مفهوم الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في ((مفهوم الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى)) بينت فيها مفهوم الحكمة وضوابطها، وأنواعها، وأركانها، ودرجاتها، وطرق اكتسابها، وقد قسمت البحث إلى تمهيد وأربعة مباحث وتحت كل مبحث مطالب، على النحو الآتي: التمهيد: أهمية الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى. المبحث الأول: مفهوم الحكمة: لغةً وشرعاً. المبحث الثاني: أنواع الحكمة. المبحث الثالث: أركان الحكمة. المبحث الرابع: طرق اكتساب الحكمة. واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن

ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف حرر ضحى يوم الخميس 25/ 2/1425هـ

التمهيد: أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى:

التمهيد: أهمية الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى: 1 - من الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم ... فحسب. وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون: - باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون. - وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات وأهواء تصده عن اتباع الحق. - وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بحُسنِ خلق، ولطف، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل لابدَّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد. - وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب

والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل اللَّه تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة. وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل رده ووقف في طريقه (¬1). وما أحسن ما قاله الشاعر: دعا المصطفى دهراً بمكةَ لم يُجب ... وقد لان منه جانبٌ وخطابُ فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (¬2) وصدق هذا القائل، فقد قال قولاً صادقاً مطابقاً للحق (¬3)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الشِّعرِ حكمة)) (¬4). 2 - الحكمة تجعل الداعي إلى اللَّه يُقَدِّر الأمور قدرها، فلا يزهد في الدنيا والناس بحاجة إلى النشاط والجد والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم ¬

(¬1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 194، وتفسير ابن كثير، 3/ 416، و4/ 315، وفتاوى ابن تيمية، 2/ 45، و19/ 164. (¬2) ذكر سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد اللَّه ابن باز - رضي الله عنه - في مجموع فتاواه، 3/ 184، و204: أن هذا الشعر يُروى لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: فتح الباري، 10/ 540، 6/ 531، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 33، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 354. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشِّعر والرَّجَزِ والحداءِ وما يكره منه، 10/ 537، (رقم 6145).

وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء، وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة. 3 - الحكمة تجعل الداعية إلى اللَّه يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يؤتون من قبلها، والقدر الذي يبين لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى اللَّه بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى اللَّه بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح. والمهم أن تكون أقوال الداعية إلى اللَّه - تعالى - وأفعاله وتدبيراته وأفكاره نابعة من الحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة، لا زيادة فيها عما ينبغي ولا نقص، مجتهداً في معرفة نفعه وصلاحه، سالكاً أقرب طريق يوصل إلى ذلك.

المبحث الأول: مفهوم الحكمة: لغة وشرعا

المبحث الأول: مفهوم الحكمة: لغةً وشرعاً المطلب الأول: مفهوم الحكمة في اللغة: جاءت كلمة الحكمة في اللغة بعدة معان، منها: 1 - تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل. وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد (¬1). 2 - والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (¬2). 3 - والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب (¬3). 4 - والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى: الحاكم والقاضي، والحكيم ¬

(¬1) القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، المتوفى سنة 817هـ، باب الميم، فصل الحاء، ص1415، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم ص62. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة حكم 1/ 119، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 140، والمعجم الوسيط، مادة: حكم، 1/ 190. (¬3) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص62.

فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى مفعل (¬1). 5 - والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل (¬2). 6 - والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة، الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزداد عليها ما ليس منها. والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء، إذا أتقنه، ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير (¬3). 7 - والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرَس، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (¬4). ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير باب الحاء مع الكاف، مادة: حكم، 1/ 419. (¬2) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم، ص127. (¬3) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/ 288، بتصرف يسير. (¬4) انظر: المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي، المتوفى سنة 770هـ، مادة: الحكم، 1/ 145، وتاج العروس، 8/ 253.

8 - والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته: إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد (¬1). ومما تقدم يتضح ويتبين أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معان تتضمن معنى المنع: فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم. والحلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب. والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل. والنُّبُوّة، والقرآن، والإنجيل: فالنبي إنما بُعِثَ لمنع من بعث إليهم من عبادة غير اللَّه، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها اللَّه تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح. ومن فسر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: ((الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل ¬

(¬1) مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، 2/ 91، باب الحاء والكاف، مادة: حكم.

المطلب الثاني: مفهوم الحكمة في الاصطلاح الشرعي

إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه)) (¬1). المطلب الثاني: مفهوم الحكمة في الاصطلاح الشرعي ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية (¬2)، ¬

(¬1) مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية، 2/ 7. (¬2) جاء لفظ: الحكمة في كتاب الله - تعالى - في أكثر من تسعة عشر موضعاً، انظر: سورة البقرة، الآيات: 129، 151، 231، 251، 269، وآل عمران: 48، 81، 164، والنساء: 54، 113، والمائدة: 110، والنحل 125، والإسراء: 39، ولقمان: 12، والأحزاب: 34، ص: 20، والزخرف: 63، والقمر: 5، والجمعة: 2. وجاء لفظ الحكمة في السنة النبوية في عدة مواضع، انظر معظمها في: البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، 1/ 165، برقم 73، وكتاب فضائل الصحابة، باب ذكر عن ابن عباس - رضي الله عنه -، 7/ 100، برقم 3756، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، برقم 7270، وكتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، 8/ 98، 99، برقم 4388، و4390، وكتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، 10/ 537، برقم 6145، وباب الحياء، 10/ 521، برقم 6117. ومسلم، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه، 1/ 71 - 73، برقم 51، وباب عدد شعب الإيمان، 1/ 64، برقم 37، وكتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه وغيره فعمل بها وعلمها، 1/ 559، برقم 816، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل العلم على العبادة 51، برقم 2687، وكتاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب، 4/ 379، برقم 2033، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحكمة 2/ 1395، برقم 4169، والدارمي في المقدمة، باب من هاب الفتيا مخافة السقط، 1/ 75، برقم 293، وباب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله، 1/ 90، برقم 395، وباب فضل العلم والعالم، 1/ 84، برقم 357، وكتاب فضائل القرآن، وباب فضل من قرأ القرآن، 2/ 312، برقم 3330.

واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة: النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع والعمل الصالح، وقيل: الخشية للَّه، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين اللَّه، وقيل: العلم والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه. وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة (¬1). ¬

(¬1) انظر: تفسير مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية في المصادر التالية: جامع البيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 1/ 436، 3/ 60، 61، وتفسير غرائب القرآن للنيسابوري المطبوع بهامش تفسير الطبري، 1/ 413، وتفسير البغوي، 1/ 256، 1/ 116، وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي، 1/ 324، 1/ 146، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 2/ 131، 3/ 60، 61، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، 1/ 184، 1/ 323، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي، 1/ 387، 3/ 41، وفتح القدير للشوكاني، 1/ 289، 1/ 144، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا، 1/ 472، 2/ 29، 3/ 75، 3/ 263، وتفسير المراغي، 1/ 214، 2/ 19، 3/ 41، وتفسير السعدي، 1/ 173، 1/ 290، 6/ 154، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، 1/ 312، 1/ 139، 399، 2/ 997، وصفوة المفاهيم والآثار لعبد الرحمن الدوسري، 2/ 360، 416، 3/ 498، 499، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 6/ 66، 67، 9/ 22/ 23، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 19/ 170، ومدارج السالكين لابن القيم، 2/ 478، 479، والتفسير القيم لابن القيم، ص227، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 1/ 67، 70، 6/ 531، 7/ 100، 10/ 522، 529/ 540، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 7/ 33، 6/ 98، 15/ 12، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 182، 7/ 58، 10/ 327، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 354، 355.

وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة (¬1). ((وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب اللَّه حكمة، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه. فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كلُّ فعلٍ قبيح ... )) (¬2). وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضم جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو: ((الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه)). فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة ¬

(¬1) انظر: تفسير البحر المحيط، لمحمد بن يوسف، أبو حيان الأندلسي، 2/ 320. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 3/ 330، وانظر: البحر المحيط، 2/ 320، قال الإمام النووي - رضي الله عنه -: وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها: أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. قال أبو بكر بن دريد: <كل كلمة وعظتك وزجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم>، شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 33.

من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبين الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهماً، خاشياً للَّه، فقيهاً، عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه ... والحكمة أعم من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مسددون، مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور (¬1). والحكمة في كتاب اللَّه نوعان (¬2): مفردة، ومقرونة بالكتاب. فالمفردة كقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬3). وقوله تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬4)، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ ¬

(¬1) انظر: تفسير الطبري، 1/ 436، 3/ 61. (¬2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم 2/ 478، والتفسير القيم لابن القيم، ص227. (¬3) سورة النحل، الآية: 125. (¬4) سورة البقرة، الآية: 269.

فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬1). وهذه الحكمة فُسِّرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة، وهذا النوع كثير في كتاب اللَّه تعالى. أما الحكمة المقرونة بالكتاب، فهي السنة من: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته، وسيرته، كقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (¬2)، وقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3)، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬4)، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬5). وغير ذلك من الآيات. ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 12. (¬2) سورة البقرة، الآية: 129. (¬3) سورة البقرة، الآية: 231. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬5) سورة الجمعة، الآية: 2.

المطلب الثالث: العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي

وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب بالسنة: الإمام الشافعي والإمام ابن القيم، وغيرهما من الأئمة (¬1). المطلب الثالث: العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي عند التأمل والنظر نجد علاقةً قويةً بين المعنى اللغوي والشرعي، فكلاهما يجعل العلم النافع، والعمل الصالح الصواب المحكم المتقن أصلاً من أصول الحكمة، وعلى هذا فيكون التعريف الجامع المانع للحكمة هو: ((الإصابة في القول والعمل والاعتقاد ووضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان)). واللَّه أعلم. وبهذا التعريف يتبيَّن ويتَّضح أن الحكمة في الدعوة إلى اللَّه لا تقتصر على الكلام اللين، أو الترغيب، أو الحلم، أو الرفق، أو العفو ... بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في مواضعها، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند في موضعها، كما قال - عز وجل - {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬2)، ويُوضع الزجر والقوة، والغلظة، والشدة، والسيف في مواضعها، وهذا هو عين الحكمة. وقد قال أحكم الحاكمين لسيد ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 478، والتفسير القيم، ص227. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 46.

المبحث الثاني: أنواع الحكمة ودرجاتها

الحكماء والناس أجمعين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (¬1). كل ذلك بإحكام وإتقان ومراعاة لأحوال المدعوين، والأزمان، والأماكن في مختلف العصور والبلدان، وبإحسان القصد والرغبة فيما عند الكريم المنان (¬2). ومن أراد البرهان العملي على ذلك فعليه أن ينظر إلى ما كان عليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ومعاملته لأصناف الناس، وهو الذي أعطاه اللَّه من الحكمة ما لم يعطِ أحداً من العالمين (¬3). المبحث الثاني: أنواع الحكمة ودرجاتها المطلب الأول: أنواع الحكمة الحكمة نوعان: النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقاً وأمراً، وقدراً ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 73، وانظر: سورة التحريم، الآية: 9. (¬2) انظر: فتاوى شيخ الإسلام، 19/ 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 194، والتفسير القيم، ص344، وتفسير ابن كثير 3/ 416، وزاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين - رضي الله عنه -، ص15. (¬3) انظر: التفسير القيم لابن القيم، ص344، الهامش.

النوع الثاني:

وشرعاً. النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه (¬1). فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الإنسان في أمرين: أن يعرف الحق لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح. وقد أعطى اللَّه - عز وجل - أنبياءه ورسله ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا}، وهو الحكمة النظرية، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬2)، وهو الحكمة العملية. وقال تعالى لموسى - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا}، وهو الحكمة النظرية، {فَاعْبُدْنِي} (¬3)، وهو الحكمة العملية. وقال عن عيسى - صلى الله عليه وسلم -: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}، وهو الحكمة النظرية، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (¬4)، وهو الحكمة العملية. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 478. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 83. (¬3) سورة طه، الآية: 14. (¬4) سورة مريم، الآيتان: 30 - 31.

المطلب الثاني: درجات الحكمة العملية

وقال في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}، وهو الحكمة النظرية، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} (¬1)، وهو الحكمة العملية. وقال في جميع الأنبياء: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ}، وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {فَاتَّقُونِ} (¬2)، وهو الحكمة العملية (¬3). المطلب الثاني: درجات الحكمة العملية الحكمة العملية لها ثلاث درجات: الدرجة الأولى: ((أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعدِّيه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخِّره عنه)). لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه اللَّه لها بشرعه وقدره، ولا تتعدى بها حدها فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) سورة النحل، الآية: 2. (¬3) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي، 7/ 68.

الدرجة الثانية:

الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب (¬1). الدرجة الثانية: معرفة عدل اللَّه في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا جور، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬2)، وكذلك معرفة بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته. الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك، والفطنة، والعلم، والخبرة (¬3). والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 2/ 479. (¬2) سورة النساء، الآية: 40، وانظر: مدارج السالكين، 2/ 481. (¬3) المعجم الوسيط، مادة: بصر، 1/ 59.

الأمر الأول:

أعلى درجات العلماء (¬1)، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2)، فقد أمر اللَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، يدعو إلى اللَّه على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (¬3)، والبصيرة في الدعوة إلى اللَّه في ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يكون الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً وهو في شرع اللَّه غير واجب فيلزم عباد اللَّه بما لم يلزمهم اللَّه به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً، وهو في دين اللَّه غير محرم، فيحرم على عباد اللَّه ما أحله اللَّه لهم. الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة بحال المدعو، فلابد من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، والاعتقادية، والنفسية، والعلمية، والاقتصادية حتى يقدم له ما يناسبه. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 2/ 482. (¬2) سورة يوسف، الآية: 108. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 496، وتفسير السعدي، 4/ 63.

