مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر

مساعد الطيار

كتاب مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر جميع الحقوق محفوظة 1423هـ - 2002م مَفْهُومُ التَّفْسيرِ وَالتَّأويلِ والاسْتِنْبَاطِ والتَّدبُّرِ والمُفسِّرِ د. مُساعِدُ بن سُلَيْمَان بن نَاصِر الطَّيَّار الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض دار ابن الجوزي بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

المقدّمة الحمد لله مُتِمِّ النِّعمِ على عباده، يعيدُ فضلَه عليهم كما يبديه لهم، وينشر لهم رحمته، ويُيسِّر لهم عبادته. والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله الطاهرين، وعلى صحبِه الكرام، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فلقد كنتُ أحجمُ عن تحريرِ بعضِ المصطلحاتِ خوفَ الوقوعِ في مشكلةِ تفلسفٍ لا معنى لها، وكنت قد تتبعت بعض المصطلحات، فرأيت فيها خللاً من جهة التعريفِ، أو خللاً من جهة النتائج؛ كمصطلحِ التَّفسيرِ، ومصطلح التفسير الموضوعي، ومصطلح الإعجاز العلمي (¬1)، وغيرها. ¬

(¬1) لقد كتبت في هذا الموضوع رسالة أرجو أن ييسِّر الله أمرها، وقد كنت أتحاشى الكتابة في هذا الموضوع لما فيه من كثرة المطروح، وبعد أن قرأت في بعض هذه الكتب التي تتحدث عن الإعجاز العلمي، ظهر لي أنَّ الأمر يحتاج إلى إيضاح لهذا الموضوع، وضبطٍ لما يُفسَّر به القرآن من هذه القضايا التي أنتجها البحث التجريبي المعاصر، وظهر لي أنَّ في تسميته بهذا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الاسم خللاً، وأنَّه يصدق عليه أن يكون «دلائل صدق القرآن»، وليس الإعجاز، كما أنَّ في نسبته إلى «العلمي» خللاً آخر؛ لأنه يُفهم منه أنَّ التفسيرات غيره ليست علميَّة، مع ملاحظة أنَّ هذه التسمية فيها آثار التغريب الذي يجعل العلوم الدنيوية توسم بالعلم، وغيرها من العلوم الأدبية والاجتماعية والشرعية على وجه الخصوص لا توسم بذلك، والموضوع ذو شجون، وإنما أشرت إليه هنا لأخلص إلى سؤالين طُرحا عليَّ بشأن مسألتين متعلقتين بما يُسمَّى الإعجاز: السؤال الأول: فيما ظهر لبعض الناس من توافق عددي بين ما حصل من الحدث العظيم الذي عاقب الله به الكفار في (11:9:2001)، مع آية في سورة التوبة، فقد ظهر لذلك القارئ أنَّ الآية العاشرة بعد المائة (110) تشير إلى أحد البرجين الذي تتكون طوابقه من هذا العدد، وأنَّ عدد السورة في ترتيب المصحف هي التاسعة تشير إلى الشهر الميلادي، وأنَّ الجزء الذي فيه هذه الآية هو الحادي عشر تشير إلى اليوم الذي وقع فيه هذا الحدث، فزعم أنَّ هذا من إعجاز القرآن؛ لأنه ـ بزعمه ـ أشار إلى هذا الحدث المستقبلي!. ولا أدري لِمَ لَمْ ينظر إلى العدِّ بالحساب القمري، ولا ذكر البرج الثاني الذي لا يتوافق مع العدد الذي ظهر له؟!. وهذا بلا شكٍّ موافقة غير مقصودة، والآية نازلة في مسجد الضرار، وليس هنا علاقة بينها وبين ما حدث لا من قريب ولا من بعيد، ومن قال: إنَّ هذا البرج من مباني الضرار، فأين =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = موقع الآخر من الآيةِ، وإذا كان يعدُّ هذين البرجين من مباني الضرار، قياساً على مسجد الضرار، فإنه يدخل في الآية كل مباني الكفار التي يعملون بها ضد العالم، وضدَّ المسلمين بالذات. ثمَّ ما الحاجة الداعية إلى هذا الربط الغريب العجيب، ومن ذا الذي يجزم بأن هذا مرادٌ لله. إنَّ هذا مما يدخل في الرأي المذموم؛ لأنه قول على الله بغير علمٍ، ما أكثر ما يقع من أصحاب ما يسمَّى بالإعجاز العلمي، أو التفسير العلمي. وهل يعتمد صاحب هذا القول على أنَّ هذا الترتيب جاء بالتوقيف، أم يرى أنَّه على ما جاء من مصادفة الترتيب هذه. فإن كان جاء مصادفةً، فما أكثر المصادفات التي يمكن أن تظهر لكَ، فقد تظهر لك مصادفات متعلقة بالأرقام وأنت تقرأ كتاب تاريخ، أو غيره، فهل هذه المصادفات من قبيل الإعجاز؟!. وإن كان يزعم أنَّ هذا مرادٌ، وأنه ليس من قبيل المصادفة، فقوله منقوضٌ بأمورٍ: الأول: أنَّ ترتيب الأجزاء من عمل المتأخرين، وليس فيه توقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو عمل اجتهاديٌّ. الثاني: أنَّ في ترتيب السور قولين: قيل: إنه اجتهادي، وقيل: إنه توقيفي، ولعل من ظهر له هذا التوافق العجيب لا يعلم بهذا، وإن عَلِمَ فهل حرَّر مسألة التوقيف والاجتهاد في ترتيب السور ليجعل ما توصل إليه من هذا التوافق صحيحاً. الثالث: هل يعلم قائل هذا القول علماً يُسمَّى «علم عدِّ الآي»؟ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وهل يعلم أنه مختلفٌ في عدد آي هذه السورة على قولين: الجمهور على أنها مائة وثلاثون آية، وفي العدِّ الكوفي الذي عليه عدُّ المصحف الذي بين يديك عدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية. وعلى قول الجمهور ينتقضُ عدد الآية؛ لأنه يكون عددها على قولهم آية 111، فهل دَرَى بهذا، وحرَّر هذه المسألة؟. وكأني بك أيها القارئ الكريم تقول: قد أطلت في هذا، وهو مما لا يحتاج إلى إطالة في بطلانه، فأقول لك معتذراً: إنَّ عصرك عصرٌ يسود فيه من يأتي بالغرائب، ويبرز فيه من يحسن جلبها، فأحببت أن أردَّ من يتعرَّضُ لكتاب الله بما لا يقبله عقل العقلاءِ؟ ولكي يُعلمَ أنَّ العلم له بابٌ من أراده من غير بابه خرج بما لا تقبله العقول، وجاء بما لا ينطلي إلا على قلوب الأغرار، ولو كانوا يُعدُّون عند الناس من الكبار. وإني أخبرك بأنك لست بحاجة لإثبات عظمة القرآن وصدقه إلى هذا السبيل، وهو ما يسمى بالإعجاز، إذ أنه ليس هو السبيل الوحيد لإثبات عظمة هذا القرآن، بل هو أحد هذه السُّبل، واعلم أن العلم وحده قد لا يكفي ما لم يكن له قوة تحميه، وإنَّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فافهم عني ما قلت، والله الموفق إلى سواء السبيل. السؤال الثاني: قال السائل سمعت في شريط الإعجاز العلمي للدكتور زغلول النجار حديثه عن ما يتعلق بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، وكان مما قاله في هذا ما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = نصُّه: «كنت أُلقي هذه المحاضرة في جامعة ملبورن في إستراليا من أربع سنوات، فوقف لي أستاذ كيمياء في الجامعة، وقال لي: يا سيدي، هل حاولت أن تقارن بين رقم سورة الحديد في القرآن الكريم والوزن الذري للحديد، ورقم الآية في السورة والعدد الذري للحديد؟. قلت له: لا، موضوع الأرقام موضوع حرج للغاية، إذا لم يدخله الإنسان بحذر شديد يدمِّر نفسه. قال: أرجوك، حينما تعود إلى بلدك أن تتحقق من هذه القضية ... أتيت بالمصحف الشريف، وبالجدول الدوري للعناصر وكتاب في الكيمياء غير العضوية، فأذهلني أن رقم سورة الحديد سبع وخمسون، والحديد له ثلاث نظائر (54، 56، 57) ورقم الآية في السورة (25)، والعدد الذري للحديد (26)، فقلت: إن هذا القرب الشديد لا بدَّ أن له تفسيراً، فألهمني ربي آية قرآنية مبهرة، يقول فيها الحق تبارك وتعالى مخاطباً هذا النبي الخاتم صلّى الله عليه وسلّم ... {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، فالقرآن بنصه يفصل الفاتحة عن بقية القرآن الكريم، ويعتبر الفاتحة مقدمة للقرآن، فقلت: إذا فصلنا الفاتحة عن بقية سور القرآن الكريم يصبح رقم سورة الحديد (56)، ولو بقيت (57)، ففيه نظير للحديد (57)، لكن أكثر النظائر انتشاراً للحديد (56). الآية رقمها (25)، والعدد الذري للحديد (26)، ووجدت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = القرآن الكريم يصف الفاتحة بأنها سبع من المثاني، وآياتها ستٌّ، فالبسملة آية من الفاتحة وآية من كل سورة قرآنية ذكرت فيها البسملة ما عدا سورة التوبة، فإذا أضفنا البسملة في مطلع سورة الحديد يصبح رقم الآية (26)، ويعجب الإنسان إلى هذه اللفتة المبهرة، من الذي علَّم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ذلك قبل ألف وأربعمائة سنة، لم يكن أحد يعلم شيئاً عن الأوزان الذرية، ولا لأعدادها الذرية، ولكن هذه معجزة هذا الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الومضات القرآنية المبهرة تبقى دائماً شهادة صدق على أن القرآن كلام الله، وأنَّ هذا النبي الخاتم صلّى الله عليه وسلّم كان موصولاً بالوحي» (محاضرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، للدكتور زغلول النجار، تسجيلات أُحد). ولا أرى أنه يخفى على العامِّي قبل المتعلِّم ذلك التَّكلف الذي قام به الدكتور الفاضل لإثبات قضية لا شأن لها في ذاتها، فضلاً عن أن تكون معجزة من معجزات القرآن، ولا يخفى على طالب العلم ما وقع له في تفسير الآية، ولا أدري هل يعرف الدكتور الفاضل التفسير النبوي لهذه الآية؟! فالوارد عنه صلّى الله عليه وسلّم يجعل السبع المثاني والقرآن العظيم وصفين للفاتحة، والعطف هنا من باب عطف الصفات لا عطف الذوات، فقد روى البخاري وغيره جملة من الأحاديث في هذا المعنى، ومنها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أم القرآن: هي السبع المثاني والقرآن العظيم». رواه البخاري برقم (4704)، وقال ابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = كثير معلقاً على هذه الروايات: «فهذا نصٌّ في أنَّ الفاتحة السبعُ المثاني والقرآن العظيم». تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (1:547)، وما دام ثبت النص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا، فإن غيره من الأقوال تسقط، ويكون تفسير الآية ما قاله صلّى الله عليه وسلّم. كما لا يخفى ما وقع منه في جزمه بأن البسملة آية من كل سورة، بلا تحقيق في هذه المسائل، ولا رجوع إلى أهل العلم الذين يُعرفُ كلامهم فيها، بل اختار ما يناسب ما يريد أن يذهب إليه، وهو معرض عن ما لا يناسبه، بلا تحقيق علميٍّ، كما عوَّده البحث في العلوم التجريبية، وهل يصحُّ هذا الاختيار بلا تحقيق؟! وكذلك لا يسعفه علم عدِّ الآي فعدد آيات السورة في العدِّ الكوفي والبصري (29)، وفي عدِّ الباقين (28)؛ وبهذا تكون الآية (24) بدلاً من أن تكون (25)، ولو جعل البسملة آية على هذا القول، لصارت الآية (25)، ولانتقض ما بناه أيضاً. وكل هذا التكلف في محاولة ربط مثل هذه القضايا بالقرآن إنما يصدر ممن يأتي إلى القرآن بمقررات سابقة ويريد أن يطوِّع القرآن لمقرراته، ضارباً بكل ما خالفها عُرض الحائط، ولو كان ما خالف قولَه هو العلم الصحيح، وفي هذه المحاضرة في الإعجاز العلمي أخطاء أخرى ليس هذا محلُّ عرضِها. (ينظر في ما ذُكر من عدِّ الآي: كتاب البيان في عدِّ أي القرآن، للداني، تحقيق: الدكتور غانم قدوري الحمد).

