مفهوم تجديد الدين

بسطامي محمد سعيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مفهوم تجديد الدين

طبع على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م مركز التأصيل للدراسات والبحوث المملكة العربية السعودية - ص. ب 18718 جدة 21425 هاتف: 26288685 (966+) فاكس: 22718230 (966+) http://www.taseel.com/ - [email protected]

مقدمة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر

مقدمة لكتاب مفهوم تجديد الدين الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم رسله، وبعد: فإن علماء الإسلام قد خلفوا لنا تراثًا علميًا ضخمًا، متعدد المناحي، وما يزال معظم هذا التراث مخطوطًا لم ير النور، ولم يتعرف عليه الباحثون، رغم ما فيه من المعاني الدقيقة والأفكار العميقة التي تخدم واقعنا المعاصر وتنير السبل لأمتنا في مجالات الفكر والتشريع والثقافة، ويقدر بعض الخبراء أن ما بقي مخطوطًا من تراث علماء الإسلام يربو على ثلاثة ملايين عنوان، تقبع في زوايا المكتبات، وظلام الصناديق والأقبية، حتى إن بعضها لم يفهرس فهرسة دقيقة فضلًا عن النشر. فكان من المهم في هذه المرحلة أن تتجه الجهود لتقويم هذا التراث واستجلاء ما ينفع الناس منه في عصرنا، ثم العمل على تحقيقه ونشره. وإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر -وقد وفقها الله لأن تضرب بسهم في إحياء هذا التراث- لتحمد الله -سبحانه وتعالى- على أن ما أصدرته من نفائس التراث قد نال الرضا والقبول من أهل العلم في مشارق الأرض ومغاربها. والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة تراث الأمة منذ ما يزيد على ستة عقود، وقد جاء مشروع إحياء التراث الإسلامي الذي بدأته الوزارة منذ ست سنوات امتدادًا لتلك الجهود وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر. ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسر الله -جلَّ وعلا- للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم في فنون مختلفة تُطبع لأول مرة، ففي تفسير

القرآن الكريم أصدرت الوزارة تفسير الإمام العُليمي "فتح الرحمن في تفسير القرآن" وفي علم الرسم أصدرت كتاب "مرسوم المصحف" للإمام العُقيلي ونحن بصدد إصدار جديد متميز للمحرر الوجيز لابن عطية مقابلًا على نسخ خطية عدة. وفي السُّنَّهَ أصدرت الوزارة كتاب "التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقن، و"حاشية مسند الإمام أحمد" للإمام السندي، و"شرحين لموطأ مالك لكل من القنازعي والبوني"، و"شرح مسند الشافعي" للإمام الرافعي، و"نخب الأفكار شرح معاني الآثار" للبدر العيني إضافة إلى صحيح ابن خزيمة بتحقيقه الجديد المُتقن. وأخيرًا صدر عن الوزارة كتاب: "التقاسيم والأنواع" للإمام ابن حبان، وكذا "مطالع الأنوار" لابن قرقول، وهما ينشران لأول مرة، وهناك مشاريع أخرى يُعلن عنها في حينها. وفي الفقه أصدرت الوزارة: "نهاية المطلب في دراية المذهب" للإمام الجويني الذي حققه وأتقن تحقيقه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي أ. د. عبد العظيم الديب -رحمه الله تعالى-، وكتاب "الأوسط" لابن المنذر بمراجعة دقيقة للدكتور عبد الله الفقيه عضو اللجنة، وكتاب "التبصرة" للخمي، و"حاشية الخلوتي" في الفقه الحنبلي، وكتاب "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان الفاسي، وفي الطريق إصدارات أخرى مهمة تمثل الفقه الإسلامي في عهوده الأولى. وفي السيرة النبوية أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية "جامع الآثار" لابن ناصر الدين الدمشقي. وفي العقيدة والتوحيد أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو "الاعتقاد" لابن العطار تلميذ النووي -رحمهما الله-. ولم نغفل عن إصدار دراسات معاصرة متميزة من الرسائل العلمية وغيرها فأخرجنا "القيمة الاقتصادية للزمن" و"نوازل الإنجاب" وفي الطريق -بإذن الله تعالى- ما تقر به العيون من دراسات معاصرة في القرآن والسُّنَّة، ونوازل الأمة. ونقدم اليوم للقراء كتابًا مبتكرًا في موضوعه، جديدًا في طرحه، هو كتاب "مفهوم تجديد الدين" فهو كتاب يؤرخ لأصحاب العلامات البارزة في تجديد

مسيرة الدين وموضعه من الفكر الإنساني وأثره في حياة الأشخاص والمجتمعات والأمم، سواء كان هذا التجديد للأحسن والأفضل شكلًا ومضمونًا أم كان تجديدًا للأحسن بحسب الدعوى وفيه من الزيغ ما فيه. كما تناول حركات التجديد المغرضة التي حامت حول ثوابت الدين وفروعه للنيل منها بدعوى التطوير مجاراة للغرب في علمانيته. وتطرق الكتاب لمظاهر الانحراف في العقائد التي خرجت عن الجادة، من جراء تعاطي الفلسفات الباطلة، وانسياق بعض من ينتسبون إلى الدين وراء تلك الأفكار المصادمة للعقيدة الصحيحة الصافية. فهذه الدراسة تشتد إليها الحاجة في موضوع مدحضة مزلة لأن تجديد الدين لا يكون إلا وفق أصوله بلا تشويه أو مزايدة. أما دعاوى التجديد المرتجل الذي يجعل من مقاصد الشريعة بحرًا خضمًا تلقى فيه النصوص وتهدر فيه اجتهادات أئمة الإسلام فليس بتجديد محمود بل تبديل للشريعة وعبث بأحكامها. ولا يفوتنا التنويه بالجهود المتميزة لمركز التأصيل للدراسات والبحوث الذي يشرفنا التواصل والتعاون العلمي معه. ونشكر القائمين عليه ونسأل الله أن يجعلنا وإياهم من المتعاونين في سبيل نهضة الأمة وتقوية بنيانها العلمي والفكري.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مفهوم تجديد الدين

طبع على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م مركز التأصيل للدراسات والبحوث المملكة العربية السعودية - ص. ب 18718 جدة 21425 هاتف: 26288685 (966+) فاكس: 22718230 (966+) http://www.taseel.com/ - [email protected]

المقدمة

المقدمة من المفاهيم التي يحتاج إلى تحديد معناها بدقة مفهوم تجديد الدين، ذلك أن الاضطراب في فهم معناه يقود إلى انحرافات خطيرة. وهناك طائفة من الأسئلة تثار في هذا الصدد؛ هل كل رأي جديد في الدين هو تجديد له؟ ما الحدود الفاصلة بين الجديد المقبول والجديد المرفوض؟ ما علاقة التجديد بالتطور، أهما مترادفان أم بينهما فروق؟ وفي ضوء مواجهة الإسلام للحضارة الغربية المعاصرة كيف تتم الملاءمة بين الفكر الإسلامي والعصر الحاضر؟ وهل لذلك أثر في بلورة مفهوم التجديد؟ لقد جاءت الإجابة على هذه الأسئلة من اتجاهات عديدة، ولا ريب أن بعضها صائب وبعضها مخطئ. والدراسة التي تقدمها الصفحات التالية تسعى للبحث في هذه الاتجاهات والمفكرين الذين من ورائها، وتسعى للبحث عن مفهوم التجديد السليم وتمييزه عن المفاهيم الخاطئة، وبيان مجالاته وآثاره. ولما كان مصطلح تجديد الدين مصطلحًا إسلاميًا نشأ من حديث مروي في ذلك، وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"؛ اتجه البحث أول ما اتجه إلى تحقيق هذا الحديث الأصل

الذي نشأ منه المصطلح، واتجه إلى جذور كلمة التجديد في اللغة واستعمالات القرآن والحديث لهذه الكلمة. ولا ريب أن مفهوم التجديد السليم هو الذي كان يقصده النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أعلن لأصحابه -رضوان الله عليهم- عن نبوءة بعث مجدد لكل قرن، وأحق الناس بتوضيح هذا المفهوم هم السلف الذين تلقوا هذا الحديث ونقلوه للأجيال اللاحقة لفظًا ومعنى. ولهذا كانت الخطوة الثانية في هذا البحث أن أجمع ما عسى أن يوجد من أقوال في عصور السلف عن التجديد، ومن تعريفاتهم وآرائهم يمكن أن يتضح لنا مجمل تصورهم لحقيقة التجديد ومَن المجدد. والمصدر الثاني لمعرفة ماهية التجديد أن ننظر في أعمال وجهود من سمَّاهم المؤرخون مجددين، وبتحليل ما قاموا به من أعمال وتصنيفها يزداد معنى التجديد ومجالاته ظهورًا ووضوحًا. ومن المفاهيم الشائعة للتجديد مفهوم نشأ في هذا العصر نتيجة لمواجهة الدين لحضارة الغرب اللادينية. فقد نشأت في الغرب في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي حركة لتجديد الدين وتطويره ليكون ملائمًا لمتغيرات العصر. وقد نشأت هذه الحركة داخل شقي النصرانية: الكاثوليكية والبروتستانتية، وأطلق على هذه الحركة في الغرب اسم العصرانية (modernism)، كما شهدت اليهودية اتجاهات متماثلة في الفكر والمبادئ والأهداف. وفي العالم الإسلامي أدى الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية إلى ظهور نزعات متشابهة لتلك التي ظهرت في الغرب. فما هي العصرانية؟ وما مفهوم التجديد الذي تطرحه؟ لقد اقتضت الإجابة على ذلك تتبع تاريخ الحركة في الغرب، وفي اليهودية والنصرانية، ثم رصد أفكار القادة والكُتَاب الذين حملوا لواء الفكرة من المسلمين. وبعد عرض آرائهم جاء النقد والتقويم وبيان مواضع الخطأ والصواب. وهكذا انقسم البحث إلى ثلاثة أبواب: باب عن المفهوم السُّنِّي للتجديد، وباب عن مفهومه عند العصرانية، وباب في نقد هذا المفهوم العصراني، مع مقدمة وخاتمة. وتحت كل باب من هذه الأبواب فصول بيانها كالآتي: الباب الأول: المفهوم السُّنِّي للتجديد. الفصل الأول: تعريف التجديد وضوابطه.

الفصل الثاني: نماذج من جهود المجددين. الباب الثاني: مفاهيم التجديد الخاطئة. الفصل الأول: مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب. الفصل الثاني: مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي (الطبقة الأولى من المفكرين). الفصل الثالث: مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي (الطبقة الثانية من المفكرين). الفصل الرابع: إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي. الباب الثالث: مفهوم التجديد العصراني في ميزان النقد. الفصل الأول: نقد المبادئ العامة. الفصل الثاني: نقد المبادئ التفصيلية. الخاتمة. * * * وقد كان هذا البحث في الأصل رسالة نشرت في كتاب كتب الله له أن يشتهر ويتداول. وقد قمت الآن بتنقيح البحث الأول وأضفت إليه إضافات وتعديلات طفيفة، وأحمد الله -عز وجل- على توفيقه وتيسيره، وأسأله تعالى أن يوفق لأن يخدم البحث الهدف الذي من أجله كتب وهو بيان المفهوم الصحيح للتجديد. وبسم الله أبدأ وبه أستعين وعليه أتوكل وله الحمد أولًا وآخرًا. د. بسطامي محمد سعيد خير -الخرطوم- شعبان 1433 هجرية (يوليو 2012)

الباب الأول المفهوم السني للتجديد

الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

أصل كلمة التجديد

الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه أصل كلمة التجديد: تجديد الدين هو أحد المصطلحات الإسلامية؛ والمصطلحات الإسلامية هي كلمات عربية الأصل، استعملت في القرآن، أو في السُّنَّة، أو عند العلماء إما في نفس معناها اللغوي؛ أو أعطيت معنى خاصًا قوي الصلة بمعناها اللغوي. فمثلًا الصلاة فإنها مشتقة لغويًا -في أرجح الأقوال- من الدعاء (¬1)، ولكنها أصبحت ذات مدلول خاص في القرآن وفي السُّنَّة. وإذا كانت غاية هذا البحث هي تجلية مفهوم التجديد وتوضيحه، فإن البحث يتجه أول ما يتجه إلى أصل معنى كلمة "تجديد" في اللغة، وفي استعمالات القرآن والحديث لهذه الكلمة. الحديث الأصل: نشأ مصطلح التجديد من حديث صحيح من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أَبو داود في سننه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" ابن منظور 14/ 464.

"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (¬1). ورواه أيضًا الطبراني في كتاب المعجم الأوسط، ورواه الحاكم في كتاب المستدرك، ورواه البيهقي في كتاب المعرفة، كلهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهو حديث صحيح، صححه من الأئمة المتقدمين الحاكم والبيهقي، ومن الأئمة المتأخرين الحافظ العراقي وابن حجر والسيوطي (¬2)، ومن المعاصرين ناصر الدين الألباني (¬3). التجديد لغة: جاء في معاجم اللغة (¬4) عن مادة جدد ما يأتي: تجدد الشيء؛ يعني: صار جديدًا، وجدده؛ أي: صيَّره جديدًا وكذلك أجدَّه واستجدّه. والجديد هو نقيض الخلق، والجدة -بالكسر- هي مصدر الجديد وهي نقيض البلى، ويقال: "بلي بيت فلان ثم أجدّ بيتًا من شعر"، ويقال لمن لبس ثوبًا جديدًا: "أبل وأجد واحمد الكاسي". والأصل في هذا المعنى القطع، يقال: جددت الشيء فهو مجدود وجديد؛ أي: مقطوع، ومن هذا قولهم ثوب جديد: "وهو في معنى مجدود"؛ أي: كأن ناسجه قطعه الآن. هذا هو الأصل، أما ما جاء منه في غير ما يقبل القطع فعلى المثل من ذلك؛ كقولهم جدد الوضوء وجدد العهد. وكذلك سمي كل شيء لم تأت عليه الأيام جديدًا، فالجديدان والأجدان هما الليل والنهار لأنهما لا يبليان أبدًا. ومن النقول السابقة يمكن القول إن التجديد في أصل معناه اللغوي يبعث في الذهن تصورًا تجتمع فيه ثلاثة معان متصلة لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، ويستلزم كل واحد منها المعنى الآخر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود"، كتاب الملاحم 4/ 109. (¬2) "عون المعبود شرح سنن أبي داود" 11/ 396، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" المناوي، 2/ 282، و"كشف الخفاء" للعجلوني 1/ 243. (¬3) "صحيح الجامع الصغير" للألباني ص 143، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني ص 601. (¬4) "الصحاح" للجوهري 1/ 451، و"لسان العرب" 3/ 111، و"مقاييس اللغة" 1/ 409.

أولها: أن الشيء قد كان في أول الأمر موجودًا وقائمًا وللناس به عهد. وثانيها: أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديمًا خلقًا. وثالثها: أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق. فقد جاء صريحًا في النقول السابقة أن الجديد نقيض الخلق، وأن الجِدّة نقيض البلى، فيكون معنى جدد الشيء صيَّره جديدًا غير خلق ولا بال. فهناك ثلاثة عناصر: شيء بال وخلق، قد كان غير بال ولا خلق، يجدد بأن يعاد إلى مثل حالته الأولى. وتزيد الأقوال المذكورة هذا المعنى وضوحًا، فقولهم: "بلي بيت فلان ثم أجد بيتًا من شعر"، ففلان هذا قد كان له بيت، فصار قديمًا وقد يكون تهدم بعضه، فاستحدث بيتًا مثله. وقولهم لمن لبس ثوبًا جديدًا: أبل وأخلق، رغبة له أن يعيش فيبلي ما لبسه من ثوب، ثم بعد أن يبلى ويخلق، يجدد باتخاذ ثوب آخر مثل الثوب الأول نوعًا وجنسًا. أما قولهم جدد الوضوء، وجدد العهد، فهو أظهر في الدلالة على أن التجديد يتضمن معنى الإعادة، فتجديد الوضوء يعني إعادته وتجديد العهد هو تكراره تأكيدًا. كلمة (جديد) في القرآن: لم يأت في القرآن لفظ جدد أو لفظ التجديد، ولكن قد جاءت فيه كلمة جديد، وسيفيدنا استعمال القرآن الكريم لهذه الكلمة في استجلاء معنى التجديد. من الآيات في ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 49 - 51]. فهؤلاء يقولون إنهم لن يكونوا خلقًا جديدًا، أو بعبارة أخرى لن يجدد خلقهم بعد أن يبلوا ويصيروا عظامًا مفتتة مكسرة -والرفات في اللغة هو ما تكسر وبلي من كل شيء- فيقول الله -عز وجل- ردًا عليهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)}؛ أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم. قال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون (¬1). ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" 10/ 274.

فمن هذه الآية يتضح بجلاء لا لبس فيه أن تجديد الخلق هو بعثه وإحياؤه وإعادته. ويتكرر هذا المعنى في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)} [سبأ: 7]. يقول القرطبي في شرح هذه الآية: أي هل نرشدكم إلى رجل ينبئكم ويقول لكم أنكم مبعوثون بعد البلى في القبور. ومعنى مزقتم كل ممزق: أي: فرقتم كل تفريق، والمزق خرق الأشياء (¬1). وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] يقول القرطبي: ضللنا أصله من قول العرب ضل الماء في اللبن إذا ذهب، والعرب تقول للشيء غلب عليه غيره حتى خف فيه أثره: قد ضل (¬2)، فتجديد الخلق هنا أيضًا هو إحياؤه وبعثه بعد أن ذهب وعفا أثره واندرس. وفي معنى هذه الآية أيضًا قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق: 15]، وهذا توبيخ لمنكري البعث يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه (¬3)؛ فالله -عز وجل- لم يعجز عن خلق الناس أول مرة، فكيف يعجز عن إحيائهم ثانية. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي: في حيرة من البعث. ففي هذه الآية إشارة إلى المراحل الثلاث: خلق أول وحياة أولى، ثم موت وبلى، ثم بعث وإحياء، وإعادة وتجديد، فإذا الخلق خلق جديد. كلمة تجديد في الحديث: بين أيدينا بعض الأحاديث التي جاء فيها استعمال كلمة تجديد (¬4). الأول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الايمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب؛ فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم" (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" 14/ 263. (¬2) المصدر نفسه 14/ 91. (¬3) المصدر نفسه 17/ 8. (¬4) انظر: "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث" مادة: (جدد). (¬5) رواه الطبراني عن ابن عمر بن الخطاب بإسناد حسن ورواه الحاكم عن ابن عمرو بن العاص ورواته ثقات، وقال العراقي: حديث حسن من طريقيه. انظر: "الجامع الصغير" للسيوطي ص 133، و"فيض القدير" للمناوي 2/ 324.

في هذا الحديث نلمح المعاني الثلاثة المترابطة التي ترد إلى الذهن عند ذكر التجديد، فهناك إيمان قد دخل قلب صاحبه واستقر فيه، ثم هو لا يستمر على حالة واحدة، بل هو ينقص ويخلق مثل الثوب الذي يبلى ويخلق، ثم هو يرجى بالدعاء أن يتجدد في القلب بأن يعود إلى مثل حالته الأولى أو أفضل. الحديث الثاني: روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جددوا إيمانكم"، قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: "أكثروا من قول لا إله إلا الله" (¬1). وفي هذا الحديث يتكرر لفظ تجديد الإيمان ويشار إلى أن تجديده يكون بالإكثار من قول لا إله إلا الله، إذ أن شهادة لا إله إلا الله، هي علامة الإيمان، وكلما أعاد المرء هذه الشهادة أعاد تأكيد ما دخل في قلبه أول مرة. الحديث الثالث: روى أحمد بن حنبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -وفي رواية: قدم عهدها- فيحدث لذلك استرجاعًا، إلا جدد الله له عند ذلك؛ فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها" (¬2). هذا الحديث عن مسلم، أو مسلمة، أصيب بمصيبة، ولكنه صبر عليها واسترجع حين وقوعها قائلًا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وبعد أن مضى عليها وقت ذكرها، فإذا أحدث عند ذكرها استرجاعًا وجدده، شكر الله له صنيعه ذلك وجدد له الثواب، وعاد إلى إعطائه مثل ما أعطاه من أجر يوم أصيب بها. ومن ثنايا المعاني التي يشير إليها هذا الحديث نلمح معنى التكرار والإعادة الذي يتضمنه تجديد الثواب كلما أعيد الاسترجاع. الحديث الرابع: روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله -عز وجل- قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك" (¬3). وفي هذا الحديث يرد لفظ تجديد الأيام والليالي، فالأيام والليالي تذهب وتعود، فكلما ذهب يوم فقد بلي، وكلما عاد يوم مثله فقد تجدد. ¬

_ (¬1) "المسند" ابن حنبل 2/ 359. (¬2) المصدر نفسه 1/ 201. (¬3) المصدر نفسه 2/ 496.

التجديد يعني الإحياء والإعادة: من مجموع ما جاء سابقًا من استعمال كلمة تجديد في اللغة وفي القرآن وفي الحديث، يتضح أن كلمة التجديد تدل على الإحياء والبعث والإعادة، وأن هذا المعنى يكون في الذهن تصورًا من ثلاثة عناصر: وجود وكينونة، ثم بلى ودروس، ثم إحياء وإعادة. آراء السلف عن التجديد: المفهوم السليم للتجديد هو ذلك المعنى الذي كان يقصده الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حين أخبر أصحابه بنبوءة بعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها، وأحق الناس بتوضيح المفهوم النبوي الكريم لهذا المصطلح هم السلف. وكلمة سلف معناها في الأصل تقدم، فالسلف هم الجماعة المتقدمون، وسلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من الصحابة والتابعين السلف الصالح (¬1)، وأصبح لفظ السلف مصطلحًا يقصد به الصحابة -رضوان الله عليهم-، والتابعون لهم بإحسان، وأتباعهم، ومن تلاهم من أئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامه بالقبول، ولم يرم بانحراف أو بدعة (¬2). وقد تناثرت آراء السلف عن التجديد في كتب الحديث وشروحها، وكتب الطبقات والتراجم، وقد أراد الإمام ابن حجر (773 - 852 هـ) أن يفرد هذا الموضوع بالتأليف، وأبدى هذه الرغبة قائلًا: "لعل الله إن فسح في المهلة أن يسهل لي جميع ذلك في جزء مفرد" (¬3)؛ ولكن لم أعثر على شيء من ذلك، ولعل الكتاب مفقود منذ زمن بعيد (¬4)، أو لعله لم ير النور. وللسيوطي (ت 911 هـ) وريقات عن المجددين بعنوان: "التنبئة فيمن بعثه الله على رأس كل مائة" (¬5). ¬

_ (¬1) "لسان العرب" ابن منظور 9/ 159. (¬2) انظر: "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني 1/ 18. (¬3) "توالي التأسيس" ابن حجر ص 48. (¬4) ذكر السيوطي أنه بحث عنه ولم يجده انظر: كتاب "المجددون" أمين الخولي ص 12. (¬5) انظر: "مكتبة الجلال السيوطي"، أحمد الشرقاوي ص 146، وقد نشر جزء منه أمين الخولي في كتابه "المجددون".

ولأن مصطلح التجديد نشأ عن الحديث النبوي المروي في ذلك، فإن كتب الحديث التي خرّجت هذا الحديث وشروحها قد تضمنت طائفة من الآراء حول التجديد، ومن تلك الكتب كتاب سنن أبي داود (ت 275 هـ) وشروحه، وكتاب جامع الأصول لابن الأثير (544 - 606 هـ)، وكتاب الجامع الصغير للسيوطي وشروحه. أما كتب التراجم والطبقات فقد كانت المجال الثاني الذي أبرز فيه السلف فكرتهم عن التجديد، وذلك عند تناولهم لسيرة أحد المجددين، ومن الأمثلة على ذلك كتاب ترجمة أبي الحسن الأشعري لابن عساكر (499 - 571 هـ) وعنوانه: "تبيِّين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أَبو الحسن الأشعري"، وكتاب "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (727 - 771 هـ)، وكتاب ترجمة الإمام الشافعي للإمام ابن حجر وعنوانه: "توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس"، وكذلك قد ذكر أن زين الدين العراقي (725 - 806 هـ) قد تناول هذا الموضوع في ترجمته للغزالي في أول تخريجه لأحاديث كتاب "إحياء علوم الدين" (¬1). وغني عن الذكر أن هذه الكتب والاقتباسات التي تضمها ليست هي المواضع الوحيدة التي أتيح فيها للسلف أن يتحدثوا عن التجديد، فقد مس بعضهم الموضوع مسًا عابرًا هنا وهناك في ثنايا كتاباتهم، ومن أمثلة ذلك ابن كثير (774 هـ) كتب سطورًا عن ذلك في كتابه "شمائل الرسول ودلائل النبوة". وقد كان هذا الاقتضاب في تناول هذه القضية هو الطابع العام لكتابات السلف عن التجديد، وأكثر كتاباتهم لا تتجاوز ورقات قليلة. وكذلك كانت عنايتهم موجهة في المقام الأول إلى بيان آرائهم حول من يصلح أن يحوز لقب مجدد. وتذكر المصادر أن الاهتمام بهذه الناحية قد وجد منذ زمن مبكر عند السلف؛ فالإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124 هـ) مثلًا قد أبدى رأيه فيمن هو مجدد القرن الأول، وشاع عنه هذا الرأي حتى أنه ليعد من أوائل الذين أثاروا الاهتمام بهذا الأمر. والإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) يسوق مروياته لحديث التجديد بطرقها المختلفة، ثم يذكر من يرى أنه مجدد القرن الأول ومجدد القرن الثاني. وكل هذا يشعر أن الحديث كان ¬

_ (¬1) انظر: "خلاصة الأثر" للمحبي 3/ 346.

مشهورًا في ذلك العصر (¬1). وقد صح أيضًا أن حديث التجديد قد ذكر في مجلس أبي العباس ابن سريج من فقهاء الشافعية في القرن الثالث الهجري، فقام شيخ من أهل العلم من الحاضرين وأنشد بعض الأبيات، تضمنت أسماء مجددي القرن الأول والثاني والثالث. وتنشد هذه الأبيات نفسها في مجلس أبي عبد الله الحاكم (ت 405 هـ) وتضاف إليها أبيات أخرى تتضمن اسم مجدد القرن الرابع، ويجعل السبكي ذلك كله مطلعًا لقصيدة له من عشرين بيتًا نظم فيها أسماء المجددين (¬2). ولعل ذلك ما حدا بالسيوطي لأن يؤلف أرجوزة صغيرة من ثمانية وعشرين بيتًا أسماها "تحفة المهتدين بأخبار المجددين" (¬3). وهكذا وبالرغم من أن السلف قد تحدثوا قليلًا عن التجديد، إلا أننا نجد آراء لهم تمثل أغلب العصور الإسلامية، حتى أنه ليمكن القول إن هذه المسألة كانت في كل قرن من المسائل العلمية التي يدور عنها الحديث في مجالس العلماء، وأنها كانت أحد موضوعات بحثهم وكانوا يتداولون فيما بينهم الآراء عنها. وبمراجعة الأسماء التي ورد ذكرها فيما سبق ممن لهم آثار في هذا الموضوع، وأكثرهم من الأقلام المشهورة، يظهر كيف أنه لم يخل عصر ممن تناول هذه المسألة. تعريف التجديد: لا يمكن أن أسمي ما تجمَّع عندي من أقوال السلف عن معنى التجديد تعريفًا محددًا بالمعنى الاصطلاحي لكلمة تعريف. وإن كان هذا لا ينبغي أن يقلل من شأن النقول التي سيأتي ذكرها، والتي تلقي أضواء على تصورهم لماهية التجديد، كما هي عادتهم في كثير من المسائل، وإذا كان لهذه الظاهرة من تفسير ¬

_ (¬1) هذا كلام ابن حجر ويزيد على ذلك قوله: "وفي ذلك تقوية للسند المذكور مع أنه قوي لثقة رجاله". وانظر: "ابن حجر" توالي التأسيس ص 48، والسبكي، "طبقات الشافعية الكبرى" 1/ 199. (¬2) انظر: السبكي "طبقات الشافعية " 1/ 201، 203. (¬3) انظر: المناوي "فيض القدير" 2/ 282؛ والمحبي "خلاصة الأثر" 3/ 344؛ وشمس الحق آبادي "عون المعبود" 11/ 394.

فلعل مرد ذلك أن معنى التجديد كان واضحًا في أذهانهم، ولم يختلط كما اختلط على بعضنا اليوم. فقضية تعريف التجديد وشرح معناها لم تنل عندهم الاهتمام الذي ناله تعداد المجددين وتسميتهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالسؤال الذي كان قائمًا في أذهانهم والذي تركزت كتاباتهم حول الإجابة عليه لم يكن ماهية التجديد، بقدر ما كان من المجدد لكل قرن. وإن كان من الممكن اعتبار تعداد المجددين نوعًا من التعريف للتجديد؛ لأن تعريف الشيء قد يكون بذكر خصائصه، وقد يكون بذكر أفراده؛ إلا أنه من الواضح أن بيان خصائص التجديد لا غنى عنه إذا أردنا أن يكون بين أيدينا تصور لا لبس فيه ولا غموض عن ماهية التجديد. ولكن هذا لا يعني أن السلف أهملوا هذه الناحية تمامًا، فإن أقوالهم لم تغفل الإشارة إلى معنى التجديد، وإن كان ذلك يأتي أحيانًا عرضًا وفي ثنايا الكلام، ولم يطلق عليه أحد منهم أنه تعريف للتجديد. ولكن هذه الأقوال مع ذلك ذات قيمة كبيرة ويمكن بعد عرضها أن نخرج منها بفكرة يمكن اعتبارها نظرة السلف إلى حقيقة التجديد. التجديد هو الإحياء والإعادة: انتهت بنا المباحث الخاصة بأصل كلمة تجديد في اللغة، واستعمالات تلك الكلمة في القرآن والحديث إلى أن التجديد يعني في الأصل الإعادة، وعلى هذا يمكن المبادرة بالقول إن تجديد الدين هو إعادته إلى مثل الحالة التي كان عليها في أول عهده. هذا هو الإطار العام لمعنى التجديد. ومن عبارات السلف التي تبرز هذا المعنى المجمل للتجديد هذه العبارة: يقول أَبو سهل الصعلوكي (ت 387 هـ): "أعاد الله هذا الدين بعد ما ذهب -يعني: أكثره- بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الاستراباذي" (¬1). ونلمح من هذه العبارة أن الدين قد كان تامًّا ومكتملًا، ثم أخذ يعتريه النقص وذهب أكثره، فأعاده هؤلاء إلى قريب من حالته في عهد السلف الأول. وليس الحديث هنا عن مدى صدق هذه العبارة فيما تنسبه من إعادة الدين إلى هؤلاء الذين سمتهم، فإن الحديث عن ¬

_ (¬1) "تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 53.

تفصيل معنى التجديد

ذلك قضية أخرى، ولكن الذي تتأكد أهمية إبرازه من هذه العبارة هو مطابقتها للمعنى اللغوي للتجديد بالتصورات الثلاثة التي تصاحب هذا المعنى (¬1). ويمكن صياغة تعريف للتجديد من عبارة أبي سهل الصعلوكي هذه على النحو التالي: "تجديد الدين هو إعادته إلى ما كان عليه في عهد السلف الأول"؛ ولكن كما هو واضح أن هذا هو المعنى العام للتجديد، ولا بد لهذا العموم من تفصيل، وقد تباينت وجهات نظر السلف لهذا التفصيل، وإن كانت كلها لا تخرج عن هذا الإطار العام. تفصيل معنى التجديد: جاء في أحد النقول أن معنى تجديد الدين هو إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُّنَّة والأمر بمقتضاهما (¬2)، وهذا القول يفصح ابتداء أن هناك اندراسًا وإحياءً. ودرس الشيء؛ يعني: أنه محي وعفا أثره، فالتجديد هو الإحياء بعد الدروس والذهاب، ولا أريد أن أكرر القول في هذا المعنى. ولكن الذي يضيفه هذا القول هو ماذا يندرس وماذا يحيا، فالذي يندرس هو الكتاب والسُّنَّة والعمل بهما، ولهذا قلت: إن هذه العبارة هي كالتفصيل لمعنى إعادة الدين، فهي لا تكتفي فقط بالإشارة إلى أن هناك نقصًا في الدين وأن تجدده؛ يعني: إحياء وإعادة ما نقص، ولكنها تذهب إلى تفصيل ذلك. والكتاب والسُّنَّة هما أصل الدين، ويمكن القول إن الدين هو مجموع العلم بالكتاب والسُّنَّة والعمل بهما. ويشمل العلم بنصوصهما وألفاظهما، والعلم بمعاني تلك النصوص والألفاظ. ومن البداهة القول إن العمل يستند على هذا العلم. ومن هذا فإن ما يندرس من الكتاب والسُّنَة بهذا الاعتبار ثلاثة أمور: نصوص الكتاب والسُّنَّة أو معاني تلك النصوص أو العمل بها. أما النصوص فلا شك أن بقاء أي دين إنما هو ببقاء نصوصه الأصلية، وإذا لم يكن هناك اطمئنان إلى صحة هذه النصوص ونسبتها إلى مصادرها الأُوَل ¬

_ (¬1) "تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 11 من هذا البحث. (¬2) انظر: "عون المعبود شرح سنن أبي داود" شمس الحق آبادي 11/ 386.

فإن الدين ينهدم من أساسه. ولعل النظر في تاريخ الأديان السابقة مثل اليهودية والنصرانية، يؤكد بجلاء هذه الحقيقة ويصور مدى خطورة هذه الناحية، فقد دخل في صلب الكتب المقدسة ما ليس منها، وأصبح من العسير جدًا أن يوجد أي معيار لمعرفة ما هو موحى به من عند الله تعالى، وما هو من أقوال الأنبياء -عليهم السلام-، وما هو من كتابات تلاميذهم وأتباعهم من بعدهم. ومن ناحية وثائقية تاريخية فإنه من المشكوك فيه جدًا نسبة ما يسمى الآن بالكتب المقدسة لهذه الأديان إلى مصادرها (¬1). وقد كان من الممكن أن يحدث للإسلام ما حدث للأديان السابقة ولكن الله حفظ هذا الدين من هذه الناحية، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. أما القرآن فلم يدخله تحريف قط. وأما الحديث فقد دخله ما ليس منه، وزاد فيه الوضّاعون. وقد بذلت جهود ضخمة لتوثيقه وتصحيحه. وإذ كان تجديد الدين هو إحياءه والإبقاء عليه، فإن المحافظة على نصوص الدين الأصلية من الضياع ومن الاختلاط بغيرها يكون أحد معاني التجديد. وهل تتصور أي إعادة للدين أو إحيائه دون أن تكون هناك طريقة علمية واضحة، لتوثيق وتصحيح النصوص الأصلية للكتاب والسُّنَّة؟ وهل تتصور أي إعادة للدين أو إحيائه دون أن يكون هناك نقل صحيح من جيل إلى جيل لألفاظ القرآن وألفاظ الحديث؟ ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن الجهود التي تبذل في سبيل توثيق نصوص القرآن والحديث، وأن العلوم التي نشأت لتحقيق هذا الغرض تدخل في معنى تجديد الدين. ويكون من أحد معاني تجديد الدين حفظ نصوص الدين الأصلية صحيحة نقية. والأمر الثاني الذي يندرس من الكتاب والسُّنَّة هو معاني النصوص، وهذا هو الباب الواسع الذي يدخل منه التحريف للدين، ذلك أن فهم النصوص يتأثر بعوامل كثيرة منها ما يتصل بالشخص نفسه، ومنها ما يتصل بالزمان والعصر الذي يعيش فيه، ومنها ما يتصل بالمكان والبيئة التي ينشأ فيها، فهناك القدرات ¬

_ (¬1) هذه حقيقة سجلها القرآن وقد تظافرت على إثباتها الدراسات المقارنة للأديان. انظر: "مقارنة الأديان" أحمد شلبي، "اليهودية" ص 264، و"المسيحية" ص 176.

العقلية للشخص، والثقافات والمعارف التي ترسم طريقة تفكيره، والدوافع والبواعث النفسية التي تحركه، وغير ذلك من العناصر التي تتفاعل كلها لتكوِّن فهمه للنصوص. وإذا كان فهم النصوص هو نتائج العقول المتباينة فيما بينها تباينًا عظيمًا، وكان فهم النصوص هو أساس الدين، صار بوسعنا أن نتصور كم من الأشكال للدين يمكن أن تتولد من هذه الطرق المختلفة للفهم. وإذا كان ذلك هو الأمر الواقع، فإنه لا بقاء للدين الصحيح إلا بوجود منهج محدد لطريقة فهم النصوص. ومن وجهة نظر السلف فإن الصحابة قد تلقوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاني القرآن كما تلقوا ألفاظه (¬1)؛ وكذلك الأحاديث. إذ أن المقصود من الألفاظ هو المعاني، ومن غير المعقول أن يكون خطاب الله ورسوله لهم بما لا يفهمونه. وبجانب هذا التلقي المباشر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن هناك مميزات أخرى انفرد بها الصحابة تجعل فهمهم للنصوص هو الفهم السليم (¬2). ومن ذلك أن النصوص كانت بلغة خطابهم اليومية، ومن ذلك أنهم شاهدوا وحضروا المناسبات التي من أجلها أنزلت الآيات والظروف التي قيلت فيها الأحاديث، وعاشوا الجو المحيط بها، وبادروا إلى العمل بها وقد كانت تمس أدق المسائل في حياتهم والعمل من أهم الوسائل التي تعين على الفهم. وهذه المدرسة التي تكونت لفهم النصوص هي المدرسة التي لا زالت تحفظ جيلًا بعد جيل المعاني الصحيحة للنصوص والمنهج السليم لمعرفة مقاصدها ومراميها. وهي المدرسة التي تركت آثارها مدونة في أمهات كتب التفسير وأمهات كتب شروح الأحاديث. ولأن الدين الصحيح هو نتيجة الفهم الصحيح للنصوص فإن أحد معاني تجديد الدين هو نقل المعاني الصحيحة للنصوص وإحياء الفهم السليم لها. أما العمل بالكتاب والسُّنَّة فإنه هو الغاية من معرفة النصوص وفهمها. والعلم بالنصوص ومعانيها يشكل الأساس النظري للدين، ومن أخطر الانحرافات التي تصيب الدين الانفصال بين العلم وبين العمل أيًّا كان نوع هذا الانفصال ودرجته. ¬

_ (¬1) "مقدمة في أصول التفسير" ابن تيمية ص 35. (¬2) المصدر نفسه ص 95.

التجديد هو إفشاء العلم: ولأهمية مكانة العلم في الدين اقتصرت بعض أقوال السلف على تعريف التجديد بأنه إحياء العلم فقط. يقول ابن كثير: "وقال طائفة من العلماء: الصحيح أن الحديث -يعني: حديث التجديد- يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم، عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف، كما جاء في الحديث من طرق مرسلة وغير مرسلة، يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" (¬1). فهذا القول يقتصر على أن التجديد هو ما يقوم به العلماء وهو نقل علوم السلف من جيل إلى جيل نقية من التحريف وسليمة من الانتحال. وهذه الأهمية لنقل العلوم الدينية واعتبار أن التجديد هو إظهارها وإفشاؤها تظهر في تعريف آخر للتجديد يذكر أن ما يتجدد من أمر الدين هو "ما اندرس من أحكام الشريعة وما ذهب من معالم السنن وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة" (¬2). بل إن روايات أحمد بن حنبل لحديث التجديد قد جاءت بلفظ (تعليم الدين) في مكان لفظ تجديد الدين. وهذه الروايات المتقاربة تقدم لنا شرحًا لمعنى التجديد. وهذه هي الروايات (¬3): 1 - قال أحمد بن حنبل: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يقيض في رأس كل مائة سنة من يعلم الناس دينهم" (رواه أَبو بكر البزار). 2 - ومن طرق أخرى قال أحمد بن حنبل: "إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة من يعلم الناس السنن وينفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكذب" (رواه البيهقي). 3 - ومن طريق أخرى يقول أحمد بن حنبل: يروى في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم". ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" ابن كثير ص 495. (¬2) "فيض القدير" المناوي 1/ 10. (¬3) "توالي التأسيس" ابن حجر ص 48.

وهذه النصوص تبين أهمية التعليم في مفهوم تجديد الدين، فكأن التجديد هو تبيين الدين وتعليمه. ولفظ التعليم لفظ عام مثل الإعادة، وينبغي النظر إليه على ضوء التفصيلات الأخرى. التجديد والاجتهاد: أشار السلف إلى مجال آخر من مجالات تجديد الدين، وهو وضع الحلول الإسلامية للمشاكل التي تطرأ في حياة البشر، ذلك أن الحياة مليئة بالمتغيرات، وظواهر النصوص لا تفي ببيان كل الأحكام لكل الأمور. ففي كل عصر توجد حوادث طارئة تستدعي أن يشرع لها حكم، بل إن كثيرًا من نصوص القرآن والسُّنَّة قد جاءت استجابة للحاجات التي ظهرت في العهد النبوي كما هو معروف في تاريخ القرآن وتاريخ السُّنَّة. وفي كل عصر توجد دائرة من دوائر حياة الناس المتقلبة المتطورة، تحتاج إلى العقل المسلم الذي يرد هذه الدائرة إلى الدين، وهذا هو ما يسمى بالاجتهاد. فبالاجتهاد تتسع دائرة أحكام الدين لتشمل مساحات أكبر بحسب اتساع الحياة وتطورها. فهذا الاجتهاد يدخل في معنى تجديد الدين بل إن بعض السلف رأى أن الحاجة للتجديد تنبع من هذه الناحية وهذه هي عبارته: يقول: "وذلك لأنه سبحانه لما جعل المصطفى خاتم الأنبياء والرسل وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد، ومعرفة أحكام الدين لازمة إلى يوم التناد، ولم تف ظواهر النصوص ببيانها بل لابد من طريق واف بشأنها، اقتضت حكمة الملك العلَّام ظهور قوم من الأعلام في غرة كل غرة، ليقوم بأعباء الحوادث، إجراء لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم" (¬1). وجاء في وصف المجدد أن يكون "مجتهدًا، قائمًا بالحجة، ناصرًا للسُّنَّة، له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات، من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته واقتضاءاته، من قلب حاضر وفؤاد يقظان" (¬2). ¬

_ (¬1) "فيض القدير" المناوي 1/ 10. (¬2) المصدر نفسه 1/ 10.

فلله ما أحوج الدين لهذا القلب الحاضر والفؤاد اليقظان والعقل المسلم، الذي يجعل الدين الموجه لكل شيء، والحاكم على كل شيء، والمنبع لكل معرفة، والأصل لكل علم، والأساس لكل نظام، والمصدر لكل تشريع. التجديد يناقض الابتداع: ومن تعريفات السلف للتجديد هذا التعريف: "يجدد الدين؛ أي: يبين السُّنَّة من البدعة، ويكثر العلم ويعز أهله، ويقمع البدعة ويكسر أهلها" (¬1). وهذا التعريف للتجديد يشير إلى أمر هام في مفهوم التجديد عند السلف. فالتجديد من هذا القول يضاد الابتداع. وكل من المفهومين الابتداع والتجديد على طرفي نقيض. فما هو الابتداع؟ جاء في شرح الابتداع هذا القول: "أصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق ومنه قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]؛ أي: مخترعهما على غير مثال سابق متقدم. وقوله تعالى: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]؛ أي: ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل. ويقال: ابتدع فلان بدعة؛ يعني: ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق" (¬2). وجاء أيضًا: "والمراد بالبدعة ما حدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة. فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل في الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. وقد قال الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السُّنَّة فهو محمود، وما خالف السُّنَّة فهو مذموم. ومراد الشافعي أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق ¬

_ (¬1) "عون المعبود" 11/ 391. (¬2) "الاعتصام" للشاطبي 1/ 29.

السُّنَّة؛ يعني: ما كان لها أصل من السُّنَّة ترجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعًا لموافقتها السُّنَّة. وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر قوله الأول وذلك أنه قال: "المحدثات ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سُنَّة أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، وما أحدث فيه من الخير، لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة" (¬1). ويزداد هذا المعنى توضيحًا بقول آخر: "فالبدعة الحقيقية هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سُنَّة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل، ولذلك سميت بدعة لأنها شيء مخترع على غير مثال سابق، وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع، إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة. لكن تلك الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر، أما بحسب نفس الأمر فبالعرض، وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شُبه ليست بأدلة" (¬2). ومن هذا العرض المختصر لتعريفات السلف للبدعة يتبين كيف أن الابتداع والتجديد ضدان لا يجتمعان. ففي حين أن الابتداع اختراع وابتداء، فالتجديد إعادة وإحياء، وفي حين أن الابتداع إحداث لما ليس له أصل في الدين لا في نصوصه ولا قواعده الكلية أو مقاصده العامة، فالتجديد تشييد لصرح الحياة على أصول الدين وبناء شعبه على أسسه، وإعمال لنصوص الشرع وقواعده الكلية، وتحقيق لمقاصده العامة. وفي حين أن الابتداع إلصاق ما ليس من الدين به، وإدخال عنصر غريب فيه، فإن التجديد تنقية للدين من العناصر الدخيلة، وإبقاء للأصيل فيه. وإذا كان التجديد تصحيحًا للدين، فالابتداع تحريف للدين بل هو من أكبر أنواع التحريف للدين، ذلك أن الابتداع لا تحمل لواءه العناصر الخارجية المعادية للدين، فإن هذه العناصر -لعداء المسلمين الصارخ لها- يسهل كشفها وتعريتها، ولكن الابتداع لا يروج ولا تقوم له سوق إلا على يد من ينتمي إلى المسلمين، ولأنه ينتسب إلى الدين فهو لذلك يكون أبعد أثرًا ويبلغ ما لا يبلغه ¬

_ (¬1) "جامع العلوم والحكم" ابن رجب الحنبلي ص 235 (بتصرف). (¬2) "الشاطبي" الاعتصام 2/ 3.

غيره. والابتداع أيضًا مزلق من المزالق الخفية تحيط به المشتبهات التي قلَّ أن يتفطن إلى ما فيها من الباطل، ولهذا فإنه ينخدع به كثير من الناس ويحسبونه من الدين. وقد يكون في هذا بعض ما يلمح إلى الفرق بين التجديد والابتداع. وإلى هنا يكون قد تبين لنا مجمل تصور السلف إلى التجديد، ويمكن إجمال عناصر هذا التصور على النحو التالي: 1 - إن تجديد الدين هو السعي لإحيائه، وبعثه، وإعادته إلى ما كان عليه في عهد السلف الأول. 2 - ومن ضرورات التجديد حفظ نصوص الدين الأصلية صحيحة نقية حسب الضوابط والمعايير التي وضعت لذلك. 3 - ومن مستلزمات التجديد سلوك المناهج السليمة لفهم نصوص الدين وتلقي معانيها من الشروح التي قدمتها لها المدرسة الفكرية السُّنِّية. 4 - وغاية التجديد جعل أحكام الدين نافذة مهيمنة على أوجه الحياة والمسارعة لرأب الصدع في العمل بها، وإعادة ما ينقض من عراها. 5 - ومن توابع ذلك الاجتهاد، وهو وضع الحلول الإسلامية لكل طارئ، وتشريع الأحكام لكل حادث، وتوسيع دائرة أحكام الدين لتشمل ما كان نافعًا متفقًا مع اتجاهات الدين ومقاصده وكلياته. 6 - ومن خصائص التجديد تمييز ما هو من الدين وما يلتبس به، وتنقية الدين من الانحرافات والبدع، سواء كانت هذه الانحرافات ناتجة من عوامل داخلية في المجتمع المسلم أو كانت بتأثيرات خارجية. وهذا بشكل عام ما يمكن اعتباره فكرة السلف عن معنى التجديد، وهو في مجمله سعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر، وبين النموذج المثالي للدين الذي كان في العهد النبوي وعهد الصحابة، ومن الممكن صياغة تعريف للتجديد من هذه التصورات السابقة كالآتي: "تجديد الدين هو إحياؤه وبعث معالمه العلمية والعملية، التي أبانتها نصوص الكتاب والسُّنَّة وفهم السلف".

ضوابط التجديد

ضوابط التجديد: بعد تحديد معنى التجديد والإشارة لمضمونه، يمكن أن تذكر بعض الضوابط التي تجعل المعنى الصحيح للتجديد لا يلتبس بالمعاني الخاطئة التي قد يلصقها بعضهم بمفهوم التجديد، والتي سيأتي إن شاء الله تفصيل كامل لها في الباب الثاني من هذا البحث. وهذه الضوابط مأخوذة من معاني التجديد المذكورة سابقًا، ومندرجة تحت مضامينها، ولكنها أفردت بالبحث زيادة في التوضيح وتأكيدًا لمفهوم التجديد. الاعتماد على النصوص الموثقة: يأتي في مقدمة ضوابط التجديد، اعتماده في فهم الدين والسعي لإحيائه، على نصوص صحيحة موثقة معتمدة. ولقد تعهد الله تعالى بحفظ نصوص القرآن، إذ قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فلم يدخل في حروفه تحريف ولا زيادة ولا نقص، مثل ما حدث للكتب السابقة التي وكل أمر حفظها لأهلها كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، فضيعوها وحرّفوها (¬1). أما القرآن فلم يدخله تحريف، وقد أجمعت الأمة بجميع طوائفها على ذلك. وإن كان قد طعن في القرآن بعض الطاعنين قديمًا وحديثًا بشبهة التحريف والنقص، إلا أن ما قالوه ليس إلا ظنونًا وأوهامًا لا يقوم عليها دليل. فمن أولئك غلاة الشيعة الإمامية الذين ادعوا في بعض كتبهم زيادات ونقصًا، رووها بروايات ضعيفة غير ثابتة، ردها وفنَّدها كثير من العلماء منهم بعض علمائهم المعتبرين. يقول الطبرسي -مثلًا- في "مجمع البيان" ما نصه: "أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة". ثم قال: "إن العلم بصحة نقل القرآن؛ كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء فيما ذكرناه؛ لأن القرآن مفخرة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: "تفسير القرطبي" 10/ 5.

والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرًا أو منقوصًا مع العناية الصادقة والضبط الشديد" (¬1). وحاول بعض المستشرقين في العصر الحاضر إثارة شبهات حول توثيق نص القرآن، ولكنهم عجزوا أن يأتوا بدليل علمي مقبول، مع كثرة البحث والتنقيب وجمع مخطوطات القرآن القديمة ومقابلتها مع بعضها البعض. ومع سلامة نص القرآن الكريم من التحريف وثبوته، فإن ذلك يشمل القراءات برواياتها ووجوهها المنقولة الثابتة بضوابطها المتفق عليها، حسب ما صرح به علماء القراءات وجهابذتهم. ومن أولئك الإمام ابن الجزري الذي قال في أول كتابه عن القراءات: "كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة، التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة، أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمَّن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف" (¬2). فكل قراءات القرآن يعتمد عليها في فهم الدين وفقهه وأحكامه وتجديده وإحيائه. أما ضبط نصوص الحديث وتوثيقها فقد توفرت له جهود ضخمة ممتدة من العصور الأولى حتى عصرنا الحاضر، وتمخضت تلك الجهود في حفظ نصوص الحديث وتنقيتها مما شابها من وضع وزيادة وتحريف، وتدوينها في دواوين متداولة معروفة، من كتب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها. ومع كثرة التنقيح والتمحيص فلا تزال كثير من الأحاديث الواهية الضعيفة بل الموضوعة منتشرة ومشتهرة، وإذا اعتمد التجديد على نصوص حديثية غير صحيحة ولا موثقة، فإنه يكون تجديدًا أعرج قد يفسد أكثر مما يصلح. وهذا مجدد القرن الخامس الهجري أَبو حامد الغزالي، مع الاعتراف له بالفضل وبكثير من المزايا، إلا أن ¬

_ (¬1) "مجمع البيان" الطبرسي 1/ 15. (¬2) "النشر في القراءات العشر" للحافظ محمد بن محمد بن الجزري 1/ 8.

إصلاحه وتجديده، وبخاصة كتابه "إحياء علوم الدين"، قد شابه كثير من الدخن والبدع بسبب اعتماده على الأحاديث الضعيفة وشحن كتابه بها، كما سيأتي بيانه لاحقًا في دراسة آثار المجددين في الفصل الثاني من هذا الباب. فلابد للتجديد أن ينضبط بالنصوص الحديثية الصحيحة وإلا لم يكن تجديدًا بالمعنى الصحيح. اتباع مناهج علمية في فهم النصوص: إذا كان القرآن والحديث هما المصدران الأساسيان للدين، فإن توثيق نصوصهما وحفظهما من الضياع ركن أساسي لأي تجديد للدين. لكن مما لا شك فيه أن النصوص ليست حروفًا وألفاظًا وأصواتًا، إنما النصوص معانٍ ومفاهيم، ولهذا فإن بقاء أي دين وتجديده ودوامه إنما يكون بفهم نصوصه الأصلية فهمًا صحيحًا، وحفظ معانيها السليمة وعدم تحريفها وتغييرها وتبديلها. ومثل ما توفرت لضبط نصوص القرآن ونصوص الحديث وتوثيقها، مناهج علمية معروفة في علوم القرآن وعلوم الحديث، كذلك توفرت لضبط فهم النصوص وتأصيل معانيها، مناهج علمية معروفة في أصول تفسير القرآن وفي أصول الفقه. هذه الضوابط العلمية لفهم النصوص من أهم ضوابط التجديد السليم التي ينبغي له أن ينضبط بحدودها ولا يتجاوزها وإلا كان تحريفًا وانحرافًا. وليس القصد هنا استقصاء هذه الضوابط وإنما تكفي الإشارة لأهمها (¬1). من أول ضوابط فهم نصوص القرآن والحديث أن اللغة العربية هي المفتاح لمدلولاتها ومعانيها، والمقصود بها اللغة التي كان يتحدث بها العرب في عهد نزول القرآن. يقول ابن تيمية: "يحتاج المسلمون إلى شيئين: أحدهما: معرفة ما أراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ الكتاب والسُّنَّة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين فى معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسُّنَّة عرَّفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلَّغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلَّغوا حروفه" (¬2). وحسب هذا الضابط فإن معاني ¬

_ (¬1) انظر: "في فقه التدين فهمًا وتنزيلًا"، الدكتور عبد المجيد النجار، الدوحة، كتاب "الأمة" 1420 هـ. (¬2) "كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير" 1/ 353.

ألفاظ القرآن والحديث تؤخذ من لغة العرب في عهد ظهور الإسلام، وليس بحسب ما تولَّد بعد ذلك واستجد فيها من معان. وقد قامت جهود ضخمة لحفظ لغة القرآن وبقائها حية مستمرة، مع تطاول العهد وتطور اللسان العربي وتغيره. ومن ضوابط فهم النصوص أيضًا أن تفهم في حدود المعاني التي فهمها السلف من الصحابة والتابعين ومن تبع نهجهم من العصور التالية، حسب ما أشار إليه قول ابن تيمية المنقول في الفقرة السابقة. ولا يعني ذلك جمود معاني القرآن على التراث المنقول عن السلف، إذ أن معاني القرآن يمكن أن تتسع وتستوعب معانٍ جديدة بحسب اتساع المعارف والتجارب البشرية المتراكمة، لكن اتساع معاني القرآن هذا ينبغي أن يكون أساسه ما فهمه السلف من المعاني، ولا يكون مناقضًا ومخالفًا لها. فتظل معاني السلف للنصوص هي الأصل والمحور الذي يتسع وينساح لكل جديد من علوم ومعارف. ومن ضوابط فهم النصوص أن تقرأ في ضوء الظروف والأحوال التاريخية التي صاحبت نزولها، وهو ما يعرف بأسباب النزول وفيه مؤلفات كثيرة شائعة وكتب التفسير وشروح الحديث تنقله وترويه؛ لأنه من أسس الوقوف على المعاني وإزالة ما يلابسها من الإشكال والغموض. قال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن"، وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب" (¬1). ومن ضوابط فهم النصوص أن تعتبر وحدة متكاملة، يفهم بعضها في سياق البعض الآخر، ذلك أن بعضها يبين بعضًا، وكلها من معين واحد لا تناقض فيه ولا اختلاف، كما قال الله تعالى في وصف القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. ولهذا يقول ابن تيمية في كتابه "أصول التفسير": "فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر. فإن أعياك ذلك فعليك بالسُّنَّة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أَبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) "الإتقان في علوم القرآن" جلال الدين عبد الرحمن السيوطي 1/ 87.

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]. ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني: السُّنَّة، والسُّنَّة أيضًا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، لا أنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك" (¬1). وخلاصة الأمر أن ضوابط فهم النصوص هي التي تحفظها من الضياع والتبديل، والتجديد السليم هو الذي ينضبط بضوابط فهم النصوص هذه، وإلا كان تحريفًا للنصوص عن مواضعها بتأويلها بغير التأويل الصحيح. الالتزام بضوابط الاجتهاد: الاجتهاد من وجوه التجديد الأساسية التي لا يكتمل إلا بها، إذ لا يخلو عصر أو بلد من جديد لم يكن معلومًا من قبل. ولكن ذلك الاجتهاد الذي يصاحب التجديد ليس باجتهاد غير ملتزم ولا منضبط، بل هو اجتهاد بالمعنى الفقهي الأصولي للاجتهاد، ملتزم ومرتبط بضوابط تسدد مسيرته وتهدي طريقه، وتقربه من الصواب وتبعده من الخطأ والزلل. فللاجتهاد منهج علمي محدد مرسوم، لا يمكن أن يتجاوزه الباحث المجتهد، مثله في ذلك مثل كثير من علوم البشر ومعارفهم، مقيدة بمناهج علمية مرتضاة من علمائها، لابد لكل باحث من التزامها. وقد بيَّنت كتب أصول الفقه مناهج الاستنباط والاستدلال، ببحوث كثيرة وثرة وغنية. وقد تنوَّعت وتعددت عبارات الأصوليين في تعريف الاجتهاد، وليس هذا موضع بسطها وهي مذكورة في كثير من المصادر، منها على سبيل المثال تعريف الشوكاني أنه "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط" (¬2). وبالنظر في دراسات الأصوليين عن الاجتهاد يمكن أن تتبين عدة ضوابط ترسم منهجه وتحدد مجاله، وبالتالي تضبط التجديد الذي لا محيد له من الاجتهاد لبيان أحكام الشرع في الحوادث الطارئة المتغيرة. ¬

_ (¬1) "كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير" 13/ 363. (¬2) "إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول" محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ص 418 وما بعدها.

من الواضح بادئ ذي بدء أن الاجتهاد لابد أن يكون من فقيه مؤهل له مقدرات عالية علمية وعقلية وسلوكية، تمكنه من القيام بجهد علمي مرموق لاستكشاف الحقيقة، مثله في ذلك مثل كل خبير في فن من الفنون أو علم من العلوم، لا يمكن أن يأتي بالجديد فيها من اختراعات واكتشافات إلا من كان عالمًا جامعًا حاذقًا ماهرًا. وقد تحدثت كتب الأصول عن مؤهلات المجتهد بين موسع ومضيق (¬1)، إلا أنه من غير المقبول ولا المعقول أن يتطفل على الاجتهاد دخلاء ليس لهم من العلم الشرعي إلا النزر اليسير، يتجرأ أحدهم على الفتيا في أعقد المسائل الشرعية، وهو لا يحسن إعراب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثم إن الاجتهاد لا يكون إلا بدليل شرعي معتبر، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء: حلّ أو حرم، إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في كتاب الله أو السُّنَّة أو الإجماع أو القياس" (¬2). ولا يجوز لأيِّ مجتهد أن يقول بغير علم أو استناد إلى أدلة، وقد نقل الإمام ابن عبد البرّ إجماع الأئمة على ذلك فقال: "الاجتهاد لا يكونُ إلا على أصول يُضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالمٌ بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف ولم يجز له أن يحيل على الله قولًا في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى الأصل، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا فتدبره" (¬3). واعتمادًا على هذا فلا ينبغي أن يقبل أي اجتهاد يخالف نصًا في القرآن أو السُّنَّة، أو يخالف مقاصد الشريعة العامة. ولابد للاجتهاد من التفرقة بين الثوابت الدائمة والمتغيرات، فتغير الفتوى والأحكام له أسباب كثيرة أوضحها الفقهاء في مواضع كثيرة، منها ما أشار إليه الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين في فصل جعل عنوانه: "فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد" (¬4)، ولكن تلك المتغيرات كلها تقع تحت تغير المصالح والأعراف، وهو ما يمكن أن ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: "المستصفى في علم الأصول"، محمد بن محمد الغزالي أَبو حامد ص 342. (¬2) "الرسالة" بتحقيق أحمد شاكر ص 39. (¬3) "جامع بيان العلم وفضله" يوسف بن عبد البر النمري 2/ 57. (¬4) "أعلام الموقعين عن رب العالمين" ابن القيم 2/ 425.

يكون متغيرًا، أما الأحكام القائمة على نص فهي ثابتة أبدًا. يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة: "إذا ورد النص من القرآن أو السُّنَّة الثابتة في أمر ما على حكم ما. . . . فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا، في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى" (¬1). منافاة الابتداع: من ضوابط التجديد الهامة أنه يضاد الابتداع تمامًا، فالتجديد والابتداع ضدان ليس فقط لا يجتمعان، بل إن كل واحد منهما ينفي الآخر ويصادمه ويهدمه. وقد يخلط بعض الناس أن التجديد هو الإتيان بجديد، وهو بذلك يشتبه عليهم بالابتداع. لكن جديد التجديد هو ما كان له أصل، وذلك معنى جديد كما سبق توضيحه في مباحث اللغة، أما جديد الابتداع فهو ما لا أصل له سابق، وهو الجديد المذموم إذ لم يقم على دليل شرعي يسنده. وسيأتي في الفصل القادم أن من مجالات التجديد الهامة تصحيح الانحرافات والبدع. من هو المجدد: إن الإجابة على هذا السؤال ستساعدنا أكثر في استجلاء نظرة السلف إلى ماهية التجديد. وقد اختلف السلف فيما بينهم في تحديد من هو المجدد في كل قرن، يقول ابن كثير: "قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث" (¬2)؛ يعني حديث: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد الدين". وسنرى بعد قليل القوائم التي ضمت أسماء المجددين. وهذا الاختلاف في تحديد أسماء المجددين يفرض على الذهن تساؤلًا: كيف يعرف المجدد؟ وهل من وسيلة إلى أن نعلم من هو مجدد القرن؟ من الظاهر أنه لا سبيل إلى القطع والجزم، إنما يرجع في تحديد المجدد إلى غلبة الظن باستقراء قرائن أحواله ومدى الانتفاع به (¬3). وإذا كان تعيين ¬

_ (¬1) "الإحكام في أصول الأحكام" ابن حزم 5/ 771 - 774. (¬2) "فيض القدير" للمناوي 2/ 282. (¬3) انظر: "عون المعبود" 11/ 391.

المجدد إنما هو بالظن، والظن يخطئ ويصيب، فلا مجال إذًا لاعتبار ذلك التعيين أمرًا قاطعًا لا يقبل الجدل، ولا مجال إذًا للادعاء بأن شخصًا بذاته هو المقصود بالحديث، فهذه دعوى لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى (¬1). وكل ما في الأمر أنه لما ذكر أحمد بن حنبل جازمًا أن المجددين في المائتين الأوليين هما عمر بن عبد العزيز والشافعي، تجاسر من بعده إلى إضفاء صفة المجدد على من رأوه أهلًا لذلك (¬2). وتتابع العلماء في العصور المتتالية إلى تعداد المجددين ينتقدون آراء من سبقهم ويقدمون أسماء جديدة. ومن هذه الزاوية يتضح أن الباب واسع للاختلاف حول المجددين، إلا أنه لابد من ضوابط ومقاييس لمعرفة المجدد، حتى لا يطلق كل أحد القول فيزعم من غير أساس أن المجدد هو فلان (¬3). شروط المجدد: إن من هذه الضوابط ما يرجع إلى المواهب والصفات الذاتية التي رأى السلف أن المجدد ينبغي أن يكون متحليًا بها، ومنها ما يرجع إلى الأعمال التي يقوم بها في حياته وإلى أي حد يمكن أن تندرج الأعمال تحت عنوان التجديد، ومنها ما يرجع إلى مدى الانتفاع به وشهرته وآثاره التي تركها في عصره (¬4). أما ما يخص الصفات الذاتية للمجدد، فإنه من الضروري أن يكون حائزًا على مواهب كثيرة، وسجايا متعددة، تؤهله لمهمة هي شبيهة بمهمة الأنبياء -عليهم السلام-. ¬

_ (¬1) هذا رأي الزين العراقي. انظر: "خلاصة الأثر" المحبي 3/ 346. (¬2) انظر: المصدر نفسه ص 346. (¬3) انظر: كتاب "المجددون في الإسلام" لعبد المتعال الصعيدي، فقد عد من المجددين أسماء كثيرة وهي لا ترقى إلى رتبة المجدد. (¬4) يقول السيوطي جامعًا آراء السلف في هذه الضوابط: والشرط في ذلك أن تمضي المائة ... وهو على حياته بين الفئة يشار بالعلم إلى مقامه ... وينصر السُّنَّة في كلامه وأن يكون جامعًا لكل فن ... وأن يعم علمه أهل الزمن وأن يكون في حديث قد روي ... من أهل بيت المصطفى وقد قوي وكونه فردًا هو المشهور ... قد نطق الحديث والجمهور وما نذكره من هذه الضوابط هو بسط لما أشار إليه السيوطي وغيره، وراجع: "عون المعبود" 11/ 392، و" فيض القدير" 1/ 10.

ومن ذلك أن تكون له ملكات عقلية، وقدرات فكرية، تمكنه من أن يكون ذا قدم راسخة في العلوم، ليس فحسب في مجال الكثير من فنونها وفروعها، كما تجمع الكتب في الخزانات والصناديق، ولكن أن يكون ذا نظر ثاقب، يستطيع به أن يحوز ملكة نقدها وبيان صحيحها من سقيمها، أو بعبارة أخرى أن تكون له الأهلية لقيادة الفكر في عصره. فهذا التفوق العقلي، وتلك المقدرات العلمية العالية، أو كما يقول السيوطي: "يشار بالعلم إلى مقامه" و"أن يكون جامعًا لكل فن" (¬1)، هي من أوائل الصفات التي رأى السلف ضرورة توفرها في المجدد، وجعلوها مقياسًا لمن يستحق أن يوصف بأنه مجدد القرن. ومن الأمثلة على ذلك تلك المناقشة التي يجريها ابن عساكر عن مجدد القرن الخامس والتي يرد فيها على من رأى أن مجدد القرن هو أمير المؤمنين المسترشد بالله فيقول: "وعندي أن الذي كان على رأس الخمسمائة، الإمام أَبو حامد محمد الغزالي الطوسي الفقيه؛ لأنه كان عالمًا عاملًا، فقيهًا، فاضلًا، أصوليًا، كاملًا، مصنفًا، عاقلًا، انتشر ذكره بالعلم في الآفاق وبرز على من عاصره" (¬2). وإذا كان العلم هو أحد أبرز صفات المجدد، فقد ضم بعض السلف إلى ذلك أن يكون المجدد مجتهدًا (¬3). ومما لا شك فيه أن هذه الصفة ضرورية لكل من تبوأ منصب التجديد، فكما رأينا أثناء عرض تعريف السلف للتجديد فإن مواجهة المشكلات التي تتولد في كل عصر، والاجتهاد في وضع الحلول لها في ضوء التفكير الإسلامي الأصيل هو من أهم مجالات التجديد. ومن الواضح أن المجدد ينبغي أن يكون متقدمًا في كثير من الصفات الشخصية الأخرى، وأن تكون له فضائل جمة كثيرة لم يتعرض السلف إلى بيانها بالتفصيل، وإن كانوا قد ألمحوا إليها، وأشاروا إلى أنه ينبغي أن يجمع كثيرًا من صفات الخير (¬4). ¬

_ (¬1) راجع: أبيات السيوطي السابقة. (¬2) "تبين كذب المفتري" ابن عساكر ص 53. (¬3) "فيض القدير" للمناوي 1/ 10. (¬4) راجع: "فتح الباري" ابن حجر 13/ 295.

وغني عن القول أنه لابد للمجدد أن يضطلع بعمل من الأعمال التي تدخل تحت معنى التجديد، ومن أهم ذلك تجلية الإسلام مما يعلق به من الانحرافات والشوائب الدخيلة على مفاهيمه الأصيلة، وإعادته إلى منابعه الأولى الكتاب والسُّنَّة، سواء كان ذلك في المجال الفكري ببث الآراء وإفشاء العلم بالتدريس وتأليف الكتب أو في المجال العملي بإصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم، ويأتي في قمة ذلك إصلاح الإمارة والحكم. وفي الجملة لابد أن يكون المجدد كما قال السلف: "ناصرًا للسُّنَّة قامعًا للبدعة" ومن لا يكون كذلك لا يكون مجددًا ألبتة وإن كان عالمًا بالعلوم مشهورًا بين الناس مرجعًا إليهم (¬1). فمجرد كون المرء جسرًا أو قنطرة تنتقل عبرها العلوم، لا يكفي لأن يجعل في مصاف المجددين، ومع الاعتراف بجلال العمل الذي يؤديه، إلا أنه لابد أن ينضاف إلى ذلك جهد إزالة الشوائب والأخطاء النظرية في العلوم، وردها إلى منابع السُّنَّة، وتصحيح الانحرافات العملية في المجتمع وذلك هو المقصود من قول السلف: "نصر السُّنَّة وقمع البدعة". يقول ابن عساكر في بيان رأيه في أن أبا الحسن الأشعري هو مجدد القرن الثالث وليس هو أبا العباس بن سريج: "وقول من قال إنه أَبو الحسن الأشعري أصوب؛ لأن قيامه بنصرة السُّنَة إلى تجديد الدين أقرب، وهو الذي انتدب للرد على المعتزلة وسائر أصناف المبتدعة المضللة، وحالته في ذلك مشتهرة، وكتبه في الرد عليهم منتشرة، فأما أَبو العباس ابن سريج فكان فقيهًا مضطلعًا بعلم أصول الفقه وفروعه نبيهًا" (¬2). ولا ينبغي أن ينحصر أثر المجدد في دائرة ضيقة، ولا أن يقتصر النفع به في مجال محدود، بل إن السلف قد رأوا أن من يستحق ذلك اللقب ينبغي أن يعم علمه ونفعه أهل عصره (¬3). وأن تكون آثاره ومؤلفاته مشهورة ذائعة، وأن تكون جهوده الإصلاحية ذات تأثير بيِّن في اتجاهات الفكر والعلم وفي حياة ¬

_ (¬1) "السراج المنير" 1/ 4، و"عون المعبود" 11/ 391 و 392، و"فيض القدير" 1/ 10، وراجع قول السيوطي: (وأن ينصر السُّنَّة في كلامه) في أبياته السابقة. (¬2) ابن عساكر، "تبيين كذب المفتري" ص 53. (¬3) راجع: أبيات السيوطي السابقة لقوله: (وأن يعم علمه أهل الزمن) ص 26.

