الكبير: ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي. وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره. وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الإنعام. فوجب صرفها عن هذا الإذلال، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه. قال عليه الصلاة والسلام: "فاطمة بضعة مني" فيجب صونها عن هذا الإذلال لأن المباشرة معها تجري مجرى الإذلال. الرازي: 10/ 27.

حرام ولو كانت ابنتها ميِّتة (¬1)، والربيبة التي دخل بأمها. وبعضها لدفع ما يعرض من شقاق يفضي إلى قطع الرحم بين من قَصَدت الشريعة قوةَ الصلة فيه. ولهذا لا يجمع بين الأختين، والمرأة مع عمتها أو خالتها (¬2). وأما المحرّمات للرضاع فلأن آصرة الرضاع نزلت منزلة النسب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬3). وأما المحرّمات لأجل حقّ الغير فأمرهن ظاهر. ومنها إدخال الأمَة على الحرة على أحد القولين في مذهب مالك أن منعه لما فيه من الضرر للحرة. وأما الملاعنة فلأن ما جرى بين الزوجين من الملاعنة يتعذّر بعده حسن المعاشرة بينهما. وأما عدم الدين السماوي: فلأن التجافي بين الاعتقادين واسعُ البون بين دين الإِسلام والأديان غير الإلهية، بخلاف الأديان الإلهية. ومنها ما هو حقّ الله، مثل المطلَّقة ثلاثاً على من طلّقها إذا لم يدخل بها زوج بعد طلاق الثلاث، والمملوكة والمسترقة للذي يجد طَوْلاً. ¬

_ (¬1) بالأصل: مثل أم الزوجين فإنها حرام ولو كان ابنها ميتاً. وهو خطأ مطبعي. (¬2) والتحريم للعمات والخالات بسبب سريان الوقار إليهما. وكيف تلاحق الحرمة بنات الإخوة وبنات الأخوات وهن فروع ولا يثبت هذا للأصول. لذلك سرى وقار الآباء إلى أخواتهم وهن العمات، ووقار الأمهات إلى أخواتهن وهن الخالات. ويرجع تحريم هؤلاء إلى قاعدة المروءة التابعة لكلية حفظ العرض من قسم المناسب الضروري. انظر: محمَّد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 4/ 295 - 296. (¬3) تقدم تخريجه: 169/ 1، 437/ 2.

ومنها إدخال الأَمَة على الحرّة عند أبي حنيفة (¬1)، واحد القولين عن مالك (¬2). وإذ كانت المرأة هي قرارة النسل لم تُبِحْ الشريعة تعدُّدَ الأزواج للمرأة، وأباحت تعدد الزوجات للرجل إلى حد معين. وأباحت للرجل التسرِّي ولم تبحه للمرأة. أما المرأة ذات الزوج فلنفس العلة ¬

_ (¬1) الأصل في هذا بلاغ مالك عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عُمر، وروايته عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا تنكح الأمةُ على الحرّة إلا أن تشاء الحرّة. فإن طاعت الحرّة فلها الثلثان من القَسْم". انظر 28 كتاب النكاح، 12 باب نكاح الأمة على الحرة، ح 28، 29. طَ: 2/ 536. (¬2) لا يجوز تزوج الأمة على الحرّة، سواء كان الزوج حراً أو عبداً، لقوله عليه السلام: "لا تنكح الأمة على الحرّة". وهذا مذهب أبي حنيفة. وعند الدارقطني في سننه في الطلاق بلفظ: "طلاق العبد اثنتان، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وتتزوج الحرّة على الأمة ولا تتزوج الأمة على الحرّة". وفي سنده مظاهر بن أسلم وهو ضعيف. وروى الطبراني في تفسير سورة النساء بإسناده: "نهى رسول الله أن تنكح الأمة على الحرة، قال: وتنكح الحرة على الأمة، ومن له طَوْلُ الحرة فلا ينكح أمة". ورواه عبد الرزاق مقصوراً على نكاح الأمة. أحمد شلبي. حاشية على شرح الزيلعي: 2/ 112. وقال الشافعي: يجوز تزوج العبد بأمة على الحرّة على أن طَوْلَ الحرّة لا يمنع من التزوج بالأمة. ومذهب مالك جوازه إن رضيت بذلك الحرّة لأن المنع كان بموجب احترام الحرّة. فلا يلحقها زيادة غضاضة بإدخال الأمة عليها. فكان المنع لحقها فيرتفع برضاها. وتزوج الأمة على الحرّة والحرّة في العدة لا يجوز عند أبي حنيفة. وقال الصاحبان: يجوز إذا كانت العدة من طلاق بائن, لأن هذا ليس يتزوج عليها وهو المحرم. الزيلعي. تبيين الحقائق: 2/ 112.

التي لم تُبحْ بها تعدد الأزواج للمرأة الواحدة، وأما غير ذات الزوج فللعلة التي منعت بها تزوجَ الحر الأمة إذا وجد طَوْلاً أو لم يخش العنت كما قدمنا، وهي أن عبد المرأة لا يغار على نسبه منها. وفي قواعد حفظ النسب في الأحوال التي مضت في الجاهلية، وفي التحديدات التي جاء بها الإِسلام نظرةٌ عظيمة إلى حفظ حقوق النسل عن تعريضها للإضاعة والتلاشي وفساد النشأة التي لا تصاحبها الرعاية. ومن مُتمِّمات تقوية آصرة القرابة أحكامُ النفقة على الأبناء والآباء باتفاق، وعلى الأجداد والأحفاد عند بعض الأئمة (¬1)، وجعلُ ¬

_ (¬1) يجب الإنفاق على الأبناء لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233. وذكر القرطبي وجوب نفقة الولد على الوالد، لضعفه وعجزه. وإجماع العلماء على أن المرء مطالب بنفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم. الجامع لأحكام القرآن: 3/ 163. وتجب ولو مع اختلاف الدين للآية، ولأن الولد جزؤه، ونفقة الجزء لا تمتنع بالكفر كنفقة نفسه. الزيلعي: 3/ 63. فتجب النفقة على الأب الحرّ فيما فضل عن قوته وقوت زوجته على ولده الحرّ الذكر المعسر حتى يبلغ قادراً على الكسب، وعلى ابنته الحرّة المعسرة حتى تتزوج ويدخل بها زوجها، أو يدعى للدخول وهي مطيقة. محمَّد الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 244. وقال الشافعي: تجب على الأصول الموسرين وإن علوا نفقة الأولاد وإن سفلوا لفقر وصغر، أو فقر وزمانة، أو فقر وجنون. الشربيني. الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 2/ 140. والإنفاق على الأبوين والأجداد والجدات الفقراء واجب على الموسرين من الأولاد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد: انظر 434. وفي الهداية: وليس من الإحسان ولا من المعروف أن يعيش المرء في =

القرابة سببَ ميراث على الجملة (¬1). والأمرُ ببر الأبوين وبصلة الأقارب وذوي الأرحام مما لا يعرف نظيره في الشرائع السالفة. والترخيص في أن يطعم المرء في بيت قرابته دون دعوة ولا إذن، قال ¬

_ = نعم الله تعالى ويتركهما يموتان جوعاً. وأما الأجداد والجدات فكالأبوين يقومان مقامهما في الإرث، ولأنهم تسببوا لإحيائه فاستوجبوا عليه الإحياء كالأبوين. العيني. البناية شرح الهداية: 4/ 906. ولا يجب لجد أو لجدة عند مالك. والأصل فيه قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} النساء: 36، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الإسراء: 23، وقوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} العنكبوت: 8، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه". حديث عائشة انظر 44 كتاب البيوع، 1 باب الحث على الكسب. نَ: 7/ 240، 241. انظر 12 كتاب التجارات، 1 باب الحث على المكاسب، ح 2137. جَه: 2/ 723؛ وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أنت ومالك لأبيك"، و"إن أولادكم من أطيب ما كسبتم. فكلوا من أموالهم"؛ انظر 12 كتاب التجارات، 64 باب ما للرجل من مال ولده، ح 2292. جَه: 2/ 769. وحديث جابر بن عبد الله: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك". انظر 12 كتاب التجارات، 64 باب ما للرجل من مال ولده، ح 2291. جَه: 2/ 769؛ انظر 18 كتاب البيوع، 6 باب في الكسب وعمل الرجل بيده، ح 2540. دَي: 2/ 560 - 561؛ حَم: 6/ 31، 42، 127، 193، 220. (¬1) يجب على القرابة الموسرين الإنفاق على المعسرين منهم. والمراد من القرابة عند أبي حنيفة: كل ذي رحم محرم. فيدخل في ذلك الإخوة والأعمام والخالات وغيرهم ممن يحرم بالقرابة. وهي عند أحمد: كل من يرث بفرض أو بعصوبة، ويدخل في ذلك أبناء الأعمام. المرغيناني. الهداية: 2/ 47؛ ابن قدامة. المغني: (1) 7/ 582 - 584 = (2) 11/ 372 - 374.

تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} (¬1) الآية. ومن ذلك حكم إبداء الزينة في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (¬2) الآية، فعدّ آباء البعولة وأبناء البعولة والإخوان وبني الإخوان وبني الأخوات. ويقاس عليه بالمساواة الأنثى من هذه المراتب كلها مثل أم الزوجة بالنسبة إلى زوج ابنتها وبنت الأخ بالنسبة إلى عمها. ومن حقوق آصرة النسب الميراث وسنتكلم عليه (¬3). ¬

_ (¬1) النور: 61. (¬2) النور: 31. (¬3) انظر بعد: 473.

ز - آصرة الصهر

ز - آصرة الصهر نشأت آصرة الصهر عن آصرتي النسب والنكاح كما قال تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (¬1)، وعن تحقيق معنى الجلال والوقار المقصودين في حب القرابة كما تقدم. فالصِّهر آصرة بقرابة أهل آصرة النكاح كالربائب وأخت الزوجة وعمتها وخالتها وأم الزوجة، أو بنكاح أهل آصرة القرابة كزوجة الابن وزوجة الأب. نشأت رابطةُ الصهر بوصفيها أعني الصهر القريب والصهر البعيد فجعلت أمَّ الزوجة وابنتَها محرّمتين على الزوج، وأبا الزوج وابنَه محرمين على الزوجة، نظراً للحرمة المركبة من قرابة أولئك بالزوجة أو الزوج ومن صهرهما للزوج أو الزوجة. وحرَّمت الشريعةُ زوجة الابن علي الأب وزوجة الأب على الابن. وليس المقصد من ذلك مجرد حفظ أواصر المودة بين الشخص المحرم وبين الشخص الذي وقع التحريم بسببه، فإنا وجدنا تحريم الصهر مستمراً بعد موت الشخص الذي وقع التحريم بسببه بله فراقه، عدا تحريم الجمع بين الأختين. فهذا هو الصهر القريب. وأما الصهر البعيد فمراتب: منه ما يحرم؛ وفيه الجمع مثل الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، ومنه ما لا يحرم بحال لضعف آصرته. ¬

_ (¬1) الفرقان: 54.

ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث قد جعلت الشريعة لكل آصرة وسيلةً إلى انحلالها إذا تبيّن فساد تلك الآصرة أو تبيّن عدم استقامة بقائها. وهي مندرجة في المقصد العام من ذلك المذكور في مقصد العقود والفسوخ. وغرضنا الآن بيان انحلال آصرة النسب والصهر، إذ ليسا بعقدين، وبيان انحلال آصرة النكاح، إذ كان معنى التعاقد فيه عارضاً غير مقصود. وكان النكاح قد وضع في منزلة أسمى من منازل العقود كما قدمناه في الكلام على آصرته. ولذلك اشتهر عند الفقهاء: "النكاح مبني على المكارمة، والبيع مبني على المكايسة" (¬1). فانحلال آصرة النكاح: بالطلاق من تلقاء الزوج، وبطلاق الحاكم، وبالفسخ. والمقصد الشرعي فيه ارتكاب أخف الضرر عند تعسُّر استقامة المعاشرة، وخوف ارتباك حالة الزوجين، وتسرب ذلك ¬

_ (¬1) قال الشافعي وأكثر العلماء في هذا: إنه محمول على شروط لا تنافي مقتضى النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده. وهي مبنية على المكارمة، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق عليها وكسوتها وسكناها بالمعروف، وأن لا يقصر في شيء من حقوقها ويقسم لها كغيرها، وأنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تنشز عليه، ولا تصوم تطوعاً بغير إذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه. والمغالبة في الكيس في البيع لا في النكاح. النووي. شرح مسلم: 9/ 202.

إلى ارتباك حالة العائلة. فكان شرع الطلاق لحل آصرة النكاح. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬1). وجعل أمر الطلاق بيد الرجل من الزوجين لأنه في غالب الأحوال أحرصُ على استبقاء زوجه وأعلق بها وأنفذ نظراً في مصلحة العائلة. على أنه قد جعل للمرأة الوصول إلى الطلاق بطريق الخلع، أو بطريق الرفع إلى الحاكم إن حصل إضرار. كما جعل للمرأة أيضاً مخلصاً مما عسى أن يكون في بعض الرجال، أو في عرف بعض القبائل أو العصور من حماقة أو غلظة جلافة، أو تسرع إلى الطلاق اتباعاً لعارض الشهوات، بأن تشترط أن يكون أمر طلاقها بيدها، أو أمر الداخلة عليها بيدها، أو إن أضرَّ بها فأمرها بيدها، أو نحو ذلك. وفي الحديث الصحيح: "أحق الشروط أن يوفّى به ما استحللتم عليه الفروج" (¬2). وقد قال سعيد بن المسيب بإبطال الشروط اللاحقة ¬

_ (¬1) البقرة: 229. تعرض فقهاء المالكية في كتب الإجراءات الشرعية إلى صورة من صور الطلاق في مبحث الإسقاط. ووردت في المسألة الثانية منه في الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية على مذهب المالكية قال: من شَرَطَ لزوجته إن تزوج عليها أو تسرّى أو أخرجها من بلدها فأمْرُها بيدها. فتقول: اشهدوا أنه متى فعل زوجي ذلك فقد اخترت نفسي، أو اخترت زوجي. فذلك يلزمها على المعروف من قول مالك. ولو شَرَطَ ذلك لها ثم أسقطت الشرط، وأباحت له التزوج أو التسرّي أو الخروج، فإن كان بقرب إرادة فعل الزوج لزمها الإسقاط ولا رجوع لها. وإن تراخى فعل الزوج، كان لها الرجوع فيما أباحت له. قاله ابن القاسم، في سماعه عن مالك، وبه الحكم. قال ابن مغيث: فلو كان الشرط طلاق الداخلة، وعتق السرية فليس لها إسقاط ذلك. محمَّد العزيز جعيط: 121. (¬2) حديث عقبة بن عامر. انظر 54 كتاب الشروط، 6 باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، وهو بلفظ: "أحق الشروط أن توفوا". خَ: 3/ 175؛ =

لعقدة النكاح مطلقاً (¬1) *. وقال مالك بناء عليه: إن الشرط إذا انعقد عليه النكاح كان شرطاً باطلاً غير لازم، وإن وقع طوعاً من الزوج بعد عقدة النكاح لزم (¬2)، بناء على إلزام المرء بما التزم به، ولأنه مما يشمله لفظ الحديث (¬3) *. [وهو مدرك ضعيف. وكيف يقع التطوع ¬

_ = انظر 16 كتاب النكاح، 8 باب الوفاء بالشروط في النكاح، ح 63، وهو بلفظ: "إن أحق الشرط أن يوفى به". مَ: 2/ 1035 - 1036. انظر 6 كتاب النكاح، 40 باب في الرجل يشترط لها دارها، ح 2639. دَ: 2/ 604؛ انظر 9 كتاب النكاح، 32 باب ما جاء في الشرط عند عُقدة النكاح، ح 1127 بلفظ: "إن أحق الشروط أن يوفَّى بها ما استحللتم به الفروج". تَ: 3/ 434؛ انظر 26 كتاب النكاح، 42 باب الشروط في النكاح بلفظ: "أن يوفى به" ن: 6/ 92؛ انظر: "كتاب النكاح، 41 باب الشرط في النكاح، ح 1945 بلفظ: "إن أحق الشرط أن يوفى به" جه: 1/ 628؛ حَم: 4/ 144 بلفظ "أن يوفى به": 4/ 150 بلفظ: "أن توفوا به"؛ انظر 11 كتاب النكاح، 21 باب الشرط في النكاح بلفظ: "أن توفوا به" دَي: 2/ 464؛ انظر 1 كتاب الصداق، 1 باب الشروط في النكاح. هَق: 7/ 248. (¬1) * أي سواء انعقد النكاح على الشرط أو لحق الشرط بالنكاح. اهـ. تع ابن عاشور. [وقول سعيد بن المسيب هو مذهبه ومذهب عطاء والشعبي والزهري وقتادة والحسن وابن سيرين. وروى النخعي: كل شرط في نكاح فإن النكاح يهدمه إلا الطلاق. الخطابي. إعلام الحديث في شرح صحيح البخاري: 3/ 1980. أخرج الحديث عبد الرزاق في مصنفه في النكاح، باب الشرط في النكاح: 6/ 225، 10602؛ وفي البيوع، باب الشرط في البيع: 8/ 56، 14289، موسوعة فقه إبراهيم النخعي: 2/ 677]. (¬2) بالطبعة الأولى كلام آخر أسقطه المؤلف. وهو قوله: وعللوه بما ينافي ما كنا نقرره في اعتبار الصداق. وعوضه بما ها هنا. ط. الاستقامة: 176. (¬3) * انظر قولَ مالك رحمه الله فيما لا يجوز من الشروط في النكاح في: =

بمحض اختيار الزوج وقد سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - شرطاً، وقال إنه أحق الشروط أن يوفى به. على أنه إذا كان على الطوع كان أحق بأن لا يلزم الوفاء به من الذي اشترطته المرأة، وما تزوجت إلا على اعتباره] (¬1). وأما حكم الحاكم بالطلاق أو بالفسخ فلأجل الضرر، أو لكون النكاح وقع على غير الصفة التي عيّنت له في الشرع. وانحلال آصرة النسب نيط بآصرة البنوّة لأنها أصل النسب كما قلنا، وعلى نحوها تثبت الأبوّة والأمومة ثم بقية تفاريع النسب. فإذا تقررت البنوّةُ تقرّر ما سواها وإذا انتفت انتفى. ¬

_ = الموطأ، وكلام ابن العربي في كتاب القبس. اهـ. تع ابن عاشور. [وروى الإِمام مالك بلاغاً أنّ سعيد بن المسيب سُئل في المرأة تشترط على زوجها أن لا يخرج بها من بلدها. فقال: يخرج بها إن شَاء. ثم ذيل ذلك بقوله: "فالأمر عندنا أنّه إذا اشترط الرجل للمرأة، وإن كان ذلك عند عقدة النكاح (أن لا أنكح عليك ولا أتسرَّرُ): أن ذلك ليس بشيء إلا أن يكون في ذلك يمينٌ بطلاق أو عتاقة، فيجب ذلك عليه ويلزمه. انظر 28 كتاب النكاح، 6 باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح، ح 16. طَ: 2/ 530. وقال ابن العربي: إن هذا الشرط يخالف القوامة ... قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} النساء: 34. فعلى هذا يكون الشرط ساقطاً ... واختار علماؤنا قول سعيد، وحملوا الشروط الواقعة في إحلال الفرج ما تعلق بالنكاح من صداق ونحلة وجهاز وشورة مما تنمى معه الحالة وتتمكن به الألفة، لا فيما يناقض موضوعه ويخالف مقتضاه. وتقصّى مالك رضي الله عنه الشروط المقترنة بالعقود في فتاويه، فرآها على ثلاثة أقسام: منها شرط يُبطل العقد رأساً، ومنها شرط يَبطل في نفسه، ومنها شرط إن عزل عن العقد صح وإن ربط به بطل. ابن العربي. القبس: 2/ 699 - 700]. (¬1) الإضافة من ط. الاستقامة: 176. وقد ضرب عليها المؤلف بخطه.

وإطلاق اسم الانحلال على إبطال آصرة النسب فيه تسامح، لأنه ليس بانحلال ما كان منعقداً، ولكنه كشف لبطلان ما كان يُظنّ أنه نسب. فأما النسب الثابت فلا يقبل انحلالاً ولا إسقاطاً. ولهذا الانحلال طريقان: أولهما اللعان، وثانيهما إثبات انتساب الولد إلى أب غير الذي ينسبه إلى نفسه أو ينسبه الناس إليه. فأمّا اللعان فأحكامه مقررة في الفقه. وقد ألغى الرسول عليه الصلاة والسلام الاعتماد في نفي النسب على عدم الشبه بالأب لأنه ليس بسبب صحيح (¬1) *. وقد كان العرب ¬

_ (¬1) * كما وقع في حديث ضمضم الفزاري في الصحيحين. وصرح في رواية مسلم أنه لم يرخص له الانتفاء منه. اهـ. تع ابن عاشور. [الحديث حديث أبي هريرة قال: إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: ولد لي غلام أسود. فقال: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم. قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر. قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: نعم. قال: "فأنّى ذلك؟ " قال: لعله نَزَعه عِرق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه". انظر 68 كتاب الطلاق، 26 باب إذا عرض بنفي الولد خَ: 6/ 178. وبمثله عن أبي هريرة أيضاً. انظر 19 كتاب اللعان، ح 18. مَ: 2/ 1137، وفي حديث معمر: "فقال: يا رسول الله: ولدت امرأتي غلاماً أسود، وهو حينئذ يعرّض بأن ينفيه"، وزاد في آخر الحديث: "ولم يرخّص له في الانتفاء منه": 19 كتاب اللعان، ح 19 مَ: 2/ 1137. قال النووي: وفي هذا الحديث أن الولد يلحق الزوج ولو خالف لونه لونه ... وأن التعريض بنفي الولد ليس نفياً، وأن التعريض بالقذف ليس قذفاً. وهو مذهب الشافعي وموافقيه. وفيه إثبات القياس والاعتبار بالأشباه وضرب الأمثال. وفيه الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد الإمكان. وقوله في رواية: "إني أنكرته" معناه استغربت بقلبي أن يكون مني، لا أنه نفاه عن نفسه بلفظه. النووي: 10/ 133 - 134].

وكثير من الأمم يغلطون في ذلك ويبنون عليه الطعن في الأنساب جهلاً. وأما الطريق الثاني، وهو إثبات انتساب ولد إلى أب غير الذي ينتسب إليه أو ينسبه الناس إليه، فقد ابتدأ ذلك في الشريعة الإِسلامية بإبطال ما كان من التبنّي بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬1). فذلك رجع بالناس إلى ما يعلمون من إثبات أنساب الأدعياء إلى آبائهم الأصليين، مثل زيد بن حارثة (¬2)، إذ كان يدعى زيد بن محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. ومثل سالم مولى أبي حذيفة (¬3) إذ كان يدعى ابن أبي ¬

_ (¬1) الأحزاب: 54. (¬2) هو أبو أسامة. وأمه سعدى بنت ثعلبة من بني مَعْن. أغير عليه وهو ابن ثمان سنين، وبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة أم المؤمنين. ولما تزوجت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهبته الغلام، وحضر أبوه حارثة وعمه كعب في فدائه، فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أشهد من حضر: إن زيداً ابني يرثني وأرثه. ودعي بعد ذلك زيد بن محمَّد حتى نزلت الآية: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الأحزاب: 5. قال بعضهم: زيد بن حارثة أول من أسلم من الذكور. زوّجه رسول الله مولاته أم أيمن، ثم تزوّج زينب بنت جحش. وكان ينعت بحب رسول الله. تولى إمارة الجيش سنة ثمان. وقتل في غزوة مؤتة. ابن حجر. الإصابة: 1/ 563؛ ملا علي القاري. مرقاة المفاتيح: 2/ 80. (¬3) هو الفارسي المهاجري الأنصاري. لم يكن مولى لأبي حذيفة، وإنما كان يلازمه. وهو من حلفائه كما وقع في رواية لمسلم. وعن أبي داود: هو سالم بن معقل مولى فاطمة بنت يعار، أعتقته سائبة، فوالى أبا حذيفة فتبناه. شهد اليمامة واستشهد، وكان معه لواء المهاجرين. ابن حجر. الإصابة: 2/ 6؛ الكاندهلوي. أوجز المسالك: 10/ 308.

حذيفة. فكان ذلك حقاً مستمراً لكل من يجد نسباً غيرَ حقّ أن يُثبت انتسابه الحق، وينفي انتسابه غير الحق بالبينة الظاهرة أو بالإقرار الذي لا تهمةَ فيه. وقد حفظت الشريعة في هذا الطريق الثاني حق الولد المنتسب أن يدافع عن نسبه، ولذلك قال علماؤنا بأن لا تعجيز في حق إثبات النسب. وانحلال آصرة الصهر تابع لانحلال آصرة أصل منشئه على تفصيل فيه. فمنه انحلال تام مثل أخت المرأة وعمّتها وخالتها إذا انفكت عصمة تلك المرأة بموت أو طلاق، ومنه ما لا انحلال فيه مثل أم الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن والربائب.

ط - مقاصد التصرفات المالية

ط - مقاصد التصرفات المالية ما يُظَنُّ بشريعة جاءت لحفظ نظام الأمة وتقوية شوكتها وعزتها إلَّا أن يكون لثروة الأمة في نظرها المكان السامي من الاعتبار والاهتمام. وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة الدالة على العناية بمال الأمة وثروتها، والمشيرة إلى أن به قِوامَ أعمالها وقضاءَ نوائبها، نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتُها يقينًا بأن للمال في نظر الشريعة حظاً لا يستهان به. وما عَدُّ زكاة الأموال ثالثةً لقواعد الإِسلام وجعلُها شعارَ المسلمين، وجعلُ انتفائها شعارَ المشركين في نحو قوله تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬1)، ونحو قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬2) * إلَّا تنبيه على ما للمال من القيام بمصالح الأمة اكتساباً وإنفاقاً. وقال الله تعالى في معرض الامتنان: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (¬3). ¬

_ (¬1) المائدة: 55؛ التوبة: 71؛ النمل: 3؛ لقمان: 4. (¬2) * [هاتان الآيتان من فصلت: 6, 7]. والآيات في هذا كثيرة مثل قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} المدثر: 43 - 44، وقوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} القيامة: 30. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) العنكبوت: 62.

وقال في معرض المواساة بالمال ثناءً وتحريضاً: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬1)، {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} (¬2)، وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (¬3)، وقال: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} (¬4)، وقال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} (¬5)، وقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} (¬6)، وقال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬7) أي: يسافرون في التجارة، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬8) أي تتّجروا في أشهر الحج، وقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (¬9). ونبّه على ما في المال من قضاء نوائب الأمة فقال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬10)، وقال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬11). ¬

_ (¬1) البقرة: 3؛ الأنفال: 3؛ الحج: 35؛ السجدة: 16؛ الشورى: 38. (¬2) المنافقون: 10. (¬3) آل عمران: 14. (¬4) المدثر: 12. (¬5) الأحزاب: 27. (¬6) الفتح: 20. (¬7) المزمل: 20. (¬8) البقرة: 198. (¬9) الحشر: 8. (¬10) التوبة: 41. (¬11) البقرة: 195.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا المال خَضِرةٌ حُلوة (¬1) *، ونعم عون الرجل الصالح هو ما أطعم منه الفقير" الحديث. وقال: "إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا. وأشار بيده إلى البذل" (¬2)، وقال: "ما يَنقِمُ ابن جميل إلَّا أنه كان فقيراً فأغناه الله" (¬3). وفي صحيح مسلم: أن أناساً من أصحاب ¬

_ (¬1) * تشبيه المال بالخَضِرة مبني على تمثيل وقع في صدر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو ما روى أبو سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ ممّا أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها". فقال رجل: يا رسول الله أَوَ يأتي الخير بالشر؟ فقال: "إنه لا يأتي الخير بالشر. وإنّ ممّا ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر [فإنها] أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت ثم بالت [ثم رتعت] , إن هذا المال ... " اهـ. تع. ابن عاشور. [وتمام حديث أبي سعيد الخدري: "إن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحبُ المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل"، أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيداً عليه يوم القيامة". انظر 24 كتاب الزكاة، 47 باب الصدقة على اليتامى. خَ: 2/ 127 - 128. وبلفظ قريب من هذا انظر 23 كتاب الزكاة، 81 باب الصدقة على اليتيم. نَ: 5/ 90 - 91؛ وبنحو لفظهما انظر 12 كتاب الزكاة، 41 باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، ح 121، 123. وأقرب رواياته لما ذكره المؤلف ما جاء في آخره: "إن هذا المال خضرة حلوة. فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع". مَ: 1/ 727 - 729. (¬2) حديث أبي هريرة: حَم: 2/ 358، 391، 525؛ وحديث أبي ذر. حَم: 5/ 181. (¬3) حديث أبي هريرة. انظر 24 كتاب الزكاة، 49 باب قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ح 2. خَ: 2/ 128 - 129؛ النسائي: 23 =

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور (¬1) * يُصلُّون كما نصلّي ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم، قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون به؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة" ... إلى أن قال: فرجع الفقراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثل ما فعلنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (¬2). وفي الحديث: "إن لله ملَكاً يدعو: اللهم أعط منفقاً خلفًا ومُمسكاً تلفاً" (¬3). فحرض على الإنفاق بوعد الخَلف للمال، وحذّر ¬

_ = كتاب الزكاة، 15 باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق. نَ: 5/ 32 - 34. (¬1) * الدُّثور بضم الدال: الأموال الكثيرة، واحدها دَثْر بفتح فسكون. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) حديث أبي هريرة. انظر 10 كتاب الأذان، 155 باب الذكر بعد الصلاة، ح 3. خَ: 1/ 204 - 205؛ 80 كتاب الدعوات، 18 باب الدعاء بعد الصلاة، ح 1. خَ: 7/ 151؛ انظر 5 كتاب المساجد، 26 باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، ح 142 - 143. مَ: 1/ 416 - 417؛ وحديث أبي الأسود الديلي عن أبي ذر بألفاظ قريبة من الأول مع عدد أنواع الصدقات: 12 كتاب الزكاة، 16 باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، ح 53. مَ: 1/ 697 - 698؛ حَم: 5/ 167 - 168؛ حديث أبي هريرة عن أبي ذر انظر 2 كتاب الصلاة، 359 باب التسبيح بالحصى، ح 1504. دَ: 2/ 172؛ انظر 2 كتاب الصلاة، 90 باب التسبيح في دبر الصلاة، ح 1360. دَي: 1/ 253 - 254؛ حَم: 2/ 238؛ حديث بشر بن عاصم عن أبيه عن أبي ذر انظر 5 كتاب الإقامة، 32 باب ما يقال بعد التسليم، ح 927. جَه: 1/ 299. (¬3) هذا حديث أبي هريرة وهو بلفظ: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان =

من الإمساك بوعيد التلف. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن مالك: "أمسك بعض مالك فهو خير لك" (¬1). وقال لسعد بن أبي وقاص: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس" (¬2) إلى غير ذلك من أدلة طافحة. وإنما أَفَضْتُ في ذكر الأدلة لإزالة ما خامر نفوسَ كثير من أهل العلم من توهم أن المال ليس منظوراً إليه بعين الشريعة إلا إغضاءً، وأنه غير لاق من معاملتها إلا رفضاً. لكن الجانب الروحاني من الشريعة المنبّه على جعل انصراف الهمّة إلى الفضائل النفسانيّة والكمالات الخُلقيّة في الدرجة الأولى. والداعي الشيطاني العارض غالباً للمستدرجين من أهل الثروة والمال بوضع ذلك في أساليب كفران نعمة الرزّاق دون وضعها في مواضع ¬

_ = ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أْعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً". انظر 24 كتاب الزكاة، 27 باب قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}. خَ: 2/ 120؛ انظر 12 كتاب الزكاة، 17 باب في المنفق والممسك، ح 57. مَ: 1/ 700. (¬1) انظر 24 كتاب الزكاة، 18 باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ح 1. خ: 2/ 117؛ 55 كتاب الوصايا، 16 باب إذا تصدق أو أوقف بعض ماله ... فهو جائز. خَ: 3/ 192؛ 65 كتاب تفسير القرآن، سورة التوبة، 17 باب قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}. خَ: 5/ 208؛ 83 كتاب الأيمان، 24 باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة. خَ: 7/ 231 - 232؛ انظر 48 كتاب تفسير القرآن، 10 باب ومن سورة التوبة، ح 3102. تَ: 5/ 281 - 283؛ انظر 35 كتاب الأيمان والنذور، 36 باب إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي. نَ: 7/ 21؛ 17 باب إذا أهدى ماله على وجه النذر. نَ: 7/ 22. (¬2) تقدم تخريج الحديث: 136/ 3.

شكره، قد صرَفا أقوال الشريعة عن الصراحة في الحث على اكتساب المال، وفي بيان محاسن اكتسابه لِمَن أقام نفسه في مقام السعي والكد، لكيلا ينضم حثُّها إلى ما في داعية النفوس من الحرص على المال. تلك الداعية التي أشار إليها قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (¬1)، وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية (¬2) حذاراً من أن يحصل من اجتماع الداعيتين تكالب الأمة على اكتساب المال والافتتان به، مُعرضين عما خلا ذلك من أسباب الكمال. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (¬3) وقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} (¬4). وفي الحديث الصحيح: "أخاف عليكم أن تنافسوا فيها كما تنافس الذين من قبلكم فتُهْلِكَكُم كما أهلكتهم" (¬5) فشبه التنافسَ ¬

_ (¬1) الفجر: 20. (¬2) آل عمران: 14. (¬3) التغابن: 15. (¬4) سبأ: 37. (¬5) هذا حديث عمرو بن عوف الأنصاري. وقد ورد بروايتين الأولى: "تهلككم كما أهلكتهم"، والثانية: "وتلهيكم كما ألهتهم"، والأولى أشهر. ونصه عند البخاري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "أبشروا وأملوا. فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم": 58 كتاب الجزية، 1 باب الجزية والموادعة، ح 2. خَ: 5/ 18؛ 81 كتاب الرقاق، 7 باب ما يحذر من زهرة الحياة الدنيا والتنافس فيها. خَ: 7/ 172 - 173؛ انظر 38 كتاب صفة القيامة، باب 28، =

المحذور بتنافس الذين من قبلنا، وهو التنافس الذي تتمحض له الأمة فتنصرف عن التنافس في الفضائل والأخلاق الحميدة. وربما دحضت كثيراً من صفات الكمال سعياً وراء جلب المال. لذلك اقتنعت الشريعةُ في هذا الشأن بأن لم تنهَ الناسَ عن اكتساب المال من وجوهه المعروفة، وبأن بيَّنت ما في وجوه صرفه من المصالح والمفاسد رغبةً ورهبة، وبأن لم تغبن أصحاب الأموال ما يحصل لهم من الفضائل والدرجات بسبب أموالهم إن هم أنفقوها في مصارفها النافعة. قال الله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬1)، وقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬2). وفي الحديث: "ما زُكّي فليس بِكَنْز أو ما أُدِيَ زكاتُه فليس بكنز" (¬3). وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬4). وقد أجمع الصحابة في عهد عثمان بن عفان على مخالفة أبي ذر ¬

_ = ح 2462. تَ: 4/ 640؛ انظر 36 كتاب الفتن، 18 باب فتنة المال، ح 3997. جَه: 2/ 1324 - 1325؛ حَم: 4/ 137، 327. (¬1) البقرة: 200، 201. (¬2) التوبة: 34. (¬3) انظر 24 كتاب الزكاة، 4 باب ما أدى زكاته فليس بكنز، ترجمة الباب خَ: 2/ 111؛ انظر 8 كتاب الزكاة، 3 باب ما أدى زكاته فليس بكنز، بألفاظ مختلفة في أحاديث الباب. جَه: 1/ 569 - 570. (¬4) آل عمران: 92.