الأمر الثالث:

الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة (¬1)، وقد رسم اللَّه - عز وجل - طرق الدعوة ومسالكها في آيات كثيرة منها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ... } (¬2)، وهذه الآية قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى اللَّه تعالى، ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب: وهي الدعوة إلى اللَّه: بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن (¬3)، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬4). قلت: والباب الرابع: الدعوة إلى اللَّه باستخدام القوة عند الحاجة إليها، كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬5). ولاشك أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريقة القرآن، ومخاطبته لهم ودعوته، ومجادلتهم (¬6). ¬

(¬1) انظر: زاد الداعية إلى الله، للشيخ محمد بن صالح العثيمين - رضي الله عنه -، ص7. (¬2) سورة يوسف، الآية: 108. (¬3) هذا التقسيم الجيد للقاعدة والثلاثة أبواب، للشيخ عبد القادر شيبة الحمد في محاضرة بعنوان: طرق الدعوة إلى الله، ألقيت بجامع الراجحي بالربوة، بالرياض، عام 1408هـ. (¬4) سورة النحل، الآية: 125. (¬5) سورة العنكبوت، الآية: 46. (¬6) انظر: فتاوى ابن تيمية، 19/ 158 - 173.

المبحث الثالث: أركان الحكمة

المبحث الثالث: أركان الحكمة توطئة: للحكمة أركان ودعائم تقوم عليها، وكل خلل في الداعية إلى اللَّه فسببه الإخلال بالحكمة، فأكمل الناس: أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثاً. وأركان الحكمة التي تقوم عليها، ثلاثة هي: العلم، والحلم، والأناة. وآفاتها وأضدادها، ومعاول هدمها: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهلٍ، وطائشٍ، وعجولٍ (¬1). وسأتحدث عن هذه الأركان بالتفصيل - إن شاء اللَّه تعالى - في المطالب الآتية: المطلب الأول: العلم. المطلب الثاني: الحلم. المطلب الثالث: الأناة. المطلب الأول: العلم: العلم من أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر اللَّه به، وأوجبه قبل ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 480.

القول والعمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬1). وقد بوَّب الإمام البخاري - رضي الله عنه - لهذه الآية بقوله: ((بابٌ: العلم قبل القول والعمل)) (¬2). وذلك أن اللَّه أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}، ثم أعقبه بالعمل في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (¬3). والعمل ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون علم من غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة (¬4). ولا يكون الداعية إلى اللَّه حكيماً إلا بالعلم الشرعي، وإن لم ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/ 159. (¬3) انظر: فتح الباري 1/ 160، وحاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب - رضي الله عنه -، جمع عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي - رضي الله عنه -، ص15. (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 136، 6/ 388.

القسم الأول:

يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين. ولاشك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطَّاع الطريق، ونوّاب إبليس وشرطه (¬1). وقد قسم الإمام ابن تيمية - رضي الله عنه - العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه اللَّه: ((والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثه الأنبياء)) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ)) (¬2). وهذا العلم ثلاثة أقسام: القسم الأول: علم باللَّه، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل اللَّه سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما. القسم الثاني: علم بما أخبر اللَّه به مما كان من الأمور الماضية، ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين للإمام ابن القيم، 2/ 464. (¬2) سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، 3/ 317، (رقم 3641)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 5/ 49، (رقم 2683)، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، 1/ 80، (رقم 223)، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 1/ 43.

القسم الثالث:

وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل اللَّه آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك. القسم الثالث: العلم بما أمر اللَّه به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان باللَّه من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين. والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم لا يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترُجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر)) (¬1). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، 9/ 555، (رقم 5427)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن، 1/ 549، (رقم 797).

فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمن حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته (¬1). والعلم لابد فيه من إقرار القلب، ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيراً كثيراً - هو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذر اللَّه المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحساناً، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬2). ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 11/ 396، 397 بتصرف، والفتاوى أيضاً، 7/ 21 - 25، وقال ابن تيمية - رضي الله عنه -: <العلوم خمسة: فعلم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين، وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه>. انظر: فتاوى ابن تيمية، 10/ 145. (¬2) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.

وحذَّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم اللَّه - عز وجل - لا يُكلف اللَّه نفساً إلا وسعها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬1). وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل اللَّه من البينات الدالات على الحق، المظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل اللَّه، والغش لعباد اللَّه، لعنه اللَّه، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم عن رحمة اللَّه، فجُوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة اللَّه، فَجُوزيَ من جنس عمله (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 159. (¬2) انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 1/ 186، وتفسير البغوي، 1/ 134، وابن كثير، 1/ 200.

وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن ((من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار)) (¬1). فتبين بذلك وغيره: أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان (¬2) في العمل بالعلم والحرص عليه: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم للَّه)) (¬3). وقال - رضي الله عنه -: ((يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر)) (¬4). وقال الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((تعلموا، تعلموا فإذا علمتم فاعملوا)) (¬5). وقال - رضي الله عنه -: ((إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله ¬

(¬1) الترمذي، في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، 5/ 29، (رقم 2651)، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم، 3/ 321، (رقم 3658)، وابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، 1/ 98، (رقم 261)، وأحمد، 2/ 263، 305، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 49، وصحيح الترمذي، 2/ 336. (¬2) سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة 107هـ، في النصف من شعبان، وعاش (91) سنة. انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 454 - 474. (¬3) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب في فضل العلم والعالم، 1/ 81، (رقم 337). (¬4) المصدر السابق، 1/ 81. (¬5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/ 195.

فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه)) (¬1). وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللَّه - عز وجل -)) (¬2). وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ((لا تكون تقيّاً حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً)) (¬3). ولهذا قال الشاعر: إذا العلم لم تعمل به كان حجةً ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما ... يصدق قولَ المرء ما هو فاعله (¬4) وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل. وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب ¬

(¬1) المرجع السابق، 2/ 6. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 7. (¬3) المرجع السابق، 2/ 7. (¬4) المرجع السابق، 2/ 7.

أسباب وطرق تحصيل العلم:

النبي - صلى الله عليه وسلم - - مقروناً بالعمل، ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه اللَّه مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (¬1). وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد اللَّه بن عباس - رضي الله عنه - بالحكمة، والفقه في الدين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم علِّمه الحكمة))، وفي لفظ: ((اللَّهم علمه الكتاب))، وفي لفظ: ((اللَّهم فقِّهه في الدين)) (¬2). فكان - رضي الله عنه - حبراً للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بهما استجابة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. أسباب وطرق تحصيل العلم: العلم النافع له أسباب ينال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، 1/ 165، (رقم 73)، ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، 1/ 558، (رقم 816). (¬2) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس - رضي الله عنه - 7/ 100، (رقم 3756)، 13/ 245، (رقم 7270)، 1/ 169، (رقم 75)، 1/ 244، (رقم143)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس - رضي الله عنه -، 4/ 1927، (رقم 2477).

1 - أن يسأل العبد ربه العلم النافع

1 - أن يسأل العبد ربه العلم النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر اللَّه نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بسؤاله أن يزيده علماً إلى علمه (¬1)، فقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬2)، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللَّهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً)) (¬3). 2 - ومنها: الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة في ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة (¬4). وقد جاء رجل إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أُضيِّعه، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((كفى بتركك له تضييعاً)) (¬5). ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي ينال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يُتَّبع، وبالحب له يُستَمَع، وبالفراغ له يَجْتَمِع، [عَلِّم علمك من يجهل، وتعلم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت] (¬6). ¬

(¬1) انظر: تفسير الإمام البغوي، 3/ 233، وتفسير العلامة السعدي، 5/ 194. (¬2) سورة طه، الآية: 114. (¬3) الترمذي، في الدعوات، باب في العفو والعافية، 5/ 578، (رقم 3599)، وابن ماجه في العلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 92، (رقم 251)، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 47. (¬4) انظر: تفسير السعدي، 5/ 194. (¬5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 104. (¬6) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 102، 103.

3 - اجتناب جميع المعاصي

ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه: أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبئك عن تفصيلها ببيان ذكاءٌ، وحرصٌ، واجتهادٌ، وبلغةٌ ... وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان (¬1) ٌ 3 - ومنها: اجتناب جميع المعاصي بتقوى اللَّه - تعالى-؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (¬3). وهذا واضح بيِّن أن من اتقى اللَّه جعل له علماً يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل (¬4)؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله)) (¬5). وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: ((خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطةً (¬6) كانت فيه وصمةً (¬7) أن يكون: فهماً، حليماً، عفيفاً، صليباً (¬8)، ¬

(¬1) ديوان الشافعي، ص116. (¬2) سورة البقرة، الآية: 282. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 338، وتفسير السعدي، 1/ 349. (¬5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 196. (¬6) خطة: أي خصلة. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬7) وصمة: عيباً. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬8) صليباً: قوياً شديداً، يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى. انظر: فتح الباري، 13/ 146.

4 - عدم الكبر والحياء عن طلب العلم

عالماً سَئولاً عن العلم)) (¬1). وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: شَكوتُ إلى وكيع (¬2) سوء حفظي وأخبرني بأن علم اللَّه نور ... ونور اللَّه لا يُهدى لعاصي (¬3) وقال الإمام مالك للإمام الشافعي - رحمهما اللَّه تعالى -: ((إني أرى اللَّه قد جعل في قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية)) (¬4). 4 - ومنها: عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنه -: ((نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)) (¬5). وقالت أم سُليم - رضي الله عنه - يا رسول اللَّه، إن اللَّه لا يسْتَحْيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأت الماء)) (¬6). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأحكام، باب متى يستوجب الرجل القضاء، 13/ 146. (¬2) وكيع بن الجراح بن مليح، الإمام، الحافظ، محدث العراق، ولد سنة 129هـ، ومات سنة ... فأرشدني إلى ترك المعاصي 196هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 9/ 140، وتهذيب التهذيب، 11/ 109. (¬3) ديوان الشافعي، ص88، وانظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص104. (¬4) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص 104 (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، 1/ 228. (¬6) المرجع السابق، 1/ 228، (رقم 130).

5 - أعظمها ولبها: الإخلاص في طلب العلم،

وقال مجاهد: ((لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر)) (¬1). 5 - ومنها، بل أعظمها ولُبُّها: الإخلاص في طلب العلم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه اللَّه - عز وجل -، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) (¬2) يعني ريحها. 6 - العمل بالعلم (¬3): ومما تقدم يتضح أن العلم لا يكون ركناً من أركان الحكمة ودعائمها إلا بالعمل، والإخلاص، والمتابعة. المطلب الثاني: الحلم الحِلْمُ: بالكسر: العقل (¬4)، وحلم حلماً: تأنَّى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وصفح، وعقل (¬5)، ومن أسماء اللَّه - تعالى -: (الحليم)، وهو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منتهٍ إليه (¬6). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، 1/ 228. (¬2) أبو داود بلفظه في العلم، باب في طلب العلم لغير اللَّه، 3/ 323، (رقم 3664)، وابن ماجه في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم، 1/ 93، (رقم 252)، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 48. (¬3) انظر: ص26، من هذا الكتاب. (¬4) القاموس المحيط، باب الميم، فصل الحاء، ص1416. (¬5) المعجم الوسيط، مادة: حلم، 1/ 194. (¬6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، حرف الحاء مع اللام، 1/ 434.

والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (¬1). والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل ولا تبصر كان على رذيلة، وإن تبلد، وضيع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلى بالحلم مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة. وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، واللَّه أعلم (¬2). وقد وصف اللَّه نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬3). ونلاحظ أن الآيات التي وصفت اللَّه بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم - في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ وقع، أو تفريط ¬

(¬1) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة حلم، ص129. (¬2) انظر: مفردات غريب القرآن، ص129، وأخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 182، والأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن الميداني، 2/ 326. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 155.

في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (¬1). ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت اللَّه بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (¬2)، وهذا يفيد - واللَّه أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم أركان الحكمة (¬3). ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة - التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى اللَّه - تعالى - مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها اللَّه - عز وجل -، قال - صلى الله عليه وسلم - للأشج (¬4): ((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة)) (¬5). وفي رواية قال الأشج: يا رسول اللَّه، أنا تخلقت بهما أم اللَّه ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 45. (¬2) سورة الحج، الآية: 59. (¬3) انظر: أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185. (¬4) المنذر بن عائذ بن المنذر العصري، أشج عبد القيس، كان سيد قومه، رجع بعد إسلامه إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك ومات بها - رضي الله عنه -. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 267. (¬5) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله، 1/ 48، (رقم 17/ 25).

جبلني عليهما؟ قال: ((بل اللَّه جبلك عليهما))، قال: الحمد للَّه الذي جبلني على خلقين يحبهما اللَّه ورسوله (¬1). وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للأشج ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الأشج عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم؟)) فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول اللَّه، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين ... )) الحديث. فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب ... (¬2). ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام: أنه خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى اللَّه والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة. ¬

(¬1) أبو داود، في الأدب، باب في قبلة الرِّجْل، 4/ 357، (رقم 5225)، وأحمد، 4/ 206، 3/ 23. (¬2) شرح النووي على مسلم، 1/ 189، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 152.

وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر اللَّه المؤزر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن غريباً أن يوجِّهه اللَّه تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ* وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1)، {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬2)، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (¬3). وقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلمه، وعفوه في دعوته إلى اللَّه - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 1 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنينٍ آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: واللَّه إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200. (¬2) سورة فصلت، الآية: 34. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 159.

وجه اللَّه، فقلت: واللَّه لأخبرن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته فأخبرته، فقال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل اللَّه ورسوله؟! رحم اللَّه موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) (¬1). وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى اللَّه - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (¬2). 2 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول اللَّه من اليمن بذهيبة (¬3) في أديم مقروظ (¬4) لم تُحَصَّلْ من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر (¬5)، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (¬6)، والرابع إما علقمة (¬7) وإما عامر بن الطفيل، فقال لرجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس، 6/ 251، (رقم 3150)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، 2/ 739، (رقم 1062). (¬2) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 8/ 49. (¬3) أي ذهب. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬4) مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬5) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح، 8/ 68. (¬6) زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬7) ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري، 8/ 68.