الناس. ومن المعايير لمعرفة تأثير المجدد ما يتركه خلفه من أصحاب وتلاميذ ينشرون آراءه، ويوسعون دائرة الانتفاع بمصنفاته وأعماله الإصلاحية. يقول الزين العراقي: "وسبب الظن في ذلك -يعني: تعيين المجدد- شهرة من ذكر بالانتفاع بأصحابه ومصنفاته" (¬1). أو بعبارة أخرى يمكن أن يقال: أن يتكون في حياة المجدد ومن بعده اتجاه علمي وعملي متميز، أو إن شئت قلت: مدرسة أو مذهبًا، أو حركة، أو جماعة، وهي ألفاظ متقاربة تدل على الأثر الذي ينبغي للمجدد أن يتركه وإلا لم يعد مجددًا، وهذا الشرط ليس شرطًا اعتباطيًا تحكميًا، وإلا فهل يقال: إن أثر المجدد ينتهي بنهاية حياته؟ وقت بعث المجدد: تلك مجملًا المقاييس التي تذكر عند تعداد وحصر المجددين، وعلى أساسها تساق الحجج والأدلة عند الاختلاف فيمن هو المجدد. وهي كما رأينا مقاييس عامة وليست دقيقة الدقة كلها، وإذا أفلحت هذه المقاييس في إخراج الكثيرين، ممن يمكن أن يزعم أنهم من المجددين، إلا أنها قد لا تكون كافية لحصر المجددين في واحد أو اثنين. ومن السهولة بمكان أن نلاحظ أن كثيرًا من العلماء والمشهورين قد جمعوا هذه الصفات. إلا أن هناك ضابطًا آخر أشار إليه السلف، وهو ما يمكن أن يسمى بالضابط الزمني وهو الذي أشار إليه الحديث من أن المجدد يبعث على رأس المائة. يقول الكرماني (أحد شراح صحيح البخاري): "قد كان قبيل كل رأس مائة أيضًا من يصحح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه". وقد ذكر معنى هذه العبارة ابن الأثير والسيوطي وغير واحد من السلف (¬2). ورأس المائة يقصد به هنا آخر المائة، وهذا هو أحد معاني هذه اللفظة لغة، وهذا يعني أن تجديد الدين على يد المجدد يكون في نهاية كل مائة سنة. وجاءت لفظة (رأس المائة) هذه بنفس هذا المعنى في حديث آخر، وهو حديث ابن عمر في الصحيحين: "أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ¬

_ (¬1) "خلاصة الأثر" للمحبي 3/ 346. (¬2) "فيض القدير" 7/ 12، وراجع: أبيات السيوطي السابقة. وراجع: ابن الأثير "جامع الأصول" 11/ 324.

ممن هو على ظهر الأرض أحد" (¬1). فمن الواضح أن المراد برأس المائة في هذا الحديث هو آخر المائة سنة، ولا يفهم من ذلك بحال أن المراد أولها. وكذلك الحديث الذي أخرجه الترمذي في الشمائل عن أنس: "بعثه الله رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين وتوفاه الله إلى رأس ستين سنة" فالمقصود بذلك آخر المدة المذكورة. وعلى هذا الفهم استقر رأي جمهور السلف (¬2). وفي نظري أن الرأي الذي يخالف هذا ويذهب على أن المراد برأس القرن أوله خلاف لا طائل تحته، إذ أنه مما لا شك فيه أن نهاية أي قرن هي بداية لقرن آخر (¬3). وكذلك استقر رأي السلف على أن حساب المائة سنة يكون باعتبار التاريخ الهجري، وبالرغم من أن الحديث محتمل لتفسيرات أخرى، فقد كان من الممكن أن يبدأ حساب المائة سنة من وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من بعثته أو حتى من مولده (¬4). وبخاصة أن الحديث سابق لاستخدام التاريخ الهجري المعروف. وهناك رأي بأن تحديد وقت بعث المجدد برأس المائة ليس المراد منه التخصيص وإنما قد ذكر اتفاقًا، وعلى هذا الرأي يمكن أن يكون المجدد في أول المائة أو وسطها أو آخرها، وبخاصة أنه قد يكون في أثناء القرن من هو أفضل وأحق بلقب المجدد ممن هو في رأس القرن، ولو كان هذا الرأي مستندًا إلى دليل صحيح لكانت دائرة التجديد أوسع، ولدخل كثير من العلماء ممن لم يدركوا رأس المائة في أعداد المجددين، ولكن لم يقتنع بوجاهة هذا الرأي أحد ولم يجد له أصحابه دليلًا يسنده (¬5). وإذا كان ذكر رأس المائة أو نهاية القرن مقصودًا به التحديد، وهو لا ريب المقصود، إذ أنه لا توجد قرينة تجعل هذا التوقيت قابلًا للاحتمالات المختلفة، فما المراد من بعث المجدد عند نهاية القرن؟ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري"، باب السمر في العلم 1/ 55. (¬2) "عون المعبود" 11/ 389. (¬3) من الطريف أن يعتقد بعض الناس أن المراد برأس القرن اليوم الأول من السنة الأولى في القرن الجديد!. (¬4) المصدر نفسه ص 389. (¬5) المصدر نفسه ص 390.

ليس المراد من ذلك أن تكون وفاة المجدد عند نهاية القرن، بالرغم من أن ذلك هو الشائع وهو ظن الكثيرين، إذ أن كلمة (البعث) تدل على الإرسال والإظهار، والوفاة قبض وأخذ، وليست بعثًا أو إرسالًا. فالظاهر أن المراد أن تأتي نهاية القرن على المجدد وهو حي يقوم بعمل التجديد ويتصدى للإصلاح قد اشتهر بذلك وعرف عنه (¬1). ولكن لما كان المرء لا يتأهل لهذه المرتبة ولا يصل إلى أن يكون مشارًا إليه في العلم قائمًا بأمر الإصلاح والتجديد إلا بعد أن تمضي فترة غير قصيرة من عمره، أو بعد أن تتقدم به السن غالبًا، فلهذا قد تختتم حياة المجدد قريبًا من نهاية القرن. ومن الأمثلة على ذلك عمر بن عبد العزيز الذي لا خلاف بين السلف في أنه مجدد القرن الأول وقد كانت وفاته سنة إحدى ومائة، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، وهي المدة التي كانت فيها جهوده الإصلاحية. والشافعي مجدد القرن الثاني توفي سنة أربع ومائتين. وتطبيقًا لهذه القاعدة -وهي ظهور المجدد واشتهاره عند نهاية القرن- لم يدخل السلف في المجددين كثيرًا من المشهورين في أثناء القرن، فأحمد بن حنبل مثلًا، بالرغم من الاعتراف له بالفضل، والاعتراف له بتقديم وتصحيح الدين، إلا أن اسمه لا يرد في إحصائية المجددين التي قدمها ابن عساكر، أو ابن الأثير، أو السبكي، أو الزين العراقي، أو السيوطي (¬2). ونجد أن ابن الأثير يذكر صراحة أنه استبعد أحمد بن حنبل من قائمة المجددين ويقول في ذلك: "وأما أحمد بن حنبل فلم يكن يومئذ -يعني: عند رأس القرن- مشهورًا فإنه مات سنة إحدى وأربعين ومائتين" (¬3). فنهاية القرن إذن هي التوقيت الزمني لكل دورة من دورات التجديد، وقد جعل السلف هذا التوقيت إحدى القواعد لضبط وحصر المجددين. فإذا انضم هذا التوقيت إلى بقية المقاييس التي ذكرناها، من الصفات التي يطلب توفرها في ¬

_ (¬1) " فيض القدير" المناوي 1/ 12، و"خلاصة الأثر" 3/ 347، وأبيات السيوطي السابقة ص 26. (¬2) انظر: الصفحات التالية من هذا البحث. (¬3) "جامع الأصول" ابن الأثير 11/ 322.

المجدد، ونوع الأعمال التي تصلح أن تعتبر تجديدًا، وقوة الأثر الذي يتركه المجدد في عصره، كانت تلك كلها هي المؤشرات التي يعرف بها من هو مجدد القرن، وهي مؤشرات فقط وليست علامات قاطعة، وهي مع عمومها الذي رأيناه تصلح لأن تشير لأكثر من واحد في كل قرن، ومن أجل ذلك رشح أكثر من اسم في كل قرن لمنصب التجديد. تعدد المجددين في القرن: ومع الاختلاف حول أسماء المجددين، وتقديم أكثر من اسم في كل قرن؛ إلا أن جمهور السلف يرى أن المجدد لكل قرن واحد لا يتعدد، وإن كان هناك اختلاف في تعيينه. وقد نسب السيوطي هذا الرأي إلى الجمهور في منظومته عن المجددين (¬1). وليس لهذا القول حجة إلا الرواية التي أخرجها البيهقي لحديث التجديد من طريق أحمد بن حنبل، قال: "يروى في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم"، وإنى نظرت في سنة مائة فإذا هو رجل من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائة الثانية فإذا هو محمد بن إدريس الشافعي" (¬2). فقد جاء في هذه الرواية لفظ رجل، وهىِ أصرح في الدلالة على أن المجدد في القرن واحد. وتضيف هذه الرواية شرطًا آخر في المجدد وهو أن يكون من بيت النبوة وقد قوَّى السيوطي هذه الرواية (¬3)، وكأنه فيما يبدو يذهب إلى أن المجدد من آل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه فرد لا يتعدد. ولكن لم تكن كل الأسماء التي قدمها للمجددين من البيت النبوي، وذلك في المنظومة نفسها التي ذكر فيها هذا الرأي. وفي الحقيقة لم يرد ذكر لأي اسم من أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرون بعد الثاني في الإحصاءات التي بين أيدينا (¬4). وذلك هو ما دفع السبكي لأن يتغلب على هذه الصعوبة بأن حصر جميع أسماء المجددين للقرون بعد الثاني، في أتباع ¬

_ (¬1) راجع: أبيات السيوطي السابقة. (¬2) "توالي التأسيس" ابن حجر ص 48، و"طبقات الشافعية" للسبكي ص 199. (¬3) راجع: أبياته السابقة ص 26. (¬4) السبكي، "طبقات الشافعية" ص 199.

المذهب الشافعي، وذلك في رأيه لأن الشافعي وهو مجدد القرن الثاني وهو من أهل البيت قد صار "هو الإمام المبعوث الذي استقر أمر الناس على قوله، ومذهبه هو المذهب الذي استقر عليه الحال، وبعث في رأس كل مائة سنة من يقرر مذهبه" (¬1). وهذا عجيب من السبكي ولا أظن أحدًا تابعه على هذا الرأي؛ لأنه ليس له من دليل. أما الاتجاه الآخر في قضية تعدد المجددين فهو الذي ذهب إلى أن المجدد في العصر الواحد يمكن أن يكون أكثر من واحد وقد تبنى هذا الاتجاه ابن الأثير، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر (¬2). يقول ابن الأثير: "والأولى أن يحمل الحديث على العموم، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلًا واحدًا، وإنما قد يكون واحدًا وقد يكون أكثر منه، فإن لفظة من تقع على الواحد والجميع، وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث الفقهاء خاصة كما ذهب إليه بعض العلماء، فإن انتفاع الأمة بالفقهاء وإن كان نفعًا عامًا في أمور الدين فإن انتفاعهم بغيرهم أيضًا كثير، مثل أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء، والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد، فإن كل قوم ينفعون بنفع لا ينفع به الآخر. إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء ويتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر، وكذلك أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقراء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر، ولكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلًا مشهورا معروفًا مشارًا إليه في كل فن من هذه الفنون. فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعة من الأكابر ¬

_ (¬1) السبكي، "طبقات الشافعية" ص 199 - 200. (¬2) "جامع الأصول" 11/ 320، و"فيض القدير" 1/ 11، و"البداية والنهاية" ابن كثير ص 495، و"فتح الباري" ابن حجر 13/ 295.

إحصاء المجددين

المشهورين على رأس كل مائة سنة" (¬1). ويسوق ابن حجر حججًا أخرى فيقول في "فتح الباري": "نبَّه بعض الأئمة على أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن واحد فقط، بل الأمر فيه كما ذكره النووي في حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"، في أنه يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وتفرقهم في الأقطار، ويجوز تفرقهم في بلد واحد وأن يكونوا في بعض دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولًا فأولًا، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا أتى أمر الله". قال الحافظ ابن حجر: "وهذا متجه فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا تنحصر في نوع من الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعي ذلك في ابن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم ذكر أحمد أنهم كانوا يحملون عليه الحديث، وأما من بعده فالشافعي وإن اتصف بالصفات الجميلة والفضائل الجمة، لكنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل. فعلى هذا كل من اتصف بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، تعدد أم لا" (¬2). ويرى ابن كثير أن المجددين هم حملة العلم في كل عصر، يقول في ذلك: "الصحيح أن الحديث -يعني: حديث التجديد- يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف" (¬3). إحصاء المجددين: وقد أثر هذان الاتجاهان للسلف في نظرتهم إلى تعدد المجددين في تسمية وإحصاء المجددين في كل قرن. ويمكن اعتبار قائمة ابن الأثير التي أورد فيها ¬

_ (¬1) "جامع الأصول" 11/ 320. (¬2) "فتح الباري" 13/ 295. (¬3) "البداية والنهاية" ابن كثير ص 495.

أسماء المجددين مثالًا للاتجاه الذي ينصر التعدد. وأما الاتجاه الآخر الذي لا يرى التعدد فيتمثل في قائمة السيوطي، التي قد ضمت إحصائية ابن عساكر والسبكي والزين العراقي (¬1). ونسوق فيما يلي إحصائية ابن الأثير (¬2) وإحصائية السيوطي (¬3) للمجددين. قائمة ابن الأثير (¬4): المائة الأولى: 1 - عمر بن عبد العزيز ... من أولي الأمر 2 - محمد بن علي الباقر ... من الفقهاء بالمدينة 3 - القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ... من الفقهاء بالمدينة 4 - سالم بن عبد الله بن عمر ... من الفقهاء بالمدينة 5 - مجاهد بن جبر ... من الفقهاء بمكة 6 - عكرمة مولى ابن عباس ... من الفقهاء بمكة 7 - عطاء بن أبي رباح ... من الفقهاء بمكة 8 - طاووس ... من الفقهاء باليمن 9 - مكحول ... من الفقهاء بالشام 10 - عامر بن شرحبيل الشعبي ... من الفقهاء بالكوفة 11 - الحسن البصري ... من الفقهاء بالبصرة 12 - محمد بن سيرين ... من الفقهاء بالبصرة 13 - عبد الله بن كثير ... من القراء 14 - محمد بن شهاب الزهري ... من المحدثين ¬

_ (¬1) راجع: ابن عساكر، "تبيين كذب المفتري" ص 53، والسبكي، "طبقات الشافعية" 1/ 200، والمناوي، "فيض القدير" 1/ 311. (¬2) راجع: "جامع الأصول" ابن الأثير 11/ 322. (¬3) راجع: "منظومة السيوطي في عون المعبود" 11/ 349. (¬4) لقد عدّ ابن الأثير في قائمته أسماء فيها نظر مثل عدده بعض علماء الإمامية وعدده للمأمون والمقتدر بالله من أولى الأمر.

المائة الثانية: 1 - المأمون بن الرشيد ... من أولي الأمر 2 - الشافعي ... من الفقهاء 3 - الحسن بن زياد اللؤلؤي ... من أصحاب أبي حنيفة 4 - أشهب بن عبد العزيز ... من أصحاب مالك (وأما أحمد بن حنبل فلم يكن يومئذ مشهورًا) 5 - علي بن موسى الرضا ... من الإمامية 6 - يعقوب الحضري ... من القراء 7 - يحيى بن معين ... من المحدثين 8 - معروف الكرخي ... من الزهاد المائة الثالثة: 1 - المقتدر بالله ... من أولى الأمر 2 - أبو العباس بن سريج ... من فقهاء الشافعية 3 - أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي ... من فقهاء الحنفية 4 - . . . . . . . . . (¬1) ... من المالكية 5 - أبو بكر بن هارون الخلال ... من الحنابلة 6 - أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي ... من الإمامية 7 - أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ... من المتكلمين 8 - أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي ... من المحدثين المائة الرابعة: 1 - القادر بالله ... من أولى الأمر 2 - أبو حامد أحمد بن طاهر الاسفراييني ... من الشافعية 3 - أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي ... من الحنفية 4 - أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر ... من المالكية ¬

_ (¬1) بياض بالأصل.

5 - أبو عبد الله الحسين بن علي بن حامد ... من الحنابلة 6 - المرتضى الموسوي ... من الأمامية 7 - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ... من المتكلمين 8 - الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك ... من المتكلمين 9 - أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الحاكم ... من المحدثين 10 - أبو الحسن علي بن أحمد الحمامي ... من القراء 11 - أبو بكر محمد بن علي الدينوري ... من الزهاد المائة الخامسة: 1 - المستظهر بالله ... من أولى الأمر 2 - الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ... من الشافعية 3 - القاضي فخر الدين محمد بن علي المروزي ... من الحنفية 4 - . . . . . . . . . (¬1) ... من المالكية 5 - أبو الحسن علي بن عبيد الله الزاغوني ... من الحنابلة 6 - رزين بن معاوية العبدري ... من المحدثين 7 - أبو العز محمد بن الحسين بن بندر القلانسي ... من القراء قائمة السيوطي: للقرن الأول ... عمر بن عبد العزيز للقرن الثاني ... الشافعي للقرن للثالث ... الأشعري أو: ابن سريج للقرن الرابع ... الباقلاني أو: الإسفراييني للقرن الخامس ... الغزالي أو: الرافعي ¬

_ (¬1) بياض بالأصل.

للقرن السابع ... ابن دقيق العيد للقرن الثامن ... سراج الدين البلقيني أو: زين الدين العراقي للقرن التاسع ... السيوطي وإذا أضيف إلى هاتين القائمتين الأسماء التي زادها غير هؤلاء أصبحت بين أيدينا إحصائية شاملة بمن سمَّاهم السلف مجددين حتى القرن التاسع (¬1) والأسماء الإضافية هي (¬2): 1 - أحمد بن حنبل ... عدّه أبو سهل الصعلوكي 2 - أبو نعيم الاستراباذي ... عدّه أبو سهل الصعلوكي 3 - أبو إسحاق الشيرازي للقرن الرابع ... عدّه الزين العراقي 4 - السلفي ... للقرن الخامس عدّه الزين العراقي 5 - الحافظ عبد الغني المحدث ... للقرن السادس عدّه الذهبي 6 - النووي ... للقرن السادس عدّه الزين العراقي 7 - الأسنوي ... للقرن الثامن عدّه الزين العراقي خاتمة وإذا كان لي أن أبدي رأيًا في هذه القضية، فإن رأي تعدد المجددين في العصر الواحد يبدو أقرب للقبول؛ لأنه لا يمكن الادعاء أن واحدًا فقط في أي عصر من العصور قد تمتع بمؤهلات فريدة لا يشاركه فيها غيره، كما لا يمكن الادعاء أن واحدًا فقط في أي عصر من العصور قد عم تجديده جميع مجالات الدين، مع حاجة الدين إلى التجديد في أكثر من مجال (¬3)، وإن كان من ناحية أخرى لا أظن أن عدد المجددين في كل قرن يصل إلى ذلك العدد الكثير الذي أحصاه ابن الأثير. ¬

_ (¬1) الأسماء المجددين بعد القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر الهجري راجع: المحبي، "خلاصة الأثر" ص 344، و"عون المعبود" 11/ 395. (¬2) انظر: "تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 53، و"فيض القدير" للمناوي 7/ 11. (¬3) انظر: "توالي التأسيس" ص 48.

وأيًا كان الأمر فإن ذلك في نظري قد يكون أشبه بقضية عدد أصحاب الكهف، لا ترقى إلى أكثر من المراء الظاهر، فسواء كانوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة فإن العلم بعددهم ليست له ثمرة، كما أن الجهل به لا يضر. وكذلك قضية المجددين، فسواء أشركنا أكثر من واحد في نيل هذا اللقب أو حصرناه في واحد فقط؛ فإن ذلك ليس أمرًا ذا بال. فإنه لا أحد من المجددين يكون باعثه من وراء تجديده أن يسمى عند الناس بهذا اللقب، كما أنه لا يضيره أن يعترف الناس له بهذا اللقب أو ألا يعترفوا، فمنصب المجدد ليس منصبًا ينال به المرء الامتيازات في الدنيا. ومن ناحية أخرى لا تشمل بنود العقيدة الإسلامية بندًا خاصًا بضرورة الاعتراف لواحد بعينه بمنصب التجديد، فسواء وقع ذلك الاعتراف أو لم يقع فالأمر واحد، ولا يمكن الطعن في عقيدة أحد بسبب ذلك. إلا أنه من الأهمية بمكان أن يتحلى المرء بالنظر المنصف، وأن يتحرى بصدق وتبعًا لمقاييس صحيحة؛ من يستحق أن يعد مجددًا ومن لا يستحق. لأن إلصاق هذا اللقب بمن هو بعيد عنه كل البعد هو نوع من التزوير والتزييف، ومن آثاره الضارة انخداع الناس به وترويج لآرائه الخاطئة، كما أن تعداد وتزكية من يستحق أن يوصف بأنه مجدد، سواء اتفقنا على ذلك أو اختلفنا، وسواء أصبنا عين الحقيقة أو قاربنا الصواب، فإن في هذا التعداد والحصر فوائد ملموسة، ويكفي أن تكون سيرة هؤلاء الأعلام نموذجًا ومثالًا يحفز الناس لاقتفاء آثارهم واتباعهم واتخاذهم أسوة وقدوة، وهم من أحق الناس أن تكون فيهم القدوة والأسوة الحسنة.

الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

تمهيد

الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين تمهيد: اقتصرت معظم الدراسات التي تناولت المجددين -على قلَّتها- على بسط سيرتهم الفردية وترجمة حياتهم الشخصية، والخلفية التي كونت ذهنيتهم، والصفات التي أهلتهم لحمل راية التجديد، والميادين التي كانت فيها جهودهم. إلا أن هذه النظرة الجزئية لأعمال المجددين كلًّا على حدة على ما فيها من المنافع والمزايا، لا تصلح لإعطاء تصور كامل لمفهوم التجديد؛ وإذا كانت أعمال المجددين هي أحد المصادر التي نستنبط منها ماهية عمل التجديد، فلابد من نظرة كلية فاحصة لجميع الأعمال التي قام بها المجددون على مر العصور، ومحاولة تصنيفها تحت عناوين جامعة لتشكل في مجموعها مقومات عمل التجديد ومجالاته. واتباعًا لهذا المنهج ومحاولة لتحقيق الغاية من ورائه نلقي هذه النظرة على أعمال المجددين. الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة: من أهم الميادين التي نالت عناية المجددين الإصلاح السياسي والسعي

لإعادة الخلافة الراشدة. والخلافة هي عنوان نظام الحكم الإسلامي، وأسس هذا النظام قد جاء بيانها في الكتاب والسُّنة وآراء الفقهاء، وقد تناولتها أقلام كثيرة بالتوضيح والتفصيل، وحتى يكون في مقدورنا أن نفهم جهود المجددين لإعادة هذا النوع من أنواع الحكم، فلابد من أن نلم بطرف من المبادئ الأساسية التي يشيد عليها بناء الخلافة الراشدة. وفيما يلي أربعة من أهم هذه المبادئ: خصائص الخلافة الراشدة (¬1): هذه الخصائص مأخوذة من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58] وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وهذه الخصائص هي: أولًا: الشورى، وهذا المبدأ يدخل في طريقة اختيار الخليفة، كما يشمل طريقة تسيير دفة الحكم، ويتضمن بالضرورة الحق في إبداء الرأي وتوجيه النقد النزيه الذي غايته إظهار الحق. ثانيًا: الأمانة، وتنفيذ هذا المبدأ، يعني: اختيار الأصلح لمناصب الدولة ممن تتوفر فيهم الكفاءة وحسن السيرة، دون محاباة أو عصبية، كما يعني هذا المبدأ حسن التصرف في المال العام والتزام الشرعية في جمعه من موارده وإنفاقه في مصارفه. ثالثًا: العدل في الحكم، ومن لوازمه: الحكم بما أنزل الله تعالى دون تأويل أو تحريف أو تجزئة، والمساواة بين الناس من غير أن تكون لأي فئة دائرة من الحصانة والامتيازات. رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا مبدأ جامع، ومن ¬

_ (¬1) راجع: "السياسة الشرعية" لابن تيمية وبخاصة الصفحات 5، 6، 31، 63، 75، 117، 130، 157، و"الخلافة والملك" للمودودي وبخاصة الصفحات 49 - 58.

جهود عمر بن عبد العزيز

تفاصيله السعي لإصلاح دين الرعايا، ونشر العلم، وإقامة الجهاد لتمكين الإسلام وإعلائه في الأرض. وقد اكتمل تنفيذ هذه المبادئ في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، وظلت الخلافة الراشدة في الأرض ثلاثين سنة كما جاء في الحديث "الخلافة بعدي ثلاثين سنة ثم تكون ملكًا" وهذه المدة انتهت في ربيع الأول عام (41 هـ) حين تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية (¬1) -رضي الله عنهما-. فأيام معاوية هي أول أيام الملك وهو أول ملوك الإسلام وخيارهم (¬2). ثم بدأت هذه المبادئ تنهار الواحدة تلو الأخرى، وتضعف شيئًا فشيئًا إلى أن أزيل من الأرض في هذا العصر اسم الخلافة بالكلية، وأصبحت الزعامة والقيادة في أيدي العتاة والجبارين. وقد اتجهت جهود المصلحين والمجددين من الأمة الإسلامية في كل العصور لهذه الناحية التي هي من أهم واجبات الدين سعيًا وراء إعادة الخلافة الراشدة. جهود عمر بن عبد العزيز: وقد بذل أول المجددين في الإسلام عمر بن عبد العزيز جهودًا كبيرة لتحقيق هذه الغاية، مع قرب عهده من عهد النبوة ومع قلة الانحرافات. وهذه بعض الأمثلة في سبيل إعادة العمل بالمبادئ الأربعة السابقة. فمن أجل إقامة مبدأ الشورى في اختيار الخليفة كانت أول خطوة له هي محاولة إصلاح الطريقة التي تقلد بها هو نفسه منصب الخلافة. فمن المعلوم أن اختياره خليفة لم يكن عن شورى من المسلمين، إنما جاءته الخلافة بوصفه أحد أفراد العائلة الحاكمة، ولما كان الخليفة قبله ليس له ولد من نسله أهل لأن يورثه الملك، فقد عهد باستشارة من أحد وزرائه الصالحين بالحكم إلى عمر بن عبد العزيز، ولم يكن لعمر علم بالأمر. وحين تليت الوصية بتنصيبه خليفة في اجتماع عام في المسجد، أخذه الناس مكرهًا وأجلسوه على المنبر ومدوا أيديهم له مبايعين (¬3)، إلا أن عمر لم يكن راضيًا عن ذلك كله، فقام من فوره وأعلن ¬

_ (¬1) "الخلافة والملك" للمودودي ص 94، نقلًا عن "البداية والنهاية" لابن كثير 8/ 16. (¬2) "البداية والنهاية" ابن كثير 8/ 19. (¬3) المصدر نفسه 8/ 182، وص 198.

استقالته تاركًا الأمر شورى للمسلمين. وجاء في خطبة الاستقالة: "أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر، عن غير رأي كان مني ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون". فصاح المسلمون صيحة واحدة "قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا ورضينا كلنا بك". . . . فقبل الخلافة بعد ذلك (¬1). وقد كان صادقًا في نيته إلغاء نظام الوراثة في الحكم، وبدأ يعد العدة لإعلان ذلك ويمهد له، إلا أن بني أمية خشية أن يخرج الأمر من أيديهم دسوا له سمًّا فقتلوه قبل أن يتم إعادة العمل بمبدأ الشورى في كل نواحيه (¬2). أما عن تسيير دفة الحكم بالشورى فقد كان عمر معروفًا بذلك قبل أن يكون خليفة، حين كان واليًا على المدينة المنورة، فقد اشتهر عنه أنه كان إذا رفع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة، وكان قد اختار عشرة منهم، فكان لا يقطع أمرًا دونهم (¬3)، فكانوا هم مجلس شوراه. وحين تولى الخلافة قرّب أهل الخير وانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت معه الفقهاء والزهاد (¬4)، فكان أولئك هم أهل مشورته. وقد أتاح عمر بن عبد العزيز حرية التعبير وإبداء الرأي والنقد البناء، وبلغت سعة صدره في ذلك أن استدعى بعض الخارجين والمتمردين عليه وناقشهم في انتقاداتهم له، وكان من ضمن ما انتقدوه عليه عدم إلغائه نظام الوراثة في الحكم، فقبل منهم ذلك النقد (¬5)، وعقد العزم على إصلاح ذلك الخطأ. وفي سبيل تحقيق مبدأ الأمانة في الحكم عمد إلى الأمناء وأصحاب الأهلية، فقلَّدهم مناصب الدولة، وعزل من لا تتوفر فيه مؤهلات المنصب، وقد ¬

_ (¬1) "الخلافة والملك" للمودودي ص 124، و"البداية والنهاية" 9/ 212، 213، وانظر: "موجز تاريخ تجديد الدين" للمودودي ص 57 (ط 3، مؤسسة الرسالة). (¬2) "البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 187، "موجز تاريخ تجديد الدين" للمودودي ص 69. (¬3) "البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 194. (¬4) المصدر نفسه 9/ 198. (¬5) المصدر نفسه 9/ 187.

كانت تلك هي سياسته التي لم يترك مناسبة إلا وأعلن عنها، ومن بعض تعليماته في هذا الشأن ما كتبه لأحد ولاته: "لا تولّين شيئًا من أمور المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأدى الأمانة فيما استرعي" (¬1). وكتب أيضًا: "ألا يستعمل على الأعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير" (¬2). وقد صرَّح كثير من الأئمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز فهو (ثقة) (¬3)؛ وهي مرتبة من مراتب العدالة عند أصحاب الحديث، وتلك شهادة عظيمة بالمدى الذي بلغه عمر بن عبد العزيز في تنفيذ مبدأ الأمانة في إسناد الوظائف لمستحقيها. أما الأمانة في الأموال والتزام الشرعية في جمعها من مصادرها وإنفاقها في مصارفها فقد ضرب فيها عمر بن عبد العزيز أمثلة رائعة. ففي خاصة نفسه التزم الزهد وعاش عيشة البسطاء لا عيشة الملوك، وظهر عليه هذا الخلق منذ أول حركة بدت منه بعد توليه الخلافة، فقد امتنع عن ركوب المراكب الملكية (وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لذلك) واكتفى بما كان يركب من قبل (¬4)، ثم أمر بعد ذلك ببيع هذه المراكب وجعل أثمانها في بيت المال (¬5). ورفض السكنى في قصر الخلافة وسكن منزله العادي (¬6). ورد جميع الأموال التي كانت تحت ملكه بغير حق إلى بيت المال (¬7)، حتى أنه رد فص خاتم كان في يده قال: أعطانيه الوليد من غير حقه (¬8). وكان لا يقبل الهدية، ويقول: كانت الهدية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 118. (¬2) المصدر نفسه 9/ 207. (¬3) المصدر نفسه 9/ 208. (¬4) المصدر نفسه 9/ 198. (¬5) المصدر نفسه 9/ 198. (¬6) المصدر نفسه 9/ 189. (¬7) المصدر نفسه 9/ 200. (¬8) المصدر نفسه 9/ 208.

هدية فأما نحن فهي لنا رشوة (¬1). ثم بعد أن بدأ بنفسه اتجه إلى أموال الأسرة الحاكمة التي أخذت بغير حق، فأمر بأموال جماعة من بني أمية فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم (¬2). وكان شديدًا في تنفيذ هذه السياسة حتى إنه سجن أحدهم حتى يؤدي أموال المسلمين (¬3). وكانت سياسة الدولة المالية تسير وفق مبدأ الأمانة، فقد منع الضرائب والمكوس والعشور التي فرضتها الحكومة (¬4)، مخالفة فيها الشريعة الإسلامية. ومن أعماله المشهورة في هذا الشأن عزله لأحد الأمراء عن ولاية أحد أقاليم الدولة؛ لأنه كان يأخذ الجزية ممن يسلم من أهل الكتاب مدعيًا أنهم يسلمون فرارًا من الجزية، فكانت نتيجة ذلك أن امتنعوا عن الإسلام وثبتوا على دينهم، فعزله عمر وكتب إليه كلمته الخالدة: "إن الله إنما بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - داعيًا ولم يبعثه جابيًا" (¬5). وكان عمر بن عبد العزيز يصرف المال العام في مرافق المسلمين ومصالحهم وفي سبيل توفير الخدمات لهم، فقد كان يوسع على عماله وموظفي الدولة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار ومائتي دينار، وهو مبلغ كبير في ذلك العصر، وكانت سياسته في ذلك أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين (¬6). وأجرى عمر الرواتب لمن يتفرغ لنشر العلم والفقه وتعليم القرآن (¬7). والمبدأ الثالث الذي كان أحد مميزات خلافة عمر بن عبد العزيز هو مبدأ ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 203. (¬2) المصدر نفسه 9/ 200. (¬3) المصدر نفسه 9/ 188. (¬4) "رجال الفكر والدعوة" أبو الحسن الندوي ص 47، نقلًا عن "سيرة عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم ص 99. (¬5) كتاب "الخراج" لأبي يوسف، نقلًا عن المصدر نفسه ص 46. (¬6) "البداية والنهاية" 9/ 203. (¬7) المصدر نفسه 9/ 207.

العدل في الحكم، فلم تكن حكومته حكومة تسلط وجبروت تفرض سلطانها على الناس بقوة السلاح والإرهاب، ولم تكن حكومة بطش وظلم تتجسس على الناس وتأخذهم بالتهم والظنون. ونسوق هنا حادثتين تكفيان في الدلالة على سيادة هذا المبدأ على تصرفات الحكومة في عهد عمر. قال يحيى الغساني: "لما ولّاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقبًا، فكتبت إليه أعلمه حال البلد، وأسأله آخذ الناس بالظنّة وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة. فكتب إلي أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله. قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقة ونقبًا" (¬1). الحادثة الثانية تبين هذا الاتجاه في ولاية أخرى من ولايات الدولة: كتب الجراح بن عبد الله الوالي على خراسان إلى عمر بن عبد العزيز: "إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك". فكتب إليه عمر: "أما بعد فقد بلغني كتابك، تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق فأبسط ذلك فيهم" (¬2). والمبدأ الرابع من مبادئ الخلافة الراشدة هو السعي لإصلاح دين الرعايا وأخلاقهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت هذه المهمة قد تحولت إلى أيدي العلماء والفقهاء الذين أصبحوا يشكلون القيادة الدينية في الأمة، أما القيادة السياسية فقد كانت بأيدي الخلفاء والولاة وقواد الجيوش. وانفصال القيادة السياسية عن القيادة الدينية كان أثرًا من الآثار السيئة لتحول الحكم إلى ملك وراثي (¬3) منذ بداية العهد الأموي. ¬

_ (¬1) "تاريخ الخلفاء" السيوطي 238. (¬2) المصدر نفسه ص 242. (¬3) راجع: بتوسع ص 135، وما بعدها في "الخلافة والملك" للمودودي، و"رجال الفكر والدعوة" لأبي الحسن الندوي ص 49.

وقد عمل عمر بن عبد العزيز جاهدًا لإعادة هذه الخصيصة الهامة من خصائص الخلافة الراشدة. فعمر نفسه يُعد من كبار علماء التابعين حتى قيل: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة (¬1)، وقد ظهر عليه منذ الصغر الحرص على تعلم العلم والرغبة في الأدب، وأرسله أبوه وهو حديث السن إلى المدينة المنورة، فجالس علماءها وتأدب بآدابهم (¬2)، وجالس بعض الصحابة منهم أنس بن مالك وروى عنهم الحديث (¬3)، وأثنى أنس على حسن اقتداء عمر بن عبد العزيز بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين كان عمر واليًا على المدينة المنورة فقال: ما صليت وراء إمام أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى (¬4). وكان عمر قبل الخلافة على قدم الصلاح أيضًا إلا أنه كان يبالغ في التنعم (¬5). ويُعد عمر من فقهاء الأمة المجتهدين حتى قال عنه أحمد بن حنبل: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز (¬6). وحين ولي الخلافة كان أحد أعماله البارزة الاهتمام بإصلاح الأخلاق، فكان كثير الخطب والمواعظ، يكتب إلى عماله يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويبين لهم الحق ويوضحه لهم ويعظهم (¬7)، وخطبه ومواعظه ورسائله في ذلك كثيرة ومشهورة، وكان من آثار هذا الإصلاح ما يقول عنه الطبري في تاريخه مقارنًا عهد عمر بعهود الحكام السابقين له: "كان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع. فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضًا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 194. (¬2) المصدر نفسه 9/ 193. (¬3) المصدر نفسه 9/ 192. (¬4) المصدر نفسه 9/ 194. (¬5) "تاريخ الخلفاء السيوطي" ص 231. (¬6) المصدر نفسه ص 192. (¬7) المصدر نفسه ص 188.

تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ " (¬1). ومن أجل هذه الأعمال كلها وهذا السعي لإعادة العمل بوظائف الخلافة الراشدة، أجمع العلماء قاطبة على أن عمر بن عبد العزيز من أئمة العدل وخامس الخلفاء الراشدين المهديين. ومن الأقوال في ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن الثوري قال: الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر (¬2). المجددون والإصلاح السياسي: وبعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أصابت النكسة مرة أخرى نظام الخلافة وعاود سيره إلى الوراء. وكانت الجهود لإحداث التغيير السياسي المنشود تسير في خطين: الخط الأول: طريق الخروج المسلح، والخط الثاني الطريق السلمي، الذي اعتمد أسلوب توجيه النقد وإسداء النصح، سواء كان ذلك بالكلمة الملفوظة أو الكلمة المكتوبة. ولم يسلك أحد من المجددين الطريق الأول وإن كان بعضهم قد اتّهم بالتحريض الخفي في بعض أعمال العنف والتمرد، ولكن تلك التهم لم تثبت. فالشافعي مثلًا قد اتهم مع جماعة بمحاولة الشروع في الثورة وحمل مكبلًا في قيده من اليمن إلى بغداد، ولكنه استطاع أن يثبت براءته أمام السلطات (¬3). ولو أحصى أحد محاولات الثورات المسلحة التي قامت في وجه الحكم في التاريخ الإسلامي لبلغ بها عددًا كبيرًا. وفي إحصائية عن مرات الخروج المسلح الذي قام به أئمة الشيعة خلال مائتي سنة، من (60 هـ) إلى عام (256 هـ)، وصل العدد إلى أكثر من عشرين محاولة (¬4)؛ أي: بمعدل تمرد كل عشر سنوات. ويقول نفس الكاتب عن ثورات الخوارج: ولو ذكرنا من خرج من الخوارج لطال الكتاب (¬5). وقد كان هذا الموقف نابعًا من أن هؤلاء كانوا يرون ¬

_ (¬1) "تاريخ الأمم والملوك" الطبري 6/ 497 (حوادث سنة 96 هـ)، و"رجال الفكر والدعوة" أبو الحسن الندوي ص 62. (¬2) "البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 200. (¬3) المصدر نفسه 10/ 252. (¬4) "مقالات الإسلاميين" الأشعري 1/ 141 وما بعدها. (¬5) المصدر نفسه 1/ 196.

أن الخروج بالسيف واجب إذا أمكن أن يزال بالسيف أهل البغي ويقام الحق (¬1). غير أن التاريخ قد أثبت أن هذا الطريق غير مأمون العواقب، وقد كانت نتيجة هذه الثورات جميعها الفشل الذريع، وكان ضررها أكبر من نفعها. ولهذه الآثار السيئة التي تترتب على الثورة المسلحة، وبخاصة التي لا يكون احتمال نجاحها قويًا، من إثارة الفتن وإراقة الدماء وكثرة التدمير والتخريب، استقر الرأي على تحريم الخروج على الإمام الفاسق في نفسه والذي لا يغير الشرع. يقول النووي مبينًا هذا الرأي: "قال جماهير أهل السُّنَّة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا يعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك". ويبدو أنه قد كان في هذا خلاف أول الأمر، ويدل على ذلك ثورة الحسين وابن الزبير وأهل المدينة المنورة على بني أمية، وثورة جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج، ثم مالت الآراء إلى ما بيَّنه النووي (¬2). والمقصود أنه لم يقم أحد من المجددين بخروج مسلح على الحكومات الظالمة في عهودهم، بل إن العمل السياسي نفسه قد كان عملًا ثانويًا بالنسبة لمعظمهم، وانحصرت جهود الذين أثر عنهم شيء من الجهد في هذا المضمار في توجيه النقد، وإسداء النصح للحكام، عن طريق الكلام أو عن طريق الكتابة، وإن كان عملهم ذاك قد اتسم بالجرأة في الحق والشجاعة النادرة والتجرد من الأغراض والأطماع الدنيوية، مما جعل لكلماتهم مفعولًا قويًا وأثرًا نافذًا وقبولًا عند الحكام والجماهير وكانت الكلمة بذلك أصلح من السيف. إصلاحات الغزالي السياسية: وكنموذج لهذا الاتجاه نسوق أمثلة من جهود الغزالي، المجدد للمائة الخامسة، ونقدم بين يدي ذلك رأيه في طريقة الإصلاح السياسي كما يراها. يقول في كتابه "الإحياء": ¬

_ (¬1) "مقالات الإسلاميين" الأشعري 2/ 125. (¬2) انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" 12/ 229.

"قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف، وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر، فالحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما التعريف والوعظ، وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر. وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة، والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك" (¬1). ثم حكى حوادث كثيرة عن السلف وأمثلة من مواجهتهم للحكام، وختم هذا المبحث بكلمات لاذعة سخر فيها من صمت العلماء في عصره، وأكد أن ذلك الصمت هو سبب الظلم الواقع من السلطة الحاكمة، مع تقديم تحليل لأسباب ودوافع هذه السلبية، فيقول تعقيبًا على مواقف السلف من الحكام: "فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين، لكونهم اتكلوا على فضل الله أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثّر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا الحق لأفلحوا". ثم يقول: "ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال" (¬2). ¬

_ (¬1) "إحياء علوم الدين" الغزالي 2/ 337. (¬2) المصدر نفسه 2/ 351.

وهذه كلمات من نار في وجه حكم استبدادي لا يسمح بالمعارضة والنقد، وكيف إذا كانت هذه المعارضة في كتاب تداولته الأيدي ودخل كل بيت، وذاع وانتشر حتى يومنا هذا. وفي هذا الكتاب نجد أيضًا نقدًا مرًا يندد بسياسة الحكومة المالية في فصل عنوانه: "إدارات السلاطين وصلاتهم وما يحل منها وما يحرم" (¬1) تكلم فيه عن مصادر دخل السلاطين وطرق إنفاقهم والحلال والحرام من ذلك. وقد قرر في ذلك الفصل صراحة "أن أغلب أموال السلاطين حرام في هذه الأعصار والحلال في أيديهم معدوم أو عزيز" (¬2)، وعقد فصلًا آخر عن نوع العلاقات مع الأمراء وموظفي الحكومة الظالمة بيّن فيه أن الأحسن والأفضل "أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم"، مع تقليل الصلات بهم ما أمكن "وإن اعتزلهم حتى لا يراهم ولا يرونه كان ذلك هو الواجب" (¬3). وفي الجملة دعا إلى مقاطعة الحكومة الظالمة اقتصاديًا واجتماعيًا. ولا شك أن هذه الدعوة قد أثرت في بعض أفراد المجتمع وبخاصة في أولئك الذين فيهم صلاح وتقوى، ولكن هؤلاء مهما كان عددهم كبيرًا إلا أنهم كانوا آحادًا وأفرادًا متفرقين وقد ينجح أحدهم في النجاة بنفسه من شرور الحكومة الظالمة، إلا أن ذلك لم يكن ليبلغ أن يكون حركة شعبية قوية، تهز عروش الحكام، بل كان أثر ذلك ضعيفًا ولم ينتج عنه أي نوع من التغيير السياسي. ولا يبدو أن الغزالي نفسه قد أراد من دعوته لهذه المقاطعة بلوغ هذا الهدف. بالإضافة إلى هذين الأسلوبين في عمل الغزالي السياسي أسلوب توجيه النقد للحاكم في كتبه -والتحريض عليه وأسلوب المقاطعة فقد سلك الغزالي أسلوبًا ثالثًا، وهو كتابة الرسائل للملوك والوزراء كلما سنحت له فرصة وقد جاء في إحدى هذه الرسائل لأحد السلاطين: "يا أسفا! إن رقاب المسلمين كادت تنقضّ بالمصائب والضرائب، ورقاب ¬

_ (¬1) "الإحياء" 2/ 133. (¬2) المصدر نفسه 2/ 134. (¬3) المصدر نفسه 2/ 140 و 151.

الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع

خيلك تكاد تنقض بالأطواق الذهبية" (¬1). ويكتب الغزالي لأحد الوزراء عن مدينته (طوس)، وكان هذا الوزير قد زارها، ولكن لم يكن لزيارته أثر في إصلاح الأحوال، وكانت تشكو من نقص المواد الغذائية وارتفاع الأسعار: "اعلم أن هذه المدينة مدينة طوس أصبحت خرابًا بسبب المجاعات والظلم، ولما بلغ الناس توجهك من إسفرائين ودامغان خافوا وبدأ الفلاحون يبيعون الحبوب، واعتذر الظالمون إلى المظلومين واستسمحوهم لما كانوا يتوقعون من إنصاف منك واستطلاع للأحوال ونشاط في الإصلاح، أما وقد وصلت إلى طوس ولم ير الناس شيئًا فقد زال الخوف وعاد الفلاحون والخبازون إلى ما كانوا عليه من الغلاء الفاحش والاحتكار وتشجيع الظالمين. وكل من يخبرك من أخبار هذا البلد بخلاف ذلك فاعلم أنه عدو دينك" (¬2). هذه جوانب من إصلاحات الغزالي السياسية، وهي تمثل أسلوبًا من أساليب العمل السياسي الذي قام به المجددون، وليس من هدف هذا البحث استقصاؤها والحكم عليها وبيان الأثر الذي خلفته، بل الغرض من إيرادها هو بيان أن السعي لإعادة الخلافة الراشدة كان يشكل أحد أركان التجديد عند السلف، وحسبنا من هذه الصفحات التي تناولت جهود اثنين من أشهر المجددين أن نكون قد خرجنا بتأكيد هذه الحقيقة. الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع: إن العمل التشريعي الذي يجعل الفقه الإسلامي مواكبًا لتطورات الزمان وملبيًا لحاجات البشر لا يمكن أن يتم إلا بتحقيق علمي خاص وجهد فكري كبير. وهذا العمل هو المعروف بالاجتهاد في المصطلح الإسلامي. وكلمة الاجتهاد معناها لغة: بذل الجهد واستنفاذه، والمراد اصطلاحًا: بذل الجهد واستنفاذه في استجلاء حكم الإسلام في قضية من قضايا الفقه الجزئية (¬3). ¬

_ (¬1) رسائل الإمام الغزالي بالفارسية، نقلًا عن كتاب "رجال الفكر والدعوة" لأبي الحسن الندوي ص 237. (¬2) المصدر نفسه ص 238. (¬3) "مفاهيم حول الدين والدولة" المودودي، (دار القلم الكويت 1974 م) ص 147 =

والصلة بين الاجتهاد والتجديد صلة ظاهرة، ذلك أن تجديد الدين هو بعثه وإحياؤه، والاجتهاد هو بيان حكم الدين في أمور الحياة التي لم تكن معروفة من قبل. ففي كل عصر لابد أن تحدث أقضية وتطرأ مسائل لم يتبين حكم الدين فيها، فلابد للمجدد وهو يعيد الناس إلى دائرة الدين ويصبغ شؤونهم بصبغته، أن يتناول هذه المسائل بالنظر والتمحيص ويبين موقف الدين منها، ويقدم حلولًا للمشاكل، ويضع الضوابط والحدود التي تسمح للحياة من جهة بالتطور والتغير، والتي تجعل من جهة أخرى ذلك التغير داخلًا تحت موازين الدين وقيمه ومحكومًا بإطاره وتصوراته. ولقد قدمنا فيما سبق أن السلف جعلوا من مميزات المجدد وصفاته البارزة أن يكون مجتهدًا، ومن الأئمة في هذا الشأن الإمام الشافعي مجدد المائة الثانية، ولهذا تصلح أن تكون جهوده في مجال الاجتهاد نموذجًا من جهود المجددين في هذه الناحية الهامة من نواحي التجديد. وليست ميزة الشافعي التي رفعته لأن يعد مجدد المائة الثانية هي أنه حاز درجة الاجتهاد، وكان مؤسسًا لمذهب فقهي انتشر في آفاق الأرض، ولكن ميزة الشافعي الكبرى والخدمة الهامة التي خدم بها الدين هي ما قام به من جهود في ميدانين: تدوين أصول الفقه والدفاع عن السُّنَّة. تدوين أصول الفقه: إذا كان الفقه هو أحكام الدين التفصيلية لشؤون الحياة العملية، فإن أصول الفقه هي الأسس والقواعد التي ينبني عليها هذا الفقه، فلا يتصور وجود الفقه بدون هذه الأصول. ويمكن القول إن أصول الفقه هي عبارة عن مجموع أدلة الفقه الكلية، ومعرفة طرق اقتباس الأحكام منها، ومن يحق له هذا الاقتباس (¬1). وأدلة الفقه الكلية هي مصادر التشريع وحججه العامة، وهي إحدى أقسام مباحث علم أصول الفقه الذي يبين هذه المصادر والأدلة التي تثبت أنها حجة. والقسم الثاني من مباحث هذا العلم ينظر في كيفية الاستدلال لاستخراج الأحكام ¬

_ = (بتصرف وزيادة)، وقد جمعت تعريفات الأصوليين للاجتهاد في "الاجتهاد" رسالة دكتوراه، سيد محمود موسى، طبعة دار الكتاب الحديثة ص 97 - 120. (¬1) "المحصول" الرازي ص 94.

التشريعية من هذه المصادر، وفي القسم الثالث يبحث عن أنواع هذه الأحكام وأقسامها ودرجة الإلزام فيها، ويبحث في الصيغ اللغوية للنصوص وكيفية فهم المراد منها، ويبحث في مراتب الأدلة وطرق الترجيح بين المتعارض منها، ويبحث عن مقاصد الشريعة العامة التي تسعى لتحقيقها، وتشكل البحوث ذات الصلة بالاجتهاد والمجتهد القسم الثالث من أقسام أصول الفقه (¬1). وتتضح أهمية أصول الفقه من إلقاء السؤال التالي: ما حدود حرية البشر في التشريع؟ (¬2) إن من المسلم به باتفاق المسلمين كافة أن الحكم لله -عز وجل- ولا يجترئ أحد ممن يدعي الإسلام على غير ذلك (¬3)، فإذا كان الله -عز وجل- هو الحاكم وهو مصدر التشريع وأن لا حكم إلا منه تعالى، فمن المسلم به أيضًا أن البشر ليس لهم حق التشريع استقلالًا. وقد أظهر الله -عز وجل- أحكامه في نصوص الكتاب والسُّنَّة، ومهمة البشر الأولى أن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد في فهم هذه النصوص والأخذ منها مباشرة. أما ما لم يأت فيه نص فمهمة البشر الثانية أن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد لمعرفة حكم الله -عز وجل-، بواسطة الأمارات والدلائل التي جاءت بها النصوص. وتلك المهمة التي أوكلت للبشر مهمة خطيرة ودقيقة، فلابد والأمر كذلك من قواعد تضبط تشريع البشر وتبين طرق تفسير النصوص وتبحث في الأمارات والدلائل التي جاءت بها النصوص للاهتداء إلى كيفية التشريع بواسطتها، وهذه هي موضوعات بحث أصول الفقه. وإذا أدركنا أهمية أصول الفقه أدركنا ضخامة المهمة التي نهض بها الإمام الشافعي، فقد كان -رحمه الله- أول من انبرى لهذا الأمر، فكان أول من جمع مباحث أصول الفقه، وضم شتاتها، ودونها في كتاب واحد، وجعلها علمًا مستقلًا. "وقد اتفق الناس أنه أول من صنَّف في أصول الفقه وهو الذي رتب أبوابها، وميَّز بعض أقسامها عن بعض، وشرح مراتبها في القوة والضعف" (¬4)، وذلك في كتابه المشهور "الرسالة". وسبب تأليف الشافعي لكتاب "الرسالة" هو أن ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" الغزالي 1/ 8. (¬2) راجع: "مفاهيم حول الدين والدولة" أبو الأعلى المودودي ص 145. (¬3) انظر: "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت بذيل المستصفى" للغزالي ص 25، و"أصول الفقه" عبد الوهاب خلاف ص 96، ط. دار القلم الكويت. (¬4) "مناقب الشافعي" الرازي ص 98.

عبد الرحمن بن مهدي (ت 198 هـ) -أحد أركان العلم بالحديث بالعراق- التمس وهو شاب من الشافعي أن يضع له كتابًا، يجمع فيه قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسُّنَّة، فوضع له الشافعي كتاب "الرسالة" وبعثها إليه، فلما قرأها عبد الرحمن بن مهدي سر بها سرورًا شديدًا (¬1). ثم إن الشافعي حين خرج إلى مصر وقام بتنقيح كثير من كتبه أعاد تصنيف كتاب "الرسالة" (¬2)، وهذا التصنيف الهام هو الذي بين أيدينا اليوم (¬3). ولعله يبرز سؤال هام هنا وهو: ما المصادر التي استقى منها الشافعي موضوعات هذا الكتاب؟ قد يخطر في بال بعض الناس أن الشافعي اخترع مسائل أصول الفقه من عند نفسه، وأنه هو الذي ابتدأ وضعها نتيجة تفكيره الخاص، ولكن هذا وهم وخطأ. يقول الرازي: "الناس كانوا قبل الشافعي - رضي الله عنه - يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون" (¬4)، فموضوعات هذا العلم كان يتكلم فيها الناس قبل الشافعي، بل إن من علم حقيقة مباحث أصول الفقه، أدرك أنه لا مناص لكل من تعرض للاجتهاد أن تكون في ذهنه تلك المباحث؛ لأنها هي الطرق التي يسلكها المجتهد عند اجتهاده. يقول الزركشي: "إن الصحابة تكلموا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العلل" (¬5)، فمنذ عهد الصحابة كانت للاجتهاد طرق وقواعد وضوابط يسير عليها، سواء أفصح عنها المجتهد أم لم يفصح، وكثيرًا ما كان الفقهاء وبخاصة عند اعتراض بعضهم على بعض، ما يتكلمون في كيفية استدلالهم على آرائهم. وإذا كان الأمر كذلك فقد كان إسهام الشافعي في أصول الفقه هو الجمع والتدوين، والتقسيم والترتيب والاستدلال لبعض مسائله، وصياغة بعض مصطلحاته، وهو عمل أنجز ببراعة تامة حازت على استحسان أهل عصره حتى ¬

_ (¬1) "مناقب الشافعي" الرازي ص 98، و"مناقب الشافعي" للبيهقي 1/ 230. (¬2) "المناقب" البيهقي 1/ 234، و"الرازي" ص 102. (¬3) "الرسالة"، تحقيق: أحمد محمد شاكر ص 11 (مقدمة المحقق). (¬4) "مناقب الشافعي" الرازي ص 101. (¬5) "البحر المحيط" 5/ 206، نقلًا عن "مناهج الاجتهاد في الإسلام"، مذكور، ص 56، وانظر: "أصول الفقه" أبو زهرة ص 14.

قال أحمد بن حنبل عن كتاب "الرسالة": "إنه من أحسن كتبه" (¬1)، و"كل الذين كتبوا بعد ذلك في علم الأصول كانوا عيالًا على الشافعي؛ لأنه هو الذي فتح هذا الباب، والسبق لمن سبق" (¬2). والمميزات والمؤهلات التي اجتمعت عند الشافعي حتى تمكن من القيام بعبء تدوين أصول الفقه، يتحدث عنها ابن حجر فيقول: "انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصّل الأصول وقعّد القواعد" (¬3). وإذا ضممنا إلى ما قال ابن حجر أن الشافعى نشأ بمكة فكان عنده علم أهل مكة، وأنه كان بصيرًا باللغة العربية ومعرفته بها واسعة، حتى قال عنه علماء اللغة: "أنه ممن تؤخذ منه اللغة" (¬4) ويحتج به فيها، تبين لنا من ذلك كله المؤهلات التي هيأت الشافعي لتدوين أصول الفقه، فقد كان -رحمه الله- إمامًا في الحديث، إمامًا في الفقه، إمامًا في اللغة، ومن هذه العلوم كان استمداده لأصول الفقه (¬5). وهذه بعض الموضوعات التي بحثها الشافعي في كتاب "الرسالة": القرآن ودرجات البيان فيه، السُّنَّة وحجيتها، خبر الواحد وحجيته، الإجماع، القياس، الاستحسان، الصحابة فضلهم وحجية أقوالهم، العام والخاص والمجمل والمفسر، الواجب والفرض والنهي، الناسخ والمنسوخ والاجتهاد والتقليد. ومن ذلك يتبين فضل الشافعي في ابتداء إنشاء علم أصول الفقه، ولم يكن للناس من بعده إلا التوسع في هذه المباحث وزيادة التبحر في دراستها وإضافة ما يتصل بها. ولتتبين أكثر أهمية الكتاب هذه بعض الفقرات المقتبسة من كتاب "الرسالة" (¬6): ¬

_ (¬1) "مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 235. (¬2) "المناقب" الرازي ص 102. (¬3) "توالي التأسيس" ابن حجر ص 54. (¬4) "مناقب الشافعي" ابن أبي حاتم ص 136. (¬5) وانظر: "أصول الفقه" أبو زهرة ص 13. (¬6) من الصفحات 21، 22، 39، 475، 510.

يقول الشافعي عن الطرق لمعرفة أحكام الله -عز وجل-: 1 - فمنها ما أبانه لخلقه نصًا، مثل جمل فرائضه من أن عليهم صلاة، وزكاة وحجًا وصومًا، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص على الزنا والخمر وأكل الميتة، والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء مع غير ذلك مما بيَّن نصًا. . .". 2 - "ومنه ما أحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، مثل عدد الصلاة، والزكاة ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل في كتابه". 3 - "ومنه ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء إلى حكمه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وقال و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. . . وذكر آيات في معنى ذلك. . . ثم قال: "فمن قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبفرض الله قبل"". 4 - "ومنه ما فرض على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض الله عليهم". ويلخص ذلك في كلمة جامعة فيقول: "فليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حل أو حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب والسُّنَّة، أو الإجماع أو القياس". ويقول عن الإجماع محتجًا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم جماعة المسلمين ويكتب في ذلك في شكل مناظرة بينه وبين خصم. "قال الخصم: فما معنى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدًا قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي

أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب الله تعالى ولا سُنَّة ولا قياس إن شاء الله". ويقول عن القياس: "ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبيت، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة ويزداد به تثبيتًا فيما اعتقد من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك". وعلى هذا المنوال تسير بحوث "الرسالة" القيمة، فجزى الله الإمام الشافعي خير الجزاء عما أسدى لهذه الأمة، من بيان طرق الاجتهاد ومناهج الاستنباط التي هي من عوامل بقاء هذا الدين حيًا متجددًا صالحًا لكل زمان. الشافعي ناصر السُّنَّة: قال الشافعي عن نفسه: "سميت ببغداد ناصر السُّنَّة" (¬1). وقال أحمد بن حنبل: "رحم الله الشافعي لقد كان يذب عن الآثار" (¬2). وقال أبو زرعة: "ما أعلم أحدًا أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، ولا أحد ذب عن سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما ذب الشافعي، ولا أحد كشف عن سوءات القوم مثل ما كشفه" (¬3). هذه بعض الشهادات التي تشير إلى ما اشتهر به الشافعي من نصرة السُّنَّة والدفاع عنها، حتى عرف بلقب "ناصر السُّنَّة". وهذا هو الميدان الثاني الذي برزت فيه جهود الشافعي التجديدية، وقد كانت جهوده في هذا المجال تتمثل في تصديه للانحرافات التي تعرضت لها السُّنَّة في عصره، فذب عنها وكشف أخطاء المنحرفين، كما كانت أيضًا تتمثل في نصرته للاتجاه الفقهي الذي يعتمد على الآثار والسنن ولا يشتط في الاعتماد على الرأي. ¬

_ (¬1) "مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 472. (¬2) المصدر نفسه 1/ 471. (¬3) المصدر نفسه 2/ 279.

وقد ظهرت في عصر الشافعي ثلاثة انحرافات في مجال السُّنَّة، انحراف يرى أن الحجة في القرآن وحده وينكر أن تكون السُّنَّة مصدرًا من مصادر التشريع، والانحراف الثاني ينكر أن تستقل السُّنَّة بتشريع الأحكام ولا يقبل من السُّنَّة إلا إذا كان في معناها نص صريح من القرآن، والانحراف الثالث يقبل من السُّنَة فقط ما كان متواترًا، أما ما كان خبر آحاد فلا يرى فيه حجة (¬1). وقد تصدى الشافعي لهذه الانحرافات بلسانه وقلمه "وكان والله لسانه أكثر من كتبه" (¬2). أما الانحراف الأول فقد جاء في كتابه جماع العلم تحت عنوان: "باب حكاية الطائفة التي ردت الأخبار كلها" (¬3) إثبات مناظرة جرت بينه وبين أحد المنتسبين إلى العلم المنتمين لهذه الطائفة، اشتملت على الشبهات التي أثارتها هذه الطائفة واحتجاج الشافعي على إبطالها وبيان حجية السُّنَّة. وفي الكتاب نفس أيضًا (¬4) تعرّض تحت عنوان: "باب حكاية قول من رد خبر الخاصة" -يعني: بخبر الخاصة خبر الواحد- إلى هذا الانحراف وساق الدليل بعد الدليل على أن خبر الواحد حجة. وفي مباحث كتاب الرسالة تعرض لهذه الانحرافات وأطال في نقدها وبيان شذوذها، ودافع بالبراهين عقلًا ونقلًا على أن السُّنَّة كلها حجة متواترها وآحادها، وأن ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس لله -عز وجل- فيه حكم فبحكم الله سنّه، وأنه قد "سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كتاب الله -عز وجل-، وسنَّ فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سنَّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُود (*) عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخرجًا" (¬5). وببيان قوي وأسلوب رصين استطاع الشافعي أن يصد الهجوم على السُّنَّة، ¬

_ (¬1) كتاب "جماع العلم في كتاب الأم" للشافعي 7/ 250، و 254، وكتاب "الرسالة" ص 369، و"السُّنَّة" للسباعي ص 128، و"تاريخ المذاهب الإسلامية" أبو زهرة 2/ 258، ط. دار الفكر العربي. (¬2) "مناقب الشافعي" البيهقي 2/ 274. (¬3) "الأم" الشافعي 7/ 250. (¬4) المصدر نفسه 7/ 254. (¬5) انظر: "الرسالة" الشافعي ص 88 وما بعدها. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في لسان العرب: «عَنَدَ الرجلُ يَعْنُد عَنْداً وعُنُوداً وعَنَداً: عَتَا وطَغَا وجاوزَ قَدْرَه. . . . وعنَدَ عَنِ الْحَقِّ وَعَنِ الطَّرِيقِ يَعْنُدُ ويَعْنِدُ: مالَ»

تصحيح الانحرافات

وأن يعيد إلى نصوص الوحي الثاني مكانتها، وشاعت كتبه بين جموع تلاميذه وتلقاها الناس بالقبول، فكانت منها حركة مباركة قوية ظهر بها الحق وانتصرت بها السُّنَّة واستبانت سبيل المنحرفين. أما انتصاره للسُّنَّة في مجال تقويته للمسلك الفقهي الصحيح في الاعتماد على الأخبار والآثار وترك التطرف في استخدام الرأي فيقول عنه الرازي: "إن الناس كانوا قبل الشافعي فريقان: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي. أما أصحاب الحديث فكانوا عاجزين عن المناظرة والمجادلة عاجزين عن تزييف طريق أصحاب الرأي، فما كان يحصل بسببهم قوة في الدين ونصرة الكتاب والسُّنَّة. وأما أصحاب الرأي فكان سعيهم وجهدهم مصروفًا إلى تقرير ما استنبطوه برأيهم ورتبوه بفكرهم، وما كان جدّهم واجتهادهم مصروفًا إلى نصرة النصوص. . . . . . وأما الشافعي - رضي الله عنه - فإنه كان عارفًا بالنصوص من القرآن والأخبار، وكان عارفًا بأصول الفقه وشرائط الاستدلال بتلك النصوص، بل هو الذي جمعها ورتب أصولها ونقح فصولها، وكان أيضًا قويًا في المناظرة والمجادلة. . . ثم إن الشافعي جاء وأظهر ما كان معه في الدلائل والبيان فرجع عن قول أصحاب الرأي أكثر أنصارهم وأتباعهم. . . فوجب القطع بأنه المراد من هذا الخبر؛ يعني: حديث التجديد" (¬1). فالشافعي أبان التوازن والتوافق بين النصوص والرأي دون شطط ولا تطرف، وأعاد الناس إلى النهج الوسط السليم. وبجهوده في هذا المجال، وجهوده في نصرة السُّنَّة والذب عنها، وبجهوده في تدوين طرائق الاستنباط، قدّم الشافعي نموذجًا للتجديد في مجال الاجتهاد والتشريع، وأحيا وبعث معلمًا هامًا من معالم الدين. تصحيح الانحرافات: ذكرنا أن من مجالات التجديد تصحيح الانحرافات وتنقية الدين من العناصر الدخيلة، وهذا عرض لبعض جهود المجددين في هذا المجال. ¬

_ (¬1) "مناقب الشافعي" الرازي ص 242 وما بعدها.

والانحراف في الدين نوعان (¬1): انحراف فكري وانحراف سلوكي. أما الانحراف الفكري فهو خطأ في الإدراك والتصور، بحيث لا يرى المرء الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه، وصاحبه يظن الصواب خطأ، والخطأ صوابًا، ويرى الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا. وهذا النوع من الانحراف يؤثر في الاعتقادات والمفاهيم، ويغير ويبدل في أسس الدين ومبادئه. أما الانحراف الثاني فهو انحراف ناشئ عن الشهوات والميل إليها، وهذا النوع من الانحراف هو ضعف في العزيمة والإرادة، يؤثر في الأخلاق والأعمال، مع بقاء المبادئ والمفاهيم صحيحة سليمة. وحسب تعبير السلف يسمى الانحراف الفكري انحراف (بدعة) ناشئ عن (شبهة)، أما الانحراف السلوكي فهو انحراف (معصية) ناشئ عن (شهوة). والنوع الأول من الانحراف أخطر من النوع الثاني؛ لأن انحراف الأفكار والمبادئ يؤدي حتمًا إلى انحراف السلوك والأخلاق، كما أن صاحبها من النادر أن يرجع إلى الحق لأنه يرى أنه على حق. وهذا هو معنى عبارة السلف المشهورة "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها". يقول ابن تيمية شارحًا هذه العبارة (¬2): "ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب منه مادام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، فمادام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة، بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق". وقد شملت جهود المجددين تصحيح الانحرافات في المجالين: الفكرية والسلوكية. ولكن سنقصر الحديث هنا على نماذج من جهودهم في تصحيح انحرافات الفكر والمفاهيم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتاوى ابن تيمية" 10/ 93 (مرض القلب). (¬2) "فتاوى ابن تيمية"، 10/ 9.

الأشعري وتصحيح الانحرافات: من المجددين الذين لهم جهود كبيرة في تصحيح الانحرافات، الإمام أبو الحسن الأشعري (270 - 324 هـ). والعمل الأساسي الذي قام به هو تصديه لتيار الانحرافات الداخلية في المجتمع المسلم في عصره والتي كانت تتمثل في فرقة المعتزلة. وكانت هذه الفرقة قد ظهرت في أواخر أيام الدولة الأموية، ومؤسسها هو واصل بن عطاء (80 - 131 هـ) وزميله عمرو بن عبيد (80 - 144 هـ). وسبب تسميتهم بهذا الاسم هو مخالفة مؤسس الفرقة لأحد كبار التابعين في عصره وهو الحسن البصري (ت 110 هـ) واعتزاله لمجلسه، ومن ثم اعتزالهم وشذوذهم عن جماعة المسلمين. وقد استوعبت هذه الفرقة كثيرًا من انحرافات الفرق التي سبقتها وتبنتها وكانت من أقواها تيارًا. وتبلورت أفكارهم في خمس نظريات أساسية، صاغوها تحت شعارات براقة، فقد كان من مبادئهم التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرحوا هذه المبادئ بطريقتهم الخاصة لا كما عرفها المجتمع المسلم منذ عهد الصحابة (¬1). وبلغت هذه الفرقة أوج قوتها في عهد المأمون (170 - 241 هـ) أحد خلفاء صدر الدولة العباسية، الذي كان منتسبًا إليهم وسعى بقوة السلطة لأن يجعل الاعتزال مذهب الدولة (¬2). ورغم أن شوكة المعتزلة وسطوتهم السياسية قد انكسرت بفضل تضحيات الإمام أحمد بن حنبل وصموده، وصمود أقرانه من علماء الأمة، في معارضة هذه الفرقة، إلا أنهم مع فقدهم النفوذ السياسي كانت لا تزال رؤوسهم مرفوعة ودعوتهم قوية وأصواتهم عالية بفكرهم وآرائهم. وأبو الحسن الأشعري نفسه كان أحد مفكري المعتزلة الكبار، نشأ في بيت شيخهم في عصره أبي علي الجبائي. وبفضل مواهب الأشعري وحدة ذكائه أصبح ينوب عن أستاذه في مجالس المناظرات وكان قويًا في المجادلات وذا إقدام على الخصوم (¬3)، وبجانب المناظرات بدأ يؤلف الكتب دفاعًا عن مذهب ¬

_ (¬1) انظر: "الملل والنحل"، الشهرستاني ص 43 وما بعدها، و"مذهب الإسلاميين" عبد الرحمن بدوي ص 37 - 72. (¬2) "تاريخ الفكر العربي" عمر فروخ ص 290. (¬3) "تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 91، والسبكي، "طبقات الشافعية" 3/ 349.

المعتزلة (¬1)، ويقال أنه أقام على الاعتزال أربعين سنة حتى صار إمامًا لهم (¬2). ثم حدث له تحول في أفكاره وتغير في شخصيته، فتخلى عن مذهب الاعتزال وأعلن ذلك في أحد الأيام المشهودة في المسجد الجامع بالبصرة حيث رقي كرسيًا ونادى بأعلى صوته: "من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم" (¬3). ومنذ تلك اللحظة انقلب حربًا على المعتزلة، وصار لسانه وقلمه سيفًا مشهورًا في وجوههم حتى أضعف تأثيرهم وصد فكرهم. وهو وإن كان قد واجه المعتزلة بصورة رئيسة إلا أنه كانت له جولات مع كل المنحرفين في عصره. ويصف الإمام البيهقي المهمة الكبيرة التي نهض بها الأشعري والخدمة التي أداها لهذا الدين بهذه الكلمات: "كان إمامًا قام بنصرة دين الله وجاهد بلسانه وبيانه من صد عن سبيل الله، وزاد في التبيين لأهل اليقين أن ما جاء به الكتاب والسُّنَّة وما كان عليه سلف هذه الأمة مستقيم على العقول الصحيحة والآراء" (¬4). ويقول البيهقي أيضًا: "لم يُحدث في دين الله حدثًا، ولم يأت فيه ببدعة، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين، فنصرها بزيادة شرح وتبيين، وأن ما قالوا في الأصول وجاء به الشرع صحيح في العقول، خلاف ما زعم أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء" (¬5). حرب المنحرفين بسلاحهم: فالإمام أبو الحسن الأشعري يأتي في قمة ذلك الاتجاه الذي حارب ¬

_ (¬1) "طبقات الشافعية" السبكي 3/ 377. (¬2) المصدر نفسه 3/ 347. (¬3) "وفيات الأعيان" ابن خلكان 3/ 385، وانظر: "رجال الفكر والدعوة" الندوي ص 149. (¬4) "تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 105. (¬5) المصدر نفسه ص 105.