في دعوته الناس إلى الانكفاف عن جمع المال، وإنبائه إياهم بأن ما جمعوه يكون وبالاً عليهم في الآخرة، إذ كان يجهر بذلك في دمشق ويقول: "بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم" (¬1)، ويقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (¬2) الآية. فقال له معاوية بن أبي سفيان أمير الشام: ذلك نازل في أهل الكتاب لا فينا، وما أدّي زكاته فليس بكنز. فيأبى أبو ذر أن ينكفّ عن مقالته حتى شكاه معاوية إلى عثمان، فكتب إليه عثمان أن يرجع إلى المدينة، ثم تكاثر الناس عليه فاختار العزلة في الرَّبَذَة (¬3) *. هذا وقد تقرر عند علمائنا أن حفظَ الأموال من قواعد كليات الشريعة الراجعة إلى قسم الضروري. ويُؤخذُ من كلامهم أن نظام نماء الأموال وطرق دورانها هو معظم مسائل الحاجيات كالبيع ¬

_ (¬1) أورد مسلم حديثاً قريباً منه، نسبه إلى أبي ذر قال: "بشر الكانزين بكيّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكَيِّ من قبل أقفائهم يخرج من جباههم": 12 كتاب الزكاة، 10 باب في الكَنازين للأموال والتغليظ عليهم، ح 35. مَ: 1/ 690. (¬2) التوبة: 34. (¬3) * الرَّبَذة - بفتح الراء والباء -: قرية شرقي المدينة تبعد عن المدينة مسيرة ثلاث مراحل، خربت سنة 319 هـ بالقرامطة. اهـ. تع ابن عاشور. [قرية من قرى المدينة على ثلاثة أيام قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز، إذا رحلت من فيد تريد مكة، وبها قبر أبي ذر الغفاري ... وقال الأصمعي: والشرف كبد نجد، وفي الشرف الرَّبَذة وهي الحمى الأيمن، بينها وبين السليلة 23 ميلاً. الفيروزآبادي. الغنائم المطابة في معالم طابة: 151].

والإجارة والسَّلَم. وقد ألمعنا إلى قاعدة حفظ الأموال ونمائها في مبحث أنواع المصلحة المقصودة من التشريع (¬1)، وأما تفصيل ذلك فموضعه مبحثنا هذا. وقد أشرت في المبحث المتقدم [إلى] أن المقصد الأهم هو حفظ مال الأمة وتوفيره لها، وأن مال الأمة كان كُلًّا مجموعياً فحصول حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد وأساليب إدارتها. فإن حفظ المجموع يتوقّف على حفظ جزئياته، وإن معظم قواعد التشريع المالي متعلقة بحفظ أموال الأفراد وآئلة إلى حفظ مال الأمة, لأن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة. فالأموال المداولة بأيدي الأفراد تعود منافعُها على أصحابها وعلى الأمة كلَّها, لعدم انحصار الفوائد المنجرَّة إلى المنتفعين بدوالها. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (¬2). فالخطاب للأمة أو لولاة الأمور منها. وأضاف الأموالَ إلى ضمير غير مالكيها لأن مالكيها هنا هم السفهاء المنهي عن إيتائهم إياها. وقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} يزيد الضميرَ وضوحاً ويزيد الغرضَ تبياناً، إذ وَصَفَ الأموال بأنها مجعولة قيامًا لأمور الأمة (¬3) *. ¬

_ (¬1) انظر أعلاه: 230. (¬2) النساء: 5. (¬3) * قرئ "قَيْماً" [قرأ به نافع وابن عامر] وقرئ قياماً [عند الجمهور] , وهي بمعنى واحد, لأن قَيْماً بوزن عَوْذ [بمعنى عياذ. وهو من الواوي وقياسه قوم إلا أنه أعلّ بالياء شُذُوذاً كما شذَّ جياد في جمع جواد، هو اسم لما يقام به الأمر، و (قياماً) مصدر بمعنى ذلك، وقواماً كذلك وهو ما يتقوم به =

فالمال الذي يدال بين الأمة ينظر إليه على وجه الجملة وعلى وجه التفصيل. فهو على وجه الجملة حقٌّ للأمة عائد عليها بالغنى عن الغير. فمن شأن الشريعة أن تضبط نظام إدارته بأسلوب يحفظه مُوزَّعاً بين الأمة بقدر المستطاع، وتعين على نمائه في نفسه أو بأعواضه بقطع النظر عن كون المنتفع به مباشرة أفراداً خاصة أو طوائف أو جماعات صغرى أو كبرى. ويُنظر إليه على وجه التفصيل باعتبار كل جزء منه حقاً راجعاً لمكتسبه ومعالجه من أفراد أو طوائف أو جماعات معيّنة أو غير معيّنة، أو حقّاً لمن ينتقل إليه من مكتسبه. وهو بهذا النظر ينقسم إلى مال خاص بآحاد وجماعات معيّنة، وإلى مال مرصود لإقامة مصالح طوائف من الأمة غير معيّنين. فالأول من هذا النظر هو الأموال الخاصة المضافة إلى أصحابها. والثاني هو المسمّى في اصطلاح الشريعة بمال المسلمين أو مال بيت المال بمختلف موارده ومصارفه. وقد كان أصلُه موجوداً في زمن النبوءة، مثل: أموال الزكاة، ومثل: أذواد الإبل المعدودة لحمل المجاهدين، واللامة المرصودة للبس المجاهدين. وفي الحديث: "إن خالداً قد احتبس أدرعه وأعْتُدَه في سبيل الله" (¬1). وكذلك ما جعل لنفع المسلمين. وفي الحديث: "من ¬

_ = السابق لشيء. اهـ. تسع ابن عاشور. [انظر التحرير والتنوير: 4/ 235 - 236]. (¬1) انظر 56 كتاب الجهاد والسير، 89 باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما خالد فقد احتبس أدراعه في سبيل الله. خَ: 3/ 230؛ 24 كتاب وجوب الزكاة، 49. خَ: 2/ 128؛ انظر 12 كتاب الزكاة ولفظه: "قد احتبس أدراعه وأعتاده"، 3 باب في تقديم الزكاة ومنعها، ح 11. مَ: 1/ 676؛ انظر 3 كتاب الزكاة، 21 باب تعجيل الزكاة، ح 1623. دَ: 2/ 273؛ وبنفس =

يشتري بئر رومة فيكون دلوُه فيها كدلاء المسلمين" (¬1)، فاشتراها عثمان وجعلها للمسلمين. ولقصد تحصيل الاستبصار في هذا الغرض الجليل، ولندرة خوض علماء التشريع فيه خوضاً يقسّمه ويبيّنه، رأيت حقيقًا عليّ أن أشبع القول فيه وفي أساسه. إن مال الأمة هو ثروتها، والثروة هي ما ينتفع به الناس آحاداً أو جماعات في جلب نافع أو دفع ضارّ، في مختلف الأحوال والأزمان والدواعي، انتفاع مباشرةٍ أو وَسَاطة. فقولنا: في مختلف الأحوال والأزمنة والدواعي إشارة إلى أن الكسب لا يعد ثروة إلَّا إذا صلح للانتفاع مددًا طويلة، ليخرج الانتفاع بالأزهار والفواكه. فإنها لا تعتبر ثروة ولكن التجارة فيها تعد من لواحق الثروة. وقولنا: مباشرة أو وساطة, لأن الانتفاع يكون باستعمال عين المال في حاجة صاحبه، ويكون بمبادلته لأخذ عوضه المحتاج إليه من يد آخر. ¬

_ = اللفظ انظر 23 كتاب الزكاة، 15 باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق. نَ: 5/ 32؛ حَم: ولفظه لفظ البخاري: 2/ 322. (¬1) انظر 42 كتاب المساقاة، 1 باب في الشرب من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، ح 1. خَ: 3/ 74 - 75؛ 55 كتاب الوصايا، 33 باب إذا وقف أرضاً أو بئراً، وهو في حفر بئر رومة ولفظه مختلف. خَ: 3/ 197؛ وبلفظ قريب منه انظر 46 كتاب المناقب، 18 باب في مناقب عثمان رضي الله عنه، ح 3699. تَ: 5/ 625؛ انظر 29 كتاب الأحباس، 4 باب وقف المساجد، ح 3604. نَ: 6/ 233 - 234؛ وبلفظ غيره حَم: 1/ 75.

وتتقوّم هذه الصفة للمال باجتماع خمسة أمور: - أن يكون ممكناً ادخاره. - وأن يكون مرغوباً في تحصيله. - وأن يكون قابلاً للتداول. - وأن يكون محدود المقدار. - وأن يكون مكتسباً. فأما إمكان الادخار فلأن الشيء النافع الذي يُسرِعُ إليه الفساد لا يجده صاحبه عند دعاء الحاجة إليه في غالب الأوقات، بل يكون مرغماً على إسراع الانتفاع به ولو لم تكن به حاجة. وأما كونُه مرغوباً في تحصيله فذلك فرعٌ عن كثرة النفع به. فالأنعام والحب والشجر في القرى ثروة، والذهب والفضة والجواهر ونفائس الآثار في الأمصار ثروة، والأنعام وأوبارها وأصوافها وأحواض المياه والمراعي وآلات الصيد في البوادي ثروة (¬1) *. ¬

_ (¬1) * من هنا تعلم اختلاف العرب في إطلاق اسم المال، فأهل الإبل يسمونها مالاً، قال زهير: صحيحات مال طالعات بمخرم وفي حديث عمر في الموطأ: "لولا المال الذي أحمل [عليه] في سبيل الله [ما حميت عليهم من بلادهم شبراً". انظر: 60 كتاب دعوة المظلوم، 1 باب ما يتقى من دعوة المظلوم، ح 1. طَ: 2/ 1003]. وأهل النخيل يسمون النخيل مالاً كما في الحديث. كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء. وقال رسول الله له: "بخ ذلك مال رابح بخ ذلك مال رابحِ". [انظر 58 كتاب الصدقة، 1 باب الترغيب في الصدقة، ح 2. ط: 2/ 995 - 996]. وأهل الذهب والفضة =

وأما قبول التداول، أي التعاوض به فذلك فرعٌ عن كثرة الرغبة في تحصيله. وهذا التداول يكون بالفعل، أي بنقل ذات الشيء من حوز أحد إلى حوز آخر، ويكون بالاعتبار، مثل عقود الذمم كالسَّلَم والحوالة وبيع البرنامج ومصارفة أوراق المصارف، أي: البنوك (¬1) *. وأما كونه محدودَ المقدار فلأن الأشياءَ التي لا تنحصر مقاديرها لا يقصد الاختصاص بمقادير منها، فلا تُدَّخر، فلا تُعدّ ثروة. وذلك مثل البحار والرمال والأنهار والغابات. على أن مثل الأخيرين قد يُعدّ وسيلة ثروة باعتبار ما يحصل بهما من خصب وتشغيل. ولم يقع الاصطلاح على عدّ البحار ثروةً وإن كانت قد تسهل مواقعها لبعض الأقطار السفر فيها دون بعض آخر (¬2). وأما ¬

_ = يسمونهما مالاً، قال تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} النساء: 24، مع قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} النساء: 20. اهـ. تع ابن عاشور. [راجع نزيه حماد، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: 237]. (¬1) * البنوك، جمع بنك: كلمة فرنسية مأخوذة من كلمة بانكو في اللغة اللاتينية، ومعناها محل جلوس للكتابة أو مجلس مطلقاً، ثم أطلقت على المقعد الذي يتخذه الصيرفي لصرف النقود. ثم توسعوا فيه فصار بمعنى الدار التي يشتغل فيها جماعة من الصيارفة للصرف، وتحويل الحوالات التجارية والسفاتج. اهـ. تع ابن عاشور. [والبديل عنها عربية: مَصْرِف]. (¬2) ليس جانب النفع مقصوراً على ما ذكره الإِمام هنا. فإن الشيخ قد جعل ذلك من رأس المال عندما تحدث عن الأرض وذكره في تفسير آيات كثيرة وذلك بقوله: ما يصل إليه عمل الإنسان في الكرة الأرضية بما فيها من بحار وأودية ومنابع مياه وغيرها فيصبح كلام الشيخ متجاوزاً ذلك النفع إلى أنواع أخرى من الثروة المائية المادية ألمح إليها القرآن في غير ما آية النحل: 14، فاطر: 12، الرحمن: 19 - 25. فهذه الآيات وإن يتصف في أكثرها للتنويه بعظمة الخالق وما أودعه في الكائنات من أسرار وأقامه =

المعادن فقد اعتبرت ثروة وإن كانت غير محدودة المقادير إلا أن المستخرج منها يكون محدود المقدار لما يستدعيه استخراجه من النفقات الجمة. وأما كونه مكتسباً فأن يحصل لصاحبه، أو لمن خلفه بسعيه بأن لا يحصل له عفواً, لأن الشيء الذي يحصل عفواً لا يكون عظيم النفع كالحشيش واحتطاب الغابات وأسراب بقر الوحش وحمره بقرب منازل قبائل البادية. واعلم أن من جهات توازن الأمم في السلطان على هذا العالم جهةَ الثروة، فبنسبة ثروة الأمة إلى ثروة معاصريها من الأمم تُعَدُّ الأمة في درجة مناسبة لتلك النسبة في قوتها، وحفظ كيانها، وتسديد مآربها وغناها عن الضراعة إلى غيرها. ¬

_ = من دلائل التوحيد، ذكرت الثروة المائية والحيوانية المتمثلة في الأسماك وفي أنواع الحليّ من اللؤلؤ والمرجان، وفي جعله سبحانه البحار والأنهار مراكب تمخر عبابها الفلكُ وتجري بها الأساطيل التجارية والحربية وتقام على ثغورها مراكز النجدة ومنطلق الحركات الجهادية، والمواني الكبرى التجارية التي تربط بين أصقاع العالم في الشرق وفي الغرب، عدا ما أودعه الله سبحانه أعماق البحار من موارد نفطية وطاقات غازية أصبحت اليوم مصدر ثروة وقوة وتقدم وتطور في كل المجالات وبخاصة التقنية والاقتصادية.

ي - الملك والتكسب

ي - الملك والتكسب لإثراء الأمة وأفرادها طريقان أحدهما التملّك، والثاني التكسّب. وقد مضت الإشارةُ إليهما إجمالاً في مبحث مقصد تعيين الحقوق لأصحابها (¬1). فالتملّك هو أصل الإثراء البشري. وهو اقتناء الأشياء التي يستحصل منها ما تسدّ به الحاجة بغلاته أو بأعواضه أي أثمانه. والأصل الأصيل في التملك الاختصاص. فقد كان من أصول الحضارة البشرية أن يدأب المرء إلى تحصيل ما يحتاج إليه لتقويم أَوْدِ حياته وسلامته. فهو يصيد لطعامه، ويجتني الثمر لفاكهته، ويحطب للوقود، ويبني البيت أو الخُصَّ للتوقي من الحرِّ والقر، ويتوخّى منازله بجوار المياه خشية العطش، ويرتبط الفرس ويعد السلاح للدفاع، ويقتني نفائس الحلي والثياب للتزين. وهو يتجشّم في السعي لنوالِ ذلك عرَقَ القِربة أو وحشةَ الغُربة. وهو يعمد إلى السَّبق إلى الأشياء المباحة للناس كالحشيش وورق الشجر والتقاط النبق ليأخذ منها حاجته قبل أن يستنفدها الناس، ويحول مجرى الماء إلى أرضه قبل أن يحوله آخر، يتحمل لذلك كله ما يبلغ به الجهد والتعب وإعمال الرأي. ¬

_ (¬1) انظر: 409 وما بعدها.

وكل ذلك التدبير يبعثه على التكثير من ادخار ما قد يتطلبه، والاحتفاظ بما يفصّل عن حاجته، ادخاراً لشدائد الأزمان أو تباعد المكان. ويزيده حرصاً على هذا الادخار شعوره بإمكان الفقدان لعجز أو عدم. ولذلك قال الأعشى: "كجابية الشيخ العراقي تفهق" (¬1) * وهو قد سمّى ذلك التحصيل والادخار ملكاً، ورأى أن سعيَه يخوّلُه حقَّ الاختصاص بما جمعه. فإذا امتدت إليه أيدي الطامعين في ابتزازه رأى عملَهم ظلماً وحمي غضبه وقام إلى مدافعتهم. فلمّا أُشربت قلوبُ البشر حب العدل احترموا ممتلكاتِ الناس، وصادقوا على أحقية أصحابها بها، ورأى [كل أحد] لنفسه الحق في أن يتصرف فيما حصله تصرفاً مطلقاً لا يقبل فيه تدخلَ متدخَّل. وقد قصّ الله تعالى أن أهل مدين عجبوا من شعيب أن يضيّق عليهم بعض المعاملات، فشافهوه بالإنكار والتهكم به إذ {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (¬2). واعتبر الإِسلامُ في أصل التملك معنى ما ذكرنا. ففي الحديث: ¬

_ (¬1) * مصراع من بيت من قصيدته التي مدح بها المحلق وأوله: نَفَى الذم عن رهط المحلق جفنة ومحل الشاهد منه أنه اختار نسبة الجابية إلى الشيخ لأنه يحرص على ملء جابيته لحرصه، وخشية أن لا يجد الماء وقت طلبه. اهـ. تع ابن عاشور. [قال المبرد: وتأويله أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته, لأنه حضري، فلا يعرف مواقع الماء ولا محالّه. الكامل: 1/ 24]. (¬2) هود: 87.

"من أحيا أرضاً ميتة فهي له. وليس لعرق ظالم حق" (¬1). ثم اعتبر تفرع أحوال التملك عن هذا الاختصاص ومراعاة جهود المرء في تملّكه فكانت أسباب التملك في الشرع هي: - الاختصاص بشيء لا حقَّ لأحد فيه كإحياء الموات. - والعمل في الشيء مع مالكه كالمغارسة. - والتبادل بالعوض كالبيع، والانتقال من المالك إلى غيره كالتبرعات والميراث. فالمِلك تمكّنُ الإنسان شرعاً من الانتفاع بعين أو منفعة من تعويض ذلك أو من الانتفاع به وإسقاطه للغير، فخرج التصرف بوجه العصمة (¬2) *. وأصل الشريعة في تصرف الناس في أموالهم ومملوكاتهم هو إطلاق التصرف لهم للأحرار الرشداء منهم، فلا ينتقض ذلك الأصل إلا إذا كان المالك غيرَ متأهَّل لذلك التصرف. وقصورُ التصرف يكون لصِبًى أو سفه أي: اختلال العقل في التصرف المالي، أو إفلاس مدين، أو عدم حرية أو حجر في جميع المال أو بعضه. فهذا في التبرّع مما زاد على الثلث من مريض مرضاً مخوفاً، ومن تصرّف معلّق مما بعد الموت وهو الوصية وما يؤول إليها من تبرع، وتبرع ذات الزوج بما زاد على ثلث مالها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه: 91/ 1. (¬2) * مأخوذ من كلام ابن الشاط في تعليقه على فروق القرافي مع إصلاح آخره. انظر الفرق المائة والثمانين. اهـ. تع ابن عاشور: [3/ 208 - 217]. وعبارة ابن الشاط هي كالتالي: الصحيح في الملك أنه تمكن الإنسان بنفسه أو بنيابة من الانتفاع بالعين أو المنفعة، ومن أخذ العوض عن العين أو المنفعة. إدرار الشروق على أنواء الفروق: 3/ 209.

وأما التكسب فهو معالجة إيجاد ما يسد الحاجة إما بعمل البدن أو بالمراضاة مع الغير. وأصول التكسُّب ثلاثة: الأرض، والعمل، ورأس المال. وللأرض المكانة الأولى في هذه الأصول الثلاثة. وإذا أطلقنا الأرض هنا فمرادنا ما يصل إليه عمل الإنسان في الكرة الأرضية بما فيها من بحار وأودية ومعادن ومنابع مياه وغيرها، إلَّا أن الحظ الأوفر من ذلك والأسبق هو للأرض بمعنى سطحها الترابي، فإنه منبت الشجر والحب والمرعى ومنبع المياه. قال الله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (¬1). وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (¬2). وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬3). وقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (¬4). والأرض تتفاوت بالخصب، وأثراها أخصبُها, ولذلك كانت الرمال أقل ثروة من غيرها. وأما العمل فهو وسيلة استخراج معظم منافع الأرض، وهو أيضاً طريقٌ لإيجاد الثروة بمثل الإيجار والاتجار، وقوامه سلامة العقل وصحة الجسم. فسلامة العقل: التمكن من تدبير طرق الإثراء، والصحة لتنفيذ التدبير، مثل استعمال الآلات واستخدام الحيوان. ¬

_ (¬1) النازعات: 31. (¬2) الملك: 15. (¬3) البقرة: 29. (¬4) عبس: 24 - 32.

ومنه الغرس والزرع والسفر لجلب الأقوات والسلع. وقد امتنّ الله تعالى به فقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬1). وقال: {يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬2). وقد يكون العمل صادراً من جامع المال لتحصيل أصل ما يتموّله تملكاً كالاحتطاب وإحياء الموات. أو تكسباً مثل مبادلة مالِهِ بما هو أوفر. وقد يكون العمل من غير جامع المال، وهو العمل في مال غير العامل ليحصل العامل بعمله جزءاً من مال صاحب المال كالإجارة على عمل البدن. وأما رأسُ المال فوسيلة لإدامة العمل للإثراء، وهو مال مدّخر لإنفاقه فيما يجلب أرباحاً. وإنما عدّ رأس المال من أصول الثروة لكثرة الاحتياج إليه. فإذا لم يكن موجوداً لا يأمن العاملُ أن يعجز عن عمله فينقطع تكسُّبُه. والأظهر أن تعد آلات العمل في رأس المال، مثل المحركات ومزجيات البخار وآلات الكهرباء وكذلك دواب الحرث والمكاراة. إذا علمت هذا، فالمعاملات المالية بعضُها راجع إلى التملّك، كبيع ديار السكنى والأطعمة المأكولة، وبعضها راجع إلى التكسّب، كبيع أرض الحراثة وأشجار الزيتون. وكذلك عقودُ الشركات من قراض ومزارعة ومغارسة ومساقاة، وعقودُ الإجارات في الذوات والدواب والآلات والسفن والبواخر والأرتال. والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها. ¬

_ (¬1) يونس: 22. (¬2) المزمل: 20.

فالرواج دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق. وهو مقصد عظيم شرعي دل عليه الترغيب في المعاملة بالمال، ومشروعية التوثّق في انتقال الأموال من يد إلى أخرى. ففي الترغيب في المعاملة جاء قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬1)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" (¬2). وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: "ما موتٌ أحبّ إليّ بعد الشهادة في سبيل الله من أن أموت متجراً" (¬3) , لأن الله قرن بين التجارة والجهاد في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ ¬

_ (¬1) المزمل: 20. (¬2) ورد حديث أنس بتقديم "يغرس غرساً" على "يزرع زرعاً" إلا مرة واحدة. انظر: 41 كتاب الحرث والمزارعة، 1 باب فضل الزرع والغرس. خَ: 3/ 66؛ 78 كتاب الأدب، 27 باب رحمة الناس بالبهائم، آخر حديث الباب. خَ: 7/ 78؛ انظر 22 كتاب المساقاة، 2 باب فضل الغرس والزرع، ح 12؛ وأحاديث أخرى بمعنى حديث أنس، عن جابر 7، 9، وعن أم مبشر الأنصاري 8، وعن أم معبد 10. مَ: 2/ 1188 - 1189؛ انظر 13 كتاب الأحكام، 40 باب ما جاء في فضل الغرس، ح 1388. تَ: 3/ 666؛ انظر 18 كتاب البيوع، 67 باب في فضل الغرس، حديث أم مبشر 2613. دَي: 2/ 580؛ حَم: 3/ 147، 192، 229، 243؛ حديث أم مبشر: 6/ 420، ومن زيادات عبد الله من حديث أبي الدرداء: 6/ 444. (¬3) في هذا السياق أقوال كثيرة، رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها رواية إبراهيم بن علقمة، ومقالة ابن مسعود وطاوس؛ وورد قول ابن عمر هذا بلفظ آخر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليّ من الموت بين شعبتي رحلي، أبتغي من فضل الله ضارباً في الأرض. القرطبي. التفسير: 19/ 55 - 56.

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). وفي الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلْها الزكاة" (¬2) *. وقد دلت إشارة قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (¬3) على أهمية إدارة التجارة في نظر الشريعة حتى رخصت في ترك الإشهاد المحثوث عليه حرصاً على نفي العوائق عنها. ومن الشواهد في ذلك أن العرب كانوا يحرّمون التجارة في الحج إذا دخل شهر ذي الحجة بأسواقهم مِجنَّة وذو المجاز وعكاظ. وكانوا يقولون لمن يتّجر في العشر من ذي الحجة: هؤلاء الداج وليس بالحاج (¬4). فأبطل الإِسلام ذلك بحكم قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬5) أي في أيام الحج. ¬

_ (¬1) المزمل: 20. (¬2) * المعروف عند رجال السنّة أن هذا من كلام عمر. ومن النّاس من يروي في معناه حديثاً: "ابتغوا بأموال اليتامى لا تذهبها الزكاة"، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: "ألا من ولِيَ يتيماً له مال فليتجر له فيه ولا يتركه فتأكله الزكاة". وكل ذلك بأسانيد ضعيفة. اهـ. تع ابن عاشور. [وقول عمر. انظر بلفظ: "اتجروا في" بدل "ابتغوا": 17 كتاب الزكاة، 6 باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم بها 12. طَ: 1/ 25]. (¬3) البقرة: 282. (¬4) حرمة البيع والشراء أيام الحج عند العرب نطقت بها أشعارهم. قال النابغة: قلت لها وهي تسعى تحت لبتها ... لا تحطمنك إن البيع قد زَرِما والبيت من قصيدته التي طالعها: بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما ... واحتلّت الشرع والأجزاع من إضَما ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 1: 237 - 238؛ الديوان: 215. (¬5) البقرة: 198. قال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء: إن الآية نزلت =

وفي التوثّق وردت أدلة كثيرة في مشروعية الإشهاد والحث عليه، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). ومنها عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في مقصد القضاء والشهادة (¬2). ومحافظةً على مقصد الرواج شرعت عقود المعاملات لنقل الحقوق المالية بمعاوضة أو بتبرع. وهي من قسم الحاجي كما تقدم (¬3). وجعل لزومها حصول صيغ العقود وهي الأقوال الدالة على التراضي بين المتعاقدين. واشتُرطت فيها شروط لفائدة المتعاقدين كليهما. فإذا استوفت شروطَها فهي صحيحة، وبصحّة العقد ترتّب أثرُه. وكان الأصلُ فيها اللزومَ بحصول الصيغ. وتسهيلاً للرواج شُرعت عقود مشتملة على شيء من الغرر، مثل المغارسة والسَّلَم والمزارعة والقراض، حتّى عدّها بعض علمائنا رخصاً، باعتبار أنها مستثناة من قاعدة الغرر، وإن لم يكن فيها تغيير حكم من صعوبة إلى سهولة لعذر. واعتبروا في إطلاق اسم الرخصة عليها أن تغييرَ الحكم أعمُّ من تغييره بعد ثبوته، أو تغيير ما لو ثبت لكان مخالفاً للحكم المشروع. ¬

_ = لأنّ العرب تحرجت لما جاء الإِسلام أن يحضروا أسواق الجاهليّة كعكاظ وذي المجاز ومجنّة، فأباح الله تعالى ذلك. أي لا درَك في أن تتجروا وتطلبوا الربح. وفي التعليق على هذا الكلام من المحققين لكتاب ابن عطية: اللهم. إلا إذا كانت التجارة هي القصد، فإن الفرض يسقط والثواب ينقص. ابن عطية. المحرر الوجيز: 2/ 172. (¬1) البقرة: 282. (¬2) انظر بعد: 515. (¬3) انظر أعلاه: 241.

ولأجل مقصد الرواج كان الأصل في العقود المالية اللزوم دون التخيير إلَّا بشرط. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) كما استدل لذلك القرافي في الفرق السادس والتسعين والمائة (¬2). وأما العقود التي جعلها فقهاؤنا غير لازمة بمجرد العقد بل حتى يقع الشروع في العمل، وهي الجُعْل (¬3) والقِراض (¬4) باتفاق، والمغارسة والمزارعة على خلاف (¬5)، فإنما نُظر فيها إلى عذر العامل لأنه قد ¬

_ (¬1) المائدة: 1. (¬2) ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الأصل في العقود اللزوم لذوي الحاجات من الأعواض. وقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أمر للوجوب المنافي للخيار. القرافي. الفرق 196 بين قاعدة خيار المجلس وقاعدة خيار الشرط، الفروق: 3/ 269 - 275. (¬3) قال ابن رشد الحفيد: ولا خلاف في مذهب مالك أن الجعل لا يستحق شيء منه إلا بتمام العمل وأنه ليس بعقد لازم. ابن رشد. البداية: 2/ 196. وقال: أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض. ابن رشد. البداية: 2/ 200. وفي المزارعة قالوا: لا تلزم إلا بالبذر ونحوه كوضع الزريعة على الأرض مما لا بذر لحبه. وهو المشهور وعليه عوّل خليل. قال: لكلٍّ فسخ المزارعة إن لم يبذر. مختصر خليل: 215. وقيل: تلزم بالعقد، وقيلَ: لا تلزم إلا بالشروع في العمل. الحطاب. مواهب الجليل: 5/ 377. (¬4) عند المالكية بلغة أهل الحجاز، ويسمّى مضاربة عند أهل العراق. وهو دفع مالك مالاً من نقد مضروب مسلم معلوم لمن يتّجر به بجزء معلوم من ربحه قلّ أو كثر بصيغة. الصاوي. الشرح الصغير للدردير: 3/ 681 - 682؛ نزيه حماد. معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: 223. (¬5) المغارسة عقد على تعمير أرض بشجر بقدر معلوم كالإجارة والجعالة، أو =

يخِف إلى العقد لرغبة في العوض ثم يتبيّنُ له أنه لا يستطيع الوفاءَ بعمله. فمصلحةُ العقد بالأصالة في لزومه وتأخر اللزوم في هذه لمانع عارض، خلافاً لظاهر كلام القرافي في الفرق التاسع والمائتين (¬1). ومن معاني الرواج المقصود انتقالُ المال بأيد عديدة في الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسِبِه. وذلك بالتجارة وبأعواض العَمَلة التي تدفع لهم من أموال أصحاب المال. فتيسير دوران المال على آحاد الأمة وإخراجه عن أن يكون قاراً في يد واحدة أو متنقلاً من واحد إلى واحد مقصدٌ شرعي، فُهمت الإشارةُ إليه من قوله تعالى في قسمة الفيء: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (¬2). فالدُّولة - بضم الدال - تداول المال وتعاقبه، أي: كيلا يكون مال الفيء يتسلمه غني من غني كالابن البكر من أبيه مثلًا أو الصاحب من صاحبه. والشريعة قد بلغت إلى مقصدها هذا بوجه لطيف. فراعت لمكتسِبِ المال حقَّ تمتعه به. فلم تصادره في ماله بوجه يحرجه لما ¬

_ = بجزء من الأصل. وهي جائزة لازمة بالعقد على الراجح. التسولي. البهجة: 2/ 196. والمزارعة هي الشركة في الحرث. قال خليل: لا تلزم إلا بالبذر ونحوه، كوضع الزريعة في الأرض. ولكلًّ فسخ المزارعة إن لم يبذر. وعلى هذا القول المعول. وقيل: تلزم بالعقد، وقيل: لا تلزم إلا بالشروع في العمل. الشيباني. التبيين: 4/ 56 - 57. (¬1) جعل القرافي العقود الخمسة: الجعالة والقراض والمغارسة والوكالة وتحكيم الحاكم جائزة غير لازمة بالعقد. فهي متساوية لديه. القرافي. الفروق، الفرق 209 بين قاعدة ما مصلحته من العقود في اللزوم، وبين قاعدة ما مصلحته في عدم اللزوم: 4/ 13. (¬2) الحشر: 7.

هو في جبلة النفوس من الشُحَّ بالمال، فجعلت لحالة المال حكمين أحدهما حكمه في مدة حياة صاحبه، والثاني حكمُه بعد موت صاحبه. فأما في الأول فأباحت لمالك المال في مدة حياة تصرّفَه فيه واختصاصَه به حثاً للنّاس على السعي في الاكتساب لتوفير ثروة الأمة وإبعاد المُفشلات عنها، فلم تجعل عليه في مدة حياة مكتسِبِه إلَّا حق الله فيه وهو الزكاة على اختلاف أحوالها، وتخميس المغانم. والثاني حكمُه بعد موت مكتسبه. وفي هذه الحالة نفذت الشريعة مقصدَها من توزيع الثروة تنفيذاً لطيفاً, لأن مكتسب المال قد قضى منه رغبتَه في حياته، فصار تعلق نفسه مسألة بعد وفاته تعلقاً ضعيفاً إلا إذا كان على وجه الفضول. فعلمُ المكتسب باقتسام ماله بعد موته لا يثبّطه عن السعي والكد في تنميته مدة حياته، فشرع الإِسلام قسمة المال بعد وفاة مكتسبه. وقد كانوا في الجاهليّة يوصون بأموالهم لأحب الناس إليهم أو أشهرهم في قومهم تقرباً إليهم، وافتخاراً بهم، فأبطل الإِسلام ذلك. فأوجب الوصيَّة للأقارب بآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬1). ثم نسخ بشرع المواريث المبيَّن في القرآن والسنّة، ولم يُجعل لصاحب المال حقٌّ في صرفه بعد موته إلا في ثلث ماله أن يوصي به لغير وارث (¬2)، فتمّ مقصد التوزيع بحكمة، وهي جعل المال صائراً إلى قرابة صاحبه لأن ذلك مما لا تشمئز منه نفسه، ولأن فيه عوناً على حفظ المال في دائرة ¬

_ (¬1) البقرة: 180. (¬2) تقدم: 136/ 3، 454/ 2.