ورأيت أنَّ بعضها بحاجة إلى تحرير؛ لأنها لم تُحرَّر، كمصطلح المفسر، وكالفرق بين مصطلح علومِ القرآنِ ومصطلح أصول التَّفسيرِ، إلى غير ذلك من المصطلحاتِ المنثورةِ في علومِ القرآنِ (¬1). وكنت أخشى أن لا يكون البحث فيها مجدياً ولا مفيداً، وأن يكون الأمرُ من بابِ تسويدِ الورقِ بلا ثمرةٍ علميَّةٍ. ولكنِّي رأيتُ أنَّ بعضها يُبنى عليه مسائلُ علميَّة، وأنَّ تحرير هذه المصطلحات يفيدُ في أمورٍ؛ منها: * بيان المصطلحِ بذاتِه. * عدم دخول ما ليس منه فيه. * التفريق بين ما يُظنُّ أنه من المترادفات في المصطلحات. وقد كان من أكبر ما دعاني إلى خوضِ ذلك الغمارِ ¬

(¬1) لم أكتب في هذا الكتاب سوى مصطلحات خمسة، وهي التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، وذكرت في المقدمة تطبيقاً على أثر الخطأ في المصطلح من خلال مصطلح التفسير بالمأثور وما يقابله من التفسير بالرأي، وما عداها فإني سأنشره لاحقاً إن يسَّر الله.

عدمُ وضوحِ بعض المصطلحاتِ، أو تداخلُ بعضها ببعضٍ، أو بناءُ نتائجَ علمية على تعريفاتٍ غير صحيحةٍ لبعضِ هذه المصطلحات (¬1). وقد رأيت أن أقدِّم لهذا الكتاب بتطبيق على مصطلح وقع فيه خلل، وهو مصطلح «التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي»، ليتبيَّن به أهمية البحث في هذه المصطلحات، وأسأل الله أن يوفِّقني فيما أقول، إنه هو المستعان، وعليه الاتكال. ¬

(¬1) بعد كتابة هذه المقدمة اطلعت على مقالة مفيدة في المصطلحات، لمحمد الثاني بن عمر بن موسى بعنوان (التقييد والإيضاح لقولهم: لا مشاحة في الاصطلاح)، تنظر في مجلة الحكمة (محرم 1422. عدد 22، ص: 281 - 317). وانظر دراسةً تطبيقيةً لأثر المصطلحات في بعض العلوم الشرعية في كتاب (المنهج المقترح لفهم المصطلح) للشريف حاتم بن عارف العوني.