المنحرفين بسلاحهم، وهو وإن لم يكن أول من ابتدأ هذه الطريقة في الرد على أصحاب الآراء الشاذة بالحجج العقلية؛ لأنهم كانوا يزعمون أن العقل سندهم وحجتهم، إلا أنه كان رائدًا من رواد هذه المدرسة، وهو يُعد أحد مؤسسي علم الكلام السُّنِّي، الذي كانت غايته وهدفه الرئيس إثبات أن الحجج والبراهين التي تستند عليها المذاهب المنحرفة والمبادئ الهدامة حجج واهية. وقد كانت الاعتراضات تثار حول هذا الأسلوب، ولا تزال تثار، وتختلف حوله وجهات النظر، ولا ينال الاستحسان والإعجاب من كل مفكري المسلمين. وقد ألّف أبو الحسن الأشعري نفسه رسالة بعنوان: "استحسان الخوض في الكلام" (¬1)، يصوب فيها أسلوبه واتجاهه. وعلم الكلام هو علم الجدل الذي نشأ على يد الفرق الضالة للدفاع عن أفكارها وآرائها. ومهما كان الاختلاف في الاشتقاق اللغوي لاسم هذا العلم (¬2)، إلا أن من الثابت أنه قد ابتدأ على يد الفرق المنحرفة بدءًا بالخوارج وانتهاءً بالمعتزلة. فهو السلاح الفكري الذي اخترعته هذه الفرق في محاولة لإقامة فكرهم على أسس وقواعد من العقل. ولما كانت العقائد الإسلامية إنما تستند حقائقها والحجج العقلية المثبتة لها على القرآن والسُّنَّة، فقد كره السلف هذه الطريقة الخاطئة التي اتبعها المنحرفون في الجدل عن أمور العقيدة، وعابوا عليهم أنهم تركوا الكتاب والسُّنَّة، واعتمدوا على حجج لا تثبت في ميزان النقد العقلي الصحيح، وإن ادعى أصحابها أنها عقلية. وهناك مقولات كثيرة لأئمة الدين تشن حملة قوية على علم الكلام، نسوق منها على سبيل المثال قول الشافعي وهو أحد المجددين إذ يقول: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنَّة، وأقبل على الكلام" (¬3). ويعقب البيهقي على كلام الشافعي هذا قائلًا: "وكانوا في القديم إنما ¬

_ (¬1) "الرسالة مطبوعة بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية" حيدر آباد، الهند عام 1344 هـ. (¬2) انظر: "تاريخ الفكر العربي" عمر فروخ، و"مذهب الإسلاميين" عبد الرحمن بدوي 1/ 28. (¬3) "مناقب الشافعي" للبيهقي ص 462.

يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السُّنَّة والجماعة فمعولهم فيما يعتمدون الكتاب والسُّنَّة" (¬1). ثم بدأ أخذ هذا العلم في مرحلة لاحقة يأخذ اتجاهًا جديدًا، تمثل في الرد على الفرق الضالة ودفع شبهاتهم بنفس الحجج العقلية التي كانوا يسندون بها آراءهم مستعملين بذلك نفس سلاحهم. وابتدأ هذا الدور على يد أمثال عبد الله بن سعيد الكلابي وأبو العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي (¬2)، وجاء في قمة من اتبع هذه الطريقة الإمام أبو الحسن الأشعري، الذي تصدى لتصحيح الانحرافات متبعًا هذا الأسلوب. وأصبح ذلك هو الهدف من علم الكلام في صورته الأخيرة. ويوضح أحد الكُتَّاب هذا الوضع الجديد لعلم الكلام فيقول: "اعلم أنا لا نأخذ الاعتقادات الإسلامية من القواعد الكلامية بل إنما نأخذها من النصوص القرآنية والأخبار النبوية، وليس القصد بالأوضاع الكلامية إلا دفع شبه الخصوم والفرق الضالة عن الطرق الحقيقية، فإنهم طعنوا في بعض منها بأنه غير معقول، فبيِّن لهم بالقواعد الكلامية معقولية ذلك البعض" (¬3). المعتزلة والفلسفة: وإذا كان علم الكلام يمثل أحد المنعطفات المنحرفة لتناول مسائل العقيدة، فقد واجهت العقائد منعطفًا آخر كاد يحرفها عن وجهتها الصحيحة، وذلك هو الفلسفة اليونانية الوافدة. ورغم أن نقل الفلسفة اليونانية قد ابتدأ قبل عهد المأمون العباسي، إلا أن هذا النقل قد اتسع جدًا في أيامه (¬4). وفي أثناء فورة الحماس لنشر مذهب الاعتزال بكل الوسائل قويت الصلة بين العقلية الإسلامية والفلسفة اليونانية، فاندفعت الفلسفة في اتجاه خاطئ، وأصبحت مباحث الوثنية اليونانية في الإلهيات مصدرًا جديدًا لمباحث العقائد الإسلامية. وطالع شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نشرت وخلطوا مناهجها بمناهج علم الكلام (¬5)، ¬

_ (¬1) "مناقب الشافعي" للبيهقي ص 462. (¬2) "الملل والنحل" الشهرستاني ص 32. (¬3) "لوامع الأنوار البهية" السفاريني ص 5. (¬4) "تاريخ الفكر العربي" عمر فروخ ص 290. (¬5) "الملل والنحل" الشهرستاني ص 30.

جهود الأشعري

وأول من مزج علم الكلام بالفلسفة هو أبو الهذيل العلاف (135 - 231 هـ) وهو من قادة المعتزلة، وكان يرأس مجالس المناظرات في الأديان والمقالات في عهد المأمون (¬1)، وهكذا نشأ علم كلام جديد متأثرًا بالفلسفة وممتزجًا بها، واحتاج ذلك الانحراف الجديد لمن يتصدى له، وكان ذلك أحد الآثار السلبية الأولى لانتقال الفكر اليوناني إلى المسلمين. أما الأثر السلبي الثاني فقد كان في نشوء طبقة من المفكرين جردت نفسها للدراسات الفلسفية الخالصة، وعرف هؤلاء باسم الفلاسفة المسلمين. وإذا كان أبو الحسن الأشعري قد تصدى لانحرافات المعتزلة، فإن الغزالي مجدد المائة الخامسة قد تصدى لانحرافات الفلاسفة، كما سنرى ذلك حين يأتي عرض جهوده التصحيحية. وهكذا يمكن أن يعتبر الأشعري نموذجًا للتجديد الذي يواجه انحرافات المجتمع الداخلية، أما الغزالي فهو نموذج التجديد الذي يدفع الانحرافات التي تغزو المجتمع المسلم من خارجه. جهود الأشعري: قد كان للأشعري باع طويل في معرفة الانحرافات الرائجة في عصره، واطلاع واسع على آراء وأفكار الفرق المختلفة. وكتابه "مقالات الإسلاميين" يدل على دراسته العميقة للاتجاهات والتيارات الفكرية المختلفة في عصره، وبذلك أصبح مؤهلًا لتصحيحها والرد على الزائف منها. وقد كانت جهوده التصحيحية وأعماله الإصلاحية تتمثل في ثلاث نواح: الناحية الأولى: عقد المناظرات وإدارة المناقشات، ومن المشهور عنه أنه كان قويًا في المناظرة "وكان يفتح عليه من المباحث والبراهين بما لم يسمعه من شيخ قط ولا اعترضه به خصم ولا رآه في كتاب" (¬2). ويصف أحد شهود العيان مجلسًا من تلك المجالس بقوله: "حضرنا مع الشيخ أبي الحسن مجلسًا بالبصرة فناظر المعتزلة وكانوا كثيرًا، فأتى على الكل وهزمهم، كلما انقطع واحد تناول الآخر حتى انقطعوا عن ¬

_ (¬1) "الملل والنحل" الشهرستاني ص 191. (¬2) "طبقات الشافعية الكبرى" السبكي 3/ 349.

آخرهم. فعدنا في المجلس الثاني فما عاد منهم أحد" (¬1). ولم يكن يقتصر على المجالس العلمية المنظمة والاجتماعات المعدة، بل كان نشيطًا يغشى مجالس المعتزلة الخاصة، ويقصدهم بنفسه ويناظرهم، فكان يكلم في ذلك ويقال له: كيف تخالط أهل البدع وتقصدهم بنفسك وقد أمرت بهجرهم؟ فقال: هم أولو رياسة منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إلي، فإذا كانوا هم لا ينزلون إلي ولا أسير أنا إليهم فكيف يظهر الحق (¬2). وبفضل تلك المناظرات كان الناس يتحولون من مذاهبهم الباطلة إلى المذهب الحق. ويحكى عن أحد تلاميذ الأشعري المشاهير وهو أبو الحسن الباهلي، أنه كان من الشيعة الإمامية ورئيسًا مقدمًا فيهم، فانتقل عن مذهبهم بمناظرة جرت له مع الشيخ الأشعري ألزمه فيها الحجة حتى بان له الخطأ (¬3). والأسلوب الثاني الذي اتبعه الأشعري في تصحيح الانحرافات هو أسلوب الكتابة والتأليف، وبالرجوع إلى قائمة مصنفاته (¬4) نجد أن أكثر مؤلفاته في الرد على المعتزلة، وبعضها في الرد على مذاهب وفرق أخرى. ومنها كتاب كبير في الرد على أصحاب الملل والديانات غير الإسلامية. وله كتاب في التفسير "لم يترك فيه آية يتعلق بها بدعي إلا أبطل تعلقه بها وجعلها حجة لأهل الحق" (¬5). ويذكر الأشعري في مقدمة هذا التفسير الدافع له على تأليفه فيقول: "ورأيت الجبائي -من شيوخ المعتزلة- ألف في تفسير القرآن كتابًا أولّه على خلاف ما أنزل الله -عز وجل-، وما روى في كتابه حرفًا واحدًا عن أحد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه، ولولا أنه استغوى بكتابه كثيرًا من العوام واستنزل به على الحق كثيرًا من الطغام لم يكن لتشاغلي به وجه" (¬6). أما عن منهجه في تناول العقائد فقد أوضحه في مقدمة كتابه "الإبانة في ¬

_ (¬1) "تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 94. (¬2) "ابن عساكر" ص 116. (¬3) المصدر نفسه ص 127. (¬4) "ابن عساكر" ص 128 - 136، و"السبكي" 3/ 349، و"رجال الفكر" الندوي ص 157. (¬5) "ابن عساكر" ص 117. (¬6) المصدر نفسه ص 139.

الغزالي وتصحيح الانحرافات

أصول الديانة" وهو من آخر كتبه تأليفًا ونكتفي منه بهذا الاقتباس: "فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي تقولون وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله وسُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، وعمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله تعالى عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم، ورحمته على جميع أئمة المسلمين" (¬1)،. . . ثم أورد تفاصيل العقائد التي يدين بها. والناحية الثالثة: من نواحي أعمال الأشعري التصحيحية هي ما خلّفه وراءه من مدرسة نسبت إليه وتسمت باسم الأشعرية، أنجبت تلاميذ أذكياء وشخصيات قوية، حملت الراية من بعده وصارعت المعتزلة صراعًا لم تقم لهم بعده قائمة، واستمرت تؤثر في الفكر الإسلامي قرونًا عديدة، ومن هؤلاء التلاميذ (¬2): القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403 هـ)، وأبو إسحق إبراهيم بن محمد الإسفراييني (ت 418 هـ)، وكلاهما قد رشح لمنصب التجديد في المائة الرابعة. الغزالي وتصحيح الانحرافات: النموذج الثاني من المجددين الذين لهم جهود مرموقة في تصحيح الانحرافات هو الإمام أبو حامد الغزالي (450 - 505 هـ) الذي يلقب (بحجة الإسلام) شهادة له بالسبق الذي أحرزه في هذا الميدان. والغزالي من نوابغ أعلام الإسلام، وشخصية فذة اجتمعت فيها مواهب عديدة، فقد كان - رضي الله عنه - شديد الذكاء، سديد النظر، قوي الإدراك، ذا فطنة ثاقبة، وغوص في المعاني (¬3). وبجانب ذلك كانت له نفس قلقة مولعة بالاستقلال، تكره الجمود والتقليد، فلم ¬

_ (¬1) "الإبانة" الأشعري ص 15. (¬2) انظر: القائمة الكاملة بأسماء التلاميذ في "طبقات السبكي" 3/ 368 - 371. (¬3) السبكي، "طبقات الشافعية" 6/ 196، و"سيرة الغزالي" ص 76.

يقنع بأن يكون تابعًا يسير في ركاب غيره، يحفظ ويردد ما تلقنه من العلوم، بل طلب الحق بنفسه وحقق حتى استطاع أن يكشف مواطن الصواب ومواطن الخطأ في التيارات الفكرية المائجة في عصره. ويترجم الغزالي لهذا الجانب من شخصيته فيقول: "ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين، إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين، اقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته، خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع" (¬1). والتيارات الفكرية التي كانت رائجة في عصر الغزالي والتي تناولها بالدراسة والفحص والنقد والتصحيح أربعة تيارات: الفلسفة والكلام والتصوف والباطنية (¬2). وفيما يلي توضيح مختصر لموقف الغزالي منها وكشفه لانحرافاتها. نقد الفلسفة: لقد شاعت الفلسفة اليونانية في عصر الغزالي شيوعًا كاد أن يهز الإيمان في النفوس، وأصبح أذكياء الأمة يقبلون على الفلسفة ومباحثها من غير تمييز للنافع منها عن الضار. وكانوا من فرط إعجابهم بفلاسفة اليونان الملحدين أن قلدوهم في كل شيء حتى في إلحادهم وكفرهم. ورغم أن الفلسفة اجتذبت عقولًا نابهة ونوابغ من الأمة الإسلامية، إلا أن دور أولئك الفلاسفة كان في أكثره النقل المحض والتقليد الأعمى. ولم تكتف هذه الطبقة من المفكرين بذلك بل حاولت تدوين عقائد الإيمان والدين على ضوء الفكر اليوناني الوثني الإلحادي، وتقديم تفسيرات جديدة لموضوعات العقائد الإسلامية (¬3). وهذا الموقف الانهزامي الذي تردى فيه هؤلاء جعلهم يحاولون إخضاع الدين وحقائقه لنظريات الفلسفة ¬

_ (¬1) "المنفذ من الضلال" الغزالي ص 10. (¬2) المصدر نفسه ص 15. (¬3) انظر على سبيل المثال: رأي ابن سينا في "معاد النفوس"، و"الأجساد" في "تاريخ الفكر العربي"، عمر فروخ ص 422 وما بعدها.

وفروضها، تحت شعار التوفيق بين الدين والفلسفة، وكان الأحرى بهم أن يخضعوا الفلسفة للدين. ويشابه هذا الموقف الذي واجهه المجتمع المسلم في القرن الخامس الهجري أمام معارف اليونان، الموقف الذي يواجهه المسلمون في هذا العصر أمام الحضارة الغربية وعلومها (¬1). ويصور الغزالي هذه الحالة بهذه الكلمات: ". . . أما بعد فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين. وإنما مصدر كفرهم سماعم أسماء هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس (¬2) وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم وحسن أصولهم ودقة علومهم، وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة علومهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل. فلما قرع ذلك سمعهم ووافق ما حكى من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزًا إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطًا في سلكهم وترفعًا عن مسايرة الجماهير والدهماء" (¬3). فلما رأى الغزالي هذه الحالة أقبل على دراسة الفلسفة وتمحيصها وحذقها، لينتقدها نقد الخبير المتخصص. وقد كانت ثمرة مطالعات الغزالي وقراءاته في الفلسفة، أن جمع أولًا خلاصة أفكار الفلاسفة وآرائهم، وعرضها عرضًا سهلًا ميسرًا كما هي دون نقد في كتاب عنوانه: "مقاصد الفلاسفة"، وكان ذلك العمل تمهيدًا لمناقشتها ونقدها (¬4). ثم بعد ذلك تعرض لمباحثها في موضوع الإلهيات التي تتعارض مع عقائد الدين، فناقشها مسألة مسألة وبيَّن أوجه الخطأ فيها، وضم تلك المباحث في كتاب جعل عنوانه: "تهافت الفلاسفة". والنتائج التي توصل إليها الغزالي من الفلسفة بعد الدراسة والتحقيق يمكن ¬

_ (¬1) انظر: "رجال الفكر والدعوة" الندوي ص 190. (¬2) من فلاسفة اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. (¬3) "تهافت الفلاسفة" ص 74. (¬4) "مقدمة مقاصد الفلاسفة" للغزالي ص 31، و"المنقذ من الضلال" الغزالي ص 18.

عرضها في الآتي (¬1): 1 - أثبت أن بعض مباحث الفلسفة لا يتعلق شيء منها بأمور الدين نفيًا وإثباتًا، مثل المباحث الرياضية وعلوم الحساب والهندسة، ومثل المنطقيات، وكانت الفلسفة بمفهومها القديم تشمل كل هذه العلوم وغيرها. أما آراء الفلاسفة في الأخلاق والسياسة فبيَّن أن هذه الآراء لا تتصادم مع الدين إلا في النادر، بل هو يرى أن أصولها مستمدة من حكمة الأديان. 2 - أوضح أن أكثر أغاليط الفلاسفة وأخطائهم في مباحث الفلسفة المسماة بالإلهيات، وذلك أن براهينهم فيها غير مستقيمة، وهذا سبب كثرة اختلافهم هم أنفسهم فيها. وقد خصص الغزالي كتابه "تهافت الفلاسفة" لنقد هذا الجانب من الفلسفة، واختار من ذلك عشرين مسألة أوردها بأدلة الفلاسفة عليها ثم أبان خطأها وأدلته على هذا الخطأ. 3 - هاجم الغزالي موقف المقلدين للفلسفة المعجبين بها الذين نظروا في المباحث الرياضية والمنطقية، فتعجبوا من دقائقها وظهور براهينها فانبهروا بها، وظنوا أن جميع علومهم في الوضوح وقوة البرهان مثل المباحث الرياضية، وحين سمعوا عن إلحاد الفلاسفة وكفرهم، وقع في أنفسهم أن لو كان الدين حقًا لما خفي على هؤلاء مع تدقيقهم في العلم فتبعوهم في إلحادهم تقليدًا وجهلًا، وقد غاب عنهم أنه إذا كانت مباحث الرياضيات لها براهين واضحة، فإن مباحث الإلهيات عند الفلاسفة أوهام وظنون ليس عليها برهان. 4 - هاجم الغزالي موقف الجامدين من علماء الدين، الذين وقفوا موقف الصديق الجاهل، الذي ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل العلوم المنسوبة إلى الفلاسفة، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الخسوف والكسوف وزعم أن ما قالوه خلاف الشرع، وقد كانت تلك مصيبة عظيمة في الدين لأن من رأى قوة براهين الفلاسفة في هذه الأمور، اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حبًا وللإسلام بغضًا. وهكذا استطاع الغزالي أن يفتح أعين المسلمين على حقيقة الفلسفة، ¬

_ (¬1) انظر: "المنقذ من الضلال" ص 21 - 24.

وأصبحوا ينظرون إليها بعيون مبصرة، بعد أن كانوا يقبلون عليها بعيون مغلقة، وزال عن الفلسفة ذلك البريق الذي كان يدفع الناس للانفلات من الدين إعجابًا بها؛ بل تراجعت الفلسفة إلى موقف الدفاع، ويمثل هذا الموقف كتاب ابن رشد (520 - 595 هـ) "تهافت التهافت"، وأصبح الاتجاه النقدي للفلسفة اتجاهًا مؤثرًا، انجذبت له عقول كبيرة من مثل الإمام ابن تيمية (661 - 728 هـ)، وخلّف هذا الاتجاه إنتاجًا علميًا قويًا صحح مسيرة التفكير عند المسلمين. نقد علم الكلام: يرى الغزالي أن علم الكلام قد انحرف عن الغاية التي من أجلها نشأ، ويتحدث عن نشأة علم الكلام فيرى أن القرآن والحديث قد اشتملا على العقيدة الحقة، ولكن من الناس من انحرف عن هذه الطريقة، واخترع أمورًا في العقائد مخالفة للسُّنَّة، وكاد هؤلاء أن يشوشوا العقيدة الصحيحة على أهلها، فأنشأ الله طائفة المتكلمين لنصرة السُّنَّة بكلام مرتب وكشف تلبيسات أهل الانحراف. هذه هي غاية علم الكلام في نظر الغزالي. وقد اعتمد علم الكلام في إثبات تناقضات الآراء المنحرفة، على نفس البراهين التي استعملها أصحابها في إثباتها. ثم إن الغزالي يرى أن علم الكلام قد حاد عن هذا الهدف وصار هو بنفسه محاولة لإثبات عقائد الدين بالبراهين التي استمدها من مجادلة المنحرفين، وهذه البراهين تصلح لنقض باطل المنحرفين ولكنها لا تصلح لإثبات عقائد الدين. يقول الغزالي مبيِّنًا هذا الرأي: "لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة، تشوف المتكلمون إلى محاولة الذب عن السُّنَّة بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها، ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحق بالكلية ظلمات الحيرة" (¬1). ولهذا يرى الغزالي أن علم الكلام ينبغي أن يوضع في موضعه ويشتغل بالغاية التي من أجلها نشأ، وهي مجادلة أصحاب الانحرافات والشبهات والرد ¬

_ (¬1) "المنقذ من الضلال" الغزالي ص 16.

عليهم، فينبغي أن يستعمل مع هؤلاء خاصة لأنهم مرضى وعلم الكلام لهم دواء. يقول: ". . . فإن الأدوية تستعمل في حق المرضى وهم الأقلون، وما يعالج به المريض بحكم الضرورة يجب أن يوقى عنه الصحيح، والفطرة الأصيلة الصحيحة معدة لقبول الإيمان دون المجادلة وتحرير حقائق الأدلة، وليس الضرر في استعمال الدواء مع الأصحاء، بأقل من الضرر في إهمال المداواة مع المرضى، فليوضع كل شيء موضعه" (¬1). ويضع الغزالي في نقده لعلم الكلام إصبعه على أمر في غاية الأهمية، وذلك هو الطريقة الصحيحة لعرض مسائل العقيدة الإسلامية والاستدلال لها. وهذه الطريقة هي طريقة القرآن، ذلك أن القرآن يشتمل على أدلة وحجج عقلية فيها البرهان الكافي للعقائد، فينبغي عرضها وبسطها وتوضيحها والاكتفاء بها في تقرير أمر العقيدة. ويتحدث الغزالي موضحًا هذه الحقيقة مؤكدًا أن حجج القرآن العقلية كافية للعقول السليمة والفطر الصحيحة فيقول: "فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ويتضرر به الأكثرون، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة، ويمرضون بها مرة أخرى" (¬2). ويضرب بعض الأمثلة من طريقة القرآن في الاستدلال فيقول: "فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين فكيف ينتظم في كل العالم إشارة لقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وأن من خلق عَلِمَ كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]، فهذه الأدلة تجري من العوام، مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي. ¬

_ (¬1) "إلجام العوام عن علم الكلام" الغزالي ص 43. (¬2) المصدر نفسه ص 20.

نقد الباطنية: الطائفة الثالثة التي حاربها الغزالي هي طائفة الباطنية، والباطنية من الحركات السرية في الإسلام، وقد كان لها آثار خطيرة في التاريخ الإسلامي. وظهر هذا المذهب بأسماء مختلفة على اختلاف العصور والأزمنة. وسبب هذه التسمية أن هذه الطائفة تدعي أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن، وأن الجهال والأغبياء هم الذين يقفون عند ظاهرها، أما العقلاء والأذكياء فالنصوص عندهم رموز وإشارات إلى حقائق خفية. وهذا ينطبق على كل شيء في الدين من تفاصيل العقائد إلى تفاصيل التكاليف الشرعية (¬1)، ولهم تأويلات لهذه الظواهر لا ضابط لها ولا معيار، والمرجع الوحيد لهذه التأويلات هو الإمام المعصوم. وهم يرون أنه لابد في كل عصر من إمام معصوم، يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات في القرآن والأخبار والمعقولات، وهو وحده المتصدي لهذا الأمر. وهذا الإمام جار في نسبهم لا ينقطع أبد الدهر (¬2). وقد كانت للباطنية طوائف كثيرة لها أسماء حسب العصر والمكان، ومن أشهر طوائفهم: الإسماعيلية، والقرامطة، والبابكية، والدروز، والنصيرية (¬3). وأهم هذه الطوائف من الناحية السياسية طائفة الإسماعيلية، إذ أقاموا الدولة الفاطمية في عام (296 هـ) التي بسطت نفوذها على شمال إفريقيا ومصر والشام واليمن وظلت دولتهم قائمة حتى عام (564 هـ) (¬4). أما ما قام به الغزالي في محاربة هذه الطائفة التي كان أمرها مستفحلًا في عصره، فيتمثل في أنه بعد أن تعمق في دراستها ألف في الرد عليها كتابًا أسماه "فضائح الباطنية". وقد كان تأليف هذا الكتاب بأمر الخليفة العباسي آنذاك المستظهر بالله (487 - 512 هـ)، ولهذا فالكتاب يعرف أيضًا باسم "المستظهري" (¬5). وقد ذكر الغزالي أنه ألَّف كتبًا أخرى في الرد على الباطنية (¬6). ¬

_ (¬1) "فضائح الباطنية" الغزالي ص 11، و"الملل والنحل" الشهرستاني 1/ 333. (¬2) "فضائح الباطنية" ص 42. (¬3) "مذهب الإسلاميين" عبد الرحمن بدوي 2/ 9. (¬4) المصدر نفسه ص 9، وعمر فروخ، "تاريخ الفكر العربي" ص 239. (¬5) "المنقذ من الضلال" ص 28. (¬6) المصدر نفسه ص 33.

ويأتي اسم الغزالي ضمن قائمة طويلة من الأسماء التي حاربت الباطنية فكريًا، ولكن مع ذلك لا يزال لهذا المذهب أتباع إلى عصرنا هذا (¬1). نقد التصوف: التصوف باب من الأبواب التي دخلت منها الانحرافات إلى الدين، حتى أن الناس تنازعوا هل التصوف نفسه من الدين أم لا؟ وهذا ينبني على ماهية التصوف. تعددت الآراء في الاشتقاق اللغوي لكلمة صوفي، والذي تميل إليه هذه الآراء أنها مشتقة من لباس الصوف، وهو قد كان اللباس الغالب على الزهاد والعباد (¬2)، ويخطئ من ينسب كلمة صوفي إلى أهل الصفة؛ لأن ذلك الاشتقاق لغة لا يصح، كما أن أهل الصفة لم يكونوا قومًا منقطعين للعبادة كما شاع ذلك خطأ عنهم، بل كانوا قومًا فقراء يهاجرون إلى المدينة وما لهم أهل ولا مال، وكان الأنصار في أول الأمر يؤوون المهاجرين ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء، فبنيت لهم صفة (مكان مظلل) في مؤخرة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ليأووا إليها. ولم يكن جميع أهل الصفة قد اجتمعوا كلهم في وقت واحد في هذا المأوى، بل كان منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، وهكذا يجيء ناس ويذهب ناس، فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون (¬3). وعلى هذا فأهل الصفة ليسوا هم متصوفة العهد النبوي كما يظن البعض. وقد ظهر لفظ التصوف في أواخر المائة الثانية (¬4)، واشتهر استعمال هذا الاصطلاح عند كثير من أئمة الدين في ذلك العصر، ويروى ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني وسفيان الثوري والحسن البصري (¬5). ¬

_ (¬1) توجد بقايا الإسماعيلية في طاجكستان وسوريا وباكستان واليمن، ويوجد النصيرية (بنسبة ضئيلة جدًا) في بلاد الشام وتركيا. انظر: "سكان العالم الإسلامي" محمود شاكر ص 34 - 36. (¬2) "فتاوى ابن تيمية" 11/ 6، و"اللمع" ابن سراج الطوسي ص 21، و"تاريخ الفكر العربي" عمر فروخ ص 470. (¬3) "فتاوى ابن تيمية" 1/ 40، و"تلبيس إبليس" ابن الجوزي 157. (¬4) "تلبيس إبليس" ابن الجوزي ص 157. (¬5) "فتاوى ابن تيمية" 11/ 5.

ومنشأ التصوف كان بالبصرة بالعراق، وكان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد وله زيادة اجتهاد في ذلك (¬1). ثم أصبح التصوف مصطلحًا "لمجاهدة النفس ورياضتها للخروج بها عن الأخلاق الرذيلة والدخولط بها في الأخلاق الحميدة والخصال الحسنة" (¬2). وكان أوائل الصوفية يقرون بأن اعتمادهم وتعويلهم على الكتاب والسُّنَّة. ومن أقوال أوائل المتصوفة في ذلك: يقول الجنيد: "مذهبنا هذا مقيَّد بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ويقول آخر: "أصل التصوف ملازمة الكتاب والسُّنَّة وترك الأهواء والبدع". ويقول ثالث: "أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق" (¬3). وكثير مما تكلم فيه أوائل المتصوفة في تعريف التصوف وحقائقه، ومقاماته وأحواله وسيرته وأخلاقه، مما له أصول في الكتاب والسُّنَّة فأصل التصوف نوع من الاجتهاد في إحسان العبادة، فمن الخطأ ذم التصوف مطلقًا. ثم إن التصوف بعد ذلك يتشعب ويتنوع، ورويدًا رويدًا دخلته أخطاء وانحرافات، وانتسبت إليه جماعات ضلت باسمه وأضلت. الغزالي والتصوف: يعتبر الغزالي نفسه من كبار المتصوفة في الإسلام، بل إن ابن تيمية يرى أن علم التصوف عند الغزالي "هو أجل علومه وبه نبل" (¬4). وإقبال الغزالي على التصوف كان أحد المنعطفات البارزة في حياته. وقد ترجم الغزالي لهذه الفترة من حياته بقلمه (¬5)، وبين الظروف والبواعث التي دفعت به إلى التخلي عن مركزه الاجتماعي المرموق والتفرغ لدراسة التصوف وممارسته عمليًا. ودامت هذه العزلة إحدى عشرة سنة، عاد بعدها إلى التدريس والتأليف، وكان من آثارها أن ألَّف الغزالي إنتاجه العلمي الكبير "إحياء علوم الدين". ¬

_ (¬1) "فتاوى ابن تيمية" 6/ 11 و 16. (¬2) المصدر نفسه 11/ 157. (¬3) "مفتاح الجنة" للسيوطي ص 50 - 52. (¬4) "السبعينية" ص 107، نقلًا عن "مقارنة بين الغزالي وابن تيمية" محمد رشاد سالم ص 9. (¬5) "المنقذ من الضلال" ص 35 وما بعدها ..

وكتاب "إحياء علوم الدين" من أكبر مؤلفات الغزالي، وأهمها وأكثرها ذيوعًا وتأثيرًا. ونقتطف هنا بعض ما ذكره الغزالي في المقدمة مما يلقي الضوء على محتويات الكتاب والموضوعات التي بحثها (¬1): قسم الغزالي كتابه إلى أربعة أقسام، سمى كل قسم منها ربعًا، وهذه الأقسام هي: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات. وتحدث في القسم الأول عن خفايا آداب العبادات ودقائق سننها وأسرار معانيها، وشمل هذا القسم طرفًا من فضائل العلم ومن قواعد العقائد. وتحدث في القسم الثاني عن أسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأغوارها، ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها. وتحدث في القسم الثالث عن الأخلاق المذمومة، التي جاء ذمها في القرآن مبيِّنًا حقيقتها وتعريفها وأسبابها وبواعثها وعلاماتها وطرق علاجها. وتحدث في القسم الرابع عن الأخلاق المحمودة وخصال المؤمنين والصديقين، ذاكرًا في كل خصلة تعريفها وحقيقتها وأسبابها التي بها تنال وثمراتها وفوائدها. ويصف الندوي الكتاب قائلًا: "وقد أصبح كتاب الإحياء بذلك كله كتاب إصلاح وتربية، وكأن المصنف حاول أن يكون هذا الكتاب كمرشد ومرب، مغنيًا عن غيره قائمًا مقام المكتبة الإسلامية، لذلك جعله يحتوي على العقائد والفقه وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق" (¬2). وقد استمد الغزالي كتاب الإحياء من مصادر التصوف السابقة له (¬3)، مع ما زاده من قبل نفسه وفكره، وكتبه بعاطفة صادقة وعبارات قوية، جعلت للكتاب تأثيرًا بيِّنًا على النفوس يحدث فيها تحولًا عجيبًا. وقد أثار هذا الكتاب منذ ظهوره ضجة كبيرة، وتطرف بعض الناس في قبوله والإعجاب بكل ما فيه، وتطرف آخرون في رفضه، حتى وقعت في بلاد المغرب خاصة بسبب هذا الكتاب فتن كثيرة وتعصب، أدى إلى أنهم كادوا يحرقونه، وربما وقع إحراق يسير (¬4). ¬

_ (¬1) "إحياء علوم الدين" 1/ 10. (¬2) "رجال الفكرة والدعوة" الندوي ص 245. (¬3) راجع: "المنقذ من الضلال" ص 35، و"السبكي" 7/ 247، وهذه المصادر تشمل "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي وأقوال الجنيد والشلبي وأبي يزيد البسطامي وغيرهم والرسالة القشيرية. (¬4) "السبكي" 6/ 258.

وقد انتقد الكتاب عدد غير قليل من العلماء، ووضعت كتب في نقده وبيان أخطائه (¬1). ومع الاعتراف بأن في الكتاب خيرًا كثيرًا إلا أن نواحي النقص والضعف في الكتاب التي أشار إليها هؤلاء تنحصر في هذه الجملة من كلام الذهبي (ت 748 هـ) قال: "أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من أدب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، (يعني: الفلاسفة) وتبحر في الصوفية" (¬2). فهذه ثلاثة مآخذ على كتاب الإحياء: اشتماله على أحاديث ضعيفة بل موضوعة، واشتماله على أقاويل من الفلاسفة، وما فيه من غلو في بعض الموضوعات مما استمده من التصوف المنحرف (¬3). وبسبب ثقة الناس في الغزالي راجت هذه الأحاديث الواهية، ودخلت آراء فلسفية وسلوكيات باطلة، في الدين مستترة بثوب التصوف. ويستمر الذهبي ناصحًا بالإقبال على الأصول الكتاب والسُّنَّة قائلًا: "فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله وبإدمان النظر في الصحيحين وسنن النسائي ورياض النووي وأذكاره تفلح وتنجح فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة" (¬4). ومع أن الغزالي أقبل على التصوف بكليته ومع ما أخذ عليه من مزالق في ذلك، إلا أنه بنفسه قد انتقد بعض المظاهر في التصوف نقدًا مرًا. ومن أمثلة ذلك ما جاء في كتابه "المقصد الأسنى" من بيان أن بعض المتصوفة فهموا أن ¬

_ (¬1) من تلك الكتب "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء" لأبي عبد الله المازري الفقيه (ت 536 هـ)، وكتاب "إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء" لابن الجوزي (ت 597 هـ) ومن الذين نقدوا الكتاب أبو بكر الطرطوشي (ت 520 هـ)، وشمس الدين أبو عبد الله الذهبي (748 هـ)، وتقي الدين ابن الصلاح (ت 643 هـ)، وابن تيمية (ت 728 هـ). انظر: "سيرة الغزالي" الصفحات 60، 73، 75، 79، 111. (¬2) "سيرة الغزالي" ص 79. (¬3) اعتنى جماعة بتخريج أحاديث الإحياء وبيان صحيحها من موضوعها، ومن أولئك: زين الدين العراقي، وكتابه مطبوع "بذيل كتاب الإحياء". وقد اختصر ابن الجوزي كتاب "الإحياء" في كتاب عنوانه "منهاج القاصدين" حاول فيه تهذيب الكتاب مما فيه من نواحي النقص. (¬4) المصدر نفسه ص 97.

القرب من الله تعالى، يعني: الحلول أو الاتحاد أو الوصول (¬1). وذكر في كتاب الإحياء نفسه طوائف من المتصوفة وعدد انحرافاتهم (¬2)، فمن تلك الانحرافات الإغراق في الطقوس والمظاهر الكاذبة والأزياء المتكلفة، ومن تلك الانحرافات التي أشار إليها وقوع بعض الطوائف في الإباحية (زعمًا أنهم مع الشهوات بالظاهر أما قلوبهم فوالهة بحب الله)، ومن تلك الانحرافات ادعاء ارتقاء النفس إلى مرتبة لا تحتاج معها إلى العبادات البدنية، ومن تلك الانحرافات تلك الحلقات المفرغة والكلمات الجوفاء، في شرح بعض أنواع مجاهدات النفس بما لا طائل من ورائه، من مثل القول: "إن هذا في النفس عيب، والغفلة عن كونه عيبًا عيب، والالتفات إلى كونه عيبًا عيب! ". وخلاصة الأمر أن الغزالي خالط المتصوفة فرأي حالتهم الغاية المنشودة واجتذبه ذلك بالمرة (¬3)، ولكنه لم يعرف طريقة الزاهدين من أهل السُّنَّة والحديث (¬4)، ويعترف الغزالي بنفسه بذلك فيقول: "بضاعتي في الحديث مزجاة" (¬5)، ويحكي أنه أقبل في آخر عمره على دراسة الحديث والمطالعة في الصحيحين البخاري ومسلم (¬6). ولو قدّر له أن يعيش عمرًا أطول لكان لهذه الدراسة أثر في حياته، وبخاصة أنه قد اتصف بالقدرة على الغوص والتبحر فيما يتفرغ لدراسته. الخاتمة: وهكذا يتضح أن للتجديد مجالات عديدة كلها تسعى لإحياء الدين وبعثه، ولعل من أهمها ما ذكر من إصلاح سياسي، واجتهاد تشريعي، وتصحيح للانحرافات. وقد قام المجددون في الماضي بجهود كبيرة في هذا المجال، قدمت له في هذا الفصل نماذج من إصلاحات عمر بن عبد العزيز والشافعي وأبو ¬

_ (¬1) "المنقذ من الضلال" الغزالي ص 40. (¬2) "إحياء علوم الدين" 3/ 392 وما بعدها. (¬3) "سيرة الغزالي" ص 60 من كلام ابن الجوزي. (¬4) "فتاوى ابن تيمية" 1/ 57. (¬5) "رسالة قانون التأويل" للغزالي ص 16، نقلًا عن مقارنة بين الغزالي وابن تيمية، محمد رشاد سالم ص 8. (¬6) "سيرة الغزالي" ص 46.

الحسن الأشعري والغزالي. أما مجال إفشاء العلم فقد كان أيضًا من أهم مجالات التجديد ولعله لم يخل مجدد ممن ذكر اسمه في قوائم إحصاء المجددين من جهود في هذا المجال، ولم يفرد هذا المجال بالذكر والتفصيل؛ لأنه أشهر من أن يبين ويوضح، ولعل سيرة حياة كل مجدد ممن نسب إلى التجديد تشهد له بجهود ضخمة في هذا المجال، وكلها مدونة ومفصلة في كتب التاريخ والطبقات والتراجم. ولا شك أن مجالات التجديد في كل عصر تناسب ما أصاب أهله من خلل وبعد. ولكن لعل ما ذكر من أمثلة يشير إلى ما لم يذكر، إذ أن الدين منهج للحياة متكامل والله يأمر في كل عصر ومصر بالدخول فيه كافة إذ يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]. فالآية حسب ما رجح الطبري معناها الدعوة لكل امرئ إلى الدخول في الإسلام كله "والأمر له بالعمل بجميع شرائعه وإقامة جميع أحكامه وحدوده دون تضييع بعضه والعمل ببعضه" (¬1). فمادام الأمر كذلك فإن التجديد يكون بحسب ما انهدم من الدين وبحسب قدرات المجدد وما يتهيأ له من قدرات. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 2/ 324.

الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

ما العصرانية؟

الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب ما العصرانية؟ كتب الأستاذ أبو الحسن الندوي في صدر كتابه "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية" (¬1). "واجه العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر المسيحي مشكلة في غاية الدقة والتعقد والخطورة، وعلى الموقف الذي يتخذه تجاه هذه المشكلة الحاسمة يتوقف مستقبله كعالم له شخصيته وكيانه، هي مشكلة الحضارة الغربية الفتية الدافقة بالحياة والنشاط والطموح وقوة الانتشار والاستيلاء، وهي من أقوى الحضارات البشرية التي عرفها التاريخ. . . . . . إنني أعتقد أن ذلك أضخم مشكلة للأقطار الإسلامية، وهي مشكلة حقيقية لا صلة لها بالأوهام والأحلام. إن ضعف الأقطار الإسلامية الداخلي، ونفوذ الحضارة الغربية واحتلالها، واستيلاء الأفكار الغربية المادي والسياسي، ¬

_ (¬1) الصفحتان 4 و 7 بتصرف.

يرسم في الأفق علامة استفهام واضحة ضخمة أمام الأقطار الإسلامية، ولا تستطيع أن تتقدم خطوة واحدة بدون أن تجيب عليها جوابًا حاسمًا. أي موقف تتخذه هذه البلاد نحو هذه الحضارة؟ وأي منهج تسير عليه لتوفيق مجتمعها بالحياة العصرية وتحقيق مطالب العصر الحديث؟ وإلى أي مدى تثبت ذكاءها وشجاعتها الخلقية لمواجهة هذه المعضلة؟ إن وضع الجواب على هذا السؤال هو الذي يحدد مكانة هذه الشعوب في خريطة العالم ويعرف به مستقبل الإسلام في هذه البلاد". هذه هي المشكلة التي واجهت العالم الإسلامي، ولكن هذه المشكلة لم تواجه الإسلام وحده، بل قد واجهت الأديان الأخرى، فقد واجهت اليهودية وواجهت المسيحية. هذا ما يقرره أيضًا أستاذ الأديان في جامعة كولومبيا جوزيف بلاو (Joseph L.Blau) في محاضراته التي ألقاها في أكثر من عشر جامعات ومعاهد دينية بأمريكا فقد قال (¬1): "إن كل الأديان الكبرى قد واجهت أزمة منذ ميلاد الحضارة الحديثة، وكل هذه الأديان قد بذلت بطريقتها الخاصة جهودًا كبيرة لحل هذه الأزمة ولمواجهة الحياة العصرية والعلمانية المصاحبة لها. إن القرن التاسع عشر والقرن العشرين قد شهدا فترة إبداع عظيمة في هذه الأديان، وكان ذلك ببساطة بسبب أن هذه الأديان ينبغي أن تتوافق مع العصر الحديث أو تموت". فكيف سعت هذه الأديان للتوافق مع العصر الحديث؟ أو بعبارة أدق: كيف سعت للملاءمة بينها وبين الحضارة الغربية الحديثة؟ إن ما يعنينا في هذا المجال إحدى المحاولات التي سعت لإيجاد هذه الملاءمة ووضع حل لتلك المعضلة الكبيرة. إنها حركة مراجعة وإعادة تفسير واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى داخل اليهودية وداخل النصرانية وداخل الإسلام أيضًا. إن هذه الحركة للمراجعة عرفت في الفكر الديني الغربي باسم العصرانية (Modernism). وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد الانتماء إلى هذا العصر ولكنها مصطلح خاص. فما العصرانية؟ ¬

_ (¬1) Blau, "Modern Judaism varieties", p.26.

الفرقة المتحررة في اليهودية

إن العصرانية في الدين هي أيّ وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة، يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية، على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة (¬1). فالعصرانية هي الحركة التي سعت إلى تطويع مبادئ الدين لتتلاءم مع قيم الحضارة الغربية ومفاهيمها، وإخضاعه لتصوراتها ووجهة نظرها في شؤون الحياة. والمصطلح أطلق بصفة خاصة على حركة داخل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولكنه أيضًا يستخدم لوصف النزعات التحررية المشابهة في البروتستانتية، كما أنه قد نشأت في اليهودية فرقة كانت أفكارها تسير في خطوط متوازية مع ما نشأ داخل النصرانية. ولقد شهد الإسلام منذ القرن الماضي نزعات مشابهة، ويستخدم بعض المسلمين لها كلمة تجديد الدين. وهذا الفصل يبحث في هذا النوع من التجديد في اليهودية والنصرانية، أما الإسلام فسيعقد له فصل آخر -إن شاء الله-. الفرقة المتحررة في اليهودية: في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي بدأت في ألمانيا تظهر نزعات جديدة بين اليهود، تكونت منها فيما بعد فرقة جديدة في الديانة اليهودية، عرفت باسم اليهودية المتحررة (Liberal Judaism) (¬2). وتسمى أيضًا اليهودية التجديدية أو الإصلاحية (Reform Judaism) (¬3) . وقد كانت نشأة هذه الفرقة من التأثيرات المباشرة للحركة العلمية التي بعثها الزعيم اليهودي مندلسون (Moses Mendelsshon) (¬4) (1729 - 1786 م)، والتي ¬

_ (¬1) انظر مادة: Modernism في القواميس والموسوعات ومن ذلك: Encyclopedia Americana (1972) V.19,P 289 K,the New , P.668."International Dictionary of Christian Church" " الموارد" منير البعلبكي (قاموس إنجليزي - عربي) P.586. (¬2) انظر: Encyclopedia Of Religion & Ethic Vol. p. 900. (¬3) انظر: Blau,"Modern Varieties in Judaism",P.28. (¬4) Martin, "History Of Judaism", Vol 11.p. 192 - 202,and balu,p.16 - 23.

أشاعت العلوم العصرية بين اليهود، ونقلتهم من حياة العزلة والتشرد التي عاشوا فيها قرونًا طويلة إلى تيار الحضارة الغربية الحديثة. ولد مندلسون في أحد أحياء اليهود الفقيرة بمدينة صغيرة في ألمانيا، وتلقى علوم أجداده الدينية، ثم رحل مع والده إلى برلين وهو لا يزال صبيًا. وهناك أتقن بسرعة اللغة الألمانية ثم بدأ يدرس الفلسفة والرياضيات والعلوم، وبفضل مواهبه وذكائه أصبح في وقت قصير في وسط المحيط العلمي المتنور في برلين، والذي ضم من بين من ضم الفيلسوف الألماني كانط. وهكذا أصبح مندلسون جامعًا بين علوم الدين اليهودي وفلسفة ومعارف القرن الثامن عشر، وأصبحت حياته بعد ذلك رمزًا للجسر الذي أراد أن يقيمه بين تعاليم اليهودية التقليدية وبين عصر التنوير (Enlightenment) في أوروبا. وقد كانت جهوده في هذا المجال تتمثل في إقامة مدرسة تسعى لتعليم الثقافتين اليهودية والعصرية، وإنشاء مجلة تنشر آراءه في سبيل نهضة اليهود للحاق بركب العصر، كما ألف العديد من الكتب. كان هدف مندلسون توسيع أفق اليهود وإشاعة التعليم الحديث بينهم وإيقاظهم ودفعهم للحياة الواسعة، لقد كان شعاره في ذلك "الاستجابة لعادات وأعراف المجتمع العصرية مع المحافظة والإخلاص لدين الآباء". وقد كانت حياته تجسيدًا لهذا الشعار، فقد عاش مخضعًا قلبه لليهودية وعقله لفلسفة وعلوم العصر، ولكنه لم يدرك أنه قد ابتدأ صراعًا بين التقاليد اليهودية وبين الثقافة العصرية، هذا الصراع الذي ازداد في الأجيال التالية حدة ودفع إلى ظهور حركة التجديد الحرة. إن اليهودية الآن تتقاسمها فرق رئيسة: فرق تقليدية، ومحافظة، وأخرى متحررة، بجانب حركة الصهيونية. وكل هذه الفرق قد اتخذت سبلًا في مجال العقائد والأعمال لإقامة التوازن المطلوب بين اليهودية وبين الحياة المعاصرة (¬1)، ولكن الذي تهتم به هذه الدراسة هو المفهوم الذي قدمته الفرقة المتحررة لتجديد اليهودية. نشأت نزاعات التجديد في ألمانيا في أول الأمر بمحاولات لجعل الصلوات والأناشيد الدينية ذات جاذبية وبخاصة للشباب، لعل ذلك يقلل من ¬

_ (¬1) Blau,p 27.

اندفاعهم لترك دين آبائهم. وبدأت هذه التعديلات بتذليل الصعوبات اللغوية وكتابة الصلوات بلغة سهلة، وأدخلت آلة حديثة تعزف مع الصلاة. وبدأ ذلك في المدارس التي أنشأها خلفاء مندلسون بحجة أن العقول الصغيرة ينبغي أن تنال عناية خاصة. ولكن الأمر ما لبث أن استفحل، ووسط معارضة شديدة افتتح أول معبد يهودي على ضوء التعديلات الجديدة، وألف كتاب صلوات حديث باللغة الألمانية، وجاء في خطبة افتتاح المعبد: "إن الدنيا كلها تتغير من حولنا فلماذا نتخلف نحن؟ " (¬1). وحتى تلك اللحظة كانت الحركة اندفاعًا دون فكر، فقد كانت تفتقد الأسس الفلسفية التي يقوم عليها نقدها لما سمي بالتقاليد القديمة، وقد ولدت تلك الفلسفة في العقد الرابع من ذلك القرن على يد جيل من المفكرين من أحبار اليهود (Rabbis) نقتصر على ذكر ثلاثة من أشهرهم. من هؤلاء إشتاينهايم (Steinhiem) (1790 - 1866 م) (¬2) الذي كان شديد التأثر بفلسفة كانط وقد طبع كتابه عن "الوحي في النظام العقدي اليهودي" في أربعة مجلدات بين عام (1835) وعام (1865 م)، ومن غير أن نغرق أنفسنا في تفاصيل مذهبه عن طبيعة الوحي، يكفي أن نذكر مبدأ هامًا ساهم به في الفكر التجديدى اليهودي، وهو أنه لا يرى الأخذ بنصوص التوراة حرفيًا، بل يرى الاختيار من بين هذه النصوص. أما كيف يتم هذا الاختيار فهو لا يقترح شيئًا منضبطًا، بل يرى أن ذلك الاختيار يتم وفق ما تمليه "دواعي الإيمان" (The act of faith)، وذلك متروك لكل عصر حسب ظروفه. وبهذا المبدأ وضع إشتاينهايم الأساس النظري لإجراء أي تعديل أو مراجعة للتعليم اليهودي. أما هولدهايم (Holdheim) (1806 - 1860 م) (¬3) فإنه أشاع مبدأ آخر وهو أن الشريعة الإلهية رغم أنها موحى بها من عند الله، فهي موقوتة بظروفها التي جاءت فيها، وليست دائمة، ولهذا فهو يرى أن كثيرًا من تشريعات التوراة والتلمود باطلة الآن ولا يجب الالتزام بها؛ لأنها كانت خاصة بزمن معين ومكان ¬

_ (¬1) Blau,28 - 23. (¬2) Martin,P.281,Blau p.35. (¬3) Martin,p,421,Blau p.37.

معين، وينبغي إيجاد تشريعات بديلة ومن كلماته المشهورة في أحد كتبه: "إن التلمود يتحدث متأثرًا بفكر زمانه وهو حق في ذلك الزمان، وأنا أتحدث منطلقًا من فكر متقدم في عصري هذا، وبالنسبة لهذا العصر فأنا محق" وبهذا المبدأ أزاح هولدهايم التلمود من مكانته التشريعية المعهودة عند اليهود. ومن البارزين الذين كانت لهم مساهمة فعالة في هذه الحركة الإصلاحية المتحررة في ألمانيا أبراهام جايجر (Abraham Gieger) (1810 - 1874 م) (¬1)، وقد يكون من المناسب أن نفصل بعض الشيء المعالم البارزة في حياته. ولد في أسرة تقليدية (Orthodox) وتلقى تعاليم التلمود في طفولته وصباه، ثم درس الفلسفة واللغات الشرقية، ثم واصل تعليمه في جامعة بون، وكانت رسالته للدكتوراه عن تأثير اليهودية في القرآن. وبعد أن تخرج شغل مناصب دينية في مناطق مختلفة في ألمانيا كان في آخرها حاخامًا في برلين. ومنذ أن كان في الثلاثين احتل مكانة بارزة في الحركة التجديدية الحرة، وكان أحد مفكريها وخطبائها وكُتَّابها المشهورين. وأصدر عددًا من الكتب، وأنشأ مجلة، وشارك في مؤتمرات الحركة، وقاد كثيرًا من نشاطاتها. كان يعتبر أن اليهودية دين دائم التطور، أو عملية ثورية مستمرة (Judaism is an ongoing revolutionary process) ترتكز أصولها على تعاليم الأنبياء العبريين، التي طورها الشراح في عصر التلمود الذين لم يعتبروا شريعة الأنبياء شريعة أبدية ملزمة (Eternally Valid) ولكنهم بإبداع كيفوها لحاجاتهم في عصرهم. إلا أن اليهودية ومنذ القرن السادس قبل الميلاد جمدت على أيدي التقليديين، ومهمة الحركة التجديدية الحرة نفض الغبار عن جوهرها وإزالة الزوائد التي علقت بها عبر القرون. وجوهر اليهودية في نظره ليست أشكالها أو مؤسساتها ولا حتى شريعتها ولكن جوهرها هو أخلاقها (Morality). وقدّم جايجر مفهومًا جديدًا عن منزلة الوحي في اليهودية فهو يقول بما أن الواسطة الوحيدة لنقل الوحي الإلهي هم البشر المعرضون للخطأ فإن نقلهم للوحي لا يمكن أن يكون غير متأثر ببشريتهم، ولهذا فإن كل التعاليم التي يزعم أنها مقدسة وأنها وحي إلهي خالص هي في الحقيقة مزيج من "الإلهي" ¬

_ (¬1) Martin, p .236, Blau, p.37.

و"البشري"، (Divine and human) مزيج من الحقائق الإلهية ومن الفهم البشري المحدود لهذه الحقائق والمشوه في أحيان كثيرة. وبما أن البشرية تكتسب معرفة جديدة في كل جيل، وهذه المعرفة نفسها هي كشف من الله ونوع من الوحي يسميه الوحي المتطور (progressive revelation) فإن التوراة والتلمود رغم أنهما وحي، إلا أنهما لم يستوعبا نهائيًا وبصورة كاملة الحكمة الإلهية. وبهذين المفهومين مفهوم التفرقة بين ما هو بشري وإلهي في تعاليم الدين، ومفهوم أن اكتشاف معارف جديدة هو نوع من الوحي ينبغي إعادة النظر في التوراة والتلمود على ضوئه، أراد جايجر لليهودية أن تتطور في أشكالها البدائية إلى منزلة عالية من السمو الروحي والأخلاقي والثقافي. وهكذا أسهم هؤلاء المفكرون في تقديم الأساس النظري والحجج الفلسفية لإجراء التعديلات في اليهودية. وقد شملت التعديلات عمليًا الصلوات في محتواها وفي لغتها وفي طريقة أدائها، فقد سمح بتلاوتها باللغات المحلية، وألفت كتب صلوات جديدة (Prayer books) وحذف منها كثير مما يعتقد بأنه مجاف للروح العصرية، وسمح باستعمال آلة موسيقية حديثة في أثنائها، وشملت التعديلات وضع المرأة في اليهودية، وبخاصة مسألة الزواج بغير اليهودي، ومسألة الطلاق ومسألة الاختلاط حتى لقد أصبحت المرأة تجلس بجانب الرجل في المعابد الحرة في أثناء الصلوات، وخففت التعديلات من المحرمات الصارمة في يوم السبت وأهمل الختان باعتباره ممارسة خرافية (¬1). ومما لا شك فيه أن هذه الآراء قد أثارت اعتراضات وضجة كبيرة وسط اليهود وقوبلت بالهجوم والنقد من أكثر من مفكر يهودي، ومن أشهر هؤلاء واحد يستحق الذكر هو سامسون رفائيل هرش (Hirsh) (1808 - 1888 م) (¬2)، فقد تزعم الموقف التقليدي وهاجم الحركة الجديدة بفكره وقلمه، وأسس تيارًا فلسفيًا وفكريًا قويًا وترك وراءه خلفاء في نفس الدرب. كان هِرش قد أخذ على عاتقه إيجاد صلة بين التوراة وبين أفكار وقيم القرن التاسع عشر الميلادي، وكان مقتنعًا أن حركة اليهودية المتحررة تسعى لنفس الهدف ولكنها تسلك لتحقيقه طريقًا ¬

_ (¬1) Johnlewis, "the religions of the world",p .81,and blau, p.48. (¬2) Martin, p.253, blau p.62.

خاطئًا؛ لأنها اتخذت العصر وما فيه من قيم متغيرة مقياسًا لحقائق التوراة الثابتة. إنها تجعل العصر هو الحاكم إما أن تتكيف اليهودية معه أو تموت، ولكن هِرش يرى أن موت اليهودية هو في تطويعها لمبادئ العصر المتغيرة. إن الطريقة الصحيحة في نظره هي أن تجعل التوراة وما فيها من حقائق ثابتة معيارًا لما في العصر من خير أو شر؛ لأن التوراة هي في المنزلة العليا فوق متغيرات الحضارة، من غير أن تغمض التوراة عينيها عن كل ما هو نافع في المعرفة الجديدة. ويوجز رأيه في عبارات قليلة في أحد كتبه فيقول: "إن الدين في نظرهم صحيح مادام لا يتعارض مع التطور، وفي نظرنا التطور صحيح مادام لا يتعارض مع الدين" (¬1). عاصفة التجديد في أمريكا (¬2): لم تكن حركة اليهودية الإصلاحية (Reform Judaism) قاصرة على ألمانيا بل تعدتها إلى غيرها من البلاد الغربية، فدخلت للجاليات اليهودية في فرنسا وإنجلترا وأمريكا وغيرها، وذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وإذا كانت ألمانيا هي مركز الحركة حتى ذلك الوقت، إلا أنه بسبب الظروف غير المستقرة التي كانت تمر بها أوروبا عمومًا، وبسبب هجرة اليهود الواسعة وبخاصة الألمان إلى أمريكا، تحول مركز الحركة وثقلها في النصف الأخير من ذلك القرن إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كانت بوادر الحركة في أمريكا قد ظهرت منذ العقود الأولى في ذلك القرن، مقتفية آثار الحركة في ألمانيا ومعتمدة عليها في فكرها وفي نوعية إصلاحاتها، ويؤرخ عادة لهذه البداية بالعام (1828 م) حيث تأسست في ولاية كارولينا الجنوبية جمعية صغيرة باسم "جمعية الإسرائيليين التجديدية" (Society of Israelites Reformed) ولكن الحركة استمرت ضعيفة ومتعثرة إلى أن هاجر أحد الأحبار الذين شاركوا في الحركة الألمانية، فكانت لجهوده آثار في إنعاش الحركة في أمريكا، وبفضل نشاطه تكونت في عام (1873 م) مؤسستها المعروفة ¬

_ (¬1) Blau p.78. (¬2) Martin, p.289, Blau p.50.

حتى اليوم "اتحاد الطوائف العبرية الأمريكي" (The Union of American Hebrew congregations) (¬1) . وقد سارت الحركة في أمريكا في أطوار وظروف مشابهة لما مرت به الحركة في ألمانيا وبغض النظر عن التفاصيل فإن أكبر حدث شهدته الحركة كان عام (1885 م)، حيث اجتمع تسعة عشر حبرًا من مفكريها وأصدروا وثيقة هامة ظلت لمدة نصف قرن تعبر عن مبادئ الحركة الأساسية وعقيدتها، وعرفت هذه الوثيقة باسم "خطة بتسبرج" (pittsburgh platform) وقد شملت الوثيقة ثمانية مبادئ (¬2) وهذه بعض الفقرات منها: 1 - نحن نشهد أن اليهودية تعبر عن أعلى تصور للفكر الديني الذي بينته كتبنا المقدسة، وطوره وشكل روحه علماء اليهود، ليلائم التقدم الفلسفي والأدبي في عصر كل منهم. 2 - نحن نشهد أن كتبنا المقدسة هي سجل لما قام به الشعب اليهودي في سبيل خدمة الإله الواحد. "لقد أهمل بتاتًا ذكر طبيعة هذه الكتب وهل هي وحي أم لا؛ لأن المؤتمرين لم يتفقوا على تعريف واحد للوحي". ونحن نشهد أن الاكتشافات العلمية لا تعارض عقائد اليهودية. "كانت نظرية دارون قضية الوقت ولنفي التعارض معها رفض الفهم الحرفي لقصة الخلق كما جاءت في أسفار التوراة". 3 - لا نقبل الآن من الشريعة الموسوية إلا أحكامها الأخلاقية، ونرفض كل ما لا يتلاءم مع أفكار وقيم وسلوك الحضارة العصرية. 4 - في المبدأ الرابع رفضت جميع النظم والقوانين الخاصة بطقوس الكهنة وملابسهم، باعتبار أنها تكونت تحت تأثير ظروف غريبة على الذهن المعاصر. 5 - في المبدأ الخامس فسرت عقيدة ظهور "المسيح" الذي بشرت به كتبهم المقدسة إلى أنها رمز "لإقامة مملكة الحق والعدل والسلام في العالم"، ¬

_ (¬1) ينافس هذا الاتحاد في أمريكا اتحادان: اتحاد الفرق المحافظة باسم United Synagogue، واتحاد الفرق التقليدية باسم The Union of orthodox Congregation. (¬2) للنص الكامل لهذه المبادئ انظر:. Blau p. 57 Martin, p.30

وصاحب هذا التفسير الجديد رفض اعتبار اليهود "شعبًا وقومية" بل هم "جماعة دينية". 6 - أعلن أن اليهودية دين متطور يصارع دائمًا ليكون متماشيًا مع العقل، ومن الممكن إقامة صلات تعاون مع المسيحية والإسلام باعتبارهما تولدا من اليهودية. 7 - مع الاستمرار في الإيمان بخلود النفس إلا أن عقيدة الآخرة المتمثلة في العقاب والثواب الجسدي والجنة والنار رفضت تمامًا "والحجة التي قدمت أنها ليست لها "جذور أصيلة" في اليهودية "وإن كان من الواضح أن السبب الأساسي هو الزعم بأن هذه العقيدة مناقضة للعلم الحديث". 8 - أعلن أن من واجب اليهودية الآن أن تشارك في الجهود العصرية لتحقيق العدالة الاجتماعية "كان الصراع الطبقي أحد المشاكل التي تجد العناية من المفكرين آنذاك". اليهودية التجديدية في القرن العشرين (¬1): شهد القرن الحالي تراجعًا في حركة التجديد الحرة اليهودية في مركز ثقلها الأساسي في أمريكا، ويدلل على هذا التراجع في الأفكار نحو تبني ما كان يرفض من قبل ويوسم "بالتقليدية"؛ التعديل الذي طرأ على مبادئ بتسبرج والذي أعلن في عام (1937 م) من مجلس الحركة التشريعي، الذي يسمى المؤتمر المركزي لحاخامات أمريكا (the Central Conference of American Rabbis) وقد أعطيت مبادئ 1937 م اسم "المبادئ الإرشادية لحركة التجديد اليهودية" (Principles of reform judaism Guiding) وقصد بذلك إسباغ صفة المرونة عليها وأنها ليست مبادئ ملزمة. ولكن الفروق بين المبادئ الجديدة والمبادئ القديمة كانت كبيرة، ويعلق الأستاذ بلاو (Blau) أستاذ الديانات بجامعة كولومبيا على ذلك بقوله: "إن الفروق بين الاثنين واسعة جدًا بحيث يبدو كأن الوثيقتين لم يصدرا من حركة واحدة" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: Martin, p.421 and Blau p.178. (¬2) Blau, p.180.

التجديد العصراني للنصرانية

لقد عادت الحركة لاستعمال اللغة العبرية في الصلوات، وأعيد للصلوات كثير من الطقوس التي رفضت في القرن السابق، وأصبح يحتفل بكثير من الأعياد كالطريقة التقليدية، وعادت ليوم السبت حرمته وعادت لهجة الحديث عن كثير من المسائل أكثر اعتدالًا وأكثر اقترابًا من وجهة النظر التقليدية (¬1). وليس هذا التراجع في الأفكار والمبادئ فقط بل إن فكر اليهودية المجددة يعتبر فكر أقلية والفرقة التقليدية (Orthodox) لا تزال تضم أغلبية اليهود في أمريكا (¬2). وفي دولة اليهود التي أقاموها في فلسطين لا تعترف الدولة بفرقة اليهودية المتحررة وقد يكون ذلك بسبب العداء التاريخي بينها وبين الحركة الصهيونية، والمعابد الحرة القليلة التي أنشئت وسط معارضة كبيرة لا تجد تشجيعًا ولا دعمًا ماديًا من الدولة (¬3). ورغم أن الإقبال على الدين نفسه ضعيف وسط اليهود في العالم، إلا أنه في محيط المتدينين القلة، لا يمكن الزعم أن حركة اليهودية الإصلاحية، بعد قرنين من الصراع، قد استطاعت أن تغير الصورة بالقدر الذي كانت تحلم به. التجديد العصراني للنصرانية: وفي نفس الوقت الذي كانت تزدهر فيه تلك الحركة لتجديد اليهودية كانت النصرانية بشقيها الكاثوليكية والبروتستانتية تشهد تطورات مماثلة، تشترك في نفس الهدف وهو إيجاد التآلف بين إيمان الآباء وبين أفكار العالم الحديث. يقول أحد الكُتَّاب الغربيين ممن سجلوا هذه الظاهرة وهو جون راندال في كتابه "تكوين العقل الحديث": ". . . الذين دعوا أنفسهم بالمتدينين الأحرار في كل فرقة دينية، سواء بين البروتستانت أو اليهود أو حتى الكاثوليك قد ذهبوا إلى القول أنه إذا كان للدين أن يشكل حقيقة حية، وإذا كان له أن يظل تعبيرًا دائمًا عن الحاجات الدينية للجنس البشري، فلابد له أن يتمثل الحقيقة والمعرفة الجديدتين، وأن يتآلف مع الشروط المتغيرة في العصر الحديث من فكرية واجتماعية" ويقول هؤلاء إن تعديل ¬

_ (¬1) Blau, p. 179, Martin, p.421. (¬2) انظر: المصدر نفسه P.396. (¬3) blau, p 181, Martin p.259.

العقائد في ضوء المعرفة السائدة "يجب أن يتم المرة تلو المرة ما دامت معرفة الإنسان تنمو وحياته الاجتماعية تتغير" (¬1). ولا شك أن هذه الاتجاهات سعت لإحداث تغيير جذري في النصرانية أكبر بكثير مما حاوله الإصلاح الديني السابق على يد لوثر وكالفان. وعمومًا تنسب نشأة حركة التجديد الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى ثلاثة عوامل رئيسة (¬2)، فهناك أولًا: التقدم العلمي الهائل الذي أوجد تصورًا جديدًا للكون يخالف التصور القديم، ولما كان اللاهوت المسيحي قد اشتمل في صلب عقائده على نظريات عفا عليها الزمان فقد نشبت حرب عنيفة بينه وبين العلم الحديث. وهذا التباين والاختلاف بين اللاهوت والعلم الحديث يشتد ويزداد عندما ينشأ تسليم مطلق بقوة العلم الحديث ومنهجه، وافتراضاته والفلسفات الجديدة التي تصاحبه، ومن أجل التوفيق بين المعارف الجديدة وعقائد الدين انبرى رجال الدين أنفسهم لإعادة تأويل هذه العقائد على ضوء العلم والفلسفات الحديثة. والعامل الثاني الفعال الذي دفع بهذه الحركة للظهور هو استخدام منهج النقد التاريخي في نقد التوراة والإنجيل، فقد أخضعا لمقاييس البحث التي أخضعت لها كل الكتابات والمخطوطات التاريخية القديمة، وجرت محاولات لاكتشاف التناقضات في رواياتها والاختلافات في أسلوبها ومن ثم برز السؤال هل هي كتب مقدسة موحاة من الله أم هي من وضع بشر؟ ومن مؤلفوها ومتى ألفت؟ وقد شاركت مجموعة من اللاهوتيين في هذه البحوث وسلموا بنتائجها، واستخدموها في صالح الدعوة إلى تعديل العقائد في ضوء المعرفة الجديدة. العامل الثالث الذي كان له أثره أيضًا هو توسع الدراسات الدينية المقارنة، فقد اتجهت الأبحاث إلى دراسة أديان الإغريق والمصريين، وأديان الهند وأديان المجتمعات البدائية في أفريقيا وآسيا، ونشأت نظريات وفلسفات عن أصل وتطور الدين وقد دعمت هذه الدراسات نقد الكتاب المقدس المسيحي، إذ بدا مماثلًا من جهات كثيرة للآداب المبكرة والكتب المقدسة عند الشعوب الأخرى، وتدعمت أكثر وجهة النظر الداعية إلى إجراء التعديلات على تعاليم الدين. ¬

_ (¬1) "تكوين العقل الحديث" جون راندال 2/ 217. (¬2) المصدر نفسه ص 220 و 240؛ Moor, G. H,History of religions p.377.

حركة التجديد في الكاثوليكية: أطلق البابا بيوس العاشر في عام (1907 م) في منشورين أصدرهما على هذه الحركة اسم العصرانية (Modernism) ودمغها بالكفر والإلحاد ووصفها بأنها "مركب جديد لكل عناصر البدع والهرطقة القديمة" (¬1)؛ فقد أعلن قائلًا: "لو حاول إنسان أن يجمع معًا جميع الأخطاء التي وجهت ضد الإيمان، وأن يعصر في واحدة عصارتها وجوهرها كلها لما استطاع أن يفعل ذلك بأفضل مما فعل العصرانيون" (¬2). وقد كان صدور هذين المنشورين بداية لسلسلة من الإجراءات التي اتخذتها سلطات الكنيسة الكاثوليكية في روما لقمع هذه الحركة، وقد كان من الإجراءات الأخرى وضع الكتب والمجلات التي تشتمل على آرائها في قوائم الكتب المحرمة قراءتها على الكاثوليك، وطرد بعض القساوسة من الكنيسة وإعلان كفرهم، وصياغة قسم معين عرف باسم "القسَم ضد العصرانية" (oath against Modernism) أصبح لزامًا على كل من أراد أن يتبوأ منصبًا دينيًا في الكنيسة أن يقسمه (¬3)، وبسبب هذا القمع اضمحلت الحركة رويدًا رويدًا حتى تلاشت داخل الكنيسة. كان مهد الحركة في فرنسا ومنها إلى دول أوروبا الأخرى وأمريكا. وكان من أبرز قادة هذه الحركة الراهب الفرنسي لويزي (Loisy) (1857 - 1940 م) والذي أعلنت ردته (excommunicated) في عام (1908 م) والذي كان في البداية أستاذًا في المعهد الكاثوليكي في باريس، ثم بعد أن أبعد انتقل إلى كلية علمانية هي الكوليج دي فرانس أستاذًا لتاريخ الكنيسة. نشر لويزي أول كتاب له آثار العاصفة في (1902 م) بعنوان: "الإنجيل والكنيسة" (L Evangile et Eglise) وقد وصف الناشرون الكتاب بأنه مخطط تاريخي لتطور المسيحية، وتفسير لأشكالها ورموزها وعقائدها، لتتوافق مع معلومات التاريخ وطرق التفكير المعاصرة، ثم أتبعه بمجموعة من الكتب كان شعاره فيها "الولاء للكنيسة والعلم" وكان هدفه ¬

_ (¬1) " The catholic Encyclopaedia", P.394 (¬2) المنشور المسمى pascendi. انظر: "تكوين العقل الحديث" راندال 2/ 235. (¬3) المصدر نفسه و (1975) The New Encyclopaedia Britannica (Micropaedia) V. VI P.960

دومًا إيضاح أن الكاثوليكية متوافقة ومنسجمة مع العقل وطرق البحث العلمي الحر. وفي إنجلترا كان ممن برزوا الأب جورج تيريل (Tyrel) ت 1909 م) وقد أعلن كفره وطرد من الكنيسة أيضًا. ويعرف جورج تيريل العصرانية بقوله: ". . . إنها محاولة للتوفيق بين أسس العقيدة الكاثوليكية وبين العقل ونتائج النقد التاريخي التي لا تقبل الجدل. . . وأنها تهدف إلى إثبات الانسجام والوئام الكامل بين حقائق الدين وبين التعبيرات المتغيرة والمتطورة لهذه الحقائق في شكل عقائد (doctrines) ومؤسسات. . .". ويقول أيضًا ". . . في نظري أن أحسن وصف للعصرانية أنها الرغبات والجهود لتكوين مجموعة جديدة من مبادئ اللاهوت، تتماشى مع منهج البحث النقدي التاريخي. . . وأعني بالعصراني (Modernist)؛ أي: متدين من أي كنيسة يؤمن بإمكانية إيجاد توافق بين حقائق الدين الأساسية وبين الحقائق الأساسية في العالم المعاصر" (¬1). والحركة العصرانية في الكنيسة الكاثوليكية لم تكن حركة منظمة أو فرقة مستقلة، بل كانت بالأحرى مجموعة من الأفكار وأحيانًا متناقضة لمفكرين مستقلين عن بعضهم البعض، وإن جمعت بين بعضهم حبال الصداقة والود، وتبادل الرسائل والأفكار، والصفات المشتركة التي تجمعهم هي أن حركاتهم نبعت من داخل الكنيسة، فقد كانوا جميعًا من أصحاب المناصب الدينية فيها، وأنهم سعوا لتقويض سلطة الكنيسة المطلقة، ورفض المنقول (Tradition) المتمثل في النصوص الحرفية للكتب المقدسة، وفي الشروح القديمة لها، مع محاولة إعادة تأويل عقائد الكاثوليكية على ضوء المعرفة الحديثة. ¬

_ (¬1) انظر: "تكوين العقل الحديث" 2/ 234، و"دائرة المعارف البريطانية"، ط 1954 م، مادة: (Tyrell- loisy)، ودائرة معارف الدين والأخلاق، مادة: (Modernism). A. vieban, Who are The Modernists of the encycli& Modernism cal, Amerisan, Ecclesiastical Review (May 1908) V 38. p.489, 508 Vieban, Acritical Valuation of loisys Theories, Ibid, (Jan 1909) V.40.1 - 12.