القبيلة. وإنما تتكون الأمة من قبائلها، فيؤول ذلك إلى حفظه في دائرة جامعة الأمة. ولم تحرِم الشريعة أولي الأرحام من حقًّ في المال. وقد كان أهل الجاهلية يحَرمون جانب المرأة من الميراث، فمن أين يجيء طمع أولي الأرحام! وقد سمَّى القرآنُ ذلك فريضة. وأكد المحافظة عليها بقوله في صدر آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، وقوله في خلالها: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، وقوله في آخرها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} الآية (¬1). ومن وسائل رواج الثروة القصدُ إلى استنفاد بعضها. وذلك بالنفقات الواجبة على الزوجات والقرابة. فلم يترك ذلك لإرادة القيّم على العائلة بل أوجب الشرع عليه الإنفاق بالوجه المعروف. وهو مما شمله قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬2)، وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (¬3)، وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬4). ومن طرق الاستنفاد نفقات التحسين والترفه. وهي وسيلة عظيمة لانتفاع الطبقتين الوسطى والدنيا في الأمة من أموال الطبقة العليا. وهي أيضاً عون عظيم على ظهور مواهب أهل الصنائع ¬

_ (¬1) النساء: 11 - 13. (¬2) البقرة: 3؛ الأنفال: 3؛ الحج: 35؛ القصص: 54؛ السجدة: 16؛ الشورى: 38. (¬3) الإسراء: 29. (¬4) الفرقان: 67.

والفنون في تقديم نتائج أذواقهم وأناملهم. هذه النفقاتُ هي المشار إليها بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1)، وقوله: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (¬2). غير أن الشريعة لم تعمد إلى هذا النوع من الاستنفاد بالطلب الحثيث اكتفاء بما في النفوس من الباعث عليه كما قدمنا الإشارة إليه في أوليات هذا المبحث (¬3)، وتجنّباً من أن يصير التحريض عليه حملاً للأمة على السَّرفِ الذي يعرّض صاحبه لاختلال ثروتَه فيكون اختلالاً لجزء من نظام الثروة، وذلك قد يجرّ إلى اختلال الكل. ومن وسائل رواج الثروة تسهيل المعاملات بقدر الإمكان، وترجيح جانب ما فيها من المصلحة على ما عسى أن يعترضَها من خفيف المفسدة. ولذلك لم يُشترط في التبايع حضورُ كلا العوضين، فاغتفر ما في ذلك من احتمال الإفلاس. وشُرعت المعاملات على العمل مثل المغارسة والمساقاة واغتفر ما في ذلك من الغرر. وشرعت البيوعات على الأوصاف كالبرنامج (¬4) واغتفر ما في ذلك من ¬

_ (¬1) الأعراف: 32. (¬2) الأعراف: 31. (¬3) انظر أعلاه: 464. (¬4) البرنامج بفتح الباء والميم على الصحيح وبفتح الباء وكسر الميم. معرب برنامه بالفارسية. ابن عاشور. كشف المغطى: 280 - 281: الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل من الثياب المبيعة. الدردير: 3/ 41. وعرّف أبو عمر بن عبد البر بيع البرنامج بقوله: هو من بيوع المرابحة. وهو بيع المشاع على الصفة، العشرة أحد عشرة ونحو ذلك. أجازه مالك وأكثر أهل المدينة لفعل الصحابة. وكرهه آخرون, لأن الصفة إنما تكون في المضمون وهو السلم. الزرقاني، شرح الموطأ: 3/ 320. انظر 31 =

الضرر، قصداً في جميع ذلك إلى تسهيل المبادلة لتيسير حاجات الأمة، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (¬1). وتختلف أنواع المتمولات في سهولة رواجها اختلافاً عظيماً. والأصلُ في سهولة الرواج يعتمد خفّةَ النقل، وقبولَ طول الادّخار، ووفرةَ الرغبات في التحصيل، وتيسرَ التجزئة إلى أجزاء قليلة. فالحبوب من القمح والشعير ونحوهما أيسر رواجاً من التمر والزبيب والتّين المجفّف، وأخف نقلاً، وأطول ادخاراً، وأكثر مرغوبية، وأيسر تجزئة. والفواكه دون ذلك في جميع هذه الصفات. والألبان واللحوم ضعيفة في جميعها. والسَمن والعسل مستويان في صفة الادّخار والنقل، ومختلفان في وفرة المرغوبية. والأنعام أقوى في وفرة المرغوبية وخفة النقل، وأعسر ادّخاراً وتجزئة. والرباع والعقار دون غيرها في معظم الصفات عدا صفة المرغوبية. فإن الناس في اقتنائها أرغب، وعدا صفة الادّخار لأن الخطر عنها أبعد. وأهم ما اصطلح عليه البشر في نظام حضارتهم المالية وضع النقدين أعواضاً للتعامل. فقد كان التعامل الطبيعي في البشر يحصل بالتعاوض في الأعيان بحسب الاحتياج الباعث على الرغبة في صنف من أصناف الأشياء المنتفع بها. وكلّما قرب قوم من البداوة والبساطة قلّ التعامل بالنقدين بينهم. وهو المعنى الذي من أجله نرى الفقهاء يقسمون الناس إلى أهل ذهب وأهل فضة، وأهل أنعام، وكان من ¬

_ = كتاب البيوع، 37 باب البيع على البرنامج، ح 78. طَ: 2/ 670. وتفصيل القول فيه في مختلف المذاهب في الاستذكار: 20/ 210 - 218. (¬1) البقرة: 282.

حقهم أن يزيدوا في التقسيم أهل الحبوب والثمار مثل الأوس والخزرج وثقيف. فإن هذا القسم قد كان كثيراً في بلاد العرب في الجاهليّة والإِسلام. فالتعامل بالنقدين أيسر من التعامل بالأعيان من الأشياء من سائر الجهات، وبخاصة من جهة سهولة تجزئة القيمة، وسهولة التعاوض في الأمور الثقيلة في التسليم كالمقادير الكثيرة، وفي الأشياء التي يعسر فيها تعاوض الأعيان كالرباع والعقار؛ إلّا أن النقدين عند حالة الاضطرار، مثل حالة الحصار وحالة الجدب والمجاعة، لا تغني عن أصحابها شيئاً. فالنقدان عوضان صالحان بغالب أحوال البشر، وهي أحوال الأمن واليسر والخصب. ومن أحسن ما ظهر فيه مزيّة التعامل بالنقدين أنه يمكن فيه تمييز البائع من المشتري. فباذل النقد مشتر وباذل العوض بائع، ولأن النقدين يُطلبان ولا يُعرضان بخلاف بقية المتمولات فإنها يلحقها العرض والطلب. ولا يلحق العرض بالنقدين إلَّا نادراً، كما يضع صاحب رأس المال مقداراً من ماله لمن يرغب المعاملة معه به مثل وضع رأس مال السَّلَم، ورأس مال القِراض، وترويج أوراق البنوك. وقد كان كثير من التعامل في الإِسلام في عهد النبوّة حاصلاً بطريقة المعاوضة. فلذلك كثرت المنهيَّات من بيع الأشياء بأمثالها، لأن غالب تلك البيوع كان يتطرّقه الغرر والتغابن. ولعسر ضبط قيمة العوض، ولكثرة اختلاف صفات وأنواع الجنس الواحد من تلك الأعواض، مثل أنواع التمر والحنطة وصفاتها في الجودة والرداءة والجِدّة والقدم، وكان احتياج أحد المتعامليْن أو كليهما في المعاملة

الواحدة إلى تحمل الغرر باعثاً للمحتاج منهما على تحمّل الغرر لقضاء حاجته، وباعثاً للآخر على إلجاء المظنون به الاحتياج إلى تحمّل الغبن والغرر. فالغرر والغبن لا يكادان يفارقان معاوضات الأعيان. ولذلك اغتفر فيها ما لا بد منهما ولم يغتفر ما زاد على ذلك. ألا ترى إلى إباحة بيع الجزاف في الأشياء التي تكال وتوزن ولم يبح بيع النقدين جزافاً (¬1). وقد جاء في حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض أنه قال: كانت الأرض تكرى بالطعام ونحوه. وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ. قال حنظلة بن قيس: فقلت لرافع: فكيف هي - أي الأرض - بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم (¬2) *. قال البخاري في صحيحه عن الليث بن سعد: "إن الذي نُهي عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة" (¬3). وفي حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم قالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله فسألناه عن الصّرف. فقال: "إن كان يداً بيد فلا بأس، وإن كان نَساء فلا يصلح" (¬4) *. يعني فلم يمنع فيه التفاضل كما ¬

_ (¬1) انظر: 56/ 2. (¬2) * انظر كتاب [الحرث و] المزارعة من صحيح البخاري في باب بدون ترجمة. خَ: 3/ 68؛ وفي باب كراء الأرض بالذهب والفضة. خَ: 3/ 72 - 73. [وقد تقدم مثله من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب: 69/ 2، 3 وورد ذكره مفصلاً: 69/ 4]. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) تقدم تخرجه: 69/ 4. (¬4) * في صحيح البخاري في باب التجارة في البر وغيره من كتاب البيوع. اهـ. تع ابن عاشور.

منعه في بيع الطعام بمثله. وما أحسب ذلك إلَّا لانتفاء الغرر بإمكان ضبط الدنانير والدراهم. وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب (¬1) *. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعل، بع الجَمع (¬2) * بالدراهمَ ثم ابتع بالدراهم جنيباً". وقد ظهر من هذا كله أن من مقاصد الشريعة تكثيرَ التعامل بالنقدين ليحصل الرواجُ بهما. وفي سنن أبي داود (¬3) * عن عبد الله بن ¬

_ = [البخاري: حديث سفيان عن عمرو، سمع أبا المنهال عبد الرحمن بن مطعم قال: "باع شريك لي دراهم في السوق نسيئة. فقلت: سبحان الله أيصلح هذا؟! فقال: سبحان الله، والله لقد بعتها في السوق فما عابه أحد. فسألت البراء بن عازب فقال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتبايع هذا البيع. فقال: ما كان يداً بيد فليس به بأس، وما كان نسيئة فلا يصلح". والقَ زيد بن أرقم فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة. فسألت زيد بن أرقم فقال مثله": 34 كتاب البيوع، 8 باب التجارة في البر خَ: 3/ 6]. (¬1) * الجنيب: صنف من التمر نفيس. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) * الجمع: صنف من التمر رديء. اهـ. تع ابن عاشور. [مجموع من أنواع مختلفة. انظر 34 كتاب البيوع، 89 باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه. خَ: 3/ 35؛ انظر 31 كتاب البيوع، 12 باب ما يكره من بيع التمر، ح 21. طَ: 2/ 623]. (¬3) * صفحة 98 جزء 1. اهـ. تع ابن عاشور. [انظر 40 كتاب الوكالة، 3 باب الوكالة في الصّرْف والميزان خَ: 3/ 61؛ انظر 22 كتاب المساقاة، 18 باب بيع الطعام مثلاً بمثل، ح 95. مَ: 2/ 1215؛ انظر 44 كتاب البيوع، 41 باب بيع التمر بالتمر متفاضلاً، =

مسعود: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكسر سكة المسلمين إلّا من بأس". وما أحسب نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن استعمال الرجال الذهب والفضة إلا لحكمة تعطيل رواج النقدين بكثرة الاقتناء المفضي إلى قلّتهما. وفي مشروعية التوثّق جاء قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬1)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬2)، وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (¬3). وأما وضوح الأموال فذلك إبعادُها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان. ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين. وأما حفظُ الأموال فأصله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬4). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم ¬

_ = ح 4550. نَ: 7/ 271؛ انظر حديث عبد الله المزني: 17 كتاب البيوع والإجارات، 48 باب في كسر الدراهم، ح 3449. دَ: 3/ 730؛ انظر 12 كتاب التجارات، 52 باب النهي عن كسر الدراهم والدنانير، ح 2263. جَه: 2/ 761؛ حَم: 3/ 419]. (¬1) البقرة: 282. (¬2) البقرة: 282. (¬3) البقرة: 283. (¬4) النساء: 29.

هذا" (¬1)، وقوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس" (¬2). وقوله: "من قتل دون ماله فهو شهيد" (¬3). وهو تنويه بشأن حفظ المال وحافظه، وعظم إثم المعتدي عليه. وإذا كان ذلك حكم حفظ مال الأفراد فحفظُ مال الأمة أجلُّ وأعظم. إذن فحقَّ على ولاة أمور الأمة ومتصرفي مصالحها العامة النظر في حفظ الأموال العامّة سواء تبادلُها مع الأمم الأخرى، وبقاؤها بيد الأمة الإِسلامية. فمن الأول: سَنُّ أساليب تجارة الأمة مع الأمم الأخرى، ¬

_ (¬1) تقدم تخريج هذا الحديث: 263/ 6. (¬2) جاء بلفظ: "ولا يحل مال المسلمين". انظر 55 كتاب الوصايا، 8 باب قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. خَ: 3/ 188؛ حَم: من حديث عم أبي حرة الرقاشي: أنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه: 5/ 72. (¬3) انظر 46 كتاب المظالم، 33 باب من قاتل دون ماله. خَ: 3/ 108؛ انظر 1 كتاب الإيمان, 62 باب من قتل دون ماله فهو شهيد، ح 226. مَ: 1/ 124 - 125؛ انظر 34 كتاب السنة، 32 باب في قتال اللصوص، ح 4772. دَ: 5/ 128؛ انظر 14 كتاب الديات، 22 باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، ح 1418 - 1421. تَ: 4/ 28؛ انظر 37 كتاب تحريم الدم، 22 باب من قتل دون ماله، ح 4081. نَ: 7/ 114؛ 23 باب من قاتل دون أهله، ح 4091. نَ: 7/ 116؛ 24 باب من قاتل دون دينه، ح 4092. نَ: 7/ 116؛ انظر 20 كتاب الحدود، 21 باب من قتل دون ماله فهو شهيد، ح 2580. جَه: 2/ 861؛ حَم: من حديث عبد الله بن عمرو: 1/ 187، 2/ 193، 221، ومن حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: 1/ 190، ومن حديث أبي هريرة: 2/ 324، ومن حديث عبد العزيز بن عمرو بن شعيب: 2/ 217.

ودخول السلع وأموال الفريقين إلى بلاد أخرى، كما في أحكام التجارة إلى أرض الحرب، وأحكام ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحربيين على ما يدخلونه من السلع إلى بلاد الإِسلام وأحكام الجزية والخراج. ومن الثاني: نظام الأسواق والاحتكار وضبط مصارف الزكاة والمغانم ونظام الأوقاف العامة. وحقَّ على من وُلِيَ مال أحد أن يحفظه. وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (¬1)، وقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} (¬2). وحقَّ على كل أحد احترامُ مال غيره. ولذلك تقرّر غرم المُتلَفات وجَعل سببها الإتلاف. ولم يلتفت فيها إلى نيّة الإتلاف لأن النيّة لا أثر لها في ذلك. وأما إثبات الأموال فأردت به تقرّرها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة. فمقصد الشريعة في ثبات التملك والاكتساب أمور: الأول: أن يختص المالك الواحد أو المتعدد بما تملكه بوجه صحيح، بحيث لا يكون في اختصاصه به وأحقيته تردّد ولا خطر. ولذلك قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬3) فليس يدخل على أحد في ملكه منعُ اختصاصه إلَّا إذا كان لوجه مصلحة عامة. وقد ¬

_ (¬1) النساء: 5. (¬2) النساء: 6. (¬3) البقرة: 282.

قال عمر: "والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً" (¬1). وعلى هذا المقصد انبنت أحكامُ صِحة العقود وحملِها على الصحة، والوفاء بالشرط، وفسخ ما تطرقه الفساد منها لمنافاته لمقصد الشريعة، أو لمعارضة حقّ آخر اعتدي عليه. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله عن بيع التمر بالرطب: "أينقص الرطب إذا جفّ"؟ قال: نعم. قال: "فلا إذن" (¬2). فليس الاستفهام بقوله: "أينقص الرطب"، استفهاماً حقيقياً، ولكنه إيماء إلى علة الفساد. وقال في نهيه عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها: "أرأيت إن منع الله الثمرة فِيمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟! " (¬3). والمقصدُ من الاكتساب مثل المقصد من التملك فيما ذكرنا. فبذلك كانت الأحكام مبنيّة على اللزوم في الالتزامات والشروط. وفي الحديث: "المسلمون على شروطهم إلَّا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرّمَ حلالاً" (¬4). وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬5). وفي حديث الترمذي عن العداء بن ¬

_ (¬1) تقدم: 413/ 1، 415/ 3. (¬2) تقدم تخريجه: 56/ 1. (¬3) تقدم: 117/ 1، 2. (¬4) حديث عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده. انظر 13 كتاب الأحكام، 17 باب ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس، ح 1352. تَ: 3/ 634؛ الطرف الأول من الحديث انظر 37 كتاب الإجارة، 14 باب أجر السمسرة. خَ: 3/ 52؛ انظر حديث أبي هريرة: 18 كتاب الأقضية، 12 باب في الصلح، ح 3592. دَ: 4/ 19. (¬5) البقرة: 282.

خالد أنه اشترى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبداً أو أمة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب له: "هذا ما اشترى العداء بن خالد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اشترى منه عبداً أو أمة، بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة" (¬1). الثاني: أن يكون صاحبُ المال حرَّ التصرف فيما تملّكه أو اكتسبه تصرفاً لا يضر بغيره ضراً معتبراً، ولا اعتداءَ فيه على الشريعة. ولذلك حجّر على السفيه التصرف في أمواله. ولم يجز للمالك أن يفتح في ملكه ما فيه ضرر بمالك آخر مجاور له. ومُنِعت المعاملة بالربا لما فيه من الأضرار العامّة والخاصة. الثالث: أن لا يُنتزعَ منه بدون رضاه. وفي الحديث: "ليس لعِرقٍ ظالمٍ حقّ" (¬2). فإذا تعلق حقّ الغير بالمالك وامتنع من أدائه أُلزم بأدائه. ومن هنا جاء بيع الحاكم، والقضاء بالاستحقاق. ولرعي هذا المقصد كان المتصرف بشبهة في عقار فائزاً بغلاته التي استغلها إلى يوم الحكم عليه بتسليم العقار لمن ظهر أنه مستحقه. وتقريراً لهذا المقصد قررت الشريعة التملّكَ الذي حصل في زمان الجاهليّة بأيدي من صار إليهم في تلك المدّة، ومن انتقل إليهم منها. فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما دار أو أرض قُسمت في ¬

_ (¬1) انظر 34 كتاب البيوع، 19 باب إذا بيّن البيّعان ولم يكتما ونصحا، اقتصر فيه على لفظ: "لا داء ولا خُبثة ولا غائلة". خَ: 3/ 10؛ 90 كتاب الحيل، 15 باب احتيال العامل ليهدى له. خَ: 8/ 66؛ انظر 12 كتاب البيوع، 8 باب ما جاء في كتابة الشروط، ح 1216. تَ: 3/ 520؛ انظر 12 كتاب التجارات، 47 باب شراء الرقيق، ح 2251. جَه: 2/ 756. (¬2) تقدم تخريجه: 91/ 1.

الجاهلية فهي على قسم الجاهليّة، وأيّما دار أو أرض أدركها الإِسلام فلم تقسم فهي على قسم الإِسلام" (¬1) *. وأما العدل فيها فذلك بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم. وذلك إما أن تحصل بعمل مُكتسبِها، وإما بعوض مع مالكها أو تبرع، وإما بإرث. ومن مراعاة العدل حفظ المصالح العامّة ودفع الأضرار. وذلك فيما يكون من الأموال تتعلق به حاجةُ طوائف من الأمة لإقامة حياتها، مثل الأموال التي هي غذاء وقوت، والأموال التي هي وسيلةُ دفاع العدو عن الأمة مثل اللامة والآطام بالمدينة في زمن النبوّة. فتلك الأموال وإن كانت خاصة بأصحابها إلا أن تصرّفهم فيها لا يكون مطلقَ الحرية كالتصرّف في غيرها. وهذا وجه النهي عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية في غزوة خيبر، بناءً على القول بأنه تحريم عارض لا ذاتي، وهو قول كثير من العلماء. قالوا: لأنها كانت حمولتَهم في تلك الغزوة (¬2). وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان ¬

_ (¬1) * رواه الموطأ عن ثور بن زيد [الديلي] بلاغاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: [36 كتاب الأقضية، 27 باب القضاء في قسم الأموال، ح 35. طَ: 2/ 746 - 747]. قال ابن عبد البر في التمهيد: وصله إبراهيم بن طهمان عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإبراهيم ثقة. ووصله محمَّد بن مسلم الطائفي عن ابن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس يرفعه. اهـ. تع ابن عاشور. وقد تقدّم: 304/ 1. [انظر: ابن عبد البر: 2/ 48. وأخرجه أبو داود موصولاً: 13 كتاب الفرائض، 11 باب فيمن أسلم على ميراث، ح 2914. دَ: 3/ 330؛ 16 كتاب الرهون، 21 باب قسمة الماء، ح 2485. جَه: 2/ 831]. (¬2) تقدم تخريجه: 108/ 1.

على عهد النبوّة، فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام (¬1). وكانوا يضربون على أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم. ولذلك كان من الحق إبطال الاحتكار في الطعام. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: "لا حُكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا. ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء [الله] وليمُسك كيف شاء [الله] " (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، ولفظه: عن نافع عن عبد الله قال: "كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق، فيبيعونه في مكانهم، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه": 34 كتاب البيوع، 72 باب منتهى التلقي، ح 2. خَ: 3/ 28 - 29. (¬2) أخرجه مالك وآخره: فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله: 31 كتاب البيوع، 24 باب الحركة والتربص، ح 56. طَ: 2/ 651.

يا - الصحة والفساد

يا - الصحة والفساد وعلى رعي مقاصد الشريعة من التصرفات المالية تجري أحكام الصحة والفساد في جميع العقود في التملّكات والمكتسبات. فالعقد الصحيح هو الذي استوفى مقاصد الشريعة منه، فكان موافقاً للمقصود منه في ذاته، والعقد الفاسد هو الذي اختلّ منه بعض مقاصد الشريعة. وقد يقع الإغضاء عن خلل يسير ترجيحاً لمصلحةِ تقريرِ العقود، كالبيوع الفاسدة إذا طرأ عليها بعض المفوّتات المقرّرة في الفقه (¬1) *. وقد كان الأستاذ أبو سعيد بن لب مفتي حضرة غرناطة (¬2) في ¬

_ (¬1) * المفوتات للبيوع الفاسدة هي حوالة الأسواق في غير الرباع، وتلف عين المبيع أو نقصانها، وتعلق حق الغير به، وطول المدة السنين نحو العشرين في الشجر. اهـ. تع ابن عاشور. [وفي القوانين الفقهية تفصيل يجعلها خمسة أشياء: الأول تغير الذات وتلفها كالموت والعتق وهدم الدار وغرس الأرض وقلع غرسها، وفناء الشيء جملة كأكل الطعام، الثاني: حوالة الأسواق، الثالث: البيع، الرابع: حدوث عيب، الخامس: تعلق حقّ الغير كرهن السلعة. وخالف الشافعي فيما دون حوالة الأسواق، وقال: بأنها ترد بذلك كله. ابن جزي: 226]. (¬2) هو أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لبّ التغلبي الغرناطي الفقيه النحوي (701 - 782). من أكابر علماء المذهب المتأخرين ومحققيهم. =

القرن الثامن يفتي بتقرير المعاملات التي جرى فيها عرف الناس على وجه غير صحيح في مذهب مالك إذا كان لها وجه ولو ضعيفاً من أقوال العلماء. ¬

_ = له درجة الاختيار في الفتوى إلى التحقيق بالعلوم والقيام التام على الفنون. وله اختيارات خارجة عن مفهوم المذهب. وقلّ بالأندلس في وقته من أئمتها الجلّة من لم يأخذ عنه. ومن أكابرهم الشاطبي والحفار وابن بقي وابن الخشاب وغيرهم كثير. له: شرح جمل الزجاجي، وشرح تصريف التسهيل، ورسالة في مسألة الدعاء إثر الصلوات على الهيئة المعروفة، وينبوع عين المسرة في مسألة الإمامة بالأجرة، والقول المختار في مسألة ابن المواز، والرد على ابن عرفة في مسألة القراءة بالشاذ في الصلاة. ابن التنبكتي. نيل الابتهاج: (1) 1/ 211 وما بعدها.

يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان علمتَ ممّا قدّمناه آنفاً أن الشريعة قصدت من تشريعها في التصرّفات المالية إنتاج الثروة للأفراد ولمجموع الأمة. وقد مضى أن الثروة تتقوَّمُ من المتموَّلات، ومن العمل. فالعمل أحد أركان الثروة وآلة استخدام ركنيها الآخرين. ونريد من العمل، في مبحثنا هذا، نوعاً من أنواع جنس العمل، وهو خصوص العمل الذي يقوم به غيرُ صاحب مال في مال غيره ليُحصَّل بعمله جزءاً من إنتاج مال استعمله صاحبه لتحصيل جزء مثله معه. ولأجل كون القادرين على العمل والإنتاج يكثر فيهم من ليس بيده مال يستعين به على العمل المثمر المنتج، أو بيده مال لا يوازي مقدار مقدرته على الإنتاج، وكون كثير من أصحاب الأموال يُعجزهم العمل في أموالهم عملاً يوازي ما تستدعيه مقادير تلك الأموال من النتائج، لا سيما أصحاب الأموال الذين انجرَّت لهم الأموال من تلقاء غيرِهم بعطية أو ميراث، كان الأصلان العظيمان من أصول الثروة - وهما المال والعمل - معرَّضين للعوائق، وتعطيل الإنتاج في أحوال كثيرة. وذلك رزء على أصحابهما وعلى الأمة. فكان مما اهتدى إليه أهل العقول إيجاد طرائق تتألف فيها

أموال أصحاب الأموال وأعمال المقتدرين على العمل ليحصل من مجموع ذلك إنتاج نافع للفريقين. وكان من حِكمة التشريع الإِسلامي أن لا يوصد في وجوه الفريقين سلوك الطرق المثلى من تلك الطرائق بوجه عادل مع الغضَّ عمّا يتطرق ذلك من مخالفة مّا للتشريعات التي بُنيت عليها أحكامُ المعاملات المالية في المعاوضات. إن المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان هي إجارة الأبدان، والمساقاة، والمغارسة، والقِراض، والجُعل، والمزارعة. وهي كلُّها عقودٌ على عمل المرء ببدنه وعقله، وعلى قضاء وقت من عمره في ذلك، ما عدا المغارسة، فإن فيها إحضار متموِّل قليل من جهة عاملها، وهو الأعواد المغروسة إلَّا أنّها تافهة بالنسبة إلى أهمية العمل. وكذلك ما يحصل في المساقاة بقلّةٍ من إصلاح دلو وإصلاح الحوض. فهذه العقود لا تخلو من غرر لعسر انضباط مقادير العمل المتعاقد عليه، وعسر معرفة العامل ما ينجر إليه من الربح من جراء عمله، ولعسر انضباط ما ينجر إلى صاحب المال فيها من إنتاج أو عدمه، غير أن الشريعة ألغت هذا الغرر لأن إضرار مراعاته أشدُّ من إضرار إلغائه، لِمَا في مراعاته من حرمان كثير من الأمة فوائد السعي والاكتساب. وهي أيضاً لا تخلو من إضرار يلحق العامل في أحوال كثيرة، إذا عمل عمله في المساقاة أو المزارعة فلم يثمر الشجر، أو عمل في الجُعل فلم يحصل المجاعل عليه، أو عمل في القِراض فلم يَنضّ ربح. فيكون العامل قد أضاع الوقت وتجشم مشقة العمل ولم يحصل له شيء. وقد ألغت الشريعة هذا لأن بقاء أهل العمل بطالين أشدُّ عليهم من أضرار الخيبة في بعض الأحوال.

وإذ قد كان العَمَلَة في هذه العقود هم مظنّةَ الحرص على التعجل بانعقاد هذه العقود، من جراء حاجتهم إلى الارتزاق، وكونهم لا يستطيعون لذلك حيلة إلا بعمل أبدانهم، ولطالما رأيناهم يقحمون أنفسهم في التعاقد على أعمال تنوء بهم حين لم يجدوا ما يعملون فيه، فلو ضيّق عليهم الشروطَ أصحابُ الأموال الذين يمدّونهم بما يعملون هم فيه لتعطّل عليهم الارتزاق من أعمالهم، أو لأَقدموا على ذلك عند التعاقد وعجزوا عن الإيفاء بها، فتحدث بذلك الخصومات بينهم. ولكان شعور أصحاب الأموال بحاجة العَمَلَة إلى العمل مظنّةَ أن يغريَهم على الرغبة والحرص في زيادة الإنتاج لأنفسهم والإجحاف باستثمار العَمَلَة، كان مقصدُ الشريعة في هذه المعاقدات كلها الحياطة لجانب العَمَلَة لسدّ هذه الذريعة عنهم، كيلا يذهب عملهم باطلاً أو مغبوناً. ولم تر معذرة لأصحاب الأموال في هذا التضييق, لأن لهم طرائق شتى يستثمرون بها أرباح أموالهم. فهم في خيرة من استعمالها أو اكتنازها للإنفاق منها وتقتيرها، بخلاف حال العَمَلَة، فهم إن حرموا مساعدةَ أصحاب الأموال بقوا عاطلين. ولا يظنَّنَ أحد أن الشريعة تستبيح أموال أصحاب الأموال ليأكلها العَمَلَةُ باطلاً، ولكنّها أرادت حراسة حقوقهم من الاعتداء عليها. فذلك عدل وصلاح للفريقين كليهما. ولقد استقريت ينابيع السنة في هذه المعاملات البدنية على قلّة الآثار الواردة في ذلك (¬1) *، وتتبعت مرامي علماء سلف الأمة وخاصة علماء المدينة في شأنها، فاستخلصت من ذلك: أن المقاصد الشرعية فيها ثمانية. ¬

_ (¬1) * لقلة أنواع المعاملات على الأبدان في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ كانت الثروة بسيطة. اهـ. تع ابن عاشور.

أحدها: تكثير المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان. وهذا مدلول لاغتفار الغرر فيها. فلولا الحاجةُ إليها لما اغتفرت الشريعة فيها ما لم تغتفره في المعاملات المالية من الجانبين. وقد رجعتْ بذلك إلى قسم المصالح الحاجية. وقد أعطى الأنصارُ حوائطهم للمهاجرين على أن يَكْفُوهم العمل ولهم نصف الثمرة. وعاملَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يهودَ خيبر على أن عليهم عمل النخل، ولهم نصف الثمرة، مع العلم بأن أرض خيبر صارت للمسلمين لأنها فتحت عنوة (¬1). وقد كاد أن يتفق علماء الإِسلام على مشروعية المساقاة والمزارعة (¬2). ¬

_ (¬1) أقرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر بقوله: "أقرّكم ما أقرّكم الله على أن الثمرة بيننا وبينكم". وهم أهل ذمّة ضربت عليهم الجزية. ابن رشد. المقدمات: 2/ 547، 549؛ ابن الخوجه. الخراج والعشر: 24. (¬2) المساقاة: مفاعلة من السقي. وهي أن يدفع الرجل كرمه أو حائط نخله أو شجر تينه أو زيتونه أو سائر مثمر شجره لمن يكفيه القيام بما يحتاج إليه من السقي والعمل على أن ما أطعم الله من ثمرها يكون بينهما نصفين أو على جزء معلوم من الثمرة. ولا تجوز إلا في أصول الثمار الثابتة. ابن عبد البر. الكافي: 2/ 766؛ التسولي. البهجة في شرح التحفة: (1) 2/ 286. وهي رخصة مستثناة من كراء الأرض بما يخرج منها، ومن بيع الثمرة والإجارة بها، ومن الإجارة المجهولة، ومن بيع الغرر. التسولي. البهجة في شرح التحفة: (1) 2/ 286. وعللوا استثناءها من الأصول الممنوعة لضرورة النّاس إلى ذلك وحاجتهم إليه, إذ لا يمكن للنّاس عمل حوائطهم بأيديهم. ابن رشد. المقدمات: 2/ 552. ومن ثم قال مالك بجوازها. وكذا الشافعي وأحمد بن حنبل. ودليلهم على هذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه ساقى يهود خيبر على أن لهم نصفَ الثمرة بعملهم، وأقرّهم أبو بكر على ذلك ومن بعده عمر. وعمل من بعده عثمان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = على المساقاة والخلفاءُ من بعده. وواضح أن المساقاة من الرسول حكم محكم غير مفسوخ. وهي مقبولة من جهة النظر, لأن الأصول مال لا ينمو بنفسه ولا تجوز إجارته، وإنما ينمو بالعمل عليه. ابن رشد. المقدمات: 2/ 548. وأجازت الظاهرية المساقاة على النخيل خاصة، وشمل الجواز مع النخيل الأعناب عند الشافعي، قاله في الجديد. وهي تجوز عند المالكية في جميع الأشجار والزروع ما عدا البقول. وخالف في ذلك أبو حنيفة لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة. وقد ردّ على ذلك القرافي بأجوبة متعددة. الذخيرة: 6/ 93 - 95. وأجازها الصاحبان وقالا: تصح في الشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان. الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 284. والمزارعة مفاعلة من الزرع. شركة الزرع. تقدم ذكرها والتعريف بها 472/ 3 وهي عقد على الزرع ببعض الخارج. وهي على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه. وتصح بشرط صلاحية الأرض للزراعة، وأهلية العاقدين، وبيان المدة، ورب البذر وجنسه، وحظ الآخر والتخلية بين الأرض والعامل والشركة في الخارج، وأن تكون الأرض والبذر لواحد والعمل والبقر لآخر، أو تكون الأرض لواحد والباقي لآخر، أو يكون العمل لواحد والباقي لآخر. الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 278. وأجازها المالكية بشرطين عند ابن القاسم: أولاً: السلامة من كراء الأرض بما تنبت، الثاني: تكافؤ الشريكين فيما يخرجان. وأجازها ابن دينار وإن لم يتكافآ وبه جرى العمل بالأندلس، وأجازها قوم وإن وقع كراء الأرض فيها بما تنبت. فإن كانت الأرض من أحدهما والعمل من الآخر فلا بد أن يجعل رب الأرض حظه من الزريعة لئلا يكون كراء الأرض بما تنبت، وإن كانت الأرض بينهما بتملك أو كراء جاز أن تكون الزريعة من عندهما معاً، أو من عند أحدهما إذا كان في مقابلتها عمل من الآخر. ابن جزي. القوانين الفقهية: 285.