تطبيق على مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي

تطبيق على مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي

مناقشة هذا المصطلح

إنَّ مصطلح التفسير بالمأثور معروف عند العلماء السابقين، لكنَّ تعريفه بأنه: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة، وتفسير القرآن بأقوال التابعين = مصطلحٌ معاصر. وقد جُعِلَ مصطلح التفسير بالمأثور هذا مقابلاً للتفسير بالرأي؛ أي أنَّ ما لم يكن من التفسير بهذه الأنواع الأربعة، فهو من التفسير بالرأي. ومما بُنِيَ على هذين المصطلحين من نتائج: تقسيم كتب التفسير على هذين المصطلحين. وهناك غير ذلك مما ذكره من كتب في هذا المصطلح سيأتي ذكر بعضها أثناء الحديث عنه. مناقشة هذا المصطلح: أولاً: في تحديد التفسير بالمأثور في هذه الأنواع الأربعة: 1 - إنَّ من جعل التفسيرَ بالمأثور يشمل هذه الأنواع الأربعة، لم يبين سبب تحديد المأثورِ بها. وهذا التحديد

اجتهادٌ، وهو قابل للأخذ والردِّ، كما هو الحال في غيره من المصطلحات العلميَّةِ غير الشرعيَّةِ. وأقدم من رأيته نص على كون هذه الأربعة هي التفسير بالمأثور الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (ت:1367)، حيث ذكر تحت موضوع (التفسير بالمأثور) ما يأتي: «هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة تبياناً لمراد الله من كتابه» (¬1). ثم جاء بعده الشيخ محمد حسين الذهبي (ت:1397)، فذكر هذه الأنواع الأربعة تحت مصطلح (التفسير المأثور)، فقال: «يشمل التفسير المأثور: ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نُقلَ عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وما نُقلَ عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نُقِلَ عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم» (¬2). ثمَّ تتابع بعض المعاصرين على هذا المصطلحِ ¬

(¬1) مناهل العرفان (2:12)، ويلاحظ هنا أنه لم يُدخل تفسير التابعين. (¬2) التفسير والمفسرون، للذهبي (1:152).

بتقسيماته الأربعة. لذا فإنَّ كثرة وجوده في كتب علوم القرآن المعاصرة، أو غيرها من كتب مناهج المفسرين، أو مقدمات بعض المحققين لبعضِ التفاسير (¬1) = لا يعني صحَّته على الإطلاق، بل هؤلاء نقلوه عن كتاب «التفسير والمفسرون» بلا تحرير ولا تأمُّلٍ فيه، إلا القليل منهم. 2 - إن المعروف من لفظة مأثور: ما أُثرَ عن السابقين، وتحديد زمنٍ معيَّنٍ إنما هو اصطلاحٌ. وإذا كان ذلك كذلك؛ فكيف يكون تفسير القرآن بالقرآن مأثوراً، وأنت ترى الله يَمُنُّ عليك بتفسير آيةٍ بآيةٍ، فعن من أثرته؟! عن من أَثَرَ ابن كثيرٍ (ت:774) تفسيراتِه القرآنيةِ للقرآنِ؟! وكذا محمد الأمين الشنقيطيُّ (ت:1393) في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، عمَّن أَثَرَ تفسيراتِه القرآنيةِ للقرآنِ؟! ¬

(¬1) من أمثلة الكتب التي سارت على هذا التقسيم: التبيان في علوم القرآن ـ للصابوني (ص:63)، أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي د مساعد بن مسلم آل جعفر (ص:72)، مدرسة التفسير في الأندلس لمصطفى إبراهيم المشني (ص:127)، مكي بن أبي طالب ومنهجه في التفسير لأحمد حسن فرحات (ص:231)، مقدمة تحقيق تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم، حققه الشيخ علي محمد معوض وزملاه (1:45).

وإذا كان ذلك واضحاً لك، فكيف يكون اجتهاد المتأخرين والمعاصرين وأهل البدع الذين يحملون بعض الآي على بعضٍ ويفسِّرونها بها، كيف يدخل كلُّ هذا في المأثورِ عن الصحابة والتابعين؟! ولا شكَّ أن حمل معنى آية على آية هو من اجتهاد المفسِّر، سواءً أكان المفسر من الصحابة، أم كان من التابعين، أم كان ممن جاء بعدهم، والاجتهاد عرضة للخطأ، ويوزن بميزانٍ علميٍّ معروفٍ، ولا يقبل إلاَّ إذا حَفَّتْ به شرائطُ القبولِ، كأيِّ اجتهادٍ علميٍّ آخر (¬1). ¬

(¬1) ليس الحديث هنا عن قبول التفسير بالقرآن وعدم قبوله؛ لكن ما يُنبَّه عليه هنا أنَّ بعض تفسير القرآن بالقرآن ما يمكن أن يدخل فيما أُجمع عليه؛ لأنه لا يكاد يختلف فيه اثنان، وهذا إنما قُبِلَ من هذه الجهة فحسب، لا لكونه تفسير قرآن بقرآنٍ فقط، ولا شكَّ أنَّ ما كان تفسيراً بالقرآن ـ إن صحَّ ـ فإنه أولى ما يُرجع إليه؛ كأن يكون تفسيراً وارداً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو يكون كمثل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1 - 3]، فمن ذا الذي يمكنه أن لا يفسِّر الطارقَ بأنه النجم الثاقب. وهذا النوع أعلى التفاسير وأبلغُها، لكن هناك كثيرٌ من تفسيرات للقرآن بآي من القرآن عليها ملاحظات، وفيها أخطاء، فلا يمكن أن يُحْكَمَ لها بالصحَّة لأنها تفسير قرآن بقرآن.

ومن هنا يجب أن تُفَرِّقَ بين كون القرآن مصدراً من مصادر التفسير، أو أنه أحسن طرق التفسير، وبين كون التفسير به يُعدُّ من التفسير بالمأثور، والفرق بين هذين واضحٌ. 3 - أين يقع تفسير أتباع التَّابعين في هذين المصطلحين، وما علَّةُ جعلِه مأثوراً أو غير مأثورٍ عند هؤلاء؟. لقد عَلَّلَ محمد حسين الذهبي (ت:1397) لسبب إدخال تفسير التَّابعين في المأثور، فقال: «وإنما أدرجنا في التفسير المأثور ما رُوي عن التابعين ـ وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرَّأي؟ (¬1) ـ لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور ـ كتفسير ابن جرير وغيره ـ لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وما روي عن الصحابة، بل ضمَّنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير» (¬2). ¬

(¬1) يظهر أنَّه نقله من الزرقاني، فقد قال في مناهل العرفان (2: 13): «وأمَّا ما ينقل عن التابعين ففيه خلافٌ بين العلماءِ: منهم من اعتبره من المأثورِ؛ لأنهم تلقَّوه من الصحابة غالباً، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي». (¬2) التفسير والمفسرون (1:152).