النقد التاريخي للمنقول: الجانب الأول في العصرانية هو ما اضطلعت به من نقد للتوراة والإنجيل في إطار ما سمي بالنقد التاريخي، ومن الكتب التي تناولت هذا الجانب كتاب الراهب لويزي "أناجيل مرقص ومتى ولوقا" (L S Evangiles Sypnotiques)، والذي ظهر عام (1907 م). والكتاب ضخم في مجلدين عدد صفحاته 1832 صفحة؛ وفي هذا الكتاب توصل الراهب الكاثوليكي إلى آراء مدهشة. فهو يؤكد أن الأناجيل بصورتها الحالية تشتمل على مجموعة من الأساطير والخرافات ولهذا لا يمكن أن تكون هي كلمات الله المقدسة. ولكن ما هي هذه الخرافات والأساطير؟ في نظره كل ما هو غيبي وخارق للطبيعة (Supernatural) فهو خرافة. . . مثل ماذا؟ مثل ولادة المسيح من أم عذراء يقول: "فهذه الأسطورة لابد أن تكون قد تكونت خارج فلسطين في أرض بعيدة عن موطن عيسى وبعيدة عن أي معرفة حقيقية بتفاصيل حياته. . ." وهو مؤمن بأن المسيح قد ولد من أم وأب كما يولد سائر الناس، وأن أباه هو يوسف النجار. . . وكذلك موت عيسى في تحليلاته قد أحيط بكثير من الأوهام، وحسب بحثه العلمي التاريخي أن عيسى قد قتله أعداؤه اليهود، وقطعوا جسده إربًا إربًا ورموا أجزاء رفاته في قناة للمياه. ولكن تلاميذه لم يصدقوا موته، واستمروا يعتقدون أنه ما زال على قيد الحياة، وادعى بعضهم رؤيته في مكان ما ثم تطورت هذه العقيدة إلى أنه رفع من قبره وأن قبره قد وجد خاويًا! ويمثل هذا الخيال الخصب يستمر لويزي في نقده، ويقسم معجزات عيسى إلى قسمين: معجزات عادية مثل: إشفاء المرضى، وأخرى خارقة للطبيعة مثل: إحياء الموتى وتكثير الطعام وما إليها، وفي اعتقاده أن النوع الأول فقط هو الصحيح أما النوع الآخر فلم يحدث أبدًا. وهذا عنده أحد الأدلة على أن الأناجيل كتبتها عقول بشرية وحشتها بما لا يصدقه العقل! وعلى نفس الأسس في رفض كل ما هو فوق الطبيعة ينتقد فكرة ألوهية عيسى ويقول: "إن ادعاء أن عيسى إنسان مقدس، وأنه كان واعيًا بأنه إله في صورة بشر لا يمكن أبدًا إثبات أنه حقيقة، بل هناك أكثر من دليل على أنه باطل. . . إن عقيدة ألوهية المسيح ما هي إلا رمز للصلة القوية التي تربط الإنسانية جمعاء بالله ممثلة في شخص المسيح" (¬1). ¬

_ (¬1) Recent Bible Study, American Ecc. Review (April 1908) V 38 p. 450 - 459 and (Hab 1909) V 40 p.1 - 15.

وعلى هذا المنهج تقيم العصرانية رفضها لسلطة المنقول (Tradition) لأنه يناقض ما أثبته العلم الحديث في نظرها، وتدعي أن المنقول سواء تمثل في الأناجيل أو في شروحها، ما هو إلا تعبير عن التطور المرحلي للفكر الديني في العصر الذي كتب فيه. إنها تنفي نفيًا باتًا أن تكون النصوص التي تلصق بها صفة القدسية، قوالب محدودة جامدة لحقائق الدين ثابتة لكل الأزمنة، ولكنها فقط تعبير عن مشاعر وتجارب البشر في عهد تاريخي معين. وبناء على هذا يعتقد أن الحقائق الدينية تخضع لتفسيرات متطورة حسب تقدم المعرفة البشرية، وكلما تقدمت المعرفة حدثت تصورات جديدة لحقائق الدين (¬1). يقول جورج تيريل في كتاب "برنامج العصرانية": ". . . القديس توما الأقويني (¬2) كان المجدد الصحيح في زمنه، والرجل الذي جاهد بثبات وعبقرية عجيبين للتوفيق بين الإيمان والفكر في أيامه، ونحن الخلفاء الصحيحون للمدرسيين في كل ما كان ذا قيمة صحيحة في عملهم، وفي حسهم الدقيق في تكييف الديانة المسيحية مع الأشكال الدائمة التغير في الفلسفة والثقافة العامة" (¬3). وكانت من نتائج هذا النقد التاريخي أن دخلت فكرة التطور في تعاليم الدين وتبع ذلك مفهوم نسبية الحقيقة (¬4)، وصاحب ذلك بعض المبادئ الأخرى ذات الصلة. ذلك أن المرء إذا آمن أن تعاليم الدين تخضع لتطور مستمر، وتكيف وتشكل حسب نمو المعرفة، فإن ذلك يستتبع أن تنشأ في ذهنه مجموعة من الأسئلة الهامة منها: ما الثابت والمتغير في الدين؟ وهل حقائق الدين مطلقة (absolute) ما دامت تتكيف حسب المعرفة النامية؟ فالعصراني يواجه هنا سؤالًا حرجًا: كيف يوفق بين تطور تعاليم الدين وعقائده في كل عصر وبين قيمتها كحقيقة؟ ولقد حاولت العصرانية التغلب على هذه الصعوبة بأن تفرق بين ما تسميه "الروح" (Spirit) وبين "الشكل" (form) ¬

_ (¬1) The Encylopadia Americana (1972) V 19.P. 289 K. (¬2) حوالي (1225 - 1274 م) من أقطاب فلسفة المدرسيين وهي فلسفة نصرانية سائدة في القرون الوسطى مبنية على منطق أرسطو (انظر: "الموسوعة الفلسفية"، مادة: (الأقويني)). (¬3) "تكوين العقل الحديث" راندال 2/ 235. (¬4) Moore,"History of religions" P.337.

الذي يأخذه التعبير العقدي، واصفة "الروح" بأنها أمر ثابت ومطلق، وواصفة الشكل بأنه "أداة" فقط ذات قيمة نسبية ومتغيرة. وتعرف "روح" الدين تعريفًا غامضًا "أو هكذا بدا لي" إذ يقال أنها ذلك الإدراك الذي يقوم شاهدًا على وجود تجربة دينية معينة، ولكن هذا الإدراك والوعي بالتجربة الدينية لا يمكن إلا وأن يمر عبر العقل البشري الذي يترجمه في فكر ورموز تصطبغ وتتأثر بالعادات والتقاليد وطرق التفكير السائدة في زمن ظهورها. فالروح هي ذلك الإدراك، أما الشكل فهي تلك الرموز التي يعبر فيها عنه، ولذا فهي قابلة لأكثر من تفسير (¬1). إعادة تفسير النصرانية: إن الدعوة الرئيسة لحركة العصرانية هي المناداة بضرورة إعادة تفسير مفاهيم النصرانية التقليدية في ضوء ما يسمى معارف العصر. ويقول العصرانيون أن عقائد المسيحية الحالية قد نصت ضمن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، ولا يمكن فهمها إلا في حدود تلك الفلسفة، وقد أخذوا هم على عاتقهم أن يعيدوا تفسيرها على ضوء الفلسفة الجديدة، ولأنهم ذهبوا إلى أنها رموز فكرية تمثل تجربة الماضي الدينية فقد احتفظوا بالكلمات والعبارات القديمة، ولكنهم استعملوها في معان مختلفة تمامًا عن المعنى الذي استعمله فيها أوغسطين والأقويني وكالفان وويزلي، وتبريرهم لهذا يقوم على القول أن كلًّا من هؤلاء المفكرين أخذ اللغة التقليدية بدوره وفسرها تفسيرًا مختلفًا عن الآخر. وأن معنى المذاهب القديمة كان دائم التغير للتكيف مع العالم الفكري الجديد الذي يعيش فيه المفكر. . . إن اللاهوت يجب أن يصب خمر المعرفة الجديدة في الزجاجات القديمة من العقائد الكلاسيكية (¬2)، وقد أخذت هذه التفسيرات اللاهوتية الجديدة أشكالًا عديدة، ولكن مهما يكن شكلها فقد تضمنت انفصالًا جذريًا عن المفاهيم اللاهوتية القديمة (¬3). والمفتاح الأساسي الذي استعمل لإعادة تفسير تعاليم النصرانية هو مذهب الحلول، وهو أن الله والكون والإنسان شيء واحد. وعلى ضوء هذا المذهب ¬

_ (¬1) انظر: v.8. p.767. "Encyclopaedia of Religion and Ethics" (¬2) " تكوين العقل الحديث" جون راندال 2/ 249. (¬3) المصدر نفسه ص 249.

ذهبت العصرانية تفسر كل العقائد والأمور الغيبية، التي تظن أنها متعارضة مع ما يثبته الحس والتجربة والعلوم العصرية، "ولم يتبين لي كيف أن العصرانية آمنت أن مذهب الحلول نفسه مذهب موافق للعقل ولما يثبته الحس والتجربة". ومهما يكن الأمر فإن فكرة الحلول إذا طبقت على الوحي "فكل الكلمات الحكيمة والرسالات الرفيعة من أي رجل جاءت فهي وحي"، فالفلاسفة والشعراء والأنبياء والقديسون "جميع هؤلاء كانوا مدارج للوحي الإلهي" (¬1)، وذلك لأن الإنسان نفسه ذو طبيعة إلهية. وبكلمات جورج تيريل الوحي هو التجلي الذاتي (Self-Manifestation) للإله في حياتنا الباطنية"، إن كلمة وحي "في الأصل ترمز إلى تجربة دينية، ثم أصبحت تدل على التعبير عن تلك التجربة ونقلها للآخرين"؛ وعلى هذا فالوحي "ظاهرة خالدة موجودة في كل نفس متدينة ولا ينقطع أبدًا. . ." (¬2). والمعجزات ليست هي تدخلًا منفصلًا من الذات الإلهية لخرق قوانين الطبيعة، بل كل شيء في الطبيعة فهو معجزة، والمعجزات في كل مكان وكل حادث، حتى حوادث الطبيعة، والشائعة هي معجزة إن كان فيها ما يؤدي إلى تفسير ديني. وليس الخلود استمرارًا للحياة وراء القبر بل يمكن أن نحصل عليه الآن وفي هذه الحياة، وهو أن نتحد مع الثابت الخالد ونحن وسط المؤقت وأن نكون أزليين في كل لحظة. "فالنظرية القديمة التي أقرها مجمع خاليدونية (Council of Calcedon) في عام (451 م) كان معناها أن الشخص الواحد يسوع يملك طبيعتين متباينتين متمايزتين تمامًا، الإلهية والإنسانية. أما بعد توحيد ما هو إلهي وما هو إنساني، فقد فقدت قيمتها جميع نقاط المجادلات القديمة حول الأصل الإلهي للمسيح، والتجسد، وولادة العذراء، فالمسيح إلهي حقًا تمامًا كما أن جميع الناس إلهيون، لكنة كان واعيًا لألوهيته وتمكن من أن يخضع حياته بشكل أتم إلى هذه الألوهية" (¬3). رفض سلطة الكنيسة: ومن أهداف العصرانية أيضًا رفض سلطة الكنيسة، ولكن ليس إلغاؤها بل ¬

_ (¬1) "تكوين العقل الحديث" جون راندال ص 250. (¬2) " The American Ecclesistical Review", V.501 (May 1908). (¬3) " تكوين العقل الحديث" راندال ص 250 - 251.

تحويلها إلى مؤسسة اجتماعية. فالمفروض أن لا تكون الكنيسة مصدرًا للتفسير والتشريع، وأن لا تكون هي الجهة التي تحدد الخطأ والصواب وتميز بين الحق والباطل، ولكن الذي يحدد ذلك هو الحكم الفردي للمرء (Private Judgement)، فمن الممكن للكاثوليكي أن يرفض التفسيرات التي تقدمها سلطات الكنيسة ويصل إلى تفسيرات خاصة به يقبلها ضميره (¬1). وتعتبر العصرانية الكنيسة مؤسسة تاريخية، ولكن لم يؤسسها المسيح إنما نشأت استجابة لحاجات معينة، وأنها بأنظمتها الحالية أثر من تطور المسيحية، خدمت الدين المسيحي في ظروف سابقة ولكنها الآن وبأنظمتها العتيقة تقتل "الروح" الحقيقية للمسيحية، ولكن مع هذا فإن أحدًا من الكُتَّاب الرئيسيين في هذه الحركة لم يقدم طريقة محددة لإصلاح الكنيسة، ولقد كان يظن أنه بإحياء "الروح" الحقيقية للمسيحية فإن الكنيسة تلقائيًا وبحركة من داخلها ستصلح أخطاءها، وتستجيب للحاجات التي تفرضها عليها ظروف العصر (¬2). التجديد العصراني للبروتستانتية: وفي الوقت نفسه وفي خطوط متوازية سار التجديد في البروتستانتية الحرة (Liberal Protestantism)، ومن المؤكد أن المفكرين في كلا الحركتين قد أثروا وتأثروا بعضهم ببعض (¬3). وفي كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا ظهر مفكرون بارزون في حركة البروتستانتية الحرة. وحتى تتضح أوجه المقارنة بين العصرانية في شقي النصرانية، هذه بعض أمثلة من آراء أحد المفكرين الكبار وهو البروفيسور أوجيست سباتية (1830 - 1901 م)، الذي كان أستاذًا في كلية اللاهوت البروتستانتي في جامعة باريس، وتظهر آراء سباتية في مؤلفين "مخطط فلسفة الدين" (1897 م) و"دين السلطة ودين الروح" (1903 م)، ويغطي الكتابان نفس الموضوعات، وينتقدان نقدًا مرًا ما سمي بدين "السلطة" والمقصود بها البروتستانتية التقليدية (Orthodox Protestantism) والكاثوليكية، ويحبذان ما يسميه ¬

_ (¬1) "تكوين العقل الحديث" راندال. P.502 (¬2) " موسوعة الدين والأخلاق" V.8 p.768. (¬3) راجع مقال: A Vieban, Modernism and protestantism American Ecclesiastical Review (August 1909) V.41 P.129 - 151.

المؤلف "دين الروح" (¬1)، وهذه قراءات في فكرة (¬2): نقرأ مفهوم تطور الدين في مثل قوله: "إن المعرفة الدينية تبقى بالضرورة خاضعة للتحول الذي يحكم تجليات الحياة والفكر الإنساني"، "إن الأشكال التي لا تستطيع بعد أن تكون مرنة قابلة للتغير، والرموز التي استنفذت تفسيرها الحي، والجسم المتصلب الذي لا يتمثل ويرفض أي عنصر وارد من الخارج -هذه كلها تمثل حالة موت وعقم يتلوها انحلال سريع". وهو ينتقد البروتستانتية التقليدية لأنها تتجاهل الظروف التاريخية والنفسية التي تنظم شكل وظهور المعرفة الدينية. ونقرأ أيضًا: "إن الضمير الإنساني الفردي وحده هو الحاكم على حقائق الدين "إن حقائق الدين ونظامه الأخلاقي يتوصل إليها عن طريق ذاتي شخصي (Subjective) وهو ما يمكن تسميته بالضمير"، والوحي هو الوعي الدائم بالإله في الإنسان، ولأن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة فالكتاب المقدس خليط مما هو إلهي وبشري، وعلى ذلك لا يمكن الاقتباس منه مباشرة والاحتجاج به وفرض سلطته المطلقة على الفكر اللاهوتي المعاصر. وعيسى كان "مجرد بشر" والمعرفة المتاحة له كانت هي الثقافة السائدة في عصره وسط اليهود، فلهذا كان يؤمن بالمعجزات بنفس الطريقة التي يفهمها بها عصره، وهي إمكانية تدخل الإله في قوانين الطبيعة، مع أن المعجزات الآن -تلك الوسيلة التي كانت برهانًا على صحة الدين في الماضي- قد أضحت أعصى في البرهان من الدين نفسه. ويؤمن سباتية بفكرة الحلول أيضًا يقول: "اكتشف في شعوري الوجود المستتر والحقيقي لعلة خاصة هي أنا ولعلة كلية هي الله. . . بداخلي أنا يسكن كائن أكبر مني، إنه ضيف غريب مستتر، استشعر فعله السرمدي تحت الظواهر المتغيرة لنشاطي. . . إنني لا أستطيع أن أفهم وجود المتناهي مع اللامتناهي لكن هذه الثنائية موجودة في كل مكان. .". ¬

_ (¬1) A Vieban, Modernism and Protestantism American Ecclesiastical Review (August 1909) V.41 P.129 - 151 و"مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا" ج بنروبي ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي ص 375 - 377. (¬2) راجع: المصدر نفسه.

تعريفات وخطوات للإصلاح: تلك لمحات تعطي فكرة عن تشابه خطى التجديد في الكاثوليكية والبروتستانتية، ونقدم هنا بعض تعريفات للعصرانية لكتاب إنجليزي بروتستانتيين، تزيد الحقيقة السالفة تأكيدًا ووضوحًا. يقول أحدهما (برسي جاردنر) (Percy Gardner): " إن العصرانية (Modernism) مبنية على التطور العلمي والمنهج النقدي التاريخي، وإن أهدافها ليست هي طرح وإلغاء حقائق الدين المسيحي، ولكن ما ترمي إليه هو إنعاش هذه الحقائق وتجديدها، على ضوء المعرفة النامية، وإعادة تفسيرها بطريقة تلائم ظروف العصر الثقافية". . . ويقول آخر (فرنون ستور (Vernon Storr): " العصرانية هي تلك المحاولات التي تبذلها مجموعة من المفكرين لتقديم حقائق الدين المسيحي في قوالب المعرفة المعاصرة. . . إننا الآن لا نركب المركبات التي تجرها الخيول، ولا نلبس ملابس أجدادنا، ولا نتكلم لغتهم، ولا نؤمن أن الأرض هي مركز النظام الشمسي كما كانوا يؤمنون، فلماذا في ميدان اللاهوت نكره على أن نفكر بعقول العصور البالية. . . الويل للكنيسة التي تغمض عينيها فتعمى عن رؤية نعمة المعرفة الجديدة" (¬1). ولعل في تطور حركة العصرانية في إنجلترا ما يعطي نموذجًا من خطواتها العملية في الإصلاح (¬2). فقد أدى ازدهارها هناك إلى تأسيس اتحاد للعصرانيين في عام (1898 م) سمي اتحاد رجال الكنيسة المعاصرين (The Modern Churchmens Union) وكان شعاره "من أجل تقدم الفكر الديني الحر"، وكان من نشاطات هذا الاتحاد بث المفاهيم العصرانية في مدارس التعليم الديني، وتقديم الدراسات والبحوث ونشر الكتب وإصدار المجلات والدوريات، وإعادة صياغة العقائد ومراجعة كتب الصلوات، وإصلاح طرق التبشير ووسائله في الخارج. ومن جهوده إصدار مجلتين إحداهما "رجل الكنيسة الحر" (Churchman Liberal) ما بين (1904 - 1908 م) والأخرى "رجل الكنيسة المعاصر" (Modern Churchman) شهرية من (1911 م) إلى (1956 م). وعقد الاتحاد سلسلة من المؤتمرات ومن أهمها مؤتمر في عام (1921 م) في كمبردج كان له صدى واسع. ¬

_ (¬1) "دائرة المعارف البريطانية" (1954 م) V.15, P.650. (¬2) انظر: "دائرة المعارف البريطانية" (1959 م) V.15, P.640.

وقدم الاتحاد صياغة جديدة للعقائد البروتستانتية في وثيقة وكانت توزع باسم "الإيمان المسيحي المعاصر بلغة المسيحية القديمة"، وخطا الاتحاد خطوة أخرى جريئة وهي وضع كتاب جديد لتلاوته في الصلوات ظهر في عام (1928 م)، اشتمل على تراتيل ملفقة من فرق المسيحية المختلفة، لكن البرلمان الإنجليزي رفض الاعتراف بشرفية استعماله في الكنائس، إلا أنه استمر يستخدم اختيارًا بصفة غير قانونية. وموقف العصرانية الإنجليزية من الكنيسة نابع من قناعتها الراسخة أن الكنيسة ليست لها عصمة من الخطأ مطلقة، أو تعاليم ثابتة أو أعراف جامدة أو دستور محدد، ولكن مع ذلك فإن الكنيسة في نظرها هي المؤسسة الوحيدة الصالحة لإقامة مملكة المسيح في الأرض، ولهذا كانوا يدعون إلى "كنيسة قوية مستقرة في دولة مسيحية متطورة"، ودعوا للتعاون بين الدولة والكنيسة، وخاصة في مجالات التعليم وإلى ولاء المسيحي للاثنين معًا. خاتمة العرض: وفي خاتمة هذا العرض المجمل لحركات التجديد العصراني في اليهودية والنصرانية بشقيها التي شهدها القرنان التاسع عشر الميلادي والعشرون، يحق للمرء أن يتساءل: هل نجحت هذه الحركات في استقطاب العقل المعاصر الذي سعت جاهدة لتقديم تأويلات دينية جديدة تناسبه؟ لعل الإجابة الدقيقة المعتمدة على الإحصائيات والأرقام غير متيسرة، إلا أن العالم الغربي في ذات القرنين الماضيين قد شهد انحلالًا وتراجعًا في التدين مما لا يترك مجالًا لأحد أن يظن أن تلك "الجرعات" الممزوجة صناعيًا في معامل العصر؛ قد حققت شيئًا في إرضاء عقل الرجل المعاصر وقلبه وضميره {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة: 1 - 3]. صدق الله العظيم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "النقد التفصيلي للعصرانية في الغرب" ص 226.

الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي 1 - الطبقة الأولى من المفكرين

1 - الطبقة الأولى من المفكرين

الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي 1 - الطبقة الأولى من المفكرين تمهيد: عرف العالم الإسلامي في تاريخه الحديث طبقة من المفكرين تسعى إلى محاولة إيجاد مواءمة بين الإسلام وبين الفكر الغربي المعاصر، وذلك بإعادة النظر في تعاليم الإسلام وتأويلها تأويلًا جديدًا. وإذا كان ذلك هو هدف العصرانية (Modernism) في الغرب كما رأينا في الفصل السابق فمن الممكن إطلاق نفس الاصطلاح على النزعات المماثلة في الفكر الإسلامي المعاصر. وفي عدد من الكتابات الحديثة التي تناولت هذه الظاهرة بالعرض والتحليل استعمل مصطلح (Modernism) (العصرانية) لوصفها (¬1)، وإن كان عدد من ¬

_ (¬1) من هذه الكتب:. Maryan Jameelah: "Islam and Modernism" Adams, C."Islam and Modernism in Egypt". =

أبو العصرانية في العالم الإسلامي

الكُتَّاب قد فضَّل استعمال لفظ التَجدُّد أو التطوير أو التحديث (جعل الإسلام حديثًا) وأحيانًا لفظ التجديد (¬1) وإذا عُرِفت سمات وخصائص هذه المدرسة فلا مشَّاحة في الاصطلاح. أبو العصرانية في العالم الإسلامي: رائد العصرانية (Modernism) في العالم الإسلامي هو سيد أحمد خان (¬2) (1232 - 1315 هـ / 1817 - 1898 م) "فقد كان سيد خان أول رجل في الهند الحديثة يتحقق من ضرورة وجود تفسير جديد للإسلام، تفسير تحرري وحديث وتقدمي" (¬3). ولم يكن سيد خان أول ممثل للنزعة العصرانية (¬4) فحسب بل كان نموذجًا كاملًا لها، وكل الذين جاءوا من بعده لم يضيفوا شيئًا جديدًا، بل كانوا يعيدون صياغة أفكاره بصورة أو أخرى. وإذا أمعنا النظر في تعريف العصرانية التي هي في جملتها محاولة للتوفيق بين الدين والعصر الحديث بإعادة تأويل الدين وتفسير تعاليمه في ضوء المعارف العصرية السائدة، فإن هذا التعريف برمته ينطبق على المدرسة الفكرية التي أنشأها سيد خان، تلك المدرسة التي قامت -كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي-: "على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها ¬

_ = A.Ahmed: "Islamic Modernism in India and Pakistan". F.Rahman: "Muslim Modernism In the Indo-pakistan Sub continent". وانظر: "نبذة عن الكتابين الأخيرين في جوانب من التراث الهندي الإسلامي"، د. خليل ص 169 و 170، وفي الاتجاهات الحديثة في الإسلام للمستشرق جب فصلان بعنوان: The Principles of Modernism Modernist Religion (¬1) من هؤلاء: أبو الأعلى المودودي في "موجز تاريخ تجديد الدين" ص 51، وأبو الحسن الندوي في "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" ص 163، ومحمد البهي في "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". انظر مثلًا: ص 22، ومحمد محمد حسين في "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" ص 305 ما بعدها، وفي "الإسلام والحضارة الغربية". انظر مثلًا: ص 110 و 144. (¬2) انظر:. Maryam Jameelah: "Islamic and Modernism" ,P.49. (¬3) B.A. Dar, "Religious Thought of sayyid" Ahmed Khan,P.268. (¬4) " جوانب من التراث الهندي الإسلامي الحديث" د. خليل عبد الحميد ص 169.

المادية، واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرًا يطابقان ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي، ويطابقان هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم، والاستهانة بها لا يثبته الحس والتجربة ولا تقرره علوم الطبيعة في بادئ النظر من الحقائق الغيبية" (¬1). ولد سيد خان في دلهي في أسرة من علية القوم عريقة وذات صلة وطيدة بالحكام المغول، وإن كانت فقيرة، ونشأ في جو مشبع بالتصوف، وقرأ في صغره القرآن وعلوم اللغة العربية واللغة الفارسية، ولكن لم يكد يمضي في هذه الدراسة قليلًا إلا ورغب عنها ونفض يده منها. وعلى يد أحد أفراد عائلته أخذ يتعلم الرياضيات وعلم الهيئة، ولم يكن حظه فيها إلا كحظه في دراسته الأولى وانقطع أخيرًا عن التعلم في سن الثامنة عشرة، وعاش في شبابه حياة مرح يحضر حفلات الرقص والغناء الشائعة في طبقته (¬2). وفي سن الثانية والعشرين اضطر بسبب وفاة والده للالتحاق بخدمة الحكومة الإنجليزية في سلك القضاء، وعمل في عدد من المدن الهندية. وبعد فترة ثاب إلى نفسه وبدأ في تغيير حياته وإصلاحها، وأقبل على التعلم من جديد ثم ألف عددًا من الكتب في السيرة النبوية والتاريخ (¬3). وكان إخفاق الثورة الهندية عام (1857 م) نقطة تحول في حياته إذ رأى بأم عينيه المأساة التي عاشها المسلمون وسقوط دولتهم والخراب والدمار الذي لحقهم، وكاد أن يهاجر ويترك وطنه إلا أنه فضَّل البقاء. ومنذ أول وهلة كان يدرك أن تلك الثورة نتيجتها الفشل، فلهذا وقف في أثنائها يناصر الإنجليز ويساعد في حمايتهم ونجاة بعض عائلاتهم من القتل (¬4). لقد أيقن بعد تلك الثورة الفاشلة أن ولاء المسلمين للحكم الإنجليزي هو السبيل الوحيد لإنقاذهم، ولم يكن ذلك موقفًا سياسيًا فحسب بل كان نابعًا من إعجابه المفرط بالإنجليز ¬

_ (¬1) "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرية الغربية - أبو الحسن الندوي ص 71. (¬2) Hali, Hayat-i-Javed, P 1 - 28. (¬3) المصدر نفسه. P. 29 - 45. (¬4) المصدر نفسه. P 48 - 56.

وبحضارتهم وعلومهم. ولهذا جعل نصب عينيه منذ تلك اللحظة هدفًا سعى لتحقيقه طول حياته، وهو أن يقلد المسلمون الإنجليز والحضارة الغربية في كل شيء، مما جعل جون ماكدونالد الذي كان محررًا آنذاك في إحدى صحف مدينة "الله آباد" يصفه والزمرة التي بدأت تلتف حوله من المسلمين بأنهم "إنجليز في كل شيء باستثناء العناصر الأساسية لعقيدتهم الدينية" (¬1). وفي كتاب له ظهر في تلك الفترة بعنوان: "ولاء المسلمين في الهند" كتب سيد خان يقول بأن هذا الولاء محبذ من تعاليم الدين في مثل هذه الظروف، واستدل بخدمة نبي الله يوسف -عليه السلام- لعزيز مصر بكل إخلاص وولاء، مع أن عزيز مصر لم يكن على دين يوسف (¬2). وابتدأ سيد خان إصلاحاته بإزالة الحواجز بين المسلمين وبين الإنجليز، وقد كان من تلك الحواجز امتناع المسلمين من مخالطة الإنجليز ومؤاكلتهم فألف سيد خان كتاب "أحكام طعام أهل الكتاب" دعا فيه إلى معايشة الإنجليز ومشاركتهم موائدهم والتشبه بهم في آدابهم وتقاليدهم (¬3)، وتوج هذه الدعوة إلى تدعيم الصلات وتقويتها بالإقبال على دراسة الإنجيل وشرح بعض أجزائه، وكان أحد أهداف تلك الدراسة -التي ظهرت بعنوان: "تبيين الكلام" والتي لم يكتب لها أن تكتمل- أن يظهر أوجه الشبه بين الإسلام والمسيحية (¬4). وفي عام (1869 م) سنحت الفرصة لسيد خان لزيارة إنجلترا وكانت رغبته كما كتب في خطاب قبل سفره أن يطلع بنفسه "على العظمة الباهرة للحضارة الغربية" في مهدها "لا ليستفيد هو وحده من هذه التجربة بل ليستفيد قومه أيضًا" لأنه حين يعود سوف يعلمهم ما تعلمه ويضع نفسه نموذجًا لهم "في الاقتباس من الغرب (¬5)، ومكث سيد خان في لندن سبعة عشر شهرًا كان فيها" ضيفًا مبجلًا وزائرًا كريمًا وصديقًا عزيزًا، في الأوساط الإنجليزية المحترمة، وحضر المآدب ¬

_ (¬1) جاء هذا الوصف في كتابه "أعمدة الإمبراطورية". انظر: ص 148 "جوانب من التراث الهندي"، د. خليل. (¬2) Balijon, "The Reforms and Religious Ideas of sir" Sayyid Ahmed Khan P.22. (¬3) المصدر نفسه.28 - 27 P. (¬4) Hali.Hayat - 1 - Javed p.75. (¬5) المصدر نفسه P.110.

الملكية الفخمة، والولائم "الأرستقراطية"- التي تمثل الحضارة الأوروبية في أروع مظاهرها وأخلاق الطبقة الحاكمة وطبقة الأشراف، ونال الوسام الملكي ولقب الشرف، وقابل الملكة وولي العهد والوزراء الكبار، واختير عضوًا فخريًا في الجمعيات العلمية ذات الشرف الكبير، وحضر حفلة نادي المهندسين الكبار، واطلع على المشاريع والخطط التقدمية التي مرت بها البلاد في الزمن القريب، والتي أخذت ثورة وانقلابًا في الأوضاع وفي مستوى البلاد ومكنتها من بسط نفوذها وسيطرتها الفكرية" (¬1). وعاد سيد خان إلى بلاده ونفسه ممتلئة إعجابًا بما شاهد ورأى، وأخذ على عاتقه بعد عودته إلى مماته، أن يفتح أعين المسلمين إلى عظمة الحضارة الغربية، ويشق لهم طريقًا للاقتباس منها واحتذائها، وكانت وسيلته إلى ذلك عدة مبادئ: "التعاون في المجال السياسي، واستيعاب علوم الغرب في المجال الثقافي، وتكييف وإعادة تأويل الإسلام في المجال الفكري" (¬2)، ولقد أنشأ بعد عودته مجلة "تهذيب الأخلاق" وهدفها الرئيس إصلاح التفكير الديني للمسلمين -كما يراه- وإزالة ما في هذا الفكر من قيود تمنعهم من التقدم (¬3)، وأنشأ كليته عليكره المعروفة الآن باسم جامعة عليكره، وكان الهدف منها تعليم آداب الغرب ولغاته بالدرجة الأولى (¬4) ومن أهم المؤلفات التي اضطلع بها في تلك الفترة "تفسير القرآن" الذي لم يكمله، وقد أراد من ورائه أن يثبت أن حقائق الإسلام وتعاليمه لا تتعارض مطلقًا مع قوانين الطبيعة (Nature)؛ لأن القرآن هو "كلمة الله" وقوانين الطبيعة هي "فعل الله" ولا يتعارض كلامه مع فعله. "هذا كلام في ظاهره صحيح ولكنه يعتمد على تصورنا نحن لما نظن أنه تعارض" ومن أجل ذلك الهدف وضع تفسيرًا خالف فيه كلام العرب وآراء السلف وإجماعهم لمحاولته تأويل ما ظنه تعارضًا بين كلام الله وبين قوانين الطبيعة. ¬

_ (¬1) "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" الندوي ص 73، وانظر تفاصيل زيارة سيد خان لإنجلترا في: " Hali, Hayat- 1 - Javed", P.107 - 121. (¬2) B. A. Dar, "The Religious of sayyid Khan", P.270. (¬3) "Hali, Hayat- 1 - Javed" P.123 - 125. (¬4) المصدر نفسه P.271.

آراء سيد خان: كيف سعى سيد خان لتكييف الإسلام وملاءمته للحضارة الغربية؟ اعتبر سيد خان القرآن وحده الأساس لفهم الإسلام مستشهدًا لذلك بقول لعمر بن الخطاب: "حسبنا كتاب الله"، وفي ضوء الظروف الجديدة وتوسع المعرفة الإنسانية لا يمكن الاعتماد في فهم القرآن على التفاسير القديمة وحدها، التي اشتملت على كثير من الخرافات، ولكن ينبغي الاعتماد على نص القرآن وحده، الذي هو بحق كلمة الله، ومن خلال معرفتنا وتجاربنا الذاتية يمكن لنا أن نفسر القرآن تفسيرًا عصريًا (¬1). وليس في القرآن ما يخالف قوانين الطبيعة، ويعني سيد خان بالطبيعة (nature) نفس المعنى الذي استعمله علماء أوروبا في القرن التاسع عشر للميلاد، نظام كوني مغلق يخضع لقوانين عمياء ليس فيها أي مجال للخرق أو الاستثناء (¬2). ويستخدم سيد خان مفهومين لتقديم تفسير عصري للقرآن لا يناقض كما يعتقد قوانين الطبيعة، أولهما مفهوم المحكم والمتشابه، الذي جاء في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فهو يرى أن هذا التقسيم إلى محكم ومتشابه هو بعينه دليل على أن الإسلام هو دين الطبيعة، فالآيات المحكمة هي الأساسية والآيات المتشابهة هي الرمزية. الأولى تشتمل على أساسيات العقيدة، والثانية لأنها قابلة لأكثر من تفسير واحد فهي تساير تطور معارف البشر، فكلما تغير العصر وتغيرت الظروف وزادت معارف البشر وتجاربهم فلابدَّ في مقابلة ذلك أن يحدث تغير في فهم الناس للآيات المتشابهة، فقد يكون هناك تفسير لها مناسب لطور معين من المعرفة البشرية، ولكن في عصر آخر قد يوجد تفسير آخر يكون مناسبًا لطور المعرفة الجديد والمتقدم. وفي هذه الحالة يكون الاستمساك بالفهم القديم والنظر إلى الوراء هو عين الجهل بهدف القرآن من جعل بعض آياته متشابهة وقابلة لأكثر من تفسير (¬3). ¬

_ (¬1) " Hali, Hayat- 1 - Javed" P.123 - 125. (¬2) المصدر نفسه P.150، و"جوانب من التراث الهندي"، د. خليل ص 41. (¬3) Dar, Pages 160.172، و"جوانب من التراث الهندي"، د. خليل ص 41.

والقاعدة الثانية: التي يعتمد عليها سيد خان في فهم القرآن يوضحها بمثال: فإذا قال قائل إنني لن أفعل كذا حتى تطلع الشمس من المغرب، فهو يقصد أن يبين أنه من المستحيل أن يفعل ما يشير إليه، فهذا هو المعنى الأساسي من حديثه، أما ذكر طلوع الشمس من المغرب فهو معنى ثانوي، ولا يفهم من حديثه أنه يرمي إلى بيان أن طلوع الشمس من المغرب حقيقة أم لا. فهكذا القرآن فهو مشتمل على حقائق أساسية هي المقصودة من الحديث، ولكن هذه المعاني الأساسية تصاحبها معان ثانوية وفرعية مأخوذة من بيئة العرب وظروفهم، ولا يعني ذكر القرآن لها أنها حقائق (¬1). والقرآن وحده عند سيد خان هو الأساس لفهم الدين أما الأحاديث فلا يعتمد عليها. ويثير في هذا الموطن بعض الشبهات، فالأحاديث غير صالحة للاحتجاج كما يزعم لأنها لم تدون في العهد النبوي بل دونت في القرن الثاني من الهجرة في عصر مضطرب بالصراعات السياسية والاختلافات الدينية، وهذا كان له أثره في كثرة الأحاديث الموضوعة كما أن كثيرًا من هذه الأحاديث قد روي بالمعنى، ولهذا فهي تحمل فهم الراوي للحديث وليست هي كلمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعينها. ويقول: إن المحدثين اهتموا بنقد السند والرجال ولم يهتموا بنقد متن الحديث ومحتواه، ويرى أن مهمة المسلمين اليوم هي استخدام ما يسميه مقاييس النقد العصري على الأحاديث "دون أن يفصل ما هي هذه المقاييس"، ولهذا فهو يقبل من الأحاديث فقط ما يتفق مع نص وروح القرآن وما يتفق مع العقل والتجربة البشرية وما لا يناقض حقائق التاريخ الثابتة. ويشير إلى تقسيم الأحاديث إلى متواترة ومشهورة وأحاديث آحاد، فيرى أن المتواترة مقبولة أما المشهورة لا تقبل إلا بعد أن تخضع للنقد أما أحاديث الآحاد فهو لا يميل إلى قبولها مطلقًا. وحتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأمور الدينية مثل العقيدة عن الله سبحانه وصفاته، وشعائر العبادات، أما الأمور الدنيوية فهي تشمل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية. فالأحاديث في دائرة ¬

_ (¬1) Dar, Pages 201 - 245.

أمور الدين هي الملزمة وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا، بل كان ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف العرب وحالتهم في زمان النبوة، وهي ليست ملزمة للمسلمين، ذلك لأن أمور الدين ثابتة، أما أمور الدنيا فمتغيرة، ويستدل على هذا التقسيم بحديث تأبير النخل الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (¬1). ويسخر سيد خان من أولئك الذين يظنون أن كل شيء قد اكتمل على أيدي الفقهاء الأقدمين، ويقول: مما لا شك فيه أنهم قد أحسنوا الصنيع، ولكن من المنافي للعقل كما يرى أن نتخيل أن أحكامهم التي توصلوا إليها في الظروف الخاصة بأيامهم صالحة أيضًا لعصرنا الحديث، وذلك لأن حاجات عصرنا -في رأيه- تختلف كلية عن حاجات عصرهم، فلهذا يدعو إلى أن نكف عن الولاء الأعمى لهم. إن أحكام هؤلاء الفقهاء لا تعدو أن تكون من صنع بشر معرضين للخطأ وهي صالحة لزمانهم، ولابد أن تعدل لتتكيف مع ظروفنا وحاجتنا الحاضرة. وفي حماس بالغ يقول: "إننا أتباع الإسلام ولسنا أتباع زيد وعمرو! إن أحكام هؤلاء الفقهاء غير ملزمة لنا والأحكام الملزمة الوحيدة هي ما جاءت به النصوص (¬2). ونعيد إلى الأذهان هنا موقفه السابق من النصوص! " وقد كان سيد خان حقًا جادًا في مخالفة الفقهاء السابقين، وفي فصل خاص في السيرة الضخمة التي كتبها عنه صديقه ألطاف حسين حالي، يحصي حالي إحدى وأربعين نقطة في آراء سيد خان لم يتمكن هو على الأقل من أن يجد لها تعضيدًا عند العلماء السابقين، كما يذكر حالي عشر نقاط لم يُروَ مثلها قط في تراث السلف (¬3). ولا يرفض سيد خان قبول آراء الفقهاء السابقين في صورتها الفردية فقط بل حتى ولو كانت هذه الآراء جماعية، فهو لا يعترف بتاتًا بالإجماع مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي. إن باب الاجتهاد في نظره مفتوح في كل المسائل ولا ¬

_ (¬1) انظر: Dar, Pages 113 - 118 K 246, Baljom, P 95. (¬2) انظر: Dar, P.119,247 and Baljon, p.103. (¬3) " جوانب من التراث الهندي"، د. خليل- ص 162.

يجب تقييده بآراء مجموعة من الفقهاء اتفقت على شيء في عصر معين من الممكن -كما يحتج- أن يكون سبب اتفاقهم ذلك ناجمًا عن ظروف خاصة، وبتغير هذه الظروف يفقد مثل هذا الاتفاق أهميته. وبنفس القدر يرفض سيد خان تلك الهيمنة لإجماع الصحابة لأن المشاكل التي تواجهنا اليوم يمكن حلها بصورة أفضل إذا أخذنا في الاعتبار النظرة الشاملة لحالتنا الراهنة فقط دون الاعتماد على أحكام سابقة يعتقد أنها كلية ونهائية (¬1). ويدعو سيد خان إلى الاجتهاد -بالطبع الاجتهاد المبني على أسسه وقواعده هو- ولا يتحرج أن يؤدي مثل هذا الاجتهاد إلى فوضى فكرية بسبب كثرة الأخطاء؛ لأنه يرى أن تباين وجهات النظر والحرية الواسعة هي الوسيلة الوحيدة لتقدم الأمة (¬2). النتائج العملية لهذا المنهج: ويستخدم سيد خان هذا المنهج الذي اختطه لفهم الدين لإعادة تأويل القرآن وإعادة النظر في الإسلام وتطويع مفاهيمه لموافقة قيم الغرب وآرائه، وذلك بجرأة وصراحة لا يواريها شيء، ولا يترك مجالًا من مجالات الدين إلا وأسهم فيه برأي. فالألوهية عند سيد خان كما هي عند الفلاسفة هي "العلة الأولى" والله خلق الكون والطبيعة ووضع لها قوانين ولكنه لا يتدخل في هذه القوانين بعد ذلك (¬3)، والنبوة ملكة إنسانية وموهبة من الطبيعة واستعداد ينميه الفرد كما ينمي الشاعر مواهبه "وإن كان يقر مع هذا المفهوم للنبوة بختمها" (¬4)، والوحي ليس أمرًا خارقًا من خارج النفس البشرية، ولكنه مرحلة عليا من مراحل الإدراك والإحساس والغريزة التي توجد عند كل إنسان حتى عند الحيوانات والحشرات (¬5). ولا يرى سيد خان في المعجزات أمرًا خارقًا لقوانين الطبيعة، بل المعجزة ¬

_ (¬1) Dar, P.272. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) Dar, P.177. (¬4) المصدر نفسه P.166. (¬5) المصدر نفسه P.165.

عنده هي حدث موافق لهذه القوانين، ولكنه يثير الدهشة والإعجاب عند الناس لأنه يظهر وكأنه يخالف المجرى العادي للأمور. وفي ضوء هذه النظرة للمعجزة يقدم تأويلات لمعجزات الأنبياء لتتماشى مع قوانين الطبيعة. فقصة صاحب الحمار الذي مر على القرية الخاوية على عروشها وتعجب كيف يحييها الله، ليست أحداثًا واقعية بل هي رؤيا في المنام. وقصة إبراهيم -عليه السلام- مع الطيور الأربعة هي أيضًا رؤيا منامية، وعن قصة انفلاق البحر لموسى -عليه السلام- يقول سيد خان: إن الضرب في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء: 63]، معناه المشي والذهاب كما تقول ضرب في الأرض، فالله يأمر موسى بالسير في البحر الذي كان في ذلك الوقت مخاضة ضحلة. والحوت الذي التقم يونس -عليه السلام- لم يبتلعه، ثم لفظه من جوفه، إنما التقمه بمعنى أمسكه بفمه (¬1). وميلاد عيسي عند سيد خان لم يكن معجزة، بل كان ميلادًا طبيعيًا من زواج "قارن هنا موقف العصرانية المسيحية من هذه القضية" (¬2) والملك الذي بشر مريم بمولده فقالت {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20]، أتاها في رؤيا في النوم قبل الزواج. ووصف مريم بأنها {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} لا يعني أنها عذراء بل هو وصف لها بالطهارة من دنس الرذيلة، ووصف عيسى بأنه كلمة من الله أو روح منه لا يشير إلى أن ميلاده كان شيئًا خارقًا غير عادي، بل قد وصفت أشياء أخرى بهذه الكلمات في أكثر من موضع. وعيسى توفي وفاة عادية ومات كما يموت سائر البشر ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55]، وقول عيسى كما حكاه القرآن {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]، أما رفعه إليه فلا يعني رفعه إلى السماء بل هو رفع منزلته (¬3). وقصة خلق آدم يفسرها سيد خان في ضوء نظرية دارون، فالماء والطين تفاعلا كيميائيًا، فكانت النتيجة خلية حية من الممكن أن تكون هي الأصل لكل ¬

_ (¬1) Baljon, P 86,87 &Dar, P. 180 - 186. (¬2) انظر: ص 129. (¬3) Dar, P.186 - 190.

الكائنات الحية من حيوانات وإنسان، وآدم الذي يجيء ذكره في القرآن لا يعني فردًا بعينه، ولكنه رمز للإنسانية جمعاء، ولم تحدث محاورة حقيقية بين الله سبحانه والملائكة عن خلق البشرية، ولكن جاء التعبير عن المواهب التي منحها الإنسان - {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]- في شكل قصصي أدبي ليقرب فهمه للناس (¬1). والملائكة ليست كائنات ذات أجنحة وتتشكل، بل الملائكة هي قوى الطبيعة، وفي الإنسان المقصود بها قوى الخير، والشياطين قوى الشر (¬2)، والجن قبائل بدائية كانت تعيش في جزيرة العرب وكانت خاضعة للملك سليمان (¬3)، ووصف الجنة والنار ليس هو وصفًا لأمور حسية، بل هي إشارات رمزية لحالات نفسية من الألم والعذاب (¬4). فقه سيد خان: وفي مسائل الفقه لسيد خان نظرات كثيرة تسير وفق منهجه لتقريب أمور الدين من مفاهيم الحضارة الغربية، ونقدم هنا بعض النماذج. في فقه العبادات كان منهجه أن يفسر ممارسات العبادة بمنطق عقلي بحت، فغسل الأعضاء في الوضوء نظافة ورمز للطهارة المعنوية، والقبلة كانت في مبدأ الأمر للتفريق بين أهل الكتاب والمسلمين ثم أصبح تقليدًا دائمًا. والصلاة القصد منها توجيه انتباه المرء لخالقه، وحركات اليدين أمر مساعد لهذا الهدف، والإحرام والطواف وتقبيل الحجر الأسود ورمي الجمرات عادات باقية من الأديان الأولى في طفولة البشرية، واحتفظ بها الإسلام مع أنها عادات بدائية -مثل لبس ثوب غير مخيط- لتكون ذكرى لأولئك الأطهار الأوائل من الصالحين (¬5). ويتحدث سيد خان عن الجهاد فيدفع أن الإسلام يسعى لإكراه الناس على ¬

_ (¬1) Dar P.208. (¬2) المصدر نفسه P.241. (¬3) المصدر نفسه P.243. (¬4) المصدر نفسه P.232. (¬5) Dar, P.250 - 256.

الدخول في الدين، ولكن الجهاد مشروع فقط للدفاع عن النفس وفي حالة واحدة فقط هي اعتداء الكافرين على المسلمين من أجل حملهم على تغيير دينهم، أما إذا كان الاعتداء من أجل أمر آخر مثل احتلال الأراضي وليس هدفه الدين فالجهاد غير مشروع. "يضع سيد خان في ذهنه هنا احتلال الإنجليز للهند ويريد أن يجد مبررًا لمسالمتهم" (¬1). والربا المحرم في نظر سيد خان هو الربح المركب الذي يدفعه الفقير مقابل دينه كما هي العادة الشائعة عند العرب، أما الفائدة البسيطة في المعاملات التجارية المعاصرة والبنوك فليس ربًا وليست حرامًا (¬2). ويضع الميراث في مرتبة ثانية بعد الوصية جمعًا بين آيات الميراث والوصية "إذ في نظره أنه لا نسخ في القرآن"، وبناء على هذه النظرة يرى أن يقسم مال المتوفى بالطريقة التي يوصي بها، وتنفذ وصيته كما هي دون أي قيود، فهو لا يعترف بالأحاديث التي تقيد نفاذ وصية الميت في ثلث ماله فقط أو التي تمنع أن تكون وصيته لأحد من ورثته. إن للموصي مطلق الحرية في أن يوصي كما يشاء، وينبغي احترام رغبته هذه بعد موته. أما تقسيم المال عن طريق نظام الإرث فهو للحالات التي لا توجد فيها وصية (¬3). ويناقش سيد خان قضية تعدد الزوجات ويؤكد أن الأصل هو زواج الواحدة أما التعدد فهو الاستثناء، والقرآن قد جعل شرط هذا النوع من الزواج العدل، وبما أن العدل غير مستطاع كما يذكر القرآن نفسه فلهذا لا يباح تعدد الزوجات إلا في الحالات النادرة ويجب أن يقصر على الظروف الاستثنائية (¬4). وفي دائرة الحدود يرفض سيد خان الأخذ بعقوبة الرجم للزاني، ويعتمد في رفضه لهذه العقوبة على دليلين: الأول أن الرجم لم يذكر في القرآن وهذا عنده كاف لأن الحديث في نظره لا تقوم به حجة، والثاني على فرض قبولنا للأحاديث التي أثبتت الرجم فهذه الأحاديث -في رأيه- تحكي فقط العادة التي شاعت في ¬

_ (¬1) Dar, P. 257. (¬2) المصدر نفسه P.264. (¬3) المصدر نفسه. P.263. (¬4) Dar, P.122.

تلك الأيام تقليدًا لليهود (¬1)، واستنادًا على الحجة نفسها يرى أن الدية ما هي إلا عادة عربية قديمة ولا تناسب العصر (¬2). والنفي الوارد في عقوبات الحرابة لا يمكن الآن تنفيذه وإلا فما الفائدة أن نخرج المجرم من بلده إلى بلد آخر يعيث فيه فسادًا (¬3)، وقطع الأيدي والأرجل كانت عقوبة مقبولة في العهود الأولى إذ لم تكن هناك سجون أما الآن فينبغي الكف عن تطبيق هذه العقوبات الوحشية التي تنافي التمدن والحضارة (¬4). خلفاء سيد خان: كانت تلك هي بعض النماذج من فكر سيد خان وآرائه ومنها تتضح لنا صورة عن نهجه وطريقته للملاءمة بين الإسلام والعصر الحديث. وقد أصبح منهجه ذاك مدرسة فكرية تأثر بها تلاميذه وخلفاؤه إلى اليوم، ومن أشهر هؤلاء التلاميذ شراغ علي، وأمير علي وخدابخش الشاعر، وغلام أحمد برويز، وخليفة عبد الحكيم، ومولانا محمد علي أحد قادة حركة الأحمدية (¬5). ومن أظهر مؤلفات شراغ علي (الإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية المقترحة للامبراطورية العثمانية والدول الإسلامية الأخرى) وفي هذا الكتاب تظهر الدعوة إلى التوفيق بين الإسلام والعصر بالطريقة المفضلة لهذه المدرسة، إذ نقرأ في مقدمة الكتاب "لقد حاولت أن أوضح في هذا الكتاب أن الإسلام الذي علمه محمد -نبي العرب- فيه من المرونة (Elasticity) ما يمكنه من تكييف نفسه مع التغييرات السياسية والاجتماعية التي تحدث حوله". ويمضي للقول: "إن القرآن -أي: تعاليم محمد- ليس حاجزًا عن التقدم الروحي، ولا مانعًا من حرية الفكر بين المسلمين ولا سدًا أمام التجدد (Innovation) في أي ميدان من ميادين الحياة سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو خلقية". ثم ماذا بعد تأكيد هذه النغمة المكررة؟ إن الوسيلة التي يقترحها لهذا التزاوج بين الإسلام ¬

_ (¬1) Dar, P.247. (¬2) المصدر نفسه P.275. (¬3) المصدر نفسه P.262. (¬4) المصدر نفسه P.263. (¬5) Maryam Jameelah: "Islam and Modernism".

والتقدم، هي ألا نلصق صفة القدسية بما ليس بمقدس. إننا نضخم هالة القدسية حول النبي وحول أقواله وأفعاله مع أنه "مجرد بشر" وصحيح أن تعاليمه في الأمور الدينية واجبة الاتباع "ولكنه حين يتجرأ بالرأي في الأمور الأخرى فهو لا يعدو أن يكون بشرًا"، وبهذا المفهوم يرى أن النبي "لم يوحد بين الدين والدولة مطلقًا"، وهكذا يفتح شراغ علي بهذه المفاهيم الطريق لمن يريد إسلامًا حديثًا (¬1). ومن تلاميذ سيد خان سيد أمير علي (1849 - 1928 م) وقد كان من طائفة الشيعة، تلقى تعليمه في كلية عليكره ثم في إنجلترا، وعرف بتعمقه في الثقافة والآداب الإنجليزية، ومن أشهر كتبه (روح الإسلام) الذي ألفه بالإنجليزية وظهر عام (1922 م) ولاقى هذا الكتاب وبخاصة في الغرب رواجًا لا مثيل له (¬2). والكتاب في حقيقته كتاب تاريخ عرض في القسم الأول منه للسيرة النبوية، وفي القسم الثاني عرض التاريخ الفكري والعلمي والسياسي للإسلام، وتاريخ الفرق والمذاهب، ونقرأ في ثنايا ذلك مثل هذه الفقرات التي تدلنا على النزعة العصرانية فيه. يقول: "فوا حسرتاه على فقهاء المسلمين في الوقت الحاضر لقد حطمت آفة الجمود عندهم زهرة الدين الصحيح، كما قتلت روح الإخلاص المقدسة فيه. . . لقد تجاهل مسلمو الوقت الحاضر "الروح" فقلبوها حبًا في النصوص الجامدة واستعاضوا عنها بتقديس "الحرف" نفسه. . . إن أصحاب الرسول الأولين في تقديرهم وإعجابهم بمعلمهم الأكبر كانوا يطبعون على قلوبهم أوامره وشريعته وتعليماته التي شرعها لصالح المرحلة التي جاء فيها أي: لظروف مجتمع طفولي. . . وإذا فرضنا أن أعظم مصلح جاء به التاريخ. . . رافع لواء العقل. . . الرجل الذي أعلن أن العالم خاضع لقانون الطبيعة المتطور المتقدم. . . إذا افترضنا أن هذا الرجل كان يتوقع أن تلك الجرعات التي جاء بها والتي استدعتها الظروف السائدة لمجتمع نصف متحضر لن تكون أبدًا غير قابلة للتحول حتى ¬

_ (¬1) Zaki, "Rise of Muslims in Indian Politics", P.242. (¬2) جوانب من التراث الهندي. د. خليل ص 47 و " Maryam Jameelah, Islam and Modernism" P.56.

نهاية العالم. . . إذا فرضنا هذا فإننا نكون بذلك قد ظلمنا نبي الإسلام كل الظلم. . . . . . فليس هناك من يحمل مفهومًا نافذًا عميقًا، بأن ضرورات هذا العالم الذي يسير قدمًا بظواهره الاجتماعية والخلقية الدائبة التغير، وباحتمال أن يكون الوحي الذي أنزل إليه لن يكون صالحًا لكل الظروف الممكنة أكثر مما يحمل محمد. . . فالمعلم العظيم الذي كان يدرك ملابسات عصره كل الإدراك، وكذلك حاجات القوم الذي كان عليه أن يعمل بينهم، قد رأى ببصيرته النافذة وبعد نظره الثاقب -وربما أمكن القول أنه تنبأ- أن وقتًا سيأتي لابد أن يفرق فيه بين التنظيمات العارضة والمؤقتة، وبين التعليمات الدائمة والعامة (¬1). وفي موضع آخر يقول: "إن ما يبدو على قواعد الإسلام من عنف وصرامة أم عدم قابلية للتكيف مع الأوضاع الحاضرة في الفكر هي التي تقصيه عن كونه دينًا عالميًا. . . ولكن شيئًا من التمحيص في قيمة الشرائع والمفاهيم التي جاء بها محمد وبعض الإنصاف في تحري الحقائق لابد أن يجلو الطبيعة المؤقتة لتلك القواعد ويجعلها تبدو منسجمة مع متطلبات الأزمنة الحاضرة. . ." (¬2). ولكن أين نضع الفاصل بين التشريعات المؤقتة والخاصة بظروف العرب والتشريعات الدائمة الثابتة؟ لعل الإجابة تبدو في هذه العبارة من كتابه: "إن الإسلام يتطلب من معتنقيه اعترافًا بسيطًا بحقيقة أزلية، ومزاولة بعض واجبات خلقية، أما في النواحي الأخرى فهو يمنحهم أوسع مجال لتحكيم العقل" (¬3). ولعلنا نجد مثالًا من التشريعات التي يرغب في تغييرها لأنها لم تعد تناسب العصر في رأيه في تعدد الزوجات وفي الرق إذ يأمل "أن يأتي الوقت القريب الذي يعلن فيه علماء الإسلام في مجمع علمي، أن تعدد الزوجات والرق منافيان تمامًا لأحكام الإسلام" وذلك لأن الظروف التي أباحت ذلك في العهود البدائية (Primitive) قد زالت (¬4). ¬

_ (¬1) "روح الإسلام" أمير علي (الترجمة العربية) ص 210، والطبعة الإنجليزية P.182. (¬2) المصدر نفسه بالعربية ص 202، وبالإنجليزية P.175. (¬3) المصدر نفسه بالعربية ص 327، وبالإنجليزية P.237. (¬4) المصدر نفسه P.232.

ومن تلاميذ سيد خان مولانا محمد علي من طائفة القاديانية، وفي أحد كتبه نجد له بعض الآراء الفقهية التي تبين طريقته في محاولة تعديل الإسلام وفق الروح الغربية، ونقدم نماذج من آرائه في مجالات المرأة والحدود والجهاد. فالجهاد في رأيه من أجل الدفاع فقط والمحافظة على الوجود القومي للمسلمين (¬1)، ويرى أنه لا رجم في الإسلام والحوادث القضائية المروية في ذلك عن الرسول كانت اتباعًا لشريعة اليهود قبل أن ينزل عليه في المسألة قرآن، ونسخ ذلك بالآيات الواردة بقصر عقاب الزنا على الجلد فقط (¬2)، ويرى أن عقاب السرقة متروك لظروف الجاني وتقدير القاضي لها، وأن قطع اليد فقط للحالات المتكررة والسرقات الكبيرة (¬3)، وعقاب الخمر في العهد النبوي كان عقابًا بسيطًا وخفيفًا وأن جلد الأربعين لم يبدأ إلا في عهد عمر بن الخطاب الذي زاده أحيانًا إلى ثمانين، وقد يكون ذلك في نظره بسبب أنه انضاف إلى شرب الخمر إزعاج الرأي العام (¬4). ويحل مولانا محمد علي زواج المسلم من الهندوسية باعتبار أن لهم ديانة وكتبًا مقدسة اعتمادًا على أن بعض الفقهاء اعتبر أن الصابئة من أهل الكتاب (¬5)، ويرى أن الاختلاط بين الجنسين مباح بدليل أنه مباح في الحج وفي الصلاة وأنه أمر يعتمد على التقاليد الاجتماعية وحدها والأعراف السارية، ولا يمكن وضع ضوابط ثابتة وجامدة له (¬6). ومن تلاميذ سيد خان غلام أحمد برويز وهو من منكري السُّنَّة (¬7)، وطائفته طائفة مشهورة في باكستان وتهاجم بشدة من المسلمين وبخاصة من الجماعة الإسلامية، وللأستاذ أبي الأعلى المودودي صولات وجولات معه. هذه مجموعة من خلفاء سيد خان حملوا فكره واتبعوا طريقته، وهم نماء لمدرسة العصرانية في الهند. ¬

_ (¬1) Mulana Mohamed Ali, "the Religion of Islam", P.460. (¬2) المصدر نفسه P.616 - 620. (¬3) المصدر نفسه P.614. (¬4) المصدر نفسه P.622. (¬5) المصدر نفسه P.527. (¬6) المصدر نفسه P.242. (¬7) انظر: كتابه. " The challenge of Islam"

تجديد إقبال

تجديد إقبال: "إن العمل العظيم الذي أداه الدكتور محمد إقبال في مجال الإصلاح له قيمة كبرى لا ينساها التاريخ الإسلامي، والعمل المهم الذي أنجزه محمد إقبال هو أنه أعلن حربًا لا هوادة فيها ضد الغرب وحضارته المادية، فقد كان الرجل الوحيد في عصره الذي لا يدانيه أحد في تعمقه في فلسفة الغرب ومعرفته بحضارته وحياته، فلما نهض يفند فلسفته وأفكاره المادية بدأ يذوب سحر الحضارة الغربية الذي كان يذيب القلوب ويستولي على النفوس" (¬1). بهذه الكلمات وصف الأستاذ أبو الأعلى المودودي جهود محمد إقبال (1877 - 1938 م) في مجال الإصلاح والتربية؛ وهي شهادة لها وزنها من رجل عاصره وعرفه. ويضيق نطاق هذه الدراسة عن تعداد إصلاحات إقبال، إنما نعرض هنا لأحد كتبه الذي لا يذكر اسم إقبال في العالمين العربي والغربي إلا ويقرن به. ذلك الكتاب الذي كان في الأصل ست محاضرات ألقاها عام (1928 م) في الجامعات الهندية بطلب من الجمعية الإسلامية في مدراس وجمعت في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان: " Thout in islam reconstruction of Religious" وترجم إلى العربية بعنوان: "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، فهذا الكتاب في بعض محتوياته يناقض ويهز الصورة التي رسمها العلامة المودودي لإقبال. فهو في بعض فقرات الكتاب يحبذ صراحة تلك السرعة الكبيرة التي يتجه بها المسلمون روحيًا نحو الغرب، بعد أن ظل التفكير الديني راكدًا خلال القرون الخمسة الأخيرة، ويرى أنه لا غبار على هذا الاتجاه؛ لأن الثقافة الأوروبية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارًا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام، ورغم أنه أضاف أنه يخشى أن ينخدع المسلمون بالمظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية ويعجزوا عن إدراك كنهها وحقيقتها (¬2)، إلا أنه لم يخف إعجابه البالغ ¬

_ (¬1) مجلة البعث الإسلامي -العدد الرابع- المجلد السادس عشر شوال، 1391 هـ، ص 15، الرأي نفسه للعلامة أبي الحسن الندوي في الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية الصفحات - 93. (¬2) "تجديد التفكير الديني" إقبال ص 14، والطبعة الإنجليزية.7. P

بالإصلاحات التركية التي لا يماري أحد أنها كانت حركة تغريب وقعت فيما خشي منه إقبال نفسه، وهو الانبهار بالمظهر الخارجي للحضارة الغربية، ولكن إقبال كان يعتبرها حركة "اجتهاد" لإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكرة والخبرة في العصر الحديث، ويصفها بأنها أكثر اتفاقًا مع روح الإسلام (¬1). ويشيد بالطريقة التي يمارس بها التركي "الاجتهاد" في قضاياه السياسية والدينية مستوحيًا على النحو الذي يفعله حقائق التجربة وحدها، لا التفكير الفلسفي المدرسي لفقهاء عاشوا وفكروا تحت ظلال أحوال من الحياة متباينة (¬2)، ويقول: إن نهضة الإسلام المرتقبة لابد أن تحذو المثال التركي وأن تفعل ما فعله الترك فتعيد النظر في تراث الإسلام العقلي (¬3). ويستطرد للقول: إن معظم الأمم الإسلامية اليوم يكررون القول بالقيم التي قال بها السلف بطريقة آلية، أما تركيا فهي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، وهذه النقلة وهذه الحياة الجديدة الفسيحة الأرجاء المفعمة بالحركة، لابد أن تستحدث لتركيا مواقف توحي بآراء جديدة وتقتضي تأويلات مستحدثة للأصول، والمبادئ، تلك الأصول والمبادئ التي كانت لها قيمة نظرية فقط عند قوم لم يمارسوا الانفتاح (¬4). من هذه الآراء تتكشف معالم التجديد الذي يدعو إقبال الأمم الإسلامية إليه، فالتغير والحركة والنمو الذي يصيب العالم الإسلامي من اتجاهه نحو الغرب، يقتضي إعادة النظر في التراث وإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكر والتجربة المعاصرة، واستحداث تأويلات جديدة للمبادئ والأصول. وهذه هي معالم العصرانية (Modernism) بعينها فهل كانت تلك حقًا هي أفكار إقبال؟ وهل كان حقًا يدعو إلى هذا النوع من التجديد؟ ¬

_ (¬1) "تجديد التفكير الديني" إقبال ص 14، والطبعة الإنجليزية. 157. P (¬2) المصدر نفسه ص 182، والإنجليزية. 158. P (¬3) المصدر نفسه ص 176، والطبعة الإنجليزية. 153. P (¬4) المصدر نفسه ص 186، والطبعة الإنجليزية P,162.

تناقض إقبال: تصف مريم جميلة هذه الآراء بأنها "من الأخطاء الفكرية التي وجدت طريقها إلى مؤلفات محمد إقبال النثرية باللغة الإنجليزية"، وتقول: إن أسوأ ما في الأمر أن العالم الذي يتكلم الإنجليزية، "ينبغي أن تضاف العربية أيضًا"، والذي يجهل أشعاره بالأوردية والفارسية (¬1)، يعتقد أن هذا الكتاب يمثل بدقة أفكار العلامة محمد إقبال، وتؤكد أن إقبال نفسه اعترف في آخر حياته أنها خطأ كبير، وتسوق مقتطفات من شعره تناقض الآراء التي طرحها في الكتاب، وتعضد مريم جميلة أقوالها برسالة شخصية بعثها إليها المودودي جاء فيها: ". . . ولكن محمد إقبال بكل عبقريته الشعرية، لم يكن ينجو من الأخطار، ولسوء الحظ فإن كتاباته لا تخلو كلية من التناقضات، لقد كان إقبال يمر دومًا بمراحل مختلفة للتطور العقلي أثناء حياته، ولم يستطع أن يكوِّن فكرة صافية عن الإسلام إلا في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، ففي السنوات الأولى من حياته تداخلت أفكار ومؤثرات غربية مع أفكاره الإسلامية" (¬2). ونمضي قدمًا في قراءات أخرى لفكر إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام. والكتاب في الأصل كتاب فلسفي وهو محاولة كما يقول عنه مؤلفه لإعادة بناء الفلسفة الإسلامية بناء جديدًا آخذًا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة (¬3)، ويبحث إقبال في هذا الكتاب المعرفة المكتسبة عن طريق التجربة الحسية، والمعرفة المكتسبة عن طريق ما يسميه التجربة الدينية "الصوفية"، ويقارن بين نوعي المعرفة هذين ويناقش أيضًا حقيقة النفس وحريتها وخلودها والألوهية والنبوة وختم الرسالة ومبدأ التغير والحركة في الكون والمجتمع. وأقدم مثالين يظهر بهما ما عند إقبال من نظرة عصرانية. ويطالعنا المثال الأول في تلك التأويلات التي يقدمها لبعض العقائد والتي تشابه تأويلات سيد خان والفلاسفة الأولين. يقول عن قصة هبوط آدم: ¬

_ (¬1) للشاعر إقبال سبعة دواوين شعر. (¬2) انظر: "الإسلام بين النظرية والتطبيق" مريم جميلة ص 182 - 196، والطبعة الإنجليزية " Islam in Theory& Practice" P.246 - 259. (¬3) " تجديد التفكير الديني" ص 2.

"وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسًا حرة قادرة على الشك والعصيان" (¬1). ويقول عن الجنة والنار: "أما الجنة والنار فهما حالتان لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني؛ أي: لصفة أو حال" (¬2). أما المثال الثاني للنزعة العصرانية عند إقبال فتظهر واضحة في الفصل الذي كتبه عن الاجتهاد وسماه "مبدأ الحركة في الإسلام" (¬3)، ويقصد أن المبدأ الذي يواجه به الإسلام التغير والحركة هو الاجتهاد. ويعرف إقبال الاجتهاد ثم يقول: "وأصل الاجتهاد على ما أعتقد هو قول القرآن في آية مشهورة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وهذا الاستدلال يكشف أن إقبال، لم يكن -آنذاك على الأقل- عميق المعرفة بالثقافة الإسلامية" (¬4). ويطرح إقبال في ذلك الفصل هذا السؤال الذي هو شغل العصرانية الشاغل ". . . وانتقل الآن إلى النظر فيما إذا كان تاريخ الشريعة الإسلامية وبناؤها يتبين فيهما إمكان تفسير الشريعة ومبادئها تفسيرًا جديدًا، وبعبارة أخرى الموضوع الذي أود أن أثير البحث فيه هل شريعة الإسلام قابلة للتطور؟ ". وعنده أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى جهد عقلي عظيم، ويرى أن العالم الإسلامي عليه أن يواجه هذا السؤال بالروح التي كان يواجه بها عمر مشكلات الدين، ويصفه بأنه أول عقل ممحص مستقل في الإسلام. ولا ريب عنده أن التعمق في دراسة كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد، لابد من أن تجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي الذي يقول بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور. ثم يناقش تجديد أصول الفقه الإسلامي من أجل أن يتبخر الجمود المزعوم ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد. ¬

_ (¬1) "تجديد التفكير الديني" ص 99، والطبعة الإنجليزية. P.85 (¬2) المصدر نفسه ص 141، والإنجليزية P.132. (¬3) الصفحات 168 - 208، والطبعة الإنجليزية P.180 - 186. (¬4) انظر: "الفكر الإسلامي الحديث" محمد البهي ص 483.