قال: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟)) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمِّر الإزار، فقال: يا رسول اللَّه! اتق اللَّه، قال: ((ويلك، أولست أحقُّ أهل الأرض أن يتقي اللَّه؟))، قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول اللَّه! ألا أضرب عنقه؟ قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)). قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍ، فقال: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب اللَّه رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (¬1). وهذا من مظاهر حلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله، لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه، ولاسيما من صلى (¬2). 3 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى اليمن، 8/ 67، (رقم 4351)، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 741، (رقم 1064). (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 69.

برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فضحك، ثم أمر له بعطاء (¬1). وهذا من روائع حلمه - صلى الله عليه وسلم - وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسى به الدعاة إلى اللَّه، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن (¬2). 4 - وعن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - أنه غزا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد، فلما قفل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قفل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة، عُلق بها سيفه، ونمنا نومةً، فإذا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: ((إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً (¬3)، فقال: من يمنعنك مني؟ فقلت: اللَّه (ثلاثاً)، ولم يعاقبه وجلس)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 6/ 251، (رقم 3149)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة، 2/ 730، (رقم 1057). (¬2) انظر: فتح الباري، 10/ 506، وشرح النووي على مسلم، 7/ 146، 147. (¬3) والسيف صلتاً: أي مسلولاً. انظر: شرح النووي، 15/ 45. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، 6/ 96، (رقم 2910)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، 1/ 576، (رقم 843).

وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذُكِرَ أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه وأسلم، واهتدى به خلق كثير (¬1). وهذا مما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها. 5 - ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم اللَّه، ويدمرهم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - حليم حكيم، يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم، ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: كأني أنظر إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيّاً من الأنبياء، صلوات اللَّه وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬2). ومما يدل على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوتهم إلى اللَّه تعالى. فهذا إبراهيم أبو الأنبياء -عليه وعليهم الصلاة والسلام- قد بلغ ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 7/ 427، 428. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، 6/ 514، (رقم 3477)، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، 3/ 1417، (رقم 1792).

من الحلم مبلغاً عظيماً حتى وصفه اللَّه بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬1)، فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليماً عمن ظلمه، وأناله مكروهاً، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} (¬2). فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له، واستغفر (¬3)؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬4). وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلماً مع أقوامهم في دعوتهم إلى اللَّه تعالى (¬5). ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى اللَّه والصالحون من أتباعهم، وإذا كان اللَّه - عز وجل - قد جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - مثلاً ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 114. (¬2) سورة مريم، الآيات: 46 - 48. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 396، وتفسير البغوي، 2/ 337، والأخلاق الإسلامية للميداني، 2/ 332. (¬4) سورة التوبة: الآية: 114. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 114، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185.

عالياً في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول اللَّه - تعالى - عن الأخيار من هؤلاء: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (¬1). فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السّيّئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً، كما كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً (¬2). فعن النعمان بن مقرن المزني، قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسبّ رجل رجلاً عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إن ملكاً بينكما يذب عنك كلما يشتمك هذا، قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قال له: عليك السلام، قال: بل لك، أنت أحق به)) (¬3). فهؤلاء الدعاة إلى اللَّه والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صواباً وسداداً، ويردون المعروف من القول على من جهل ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 2/ 310، والإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 556، ومجمع الزوائد، 8/ 240. (¬3) رواه الإمام أحمد في المسند، 5/ 445، وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده حسن، 3/ 326.

عليهم (¬1)؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحدٌ بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه. {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (¬2)، فترتب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (¬3)، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬4). ومما يبين حلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فواللَّه ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 326. (¬2) سورة الشورى، الآية: 37. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 621. (¬4) سورة فصلت، الآية: 34.

فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه - تعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬1)، وإن هذا من الجاهلين، واللَّه ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافا عند كتاب اللَّه (¬2). وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب. أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين. والثاني: قوله: واللَّه ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير. والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل. ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح عندما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية، ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، - رضي الله عنه - وأرضاه (¬3)، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 199. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، 8/ 304، (رقم 4642). (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13/ 259، 8/ 305، 13/ 250.

علاج الغضب

وخلقه. وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬1). ولاشك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليماً، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال أوصني: ((لا تغضب)) (¬2). والداعية إلى اللَّه يستطيع أن يتصف بالحلم؛ ليكون حكيماً، وذلك بعلاج الغضب، إذا حل به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه اللَّه، وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية، وفعلية عملية، حتى يكونوا حلماء، حكماء. علاج الغضب: وعلاج الغضب بالأدوية المشروعة يكون بطريقتين: الطريق الأول: الوقاية: ومعلوم أن الوقاية خير من العلاج، وتحصل الوقاية من الغضب ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 10/ 518، (رقم 6114)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، 4/ 2014، (رقم 2609). (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 10/ 518، (رقم 6116)، والحديث فيه: فردد مراراً، قال: <لا تغضب>.

الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب:

قبل وقوعه باجتناب أسبابه، واستئصالها قبل وقوعها، ومن هذه الأسباب التي ينبغي لكل مسلم أن يُطهِّر نفسه منها: الكبر، والإعجاب بالنفس، والافتخار، والتيه، والحرص المذموم، والمزاح في غير مناسبة، أو الهزل وما شابه ذلك (¬1). الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب: وينحصر في أربعة أنواع كالآتي: النوع الأول: الاستعاذة باللَّه من الشيطان، قال اللَّه تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). وعن سليمان بن صُردٍ - رضي الله عنه - قال: استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسبّ صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم)) (¬3). ولما كان الشيطان على نوعين: نوع يُرى عياناً، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يُرى، وهو شيطان الجن، جعل اللَّه سبحانه المخرج ¬

(¬1) انظر: الدعائم الخلقية والقوانين الشرعية، للدكتور صبحي محمصاني، ص227. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 200، وانظر: سورة المؤمنون، الآية: 97، وسورة فصلت، الآية: 36. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 10/ 518 (رقم 6115)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، 4/ 2015، (رقم 2610).

النوع الثاني:

من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، ومن شر شيطان الجن بالاستعاذة باللَّه منه (¬1)، وما أحسن ما قاله القائل: فما هو إلا الاستعاذة ضارعاً ... أو الدفع بالحسنى هما خيرُ مطلوب فهذا دواء الداء من شر ما يُرى ... وذاك دواءُ الداء من شر محجوب (¬2) النوع الثاني: الوضوء، عن عطية السعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) (¬3). النوع الثالث: تغيير الحالة التي عليها الغضبان، بالجلوس، أو الخروج، أو غير ذلك، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) (¬4). ¬

(¬1) انظر: سورة الأعراف، الآية: 200، وسورة المؤمنون، الآية: 97، وسورة فصلت، الآية: 36. (¬2) انظر: زاد المعاد، 2/ 462 - 463، بتصرف يسير، وأضواء البيان، 2/ 341 - 342. (¬3) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقال عند الغضب، 4/ 249، (رقم 4784)، قال الشيخ عبد العزيز ابن باز - رضي الله عنه -: <وإسناده جيد>، وانظر: تهذيب السنن، 7/ 165 - 168، وعون المعبود، 13/ 141. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده، 5/ 152، وأبو داود في الأدب، باب ما يقال عند الغضب 4/ 249 (رقم 4782)، وابن حبان ص484 (موارد)، وشرح السنة للبغوي 13/ 162، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رجال أحمد رجال الصحيح 8/ 70، وانظر: صحيح سنن أبي داود 3/ 908.

النوع الرابع:

النوع الرابع: استحضار ما ورد في فضل كظم الغيظ من الثواب، وما ورد في عاقبة الغضب من الخذلان العاجل والآجل، عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه اللَّه - عز وجل - على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره اللَّه من الحور ما شاء)) (¬1). وهذه الأنواع أدلة ثبوتها واضحة من الكتاب والسنة. وإذا أراد الداعية أن يزداد حلمه، وتعظم حكمته، فليحرص على الأسباب التي تدعو إلى الحلم، فليعمل بها، وهي عشرة: 1 - الرحمة بالجهال، فإنها من أوكد أسباب الحلم. 2 - القدرة على الانتصار؛ وذلك من سعة الصدر، وحسن الثقة. 3 - الترفع عن السباب، وذلك من شرف النفس وعلو الهمة. 4 - الاستهانة بالمسيء: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت 5 - الاستحياء من جزاء الجواب، وهذا من صيانة النفس وكمال المروءة. ¬

(¬1) سنن أبي داود في كتاب الأدب، باب من كظم غيظاً 4/ 248 (رقم 4777)، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا عبد بن حميد، 4/ 656، (رقم 3495)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحلم، 2/ 1400، (رقم 4186)، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 305، وصحيح ابن ماجه، 2/ 407، وصحيح الجامع، 5/ 353، وصحيح أبي داود، 3/ 907.

6 - التفضل على السّاب، وهذا من الكرم وحب التآلف. 7 - قطع السباب، وهذا من الحزم، كما قال الشاعر: وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى ... وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا 8 - الخوف من العقوبة على الجواب، وهذا مما يقتضيه الحزم، فقد قيل: الحلم حجاب الآفات. 9 - الرعاية ليد سالفة، وحرمة لازمة، وهذا من الوفاء وحسن العهد، قال الشاعر: إن الوفاء على الكريم فريضة ... واللؤم مقرون بذي الإخلاف 10 - المكر وتوقع الفرص الخفية، وهذا من الدهاء، وقد قيل: من ظهر غضبه قل كيده. وقال بعض الشعراء: ولَلْكفّ عن شتم اللئيم تكرماً ... أضر له من شتمه حين يشتم (¬1) فإذا راعى الداعية الوقاية من الغضب، والعلاج، وهذه الأسباب العشرة كان حليماً بإذن اللَّه - تعالى - وبهذا يحقق ركناً من أركان الحكمة، التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً. وينبغي أن يعلم أن الغضب للَّه يكون محموداً، ولا يدخل في الغضب المذموم، فالغضب المحمود يكون من أجل اللَّه، عندما ترتكب حرمات اللَّه، أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات ¬

(¬1) انظر: أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي، المتوفى سنة 450هـ، ص214.

المطلب الثالث: الأناة

قوة الإيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحلم والحكمة، وقد كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يغضب للَّه إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات اللَّه لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادماً، ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وقد خدمه أنس بن مالك - رضي الله عنه - عشر سنوات، فما قال له: أُفٍّ، قَطُّ، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا؟ (¬1). وهذا لا ينافي الحلم والحكمة، بل الغضب للَّه في حدود الحكمة من صميم الحلم والحكمة. المطلب الثالث: الأناة الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنَّى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة (¬2). ويقال: تأنى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتَمهّلَ، واستأنى به: انتظر به وأمهله (¬3). ¬

(¬1) انظر: عدة حالات غضب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - لله تعالى، في البخاري مع الفتح، في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله - تعالى - 10/ 517، (رقم 6109 - 6113)، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص127، وفتح الباري، 10/ 518. (¬2) المصباح المنير، مادة: أنى 28. (¬3) انظر: مختار الصحاح، مادة: أنى، ص13، والمعجم الوسيط، 1/ 31.

وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبُّت في الأمور، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: تثبت، وتأنى فيه ولم يعجل (¬1). ويأتي التبيُّن بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ (¬2). وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرُّف الحكيم بين العجلة والتباطؤ (¬3). والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلان على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همته للقيام بالأعمال التي تحقق له ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثاراً للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب. والأناة عند الداعية إلى اللَّه - تعالى - تسمح له بأن يُحكم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، ¬

(¬1) انظر: المعجم الوسيط، مادة: أبان 1/ 80، ومادة: ثبت 1/ 93. (¬2) انظر: القاموس المحيط، باب الراء، فصل الباء ص448، ومختار الصحاح، مادة: (بصر) ص22، والمعجم الوسيط، 1/ 59. (¬3) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 352.

بخلاف العجلة؛ فإنها تعرضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها (¬1). والداعية مطلوب منه أن يتخلق بخلق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خلقٌ مذموم يدل على ضعف خلق الصبر، ونقص الحكمة، والتباطؤ فيها خلق مذموم يدل على ضعف الهمّة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن اللَّه تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة. وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 353، وأخلاق القرآن الكريم للشرباصي، 3/ 15.

ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم في القيام بالأعمال وتصريف الأمور (¬1). قال اللَّه - تعالى - للنبي - صلى الله عليه وسلم - تربية له وتعليماً: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬2). فأمر اللَّه سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل اللَّه له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره (¬3). وقال تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬4). وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى اللَّه - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬5)، قرأ الجمهور: (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 2/ 353، 354 بتصرف. (¬2) سورة القيامة، الآيات: 16 - 19. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 450. (¬4) سورة طه، الآية: 114. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 6.

والكسائي: (فتَثبَّتُوا)، والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد، حتى يتضح ويظهر (¬1). والدعاة إلى اللَّه أولى بامتثال أمر اللَّه - تعالى - وبالتأني والتثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس (¬2). والداعية إلى اللَّه - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض له، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقّاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح له الحق. والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو محرفاً، أو مزوراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي ¬

(¬1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني، 4/ 60. (¬2) انظر: في ظلال القرآن، 6/ 3334، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 3/ 15.

المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته. وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتهم هذا، أو يسب ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنى، وتبين، وتثبت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء له، ولا يضيف إلى أعدائه عدوّاً جديداً منهم. ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف (¬1)، {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (¬2). ولعظم أمر الأناة والتبين أمر اللَّه بها حتى في جهاد الكفار في سبيل اللَّه، الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى اللَّه تعالى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ¬

(¬1) انظر: موسوعة أخلاق القرآن الكريم، 3/ 26، وفي ظلال القرآن، 6/ 3342. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 11.

فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬1). ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة. فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تَثَبُّتٍ وتبيُّنٍ، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين، فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعْرَفُ دين العبد وعقله ورزانته (¬2). ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قال: كان رجل في غُنَيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل اللَّه في ذلك إلى قوله: {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام (¬3). وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 94. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 2/ 132. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة النساء، باب: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، 8/ 258، (رقم 4591)، ومسلم، كتاب التفسير (رقم 3025).

من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللَّه، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه؟)) قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنما كان متعوذاً، قال: فقال: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه؟))، قال: فمازال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (¬1). وفي رواية قال: قلت يا رسول اللَّه: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (¬2). وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟)) قال: يا رسول اللَّه: استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟)). قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة)) (¬3). ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس أناةً وتثبتاً، فكان لا يقاتل أحداً ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة إلى الحرقات 7/ 517، 12/ 191 (رقم 4269)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه، 1/ 97، (رقم 96/ 159). (¬2) مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه 1/ 96 (رقم 97). (¬3) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه، 1/ 97.

من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم ... )) (¬1). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ويربي أصحابه على الأناة والتثبت في دعوتهم إلى اللَّه - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: (أ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. (ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. (ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم (¬2). ومن تربيته لأصحابه - صلى الله عليه وسلم - على الأناة وعدم العجلة قوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة ¬

(¬1) البخاري مع الفتح بلفظه مطولاً، في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، 2/ 89، (رقم 610)، ومسلم، في الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سُمِعَ فيهم الأذان، 1/ 288، (رقم 382). (¬2) أخرج الحديث مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، 3/ 1357، (رقم 1365)، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/ 100.

فما أدركْتُمْ فصلّوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬1). وقوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت)) (¬2). ولسُمُوِّ الأناة أحبها اللَّه - عز وجل -، قال - صلى الله عليه وسلم - للأشج: ((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة)) (¬3). والرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناةً وحلماً، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظَّاً محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومن أمثلة ذلك قصة سليمان مع الهدهد وتثبته وعدم عجلته, قال سبحانه عن ذلك: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} (¬4). فهذا الهدهد من جنود سليمان - صلى الله عليه وسلم - كان غائباً بغير إذن سليمان، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، وقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}،2/ 390 (رقم 908)، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعياً، 1/ 420، (رقم 602). (¬2) مسلم، في كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، 1/ 422، (رقم 604). (¬3) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان باللَّه - تعالى - ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه، 1/ 48، (رقم 18). (¬4) سورة النمل، الآيتان: 20، 21.

وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم والجد في تنظيم الجنود حتى لا تكون فوضى، فإن سليمان إذا لم يأخذ بذلك في تنظيم الجنود ومراقبتهم كان المتأخر منهم قدوة سيئة لبقية الجنود، ولهذا نجد سليمان النبي الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف، ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً في الأرض، ولا متسرعاً عجولاً، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يترك الأناة والتثبت ويقضي في شأنه قضاءً نهائيّاً قبل أن يسمع منه ويتبين عذره، ومن ثم تبرز سمة النبي العادل المتثبت {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: حجة قوية واضحة توضح عذره وتنفي المؤاخذة عنه (¬1). فالأناة صفة جميلة، وتكون أجمل إذا جاءت من القادر على العقاب، ولهذا قال الشاعر ابن هانئ المغربي: وكل أناة في المواطن سؤدد ... ولا كأناة من قديرٍ محكم ومن يتبين أن للصفح موضعاً ... من السيف يصفح عن كثير ويحلم وما الرأي إلا بعد طول تثبُّت ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوم وقال الشاعر يمدح عاقلاً حكيماً: بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه في كل أمر عواقبه (¬2) ¬

(¬1) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب، 5/ 2638، وفقه الدعوة في إنكار المنكر، لعبد الحميد البلالي، ص17. (¬2) انظر: موسوعة أخلاق القرآن، للدكتور الشرباصي، 3/ 27.

والداعية إلى اللَّه - عز وجل - إذا تثبت، وتأمل في جميع أموره اكتسب ركناً من أركان الحكمة، وينبغي ألا يقتصر في منهجه المتكامل على التأني والتثبت في الأفعال والأقوال فحسب، بل عليه أن يجري ذلك على القلب في خواطره، وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬1). فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الداعية أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ومن كل نتيجة، حتى لا يبقى هنالك شك ولا شبهة في صحتها، وحينئذ يصل الداعية المسلم المتمسك بهذه الضوابط إلى أعلى درجات الأناة والحكمة والسداد - بإذن اللَّه تعالى - (¬2). أما العجلة فهي مذمومة، قال سبحانه عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (¬3)، استخفهم وحملهم على الضلالة والجهل، واستخف عقولهم، يقال: استخف عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬2) انظر: في ظلال القرآن، 4/ 2227. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 54. (¬4) تفسير ابن كثير 4/ 130، وشرح السنة للبغوي، 13/ 175.

وقال سبحانه: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (¬1)، ولاشك أن الإنسان قد خلق من عجل {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (¬2)؛ ولكنه - بحمد اللَّه - إذا امتثل أمر اللَّه وترك نهيه حسنت أخلاقه وطبائعه. والعجلة لها أسباب ينبغي اجتنابها، منها: عدم النظر في العواقب، وسنن اللَّه في الكون، ومنها الشيطان عدو الإنسان؛ فإن أساس العجلة من الشيطان؛ لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل (¬3)، ولذلك قيل: يا صاحبي تلوما لا تعجلا ... إن النجاح رهين أن لا تعجلا وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة (¬4). وينبغي أن يُعْلَم أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة، ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت، ولهذا قيل لبعض السلف: لا تعجل، فإن العجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (¬5). ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 60. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 37. (¬3) انظر: شرح السنة للبغوي، 13/ 176، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، 3/ 184. (¬4) انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 153. (¬5) سورة طه، الآية: 84.

وقد قال بعض السلف: لا تعجل عجلة الأخرق، وتحجم إحجام الواني. والخلاصة: أنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (¬1). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال الأعمش: ولا أعلمه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((التُّؤَدَةُ (¬2) في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) (¬3). وعن عبد اللَّه بن سرجس المزني، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السَّمْتُ الحسن (¬4)، والتُّؤَدَةُ والاقتصاد (¬5)، جزء من أربعةٍ وعشرين جزءاً من النبوة)) (¬6). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬2) التؤدة: التأني. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، 3/ 277، وعون المعبود، 3/ 165. (¬3) أبو داود، كتاب الأدب، باب الرفق، 4/ 255، (رقم 4810)، والحاكم بلفظه، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 1/ 64، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 3/ 913. وذلك لأن الحزم بذل الجهد في عمل الآخرة؛ لتكثير القربات ورفع الدرجات لأن في تأخير الخيرات آفات. انظر: فيض القدير، 3/ 277، وعون المعبود، 3/ 165. (¬4) السمت الحسن: هو حسن الهيئة والمنظر. انظر: فيض القدير للمناوي، 3/ 277. (¬5) الاقتصاد: هو التوسط في الأمور والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط. انظر: المرجع السابق، 3/ 277. (¬6) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، 4/ 366، (رقم 2010)، وانظر: صحيح سنن الترمذي، 2/ 195.

وبهذا يعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخير إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها اللَّه حتى تكون المسارعة مما يحبه اللَّه تعالى (¬1). وعن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يرفعه: ((التأني من اللَّه، والعجلة من الشيطان)) (¬2). ¬

(¬1) انظر: شرح السنة للبغوي، 13/ 177، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 153. (¬2) أخرجه أبو يعلى في مسنده، 3/ 1054، والبيهقي في السنن الكبرى، 10/ 1040، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 404: هذا إسناد حسن رجاله ثقات ...

المبحث الرابع: طرق اكتساب الحكمة

المبحث الرابع: طرق اكتساب الحكمة تمهيد: الحكمة هبة وفضل من اللَّه - عز وجل - يهبها لمن يشاء من عباده وأوليائه، والحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء له طرق تحصيلها، فالعبد لا يكون حكيماً إلا إذا سلك طرق تحصيل الحكمة، ولا يمكن أن يحصل على الحكمة إلا إذا كانت طرقها مستقاة من الكتاب والسنة، وإذا وفق الداعية المسلم لطرق الحكمة فلا يخرجها ذلك عن كونها هبة من اللَّه تعالى، لقوله تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1)، بل اللَّه الذي وفقه وسدده، وأعطاه خيراً كثيراً، جليلاً قدره، عظيماً نفعه، ولهذا استنبط بعض المحققين من قوله: {خَيْرًا كَثِيرًا} أن إيتاء الحكمة خير من الدنيا وما فيها كلها؛ لأن اللَّه وصف الدنيا في قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ} (¬2)، فدل فذلك على أن ما يؤتيه اللَّه من حكمته خير من الدنيا وما عليها؛ لأن من أوتيها خرج من ظلمة الجهل إلى نور الهدى، وحمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد والاعتدال، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 269. (¬2) سورة النساء، الآية: 77.

والبصيرة المستنيرة، وإتقان الأمور وإحكامها، وتنزيلها منازلها، وهذا كله من أفضل العطايا وأجل الهبات. والحكمة لها طرق تكتسب بها بتوفيق اللَّه تعالى، ومن أهم هذه الطرق التي إذا سلكها المسلم صار حكيماً بإذن اللَّه تعالى ما يأتي: العلم النافع، والحلم، والأناة، والرفق واللين، والإخلاص والتقوى، والصبر والمصابرة، والسلوك الحكيم، والعمل بالعلم، والاستقامة، والخبرات والتجارب، وجهاد النفس والشيطان، وعلو الهمة، والعدل، والدعاء، والاستخارة والاستشارة (¬1). وفقه وإتقان أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى. وسأذكر في هذا المبحث بالتفصيل بعض هذه الطرق التي إذا سلكها الداعية المسلم - مع ما تقدم من الطرق - كان حكيماً في أقواله وأفعاله، وتصرفاته، وأفكاره، موافقاً للصواب في جميع أموره بإذن اللَّه تعالى، وذلك في المطالب الآتية: المطلب الأول: السلوك الحكيم. المطلب الثاني: العمل بالعلم والإخلاص. المطلب الثالث: الاستقامة. المطلب الرابع: الخبرات والتجارب. ¬

(¬1) انظر: هذه الطرق بالتفصيل في هذا الكتاب في الصفحات الآتية: 53، 128، 133 - 138، 180 - 184 و846 - 852.

المطلب الأول: السلوك الحكيم

المطلب الخامس: السياسة الحكيمة. المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى. المطلب الأول: السلوك الحكيم السلوك: مصدر سلك يقال: سلك طريقاً، وسلك المكان يسلكه سلكاً وسلوكاً (¬1)، وسلكه غيره. والسلوك: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيِّئ السلوك (¬2). أما الخلق فهو: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر ورويّة، وجمعه: أخلاق. والأخلاق علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح (¬3)، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه. القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور، حرف الكاف فصل السين، 10/ 442. (¬2) المعجم الوسيط، مادة (سلك)، 1/ 445. (¬3) المعجم الوسيط، مادة (خلق)، 1/ 252.

بالرويّة والفكر، ثم يستمر عليه حتى يصير ملكة وخلقاً (¬1). والسلوك عمل إرادي، كقول: الصدق، والكذب، والبخل، والكرم، ونحو ذلك. فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولابد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو السلوك، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دل على خلق حسن، وإن كان سيئاً دل على خلق قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الطيب يعرف بالأعمال الطيبة (¬2). والحكمة تتفرع إلى فروع، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم، والتزام فضائل الأخلاق، واجتناب رذائلها ظاهراً وباطناً هو السلوك الأخلاقي الحكيم (¬3). والداعية إذا التزم السلوك الأخلاقي الحكيم كان ذلك من أعظم طرق اكتساب الحكمة، ومن أسباب توفيق اللَّه له في دعوته، وفي أموره كلها، واستقامته، وحسن سيرته، وأدعى لقبول دعوته، ¬

(¬1) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، د/محمود حمدي زقزوق، ص39. (¬2) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، ص43. (¬3) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 1/ 13.

وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي، سواء كان ذلك قبل قيامه بالدعوة أو بعده، وكثيراً ما سمعنا أن أناساً قاموا بدعوة الإصلاح، وخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم، وعن دعوتهم ما يذكرونه لهم من ماضٍ ملوّث، وخلق غير مستقيم، بل إن هذا الماضي السيِّئ مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة، بحيث يتهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح؛ لأغراض خاصة، أو يتهمون بأنهم ما بدءوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا بعض أوقات أو مراحل أعمارهم، وأخذوا نصيبهم من ملذات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عرض أو مال، أو شهرة، أو جاه. أما الداعية المستقيم في شبابه وحياته كلها، فإنه يظل أبداً بفضل اللَّه رافع الرأس، ناصع الجبين، ولا يجد أعداء الدعوة سبيلاً إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد، ولا يتخذون من هذا الماضي المنحرف وسيلة إلى التشهير به، أو دعوة الناس إلى الاستخفاف به وبشأنه. ولاشك أن اللَّه - عز وجل - يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة. والداعية إذا استقامت سيرته، وحسنت سمعته الطيبة الحميدة، وسلوكه

المسالك الحكيمة

الحكيم (¬1) نجح في دعوته بإذن اللَّه تعالى. وإذا سلك الداعية المسالك الحكيمة في سلوكه فقد سلك أعظم الطرق في اكتساب الحكمة، ومن هذه المسالك على سبيل المثال ما يأتي: المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه. المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم. المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة. المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه: ينبغي للداعية أن يتخذ في سلوكه وأعماله كلها قدوة حكيماً، وإماماً نبيلاً، وهو محمد بن عبد اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقد كان حسن السيرة والسلوك، بل كان أعظم خلق اللَّه في حسن خلقه، الذي دل عليه سلوكه الحكيم، ولا غرابة فقد مدحه ربه وأثنى عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2)، وعرف قومه ذلك منه، ولكن صد بعضهم عن تصديقه الكبر والجحود {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬3)؛ ولهذا عندما قال - صلى الله عليه وسلم - لقومه: ((أرأيتكم لو ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص39. (¬2) سورة القلم، الآية: 4. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 33.

أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟))، قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) (¬1). وفي حديث أبي سفيان مع هرقل حينما سأله عن أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلوكه، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: قلت: لا ... ثم قال: ماذا يأمركم به؟ قال أبو سفيان: قلت: يقول: ((اعبدوا اللَّه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة ... )) ثم قال هرقل لأبي سفيان في نهاية الحديث: فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)) (¬2). فهذا الرسول الكريم هو قدوة الداعية، وإمامه الذي يسير على هديه، ويلتزم أخلاقه، وسلوكه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - حسن السيرة والسلوك الحكيم في حياته كلها، ولم يتهم بشيء مما كان يعمله قومه، فقد نشأ - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع كثرت فيه المفاسد، وعمت فيه الرذائل: فالبغاء، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة تبت، باب حدثنا يوسف، 8/ 737، (رقم 4971)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، 1/ 194، (رقم 208). (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان، 1/ 32، (رقم 7).

والاستبضاع، والزنى الجماعي، والإفرادي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، كل ذلك كان شائعاً في قومه قبل الإسلام، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، هذا بالإضافة إلى وَأْدِ البنات، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، ولعب الميسر، وشرب الخمر، أمور تعد في الجاهلية من المفاخر والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كله يرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضى بها، وهذا ما يدعو إلى انتشارها إلى جانب الأفكار الأخرى. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل أي عمل أو يباشر أي خلق من هذه الأخلاق الرذيلة، بل قد اتصف بجميع مكارم الأخلاق بين قومه، فكان صادقاً لا يعرف الكذب، أميناً لا يعرف الخيانة، وفيًّا لا يعرف الغدر، حتى كان معروفاً في مجتمعه بهذه الصفات مميزاً بها عن غيره، ولا يجهل ذلك أحد ممن عرفه، ولا يساويه في ذلك أحد من خلق اللَّه، ولا ينكر ذلك أحد، سواء كان عدوًّا أو غيره، ولا يمكن أن يتهمه خصم، فقد بُعِثَ - صلى الله عليه وسلم - وناصَبَهُ قومه العداء، ولكن لم يستطع واحد منهم أن يتهمه بصفة غير لائقة أو خلق يعيبه به، ولو عرفوا شيئاً من ذلك - وقد عاش بينهم أربعين عاماً - لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها عندما يحل الموسم، ويلتقي بالناس في الحج حتى يبعدوه عنهم فعجزوا عن ذلك، ووجدوا أن كلمة ((ساحر)) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه

حيث يفرق بدعوته إلى اللَّه بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والرجل وزوجته، واتهموه بالجنون؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة اللَّه وحده، ولم يستطيعوا أن يأتوا بأي خلق رذيل فينسبوه إليه - صلى الله عليه وسلم -، وعندما سألهم - صلى الله عليه وسلم - عن صدقه قالوا: ((ما جربنا عليك كذباً)) (¬1)، ولهذا لُقِّبَ بين قومه بـ ((محمد الأمين)) (¬2). فالصدق والأمانة من أولى الأخلاق وأحكم السلوك، التي يجب على الدعاة إلى اللَّه الاتصاف والتخلِّق بها، والصدق يكون في: القول، والنية، والعزم، والعمل. فالصدق في القول هو أشهر أنواع الصدق، ويكون بالإخبار، فإن نقل الداعية أو غيره من المسلمين خلاف الواقع وما هو عليه فهو كاذب ومفتر، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب حدثنا يوسف بن موسى، 8/ 737 (رقم 4971)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، 1/ 194، (رقم 208)، وتقدم تخريجه. (¬2) أحمد في المسند من حديث السائب بن عبد اللَّه - رضي الله عنه -، بإسناد حسن، 3/ 425، قال الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي: وله شاهد من حديث علي - رضي الله عنه - رواه الطيالسي بترتيب الشيخ عبد الرحمن البنا، 2/ 86. (¬3) سورة النحل، الآية: 105.

أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (¬1). والصدق في النية: الإخلاص في العمل لوجه اللَّه تعالى. والصدق في العزم على العمل؛ كأن يقول المسلم: لئن عافاني اللَّه لأتصدقنّ في سبيله بكذا، فإذا عوفي دخل الصدق بالوفاء فيما نذر به. وقد ذم اللَّه - عز وجل - عدم الصدق بالوفاء بالعهد: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} (¬2). والصدق في العمل: يكون بأن لا يختلف ظاهر الداعية المسلم عن باطنه (¬3)، فما أجمل وما أحسن، وما أحكم، وما أكرم من سار على هديه - صلى الله عليه وسلم - واتبع سلوكه الحكيم، وكل سلوكه حكيم - صلى الله عليه وسلم - وكيف لا يكون كذلك وهو الذي بعثه اللَّه رحمة للعالمين، متمماً لمكارم الأخلاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، 1/ 89، (رقم 33)، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 87، (رقم 59). (¬2) سورة التوبة، الآيات: 75 - 77. (¬3) انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، 1/ 33. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بلفظه، 10/ 192، وأحمد، 2/ 381، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/ 613، وانظر: صحيح الجامع الصغير، 3/ 8، برقم 2830، والأحاديث الصحيحة، 1/ 75، برقم 45.

المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم

وسُئلت عائشة - رضي الله عنه - عن خلقه، فقالت: ((فإن خلق نبي اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن)) (¬1). ولنا فيه خير أسوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2)، فحريٌّ بالداعية أن يلتزم سلوكه، وبذلك يكون حكيماً في دعوته، موافقاً للصواب بإذن اللَّه تعالى. المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم لقد جعل اللَّه - عز وجل - للسلوك الحكيم قواعد عظيمة، إذا التزمها الداعية إلى اللَّه - عز وجل - كان ذلك من أسباب توفيق اللَّه له، واكتسابه الحكمة، ومن أجمع الآيات في هذا الشأن، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬3). وهذه الآية من أعظم قواعد السلوك الحكيم وأصوله العظيمة، فهي جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء إلا دخل فيها، وهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة ¬

(¬1) مسلم، في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، 1/ 513، (رقم 746). (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬3) سورة النحل، الآية: 90.

على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي قربى، فهي مما أمر اللَّه به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر، أو بغي، فهي مما نهى اللَّه عنه. وبهذا يُعْلَم حسن ما أمر اللَّه به، وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وترد إليها سائر الأحوال (¬1). فهذه الأوامر والنواهي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وأنواع التكاليف التي رسمها اللَّه وحث عليها، لما فيها من إصلاح النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب (¬2)؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((أجمع آية في كتاب اللَّه للخير والشر الآية التي في النحل)): {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ... } الآية (¬3). والداعية المسلم من أولى الناس بتطبيق هذا السلوك الحكيم، فيكون عدلاً محسناً، واصلاً لأقربائه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، والبغي. والعدل: ضد الجور (¬4)، وهو إعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه (¬5) وأنواعه ثلاث: ¬

(¬1) انظر: تفسير السعدي، 4/ 233، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، 4/ 2189 - 2191، وتفسير المراغي، 14/ 130. (¬2) انظر: تفسير المراغي، 14/ 130. (¬3) أخرجه الإمام الطبري بسنده في تفسيره، 4/ 109. (¬4) انظر: القاموس المحيط، 1331. (¬5) انظر: المعجم الوسيط، 2/ 588.

(أ) العدل بين العبد وربه، وهو: إيثار حق اللَّه على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والامتثال للأوامر، والاجتناب للزواجر. (ب) العدل بين العبد وبين نفسه: منعها عما فيه هلاكها ودمارها، وإلزامها بتقوى اللَّه في السر والعلن. (ج) العدل بين العبد وبين الخلق: ببذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من النفس بكل وجه، ولا يكون من الداعية إلى أحد مساءة بقول أو فعل، والصبر على ما يحصل منهم من البلوى، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل ما عليه (¬1). والإحسان: مصدر أحسن يحسن إحساناً، وهو على معنيين (¬2): (أ) أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي: حسَّنته وكمَّلته، وهو منقول بالهمزة، من: حسن الشيء، وهذا المعنى يدل عليه حديث جبريل: ((الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬3). وهذا المعنى راجع إلى إحسان العبادة وتكميلها وتحسينها، ¬

(¬1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي، 3/ 1172، وأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 166، وفي ظلال القرآن، 4/ 2190. (¬2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 167، وتفسير السعدي، 4/ 232. (¬3) البخاري، في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (رقم 50)، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 37، (رقم 8).

والقيام بها كما يحب اللَّه - تعالى - على الوجه الأكمل، ومراقبة اللَّه فيها واستحضار عظمته وجلاله: حالة الشروع فيها، وحالة الاستمرار. (ب) والمعنى الثاني: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي: أوصلت إليه ما ينتفع به، وهذا إيصال المنافع بأنواعها إلى الخلق، ويدخل في ذلك حتى الإحسان إلى الحيوانات (¬1). ومن قواعد السلوك الحكيم التي تشتمل على عدة من أمهات الحكم العالية (¬2) قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ... الآيات، إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (¬3). فبين اللَّه - عز وجل - في هذه الوصايا الحكيمة قواعد السلوك الحكيم، وبدأه بقاعدة التوحيد؛ ليقيم على هذه القاعدة البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط؛ فإن جميع ما في الحياة لا يقوم بناؤه إلا بالتوحيد، وكل سلوك لا يقوم ولا يستند إلى توحيد اللَّه لا تقوم له قائمة، ولا يطلق ¬

(¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 167. (¬2) انظر: تفسير السعدي،4/ 279، وتفسير النسفي، 4/ 130، والرياض الناضرة للسعدي، ص87. (¬3) سورة الإسراء، الآيات: 22 - 23 - 39.

عليه سلوكاً حكيماً، بل سلوكاً جاهليًّا (¬1). وهذه الوصايا في سورة الإسراء من أعظم ما تكتسب به الحكمة، قال الإمام الشوكاني: ((وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً)) (¬2). فاشتملت هذه الوصايا على خمس وعشرين حكمة، الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط بها هو سبب خسران الدنيا والآخرة (¬3). ويختم اللَّه - عز وجل - الأوامر والنواهي في الوصايا كما بدأها بربطها باللَّه وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك، وبيان أن هذه المذكورات بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه اللَّه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا}، وهو ختام يشبه الابتداء، فتجيء محبوكة الطرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام الحياة، قاعدة: توحيد اللَّه وعبادته وحده دون ما سواه (¬4). وبهذا يُعلم أن من عمل بهذه القواعد، والتزم هذا السلوك الحكيم قد سلك أعظم طرق اكتساب الحكمة؛ لأن الحكمة معرفة الحق ¬

(¬1) انظر: في ظلال القرآن، 4/ 2209، 2220. (¬2) انظر: فتح القدير للشوكاني، 3/ 229. (¬3) انظر: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، 2/ 599. (¬4) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب، 4/ 2228.

المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة

والصواب والعمل به، ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة الحكماء الذين آتاهم اللَّه الحكمة يوصون باكتساب أصول الحكم التي من التزمها وعمل بها بإخلاص وصدق وفقه اللَّه لاكتساب الحكمة، ومن ذلك ما أخبر اللَّه به عن لقمان الحكيم ووصاياه الحكيمة التي آتاه اللَّه إياها، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ... الآيات إلى قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬2). هذه وصية حكيم لابنه، فهي نصيحة مبرأة من العيب، وصاحبها قد أوتي الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وهي تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية من وصايا هذا الحكيم لابنه يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى تركها ¬

(¬1) الوصايا العشر في سورة الأنعام، الآيات: 151 - 153. (¬2) سورة لقمان، الآيات: 12 - 13، 19.

إن كانت نهياً، وهذا يدل على أن الحكمة هي: العلم بالأحكام، وحكمها، ومناسباتها، ووضع الأشياء مواضعها. ومن فضل اللَّه على عباده ومنّته أن قص عليهم هذه الحكم حتى يعملوا بها ويكتسبوها بفضله تعالى، وهذا الحكيم أمر ابنه بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك باللَّه، وبين له الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكر اللَّه وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وأن لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك، وأمره بمراقبة اللَّه - عز وجل - وخوّفه القدوم عليه، وأنه تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها، فصور له عظمة علم اللَّه، ودقة شموله، وإحاطته تصويراً يرتعش له الوجدان البشري، وأوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ما أمره بتكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، حتى يحصل الكمال لغيره بعد كمال نفسه، ولما علم هذا الحكيم أنه لابد أن يُبتلى إذا أمر ونهى، وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس أمره بالصبر على ما يحصل له من المشقة والأذى؛ فإنه لابد وأن يواجه المتاعب التي يواجهها صاحب العقيدة الصحيحة، وبين له أن ذلك من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يقف لها إلا أهل العزائم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصبر يسهل اللَّه بذلك كل أمر عسير، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ

بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬1). ومع ذلك كله من الأمر بجميع الحكم السابقة لم يغفل هذا الحكيم عن وصية ابنه بالآداب السامية، فنهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك حتى لا يتطاول على الناس فيفسد بالقدوة ما يصلح الكلام. فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، وهذا السلوك الحكيم أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهوراً بها، وحقيق بمن التزم هذه الوصايا - بصدق وإخلاص ورغبة فيما عند اللَّه - أن يؤتيه اللَّه الحكمة، ويوفقه للصواب في القول والعمل (¬2). ومما يبين أن الإنسان يكتسب الحكمة بتوفيق اللَّه ثم بالتزامه للسلوك الحكيم - رغبة فيما عند اللَّه وطلباً لرضاه - ما ذُكِرَ من الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة بعد توفيق اللَّه له وتسديده، ومن ذلك: أنه وقف رجل على لقمان، فقال له: أنت لقمان، أنت عبد بني النحاس؟ قال: نعم، قال: فأنت راعي الغنم الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن أنت ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 45، وانظر أيضاً: سورة البقرة، الآية: 153. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 444، وفي ظلال القرآن، 5/ 2781، 2790، 2782، وتفسير السعدي، 6/ 159، 161.

المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص

صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما هو؟ قال لقمان: ((غَضِّي بصري، وكفِّي لساني، وعفَّة طعمتي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيَّرني كما ترى)) (¬1). وسأله آخر عن السبب الذي بلغ به الحكمة، فقال: ((قدر اللَّه، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني)) (¬2). وسأله آخر، فقال: ((صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني)) (¬3). وهذه الأخلاق الكريمة، والسلوك الحكيم يزخر بها كتاب اللَّه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليست من قول لقمان وحده، فاتضح بذلك أن الداعية إلى اللَّه وغيره من المسلمين إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون اللَّه تعالى. المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص العمل بالعلم بإخلاص، وصدق، ورغبة في رضى اللَّه - عز وجل - من أعظم المطالب التي تكتسب بها الحكمة بتوفيق اللَّه وتسديده وفضله وإحسانه. والعلم هو ما قام عليه الدليل، وهو النقل المصدق والبحث ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير، 2/ 224، وعزاه بسنده إلى ابن وهب. (¬2) البداية والنهاية، 2/ 224، وعزاه لابن أبي حاتم بسنده. (¬3) أخرجه ابن جرير بإسناده في تفسيره، 21/ 44، وانظر: البداية والنهاية، 2/ 124.

المحقق، والنافع منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -: علم الكتاب والسنة، والمطلوب من الإنسان هو فهم معانيهما، والعمل بما فيهما، فإن لم تكن هذه همة حافظ القرآن وطالب السنة لم يكن من أهل العلم والدين (¬1). ولهذا كانت الحكمة عند العرب هي العلم النافع والعمل الصالح (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: ((قال غير واحد من السلف: الحكمة معرفة الدين والعمل به)) (¬3). والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر اللَّه المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون، فقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬4). ومثل من يتعلم العلم ويزداد منه ولا يعمل به مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها، فضم إليها أخرى (¬5). والداعية لا يكون حكيماً في دعوته ما لم يعمل بعلمه، ولهذا ¬

(¬1) انظر: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 136، 6/ 338، 23/ 54. (¬2) المرجع السابق، 19/ 170، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 154. (¬3) درء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23، وانظر: تفسير الطبري، 1/ 87. (¬4) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬5) انظر: الزهد للإمام أحمد، ص85.

ينفر الناس عنه، وتزل موعظته من القلوب، كما يزل القطر من الصفا؛ لأن الكلام - في الغالب - إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان (¬1)، قال الشاعر: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم أراك تلقح بالرشاد عقولنا ... نصحاً وأنت من الرشاد عديم لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (¬2) والعمل بالعلم لابد فيه من الإخلاص، والإخلاص لابد أن يقصد به وجه اللَّه، ومحبته، ورضاه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه -: ((حُكيَ أن أبا حامد بلغه أن من أخلص للَّه أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يوماً، فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخْلِصْ للَّه)) (¬3). وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو ¬

(¬1) انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/ 8. (¬2) انظر: المرجع السابق، 1/ 196، ودرء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23. (¬3) درء تعارض العقل والنقل، 6/ 66.

غير ذلك من المطالب. وقد عرف أن ذلك لم يحصل بالإخلاص للَّه، وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص للَّه وإرادة وجهه كان متناقضاً؛ لأن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص؛ ليصير عالماً، أو عارفاً، أو ذا حكمة، أو متشرفاً بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات، ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد اللَّه، بل جعل اللَّه وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد اللَّه ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره (¬1). وقال ابن تيمية - رضي الله عنه -: ((وقد روي: إذا زهد العبد في الدنيا وكل اللَّه - سبحانه - بقلبه ملكاً يغرس فيه آثار الحكمة، كما يغرس أكار (¬2) أحدكم الفسيل في بستانه)) (¬3). أما من لم يعمل بالعلم، أو عمل به ولكنه لم يخلص في ذلك فهذا بعيد عن إيتاء الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً؛ ولهذا قال الشاعر: وكيف يصح أن تُدعى حكيماً ... وأنت لكل ما تهوى ركوب (¬4) ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل، 6/ 66، 67 بتصرف. (¬2) الأكار: الزراع. انظر: لسان العرب، حرف الراء، فصل الهمزة، مادة: أكر. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل، 8/ 518. (¬4) انظر: المرجع السابق، 9/ 22، 23.

المطلب الثالث: الاستقامة

المطلب الثالث: الاستقامة الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2)، وقال تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬3). وعن سفيان بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول اللَّه، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك! قال: ((قل: آمنت باللَّه، ثم استقم)) (¬4). والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى اللَّه: الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((سددوا وقاربوا، ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 30. (¬2) سورة الأحقاف، الآيتان: 13 - 14. (¬3) سورة هود، الآية: 112. (¬4) مسلم، في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، 1/ 65، (رقم 38).

واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللَّه برحمة منه وفضل)) (¬1). فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة وهي: السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحد على عمله، ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة اللَّه، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي اللَّه على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات. والداعية إلى اللَّه يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا - بإذن اللَّه تعالى - لا يُخيِّب اللَّه سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان (¬2). وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يقبل قول الداعية، ويقتدى بأفعاله، فيعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه ¬

(¬1) مسلم، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة اللَّه، 4/ 2170، (رقم 2816/ 76). (¬2) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 105، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 15/ 357.

وصدق نيته، ورغبته فيما عند اللَّه - عز وجل -، ويحصل على أحسن قول وعمل على الإطلاق، كما قال - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل للَّه وحده، والاعتزاز بالإسلام. وبهذا يُعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية لا أحد أحكم ولا أحسن قولاً منه في الدنيا أبداً: الشرط الأول: دعوته إلى اللَّه - تعالى - بأن يُعبد وحده، فَيُطاع فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. الشرط الثاني: عمل الداعية الصالحات بأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والقيام بالمستحبات، والابتعاد عن المكروهات، فهو مع دعوته الخلق إلى اللَّه يبادر هو بنفسه إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي. الشرط الثالث: اعتزاز الداعية بالإسلام وانقياده لأمره شكراً لربه؛ ولأنه على الحق الواضح المبين، فإذا قام الداعية بهذه الشروط ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 33.

المطلب الرابع: الخبرات والتجارب

الثلاثة، فلا أحد أحسن قولاً منه (¬1). ولكن قد يحصل للداعية ما يصده عن دعوته من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فبين اللَّه - عز وجل - أن المخرج من شياطين الإنس بالإحسان إليهم، ومعاملتهم باللين، والعفو عنهم، والإعراض عن جهلهم وإساءتهم. أما شياطين الجن فلا منجى منهم إلا بالاستعاذة منهم باللَّه وحده (¬2)، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3). ولاشك أن الداعية إذا سلك هذه المسالك الحكيمة اكتسب الحكمة بتوفيق اللَّه تعالى. المطلب الرابع: الخبرات والتجارب التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تُخرِج الحكمة عن ¬

(¬1) انظر: تفسير العلامة السعدي، 6/ 575، وتفسير الجزائري، 4/ 120. (¬2) انظر: أضواء البيان للشنقيطي، 2/ 341، 342، وتفسير السعدي، 6/ 527، وزاد المعاد، 2/ 462. (¬3) سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200، وانظر: سورة المؤمنون، الآيات: 96 - 98، وسورة فصلت، الآيات: 34 - 36.

كونها فضل اللَّه يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهاب {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬1)، ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً يوصل إليه. والتجربة في العلم اختبار منظم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجة ما، أو تحقيق غرض معين، وما يعمل أولاً لتلافي النقص في شيء وإصلاحه (¬2)، ويُقال: جربه تجربة: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُلِيَ ما كان عنده، ومجرب: عرف الأمور (¬3)، تقول: جربت الشيء تجريباًً: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب (¬4). وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: ((لا حكيم إلا ذو تجربة)) (¬5). ومن المعلوم أن الحكيم لابد له من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: ((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة)) (¬6). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 53. (¬2) المعجم الوسيط، مادة: جرب، 1/ 114. (¬3) القاموس المحيط، باب الباء، فصل الجيم، ص85. (¬4) المصباح المنير، مادة جرب، ص95. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، موقوفاً على معاوية مجزوماً به، 10/ 529. (¬6) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب، 4/ 379، (رقم 2033)، وقال: <هذا حديث حسن غريب>، وأحمد في المسند، 3/ 8، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (رقم 6283).

والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره. وقيل: لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة، وحصل منه الخطأ والتخجل، فعفي عنه فعرف به رتبة العفو، فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل (¬1)، والحكيم هو المتيقظ المتنبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها (¬2). والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنية على المران والتجارب، ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخاً في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم (¬3). وبهذا يعلم أن الداعية إلى اللَّه إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جربهم، فالتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجع الجبان، وتسخي البخيل، ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 10/ 530، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 182. (¬2) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، 6/ 424. (¬3) انظر: الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية للدكتور/ صبحي محمصاني، ص140.

وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمىً إلى عماه، فهو من الحمقى الذين قد طبع اللَّه على قلوبهم، فهم لا يفقهون (¬1). وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم اللَّه ورباهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث اللَّه من نبي إلا رعى الغنم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بعث اللَّه نبيّاً إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (¬2). وفي رواية: قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبي إلا وقد رعاها؟)) (¬3). والحكمة من ذلك - واللَّه أعلم - أن اللَّه - عز وجل - يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم ¬

(¬1) انظر: هكذا علمتني الحياة، القسم الأول، للدكتور مصطفى السباعي، ص47. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، 4/ 441، (رقم 2262). (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم، 6/ 438 (رقم 6406)، وكتاب الأطعمة، باب الكباث 9/ 575 (رقم 5453)، ومسلم في كتاب الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث، 3/ 1621، (رقم 2050)، وهو النضيج من ثمر الأراك، انظر: شرح النووي، 14/ 6.

الحلم والشفقة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)) (¬1)، ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياداً من غيرها (¬2). ثم بعد رعيهم الغنم جربوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم، ولهذا قال موسى - صلى الله عليه وسلم - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - عندما فرضت عليه الصلاة خمسون صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: ((إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني واللَّه ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، 8/ 98، (رقم 4388)، ومسلم في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، 1/ 71، (رقم 52). (¬2) انظر: فتح الباري، 4/ 441، وشرح النووي على مسلم، 14/ 6.

قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ... )) فما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجع ربه، ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمس صلوات كل يوم (¬1). فموسى - صلى الله عليه وسلم - قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أضعف من بني إسرائيل أجساداً، وأقل منهم قوةً، والعادة أن ما يعجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى (¬2). فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى اللَّه، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدع مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين)) (¬3)، وقال: ((كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، 7/ 202، (رقم 3887). (¬2) انظر: حاشية السندي على سنن النسائي، 1/ 220، وفتح الباري، 1/ 463. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، 10/ 529، (رقم 6133)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، 4/ 2295، (رقم 2998). (¬4) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا هناد 4/ 659 (رقم 2499)، وابن ماجه في الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1420، (رقم 4251)، والدارمي في الرقائق، باب التوبة 2/ 213، (رقم 2730)، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 305.

وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلابد له - لإصلاح المتدينين وتوجيههم - أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسياسيين، ويتعرف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كره نفس واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى اللَّه، ويحرم الناس من علمه (¬1)، وهذا يؤهله إلى أن يُحدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدثهم حديثاً لا تبلغه عقولهم، قال علي - رضي الله عنه -: ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ اللَّه ورسوله)) (¬2). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما أنت بِمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص41، والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، لعبد الرحمن السعدي، ص88. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/ 225.

المطلب الخامس: السياسة الحكيمة

عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (¬1). وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يمكنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2). المطلب الخامس: السياسة الحكيمة إذا سلك الداعية إلى اللَّه مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته واكتسابه الحكمة، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن اللَّه تعالى. والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أُسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى اللَّه، وقد سلك هذا المسلك، فنفع به العباد، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد، وكان لسياسته الحكيمة عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يعرف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلاً من الساسة المصلحين في أي أمة من الأمم كان له مثل هذا الأثر العظيم، ومَن مِن المصلحين المبرزين - سواء كان قائداً محنكاً، أو مربياً حكيماً - اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة، ما اجتمع في رسول اللَّه ¬

(¬1) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، 1/ 11، (رقم 5). (¬2) سورة النحل، الآية: 125.

* طرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -

- صلى الله عليه وسلم -؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه: صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه، - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص، وصدق وعزيمة، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى اللَّه مكتسباً عظيماً. وطرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى اللَّه - عز وجل - كثيرة، منها ما يأتي: 1 - تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين حتى لا يملوا عن الاستماع، ويفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)) (¬2). ولهذا طبق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد اللَّه بن مسعود يذكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها ¬

(¬1) انظر: هداية المرشدين، للشيخ علي بن محفوظ، ص24 و31. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، 1/ 162، (رقم 68)، وباب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، 1/ 163، (رقم 70)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب الاقتصاد في الموعظة، (رقم 2821).

2 - ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم،

مخافة السآمة علينا (¬1). وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تُنَفِّروا)) (¬2). 2 - ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم، اتقاءً للفتنة، فقد يجد الداعية قوماً استقر مجتمعهم وعاداتهم على أشياء لا تخالف الشريعة؛ ولكن فعل غيرها أفضل، فإذا علم الداعية أنه سيحصل فتنة إذا دعا إلى ترك هذا الأمر أو فعله فلا حرج ألا يدعو، فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - اجتناباً لفتنة قوم كانوا حديثي عهد بجاهلية، فعن عائشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقيّاً، وباباً غربيّاً، فبلغت به أساس إبراهيم)) (¬3). وفي رواية: ((إن قومك قصرت بهم النفقة))، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: ((فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا، ويمنعوا من ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، 1/ 163، (رقم 70). (¬2) البخاري مع الفتح، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة، 1/ 162، (رقم 69)، ومسلم، كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، 3/ 1358، (رقم 1734). (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، 3/ 439، (رقم 1586)، ومسلم، في الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 2/ 969، (رقم 1333).