وإذا تأمَّلت هذه العِلَّة التي ذكرها، وجدتها أنها تندرج على مفسِّري أتباع التابعين؛ كابن جُريج (ت:150)، وسفيان الثوري (ت:161) وابن زيد (ت:182) وغيرهم ممن ترى تفسيراتهم منثورةً في كتب التفسير التي تُعنى بنقل أقوال مفسري السلف ـ كتفسير الطبري (ت:310) وابن أبي حاتم (ت:327) وغيرهما ـ بل قد لا يوجدُ في مقطع من مقاطع الآية إلا تفسيرُهم، فَلِمَ لمْ يعُدَّها من التفسيرِ بالمأثورِ؟!. 4 - إن بيان أصل الخلطِ في هذا المصطلحِ يدلُّ على عدمِ تحريره وصحَّته، فقد كان أصل النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) في حديثه عن أحسن طرق التفسير، وهي تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين (¬1). ومما يبيِّنُ أنهم اعتمدوا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ (ت:728) وغيَّرُوا المصطلحَ من «طرق التفسير» إلى «التفسيرِ بالمأثور» أنهم حكوا الخلاف في كونِ تفسير التابعين يُعَدُّ من التفسيرِ بالمأثورِ أو لا يُعدُّ، قال الزرقانيُّ ¬

(¬1) ينظر: مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص:93 - 102).

(ت:1367): «وأمَّا ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور؛ لأنهم تلقوه من الصحابة غالباً، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي» (¬1). وقال محمد حسين الذهبي (ت:1397): «وإنما أدرجنا في التفسير المأثور، ما رُوي عن التابعين ـ وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرَّأي؟ ـ لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور ـ كتفسير ابن جرير وغيره ـ لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما روي عن الصحابة، بل ضمنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير» (¬2). والأصلُ الذي نقلا منه ـ وهو رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) ـ جاء فيه ما يأتي: «وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم. وهذا صحيح. أمَّا إذا اجتمعوا على الشَّيء فلا يُرتابُ في كونه حُجَّةً، فإن اختلفوا فلا ¬

(¬1) مناهل العرفان، للزرقاني (2:13). (¬2) التفسير والمفسرون (1:152).

ثانيا: علاقة المأثور بالرأي

يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن والسُّنَّةِ، أو عموم لغة العربِ، أو أقوال الصحابةِ في ذلك» (¬1). وإذا وازنت بين هذه النُّقولِ تبيَّنَ لك أنَّهم تركوا مصطلحَ «طرق التفسير» إلى مصطلحٍ أحدثوه بدلاً عنه، وهو مصطلح «التفسير بالمأثور»، ونزَّلوا ما ذكرَه شيخ الإسلام (ت:728) في حديثه عن «طرق التفسيرِ» على هذا المصطلحِ الذي اصطلحوا عليه. ثانياً: علاقة المأثور بالرأي: يُفهم ممن جعل التفسير بالرأي قسيماً للتفسير بالمأثور، أنَّ التفسير بالرأي ما عدا الأربعة المذكورة في التفسير بالمأثور، وهذا فيه عدم تحرير، وقد ظهر من ذلك نتائج؛ منها: أنَّ التفسير المأثور أصح من التفسير بالرأي، وأنه يجب الاعتمادُ عليه. وهذا الكلام من حيث الجملة صحيحٌ، إلا أنه لم يقع فيه تحديد مصطلح الرأي، ومعرفة مستندات الرأي لكلِّ ¬

(¬1) مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص:105).

جيلٍ من العلماءِ، وإذا تبينت هذه الأمور بانت العلاقة بينهما، وإليك بيانُ ذلك باختصار. إنَّ تسمية هذه الأربعة بأنها مأثور جعل بعض الباحثين الذين اعتمدوا هذا المصطلح يغفل عن وقوع الاجتهاد في التفسير عند السلف، فإذا كان لهم اجتهاد، فهل هو تفسير بالرأي، أو يُعدُّ بالنسبة لهم مأثوراً؟. فإذا كان المفسِّر المجتهد من الصحابة، فهل يُعدُّ تفسيرُه مأثوراً بالنسبة لغيره من الصحابة؟. وإذا كان المفسر المجتهد من التابعين، فهل يُعدُّ تفسيرُه بالنسبة للصحابة مأثوراً؟. لا شكَّ أنَّ الجواب: لا، لا يُعدُّ مأثوراً. لكنَّ تفسير الصحابةِ بالنسبة للتابعين وأتباعهم مأثورٌ. وتفسير التابعين بالنسبة لأتباع التابعين مأثورٌ. والمراد بالمأثور هنا مطلق المعنى اللغوي أو الاصطلاحي عند علماء مصطلح الحديث. ولا يعني وصفه بأنه مأثور مطلق القبول، وتقديمه على غيره؛ لأنَّ في الأمر تفصيل ليس هذا محلُّه ولا يُمكن الخروجُ من هذه إلا إن قال من اصطلح على هذا المصطلح: أنا أريد بالرأي:

الرأيَ المذمومَ، وهذا ما لم يشر إليه من درج على هذين المصطلحين. ولبيان المسألة أكثر، أقول: بعد أن تشكَّل تفسيرُ السلفِ، وتحدَّد في طبقاتِه الثلاثِ (الصحابة والتابعين وأتباع التابعين) كما هو ظاهرٌ من نقولِ المعتنين بكتابة علم التفسيرِ من علماء أهل السُّنة، الذين اعتمدوا النقل أو الترجيح بين الأقوالِ، صار التفسير المأثور عن السلف مصدراً يجب الرجوع إليه، والاعتماد عليه، وهذا ظاهر لا مشكلة فيه. لكن هل يعني وصفه بأنه مأثور أنه لم يقع فيه تفسير بالرأي؟. إنَّ التفسيرَ بالرأي كان منذ عهد الصحابةِ الكرام، وكان لهم مستندهم في الرأي، من القرآن والسنة واللغة وأسباب النُّزول وشيءٍ من مرويات بني إسرائيل، وأحوال من نزل فيهم القرآن ... إلخ. وجاء التابعون، وكان جملةٌ كبيرةٌ من تفسيرِهم بالرأي، وكان لهم اختيارٌ في التفسيرِ قد يخالفُ اختيارَ أفراد الصحابةِ، وكانت مستندات الرأي عندهم ما كان عند الصحابةِ، وزاد في مصادرهم تفسيرُ الصحابةِ؛ لأنهم جاءوا بعدهم.

ثمَّ جاء أتباع التابعين، وكان الحالُ كما كان في عهد التابعين، وعليهم وقف النقلُ في التفسير، كما هو ظاهر من كتب التفسير التي نقلت أقوال السلف. وكان تفسيرُ كل طبقة بالنسبة لمن جاء بعدهم مأثوراً، لكنه لا يحملُ صفة القبولِ المطلقِ لأنه مأثورٌ فقط؛ لأنَّ فيه جملة من الاختلاف التي تحتاج إلى ترجيح القول الأولى = بل له أسباب أخرى مع كونه مأثوراً. إذا تبين ما سبق، فإنَّ التفسيرَ المأثورَ عن السلف على قسمين: القسم الأول: المنقول المحض الذي لا يمكن أن يرد فيه اجتهاد، ويشمل تفسيرات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسباب النُّزول وقصص الآي والغيبيات. والقسم الثاني: ما كان لهم فيه اجتهاد، ويظهر فيما يرد عليه الاحتمال من التفسير. وما دام في تفسيرهم رأي، فما نوع الرأي الذي عندهم، وما نوع الرأي الذي جاء بعدهم؟. أما الرأي الوارد عنهم، فهو من قبيل الرأي المحمود؛ لأنهم لم يكونوا يقولون في القرآن بغير علم،