وقال المالكية بالمغارسة وأهملها الحنفية والشافعية (¬1). ولأجل هذا المقصد جَزَمنا بضعف القول بقصر المساقاة على النخيل والكروم، ورجحنا القول بجواز المساقاة في الشجر والزرع المحتاج إلى العمل على القول بتخصيصها بالشجر دون الزرع. ورجحنا ما جرى عليه العمل بالأندلس من إعطاء أرض الحبس مغارسة (¬2). ¬

_ (¬1) المغارسة مفاعلة من الغرس. تقدم التعريف بها: 472/ 3 وهي على ثلاثة أوجه: الأول إجارة، إن غرس له بأجرة معلومة، والثاني جُعل، إن غرس له شجراً على أن يكون له نصيب فيما ينبت منها خاصة، الثالث أن يغرس له على أن يكون له نصيب منها كلّها ومن الأرض. وهذا الوجه أجازه أهل العلم قياساً على ما جوزته السنة من المساقاة. وهو متردد بين الإجارة والجُعل. فهو يشبه الإجارة في لزومه بالعقد، ويشبه الجُعل في أن الغارس لا يجب له شيء إلا بعد ثبوت الغرس وبلوغه الحد المشترط. ابن رشد. المقدمات: 2/ 236، 237. ويجوز الوجه الثالث بخمسة شروط، ذكرها ابن جزي. القوانين: 286. ومنع الشافعي هذا الوجه لأنه ليس شركة ولا قراضاً ولا إجارة، لعدم شروط الأقسام فلا تجوز. القرافي. الذخيرة: 6/ 138. (¬2) في البهجة شرح التحفة في المغارسة الفاسدة نقل عن شارح العمليات عند قوله: وأعط أرض حبس مغارسة، قال: وبه أفتى الفقيه أبو زيد عبد الرحمن الفاسي كما في نوازل الزياني. وفي هذا إشارة إلى الحكم في مغارسة أرض الوقف. التسولي: 2/ 200؛ وورد مثلها بعنوان: المغارسة في أرض الحُبس ماضية. المعيار: 7/ 436، وبعنوان: إعطاء أرض الحبس مغارسة: 8/ 171؛ وبعنوان: المغارسة الفاسدة إجابة لابن عتاب قال: اختلف في المغارسة والمساقاة إذا عقدت فاسدة وفاتت بالعمل. والذي أقول به أن للعامل أجر مثله فيما غرس وفيما سقى. وكذلك الأرض تعطى مغارسة وفيها أصول ثابتة. هذا المختار، وفيه أقوال كثيرة. وقال بعض شيوخ الشورى عن حكم من دفع أرضاً محبّسة على وجه =

الثاني: الترخيص في اشتمالها على الغرر المتعارَف في أمثالها، وهو من لوازم الأمر الأول. فقد أشرت إلى ذلك في طالعة هذا المبحث ممّا دلّ على أن الغرر لازمٌ لحقائق هذه العقود. وأحسب أن الغرر لم يُغتفر في شيء من العقود سوى العقود على أعمال الأبدان. وينبغي أن لا تغفل عن كون الغرر المغتفر هو الغرر فيما يعسر انضباطه من العمل، ومدته، واختلاف أزمانه من حَرًّ وقر. فأما ما يتيسر فيه ذلك فلا بد من ضبطه وبيانه. مثل بيان نوع العمل، ومقدار الأجر، ومقدار رأس مال القِراض، ومقدار ما للعامل من الربح في القِراض، أو من الثمرة في المساقاة، أو من الجزء في المغارسة. الثالث: التّحرّز عما يثقل على العامل في هذه العقود، لكي لا يستغل ربُّ المال اضطرارَ العامل إلى التعاقد على العمل. فينتهز ذلك للتجاوز في أرباح نفسه. ولذلك قالوا: لا يجوز أن يشترط على عامل المساقاة عمل كثير غير عمل بدنه إلا ما لا بال له كشد الحظيرة وإصلاح الضفيرة (¬1) *، ولا اشتراط نفقةٍ على العامل كنفقة الدواب وعبيد الحائط (¬2) *. ولا يجوز أن يشترط على عامل المغارسة ¬

_ = المغارسة فغرس الرجل وأدرك الغرس: إن ذلك يمضي ولا ينقضه من جاء بعده من الحكام لأنه حَكَمَ بما فيه اختلاف. اهـ. قلت: بمثل هذا صدرت الفتوى من شيوخ تلمسان في أرض أم العلو المحبّسة على المدرسة اليعقوبية منها. الونشريسي: 8/ 174 - 175. (¬1) * الحظيرة: السياج الذي يجعل خارج الحائط لمنع الدخول إليه وهو المسمّى عندنا الطابية والتخم. والضفيرة، بضاد ساقطة: مجتمع الماء الذي يسقط من الدلو ومن الجابية. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) * كانوا يجعلون للحائط عبيداً لخدمته ودواب للعمل تكون متابعة للحائط. اهـ. تع ابن عاشور.

تكسير أرض شعراء (¬1) *، ولا جعل جدار للأرض المغترسة، بخلاف أن يشترط على ربّ الأرض فهو جائز ولازم. وإنما قال علماؤنا في المزارعة - إذا أعطى ربُّ الأرض لعامل المزارعة الأرضَ محترثةً -: لا يجوز أن يشترط على العامل أن يحرثها عند انتهاء مدة المزارعة ويسلمها لربها محترثةً كما وجدها، لمراعاة هذا المقصد. وهو أن يكون ربّ الأرض بعد أن حرث أرضه احتاج إلى عامل يزرعها. وأنّ العامل لولا أنّه وجدها محترثةً لَمَا تقبّلها، فيكون الشرط عليه بأن يتركها محروثةً إلجاء له. الرابع: أن هذه العقود لم يُعتبر لزومُ انعقادها بمجرد القول، بل جُعلت على الخيار إلى أن يقع الشروع في العمل عندنا (¬2). أما الجُعل والقِراض فباتفاق (¬3)، وأما المغارسة والمزارعة فعلى ¬

_ (¬1) الأرض أو الروضة الكثيرة الشجر. المعجم الوسيط. (¬2) العقود في المذهب على ثلاثة أضرب: الأول ما يلزم بالقول اتفاقاً أو على الراجح وهو أربعة: النكاح والبيع والكراء والمساقاة، الثاني ما لا يلزم بالقول وهو أربعة أيضاً: الجُعل والقِراض والتوكيل والتحكيم. والضرب الثالث المختلف فيه وهو ثلاثة: المغارسة والمزارعة والشركات. التاودي. حلى المعاصم لبنت فكر ابن عاصم: 2/ 187. وقد جمع الأضرب الثلاثة مع التفريق بينها ابن غازي في قوله: أربعة بالقول عقدها فرا ... بيع نكاح وسقاء وكرا لا الجُعل والقِراض والتوكيل ... والحكم بالفعل بها كفيل لكن في الغراس والمزارعة ... والشركات بينهم منازعة التاودي والتسولي. حلى المعاصم على التحفة: 2/ 187. (¬3) قال ابن عاصم: =

الراجح (¬1). ولم يُستثنَ منها إلا المساقاة، فقالوا: لزومها بالعقد (¬2) , لأن في تأخير لزومها إضراراً على الأشجار والزرع. ¬

_ = الجُعل عقد جائز لا يلزم ... لكن به بعد الشروع يحكم فلكل واحد من الطرفين فسخه قبل الشروع في العمل ويلزم الجاعل بعد الشروع. التسولي والتاودي: 2/ 187. والقِراض وهو المضاربة: إعطاء مال من به يتَّجر ... ليستفيد دافع وتاجر - وهما "ربّ المال والعامل" من ربح يحصل فيه - جزءاً معلوماً. وهو من العقود الجائزة التي تلزم بالشروع في العمل لا قبل الشروع فيه. التسولي والتاودي: 2/ 217. (¬1) المغارسة تلزم بالعقد على الراجح نبّه على ذلك ابن عاصم بقوله: الاغتراس جائز لمن فعل ... ممن له البقعة أو له العمل وفي لزوم المزارعة بالعقد خلاف. فالقائلون بهذا ابن الماجشون وسحنون وابن القاسم. وبه قال ابن زرب وابن الحارث وابن الحاج، وبه أفتى ابن رشد وصححه في الشامل حيث قال: عقد المزارعة لازم قبل البذر على الأصح، ومن القائلين بأنها لا تلزم إلا بالشروع في العمل ابن كنانة في المبسوط وابن رشد في فتواه بقرطبة أنها تلزم فيما بذر. وذهبت طائفة إلى أنها لا تلزم بالعقد ولا بالشروع بل بالبذر للعمارة، وهو قول ابن القاسم في المدونة وعليه عوّل خليل، إذ قال: لكلًّ فسخ المزارعة إن لم يبذر. التسولي والتاودي: 2/ 196، 204. (¬2) قال ابن رشد: والمساقاة من العقود اللازمة تنعقد باللفظ وتلزم به. المقدمات: 2/ 552. وهذا هو القول المعتمد، وإياه عنى ابن عاصم بقوله: إن المساقاة على المختار ... لازمة بالعقد في الأشجار وقيل: إنما تلزم بالشروع. وقال ابن عرفة بالحوز في الأشجار. التسولي والتاودي: 2/ 190. وحكى الرصاع في شرح حد المساقاة لابن عرفة أن الشيخ رأى أنها عقد لازم بالقول على قول أكثر أهل المذهب بخلاف القِراض. الرصاع. شرح حدود ابن عرفة: 2/ 508.

وعندي أنه ينبغي أن تكون جميعُ العقود المشتملة على عمل البدن غيرَ لازمة بمجرد القول، بل تلزم بالشروع في العمل. وحيث كان معنى ذلك آيلاً إلى خيار العامل كان الوجه أن يُضرَب للعامل في هذه العقود آجالٌ لابتداء العمل، كشأن بيع الخيار بما ينفي المضرة عن صاحب المال، مثل إبّانَ ابتداء الخدمة في المساقاة، وإبان الحراثة في المزارعة، وإبان ابتداء الغرس لذلك العام في المغارسة، كي لا يضيع بالتأخير على صاحب المال عام كامل. الخامس: إجازة تنفيل العَمَلة في هذه العقود بمنافع زائدة على ما يقتضيه العمل بشرط دون تنفيل رب المال. فقد قال أئمتنا: يجوز أن يشترط عامل المساقاة على رب الحائط الانتفاع ببياض من الأرض لنفسه. ولا يجوز اشتراط ذلك لرب الأرض ويوجب الفسخ (¬1). السادس: التعجيل بإعطاء عوض عمل العامل بدون تأخير ولا نظرة ولا تأجيل, لأن العامل مظنّة الحاجة إلى الانتفاع بعوض عمله، إذ ليس له في الغالب مؤثل مال. وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة" - فذكر - "ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (¬2). وهذا صادق بتأخير إعطائه ¬

_ (¬1) الأصل في ذلك قول مالك: إذا ساقى الرجلُ النخلَ وفيها البياضُ، فما ازدرع الرجلُ الداخلُ في البياض فهو له. قال: وإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع في البياض لنفسه، فذلك لا يصلح لأن الرجل الداخل في المال يسقي لرب الأرض. فذلك زيادة ازدادها عليه. الموطأ: 2/ 704. (¬2) حديث أبي هريرة انظر 34 كتاب البيوع، 106 باب إثم من باع حراً. ونصه: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، =

أجرَه وبحرمانه منه بالكليّة، وإن كان الثاني أشدَّ، فجعلَه كحق لله تعالى. ولذلك قال: "أنا خصمهم" أي دون صاحب الحق. وهذا تنويه عظيم بهذا الحق، وزجر شديد عن التهاون به. وفي حديث ابن عمر وجابر وأنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه" (¬1) *. ولذلك كان تأجيل خدمة المغارسة جائزاً تحديدُه بقدر تبلغه الأشجار أو مدّة أو إثمار، ولا يجوز أن يكون التأجيل إلى مدة تتجاوز إبان الإثمار (¬2). وهو من موجبات فساد العقد. السابع: إيجاد وسائل إتمام العمل للعامل فلا يُلزَمُ بإتمامه بنفسه. ¬

_ = ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره". خَ: 3/ 41؛ 37 كتاب الإجارة، 10 باب إثم من منع أجر الأجير. خَ: 3/ 50؛ انظر 16 كتاب الرهون، 4 باب أجر الأجراء، ح 2442. جَه: 2/ 816. (¬1) * رواه ابن ماجه عن ابن عمر، ورواه الطبراني في أوسطه عن جابر. ورواه الحكيم انظر في نوادر الأصول عن أنس. وطرقه كلها ضعيفة لكنها متعاضدة. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) قال ابن رشد: وأما إن كان الحد فوق الإطعام فلا يجوز. المقدمات: 2/ 283. وذكر التسولي أن عمل الغارس يكون بالسنين لمدة لا يثمر النخل ولا يطعم الشجر قبلها، فإن سميا أجلاً تثمر الأشجار قبله لم يجز، أو يكون التحديد بالمقدار. فإن كانت تطعم قبل بلوغها القدر فسدت لأن العامل تكون له الثمرة إلى أن يبلغ الشجر الأجل ثم يكون له نصف الشجر بأرضه، فكأنه أجر نفسه بثمر لم يبد صلاحه وبنصف الأرض وما ينبت فيها، ويكون أيضاً بالإثمار. وتفسد المساقاة إن شرطا زيادة عليه. كذا قال التاودي: وتفسد إن كان فوق الإطعام اتفاقاً. التسولي والتاودي: 2/ 196 - 197.

ولذلك قالوا في عامل المساقاة - إذا عجز عن الإتمام -: إنه يأتي بعامل آخر لا يضر بصاحب الحائط ولو كان دون العامل الأول في الأمانة. وإذا لم يجد من يخلفه في العمل فإن له أن يبيع حظه في الثمار إذا بدا صلاحُها، ويستأجر من يُكمِل العملَ، ويكون للعامل الأول ما فضل. وقال المالكية في عامل المغارسة: إن له أن يبيع حقَّه في العمل لآخر يقوم مقامَه (¬1). وهي مسألة من غُرر مسائل الفقه المالكي. الثامن: الابتعاد عن كل شرط أو عقد يشبه استعباد العامل، بأن يبقى يعمل طول عمره أو مدة طويلة جداً بحيث لا يجد لنفسه مخرجاً، ولأجل هذا نجد علماءنا يقولون بفساد المساقاة في الشجر الذي لا ينقطع إثماره في وقت من السنة كشجر الموز وكالقضب (¬2). وكذلك ما تطول مدة إثماره لصغره كالمساقاة على وَدِيِّ النخل ونشء شجر الزيتون. وقد قال علماء إفريقية: إن تلقيحَ الشجر الذي لا يُنتفع به كجبوز الزيتون العتيق في جبل وسلات بقرب القيروان يجري مجرى المغارسة لا مجرى المساقاة. وعندي أن تأجيل مدة المساقاة في الشجر المخلف للأثمار كالموز أجلاً يحصل فيه الانتفاعُ للعامل خير من إبطال المساقاة في ¬

_ (¬1) وهذا مفاد التنبيه السادس الذي أورده التسولي في المسألة حيث قال: إذا عجز الغارس قبل تمام العمل أو أراد سفراً فله أن يأتي بمن هو مثله يُكمل عمله بأقل من الجزء الذي دخل عليه أو بمساو له. البهجة في شرح التحفة: 2/ 199. (¬2) إذا كان الشجر مما يخلف لم تصح مساقاته حيث كان لا يقطع. أما ما يخلف مع كونه يقطع كالسدر فتصح. الزرقاني شرح خليل: 6/ 236.

مثله، لِمَا علِمتَ من المقصد الأول أن تكثير هذه المعاملات مقصودٌ للشريعة. ولأجل هذا كانت المزارعة المسماة عندنا في تونس بشركة الخماس (¬1) * - التي كان معظم مزارعات تونس جارياً عليها - هي شركة منافية لمقصد الشريعة لا محالة، وإن كانوا يزعمون أن الضرورة دعت إليها. ¬

_ (¬1) * الخماس شريك المزارعة بخُمُس ما يخرج من الزرع. انظر: الفصول: 25، 29، 30، 32 من ترتيب 25 صفر عام 1291. اهـ. تع ابن عاشور. [وهذه الشركة جائزة وهو قول سحنون. وتكون الأرض والبذر والبقر على صاحب الأرض، والعمل على الخماس، وقيل: غير جائزة لأنه أجير، وهو قول ابن القاسم. وعلى جوازها للضرورة درج في العمليات إذ قال: وأجرة الخماس أمر مشكل ... وللضرورة بها تساهل التسولي: 194، 206. والفصول من الترتيب المشار إليها أعلاه هي: الفصل 25: الخماس شريك بالخمس في مقابلة عمله. فيستحقه من القدر الخارج من الصابة بعد إخراج العشر وعلف الدواب اللازمة لخدمة الفلاحة في الصيف المعتادة. وأما علف دواب ركوب الفلاح فعلى الفلاح. الفصل 29: إذا أراد الخماس الفسخ وذمته عامرة بمال لصاحب الفلاحة، ولم يندرس إلا بعض الصابة، وباقيها مندر، وطلب من صاحب الفلاحة أن يدفع له جميع خمسه مما اندرس من غير انتظار الدرس، أو ينظره بما له بذمته إلى تمام الدرس، ولا يأخذ منابه من الصابة ولا يدفع له المال، فليس له إلا خمس الطعام المندرس، وباقي ماله يأخذه عند تمام الدرس. ولا يفسخ العقد إلا بدفع المال لصاحب الفلاحة قبل حلول اشتنبر ويتمم الخدمة اللازمة. وإن دخل اشتنبر فليس له فسخ العقد كما بالفصل 27. الفصل 30: إذا أراد الخماس ألا يجدد عقد المزارعة على مقتضى الفصل 28، وكانت ذمته عامرة للفلاح من جراء الخماسة، أو بمال آخر، أو بهما معاً، فعليه أن يدفع ما عمرت به ذمته للفلاح، أو يعطي في ذلك ضامناً ملياً يرضي الفلاح. فإن لم يجد المال ولا الضامن فإنه يجبر على تعاطي حرفته =

يج - مقاصد أحكام التبرعات

يج - مقاصد أحكام التبرعات عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة الخادمة لمعنى الأخوة. فهي مصلحة حاجية جليلة، وأثرُ خُلق إسلامي جميل. فبها حصلت مساعفة المعوزين، وإغناء المقترين، وإقامة الجمّ من مصالح المسلمين. وليس الذي نعمد إليه بالبحث في كتابنا هذا هو مطلق العطايا والتبرعات التي تسخو بها أيدي أولي الفضل فتضعها في أيدي العفاة، أو تتلطف بها إلى الأحبة والأقارب من صدقات يومية وعطايا موسمية. فإن تلك التبرّعات لا تتبعها نفوس أصحاب الحقوق. وهي من جملة النفقات التي جرت بها عوائد كل الناس في أحوالهم وتصرفاتهم الخاصة. وقد دخلت تلك الترغيبات الدينية وألحقت بالقربات. وإنما الذي نريده هنا هو التبرعات المقصود منها التمليك ¬

_ = ما دام قادراً على الخدمة. فإن لم تكن له قدرة على خدمة الخماسة فإنه يسجن إذا لم يكن معلوم الفقر ولم تكن له حرفة ولا قدرة على الاستيجار. الفصل 32: ليس للخماس أن يترك صناعة الخماسة إلا إذا صار فلاحاً. أما إذا لم يتيسر له أن يكون فلاحاً، وإنما ترك حرفة الفلاحة للشغل بحرفة أخرى أو لمجرد البطالة أو غير ذلك، فإن العامل (الوالي) يغصبه على التجديد إن رضي بالتجديد عند صاحبه، أو على أن يخمس عند غيره. انظر: الرائد الرسمي التونسي عدد 12 س 15، 12 ربيع الثاني 1291 وهو عبارة عن الصحيفة الحكومية تصدرها لتنشر فيها القوانين والإجراءات ونحو ذلك].

والإغناء وإقامة المصالح المهمة الكائنة في الغالب بأموال يتنافس في مثلها المتنافسون، ويتشاكس في الاختصاص بها المتشاكسون. فالصدقة والهبة والعارية قد تكون من الشقّ الأول داخلة في عداد النفقات، وقد تكون من الشقّ الثاني إذا كان المتبرع به ريعاً أو عقاراً أو مالاً عظيماً. والحبس والعمرى والوصية والعتق لا تقع إلا في الشقّ الثاني، فتكون غنى وتمليكاً سواء كانت لأشخاص معينين أم لأصحاب أوصاف مقصودة بالنفع أو مصالح عامة للأمة. كما يعطى لطلبة العلم والفقراء وأهل الخير والعبادة وإقامة الحصون وسدّ الثغور وتجهيز الجيوش ومداواة المرضى. فهذه تبتدئ ابتداء شبيهاً بالقربات، يدفع المرءَ إليها حبُّه الخير وسخاء نفسه بالفضل، ثم هو يعزم عزمه ويُلزم نفسَه فتصير تلك القرباتُ إلى انتقال حق المتبرع بها إلى المتبرع عليه، فتأخذ حكم الحقوق التي يتشاحُّ الناسُ في اقتنائها وانتزاعها وفي استبقائها ومنعها. فربّما عرضت ندامة المتبرّع أو كراهة وارثه أو حاجره، وربما أفرط المتبرع عليه في تجاوز حدّ ما خُوّل له. فكانت بسبب هذا العارض الكثير التطرق إليها جديرة بتسليط قواعد الحقوق ومقاصد التشريع عليها. وقد نجد في استقراء الأدلة الشرعية منبعاً ليس بقليل يرشدنا إلى مقاصد الشريعة من عقود التبرعات. المقصد الأول: التكثير منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة. وإذ قد كان شحّ النفوس حائلاً دون تحصيل كثير منها، دلّت أدلة الشريعة على الترغيب فيها، فجعلت من العمل غير المنقطع ثوابه بعد الموت. ففي الحديث الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ... " (¬1) إلخ. ¬

_ (¬1) هو حديث أبي هريرة ونصه كاملاً: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا =

والصدقات الجارية والأوقاف التي في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه ومن أصحابه كثيرة، منها: صدقة عمر، وقد أشار عليه بها رسول الله عليه الصلاة والسلام (¬1). وكذلك صدقة أبي طلحة الأنصاري، فإنها كانت بإشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وصدقة عثمان ببئر رومة، قال ¬

_ = من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". انظر 25 كتاب الوصية، 3 باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ح 14. مَ: 2/ 1255؛ انظر بلفظ ثلاثة أشياء من صدقة: 17 كتاب الوصايا، 14 باب فيما جاء في الصدقة عن الميت، ح 2880. دَ: 3/ 300؛ انظر بلفظ من ثلاث صدقة جارية: 13 كتاب الأحكام، 36 باب في الوقف، ح 1376. تَ: 3/ 660؛ وبلفظ إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، انظر 30 كتاب الوصايا، 8 باب الصدقة عن الميت، ح 3649. نَ: 6/ 251. (¬1) استشار عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدقته. فقال: يا رسول الله: إني أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس عندي، فكيف تأمر به؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". فكتب: هذا ما تصدّق به عمر بن الخطاب صدقةً - لا تباع ولا توهب ولا تورث - على الفقراء وذوي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف. انظر 55 كتاب الوصايا، 28 باب الوقف كيف يكتب. خَ: 3/ 196؛ 83 كتاب الأيمان والنذور، 33 باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض؛ انظر 25 كتاب الوصية، 4 باب الوقف، ح 2015. مَ: 2/ 1255؛ انظر 17 كتاب الوصايا، 13 باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف، ح 1878. دَ: 3/ 298؛ انظر 26 كتاب الأحباس، 2 باب كيف يكتب الحبس، الأحاديث 3595، 3597، 3598، 3599. نَ: 6/ 230 - 231؛ انظر 15 كتاب الصدقات، 4 باب من وقف، ح 2396، 2397. جَه: 2/ 801؛ حَم: 2/ 12 - 13. (¬2) وخبر ذلك: "أن أبا طلحة كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل. وكان =

رسول الله: "من يشتري بئر رومة فيكون دلوُه فيها كدلاء المسلمين" (¬1) فاشتراها عثمان وتصدّق بها للمسلمين. وتصدّق سعد بن عبادة بمخراف له عن أمه تُوفّيت (¬2). وكانت هذه الصدقات أوقافاً ينتفع ¬

_ = أحبَّ أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبلة المسجد. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها، يا رسول الله، حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بخْ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين". فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه". انظر 24 كتاب الزكاة، 44 باب الزكاة على الأقارب. خَ: 2/ 126؛ انظر 12 كتاب الزكاة، 14 باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، ح 42. مَ: 2/ 693؛ انظر 58 كتاب الصدقة، 1 باب الترغيب في الصدقة، ح 2. طَ: 2/ 695 - 696. (¬1) تقدم: 460/ 1. (¬2) أورد هذا الخبر البخاري فيما رواه عكرمة عن ابن عباس أن سعد بن عبادة، رضي الله عنه، توفيت أمه وهو غائب عنها. فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها. أينفعها شيء إن تصدقتُ به عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها. 55 كتاب الوصايا، 15 باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمّي فهو جائز، وإن لم يبين لمن ذلك. خَ: 3/ 191. قال ابن حجر: المخراف المكان المثمر، سمّي بذلك لما يخرف منه أي يُجنى من الثمرة، تقول: شجَرة مخراف ومثمار. قاله الخطابي. وفي رواية عبد الرزاق: "المخرف" بغير ألف: اسم الحائط المذكور، والحائط: البستان. انظر: الفتح: 5/ 385 - 386.

المسلمون بثمرتها على تفصيل في شروطها. فلا شبهة في أن مقاصد الشريعة إكثار هذه العقود. فكيف يقول شريح (¬1) * بحظر التحبيس؟! وقد قال مالك لمّا أُخبر بمقالة شريح: "رحم الله شريحاً تكلّم ببلاده ولم يَرِد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبّسوا من أموالهم. وهذه صدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعُ حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خَبراً" (¬2). المقصد الثاني: أن تكون التبرعات صادرة عن طيب نفس لا يخالجه تردّد, لأنها من المعروف والسخاء، ولأن فيها إخراج جزء من المال المحبوب بدون عوض يخلفه. فتمحّض أن يكون قصد المتبرع النفعَ العام والثوابَ الجزيلَ. ولذلك كان من مقصد الشارع فيها أن تصدر عن أصحابها صدوراً من شأنه أن لا تعقبَه ندامة حتى لا يجيء ضر للمحسن من جراء إحسانه فيحذر الناس فعل المعروف، إذ لا ينبغي أن يأتي الخير بالشر كما أشار إليه قول الله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (¬3). فطيب النفس المقصود في التبرّعات أخص من طيب النفس المقرّر في المعاوضات. ومعنى ذلك أن تكون مهلة لزوم عقد التبرّع عقب العزم عليه وإنشائه أوسع من مهلة انعقاد عقود المعاوضة ولزومها. ¬

_ (¬1) * هو شريح بن الحارث الكندي من التابعين استقضاه علي على الكوفة، واستعفَى في زمن الحجاج. وتوفي سنة 79 هـ وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: استقضاه عمر.- تقدمت ترجمته: 43/ 2 - . اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) انظر: ابن رشد. المقدمات: 2/ 418. (¬3) البقرة: 233.

وقد علمنا ذلك من أدلة في السنّة، ومن كلام علماء الأمة. ففي الحديث الصحيح: "أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغناء وتخشى الفقر، ولا تترك حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا" (¬1). وهذه الحالة تقتضي التأمل والعزم دون التردد إلى وقت المضيق. ويتحقق حصول مهلة النظر بأحد أمرين هما التحويز والإشهاد. وقد كان اشتراط الحوز في التبرّعات ناظراً إلى هذا المقصد، بحيث لا يعتبر انعقاد عقد التبرع إلا بعد التحويز دون عقود المعاوضات. ولذلك كان حدوث مرض الموت قبل تحويز العطية مُفيتاً لها وناقلاً إياها إلى حكم الوصية. ففي الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن أبا بكر الصديق كان نحلها جادّ (¬2) * عشرين وسقاً من ماله بالغابة. فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بُنية ما من الناس [أحد] أحبُّ إليَّ غنى بعدي منك، ولا أعزُّ عليّ فقرًا بعدي منك. وإني كنت نحلتكِ جادّ عشرين وسقاً فلو كنت جدَدْتيه واحتزْتيه كان لك. وإنما هو اليوم مال وارِث [وإنما هما أخواك ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة وله طريقان عند مسلم: الأول حدّث به جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة، والثاني حدّث به ابن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة عنه: 12 كتاب الزكاة، 31 باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، ح 92، 93. مَ: 1/ 716؛ انظر 23 كتاب الزكاة، 60 باب أي الصدقة أفضل، ح 2540، 2542. نَ: 5/ 68، 69؛ 30 كتاب الوصايا، 1 باب الكراهية في تأخير الوصية، ح 3609. نَ: 6/ 237؛ انظر 22 كتاب الوصايا، 4 باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير بعد الموت، ح 2706. جَه: 2/ 903. (¬2) * جاد بجيم ودال مهملة مشددة اسم فاعل بمعنى اسم مفعول، أي مجدود أي مقطوع. اهـ. تع ابن عاشور.

وأختاك] فاقتسموه على كتاب الله" (¬1). وأمّا الإشهاد بالعطية فهو قائم مقام الحوز في أصل الانعقاد، وبذلك قال مالك: وأراه مأخوذاً من حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: أن النعمان بن بشير قال: إن أباه بشيراً أعطاه عطية، فقالت أمه عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أأعطيت سائر ولدك مثل هذا"؟ قال: لا، قال: "فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم" قال: فرجع فردَّ عطيته (¬2). فهو دليل بيَّن على أنها اعتبرت غير منعقدة قبل الإشهاد، ودليل بيِّن على أن الإشهاد في العطايا كان من المتعارف عندهم، فلذلك شرطت عَمْرة أن يكون الإشهاد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومعلوم أن المتبرع قد يخشى تأخّر الحوز، فهو يعمد إلى الإشهاد ثم يتبعه بالحوز. وهذا عندنا كاف في تحقق التبرع. فيصير المتبرَّع عليه مالكاً لِمَا تبرَّع به المتبرِّع، وله حق مطالبته بالتحويز عند المالكية (¬3). وقد قال كثير من العلماء - منهم: الشافعي وأبو حنيفة - ¬

_ (¬1) وتمام رواية مالك: قالت عائشة: فقلت: يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركتُه. إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة. أراها جارية. 36 كتاب الأقضية، 33 باب ما لا يجوز من النحل، ح 40، طَ: 2/ 752. (¬2) تقدم: 118/ 1، 2، 3. (¬3) الأصل في ثبوت هذا الحق قول ابن أبي زيد: ولا تتم هبة ولا صدقة ولا حبس إلا بالحيازة. صالح بن عبد السلام الأبي. الثمر الداني: 552. والحيازة أو الحوز: رفع خاصية تصرف الملك فيه عن المعطي بصرف التمكن منه للمعطى أو نائبه. ووقته قبل فلس المعطي وموته ومرضه. قاله =

بأن الحوز شرطُ صحّة انعقاد التبرع، بحيث لا يلزم الوفاء بالتبرع إذا لم يحصل الحوز. ففي هذا توسعة على فاعل المعروف حتى ينضمَّ تنجيزُه إلى قوله. والحنفية قائلون بجواز الرجوع في الهبة بعد الحوز إلا في سبع صور وهو من هذا القبيل (¬1). وأما الذين قالوا بانعقاد التبرع ولزومه بمجرد القول، وفيهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود الظاهري، وينسب إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فقد عاملوه معاملةَ بقية العقود، وأغضَوْا عما في ذلك من المعروف الذي لا ينبغي أن يكون مضيَّقاً فيه على أهله خشيةَ إجفال الناس عنه، فإن في ذلك تعطيلَ مصالح جمة. ¬

_ = ابن عرفة. الحدود: 2/ 544 - 546. وبيّن الدردير الحكم بقوله: وبطلت قبل الحوز أي حوز الهبة من واهبها وإن بغير إذنه. وبيّن المانع بقوله: من إحاطة دين بالواهب، أو جنون له أو مرض اتصلا بموته. الشرح الصغير: 4/ 143. (¬1) إنما أجازت الحنفية الرجوع في الهبة بتأولهم قول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} النساء: 86، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها"، ويقول الصحابة بذلك مثل عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وفضالة بن عبيد وغيرهم. فإذا تمت الهبة عقداً وحصل الحوز لم يمنع من الرجوع فيها غير عوارض سبعة هي: 1 - الزيادة المتصلة بنفس الموهوب بشيء يوجب الزيادة في قيمته، 2 - موت أحد المتعاقدين، 3 - قبول الواهب عنها عوضاً ولو من أجنبي، 4 - خروج الموهوب عن ملك الموهوب له، 5 - الزوجية قبل الهبة لا العكس، 6 - قرابة الرحم المحرم، 7 - هلاك العين الموهوبة. ويجمع ذلك قول بعضهم: ومانع من الرجوع في الهبة ... يا صاحبي حروف دمع خزقة الكاساني. بدائع الصنائع: 6/ 128 - 129؛ الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 98 - 101).

ولا أحسب جعل اعتصار الهبة حقاً للأب من ابنه إلا ناظراً إلى تدارك سرعة الآباء إلى عقد التبرعات لأبنائهم دون مزيد التأمل بداعي الرأفة. وتيقّن أن مال ولده مالٌ له، فإذا عرضت ندامة جعل له الشرع مندوحة للرجوع في هبته. وهو مع ذلك فيه إبقاءٌ لمعنى حقّ الأبوة بأن لا يكون الابن سبباً في التضييق على أبيه. وألحقت به الأم ما دام الأب حياً على تفصيل في ذلك محلُّه كتب الفقه. وقال البخاري في صحيحه: "قال مالك: العريّة أن يُعْرِيَ الرجلُ الرجلَ نخلةً ثم يتأذّى بدخوله عليه. فرُخِّص له أن يشتريَها منه بتمر" (¬1) اهـ. [وهكذا] فَهِمْنا أن الشريعة حريصةٌ على دفع الأذى عن المحسنِ أن ينْجر له من إحسانه، لكيلا يكره الناسُ فعلَ المعروف. المقصد الثالث: التوسع في وسائل انعقادها حسب رغبة المتبرّعين. ووجه هذا المقصد أن التبرّع بالمال عزيزٌ على النفس. فالباعث عليه أريحية دينية، ودافع خلقي عظيم. وهو مع ذلك لا يسلم من مجاذبة شحّ النفوس تلك الأريحية. وذلك الدافع في خطرات كثيرة أقواها ما ذكره الله تعالى بقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (¬2). وقد تبيّن ترغيبُ الشريعة فيها في المقصد الأول. ففي التوسع في كيفيات انعقادها خدمة للمقصد الأول. ولأجل هذا المعنى أباحت الشريعة تعليقَ العطيّة على حصول موت المعطي بالوصية وبالتدبير، مع أن ذلك مناف لأصل التصرّف في المال لأن المرء إنما يتصرّف في ماله مدة حياته. ومن أجل ¬

_ (¬1) انظر 34 كتاب البيوع، 84 باب تفسير العرايا. خَ: 3/ 33. (¬2) البقرة: 268.