3 - تأليف القلوب بالمال والجاه

شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض)) (¬1). وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها - صلى الله عليه وسلم - لدفع هذه المفسدة (¬2). 3 - تأليف القلوب بالمال والجاه أحياناً، فالداعية كالطبيب الذي يُشخِّص المرض أولاً، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو لم يرسخ الإيمان في قلبه رسوخاً لا تزلزله الفتن، فله أن يعطيه من المال ما يستطيعه، للاحتفاظ بالبقاء على الهداية بالإسلام، وقد شرع اللَّه للمؤلَّفة قلوبهم نصيباً من الزكاة، وقد كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسلك هذا المسلك، فيؤثر حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال، إذا ظهر له أن الإيمان لم يرسخ؛ ولذلك أشار بقوله: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، 3/ 439، (رقم 1584)، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة، 2/ 972، (رقم 1333). (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم، 9/ 89.

أن يُكبّ في النار على وجهه)) (¬1). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعطي أشراف قريش وغيرهم من المؤلَّفة قلوبهم، لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البيِّنات، والبراهين الواضحة (¬2). وصدق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((تهادوا تحابوا)) (¬3). وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه - صلى الله عليه وسلم - (¬4). والتأليف بالجاه من السياسة الحكيمة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: ((أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فواللَّه لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به))، فقالوا: بلى يا رسول اللَّه قد رضينا (¬5). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح بنحوه، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، 1/ 79، (رقم 27)، ومسلم في الإيمان، باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه، 1/ 132، (رقم 150). (¬2) انظر: هداية المرشدين، ص35. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 6/ 169، والبخاري في الأدب المُفْرَد، ص208، برقم 594، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: إسناده حسن، 3/ 70، وانظر: إرواء الغليل برقم، 1601. (¬4) انظر: صحيح مسلم، 4/ 1803 - 1806، وانظر أيضاً: البخاري مع الفتح، 3/ 135، 6/ 250، 11/ 258. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم، 6/ 251، (رقم 3146)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه، 2/ 734، 735، (رقم 1059/ 132).

4 - التأليف بالعفو في موضع الانتقام،

وفي رواية: ((لو سلك الناس وادياً أو شعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار)) (¬1). فإذا سلك الداعية هذه السياسة وُفِّق للصواب والحكمة - بإذن اللَّه تعالى -. 4 - التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت. وهذا من أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته. وقد مدح اللَّه رسوله، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬2)، {لَقَدْ ¬

(¬1) مسلم، في كتاب الزكاة، الباب السابق، 2/ 735، (رقم 1059/ 134). (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159.

5 - عدم مواجهة الداعية أحدا بعينه

جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1). 5 - عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره، مادام يجد في الموعظة العامة كفاية، وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا))، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض (¬2). وفقد - صلى الله عليه وسلم - ناساً في بعض الصلوات، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ [يتخلفون عنها] فأحرق عليهم بيوتهم)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 128. (¬2) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد، 1/ 389، (رقم 550). (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125، (رقم 644)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، 1/ 451، (رقم 651)، وما بين المعقوفين من رواية مسلم.

الصلاة))، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم)) (¬1). وصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب، فحمد اللَّه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزهون عن شيءٍ أصنعه، فواللَّه إني لأعلمهم باللَّه وأشدّهم له خشية)) (¬2). وقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (¬3). وبلغه شرط أهل بريرة - رضي الله عنه - أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: ((ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللَّه، من اشترط شرطاً ليس في كتاب اللَّه فليس له، وإن شرط مائة مرة، شرط اللَّه أحق وأوثق)) (¬4). وهذا يدل الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، 2/ 233، (رقم 750). (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، 10/ 513، (رقم 6101)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب علمه - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وشدة خشيته، 4/ 1829، (رقم 2356). (¬3) مسلم، في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، 2/ 1020، (رقم 1401). (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، 5/ 187، (رقم 2561)، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1142، (رقم 1504).

6 - إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه،

بالعتاب ستراً عليهم ورفقاً بهم، وتلطفاً. والداعية يستطيع أن يوجه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعو المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب (¬1). 6 - إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) (¬2). فقد صور - صلى الله عليه وسلم - الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جهز غازياً فقد غزا)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) قيل: يا رسول اللَّه: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه)) (¬4). وهذا أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم (¬5)، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 10/ 513. (¬2) مسلم، في كتاب الأمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه، 3/ 1506، (رقم 1893). (¬3) مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه، 3/ 1507، (رقم 1895). (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403، (رقم 5973)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، (رقم 90). (¬5) انظر: فتح الباري 10/ 404.

7 - أن يجيب الداعية على السؤال الخاص

بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1)، فقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يسب أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه؛ لأنه تسبب في سبهما. 7 - أن يجيب الداعية على السؤال الخاص بما يتناوله وغيره حتى يكون ما أجاب به قاعدة عامة للسائل وغيره، قال عمرو بن العاص: لما جعل اللَّه الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا؟)) قلت: أن يُغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله .. )) (¬2). فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجًّا مبروراً، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غُفِرَ لك، أو نحوها (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن ماء البحر: ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)) (¬4). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 108. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، 1/ 112، (رقم 121). (¬3) انظر: شرح النووي على مسلم، 2/ 138، وانظر: هداية المرشدين، ص32. (¬4) أبو داود، في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 21، (رقم 83)، والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1/ 101، (رقم 69)، والنسائي في الطهارة، باب ماء البحر، 1/ 50، (رقم 176)، وابن ماجه في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 136، (رقم 386)، وانظر: صحيح النسائي، 1/ 14.

8 - ضرب الأمثال،

فأجاب - صلى الله عليه وسلم - السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حل ميتة البحر، فعندما عرف - صلى الله عليه وسلم - اشتباه الأمرِ على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يُبْتَلَى بها راكب البحر، فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه تتميماً للفائدة، وإفادة لعلمٍ غير المسئول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى حكم كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً (¬1). 8 - ضرب الأمثال، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)) (¬2). وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف بالجسد في روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء، فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر ¬

(¬1) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام، للشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، 1/ 18. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 565، (رقم 481)، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 4/ 1999، (رقم 2585).

المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى

والحمى)) (¬1). ومثلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي قبل هذا في التعاون على البر والتقوى والتكاتف بالبنيان يشد بعضهم بعضاً كشد البنيان (¬2). ومن المعلوم يقيناً أن الداعية إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون اللَّه - تعالى - ووفق لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، وسدد في قوله وفعله بتوفيق اللَّه سبحانه. المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى لا يكون الداعية حكيماً في دعوته إلى اللَّه - تعالى - إلا بفقه وإتقان ركائز الدعوة وأسسها التي تقوم عليها، حتى يسير في دعوته على بصيرة، ولاشك أن فهم هذه الأركان يدخل في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، فلابد من معرفة الداعية لما يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوفر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟ هذه هي أركان الدعوة: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438، (رقم 6011)، ومسلم في البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 4/ 1999، (رقم 2586). (¬2) انظر: فتح الباري، 10/ 450، وشرح النووي، 16/ 139. (¬3) سورة يوسف، الآية: 108.

المسلك الأول: موضوع الدعوة

الموضوع، والداعي، والمدعو، والأساليب والوسائل. المسلك الأول: موضوع الدعوة ((ما يدعو إليه الداعية)): موضوع الدعوة: هو دين الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} (¬1). {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2). وهذا ما فَصَّله حديث جبريل في ذكر أركان الإسلام: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً رسول اللَّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). وأركان الإيمان: ((أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). والإحسان: ((أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬3). ولاشك أن الإسلام اختص بخصائص عظيمة منها: 1 - الإسلام من عند اللَّه تعالى: 2 - شامل لجميع نظم الحياة وسلوك الإنسان، ومن هذه النظم: ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬3) البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، (رقم 50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 39، (رقم 9).

نظام الأخلاق، ونظام المجتمع، والإفتاء، والحسبة، والحكم، والاقتصاد، والجهاد، ونظام الجريمة والعقاب، وذلك كله قائم على الرحمة، والعدل، والإحسان. 3 - عام لجميع البشرية في كل زمان ومكان: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1). 4 - وهو من حيث الجزاء: - الثواب والعقاب الذي يصيب مُتَّبِعَهُ أو مخالفه - ذو جزاء أُخرويّ بالإضافة إلى جزائه الدنيوي إلا ما خصه الدليل. 5 - والإسلام يحرص على إبلاغ الناس أعلى مستوى ممكن من الكمال الإنساني: وهذه مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعية الإسلام. 6 - الإسلام وسط: في عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأنظمته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬2). كما يلزم الداعية فهم مقاصد الإسلام التي دلت عليها الشريعة الإسلامية: وهي تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه -: (إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها) (¬1). وبالجملة فإن الشريعة الإسلامية مدارها على ثلاث مصالح: المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال. المصلحة الثانية: جلب المصالح: فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسد كل ذريعة تؤدي إلى الضرر. المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن حل جميع المشاكل العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها (¬2). فالداعية الحكيم هو الذي يدعو إلى ما تقدم من أركان الإسلام، وأصول الإيمان، والإحسان، ويبين للناس جميع ما جاء في القرآن والسنة: من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، بالتفصيل والشرح والتوضيح (¬3). ¬

(¬1) انظر: منهاج السنة النبوية، 1/ 147. (¬2) انظر: أضواء البيان للشنقيطي، 3/ 409 - 457. (¬3) انظر: فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز - رضي الله عنه -، 1/ 342، وأصول الدعوة، لعبد الكريم زيدان، ص7 - 293، والدعوة إلى اللَّه، للدكتور توفيق الواعي، ص81.

المسلك الثاني: الداعي:

المسلك الثاني: الداعي: لابُدّ للداعية من معرفة هذا الأصل بشروطه، وما هي عدة الداعية وسلاحه، وما هي وظيفته، وأخلاقه. وفهم ذلك من أهم المهمات للداعية. وإليك التفصيل بإيجاز: 1 - وظيفة الداعية: وظيفة الداعية إلى اللَّه - تعالى - هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل هم قدوة الدعاة إلى اللَّه، وأعظمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (¬1). {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} (¬2). وقال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3). وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} (¬4). والأمة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى اللَّه، فالآيات التي تأمره - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى اللَّه يدخل فيها المسلمون جميعاً؛ لأن الأصل ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 45 - 46. (¬2) سورة الحج، الآية: 67. (¬3) سورة القصص، الآية: 87. (¬4) سورة الرعد، الآية: 36.

في خطاب اللَّه تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - دخول أمته فيه إلا ما استُثْني، وليس من هذا المستثنى أمر اللَّه تعالى بالدعوة إليه. قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1).وقد جعل اللَّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أوصاف المؤمنين، كما قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (¬2). وبهذا يتضح أن المكلف بالدعوة إلى اللَّه هو كل مسلم ومسلمة على قدر الطاقة، وعلى قدر العلم، ولا يختص العلماء بأصل هذا الواجب؛ لأنه واجب على الجميع كل بحسبه، وإنما يختص أهل العلم بتبليغ تفاصيل الإسلام، وأحكامه، ومعانيه الدقيقة، ومسائل الاجتهاد، نظراً لسعة علمهم، ومعرفتهم بالمسائل، والجزئيات، والأصول، والفروع. ومما يزيد الأمر وضوحاً قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3). فبين سبحانه أن أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم الدعاة إلى اللَّه، وهم أهل البصائر، كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى اللَّه على ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬2) سورة التوبة: الآية: 71. (¬3) سورة يوسف، الآية: 108.

2 - عدة الداعية وسلاحه:

بصيرة وعلم ويقين. (¬1) والدعوة إلى اللَّه واجبة على كل مسلم ومسلمة كلٌّ بحسبه، وهي تؤدى على صورتين: الصورة الأولى: فردية، يقوم بها المسلم على صفة فردية بحسب طاقته، وقدرته، وعلمه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬2). الصورة الثانية: بصفة جماعية، فتكون فرقة متصدية لهذا الشأن، كما قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). 2 - عدة الداعية وسلاحه: يحتاج الداعية إلى اللَّه - تعالى - في أداء مهمته ووظيفته إلى عُدة وسلاح قوي، منها: 1 - الفهم الدقيق المبني على العلم قبل العمل، والقائم على تدبر معاني وأحكام القرآن الكريم، وفهم السنة النبوية الشريفة، ويرتكز هذا الفهم على عدة أمور من أهمها: ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان ص295 - 356. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان 1/ 69 (رقم 49). (¬3) سورة آل عمران، الآية: 104.