القسم الأول: الرأي المحمود، وهو المبني على علم، وهو نوعان

كما لم يكن عندهم هوى مذهبي يجعلهم يحرفون معاني الآيات إلى ما يعتقدونه، فلما سِلموا من هذين السببين اللذين هما من أكبر أسباب الوقوع في التحريف في التفسير، وكانوا يفسرون كلام الله على علمٍ، كان رأيهم محموداً في التفسير. ووجود قول ضعيف في تفسيرهم لا يعني أنه من الرأي المذموم، وما ورد من تفسيرات غريبة عن بعضهم؛ أعني بعض تفسيرات مجاهد (ت:104) لمسخ بني إسرائيل قردة وخنازير، والميزان، والنظر إلى وجه الله = إنما هي أفراد في تفاسيرهم، وهي نادرة لا تكاد تذكر. وأما الرأي الذي جاء بعد تفسير السلف فهو على قسمين: القسم الأول: الرأي المحمود، وهو المبني على علم، وهو نوعان: النوع الأول: الاختيار من أقوالهم بالترجيح بينها إذا دعا إلى ذلك داعٍ، بشرط أن يكون المرجِّح ذا علم، ولا يختار من أقوالهم حسب هواه وميوله. ولا بدَّ أن يكون المرجِّح على علم بأنواع ما يقع من الاختلاف عنهم، وهو قسمان:

النوع الثاني

الأول: أن يكون الخلاف راجعاً إلى معنى واحدٍ، ويكون الخلاف بينهم خلاف عبارة، ويدخل الرأي هنا في توجيه أقوالهم إلى كونها على قول واحد وأنه لا يوجد خلاف حقيقي ولا خلاف معتبر فيه بين هذه الأقوال. الثاني: أن يكون الخلاف بينهم راجعاً إلى أكثر من معنى، فتصحيح أقوالهم على أنها من اختلاف التنوع، أو اختيار أحد هذه المعاني من المفسرين الذين جاءوا بعدهم إنما يكون برأي واجتهادٍ، كما فعل الطبري (ت:310). النوع الثاني: الإتيان بمعنى جديد صحيح لا يُبْطِلُ تفسير السلف، ولا يُقْصَر معنى الآية عليه. لا شكَّ في أن المعاني تنتهي، ولكن هذا لا يعني أن تفسير القرآن قد توقَّف على جيل أتباع التابعين، وأنه لا يجوز لغيرهم أن يفسِّر القرآن. نعم لا يعني هذا، ولكن لا بدَّ من ضوابط في هذا، وهو ما يشير إليه عنوان الفقرة من أن يكون المعنى صحيحاً وارداً في اللغة، وأن يكون غير مناقض [أي: مُبطل] لقول السلف، وأن لا يعتقد المفسر بطلان قولهم وصحة قوله فقط. فإذا حصلت هذه الضوابط = صحَّ ـ والله أعلم ـ التفسير الجديد، وصار من التفسير بالرأي المحمود المعتمد على علمٍ، والله أعلم.

القسم الثاني

القسم الثاني: الرأيُ المذموم، وله عدة صور، ويغلب عليه أن يكون تفسيراً عن جهل أو عن هوى، وعلى هذا أغلب تفاسير المبتدعة من المعتزلة والرافضة والصوفية وغيرهم. وبعد هذا يتبين ما يأتي: 1 - أنَّ جعل التفسير بالمأثور مقابلاً للتفسير بالرأي لا يصح. 2 - أنَّ تسمية الوارد عن السلف بأنه مأثور لا إشكال فيه، لكن لا يقابله غيره على أنه تفسير بالرأي؛ لأنَّ في هذا نسيان للرأي الواردِ عن السلفِ. 3 - أنَّ الحكم على التفسير المأثور بالقبول، يصحُّ من حيث الجملة، لكنه لا يتلاءم مع الاختلاف المحقق الوارد عنهم؛ وفي هذه الحال لا بدَّ من معرفة القول الأولى أو القول الصحيح في الآية، وهذا يحتاج إلى رأي جديد، فهل تقف عند الاختلاف بزعم قبول المأثور، أم ترجِّح ما تراه صواباً، فتكون ممن قال برأيه؟. 4 - إنَّ ما ورد عن الصحابة أو التابعين أو أتباعهم، فإنه مأثورٌ، ولكنه لا يُقبلُ لأجل هذه العلةِ فقط، بل هو

درجات في القبول؛ كأن يكون إجماعاً منهم، أو قول جمهورهم، أو غيرها من الأسباب. هذا، ولقد تتبَّعتُ مصطلحَ «مأثور» و «المأثور»، فلم أظفر على هذا التَّقسيمِ الرُّباعيِّ الذي ذكرهُ هؤلاءِ، بل يطلقُه العلماءُ على ما أثرَ عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو عن السلفِ، أو الصحابةِ، أو عن التابعين (¬1)، وأحسبُ أنَّ هذه القضيَّة ليست بحاجةٍ إلى نقلٍ لتدعيمِها؛ لكثرةِ ما تردُ في كتب اللغة، ومصطلح الحديث، وغيرها، فتجد المأثور في اللغةِ: ما نقله الخلف عن السلفِ، وقد يكون اصطلاحاً عند بعضهم على ما أُثِرَ عن الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم، أو عن أصحابهِ أو عن التَّابعينَ، وهو في كلِّ هذه الاصطلاحاتِ لم يخرج عن المعنى العامِّ للَّفظةِ. وقد يُسمَّى المأثورُ عنهم بالتفسيرِ المنقولِ، ويقسمونَ ¬

(¬1) على هذا المنهج سار السيوطي في كتابه: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، وهذا هو المنهجُ الغالبُ على كلِّ من كتبَ في التفسير ونقلَ مرويَّات السلفِ الكرامِ، وليس فيها تخصيصٌ للقرآنِ بالقرآنِ بالذكرِ، بل تجده ضمن تفسير من فسَّرَ به، سواءٌ أكان من تفسيرِ النبي صلّى الله عليه وسلّم، أم كان من تفسير من جاء بعده من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

التفسيرَ إلى نقليٍّ واجتهاديٍّ، ولكن لا يعنون أنَّ ما نُقِلَ عنهم لا يقعُ فيه اجتهادٌ، بل مرادهم اجتهادُ المفسِّر في أيِّ عصرٍ كان (¬1). أو يُسمَّى المنقولُ عنهم بالرِّوايةِ، والمأخوذُ من طريقِ الاجتهادِ بالدِّرايةِ (¬2)، ولكن يجب أن تنتبه إلى أنَّ لهم في ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: النكت والعيون للماوردي، تحقيق: السيد بن عبد المقصود (1:21)، ومقدمة ابن خلدون، طـ: دار القلم (ص:439، 440). ومما يذكرُ هنا أنَّ بعضَ من رامَ التَّفريقَ بين التَّفسيرِ والتَّأويلِ، يجعلُ التَّفسيرَ للمنقولِ منه، والتَّأويلَ لما وقع من طريق الاستنباطِ؛ كالبغويِّ في تفسيره معالم التَّنْزِيل (1:35)، وليس هذا الفرقُ بصحيحٍ، كما سيأتي في بيانِ هذين المصطلحين. (¬2) سار على هذه التسميةِ الشَّوكانيُّ، وقد سمَّى تفسيره: فتح القدير الجامع بين فَنَّي الرِّوايةِ والدِّرايةِ، وقصد بالرِّوايةِ ما نُقِلَ عن السَّلفِ، وقد اعتمد في أغلب ما ذكره عنهم على كتاب الدُّرِّ المنثورِ للسيوطيِّ (فتح القدير 1:13). لكنه في منهجِه في ترتيب كتابِه وقع في أمرٍ غريبٍ جدًّا، حيثُ جعلَ التفسيرَ المنقولَ عن السَّلفِ بعد ما يذكرُه من التفسيرِ بالدِّرايةِ، ولم يخلط بينها ويمزجها، مع أنَّه في بعضِ المواضِع يذكر معنىً من المعاني، ويشيرُ إلى أنه سيردُ في المنقولِ عن السلفِ، ولم أجد من سبقه إلى هذه الطريقِ، ولا من لحقه بها، ولقد كان المهيعُ المسلوكُ هو مزجُ تفسيرِ السلفِ بغيرِه مما يذكره المتأخِّرونَ. =