ذلك أعملت شروط المتبرّعين في مصارف تبرّعاتهم، من تعميم وتخصيص وتأجيل وتأبيد وسائر الشروط ما لم تكن منافية لمقصد أعلى، فإن الجمع بين المقاصد هو غرض التشريع. وإن كانت تفوت بذلك بعض جزئيات من المقصد الواحد فإنها لا يُعبأُ بفواتها. والذي رجّحه نظارُ المالكية في شأن الشروط في الحبس والهبة والصّدقة إمضاؤها، مثل اشتراط الاعتصار في الصدقة والهبة (¬1). وكذلك مسألة اشتراط المتصدِّق أو الواهب أن لا يبيع ولا يهب (¬2). وقد اختلف فيها أئمة المذهب على أقوال خمسة استقصاها ابن راشد القفصي في الفائق (¬3)، ورجّح منها القول بمضي الشرط وبكون الصدقة والهبة ¬

_ (¬1) الاعتصار ارتجاع المعطي عطية دون عوض لا بطوع المعطى. ويصح في الهبة والعطية والعمرى والنحلة. ويكون من الأب نحو أولاده كباراً أو صغاراً. ويكون من الجد والجدة والعم والأجنبي إن اشترطوه عند الهبة. ومن الأم نحو ولدها الصغير شرط وجود والده عند البعض ما لم تفت الهبة، والمعتمد مضيه ولو يتيماً، وتعتصر من الكبير ما وهبته مطلقاً. وكل ما يجري من العطية والنحلة والعمرى بلفظ الصدقة أو كان بلفظ الهبة أو الحبس ودلت القرائن على قصد الصّدقة والدار الآخرة فلا اعتصار فيه إلا أن يشترط ذلك المتصدَّق أو المحبِّس عند العقد فيمضي الشرط. التسولي: 2/ 246 - 247. (¬2) ورد في المدونة في كتاب الهبة: من وهب لرجل هبة على أن لا يبيع ولا يهب لم يجز إلا أن يكون صغيراً أو سفيهاً فيشترط ذلك عليه ما دام في ولاية فيجوز. وإن شرط ذلك عليه بعد زوال الولاية لم يجز، كان ولداً للواهب أو أجنبياً. قال القابسي: الهبة جائزة وهي كالحبس المعين. لو وهب هبة لسفيه أو يتيم، أو شرط أن تكون يده مطلقة عليها، وأنه لا نظر لوصيه فيها، نفذ ذلك الشرط. الحطاب. مواهب الجليل: 6/ 50. (¬3) هو أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله ابن راشد البكري القفصي. الإِمام الفقيه =

بمنزلة الحبس (¬1). وهذا الأصل الذي أصّلناه هنا يوضّح ترجيحه بخلاف ¬

_ = الأصولي 736 بتونس. رحل إلى المشرق وأخذ عن أعلام، كابن الغماز وابن التنسي وابن العلاف والشمس الأصفهاني وابن المنيّر وابن دقيق العيد، وعنه ابن مرزوق الجد وعفيف الدين المصري. له الشهاب الثاقب شرح مختصر ابن الحاجب الفقهي، والمذهب في ضبط قواعد المذهب، والفائق في الأحكام والوثائق، والنظم البديع في اختصار التفريع، وتحفة اللبيب في اختصار كتاب ابن الخطيب، ونخبة الواصل في شرح الحاصل. مخلوف: 1/ 207، ع 722. (¬1) ونص ما ورد بالفائق لابن راشد: وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور: الهبة والصدقة جائزة لازمة بالقول لا يفتقر إلى حيازة كالبيع. وسنذكر دليل ذلك في الحيازة في اللواحق وما يتعلق بها إن شاء الله تعالى. وإن اقترن بها شرط فلا يخلو أن ينافي مطلق العقد أو لا ينافيه. فإن نافى مطلق العقد ففيه خلاف. فمن ذلك أن يهبه أو يتصدّق عليه على أن لا يبيع ولا يهب. ففي الواهب خمسة أقوال: أحدها: أن الهبة والصدقة لا تجوز، إلا أن يشاء الواهب أو المتصدَّق أو يُبطل الشرط ويمضي الهبة والصّدقة، فإن مات الواهب أو الموهوب له أو المتصدَّق أو المتصدَّق عليه بطلت الهبة والصدقة. وهو ظاهر قول مالك في العتبية، وفي سماع أصبغ في رسم الكراء والغصب ... فالهبة على هذا القول على الردّ ما لم يجزها الواهب ويمضيها بترك الشرط. ثانيها: أن الواهب مخيّر بين أن يسترد هبته أو يترك الشرط وورثته بعده. فهي على هذا على الجواز ما لم يردها الواهب. وهو قول أصبغ من رواية في رسم القضاء والأكرية من سماعه. وثالثها: أن الهبة جائزة والشرط باطل. وهو قول مالك في رواية ابن وهب في سماع سحنون. ورابعها: أن الشرط عامل والهبة ماضية لازمة. وتكون الصّدقة بيد المتصدَّق عليه بمنزلة الحبس لا يبيع ولا يهب حتى يموت. فإذا مات ورث ذلك عنه على سبيل الميراث. وهو قول عيسى بن دينار في العتبية وقول مطرف في الواضحة. =

المعاوضات. فأما اشتراط عدم التحويز فسيجيء القولُ فيه عقب هذا. المقصد الرابع: أن لا يُجعل التبرع ذريعة إلى إضاعة مال الغير من حق وارث أو دائن. وقد كانت الوصايا في الجاهلية قائمةً مقام المواريث، وكانوا يميلون بها إلى حرمان قراباتهم وإعطائها كبراء القوم لحبّ المحمدة والسمعة. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق (¬1): "لم يكن أهل الجاهلية يعطون الزوجة مثل ما نعطيها ولا يعطون البنات ما نعطيهن، وربما لم تكن لهن مواريث معلومة يعملون عليها". فلما أمر الله بالوصية للوالدين والأقربين ثم شرع المواريث كان خيال الوصية الجاهلية لم يزل يتردّد في نفوسهم. فمن أجل ذلك قصرت الوصية على غير الوارث وجعلت في خاصة ثلث المال. كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "الثلث والثلث كثير. إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس" (¬2). وقد مضى آنفاً قول أبي بكر لعائشة: "وإنما هو ¬

_ = وخامسها: أنه يكون حبساً على الموهوب له أو المتصدَّق عليه لا شرط من أنه لا يبيع ولا يهب. وهو قول سحنون. فإذا مات المتصدَّق عليه على هذا القول رجع ذلك إلى المتصدِّق أو إلى ورثته أو إلى أقرب الناس إليه، على اختلاف قول مالك فيمن حبّس على معين. وأظهر هذه الأقوال القول الرابع للرجل أن يفعل في ماله ما شاء: إن شاء بتته للموهوب له من الآن، وإن شاء أعطاه المنافع خاصة ليستربح الانتفاع بما وهبه ويرى أثر هيأته عليه. وورد مثل هذا الكلام منقولاً عن ابن رشد. البيان والتحصيل: 17/ 540 - 542. والأقوال الخمسة في مواهب الجليل، انظر: الحطاب: 6/ 50. (¬1) تقدمت ترجمته: 344/ 4. (¬2) تقدم: 136/ 3، 454/ 2، 474/ 2

الآن مالُ وارث" (¬1). فعلمنا أن كثيراً من الناس يجعلون الوصية والتبرع وسيلةً إلى تغيير المواريث أو رزية لمال داين، ظنًّا أن ذلك يحللهم من إثمها لأنهم غيروا معروفاً بمعروف. فكان من سدّ هذه الذريعة لزوم كون صورة التبرع بعيدة عن هذا القصد. ولم يقع الاكتفاء بالإشهاد في دفع هذه التهمة لظهور أنه غير مقنع، لكثرة احتمال أن يتواطأ المتبرِّع والمتبرَّع عليه على الإشهاد مع إبقاء الشيء المعطى في تصرّف المتبرع لحرمان الوارث والدائن. فللحوز في هذا المقصد أثر غير أثره المذكور في المقصد الثاني. ومن هنا أيضاً يعلم أن المروي عن مالك وهو بطلان الحبس المجعول فيه التحبيس على البنين دون البنات لأنه من فعل الجاهليّة هو أرجح من حيث الأدلة، وإن كان المعمول به بين علماء المالكية مضيَّه بكراهة أو حرمة أخذاً برواية المغيرة عن مالك (¬2). ومن أجل هذا منع المريض مرضاً مخوفاً من التبرع ولم يمنع من المعاوضة بالبيع ونحوه؛ لأن في البيع أخذ عوض بخلاف التبرع، فالتهمة في تبرع المريض قائمة. ¬

_ (¬1) تقدم: 508/ 1. (¬2) يشير إلى هذا قول صاحب المقدمات: كره إخراج البنات من الحبس لأنه من أفعال الجاهلية. قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الأنعام: 139، ولما فيه أيضاً مما نهى عنه من تفضيل بعض الولد على بعض في العطية. ومن مذهب مالك أنهن يدخلن فيه، وإن نصَّ المحبِّس على إخراجهن منه ما لم يفت الأمر. ابن رشد: 2/ 431.

يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرّفاتها بأن مقصدها: أن يكون للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحَها، ويقيمون العدل فيها، وينفذون أحكام الشريعة بينها, لأن الشريعة ما جاءت بما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة، وتعيين الحقوق لأصحابها إلا وهي تريد تنفيذَ أحكامها وإيصالَ الحقوق إلى أربابها إن رام رائم اغتصابها منهم، وإلّا لم يحصل تمام المقصود من تشريعها, لأن الحقوق معرَّضةٌ للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة، ومعرَّضةٌ لسوء الفهم وللجهل وللتناسي. وكلُّ واضِع نظام أو باعثِ سفير، أو موصٍ بعمل مّا، إلّا وهو في وقت وضع أعماله يُقدَّر حالةً يكون فيها حائلٌ حول مقصوده فيتخذ لذلك ما يراه من الحيطة. فلا جَرَم أن كان من أهم مقاصد الشريعة بعد تبليغها إقامتُها وحراستُها وتنفيذُها. ولذلك لزم إقامةُ علماء للشريعة لقصد تبليغها وإقامتها. قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (¬1). وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبني ليث حين وردوا عليه: "فارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلَّموهم" (¬2) *. ¬

_ (¬1) التوبة: 122. (¬2) * رواه مالك بن الحويرث الليثي من بني ليث بن عبد مناف بن كنانة. اهـ. تع ابن عاشور. =

وتعين إقامة ولاة لأمورها، وإقامة قوة تُعين أولئك الولاة على تنفيذها. فكانت الحكومة والسلطان من لوازم الشريعة لئلا تكون في بعض الأوقات معطَّلةً. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬1). والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، وأقوال رسول الله وتصرّفاته في ذلك بلغت التواتر. فقد تواتر بعثهُ الأمراء والقضاةَ للأقطار النائية. وتولّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحُكمَ بنفسه بين المسلمين في حاضرة الإِسلام المدينة. وما توجيهُ القرآن خطاباتٍ كثرةً بضمير الجماعة إلَّا مراد به خطابُ الأمة في أعمال يعلم أنها لا تتمّ وتحصل إلا بمباشرة من ينفذها، أي أن يتولى تنفيذها نفرٌ تقيمهم الأمة لتنفيذها في أشكال ومراتب مختلفة ومتفاوتة. وليس هذا الكتاب ¬

_ = [حدّث به أيوب عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث. انظر 3 كتاب العلم، 25 باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد بني عبد القيس أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا به مَنْ وراءهم. ولفظه مختصر. خَ: 1/ 30؛ 10 كتاب الأذان، 17 باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد. خَ: 1/ 154؛ 95 كتاب أخبار الآحاد، 1 باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، ح 1. خَ: 8/ 132 - 133. وأخرجه مسلم. ولفظه قال: "أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شَبَبَة متقاربون. فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً رفيقاً. فظن أنا قد اشتقنا أهلنا. فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه. فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم": 5 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 53 باب مَنْ أحقّ بالإمامة، ح 292. مَ: 1/ 465 - 466. انظر 3 كتاب الأذان، 8 باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر، ح 633. نَ: 2/ 209]. (¬1) الحديد: 25.

بمحل بسط الاستدلال على ذلك (¬1) * لأنه من علائق أصول الدين أو علم السياسة الشرعية. إن أهمّ المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها هو بثُّ علومها، وتكثيرُ علمائها وحملِتها. وذلك فرضُ كفاية على الأمة بمقدار ما يسدّ حاجتها ويكفي مهماتها في سعة أقطارها وعظمة أمصارها. وقد استودع الله هذه الأمة كتابه مشتملاً على شرائع عظيمة تأصيلاً وتفريعاً. والرسول عليه الصلاة والسلام أمرَ أمتَه في مشاهد كثيرة بأن يبلّغ الشاهد الغائب (¬2)، وحثّ من يسمع مقالته على أن يعيها ويؤديها كما سمعها (¬3). فلم يتلبَّث سلف الأمة في إكثار مصاحف القرآن في أمصار الإِسلام، ثم في تدوين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي بلّغها عنه ثقات أمته، ثم تدوين آراء أئمة الإِسلام المعبَّر عنها بالفقه، ثم يتبع ذلك صفاتُ حملةِ الشريعة. وتعين لتحقيق تنفيذ الشريعة إيقاعُ حرمتها في نفوس الأمة. وإن يقين الأمة بسداد شريعتها تجعل طاعتَها منبعثة عن اختيار. وأعظم الشرائع في يقين أمتها بسدادها شريعة الإِسلام، إذ قد قامت الأدلة القاطعة على أنها معصومة لأنها مستندة إلى الوحي. ولذلك لم يزل علماء الأمة حريصين على إرجاع القوانين إلى أدلة الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا ¬

_ (¬1) * مثل قوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}. الحجرات: 49، وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}. النساء: 35. وانظر كتابي المسمى بنقد علمي. اهـ. تع ابن عاشور. (¬2) تقدم تخريجه: 101/ 1. (¬3) هذا تمام الحديث السابق، وقد تقدم: 139/ 1.

قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1). وهذا خاصٌّ بحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يعطي مراتبَ متفاوتة لمن دون الرسول على حسب قرب حكمه من حكم الرسول عليه الصلاة والسلام. ولذلك رجّح علماؤنا أن يصرح القاضي في حكمه بمستنده فيه تحقيقاً لمعنى نفي الحرج من الحكم الشرعي بقدر الإمكان (¬2). وليس بنا أن نتعرض هنا إلى مقاصد الشريعة في تبليغها وحراستها, ولا في شروط الخلفاء والأمراء وولاة الأمور من أهل الحل والعقد وقوّاد الأجناد القائمين لذلك، فإن ذلك أيضاً خارج عن ¬

_ (¬1) النساء: 65. (¬2) وقع التحذير من انحراف الوالي والحاكم في نصوص كثيرة، منها: حديث: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة"، انظر 1 كتاب الإيمان, 63 باب استحقاق الولي الغاش لرعيته النار، ح 227، 229. مَ: 1/ 150؛ وروايات أخرى منها: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة": 33 كتاب الإمارة، 5 باب فضل الإِمام العادل، ح 22. مَ: 2/ 1460؛ وأورد القرافي الحديث بصيغة قريبة: "من ولي من أمور أمتي شيئاً ثم لم يجهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام". القرافي، الذخيرة: 10/ 43؛ الفروق: 4/ 39. وصرح اللخمي بأن: من حق الطالب إذا توجه له الحق أن يكتب له قضية بما ثبت له، وبسبب الثبوت من بيّنة، أو يمين، أو نكول، أو سقوط بيّنة - إن ظهرت -؛ لأنه يخشى أن يقوم عليه بعد ذلك. والمدعى عليه إذا لم يثبت عليه بتلك الدعوى شيء. قال عبد الملك: ليس ذلك على القاضي. وقال مطرف: يكتب له حتى لا تعود الخصومة بعد ذلك. وقال ابن شاس: يكتب في الأسجال أسماء البيّنة وأسماء المتداعين وأنساب الجميع وما يعرفون به، وما حكم به، ويحتفظ به في خريطة ويختم عليه. القرافي، الذخيرة: 10/ 77.

غرضنا من هذا الكتاب، ولكنّنا سنخص بحثنا هذا بمقاصد الشريعة من أحوال المنوط بهم تنفيذُها في خصوص إيصال الحقوق إلى أصحابها على نحو ما رسمته الشريعة تأصيلاً وتفريعاً. وهؤلاء هم القضاةُ، وأهلُ شوراهم، وأعوانُهم، وما تتألف منه طرق أقضياتهم وهي البينات والرسوم. وقد بين القرافي في الفرق الثالث والعشرين والمائتين: "أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية لا يحل له أن يتصرّف إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة فيكون الأئمةُ والولاةُ معزولين عما ليس بأحسن وما ليس فيه بذل الجهد. والمرجوح أبداً ليس بأحسن وليس الأخذ به بذلاً للاجتهاد" (¬1) اهـ. وأقول: ورد في حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ عليه البيعة شرط عليه: "النصح لكل مسلم" (¬2). وبيَّن القرافي الفرق السادس والتسعين أنه يجب أن يقدَّم في كل ولاية من هو أقومُ بمصالحها على من هو دونه، واستدل على ذلك بأدلة بيَّنة لا حاجة إلى جلبها هنا (¬3). ¬

_ (¬1) القرافي. الفرق 223 بين قاعدة ما ينفذ من تصرّفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك، الفروق: 4/ 39. وهو قاعدة مستنبطة من قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الأنعام: 152. (¬2) انظر ابن حجر. الفتح: الحديث الأول من كتاب الإيمان: 1/ 139 - 140، ح 580، والحديث الثاني حديث جرير بن عبد الله، قال: "أمّا بعد فإني أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: أبايعك على الإِسلام"؟ فشرط عليّ: "والنصح لكل مسلم". فبايعته على هذا، ورَبّ هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل. انظر 2 كتاب الإيمان, 42 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الدّين النصيحة"، ح 2. خَ: 1/ 20. (¬3) القرافي. الفرق 96 بَيْن قاعدة من يتعيّن تقديمه وبين قاعدة من يتعيّن =

ومقصد الشريعة من نظام هيئة القضاء كلَّها على الجملة أن يشتمل على ما فيه إعانةٌ على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفي. وذلك مأخوذ من حديث الموطأ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضيَ له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخذْه، فإنّما أقتطع له قطعة من نار" (¬1). ففي هذا الحديث دلالة على أن طرق إظهار الحق مختلفة، وأن تلقّي القاضي لأساليب المرافعة أحسنُه ما أعانه على تَبيُّن الحق، وأن القاضي إنما يقضي بحسب ما يبدو له من الأدلة والحجج، وأن على الخصوم إبداءَ ما يوضّح حقوقهم، وأن التّحيّل على الباطل ضلال وملقٍ في النار. وفي حديث الموطأ أيضاً (¬2) *: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: اقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله. وقال الآخر وكان أفقهَهما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. فقال رسول الله: تكلم" الحديث. وروى الترمذي وأبو داود عن علي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى ¬

_ = تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية، الفروق: 2/ 157 - 163. (¬1) انظر 36 كتاب الأقضية، 1 باب الترغيب في القضاء بالحق. طَ: 2/ 719. وانظر 52 كتاب الشهادات، 27 باب من أقام البينة بعد اليمين. خَ: 3/ 162؛ انظر 30 كتاب الأقضية، 3 باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، ح 3. مَ: 2/ 1337. (¬2) * في كتاب الحدود. اهـ. تع ابن عاشور. وقد تقدم تخريج الحديث 103/ 2.

اليمن قاضياً فقال له: "إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تَقضِيَنَّ حتى تسمع كلام الآخر كما سمعت كلام الأول فإنه أحرى أن يتبيّنَ لك القضاء" (¬1). فيجب على الحاكم أن يستقصي وجوه الحجج المبيِّنة للحق بقدر ما يستطيعَ ولو بالوصول إلى حفظ بعض الحقوق دون بعض، فإنّ حفظ البعض خير من ضياع الكل. وقد حكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن داود عليه السلام: "أنه تحاكمت إليه امرأتان في صبي تزعم كل منهما أنه ابنها فقضى به للكبرى"، مع أن الكِبَر لا أثر له في إظهار الحق. ولكنه لما أيس من الحجة عمد إلى مرجَّح ما، حفظاً لحق المختصم فيه لا لحق المتخاصمتين كي لا يبقى الصبي بدون كافلة. ولم يتطلب داود سبيلاً لحمل إحدى المرأتين على الإقرار، لعله لأنه لا يرى الإكراه على الإقرار. وقد علم أن إحداهما مبطلة لا محالة. ونزع سليمان عليه السلام إلى طريقة الإلجاء إلى الإقرار (¬2). ¬

_ (¬1) نظر 13 كتاب الأحكام، 5 باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، ح 1331. تَ: 3/ 618؛ وبلفظ قريب من الأول: 23 كتاب القضاء، 6 باب كيف القضاء، ح 3582. دَ: 4/ 11. (¬2) الحديث لأبي هريرة. انظر 60 كتاب الأنبياء، 40 باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ص: 30. وهو حديث مرفوع عند البخاري عن أبي اليمان عن شعيب، في آخر الباب ... الحديث، ونصه هنا: "وقال: كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتُها إنما ذهب بابنكِ، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنكِ. فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إن =

ولم يزل الفقهاء يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابطَ وشروطاً كثيرة ما كان السلف يراعونها. وأحسن طرق فقهاء الإِسلام في ذلك فيما رأيت طريقة علماء الأندلس وهي مفصلةٌ في كتب النوازل والتوثيق (¬1). وأهمّ أركان نظام القضاء هو القاضي، فإنّ في صلاحه وكماله صلاحَ بقية ما يحفُّ به من الأحوال. وقد ظهر أن مقصد الشريعة من القاضي إبلاغُهُ الحقوق إلى طالبيها. وذلك يعتمد أموراً: أصالة الرأي، والعلم، والسلامة من نفوذ غيره عليه، والعدالة. فأصالة الرأي تستدعي العقل، والتكليف، والفطنة، وسلامة الحواس. وفي الحديث: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬2). وأما العلم فالمراد به العلم بالأحكام الشرعية التي يجري بها القضاءُ فيما وَلِي عليه من أنواع النوازل. وقد جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وجه معاذاً قاضياً إلى اليمن قال له: "كيف تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد"، قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد"، قال: أجتهد برأيي ولا آلو. رواه الترمذي وأبو داود (¬3). وقد قال مالك: "لا أرى خصال القضاء ¬

_ = سمعت بالسكّين إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية". خَ: 4/ 136 - 137. ابن حجر. الفتح: 6/ 464 - 465. (¬1) انظر تفصيل القول بعد: 540/ 2. (¬2) تقدم: 256/ 3. (¬3) هو عند الترمذي بلفظ: "أجتهد رأيي، مقتصراً عليه": 13 كتاب الأحكام، 3 باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، ح 1327. تَ: 3/ 616؛ انظر 23 كتاب الأقضية، 11 باب اجتهاد الرأي في القضاء، ح 3592. دَ: 4/ 18 - 19.

تجتمع اليوم في أحد. فإذا اجتمع منها في الرجل خصلتان أن يولّى العلمُ والورعُ" (¬1) فيتعين أن يكون القاضي أمثل العلماء الصالحين للقضاء، وبمقدار قوة علمه يزداد ترجُّحُه. وقد اختلف في اشتراط كون القاضي مجتهداً إن وجد، أي إذا اشتهر بذلك وسُلّمت له مرتبة الاجتهاد من طائفة علماء عصره. وعندي أن العالِم المقلد لمذهب مجتهد مشهور، العالِمَ بالأدلة لا يقصر في استحقاق القضاء عن المجتهد، لا سيّما حين صار المسلمون مقلدين لمذاهب معلومة الصحّة مشهورة العلم. فلعل أولئك المقلدين لا يتلقون علمَ المجتهد المخالف للمذهب الذي تقلدوه. ولذلك فلا ينبغي أن يُختلَفَ في أن ولاية الفقيه المقلَّد إنما تكون للفقيه في المذهب الذي تقلده الناس الذين يقضي بينهم. وقد استمر عمل ولاة الأمصار الإِسلامية على ذلك فكانوا يولون القضاة من علماء مذاهب القوم الذين نصب القاضي فيهم. فإن كان في المصر أتباع لمذاهب كثيرة نصَبوا فيه قضاةً بعدد أتباع تلك المذاهب، ليكون ذلك مُطَمْئناً لهم لما قدمناه في باب حرمة الشريعة، على ما فيه من تشتت، ولكنهم لم يتوصلوا إلى إقناع طبقات الأمم بطريقة أخرى أقرب إلى التسليم. وليست إلَّا طريقةَ أخذ الأصلح من مجموع أقوال العلماء. ¬

_ (¬1) ابن رشد. المقدمات: 2/ 259، 260: وقالوا: إن شروط الكمال فيمن يولى القضاء خمسة ينتفي عنها وخمسة لا ينفك منها. وهذه الأخيرة هي: أن يكون فطناً، نزيهاً، مهيباً، حليماً، مستشيراً لأهل العلم والرأي. وزاد بعضهم: سليماً من بطانة السوء، لا يبالي في الله لومة لائم، وَرعاً، بلدياً، غير زائد في الدهاء. وللقاضي عبد الوهاب مقالة في ذلك مهمّة عقَّب عليها ابن فرحون بما نقله عن مالك. ابن فرحون. التبصرة: 10/ 20 - 21.

ومن الواجب أن يكون القاضي مستحضراً للأحكام الشرعية في المسائل الكثيرة النزول، ومقتدراً على الاطلاع على أحكام ونوادر النوازل عند دعاء الحاجة إليها بسهولة. لكونه دارساً لكتب الفقه متضلعاً بطرق الاستفادة منها. قال ابن القاسم: لا يُستقضى من ليس بفقيه (¬1). وقال أصبغ وأشهب ومطرف وابن الماجشون: لا يصلح كون القاضي صاحبَ حديث لا فقه معه، ولا صاحبَ فقه لا حديث معه (¬2). وفي الفائق لابن راشد: قال لي قاضي مصر نفيس الدين بن شكر: (¬3) تجوز تولية المتأهّل لمعرفة استخراج المسائل من مواضعها. وأيّده بأن المجتهد لا يلزمه حفظ آيات الأحكام. قال ابن راشد: "لكن لا خفاء في أن هذا تضييق على الخصوم, لأنه يطيل عليهم فصل نوازلهم حتى يفهمها القاضي. وفيه وسيلة إلى تولية الجهال" (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك القرافي. الذخيرة: 10/ 19. (¬2) قال عبد الملك بن حبيب: ويكون عالماً بالسنّة والآثار ووجه الفقه الذي يؤخذ منه الكلام، وحكى عن أصبغ ومطرف وابن الماجشون قولهم: ولا يصلح أن يكون صاحب رأي لا علم له بالسنّة ولا بالآثار, ولا صاحب حديث ولا علم له بالفقه والرأي, لأنه يخاف من الجهل مثل ما يخاف من الجور. ابن رشد. المقدمات: 2/ 260. (¬3) هو نفيس الدين بن هبة الله بن شكر 605 - 680 هـ. قاضي القضاة بالديار المصرية. التنبكتي: (2) 755، ع 615. (¬4) ونصّ ما ورد بالفائق: وسمعت من قاضي الجماعة - كان بالقاهرة المعزيّة - نفيس الدين بن شكر رحمة الله عليه أنه قال: إذا تأهل الطالب لمعرفة استخراج المسائل من مواضعها جازت توليته. ويرد ما ذكره ما قيل في أن المجتهد لا يشترط فيه حفظ الآي المتضمنة الأحكام بل معرفة مواضعها ليراجعها عند الحاجة إليها. ولا خفاء لما في هذا من التضييق. وإذا كان =

وكلام ابن راشد هو الصواب, لأن المجتهد غير مطلوب بفصل القضاء بين الناس. فإذا ولي المجتهدُ القضاء كان الشرط فيه أضيق من شروط مطلق مجتهد. وقوله: "إنه وسيلة إلى تولية الجهال"، هو كذلك, لأن ملكة الاستحصال لا تنضبط ولا يدرك توفّرُهَا في صاحبها إلا العلماءُ. فإذا هوي ولاةُ الجور أو الجهالة تولية أحد من الجهلة القضاء زعموا أنه وإن لم يكن عالماً فهو قادر على استخراج المسائل وهو غير قادر، أو لعله وإن كان قادراً لا يصرف همته إلى ذلك، بخلاف استحضار المسائل، فالامتحان فيه لا يخفى. ومما يرجع إلى معنى العلم المقدرةُ على فهم مراد الفقهاء ومصطلحهم. قال ابن عبد البر في الكافي: "لم يختلف العلماء بالمدينة وغيرها فيما علمت أنه لا ينبغي أن يولَّى القضاءَ إلا الموثوق به في دينه وعلمه وفهمه" (¬1) اهـ. ومن ذلك أيضاً المقدرة على فهم مدركات المسائل وعللها لأن ذلك أحسن منبه للقاضي حين اشتباه المسائل المتشابهة لقولهم: لا يصلح كون القاضي صاحب فقه لا حديث معه. وأما السلامة من نفوذ غيره عليه فهو مندرج في اشتراطهم في صفات القاضي الحرية. وقد تحيروا في [تعليل] اشتراط الحرية. وتحيُّرهم في تعليله دليل لنا على أن المعلول مسلم لا نزاع فيه. وأنا أعلَّلُه بأن الرق حق على العبد. فهو محكوم لمالكه لا يسعه إلا ¬

_ = القاضي لا يحكم في مسألة حتى يفهمها، ويطالع ما قيل فيها، فتضيق أحوال الخصوم. وربما تركوا حقوقهم. وفيها أيضاً وسيلة إلى تولية الجهال. ابن راشد: 4/ 77 أ. (¬1) عبارة الكافي: "في دينه وصلاحه وفهمه وعمله". ابن عبد البر: 2/ 952.

مصانعته فيصير لسيد العبد أثر في إجراء النوازل التي يباشرها عبدُه. وهذا يوميء إلى وجوب تجرد القاضي عن كل ما من شأنه أن يجعله تحت نفوذ غيره، فإن العبودية مراتب. وفي الحديث: "تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم وتعس عبد القطيفة الذي إذا أُعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض" (¬1). فجعل ذلك سبباً لاستعباده. ومن أجل هذا اتفق علماؤنا على تحريم الرشوة. قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (¬2). ومن هنا يتضح ما قاله أشهب: إن من واجبات القاضي أن يكون مستخفاً بالأئمة أي مستخفّاً بتوسطاتهم في النوازل وشفاعتهم فيها، وفي إنفاذ الحق عليهم وعلى ذويهم. وليس المراد أنه مستخفٌّ بحقوق الأئمة في تقرير الطاعة العامة. وبعضهم زعم أن العبارة تحريف اللائمة (بتشديد اللام) أي أن لا يراعي لومة لائم، وهو تأويل بعيد لا يلاقي تعليق المجرور بمادة الاستخفاف. وأما العدالة فإنها الوازع عن الجور في الحكم والتقصير في تقصّي النظر في حجج الخصوم. فإن القضاء أمانة، ولذلك قرنه الله تعالى بالأمانات في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬3). ولذلك قال علماؤنا: ¬

_ (¬1) الحديث لأبي هريرة. وهو في بعض الطرق بلفظ: "القطيفة والخميصة". انظر 56 كتاب الجهاد، 7 باب الحراسة في الغزو في سبيل الله. خَ: 3/ 223؛ 81 كتاب الرقاق، 10 باب ما يتقى من فتنة المال. ح 1. خَ: 7/ 175؛ انظر 37 كتاب الزهد، 8 باب في المكثرين، ح 4135، 4136. جَه: 2/ 1385 - 1386. (¬2) البقرة: 188. (¬3) النساء: 58.

العدالة شرط في صحة ولاية القضاء (¬1). وقد تكلم العلماء في عزل القاضي، وتردّدت أنظارهم في ذلك بناء على اعتباره كوكيل عن الأمير من جهة، وعلى وجوب حرمة هذا المنصب في نظر الناس من جهة أخرى. وهي مسألةٌ لها مزيد تعلق بالسلامة من نفوذ غيره عليه, لأن العزلَ غضاضة عليه، وتوقّعَه ينقص من صرامته إن لم يغلبه دينه. قال المازري: إن عُلِمَ علمُ القاضي وعدالتُه ولم يقدح فيه قادح لم يعزل بالشَّكية. وسئل عن حاله بسببها سراً. ومن لم تتحقق عدالتُه في عزله بمجردها قولان. قال أصبغ: يعزل، وقال غيره: لا يعزل (¬2). قالوا: ولم يحفظ أن عمر عزل قاضياً، أي مع كونه عزل الأمراء بمجرد الشكية. عزل سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وشرحبيل. قلت: ولا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عزل قاضياً ولا أن أبا بكر عزل قاضياً. ¬

_ (¬1) قال القاضي عياض في التنبيهات: وشروط القضاء التي لا يتم القضاء إلا بها ولا تنعقد الولاية ولا يستدام عقدها إلا معها عشرة: الإِسلام، والعقل، والذكورية، والحرية، والبلوغ، والعدالة، والعلم، وكونه واحداً، وسلامة حاسة السمع والبصر، وسلامة اللسان. قال سحنون: وأما العدالة، فلأنه لا تصح ولاية غير العدل. فمن لا تجوز شهادته لا تصحّ ولايته. وقال أيضاً: تصح ويجب عزله. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 18. وقد فصل القول في ذلك من قبل ابن رشد. المقدمات: 2/ 858 - 259. (¬2) جاء في المقدمات: ومن لم تجتمع فيه سلامة السمع والبصر واللسان والعدالة وجب أن يعزل متى عثر عليه، ويكون ما مضى من أحكامه جائزاً إلا الفاسق الذي ليس بعدل. فاختلف فيما مضى من أحكامه. قيل: إنها جائزة، وهو قول أصبغ، وقيل: إنها مردودة، وهو المشهور في المذهب. فعلى هذا القول، العدالة مشترطة في صحة الولاية كالإِسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة على مذهبنا، والتوحد. ابن رشد: 2/ 259.