تجديد أصول الفقه: إنه يرى أن القرآن هو الأصل للشريعة الإسلامية، وليس من شك في أن القرآن يقرر بعض المبادئ والأحكام العامة في التشريع، ولكن القرآن ليس مدونة في القانون، فغرضه الأساسي هو أن يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله وبينه وبين الكون من صلات. على أن الأمر الجدير بالملاحظة في هذا الصدد هو أن القرآن يعتبر الكون متغيرًا، ومن الواضح الجلي أن القرآن بما له من هذه النظرة لا يمكن أن يكون خصمًا للتطور، وأن المبادئ التشريعية في القرآن رحبة واسعة وأبعد ما تكون عن سد الطريق على التفكير الإنساني والنشاط التشريعي، وأن الرعيل الأول من الفقهاء اعتمدوا على هذه المبادئ واستنبطوا عددًا من النظم التشريعية، على أن مذاهبهم مع إحاطتها وشمولها ليست إلا تفسيرات فردية، وهم لم يزعموا أبدًا أن تفسيرهم للأمور واستنباطهم للأحكام هو آخر كلمة تقال فيها، وبما أن الأحوال قد تغيرت والعالم الإسلامي يتأثر اليوم بما يواجهه من قوى جديدة، فالرأي عنده "أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا، على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ". ثم ينتقل إلى أحاديث الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي هي الأصل الثاني العظيم للشريعة، وينقل رأي المستشرق جولد تسيهر بأن إخضاع الأحاديث للفحص الدقيق على ضوء القوانين المستحدثة في النقد التاريخي، يظهر أنها في جملتها لا يوثق بصحتها. . . ثم يتناول بالبحث مسألة يعتبرها هامة، وهي أن الفرق بين الأحاديث التي تتضمن أحكامًا تشريعية والأحاديث التي ليس لها طابع تشريعي. . . وحتى السُّنَّة التشريعية يرى أن يبحث عن مدى ما تضمنته من عادات كانت للعرب قبل الإسلام، فتركها الإسلام دون تغيير، وأخرى أدخل فيها النبي تعديلًا. وهل قبول النبي لها تصريحًا أو ضمنًا قد أريد بها أن تكون ذات صفة عامة في تطبيقها. ويستشهد بأن أبا حنيفة لم يكن أحيانًا يعتمد على هذه الأحاديث، وذلك في نظره موقف جد سليم ثم يقول: "إذا رأى أصحاب النزعة الحرة في التفكير العصري، أنه من الأسلم ألا تتخذ هذه الأحاديث من غير أدنى تفريق بينها،

أصلًا من أصول التشريع؛ فإنهم يكونون بذلك قد نهجوا منهج رجل من أعظم رجال التشريع بين أهل السُّنَّة". والإجماع عند إقبال الذي هو الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام، وهو يرى ضرورة انتقال حق الاجتهاد من الأفراد إلى هيئة تشريعية إسلامية؛ لأن ذلك هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة؛ لأن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة. وهو يتوقع لمثل هذه الهيئة التشريعية أن تخطئ خطأ فاحشًا في تفسير الشريعة؛ لأنها قد تتألف من رجال ليست لهم دراية بوقائع التشريع الإسلامي، ولكنه يستبعد أن يكون الحل تأليف لجنة دينية مستقلة، تكون لها سلطة الرقابة ويرى أن العلاج الوحيد الناجع للتقليل من وقوع الأخطاء في التأويل، هو إصلاح نظام التعليم القانوني وتوسيع مداه. ثم يتساءل عن إجماع الصحابة وهل إذا انعقد إجماعهم على أمر ما يكون ملزمًا للأجيال التي بعدهم؟ ويخلص إلى أن القول الجريء في ذلك هو أن الأجيال اللاحقة ليست ملزمة بإجماع الصحابة. والأصل الرابع من أصول الفقه هو القياس ويرى إقبال أن القياس كان في الأصل ستارًا يتوارى خلفه الرأي الشخصي للمجتهد، وأن النقد الدقيق الذي وجه لمبدأ القياس كان يهدف إلى كبح الميل إلى إيثار النظر المجرد والفكرة التي تدور في العقل على الأمر الواقع، على أن المنتقدين أنفسهم وقعوا في خطأ آخر، وهو أنهم رغم إدراكهم ما للواقع من شأن، إلا أنهم في الوقت نفسه جعلوه ثابتًا إلى الأبد وقصروا نظرهم على (السابقات) التي وقعت بالفعل في أيام النبي وصحابته، ثم يدعو إلى إحسان فهم وتطبيق مبدأ القياس وهو أنه حق طليق في حدود النصوص الملزمة. وعلى هذه الأسس يدعو إقبال العالم الإسلامي أن يقدم بشجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، الذي من أهم نواحيه الملاءمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها. إلا أن إقبال يضيف بعض التحفظات هي من خير ما كتب في هذا الفصل حين يقول: "إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن

محمد عبده وتلامذته

ينبغي لنا أن نقرر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي من أدق اللحظات في تاريخه. . . فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال. أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح إذا انعدم ما يكبح جماح حميتهم الفتية. . . إنه ينبغي ألا ننسى أن الوجود ليس تغيرًا صرفًا فحسب، ولكنه ينطوي أيضًا على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم. . . فليس في استطاعة أمة أن تتنكر لماضيها تنكرًا تامًا لأن الماضي هو الذي كيف شخصيتها الحاضرة". . محمد عبده وتلامذته: كثيرة هي الأقلام التي تناولت الشيخ محمد عبده (1226 - 1323 هـ / 1849 - 1905 م) بالدراسة، وبالنقد والتمحيص لآرائه وأفكاره، وقد بلغت إصلاحاته وآراؤه من الشهرة والذيوع ما يغني عن الدخول في تفصيلاتها. إنما نهتم هنا بالاتجاهات العصرانية عند محمد عبده، والتي تظهر في كتاباته، وبالأخص في تفسيره لبعض الآيات، وفي فتاواه، مما يجعل مدرسته الفكرية تضاهي وتشابه في بعض نواحيها مدرسة سيد أحمد خان في الهند، حتى إن تلميذه رشيد رضا لا يخفي إعجابه بمقالة نشرتها في ذلك الوقت جريدة الرياض الهندية عنوانها "هل ولد السيد أحمد خان ثانية بمصر وظهرت جريدته تهذيب الأخلاق بشكل المنار" (¬1). ففي منهجه لتفسير القرآن تتجلى واضحة النزعة إلى تفسير القرآن تفسيرًا يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في العصر (¬2)، ومن الأمثلة المشهورة لذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة الفيل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)} [الفيل: 3، 4]، بأنها جراثيم الجدري أو الحصبة يحملها نوع من الذباب أو البعوض (¬3). وتفسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق: 4] بأن المراد هنا "النمامون المُقَطِّعون لروابط الألفة"، "لأن ¬

_ (¬1) "تاريخ الإمام محمد عبده" رشيد رضا 1/ 716. (¬2) انظر لتفصيل ذلك: "التفسير والمفسرون" الذهبي 3/ 233 - 242، و"منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن" عبد الله شحاتة ص 83 - 135. (¬3) "الأعمال الكاملة لمحمد عبده" جمع وتحقيق: محمد عمارة 5/ 529.

السحرة المشعوذين يزعمون أنهم يقطعون الأواصر حتى بين المرء وزوجه بسحرهم". وقد اضطره لهذا التفسير إنكاره أن يكون السحر حقيقة ملموسة، بل هو عنده نوع من الأساليب الماكرة، وضروب من الحيل الخفية، ويأول ما جاء في القرآن عن السحر بأنه من قبيل "التمثيل"، ويرد الأحاديث الصحيحة فيه (¬1). وفي بعض فتاوى محمد عبده نجد محاولة لتأويل أحكام الفقه تأويلًا يتلاءم مع أهواء الحضارة الغربية، وتسويغ واقعها، ومن أهم فتاواه في ذلك حل إيداع الأموال في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها (¬2). وفي مقالة له عن تعدد الزوجات تحدث عن تاريخ التعدد عند الشعوب الأخرى، وعند العرب قبل الإسلام، وأن الإسلام قد خفف من العادة العربية في الإكثار من الزوجات، ووقف عند الأربعة رحمة بالنساء من ظلم الجاهلية، ولكنه يرى الآن للظروف والملابسات السائدة في المجتمع، ولاستحالة العدل بين النساء فلابد من منع تعدد الزوجات، إلا في حالات استثنائية يقررها القاضي (¬3). وهكذا نلمح عند محمد عبده بعض ملامح المنهج العصراني، من صرف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحيانًا بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورده للسُّنَّة الصحيحة أحيانًا لمعارضتها ما يظن أنه علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة ومصغرة، ربما بحكم ثقافته الأزهرية، إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته من بعده فتضخمت في مجموعة منهم وصارت مضاعفة مكبرة، ومن هؤلاء قاسم أمين وعلي عبد الرازق. قاسم أمين (¬4): سفور المرأة باسم الدين: القضية الأساسية التي نذر لها قاسم أمين (1863 - 1908 م) حياته، هي ¬

_ (¬1) "الأعمال الكاملة لمحمد عبده" جمع وتحقيق: محمد عمارة 5/ 566. (¬2) "تاريخ الإمام محمد عبده" 3/ 84. (¬3) المصدر نفسه 2/ 90 - 95. (¬4) ولد قاسم أمين من أب تركي وأم مصرية وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة خاصة بأبناء الأثرياء ثم التحق بالقسم الفرنسي في المرحلة التالية وبعدها درس الحقوق وعمل بالمحاماة ثم سافر في بعثة دراسية لفرنسا وبعد عودته التحق بالقضاء المدني.

قضية المرأة، فقد أراد لها أن تتحرر من تقاليدها الماضية وتقتدي بالمرأة الغربية، وقد كان ذلك هو محور آرائه في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، فقد أعلن بلا مواراة أن التمسك بالماضي هو من الأهواء التي يجب أن ينهض الجميع لمحاربتها؛ لأنه ميل يجر إلى التدني والتقهقر وأنه هو الداء الذي تلزم المبادرة إلى علاجه، وليس له من دواء إلا معرفة شؤون المدنية الغربية والوقوف على أصولها وفروعها وآثارها، وهو مؤمن أن الغربيين قد وصلوا إلى درجة رفيعة من الأدب والتربية مثل ما أنهم متقدمون في العلوم والصنائع، ومسألة حقوق المرأة وحريتها عند الغرب ليست في نظره مجرد عادة اجتماعية بل هي مسألة علمية، والحقيقة أنهم درسوها -كما يقول- درسًا تامًا كغيرها من المسائل الاجتماعية، إذ يصعب على العقل أن يظن أن علماءهم الذين يجهدون أنفسهم في اكتشاف أسرار الطبيعة يغفلون عن هذه المسألة أو يهملونها، وهذا هو السبب الذي جعله يضرب الأمثال بالأوروبيين ويشيد بتقليدهم، وحمله على أن يستلفت الأنظار إلى المرأة الأوروبية لأن المدنية الإسلامية "ولا يقول الدين الإسلامي"، أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها (¬1). وهذا الإيمان العميق عند قاسم أمين بحضارة الغرب وقيمها وآدابها ليس أمرًا مستغربًا ولا مثيرًا للدهشة، بل هو الثمرة الطبيعية لثقافته الغربية البحتة ودراساته في فرنسا، ولكن الأمر الذي يستلفت النظر هو أنه دعا المرأة المسلمة لأن تقلد المرأة الغربية في كل شؤون حياتها، وحبذ لها أن إسلامها ودينها لا يعارض هذا التقليد. ومع أنه يعترف بقلة بضاعته في الثقافة الإسلامية؛ وأنه قليل الاطلاع على ما كتبه المسلمون قصير الباع في علومهم (¬2)، ومع أنه يقول عن نفسه "لست أحب الخوض في حديث عن الدين لأسباب تتعلق بطبيعتي الخاصة وبحرصي على مراعاة اللياقة العامة" (¬3)، وكلنا يفهم مغزى هذا الاعتراف، إلا أنه مع ذلك ناقش أمهات المسائل الدينية الخاصة بالمرأة من الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتعليم المرأة وعملها، وكانت المهمة الصعبة أمامه هي أن يوفق ¬

_ (¬1) "المرأة الجديدة" قاسم أمين، "الأعمال الكاملة"، تحقيق: محمد عمارة 2/ 203 - 221. (¬2) المصدر نفسه ص 210. (¬3) المصريون، "الأعمال الكاملة" لقاسم أمين 1/ 296.

بين الآراء الغربية وبين الشرع، وقد فعل ذلك ببساطة تثير العجب باستخدام مبدأين مفضلين لدى العصرانيين: المبدأ الأول أنه يرى أن أحكام الشرع في هذه المسائل ليست أحكامًا ثابتة؛ بل هي أحكام متغيرة مع الزمان والمكان، ويشرح ذلك في هذه العبارة: "الشريعة الإسلامية إنما هي كليات وحدود عامة، ولو كانت تعرضت إلى تقرير جزئيات الأحكام لما حق لها أن تكون شرعًا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل أمة ما يوافق مصالحهما"؛ ثم يقول: "فالأحكام المبنية على ما يجري من العوائد والمعاملات فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان، فتبين لنا من ذلك أن لنا في مأكلنا ومشربنا وجميع شؤون حياتنا العمومية والخصوصية في أن نتخير ما يليق بنا ويتفق مع مصالحنا بشرط ألا نخرج عن تلك الحدود العامة" (¬1). واستنادًا على هذا المبدأ الموسع الفضفاض يرى أن الإسلام يمكن أن يتلاءم ببساطة مع كل التطورات (¬2)، ويقول مع أنه من المهم أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي القديم ونرجع إليه، ونقف على ظواهره وخفاياه لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ولكن من الخطأ أن ننسخ منه صورة ونحتذي مثال ما كان فيه سواء بسواء؛ لأن كثيرًا من ظواهر هذا التمدين لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الحالية (¬3). والمبدأ الثاني الذي يستخدمه قاسم أمين هو "أن أقوال النبي (¬4) لا تشكل كلها جزءًا من الدين، فمن الطبيعي أن ننحي من هذه الأقوال تلك المحادثات الأليفة والنصائح الخلقية والحكم الفلسفية، التي لا تشكل التزامات وواجبات دينية، كما يجب أن ننحي أيضًا كل ما لا علاقة له بالفقه والتشريع، وتبقى بعد ذلك الأحاديث القليلة التي تفسر أو تكمل التوجيهات التي يتضمنها القرآن الكريم، بعد تحقق جاد من روايتها، أو بملاحظة مطابقتها مع نص القرآن أو روحه" (¬5). ¬

_ (¬1) تحرير المرأة، المصدر نفسه 2/ 111. (¬2) المصريون، المصدر نفسه 1/ 328. (¬3) "الأعمال الكاملة" 2/ 203 - 206 (تحرير المرأة). (¬4) صلوات الله وسلامه عليه. (¬5) "الأعمال الكاملة" 1/ 326 (المصريون).

وتحت مظلة هذين المبدأين دعا المرأة إلى ترك الحجاب "لأن الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق، وإن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب" (¬1). ودعاها إلى الاختلاط "لأن نساء العرب ونساء القرى المصرية مع اختلاطهن بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا، أقل ميلًا للفساد من ساكنات المدن اللائي لا يمنعهن الحجاب عن مطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد، وهذا مما يحمل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة عن المرأة المحجوبة" (¬2). ودعا إلى تعليم وعمل المرأة المسلمة تمامًا مثل الغربية، وشجعها على تعلم الموسيقى والرسم والتصوير وعاب على "من يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار"، وتحسر أنه "ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف ما لها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم" (¬3). وفي مسألة الطلاق دعا إلى تقييد الطلاق بسلسلة من الإجراءات، واقترح أن يعتبر الطلاق غير صحيح إلا إذا وقع أمام القاضي (¬4). وتعدد الزوجات في نظره ". . احتقار شديد للمرأة، وأنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها" (¬5). هذه بعض "أبواب الإصلاح" التي طرقها قاسم أمين باسم الشرع والدين، ونحن الآن بعد قرابة القرن من صدور كتابيه (¬6) يمكننا بالنظر في أحوال المرأة المصرية وأوضاعها الراهنة، أن نتبين ونلمس كيف كانت دعوته "إصلاحًا" لعقول النساء للإلقاء بأنفسهن طائعات في طوفان الحضارة الغربية. علي عبد الرازق: شرعية فصل الدين عن الدولة: من الأفكار الرئيسية في الحضارة الغربية المعاصرة فكرة فصل الدين عن ¬

_ (¬1) "الأعمال الكاملة" 2/ 220 (المرأة الجديدة). (¬2) المصدر نفسه 2/ 59 (تحرير المرأة). (¬3) المصدر نفسه 2/ 199 (المرأة الجديدة). (¬4) المصدر نفسه 2/ 104 (تحرير المرأة). (¬5) المصدر نفسه 2/ 90 - 94 (تحرير المرأة). (¬6) صدر كتاب "المرأة الجديدة" في 1900 م، وتحرير المرأة قبله بعام.

الدولة، وبعد إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا بعام واحد؛ أي: في عام (1344 هـ / 1925 م) صدر في القاهرة كتاب مشهور بعنوان: "الإسلام وأصول الحكم" لأحد علماء الأزهر الشيخ علي عبد الرازق، مستمدًا نفس الفكرة الغربية الفصل بين الدين والدولة (¬1)، لا ليدافع عنها من ناحية علمانية بحتة ولكن ليضفي عليها الشرعية الإسلامية، وليعتبرها أحد أفكار الإسلام الجوهرية. والطريقة التي اتبعها علي عبد الرازق لإدخال هذه الفكرة الغربية في الإسلام، وإلباسها الزي الإسلامي بتأويل أحكام الكتاب والسُّنَّة والفقه، تضع كتاب هذا العالم الأزهري في قمة إنتاج فكر العصرانية. وعلي عبد الرازق درس بالأزهر وحصل على العالمية منه، وتلقى محاضرات في تاريخ الأدب العربي وتاريخ الفلسفة في الجامعة المصرية على يد بعض المستشرقين، ثم سافر إلى إنجلترا ليكمل دراسته في جامعة أكسفورد، ولكنه لنشوب الحرب العظمى عاد إلى وطنه واشتغل بالقضاء الشرعي (¬2). ولم يكن علي عبد الرازق تلميذًا مباشرًا لمحمد عبده، ولكنه كان أثرًا من آثار النزعة الحرة في مدرسته. والفكرة الأساسية التي يدور حولها كتابه "إن الخلافة نظام تعارف عليه المسلمون تاريخيًا وليس في أصول الشريعة ما يلزم به، وقد تصدى لهذه الفكرة كتاب قبله أصدرته حكومة الكمالين وهو كتاب "الخلافة وسلطة الأمة". فكتاب علي عبد الرازق لا يكاد المرء يظفر فيه بفكرة جديدة، ولكن الكتاب يمتاز بجمال الأسلوب أكثر من امتيازه بالتزام المنهج العلمي، وخطورته ترجع إلى الظروف التي أحاطت بظهوره، كما ترجع إلى جرأته وعنفه في مصادمة عواطف الناس وفي تحدي مشاعرهم، وفي التشكيك الساخر أحيانًا فيما تطمئن إليه نفوسهم، دون أن يقدم الأدلة القوية الواضحة على ما يذهب إليه من مزاعم تخرج عن المألوف (¬3). والكاتب يجيد "الروغان" حول الآيات والأحاديث، وهو أكثر مهارة في ¬

_ (¬1) انظر: "الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي" محمد البهي ص 265. (¬2) "الإسلام والتجديد في مصر" تشالز آدمز، ترجمة: عباس محمود ص 252. (¬3) "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" محمد محمد حسين 2/ 86.

"الروغان" من آرائه التي يعلنها بنفسه حتى ولو خطتها يمينه. ومن أطرف ما يمكن أن يقرأ دفاعه عن نفسه عند محاكمته، ووصمه الناس بعدم فهم مقاصد كلامه ومعانيه، ثم ما نشره بعد ذلك في الصحف دفاعًا عن "دفاعه"، عندما اتهم بالتردد والرجوع عن آرائه أمام المحكمة (¬1). والنتيجة التي انتهى إليها علي عبد الرازق يلخصها في خاتمة الكتاب بهذه الكلمات "إن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وأنها ليست في شيء من الخطط الدينية. . . كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة" (¬2). يناقش علي عبد الرازق ما يورد من أدلة على الخلافة من آيات القرآن، فيذهب إلى أن معناها أوسع وأعم من أن يقصد به الخلافة، وأما ما ورد من الأحاديث في شأن الإمامة والبيعة والجماعة وغيرها، فهي لا تصلح دليلًا لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية، وحكمًا من أحكام الدين، إذ هي لا تدل على أكثر مما دل عليه ذكر المسيح لبعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر، ثم يناقش دليل الإجماع من أن المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا أجمعوا على وجوب نصب خليفة، فيورد أن الخلافة الإسلامية كانت منذ عهد أبي بكر الصديق إلى هذا اليوم عرضة للخارجين عليها المنكرين لها. ولحركة المعارضة هذه تاريخ كبير جدير بالاعتبار، وأنها أحيانًا كانت تتخذ شكلًا قويًا مما جعل الخلافة لا ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة والبطش، فهل بعد هذا يمكن أن يدعى الإجماع عليها؟ (¬3). ثم يقول: "إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحًا ما يقولون، من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح ¬

_ (¬1) راجع: النصوص الكاملة للمحاكمة ودفاعه في الدراسة التي قدم بها محمد عمارة لكتابه "الإسلام وأصول الحكم". . (¬2) "الإسلام وأصول الحكم" ص 182. (¬3) المصدر نفسه ص 121 - 134.

الرعية يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة ومن أي نوع، مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية" (¬1). ويؤكد علي عبد الرازق أن زعامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت زعامة دينية وولاية روحية، لا شأن لها بالحكم والسياسة. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسع إلى تأسيس دولة. وأن كثيرًا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن موجودًا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن بعض ما يشبه أن يكون في السيرة النبوية من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطة، كان فقط وسيلة لجأ إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - تأييدًا للدعوة وتثبيتًا للدين (¬2). ثم يدرس الشيخ علي الخلافة والحكومة في التاريخ الإسلامي، ليقرر أن الإسلام نظام ديني لا صلة له بأنظمة السياسة، وأن ما تعارف عليه المسلمون من نظام للحكم فهو مسألة تاريخية لا دخل للدين بها، وأن دولة العرب قامت كما قامت من قبلها دول وقامت من بعدها دول، ولهذا لا شيء في الدين يمنع المسلمين من أن يهدموا نظام الخلافة، ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا وصور لهم الخطأ والوهم أنه من الدين، وأن يبنوا نظام حكومتهم على ضوء تجارب الأمم الأخرى وما أنتجته العقول البشرية في علوم الاجتماع والسياسة (¬3). والذي يرمي إليه علي عبد الرازق هو أن يأخذ المسلمون نظم الغرب السياسية ويؤسسوا حكمهم عليها، ولكن أخطر ما في الأمر والذي أثار الضجة العالية عن الكتاب هو أنه لم يدع إلى ذلك بالصراحة التي ينادي بها دعاة التغريب والعلمانيون، وإنما قدم دعوته في قالب الإسلام، وغلفها بغلاف الشرع، واحتج عليها بحجج دينية، وتلك هي العصرانية في صورة من أوضح صورها، وبوجه من أكثر وجوهها سفورًا وبروزًا. ¬

_ (¬1) "الإسلام وأصول الحكم" ص 135. (¬2) المصدر نفسه ص 139 - 167. (¬3) المصدر نفسه ص 174 - 182.

الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي 2 - الطبقة الثانية من المفكرين

2 - الطبقة الثانية من المفكرين

الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي 2 - الطبقة الثانية من المفكرين تمهيد: الطائفة الأولى من المفكرين الذين حواهم الفصل السابق طائفة تقدمت ومضت، أما الطائفة الثانية التي يتناولها هذا الفصل فمجموعة جديدة من المعاصرين، بعضهم لا يزال حيًا، وسوف نرى كيف أنهم خلفوا أولئك، وبعثوا الحياة في أفكارهم وآرائهم، وشرحوا ووسَّعوا، وقعَّدوا القواعد، وأضافوا وحذفوا، فكانوا بذلك حلقة في سلسلة متصلة، وعرضًا جديدًا لفكر قديم. محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان محمد أسد (أو ليوبولدفايس) مستشرق نمساوي الأصل، كان في أول أمره مراسلًا للصحف الأوروبية في الشرق الأوسط، وبعد تجوال في ربوعه وبخاصة في جزيرة العرب هداه الله فأعلن إسلامه في عام (1926 م). وبعد فترة من العيش بالمملكة العربية السعودية انتقل إلى الهند، ومكث فيها مدة طويلة، وكانت

له صلات قوية بالحركة الفكرية فيها، وبعد إنشاء حكومة باكستان عمل في خدمة حكومتها، حتى استقال من خدمتها عام (1952 م) وكان يشغل منصب ممثلها في الأمم المتحدة (¬1). وقد عرفه العالم العربي من خلال أول كتاب ترجم له إلى اللغة العربية بعنوان: "الإسلام على مفترق الطرق"، وصدرت الترجمة عام (1946 م)، واشتهر وذاع بسبب هذا الكتاب الذي لاقى انتشارًا واسعًا يتضح من تعدد طبعاته. ومن خلال الكتاب -يبدو فكر المؤلف ناصعًا ورؤيته واضحة، وبخاصة لمعايب الحضارة الغربية ولأخطار تقليدها على المسلمين، ولمزايا الإسلام عليها ولأهمية التمسك بأسسه وأصوله الكتاب والسُّنَّة. ولما كان المؤلف من أبناء الغرب وأهله أحدث نقده للحضارة الغربية، وشهادته للإسلام بغض النظر عن قيمة محتواه، تأثيرًا قويًا ولاقى رواجًا وإعجابًا. ولكن كتب المؤلف الأخرى لا تعطي الانطباع الذي يعطيه كتابه السالف، وإذا استبعدنا كتابه "الطريق إلى مكة المكرمة" الذي هو قصة أدبية رائعة عن الثلاثين سنة الأولى من حياته واعتناقه الإسلام، ولا يعد كتابًا فكريًا، فإن كتبه الأخرى (¬2) تنضح بفكر عصراني خالص، حتى إن المرء لا يجانب الصواب كثيرًا إذا وصفه -وبخاصة في ترجمته لمعاني القرآن والحواشي والهوامش التي ضمتها الترجمة- بأنه نسخة أوروبية لسيد خان، أعظم مفكري العصرانية المسلمين. ولا غرو فإنه لتأثره بالمادية الغربية التي لا تؤمن بما وراء المحسوس المشاهد، لم يستطع أن يتخلص من بقاياه الجاهلية، فأقبل في الإسلام على العصرانية يأول ويفسر كل شيء في حدود عالم الحس وأذواق الغرب. ويقدم لنا محمد أسد -تمامًا كسيد خان- نموذجًا متكاملًا للفكر العصراني الإسلامي، إذ لم يقتصر فكره في دائرة واحدة من دوائر الإسلام، بل شمل العقائد والتفسير والحديث والفقه. ونقدم هنا أمثلة قليلة من ذلك. ¬

_ (¬1) "الطريق إلى مكة المكرمة" محمد أسد، ترجمة: عفيف البعلبكي ص 16، و"الإسلام على مفترق الطرق" محمد أسد، ترجمة: عمر فروخ ص 12 - 14. (¬2) من كتبه "منهاج الإسلام في الحكم"، وترجمة لـ"معاني القرآن"، وترجمة لـ"صحيح البخاري" إلى الإنجليزية.

المفتاح الأساسي لفهم القرآن في نظره هو في الآية السابعة من سورة آل عمران {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]؛ يقول: "فهذه الآية هي التي تجعل رسالة القرآن سهلة التناول {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. وهو يعرف المتشابه بأنه تلك الآيات التي جاء التعبير فيها بطريقة مجازية، والتي تتضمن معنى رمزيًا لا يمكن الإفصاح عنه مباشرة ولو في كلمات كثيرة. أما لماذا يحتوي القرآن على المتشابه فيقول: لأنه يتحدث عن عالم (الغيب) ذلك العالم الذي هو وراء إدراك البشر الحسي، ولما كان العقل البشري لا يدرك الأشياء ولا تكون عنده معرفة إلا من خلال تجاربه الماضية (هكذا يقول)، فلا يمكن نقل معاني (الغيب) له إلا باستعارة أمثلة وتشبيهات تؤخذ من نفس هذه التجارب، أو كما يقول الزمخشري (تمثيلًا لما غاب عنا بما نشاهد)، ثم يقفز من ذلك إلى النتيجة التالية (وهكذا يبين لنا القرآن بوضوح أن كثيرًا من تعبيراته وآياته يجب أن تفهم باعتبار أنها متشابهة، لسبب بسيط وهو أنها لتخاطب العقل البشري فلا يمكن أن تخاطبه بغير هذه الطريقة، فإذا أخذنا كل تعبير في القرآن وكل كلمة وكل آية بمعناها الظاهري الحرفي، وغضضنا الطرف عن احتمال أن تكون متشابهة، أو رمزًا أو مثالًا، فإننا نسيء إلى روح النص القرآني ذاته" (¬1). ومن خلال اعتبار كثير من نصوص القرآن رموزًا وأمثلة، يمكن لأي امرئ أن يفسر ما شاء كيف شاء، ولم لا؟ فهل يمكن الادعاء إن للرمز معنى واحدًا بعينه هو المعنى المقصود دون غيره؟ وهذا ما فعله محمد أسد، فقد أوّل ما شاء كيف شاء ضاربًا بقواعد اللغة وبكثير من تفسيرات السلف عرض الحائط، ولم يتقيد بها -كما يقول- أليس من: "مزايا القرآن الفذة أنه كلما ازدادت معرفتنا بهذا العالم، وازدادت تجاربنا كلما تكشفت لنا آياته عن معانٍ ثرة جديدة لم تخطر من قبل" وهذا في ظاهره صحيح إذا أريد به أن معاني القرآن الأولية، يمكن أن تتسع للفهم بازدياد معرفة البشر، ولكن اتساع الفهم لا يناقض المعنى الأولي الأساسي، فهل هذا الذي يقصده محمد أسد؟ من عبارته التالية يبدو أن الذي يقصد إليه أن النص الواحد يمكن أن تكون له معانٍ متعددة، بل ومتناقضة حسب ثقافة المفسر المتاحة له في عصره، فهو يستمر ليقول: ¬

_ (¬1) Asad, "the Message of the Quran" P.66,989

"لقد أدرك أسلافنا العظماء هذه الحقيقة إدراكًا كاملًا، وفي تفسيرهم للقرآن اقتربوا من نصوصه من خلال (عقولهم)، أو بعبارة أدق حاولوا شرح معاني القرآن على ضوء اللغة العربية والسُّنَّة جنبًا إلى جنب مع المعارف العامة المتاحة لهم، مما تجمع لدى المجتمع الإنساني حتى عصرهم من تجارب وثقافة، ولهذا كان من الطبيعي أن يختلف في أحيان كثيرة فهم أحد المفسرين لآية من القرآن عن فهم من سبقوه، وقد يكون ذلك الاختلاف -وغالبًا ما يكون- حادًا وواسعًا، ويناقض بعض المفسرين بعضهم بعضًا، ولكن ذلك لم يخلق عداء بينهم، لإدراكهم لعنصر النسبية في التفكير البشري، وأنه لا أحد يبلغ الكمال" (¬1). ولنأخذ مثلًا كيف يفسر محمد أسد صفات الله الواردة في القرآن. يقول: بما أن الله -عز وجل- كائن لا تحده حدود الزمان والمكان فإن كل ما يمكننا أن ندركه عنه ما يسمى بالصفات السلبية (What he is not)، أما صفاته الثبوتية فلا يمكن أن نكون عنها إلا فكرة ناقصة عن طريق استعارات وأمثلة عامة ومجملة. ولهذا فهو يعتبر هذه الصفات مجازات لابد من تأويلها، فيقول عندما يوصف الله تعالى بأنه في السماء أو أنه: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فإن هذه ليست إلا أداة لغوية لتقرب لنا معنى فوق إدراك البشر، وهو قدرة الله الواسعة وسلطانه القاهر فوق كل شيء وكذلك عندما يوصف الله بأنه (السميع) (البصير) فإن ذلك لا يمت بصلة إلى ظاهرة السمع والبصر العضوية، ولكنه فقط يصور بطريقة مفهومة للعقل البشري حضور الله عند كل شيء وكل حدث. وكذلك كثير من الصفات التي يبدو لأول وهلة أنها تعني التجسيم، مثل الغضب والفرح والحب و {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وأمثالها فهي لا تعدو أن تكون (تراجم) في لغة بشرية، ورموزًا لأفعال الله تعالى (¬2). ونفس الرموز -في رأي أسد- موجودة في وصف القرآن لليوم الآخر والحياة الثانية، والجنة والنار. وكل ما جاء من وصف لهذه الأمور ما هو إلا رموز مأخوذة من تجاربنا، فكأن القرآن يقول لنا: "تخيلوا كل ما يمكن لكم تخيله مما ¬

_ (¬1) Asad, "the Message of the Quran" P.VIII. (¬2) المصدر نفسه P.99,990.

ينعم به الإنسان نفسيًا وبدنيًا، وتخيلوا نعيمًا فوق ما تتخيلون بأضعاف مضاعفة، ونعيمًا في ذات الوقت مختلفًا عن كل ما تتخيلون، فإنكم فقط حينئذ تكونون قد أدركتم لمحة وإن كانت غامضة عما يسمى (الفردوس). ونفس الأمر صادق أيضًا عن وصف القرآن للنار" (¬1). وهو بذلك يعني أن وصف القرآن للجنة والنار لا ينبغي أن يؤخذ على ظاهره، أو على أنه وصف لحقائق واقعة، بل هو مجرد تمثيل وتصوير. وهو ينظر إلى بقية أمور الغيب والسمعيات الأخرى، مثل الجن والملائكة والمعجزات، بالنظرة نفسها، أي: أنها كلها رموز وأمثلة. وبكل (تمحل) يعطيها تفسيرات في حدود عالم الحس وليس له من دليل إلا الحدس والتخمين والخيال الواسع. فقصة أهل الكهف -مثلًا- ونومهم لمدة ثلاثمائة عام ثم استيقاظهم يرى أنها ليست إلا "أسطورة"، واعتمادًا على الاكتشاف الحديث لما سمي مخطوطات البحر الميت Dead sea scrolls، يرى أن المقصود بأهل الكهف مجموعة من اليهود كانت تعزل نفسها في الكهوف تفرغًا لدراسة الصحف المقدسة ونقلها وكتابتها. ولما كان الناس من حولهم يعظمونهم وينظرون إليهم نظرة قدسية، فمن المحتمل جدًا أن يكونوا قد نسجوا حولهم بسبب عزلتهم التامة عن العالم، أسطورة النوم لمدة طويلة ثم (الاستيقاظ) بعد أن يكونوا قد أكملوا مهمتهم المقدسة؛ أي: أن القرآن يحكي فقط أسطورة شائعة. ولكن لماذا يحكيها القرآن؟ يقول: إن القرآن يستخدمها بطريقة رمزية بحتة ليوضح أولًا قدرة الله الكاملة على الإماتة -"النوم"- والإحياء -"الاستيقاظ"-؛ ويشير ثانيًا من خلالها إلى التضحية التي يمكن أن يدفع إليها الإيمان، فيعتزل قوم أتقياء العالم الفاسد نجاة من شروره (¬2). وكذلك يرى أن قصة سليمان -عليه السلام- التي يحكيها القرآن والمعجزات التي تصاحبها كلها كانت أساطير شائعة عند العرب وأهل الكتاب من يهود ونصارى ¬

_ (¬1) Asad, "the Message of the Quran" P.99 .. (¬2) المصدر نفسه. P.438

حين نزول القرآن، ومن الممكن إعطاؤها تفسيرات "عقلية"، "هكذا يقول: فلديه تفسيرات جاهزة لكل شيء، ولكن لا فائدة في ذلك لأن القرآن وجد هذه الأساطير في البيئة التي نزل فيها، فحكاها كما هي دون أن يؤكد صحتها أو يدحضها فاستخدمها لأنها كانت ضاربة بجذورها فى عقول الناس، ليبث من خلالها بعض مفاهيمه العقدية والأخلاقية" (¬1). وإذا كانت هذه أمثلة لواحدة من وسائله لرفض المعجزات باعتبارها أساطير فقط، إلا أنه في أحيان أخرى يعطيها تأويلات تبعدها أن تكون خارقة للعادة. من ذلك مثلًا قصة إبراهيم مع الطيور الأربعة، ففي نظره أن إبراهيم لم يقتل الطيور ولم يقطعها أجزاء ثم أحياها الله بعد ذلك، بل كل ما في الأمر أنه علَّم الطيور ودرَّبها على طاعته وإجابة أوامره، وهذا عنده هو معنى {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260]، ثم إن إبراهيم وضع كل طائر على جبل، ثم حين دعاها أجابته. والمغزى من ذلك أنه إذا كانت الطيور بمثل هذا التعليم والتدريب تطيع الإنسان ولا تعصي أمره، فكذلك الله -عز وجل- الذي يطيعه كل شيء، فهو قادر على أن يحيي الموتى بأمرهم بكلمة منه "كن" (¬2). ويقول عن الحوت الذي التقم يونس -عليه السلام- أن القرآن يذكره بأداة التعريف (الحوت) لأن أسطورته كانت معروفة فهو بذلك حوت معروف معهود. وفي هذه المرة لا يكتفي بالقول أنه أسطورة بل يعطيه تفسيرًا من تفسيراته (العقلانية) من بنات أفكاره، فيقول: مما لا شك فيه أن التقام الحوت هنا ما هو إلا رمز للغم والكرب الذي وقع فيه يونس (¬3). ويفسر حجارة السجيل في سورة الفيل مثل تفسير محمد عبده، الذي صرح في مقدمة الكتاب أنه تأثر به كثيرًا واقتبس منه في عدة مواطن (¬4)، فسبب هلاك أصحاب الفيل كان وباء الجدري أو الحصبة، والطير الأبابيل في تفسيره هي ناقلات ذلك الوباء (¬5). ¬

_ (¬1) Asad, "the Message of the Quran" P.99. (¬2) المصدر نفسه P.59. (¬3) المصدر نفسه P.691. (¬4) المصدر نفسه P.V. (¬5) المصدر نفسه P.976.

والأمثلة كثيرة ومتعددة، وبإيجاز يمكن القول أن أي معجزة في القرآن ضاق عقل أسد المادي عن إدراكها، راح يأولها بهذه الجرأة وبهذا الخرص والخبط. الفقه من خلال ذوقه الأوروبي: وإذا كانت هذه نظرة أسد إلى أمور العقيدة ومنهجه في تفسيرها؛ فكيف ينظر إلى مسائل الفقه التي لا يستسيغها "ذوقه" الأوروبي. ويأتي أولًا السؤال ما الذي لا يستسيغه "الذوق" الأوروبي من الفقه الإسلامي، ثم ننظر ثانيًا في "المنهج العلمي" الذي يقدمه أسد لتأويله ليوافق "ذوق" الغرب المتحضر. نختار ثلاث دوائر من التي يكثر اعتراض الغرب عليها في الإسلام: "وضع المرأة، والحدود، والربا". والأمثلة عن هذه تكفي. أما عن المرأة فنكتفي برأي أسد في الحجاب. يقول عن قوله تعالى في ذلك في سورة النور: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] أن المقصود بها اللباس المحتشم وستر الزينة، إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية" (¬1)؛ أي: العادة الجارية في مجتمعه. ويعيب على المفسرين الأوائل أنهم قصروا ما يظهر على الوجه والكفين فقط وأحيانًا أقل، ويقول أن معنى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أوسع من ذلك، ويرى أنه لفظ عام، وأنه بعمومه قصد منه أن يفتح المجال للتغيرات التي تحدث في حياة الإنسان الخلقية والاجتماعية في كل زمان. إن الأمر البالغ الأهمية هو في "غض البصر وحفظ الفرج"، وما يحقق هذه الغاية في كل زمان هو الذي يحدد ما يعد من "الحشمة أو ما لا يعد في مظهر الإنسان الخارجي" (¬2)؛ أي: أن المقياس والمعيار الأساسي هو الحشمة، وليس لذلك حدود إلا ما تحدده عادة المجتمع الجارية وليس بالضرورة أن يكون ذلك ستر ما عدا الوجه والكفين. ¬

_ (¬1) هذه جملة مبتورة نُسبت إلى القفال في "تفسير الرازي". وعبارة القفال الكاملة هكذا: (معنى الآية إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية وذلك في النساء الوجه والكفان). انظر: "التفسير الكبير" للرازي سورة النور آية 31، 23/ 205، ط أولى المطبعة البهية القاهرة. . (¬2) المصدر نفسه P.538.

وفي مجال الحدود نأخذ مثالًا رأيه في عقوبة الحرابة، وخلاصة رأيه: أن من يظن أن (العقوبات الوحشية) الواردة في الآية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، من يظنها عقوبات شرعية، فقد وقع في خطأ بالغ، وأن ما ذهب إليه المفسرون من أن المقصود بهذه الآية فرض عقوبات جنائية رأي مرفوض مطلقًا، مهما كانت الأسماء التي قالت بهذا الرأي كبيرة ومشهورة. ويؤكد أن الآية لا تنشئ أمرًا ولا تقصد تنفيذ طلب بل هي تقرير لحقيقة ويسوق لتأييد رأيه بعض الحجج، من ذلك أن الأفعال الواردة في هذه الآية {يُقَتَّلُوا} {يُصَلَّبُوا} {تُقَطَّعَ} {يُنْفَوْا} واردة بصيغة المضارع، ولا يفهم منها الأمر والطلب "وهذا مثال لأحد المواضع التي يظهر فيها ضعفه في اللغة". ومن الحجج أيضًا أن صيغة هذه الأفعال تدل على المبالغة، ويفهم هو من ذلك أن المقصود أن القتل والصلب والقطع هو لأعداد كبيرة، فهل يمكن أن يكون المقصود أن يعاقب عدد كبير من المحاربين ويعفى عن البقية؟ إذا كان القصد السجن فليس ذلك نفيًا من كل الأرض، وإذا كان المقصود النفي من دار الإسلام فدار الإسلام ليست هي كل الأرض. ومن أقوى الأدلة عنده على أن الآية لا تقرر عقوبات شرعية؛ لأن العقوبات الواردة فيها قد ذكرها القرآن على لسان فرعون الذي هو مثال الطغيان والشر والعدوان في القرآن، حين قال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} [الأعراف: 124]، "فهل يعقل أن يجعل القرآن هذه عقوبات شرعية للمجتمع المسلم، وقد اعتبرها في موضع آخر جريمة نكراء من جرائم عدو الله فرعون؟ ". ويخلص من ذلك إلى أن التفسير الصحيح للآية أنها تقرر حقيقة، وهي أنه لا مهرب لمن يحاربون الله ورسوله من العقاب الذي يجرونه على أنفسهم بأنفسهم وذلك أنه بسبب ما يحدث من الصراع بينهم، فإنهم يقتلون أنفسهم بأعداد كبيرة، ويعذبون ويشوهون بعضهم بعضًا بأعداد كبيرة، إلى الحد الذي يقطعون فيهم دابر بعضهم بعضًا أحيانًا {يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}؛ ويرى أن هذا التفسير هو الذي يستقيم مع سياق الآية وتزول به الاعتراضات التي يعترض بها على التفسير الأول (¬1). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" للرازي. 148. P

العصرانية وتطوير الدين

وعن الربا يقول أن تعريفه لم يزل أمرًا مشكلًا للفقهاء، وأنهم عرَّفوه بحسب الظروف الاقتصادية السائدة في عصورهم، وأنه بالنظر إلى الاقتصاد السائد عند العرب عند نزول تحريم الربا يمكن تعريفه في ضوء ذلك عمومًا بأنه الفائدة التي تجنى من الدين استغلالًا لحاجة الفقير المحتاج، من غني قادر، وأنه بالنظر إليه من خلال ذلك يبدو أن مسألة تحديد المعاملات التي يمكن أن تعتبر داخلة تحت الربا هي مسألة أخلاقية في المقام الأول، وتعتمد أساسًا على الدوافع والبواعث التي تقوم عليها العلاقة الاجتماعية والاقتصادية بين الدائن والمدين، وإلى أي مدى يتحملان معًا الربح والخسارة. وذلك كما هو واضح يتغير تبعًا لتغير النمو الاقتصادي والاجتماعي والتقني، وعلى هذا فإن كل جيل من المسلمين هو الذي يضع بحسب ظروف عصره المعنى الجديد للربا والدوائر التي يشملها (¬1). وتكفي هذه الأمثلة لبيان اتجاهات محمد أسد العصرانية وننتقل منه إلى كاتب آخر. العصرانية وتطوير الدين: من الإنتاج الهام لمدرسة العصرانيين كتاب بعنوان: "الفكر الإسلامي والتطور" والكتاب كما يقول عنه صاحبه: "محاولة لمناقشة قابلية الإسلام في أصوله للتطور ولرصيد المسلمين التاريخي في التطور وللواقع المعاصر واحتياجنا للوعي بحقيقة التطور عندنا وعند غيرنا" (¬2). ولم تكن هذه المحاولة الوحيدة لمناقشة قضية التطور وعلاقتها بالتجديد وبالدين، فقد كانت القضية مثار نقاش وندوات عامة ومقالات في الصحف في مصر قبل قرابة القرن (¬3). وأمين الخولي في كتابه "المجددون" يقول: "إننا ننتهي باطمئنان إلى أن التجديد الديني إنما هو تطور والتطور الديني هو نهاية التجديد الحق" (¬4). ولا غرابة -كما يقول- في المطالبة بالتطور في المجال الديني؛ لأن ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" للرازي. P.623. (¬2) " الفكر الإسلامي والتطور" محمد فتحي عثمان، ص 75، الطبعة الثانية. (¬3) "المجددون" أمين الخولي. (¬4) المصدر نفسه ص 58.

النظرة السليمة الأساس تبين اطراد ناموس التطور وشموله، وأنه يبدو أكثر وضوحًا في حياة الأديان وتدين الإنسان. والتطور عنده يشمل الدين في جوانبه المختلفة، العقائد والعبادات والمعاملات، "فليست فيه أحكام تبقى على بقاء الزمن ولا ينالها أي تغيير" (¬1). ومحمود الشرقاوي يجعل عنوان أحد كتبه: "التطور روح الشريعة الإسلامية"، الذي كان أصدر فصلًا منه قبل ذلك بعنوان: "تقويم الفكر الديني" ويقرر فيه "أن الإسلام لا يتعارض أبدًا مع سير البشرية وتحولها، وأنه دين لين واسع الأفق نستطيع أن نوفق بين روحه وبين كل مظهر من مظاهر الحضارة، وأن نجد في نصوصه ما يساير الأطوار المختلفة التي تتخطاها البشرية في عصورها المتباينة" (¬2). وبعد هذه المقدمة يقول أن التوفيق بين الدين والحضارة يتم بأن "نفرق بين (روح) الدين وغايته، وبين الدين كتقاليد وأشخاص. . . فروح الدين وجوهره هما الشيء الخالد الباقي الذي لا يتعارض مع أي عصر" (¬3). ويشيد بهذه المناسبة بالسيد أمير علي وكتابه "روح الإسلام" ويصفه بأنه كان من دعاة الفهم الواسع للشريعة وبأستاذه ومعلمه السيد أحمد خان (¬4). كما يقدم أمثلة تبين كيف أن الشريعة مطاوعة، ويقترح بعض الإصلاحات في مجال المرأة ومجال الاقتصاد، من تقييد الطلاق ومنع التعدد، وإباحة الفائدة في معاملات البنوك، والأخذ بمبدأ الوصية الواجبة في الميراث (¬5). ونعود إلى كتاب "الفكر الإسلامي والتطور" فنطالع في صدر صفحاته الأولى الخلفية الفكرية للكتاب، إذ نقرأ ملخصًا لبعض آراء إقبال -والتي سبق عرضها (¬6) عن: هل الشريعة قابلة للتطور؟ ويضعها الكاتب تحت عنوان جذاب ¬

_ (¬1) "المجددون" أمين الخولي ص 36 - 57. (¬2) "التطور روح الشريعة" محمود الشرقاوي ص 162. (¬3) المصدر نفسه ص 162. (¬4) المصدر نفسه ص 232. (¬5) المصدر نفسه ص 275 - 309. (¬6) انظر: صفحة 144 من هذا البحث.

"قضايا كبرى يثيرها الشاعر الفيلسوف إقبال" (¬1). وتظهر خلفية فكرية أخرى من مواقف الفكر العصراني الغربي حين يقول: "تلك بعض مواقف الفكر الديني في الغرب إزاء التطور الاجتماعي، وتلك صورة مما يكتب هناك عن هذه القضية، فإلى أي مدى تجاوب الفكر الإسلامي؟ (¬2) وتظهر خلفية الكتاب الفكرية أيضًا فيما يورده من أمثلة لتطور الفكر الديمقراطي في الغرب والفكر الاشتراكي وتعدد مدارسه وأزيائه، من اشتراكية وطنية وشيوعية دولية، وستالينية وتروتسكية وخروتشوفية وتيتوية وماوتسية، ثم يتساءل: ترى لماذا يكتب على الفكر الإسلامي وحده الجمود؟ " (¬3). والتطور عند مؤلف الكتاب مسألة حتمية في كل شيء. كل شيء يتطور، تتطور البيئة ويتطور سكان البيئة من الأحياء، فلا عجب إذن أن يكون قانون هذه البيئة الاجتماعي هو التطور، "ولن تقف حركة التطور الكوني والإنساني إلا حين تقف عجلة هذه الحياة الأرضية البشرية ونواميسها كلها، وتدع المكان لحياة أخرى في عالم جديد له خصائص جديدة ترشحه للثبات والخلود" (¬4). والدين يساير هذا التطور إذ فيه شيء من المرونة والصلاحية للتغير والتبدل لمواجهة التطور؛ يقول المؤلف: "يظن كثيرون أن الدين دائرة مقفولة وكتلة جامدة. . . مجموعة قضايا متناهية نهائية. . . والحق أن الدين ليس قاموسًا أبجديًا محصور المحتويات معدود الكلمات يكفي أن نكشف عن أي كلمة فيه فنجدها بترتيب حروفها وأمامها التعاريف. . . ليس الدين كذلك بحال. . . إنه صالح لكل زمان ومكان ولا يعني ذلك أن تطبيقًا واحدًا بعينه للدين صالح لكل زمان ومكان فهذا محال. . . وإنما يعني ذلك أن الأصول الإسلامية من المرونة بحيث تصلح للبقاء وتحتمل أعباء التنقل بين مختلف الأجواء" (¬5). وكما رأينا عند العصرانية في الغرب فإن فكرة التطور تجر معها بعض ¬

_ (¬1) "الفكر الإسلامي والتطور" فتحي عثمان، ط أولى ص 3. (¬2) المصدر نفسه الطبعة الثانية ص 22. (¬3) المصدر نفسه ص 39. (¬4) المصدر نفسه ص 79. (¬5) المصدر نفسه ص 78.

الذيول. من هذه الذيول أن فهم الدين وتطبيقه ظاهرة اجتماعية لصيقة الصلة بالظروف والعصر الذي تنشأ فيه يقول المؤلف: "إن الدين لا يمكن فصله عن العقل الإنساني الذي يتلقاه ويستقبله ويطبقه. . . وإن العقل الإنساني لا يمكن نزعه عن مجاله الحيوي الذي يضرب فيه بجذوره ونعني بذلك البيئة المحلية والعالمية والثقافية والاجتماعية. . . هذه حقيقة سيكولوجية اجتماعية (¬1)، لابد من اعتبارها لتقدير وضع الفكر الديني تقديرًا صحيحًا" (¬2). وفي موضع آخر يعاد تأكيد هذه النظرية مرة ثانية "إن الإسلام في تاريخه النظري والتطبيقي محصلة عدة عوامل متفاعلة. . . أصول ثابتة ولكنها مرنة هي قوام الدين وبيئة معينة وعقلية معينة وعن طريق تفاعل الإسلام مع الزمان والمكان ينتج مفهوم الدين وتطبيقه" (¬3). وما هي النتائج إذا رسخت هذه النظرية في الأذهان؟ النتيجة أولًا مما يقوله الكاتب: "لا تصبح التجربة المثالية للدين مثلًا هي عصر الخلفاء الراشدين. . . إن هذه تجربة مثالية بالنسبة لظروف الخلفاء الراشدين السائدة في وقتهم وبالنسبة لتفكيرهم وزمانهم وبلادهم وأقوامهم" (¬4). والنتيجة ثانيًا ما ينقله الكاتب عن الدكتور فضل الرحمن (¬5): "إن العقل الإنساني لا يقف قط والمعرفة تسير دائمًا إلى الأمام، وكل تغير كبير في رأي الإنسان عن العالم يستلزم ترجمة جديدة وإعادة تقدير للحقائق الأساسية للعقيدة. . . ولكن هذه التفسيرات يجب ألا تفرض على العقيدة من الخارج بل يجب أن تنمو داخل نظام الاعتقاد ذاته، وبغير هذا لا تستطيع تلك التفسيرات أن ¬

_ (¬1) الكاتب في كثير من المواضع في الكتاب يسوق قضاياه بمثل هذه اللهجة القاطعة المطمئنة -يقول عن صراع النقائض: (هذه حقيقة طبيعية بيولوجية وحقيقة فكرية نفسية). انظر: ص 53. (¬2) المصدر نفسه ص 35. (¬3) المصدر نفسه ص 37. (¬4) المصدر نفسه ص 37. (¬5) باكستاني يعمل أستاذًا للدراسات الإسلامية بجامعة شيكاغو وله آراء شاذة. انظر نقدها: في كتاب مريم جميلة. " Islam and Modernism" P.84

تقنع المسلمين الآخرين" (¬1). "يجب ألا يغيب عن بالنا مغزى الفقرة الأخيرة من كلام فضل الرحمن". وترتفع درجة حماس مؤلف "الفكر الإسلامي والتطور" لهذا الرأي فيقول: "قال قائل: يجب أن ينقح الدين كل مائة سنة! وأنا أصحح التعبير فأقول: أنه يجب أن نصحح فهمنا للدين كل سنة، وكل شهر وكل يوم وكل لحظة؛ لأن المعرفة لا نهاية لآفاقها، ولأن التقدم الإنساني لا توقف لسيره" (¬2) (قارن هذا الرأي برأي العصرانية المسيحية "إن تعديل العقائد التقليدية في ضوء المعرفة السائدة يجب أن يتم المرة تلو المرة ما دامت معرفة الإنسان تنمو وحياته الاجتماعية تتغير") (¬3). ومن الذيول التي تجرها فكرة التطور أن إدراك حقائق الدين أمر نسبي، ويصف الكاتب هذه النظرية بأنها "حقيقة فلسفية ربما أفزعت الكثيرين ممن يقدسون الدين كمفاهيم جامدة ثابتة" ويشرحها هكذا "إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري، وهذه النظرية الجزئية تكون حاجزًا عن إدراك الحقيقة الكلية الشاملة المحيطة، وقد يتسنى أن يتسع أفق النظر ولكن بمزيد من العمر ومزيد من تعاقب الأجيال على العلم والعمل" (¬4). ويمضي في الشرح ". . . كذلك الدين تتفاوت قوى الأفراد والأجيال في تفهم مبادئه وتطبيقها، واللغة التي يعبر بها الدين عن حقائقه ظاهرة بشرية فهي قابلة للأخذ والرد والتأويل والتحوير" (¬5). ويقول أيضًا: ". . . وسيظل الدين معرضًا لتجدد القوالب في الفهم والعرض والتطبيق، ويتأثر بزاوية الشعاع الساقط عليه وقد يزيغ البصر تجاهه بين انعكاسات الأضواء وانكساراتها وتؤثر ظروف الأفراد والجماعات على جهاز الرؤية والإدراك" (¬6). ¬

_ (¬1) " Islam and Modernism" P.54. (¬2) المصدر نفسه ص 53. (¬3) المصدر نفسه ص 110 من هذا البحث. (¬4) المصدر نفسه ص 338. (¬5) المصدر نفسه ص 339. (¬6) المصدر نفسه ص 343.

ما الهدف من وراء تأكيد ذلك؟ ربما يكون الهدف أن نعي تمامًا أن الاتفاق في أمر من أمور الدين مسألة بعيدة المنال (وبكلمات الكاتب). . . "هذا تاريخ المسلمين الفكري. . . تاريخ الفرق والمذاهب يشهد باختلافهم في الأصول، واختلاف أهل السُّنَّة والشيعة، والمعتزلة والأشاعرة والمتكلمين والفلاسفة والفقهاء والصوفية. . . واختلاف المسلمين في الفروع ذائع معروف. . . ثم هناك اختلاف آخر في السياسة والحكم. . . إلى آخر ما هناك من اختلافات. . . سيقال أنهم في أمور اتفقوا. . . نعم اتفقوا على ما قلت في دوائر واسعة جدًا لن يغنيهم الوفاق فيها على شيء! " (¬1). هل هذا تقرير أن الخلاف أمر واقع أم يعني أن الخلاف أمر سائغ؟ حتى الخلاف في كل شيء "لأن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري" كما يقول؟. ما المقياس إذا حدث مثل هذا الاختلاف بين المسلمين؟ هل المقياس النصوص؟ هل المقياس العقل؟ ولكن الكاتب يقول: "من أين نأتي بالعقل الذي يتطابق مع الحكمة الإلهية تمامًا حتى يزعم أنه حدد مقاصد الله بالتمام والكمال دون زيادة أو نقصان؟ " (¬2). "أنى يتأتى للإنسان أن يستعلي على ضغط غرائزه وإيحاء مجتمعه وحدود طاقاته، والتي تخطط له مسالك دون أن يشعر لينصب نفسه ترجمانًا نهائيًا لعلم الله الواسع المحيط في تشريعه المنزل؟ " (¬3). أم أنه لا مقياس "لأن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري؟ ". أمثلة عملية للتطور: ولا يكتفي المؤلف بالدعوة النظرية لمواجهة الدين للتطور، بل يقدم لنا أمثلة عملية لهذا التطور الذي يطمع فيه. ونبدأ بأمثلة من الفقه الخاص بالمرأة، فنقرأ في أحد الفصول الدعوة إلى ¬

_ (¬1) " Islam and Modernism" P.338. (¬2) المصدر نفسه ص 232. (¬3) المصدر نفسه ص 237.

تقييد الطلاق، وتقييد تعدد الزوجات، والدعوة إلى الاختلاط وترك الحجاب. ونطالع الإطار العام الذي يضع فيه الكاتب قضية المرأة في هذه الفقرة: "أول ما ينبغي أن يراعى في قضية المرأة وأشباهها، أنها وثيقة الارتباط بواقع البيئة الاجتماعية، والمجتمع الواحد يختلف من زمن لآخر، والمجتمعات تتباين فيما بينها، ومن ثم قد تتفاوت المجتمعات -ولو كانت كلها إسلامية- في صورة ما تطبقه من تشريعات، وهنا ينبغي ألا يحمل الدين عبء هذه الفوارق الطبيعية الحتمية، بل أولى للجميع أن ينسبوا هذه الأحكام الاجتهادية لواقع العصر والبيئة، وأن يعترف المتخلف بأن الدين لم ينه عن صور التقدم الرائعة التي تطبق عند غيره، ولكنه سيصل إلى بلوغ هذه المرحلة بعد حين، وعلى المسلمين جميعًا أن يكونوا على وعي من أن اختيار جماعة لصورة من صور التطبيق، إنما يأتي نتيجة كونها قريبة لواقع المجتمع ميسورة التطبيق فيه، فمرجع الاختلاف كثيرًا ما يكون لأسباب فنية تطبيقية، لا لأسباب أصولية تشريعية" (¬1). ولأن القضية شائكة فإن المؤلف يصوغ آراءه في مرونة ولين، وهو يعلم ما أثارته القضية من ضجيج. فتقييد الطلاق الذي ظهرت فكرته في كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين -كما يذكر الكاتب نفسه- لا يطالب به بذلك الجمود وقصور النظر الذي طالب به قاسم، بل يضيف إليه تعديلًا جديدًا وهو عبارة "التقييد بحسب الظروف" فيقول: "والمهم أن الدين ليس فيه ما يمنع من تقييد الطلاق، وليس فيه في الوقت نفسه ما يحتم هذا التقييد بصورة معينة من الصور، وهذا مما تختلف فيه البيئات والعصور، وليس في اختيار شكل قانوني معين افتئاتًا على مرونة التشريع، فإننا نختار لأنفسنا وزماننا ونزيل القيد إذا انتفت دواعيه" (¬2). ويناقش قضية تعدد الزوجات بمثل هذه المرونة ويضع بين قوسين (بحسب الظروف) فيقول: "ونحن فيما نختار لأنفسنا إذا اخترنا لا نجمد الشريعة بحال بل إنما هو رأي يوافق جيلنا ومجتمعنا لا غير. . . وأنا لا أنتصر لدعاة التقييد (تقييد تعدد الزوجات) حين أقرر أن ليس في الشرع ما يمنع من هذا التقييد، إنما ¬

_ (¬1) " Islam and Modernism" P.222. (¬2) المصدر نفسه ص 228.

أعرض وجهة نظر الدين فحسب، إذ الأمر هنا اجتهادي بحت متروك لمدى التطور الاجتماعي" (¬1). وحقوق المرأة السياسية مسألة اجتماعية قبل كل شيء تستوحي فيها البيئة الاجتماعية لا النظريات الفقهية، وفي نظره أن الإسلام لم يحل بين المرأة وبين مباشرة حقوقها السياسية (¬2). ويدعو إلى الاختلاط ويسميه "الاختلاط المأمون" لأن "المجتمع الذي يلتقي فيه الرجال والنساء في ظروف طبيعية هادئة محكمة، لن يغدو فيه مثل هذا اللقاء قارعة تثير الأعصاب وتطلق الوقود على البارود، فسيألف الرجل رؤية المرأة ومحادثة المرأة، وستألف المرأة بدورها الرجل، وهكذا يهدأ السعار الجنسي المضطرم ويضيق مجال الانحراف والشذوذ، وتتجمع لدى الجنسين خبرات وحصانات وتجارب" (¬3). وإذا كان وجهك قد تجهم لمثل هذا الكلام فلا تبتئس فإن المؤلف يرضيك بإضافة أن الاختلاط "حسب الظروف"؛ إذ يمضي قائلًا: "فإباحة الاختلاط النظيف ليس معناها إقحام هذا الاختلاط على كل بيئة وإدخاله كل بيت. . . إن المباح الشرعي معناه أنه ليس حرامًا، لكنه أيضًا ليس ملزمًا مادام التطور لم يبلغ المدى الذي يرى فيه المجتمع أن ينتفع من هذه المباحات. وقد يرى فرد أن يتنازل عن حق إباحة الدين له ويتراضى مع زوجه على عدم الاختلاط، أو عدم الخروج، أو وضع الحجاب، فليختر ما يريحه ولكن ليعلم أن هذا ليس حكم الله الذي يلزم كل مسلم ومسلمة" (¬4). ومن قضية المرأة ينتقل الكاتب إلى قضية من القضايا التي يكثر طرقها في العصر، قضية حرية الفكر تأثرًا بالحريات الواسعة التي يتيحها الغرب للفكر الإنساني، أو هكذا يظن، فهل في الإسلام متاريس وسدود من حديد أمام حرية الفكر؟ تأتي إجابة الكاتب لهذا التساؤل في فصل عنوانه: "الحديد والنوافذ ¬

_ (¬1) " Islam and Modernism" P.235. (¬2) المصدر نفسه ص 64 وص 242. (¬3) المصدر نفسه ص 204. (¬4) المصدر نفسه ص 222.

المفتوحة"، وتجيء الإجابة من خلال النظر في قضيتين قضية الجهاد وقضية الردة. فالجهاد محدود بحدود "الدفاع المشروع" لا يستقدم عنه خطوة ولا يستأخر خطوة، مقصور على "حكم الضرورات الحربية وحدها" ولتأمين الدولة فقط (¬1)، ومن هذه "السماحة" التي يتحلى بها الإسلام مع أعدائه خارج الحدود ينتقل إلى سماحته داخل الحدود، ويناقش على ضوء هذه "السماحة" عقوبة جريمة الردة، وينقل عن أحد الكُتَّاب رأيه. . . "وخلاصة رأينا أن القرآن لم ينص في آية ما على قتل المرتدين عن الإسلام إلى دين آخر"؛ أي: "دون تحول لصفوف المحاربين". . . ثم إن لبدء ظهور الإسلام من الأحكام ما ليس لغيره؛ لأنهم كانوا إذ ذاك يلحقون بأقوامهم، ويحاربون المسلمين في صفوفهم أو يظهرونهم على عوراتهم. . . "فلم يكن الارتداد لمجرد الخروج من الدين؛ والمستقرئ لأحاديث الباب لا يكاد يجدها تخرج عما قلنا". . . ثم يعقب المؤلف على هذا الرأي: بأن جريمة الردة حقًا يحيط بها بعض الغموض، وإننا تعوزنا فيها الأمثلة التطبيقية القضائية المفصلة، "وغموضها في صالح المتهمين حتى تتضح. والصورة التي طبق بها المسلمون شريعة العقاب تدل على توقي الإسراف في التجريم والإدانة بالشبهات. . . وإذا كان ذلك في العصور الوسطى فكيف بعصرنا الذي انضبطت فيه تشريعات العقوبات والإجراءات؟؟ " (¬2). ويختم هذا النقاش بقوله: "فالأصول والتطبيقات تشهد بأن الدولة الإسلامية لم تتكئ على القوة، لتغلق نوافذ الفكر في الداخل، أو تجبر الناس على اعتناق دينها في الخارج" (¬3). هذا بعض ما يريده مؤلف كتاب "الفكر الإسلامي والتطور" من أوجه التطور، وهو يعطي في مجمله القضايا الرئيسة والدوائر الكبيرة التي تهتم بها مدرسة التجديد العصراني الجديدة، ويكشف لنا جانبًا من طرق معالجتها لإيجاد المعادلة بين الإسلام وبين الفكر الغربي، ومعه في المدرسة نفسها مفكرون آخرون فلنمض قدمًا في عرض فكرهم. ¬

_ (¬1) " Islam and Modernism" P.250,260. (¬2) المصدر نفسه ص 266 - 270 نقلًا عن. (¬3) المصدر نفسه ص 278.

سقطة كتاب "أين الخطأ"

سقطة كتاب "أين الخطأ": بين أيدينا كتاب "أين الخطأ: نظرات في تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد" (¬1)، وقد وصف أحد العلماء في مقالات متتالية له في مجلة "الأمان" آراء صاحب الكتاب بأنها (سقطة شنيعة) وعثرة (¬2)، والذي يتصفح ذلك الكتاب يتبين له مدى صدق ما وصف به. والكتاب صدر عام (1978 م) وهو يشتمل كما جاء في عنوانه على آراء المؤلف عن تجديد الدين، وعلى تصحيحه لبعض ما يظنه أخطاء. نقرأ في مدخل الكتاب رأيه في التجديد بعد أن يسوق حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" فيقول: "والحديث الكريم هذا هو في نظري دستور كامل لحركية الشريعة وديناميتها في مجال صيرورة الزمن، فهي تجدد دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل. . . إذًا فلا قوالب ولا أنماط ولا مناهج ثابتة بل تبدلية عاملة دائبة. . . وكل توقف في الكيف داخل أطر يصيب الأفراد والجماعات بتحجر، يؤول إلى حتمية تخلف بل انحدار ذريع. . . وقد أحس القدامى بدواعي التغير فلا ينبغي أن يؤخذ الخلف والسلف جميعًا بالمقتضى الواحد "فقد خلقوا لزمان غير زمانكم" (¬3). ويستطرد قائلًا: "ثم نقع في الحديث الشريف على عبارة (تجديد دينها) وهي أمضى في الدلالة على "التشكل والتكيف" بحسب الموجب أو المقتضي؛ لأنها تتجاوز الترميم إلى الإبداء والإنشاء، إنشاء آخر، فلم يخص التجديد بشأن دون شأن أو بأمر دون أمر، بل أحيانًا في أمورها مجتمعة، وهذا واضح بكلمة (دينها) الذي هو هنا بمعنى الأقضية والنظم" (¬4). فالتجديد في نظره تبدل وتغير، وتشكل وتكيف في الشريعة، إزاء الظروف ¬

_ (¬1) مؤلف الكتاب الشيخ عبد الله العلايلي مفتي جبل لبنان (سابقًا). (¬2) هذه الموجة من الجرأة على الله ما غايتها، الشيخ الدكتور محمد علي الجوزو ص 18، مجلة الأمان عدد 69، وانظر: الأعداد 65، 66، 67 السنة الثانية. (¬3) "أين الخطأ" العلايلي ص 14 و 15. (¬4) المصدر نفسه ص 16.

المتغيرة أبدًا، ويبدو ذلك أكثر صراحة ووضوحًا في عبارته التالية، في وصف ما يسميه الشريعة العملية "فالشريعة العملية إذن هي من البيان بحيث تغدو طوع البنان إزاء الظروف الموجب مهما بدا متعسرًا ومتعذرًا" ويقول أيضًا: "وإذا ضممنا الحديث السابق -يعني: حديث التجديد- إلى مثيل له، وهو "أني بعثت بالحنيفية السمحة" يتضح ببيان جلي أن خاصية الشريعة الأولى هي الطواعية" (¬1). ويضيف المؤلف حديثًا آخر مخضعًا إياه كسابقيه لفهمه الخاص الجديد، حين يقول: "وإذا كان الإسلام العملي مصدر إبداع، فقد صوره الحديث النبوي بما هو أجمع وأكمل: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ. . ." ولكن لا كما فهمه القدماء بظنهم أن كلمة "غريبًا" من الغربة، بل هي من الغرابة؛ أي: الإدهاش مما لا يفتأ يطالعك به من جديد، حتى لنقول إزاءه في كل عصر: "إن هذا لشيء عجاب" (¬2). والكاتب في نظرته للشريعة "العملية" كما يسميها لا يحتج إلا بالقرآن فقط والحديث المشهور، وما دون ذلك فهو عنده مما يستأنس به فقط، ولكن لا تقوم به حجة، يقول: "إني في الواقع لا أقول ولا أعتد إلا بالكتاب الكريم والمشهور من الحديث الذي هو في قوة المتواتر، وبالمنطق الفقهي الشامل لعلوم الخلاف والأصول والاستدلال، وما عدا ذلك لا أرتفع أو أرقى به عن مقام الاستئناس إلى مقام الحجية، لأكون صميمًا مع الإسلام العملي الصحيح" (¬3). ومن الواضح أن عبارة المنطق الفقهي الشامل عبارة واسعة عامة ولا حرج أن تتسع ما أمكن لها أن تتسع!. ويستمر الكاتب ليدلل على موقفه في الاحتجاج بالكتاب فقط بقوله: "فقد جاء في الحديث (¬4): "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ليس عندنا إلا ما في القرآن إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه". . . فالأمر الشرعي بينهما فقط؛ أي: القرآن والفطنة في معقوله. . . ونحن حين نمعن النظر في تعبير "إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه" "والعدول عن السائغ" "يعطاه رجل" ندرك أن المقصود به اللقانة؛ أي: ¬

_ (¬1) "أين الخطأ" العلايلي ص 16 و 17. (¬2) المصدر نفسه ص 23. (¬3) المصدر نفسه ص 19، وانظر: ص 79. (¬4) هذا مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

الفهم المعطى إلهامًا" (¬1). وهو يسمي هذا الفهم المعطى إلهامًا نوعًا من الوحي الجديد، فيكتب تحت عنوان: "مفهوم جديد للوحي": "الإنسان مصدر وحي إلهامي في التفصيل والتفريع بحسب الظروف والمقتضيات"، ويستدل على هذا الرأي بقول عمر: "تحدث للناس أقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور" ولكنه يردف أن معنى الفجور هنا ليس الفسوق ومبعث المعاصي كما قد يتوهم البسطاء الساذجون، بل معناه (الفتوق المتجددة) تجدد فتوق الينابيع، ويرى أن هذا التخريج هو الذي يوضح المرامي البعيدة والغايات العظمى في تعبير عمر" (¬2). وعنده أن القرآن نفسه قابل لمعانٍ متعددة استدلالًا بحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، ويشرح هذا الحديث ". . . أنه قابل لأشتات من وجوه المعاني وهذا إيضاح أن القرآن مطواع لتقبل الدلالات على أنواعها" (¬3). تصحيح الأخطاء: ومن أهداف كتاب "أين الخطأ" أن يصحح بعض الأخطاء الشائعة، وأن يعالج "بنظرات شرعية بعض متفرقات من تحديات عصرية، ورغبة في إبداء ما يعد قديمًا قديمًا بأنه الجديد الجديد، ولكن في بؤبؤ عين غير حولاء" (¬4) وهذه بعض الأخطاء التي يود معالجتها وتصحيحها. تحت عنوان: "خداع الألفاظ والأوهام في الأحكام" يناقش موضوعًا "شغل الناس كثيرًا وشغل الفقهاء أكثر منذ قرابة قرن. . . وهو: هل يجوز التعامل المصرفي (البنكي) أم لا؟ وهل يأثم متعاطيه أم يسوغ له؟ وهل هو مندرج تحت الربويات أم غير مندرج؟ " والكاتب يتأسف أن الجلة من الفقهاء في هذا العصر تبادر إلى الإدلاء بالرأي في أي مستحدث قبل معرفته حق المعرفة، وأنه رغم أن الكثرة من فقهاء العصر مالت إلى التحريم، وأن الفوائد الناجمة هي من نوع ربا النسيئة، ولكنه، يرى أنه ما من شك أن المسألة من أصلها لا تخرج عن كونها ¬

_ (¬1) "أين الخطأ" العلايلي ص 19. (¬2) المصدر نفسه ص 101. (¬3) المصدر نفسه ص 75. (¬4) المصدر نفسه ص 5.