تفسيرِهم درايةٌ، ثمَّ صار لمن بعدهم روايةً. وأيًّا ما اصطلحتَ على المنقولِ عن السَّلفِ، فإنه يجبُ أن تتنبَّه إلى ورودِ الاجتهادِ عنهم، وأنَّهم صاروا بعد ذلك مصدراً لمن جاء بعدهم، يعتمدُ عليهم، ويتخيَّرُ من أقوالِهم، أو يضيفُ ما صحَّ من المعنى ولم يناقض أقوالَهم. ويمكنُ تلخيصُ هذا الموضوعِ فيما يأتي: 1 - إنَّ القرآن مصدرٌ مهمٌّ من مصادرِ التَّفسيرِ، ولا يُقبلُ التَّفسيرُ به لمجرَّدِ كونِه تفسيرَ قرآنٍ بقرآنٍ، بل لاعتبارٍ آخر؛ كأن يكونَ من تفسيرِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، أو مما لا يمكنُ الاختلافُ في كونه مفسَّراً بقرآنٍ، أو مما يكونُ مجمعاً عليه، أو بالنَّظرِ إلى عُلُوِّ مرتبةِ مفسِّرِه، أو غيرها من القرائنِ التي تدلُّ على صحَّةِ التفسيرِ به. ¬

= ولقد لاحظتُ أنَّ عملهُ هذا أضعفَ جانب المنقولِ عنده، فقلَّ من يعتني به من دارسيه، بل كانوا إذا وصلوا إلى قوله: «وأخرج» انتقلوا إلى ما بعدها من الآياتِ، وهذا من القصورِ الذي سبَّبه هذا التقسيمُ من الشوكانيِّ. كما أنَّ هذا التَّأخيرَ للمنقولِ عن السلفِ، وعدمَ مزجه في التفسيرِ يُظهرُ عدمَ الاعتدادِ به، وأنَّه يمكنُ أن يُغنيَ عنه تفسيرُ المتأخرين، وهذا قصور في النَّظرِ والتَّحقيق.

وإذا كان التفسيرُ بالقرآن ممن هو دون النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فهو من اجتهادِ المفسِّرِ به، لذا قد يختلفُ مفسر وغيرُه في حمل آيةٍ على آيةٍ، وإنما كان ذلك بسبب الاجتهادِ. 2 - إنَّ إطلاقَ المأثور على المرويِّ عن الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم والسَّلفِ من الصحابة والتَّابعين وأتباعهم إطلاقٌ صحيحٌ. 3 - إنَّ الصَّحيحَ المرويَّ من تفسيرِ الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم المباشرِ حجَّةٌ في تفسيرِ الآيةِ بلا خلافٍ. 4 - إنَّ هذا المأثورَ عنهم حجة من حيث الجملة، وهو ـ لمن جاء بعدهم ـ من أهمِّ مصادر التفسير التي يجبُ الرجوع إليها. 5 - إنَّ جملةً من التفسيرِ المرويِّ عن السلفِ معتمدُه النَّقل، وهو كسائر المنقولاتِ من حيثُ اعتماد الصحيحِ منها، ويدخل في ذلك أسباب النُّزول وقصص الآي، وغيرها من المغيَّباتِ التي تفتقرُ إلى النَّقلِ. وهذه المنقولات تردُ عن الصحابةِ وعن التابعين وأتباعهم ويختلفُ قبولها بين هذه الطبقاتِ، فالمرويُّ عن صحابيٍّ ليس كالمرويِّ عن تابعيٍّ، ولا عن تابع تابعيٍّ. والمرويُّ عن جماعةٍ منهم، ليس كالمرويِّ عن فردٍ

ثالثا: ما ترتب على مصطلح التفسير بالمأثور

منهم، وهكذا غيرها من القرائن التي تحفُّ بقبولِ الأخبارِ. 6 - إنَّ جملةً من تفسير السَّلفِ تفسيرٌ بالرأي المحمودِ، ولهم في ذلك معتمدَاتٌ؛ كالقرآنِ واللغةِ، والعلمِ بأحوال من نزل فيهم الخطابُ، والعلمُ بأحوالِ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وغيرها. 7 - إنَّ التَّعاملَ مع تفسيرِهم يختلفُ من مثالٍ إلى غيرِه، فقد يكونُ في موطنٍ لا يصحُّ أن يُتعدَّى ما قالوا، وفي بعضِ المواطنِ قد يجتهدُ المفسِّرُ ويختارُ من أقوالِهم ما يراه الأصوبَ، وقد يجوزُ له في موطن غيره أن يزيدَ على ما قالوا من المعاني الصحيحةِ التي تحتملها الآيةُ ولا تبطل ما قالوا. ثالثاً: ما ترتب على مصطلح التفسير بالمأثور: لقد ترتَّبت نتائج على مصطلح التفسير بالمأثور فيها خلل علمي، وسأذكر بعض هذه النتائج. الأولى: الحكم على التفسير بالمأثور بأنه يجب الأخذ به. قال مناع القطان: «التفسير بالمأثور هو الذي يجب الأخذ به؛ لأنه طريق المعرفة الصحيحة، وهو آمن سبيل

للحفظ من الزلل والزيغ في كتاب الله» (¬1). وهذا كلام ينقصه التحرير، من جانبين: الأول: أن أغلب تفسير القرآن بالقرآن من قبيل الاجتهاد، وهو يدخل في التفسير بالرأي، وقبوله إنما يكون من جهة أخرى لا من جهة كونه مأثوراً فقط، كما سبق بيانه. الثاني: كيف يجب الأخذ بالتفسير الذي يقع فيه الاختلاف بين السلف؟. هل يقبل الاختلاف على إطلاقه، أم في الأمر تفصيل؟ أما قبول الاختلاف على إطلاقه، فلا يُتصوَّر القول به. وأما إذا رجع الأمر إلى اختيار القول الأَولى أو الصحيح، فقد دخلت في التفسير بالرأي والاجتهاد؛ لأنك ترى أن هذا القول أولى من غيره. وبهذا تكون قد خرجت عن التفسير بالمأثور على هذا الاصطلاح المذكور. ¬

(¬1) مباحث في علوم القرآن (ص:350)، وينظر: لمحات في علوم القرآن، لمحمد الصباغ (ص:180 - 181).

الثانية: افتراض وقوع الاختلاف بين المأثور والرأي.