3 - أخلاق الداعية وصفاته:

أ- فهم الداعية العقيدة الإسلامية فهماً صحيحاً متقناً بالأدلة من الكتاب، والسنة، وإجماع علماء أهل السنة والجماعة. ب- فهم الداعية غايته في الحياة ومركزه بين البشر. ج- تعلقه بالآخرة، وتجافيه عن دار الغرور. 2 - الإيمان العميق المثمر: لمحبة اللَّه، وخوفه، ورجائه، واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل أموره. 3 - اتصال الداعية باللَّه - تعالى - في جميع أموره، وتعلقه به، وتوكله عليه، واستغاثته به، وإخلاصه له، والصدق معه في الأقوال والأفعال. 3 - أخلاق الداعية وصفاته: يحتاج الداعية إلى الأخلاق الحسنة والصفات الكريمة: وهي أخلاق الإسلام التي بينها اللَّه في كتابه وبينها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته. ومن أهم هذه الأخلاق والصفات التي ينبغي للداعية أن يلتزمها: الصدق، والإخلاص، والدعوة إلى اللَّه على بصيرة، والحلم، والرفق، واللين، والصبر، والرحمة، والعفو، والصفح، والتواضع، والوفاء، والإيثار، والشجاعة، والذكاء، والأمانة، والحياء المحمود، والكرم، والتقوى، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والتفاؤل، والنظام والدقة والمحافظة على الوقت، والاعتزاز بالإسلام، والعمل بما يدعو إليه؛ ليكون قدوةً صالحةً، والزهد،

والورع، والاستقامة، وإدراك الداعية لما حوله، والقصد والاعتدال، والشعور بمعية اللَّه، والثقة باللَّه تعالى، والتدرج في الدعوة، والبدء بالأهم فالمهم، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بذلك معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن. كما ينبغي للداعية أن يبتعد عن كل ما يضاد هذه الأخلاق من الأخلاق القبيحة. ومن الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، معرفة القواعد، والضوابط التي يجب مراعاتها والسير على ضوئها، حتى يكون الداعية مسدداً في دعوته. ومن ذلك: قول سفيان الثوري (¬1): <لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به، عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به، عالم بما ينهى عنه> (¬2). وقال الإمام محمد المقدسي: قال بعض السلف: <لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه> (¬3). ¬

(¬1) هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ المجتهد: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ولد سنة 97هـ، ومات سنة 161هـ، انظر: سير أعلام النبلاء، 7/ 229 - 279. (¬2) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر الخلال، ص50. (¬3) مختصر منهاج القاصدين، ص129، ونسب هذا القول إلى بعض السلف ابن تيمية أيضاً في الحسبة في الإسلام، ص84.

المسلك الثالث: المدعو:

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه -: <فلابد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لابد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال> (¬1). وقال ابن القيم - رضي الله عنه -: <فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأُولَيان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة> (¬2). فإذا طبق الداعية ما تقدم من الصفات والأخلاق والقواعد والضوابط كان من أعظم الناس حكمة - بإذن اللَّه تعالى -. المسلك الثالث: المدعو: ينبغي للداعية أن يعلم أن الدعوة إلى الإسلام عامة لجميع البشر، بل للجن والإنس جميعاً، في كل زمان ومكان إلى قيام ¬

(¬1) الحسبة في الإسلام، ص84. (¬2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم - رضي الله عنه -، 3/ 16.

الساعة، وليست خاصة بجنس دون جنس، أو طبقة دون طبقة، أو فئة دون فئة، أو زمان دون زمان، أو مكان دون مكان. ومن حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى، ولا يجلس الداعي في بيته وينتظر مجيء الناس إليه، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي الناس ويدعوهم، ويخرج إلى القبائل في المواسم، ويذهب إلى مقابلة وملاقاة الوفود ومن يقدم. ولا يجوز للداعية أن يستصغر شأن أي إنسان أو أن يستهين به؛ لأن من حق كل إنسان أن يُدعى. وإذا كان من حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى ولا يستهان به، ولا يستصغر من شأنه فعليه أن يستجيب. وينبغي للداعية أن يعلم أن المدعوين أصناف وأقسام: فمنهم الملحد، ومنهم المشرك الوثني، ومنهم اليهودي، ومنهم النصراني، ومنهم المنافق، ومنهم المسلم الذي يحتاج إلى التربية والتعليم، ومنهم المسلم العاصي. ثم هم أيضاً يختلفون في قدراتهم العقلية، والعلمية، والصحية، ومراكزهم الاجتماعية: فهذا مثقف، وهذا أمّيٌ، وهذا رئيس، وهذا مرؤوس، وهذا غني، وهذا فقير، وهذا صحيح، وهذا مريض، وهذا عربي، وهذا أعجمي ... فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الحاذق الحكيم الذي يشخص المرض، ويعرف الداء ويحدده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو

المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:

يقطع شيئاً من أعضائه من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض (¬1). والداعية ينبغي له أن يبدأ مع المدعوِّين بخطوات محسوسة (¬2)، منها ما يأتي: 1 - يبدأ بنفسه فيصلحها حتى يكون القدوة الصالحة. 2 - ثم يمضي إلى تكوين بيته وإصلاح أسرته، ليُكوِّن البيت المسلم، واللبنة المؤمنة. 3 - ثم يتوجه إلى المجتمع وينشر دعوة الخير فيه، ويحارب الرذائل والمنكرات بالحكمة، ويشجع الفضائل ومكارم الأخلاق. 4 - ثم دعوة غير المسلمين إلى منهج الحق وإلى شريعة الإسلام {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّهِ} (¬3). المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها: الداعية يحتاج إلى فهم أساليب الدعوة ووسائل تبليغها، حتى يكون على قدر من الكفاءة لتبليغ الدعوة إلى اللَّه تعالى بإحكام وإتقان وبصيرة، وذلك كالآتي: ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص365 - 394. (¬2) وقد أوضحت كيفية دعوة المدعوين على اختلاف أصنافهم في الفصل الثالث والفصل الرابع من كتاب الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، ص333، و315. (¬3) انظر: الدعوة إلى الله، للدكتور توفيق الواعي، ص84.

أولا: أساليب الدعوة:

أولاً: أساليب الدعوة: الأسلوب: الطريق والفن. يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم. ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوعة (¬1). وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ، وإزالة العوائق عنه. والمصادر الأساسية التي يستمد الداعية ويتعلم أساليب دعوته الحكيمة منها هي: كتاب اللَّه - تعالى -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة السلف الصالح: من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان من أهل العلم والإيمان. وتقوم أساليب الدعوة الحكيمة الناجحة المؤثرة على الأساليب الآتية: 1 - تشخيص وتحديد الداء في المدعوين، ومعرفة الدواء: فإن طبيب الأبدان الحاذق الحكيم يشخص ويعرف الداء أولاً، ثم يصف ويُعيِّن العلاج ثانياً على حسب الداء. والداعية إلى اللَّه - تعالى - هو طبيب الأرواح والقلوب فعليه أن يسلك هذا الأسلوب في معالجة الأرواح. والداء عند الناس قد يكون كفراً، وقد يكون ¬

(¬1) انظر: القاموس المحيط، فصل السين، باب الباء، ص125، والمصباح المنير، مادة >سلب<، 1/ 248، والمعجم الوسيط، مادة >سلب<، 1/ 441.

معصية، فعلى الداعية أن يعطي الدواء على حسب الداء؛ فإن دواء الكفر الإيمان باللَّه، وبما جاء عنه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ودواء المعاصي كبائرها وصغائرها التوبة إلى اللَّه - تعالى - والإقبال إليه، والإكثار من الطاعات المكفِّرة للسيئات، وهكذا لكل داء دواء. 2 - إزالة الشبهات التي تمنع المدعوين من رؤية الداء والإحساس به: ولاشك أن الشبهات: هي ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعية وحقيقة ما يدعو إليه، فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابة له، أو تأخير هذه الاستجابة. 3 - ترغيب المدعوين وتشويقهم: إلى استعمال الدواء، والاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه. وترهيبهم من ترك الدواء بكل ما يخوف ويحذر من عدم الاستجابة، أو عدم الثبات على الحق بعد قبوله. 4 - تعهد المستجيبين من المدعوين: بالتربية والتعليم، والتوجيه؛ لتحصل لهم المناعة ضد دائهم القديم. ومن أعظم وسائل التربية المؤثرة: الاتصال بكتاب اللَّه - تعالى - تلاوةً، وتدبراً، وفهماً، والاتصال الدائم بالسنة النبوية، وسيرة السلف الصحابة - رضي الله عنهم -. فعلى الداعية أن يعين المستجيبين على هذه الأمور العظيمة. 5 - تقوم جميع الأساليب على: أسلوب الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ثم استخدام القوة للمعاندين

ثانيا: وسائل تبليغ الدعوة إلى الله تعالى:

الظالمين. ثانياً: وسائل تبليغ الدعوة إلى اللَّه تعالى: الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء (¬1)، ووسائل الدعوة هي: ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة من أشياء وأمور. ولاشك أن وسائل الدعوة على نوعين: النوع الأول: وسائل خارجية تتعلق باتخاذ الأسباب لتهيئة المجال المناسب. ومنها على سبيل المثال ما يأتي: أ- الحذر المبني على التوكل على اللَّه - تعالى - مع الأخذ بالأسباب. ومعلوم أن الحذر أنواع من جهة ما يحذره الداعي المسلم، فهناك: حذره من الوقوع في المعاصي، والحذر من الأهل والولد، والحذر من اتباع الهوى، والحذر من المنافقين والكفار. ب- الاستعانة بعد اللَّه - تعالى - بالغير في تبليغ الدعوة، فالداعية يحرص على إيصال الدعوة إلى الناس؛ فيستعين بكل وسيلة مشروعة لتحقيق ما يحرص عليه. ج- المحافظة على النظام المشروع: كحفظ الداعية تنظيم وقته وعدم إضاعته، وإذا كان الدعاة جماعة فعليهم أن يراعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام، حتى تثمر جهودهم ولا تضيع؛ فإن ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع السين، 5/ 185.

أ- التبليغ بالقول:

القليل من العمل بنظام والدوام عليه خير من الكثير مع الفوضى والانقطاع. النوع الثاني: وسائل تبليغ الدعوة بصورة مباشرة. وهذه الوسائل تكون: بالقول، وبالعمل، وبسيرة الداعية التي تجعله قدوة حسنة لغيره، فتجذبهم إلى الإسلام. ومن هذه الوسائل ما يأتي: أ- التبليغ بالقول: القول في مجال التبليغ أنواع متعددة منها: الخطبة، والدرس، والمحاضرة، والندوة، والمناقشة والجدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الوعظية، والدعوة الفردية، والنصيحة الأخوية، والفتوى الشرعية، والكتابة: كالرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة. والداعية يستعين في تبليغ دعوته بجميع الوسائل المختلفة، المشروعة، المفيدة، وقد تكون بعض الوسائل نافعة في زمن دون زمن، وفي مجتمع دون آخر، والداعية الحكيم هو الذي يختار الوسائل المناسبة لكل عصر ومصر. ووسيلة التبليغ بالقول تُبلَّغ عن طريق الوسائل الآتية: 1 - اللقاءات العامة: كإقامة المحاضرات، والندوات، والمناقشات، والدروس في المساجد، والجامعات، والمعاهد، والمدارس، والمؤتمرات، وفي المناسبات التي يحضرها الناس بصورة

جماعية كبيرة. 2 - اللقاءات الخاصة: كالدروس الخاصة بطلاب العلم، ولا يمنع حضور غيرهم. 3 - الدعوة الفردية: بالنصيحة الأخوية، والهدية الرمزية. 4 - الكتابة: الرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة. 5 - وسائل الإعلام الحديثة: المسموعة، والمرئية، والمقروءة، والشخصية. 6 - الوسائل الشخصية كالمسجلات، وشرائط التسجيل، والهاتف ... فينبغي للداعية الحكيم أن يستغل هذه الوسائل ويشغلها بالحق؛ لأنه بذلك يخاطب ملايين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وعن طريقها تصل الدعوة إلى أقطار بعيدة وتعمّ أماكن كثيرة. وينبغي أن يكون قول الداعية واضحاً بيِّناً، خالياً من الألفاظ التي تحمل حقّاً وباطلاً وخطأً وصواباً، وأن يستعمل الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسنة وعند علماء المسلمين. كما ينبغي للداعية أن يتأنَّى في كلامه حتى يستوعب السامع كلامه ويفهمه، وأن يبتعد عن التفاصح والتعاظم، والتكلف في النطق، ويبتعد عن روح الاستعلاء على المدعو واحتقاره وإظهار فضله عليه، وأن يتلطَّف بالقول للمدعوين، ويكون موضع الثقة بين

ب- التبليغ بالعمل:

الناس (¬1). ب- التبليغ بالعمل: والتبليغ بالعمل هو كل فعل يؤدي إلى إزالة المنكر ونصرة الحق وإظهاره، والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬2)، والتبليغ بالعمل كما يكون بإزالة المنكر يكون بإقامة المعروف: كبناء المساجد، وبناء الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية، وإقامة المكتبات فيها وتزويدها بالكتب النافعة، وبناء المستشفيات الإسلامية، ودور الرعاية الاجتماعية، وطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها، واختيار الرجل الصالح للعمل في هذه المجالات وفي المجالات المهمة. هذا - كله - في الحقيقة دعوة صامتة إلى اللَّه تعالى. ج- التبليغ بالسيرة الحسنة: من وسائل التبليغ المهمة في تبليغ الدعوة إلى اللَّه وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة والتزامه بالإسلام ظاهراً وباطناً، مما يجعله قدوةً طيبةً وأُسوةً حسنةً لغيره؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص453 و454، والدعوة إلى الله تعالى للدكتور/ توفيق الواعي، ص262 و264. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 69، (رقم 49).

من التأثير بالكلام وحده. وأصول السيرة الحسنة التي يكون بها الداعية قدوةً طيبةً لغيره ترجع إلى أصلين عظيمين: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول. * فحسن الخلق كلمة يندرج تحتها كثير من الصفات: كالتواضع، والوفاء بالعهد، والأمانة، وقوة العزيمة، والشجاعة، والصبر، والشكر، والحلم، والرفق، والتقوى، والحياء، والعفو والصفح، والجود والكرم، والصدق والعدل، وحفظ اللسان، والرحمة. * وموافقة القول للعمل هي أن يكون فعل الداعية موافقاً للطريق المستقيم، وسيرته تطبيقاً عمليّاً لقوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، فإن أمر بشيء التزمه، وإن نهى عن شيء كان أول تاركٍ له؛ ليفيد وعظه، وينفع إرشاده ويثمر، ويُقتدى به، فإن كان يأمر بالخير ولا يفعله وينهى عن الشر وهو واقع فيه فهو بحاله هذه عقبة في سبيل الدعوة إلى اللَّه تعالى (¬1). وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) انظر: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها بالتفصيل في: أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان، ص395 - 469، والدعوة إلى الله لتوفيق الواعي، ص241 - 372.

§1/1