من خداع الألفاظ. الذي كثيرًا ما يكون المطية للخطأ؛ لأنهم أطلقوا على ما يأخذه المستثمر فائدة مال لا سعي فيه، فأوهمتهم كلمة "الفائدة" أنها ربوية، ولكن في نظره أن المصرف يتعرض للربح والخسارة، فكم من مصارف توقفت وتعرضت لشهر الإفلاس، ولهذا فإنه لا ضمانة حتمية للمال الأصلي نفسه، فضلًا عن الربح الدائم، وينتهي إلى أن هذا الأمر يخرج التعامل المصرفي من باب الربويات، وأنه مباح والفائدة فيه مباحة (¬1). وفي فصل آخر يتناول قضية الحدود فيقول: "وخلاصة ما انتهيت إليه أن العقوبات المنصوصة ليست مقصودة بأعيانها حرفيًا بل بغاياتها. . . وليس معنى هذا الرأي أن عقوبة القطع في السرقة ليست هي الأصل، وأنها لا تطبق، بل أعني أن العقوبة المذكورة غايتها الردع الحاسم، فكل ما أدى مؤداها يكون بمثابتها، وتظل هي الحد الأقصى الأقسى بعد أن لا تفي الروادع الأخرى وتستنفد. . . ومثلها الجلد في موجبه. . . وجل ما في الرأي الذي طرحه، أنه أشبه بما يتبع في القوانين الجزائية، من النص على عقوبة ما فيتعداها ويتجاوزها القاضي إلى الأخف، فيحكم بالغرامة لا بالسجن وذلك تبعًا للدواعي والملابسات والظروف. وانتهيت إلى هذا الرأي انسياقًا مع روح القرآن الكريم، الذي جعل القصاص صيانة للحياة، وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين، هذا مقطوع اليد والآخر مقطوع الرجل، والآخر مفقوء العين أو مصلوم الأذن أو مجدوع الأنف. . . . . والقرآن إن في السرقة أو الزنا عبَّر بصيغة اسم الفاعل {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] ومعروف أن التحلية بأداة التعريف في هذا المورد، تجعله أقرب إلى النسبة؛ أي: من غدا هذا وهذه ديدنه .. . . . ولأن القرآن الكريم سبق إلى تقرير أن أكثر التجاوزات ضد المجتمع والتعديات الجزائية ناشئة عن حالات مرضية -ويستدل هنا بقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]- مصدرها في الغالب البيئة، وما يكمن فيها من عوامل ¬

_ (¬1) "أين الخطأ" العلايلي ص 65 - 69.

تسوق قسرًا إلى الاضطراب السلوكي والجموح العملي. . . فهؤلاء ينبغي معالجتهم بروادع علاجية. والذي يهمني من هذا كله اعتماد "التعزير" الخاضع لتقدير القاضي، وحصر النظر فيه وحده وأنه لا قطع ولا جلد ولا حد إلا بعد استتابة ونكول وإصرار معاود للمعصية" (¬1). أما الرجم فلا يقول به مطلقًا: "لأن ما شاع وذاع من قول بالرجم يعتمد على طائفة من الأحاديث لم ترتفع عن درجة الحسن"، وهذه الأحاديث في نظره مخالِفةٌ مخالَفةً صريحةً للقرآن، ولو كان عقاب المحصنة من الحرائر الرجم حتى الموت كان أحرى أن ينص عليه تعيينًا لهوله، وادعاء النسخ بالحديث قلب لمقاييس الاستدلال (¬2). وفي غير قضايا الحدود له آراء في فقه المرأة، وبخاصة في مسألة زواج المسلمة من الكتابي، وهو يرى أن مثل هذا الزواج حلال، اعتمادًا على الآية {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. . . وفي ظنه أن الاقتصار على ذكر حل الزواج بين مسلم وكتابية شأن النظم القرآني كله، خرج مخرج الاكتفاء، وأن الآية كما هي صريحة في النص على تبادل حلية الطعام، هي صريحة في تبادل حلية الزوجية؛ أي: نساؤهم حل لنا ونساؤنا حل لهم. ويرى أن الفقهاء وإن درجوا إجماعًا على القول بعدم حل مثل هذا الزواج، إلا أن إجماعهم في نظره متأخر، ولا يقوم على دليل قطعي. ويقول عن قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]، إن التعبير بكلمة {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} [البقرة: 221] يجعلها خاصة المورد؛ أي: المشركين فقط، لا كل مخالف في الدين والتعبير بكلمة {خَيْرٌ} مفادها التفضيل لا الحكم. ¬

_ (¬1) "أين الخطأ" العلايلي ص 73 - 84. (¬2) ص 86.

مفكرون آخرون

ويقول عن آية الممتحنة: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، أنها أيضًا خاصة بالمهاجرات من دار الشرك ولهذا يفسر الكفر هنا بالشرك لا مطلق المخالفة في الدين. وفي سخرية لاذعة يقارن بين قضية حرمة زواج المسلمة من الكتابي، وبين ما ينقله عن علم الاجتماع من أن لكل قبيلة بدائية طوطمًا تؤلهه، ويتبع ذلك ما يسمى "التابو"؛ أي: حرمة المس، وهو حرمة زواج المرأة ممن لا يؤله نفس طوطمها أو ما يسمى بالزواج (الخارجي)، في مقابلة ما يسمى بالزواج (الداخلي)؛ أي: زواجها ممن يؤله نفس طوطمها، ثم يقول: "وما أشبه القضية المثارة بهذه المقولة البدائية" (¬1). وهكذا يقدم لنا مؤلف "أين الخطأ" مجموعة من الأخطاء التي يريد تصحيحها: فالتعامل المصرفي مباح وليس ربويًّا وفوائده جائزة، وأنه لا رجم في الإسلام، وأنه لا قطع ولا جلد، إلا بعد معاودة الجريمة وتكرارها، وأن الزواج المختلط بين المسلمين والكتابيين رجالهم ونسائهم حلال شرعًا، فهل يا ترى كان وصف مثل هذه الآراء بأنها سقطة شنيعة كافيًا أم أنها "فوق" هذا الوصف؟ مفكرون آخرون: ومن مدرسة العصرانية آخرون، ليست لهم كتابات مستقلة، وفي الغالب أيضًا ولا آراء مستقلة (¬2)، ولكنهم بين الحين والآخر تظهر لهم مقالات هنا وهناك في بعض المجلات (¬3)، أو يشاركون ببعض المحاضرات والبحوث في تجمعات ومؤتمرات ذات أسماء وألوان شتى (¬4)، وما أكثرها في عصرنا هذا، ¬

_ (¬1) "أين الخطأ" العلايلي ص 127 - 132. (¬2) من أشهر أولئك: الدكتور حسن الترابي، وفيه دراسات متعددة منها: (مفهوم التجديد بين السُّنَّة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين) للدكتور محمود الطحان، الكويت، 1984 م. (¬3) مثلًا: مجلة العربي فلها باب خاص بالإسلاميات تكتب فيه نخبة خاصة من الأقلام وسوف تأتي نماذج منه كما تأتي نماذج من بعض المقالات في مجلة المسلم المعاصر. (¬4) انظر: على سبيل المثال مجموعة البحوث التي قدمت لمؤتمر الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة الذي نظمته جامعة برنستون ومكتبة الكونجرس بواشنطن عام 1953 م، وضم عددًا من المسلمين والمستشرقين وطبعتها مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر 1956 م.

وفي ظني أن النماذج السابقة كافية لإعطاء الحدود العامة والخطوط الرئيسة لهذه المدرسة، والاتجاه الفكري لأصحابها، ومع ذلك قد يبدو من المناسب، إضافة بعض نماذج من أصحاب الأفكار المتناثرة، ونقدمها أيضًا متناثرة. يكتب أحدهم تحت عنوان: "قيل وقال لا تصلح غذاء للجيل المسلم"، يقول: إن إسلام كتب الفقه وكتب التفسير المتداولة اليوم لا يعطي صورة صحيحة عن الإسلام، وينادي بإلحاح للقيام بتكوين صورة جديدة وتطور حديث للفكر الإسلامي، وتغيير صورة الإسلام التي تكونت قبل ألف سنة، حسب مقدرة الناس وظروف مشاكل ذلك العصر، ولم تعد صالحة ولا مناسبة لعصرنا، وأن الجيل المسلم المعاصر لا يرضى أن يعيش عالة على (قيل وقال) " (¬1). ويكتب آخر داعيًا إلى ضرورة التمييز بين بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته لأن "النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهادة القرآن وحكمه الذي لا يرده كلام فلاسفة ولا متكلمين بشر مثلنا يوحى إليه وأن بشريته حاضرة في نبوته"، ولهذا يرى أنه لابد من تحديد ما يعد تشريعًا وما لا يعد من أقواله وأفعاله، ولابد من التفريق بين ما هو من العادات وما هو من العبادات، ولابد من بيان ما فعله - صلى الله عليه وسلم - اجتهادًا منه تحقيقًا لمصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة (¬2)، ويدعو الكاتب نفسه أيضًا إلى التمييز بين الشريعة والفقه، ويعرف الشريعة بأنها الجزء الثابت من النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، أما الفقه فهو تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت، ويرى أن فائدة هذا التمييز أن الفقه اجتهاد بشر، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ويرى أن الفقه هو الجزء المتغير من تراث الإسلام (¬3). ويتوسع آخر في بحث تقسيم السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية ويرى أن أغلب المروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو من النوع الثاني فيقول: "ويلاحظ كون أغلب تصرفات الرسول مبناه التبليغ، قول قد يصل الباحث إلى خلافه عند إمعان النظر ¬

_ (¬1) "قال: وقيل لا تصلح غذاء للجيل المسلم" حسين جوزو، مجلة العربي الكويتية ص 54، عدد 238 رمضان 1398 هـ (سبتمبر 1978 م). (¬2) أحمد كمال أبو المجد، "مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر" ص 20 مجلة العربي عدد 222 مايو 1977 م، و"الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه" ص 16، مجلة العربي عدد 225 أغسطس 1977 م. (¬3) المصدر نفسه (مواجهة) ص 19.

في الصحيح من سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل الذي يغلب على الظن أن أغلب المروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شؤون الدنيا -خارج نطاق العبادات والمقدرات والمحرمات- ليس من الشرع اللازم" (¬1). ويرى العصرانيون تقديم المصلحة على النص، ويحتجون على ذلك ببعض اجتهادات عمر بن الخطاب ويقول أحدهم أن تقديم النص على المصلحة والاستمساك به في أي ظرف وثنية جديدة؛ ففي مقال بعنوان: "وثنيون هم عبدة النصوص" يتساءل كاتب المقال: ما العمل إذا لم تحقق النصوص تحت أي ظرف مقاصد الشريعة، وبدا أن هناك تعارضًا بينهما؟ ويجيب: "أن الثابت عند أغلب الفقهاء أن المصلحة تقدم على النص"، ولا يشير من أين استقى هذا الرأي ولا من هم الفقهاء ثم يقول: "إنه يدعو إلى احترام النصوص وتوقيرها، ولكنه يحذر من المبالغة في تقديسها إلى المدى الذي يوقعنا في محظور عبادة هذه النصوص، ومحاولة تعطيل عقولنا أمامها" ويقول: "وتلك وثنية جديدة، ذلك أن الوثنية ليست فقط عبادة الأصنام، فهذه صيغة الزمن القديم، ولكن وثنية هذا الزمان صارت تتمثل في عبادة القوالب والرموز، وفي عبادة النصوص والطقوس" (¬2). وتتبلور كل هذه الآراء عن محاولة تقسيم السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية، أو الدعوة إلى تقديم المصلحة على النصوص، أو تقسيم الفقه إلى ثابت ومتغير في هذا الرأي الجريء الذي يرى أن الدين محصور في دائرة العقائد والعبادات فقط، أما في غيرهما فالأمر متروك للناس أن يشرعوا ما شاءوا كيف شاءوا مما يرونه محققًا لمصالحهم، يقول صاحب هذا الرأي: "لا مناص لنا من أن نواجه المسألة الشائكة مواجهة أساسية لكي ندخل تغييرًا جذريًّا على فهم الناس لماهية الدين نفسه، وندخل قلبًا تامًا على فهمهم لدوره في المجتمع حتى نقنعهم بألا يتجاوزوا به النطاق المشروع الذي ينبغي أن يقتصر سلطانه عليه. . ¬

_ (¬1) محمد سليم العوا، "السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية" ص 48 مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، أكتوبر 1974 م. (¬2) فهمي هويدي، "وثنيون هم عبدة النصوص" ص 34 مجلة العربية عدد 235، يونيو 1978 م.

ورأينا الذي نصرح به أن كل ما في القرآن وما في السُّنَة -دعك من مذاهب الفقهاء- من تشريعات لا تتناول العقيدة وما يتعلق بها من شعائر العبادة، بل تتناول أمور الدنيا ومعاملاتها وتنظيمها وعلاقاتها، كل هذه التشريعات بلا استثناء واحد ليست ملزمة في كل الأحوال. . . إن كل هذه التشريعات لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا حلولًا مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل، وكانت صالحة وكافية لزمانهم وبيئتهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف، والتعديل والتغيير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه، وما نعتقد أنه الآن كفيل بتحقيق الغايات الإسلامية العليا" (¬1). وهذا الرأي الصريح الجريء يلخص موقف العصرانية بلا مواراة، وبلا تستر وراء أقنعة متعددة، ويوضح كيف أن العصرانية هي العلمانية مغلفة بغلاف الدين. فنصوص القرآن والسُّنَّة الخاصة بمسائل العقيدة والعبادة هي التي تقبل، أما غيرها في أي ناحية من نواحي التشريع، فتخضع للقص والقطع، والتهذيب والتشذيب، وإعادة التأويل والتفسير، والإلغاء في أكثر الأحيان. وإذا كان هذا الكاتب قد اقتصر على بيان وجهة نظر العصرانية في التشريعات الخاصة بالمجتمع، فقد رأينا أن العصرانية ترى إعادة النظر حتى في مسائل العقيدة -وقد تكون العبادة أيضًا- وقد رأينا نماذج من ذلك في آراء سيد خان ومحمد أسد، وهذا نص آخر فيه المزيد لمن أراد أن يستزيد: "إن اللاهوت التقليدي عند العلماء لا يرضى عقول القرن الحاضر ووجهات نظره، وإذن فإعادة الاختيار وإعادة التفسير وإعادة الصياغة وإعادة التقرير للقواعد الجوهرية للإسلام، تبدو ضرورة ملحة لعصرنا الذي نعيش فيه. . . ينبغي أن يعاد النظر في اللاهوت الإسلامي من جميع نواحيه وينبغي أن تستخدم الفلسفة الحديثة، والميتافيزيقيا والأخلاق، وعلم النفس والمنطق، في صياغة القواعد الأساسية وإعادة تقريرها. . . فالتيار المعاصر من الفكر الأوروبي، والتقدم العظيم الذي حققه المفكرون البروتستانتيون، وتأملات ¬

_ (¬1) محمد النويهي، "نحو ثورة في الفكر الديني" ص 31 مجلة الآداب، بيروت، مايو 1970 م.

المفكرين اليهود، وغيرهم في العالم الحديث، يجب أن تستخدم في بصيرة لتقوي وتجدد اللاهوتية الإسلامية. . . ومثل هذا التجديد في فهم الإسلام سيهب القوة والعزاء للكثيرين، الذين فقدوا إيمانهم بالتفسيرات القديمة للعقيدة، ولكنهم احتفظوا بإخلاصهم لجوهر الإسلام" (¬1). ¬

_ (¬1) آصف فيظي (هندي)، القانون الإسلامي واللاهوت في الهند من بحوث مؤتمر 1953 م في أمريكا للثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة، جمع محمد خلف الله طبعة ثانية 1962 م، ص 408.

الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

تمهيد

الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي تمهيد: يرقب الغرب الإسلام بعيون كثيرة، ولدوافع وبواعث متعددة، فهناك أولًا العداء الديني التاريخي، وهناك ثانيًا المصالح الغربية الحيوية في العالم الإسلامي، وهناك ثالثًا الخوف المتأصل من منافس يزيل سيادة الغرب، وهناك غير هذه، ولهذا فإن الغرب يرصد العالم الإسلامي بدقة، ويتابع كل حركة ويحصي ويحلل ويتنبأ، ويوجه ويخطط لمستقبل الإسلام والمسلمين. فهل رصد الغرب ظاهرة التجديد العصراني في العالم الإسلامي؛ وهل أدرك أنها تخدم مصالحه أم أنها عقبة وصخرة في طريقه يجب أن تحارب وتكسر وتزال؟ وهذه أسئلة هامة فإن الله -عز وجل- يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، ولهذا فإن نظر الغرب بعين الرضا لحركة ما في العالم الإسلامي له دلالة خاصة، كما أن سخط الغرب عن حركة ما له دلالته، فما موقف الغرب من التجديد العصراني للإسلام؟ نجيب على هذا السؤال من خلال ثلاثة مناظير متاحة لنا ينظر بها الغرب إلى الإسلام وهي: التبشير والاستشراق والإعلام.

شهادة التبشير

شهادة التبشير: يكشف كتاب ألف عن خطة التبشير على ضوء دراسة الاتجاهات المعاصرة في الجدل بين الإسلام والنصرانية، اهتمام التبشير بتجديد الإسلام وإصلاحه من داخله! فيقول مؤلف الكتاب هاري درمان Harry Dorman: " يتوقع من المبشرين في الأقطار الإسلامية في ظرف عدة أعوام، أن تثمر جهودهم في تجديد الإسلام وتطويره، أكثر من تطوير عقلية المسلمين وتغييرهم، ومما لا شك فيه أن هذا مجال واسع مفتوح للعمل لا يغفل عنه في أي حال". ويدعو الكاتب المبشرين إلى تدعيم صلات التعاون مع حركات التجديد الإسلامي، متى كان الظرف مواتيًا ومناسبًا لما يمكن أن تؤديه من خدمة للتبشير (¬1). وكان الاتجاه نفسه قد برز في مؤتمر المبشرين في أول هذا القرن في القاهرة عام (1906 م) فقد ناقش المؤتمر موضوع "الإسلام الجديد" وأبدى حماسة لحركات الإصلاح الدينية الجديدة مثل حركة سيد أحمد خان في الهند، والتي تقرب المسلمين من تعاليم أوروبا وبالتالي من النصرانية (¬2)، ونقرأ في وثائق المؤتمر السرية تقرير القس غيردنر Gairdner الذي يقول: "إن حركة التحرر Liberalism في الإسلام لم تتطور هنا (في مصر) كما هي الحال في الهند، ولا يزال المسلمون هنا بعيدين بدرجة كبيرة عن "الإسلام الجديد" الذي نما في الهند، ولكن مع ذلك فإنه قد بدأت تنشأ في مصر حركة إصلاح تزداد أهميتها كل يوم، والذي يقود هذه الحركة هو المفتي الأكبر السابق محمد عبده، الذي يدعو إلى (العودة إلى القرآن) مع عدم قبول الحديث كحجة في مسائل العقيدة، ويقال إن له تأثيرًا في صغار المشايخ والأفندية، إلا أن المشايخ كبار السن ينظرون إليه بعين الشك. . . وبالرغم من كل شيء فقد ترك آثاره ويوجد الآن كثير من الشباب ممن تلقوا تعليمًا غربيًا يحملون آراءه ويطورونها. ولكن -يجب ألا نظن أن هذه الحركة التحررية تذهب بعيدًا في ¬

_ (¬1) Dorman, Harry Gaylord, "Towards Understanding Islam", P.216. وانظر: "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" الندوي ص 184. (¬2) انظر: "الغارة على العالم الإسلامي" محب الدين الخطيب واليافي ص 89.

الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام

طريق تقبل وجهات النظر المسيحية، أو حتى تتسم بتلك الجرأة التي اتسمت بها تفسيرات أمير علي للإسلام، إنها حركة تطهير أكثر منها حركة تحرير، ولا تزال أوضاع المسلمين القديمة التي أضفى عليها الزمن قدسية خاصة يتمسك بها ويحافظ عليها بكل عناد. ولكن أهلية وذكاء أمثال هؤلاء الرجال الجدد تجعلنا نتحقق من ضرورة رعايتهم، رعاية شاملة وخصوصية مع جهد ومثابرة متواصلة للاتفاق معهم" (¬1). الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام: ينظر الاستشراق إلى حركات التجديد العصراني للإسلام بنفس نظرة التفاؤل التي ينظر بها المبشرون، ويعقد على هذه الحركات آمالًا عريضة لتطوير الإسلام، ولا يكتفي الاستشراق بالآمال والأماني بل له وسائله الخاصة لدفع المسلمين في هذا الاتجاه (¬2). والذي يهمنا هنا أن نبرز موقفه من هذه الحركات. نقرأ مثلًا في كتاب جولد تسيهر "العقيدة والشريعة في الإسلام" في الفصل الأخير عن (الحركات الدينية الأخيرة) كلامه عن "المرحلة العصرية الحديثة من مراحل تطور الإسلام في الهند" ويتحدث عن هذه المرحلة قائلًا: "إن اتصال المسلمين الوثيق بالمدنية الغربية، وخضوع الملايين الفقيرة منهم لدول غير إسلامية، وذلك بسبب ما قام به الأوروبيون من الفتح والاستعمار، وكذا مساهمتهم في المظاهر العصرية للحياة الاجتماعية، نتيجة لغزو المدنية الغربية لبلادهم -كل هذه العوامل قد أحدثت أثرًا عميقًا في الطبقات الإسلامية المستنيرة، وفي علاقاتها بما توارثته من نظريات وتقاليد دينية، وكانت هذه النظريات والتقاليد في حاجة شديدة ملحة إلى التقريب والملاءمة بينها وبين الظروف الجديدة. وقد اهتدت هذه الطبقات المستنيرة إلى العمل على نقد التعاليم الإسلامية، والتفرقة بين معالم الإسلام الأصلية والزيادات التاريخية التي أضيفت إليه، والتي يسهل تضحيتها في سبيل حاجات المدنية ومقتضيات العمران. . . وإن هذه ¬

_ (¬1) وثائق المؤتمر في Filming, "Missions Work Among Muslims" P.6 (¬2) راجع فصول: "التغريب في دراسات المستشرقين" في كتاب "الإسلام والحضارة الغربية" محمد محمد حسين ص 135 - 210.

الميول العقلية التي رمت إلى التوفيق بين الحياة والفكر الإسلاميين، وبين مطالب الحضارة الغربية التي نفذت إليهما، شايعها على الأخص المستنيرون من مسلمي الهند، وعضدوا نشاطها الاجتماعي والأدبي، وساهموا في جهودها الخصبة المنتجة، فالسيد أمير علي والسير سيد أحمد خان بهادور وأضرابهما من الشخصيات البارزة الأخرى في العالم الإسلامي، كانوا قادة هذه الحركة الروحية، التي ترمي إلى إحياء الإسلام وإعادة تنظيمه. وقد تحققت نتائج هذه الحركة في الحياة الروحية الجديدة للإسلام الهندي، الذي يتقدم شيئًا فشيئًا في همة ومثابرة، وهو إسلام عقلي حكم هؤلاء المستنيرون عقولهم في فهم تعاليمه، متأثرين بالتيارات الفكرية في المدنية الحديثة، ومال أشياع الماضي المستمسكون به إلى تسمية هذه الجهود بالاعتزال الجديد. وهذه الروح العصرية التي بدأ ظهورها في الهند قد أثرت في التفكير الديني في البلاد الإسلامية الأخرى، مصحوبة بغيرها من المؤثرات، ومع ذلك فالأثر الهندي لا يزال ضعيفًا إلى اليوم. ومن البلاد الإسلامية التي تأثرت بنزعة التجديد مصر وتونس والجزائر والأقطار التتارية الخاضعة للحكم الروسي. وعلى كل حال فإن الجهود التي بذلها المسلمون في البقاع الإسلامية المختلفة للأخذ بأسباب الحضارة، واتصال هذه الجهود بحياتهم الدينية اتصالًا وثيقًا، لما يعدهم إلى مرحلة جديدة في تطور الإسلام فيعمدوا في المستقبل نتيجة لهذه المحاولات إلى أن ينتقدوا مصادر الفقه والعقائد الإسلامية نقدًا تاريخيًا علميًا" (¬1). وكان جولد تسيهر في بداية فصله هذا، قد تحدث عن الطريقة التي يتطور بها الإسلام وتصوره عن كيف أمكن ويمكن للشريعة أن تواجه التطور وتحول الظروف وتغيرها، بعد أن يقرر أنه "ليس من الصواب أن نعد الجمود وعدم القابلية للتغيير من الصفات اللازمة للشريعة الإسلامية". وفي رأيه أن من أوائل هذه الطرق "فتح ثغرة في حصن السُّنَّة المنيع"، حين يتعذر على المسلمين "أن يتقيدوا بالفكرة السُّنِّية المتشددة التي يعدونها المعيار الأوحد للحق والقانون" (¬2). ¬

_ (¬1) "العقيدة والشريعة في الإسلام" جولتسيهر ص 290. (¬2) المصدر نفسه ص 253.

والأمر الثاني في نظره تجاوز "ما تقرر في عصور الإسلام الأولى من عادات وتقاليد"، ثم هناك مفهوم (المصلحة)؛ أي: ما يقتضيه الصالح العام، وهو الغاية من تطبيق الشريعة، وهو مفهوم واسع ومن الممكن بناء عليه "التخلي عن القواعد التي قررتها الشريعة إذا ما يثبت أن مصلحة الجماعة تتطلب حكمًا يغاير حكم الشرع" (¬1). وهناك أيضًا مبدأ "تبعية الأحكام للأحوال" ويمكن به اتخاذ أحكام جديدة في الظروف التي تتغير (¬2). المستشرق جب: نبوءة بمستقبل الإسلام: كتاب المستشرق جب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام Modern Trends in Islam) يبحث بكامله في موضوع واحد هو موضوع التجديد العصراني في الإسلام. ولقد سبقه في هذا المضمار كتابان: كتاب تشالز آدمز Adams Charles. C. (الإسلام والتجديد في مصر، Islam and Modernism in Egypt)، والذي ظهر عام (1933 م). وكتاب ولفرد كانتول سميث W.C Smith الإسلام المعاصر في الهند Modern Islam in India والذي نشر في عام (1943 م). ويأتي كتاب جب متممًا ومكملًا لجهود الكتابين السابقين، ومعتمدًا على التحليل واستخلاص النتائج، أكثر من الاعتماد على السرد التاريخي، الذي اهتم به الأولان. والكتاب في الأصل ست محاضرات ألقاها المؤلف في جامعة شيكاجو في عام (1936 م) ضمن برنامج محاضرات عن الأديان المقارنة (¬3). يحتوي الكتاب على ستة فصول: الفصلان الأولان تمهيد للدراسة، وثلاثة فصول تشتمل على صلب الدراسة، ثم فصل خاتم. يتحدث في الفصل الأول عن منابع الفكر الإسلامي القرآن والسُّنَّة والإجماع، ولا يخلو حديثه عنها من الهنات، ولكن تناولها يخرج بنا عن موضوع البحث. وفي الفصل الثاني يتحدث عن الاتجاهات والحركات الفكرية في الإسلام بين القرن الثاني عشر والتاسع عشر الميلادي (الخامس والثالث عشر الهجري) ويصفها بما يسميه "التوتر ¬

_ (¬1) "العقيدة والشريعة في الإسلام" جولتسيهر ص 255. (¬2) المصدر نفسه ص 256. (¬3) والترجمة العربية الحسيني ص Gipp, H.A "Modern Trends in Islam" P.VII-XII 17

الداخلي في الإسلام" ويفصل الحديث عن الحركات الأخيرة حركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، ونشاط الأفغاني ومحمد عبده وسيد أحمد خان، ونشاط الجماعات الصوفية التي تمثل في انتشار القديمة منها وتأسيس أخرى جديدة. ثم تأتي الفصول الثلاثة التالية دراسة متكاملة عن العصرانية في الإسلام، (حتى زمن تأليف الكتاب) تحت العناوين: مبادئ العصرانية The Principles of Modernism، الديانة العصرانية الجديدة Modernism Religion ، والقانون والمجتمع (أي: إصلاحات العصرانية فيهما). ويحلل في الفصل الأخير مستقبل الإسلام في العالم وبخاصة مستقبل التجديد العصراني. وليس غرضي هنا أن أعطي ملخصًا كاملًا للكتاب ولكن سأعرض فقط نقاطًا من رؤيته وتحليلاته للحركة العصرانية في الإسلام. منذ البداية يقدم لنا جب نبوءة صريحة عن مستقبل الإسلام في نظره، ويذكر أن غرضه الأساسي في الكتاب البحث عن: إلى أي مدى تحققت هذه النبوءة؟ فبعد أن يرصد التطورات الأخيرة في المسيحية في القرن التاسع عشر والعوامل التي أدت إلى ظهور الحركة العصرانية في الغرب يقول: "يجب علينا أن ننتظر تطورات في حركة التفكير الإسلامي بشكل مواز للتفكير الغربي في القرن التاسع عشر، إذ إن الأوضاع التقليدية في الإسلام بوجه عام متشابهة للأوضاع في الدين المسيحي في القرن الثامن عشر في أوروبا، وأن انتشار التعليم العلماني في المائة سنة الأخيرة في البلاد الإسلامية عرّض الفئات المثقفة من المسلمين لنفس التأثيرات التي دفعت إلى ظهور الفكر الديني الغربي الحديث. وإذا كانت الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متشابهة فيجب علينا أن نتوقع حدوث تطور مماثل في الفكر الديني الإسلامي" (¬1). فهل تحققت هذه النبوءة؟ في محاولته للإجابة على هذا السؤال، يقدم عرضًا مقتضبًا لتطور حركة التجديد العصراني في مصر والهند، وأهم النتائج التي توصلت عمومًا إليها، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص (P.46) 74.

فيقول: إنه يجب ألا نبالغ في أمر انتشارها وأهميتها، فهي حركة ضعيفة ولا تقارب قوة الإسلام (المحافظ) وتأثيره، وأن الجماعات (المحافظة) وبخاصة في مصر تراقب "التجديد العصراني" بحذر ومتحفزة للإطباق عليه متى حانت الفرصة (¬1)، وأنها بشكل أساسي تنحصر في عوام المثقفين ثقافة غربية Educated Laymen، وأنها لا تشكل تيارًا منتظمًا من النظريات ذات الأسس السليمة المقبولة، ولكنها بصفة عامة تأثيرات فردية وردود فعل شخصية Subjective impulses (¬2) . ويستمر جب في تحليلاته فيقول، بما أن المبدأ الأساسي للعصرانية ينحصر في المطالبة بالحرية الواسعة للبحث في المصادر الإسلامية، واستخدام الفكر الحديث في تفسيرها، دون اهتمام بآراء الفقهاء والعلماء الأوائل (¬3)، إلا أنه لا يجد إلا في الهند وفي تركيا إلى حد ما مجددين شرعوا في إعادة النظر في أسس الشريعة كلية (¬4)، وبينما كان رجال الدين أنفسهم في الغرب هم الذين أعادوا تشكيل الفكر الديني وفقًا للآراء الفلسفية والتاريخية السائدة، فلا يمكنه أن يجد بين علماء الدين الإسلامي من يقوم بهذا النشاط، باستثناء الجهود المحدودة جدًا التي قام بها الشيخ محمد عبده (¬5). ورغم أن الدراسة النقدية للمؤلفات التي وضعت في القرون الوسطى عن السُّنَّة والفقه قد أصبحت سلاحًا للعصرانيين لا يستغنى عنه، إلا أن القرآن لم يتعرض لأي نوع من أنواع النقد التاريخي سوى من فئة قليلة (¬6). ولكن إذا كان الباب لم ينفتح لنقد القرآن، إلا أنه قد انفتح لإعادة تفسيره في ضوء المعرفة الحديثة، مما أدى إلى اطراح طرق التفسير القديمة. يقول جب: "مدعيًا أن الحاجة كانت ماسة لخطوة من هذا النوع": "إن الأجيال المسلمة الحاضرة بحاجة أن يبرهن لها أن لا شيء في القرآن ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 82 (P.54). (¬2) المصدر نفسه ص 76 - 77 (pp. 48, 49 .). (¬3) المصدر نفسه ص 87 (P.58). (¬4) المصدر نفسه ص 81 (P.53). (¬5) المصدر نفسه ص 75 (P.57). (¬6) المصدر نفسه ص 78 (P.50).

خاطئ لأن الزمن تجاوزه، وأن التفكير العلمي والتاريخ الحديث لم يؤثر قط في قيمته كوحي كامل ونهائي لقضايا الكون، وإلا انهدم القول بأنه كلام الله الحرفي. وهكذا كانت الحاجة ماسة لإعادة تفسير القرآن، بما يعتبر من صميم التفكير العلمي المعاصر، مثل تفسير "الطير الأبابيل" بمعنى جراثيم. (ورغم أن جب يرى أن مثل هذا التفسير مدعاة للسخرية)، إلا أنه يعتقد أن ما هو أهم من محتواه أنه "قد طرح منهج التفسير القديم جانبًا" (¬1). ويقارن المؤلف بين حركتي التجديد في مصر والهند، فيرى أن اتجاهات التفكير في الهند ذهبت أبعد مما يشاهد في الشرق الأدنى، وأن من أسباب ذلك أن التعليم على النمط الأوروبي دخل الهند قبل أن يعرفه الشرق الأدنى، وانتشر أكثر، كما أن وضع الهند المستقل والحرية التي ينعم بها المسلمون، تجعلهم يعبرون عن آرائهم بمنأى عن سلطة دينية رسمية (كالأزهر في مصر) تراقبهم وتقمعهم (¬2). ويصف مدرسة سيد خان في استخدامها مبدأ الملاءمة مع الطبيعة Conformity to nature، ورفض مبدأ المعجزات، بأنه اتجاه (عقلاني) ولكنها بلغت في أقصى تطرفها تحت ستار العلوم الطبيعية حدود المبالغات والأوهام (¬3). ولعل إقبال في رأي المؤلف يشكل أهم صورة للطائفة الإسلامية الحديثة في الهند، لكنه من الناحية الفكرية الصورة المخيبة للآمال نظرًا لمتناقضاته (¬4). ولكن الهند في رأي المؤلف أنجبت طائفة واحدة جديدة ناجحة هي حركة الأحمدية (القاديانية)، التي اتخذت شكل إصلاح تحرري سلمي، وهي تفتح الطريق لبداية جديدة لأولئك الذين فقدوا إيمانهم بالإسلام القديم (¬5). وينتقد جب كتابات العصرانيين فيقول: إنه مهما كان تعاطفه مع أهداف (المصلحين) وجهودهم المبذولة للخلاص من وطأة الماضي، إلا أنه يرى أن أغلب كتاباتهم "تثير الدهشة وتصدمنا بطريقتها في المناقشة وبحث الحقائق، إننا نحس بخطأ ما فيها، ولو من عدم التوافق، كأن المؤلف إما عاجز عن التصرف ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 103 (P.72). (¬2) المصدر نفسه ص 83 (P.56). (¬3) المصدر نفسه ص 87 (P.58). (¬4) المصدر نفسه ص 88 (P.59). (¬5) نفسه ص 90 (P.61).

بما لديه؛ أو أنه يرغب في بلوغ نتيجة مرسومة سلفًا"، ولكنه لا يندهش من كل ذلك ويرى أن هذا الفكر لا زال في بداية الطريق (¬1). وفي فصله عن إصلاحات الحركة العصرانية في المجتمع والقانون، يرى أن العصرانيين يتبنون وجهة النظر الغربية في كثير من إصلاحاتهم، وتمتد مطالباتهم بإصلاحات في ميادين الطلاق وتعدد الزوجات والإرث والوقف وغيرها (¬2). ويحلل الفصل الذي خصصه سيد أمير علي لبحث وضع المرأة في الإسلام، ويصفه بأنه "سرد عمليًا كل المقترحات الحديثة حول المسألة، وبطريقة أكثر إقناعًا من أغلب المؤلفين الذين أتوا بعده، ورددوا أقواله في كل اللغات الإسلامية، بأعنف النغمات وألطفها" (¬3). ويصف موقف العصرانية عمومًا حيال قضايا القانون والمجتمع، بأنه فوضى فكرية واندفاع عاطفي خيالي وإن كان يأمل أن يولد استمرار المطالبة بالإصلاحات في هذه المجالات "تطورًا داخليًا في الإسلام" (¬4). وفي الفصل الأخير يقدم جب نصائحه من أجل مستقبل أفضل للإسلام في العالم! إذ إنه يعتقد أن الإسلام ليس مهددًا من الخارج بقدر ما هو مهدد من الداخل، وما يحدث حين يقوى الأثر التقني للحضارة الغربية في المجتمع الإسلامي بصورة أعمق هو إما أن تزداد العلمانية انتشارًا، أو أن الحركة المهدية (ويعني: بها أي حركة ترى أن الحقيقة إنما تظهر بحد السيف) سوف تحدث رد فعل عنيف (¬5)، ولكن جب يرى طريقًا آخر يمكن أن يتم التوفيق بواسطته بين الإسلام والفكر المعاصر، ويقول: إنه طريق بمتناول المفكرين المسلمين لو أنهم تنبهوا لأهميته وشاءوا استعماله، هذا الطريق هو منهج البحث التاريخي وطرائقه. إن هذا المنهج -كما ينصح جب- هو وحده الكفيل بإيجاد النقد العلمي المقبول، وإعادة مرونة التفكير الإسلامي. وبعد هذه النصيحة الغالية يختم جب كتابه بالتساؤل والتفاؤل: "هل يمكننا ¬

_ (¬1) نفسه ص 94 (P.64). (¬2) نفسه ص 124 - 126 (P.89,91). (¬3) نفسه ص 131 (P.95). (¬4) نفسه ص 143 (P.105). (¬5) المصدر نفسه ص 167 (P.121).

نظرة الإعلام الغربي

أن نتبين قرينة ما تدل على التفكير الإسلامي في هذا المنحنى؟ هذه القرائن والحق يقال نادرة ولكنها موجودة، وأنه لأمر له دلالته أن يكون أكبر المصلحين الحقيقيين في الإسلام الشيخ محمد عبده متأثرًا تأثرًا عميقًا بإنتاج وتفكير ابن خلدون، وأن ينتشر في تعاليم تلاميذه المفهوم التطوري لسير التاريخ انتشارًا بطيئًا، مجاوزًا الحدود التي يضعها في وجهه المذهب السُّنِّي التقليدي. . . ولكن هذه ليست إلا خطوة أولى وأن الحرب على جمود السلفية لم تبدأ بعد" (¬1). نظرة الإعلام الغربي: نشرت مجلة الايكونوميست البريطانية في يناير (1981 م) مقالًا مثيرًا بعنوان: "المسلمون والعالم المعاصر" (¬2)، ويعالج المقال قضية الصراع بين الإسلام والغرب، ويتساءل هل هناك فرصة للملاءمة بينهما. وكاتب المقال صحفي وسياسي يدعى (جودفري جانس) تقول عنه المجلة أنه قضى خمسًا وعشرين سنة في الشرق الأوسط، فهو خبير بشؤونه، ولأهمية المقال الذي يبين وجهة نظر الإعلام الغربي فيما يجري في عالمنا الإسلامي المعاصر، ومرئياته عن محاولات التجديد التي تسعى للتوافق مع الغرب، نقتبس هنا بعضًا من فقراته (¬3). يبدأ المقال بتأكيد الصراع بين الغرب والإسلام فيقول: "في الوقت الحاضر يواجه ويتحدى الإسلام والعالم الغربي أحدهما الآخر، ولا تطرح أية ديانة كبرى أخرى مثل هذا التحدي للغرب. والسبب في ذلك أن الإسلام واجه الغرب كرًا وفرًا طيلة (1500) سنة، والفترة الحالية هي فترة (كر). وكان الصراع السياسي متواصلًا طيلة المائة وثمانين سنة الماضية على الأقل. ومن الناحية الروحية Spiritually تحدى النظامان أحدهما الآخر طيلة قرن تقريبًا، أما من الناحية الاقتصادية فقد استمر هذا التحدي طيلة العشرين سنة الماضية. ¬

_ (¬1) الصفحات 169 - 176 و (PP.124 - 129). (¬2) Godfrey Jansen, "Moslems and the Modern World", the Economist , January 3,1981 Pages 21 - 26. ونشرت مجلة البلاغ (الكويت - مؤسسة البلاغ) ترجمة للمقال العدد 576، 19 ربيع أول 1401 هـ ص 58، وكذلك مجلة الأمة (قطر). (¬3) راجع ترجمة: المقال المشار إليه.

وهنالك أسباب عديدة طويلة الأمد وقصيرة الأمد تستلزم أن يواجه العالمان الإسلامي والغربي بعضهما البعض، فعلى الأمد الطويل هناك حقيقة التماس الجغرافي بين المدنيات والدول، فكما بين الأفراد فالجيرة نادرًا ما أنتجت روح جوار طيبة، وهناك شمولية الإسلام إذ لا يوجد فرق بين "المسجد" والدولة ولا فرق بين ما لله وما لقيصر. وفي المدى القصير هناك ما يسمى في الغرب "الإسلام المتطرف" وينظر إليه باعتباره مثيرًا للنزاع والجدل وبخاصة بعد ازدياد القوة الاقتصادية الجديدة للبلدان المنتجة للنفط (ومعظمها بلدان إسلامية)، وبعد فرض العقوبات الشرعية مثل الجلد والرجم في باكستان وغيرها، والدعاية التي أعطيت لهذه الأحداث في وسائل الإعلام الغربية، وأيضًا بعد الضجة التي أثيرت حول أحداث إيران، والتأثير الأوسع نطاقًا للثورة الإسلامية في إيران. فهل هناك أية إمكانية لتفاهم متبادل بل ولاتفاق حقيقي؟ كان الغرب يتساءل لماذا لا يستطيع الإسلام أن يتقبل روح العصر؟ ويقترح النقاد الغربيون إعادة النظر في الإسلام من خلال المفاهيم المعاصرة، وآخر صيغة حديثة مقترحة هي ضرورة تجديد الإسلام وربطه بحاجات العصر الراهن. وهكذا فإن أكثر الغربيين جدية يتساءلون ببساطة (لماذا لا يستطيع المسلمون أن يكونوا مثلنا؟). (نعم، لم لا؟) كان هذا الجواب الإسلامي الأول قبل حوالي قرن على تحدي العالم الغربي الذي كان عندئذ في كامل قوته. وبناء على الافتراض الذي ثبت الآن زيفه، بأن القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الغربية، هي امتداد لقوته الروحية والفكرية، نظر المسلمون المتعلمون في ذلك الوقت إلى مجتمعاتهم التقليدية، وهي مهزومة وتسيطر عليها القوى الغربية، فقرروا أنهم والإسلام متحجرون ومتخلفون ويعيشون خارج العصر. ولم تكن المسألة بالنسبة لهؤلاء المتعلمين مسألة ما إذا كان ينبغي على الإسلام أن يكيف نفسه مع القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكنها كانت كيف وإلى أي مدى وبأي سرعة يجب عليه أن يفعل ذلك. وبسبب انطلاقهم من هذه الفرضية الانهزامية لم يصل المفكرون المسلمون الأوائل أمثال الأفغاني وعبده ورضا، الذين نشطوا بين (1875

و 1935 م) إلى أكثر من تصفيق أكفهما ببعضها، وفشلوا في تقديم أية مقترحات رئيسة وإيجابية للإصلاح. ولحسن الحظ أن الإسلام ولأسباب ليس أقلها حيويته المستمرة أنتج ردود فعل أخرى على تحدي العالم المعاصر، وبسبب الثقة الجديدة بالنفس عند المسلمين أصبح التساؤل الأول هو: هل من الضروري أن يتكيف الإسلام مع القرن العشرين؟ ثم إذا كانت الإجابة بالإيجاب يأتي التساؤل بعد ذلك حول: كيف وإلى أي مدى يتم هذا التكيف؟ كيف يكون الإسلام واثقًا من نفسه إلى هذا الحد في هذا الوقت وهذا العصر وكيف يجرؤ على أن يطلب من العالم المعاصر أن يتكيف معه؟ السبب الأول والأفضل لهذه الثقة بالنفس لدى المسلمين هو اليقين الهادئ بأن الإسلام دين حي ويؤكد ذلك في أعين المسلمين أنفسهم على الأقل، أن الإسلام دين عالمي ينتشر بسرعة على العكس من أي عقيدة أخرى، والنمو يؤكد الحيوية. ولكن لماذا يجب أن يكون الإسلام حيويًا بصفة خاصة إلى هذا الحد في عصر الشك الروحي هذا؟ ويجيب المسلمون المعاصرون أن السبب في ذلك فقط في أن عمر الإسلام هو (1400) سنة وأنه أحدث العقائد في العالم، بل لأنه قبل كل شيء عقيدة واضحة بسيطة ويخلو من تعاليم المسيحية المعقدة، كما أن المبادئ الأخلاقية الإسلامية عملية ومن الواضح أنها تلائم بصورة حسنة حقائق الوجود اليومية، والإسلام في صيغ عبادته وأماكنها يختلف كثيرًا عن الطقوس الفخمة وشبه الوثنية لبعض أشكال المسيحية والبوذية والهندوسية. وإضافة لما سبق فإن الإسلام في نسخته السُّنِّية (التي تشمل 90 بالمائة من المسلمين) ديمقراطي ويقول بالمساواة إلى حد كبير ويخلو من المؤسسات الدينية ومراتب رجال الدين. ولأن للإسلام هذه الصفات (المعاصرة) كونه بسيطًا وعالميًا، ودون طقوس ويقول بالمساواة، فإن وجهة النظر الإسلامية تخلص إلى أنه يتفق مع الروح والعرف السائدين في أواخر القرن العشرين. ورغم أن هذه الحجج توفر أسبابًا صالحة بصفة واضحة، لوجوب ألا يكون الإسلام والعالم المعاصر على خلاف مع بعضهما البعض فإن الخلاف بينهما هو حقيقة فعلية. وإذا حكم المرء من وسائل الإعلام العامة التي تعكس الشعور الشعبي، فإنه يجد بدلًا من الفهم المتبادل والود المتوقعين تنافرًا متبادلًا

على مستوى روحي وفلسفي عميق بين الإسلام والمجتمع الغربي. مظاهر النفور: ما يجده الإسلام منفرًا في ثقافة الغرب هو بصفة أساسية غياب الإيمان، إلا أن هناك أشياء كثيرة جدًا يرفضها الإسلام في المجتمع الغربي المعاصر ومنها الأنانية الفردية للمجتمع الغربي المدمرة للعائلة والأمة في النهاية، ومن مظاهر ذلك الانغماس في الجنس والإباحية الحيوانية. ويبدو أنه ليس في إمكان الغرب أن يعمل إلا القليل لهذه الميزات السائدة في مدنيته لجعل المسلمين أقل نفورًا منها، ما لم يعد الغرب إلى ينابيع إيمانه. وهكذا إذا لم يتمكن الغرب من تغيير عيوبه، ماذا يستطيع الإسلام أن يفعل في مجال التكيف والتأقلم؟ يبدو هذا الاحتمال أكثر مدعاة للأمل، عندما ينظر المرء في تلك العناصر الموجودة في الإسلام، والتي تلقى الاعتراض من المجتمع الغربي. ويبدو أن هناك ثلاثة من هذه العناصر وهي عناصر قانونية واجتماعية، ولذلك فإنها على ما يبدو قابلة للتغير، وليست مسائل عقدية حتى لا تقبل التعديل. هذه العوامل الثلاثة المثيرة للاعتراض من جانب الغرب هي موقف الإسلام من المرأة، والعقوبات الشرعية للزنا والسرقة، وتحريم الربا. وموقف الإسلام من المرأة لا يثير اعتراض الغربيين المعاصرين فحسب، بل وأي امرئ يؤمن بالقيمة الإنسانية للفرد، أما منع الربا فيمكن الروغان حوله، وحتى العقوبات يمكن إبعادها بتفسيرات أخرى، ولكن لا يمكن أن يكون هناك مهرب من الحقيقة الجلية، وهي أن الإسلام يضع المرأة التي تكون نصف البشرية في مرتبة ثانوية، وخاصة في مسألة تعدد الزوجات وسهولة الطلاق والتمييز في الإرث. وكل ذلك منصوص عليه بدقة واضحة في السورة الرابعة من القرآن التي عنوانها (سورة النساء)، وفي هذه السورة هناك تأكيد على المساواة الروحية بين الرجال والنساء، ولكن هناك تأكيد أيضًا أن هذه المساواة ليست أساسية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وفي هذه السورة أيضًا نص على عدم المساواة في الإرث حيث للذكر مثل حظ الأنثين، وليس للأرملة أكثر من ربع ميراث زوجها. وعندما جاء النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأحكام في الجزيرة العربية في القرن السابع، وكان هو نفسه يتيمًا، فإن هذه الأحكام كانت جريئة وإنسانية،

وفي صف المرأة، ولأنها أعطت النساء والأرامل واليتامى مكانة في مجتمع لم تكن لهن فيه حقوق، وإن كانت مكانة ثانوية. وكانت حقوق المرأة المسلمة والوضع العائلي لها بموجب عقد الزواج أفضل من الأوضاع التي كانت تتمتع بها المرأة في أي مكان في العالم حتى عام (1800 م)، ولكن بدلًا من الحفاظ على روح الإصلاح التي صنعت النصوص القرآنية، لإعطاء النساء المسلمات مركزًا متساويًا في العالم المعاصر، يقال خاصة من رجال الدين المسلمين، أنه لا يمكن تعديل القرآن نفسه. وهكذا أصبحت نصوص القرآن الذي جاء أصلًا للإصلاح ثابتة وسندًا لأوضاع مختلفة. وإذا اتبع الإسلام خطى متشددي آخر الزمان وأصر على التطبيق الصارم للنصوص القرآنية بالنسبة لوضع المرأة، والعقوبات والربا، فإنه من الطبيعي عندئذ ألا تكون هناك إمكانية للاتفاق بين الإسلام والغرب. وردود الفعل الإسلامية للرفض الغربي لهذه الجوانب الثلاثة تقع في ثلاثة أنواع: فهناك الرفض المبسط القائل هذا هو الإسلام، وسيظل كذلك فخذوه أو اتركوه، وهي وجهة نظر متشددة، وجواب غير مناسب على التحدي المعاصر. وإذا كان رد الفعل الأول هذا جريئًا ويتميز بقلة الحياء، فإن رد الفعل الثاني يبدو في أعين الغرب غير مقنع، في محاولته إيجاد الأعذار والمسوغات للموقف الإسلامي، إذ يقال أنه يجب توفر أربعة شهود عيان للزنا، وأنه لن تكون هناك سرقة في مجتمع عادل، وبالتالي لن يكون هناك قطع للأيدي وهلم جرا، وكثير من هذا النوع من التسويغ جاء وما زال يأتي في شبه القارة الهندية، خاصة من باكستان وأقل المعبرين عنه كان أمير علي في كتابه "روح الإسلام". ورد الفعل الإسلامي الثالث هو ببساطة وعلى العكس تمامًا من رد الفعل الأول ويقول المعبرون عنه: علام كل هذه الضجة؟ فالقانون الشرعي ليس ثابتًا، وببساطة دعوا جانبًا أحكامه حول النساء، والعقوبات والربا، باعتبارها حواش وإضافات لجوهر الإسلام الروحي الخالد. رمي أبواب الاجتهاد بالمنجنيق: رد فعل الفريق الأخير من المفكرين المسلمين هو الذي يبدو منطقيًا أكثر من وجهة النظر الغربية. ولكن ليست القضية كذلك في الإسلام نفسه، إذ أن

هناك مبدأين إسلاميين، يجعلان من الصعب على معظم المسلمين القبول بتغيير كاسح كهذا. المبدأ الأول هو الإيمان الأساسي بثبات القرآن وحصانته ضد التغيير، أما المبدأ الثاني فهو التأكيد على أن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، التي يتضمنها الحديث الشريف، ملزمة للمؤمنين بالقدر نفسه؛ لأن النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- كان رجلًا كاملًا، والمثال الإنساني الذي لا يخضع للتساؤل. ويمكن التعامل مع المبدأ الثاني بسهولة إلى حد ما لأنه حتى المسلمون المتشددون اعترفوا بأن الكثير من الأحاديث غير صحيحة. أما المبدأ الأول الخاص بالحرمة الكلية للقرآن فيمكن التعامل معه برقة واحترام من خلال (الناسخ والمنسوخ)، أي: أن آيات معينة في القرآن نفسه تنسخ أو تبطل آيات معينة أخرى. وهو يزيل القدسية الكاملة المضفاة على كل آيات القرآن، واستخدام مبدأ النسخ على نطاق واسع يفتح للمسلمين مجالًا للتفريق بين ما هو ثابت ودائم في القرآن وما هو مؤقت وخاص. ويمكن لهذه التفرقة أن تتم بالتمييز بين سور القرآن التي نزلت على النبي في مكة، وبين السور التي نزلت عليه وهو حاكم ومشرع وقائد لأول مجتمع إسلامي في المدينة. وهذا يعني (فتح باب الاجتهاد) الذي جرى الحديث عنه كثيرًا، والذي أعلن علماء الدين المحافظون أنه أغلق في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين. ولكن من الواضح أن فتح أبواب الاجتهاد، يمكن أن يتم فقط بعمل حاسم ذي شجاعة روحية وأخلاقية، تنبعث من داخل الأمة الإسلامية، ومن المجتمع الإسلامي نفسه. وواضح أن ذلك لم يحدث بعد. وفي كتابات المصلحين الأوائل تتكرر الإشارات إلى حاجة الإسلام إلى (لوثر). ولكن لا يمكن خلق أمثال لوثر بناء على الطلب، ومع ذلك فإن الحاجة قائمة في الإسلام لشخص مثله تمامًا، شخص قوي الإرادة، عالي الصوت، ومصلح اجتماعي ديني، واثق من نفسه، شخص لا يوقف أطروحته على الاجتهاد فحسب، بل ويرمي أبواب الاجتهاد بالمنجنيق إذا لم تبد دلائل على الانفتاح.

أمريكا وتجديد الإسلام

وبعد هذه الدعوة الحارة للبحث عن (لوثر) ينسف أبواب الاجتهاد، ويغير أحكام المرأة والحدود والربا، من أجل التوافق مع الغرب، ينهي الكاتب مقاله بأن أمل الغرب الوحيد هو من خلال مثل هذا "الفاتح المنتظر لأبواب الاجتهاد" فيقول: "إن الإسلام المتشدد لا يمكن أو سوف لن يكون مفهومًا ومقبولًا لدى الغرب. . . ومع ذلك فإنه لا فائدة في محاولات الغرب التوافق مع أولئك المسلمين الذين ينتقصون من قدر الإسلام، أو مع أولئك الذين يريدون رؤيته وقد تجاوزه الزمن على أسس غربية، فالتقليد لم يكن أبدًا أفضل شكل للإطراء، ولذلك فإن الطريق كما يبدو ستكون من خلال "أبواب الاجتهاد". أمريكا وتجديد الإسلام: تسعى أمريكا للتأثير على العالم الإسلامي بطرق عديدة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام (2001 م) التخريبية، التي دمرت فيها مبان في مدينتي نيويورك وواشنطن وقتل فيها المئات، والتي اتهم المسلمون بتدبيرها وتنفيذها. ولقد نشرت مؤسسة رند الأمريكية للبحوث في عام (2003 م) تقريرًا هامًا (¬1) عن كيف يمكن لأمريكا أن تحقق عالمًا إسلاميًا يتلاءم مع مصالحها؟ وهذا ملخص موجز لأهم نقاط هذا التقرير الخطير الذي صدر من مؤسسة لها أثرها في تخطيط سياسة أمريكا. يبدأ التقرير بتحليل أوضاع العالم الإسلامي الحاضرة، فيذكر أنه يعاني من اضطراب وصراع خطير بين تيارات كثيرة تحاول أن تخرجه من أزمته الحالية المتمثلة في تخلفه الحضاري المريع. ويحث التقرير الغرب على ألا يقف مكتوف اليد من هذا الصراع، بل لابد له من أن يتدخل ويبحث عن شركاء من المسلمين، من أجل صياغة "إسلام" يتلاءم مع الحضارة الغربية، ويمنع التطرف والإرهاب وتهديد مصالح الغرب. ويعترف التقرير بأن إدخال التعديل على ديانة عالمية ضخمة ليس بالأمر السهل، بل هو محفوف بالكثير من التعقيدات ¬

_ (¬1) عنوان التقرير (إسلام حضاري ديمقراطي: شركاء وموارد واستراتيجيات)، شيريل بينارد، مؤسسة رند، 2003 م.

والمزالق، لكن لابد من البحث عن أنجح السبل واختيار مسلمين شركاء يساعدون في مهمة تعديل الإسلام حسب ما يريد الغرب. ولهذا يحلل التقرير تيارات التغيير في العالم الإسلامي، ويقسمها إلى فئات حسب قربها وبعدها عن النموذج الغربي. الفئة الأولى: الأصوليون ويصفهم بأنهم متشددون يرغبون في الإمساك بزمام السلطة، ومن ثم تطبيق الإسلام حسب منظورهم الخاص. ويذكر التقرير مثالين لهذه الفئة هما المتشددون من الشيعة في إيران، والوهابيون فى الجزيرة العربية. ويرى التقرير أن هؤلاء يعادون الديمقراطية والغرب ولا يبالون في فرض آرائهم بالقوة، وإن كان لا يحبذ كلهم العنف والإرهاب. الفئة الثانية: التقليديون وهم المحافظون ومعظمهم ينتمي إلى الاتجاهات الصوفية التي سادت العالم الإسلامي في فترات انحطاطه، ومع أن هؤلاء لا يطالبون بحكومة إسلامية، لكنهم يرون أن من واجب الدولة والسلطة السياسية العلمانية، توفير الحماية لهم والحرية لمزاولة نشاطهم، ولهذا هم يحاولون السيطرة والنفوذ ما أمكن. ويجعلهم هذا عرضة للاستغلال من قبل العلمانيين، الذين يجعلونهم مطية يركبونها لبلوغ أهدافهم. وإن كان معظم التقليديين محافظين، إلا أن منهم إصلاحيون يقدمون بعض التنازلات من أجل التعايش مع الحياة العصرية، خاصة أولئك التقليديون الذين يعيشون في الغرب. الفئة الثالثة: المجددون وهم يسعون إلى إحداث تغييرات واسعة في فهم الإسلام، الذي يعتبرون أن فهمه قد تأثر بالظروف التاريخية الماضية، واختلط بالتقاليد والأعراف المحيطة به. وهم يريدون تحريره من أصر هذه القيود وتعديله ليكون ملائمًا للعصر الحاضر. وهم يرون أن النموذج الإسلامي التاريخي وتطبيقه حتى في عصر الرسول، لم يعد مناسبًا الآن، ولكن يمكن الاحتفاظ بجوهر الإسلام وتكييفه حتى يناسب العصر، ويرون أن القيم والمبادئ الغربية من الديمقراطية والحرية وغيرها تتماشى بسهولة مع الإسلام، ولهذا يودون إدخال الحداثة الغربية في الإسلام فيتطور تماشيًا مع العصر. ومن الواضح أن هذه الفئة هي فئة التجديد العصراني التي جاء تفصيل آرائها في ثنايا هذا البحث.

الفئة الرابعة: العلمانيون وهم الذين يرون فصل الدين عن السياسة لأنه أمر خاص لا يتعلق بالشؤون العامة. ويرون أنه ينبغي المحافظة على ألا يتدخل الدين في السياسة، ولا تتدخل الدولة في حرية الأفراد الدينية، ولا يرى هؤلاء أي تعارض بين الشرائع الدينية والشرائع الوضعية التي يجعلون لها الحاكمية في المجتمع. وتمثل تركيا النموذج للعلمانية في العالم الإسلامي. ويدعو التقرير أمريكا خاصة والغرب عامة بمساعدة فئة التجديد العصراني؛ لأنها هي الأقرب للغرب والأكثر استعدادًا لتعديل الإسلام وتغييره. ورغم أن فئة العلمانيين كانت هي خيار الغرب في العصور الماضية، لكن التقرير يحذر من أنهم فقدوا مكانتهم في العالم الإسلامي، بسبب فشل برامجهم السياسية والاقتصادية وفشل مبادئهم للقومية وغيرها، وأن المستقبل سيكون فيمن يركب موجة الإسلام السياسي. ولهذا يقترح التقرير دعم التقليديين لمحاربة الأصوليين، وأهم من ذلك دعم العصرانيين ومساعدتهم بعدد من الطرق منها: ° نشر وتوزيع كتبهم ودراساتهم بأسعار رخيصة. ° تشجيعهم للكتابة للشباب والجمهور العام. ° تضمين آرائهم في كتب التربية الدينية بالمدارس. ° توفير منابر لهم يخاطبون الناس من خلالها. ° توفير مواقع إلكترونية ومعاهد ومدارس وإعلام وغيرها من الطرق التي تنشر آراءهم.

الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

الفصل الأول نقد المبادئ العامة

الفصل الأول نقد المبادئ العامة

تمهيد

الفصل الأول نقد المبادئ العامة تمهيد: كانت الفصول الماضية عرضًا خالصًا للفكر العصراني منذ بداية ظهوره في النصف الثاني من القرن الماضي، وسردًا للآراء منسوبة لأصحابها. ونخصص هذا الفصل للتحليل، والنقد والتقويم، وبيان مواضع الصواب والخطأ. ورغم اختلاف نظرة العصرانية التفصيلية لمسائل الدين بين دين ودين، وبين مفكر وآخر إلا أن التمعن وتدقيق النظر، يرجع أصول هذه الفكرة إلى مبادئ أساسية، هي التي توجه منهجها في التفكير ونظرتها إلى الأمور الجزئية. وهذه الأصول والمبادئ الأساسية هي التي سوف توضع في ميزان النقد أولًا، ثم تتبعها التفاصيل والفروع. فروض العصرانية الأساسية: العصرانية في الدين -كما سبق تعريفها- هي أيّ وجهة نظر في الدين، ترى أن التقدم العلمي الحاضر والمعارف المعاصرة، تستلزم إعادة النظر في الفكر الديني القديم، وتأويل تعاليم الدين لتتلاءم مع معارف العصر السائدة وظروفه.

والمتأمل في هذا التعريف يرى أنه يقوم على فرض أساسي كبير، وهو أن العصر الحاضر بظروفه وأحواله، وعلومه ومعارفه، وتقدمه وتطوره، لا يناسبه ولا يتلاءم معه الفكر الديني التقليدي القديم، الذي نشأ وتكون متأثرًا بظروف عصره السائدة فيه. وإذا كان ذلك الفكر صالحًا لذلك الزمان فإنه ليكون صالحًا لهذا العصر فلابد من إيجاد المواءمة بينه وبين الظروف الجديدة المتغيرة. وقد تكون هذه المواءمة بإعادة تفسير وتأويل بعض تعاليم الدين، ورفض التفسيرات القديمة لها، وقد تكون باطراح بعض التعاليم التي لم تعد مناسبة وتغييرها بتعاليم مناسبة. وعلى كل حال فإنه لابد من إعادة تكييف الدين على ضوء ظروف ومعارف العصر السائدة. ومن الممكن تقسيم هذا الفرض الأساسي إلى أجزاء ثلاثة: أولًا: عصرنا الحاضر عصر متطور متقدم، وشهد تحولات وتغيرات كبيرة. ثانيًا: ترتبط تعاليم الدين في كل عصر بظروفه وأحواله، مما يجعل بعضها لا يناسب عصرنا الحاضر. ثالثًا: نظرة كل عصر إلى حقائق الدين نظرة نسبية بحسب المعارف المتاحة له، وما كان يؤمن بأنه حق في عصر قد لا يكون حقًا في هذا العصر. وبناء على التصورات الثلاثة المتقدمة، يأتي التساؤل: ما الثابت في الدين، الذي يناسب كل عصر، وما المتغير الذي يتغير تبعًا لتغير المعرفة وتغير الأحوال. وإجابة العصرانية الأولية على هذا التساؤل هي أن الجزء الإلهي في الدين الذي مصدره الوحي هو الجزء الثابت في الدين، والجزء البشري في الدين الذي كونته عقول البشر هو الجزء المتغير، ومن ثم ينبع التساؤل: ما الإلهي في الدين، وما البشري؟ هذه هي الفروض الثلاثة الأساسية التي تنبني عليها فكرة العصرانية، والسؤالان الكبيران اللذان يستتبعان تلك الفروض. وهذه الأمور الخمسة تشترك فيها كل حركات العصرانية، سواء ما كان منها في اليهودية، أو النصرانية، أو الإسلام. وإذا انحلت عقدة هذه الأمور، واتضح وجه الصواب فيها، بانت حقيقة العصرانية، وأصبح من السهل الميسور نقد المسائل التفصيلية التي تقوم عليها.

وأول ما يستلفت النظر في الفروض الثلاثة الآنفة، أنها في الأصل ليست نظريات دينية، بمعنى أنها لم تتولد أساسًا نتيجة تفكير ديني، أو جاء بها وحي إلهي، إنما هي نظريات فكرية فلسفية نشأت خارج الدين. وعلى وجه الدقة فإنها من نظريات علم الفلسفة وعلم الاجتماع الغربيين. فمبدأ التطور Evolution (¬1) ، والمذهب النسبي Relativism، وعلم اجتماع المعرفة Sociology of knowledge، وأمثالها كلها ذات تأثير عميق في الفكر العصراني، وقد شيد بناءها فلاسفة الغرب وعلماء الاجتماع فيه، ولا يزال الجدل يحتدم حولها، ولها أنصارها ومؤيدوها، ونقادها ومعارضوها. وعلى هذا البناء الذي لم يستقر بعد ولم يعترف بأنه حقائق علمية ثابتة، تقيم العصرانية فكرها وتريد أن تحاكم الدين على أساسه. نقد فكرة التطور: تتحدث العصرانية عن التغير الاجتماعي والتطور الثقافي وكأنه مسلمة بديهية لا تحتاج إلى إثبات، ولكن هل تبدو فكرة التطور كذلك، إذا نظر إليها المرء بعين فاحصة؟ ما التطور؟ إن الكلمة في معناها الواسع تعني تغيرًا متواصلًا من حالة أولية إلى حالة متقدمة، وهذا المعنى يتضمن أن هناك تحولًا دائمًا يحدث، وأن هذا التحول يحدث نحو الأحسن، ومن هذا يمكن أن يقال أن التطور هو التغير نحو الأفضل أو أنه التحول نحو الأصلح. والمدهش هنا أنك مهما عرَّفت التطور بأي ألفاظ متقاربة، فإن الذي يبدو واضحًا أن كلمة التطور لا تحمل معنى ذاتيًا مستقلًا، أو بعبارة أخرى أن كلمة التطور كلمة فارغة المحتوى، إلا إذا أضيفت إلى غيرها. ذلك أن التغير نحو الأحسن أو التحول نحو الأفضل يقتضي أن يكون واضحًا ما الأحسن وما الأفضل. إن التطور هو حركة إلى الأمام، ولا يمكن الحكم بأن حركة ما إلى ¬

_ (¬1) The Encyclopedia of Philosophy, Vol,2,P.302,V,3,P.75.V.7,P.475,Macmillan& free Press, New York 1967.

الأمام أو إلى الوراء، إلا إذا كنا نعرف تمامًا ما الأمام وما الوراء. لابد من غاية أو هدف حتى يتضح ما إذا كانت الحركة تقترب من هذه الغاية أو تبتعد (¬1). لهذا نجد من السهل الحكم بأنه قد حدث تطور في التقنية، ذلك أن غاية التقنية أمر واضح وهو تحسين وسائل المعيشة، ومن الممكن بمعايير محددة أن نتبين ما إذا كانت وسيلة ما أحسن من غيرها أم لا. أما في حياة الإنسان الاجتماعية فمن الذي يحدد ما الأحسن وما الأفضل؟ من الذي يحدد ما الأمام وما الوراء؟ إن وظيفة الدين الأولى أن يعطى الإنسان تصورًا واضحًا لما هو الأحسن وما هو الأصلح، وأن يحدد له بدقة الغايات الصحيحة والأهداف القويمة التي ينبغي أن يتجه لها بسعيه وحركته. ولهذا فقد كانت كلمة صائبة تلك التي انتقد بها هرش الحركة التجديدية في اليهودية حين قال: "إن الدين في نظرهم صحيح مادام لا يتعارض مع التطور، وفي نظرنا التطور صحيح مادام لا يتعارض مع الدين" (¬2). لقد نشأت العصرانية في منتصف القرن الماضي، حين كانت فكرة تطور المجتمع البشري فكرة مسيطرة على الأذهان، وأولع الناس بها أيما ولع، وقدحوا أذهانهم وخيالهم لوضع نظريات عديدة حولها، ولكن "ربما لا يوجد اليوم من بين المشتغلين بالعلوم الاجتماعية من يؤمن بنظرية تطور المجتمع في خط واحد نحو التقدم وفق مراحل محددة" (¬3) مع أن فكرة التطور الاجتماعي بهذا المفهوم غير صحيحة، فإن التغير الاجتماعي مسألة واقعة ومشاهدة ما في ذلك شك، ووظيفة الدين أن يوجه هذا التغير وأن يدفع به في مسار صحيح، وأن يصحح كل تغير يتناقض مع مُثُلِه وغاياته. فهل جعلت العصرانية الدين الحاكم على كل تغير، أم أنها تسعى لأن يتكيف الدين ويتلاءم مع كل تغير؟ إن التغير صحيح مادام يسير في إطار الدين وفي الاتجاه الذي يحقق غاياته، ولن يكون الدين صحيحًا إذا استجاب لكل تغير. ¬

_ (¬1) انظر: Pirie, "Madsen, Trial & Error & the Idea of Progress". (¬2) انظر: ص 105 من هذا البحث. (¬3) "نظرية علم الاجتماع" نيقولا تيماشيف، ترجمة مجموعة من الأساتذة ص 417، دار المعارف بمصر، ط. رابعة.

"باعتباري مريدًا وتابعًا لدين لا يمكنني -أبدًا- أن أقبل وضعًا يستجيب فيه هذا الدين لكل تغير، ولا يمكن أن توافق أنت على ذلك أيضًا؛ لأن الدين ليس مقياس حرارة يقتصر عمله على تسجيل درجة الحرارة، ولا هو بالأداة التي ترصد اتجاه هبوب الرياح. . . لا يمكن تعريف الدين بهذه العبارات ولا يمكن أن يصير إلى أداة آلية غريبة. وليس بيننا واحد يريد من الدين أن يعمل كسجل لتغيرات الأزمنة، وأن دينًا وضعيًا مزعومًا لا يمكن أن يتحمل هذا الوضع فكيف بدين منزل؟ إن الدين يقر التغير كحقيقة واقعة، ويعطي أكمل مجال لسير الأمور من أجل تحول صحيح سليم. الدين يتقدم مع الحياة يدًا بيد ولا يواكبها فقط كتابع لها. . . ووظيفته هو أيضًا أن يميز بين تغير سليم وآخر غير سليم، وبين نزعة هدامة وأخرى بناءة. . . ويجب أن يقرر الدين فيما إذا كان التحول نافعًا، أو ضارًا بالبشرية، أو بأتباعه على الأقل. وبينما يتمشى الدين مع الحياة الديناميكية جنبًا إلى جنب من جهة، فإنه يعمل حارسًا وحاميًا لها من جهة أخرى، وتجب عليه مهمة المراقبة والضبط أيضًا. وليس من مهمة الوصي أن يدعم كل ما يفعله القاصر الموضوع تحت وصايته، ويؤيد كل ميوله الجيدة منها والسيئة، أو أن يصادق بختم الموافقة على كل شيء يسعى وراءه. . . بل إن الدين يمتلك ختمًا واحدًا وحبرًا واحدًا ويدًا واحدة فقط. . . وليس من شأنه أن يلصق طابعه على أي وثيقة أو صك. . . بل يجب عليه أن يميز ويختار. أجل إنه يفحص (الوثيقة) أولًا، ثم يصدر حكمه، فإن وجد فيها خطأ أو ضررًا حاول الدين أن يتركها، برفق إذا أمكن، أو بقوة إذا اقتضى الأمر ذلك، وإذا عرضت عليه وثيقة واعتبرها ضارة بالجنس البشري، فهو لا يمتنع عن تصديقها وختمها فقط، بل يكافح لمقاومتها" (¬1). مكانة عصرنا بين العصور: "إن الإنسان في كل عصر اعتبر عصره "عصرًا جديدًا" وظن العصور السالفة ¬

_ (¬1) "الإسلام في عالم متغير" أبو الحسن الندوي ص 57.