وقال بعض المحققين من علمائنا وأظنّه ابن عرفة: في عزل القاضي توهينٌ لحرمة المنصب، على أنه قد صار فيما بعد عصر السلف لصاحب الخطة حقٌ في بقائها، نظراً لضعف آراء وعدالة الأمراء الذين يولون القضاة (¬1). وقد اصطلح بعضُ سلاطين الدولة الحفصية على أن القاضي لا يبقى في خطبة القضاء أكثر من ثلاث سنين، وهذا خطأ من التصرف (¬2). ¬

_ (¬1) وليس هذا على إطلاقه إن صحّ عنه, لأنه يقول: ويجب تفقد الإِمام حال قضاته فيعزل مَن في بقائه مفسدة وجوباً فوراً، ومَن يخشى مفسدته استحباباً، ومن غيره أولى منه عزْلُه راجح. حكاه الحطاب. مواهب الجليل: 6/ 113. (¬2) في إتحاف أهل الزمان: وكان السنن في الدولة الحفصية أن القاضي لا يبقى في خطبة القضاء بجهته أكثر من ثلاث سنين ثم ينتقل لغيرها، إلى أن يتصدر لقضاء الحاضرة ثم يتصدر للفتوى والشورى. ابن أبي الضياف: (1) 1/ 187. وتلك عادة سابقة للموحدين، عند حكمهم إفريقية، كانت تمليها الظروف السياسية ومخافة السلاطين من مزاحمة قاضي الجماعة لنفوذهم وتدخله في شؤونهم. المراكشي. تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية: 44. وقد تعطلت هذه العادة بتولي أبي زكرياء الحفصي الحكم واستقلاله به حيث أبقى على القضاء أبا عبد الله بن زيادة الله القابسي. ولم يعيّن في مدة ولايته طوال عشرين عاماً غير ثلاثة قضاة. وسار ابنه المستنصر سيرته فلم يعزل قاضي الجماعة عبد الرحمن بن علي التوزري 657 هـ إلا بعد عشر سنوات من ارتقائه العرش. ومن يوم حصول الاعتراف من دول المشرق بالدولة الحفصية لم تثبت ولاية القضاء، فتعاقبت التعيينات والإعفاءات في فترات قصيرة جداً. كانت أحياناً لا تزيد على بضعة أشهر. ثم عاد الأمر إلى نصابه وبقي القاضي أحمد بن الغماز من سنة 662 - 693 هـ، والقاضي =

والحاصل أنه يُفهم من مقصد الشريعة أن تكون الولايةُ في مَظِنة المصلحة، وأن لا يكون العزلُ إلا لمظنَّة المفسدة, لأن جميع تصرّفات الأمراء منوطة بالمصالح كما بينه القرافي في الفرق الثالث والعشرين والمائتين، وأن حفظ حرمة المناصب الشرعية وإعانة القائمين بها على المضي في سبيلهم غيرَ وجلين ولا مغضوضين لمن أكبر المصالح (¬1). وشروط رجال شورى القضاء تقارب شروط القضاة إلا أن شرط العلم فيهم أقوى ويساوون في البقية. وننقل كلامنا إلى ما كنا وَعَدنا به في آخر البحث، عن مقصد تعيين أنواع الحقوق لأصحابها، من أن بعض الحقوق قد يجعل لأمانة غير صاحبه. فاعلم أن شأن الحق أن يكون تصريفه بيد صاحبه، وقد يتعذر ذلك كالنيابات في الولايات والوكالات، لتعذر مباشرة ولاة الأمور جميع ما لهم حقُّ مباشرته، إذ قد تكثر، وقد تبعد، وقد يعرض الاشتغال بالأهم عن المهم. وقد ورد في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "واغدُ يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها" (¬2) *. وفي ¬

_ = إبراهيم بن عبد الرفيع من سنة 699 - 733. تاريخ إفريقية في العهد الحفصي: 116 - 117. والأصل المعتمد في حرمة المناصب الشرعية التقيّد بالمصلحة الشرعية فيما نبّه إليه القرافي في فروقه كما ذكر ذلك المؤلف. (¬1) انظر الفرق بين قاعدة ما ينفذ من تصرّفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك وهو خمسة أقسام. القرافي: 4/ 39. (¬2) * هذا الحديث في الموطأ. وسيأتي ذكره في تعليقة في صفحة آتية. اهـ. تع ابن عاشور. [تقدم ذكره وتخريجه: 103/ 2، 520/ 2].

حديث ابن عمر: "كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه، وكانوا يضربون على ذلك" (¬1). وكما في العقود التي اؤتمن فيها الغيرُ على العمل في حق من ائتمنه. وقد يكون غير متعذر ولكن تصرّف صاحب الحق فيه يجعل الحق معرضاً للتلاشي. وقد تكونُ تلك الحقوق المؤتمنُ عليها متمحّضة لغير المُؤتمنِ عليها مثل حقوق المحاجير بالنسبة إلى أوصيائهم وآبائهم، وحقوق الولايا من النساء في النكاح بالنسبة لأوليائهن. وقد تكون مخلوطةً من حق المؤتمن ومن غيره كحقوق الأزواج بعضهم مع بعض، وحقوق القرابة من أبوّة وبنوّة، وحقوق الشركاء في الملك والتجارة كالمضاربة والارتواك (¬2) والصناع. فلتيسير سير الأعمال وإقامة المصالح على الوجه الأتمَ ائتمنت ¬

_ (¬1) تقدم الحديث وتخريجه: 486/ 2. (¬2) من روَك روكاً. راك أرض مصر: سجّلها، حدّدها، أقام حدودها. انظر: كاترميتر. تاريخ سلاطين المماليك: 1/ 132؛ 2/ 65. مال الرَوْك، مال مشترك. دوزي. تكملة المعاجم العربية: 1/ 572. وعلى ألسنة العَامة بتونس: الأمر روكة، أي بينهم. واستعمل هذا اللفظ الموثَّقون من العدول بتونس فقالوا: الارتواك، وأطلقوه على الحجة المكتوبة. ومن كلامهم في صفة كتب الارتواك. وصورته: اعترف فلان وفلان أن جميع ما تحت أيديهما من البقر والغنم وغيرها من سائر الحيوانات، وغيرها من الأثاث والعروض والناض وما يكسب ويتمول والزرع المبذور ... إنما هو بالسواء بينهما والإشاعة على وجه الارتواك لا فضل لواحد منهما على الآخر. التواتي. مجموع الإفادة في علم الشهادة: 129 - 130.

الشريعةُ أحد الفريقين على إقامة تلك الحقوق لامتزاج الحقين، وتكرر استعمالها في مختلف الأزمان والأمكنة والأحوال، بحيث كان جعلها بيد أحد مَن لهم فيها حق أَوْلى من جعلها بيد ثالث أو إقامة رقباء على تنفيذها. وجعلت الشريعةُ المؤتمنَ على هذه الحقوق هو أَوْلى صاحبَيْ الحق بمباشرته لكونه أدرى باستعماله، مثل حق تربية الأبناء في الصغر للأم، وفي اليفع للأب، وحق نظام المعاشرة الزوجية بيد الرجل لأنه أقرب إلى العدل بدائع الحب والنصح، وحق إقامة المنزل للمرأة، وحق إدارة الأعمال لعامل القراض وعامل المغارسة والمساقَى والمُزارع. ثم إن هذا الائتمان بعضُه مجعولٌ من قبل الشرع إما في أصل الحق مثل الآباء في أموال أبنائهم، وإما بطريق القضاء كجعل ناظر على الوقف كما سيأتي. وبعضُه يُجعلُ من صاحب الحق كالوكالة وعقود الشركات في القراض والمساقاة والوصاية بالنظر من الآباء على أبنائهم. وكل مُؤتمَن على حقّ فتصرّفُهُ فيه منوط بالمصلحة بحسب اجتهاده المستند إلى الوسائل المعروفة في استجلاب المصالح. فليس له أن يكون في تصرّفه جباراً ولا مضياعاً. فقد قال الله تعالى للأزواج: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1)، وقال للأوصياء: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (¬2). وقد بيَّن القرافي في الفرق الثالث والعشرين والمائتين: "أن كل من ولي ولاية من الخلافة إلى الوصية لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة. فهم معزولون عن ¬

_ (¬1) النساء: 19. (¬2) البقرة: 220.

المفسدة الراجحة والمصلحة المرجوحة والمساوية ولا مفسدة فيه ولا مصلحة. ولهذا قال الشافعي: لا يبيع الوصي صاعاً بصاع لأنه لا فائدة في ذلك" (¬1) اهـ. فإذا بدا من المؤتمَن خللٌ في تصرفه ليس على سبيل الفلتة، رجع النظرُ إلى القضاء بجعل الحقَّ تحت يد أمين على الجانبين، مثل جعل الزوجين إذا تضارّا تحت نظر أمين وأمينة، ومثل إقامة ناظر على الوقف إذا ساء تصرفُ الموقوف عليه فيه. وكذلك إقامة المقدمين الوقتيين لمحاسبة الأوصياء ونظار الأوقاف، ووضع المتنازع فيه الموقوف تحت يد أمين. وإذا عمت البلوى بسوء تصرُّف المؤتمنين فيما ائتمنوا عليه من الحقوق جاز للقضاء منعُهم من الاستبداد بالتصرّف فيها. وقد قال الشيخ ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬2) المقتضي تفويضَ ترشيد اليتيم إلى وصيه ما نصه: "قالت فرقة من أصحابنا: دفعُ الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده، أو يكون ممّن يأمنهُ الحاكم في مثل ذلك. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. والصواب في أوصياء زمننا أن لا يُستغنى عن رفعه إلى السلطان. وثبوت الرشد عنده، لما حُفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت" (¬3). اهـ. ومضى العمل أخيراً في تونس بما قاله ابن عطية. ¬

_ (¬1) تقدم: 519/ 1. (¬2) النساء: 6. (¬3) ابن عطية. المحرر الوجيز: (1) 3/ 500؛ 4/ 23 - 24. =

والنظر في تطبيق هذه الأنظار إلى غالب الأحوال العارضة للناس لا إلى النوادر والقضايا الفذة. بقي علينا إكمالُ القول في مقصد التعجيل بإيصال الحقوق إلى أصحابها، وهو مقصد من السمو بمكانة، فإن الإبطاء بإيصال الحق إلى صاحبه عند تعيّنه بأكثر مما يستدعيه تتبُّع طريق ظهوره، يثيرُ مفاسد كثيرة: منها حرمان صاحب الحق من الانتفاع بحقّه، وذلك إضرار به. ومنها إقرار غير المستحق على الانتفاع بشيء ليس له، وهو ظلم للمُحِق. وقد أشار إلى هذين قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). ومنها استمرار المنازعة بين المحقّ والمحقوق، وفي ذلك فسادُ حصول الاضطراب في الأمّة. فإن كان في الحق شبهةٌ للخصمين ولم يتّضِح المُحق من المحقوق، ففي الإبطاء مفسدةُ بقاءِ التردّد في تعيين ¬

_ = والأصل فيما تقرر هنا ما جرى من الخلاف بين الفقهاء في المحجور عليه كما ذكره المؤلف إذا كان له وصي من قبل الأب. هل يكفي إطلاق الوصي من الحجر دون مطالعة الحاكم، أو يلزمه استئذان الحاكم حتى يكون الإطلاق بإذنه؟ وهو ما فضل القول فيه مع بيان أسبابه القرافي في جوابه عن السؤال الثاني والثلاثين، حيث علل الرجوع فيه إلى القاضي بسبب كون الحكم يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد من عالم بصير، أو كون تفويضه لجميع الناس يفضي إلى الفتن والشحناء ونحو ذلك، أو كون الخلاف في الأمر قوياً يوجب افتقار ذلك للحاكم. الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: (2) 151 - 161. (¬1) البقرة: 188.

صاحب الحق. وقد يمتد التنازع بينهما في ترويج كلٍّ شبهتَه، وفي كلا الحالين تحصل مفسدةُ تعريض الأخوة الإِسلامية للوهن والانخرام. ومنها تطرق التهمة إلى الحاكم في تريّثه بأنه يريد إملال المحق حتى يسأمَ متابعةَ حقِّه فيتركه فينتفع المحقوق ببقائه على ظلمه، فتزول حرمة القضاء من نفوس الناس. وزوالُ حرمته من النفوس مفسدة عظيمة. فهذا تعليله من جهة المعنى والنظر. ووراء هذا أدلة من تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ففي الآثار الصحيحة الكثيرة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي بين الخصوم في مجلس المخاصمة الواحد ولم يكن يُرجئُهم إلى وقت آخر، كما قضى بين الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة (¬1) *، وكما قضى بين كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد بالصلح بينهما بالنصف في دين لكعب على ابن أبي حدرد (¬2) *. وكما قضى بين رجل ووالد عسيفه أي أجيره (¬3) * ¬

_ (¬1) * الحديث في الصحيحين: أنه اختصم الزبير وحميد الأنصاري في شراج من الحرة أي مسايل ماء بالحرة - أرض تحيط بالمدينة - كانا يسقيان به. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير: "اسق حتى يبلغ الماء الجدر أي جدر حوض النخل ثم أرسل إليه". اهـ. باختصار. اهـ. تع ابن عاشور. [تقدم الحديث وتخريجه 102/ 1]. (¬2) * حديثهما في الصحيحين. [تقدم: 112/ 4]. اهـ. تع ابن عاشور. (¬3) * في الموطأ أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم. قال: "تكلم". قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته فأخبرني أن على ابني الرجم. فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي. ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة =

بإبطال الصلح الواقع بينهما. وكما جاء في ذلك الحديث أن رسول الله قال لأنيس الأسلمي: "واغدُ يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها" (¬1) فاعترفت فرجمها, ولم يأمره أن يأتي بها إليه. وفي صحيح البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن قاضياً وأميراً، ثم أتبعه معاذ بن جبل. فلما بلغ معاذ وجد رجلاً مُوثَقاً عند أبي موسى فألقى أبو موسى لمعاذ وسادة وقال له: أنزل. قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد. قال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاءً لله تعالى (ثلاث مرات). فأمر به أبو موسى فقتل (¬2). وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري وهو قاضٍ بالبصرة، "فاقض إذا فهمت وأنفذ إذا قضيت" (¬3). فجعل القضاء ¬

_ = وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك"، وجلدَ ابنه مائة وغربه عامًا وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت يَرجمْها، فاعترفت فرجمها. قال مالك: العسيف الأجير. اهـ. تع ابن عاشور. [تقدم الحديث وتخريجه: 103/ 2، 520/ 2، 529/ 2]. (¬1) هو ذيل الحديث السابق وتمامه. (¬2) اختلفت رواية الحديث اختصاراً وطولاً ولفظاً. انظر من حديث أبي موسى: 88 كتاب الاستتابة، 2 باب حكم المرتد والمرتدة، ح 2. خَ: 8/ 51؛ 93 كتاب الأحكام، 12 باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإِمام الذي فوقه، ح 3. خَ: 8/ 108؛ انظر 33 كتاب الإمارة، 3 باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، ح 15. مَ: 1456 - 1457؛ حَم: 4/ 409، 5/ 231. (¬3) العبارة: فافهم إذا أدلي إليك بحجة، وأنفذ الحق إذا وضح ... الدارقطني. السنن: 4/ 206. =

بعد حصول الفهم وبدون تأخير, لأن شأن جواب الشرط أنه حاصل عند حصول الشرط، وأمره أيضاً بالتنفيذ عند حصول القضاء. وكل ذلك للتعجيل بإيصال الحق إلى صاحبه. وإنما قلت فيما تقدم: "بأكثر مما يستدعيه تتبع طريق ظهور الحق" لزيادة تقرير معنى قولي: "إيصال الحق إلى صاحبه" للاحتراز عما يتوهمه كثيرٌ من الضعفاء في العلم أو المرائين من ضعفاء القضاة من الاهتمام بالإكثار من إصدار الأقضية تفاخراً بكثرتها، في حين أنها لم يُستوف ما يجب استيفاؤه من طرق بيان الحق حتى يجدها متعقِبُها مختلةَ المبنى معرَّضةً للنقض. فليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محموداً إذا لم يكن الفصل قاطعاً لعود المنازعة، ومقنعاً في ظهور كونه صواباً وعدلاً. ولذلك قال عمر: "فاقض إذا فهمت". ولقد كانت طرق المرافعات في عهد النبوءة وما يليه بسيطة ¬

_ = وبلفظ: فافهم إذا أدلي إليك. البيهقي. السنن: 10/ 135، 150؛ معرفة السنن والآثار: 14/ 240. وبلفظ: فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا قضيت. ابن رشد. المقدمات: 2/ 268. وبلفظ: فافهم إذا أدلي إليك وأنفذ إذا تبيّن لك. ابن فرحون. تبصرة الحكام: 1/ 21. وبلفظ: فافهم إذا أدلى إليك الخصم بحجته، فاقض إذا فهمت، وأنفذ إذا قضيت. القرافي. الذخيرة: 10/ 71. فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 72. ابن حجر. التلخيص الحبير: 4/ 196، وقواه، ورد على ابن حزم علَّه إياه بالانقطاع.

جداً. فقد كان الناس يومئذ متخلقين بالتقوى والصدق والطاعة لولاة أمورهم. فكان الذي يتعدّى حدودَ الشريعة يأتي ممكَّناً من نفسه، كما في قضية ماعز الأسلمي إذ اعترف على نفسه بالزنا (¬1) *، وقضية الغامدية (¬2) *. وكان الذي يدعى إلى الانتصاف لدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده لا يتردّد في الاعتراف والصدق فيما يسأل عنه غالباً، وإذا أنكر فإنما ينكر عن شبهة لعدم تحقّقه أن طالبه محق. ¬

_ (¬1) * حديث ماعز في البخاري وغيره، وفي الموطأ في بعض الروايات أنه رجل من أسلم، وفي بعضها أن رجلاً - وقد فسروه بأنه ماعز - أنه أتى رسول الله فحدثه أنه زنى فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول الله فرجم. اهـ. تع ابن عاشور. [انظر 29 كتاب الحدود، 5 باب من اعترف على نفسه بالزنا ح 22، 23. مَ: 2/ 1321 - 1322. وماعز ثبت ذكره في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وفي حديث أبي بكر الصديق وأبي ذر وجابر بن سمرة وبريدة بن الخطيب وابن العباس ونعيم بن هزال وأبي سعيد الخدري ونصر الأسلمي وأبي برزة. ابن حجر. الإصابة: 3/ 337، ع 7587]. (¬2) * حديث الغامدية في صحيح مسلم والموطأ والبخاري: أن امرأة من غامد جاءت إلى رسول الله فأخبرته أنها زنت وهي حامل. فقال لها: "اذهبي حتى تضعي"، فلما وضعت جاءته فقال لها: "اذهبي حتى ترضعيه"، فلما أرضعته جاءت فقال: "اذهبي فاستودعيه"، فاستودعته ثم جاءت. فأمر بها فرجمت. اهـ. تع ابن عاشور. [لم أقف عليه عند البخاري. وانظر 29 كتاب الحدود، 5 باب من اعترف على نفسه بالزنا، ح 22 - 24. م: 2/ 1322، 1323؛ انظر 41 كتاب الحدود، 1 باب ما جاء في الرجم، ح 5. طَ 1/ 821 - 822. انظر الحديث عند ابن الطلاع، أقضية الرسول - صلى الله عليه وسلم -: 141 - 143].

وفي صحيح مسلم (¬1) * وأبي داود (¬2) * والترمذي (¬3) * أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحدهما كندي والآخر حضرمي. فادعى الحضرمي أن أبا الكندي غصب منه أرضاً، وقال الكندي: أرضي ورثتها من أبي. فسأل رسول الله الحضرمي: أله بيّنة، فقال: لا، ولكن يحلف لي أنه لا يعلم أن أباه غصبها مني، فترك الكندي اليمين (¬4). ولم يذكر مسلم ولا أبو داود ماذا قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما. وظاهره أنه قضى بتسليم الأرض للحضرمي، وأنه بمجرد نكول الكندي، ويحتمل أنه بيمينه. ثم إن الناس اجترؤوا على الحقوق تدريجاً، وابتكروا تحيّلات، وظهرت شهادة الزور في الإِسلام في آخر خلافة عمر، واستباحوا النكاية بخصومهم وإثارة الشغب، وكتموا أشياء في النوازل ليتوسلوا إلى تعطيل تنفيذ الأحكام عند صدورها، وتحيّلوا على القضاة إذا وجدوهم بحدثان الولاية فأعادوا لديهم خصومات اتصل بها قضاء من كان قبلهم من القضاة، فأخذ القضاة والعلماء يجعلون أساليب في إجراء الخصومات لقطع الشغب وتحقيق الحقّ. وأول ذلك البحثُ ¬

_ (¬1) * في كتاب الأيمان. اهـ. تع ابن عاشور. [حديث علقمة بن وائل عن أبيه. انظر 1 كتاب الإيمان, 61 باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، ح 223، 224. مَ: 1/ 123 - 124]. (¬2) * في كتاب الأقضية رواه مختصراً. اهـ. تع ابن عاشور. [انظر 23 كتاب الأقضية، 26 باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه، ح 3622، 3623. دَ: 4/ 42 - 43]. (¬3) * في أبواب الأحكام. اهـ. تع ابن عاشور. [انظر 13 كتاب الأحكام، 12 باب ما جاء في أن البيّنة على المدّعي واليمين على المدعى عليه، ح 1340. تَ: 3/ 625]. (¬4) تقدم: 102/ 2.

عن أحوال الشهود. وقد قال علماء المدينة: إن اليمين لا تتوجه على المدعى عليه حتى تثبت الخلطة أو يكون المدعى عليه ظنيناً، أي متهماً (¬1). وقد قال عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ¬

_ (¬1) في رسالة ابن أبي زيد: البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر. ولا يمين حتى تثبت الخلطة أو الظنّة. كذلك قضى حكام المدينة: 604 - 605. قال صاحب مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة: روى مالك في الموطأ عن حميد بن عبد الرحمن المؤذن أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز وهو يقضي بين الناس. فإذا جاءه الرجل يدعي على رجل حقاً نظر: فإن كانت بينهما مخالطة أو ملابسة أحلف الذي ادعي عليه. وإن لم يكن شيء من ذلك لم يحلفه. قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا. أحمد بن محمَّد بن الصديق: 203. وما ذكرناه هنا هو مشهور المذهب. وقد عدل عنه في العمل والإجراءات. ففي الطريقة المرضية في الاجراءات الشرعية: وأما يمين الإنكار فهي اليمين لرد دعوى مالية محققة، إذا عجز المدعي عن الاستظهار بالبيّنة. ولا يشترط في توجهها ثبوت الخلطة بين المتداعيين على ما جرى به العمل. ففي شرح ابن ناجي على الرسالة عند قولها: ولا يمين حتى تثبت الخلطة ما نصه: ما ذكره الشيخ هو المشهور. وقال ابن نافع: لا تشترط الخلطة، حكاه ابن زرقون ولم يحفظه أكثر شيوخ المذهب كابن حارث وابن رشد. قالا: مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة. ويقول ابن نافع، قال الأندلسيون: واستمر عليه العمل بإفريقية. اهـ. وزاد في شرح المدونة ما نصه: وأفتى شيخنا حفظه الله - لما كان بالقيروان - باشتراط ذلك في امرأة من وجوه الناس ادعي عليها. وأمر قاضيها بالحكم به، ففعل. وبه أفتى شيخنا أبو يوسف يعقوب الزغبي منذ مدة قريبة. اهـ. محمَّد العزيز جعيط: 92 - 93. وفي مواهب الخلاق تقرير القول وتفصيله باشتراط الخلطة وهو المشهور. وصار العمل بفاس على خلافه: ودون خلطة توجه اليمين ... على الذي عليه الإدعا يبين وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكم من المالكية. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة =

ما أحدثوا من الفجور" (¬1). ثم أضيفت إلى ذلك ضوابط كثيرة مفصلة في كتب النوازل. وقد اختص علماء المالكية بأفانين كثيرة في ذلك (¬2). ¬

_ = وغيرهما. وظاهر هذا العمل عدم التفريق بين ذوي العلا والمرأة المستورة المتحجبة. فلا تجب عليهما اليمين بالدعوى إلا بعد ثبوت الخلطة. قاله ابن عبد البر. وهو المعمول به، وإليه يشير الزقاق في لاميته بقوله: ولا خلطة لكن ببلدة يوسف ... يخص بها ذات الحجاب وذو العلا ونحوه لابن هلال عن ابن رشد، واختاره ابن رحال وهو الذي ينبغي اعتماده، إذ كثير من الناس يتجرأ على ذوي الفضل والدين ويريد إهانتهم بالأيمان في الدعاوى الباطلة. وقد شاهدنا من ذلك في هذا الزمان ما الله أعلم به. الصنهاجي: 1/ 168. وطريق إثبات الخلطة ما نبّه إليه الرعيني في كتاب الدعوى والإنكار حيث قال: وإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعي، ولم يكن للمدعي بيّنة على أصل حقّه، ولا أقرّ المدعى عليه بخلطة المدعي، فالذي يوجب اليمين على المدعى عليه أن يشهد عدلان حران لا مدفع للمدعى عليها فيهما، فيقولان: عرفنا هذين الشخصين يتبايعان مرتين أو ثلاثاً ولم نعلم على ما افترقا ... فإذا شهد الشاهدان بهذا وجبت اليمين على المدعى عليه. فإن حلف برئ، وإن نكل ردت اليمين على المدعي وإن لم يطلب ذلك المدعى عليه. وفسر أصبغ الخلطة، فلم ير الذين يصلون في مسجد واحد ولا الجلساء في الأسواق ولا الجيران خلطاء. ولم يرها إلا بتكرار المبايعة، ولذا فرق ابن رشد بين خلاطة المبايعة وخلطة المصاحبة والمؤاخاة. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 159. (¬1) انظر أعلاه: 25/ 1، 252/ 2. (¬2) وهكذا نجدهم ممن أكثروا التأليف في النوازل والأحكام متتبعين في كل طور أعراف الناس وعاداتهم، تاركين من وراءهم تراثاً قيماً ظهر متنوعاً ومتطوراً بين العدوتين وبالقيروان وتونس، متواصلاً غير منقطع من القرن =

وقديماً اتخذ قضاة الإِسلام دواوين لكتب ما يصدر عنهم من آجال، وقبول بيّنات ونحو ذلك، لتكون مذكرة للقاضي ولمن يجيء بعده، فيبني على فعل سلفه لكيلا تعود الخصومات أُنفاً، وربَما كتبوا ذلك كله بشهادة عدلين. ومن أحسنه كتابة الأحكام بشهادة العدول. ولا شك أن في كثير مما أحدثه العلماء تطويلاً في سير النوازل. ولكن طوله أقصر من التطويل الذي يحصل من مراوغات الخصوم، وتحيّلاتهم على إبقاء المتنازع فيه بأيديهم. ومن أحسن الوسائل للتعجيل بالفصل بالحقّ وإظهاره، تعيينُ المذهب الذي يكون به الحكم، وتعيين القول من أقوال أهل العلم. ومن أحسن الوسائل أيضاً ما ثبت في المذهب المالكي من توقيف المدَّعى فيه إذا قامت البيّنة ولم يبق إلا إكمالها وهو المسمى بالعقلة (¬1). وهي جارية على قول مالك في الموطأ ومضى به العمل ¬

_ = الثالث إلى الرابع عشر. فظهرت جملة من كتب النوازل والأجوبة، نعد منها: نوازل عيسى بن دينار، وأجوبة سحنون، وأجوبة القرويين، وأجوبة الداودي، ونوازل ابن أبي زمنين، وأجوبة ابن رشد، ونوازل ابن الحاج، ونوازل البرزلي، والمازوني، وابن عرضون، وابن هلال، ومعيار الونشريسي، وأجوبة أبي السعود الفاسي، ونوازل بردلة، والمسناوي، والعباسي، والنوازل الكبرى والصغرى للمهدي الوزاني. انظر تقديم نوازل العلمي: 9 - 10. (¬1) العقلة، وتسمى الحيلولة والإيقاف، هي منع من بيده الشيء المتنازع فيه من التصرّف فيه إمّا منعاً كاملاً، أو من بعض التصرّف كالاستغلال والانتفاع، أو من التفويت لإثبات دعواه. ولا بد فيها من ضرب أجل فإن لم يأت عنده بشيء رجع المتنازع فيه إلى من كان بيده. وتوقيف الشيء =

بناء على أن الغلة لصاحب الشبهة إلى يوم الثبوت لا إلى يوم الحكم (¬1)، فإن إيقاف المتنازع فيه يحصل به تعطيل مفسدة استمرار ¬

_ = المدعى فيه أو العقلة يكون على ثلاثة أنواع, لأن المدعى فيه إما أن يكون عقاراً أو حيواناً أو شيئاً يسرع إليه الفساد. والاعتقال أو التوقيف لا يكون بمجرد دعوى الخصم في الشيء المدعى فيه، ولا يعقل على أحد شيء بمجرد دعوى الغير فيه حتى ينضم إلى ذلك سبب يقوي الدعوى أو لطخ. والسبب كالشاهد العدل أو المرجو تزكيته، واللطخ: الشهود غير العدول. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 143. وفي كلام ابن عاصم وابن الحاجب أن العقلة تجري في الأصول ولو بقيام شاهد واحد يفتقر للتزكية. وقال ابن عبد السلام: إنما تكون شاهدين باتفاق أو بشاهد واحد مقبول ولم يرد المستحق أن يحلف معه. وذكر أن له شاهداً آخر. وعند ابن بطال لا تجب العقلة إلا بشاهدين، وقال ابن زرب: كل ما يغاب عليه من العروض وغيرها يوقف بشاهد عدل بخلاف العقار لا يعقل إلا بشاهدين بملكية الشيء المتنازع فيه للمدعي وحيازتهما ببيانهما حدود المشهود بملكه معاينة. وفي غير الأصول تقع العقلة بمجرد الدعوى عند خوف الفتنة والتفويت. الصنهاجي: 2/ 60 - 61. (¬1) يشير المؤلف بهذا إلى ما ورد في الشرح الصغير قال: ذو الشبهة كوارث غير الغاصب وموهوبه، ومشتر ولو من الغاصب إن لم يعلما. والمستحق ليس له الإكراء سنة، وليس له قلع الزرع لأن الزارع غير متعد، فإن فات الإبان فليس للمستحق شيء لأن الزارع قد استوفى منفعتها، والغلة لذي الشبهة أو المجهول حاله قبل الحكم بالاستحقاق على من هي بيده. الدردير: 3/ 615؛ الدسوقي. حاشية على الشرح الكبير: 3/ 461؛ الشيباني. تبيين المسالك: 4/ 131. ويؤكد هذا الرأي ما أورده الإِمام مالك: 35 كتاب الشفعة، 2 باب ما لا تقع فيه الشفعة، ح 4. وفيه: قال مالك في الرجل يشتري أرضاً فتمكث في يديه حيناً، ثم يأتي رجل فيدرك فيها حقا بميراث، أن له الشفعة إن =

الظالم على ظلمه قبل تمكين المُحقِّ بِحقّه. ويحصل به الإسراعُ بإيصال الحق إلى مستحقه عند القضاء, لأن كثيراً من أهل الشغب يعمدون إلى تغييب المدَّعى فيه عند صدور الحكم بنزعه من أيديهم أو إقامة شخص آخر يزعم أنه صاحب اليد إعناتاً للمحكوم له بتعطيل التنفيذ. ¬

_ = ثبت حقه، وأن ما أغلّت الأرض من غلة فهي للمشتري الأول إلى يوم يثبت حقّ الآخر لأنه قد كان ضمنها لو هلك ما كان فيها من غراس أو ذهب به سيل. طَ: 2/ 717، 718. وفي قضية الضمان هذه وقضية الاستحقاق كلام طويل أورده ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد في بيان الحد الذي يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان المستحق، وتكون الغلّة له ويجب التوقيف به، وقد حكيا في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يدخل في ضمانه، ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به. وهو وفق ما ورد في المسألة أعلاه وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن يدخل في ضمانه وتكون له الغلّة ويجب توقيفه وقفاً يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشهادة شاهدين أو شاهد وامرأتين وهو ظاهر قول مالك في موطئه، وقول غير ابن القاسم في المدونة. والقول الثالث: أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلّة والتوقيف بشهادة شاهد واحد وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح. ابن رشد الجد. المقدمات: 2/ 509 - 510؛ ابن رشد الحفيد. البداية: 2/ 270. وجملة هذه الآراء أوردها البناني في شرحه للمختصر: 7/ 181. ولهذه المسألة علاقة بالتفريق بين قاعدتين: قاعدة الحكم وقاعدة الثبوت يحسن الوقوف عليه. انظر القرافي. الفرق 225، الفروق: 4/ 54, 55؛ المسألة الثلاثون، كتاب الإحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام: (2) 142 - 146؛ ابن فرحون. فصل في الفرق بين الثبوت والحكم، التبصرة: 91 - 93.

ومقصد الشريعة من الشهود: الإخبارُ عما يبيّن الحقوق وتوثيقها (¬1) *. فلذلك كان المقصد منهم أن يكونوا مظنة الصدق فيما يخبرون به بأن يكونوا متصفين بما يزَعهم عن الكذب. والوازع أمران: ديني وهو العدالة، وخلقي وهو المروءة. فالعدالة لا تختلف إلا باختلاف مذاهب أهل العلم في اعتبار بعض الأعمال دليلاً على ضعف الديانة إذا كان الاختلاف في ذلك بين العلماء وجيهاً، وبحسب ما غلب على الناس المشهود بينهم من تقلد بعض مذاهب أهل العلم. ويعرض في هذا أن يقوم أمام الوازع ما يوجبُ ضعفَه مثل شدّة المحبة وشدّة البغضاء فإنهما يضعفان الوازع الديني، ومنها القرابة. وبمقدار ضعف الوازع يتعين التحرّي في صفات الشهود. وأما الوازع الخلقي: فمنه، لا يختلف وهو ما كان منبئاً بالدلائل النفسانية. ومنه ما يختلف باختلاف العادات، ولا ينبغي الاعتناء به في علم المقاصد، كما قيل في المشي حافياً في قوم لا ¬

_ (¬1) * أشرت إلى نوعي الشهادة، وهما: الاسترعاء والتحمل. اهـ. تع ابن عاشور. [شهادة الاسترعاء هي شهادة الشاهد بما في علمه من عسر أو يسر أو حرية أو ملك أو غير ذلك. وهي بهذا عكس الشهادة الأصلية, لأن هذه تكون بما يمليه المشهود عليه على الشاهد، كإشهاد المتعاقدين بالبيع أو النكاح أو غيرهما، جعيط: 149. والتحمل لغة: الالتزام، وشرعاً: علم ما يشهد به، وهو مأمور به شرعاً، إعانة على الخير والبر. الرصاع. شرح حدود ابن عرفة: 2/ 594. وهو فرض كفاية إن احتيج إليه، بأن خيف بتركه ضياع حق مالي أو غيره. الدردير. الشرح الصغير: 4/ 284]

يفعلون ذلك، والأكل في الطريق بين قوم يستبشعون ذلك. والمجال في هذا فسيح. والمقصد لتوثيق الحقوق المشهود بها ضبطُها وأداؤها عند الاحتياج إليه. وذلك يقتضي كتابة ما يشهد به الشهود، إذا كان الحق من شأنه أن يدوم تداولُه مدةً يبيد في مثلها الشهود. فلذلك تعيّنت مشروعية كتابة التوثقات. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (¬1). فهذا أصل عظيم للتوثيق، ولذلك ابتدئ العملُ به من عهد النبوة. ففي جامع الترمذي وسنن ابن ماجه عن العداء بن خالد: أنه اشترى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبداً أو أمة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب له: "هذا ما اشترى العداء بن خالد من محمَّد رسول الله" (¬2) ... إلخ. وقد تقدم في مقصد التصرفات المالية (¬3). واتصل عملُ المسلمين في الأقطار كلها بكتابة التوثقات في المعاملات كلها، مثل رسوم الأملاك والصدقات، وكذلك إثبات صحة رسوم التملك والتعاقد بمثل وضع الختم والخطاب عليها إعلاماً بصحتها. ¬

_ (¬1) البقرة: 282. (¬2) تقدم تخريجه: 484/ 3. (¬3) انظر أعلاه: 484/ 3.