الثانية: افتراض وقوع الاختلاف بين المأثور والرأي. جاء في كلام بعض من كتب في التفسير بالمأثور فرضيات عقلية لا تثبت أمام العمل التفسيري، ولم يُعملْ بها من قبل، ولا أُخِذَ بها من بعد. وسأذكر لك ما يدلُّ على ما قلت لك، وهو من كلام من أَصَّلَ هذا التقسيم وانتشر من بعده. عقد عبد العظيم الزرقاني (ت:1367) في كتابه مناهل العرفان مبحثاً بعنوان (التعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور وما يتبع في الترجيح بينهما)، وقال فيه: «ينبغي أن يعلم أن التفسير بالرأي المذموم ليس مراداً هنا لأنه ساقط من أول الأمر فلا يقوي على معارضة المأثور. ثم ينبغي أن يعلم أن التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المحمود معناه: التنافي بينهما، بأن يدل أحدهما على إثبات والآخر على نفي؛ كأن كلا من المتنافيين وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه. وأما إذا لم يكن هناك تناف، فلا تعارض، وإن تغايرا؛ كتفسيرهم الصراط المستقيم بالقرآن أو بالسنة أو بطريق العبودية أو طاعة الله ورسوله، فهذه المعاني غير متنافية وإن تغايرت ...

إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي؛ لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي؛ أي مستند إلى دليل قطعي: من عقل أو نقل، فإن كان قطعياً، فلا تعارض بين قطعيين، بل يؤول المأثور؛ ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله، جمعاً بين الدليلين. وإن لم يكن تأويله، حُمِلَ اللفظ الكريم على ما يقتضيه الرأي والاجتهاد، تقديماً للأرجح على المرجوح. أما إذا كان الرأي ظنياً، بأن خلا من الدليل القاطع، واستند إلى الأمارات والقرائن الظاهرة فقط، فإن المأثور القطعي يقدم على الرأي الظني ضرورة أن اليقين أقوى من الظن. هذا كله فيما إذا كان المأثور قطعياً، أما إذا كان المأثور غير قطعي في دلالته؛ لكونه ليس نصاً، أو في متنه؛ لكونه خبر آحاد، ثم عارضه التفسير بالرأي فلا يخلو الحال: إما أن يكون ما حصل فيه التعارض مما لا مجال للرأي فيه، وحينئذٍ فالمعوَّل عليه المأثور فقط، ولا يقبل الرأي. وإن كان للرأي فيه مجال، فإن أمكن الجمع فبها ونعمت، وإن لم يكن قدِّمَ المأثور عن النبي أو عن

الصحابة؛ لأنهم شاهدوا الوحي، وبعيد عليهم أن يتكلموا في القرآن بمجرد الهوى والشهوة. أما المأثور عن التابعين، فإذا كان منقولاً عن أهل الكتاب، قدم التفسير بالرأي عليه. وأما إذا لم ينقل عنهم، رجعنا به إلى السمع، فما أيده السمع، حُمِلَ النظم الكريم عليه، فإن لم يترجح أحدهما بسمع ولا بغيره من المرجحات، فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد، بل نُنَزل اللفظ الكريم منْزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه» (¬1). إنك في هذا النَّصِّ أمام فَرَضيات مبنية على أن التفسير بالمأثور ليس فيه رأي، وأنه يمكن أن يناقضه التفسير بالرأي، ويظهر لي أن ههنا معركة دائرة بين أشياء متوهَّمة؛ لذا لم يذكر الزرقاني (ت:1367) أمثلة لهذه الفرضيات التي استنتجها، وقد جاء بمصطلحات لا تستخدم إلا عند المتكلمين ممن كتب في علم الكلام أو في علم ¬

(¬1) مناهل العرفان (2: 63 - 65). ووازن هذا المنهج التفكيري بما طرحه الرازي في أساس التقديس (ص: 210)، وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المنهج الذي يزعم تعارض العقل مع النقل في مؤلفه العظيم درء تعارض العقل والنقل.

الأصول، وذهب يعمل بطريقة السبر والتقسيم في المحتملات التي يمكن أن ترد في التعارض المزعوم بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي. ولعلك تلحظ فيه روح أحد علماء الكلام الذين يقدمون العقل على النقل في قوله: «إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي؛ لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي؛ أي: مستند إلى دليل قطعي من عقل أو نقل، فإن كان قطعياً فلا تعارض بين قطعيين بل يؤول المأثور ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله جمعاً بين الدليلين». وبهذا صار حظُّ التفسير بالمأثور أن يكون عرضةً للعقول تؤولِّه على ما تراه مناسباً لها، وليس مقدَّماً عليها. وأعيد فأقول: إن هذا الكلام لو خرج ممن لم يقرأ في التفسير، ولا كتب في علوم القرآن لما كان مستغرباً، لكن أن يكون في كتاب من أهم كتب علوم القرآن المعاصرة، فهذا ما يُعجبُ منه!. وإني أظنُّ أنَّ قارئاً لو أراد أن يطبق هذه الفرضيات التي ذكرها لظهر له زيفُها وبُعْدُها عن التحقيق، مع ما تتَّسمُ به ـ من أول وهلة ـ من النظر والتحرير والتقسيم والتحبير

الثالثة: تقسيم كتب التفسير بين المأثور الرأي.

، لكنها في الواقع بعيدة كل البعد عن طريقة التفسير ومهيعه المعروف عند العلماء (¬1). الثالثة: تقسيم كتب التفسير بين المأثور الرأي. كان من أكبر نتائج مصطلحي المأثور والرأي أن قُسِّمت كتب التفسير بين هذين النوعين، وليس هناك حجة واضحة في هذا التوزيع، ولا تكاد تجد حدًّا فاصلاً في عَدِّ تفسير من التفاسير بأنه من المأثور أو من الرأي، ومن ذلك تقسيم محمد حسين الذهبي (ت:1397)، فقد جعل كتب التفسير المأثور ما يأتي: جامع البيان، لابن جرير الطبري (ت:310)، وبحر العلوم، لأبي الليث السمرقندي (ت:375)، والكشف والبيان عن تفسير القرآن، لأبي إسحاق الثعلبي (ت:427)، ومعالم التنْزيل، لأبي محمد الحسين البغوي (ت:516)، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي (ت:542)، والجواهر الحسان في تفسير القرآن، لعبد الرحمن ¬

(¬1) في كلامه رحمه الله ـ وكذا عند الذهبي في كتاب التفسير والمفسرون ـ مغالطات فيما يتعلق بالتفسير المأثور عن السلف، أرجو أن ييسر الله لي الحديث عنها في مكان آخر، وهو الموفق.

الثعالبي (ت:876)، والدر المنثور في التفسير المأثور، للسيوطي (ت:911) (¬1). وجعل من كتب التفسير بالرأي المحمود: مفاتح الغيب، للفخر الرازي (ت:606)، وأنوار التنْزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي (ت:685)، ومدارك التنْزيل وحقائق التأويل، للنسفي (ت:701)، ولباب التأويل في معاني التنْزيل، للخازن (ت:741)، والبحر المحيط، لأبي حيان (ت:745)، وغرائب التنْزيل ورغائب التأويل، للنيسابوري (ت:728)، وتفسير الجلالين، والسراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الخبير، للشربيني (ت:977)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود (ت:982)، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي (ت:1270) (¬2). ثم ذكر التفسير بالرأي المذموم، وذكر ضمنه بعض كتبه؛ ككتاب تنْزيه القرآن عن المطاعن، للقاضي عبد الجبار (ت:415)، وأمالي الشريف المرتضى (ت:436) والكشاف، للزمخشري (ت:538). ¬

(¬1) التفسير والمفسرون (1:204). (¬2) التفسير والمفسرون (1: 289).