عصورًا بائدة كانت تخلو من المزايا والمحاسن، وكان الناس فيها مصابين بالجهل والرجعية. أما عصره فهو جديد وأبناؤه متنورون متحضرون، متحلون بالعلوم والفنون، ونملك من الأشياء ما لم يحظ به الأولون. هذا الظن الخاطئ وقع فيه الإنسان في كل عصر. مع أننا إذا أغمضنا النظر عن الابتكارات العلمية والتطورات التقنية -التي قد فتح الله أبوابها على الإنسان رويدًا رويدًا- رأينا أن الإنسان لم يدخل عليه أي تبدل منذ الإنسان الأول إلى يومنا هذا: ظل قالب ذهنه نفس القالب، وظلت مواهبه الفكرية نفس المواهب، وظلت أهواء نفسه نفس الأهواء، وظلت متطلبات جسده نفس المتطلبات، وظل نمط تفكيره نفس النمط، لم يحصل أي فرق جوهري في تلك الجوانب أبدًا، وذلك أن الفطرة التي فطر عليها الإنسان ما زالت نفس الفطرة التي فطر عليها سيدنا آدم -عليه السلام-. وهذا هو السر في أن المنكر الذي أصيب به قوم لوط قبل أربعة آلاف سنة مثلًا، نرى اليوم وبعد أربعة آلاف من السنين يصاب به البلد البالغ في التحضر والتطور مثل أمريكا، التي تدعي أنها لا يقارعها بلد في العالم كله في نهضتها ورقيها، ونرى فيها ورثة قوم لوط يربو عددهم على عشرين مليون نفر. فأي فرق يا ترى قد طرأ على الإنسان في فطرته في تلك المئات من القرون. وهكذا إذا قال فرعون -في قديم الأزمان- لوزيره: فاجعل لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى أين هو؟ ومن هو؟ وكيف هو؟ نرى اليوم وبعد ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة مضت على تلك المقولة أنه لما ارتفع القمر الصناعي الأول الذي أطلقته روسيا، إلى مائة وخمسين أو مائتي ميل من الأرض إلى الفضاء، انفجر رئيس وزرائها آنذاك المستر خروتشوف قائلًا: اطلعنا إلى الآفاق السماوية، ولم نجد فيها أي وجود للإله؟ ويعلم من ذلك بداهة أنه لم يدخل أي تعديل على عقلية الإنسان في تلك الحقبة الطويلة من الزمان، التي تشتمل على ثلاثة آلاف وخمسمائة من السنين. لم يتبدل أسلوب تفكيره ونظره إلى الأشياء. نعم إذا حصل هناك فرق في هذا الباب فهو أن فرعون ما كان يقدر في ذلك العصر، إلا أن يبني عمارة شامخة لتحقيق غايته إلى أكثر حد. . . أما منكرو العصر الحاضر وفراعنته فقد تمكنوا من صنع الأقمار الصناعية وغزو الفضاء؛ أي: حصل تطور في التكنولوجيا فقط ولم يحصل أي تطور من الناحية العقلية. وكما أن الدهرية وجدوا في سالف الأزمان كذلك يوجدون في العصر

الحاضر، وكما أن دعاة الفجور والمجون ومقترفي السوء والفاحشة، برزوا إلى مسرح الحياة في الأحقاب الخالية، كذلك شوهدوا اليوم وفي العصر الحاضر؛ أي: أنه لم يدخل أي فرق حتى في نوعية مجونهم وفجورهم، هكذا وكما أن الدنيا رأت أناسًا عرفوا الحق وآمنوا به وجاهدوا في سبيله في زمن نوح -عليه السلام-، كذلك ترى الدنيا وفي العصر الحاضر جماعات من البشر من حملة الحق ودعاته. فما زال الخير هو الخير بنصه وفصه، وما زال الشر هو الشر بقَضِّه وقضيضه، ومن تقدم وسائل الإنسان وأساليبه، واكتشافاته العلمية واستخدام تلك الاكتشافات في مجالات الحياة، إذا طرأ على طبيعة الانسان فرق، فليس ذلك الفرق أساسيًا وجوهريًا، وانما هو فرق في التقنية والأسلوب" (¬1). نقد معارف العصر: تدعو العصرانية إلى النظر إلى تعاليم الدين من خلال معارف العصر ومن خلال الثقافة الحديثة. وما يتعارض مع هذه المعارف في نظرها تعتبره من الزوائد التي أدخلها البشر على الدين بفهمهم ومعرفتهم المتاحة لهم في عصرهم. وبما أن المعرفة البشرية تتقدم وتتسع آفاقها، فإنه لابد من إعادة النظر في فهم العصور الماضية للدين، وإرساء فهم جديد على ضوء المعارف العصرية. وليس هناك من ريب أن الدين الصحيح هو الذي يساير المعرفة البشرية في اتساعها ولا يتناقض مع اكتشافات العلوم الجديدة، مهما تكاثرت وتعددت. ولكن القضية بالتعميم الذي تنادي به العصرانية يحتاج إلى نظر، فما هي حقيقة معارف العصر التي تدعونا العصرانية أن نطرح من أجلها تراث الدين في العصور الماضية؟ إن ذلك الإعجاب الكبير والثقة المفرطة بمعارف العصر تتداعى أمام ثلاثة مطاعن أساسية (¬2): ¬

_ (¬1) "تحديات العصر الحاضر والشباب" أبو الأعلى المودودي، المختار الإسلامي، القاهرة 1399 هـ. (¬2) انظر: "نحن والحضارة الغربية" المودودي ص 164، "دور الطلبة في بناء مستقبل العالم الإسلامي" المودودي ص 33، "الدعوة الإسلامية والغزو الفكري". د. جعفر شيخ إدريس ص 4 - 8 (بحوث المؤتمرات العالمية للدعوة الإسلامية بالسودان 1401 هـ).

المطعن الأول: إن ثقافة العصر بالمفهوم الواسع لكلمة ثقافة تقوم كلها على أمور علمية، بل إن بعض نواحي هذه الثقافة ما تكون إلا على أذواق وأهواء لا صلة لها بالعلم، وليس ذلك قاصرًا على الآداب والفنون فقط بل يشمل مسائل أخرى كثيرة من شعب الحياة، خذ مثلًا الربا في الشعبة الاقتصادية وأوضاع المرأة في الشعبة الاجتماعية، فهذه وأمثالها لم تخضع لدراسة علمية دقيقة، ولا نظر إليها بنظر البحث العلمي المجرد بل هي عادات وتقاليد، تكونت على أثر عوامل متعددة، ولهذا فمن الخطأ أن يظن مثل قاسم أمين أو غيره، أن هذه الأوضاع قد بحثت بحثًا علميًا، وانتهى الناس إلى أن الاختلاط مثلًا هو مما يحبذه العلم، وأنه من المظاهر العصرية اللازمة، ولا حتى عمل المرأة، أو مسألة الطلاق، أو مسألة تعدد الزوجات أو غيرها من المسائل. إن من يظن هذا الظن يخلط خلطًا عجيبًا بين العلم والمعرفة وبين الأذواق والأهواء. المطعن الثاني: إن القليل جدًا من معارف العصر وعلومه، باعتراف المتخصصين وذوي الخبرة في هذه العلوم، هو من الحقائق العلمية الثابتة والأمور اليقينية التي لا تقبل النقض. ومعظم العلوم العصرية حتى التجريبية منها، دعك عن العلوم الاجتماعية والإنسانية، تقوم على فروض واحتمالات، وفي كل يوم ينقض العلم نظرية ويبني نظرية أخرى، فكيف يخضع الدين لتفسيرات وتأويلات وفهم مختلف اعتمادًا على فروض واحتمالات متغيرة متبدلة؟ المطعن الثالث: مطعن هام وخطير، وهو أن معارف العصر بكل فروعها وأقسامها حتى العلوم التجريبية منها، لا تقوم على حقائق مجردة، معتمدة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، بل قد صاحبتها تصورات وتفسيرات ونظريات تسيطر عليها الروح الإلحادية المادية، فصاغت كل العلوم داخل هذا الإطار وصبتها في قالبه، ودونت كل حرف فيها بمداد الإلحاد والعداء للدين، وكل ما خرج عن الإطار المادي اعتبر خارج دائرة العلم، ووضع في باب الخرافات والأساطير، والأوهام والتخيلات. وهكذا فإن ذلك التصور الإلحادي المادي قد ترك آثاره في كل فروع معارف العصر، وحين تنظر العصرانية للدين من خلال معارف العصر بكل ما فيها، ترتكب بحق الدين وبحق العلم، أخطاء شنيعة، وتأتي محاولاتها للتوفيق بين الدين وبين معارف العصر محاولات خرقاء شوهاء.

إن الموقف الصحيح هو أن معارف العصر برمتها، حتى التجريبية ينبغي أن تصاغ وتعاد كتابتها وتدوينها تدوينًا إسلاميًا، في ضوء مفاهيم الدين وداخل إطاره، ومن الخطأ البين أن يعكس الأمر وينظر إلى الدين من خلال معارف العصر ويعدل ويغير فيه بحسب ذلك. ارتباط الفكر بالظروف: من التصورات الأساسية عند العصرانية أن الفكر مرتبط بالظروف التي ينشأ فيها، وبالعصر الذي يظهر فيه، وتؤثر فيه عوامل الزمان والمكان. وانطلاقًا من هذا التصور يوصف الفكر الديني القديم (بالظرفية) وينادى بتطويره وجعله حديثًا معاصرًا، والحجة الأساسية التي تقدم لرفض ذلك الفكر، أنه تقليدي نشأ في عصور ماضية، وأنه ليس مسايرًا لاتجاهات العصر وتياراته. وصلة الفكر بالظروف التي ينشأ فيها وإلى أي حد يرتبط الفكر بهذه الظروف ولا ينفك عنها مسألة ظهرت فيها نظريات عديدة، ووصل التطرف أقصاه عند بعض الفلاسفة فجعلوا الفكر وليد الظروف الاقتصادية وأدوات الإنتاج فقط. والنقد الأساسي الذي يوجه إلى أمثال هذه النظريات أنها تنظر إلى جانب واحد، وذلك ما يوقعها في الأخطاء إذ أنها تغفل عن سؤال هام وهو ما الذي يكوّن الظروف التي يقال إن الفكر مرتبط بها. لعل المرء لا يحتاج إلى تفكير كثير ليصل إلى أن الله سبحانه قد جعل الإنسان عاملًا مؤثرًا فعالًا في الكون، وأن الإنسان بما أوتي من مواهب عقلية وقوى فكرية يؤثر في الظروف وتكوينها، وإذا كان صحيحًا أن طبقات كثيرة من المجتمع تخضع للظروف السائدة وتنقاد لها، إلا أن قادة الفكر ورواده ممن يجتهدون ويجددون، وتستحدث على أيديهم الآراء الجديدة والاكتشافات والاختراعات، لا يخضعون للظروف ولا يتأثرون بها. لقد عجزت العلوم الاجتماعية عن تفسير ظاهرة التجديد والابتكارات Innovations، بغير اعتبارها شذوذًا عن الظروف السائدة في المجتمع، وظاهرة فريدة لما حبا الله به العقل الإنساني من قدرات ومواهب (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الأفكار المستحدثة وكيف تنتشر" - 1. م. ترجمة، سامي ناشر، 241.

وإذا كان القول بأن الفكر يرتبط بالظروف تكتنفه مصاعب ويواجه بالنقد؛ فإن رفض الفكر لمجرد أنه نشأ في عصور ماضية، ولمجرد كونه قديمًا، قول لا صلة له بالعلم وبعيد عن الموضوعية، مهما صدر عمن يتحلى بأفخم الألقاب العلمية. إن الفكر لا يمكن أن يقبل أو يرفض باعتبار الزمان أو المكان الذي ظهر فيه ولكن يرفض إذا قدمت الأدلة على خطئه، فإذا ثبت أن الفكرة صحيحة كانت صحيحة ولو ظهرت في أحقاب ما قبل التاريخ، وإذا ثبت أن الفكرة خاطئة فهي خاطئة ولو أعلنها عباقرة العصر الحاضر. هل حقائق الدين نسبية؟ إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة -بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها- قالت العصرانية: ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري". والكاتب الفاضل الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلًا أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة، وأن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها (¬1). وقضية النسبية Relativism في الحق truth أو في الأخلاق ethics قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا، تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يومًا ما أن تحل لغزًا؟ وفي بساطة نتساءل: ما المقصود بأن الحقيقة نسبية؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعلمه قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكًا شاملًا، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذه الفترة القصيرة من عمرها على الأرض. ¬

_ (¬1) راجع: "الفكر الإسلامي والتطور" محمد فتحي عثمان ص 338.

محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب

وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يسأل ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضًا ولا يمكن القطع والجزم به فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول أن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم؟ والأهم من ذلك أن يسأل هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة (ذوق)، لا تقوم على منهج علمي محدد، أو معايير منضبطة؟ إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك. قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأ في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية يدركها كل عصر بحسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله. محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب: يحسن بنا بعد المناقشة السابقة لنقاط انطلاق الفكر العصراني التي توجه منهجه في التفكير ونظرته للأمور، أن نتناول محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب التي لا تشترك فيها مع غيرها. وقد قامت حركات التجديد العصراني في اليهودية والنصرانية، كما رأينا في الفصل الخاص بذلك، وسط معارضة شديدة وجوبهت بنقد مر، ولا أرى فائدة كبيرة في تتبع مسائل الخلاف وآراء كل فريق،

والذي يهمني هنا أن أشير بطريقة عامة أين أصابت العصرانية في الغرب وأين أخطأت؟ ويمكن أن نعد من محاسن العصرانية في الغرب الأمور التالية: الموضع الأول: الذي أصابت فيه العصرانية في النصرانية وحركة اليهودية الإصلاحية نقدها للتوراة والتلمود والأناجيل، واعترافها بوجود تناقضات واختلافات متعددة فيها وأخطاء، ووصولها إلى أن هذه الكتب ليست بحال هي الكتب الموحاة، بل قد كتبتها أيدٍ بشرية، وخلطت فيها بين الكلمات الموحاة وأقوال الأنبياء وسيرتهم وأقوال الأحبار والقساوسة، ومزجتها مع ذلك كله بالآداب والمعارف السائدة في العصور التي كتبت فيها. يقول جورج راندال: "لقد كشفت الدراسة الدقيقة للنصوص من أجل معرفة واضعيها وتواريخ وضع مختلف أقسامها -وهو ما يسمى (بالنقد الأعلى) - عن وجود تباين أساسي مع الاعتقادات التقليدية، فالفوارق في الأسلوب والروايات المتناقضة عن الحادث الواحد والأوامر المتباينة التي يزعم أنها من عند الله، جعلت التوفيق بين النظرة القائلة بأن كل كلمة وكل نقطة إنما هي وحي إلهي حرفي، وبين الإيمان بحكمة الله وتعقله أمرًا في غاية الصعوبة، أما إذا أخذ الكتاب المقدس من جهة ثانية على أنه عمل عقول بشرية، تأثرت تأثرًا عميقًا بحس إلهي في الأشياء، فإن كل صعوبة تزول، وتصبح الكتب المقدسة سجلًا للمحاولات الأسطورية والخيالية الأولى من أجل فهم العالم ومعناه، وللشعر المقدس وللقوانين الدينية والمدنية والمراسلات النبوية المنبعثة عن أرواح نبيلة" (¬1). ومما هو واضح أن العصرانية ليست وحدها صاحبة الفضل في مثل هذه الاكتشافات والاعترافات، بل إن الدراسات قد توسعت في هذا المجال في العصر الحديث، وظهرت الانتقادات للتوراة والإنجيل حتى إن مجمع الفاتيكان -أعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية- اضطر لأن يعترف ولو جزئيًا، بعد ¬

_ (¬1) "تكوين العقل الحديث" جورج راندال 2/ 240.

مناقشات دامت ثلاث سنوات بين عامي (1962 - 1965 م)، بوجود نقص وعجز في بعض نصوص العهد القديم. فقد جاء في الوثيقة التي أصدرها المجمع: "إن كتب العهد القديم تسمح للكل بأن يعرف من هو الله ومن هو الإنسان، فضلًا عن الطريقة التي يتصرف بها الله مع الناس بعدالته ورحمته. . . هذه الكتب رغم كونها تحوي النقص والعجز هي أيضًا الشواهد على تربية إلهية حقيقية" (¬1). وقد سبقت الدراسات الإسلامية في هذا المجال سبقًا بعيدًا، واتبعت في ذلك منهجًا علميًا دقيقًا، فابن حزم مثلًا عقد فصولًا طويلة في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" لمناقشة التحريف والتغير الذي حدث في التوراة والإنجيل. وكذلك قدم ابن تيمية دراسة نقدية لهذه الكتب في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح". ويستند هذان العالمان الجليلان على أدلة علمية، منها وجود اختلاف وتباين عظيم في النسخ الموجودة لهذه الكتب، يقول ابن تيمية عن ذلك: "ومما يدل على ذلك أنك في هذا الزمان، إذا أخذت نسخ التوراة الموجودة عند اليهود والنصارى والسامرة، وجدت بينها اختلافًا في مواضع متعددة، وكذلك نسخ الإنجيل، وكذلك نسخ الزبور، مختلفة اختلافًا متباينًا، بحيث لا يعلم العاقل أن جميع نسخ التوراة الموجودة متفقة على لفظ واحد، ولا يعلم أن جميع نسخ الإنجيل متفقة على لفظ واحد، ولا يعلم أن جميع نسخ الزبور متفقة على "لفظ واحد" (¬2). ومن أدلة التحريف وجود تناقض في النصوص حول الأمر الواحد، واختلاف في ذكر التواريخ والأسماء عن الواقعة الواحدة (¬3)، ومنها أن نقل هذه الكتب لم يكن نقلًا متواترًا ويقول ابن تيمية عن ذلك: "وأما الإنجيل الذي بأيديهم فإنهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح -عليه السلام-، ولا أملاه على من كتبه، وإنما أملاه بعد رفع المسيح متى ويوحنا، وكانا قد صحبا المسيح، ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر -ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح -عليه السلام-. وقد ذكر ¬

_ (¬1) "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم" موريس بوكاي، ترجمة جماعة - ص 50، والكتاب نفسه شاهد على نوع الدراسات النقدية للتوراة والإنجيل. (¬2) "الجواب الصحيح" ابن تيمية 2/ 20. (¬3) راجع الفصل في: "الملل والأهواء والنحل" ابن حزم 1/ 116 وما بعدها 2/ 1 وما بعدها.

هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره، وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله. . . ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليهم الغلط" (¬1). هذا بجانب ركاكة الألفاظ والتعابير، وبخاصة أن هذه الكتب ترجمت من لغتها الأصلية إلى لغات أخرى والترجمة يقع فيها الغلط كثيرًا (¬2). الموضع الثاني: الذي أصابت فيه العصرانية هدمها لبعض العقائد الباطلة، ومن ذلك مثلًا هدم عقيدة ألوهية المسيح وإيمانها بأنه بشر كسائر البشر. وقد تتابعت الدراسات اللاهوتية في الغرب لتأكيد بشرية المسيح، ومن ذلك الكتاب الذي صدر في عام (1977 م) في لندن بعنوان: "أسطورة تجسد الإله في المسيح" تحرير البروفسير (جون هك) أستاذ اللاهوت بجامعة برمنجهام في بريطانيا، واشترك في تأليفه سبعة أساتذة لاهوت بريطانيون، وقد أثار الكتاب ضجة كبيرة في بريطانيا، وبيعت نسخ الطبعة الأولى كلها يوم إصدارها، وأعيد الطبع مرات بعد ذلك (¬3). وتقول مقدمة الكتاب: "في القرن التاسع عشر قامت المسيحية في الغرب بتعديلين رئيسين جديدين في مواجهة التوسعات الهامة للمعرفة الإنسانية، فلقد قبلت أن الإنسان هو جزء من الطبيعة وأنه برز ضمن تطور أشكال الحياة على هذه الأرض، وقبلت أن الأناجيل كتبت بأقلام عدة أشخاص في حالات متنوعة، ولا يمكن أن تضفي على كلماتها عصمة (الأمر الإلهي). ولم يأت هذان التعديلان دون صدام مع (أشواك) الحقائق التي سببت جروحًا لم تندمل حتى الآن. ومع ذلك تستمر المعرفة الإنسانية في نموها بتسارع متزايد، والضغط على المسيحية هو الآن أقوى من أيّ وقت مضى لتعدل نفسها لوضع يمكن معه الاعتقاد بها والاقتناع بها، من المفكرين الأمناء الذين تجذبهم بشدة صورة المسيح، والضوء الذي تلقيه تعاليمه على معنى الحياة الإنسانية. ¬

_ (¬1) "الملل والأهواء والنحل" ابن حزم 1/ 367. (¬2) المصدر نفسه 2/ 16. (¬3) انظر: "أسطورة تجسد الإله في المسيح" تعريب وعرض: د. نبيل صبحي الطويل، مجلة الأمة (قطر) العدد الرابع - السنة الأولى (ربيع الآخر 1401 هـ) ص 49.

والمؤمنون مقتنعون أن تعديلًا لاهوتيًا رئيسيًا آخر مطلوب الآن في الربع الأخير من القرن العشرين، وتبرز الحاجة لذلك من نمو حجم المعلومات عن الأصول المسيحية، والتي تضم اعترافًا بأن المسيح كان كما هو مقدم في الكتاب الخامس للعهد الجديد (2 - 12) إنسانًا اختاره الله لدور خاص في إطار الإرادة الإلهية، وأن الاعتقاد المتأخر بأنه (الله في صورة إنسان) أو (الشخص الثاني في الثالوث المقدس) الذي يحيى حياة بشرية ليس هو -أي: هذا الاعتقاد- إلا أسلوبًا أسطوريًا أو شاعريًا للتعبير عن أهمية المسيح بالنسبة لنا. وهذا الاعتراف مطلوب منا لمصلحة الحقيقة، ولكن لهذا الاعتراف أهمية متزايدة على صعيد الواقع بالنسبة لعلاقتنا بالناس الآخرين من أبناء الديانات العالمية الكبرى" (¬1). الموضع الثالث: الذي يعد من محاسن حركة اليهودية المتحررة أنها كانت حربًا لحركة الصهيونية، إذ أنها لم تكن تعترف بعقيدة العودة إلى فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها، وقد جاء إعلان ذلك صريحًا في مبادئ بتسبرج عام (1895 م): "نحن لا نعتبر أنفسنا أمة بعد اليوم، بل جماعة دينية، ولذا فإننا لا نتوقع عودة إلى فلسطين، أو إحياء للعبادة القربانية تحت ظل أبناء هارون، ولا استرجاع أي من الشرائع المتعلقة بالدولة اليهودية" (¬2). وقد قادت حركة اليهودية الإصلاحية هذه Reform Judaism لواء العداء والمعارضة للصهيونية، ولها مواقف متعددة في المراحل التاريخية المختلفة منذ أن كانت العودة إلى فلسطين فكرة وحلمًا، وخلال مراحل تأسيس الدولة الإسرائيلية، وعبر الأحداث التي تمر بها قضية فلسطين حتى اليوم. ومن الممكن للمسلمين أن يستفيدوا من هذه المواقف ويمكن عن طريقها خدمة القضية الفلسطينية. ¬

_ (¬1) "أسطورة تجسد الإله في المسيح" تعريب وعرض: د. نبيل صبحي الطويل ص 41. (¬2) "أسطورة تجسد الإله في المسيح" تعريب وعرض: د. نبيل صبحي الطويل ص 121 من هذا البحث وكتاب "المجلس الأمريكي لليهودية"، د. أسعد رزق (مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت 1970 م).

أخطاء العصرانية في الغرب: إذا كان ما اعتبر مقدسًا من كتب اليهودية والنصرانية هو في حقيقة الأمر كتابات بشرية، يتجلى فيها الفكر البشري بطبيعته القاصرة، فإن اكتشاف هذه الحقيقة لابد أن يهز أي مؤمن من هذين الديانتين، ولابد أن تثور في ذهنه تساؤلات حائرة ما التغيير والانحراف الذي حدث وما درجته؟ وكيف يمكن تمييز الصواب من الخطأ؟ وأين الحقائق الإلهية الثابتة التي تضمنها الوحي الإلهي وما الزوائد التي أضافها البشر؟ وكيف يتم تصحيح ما تسرب من الأخطاء البشرية للدين. وقد كانت العصرانية محاولة للإجابة على هذه الأسئلة الحائرة، ولكن لما كانت هي أيضًا محاولة بشرية للتصحيح، تعتمد على معارف البشر فقط وعلى تجاربهم، وليس بين أيديها نصوص الدين الأصلية الصحيحة، أو أي مصادر موثوقة لم يدخلها التغيير والتبديل، فقد فقدت المقياس والمعيار الذي يمكن أن يتم وفقه التصحيح ولهذا جاء تجديدها خبطًا عشوائيًا يصيب أحيانًا ويخطئ في أكثر الأحيان. ذلك أنه إذا كان العقل البشري عاجزًا ابتداء عن ابتداع دين وضعي، فمن الخطأ الظن أن بإمكان هذا العقل تصحيح ديانة محرفة اعتمادًا على معارف البشر وحدها. وهكذا فإن اتخاذ المعارف البشرية وحدها أساسًا لتصحيح الدين هو الخطأ الأساسي للعصرانية في الغرب، الذي كانت نتيجته الفشل وراء الفشل، والخبط والتيه، ومعالجة الانحراف بانحراف أكبر، واستبدال الباطل بآخر من نوعه، أو أخطر منه. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين الإسلام وبين هاتين الديانتين المحرفتين، إذ إن القرآن والسُّنَّة وهي نصوص الإسلام الأصلية الموحاة، محفوظة بكل حروفها وألفاظها ومعانيها، وهذا الحفظ يجعل للإسلام وهو الرسالة الإلهية الأخيرة للبشرية ميزة وخاصية فريدة، ذلك أن بين يدي كل جيل في كل عصر، الأصول الصحيحة التي يمكن في ضوئها بعث الدين نقيًا خالصًا.

الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

تمهيد

الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية تمهيد: العصرانية عند المسلمين -كما وصفها جب (¬1) وكما هي في الغرب- لا تشكل تيارًا من الأفكار المنتظمة، بل هي في حقيقة الأمر آراء متناثرة لأفراد مستقلين عن بعضهم البعض، ورغم أن بعضهم قد نجح في تكوين مدرسة فكرية، وجمع حوله بعض التلاميذ والأتباع، إلا أن هذه المدرسة ليست وحدة متناسقة من الآراء، وتلاميذها خليط من الميول والاتجاهات وأشتات مبعثرة من الفكر. وفي الفصول التي عرضنا فيها فكر هذه المدرسة اهتممنا بإبراز آراء كل مفكر على حدة، وسوف نهتم هنا بتجميع الآراء المشتركة وتصنيفها، مع نقدها وتمييز أوجه الصواب والخطأ فيها، وقد يكون من المناسب تناول الآراء حسب الأقسام المعهودة فنتحدث أولًا عن الآراء في العقيدة، ثم في التفسير، ثم في الحديث، ثم في أصول الفقه، ثم في الفقه وهكذا. ¬

_ (¬1) "المجلس الأمريكي لليهودية"، د. أسعد رزق ص 201 من هذا البحث.

من عقائد العصرانية

من عقائد العصرانية: قدم سيد خان منهجًا متكاملًا في العقائد الإسلامية، اهتمت به الدراسات الإسلامية المعاصرة وبخاصة المستشرقون (¬1) وربما كان سيد خان هو الوحيد من بين مفكري العصرانية المسلمين الذي وجد الجرأة للإفصاح عن آرائه في هذا المجال الذي هو من أكثر المجالات إثارة لمشاعر المسلمين، ولا يدانيه في ذلك إلا محمد أسد، أما بقية مفكري العصرانية فقد قصروا أنفسهم على مجال التشريع وسكتوا عن الخوض في مجال العقائد. وليس من الميسور هنا تقديم دراسة متكاملة لمنهج سيد خان العقائدي أو لآراء محمد أسد في هذا الباب، ولكن أثناء عرض فكرهما كنا قد ألممنا ببعض آرائهما، ونحب هنا أن نمحص تلك الآراء ونتناولها بالترتيب التالي: 1 - مما لا شك فيه أن أسماء الله سبحانه وصفاته من أمور الغيب التي لا يعلم حقيقة كنهها وكيفيتها إلا الله -عز وجل-، ومن هذه الأسماء ما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، ربما لأن العقل البشري عاجز عن فهمه؛ ولكن الأسماء والصفات التي عرف الله بها نفسه إلى خلقه في القرآن والسُّنَّة، فلا شك أن في مقدور البشر إدراك مدلولاتها، ويستطيع العقل البشري أن يحيط بمعانيها، وإن كان لا يدرك كيفيتها. فالعقل البشري يفهم أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، بصير حقيقة، سميع حقيقة، متكلم حقيقة، وهكذا سائر الأسماء والصفات، وإن كنا لا نستطيع أن ندرك طبيعة وكيفية حياته وعلمه وبصره وسمعه وكلامه وجميع صفاته. ولهذا قال أبو عمر بن عبد البر (¬2): "أهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسُّنَّة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة" (¬3). وقد التبس على محمد أسد وجه الصواب في هذه المسألة، فظن أن البشر ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال: Troll, C.W, sayyed Ahmed Khan A reinterpretaion of Muslim Theology, New Delehi, 1978. (¬2) من مشاهير أئمة الحديث والفقه بالمغرب. توفي عام 463 هـ. (¬3) "فتاوى ابن تيمية" 5/ 198.

لا يدركون إلا الصفات السلبية؛ أي: أن الله سبحانه ليس كذا، أما صفات الإثبات فما هي إلا مجازات عامة Generelized Metaphores، تنقل إلينا -وإن كانت بصورة ناقصة- فكرة عن وجود الله وفعله. وهذا الرأي ليس جديدًا، بل هو رأي قديم لبعض الفرق المنحرفة (¬1). والذي أوقع محمد أسد في هذا الخطأ كما وقع فيه من سبقه، هو الظن أن إطلاق هذه الأسماء والصفات وهي بلغة البشر يجعل الذهن ينصرف إلى المعهود للعقل البشري، مما يقع تحت تجاربه وذلك يوهم مماثلة بين الله ومخلوقاته. ولكن هذا خطأ إذ إن إطلاق صفة ما على الله سبحانه، وإطلاق الصفة نفسها على شيء من مخلوقاته لا يوجب تماثلًا أو تشابهًا. ومحمد أسد نفسه في ذات عبارته السابقة يثبت لله وجودًا وفعلًا Existance and activity، وكلنا يعلم أن الأشياء المبثوثة في هذا الكون لها وجود ولها نوع من الفعل، فكما أن الله موجود حقيقة، فكذلك الكون موجود حقيقة، وليس هذا مثل هذا. والله تعالى له ذات حقيقة، والمخلوقات لها ذوات حقيقة، وليست ذاته كذوات المخلوقات. وكذلك لله علم وسمع وبصر حقيقة، ولبعض المخلوقات علم وسمع وبصر حقيقة، وليس علمها وسمعها وبصرها مثل علم الله وسمعه وبصره. ولله كلام حقيقة وللبشر كلام حقيقة، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين، وهكذا سائر الأسماء والصفات. وهذا الموضع من فهمه فهمًا جيدًا وتدبره انكشف له غلط كثير من الأذكياء فيه (¬2). فالله -عز وجل- عرّف نفسه إلى الخلق بلغتهم، واختار الألفاظ المناسبة التي تصف لهم ما غاب عنهم، وهذه الألفاظ تصف الغيب وصفًا حقيقيًا وليس وصفًا مجازيًا رمزيًا. 2 - كلنا نؤمن يقينًا أن الله خلق هذا الكون وما فيه من نواميس وقوانين، ولكن هل تخلى الله عن الكون بعد خلقه ووقف متفرجًا عليه (سبحانه) وتركه لمجموعة من القوانين العمياء تتحكم فيه؟ هذا الظن المتهافت هو مفهوم سيد خان عن الكون والطبيعة، وبنظرة بسيطة يمكن لأي أحد أن يميز أن ثبات قوانين ونواميس الطبيعة، لا يعني أن هذه ¬

_ (¬1) هم غلاة الباطنية والفلاسفة. (¬2) "فتاوى ابن تيمية" 3/ 75، 5/ 196 و 20/ 217، وقد نقلت بعض عباراته.

القوانين تعمل بنفسها، بل إن أي قانون يحتاج لسلطة مهيمنة وقوة تُسَيِّر الأشياء وفقه. والذي خلق الكون ونواميسه هو الذي يدبر هذا الكون كيف شاء، بهذه النواميس والقوانين أو بغيرها قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]، وقال: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]، وسمى الله تعالى نفسه (الحي القيوم)؛ أي: القائم بتدبير خلقه (¬1). وأخبرنا عن نفسه أنه كل يوم هو في شأن، وجاء في معنى ذلك أن من شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويحيي ويميت ويذل، ويرزق ويمنع، ويغفر ذنبًا ويكشف كربًا، ويجيب داعيًا (¬2). 3 - وإذا رسخت في الذهن الحقيقة البديهية السابقة، وهي أن هذا الكون وما فيه من قوانين طبيعية وسنن اجتماعية هي من خلق الله تعالى وتدبيره، فلن يكون خرق هذه القوانين بأي صورة من الصور أمرًا خرافيًا أسطوريًا. ولكن الذي يرسخ في ذهنه قيام هذا الكون بنفسه، واكتفاؤه عن خالقه، هو الذي يرى المعجزات في أي شكل من أشكالها ضربًا من الوهم والخيال. وبسبب تأثير هذا التصور المادي الإلحادي في العلوم العصرية، أنكرت العصرانية المعجزات والخوارق وقدحت خيالها لتقديم التأويلات المختلفة لها. وهذا الموقف هو سمة مشتركة للعصرانية في الغرب وعند المسلمين، متمثلًا في سيد خان ومحمد أسد، كما أنه انحراف قديم ظهر عند المسلمين عندما تأثروا بالفلسفة اليونانية، وهو انحراف لا صلة له بالعلم وبعيد عن العقل، إنما هو الظن القائم على النظرة المادية البحتة. 4 - وبسبب هذه النظرة المادية البحتة، التي تحاول أن تقصر كل شيء في هذا الكون في الإطار المادي المحسوس، تجيء المحاولات الأخرى لتأويل أمور الغيب تأويلًا حسيًا، فيقال: إن النبوة ملكة إنسانية، والوحي حاسة سادسة في البشر ومرحلة عليا من العبقرية، والملائكة قوى الخير في النفس، والشياطين الإغراءات النفسية الشريرة، ووصف النعيم والعذاب ليس وصفًا لأمور حقيقة حسية إنما إشارات رمزية. . . وأمثال ذلك من التخيلات التي امتلأت بها قديمًا ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" 3/ 271. (¬2) المصدر نفسه 17/ 166.

منهج العصرانية في التفسير

كتب المتفلسفة من المسلمين وبعثت حية في هذا العصر باسم التجديد. والذي يغيب عن ذكاء هؤلاء الأذكياء أنهم يعتمدون في فهمهم لأمور الغيب على ما تدركه حواسهم، فهل يكون الحس والتجربة والملاحظة مصدرًا من مصادر معرفة الغيب؟ إن مسائل الغيب لا تدخل في دائرة اختصاص الحس والتجربة ولا يمكن نفيها أو إثباتها بهذا الطريق. إن المصدر الوحيد المتاح للبشر لمعرفة أمور الغيب هو الخبر الصادق عن طريق الأنبياء، وللمرء كامل الحرية أن يعلن كفره وإلحاده بتلك الأخبار ويخرج نفسه من دائرة المسلمين، ولكن لا يمكن أن يدخل نفسه في زمرة المسلمين ثم يفهم ويأول أخبار الأنبياء كيف شاء، في ضوء المعارف البشرية القاصرة المحدودة، ومهما كدّ ذهنه فإن تأويلاته لا تعدو أن تكون خيالات محضة مثل الروايات العلمية Science fiction، فهل يمكن أن تحل الروايات الأدبية محل حقائق العلم؟ ولهذا فما زال المؤمنون بأخبار الأنبياء في كل أمة يؤمنون بالوحي وبالملائكة، والجن والشياطين، وصفات الجنة والنار، كما جاءت صفاتها في هذه النصوص والأخبار، ويعدونها حقائق يقينية وليست رموزًا وأمثلة. فما جاءت به النصوص عن الوحي وكيفيته، وعن الملائكة وطبيعتهم، وحقيقة خلقهم وصفاتهم، وأصنافهم وأفعالهم، وعن الجن وماهيتهم وخصائصهم ومهامهم، وعن أنواع النعيم والعذاب الحسية والنفسية، كل ذلك وصف حقيقي لأمور واقعة، ويفهم بمعانيه المباشرة الظاهرة (¬1)؛ لأن تلك هي الطريقة العلمية الوحيدة، لمعرفة الإنسان بعالم الغيب الرحيب، التي لا تقوم على الحدس والتخمين. منهج العصرانية في التفسير: يتلخص منهج العصراية في التفسير في العبارة التالية (¬2): "في ضوء الظروف الجديدة وتوسع المعرفة الإنسانية، لا يمكنك الاعتماد في فهم القرآن على التفاسير القديمة، التي اشتملت على كثير من الخرافات. ¬

_ (¬1) انظر: "فتاوى ابن تيمية" 4/ 121 - 313، 19/ 10 - 32. (¬2) هذه خلاصة رأي سيد خان ومحمد أسد، انظر: الباب الثاني من هذا البحث.

ولكن ينبغي فهم النص القرآني من خلال معرفتنا وتجاربنا الذاتية. . . لأنه من مزايا القرآن الفذة أنه كلما ازدادت معرفتنا بهذا العالم وازدادت تجاربنا؛ تكشفت لنا آياته عن معان ثرة جديدة لم تخطر من قبل، وقد يختلف فهمنا لآية من القرآن مع فهم المفسرين الأوائل، وقد يكون هذا الاختلاف حادًا وواسعًا أحيانًا، بل ومتناقضًا مع آراء من سبقونا. ولا غبار في ذلك لأن المفسرين الأوائل فهموا نصوص القرآن على ضوء اللغة والسُّنَّة، جنبًا إلى جنب مع المعارف العامة المتاحة لهم، وما تجمع لدى المجتمع الإنساني حتى عصرهم من تجارب عامة". إن التأمل في هذه العبارة وتحليلها يبعث في الذهن تساؤلين: ما الأساس الذي يعتمد عليه في فهم القرآن في كل عصر؟ وهل لازدياد المعرفة البشرية المستفادة من تجارب البشر الذاتية أثر في تفسير القرآن؟ أما الأساس الذي يعتمد عليه في فهم القرآن في كل عصر فما زال أصحاب الفكر المستقيم في كل عصر خلال أربعة عشر قرنًا يرون "أن الطريق المستقيم لتأويل القرآن وتفسير آياته هو أن يتفكر المرء في كلماته وصيغ الآية التي يريد أن يعرف معناها، من حيث اللغة أولًا ثم يضعها في سياقها، ثم يراجع ما ورد في مختلف مواضع القرآن من الآيات المتعلقة بنفس مضمونها، ويرى أي تفسير من تفاسيرها المتعددة المحتملة ينسجم مع هذه الآيات وأيها مخالف لما ورد فيها من المضمون، وبديهي أن قولًا لأحد إذا كان يحتمل تفسيرين أو أكثر فما العبرة إلا بتفسير هو على انسجام مع ما له من التصريحات الأخرى عن مضمون قوله. فإذا بذل المرء محاولته لمعرفة معنى القرآن بالقرآن إلى هذا الحد، فلينظر أي معنى يتقرر للآية قيد الدراسة على ضوء أقوال وأفعال من جاء بالقرآن -أي: محمد - صلى الله عليه وسلم --، وبأي وجه فسرها أولئك الذين كانوا من أتباعه في أقرب عصر لحياته. إن أهمية السُّنَّة في تفسير القرآن تأتي من أن القرآن كتاب منزل من عند الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليبينه للناس ويعلمهم إياه، وحينئذ لابد من الاعتراف بأن مفهومه السليم الموثوق به هو ما أدركه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 175 - 185 (بتصرف يسير).

"ويجب أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل (¬1)، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا". ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين. ومن الأدلة على ذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82] وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وكذلك قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف: 3] وعقل الكلام متضمن لفهمه. ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه فالقرآن أولى بذلك. وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب الله تعالى الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها "والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السُّنَّة" (¬2). ومن مظاهر سوء الفهم أن يقول قائل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفسر جميع القرآن، وأن الصحابة لم يشرحوا إلا القليل منه، ذلك أن الشارح أو المفسر لأي كتاب لا يشرح إلا ما غمض من ذلك الكتاب، أما ما كان واضحًا في نفسه ولا يحتاج لبيان فلا يحتاج إلى شرح، ولهذا ما استوثق الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن الصحابة يدركون معناه السليم، فلم يأت فيه بعبارات إضافية. وكذلك الصحابة حين نقلوا معانيه إلى من بعدهم. وهكذا استمرت الأجيال منذ عهد الصحابة، كل جيل ينقل إلى الجيل الذي يليه معاني القرآن، ووجد في كل عصر من يوضح للجيل الجديد ما ¬

_ (¬1) وفي رواية: "حتى يعرف معانيهن والعمل بهن". انظر: "مقدمة تفسير ابن كثير" 1/ 3. (¬2) "مقدمة في أصول التفسير" ابن تيمية ص 35.

أشكل عليه منه. ومن المؤكد أن بين أيدينا اليوم مفهوم القرآن السليم الذي أدركه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) لم يضع منه شيء. وهذا المفهوم السليم هو الذي ضمته كتب التفاسير التي بين أيدينا، والتي ضمت التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين وإلا فأين يوجد؟ أثر المعرفة البشرية في فهم القرآن: تتقدم المعارف البشرية المعتمدة على تجارب البشر الذاتية، وتزداد في كل يوم، وتكشف تبعًا لذلك أخطاء في معارف العصور الماضية، فهل يؤثر ذلك في فهم القرآن؟ وهل تتغير معاني القرآن تبعًا لتغير المعرفة البشرية المتاحة في كل عصر؟ من المعلوم أن القرآن قد اشتمل على جوامع الكلم، فالعبارة الوجيزة منه بل الكلمة الواحدة تحمل معنى كليًا وجامعًا، وهذا المعنى الكلي الأساسي يتسع للفهم، كلما ازداد التفكير فيه، وكلما ازدادت معارف البشر وازدادت تجاربهم، ولكن مما ينبغي التنبه له أن جميع المعاني الجديدة تنبع من ذلك المعنى الكلي الأساسي، ولا تناقضه ولا تخالفه، وإلا فلن تكون فهمًا صحيحًا للقرآن الكريم. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. فكلما ازدادت معرفة البشر بالكون والآفاق، وبأقطار السموات والأرض وبأنفسهم، وبحوادث التاريخ ووقائعه، كلما تبينت أكثر فأكثر حقائق القرآن (¬2). يقول المودودي عن ذلك: "إنه ما من ريب في أن الإنسان على قدر ما يزداد علمًا بالكون وحقائقه، يزداد بصيرة وعمقًا في مفاهيم القرآن، ولكن لا يدل ذلك على أنه بهذا الطريق يصير أكثر علمًا بالقرآن حتى من محمد - صلى الله عليه وسلم - وتلاميذه المرتشفين بمناهل علمه مباشرة، ولا على أن أحدًا إذا تلقى قدرًا وافرًا من علم الفلك والطبيعيات والكيمياء وما إليها، فالمحتوم أن يعد من أكثر الناس وأحسنهم علمًا بالقرآن" (¬3). ¬

_ (¬1) وهو المفهوم الذي أراده الله -عز وجل- يقول ابن كثير عن قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}: أن نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا. تفسير ابن كثير: 4/ 449. (¬2) راجع تفسير الآية في: "تفسير القرطبي" 16/ 374، وراجع: "فتاوى ابن تيمية" 3/ 330. (¬3) "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 187.

هل هناك منهج نقد حديث للسنة؟

ومن هذه الإيضاحات يكون قد تبين وجه الخطأ في منهج العصرانية في تفسير القرآن، وهو أن المعاني الثرة الجديدة التي تتكشف للإنسان كلما ازداد معرفة بالكون وآفاقه، لا يمكن أن تناقض وتعارض المعاني الأساسية التي فهمها المفسرون الأوائل، ذلك أن تلك المعاني لم يكن مصدرها المعرفة البشرية، بل كان أساسها الفهم النبوي الكريم للقرآن. وبسبب الاعتماد على معارف البشر العصرية وحدها وفيها ما فيها من القصور والأخطاء، وبسبب إهمال تفاسير الأولين، وقعت العصرانية في انحرافات شنيعة في التفسير، وحسبنا أمثلة على ذلك تفسير سيد خان، ومحمد عبده، ومحمد أسد. هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة؟ تقر العصرانية عمومًا بالسُّنَّة مصدرًا من مصادر التشريع، ولكنها تثير اعتراضات عديدة في وجه الحديث النبوي مما يجعل إقرارها نظريًا بحتًا. والذي يبحث في هذه الاعتراضات يجدها ادعاءات معادة ومكررة، منذ قرون الإسلام الأولى على أيدي الخوارج والشيعة والمعتزلة، وعلى أيدي المستشرقين وتلاميذهم في عصرنا الحاضر. فالاعتراض بتأخر كتابة الحديث وبتدوينه في عصر الاضطرابات السياسية مما يضعف الثقة والاعتماد على هذا التدوين؛ والاعتراض بأن المحدثين اهتموا بنقد سند الأحاديث فقط ولم يهتموا بنقد المتن؛ والاعتراض بأن الأحاديث التي يثبت المحدثون صحتها فيها ما يناقض القرآن؛ أو ما يناقض بعضها بعضًا؛ أو ما يناقض العقل والتجربة والعلوم البشرية؛ أو ما يناقض حقائق التاريخ الثابتة؛ والاعتراض بأن أحاديث الآحاد لا تقوم بها حجة (¬1)؛ وأمثالها من الاعتراضات كلها ادعاءات مشهورة ومعروفة؛ وتوفرت للرد عليها ونقدها كتب قديمة (¬2)، ولا يتسع المجال هنا لتمحيص هذه الاعتراضات وإثبات ما فيها من أخطاء. ¬

_ (¬1) انظر: ص 148 من هذا البحث. (¬2) من هذه الكتب: 1 - "منهج النقد في علوم الحديث" نور الدين عتر. 2 - "السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" مصطفى السباعي. 3 - "دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه"، د. محمد مصطفى الأعظمي. 4 - "الرسالة" الشافعي. 5 - "تأويل مختلف الحديث" ابن قتيبة.

ولكن من أكبر دعاوى العصرانية دعوى أن مهمة المسلمين اليوم استخدام ما يسمى مقاييس النقد العصري على الأحاديث واستعمال المناهج الحديثة في توثيق النصوص وتحليل الحديث النبوي على ضوء ذلك، فلا يقبل منه إلا ما أثبتت المقاييس الحديثة صحته وسلامته، وبما أن هذا الموقف من الحديث النبوي موقف قوي الصلة بالفكرة الأساسية التي يقوم عليها بنيان العصرانية، وهي رفع شعار العصرانية والحكم على التراث في ضوء المعارف الحديثة، فلهذا كان لابد من إلقاء نظرة فاحصة هل هناك حقيقة منهج نقد حديث للأحاديث النبوية؟ لعل الأوفق أن نعطي أولًا لمحة عن منهج علماء الحديث في نقد الحديث، ثم نتناول الإجابة على السؤال المطروح. فمن المعروف أن نقد السُّنَّة يقوم على دعامتين: نقد السند ونقد المتن. أما نقد سند الحديث فهو نقد أهلية الرجال الذين نقلوا الحديث، والمقصود منه التحقق من أن الناقل للحديث يحمل من المؤهلات ما تجعلنا نثق في خبره، وأهم هذه المؤهلات أمران: صدق الحديث ويستدل على ذلك بسيرته وحسن أخلاقه واستقامة سلوكه وهو ما يسميه علماء الحديث بالعدالة، وثانيهما أن تكون ذاكرته قوية إذا كان ينقل الحديث من حفظه، أو يكون المصدر الذي ينقل منه موثوقًا به إذا كان يحدث من كتاب، وهذا ما يسميه علماء الحديث بالضبط "ويلاحظ الباحث المتفحص أن الأسس والأركان الأساسية لعلم الرواية ونقل الأخبار، موجودة في الكتاب العزيز والسُّنَّة النبوية، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وجاء في السُّنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نضّر الله امرأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" (الترمذي كتاب العلم وقال عنه: حسن صحيح) ففي هذه الآية الكريمة وهذا الحديث الشريف مبدأ التثبت في أخذ الأخبار وكيفية ضبطها بالانتباه لها ووعيها والتدقيق في نقلها للآخرين" (¬1). أما نقد المتن فهو نقد محتوى الحديث وقد اهتم به علماء الحديث، ووضعوا له قواعد وردوا بها كثيرًا من الأحاديث الموضوعة. وقد لخص الأستاذ مصطفى السباعي في كتابه القيم "السُّنَّة ومكانتها من التشريع الإسلامي" هذه ¬

_ (¬1) "تيسير مصطلح الحديث"، د. محمود الطحان ص 8 ط ثانية 1398 هـ.

القواعد وبلغ بها خمس عشرة قاعدة (¬1) وهي كالتالي: 1 - ألا يكون الحديث ركيك اللفظ لا يقوله بليغ أو فصيح فـ"إن للحديث ضوءًا كضوء النهار". 2 - ألا يكون مخالفًا لبدهيات العقول بحيث لا يمكن تأويله مثل "إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعًا وصلَّت عند المقام ركعتين". 3 - ألا يكون مخالفًا للقواعد العامة في الحكم والأخلاق مثل "جور الترك ولا عدل العرب". 4 - ألا يكون مخالفًا للحس والمشاهدة مثل "لا يولد بعد المائة مولود لله فيه حاجة". 5 - ألا يخالف البديهي في الطب مثل "الباذنجان شفاء من كل داء". 6 - ألا يكون داعية إلى رذيلة تتبرأ منها الشرائع مثل "النظر إلى الوجه الحسن يجلي البصر". 7 - ألا يخالف المعقول في أصول العقيدة من صفات الله ورسله مثل "إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت فخلق نفسه منها". 8 - ألا يكون مخالفًا لسُنَّة الله في الكون والإنسان مثل حديث عوج بن عنق وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. 9 - ألا يشتمل على سخافات وسماجات يصان عنها العقلاء مثل "الديك الأبيض حبيبي، وحبيب حبيبي جبريل". 10 - ألا يخالف القرآن أو محكم السُّنَّة بحيث لا يحتمل التأويل مثل "ولد الزنا لا يدخل الجنة إلى سبعة أبناء" فإنه مخالف لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ومثل: "إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت أو لم أحدث" فإنه مخالف للحديث المتواتر "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". ¬

_ (¬1) انظر: "السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" مصطفى السباعي ص 115 وما بعدها وص 250، و"تدريب الراوي" السيوطي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف 1/ 274 وما بعدها.

11 - ألا يكون مخالفًا للحقائق التاريخية المعروفة عن عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع الجزية على أهل خيبر، بشهادة سعد بن معاذ وكتابة معاوية بن أبي سفيان، مع أن الثابت في التاريخ أن الجزية لم تكن معروفة ولا مشروعة في عام خيبر، وإنما نزلت آية الجزية بعد عام تبوك، وأن سعد بن معاذ توفي قبل ذلك في غزوة الخندق، وأن معاوية إنما أسلم زمن الفتح. فحقائق التاريخ ترد هذا الحديث وتحكم عليه بالوضع. 12 - ألا يوافق مذهب الراوي الداعي إلى مذهبه مثل أن يروي رافضيٌّ حديثًا في فضائل أهل البيت، مثل ما رواه حبة بن جدين قال: سمعت عليًا - رضي الله عنه - قال: "عبدت الله مع رسوله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين". قال ابن حبان: "كان حبة غاليًا في التشيع واهيًا في الحديث". 13 - أن يخبر الحديث عن أمر وقع بمشهد عظيم، ثم ينفرد راو واحد بروايته، مثل حديث (غدير خم) الذي يدعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص فيه صراحة على خلافة علي بن أبي طالب، فإن من إمارات الوضع في هذا الحديث أن يصرح بوقوعه على مشهد من الصحابة جميعًا، ثم يقع بعد ذلك أن يتفقوا جميعًا على كتمانه حين استخلاف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. 14 - ألا يكون ناشئًا عن باعث نفسي حمل الراوي على روايته. 15 - ألا يكون مشتملًا على إفراط في الثواب العظيم على الفعل الصغير والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير. أين منهج النقد الحديث: لا أحد حتى الآن من العصرانيين أو غيرهم قدم منهجًا متكاملًا يمكن أن يعتبر منهجًا حديثًا لنقد الأحاديث النبوية، ولا يعدو الأمر أن يكون دعوى وضجة عن ضعف مناهج الأقدمين وإمكانية تقديم منهج عصري، أما أين هذا المنهج فلم تتفتق عنه عبقريتهم بعد. وحدث ولا حرج عن الجرأة الشديدة في الادعاء، والقصور والعجز البالغ عند المطالبة بإبراز أي شيء من هذا المنهج. ومن المحاولات في هذا المجال أن سيد خان يشترط لقبول الأحاديث أن تتفق مع نص وروح القرآن، وأن تتفق مع العقل والتجربة البشرية، وألا تناقض

حقائق التاريخ الثابتة (¬1)، فهل هذه قواعد جديدة؟ من مراجعة القائمة الماضية لقواعد النقد نجد أنها قد ضمت هذه القواعد بل وزادت عليها (¬2)، فمن البديهي أن وظيفة السُّنَّة أن تبين وتوضح ما في القرآن ولهذا لا يمكن أن تناقض القرآن، وكل ما أثبتت كتب الأحاديث صحته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكله موافق لنص القرآن لا يخالفه البتة ولا يناقضه. أما شرط موافقة "روح القرآن" فكلمة روح كلمة عامة جدًا، وليس لها معنى محدد، وبإمكان كل أحد أن يدعي أن روح القرآن هي كذا، وليس لذلك أية ضوابط، ولا يمكن قبول نقد الأحاديث بمثل هذا التعميم. أما ما يتفق من الحديث مع العقل وتجارب البشر وعلومهم فهل يماري في ذلك أحد؟ ولكن السؤال هو: أي عقل هو المقصود؟ وأي علوم البشر وتجاربهم هي المرادة؟ إن العقل البشري متفاوت في حكمه على الأشياء، وعلوم البشر وتجاربهم منها ما هو محض افتراضات ونظريات تقوم على الحدس والتخمين، وما يثبته العلم اليوم ينفيه غدًا، أما الحقائق العقلية الصريحة، والحقائق العلمية القطعية، فلا تناقضها الأحاديث الصحيحة التي أثبتها أئمة الحديث. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي جرب شرب العسل وادعى أن التجربة البشرية لم تثبت أن العسل شفاء- قال له: "صدق الله وكذب بطن أخيك" (¬3)، فكلام الله تعالى صدق كله، وكلام الرسول صدق كله، والتجربة البشرية تصدق وتكذب. والقاعدة الثالثة التي يشترطها سيد خان في الأحاديث ألا تناقض حقائق التاريخ الثابتة، وهذه جملة تحتاج إلى فحص. فبأي شيء تثبت وقائع التاريخ وبأي شيء تصبح حقيقة قطعية لا تقبل النقض؟ هل الفروض التي تبنى على الحفريات والأحجار وهياكل الموتى هي حقائق تاريخية تعارض الأحاديث؟ هل أقاصيص المؤرخين ورواياتهم للحدث الواحد المتناقضة ومشاربهم وميولهم المختلفة التي تؤثر في تسجيلهم للأخبار. . . هل كل ذلك حقائق تاريخية ثابتة؟. وهكذا فمع أن سيد خان يقدم قواعد تتفق مع القواعد التي قدمها علماء ¬

_ (¬1) انظر: ص 133 من هذا البحث. (¬2) انظر: القاعدة الثانية والعاشرة والحادية عشرة. (¬3) انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" ابن حجر 12/ 247.

الحديث، إلا أن الطريقة التي يستخدم بها سيد خان هذه القواعد، والحرية الواسعة التي يمارس بها استعمالها، تختلف اختلافًا جوهريًا عن طريقة علماء الحديث. "نعم إن العلماء -رحمهم الله- لم يستعملوا تلك المقاييس إلا في النطاق الذي لابد منه، فلم يردوا حديثًا إلا بعد تعذر التأويل بحيث يتحقق فيه على وجه التأكيد فقد شرط من شروط الصحة ووجود علامة من علامات الوضع، وقد جعلوا عمدتهم الأولى نقد السند وبه أزاحوا من طريق السُّنَّة آلافًا بل عشرات الألوف من الأحاديث المكذوبة، ثم نقدوا المتن في الحدود التي ذكرناها على نطاق ضيق إذ كانوا متثبتين، لا يلقون الكلام على عواهنه ولا يجازفون في دين الله بالهوى والعاطفة. وعذر العلماء -رحمهم الله- واضح فيما فعلوه، ذلك بأنهم إنما يبحثون في أحاديث تنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وللنبي ظروف خاصة به تجعل مقاييس النقد في حديثه أدق وأصعب من مقياس النقد في أحاديث الناس؛ لأنه رسول يتلقى الوحي من الله أوتي جوامع الكلم وأعطي سلطة التشريع، وأحاط من أسرار الغيب بما لم يحط به إنسان عادي. ومن هنا ضيّق علماؤنا دائرة نقد المتن بمقدار ما وسعوا في دائرة نقد السند؛ لأن الذين ينقد حالهم في السند رجال يجري عليهم من القوانين ما يجري على الناس جميعًا، أما المتن فإنه كلام ينسب إلى من هو فوق البشرية في علومه ومعارفه واستعداده. فقد يخرج كلامه مخرج المجاز لا الحقيقة -كما فعل القرآن كثيرًا- فيتوهم من ينظر فيه لأول مرة أنه غير صحيح، بينما المراد منه غير حقيقته اللغوية التي تتبادر إلى الذهن. وقد يخرج كلامه مخرج الإخبار عن المغيبات التي تقع في مستقبل الزمان، ولم يكن وقت النقد قد حان زمن تحققها فلا يصح التسرع في الإنكار. وقد يخرج كلامه مخرج الإخبار عن حقائق علمية، لم تكتشف في عصر الرسالة ولا في عصور الناقدين، وإنما تكتشف فيما بعد كحديث ولوغ الكلب في الإناء فقد أثبت العلم الحديث صحة ما جاء فيه، بينما عدها علماؤنا من قبل من الأمور التعبدية التي لا يحيط الناس بمعناها وحكمتها.

الاجتهاد في أصول الفقه

كل هذا يجعل علماؤنا -رحمهم الله- على حق في تثبتهم وتأنيهم في رد الأحاديث إذا بدت عليها بادرة شبهة، أو تردد العقل في فهمها ولم يجزم باستحالتها بعد تأكدهم من صحة السند وسلامة رجاله من أن يكون فيهم كذاب أو ضعيف أو متهم" (¬1). الاجتهاد في أصول الفقه: من أولى المسائل في أصول الفقه التي تثير العصرانية حولها الغبار هذه القضية: هل بالإمكان حدوث تطور جديد في أصول الفقه؟ لعل إقبال من أوائل من أثاروا هذه المسألة، وناقش في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام" الأصول الأربعة: الكتاب والسُّنَّة، والإجماع والقياس، والرأي عنده "إن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام، من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا، على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ" (¬2). وتبنت الدعوة إلى الاجتهاد في أصول الفقه مجلة المسلم المعاصر إذ كتب مؤسسها د. جمال الدين عطية في كلمة التحرير لأول عدد صدر منها واصفًا المجلة بأنها "مجلة الاجتهاد" وأنها ". . تنطلق من ضرورة الاجتهاد وتتخذه طريقًا فكريًا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه" (¬3). واشتملت المجلة في العدد نفسه والأعداد التالية على بعض المقالات عن هذا الموضوع (¬4). ويردد هذه الدعوة آخرون منهم الدكتور أحمد كمال أبو المجد، إذ كتب يقول: "والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون ليس اجتهادًا في ¬

_ (¬1) "السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" مصطفى السباعي ص 255 - 257. (¬2) انظر: ص 140 من هذا البحث. (¬3) (هذه المجلة)، كلمة التحرير، د. جمال الدين عطية ص 7، المسلم المعاصر العدد الافتتاحي شوال 1394 هـ، نوفمبر 1974 م. (¬4) انظر: "منهاج هذه المجلة" محمود أبو السعود ص 123 العدد الافتتاحي، و"إمكان الاجتهاد في أصول الفقه"، د. مصطفى كمال وصفي ص 131 العددان الأول والثاني (ربيع الأول 1395 هـ)، و (نظرات في العدد الأول) يوسف القرضاوي ص 136 المصدر نفسه.

الفروع وحدها، وإنما في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم، فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلبًا لحكم الإسلام فيها، أفضى بحثهم إلى وقفة مع الأصول. . . وليس ما تردده الكثرة الغالبة من المعاصرين، من امتناع الاجتهاد في الأصول، إلا التزامًا بما لا يلزم وتقصيرًا في بذل الجهد بحثًا عما ينفع الناس" (¬1). وحتى لا يضيع الفكر في متاهات من التعميمات، فإن الخطوة الأولى لتلمس الحقيقة في هذا الموضوع الخطير، تبدأ بتحديد ما المقصود بالاجتهاد في أصول الفقه. قد يكون المقصود من ذلك عدة أمور نجملها فيما يلي: 1 - استحداث قواعد جديدة في أصول الفقه لم تكن معروفة من قبل ولم يصل إليها السابقون. وهذا هو المعنى المتبادر عادة من كلمة اجتهاد بمعناها الاصطلاحي إذ أن الاجتهاد في الفقه عادة ينصرف إلى استنباط أحكام جديدة للحوادث الطارئة. فإذا كان هذا هو المقصود من الاجتهاد في أصول الفقه، فأين هذه القواعد الجديدة المستحدثة؟ فبدلًا من إثارة الضجيج وضرب الطبول عن إمكان الاجتهاد أو عدم إمكانه، فمن كانت عنده قواعد جديدة فليأت بها، وليطلع العالم عليها وحينئذ فقط تتحقق إن كانت هي بحق قواعد علمية تقوم على الدليل والبرهان، أم أنها محض تخرصات وأهواء شخصية. وفيما أعلم لا أحد قدم قواعد جديدة. 2 - وقد يكون المقصود من الاجتهاد عدم التقليد في أصول الفقه، بمعنى أنه لا تقبل الآراء فيه إلا بحجة ودليل، حتى لو أثبتها الأوائل، ويظل الباب مفتوحًا للترجيح بين الآراء المتنازع فيها والمختلف فيها. ولا ريب أن هذا معنى صحيح وهل يخطر ببال كل ذي عقل أن الاستمساك بتقليد آراء الرجال والإذعان لها دون حجة ودليل أمر محمود؟ لا أظن أحدًا من الأوائل دعا إلى ذلك ولا يرتضيه أحد من المعاصرين. وهذه هي ¬

_ (¬1) "مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر" ص 257 - مجلة العربي عدد 222 مايو 1977 م.

السنة التشريعية وغير التشريعية

كتب أصول الفقه قديمها وحديثها مشحونة بسوق الآراء والأدلة عليها والترجيح بينها. 3 - وقد يكون المقصود بالاجتهاد توسيع وتفصيل بعض القواعد التي بحثها علم أصول الفقه. وقد أوضح هذا المعنى أحد الذين تناولوا هذا الموضع فقال: ". . . وهناك مسائل تتعلق بالأصول تحتاج إلى مزيد إيضاح وتفصيل، من ذلك تقسيم السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية. . . ومن ذلك الإجماع إذا كان مبنيًا على أمر مصلحي زمني قابل للتغير والتطور بتغير الزمان والمكان والحال. . . وهذا يجر إلى قضية أخرى، وهي قضية تغير الأحكام أو تغير الفتوى بتغير الأزمان، وما ينبغي أن يوضع لها من حدود وضوابط. . . إلى غير ذلك من القضايا والموضوعات التي يكشف عنها طول البحث والنظر في الفقه وأصوله، وتطبيقاته في هذا العصر. . . وهذا كله يفسح الميدان لدعاة الاجتهاد ولو كان في أصول الفقه ذاتها" (¬1). ولما كانت القضايا المثارة تحت هذا المعنى للاجتهاد في أصول الفقه، تستحق مزيدًا من الفحص والتمعن حتى تسفر الحقيقة عن وجهها، ويتضح ما إذا كانت الدعوة للاجتهاد صادقة أم كاذبة، كان لابد من إخضاع هذه القضايا للبحث. فإذا ظهر أن هناك اجتهادًا معاصرًا في هذه المسائل، كان الاجتهاد في أصول الفقه أمرًا واقعًا، وإن ظهر أن دعوى الاجتهاد في هذه الأمور لا تقوم على أساس، اتضح أن إمكان الاجتهاد في أصول الفقه لا يعدو أن يكون إمكانًا نظريًا بحتًا حتى الآن. السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية: يقوم مبدأ تقسيم السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته. ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلمها هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Divine وبشري Human في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم ¬

_ (¬1) "نظرات في العدد الأول" يوسف القرضاوي ص 138، مجلة المسلم المعاصر، العدد الأول والثاني (ربيع الأول 1395 هـ).

في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهية المسيح. ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (¬1)، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب. وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين: الأول: التمييز بين بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته. الثاني: التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء. ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه، إن شاء الله. ويشرح عبد الوهاب خلاف مبدأ التمييز بين بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، فيقول تحت عنوان: "ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله": "ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء. وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولًا إليهم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]. 1 - فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل دليل على أن المقصود من فعله الاقتداء به، كان تشريعًا بهذا الدليل. ¬

_ (¬1) راجع: "آراء جايجر" ص 118، و"سباتيه" ص 135 من هذا البحث.

2 - وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشؤون الدنيوية، من اتجار أو زراعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لما رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بيَّنها الصحابي. ولما رأى الرسول أهل المدينة يؤبرون النخل أشار عليهم ألا يؤبروا، فتركوا التأبير (يعني: التلقيح) وتلف التمر فقال لهم: "أبروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم". 3 - وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات لأن قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] دل على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده لأن النصوص صريحة في أن البينة شاهدان. ويراعى أن قضاء الرسول في خصومة يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقدير ثبوت الوقائع فهو تشريع. ولهذا روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها". والخلاصة أن ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بيَّنَّاها، فهو من سُنَّته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما ما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين وقانون واجب اتباعه" (¬1). ¬

_ (¬1) "علم أصول الفقه" عبد الوهاب خلاف ص 44.

ومبدأ تقسيم السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا، ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف العرب وحالتهم في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات (¬1). ولا ينفرد سيد خان بتوسيع دائرة السُّنَّة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ إنه عمليًا ينتهي إلى حصر الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول أحمد كمال أبو المجد: "إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني: الرسول - صلى الله عليه وسلم -) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده" (¬2)، وفيما يبدو أن هذا رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع (¬3). فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية؟ يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أورده الشيخ خلاف فيما نقل عنه قبل قليل، وما يورده غيره. الحجة الأولى: أفعال الرسول الجبلية: يقال: إن من السُّنَّة غير التشريعية ما صدر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا؛ ¬

_ (¬1) "علم أصول الفقه" عبد الوهاب خلاف ص 133 من هذا البحث. (¬2) "الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه"، مجلة العربي ص 16، ع 225 أغسطس 1977 م. (¬3) انظر المصدر نفسه ص 190 من هذا البحث.

وفي حقيقة الأمر إن في هذا النوع من أفعال الرسول نوعًا من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة، ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية (¬1). ومن التأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية، يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها، تمامًا مثل الصفات الخلقية. فكما لا يتأسى بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفاته الخلقية في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره، ولا يقدر عليه حتى لو أراده. وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأس ولا اقتداء فهو إطلاق صحيح. ومن قال أن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب. وعلى هذا فلابد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يوقع في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السُّنَّة غير التشريعية، لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد أن من سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه. أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السُّنَّة غير التشريعية، أنه تلك السُّنَّة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حرمة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون أن المباح من أقسام السُّنَّة، وهل ادعى أحد أن كل السُّنَّة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا ¬

_ (¬1) "إرشاد الفحول" الشوكاني ص 33، ومن الصحابة من كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه - رضي الله عنه -، منقول في كتب السُّنَّة.

كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السُّنَّة التي تدل على هذا الحل وهذه الإباحية سُنَّة غير تشريعية؟ الحجة الثانية: خطط الرسول الحربية: وقد استدل على تقسيم السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل ثم أشار عليه بأن ينزل منزلًا آخر (¬1). وقد جعلت هذه الحادثة دليلًا على أن تدبير الحروب من أقسام السُّنَّة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية: 1 - الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها من لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في البداية والنهاية وفي رواتها متهم (¬2). وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة. 2 - وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سُنَّة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم. فعلى الصحيح من رأي العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد برأيه أحيانًا، من غير وحي، في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية. فقد روي "أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم ومال رأيه إلى ذلك حتى نزل قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 68]. ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع ومما هو ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 259. (¬2) المصدر نفسه، و"المستدرك" للحاكم 3/ 426، و"البداية والنهاية" لابن كثير 3/ 267، و"زاد المعاد" لابن القيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط 3/ هامش ص 175.

حق الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة، ثم لما جاء عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - وذكر ما رأى في المنام من أمر الأذان فأخذ به، وقال: "ألقها على بلال"، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي، ألا ترى أنه لما أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: "الله أكبر هذا أثبت"، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي" (¬1). فإذا قيل: إن السُّنَّة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بشرًا، فهلَّا قيل أن الأذان من السُّنَّة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلَّا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السُّنَّة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه ثم خطأه الوحي. ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بيَّن أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضمنًا، وإقراره عليه، وكأنه صدر من الوحي ابتداء. "والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لما جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: "ما أراك إلا قد حرمت عليه"، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] "وبيَّن فيها حكم الظهار" فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وحين بيَّن بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق ¬

_ (¬1) "أصول السرخسي" 2/ 93، وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السُّنَّة ومن ذلك مسلم راجع: "تفسير القرطبي" 8/ 45، وقصة الأذان ثابتة أيضًا في كتب السُّنَّة، ومنها البخاري ومسلم. راجع: "نيل الأوطار" 2/ 35.

الأمة فالمجتهد قد يخطئ" (¬1). ولعله من الطريف حقًا أن نعلم أن ابن كثير أضاف إلى رواية حادثة الحباب بن المنذر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك أن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر (¬2). فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها. الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل: من أقوى حجج اشتمال السُّنَّة على أمور غير تشريعية، هي الشؤون الدنيوية، حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث: 1 - عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه، ويجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظن ذلك يغني شيئًا"، فأخبروا فتركوه. فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله -عز وجل-". (رواه مسلم) (¬3). 2 - عن رافع بن خديج قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة المنورة وهم يأبرون النخل (يلقحون النخل) فقال: "ما تصنعون؟ " قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، فتركوه فنفضت (يعني: أسقطت ثمرها) قال: فذكروا ذلك له فقال: "إنما أنا بشر، اذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيِّ فإنما أنا بشر" (رواه مسلم) (¬4). 3 - عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يلقحون النخل فقال: "لو لم تفعلوا ¬

_ (¬1) "أصول السرخسي" 2/ 95، وراجع في قصة خولة: "تفسير القرطبي" 17/ 270. (¬2) "البداية والنهاية" ابن كثير 3/ 267. (¬3) "شرح مسلم" للنووي 15/ 116. (¬4) المصدر نفسه ص 117.