يه - المقصد من العقوبات

يه - المقصد من العقوبات لقد بيّنتُ في مبحث أن الشريعة ليست بنكاية، وأن جميع تصرّفاتها تحوم حول إصلاح حال الأمة في سائر أحوالها. وأجملت القول هنالك بأن الزواجر والعقوبات والحدود ما هي إلا إصلاحٌ لحال الناس. ويجب أن نبسط القول هنا في مقصد الشريعة من العقوبات، من قصاص وحدود وتعزير. وذلك أن من أكبر مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة، وليس يُحفظ نظامُها إلا بسدّ ثلمات الهرج والفتن والاعتداء. وأن ذلك لا يكون واقعاً موقعَه إلا إذا تولته الشريعة ونفذته الحكومة، وإلّا لم يزدد الناسُ بدفع الشر إلا شراً كما أشار إليه قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬1). وقد قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} إلى أن قال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (¬2) كلاماً مسوقاً مساق الإنكار والتهديد على كل من يهمس بنفسه حب تلك الحالة، وإن كان سبب النزول خاصاً. ومن جملة حكم الجاهلية تولّي المجني عليه الانتقام، كما قال الشميذر الحارثي: فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّةً ... فنقبلَ ضَيماً أو نحكّم قاضيا ¬

_ (¬1) الإسراء: 33. (¬2) المائدة: 50.

ولكنّ حكمَ السيف فينا مسلّط ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا (¬1) فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزير وأروش الجنايات ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجني عليه، وزجر المقتدي بالجناة. فالأول وهو التأديب راجع إلى المقصد الأسمى. وهو إصلاح أفراد الأمة الذين منهم يتقوم مجموع الأمة كما قدمناه في البحث المتعلق بالمقصد العام من التشريع (¬2). وقد قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (¬3). فبإقامة العقوبة على الجاني يزول من نفسه الخبث الذي بعثه على الجناية، والذي يظن أن عمل الجناية أرسخه في نفسه إذ صار عملياً بعد أن كان نظرياً. ولذلك فرعّ الله تعالى على إقامة الحد قولَه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (¬4). وأعلى التأديب الحدودُ, لأنّها مجعولة لجنايات عظيمة. وقد قصدت الشريعةُ من التشديد فيها انزجار الناس وإزالة خبث الجاني. ولذلك متى تبيّن أن الجناية كانت خطأ لم يثبت فيها الحد. ومتى ظهرت شبهةٌ للجاني فقد التحقت بالخطأ فتسقط الحدود بالشبهات. ثم إذا ظهر في الخطأ شيء من التفريط في أخذ الحذر يؤدَّب المفرّطُ بما يفرض من الأدب لمثله. وأما إرضاء المجني عليه فلأن في طبيعة النفوس الحنَق على من ¬

_ (¬1) تقدَّم: 166. (¬2) انظر أعلاه: 232. (¬3) المائدة: 38. (¬4) المائدة: 39.

يعتدي عليها عمداً، والغضبَ ممن يعتدي خطأ. فتندفع إلى الانتقام، وهو انتقام لا يكون عادلاً أبداً, لأنه صادر عن حنق وغضب تختل معهما الرويّة، وينحجب بهما نور العدل. فإن وجد المجنيُّ عليه أو أنصارهُ مقدرةً على الانتقام لم يتأخروا عنه، وإن لم يجدوها طوَوا كشحاً على غيظٍ حتى إذا وجدوا مكنة بادروا إلى الفتك. كما قال الله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬1)، فلا تكاد تنتهي الثارات والجنايات ولا يستقر حالُ نظام للأمة. فكان من مقاصد الشريعة أن تتولّى هي هذه الترضيةَ، وتجعل حداً لإبطال الثارات القديمة. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: "وإن دماء الجاهلية موضوعة" (¬2). وقد كان مقصد إرضاء المجني عليه مع العدل ناظراً إلى ما في نفوس الناس من حب الانتقام. فلذا أبقت الشريعةُ حقَّ تسلّم أولياء القتيل قاتلَ صاحبهم بعد الحكم عليه من القاضي بالقتل فيقودونه بحبل في يده إلى موضع القصاص تحت نظر القضاء، وهو المسمّى بالقَوَد، ترضية لهم بصورة منزهة كما كانوا يفعلونه من الحكم عليه بأنفسهم. وهذا المعنى - الذي هو إرضاءَ المجني عليه - أعظمُ في نظر الشريعة من معنى تربية الجاني، ولذلك رجّح عليه حين لم يمكن الجمعُ بينهما وهي صورة القصاص. فإن معنى إصلاح الجاني فائت فيها، ترجيحاً لإرضاء المجني عليه. ولذلك لا ينبغي أن يختلف العلماء خلافهم المعروف في مسألة رضي أولياء الدّم بالصلح بالمال عن القصاص إذا كان مال الجاني ¬

_ (¬1) الإسراء: 33. (¬2) انظر 15 كتاب الحج، 19 باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطبة حجة الوداع، ح 147. مَ: 1/ 886 - 892.

يفي بذلك. وكان الأرجح فيها قول أشهب: إن القاتل يجبر على دفع المال، خلافاً لابن القاسم (¬1). ولذلك لم يختلفوا في أن عفو بعض الأولياء عن الدم يسقط القصاص. وهذا كله في غير القتل في الحرابة وغير الغيلة كما سنشير إليه. وأما الأمر الثالث - وهو: زجر المقتدي - فهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). قال ابن العربي في أحكام القرآن: "إن الحد يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتَّعِظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبرُ به مَن بعدَه" (¬3). وهو راجع إلى إصلاح مجموع الأمة، فإن التحقّق من إقامة العقاب على الجناة على قواعد معلومة يؤيس أهل الدعارة من الإقدام على إرضاء شياطين نفوسهم في ارتكاب الجنايات، فكل مظهر أَثَّرَ انزجاراً فهو عقوبة. لكنه لا يجوز أن يكون زجر العموم بغير العدل. ¬

_ (¬1) في مواهب الجليل: إذا وقعت الجناية من مكلف فالواجب في ذلك عند ابن القاسم: القود، وهو القصاص. وليس لورثة القتيل أن يعفوا على الدية. وليس للمجني عليه أن يعفو في الجراح على الديّة. وقال أشهب: الواجب التخيير بين القصاص والديّة. وهو اختيار جماعة من المتأخرين إعمالاً للحديث الصحيح: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين". وقال أشهب: إن طلب الأولياء منه الديّة فإنه يجبر على ذلك إن كان ملياً. وقال ابن يونس: قال مالك: وقاتل العمد، يطلب منه الأولياء الدية فيأبى إلا أن يقتلوه، فليس لهم إلا القتل، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} البقرة: 178. وقال أشهب: ليس له أن يأبى، ويجبر على ذلك إن كان ملياً. وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه جعل للأولياء إن أحبوا أن يقتلوا فليقتلوا وإن أحبوا أخذوا الديّة". الحطاب: 6/ 234. انظر ابن رشد. البيان والتحصيل: 15/ 446؛ المقدمات: 3/ 288، 289. (¬2) النور: 2. (¬3) المسألة الثامنة في بداية تفسير النور. ابن العربي. الأحكام: 3/ 1327.

فلذلك كان من حكمة الشريعة أن جعلت عقوبة الجاني لزجر غيره، فلم تخرج عن العدل في ذلك. فإذا كان من شأن الشريعة إقامةُ الحدود والقصاص والعقوبات حصل انزجار الناس عن الاقتداء بالجناة. وليس عفو المجني عليه في بعض الأحوال بمفيت فائدة الانزجار لندرة وقوعه، فلا يكون عليه تعويل عند خطور خاطر الجناية بنفس مضمر الجناية. ولهذا السبب نرى الشريعة لا تعتبر العفو في الجنايات التي لا يكون فيها حقّ لأحد معيّن، مثل السرقة وشرب الخمر والزنا، فإن فيها انتهاكاً لكيان التشريع، وكذلك الحرابة. وأما قتل الغيلة فلم يقبل فيه عفو الأولياء لشناعة جنايته، وإنما قبلت توبة المحارب قبل القدرة عليه حرصاً على الأمن وحثّاً لأمثاله على الأسوة الصالحة. وقد تم ما تعلق به الغرض المهمّ من إملاء مقاصد الشريعة، وعسى أن تنفتح به بصائر المتفقهين إلى مدارك أسمى، وتشتدّ به سواعد حزامتهم لأبعد مرمى. فإن التيسير من الله مساعف أجمل المقاصد، وإن الغائص المليء خليق بأن يسمو بالفرائد. وكان تمام تبيضيه في 8 شهر جمادى الأولى عام ستين وثلاثمائة وألف، بمنزلي بمرس جراح المعروف بالعبدلية. قاله محمَّد الطاهر ابن عاشور. * * * هذه مقاصد الشريعة الإِسلامية للإمام الأكبر شيخ الإِسلام محمَّد الطاهر ابن عاشور. أقام رحمه الله أصولها وأتبعها بما زانها من تحديد وتفصيل وتحقيق وتقرير. فملأ قلوب الدارسين إيماناً، وزادهم علماً وفهماً لأحكام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فاستنارت بها عقولنا وانشرحت بها صدورنا، ودَلَّنا المؤلَّف على ما انتظمته الشريعة من بيان للناس وهدى وحكمة كانت بها ظاهرة على ما دونها من القوانين والأحكام. قل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ

إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1) ¬

_ (¬1) الأنعام: 114 - 115.

ثبت جملة من المراجع

ثَبت جملَة من المراجع (¬1) الأبي (صالح عبد السميع) - الثمر الداني في تقريب المعاني شرح الرسالة، لابن أبي زين القيرواني. الإبراهيمي (محمَّد طالب) - آثار الإِمام محمَّد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1997 م، (5) أجزاء. ابن أبي الضياف (أحمد) - إتحاف أهل الزمان بأخبار ملاك تونس وعهد الأمان، الدار التونسية للنشر، ط (2) دار القلم، تونس، (8) أجزاء. ابن أبي زيد (أبو محمَّد) - الرسالة الفقهية، مع شرح غريبها لابن جماعة، دار الغرب الإِسلامي، ط (1). ابن أبي شيبة (عبد الله بن محمَّد) - المصنف، تحقيق أحمد الندوي، الدار السلفية، بومباي 1403 هـ / 1983 م. ابن أبي طالب (علي) - نهج البلاغة مع شرح ابن أبي الحديد، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي القاهرة، 1378 هـ / 1959 م. ابن أبي يعلى (أبو الحسين محمَّد) - طبقات الحنابلة، تحقيق محمَّد حامد الفقي، ط. أنصار السنة المحمدية بالقاهرة، 1371 هـ. ابن الأثير (المبارك بن محمَّد) - جامع الأصول، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1403 هـ/ 1989 م. ¬

_ (¬1) لم تتم مراجعة هذه المراجع على الوجه المطلوب، وأملنا أن نتدارك ذلك في الطبعة القادمة.

- النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق محمود محمَّد الطناحي وطاهر أحمد الزاوي، دار إحياء الكتب العربية 1963 م. ابن الأثير (ضياء الدين) - المثل السائر، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة البابي بالقاهرة 1358 هـ. ابن الأثير (علي بن محمَّد عز الدين) - الكامل في التاريخ, دار الكتاب العربي، بيروت. ابن التغري بردي (يوسف) - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، المؤسسة المصرية العامة للنشر، بدون تاريخ. ابن الجوزي. - مناقب عمر بن الخطاب، ليبسك برلين 1955 - 1899 م. ابن الحاجب (عثمان بن عمر) - شرح الكافية في النحو، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 1402 هـ / 1982 م. - منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل. ابن الخوجة (الجنرال محمَّد) - تاريخ معالم التوحيد في القديم والجديد، المطبعة التونسية 1358 هـ / 1927 م. ابن الخوجة (محمَّد الحبيب) - الجانب اللغوي والبياني في التحرير والتنوير، بحث مقدم لمجمع اللغة العربية، القاهرة. - الخراج والعشر، بحث مقدم لمجمع الفقه الإِسلامي بالهند، نيودلهي. - دفتر شهادات. - شيخ الإِسلام وشيخ الجامع الأعظم محمَّد الطاهر ابن عاشور، جوهر الإِسلام، السنة العاشرة عدد 3. ابن الساعاتي (أحمد عبد الرحمن البنا) - الفتح الرباني ترتيب مسند الإِمام شرحه بلوغ الأماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ. ابن الصديق (أحمد بن محمَّد) - مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة، دار العهد الجديد، مصر، الطبعة (1) 1374 هـ/ 1954 م.

ابن الطلاع (أبو عبد الله المالكي) - أقضية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تحقيق محمَّد ضياء الرحمن، الأعظمي، دار الكتاب المصري 1398هـ / 1978 م. ابن العربي (أبو بكر محمَّد بن عبد الله) - أحكام القرآن، تحقيق علي محمَّد البجاوي، دار الجيل، بيروت 1407 هـ / 1987 م. - عارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. - العواصم من القواصم، تحقيق محب الدين الخطيب، بيروت، المكتبة العلمية، 1406 هـ / 1986 م. - القبس شرح الموطأ، تحقيق محمَّد عبد الله ولد كريم، ط (1) 1992 م، دار الغرب الإِسلامي، بيروت. ابن العماد (عبد الحي) - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تصحيح حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة 1350 هـ. ابن القيم (محمَّد بن أبي بكر) - إعلام الموقعين، دار الجيل، بيروت، بدون تاريخ. - زاد المعاد، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (8) 1405 هـ/ 1985 م. - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تصحيح الحساني عبد الله، مطبعة أنصار السنة المحمدية، القاهرة، ط (2) 1975 م. ابن النجار (محمَّد بن أحمد) - شرح الكوكب المنير، تحقيق محمَّد الزحيلي ونزيه حماد، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ط (1) 1400 هـ / 1980 م. ابن النحاس (أحمد بن محمَّد) - شرح القصائد المشهورات الموسومة بالمعلقات، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1) 1405 هـ / 1985 م. ابن الهمام (كمال الدين محمَّد بن عبد الواحد) - تيسير التحرير في أصول الفقه ط. الحلبي بمصر، 1351 هـ / 1932 م. - فتح القدير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ. - شرح المسايرة لكتاب المسامرة، ط (1) بولاق.

ابن الوكيل (محمَّد بن عمر بن مكي) - الأشباه والنظائر، تحقيق أحمد بن محمَّد العنقري وعادل بن عبد الله الشويخ، رسالة ماجستير بكلية الشريعة بجامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية 1404 - 14 - 5 هـ. ابن باديس (عبد الحميد) - مقالة في مجلة الشهاب 11 رجب 1349 هـ/ ديسمبر 1930 م. ابن برد (بشار) - الديوان، نشر وشرح محمَّد الطاهر ابن عاشور، لجنة التأليف والترجمة والنشر، تونس، الطبعة الأولى 1950 م. ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم) - الحسبة في الإِسلام، تحقيق سيد محمَّد أبو سعدة، دار الأرقم بالكويت، ط. الأولى 1403 هـ/ 1983 م. - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكتاب العربي، مصر، ط (2) 1371 هـ / 1972 م. - مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمَّد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط، بدون تاريخ. ابن جزي (محمَّد بن أحمد) - القوانين الفقهية، دار الثقافة، الرباط، 1969 م. ابن حبان (محمَّد بن حبان) - صحيح ابن حبان مع الإحسان, تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. الثانية 1993 م. ابن حجر (أحمد بن علي) - بلوغ المرام، تحقيق رضوان محمَّد رضوان، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. - الإصابة في تمييز الصحابة، ط. مولاي عبد الحفيظ، القاهرة 1328 هـ. - التلخيص الحبير، تحقيق عبد الله هاشم اليماني، مكتبة اليماني، المدينة المنورة، ط. الأولى 1964 م. - الدراية في تخريج أحاديث الهداية، تصحيح عبد الله هاشم اليماني، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ.

- فتح الباري، ترقيم محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، بدون تاريخ، توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية. ابن حزم (علي بن أحمد) - الإحكام في أصول الأحكام، بيروت، دار الكتب العلمية 1405 هـ / 1985 م. - الإعراب عن الحيرة والالتباس الواقعين في مذهب أهل الرأي والقياس. - المحلى، تحقيق أحمد محمَّد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، بدون تاريخ. - ملخص إبطال القياس، تحقيق سعيد الأفغاني، ط. جامعة دمشق. ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمَّد) - المقدمة، لجنة البيان العربي بالقاهرة، ط (2) 1967 م. - المقدمة، تحقيق د/ درويش جويدي، المكتبة العصرية، بيروت. ابن خلكان (أحمد بن محمَّد) - وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. ابن دقيق العيد (محمَّد بن علي) - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة 1340 هـ. ابن راشد (محمَّد بن عبد الله) - الفائق في الأحكام والوثائق، مخطوط تونس. ابن رجب (عبد الرحمن) - جامع العلوم والحكم، المؤسسة السعيدية، الرياض، بدون تاريخ. - القواعد، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. ابن رشد الحفيد (محمَّد بن أحمد) - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار المعرفة، بيروت 1402 هـ / 1982 م. - البيان والتحصيل، تحقيق محمَّد حجي وغيره، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، ط (2) 1408 هـ/ 1988 م. - المقدمات، مطبعة السعادة بمصر، تصوير دار صادر، بدون تاريخ. ابن رشيق - العمدة، ط. مصر 1383 هـ / 1963 م. ابن سعد (محمد بن سعد) - الطبقات الكبرى, دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1380 هـ/ 1960 م.

ابن سيدة (علي بن إسماعيل) - المحكم الوسيط الأعظم، تحقيق د/ مراد كامل، ط (1) 1392 هـ، الحلبي بمصر. ابن سينا (الحسين بن عبد الله) - الشفاء، تحقيق مجموعة من المحققين، تصوير بيروت، بدون تاريخ. ابن شاس (عبد الله بن نجم) - عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، تحقيق محمَّد أبو الأجفان وعبد الحفيظ منصور، ط. الأولى 1415 هـ/ 1995 م، دار الغرب الإِسلامي، بيروت. ابن عابدين (محمَّد الأمين بن عمر) - رد المحتار، طبع بولاق 1272 هـ، تصوير دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ. ابن عاشور (محمَّد الطاهر) - أصول الإنشاء والخطابة، تونس 1920 - 1921 م. - أصول النظام الاجتماعي في الإِسلام، الشركة التونسية للتوزيع 1977 م. - اليس الصبح بقريب، تونس ط (2) 1408 هـ / 1988 م، الشركة التونسية. - التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، ط (2) 1984 م. - تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة، الشركة التونسية للتوزيع، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر. - دفتر شهادات. - كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا، الشركة التونسية للتوزيع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر. - مقاصد الشريعة الإِسلامية، (1) الاستقامة، تونس، (2) الشركة التونسية للتوزيع. - مقدمة ديوان بشار بن برد، الشركة التونسية للتوزيع، ط (2) 1976 م. - النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، 1399 هـ / 1979 م. ابن عاشور (محمَّد العزيز) - دائرة المعارف التونسية، تونس 1995 م.

ابن عاشور (محمَّد الفاضل) - تراجم الأعلام، الدار التونسية للنشر. - الحركة الفكرية والأدبية في تونس. ابن عبد البر (يوسف بن عبد الله) - الاستذكار، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار قتيبة بدمشق، ودار الوعي بحلب، ط (1) 1414 هـ / 1993 م. - الاستيعاب في معرفة الأصحاب على هامش الإصابة لابن حجر، طبعة مولاي عبد الحفيظ، القاهرة 1328 هـ. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ط. وزارة الأوقاف المغربية 1411 هـ. - جامع بيان العلم وفضله، تصحيح عبد الرحمن محمَّد عثمان، مطبعة العاصمة القاهرة، ط (2) 1388 هـ. - الكافي، تحقيق محمَّد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ط (1) 1398 هـ. ابن عبد الرفيع (إبراهيم بن حسن) - معين الحكام، تحقيق محمَّد بن قاسم بن عباد، دار الغرب الإِسلامي، بيروت 1989 م. ابن عبد السلام (عز الدين عبد العزيز) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام (القواعد الكبرى)، (1) مراجعة وتعليق طه عبد الرؤوف، دار الشروق، القاهرة 1388 هـ، (2) تحقيق نزيه كمال حماد وعثمان جمعة ضميرية، دار القلم، دمشق. ابن عبد ربه - العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1384 هـ / 1965 م، تصوير دار الكتاب العربي، بيروت. - أيام العرب في الجاهلية. ابن عدي (عبد الله) - الكامل في ضعفاء الرجال، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ/ 1984 م.

ابن عصفور (علي) - المغرب، تحقيق أحمد الجواري وعبد الله الجبوري، الطبعة الأولى 1392 هـ/ 1972 م، مطبعة العاني، بغداد. ابن عطية (عبد الحق) - المحرر الوجيز، تحقيق مجموعة من المحققين، وزارة الأوقاف الإِسلامية بقطر، 1398 هـ / 1977 م. ابن عقيل. - شرح ألفية ابن مالك، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، الطبعة السادسة عشرة، بدون تاريخ. ابن فارس (أحمد) - مجمل اللغة، تحقيق زهير سلطان، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ / 1984 م. - معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط (1) 1371 هـ. ابن فرحون (إبراهيم بن علي) - تبصرة الحكام، على هامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإِمام مالك لعليش، طبع بيروت، بدون ناشر وتاريخ. - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، تحقيق محمَّد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة، بدون تاريخ. ابن قاضي سماوة (محمود بن إسرائيل) - جامع الفصولين، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق بمصر، ط (1) 1301 هـ. ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم) - تأويل مختلف الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. ابن قدامة (عبد الله بن أحمد) - روضة الناظر، المطبعة السلفية، مصر. - الشرح الكبير، مطبعة المنار، القاهرة 1341 هـ. - المغني، تحقيق عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، القاهرة، ط (1) 1406 هـ / 1986 م. ابن كثير (إسماعيل بن عمر) - البداية والنهاية، مطبعة السعادة، القاهرة 1351 هـ - 1358 هـ.

ابن ماجه (محمَّد بن يزيد) - السنن, موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، ط (2) 1413 هـ/ 1992 م. ابن مالك (محمَّد بن عبد الله) - تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تحقيق محمَّد كامل بركات، دار الكاتب العربي، مصر 1387 هـ / 1967 م. - شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ، تحقيق عدنان الدوري، مطبعة العاني، بغداد 1397 هـ / 1977 م. - شرح الكافية الشافية، تحقيق عبد المنعم هريدي، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى 1402 هـ / 1982 م. ابن مفلح (إبراهيم بن محمَّد) - المبدع شرح المقنع، المكتب الإِسلامي، دمشق، ط (1) 1394 هـ / 1974 م. ابن منظور (محمَّد بن مكرم) - لسان العرب، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. ابن نجيم (ربن العابدين بن إبراهيم) - الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، بيروت 1400 هـ/ 1980 م. - البحر الرائق، المطبعة العلمية، القاهرة، الطبعة الأولى 1310 هـ. - فتح الغفار بشرح المنار، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1355 هـ / 1936 م. ابن هبيرة (يحيى بن محمَّد الحنبلي الوزير) - الإفصاح عن معاني الصحاح، المؤسسة السعيدية بالرياض 1398 هـ. ابن هشام (عبد الملك بن يوسف) - أوضح المسالك، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الخامسة 1386 هـ، مطبعة السعادة بمصر. - تلخيص الشواهد. - السيرة، تحقيق مصطفى السقا وغيره، دار القلم، بيروت، بدون تاريخ. أبو العينين (بدران) - أصول الفقه، مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية 1985 م. أبو الفداء (إسماعيل بن علي) - المختصر في أخبار البشر، طبع إستانبول 1286 هـ. أبو الوفاء الأفغاني - مقدمة أصول السرخسي، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ.

أبو تمام - ديوان الحماسة، مخطوط. أبو داود (سليمان بن الأشعث) - السنن, موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، ط (2) 1413 هـ/ 1992 م. أبو زهرة (محمَّد) - أصول الفقه، دار الفكر العربي، القاهرة، بدون تاريخ. أبو عبيد (القاسم بن سلام) - الأمثال، تحقيق عبد المجيد قطامش، مجمع اللغة العربية، دمشق، الطبعة الأولى، 1400 هـ / 1980 م. - الأموال، تحقيق محمَّد خليل هراس، تصوير دار الفكر، بيروت 1408 هـ / 1988 م. أبو فارس (محمَّد عبد القادر) - القاضي الفراء وكتابه الأحكام السلطانية، مؤسسة الرسالة، ط (2)، بيروت 1403 هـ / 1983 م. أبو هلال العسكري - الأوائل، تحقيق وليد قصاب ومحمد المصري، دار العلوم الرياض، الطبعة الثانية 1401 هـ / 1981 م. الأتاسي (محمَّد خالد وابنه محمَّد طاهر) - شرح المجلة، مطبعة حمص، الطبعة الأولى 1349 هـ. أحمد بن حميد - تحقيق القواعد للمقري، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، بدون تاريخ. أحمد بن حنبل (أحمد بن محمَّد) - فضائل الصحابة, تحقيق وصي الله عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، طـ. الأولى 1403 هـ / 1983 م. - المسند، موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، ط. الثانية 1413 هـ/ 1992 م. أرسلان (شكيب) - حاضر العالم الإِسلامي (1) جزآن، دار الفكر، بيروت، الطبعة الرابعة 1394 هـ / 1973 م، 4 أجزاء. الأزهري (خالد) - شرح التصريح على التوضيح، مطبعة عيسى البابي مصر 1312 هـ.

إسماعيل (شعبان محمَّد) - سد الذرائع بين الإلغاء والاعتبار، حولية كلية الدراسات الإِسلامية والعربية، القاهرة، عدد (6) 1408 هـ / 1988 م. الإسنوي (جمال الدين عبد الرحيم بن الحسين) - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، تحقيق د/ حسن هيتو، ط (3)، مؤسسة الرسالة، بيروت. - نهاية السول بشرح منهاج الوصول مع حاشية للشيخ محمَّد بخيت المطيعي، عالم الفكر، بيروت، بدون تاريخ. الأشموني - شرح ألفية ابن مالك مع حاشية الصبان، مطبعة عيسى البابي القاهرة، بدون تاريخ. الأصبهاني (الراغب) - المفردات, تحقيق صفوان داودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية 1418 هـ/ 1997 م. الأصبهاني (علي بن الحسن أبو الفرج) - الأغاني، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، تصوير دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ. الأصفهاني (محمود بن عبد الرحمن) - بيان المختصر، تحقيق محمَّد مظهر بقا، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط (1) 1406 هـ / 1986 م. الأعشى - قصيدة الأعشى، تحقيق محمَّد الطاهر ابن عاشور، مطبعة العرب بتونس، 1348 هـ / 1929 م. الألباني (محمَّد ناصر الدين) - إرواء الغليل في تخريج أحاديث السبيل، بيروت المكتب الإِسلامي، 1985 م. الألوسي (محمود شكري) - روح المعاني، دار الفكر، بيروت 1398 هـ / 1978 م. - ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان، الطبعة الثانية، بيروت 1391 هـ / 1971 م.

الآمدي (علي بن محمَّد) - الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق سيد الجميلي، دار الكتب العربي، ط. الأولى 1984 م، بيروت (4 أجزاء). امرؤ القيس - الديوان، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر 1958 م. الإيجي (عبد الرحمن بن أحمد) - شرح مختصر المنتهى مع حاشية التفتازاني والجرجاني، المطبعة الأميرية ببولاق مصر 1316 هـ، تصوير دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1403 هـ / 1983 م. - المواقف، عالم الكتاب، بيروت، بدون تاريخ. الباجي (سليمان بن خلف) - إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق عبد المجيد تركي، الطبعة الأولى، دار الغرب الإِسلامي ببيروت 1407 هـ / 1986 م. - المنتقى شرح الموطأ، مطبعة السعادة، القاهرة، ط. الأولى 1331 هـ، تصوير دار الكتاب العربي، بيروت. باز (سليم رستم) - شرح المجلة، طبعة مصورة في دار إحياء التراث العربي، بيروت 1406 هـ/ 1986 م عن طبعة الآستانة. باشا (محمَّد قدري) - مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان، المكتبة المصرية، مصر، ط (1) 1338 هـ. البجيرمي (عبد الوهاب) - الحيل في الشريعة الإِسلامية، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة، مصر 1394 هـ / 1974 م. البخاري (عبد العزيز بن أحمد) - كشف الأسرار عن أصول البزدوي، دار الكتاب، بيروت 1393 هـ / 1973 م. البخاري (محمَّد بن إسماعيل) - الأدب المفرد، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي، القاهرة، 1375 هـ.

- الجامع الصحيح، موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، ط. الثانية 1413 هـ/ 1992 م. - التاريخ الكبير. برنشفيك (روبار) - تاريخ إفريقية في العهد الحفصي، نقله إلى العربية حمادي الساحلي، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1988 م. بروكلمان (كارل) - تاريخ الأدب العربي، نقله إلى العربية د/ عبد الحليم النجار، دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة 1977 م. البري (زكريا) - الوسيط في أحكام التركات والمواريث، مراجعة محمَّد العروسي المطوي وبشر البكوش، ط (1)، دار الغرب الإسلامي، بيروت. البزدوي (فخر الإِسلام علي بن محمَّد) - كنز الوصول إلى معرفة الأصول، شرح عبد العزيز البخاري لكشف الأسرار، كراتشي (4 أجزاء). البصري (أبو الحسين محمَّد بن علي) - المعتمد في أصول الفقه، تحقيق خليل الميس، دار الكتب العلمية، ط (1)، بيروت 1403 هـ / 1983 م. البغدادي (عبد القادر بن عمر) - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، ط (3) الخانجي، القاهرة 1409 هـ / 1989 م، 13 جزءاً. - شرح أبيات المغني، تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد الدقاق، دار المأمون، دمشق، الطبعة الأولى 1973 - 1980 م. البغدادي (عبد المؤمن بن عبد الحق) - مراصد الاطلاع، تحقيق علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ط. الأولى 1373 هـ / 1954 م. البنا (أحمد بن عبد الرحمن) - الفتح الرباني، دار الشهاب بالقاهرة، بدون تاريخ. البناني (محمَّد بن الحسن) - حاشية على جمع الجوامع للسبكي، مع حاشية العطار، المكتبة التجارية، مصر، بدون تاريخ.

- حاشية عى شرح الزرقاني على مختصر خليل، دار الفكر، بيروت 1398 هـ/ 1978 م. بنيس (محمد بن أحمد) - بهجة العصر في شرح فوائد المختصر. البهوتي (منصور بن يونس) - الروض المربع، تحقيق بشير محمَّد عيون، الطبعة الثانية، دار البيان، دمشق 1420 هـ / 1999 م. - كشاف القناع عن متن الإقناع، مراجعة هلال مصيلحي، عالم الكتب، بيروت 1403 هـ / 1983 م. البورنو (محمَّد صدقي) - الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، مكتبة التوبة، الرياض، ط (3) 1415 هـ / 1995 م. البوطي (محمَّد سعيد رمضان) - ضوابط المصلحة في الشريعة الإِسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (3) 1397 هـ / 1977 م. بيرم (الثاني) - الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء، تحقيق محمَّد الحبيب ابن الخوجة. البيضاوي (عبد الله بن عمر) - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المكتبة الإِسلامية ديار بكر، تركية، بدون تاريخ. البيهقي (أحمد بن الحسين) - السنن الكبرى, دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الدكن بالهند، ط. الأولى 1335 هـ. - معرفة السنن والآثار, تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، حلب، الطبعة الأولى 1411 هـ / 1991 م. التاودي (أبو عبد الله محمَّد) - حلى المعاصم لبنت فكر بن عاصم، دار المعرفة، بيروت، ط (3) 1397 هـ / 1977 م. التبريزي (محمَّد بن عبد الله) - مشكاة المصابيح، تحقيق ناصر الدين الألباني، المكتبة الإِسلامية، دمشق، ط (2) 1399 هـ/ 1979 م.

التبريزي (يحيى بن علي) - شرح القصائد العشر، ضبط وتصحيح عبد السلام الحوفي، دار الكتاب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ / 1985 م. التركي (عبد الله بن عبد المحسن) - أصول مذهب الإِمام أحمد، مطبعة جامعة عين شمس ط (1) 1394 هـ / 1974 م. تركي (عبد المجيد) - المناظرات في أصول الشريعة الإِسلامية، نقله إلى الفرنسية د/ عبد الصبور شاهين، بيروت، دار الغرب الإِسلامي، 1414 هـ / 1994 م. الترمذي (الحكيم) - نوادر الأصول، دار الريان للتراث القاهرة، ط (؛ 1) 1408 هـ / 1988 م. الترمذي (محمَّد بن عيسى) - السنن, موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، ط (2) 1413 هـ/ 1992 م. التسولي (علي بن عبد السلام) - البهجة في شرح التحفة لابن عاصم الأندلس، ط (3) 1397 هـ / 1977 م، دار المعرفة، بيروت. تشابجي (عبد الرحمن) - المسألة التونسية والسياسة العثمانية، تعريب عبد الجليل التميمي، ط (1) 1973 م، دار الكتب الشرقية، تونس. التغلبي (أحمد بن عبد الله) - الروض الندي في شرح كافية المبتدى، مطبعة الدوي بالقاهرة 1981 م. التفتازاني (مسعود بن عمر) - التلويح على التوضيح، مطبعة محمَّد علي صبيح بمصر، 1377 هـ. التقي الهندي (علي بن حسام الدين) - منتخب كنز العمال، على هامش مسند الإِمام أحمد المطبعة الميمنية بمصر 1313 هـ. التميمي (إسماعيل) - رسالة في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين، تونس، المطبعة الرسمية.

التنبكيّ (أحمد بابا) - نيل الابتهاج بتطريز الديباج، على هامش الديباج المذهب، مطبعة السعادة، القاهرة 1329 هـ. التنظيمات الخيرية بتركية - قانون أساسي 1839 م، خط شريف كلخانة، خط همايون. التهانوي (محمَّد أعلى الفاروقي) - كشاف اصطلاحات الفنون، تصوير دار صادر ببيروت، بدون تاريخ. التواني (محمَّد البشير) - مجموع الإفادة في علم الشهادة، تونس 1313 هـ. الجاحظ (عمر بن بحر) - البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الخامسة 1405 هـ / 1985 م مكتبة الخانجي بمصر، وتحقيق حسن النسدوني، الطبعة الأولى 1414 هـ/ 1993 م، دار إحياء العلوم، بيروت. الجامعة الإِسلامية وآراء الكتاب فيها - مجلة المنار. الجبائي (محمَّد يوسف موسى) - دائرة المعارف الإِسلامية. جبر (محمَّد سلامة) - أحكام النقود في الشريعة الإِسلامية، شركة الشعاع للنشر، الكويت 1981 م. جدعان (فهمي) - أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، دار الشروق، عمان، ط (3) 1988 م. الجرجاني (عبد القاهر) - التعريفات، ط 1971 م، المطبعة الرسمية، تونس. - دلائل الإعجاز، قراءة وتعليق محمود شاكر، مكتبة الخانجي القاهرة 1404 هـ / 1984 م. جريدة البصائر الجزائرية. الجصاص (أحمد بن علي) - الفصول في الأصول، تحقيق عجيل النشمي، وزارة الأوقاف بالكويت، ط. الأولى 1405 هـ / 1985 م.

جعيط (محمَّد العزيز) - الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية على مذهب المالكية، ط (2)، مكتبة الاستقامة، تونس. - لائحة مجلة الأحكام الشرعية. الجمال (محمَّد عبد المنعم) - موسوعة الاقتصاد الإِسلامي، دار الكتاب المصري بالقاهرة الطبعة الأولى 1410 هـ / 1980 م. جمال الدين (عثمان بن عمر) - مختصر ابن الحاجب، الطبعة الأولى، مصر. الجمل (سليمان) - حاشية على شرح المنهج لشيخ الإِسلام زكريا الأنصاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ. الجويني (إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله). - البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الذيب، مطابع الدوحة الحديثة، قطر، 1399 هـ. الحاكم النيسابوري (محمَّد بن عبد الله) - المستدرك، دار المعرفة، بيروت، ط (3) 1407 هـ / 1987 م. الحجوي (محمَّد بن الحسن) - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإِسلامي، تحقيق د/ عبد العزيز قاري، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ط (2) 1396 هـ. الحداد (الطاهر) - التعليم الإِسلامي، تونس. الحر العاملي (محمَّد بن الحسن) - الشيعة وفنون الإِسلام. حسب الله (علي) - أصول التشريع الإِسلامي، دار الفكر العربي، مصر 1402 هـ / 1982 م. حسين (محمَّد الخضر) - تونس وجامع الزيتونة، جمعه وحققه علي الرضا التونسي 1391 هـ / 1971 م. - مدارك الشريعة الإِسلامية وسياستها، إعداد علي رضا الحسيني، الدار الحسينية للكتاب ط (2) 1414 هـ / 1994 م.

حسين حامد حسان - نظرية المصلحة في الفقه الإِسلامي. الحسيني (علي الرضا) - مقالات الإِمام محمَّد الطاهر ابن عاشور، الدار الحسينية للكتاب. الحصري (أحمد) - السياسة الاقتصادية والنظم في الفقه الإِسلامي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، بدون تاريخ. الحصكفي (تقي الدين أبو بكر بن محمَّد) - كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، ط. مصطفى البابي الحلبي، بدون تاريخ. الحطاب (محمَّد بن عبد الرحمن) - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، دار الفكر، بيروت، ط (2) 1398 هـ/ 1978 م. الحطابي (حمد بن محمَّد) - أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، تحقيق محمَّد بن سعد آل سعود، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، الطبعة الأولى 1409 هـ / 1988 م. حماد (نزيه كمال) - معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء، المعهد العالمي للفكر الإِسلامي، ط (3)، 1415 هـ / 1995 م. الحموي (أحمد بن محمَّد) - غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ / 1985 م. الحنبلي الحراني (أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمَّد) - المسودة في أصول الفقه، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. حيدر (علي) - شرح مجلة الأحكام المسمى درر الحكام، تعريب المحامي فهمي الحسيني، دار العلم للملايين، بيروت، بدون تاريخ. الخبيصي - شرح التهذيب.

الخزاعي (علي بن محمَّد) - تخريج الدلالات السمعية، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، ط (1) 1405 هـ/ 1985 م. الخصاف (أحمد بن أبي بكر) - الحيل، طبع مصر 1316 هـ. الخطيب (أحمد بن علي) - الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة، إخراج عز الدين علي السيد، مكتبة الخانجي ط (1) القاهرة، 1405 هـ / 1984 م. - تاريخ بغداد، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. - تقييد المعلم، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، ط (2) 1974 م. الخفيف (علي) - أحكام المعاملات الشرعية، دار الفكر العربي، مصر، ط (3) بدون تاريخ. خلاف (عبد الوهاب) - أصول الفقه، الطبعة العاشرة، دار القلم بالكويت 1392 هـ/ 1972 م. - مصادر التشريع فيما لا نص فيه، ط. دار التأليف بالقاهرة 1366 هـ. الخلال - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، القاهرة، دار الاعتصام 1975 م. خير الدين التونسي - أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تمهيد وتحقيق المنصف الشنوفي، ط. بيت الحكمة، قرطاج جزءان، 1991 م. الدارقطني (علي بن عمر) - السنن, تصحيح عبد الله هاشم اليماني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة، بدون تاريخ. الدارمي (عبد الله بن عبد الرحمن) - السنن, موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، ط (2) 1413 هـ/ 1992 م. الدباغ (عبد العزيز بن مسعود) - أجوبة صاحب الإبريز. دراز (عبد الله) - مقدمة الموافقات في أصول الشريعة، دار المعرفة، بيروت.

الدردير (أحمد بن محمَّد) - الشرح الصغير, على هامش بلغة المسالك للصاوي، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ / 1978 م. الدريني (فتحي) - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإِسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (3) 1418 هـ/ 1997 م. الدسوقي (محمَّد عرفة) - حاشية على الشرح الكبير لأحمد الدردير، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ. الدهلوي (ولي الله بن عبد الرحيم) - حجة الله البالغة، شرح وتحقيق محمَّد شريف بكر، دار إحياء العلوم، ط (1) بيروت، جزءان. الدوري (قحطان عبد الرحمن) - الاحتكار في الإدارة المالية في الإِسلام، بغداد 1974 م. الديب (عبد العظيم) - إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، حياته وعصره، آثاره وفكره، دار القلم، الكويت، ط (1) 1401 هـ/ 1981 م. ديوان قابادو - جمع الشيخ السنوسي، ط. الدولة التونسية. الذبياني (النابغة) - ديوان النابغة، تحقيق محمَّد الطاهر ابن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1976 م. الذهبي (محمَّد بن أحمد بن عثمان) - تذكرة الحفاظ، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1956 م. - العبر في خبر من غير، تحقيق صلاح الدين المنجد وفؤاد السيد، وزارة الثقافة بالكويت، ط. الأولى، 1960 - 1969 م. الرازي (محمَّد بن عمر) - المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني، جامعة الإِمام محمَّد بن سعود بالرياض، ط. الأولى 1399 هـ / 1979 م. - مناقب الشافعي، المكتبة العلامية بمصر، بدون تاريخ.

- التفسير الكبير، ط. دار الفكر ببيروت، 1401 هـ / 1981 م (32) جزءاً. الراعي (محمَّد بن محمَّد) - انتصار الفقير بالسالك، دار الغرب الإِسلامي، بيروت ط (1) 1981 م. الرامهرمزي (الحسن بن عبد الرحمن) - المحدث الفاصل، تحقيق محمَّد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط (1) 1391 هـ. الرصاع - شرح حدود ابن عرفة. رضا (محمَّد رشيد) - تفسير المنار، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. الرملي (محمَّد شمس الدين بن أبي العباس) - فتاوى على هامش الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي، دار الكتب العلمية، بيروت 1403 هـ / 1983 م. - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، دار الفكر، بيروت 1404 هـ/ 1984 م. الرملي (محمَّد بن محمَّد) - غاية البيان شرح زيد بن رسلان، ط. الحلبي بمصر 1379 هـ / 1959 م. الرهوني (محمَّد بن محمَّد) - حاشية على عبد الباقي المسماة: أوضح المسالك وأسهل المراقي إلى سبك إبريز الشيخ عبد الباقي، ط. بولاق 1306 هـ، تصوير دار الفكر، بيروت، لبنان. الزبيدي (محمَّد الحسيني المرتضى) - إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ. الزحيلي (وهبة مصطفى) - الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب، دمشق، 1397 هـ / 1977 م. الزرقاء (أحمد) - شرح القواعد الفقهية، تقديم مصطفى الزرقاء وعبد الفتاح أبو غدة، مراجعة د/ عبد الستار أبو غدة، دار الغرب الإِسلامي، ط (1)، 1403 هـ / 1983 م.

الزرقاني (عبد الباقي بن يوسف) - شرح مختصر خليل، دار الفكر، بيروت 1398 هـ / 1978 م. - شرح موطأ مالك، مطبعة الاستقامة، مصر 1373 هـ / 1954. الزركشي (بدر الدين محمَّد بن بهادر) - البحر المحيط، تحرير عبد الستار أبو غدة وعبد القادر العاني، وزارة الأوقاف بالكويت، ط. الأولى 1409 هـ / 1988 م. الزركشي (محمَّد بن إبراهيم) - تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، تحقيق محمَّد ماضور، المكتبة العتيقة، تونس. الزركلي (خير الدين) - قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين المستشرقين، ط. دار العلم للملايين، بيروت (10 أجزاء). زروق (أحمد بن محمَّد) - شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، دار الفكر، بيروت 1402 هـ / 1982 م. الزمخشري (محمود بن عمر) - أساس البلاغة، دار صادر، بيروت 1399 هـ / 1979 م. - الكشاف، دار المعرفة، بدون تاريخ. زهير - ديوان. زيدان (عبد الكريم) - أحكام الذميين والمستأمنين. الزيلعي (عبد الله بن يوسف) - نصب الراية، المجلس العلمي بجوهانسبرج، طبع القاهرة 1938 م. الزيلعي (فخر الدين عثمان بن علي) - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، دار المعرفة، بيروت، ط (2)، بدون تاريخ. الساحلي (حمادي) - تقرير حول قضية التجنيس، مجلة وثائق المركز القومي الجامعي للتوثيق العلمي والفني، تونس 1984 م.

سالم (عمر) - دائرة المعارف التونسية. السالوس (علي أحمد) - الاقتصاد الإِسلامي، مصر 1411 هـ. السبكي (عبد الوهاب بن علي تاج الدين) - الأشباه والنظائر، تحقيق عادل عبد الموجود وعلى معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1) 1411 هـ/ 1991 م. - جمع الجوامع مع حاشية العطار، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، بدون تاريخ. - طبقات الشافعية الكبرى, تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، بدون تاريخ. السبكي (علي بن عبد الكافي وولده عبد الوهاب) - الإبهاج في شرح المنهاج، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت 1404 هـ/ 1984 م. السجستاني (أبو داود سليمان بن الأشعث) - السنن, تحقيق عزت عبيد الدعاس، دمشق، دار الحديث، 1971 م. - السنن, تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، صيدا، بيروت، المكتبة العصرية، بدون تاريخ. - السنن, تعليق الشيخ أحمد سعد علي، القاهرة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1371 هـ / 1952 م. - المصاحف، تحقيق محب الدين عبد الجبار واعظ، وزارة الأوقاف، قطر، ط (1) 1416 هـ /1995 م. سحنون - المدونة الكبرى, رواية عن مالك، دار الفكر، بيروت. السخاوي (محمَّد بن عبد الرحمن) - المقاصد الحسنة، تحقيق عبد الله بن الصديق الغماري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، ط. الأولى 1407 هـ / 1987 م. السرخسي (محمَّد بن أحمد بن أبي سهل) - أصول الفقه، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، دار المعرفة، بيروت 1393 هـ/ 1973 م. - المبسوط، دار المعرفة، بيروت، 1406 هـ / 1986 م.

السراج (محمَّد بن محمَّد الوزير) - الحلل السندسية في الأخبار التونسية، تحقيق محمَّد الحبيب الهيلة، الدار التونسية للنشر، ط. الأولى 1970 م. السكاكي (يوسف بن محمَّد) - مفتاح العلوم، تحقيق نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1407 هـ/ 1987 م. السنهوري (عبد الرزاق)، وأبو ستيت (أحمد حشمت) - أصول القانون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. - السياغي (الحسين بن أحمد). - الروض النضير، شرح مجموع الفقه الكبير مطبعة السعادة بمصر ط (1) 1349 هـ. السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر) - الأشباه والنظائر، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399 هـ. - الجامع الصغير, دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1401 هـ / 1981 م. - همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، تحقيق عبد السلام هارون وعبد العال سالم مكرم، الكويت، دار البحوث العلمية 1394 هـ / 1975 م. - حسن المحاضرة، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتاب العربي بالقاهرة، 1387 هـ / 1967 م. - شرح عقود الجمان، مطبعة شرف، القاهرة 1305 هـ / 1887 م. - المزهر الشاطبي (أبو إسحاق إبراهيم بن موسى) - الاعتصام، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. - الموافقات، تحقيق عبد الله دراز وعناية ابنه محمَّد عبد الله دراز، ط. المكتبة التجارية الكبرى بمصر، تصوير دار المعرفة ببيروت، بدون تاريخ. الشافعي (الإمام محمَّد بن إدريس) - الأم، دار الفكر ببيروت، ط (2) 1403 هـ / 1983 م. - الرسالة، تحقيق أحمد محمَّد شاكر، مطبعة مصطفى البابى الحلبي، ط (1) 1357 هـ / 1938 م. - المسند، ترتيب محمَّد عابد السندي، تصحيح يوسف الزواوي وعز العطار، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت 1370 هـ / 1951 م.

الشربيني - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. الشربيني (محمَّد بن أحمد) - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. شرف الدين (أحمد) - الأحكام الشرعية للأعمال الطبية، مصر 1403 هـ / 1983 م. شعبان (زكي الدين) - أصول الفقه، منشورات الجامعة الليبية، كلية الحقوق، مطابع دار الكتب، بيروت، ط (2) 1971 م. شعبان (قورت) - الكتب الستة وشروحها (خ م د ت ن جه دي ط مح) ط (2)، دار الدعوة ودار سحنون 1413 هـ/ 1992 م (23 جزء). شعبان (محمود حامد) - قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإِسلامي، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى 1417 هـ/ 1996 م. شلبي (أحمد) - حاشية على شرح الزيلعي تبيين الحقائق، دار المعرفة، بيروت، ط (2)، بدون تاريخ. شلبي (محمد مصطفى) - أحكام المواريث بين الفقه والقانون، دار النهضة العربية، بيروت، 1978 م. - تعليل الأحكام، دار النهضة، بيروت، الطبعة الثانية 1401 هـ / 1981 م. شمام (محمود) - أعلام من الزيتونة، تونس 1417 هـ / 1996 م بدون ناشر. الشنقيطي (أحمد بن محمَّد) - أضواء البيان، مطبعة المدني، القاهرة 1392 هـ / 1972 م. - الدرر اللوامع على همع الهوامع، مطبعة كردستان، القاهرة 1328 هـ. الشنوفي (المنصف) - هوامش ببحث في مصادر عن رحلتى محمَّد عبده، حوليات الجامعة التونسية، عدد 3 سنة 1966 م.

الشهاب (أحمد الخفاجي) - حاشية على تفسير البيضاوي اسمها عناية القاضي وكفاية الرضي، المكتبة الإِسلامية ديار بكر، تركية، بدون تاريخ. الشوكاني (محمَّد بن علي) - إرشاد الفحول، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ. - فتح القدير ط. القاهرة، ط. الثانية 1383 هـ / 1979 م. الشيباني الشنقيطي (محمَّد الشيباني بن أحمد) - تبيين المسالك، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، 4 أجزاء. الصالح (صبحي) - النظم الإِسلامية، دار العلم للملايين، ط (2)، بيروت 1968 م. الصاوي - بلغة المسالك لأقرب المسالك (حاشية على الشرح الصغير للدردير)، دار المعرفة، بيروت 1398هـ/ 1978. الصدر (السيد حسن) - الشيعة وفنون الإِسلام، مطبعة العرفان، صيدا، لبنان 1331 هـ. صدر الشريعة (عبيد الله بن مسعود) - النقاية مختصر في مسائل الهداية، مطبعة محمَّد جان وأخيه شريف جان، قازان 1897 م. الصفدي (خليل بن أيبك) - الوافي بالوفيات، تحقيق مجموعة من المحققين، الناشر فرانز شتايز، فيسبادن، ألمانيا 1401 هـ / 1981 م. الصنعاني (الحسين بن أحمد) - الروض النضير، مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الأولى 1348 هـ. الصنهاجي (أبو الشتاء) - مواهب الخلاق عى شرح التاودي للامية الزقاق، مكتبة الأمنية، الرباط 1375 هـ / 1955 م. طاش كبرى زاده (أحمد بن مصطفى) - مفتاح السعادة ومصباح السيادة، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت 1405 هـ/ 1985 م.

الطبراني (سليمان بن أحمد) - المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد، وزارة الأوقاف، العراق، ط (2) بدون تاريخ. - المعجم الأوسط, مكتبة المعارف، الرياض، ط (1) 1405 هـ/ 1985 م. الطبري (محمَّد بن جرير) - تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت 1399 هـ. - تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق محمود وأحمد شاكر، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ. الطهطاوي (رفاعة رافع) - تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز، طبعة بولاق 1364 هـ. الطيبي - الكاشف عن حقائق السنن, إدارة القرآن والعلوم الإِسلامية، كراتشي، ط (1) 1423 هـ. ظفر (أحمد العثماني) - إعلاء السنن, إدارة القرآن والعلوم الإِسلامية، كراتشي، ط (1) بدون تاريخ. عامر (عبد العزيز) - التعزير في الشريعة الإِسلامية، المطبعة العالمية، القاهرة، ط (4) 1389 هـ/ 1969 م. العبادي (أبو بكر بن علي الحدادي) - الجوهرة النيرة، مكتبة مير محمد كراتشي، بدون تاريخ. عباس (إحسان) - تاريخ النقد العربي، دار الشرق، بيروت. عبد البر (محمَّد زكي) - التصرفات المالية، ط. دار القلم بالكويت 1402 هـ. عبد الرزاق - المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر المجلس العلمي بالهند 1403 هـ. عبد الله (إبراهيم) - العذب الفائض شرح عمدة الفارض، ط (2)، دار الفكر، بيروت 1414 هـ.

عبد الوهاب (حسن حسني) - كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين مراجعة وإكمال محمَّد العروسي المطوي، وبشير البكوش، ط. بيت الحكمة، جزءان. عبد الوهاب (القاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي) - الإشراف. - المعونة على مذهب عالم المدينة، تحقيق خميش عبد الحق، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، ط (1) 1415 هـ. عبده (محمَّد) - رسالة التوحيد، بولاق 1110 هـ. - العروة الوثقى. العثماني (ظفر أحمد) - إعلاء السنن, إدارة القرآن والعلوم الإِسلامية، كراتشي، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. العسال (أحمد محمَّد)، ود/ فتحي أحمد عبد الكريم - النظام الاقتصادي في الإِسلام، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1400 هـ/ 1980 م. العسكري (أبو هلال) - الأوائل, تحقيق وليد قصاب ومحمد المصري، دار العلوم، الرياض، ط (2) 1401 هـ/ 1981 م. العضد (عبد الرحمن بن أحمد) - شرح المواقف، عالم الكتب، بيروت، بدون تاريخ. - شرح مختصر ابن الحاجب مع حاشيتي التفتازاني والجرجاني، المطبعة الأميرية ببولاق مصر 1316 هـ، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت، ط (2) 1402 هـ / 1983 م. العطار (عبد الناصر توفيق) - الوجيز في تاريخ القانون، دار السعادة بمصر، 1383 هـ / 1970 م. العظم (رفيق) - السوانح الفكرية في المباحث العلمية. العكبري (أبو البقاء) - شرح ديوان المتنبي، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، تصوير دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ.

العلائي - تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد، تحقيق إبراهيم السلقيني، دمشق، مطبعة زيد بن ثابت 1395 هـ / 1975 م. العلمي (عيسى بن علي) - النوازل، تحقيق المجلس العلمي بفاس، وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالمغرب، الطبعة الأولى 1403 هـ/ 1983 م. علي (محمَّد كرد) - رسائل البلغاء، ط. الحلبي 1913 م. علي فارس - شرح الكشف. عليش (محمَّد أحمد) - فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإِمام مالك، تصوير بيروت، بدون ناشر وتاريخ. عمارة (محمَّد) - الإِسلام والنظر إليه بين العلم والمدنية، كتاب الهلال 1960 م. - الأعمال الكاملة للإمام محمَّد عبده، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط (2) 1980 م، بيروت. العياشي (مختار) - البيئة الزيتونية، ترجمة حمادي الساحلي، تونس 1972 م. عياض (القاضي عياض بن موسى) - ترتيب المدارك، تحقيق مجموعة من المحققين، وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالمغرب، ط (2) 1403 هـ / 1983 م. - التنبيهات، ط. المغرب. - مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، دار الغرب الإِسلامي، بيروت 1995 م، العيني (محمود بن أحمد) - البناية في شرح الهداية، دار الفكر، بيروت ط (1) 1400 هـ / 1980 م. - عمدة القاري، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة ط (1) 1348 هـ. - المقاصد النحوية، على هامش خزانة الآداب للبغدادي، طبع بولاق 1299 هـ. الغالي (د. بلقاسم) - شيخ الجامع الأعظم محمَّد الطاهر ابن عاشور.

الغزالي (محمد بن محمد) - شفاء الغليل، تحقيق حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد، بغداد 1390 هـ / 1971 م. - المستصفى، المطبعة الأميرية ببولاق 1324 هـ تصوير دار صادر بيروت. - المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق محمَّد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط (1) 1390 هـ. الفتوحي (تقي الدين محمَّد بن أحمد) - مختصر التحرير شرح الكوكب المنير، تحقيق محمَّد الزحيلي ونزيه حماد، الطبعة الأولى، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى 1408 هـ / 1988 م. الفراء - الأحكام السلطانية. فرغلي (محمَّد محمود محمَّد) - بحوث في القياس، دار الكتاب الجامعي، القاهرة، ط (1)، 1403 هـ/ 1983 م. الفلالي (أبو عبد الله) - العمليات العامة. الفيروز آبادي (محمَّد بن يعقوب) - بصائر ذوي التمييز، تحقيق محمَّد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت، بدون تاريخ. - المغانم المطابة في معالم طابة، تحقيق حمد الجاسر، دار اليمامة، الرياض، ط (1) 1389 هـ / 1969 م. الفيومي (أحمد بن أحمد الغرقاوي) - رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية، تونس، المطبعة الرسمية 1316 هـ. قادي (محيي الدين) - بدل الخلو في العصر الإِسلامي، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، العدد (4) الجزء (3). القاري (الملا علي) - شرح الشفا، تحقيق حسنين محمَّد مخلوف، تصوير مكتبة ابن تيمية بالقاهرة، بدون تاريخ. - مرقاة المفاتيح، المطبعة الميمنية بمصر، بدون تاريخ.

القاضي (منير) - شرح المجلة، طبع بغداد سنة 1949 م. قاضي خان (حسن بن منصور) - الفتاوى الخانية: فتاوى قاضي خان، على هامش الفتاوى الهندية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1400 هـ / 1980 م. القرافي (أحمد بن إدريس) - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ط. الأنوار 1983 م. - تنقيح الفصول، ط. التونسية 1922 - 1923 م. - توشيح الديباج، تحقيق أحمد الشتيوي، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، ط (1) 1403 هـ/ 1983 م. - الذخيرة، تحقيق محمَّد حجي وسعيد أعراب ومحمد بوخبزة، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، ط (1) 1994 م. - الفروق، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ، فهرسة د. محمَّد رواس قلعجي (4 أجزاء). - نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، ط (1) 1416 هـ / 1996 م. القرضاوي (يوسف عبد الله) - الجانب التشريعي في السنة النبوية. - السنة مدرسة للمعرفة والحضارة. - فقه الزكاة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1) 1401 هـ/ 1918 م. القرطاجني (حازم) - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمَّد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة 1986 م. القرطبي (محمَّد بن أحمد) - الجامع لأحكام القرآن، تصحيح أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ. القسطلاني (أحمد بن محمَّد) - إرشاد الساري، تصوير دار صادر، بدون تاريخ عن الطبعة البولاقية سنة 1304 هـ. قطب (سيد) - في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، الطبعة التاسعة 1400 هـ/ 1980 م.

قطب مصطفى سانو - معجم مصطلحات أصول الفقه. قلعجي (محمَّد رواس) - موسوعة فقه إبراهيم النخعي، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399 هـ / 1980 م. القنوجي (صديق بن حسن) - أبجد العلوم، أعده للطبع عبد الجبار زكار، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1980 م، تصوير دار الكتب العلمية بيروت. الكاساني (علاء الدين أبو بكر بن مسعود) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر، ط (1) 1327 هـ. الكافي (محمَّد يوسف) - أحكام الإحكام على تحفة الأحكام. الكاندهلوي (محمَّد زكريا الأنصاري) - أوجز المسالك إلى موطأ الإِمام مالك، دار الفكر، بيروت 1400 هـ / 1980 م. الكاندهلوي (محمَّد يوسف) - حياة الصحابة، تحقيق نايف العباس ومحمد علي دولة، دار القلم، دمشق 1388 هـ/ 1968 م. الكبيسي (محمَّد عبيد) - أحكام الوقف في الشريعة الإِسلامية، الطبعة الأولى مطبعة الإرشاد، بغداد، وزارة الأوقاف 1397 هـ / 1977 م. الكتاني (عبد الحي بن عبد الكبير) - التراتيب الإدارية، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. الكتبي (محمَّد بن شاكر) - فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. الكجراتي (محمَّد طاهر الصديقي) - مجمع بحار الأنوار، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الدكن 1387 هـ/ 1967 م.

كرد علي (محمَّد) - رسائل البلغاء. - القديم والحديث، الطبعة الأولى 1343 هـ/ 1925 م، المطبعة الرحمانية بمصر. كريكن (ج س فان) - خير الدين والبلاد التونسية، تعريب البشير بن سلامة، دار سحنون، تونس 1988 م. الكفوي (أبو البقاء) - الكليات، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (2) 1419 هـ/ 1998 م. المازري - المعلم بفوائد مسلم، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، ط (2) 1992 م. مالك (الإمام) - المدونة الكبرى, مطبعة السعادة بمصر 1398 هـ. - الموطأ، موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، ط (2) 1413 هـ/ 1992 م. الماوردي (علي بن محمَّد) - الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1) 1405 هـ/ 1985 م. - الحاوي الكبير، تحقيق محمود مطرحي وآخرين، دار الفكر، بيروت، ط (1) 1414 هـ/ 1994 م. المباركفوري (محمَّد بن عبد الرحمن) - تحفة الأحوذي، ضبط عبد الرحمن محمَّد عثمان، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ. المبرد - الكامل، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاته، القاهرة، مكتبة نهضة مصر 1376 هـ / 1956 م. المجلة الزيتونية - المجلة الزيتونية. مجمع الفقه الإِسلامي الدولي - مجلة مجمع الفقه الإِسلامي الدولي. مجمع اللغة العربية بالقاهرة - المعجم الوسيط، ط (2) بدون تاريخ.

محفوظ (محمَّد) - تراجم المؤلفين التونسيين، دار الغرب الإِسلامي، ط (1) 1406 هـ/ 1986 م بيروت (5 أجزاء). محمَّد النيفر - عنوان الأريب عما نشأ بالمملكة التونسية من عالم أديب، طبع تونس 1351 هـ. محمَّد رشيد رضا - الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإِسلامية، مجلة النار، مجلد 1 ج 39، 1316 هـ / 1898 م. - تاريخ الأستاذ الإِمام محمَّد الطاهر ابن عاشور، مجلة المنار. - تفسير المنار، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. محمَّد زيد - المصلحة في الشريعة الإِسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة 1384 هـ / 1964 م. محمَّد علي بن حسين - تهذيب الفروق. المحمصاني (صبحي) - فلسفة التشريع الإِسلامي، دار العلم للملايين، بيروت، ط (2) 1952 م. مخلوف (محمَّد بن محمَّد) - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، ط. السلفية، مصر 1349 هـ. مدكور (محمَّد سلام) - مناهج الاجتهاد في الإِسلام في الأحكام الفقهية والعقائدية، ط (10) الكويت 1393 هـ / 1973 م. المراغي (عبد الله مصطفى) - الفتح المبين في طبقات الأصوليين، الناشر محمَّد أمين وقج، بيروت، الطبعة الثالثة 1394 هـ. المراكشي (محمَّد بن إبراهيم بن لؤلؤ) - تاريخ الدولة الموحدية والحفصية، تحقيق محمَّد ماضور، تونس، المكتبة العتيقة، ط (2) 1966 م. المرداوي (علي بن سليمان) - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، تصحيح محمَّد حامد الفقي، الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1406 هـ / 1986 م.

المرزوقي (أحمد بن محمَّد) - شرح ديوان الحماسة، تحقيق عبد السلام هارون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية 1387 هـ / 1967 م. مرسي (فاروق عبد العليم) - القضاء في الشريعة الإِسلامية، عالم المعرفة، جدة، ط (1) 1409 هـ / 1985 م. المرشد (عثمان) - المقاصد من أحكام الشارع وأثرها في العقود، عالم المعرفة، ج. ط (1) 1409 هـ/ 1985 م. المرغيناني (علي بن أبي بكر) - الجامع الصحيح، موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول ط (2) 1413 هـ/ 1992 م. الهداية، المكتبة الإِسلامية، بدون بلد أو تاريخ. مسلم (بن الحجاج) - الجامع الصحيح، موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول ط (2) 1413 هـ/ 1992 م. المطيعي (محمَّد بخيت) - حاشية بخيت المطيعى. المعري (أبو العلاء) - اللزوميات، تحقيق محمَّد اليازجي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1421 هـ/ 1992 م. المقري (أحمد بن محمَّد) - أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق عبد السلام الهراس وسعيد أحمد أعراب، اللجنة المشتركة لنشر التراث بين المغرب والإمارات 1400 هـ/ 1980 م. أحمد بن حميد - القواعد، تحقيق أحمد بن عبد الله بن حميد، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، بدون تاريخ. ملا خسرو (محمَّد بن فراموز) - درر الأحكام في شرح غرر الأحكام، مطبعة أحمد كامل، تركية 1330 هـ. الملي (محمَّد جاد) - أيام العرب في الجاهلية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ.

المناوي (عبد الرؤوف بن علي) - التيسير بشرح الجامع الصغير, مكتبة الإِمام الشافعي بالرياض، ط (3) 1408 هـ / 1988 م. - فيض القدير بشرح الجامع الصغير, دار المعرفة، بيروت، ط (2) 1972 م. المنوفي (علي بن خلف) - كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، تحقيق أحمد حمدي إمام، مكتبة المدني بالقاهرة، ط (1) 1407 هـ / 1987 م. المواق (محمَّد بن يوسف) - التاج والإكليل لمختصر خليل على هامش مواهب الجليل للحطاب، دار الفكر، بيروت ط (2) 1398 هـ / 1978 م. الموسوعة الفقهية الكويتية - إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالكويت، الطبعة الأولى 1412 هـ/ 1992 م. ميارة (محمَّد بن أحمد) - الدر الثمين والمورد المعين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1373 هـ. الميداني (عبد الرحمن حبنكة) - ضوابط المعرفة، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة. الميداني (عبد الغني) - اللباب في شرح الكتاب، المكتبة العلمية بيروت 1400 هـ / 1980 م. النابغة - الديوان (1) المصباح، بيروت، مجلد واحد، ط (2) بيروت 1379 هـ/ 1960م. النجار (بلحسن) - مجلة السعادة العظمى. النجار (عبد الهادي) - الإِسلام والاقتصاد، سلسة عالم المعرفة، رقم 63 جمادى الأولى، جمادى الآخرة 1403 هـ / 1983 م. الندوي (أبو الحسن علي) - نحو التربية الإِسلامية الحرة، دار القلم، دمشق، الطبعة الرابعة.

الندوي (علي أحمد) - القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للحصيري، مطبعة المدني، ط (1) 1411 هـ/ 1991 م. - موسوعة القواعد والضوابط الفقهية، ط. الأولى، 1419 هـ/ 1999 م، شركة المستثمر الدولي بالكويت وشركة الراجحي المصرفية بالرياض. النسائي (أحمد بن شعيب) - السنن, موسوعة السنة، دار الدعوة، إستانبول، الطبعة الثانية 1413 هـ/ 1992 م. النفرواي (أحمد بن غنيم) - الفواكه الدواني على شرح مختصر رسالة ابن أبي زيد القيرواني, دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ. النووي (يحيى بن شرف) - تصحيح التنبيه بهامش التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي، مصر 1329 هـ. - تهذيب الأسماء واللغات، طبعة مصورة بدار الكتب العلمية، بيروت عن الطبعة المنيرية. - شرح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت بدون تاريخ. - المجموع، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ. النيفر (محمود علي) - عنوان الأريب عما نشأ بالمملكة التونسية من عالم أديب، طبع تونس 1315 هـ. هارون (عبد السلام) - تهذيب سيرة ابن هشام، طبع الكويت 1977 م. الهداية الإِسلامية - مجلة الهداية الإِسلامية. الهندي (صفي الدين) - نهاية الوصول في دراية الأصول، تحقيق د/ صالح اليوسف ود/ سعد السويح، المكتبة التجارية بمكة المكرمة ط (1). الهيثمي (علي بن أبي بكر) - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، تحقيق عبد الرزاق حمزة، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.

الونشريسي (أحمد بن يحيى) - إيضاح المسالك إلى قواعد مالك، تحقيق أحمد الخطابي، وزارة الأوقاف بالرباط 1400 هـ/ 1980 م. - المعيار المعرب، تحقيق مجموعة من المحققين، وزارة الأوقاف بالمغرب ط (1) 1401 هـ/ 1981 م. يفوت (سالم) - ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، الطبعة الأولى 1986 م. يكن (زهدي) - الوقف في الشريعة والقانون، دار النهضة العربية، بيروت 1388 هـ.

§1/1