لصلح" فخرجت شيصًا (الشيص هو التمر الرديء) فمر بهم فقال: "ما لنخلكم" قالوا: قلت: كذا كذا قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (رواه مسلم) (¬1). 4 - عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع أصواتًا، فقال: "ما هذه الأصوات؟ " قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: "لو لم يفعلوا لصلحٍ"، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ" (رواه أحمد بن حنبل) (¬2). ويقول الدكتور العوا عن هذا الحديث: "ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سُنَّته - صلى الله عليه وسلم - ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى. ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر" "وأنتم أعلم بشؤون دنياكم" وكان بوسعه أن يقول: إني لا خبرة لي بالنخل -إذ ليس في مكة نخل- أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها أنه في ما لا وحي فيه من شؤون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل وإنما جاء شاملًا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سُنَّة" (¬3). وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا سيد خان وعدد من المعاصرين، وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء؟ من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (¬4)، ومن التأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية: ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" للنووي ص 118. (¬2) "المسند" 2/ 123. (¬3) "السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية"، مجلة المسلم المعاصر العدد الافتتاحي ص 29. (¬4) انظر: "شرح مسلم للنووي" 15/ 116، و"شرح الآبي" لمسلم، و"شرح السنوسي" 5/ 153.

1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنا وأساء القوم فهم هذا الظن فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: ". . . والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينههم عن التلقيح، ولكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود" (¬1). ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: ". . . قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًا كما بينه في هذه الروايات" (¬2). والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أظن يغني ذلك شيئًا. ." فأخبروا بذلك فتركوه، وحين لم يثمر النخل قال: "إن كان ينفعهم فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن". 2 - جاء في روايات هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضاف قائلًا: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وتضيف رواية أخرى أنه قال: "إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإلي". فماذا يقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمور الدنيا؟ لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، حتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل من أمور الفلاحة وما شابها، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية خياطة الملابس مثلًا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا. فلما لم نجد ذلك علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين ولهذا قال لهم: "إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإلي" وقال لهم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". فكل ما بيَّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجاءت به سُنَّته، فهو من أمور الدين، وأما ¬

_ (¬1) "فتاوى ابن تيمية" 18/ 12. (¬2) "شرح مسلم" للنووي 15/ 117.

معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان. 3 - ومما يؤكد أن كل ما بيَّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو من أمور الدين شيئان: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين لنا فرقًا واضحًا في سُنَّته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة لا شك ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لم نجد بيانًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سُنَّة خاصة بأمور الدين وسُنَّة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وقع في وهمهم هذا التقسيم لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سُنَّة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط. والثاني: أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشر قرنًا، لم يعرف عن أحد منهم أنه رد سُنَّة من سُنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة. الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب: يشرح المستشرق موريس بوكاي (¬1) هذه الحجة كالآتي: هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة؛ إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شؤون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره من البشر لحديث: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية، تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية. وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها. وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ¬

_ (¬1) راجع: "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة" موريس بوكاي ص 273.

ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط؟ ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي: 1 - الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟ ففضلًا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودها، فكيف ينكر أمر تضافر على إثباته القرآن والسُّنَّة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن. 2 - الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجود خصائص علاجية. في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا، ألا تستخرج من مثل هذه المواد. 3 - الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدًا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار. 4 - الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاثًا: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم) فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج). 5 - الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلًا. 6 - الحديث الذي يشير إلى أن الحمى من فيح جهنم وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لخفضها من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما: أن حرارة الحمى

شبيهة بحرارة جهنم وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقة بين حرارة الحمى وبين جهنم والاعتراض في وجه التفسير الثاني هو كيف تكون هذه الصلة بين الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وحده الخبير بأمور الغيب. 7 - الإخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويسقط الحمل. وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور ويعرف باسم الكوبرا (Cobra)، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته أو بسبب سمه إذا لدغ. وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها موريس بوكاي نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا، إمّا سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث، ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء التباس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث ويراجع شروحه ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلًا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم. ويحسُن التنويه هنا بأمرين: أولهما: إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا ممن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلًا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الرد على مثل هذه الاعتراضات وسمى كتابه: "كتاب تأويل مختلف الحديث، في الرد على أعداء أهل الحديث والجمع بين الأخبار التي ادعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي" (¬1). ¬

_ (¬1) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة كردستان العلمية عام 1326 هـ، وراجع: ص 289 =

وثانيهما: أن من بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر، مع تقدم العلم، ومن ذلك الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب. وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: "اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الحمى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف". ثم رد الخطابي على ذلك بأن قال: "وإنما أوقعه ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولًا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية". . . إلى أن قال: "وإنما قصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به" (¬1). ولا أظننا في هذا العصر الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة، نقابل ذلك الاعتراض المثار، بغير السخرية من جهل صاحبه، وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثروة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة. الحجة الخامسة: تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء: قسم الإمام القرافي تصرفات الرسول إلى أنواع، تصرفات بوصفه رسولًا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (¬2)، وقد ذهب من احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القضاء والإمامة ليست من ¬

_ = عن الحجج التي أوردها في الرد على الحديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه سمًا وفي الآخر شفاء"، فقد ذكر أن الحديث صحيح وأورد رواياته وألفاظه ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة)، وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة. (¬1) "فتح الباري" ابن حجر 12/ 283. (¬2) انظر: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام" للإمام القرافي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة ص 86 - 109.

السُّنَّة التشريعية الملزمة (¬1). وإذا تمعنا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها، إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي ترك للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام القرافي البحث عن ذلك في تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانًا للاختصاصات، وتوزيعًا للسلطات وحصرًا لما يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام القرافي بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة وهي الوظيفة التشريعية، لا تفارق الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى حين يتصرف باعتباره رأس دولة أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحرب وكل ذلك من تصرفات الإمام (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده وكذلك أحكامه القضائية. السُّنَّة تشريع كلها: والخلاصة أن السُّنَّة تشريع كلها ما كان منها أقوالًا أو أفعالًا. يقول ابن تيمية: "إن جميع أقواله يستفاد منها شرع. . . ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب" (¬2). "وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له بعض الناس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق"؛ يعني: شفتيه الكريمتين" (¬3). أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الجبلية التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها. ¬

_ (¬1) "السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية" محمد سليم العوا ص 36، "المسلم المعاصر" العدد الافتتاحي. (¬2) "فتاوى ابن تيمية" 18/ 12. (¬3) المصدر نفسه ص 8.

شريعة الله وشريعة الفقهاء: المبدأ الثاني الذي تحاول العصرانية أن تضع به خطًا فاصلًا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر. يكتب أحمد أبو المجد عن ذلك فيقول: "إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه، فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نص فيه وترجيحهم بين ما بدا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون وقلمَّا يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس حظ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح كما يعكس ظروف الزمان والمكان. . . ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات. . . وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. . . وباطل قول من قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا. . . فقد ترك له عالمًا كاملًا غير عالمه ودنيا غير دنياه. . . وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة، فتلك أمة قد خلت ولا تسألون عما كانوا يعملون" (¬1). أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزلة من عند الله تعالى وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص واجتهادهم فيما لا نص فيه فذلك حق لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. وذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معانٍ متعددة، فمن الخطأ البين أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. "وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناء جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده ¬

_ (¬1) "مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر"، مجلة العربي ص 22، عدد 222 مايو 1977 م.

الثابت والمتغير في الإسلام

أن تتخذ قرارًا سفيهًا مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبدد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالًا جديدة لم يتح للأولين أن يقوموا بها وهكذا لا يزال يتقدم بخطى حثيثة في ميدان الكمال والإتقان" (¬1). إن الفقهاء الأوائل بشرٌ ما في ذلك شك، ولا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لسنا أيضًا بشرًا فما الذي يجعل لنا فضلًا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب وكل ذي عقل يري أن ما كان صوابًا قبلناه وما كان خطأ طرحناه. وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل ذلك التقسيم أكثر تفصيلًا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة ثلاثة أقسام (¬2): شريعة منزلة وهي القرآن والسُّنَّة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرَّفة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها. الثابت والمتغير في الإسلام: من مبادئ العصرانية تقسيم الدين إلى ثوابت ومتغيرات وقد تناول مفكروها هذه القضية بالبحث في المسيحية واليهودية (¬3) والإسلام (¬4). ويشرح الدكتور معروف الدواليبي هذا المبدأ في مقال له بعنوان: "النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان" فيقول: ¬

_ (¬1) "مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة" المودودي ص 172. (¬2) "فتاوى ابن تيمية" 19/ 308. (¬3) كتب ثيودور باركر في عام 1848 م كتابًا عن الثابت والمتغير في المسيحية وبعد عشر سنوات تناول المفهوم نفسه في اليهودية ليلينثال، انظر: Balu, "Modern vaneties of 7 Tudidm", P. (¬4) انظر: "الثابت والمتغير" (جمال الدين عطية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 23) رمضان - 1400 هـ) ص 5، و (النصوص وتغير الأحكام) معروف الدواليبي، مجلة المسلمون العدد السادس السنة الأولى (1371) ص 553، و (مقدمة في إحياء الشريعة) صبحي المحمصاني ص 59 وما بعدها، وفلسفة التشريع للمؤلف نفسه ص 198.

"إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟ 1 - إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان. غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغير حكم من الأحكام مادام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع. 2 - وقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة، بالتمييز ما بين المبدأين أولًا وبالأخذ بهما ثانيًا. فلقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين، من قضاة ومفتين تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، فتعلن بأنه "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" (¬1). فعلى رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة والطواعية في هذه الناحية على غيرها من التشريعات، فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من الأحكام، ولو كان هذا الحكم ثابتًا بنص القرآن أو السُّنَّة، تبعًا لتغير المصالح بتغير الأزمان، مع أن كثيرًا من القوانين قديمًا وحديثًا لا تتميز بهذه المرونة، فلا يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي أن ينقضه أحد كائنًا من كان ولو أحد قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء. ويقول أن ذلك أصبح في الإسلام قاعدة فقهية مقررة وهي أنه "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان". ولتتضح لنا الحقيقة في هذه المسألة لابد من النظر أولًا في هذه القاعدة الفقهية، التي أشار إليها الكاتب، ثم ننظر في الأدلة التي تورد عادة لتعضيد وجهة النظر القائلة بهذه المرونة الواسعة للشريعة الإسلامية، التي لا تدانيها حتى أكثر القوانين العصرية تقدمًا. ¬

_ (¬1) مجلة المسلمون ع/ 6 السنة الأولى ص 553.

من المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين رئيسين: أحكام مصدرها نصوص القرآن والسُّنَّة مباشرة، وأحكام مصدرها الاجتهاد دون أن تستند مباشرة على النصوص مثل أن تكون مبنية على مصلحة سكتت عنها النصوص أو عُرْف أو عادة لم ينشئها نص شرعي. ولا يختلف اثنان أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلى تحقيق مصالح الناس ومراعاة منافعهم. ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح. ففي القسم الثاني من الأحكام التي لم يكن مصدرها النص مباشرة، لم يجد الفقهاء صعوبة تذكر في تقرير أن المصلحة التي لم يأت بها نص أصلًا يمكن أن تتغير وتصبح في حين من الأحيان مفسدة، أو أن العرف والعادة الذي لم يتكون إثر نص شرعي أصلًا، يمكن أن يتبدل ويتغير، وحينئذ قرروا بلا تحفظ أن الأحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان؛ لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير، وتغيره سواء كان مصلحة أو عرفًا متصور عقلًا وواقع ملموس. أما القسم الثاني من الأحكام وهي الأحكام التي تقررها النصوص مباشرة فكل أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم، فغاية النص وهدف النص وحكمة النص هي المصلحة. حينئذ لم يستطع ذهن الفقهاء أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن من الأزمان مفسدة. ذلك أن من المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوى أو المزاج الشخصي، وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح حقيقة. وأن من التناقض الواضح أن يقال أن مصلحة ما عارضت النص. فالنص هو عدل كله ورحمة كله وحكمة كله ومصلحة كله، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص، إلا إذا كانت نابعة من هوى أو مصدرها مزاج سقيم. حينئذ قرر الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلى يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان. يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة: "إذا ورد النص من القرآن أو السُّنَّة الثابتة في أمر ما على حكم ما. . . فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما

ثبت فهو ثابت أبدًا، في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى" (¬1). وعلى هذا فإن القاعدة الفقهية (لا ينكر تغير الأحكام بتبدل الزمان) قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام، وهي الأحكام التي لا تستند مباشرة على نص شرعي، بل مصدرها عرف أو مصلحة سكتت عنها النصوص. وهذه القاعدة هي إحدى قواعد المجلة وقررتها المادة 39، وقد جاء شرح هذه القاعدة بقصرها على الأحكام التي لم تستنبط من النصوص (¬2)، وعلى هذا استقر فهم الفقهاء. يقول الدكتور مصطفى الزرقاء في بحثه لهذا الموضوع: "من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية، وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان". وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذكر، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال" (¬3). أثر العرف في تغير الأحكام: ويزيد الإمام الشاطبي أحد علماء أصول الفقه المتمكنين مسألة تأثير العرف في تغير الأحكام شرحًا وتوضيحًا، فيبين أن العادات والأعراف المتبدلة هي الأعراف التي لم تنشئها الشريعة أصلًا، ولم تتعرض لها إطلاقًا لا بمدح ولا ذم، إنما أنشأها الناس بأنفسهم نتيجة العلاقات الاجتماعية بينهم. فهذه هي التي يؤثر تغيرها في أحكامها الشرعية فيتغير حكمها تبعًا لتغيرها. وضرب بعض الأمثلة على ذلك منها على سبيل المثال العبارات التي يكون لها تأثير في إنشاء ¬

_ (¬1) "الإحكام في أصول الأحكام" ابن حزم 5/ 771 - 774. (¬2) انظر: "شرح المجلة" محمد خالد الأتاسي 1/ 91. (¬3) "تغيير الأحكام بتغير الزمان"، د. مصطفى الزرقاء -مجلة المسلمون ع/ 8 ص 891 (1373 هـ).

أو إنهاء عقود المعاملات المالية، مثل البيع أو ألفاظ الطلاق، فهذه يراعى فيها العبارات التي يعتادها الناس والاصطلاحات التي يستعملونها في كل عصر. ومن الأمثلة أيضًا للعوائد التي تتغير ويكون لها تأثير العادات الخاصة بالزواج مثلًا، فهذه قد تختلف من عصر إلى عصر، أو من بلد إلى بلد، فإذا كانت العادة مثلًا أن يدفع المهر كاملًا قبل الزواج، أو الهدايا التي تدفع للعروس تكون من ضمن المهر، فلهذه العادات تأثير في الأحكام الشرعية. أما العادات والأعراف التي تنشئها الشريعة وتعتبرها من المحاسن أو تذمها وتعدها من القبائح، فهذه لا تتبدل ولا تتغير بل هي ثابتة، وفيما يلي عبارة الإمام الشاطبي التي شرح فيها هذه القضية (¬1): يقول: "العوائد المستمرة ضربان، أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا، أو نهى عنها كراهة أو تحريمًا، أو أذن فيها فعلًا وتركًا. والثانية: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه وإثباته دليل شرعي. فأما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية. . . فهي إما حسنة عند الشارع أو قبيحة. . . فلا تبديل لها. . . فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا ولا القبيح حسنًا. . . إذ لو صح مثل هذا لكان نسخًا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل؛ فرفع العوائد الشرعية باطل". أما الثانية: فهي عند الشاطبي المتبدلة ثم ضرب لها أمثلة كما سقناها. رأي الطوفي في أثر المصلحة في تغير الأحكام: أسلفنا القول: إن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه ولا يعرف أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة المنار في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو نجم الدين الطوفي ذكرت المجلة أنه تحدث عن المصلحة بما لم تر مثله لغيره من الفقهاء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الموافقات" للشاطبي 2/ 283 وما بعدها. (¬2) "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي"، مصطفى زيد ص 194.

فمن هو الطوفي هذا؟ وما رأيه الذي شذ به عن بقية الفقهاء؟ تذكر المصادر التي ترجمت لحياة الطوفي أنه كان من الفقهاء الحنابلة، وتصفه بالعدل والصلاح والفضل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلالًا على انحراف منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشيع والرفض وسب الصحابة، وتجعل ذلك سببًا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة، ومنها نفي إلى بلدة صغيرة. وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته، إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأي شاذ، لم يعرف قبله ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (¬1)، وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا وإن كان في الغالب دليل الخطأ، فهل كان رأي الطوفي في المصلحة مع كل تلك الظلال القاتمة في حياته ومع ذلك الشذوذ رأيًا صائبًا أم كان رأيًا لا وزن له؟ أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2) وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع، وأنه في غير دائرة العبادات والمقدرات فإن المصلحة تقدم على النص والإجماع إذا عارضتهما. يقول: "واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور -حديث: "لا ضرر ولا ضرار"- ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام. . . فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها. . . وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من ¬

_ (¬1) راجع في ذلك: المصدر نفسه ص 67 - 88، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"، محمد سعيد رمضان البوطي ص 202 - 206، وانظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب 2/ 366. (¬2) انظر: النص الكامل لهذا الشرح في ملحق كتاب "المصلحة في التشريع الإسلامي" لمصطفى زيد.

جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له. . . وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول. . . ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته؛ لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل النافع" (¬1). ويسوق لرأيه هذا عددًا من الأدلة منها (¬2): 1 - أن النصوص إجمالًا وتفصيلًا قد بيَّنت أن مقصود الله -عز وجل- من تشريع أحكامه تحقيق المصلحة ورفع الحرج. من ذلك مثلًا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال -عليه السلام-: "الدين يسر" وقال: "بعثت بالحنيفية السمحة". 2 - حديث: "لا ضرر ولا ضرار" وهو واضح الدلالة في نفي الضرر والمفسدة وتقديم المصلحة على جميع أدلة الشرع، فإذا تضمنت بعد أدلة الشرع ضررًا كان لابد عملًا بهذا الحديث من إزالة ذلك الضرر. 3 - أن النصوص متعارضة مختلفة فلهذا تكون سببًا للخلاف والتفرق، أما المصلحة فأمر حقيقي لا يختلف فيه ولهذا فهي أولى بالتقديم على النصوص. 4 - أن المصلحة دليل متفق عليه أما الإجماع فدليل مختلف حوله فالتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه. وهذا مجمل ما عند الطوفي من أدلة على رأيه، ولكن تحليل هذه الأدلة بكل روية وتمعن يظهر فيها ضعفًا وتناقضًا لا يخطئه من له أدنى إدراك بالأدلة وطرق مناقشتها. 1 - فمما لا يختلف فيه اثنان أن النصوص دلت عمومًا وتفصيلًا أن أحكام الشريعة غايتها المصلحة، ولكن هذا دليل إثبات أنه حيثما وجد النص فثم المصلحة، والله أراد من النصوص اليسر ولم يرد بها العسر، وكل نصوص الدين ¬

_ (¬1) ملحق كتاب "المصلحة في التشريع الإسلامي" مصطفى زيد ص 235 و 238 و 240. (¬2) انظر: المصدر نفسه ص 235 وما بعدها.

ما جعل الله فيها من حرج وهي سمحة سهلة، فكل أدلة الطوفي في أن المصلحة واليسر ورفع الحرج هي مقصود الشارع، فهي دليل على ضرورة التزام النص وتقديمه؛ لأنه الذي يحقق المصلحة في كل الظروف. 2 - وحديث: "لا ضرر ولا ضرار" هو أحد الأدلة أيضًا على أن كل نصوص الشرع لا ضرر فيها، وأن المصلحة متحققة منها دائمًا، إذ كيف يقرر الرسول أنه لا ضرر وتكون بعض النصوص التي جاء بها سببًا في الضرر. إن من يفرض وقوع الضرر من تطبيق النص يقع في تناقض بيِّن. 3 - والاختلاف في تقدير المصلحة أمر واقع، وهو اختلاف كبير واسع، فالمصلحة ليست أمرًا منضبطًا يتفق عليه الناس وإلا لو كان الأمر كذلك لاتفق الناس في شرائعهم ونظمهم وطرق حياتهم، وكل هذا ينقض ما قاله الطوفي من أن المصلحة أمر حقيقي متفق عليه. 4 - والطوفي في عبارته عن تقديم المصلحة على الإجماع متناقض جدًا، فهو يقول إن المصلحة متفق عليها والإجماع مختلف حوله، فتقدم المصلحة لأنها متفق عليها "فأصبح معنى كلامه: الإجماع أضعف من رعاية المصلحة لأن رعاية المصلحة مجمع عليها والإجماع غير مجمع عليه" (¬1). 5 - ومن الملاحظ أن الطوفي لم يأت بمثال واحد يرينا فيه كيف أن المصلحة عارضت النص وكيف تقدم عليها، حتى نستيقن مما يقول، وما ذلك إلا لأنه لن توجد مطلقًا بعد طول الاستقراء والبحث حالة واحدة تعارض فيها المصلحة النص لأن ذلك التعارض أمر متوهم (¬2). ولضعف أدلة الطوفي وشناعة رأيه حمل عليه كثير من المعاصرين حملة قوية. فيقول الشيخ أبو زهرة عن رأيه أنه: "رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية" ويقول: ". . . إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هي أسلوب شيعي، أريد به تهوين القدسية التي تعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق لأن الشارع الحكيم جاء بشرعه لمصالح الناس في الدنيا والآخرة، وأدرى ¬

_ (¬1) انظر: "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"، محمد سعيد رمضان البوطي ص 212. (¬2) انظر: "ابن حنبل" لأبو زهرة ص 359.

الناس بذلك الإمام فله أن يخصص كما خصص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه وصى أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها وإن لم يذكر كلمة الإمام ليروج القول وتنتشر الفكرة" (¬1). ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: ". . . وإن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه وفيما فيه نص فتح بابًا للقضاء على النصوص وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي؛ لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة، وبالروية والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين" (¬2). شذوذ بعض المعاصرين: ومع وضوح خطأ الطوفي فقد تمسك برأيه بعض المعاصرين وألبسوا به العلمانية ثوبًا إسلاميًا، فجعلوا العبادات وحدها هي الثابتة في الإسلام التي يلتزم بها بالنصوص، أما في غير دائرة العبادات فالباب مفتوح على مصراعيه لتعديل النصوص وتغييرها، وحذفها وإضافة غيرها. يقول الدكتور النويهي في مقاله بعنوان: "نحو ثورة في الفكر الديني" (¬3). "إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسُّنَّة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير ولم تكن إلا حلولًا مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه". اجتهادات عمر بن الخطاب: ويضيف هؤلاء المعاصرين تأييدًا لرأيهم في تغير الأحكام الثابتة بالنص تبعًا ¬

_ (¬1) "ابن حنبل" لأبو زهرة ص 363. (¬2) "مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه" عبد الوهاب خلاف ص 101. (¬3) مجلة الآداب (بيروت) عدد مايو 1970 م ص 101.

لتغير المصالح بتغير الزمان حججًا جديدة منها: اجتهادات عمر بن الخطاب، التي يرون أنه لم يتمسك فيها بالتطبيق الحرفي للنصوص ومنها استبدال الشافعي لمذهبه العراقي القديم بمذهبه المصري الجديد (¬1). ونتناول هذه الحجج فيما يلي: يقال: إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يلتزم بحرفية النصوص في عدد من اجتهاداته وفيما يلي اثنان من أشهرها: 1 - "اجتهاد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعًا لتغير المصلحة بتغير الأزمان رغم أن النص القرآني لا يزال ثابتًا" (¬2). ويقول النويهي عن ذلك: "فأي شيء هذا إن لم يكن إلغاء تشريع قرآني حين اعتقد أن الظروف المتغيرة لم تعد تجيزه؟ لكن هل يجرؤ علماؤنا وكتابنا على مواجهة هذه الحقيقة الصريحة؟ " (¬3). ولكن هل صحيح أن عمر في هذه القضية غيَّر حكمًا ثابتًا بالقرآن؟ إن سؤالًا واحدًا كفيل بوضع هذه القضية في موضعها الصحيح، وهو: هل كان يوجد مؤلفة قلوبهم في عهد عمر أم لا؟ فمن المعلوم أن مصارف الزكاة محدودة لأصناف ثمانية معروفة أوصافهم فإذا لم يوجد صنف منهم في أي عصر من العصور، مثل عدم وجود صنف (في الرقاب) في هذا العصر، فكل ما يمكن أن يقال أن مصرفًا من مصارف الزكاة موقوف حتى يوجد من يستحقه، فكل ما فعله عمر - رضي الله عنه - هو أنه حكم بعدم وجود صنف المؤلفة قلوبهم في عصره، وليس ذلك إلغاء لتشريع قرآني وليس فيه تغيير لحكم ثابت بالقرآن لتغير الزمان، فإذا وجد المؤلفة قلوبهم في أي عصر أعطوا ¬

_ (¬1) راجع: مقال معروف الدواليبي "النصوص وتغير الأحكام"، مجلة المسلمون ع/ 6 السنة الأولى ص 553، و"مقدمة في إحياء الشريعة" المحمصاني ص 67. (¬2) مقال الدواليبي المصدر نفسه ص 555. (¬3) مقال النويهي - مجلة الآداب (بيروت) ص 100، عدد مايو 1970 م.

وإذا لم يوجدوا لم يعطوا (¬1). 2 - ". . اجتهاد عمر - رضي الله عنه - عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد. . . وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملًا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة" (¬2). ولكن من الواضح أن عمر هنا إنما درأ الحد بالشبهة ودرأ الحدود بالشبهات أمر مشروع وروي عن غير واحد من الصحابة (¬3). ويقول ابن القيم عن ذلك: "فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه - وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء" (¬4). فليس في اجتهاد عمر تغيير للنص الثابت بالقرآن استجابة للظروف. فقه الشافعي القديم والجديد: ومن الأمثلة التي تساق لتغير الأحكام بتغير الظروف ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلى فقهه الجديد حين انتقل إلى مصر (¬5). وتغير فقه الشافعي من القديم إلى الجديد أمر ثابت، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فهو يحتاج إلى نظر. فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولى التي حوت اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيه (¬6)، وفوق ذلك فقد روى البيهقي عنه أنه كان يقول: "لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي"؛ وكتابه البغدادي هو المشتمل على مذهبه القديم (¬7)، فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها؟ ¬

_ (¬1) راجع: "منهج عمر بن الخطاب في التشريع" محمد بلتاجي ص 175 - 191، والكتاب كله مناقشة قيمة لاجتهادات عمر. (¬2) مقال الدواليبي ص 555. (¬3) راجع: "نيل الأوطار" الشوكاني 7/ 118. (¬4) "إعلام الموقعين" 3/ 14. (¬5) "مقدمة في إحياء الشريعة" المحمصاني ص 67. (¬6) "مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 256. (¬7) "الشافعي" أبو زهرة ص 192 - 395.

لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق؛ لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله، دليل على أنه اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ. وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف. ويقول أحد أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت (فقهه القديم والجديد). . . "عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك" (¬1). ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كانت للظروف أثر في ذلك، ولا أعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال أن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثر في تغير رأيه فيها. رأي الإمام ابن القيم في تغير الأحكام: عقد الإمام ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" فصلًا عن (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد). وقد حمل سوء الفهم لهذا الفصل بعض الناس فجعل رأي ابن القيم ورأي الطوفي سواء (¬2)، ولكن الدارس لرأي ابن القيم من الأمثلة التي ساقها يتضح له أنه لا فرق بينه وبين رأي سائر الفقهاء في إثبات تغير الأحكام في دائرة المسائل التي سكتت عنها النصوص، أما في دائرة النصوص فالأحكام ثابتة إلا إذا دل النص نفسه على تغيرها. وقد أورد ابن القيم عددًا من الأمثلة لتغير الحكم وكل أمثلته تدور على الحالات الآتية (¬3): 1 - الحالة التي يثبت تغير النص فيها نص آخر، مثل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تقطع ¬

_ (¬1) "مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 263، و"مناقب الشافعي" ابن أبي حاتم ص 60. (¬2) انظر: "المصلحة في التشريع الإسلامي" مصطفى زيد ص 161. (¬3) "إعلام الموقعين" ابن القيم ص 4 - 50.

الأيدي في الغزو، فتعطيل الحد هنا في هذا الظرف ثابت في نص آخر. 2 - الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص ومثالها ترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه. 3 - حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، ومن أمثلة ذلك أن النص جعل صدقة الفطر في أصناف مخصوصة، فيقاس عليها أمثالها من الأصناف التي تصلح أن تكون قوتًا، في البلاد التي لا يوجد فيها الأصناف التي حددها النص. 4 - حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة ومثالها صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج. مع أن بعض النصوص يفهم منها عدم صحة ذلك في الأحوال العادية. 5 - الحالات التي تتغير فيها عبارات العقود والأيمان والطلاق والنذور تبعًا لتغير العرف والعادة في ذلك. وليس من أمثلة ابن القيم مثال واحد لتقديم المصلحة على النص. أحكام النصوص ثابتة: ومن هذه المناقشات كلها لا نجد دليلًا واحد يؤيد رأي العصرانية فيما تحاوله من فتح الباب لتغيير الأحكام المستندة على النصوص، بل إن الأحكام في دائرة النصوص أحكام ثابتة إلى يوم الدين لا تستطيع هيئة تشريعية أن تبدل فيها أو تغيرها. لا كهنوتية في الإسلام. . . ولكن!: ينادي سيد خان (¬1) وأمثاله من العصرانيين بفتح أبواب الاجتهاد وبإتاحة حرية واسعة في الاجتهاد حتى للأفراد العادين ولو أدى ذلك إلى فوضى فكرية. وهكذا "نشأت في أيامنا وجهة جديدة للتفكير تقول: أن لا كهنوتية في الإسلام، فليس للعلماء من اختصاص بالقرآن والسُّنَّة والشريعة حتى يكون لهم وحدهم الحق في التعبير عنها، بل المسلمون جميعًا يتمتعون بهذا الحق معهم، وما عند العلماء من حجة تجعل آراءهم أوجد من آرائنا وأقوالهم أكثر وزنًا من أقوالنا في أمر الدين. .". ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" ابن القيم ص 150 من هذا البحث.

". . . ولعمر الحق أنه لو تركت صورة الجهل على حالها تشتد وتثور لا يبعد أن يقوم غدًا رجل منا فيقول: أن لا قضاء في الإسلام فيجوز لكل أحد من الناس أن يدلي برأيه في القانون ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء. ويقوم بعده رجل آخر يقول ويعلن: أن لا هندسة في الإسلام، فمن حق كل رجل أن يتكلم في الهندسة ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها. ثم يقوم بعده رجل ثالث ويعلن: أن ليس هناك من حاجة إلى حذق مهنة الطب، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب". ". . . نعم لا جرم أنه لا كهنوتية في الإسلام ولكن هل يعلم هؤلاء اليوم ما معنى ذلك؟ إنما معناه أن الإسلام ليس كاليهودية حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في وسط من الأوساط، أو قبيلة من القبائل، ولم يفرق فيه -كما في المسيحية- بين الدين والدنيا، فتكون الدنيا للقياصرة ويكون الدين للرهبان والأحبار. ولا ريب -كذلك- أن لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسُّنَّة والشريعة وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة خاصة من السلالات أو أسرة معينة من الأسر، فلا يكون إلا لأفرادها يتوارثونه كابرًا عن كابر، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدين، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين. فكما أنه من الممكن لكل أحد من الناس أن يكون محاميًا إذا درس القانون، أو مهندسًا إذا درس الهندسة، أو طبيبًا إذا درس الطب، فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسُّنَّة وصرف جانبًا من أوقاته وجهوده في تلقي علمهما أن يتكلم في مسائل الشريعة، وهذا هو المعنى الصحيح المعقول إن كان هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام". "ليس معناه أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال يجوز لكل من شاء من الناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه ويصدر فيها آراءه، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسُّنَّة والتبصر فيهما. وإذا لم يكن مقبولًا ولا معقولًا أن يدعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين ادعاء هؤلاء القوم الذين يتكلمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه" (¬1). ¬

_ (¬1) "نظرية الإسلام وهديه في السياسة" المودودي ص 244.

نقد فقه العصرانية

نقد فقه العصرانية: أنتجت آراء العصرانية الأصولية وموقفها من الحديث وموقفها من التفسير فقهًا متميزًا، يهدف في معظمه إلى تسويغ الواقع المعاصر، وإدخال كثير من القيم الغربية في صلب الإسلام. وقد مرت بنا أمثلة كثيرة من هذا الفقه في الفصلين الثاني والثالث. ولا يتسع المقام هنا لنقد كل تلك المسائل التفصيلية من هذا الفقه ولكننا نعرض هنا بعض الآراء المعاصرة عن بعض المسائل التي تشغل بال العصرانية في مجال المرأة والحدود والجهاد، ونعرضها من وجهة نظر مدرسة التجديد السُّنِّي المعاصرة، وبأحد أقلامها المشهورة قلم المودودي. حدود نشاط النساء في الدولة الاسلامية: ليس للدولة الإسلامية أن تعمل شيئًا في أمر من أمور الدنيا بالعدول عن مبادئ الإسلام وأحكامه، وليس لها أن تفكر في ذلك إذا كان القائمون بأمرها أناسًا يؤمنون بالإسلام، ويتبعون مبادئه وأحكامه عن صادق العزيمة وخالص النية. ومن أحكام الإسلام فيما يتعلق بأمر النساء: أن المرأة تساوي الرجل في الكرامة والشرف والاحترام، كما لا فرق بينهما باعتبار المستوى الخلقي، ولا باعتبار الأجر والمثوبة في الآخرة، ولكن ليس لنشاطهما دائرة واحدة. فالسياسة وإدارة الحكومة والخدمات العسكرية وما إليها من الأعمال لا علاقة لها إلا بالرجل ولن يكون من نتيجة إقحام المرأة في هذه المجالات سوى أن تنهار حياتنا العائلية بمعنى الكلمة -وهي حياة تتحمل معظم تبعاتها المرأة- أو أن نحملها أثقالًا مضاعفة حيث أنها تقوم بواجباتها الفطرية -وهي واجبات لا قبل للرجل بمشاركتها فيها أبدًا- مع تحملها شطر واجبات الرجل أيضًا. وبما أن ليست الصورة المؤخرة الذكر بميسورة فعلًا، فلابد أن تواجهنا الصورة المقدمة الذكر، وهي التي قد واجهها الغرب حين أقحم المرأة في دائرة نشاط الرجل، فليس من العقل في شيء أن نحاكي غيرنا حتى في سفاسف الأمور. والإسلام من حيث المبدأ عدو للبيئة الخليطة بالرجال والنساء. ولا نظام في الدنيا يرحب بها ويرضى بها، إن كان في نظره أدنى أهمية لتماسك نظام الأسرة، وقد ظهر للمجتمع المختلط في بلاد الغرب أشنع وأقذر ما يكون من النتائج، أما إذا كان الناس في بلادنا يجدون من نفوسهم استعدادًا لمكابدة هذه

النتائج فليكابدوها بكل فخر وسرور ولا حرج، ولكن ما لهم يريدون للإسلام أن يجعل لهم رخصًا في أعمال ينهى عنها بكل تأكيد؟ وإذا كان الإسلام قد كلف النساء خدمة الجرحى في الحرب فليس معنى ذلك أن للمسلمين أن يخرجوهن إلى المكاتب والمعامل والنوادي والمجالس النيابية حتى في حالة السلم. ومن المحال أن يكون التوفيق حليف النساء، إذا ما اقتحمن دائرة نشاط الرجال وسابقنهم في أعمالهم، وذلك أن الله ما خلقهن لإنجاز هذه الأعمال وإنما الرجل هو الذي قد أعطاه الله ما يحتاج إليه من الصفات الخلقية والمواهب الفكرية للقيام بهذه الأعمال، وإذا استطاعت المرأة -على سبيل الافتراض- أن تبرز في نفسها حفنة من هذه الصفات والمواهب الرجولية المصطنعة فإن أضرارها الجسيمة المضاعفة لابد أن تعود على نفسها وعلى المجتمع أيضًا. أما مضرتها على نفسها فهي أنها لا تنسلخ من أنوثتها تمامًا ولا تدخل في الرجولة تمامًا، وتبوء بالفشل في دائرة نشاطها التي ما فطرت إلا لها، وأما مضرتها على المجتمع فهي أنه يجد لمختلف أعماله عمالًا غير أكفاء، بدلًا من أن يجد لها عمالًا أكفاء، كما تفسد خصائص المرأة ومزاياها التي نصفها أنوثية ونصفها رجولية الحياة السياسية والاقتصادية. ولا يمانع الإسلام من تعليم المرأة، بل الذي يؤكد عليه الإسلام أن تتحلى المرأة بأعلى ما يكون من التعليم والتربية ولكن بشروط: أولها: أن تدرس بصفة خاصة علومًا تجعلها صالحة للقيام بعملها في دائرة نشاطها، على أمثل وجه وأكمله، وألا تكون ثقافتها عين ثقافة الرجل. وثانيها: ألا تكون ثقافتها في معاهد خليطة بالرجال والنساء وإنما تكون في معاهد خاصة بالنساء، وقد ظهرت النتائج الموبقة للتعليم المختلط في البلاد الغربية الراقية لا يكابر فيها الآن إلا من أصيب بعمى القلب والبصيرة. وثالثها: أن تشتغل الفتيات المثقفات في مؤسسة خاصة بالنساء كالمدارس والكليات والمستشفيات النسائية مثلًا (¬1). ¬

_ (¬1) "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 264 - 266.

تقييد الطلاق وتعدد الزوجات: للمرأة المسلمة أن تخالع زوجها؛ أي: تطلب منه الطلاق على الفدية عن طريق القضاء الإسلامي، ولها كذلك أن تتحصل من المحكمة حكمًا بفسخ زواجها أو التفريق بينها وبين زوجها، بشرط أن يكون لديها من الأسباب ما يبيح لها شرعًا أن ترجع إلى المحكمة وتحصل منها على الحكم بإحدى الصور المذكورة آنفًا. وأما الطلاق فقد جعله القرآن من حقوق الرجل، بكلمات صريحة ولا لقانون أن يتدخل في حقه هذا. أما أن تأتي هيئة من هيئات المسلمين التشريعية وتبيح لنفسها أن تضع قوانين مخالفة للقرآن باسم القرآن نفسه، فهذا أمر آخر وتاريخ الإسلام منذ عهد الرسالة إلى قرنه الحاضر ما عرف الفكرة القائلة بجواز أن ينتزع حق الطلاق من الرجل أو تتدخل فيه محكمة أو مجلس من مجالس التحكيم. والحقيقة أن هذه الفكرة استوردت إلى بلادنا من أوروبا رأسًا. ولم يحدث قط أن تفكر موردو هذه النظرية فيما كان لقانون الطلاق هذا من خلفية أو سياق تاريخي في أوروبا، وما ظهر له في حياة الغرب من نتائج موبقة. وسيعلمون قريبًا عواقب تحريفهم في أحكام الله حين تخترق فضائح حياتهم العائلية جدران بيوتهم، وتنزل إلى الشوارع والأسواق وتشحن بها صفحات الجرائد والمجلات. كما أن ليست فكرة منع الرجل من الزواج بأكثر من واحدة إلا بضاعة أجنبجة، استوردت إلى بلادنا برخصة مزورة منسوبة إلى القرآن، وقد جاءت من مجتمع إذا اتخذ فيه الرجل -على وجود زوجته المشروعة- امرأة أخرى خليلة له، فلا تستحق هذه الخليلة أن يتحمل وجودها فحسب، بل تستحق حفظ حقوق أولادها غير الشرعيين أيضًا. (وما مثال فرنسا في هذا الباب ببعيد عنا)، ولكنه إذا تزوج بها فقد خالف القانون واقترف جريمة لا تغتفر. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القيود بأسرها تفرض على الحلال لا على الحرام (¬1). الدليل على حد الرجم: إن الحد الذي قد قرر في سورة النور للزنا، إنما هو حد للزنا المطلق ¬

_ (¬1) "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 259.

وليس بحد للزنا بعد الإحصان -أي: ارتكاب الزنا بعد التزوج- الذي هو أشد وأغلظ من الزنا المحض في نظر القانون الإسلامي. والله تعالى نفسه يشير في سورة النساء إلى أنه لا يقرر في سورة النور هذا الحد، إلا للزنا الذي يكون كل من مرتكبيه غير متزوج. فقد قال أولًا في سورة النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} ثم قال بعده بيسير: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ (25)} {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. فالآية الأولى تتضمن التوقع لحكم من الله سينزله في المستقبل لعقوبة الزانيات اللاتي يأمر الآن بإمساكهن في البيوت. ونعلم بذلك أن هذا الحكم الأخير الذي جاء في سورة النور هو الحكم -أو السبيل- الذي كان وعد به الله -سبحانه وتعالى- في سورة النساء. وفي الآية الثانية جاء بيان حد الزانية من الإماء المتزوجات وكما قد جاءت لفظة المحصنات في آية واحدة وسياق الكلام بعينه مرتين فلابد أن يكون معنى المحصنات واحدًا في الموضعين. فإذا نظرت الآن في بدء الجملة حيث قيل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} علمت أن ليس المراد بالمحصنة في هذه الآية امرأة متزوجة بل امرأة حرة غير متزوجة. وقيل في ختام الجملة أن الأمة إذا أتت بفاحشة -أو زنت- فعقوبتها نصف عقوبة المحصنة. والذي يدل عليه سياق الكلام أن المراد بالمحصنة في هذه الجملة نفي المعنى المراد في الجملة السابقة؛ أي: (امرأة حرة غير متزوجة ولكن محصنة بعفافها وحفظ أسرتها). فهاتان الآيتان معًا تشيران إلى حكم أن حد الزنا في سورة النور، وهو الذي كان الوعد جاء به في سورة النساء إنما يبين حد الزاني والزانية غير المتزوجين. أما ما هو الحد للزنا بعد الإحصان بالزواج، فهذا أمر لا نعرفه من القرآن بل نعرفه من سُنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت بغير واحدة ولا اثنتين من الروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اقتصر على بيان حد الزنا للمتزوجين والمتزوجات بأقواله فحسب، بل قد أقام هذا الحد فعلًا في غير واحدة من الأقضية المرفوعة إليه وهو الرجم. ثم أقامه بعدُ خلفاؤه الراشدون -رضي الله عنهم- في عهودهم، وأعلنوا مرارًا

أن الرجم هو الحد -أي: العقوبة القانونية- للزنا بعد الإحصان. والرجم باعتباره حد للزنا بعد الإحصان مازال أمرًا مجمعًا عليه بين الصحابة والتابعين، حيث لا نكاد نجد لأحد منهم قولًا يدل على أنه كان في القرن الأول رجل له الشك في كون الرجم من الأحكام الشرعية الثابتة. ثم ظلت فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر، مجمعين على كونه سُنَّة ثابتة بأدلة متضافرة قوية لا مجال لأحد من أهل العلم أن يشك في صحتها. ولم يخالف الجمهور في هذه القضية إلا الخوارج وبعض المعتزلة، على أنه ما كان الأساس لمخالفتهم أن يكونوا قد شخصوا ضعفًا في ثبوت حكم الرجم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قالوا: إن الرجم باعتباره حدًا للزاني المحصن مخالف للقرآن. والحقيقة أن ليس ذلك إلا لخطأ فهمهم للقرآن. قالوا: إن القرآن يبين مائة جلدة حدًا عامًا لكل زان وزانية فليس تخصيص الزاني المحصن من هذا الحكم العام إلا مخالفة للقرآن. ولكنهم ما تنبهوا إلى أن الوزن القانوني الذي هو لألفاظ القرآن، هو نفسه لشرحها الذي يبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرط ثبوته عنه. ألا ترى أن القرآن قد جاء بمثل هذه الألفاظ المطلقة عندما بيَّن حد السارق والسارقة فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ونحن إذا لم نجعل هذا الحكم مقيدًا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من شرحه، فمن عين ما يقتضيه عموم هذه الألفاظ أن نحكم بالسرقة على كل من سرق إبرة أو تفاحة -مثلًا- فنقطع يده بل يديه إلى منكبيه، وبالجانب الآخر كل من سرق ولو آلافًا من الجنيهات، ثم تظاهر بالتوبة وإصلاح النفس، فعلينا أن نتركه ولا نمسه بسوء؛ لأن القرآن يقول بعد بيانه حد السارق والسارقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39]. وكذلك أن القرآن إنما يبين حرمة الأم والأخت من الرضاعة، فيجب أن تكون حرمة البنت من الرضاعة مخالفة للقرآن بموجب هذا الاستدلال. والقرآن إنما ينهى عن الجمع بين الأختين، فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن. والقرآن إنما يحرم على المرء ربيبته إذا كانت قد تربت في حجره، فيجب أن تكون حرمتها المطلقة مخالفة للقرآن. والقرآن إنما يأذن في الرهان إذا كان الرجل على سفر ولم يجد كاتبًا، فيجب أن يكون جواز الرهان في الحضر ومع وجود الكاتب مخالفة

للقرآن. والقرآن يقول بكلمات عامة: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] فيجب أن يحكم بالحرمة على البيع والشراء الذي يتم في أسواقنا ليل نهار بغير الشهود لكونه يخالف القرآن. فهذه بعض أمثلة إذا سرحت فيها النظر تبين لك الخطأ في استدلال الذين يقولون: إن حكم الرجم للزاني المحصن مخالف للقرآن (¬1). والحق أن منصب الرسول في نظام الشريعة الذي لا مجال فيه للريب والمكابرة، هو أن يبلغنا أحكام الله تعالى ثم يبين لنا مقتضياتها ومقاصدها والطرق للعمل بها، والمعاملات التي تنفذ فيها، والمعاملات التي لها أحكام أخرى. وإنكار هذا المنصب ليس بمخالفة لأصول الدين فحسب بل هو مستلزم -كذلك- لمصاعب ومفاسد لا تكاد تحصى (¬2). لا مساغ لتقسيم الجهاد إلى الهجومي والدفاعي: إن ما اصطلحوا عليه اليوم من تقسيم القتال الهجومي والدفاعي، لا يصح إطلاقه على الجهاد الإسلامي البتة، وإنما يصدق هذا المصطلح على الحروب القومية والوطنية فقط؛ لأن هاتين الكلمتين المصطلح عليهما لا ينطق بهما وما جرى استعمالهما إلا بالنسبة إلى قطر مخصوص أو أمة بعينها. وأما إذا قام حزب عالمي مستند إلى فكرة انقلابية شاملة، لا تفرق بين أمة دون أمة، ولا تخص قطرًا دون قطر، يدعو جميع الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها ولغتها إلى فكرته ومنهاجه، مفتوحة أبوابه لكل من يريد المشاركة في بث تلك الدعوة ونشر تلك الفكرة، ولا يسعى إلا وراء القضاء على الحكومات الجائرة المناقضة لمبادئ الحق الخالدة، وإقامة حكومة صالحة مؤسس بنيانها على قواعد الحق والعدل التي يؤمن بها ويدعو إليها، أما إذا كان الأمر كذلك فلا مجال في دائرته البتة لما اصطلحوا عليه من نوعي القتال الهجومي والدفاعي. وكذلك إذا نظرنا في المسألة بصرف النظر عن هذا المصطلح الشائع تبين ¬

_ (¬1) وهناك ادعاءات تقول: إن الرجم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه إنما رجم اتباعًا لليهود قبل نزول سورة النور وعندما نزلت سورة النور بالجلد نسخت الرجم. وهذه ادعاءات ليس لها من الدليل إلا الاحتمالات والظنون ولابد في النسخ من دليل. (¬2) "تفسير سورة النور" المودودي ص 45.

لنا أنه لا ينطبق هذا التفسير -الهجومي والدفاعي- على الجهاد الإسلامي بحال من الأحوال. فإن الجهاد الإسلامي إذا أردت الحقيقة هجومي ودفاعي معًا، هجومي لأن الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك. وأما كونه دفاعيًا، فلأنه مضطر إلى تشييد بنيان المملكة وتوطيد دعائمها حتى يتسنى له العمل وفق برنامجه وخطته المرسومة. وغير خاف عليك أن الإسلام حزب فليس من هذه الوجهة دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود عنها ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولًا يذب عنها ويستميت في الدفاع عنها. وكذلك لا يحمل على (دار) الحزب الذي يعارضه ويناقضه، وإنما يحمل ويصول على المبادئ التي يتمسك بها. ولا يغيبن عن بالك أنه لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، وإنما يريد الحزب الإسلامي أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق ولا تكون فتنة ويكون الدين لله (¬1). ¬

_ (¬1) "الجهاد في سبيل الله" المودودي ص 41.

الخاتمة

الخاتمة وهكذا ينتهي هذا البحث إلى أن للتجديد مفهومين: صحيح وخاطئ. أما المفهوم السليم فهو المفهوم السُّني الذي كان يرمي إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، وأحق من أدرك هذا المفهوم هم السلف. وبالنظر في آرائهم وتعريفاتهم يتضح أن التجديد الحق هو السعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر وبين المجتمع النموذجي الأول الذي أنشأه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكما يكون ذلك بإحياء مفاهيم ذلك المجتمع وتصوراته للدين، وإحياء مناهجه في فهم النصوص وبيان معانيها، وإحياء مناهجه في التشريع والاجتهاد، وإحياء مناهجه في تدوين العلوم وتكوين نظم الحياة واقتباس النافع الصالح من كل حضارة، يكون أيضًا بتصحيح الانحرافات النظرية والفكرية والعملية والسلوكية وتنقية المجتمع من شوائبها. أما مفهوم التجديد الخاطئ فهو ذلك المفهوم الذي تقدمه العصرانية، وهو الذي شاع في هذا العصر كأثر من آثار مواجهة الإسلام للحضارة الغربية. وتسعى العصرانية لتقديم خليط من الإسلام ومن جاهلية الغرب، وتجتهد في إيجاد المواءمة بينهما، وتعتمد في ذلك أسلوب التأويل والتحوير لتعاليم الإسلام، وأسلوب التنازلات والتسويغ باسم الاجتهاد. إن الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية المعاصرة خلال القرنين الماضيين أنتج أربعة مواقف منها ثلاثة خاطئة. فعلى طرفي نقيض نجد موقف الرفض الكامل للحضارة الغربية والجمود على القديم بكل مساوئه، ويقابل ذلك موقف العلمانية التي تجعل الإسلام محصورًا في دوائر ضيقة، وتتقبل في كل

شؤون الحياة الأخرى وجهة النظر الغربية بحذافيرها. وإذا كانت العلمانية قد انسلخت من الدين علانية، فإن العصرانية -وهي الحل الثالث في مواجهة الإسلام للغرب- وقفت في منتصف الطريق، لا إلى الإسلام بكليته، ولا إلى الغرب بكليته، فهي تؤمن ظاهرًا بالإسلام منهجًا شاملًا للحياة، وتمتلئ جوانحها بحب الغرب وقيمه، فما عارض قيم الغرب وأذواقه أعملت فيه يد التأويل، وما كان من أهواء العصر أدخلته في صلب الدين. وإذا كان الجمود والعلمانية والعصرانية حلولًا خاطئة في مواجهة الغرب، فإن الحل الوحيد الصحيح هو التجديد السُّنِّي للدين، ذلك التجديد الذي يسعى لإحياء الإسلام نقيًا صافيًا من مساوئ الماضي وانحرافاته ومن أهواء العصر وجاهليته. وتباشير التجديد السُّنِّي في هذا العصر كثيرة تحملها حركات شتى، فهناك حركة الجماعات الإسلامية التي لا يكاد يخلو منها قطر إسلامي، وهناك حركة الاقتصاد الإسلامي والمؤسسات المالية الإسلامية، وهناك حركة الجامعات الإسلامية والتعليم الإسلامي، وحركة القوانين الإسلامية، وحركة الإعلام الإسلامي، وحركة الجهاد والتغيير السياسي الإسلامي. ومهما بدا بعض هذه الحركات ضعيفًا متعثرًا فإن المد الإسلامي سائر في طريقه الموعود بإذن الله، والخطر الأكبر أمام هذا المد هو ذلك الزبد الذي يعلوه والغثاء الذي حاول أن يركب الموجه: هو العصرانية. إن التجديد السُّنِّي قد أعلن الحرب على أنصار الجمود على القديم، وأعلن الحرب على العلمانية، لكن حربه للعصرانية لا تزال ضعيفة، ربما لأن العصرانيين يتسمون باسمه ويتكلمون بلسانه، ولكن ساعة الصفر قد حانت، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وإلا فإن البعث الإسلامي المعاصر سيكون بعثًا ممسوخًا مشوهًا، قبيح الوجه، كثير الدخن والانحرافات. إن التجديد السُّنِّي هو الذي تتجدد به حياة هذه الأمة، وهو الروح الذي إذا فقدته الأمة فقدت كل خير، وهو شبيه بمهمة الأنبياء السابقين، فقد كان الله يبعث بعد كل فترة وبرهة رسولًا يجدد ما اندرس من الدين الحق، ويمحو الدين المبدل والمحرف. وبما أن الرسالة قد ختمت بخير الرسل محمد صلوات الله

عليه وسلامه، فإن بقاء هذا الدين الخاتم، وبقاء هذه الأمة الأخيرة، ببعث مجددين في كل قرن، يعيدون للأمة قوتها، ويصلحون ما انحرف من شأنها، ولا يألون جهدًا في ذلك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

قائمة المراجع

قائمة المراجع العربية (مرتبة على حروف المعجم) 1 - الإبانة عن أصول الديانة، الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل (ت 324 هـ)، (بلا تاريخ). 2 - ابن حنبل، محمد أبو زهرة، القاهرة، دار الفكر العربي، (بلا تاريخ). 3 - الاتجاهات الحديثة في الإسلام، هـ. أ. ر. جب، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت، مكتبة الحياة، 1966 م. 4 - الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، محمد محمد حسين، بيروت، دار الكتب الحديثة، 1970 م. 5 - الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر، سيد محمد موسى، القاهرة، دار الكتب الحديثة 1973 م. 6 - الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، أبو محمد علي بن حزم (ت 456 هـ). 7 - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس (ت 684 هـ)، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، حلب، مكتب المطبوعات الإسلامية، 1967 م. 8 - إحياء علوم الدين، تأليف: أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ)، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1358 هـ / 1939 م. 9 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تأليف: محمد بن علي الشوكاني (ت 1350 هـ)، القاهرة، مطبعة السعادة، 1327 هـ. 10 - الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد، ترجمة: عمر فروخ، بيروت، دار العلم للملايين، ط ثامنة، 1976 م.

11 - الإسلام في عالم متغير، أبو الحسن الندوي، ترجمة: علي عثمان. 12 - الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، أبو الأعلى المودودي، تعريب: خليل أحمد الحامدي، ط ثانية، الكويت، دار القلم، 1394 هـ / 1974 م. 13 - الإسلام في النظرية والتطبيق، تأليف: مريم جميلة، ترجمة س. حمد، الكويت، مكتبة الفلاح، 1978 م. 14 - الإسلام وأصول الحكم، لعلي عبد الرازق، دراسة: محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972 م. 15 - الإسلام والتجديد في مصر، تأليف: تشارلز آدمز، ترجمة عباس محمود العقاد، القاهرة، لجنة دائرة المعارف الإسلامية، 1935 م. 16 - الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين، بيروت، المكتب الإسلامي، 1399 هـ / 1979 م. 17 - أصول السرخسي، تأليف: أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1372 هـ. 18 - أصول الفقه، محمد أبو زهرة، القاهرة، دار الفكر العربي، (بلا تاريخ). 19 - الاعتصام، الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد (ت 790 هـ)، القاهرة، مطبعة المنار، 1913 م. 20 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، تأليف: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ)، تعليق: طه عبد الرؤوف سعد، بيروت، دار الجيل، (بلا تاريخ). 21 - الأعمال الكاملة، للإمام محمد عبده، جمع وتحقيق: محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973 م. 22 - الأعمال الكاملة لقاسم أمين، تحقيق: محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1976 م. 23 - الأفكار المستحدثة وكيف تنتشر، أفريت م. روجز، ترجمة: سامي ناشر، القاهرة، عالم الكتب، (بلا تاريخ). 24 - إلجام العوام عن علم الكلام، الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، القاهرة، المطبعة الميمنية، 1309 هـ. 25 - الأم، للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ)، القاهرة، المطبعة الأميرية، 1321 هـ.

26 - أين الخطأ. . . تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد، عبد الله العلايلي، بيروت، دار العلم للملايين، 1978 م. 27 - البداية والنهاية، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر (774 هـ)، الرياض، مكتبة النصر، 1966 م. 28 - تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، محمد رشيد رضا، القاهرة، مطبعة المنار، 1350 هـ / 1931 م. 29 - تاريخ الخلفاء، السيوطي، جلال الدين بن عبد الرحمن أبي بكر (ت 911 هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الرابعة، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1969 م. 30 - تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك)، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة ثانية، دار المعارف بمصر، 1967 م. 31 - تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، عمر فروخ، بيروت، دار العلم للملايين، 1966 م. 32 - تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، القاهرة، دار الفكر العربية، (بلا تاريخ). 33 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، ابن عساكر، أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله (ت 571 هـ)، دمشق، مطبعة التوفيق، 1374 هـ. 34 - تجديد التفكير الديني في الإسلام، محمد إقبال، ترجمة: عباس محمد العقاد، ط ثانية، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968 م. 35 - تحديات العصر الحاضر والشباب، أبو الأعلى المودودي، القاهرة، المختار الإسلامي، 1979 م. 36 - تدريب الراوي، السيوطي، جلال الدين بن عبد الرحمن أبي بكر (ت 911 هـ)، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، ط ثانية، منشورات المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1392 هـ. 37 - التطور روح الشريعة الإسلامية، محمود الشرقاوي، بيروت، المكتبة العصرية، 1969 م. 38 - تفسير سورة النور، أبو الأعلى المودودي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1398 هـ/ 1978 م.

39 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر، بيروت، دار إحياء التراث، 1969 م. 40 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 هـ)، الطبعة الثالثة، دار الكاتب العربي، 1387 هـ / 1967 م. 41 - التفسير الكبير، الرازي، فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر (ت 606 هـ)، القاهرة، المطبعة البهية المصرية، (بدون تاريخ). 42 - التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، القاهرة، دار الكتب العربية، 1962 م. 43 - تكوين العقل الحديث، جون هرمان راندال، ترجمة: جورج طعمة بيروت، دار الثقافة، 1958 م. 44 - تلبيس إبليس، ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن (ت 597 هـ)، القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية، (بلا تاريخ). 45 - تهافت الفلاسفة، تأليف أبي حامد الغزالي، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف بمصر (ط 4)، 1966 م. 46 - توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس، تأليف: ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حمد (ت 852 هـ)، القاهرة، مطبعة بولاق، 1300 هـ. 47 - التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، تأليف موريس بوكاي، ترجمة: جماعة، ط أولى، بيروت، دار الكندي، 1978 م. 48 - تيسير مصطلح الحديث، تأليف: محمود الطحان، طبعة ثانية (بلا مطبعة أو ناشر)، 1978 م. 49 - الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة، جمع: محمد خلف الله، الطبعة الثانية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1962 م. 50 - جامع الأصول في أحاديث الرسول، ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات محمد (ت 606 هـ)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلوني، 1389 - 1392 هـ. 51 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ)، القاهرة، دار الكتب العربية الكبرى، 1330 هـ. 52 - جامع العلوم والحكم، ابن رجب زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1382 هـ.

53 - الجهاد في سبيل الله، أبو الأعلى المودودي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1397 هـ / 1977 م. 54 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (728 هـ) القاهرة، مطبعة المدني، 1379 هـ / 1959 م. 55 - جوانب من التراث الهندي الإسلامي الحديث، تأليف خليل عبد الحميد عبد العال، القاهرة، مكتبة المعارف الحديثة، 1979 م. 56 - خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، المحبي، محمد أمين بن فضل الله (ت 1111 هـ) القاهرة، المطبعة الوهبية، 1284 هـ. 57 - الخلافة والملك، أبو الأعلى المودودي، تعريب: أحمد إدريس، الكويت، دار القلم، 1398 هـ / 1978 م. 58 - دور الطلبة في بناء مستقبل العالم الإسلامي، أبو الأعلى المودودي، الكويت، الدار الكويتية للطباعة والنشر والتوزيع، (بلا تاريخ). 59 - رجال الفكر والدعوة في الإسلام، أبو الحسن علي الحسني الندوي، الطبعة الرابعة، الكويت، دار القلم 1394 هـ / 1974 م. 60 - الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الطبعة الأولى، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1358 هـ/ 1940 م. 61 - روح الإسلام، سيد أمير علي، تعريب: عمر الديراوي، بيروت، دار العلم للملايين، 1968 م. 62 - زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر (ت 751 هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1399 هـ. 63 - السراج المنير، شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير، العزيزي، علي بن أحمد بن نور الدين (ت 1070 هـ)، القاهرة، المطبعة الأزهرية، 1324 هـ. 64 - سكان العالم الإسلامي، محمود شاكر، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1976 م. 65 - سلسلة الأحاديث الصحيحة (وشيء من فقهها وفوائدها)، محمد ناصر الدين الألباني، بيروت، المكتب الإسلامي، 1392 هـ / 1972 م. 66 - سنن أبي داود، للإمام سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، 1935 م.

67 - السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي، القاهرة، مطبعة المدني، 1380 هـ. 68 - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728 هـ)، طبعة رابعة، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1969 م. 69 - سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه، عبد الكريم العثمان، دمشق، دار الفكر (بلا تاريخ). 70 - السيرة النبوية، ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب (ت 218 هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين، القاهرة، مطبعة حجازي. 71 - الشافعي، محمد أبو زهرة، طبعة ثانية، القاهرة، دار الفكر العربي، 1948 م. 72 - شرح المجلة، تأليف: محمد خالد الأتاسي، حمص، مطبعة حمص، 1349 هـ/ 1930 م. 73 - شرح مسلم، للآبي (ت 895 هـ)، القاهرة، مطبعة السعادة، (1328 هـ). 74 - شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه، ابن كثير، أبي الفداء إسماعيل بن عمر (ت 774)، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1386 هـ / 1967 م. 75 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، تأليف: إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 هـ) تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، القاهرة، مطابع دار الكتاب العربي، 1376 - 1377 هـ. 76 - صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير)، بتحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، دمشق، المكتب الإسلامي، 1969 م. 77 - صحيح مسلم بشرح النووي، القاهرة، المطبعة المصرية، 1349 هـ. 78 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، أبو الحسن الندوي، ط 3، القاهرة، مطبعة التقدم، 1977 م. 79 - ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، محمد سعيد رمضان البوطي، دمشق، المكتبة الأموية، 1386 - 1387 هـ. 80 - طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي (ت 771 هـ)، تحقيق: محمود الطناحي، عبد الفتاح الحلو، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1383 هـ / 1964 م. 81 - الطريق إلى مكة المكرمة، محمد أسد، ترجمة: عفيف العلبكي، بيروت، دار العلم للملايين، 1956 م.

82 - العقيدة والشريعة في الإسلام، تأليف: أجناس جولد تسيهر، تعريب: محمد يوسف موسى، علي حسن عبد القادر، عبد العزيز عبد الحق، ط ثانية، القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1959 م. 83 - علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، الكويت، الدار الكويتية للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة ثامنة، 1388 هـ / 1968 م. 84 - عون المعبود على سنن أبي داود، شرح أبي الطيب محمد شمس الحق عظيم أبادي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، المدينة المنورة، المكتبة السلفية، 1969 م. 85 - الغارة على العالم الإسلامي، أ. ل. شاتليه، تعريب: محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، جدة، الدار السعودية للنشر، 1387 هـ. 86 - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد النجدي، الرياض، مطابع الرياض، الطبعة الأولى، 1381 هـ. 87 - فتح الباري بشرح البخاري، تأليف: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1378 هـ / 1959 م. 88 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، للإمام أبي محمد علي بن حزم (ت 456 هـ)، بغداد، مكتبة المثني، 1321 هـ. 89 - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي، بيروت، دار الفكر، طبعة سادسة، 1973 م. 90 - الفكر الإسلامي والتطور، محمد فتحي عثمان، ط 2 الكويت، الدار الكويتية، 1969 م. 91 - فضائح الباطنية، تأليف: أبو حامد الغزالي، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964 م. 92 - فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، أبو العباس عبد العلي محمد بن نظام الدين، القاهرة، المطبعة الأميرية، 1322 هـ، مع المستصفى من علم الأصول للغزالي. 93 - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، تأليف المناوي، زين الدين محمد عبد الرؤوف (1031 هـ) القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1938 م. 94 - كشف الخفاء (ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس)، العجلوني، إسماعيل بن محمد (ت 1162 هـ)، القاهرة، مكتبة المقدس، 1351 هـ.

95 - لسان العرب، تأليف: جمال الدين أبو الفضل ابن منظور (ت 711 هـ) بيروت، دار صادر، 1955 م. 96 - اللمع، الطوسي، أبو نصر عبد الله بن علي السراج (ت 378 هـ)، تحقيق: عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1380 هـ / 1960 م. 97 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، تأليف: السفاريني، محمد بن أحمد (ت 1188 هـ)، جدة، مطابع دار الأصفهاني، 1380 هـ. 98 - المجددون في الإسلام، أمين الخولي، القاهرة، دار المعرفة، 1965 م. 99 - المجددون في الإسلام، عبد المتعال الصعيدي، القاهرة، مكتبة الآداب، 1383 هـ / 1962 م. 100 - المحصول في أصول الفقه، الرازي، فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر (ت 606 هـ)، طبعة قديمة دون مطبعة أو ناشر. 101 - مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي، بيروت، دار العلم للملايين، 1973 م. 102 - المستصفى من علم الأصول، الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد (ت 505 هـ)، القاهرة، المطبعة الأميرية، 1322 هـ. 103 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط ثانية، بيروت، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 1978 م. 104 - مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، طبعة ثالثة، الكويت، دار القلم، 1392 هـ / 1972 م. 105 - مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، تأليف: ج. نيروبي، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، الطبعة الثالثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980 م. 106 - المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، مصطفى زيد، طبعة ثانية القاهرة، دار الفكر العربي، 1384 هـ / 1964 م. 107 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، رتبه: لفيف من المستشرقين، نشر: أ. ي. لنسك وي. ب. منسنج، محمد فؤاد عبد الباقي ليدن، مكتبة بريل، 1936 - 1969 م. 108 - معجم مقاييس اللغة، تأليف: أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 365 هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1366 هـ.

109 - مفاهيم حول الدين والدولة، أبو الأعلى المودودي، الكويت، دار القلم، 1397 هـ / 1977 م. 110 - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة، السيوطي ابن أبي بكر (ت 911 هـ)، بيروت، محمد أمين دمج 1970 م. 111 - مقارنة الأديان، المسيحية، أحمد شلبي، الطبعة الرابعة، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1973 م. 112 - مقارنة بين الغزالي وابن تيمية، محمد رشاد سالم، الكويت، دار القلم 1970 م. 113 - مقاصد الفلاسفة، أبو حامد الغزالي، تحقيق: سليمان دنيا، ط ثانية دار المعارف بمصر، 1960 م. 114 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، (الطبعة الأولى)، 1369 هـ/ 1950 م. 115 - مقدمة في أصول التفسير، ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ)، تحقيق: عدنان زرزور، بيروت، مؤسسة الرسالة 1392 هـ / 1972 م. 116 - مكتبة الجلال السيوطي، أحمد الشرقاوي إقبال، الرباط، دار المغرب، للتأليف والترجمة والنشر، 1397 هـ / 1977 م. 117 - الملل والنحل، تأليف: أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548 هـ)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1381 هـ / 1961 م. 118 - مناقب الشافعي، البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين (ت 458 هـ)، تحقيق: أحمد صقر، القاهرة، مكتبة دار التراث، 1971 م. 119 - مناقب الشافعي، الرازي، فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر، القاهرة، 1279 هـ. 120 - مناهج الاجتهاد في الإسلام، محمد سلام مدكور، الكويت، مطبوعات جامعة الكويت، 1974 م. 121 - المنقذ من الضلال، الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، بيروت، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، 1959 م. 122 - منهج الإسلام في الحكم، محمد أسد، ترجمة منصور محمد ماضي ط 4، بيروت، دار العلم للملايين، 1975 م.

123 - منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن الكريم، عبد الله محمد شحاتة، مطبوعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة، 1963 م. 124 - منهج عمر بن الخطاب في التشريع، محمد بلتاجي، القاهرة، دار الفكر العربي، 1970 م. 125 - الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى (ت 790 هـ)، ط ثانية، 1395 هـ / 1975 م. 126 - موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه، أبو الأعلى المودودي، طبعة ثالثة، بيروت، دار الفكر، 1968 م. 127 - المورد (قاموس إنكليزي - عربي)، منير البعلبكي، بيروت، دار العلم للملايين، 1967 م. 128 - الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة: فؤاد كامل، جلال العشري عبد الرشيد الصادق، مراجعة وإشراف: زكي نجيب محمود، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، 1963 م. 129 - نحن والحضارة الغربية، أبو الأعلى المودودي، بيروت، دار الفكر (بلا تاريخ). 130 - نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، أبو الأعلى المودودي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1389 هـ / 1969 م. 131 - نظرية علم الاجتماع، نيقولا تيماشيف، ترجمة: مجموعة من الأساتذة، ط رابعة، القاهرة، دار المعارف، 1977 م. 132 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، تأليف: محمد بن علي الشوكاني (ت 1255 هـ)، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأخيرة، 1971 م. 133 - وفيات الأعيان وأنباء الزمان، لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن خلكان (ت 781 هـ)، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، دار الثقافة، 1970 م.

المراجع الأجنبية Ali. Mulana Muhamed. The Religion of Islam, Lahore. 1971. Ali. Sayed Ameer. The Spirit of Islam, London. Christophers. 1935. rep 1955. Asad. Mohamed. The Message of the Quran', London. Baljon. j. M. s. The Reforms and Religious Ideas of Sir Sayyid Ahmed Khan. 3 rd. Ed .. Lahore. Sh Muhammad Ashraf. 1964. Blau. Joseph ! .. Modern Varieties of Judaism, New York. Columbia Press. 1966 Dar. Bashir Ahmed. Religious Thought of Sayyed Ahmed Khan, Lahore. Institute of Islamic Culture. 1975. Dorman. Hary Gaylord. Toward Understanding Islam, New York. AMS Press. 1972. Gibb. A. H .. Modern Trends in Islam, Beinrt. Libaririe de Linan. 1974. Hali. Altaf Husain. Hayt-IJaeed (a biographical account of Sir Sayyed Khan). Trans. By K. H. Qadri and David A Matheaws. Delhi. Idarah-i- Adabiat, 1979. Iqbal. Mohammad. Reconstruction of Religious Thought in Islam. Lahore. Ashraf Press. 1958. International Dictionary of Christian Church. Jameelah Maryam. Islam and Modernism, Lahore. Mohammad Yousif Khan. 1971. Lewis. John. The Religions of the World Made Simple. New York. Doubleday. 1968. Martin. Bernard. History of Judaism, New York. Basic Books. 1974. Methods of Missionary Work among Muslims, Cairo. Fleming H. Revell & Co .. 1906.

Moore. George Foot. History of Religions, 3 rd imp .. Edinburgh. T. &T. Clark. 1965. Pire. Madsen. Trial and Error: the idea of Progress, La Salles. Open Court. 1978. Zakaria. Rafiq. Rise of Muslims in Indian Politics, Bombay. Samaiya Publications. 1970.

§1/1