وإليك بعض الملحوظات على توزيعاتهم: 1 - يعدون تفسير الطبري (ت:310) من كتب التفسير بالمأثور، ويغفلون عن ذكر تعرضه لتوجيه الأقوال والترجيح بينها، وإذا كانت هذه طريقته، فلم لا يكون من التفسير بالرأي، وما الحدُّ الفاصل في جعله من كتب التفسير بالمأثور لا من كتب التفسير بالرأي؟!. فالتفسير ينسب إليه، وفيه آراؤه في التفسير، وفيه مصادره التي من أعظمها التفسير المأثور عن السلف، ومنها اللغة، ولو سلك من يكتب عن تفسيره الأسلوب الذي انتهجه هؤلاء في عدِّهم لتفسيره أنه من التفسير بالمأثور بسبب أسانيده ورواياته لتفسير السلف، لو عدَّه من كتب التفسير اللغوي بسبب كثرة اعتماده عليها، لما أبعد في ذلك. لكن النظر هنا إلى تحريراته في التفسير، لا إلى مصادره، وإذا كان النظر من هذه الزاوية ـ وهي الصحيحة لا غير ـ فهو من أعظم كتب التفسير بالرأي المحمود. 2 - يعدُّون تفسير الخازن المسمى (لباب التأويل في معاني التَّنْزيل) من التفسير بالرأي (¬1)، مع أن مؤلفه نصَّ في ¬

(¬1) ذكر عبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان أهم كتب التفسير بالرأي (2:65)، وذكر منها تفسير الخازن (2:66، 69)، وكذا =

المقدمة على أنه ليس له في هذا التفسير سوى النقل، قال: «... ولما كان هذا الكتاب كما وصفت [يعني كتاب معالم التنْزيل للبغوي] أحببت أن أنتخب من غُرَرِ فوائدِه، ودُرَرِ فرائده، وزواهرِ نصوصِه، وجواهرِ فُصوصِه = مختصراً جامعاً لمعاني التفسير، ولباب التنْزيل والتعبير، حاوياً لخلاصة منقوله، متضمناً لنكته وأصوله، مع فوائد نقلتها، وفرائد لخصتها من كتب التفاسير المصنفة في سائر علومه المؤلفة، ولم أجعل لنفسي تصرفاً سوى النقل والانتخاب، وحذفت منه الإسناد؛ لأنه أقرب إلى تحصيل المراد ...» (¬1). يظهر من هذا النص أن الخازن (ت:741) قد اختصر تفسير البغوي (ت:516)، وأنه قد انتخب من غيره من التفاسير، وأنه ليس له فيها سوى النقل والانتخاب. وتراهم قد عدَّوا تفسير البغوي (ت:516) من كتب التفسير بالمأثور (¬2)، فلِمَ لم يجعلوا المختصر الخازنيَّ من كتب التفسير بالمأثورِ تبعاً لأصله البغويِّ؟! ¬

= القطان في مباحث في علوم القرآن (ص:366). (¬1) تفسير الخازن، بهامشه تفسير البغوي (1:3). (¬2) ينظر مثلاً: مناهل العرفان (2:30)، ومباحث في علوم القرآن للقطان (ص:360).

تصحيح المسار في مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي

تصحيح المسار في مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي ليكن قد خرج من ذهنك المقابلة المفتعلة بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، فإذا كان، فإني سأرشدك إلى نظرٍ آخر يبين لك ما يقع فيه الرأي وما لا يقع فيه بناءً على ما ورد في كتب التفسير من المصادر التي اعتمدوها من تفسير للقرآن بالقرآن، وتفسير له بالسنة أو بتفسيرات النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو تفسير بسبب نزول، أو تفسير لصحابي، أو لتابعي أو لتابع تابعي، أو لمن جاء بعدهم إلى أن تقوم الساعة، فما حركة التفسير التي نشأت ولا زالت حتى هذا اليوم؟. أولاً: التفسير الذي لا يدخله الرأي: يشمل التفسير الذي لا يدخله رأي نوعين: الأول: ما لا يحتمل إلا معنى واحداً من التفسير، لأنه لو احتمل أكثر من معنى لكان اختيار أحد المعاني دون غيرها يعتمد على الرأي والاجتهاد. الثاني: جملة من التفسير المنقول الذي ليس للمفسر فيه إلاَّ النقل، كائناً من كان هذا المفسر، ويشمل هذا القسم: 1 - التفسير النبوي الصريح.

ثانيا: التفسير الذي يدخله الرأي

2 - أسباب النُّزول. 3 - الأخبار الغيبية الواردة في الآيات من قصص وأوصاف للأشياء، وأسماء للمبهمات وغيرها. والمقام هنا مقام وصفٍ لا مقام ترجيح، فلو ورد سبب نزول صريح ضعيف، فإنَّ الحكم عليه من حيث الوصف أنه مما لا يمكن أخذه إلا من طريق الرواية، لكن لا يلزم كونه كذلك أن يكون تفسيراً للآية، وهكذا غيره من المنقولات؛ لأنه يشترط فيها الصحة. ثانياً: التفسير الذي يدخله الرأي: يشمل هذا القسم كل التفسيرات التي فيها أكثر من احتمال في المراد من الآية؛ لأن الاحتمال عرضة للاختلاف والاجتهاد في معرفة أيها المراد. وهذا يشترك فيه كل المفسرين من عهد الصحابة إلى يوم الدين، ولهم مصادر معروفة، وهي: التفسير المنقول الذي سبق ذكره، والقرآن، والسنة، واللغة، وهم يجتهدون على حسب ما عندهم من العلم. والتابعون يزيد عندهم مصدر، وهو تفسير الصحابة، وكذا أتباع التابعين يزيد عندهم مصدر، وهو تفسير

التابعين، وكذا من جاء بعدهم يكون تفسير السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم مصدراً لهم. وبعد هذا، فإن كل ما يُنقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو عن السلف من تفسير القرآن، فإنه يصحُّ أن يُطلق عليه «تفسير مأثور» (¬1)، وهذا يعني كيفية الوصول إليه، فأنت لا تدرك هذه المنقولات عنهم بعقلك، بل لا بدَّ من أن تأخذها عن طريق الأثر؛ لذا تذهب إلى من اعتنى بالمنقول عنهم؛ كعبد الرزاق (ت:211)، والطبري (ت:310)، وابن أبي حاتم (ت:327)، وغيرهم، ثمَّ تقرأ ما رَوَوه عن السلف، وتعتبر ما جاء عنهم ـ من حيث الجملة ـ من أهم مصادر التفسير. والحديث هنا ـ كما قلت لك ـ وصف للتفسير باعتبار ¬

(¬1) يحسن أن تلاحظ الفرق بين جملة «تفسير مأثور»، وجملة «تفسير بالمأثور»، فالأولى تدل على وصف التفسير بأنه مأخوذ عن طريق الأثر، والثانية تعني أن المفسر فسَّر بما ورده عن السلف، ويحتمل تفسيره أمرين: الأول: أن لا يكون له رأي مطلقاً بل هو مقلِّدٌ لهذا التفسير؛ لأنه ورد عن السلف. الثاني: أن يكون له رأي، وتراه يختار من المنقول عن السلف، ويرجح بين أقوالهم، ولا تكاد تراه يخرج عنها، فهذا مفسر يعتمد على المأثور ويستفيد منه، وليس جامداً عليه بلا اختيار ولا رأي، وعلى هذا سار إمام المفسرين ابن جرير الطبري.

مصادره، وليس حديثاً عما يقبل وما لا يقبل من التفسير، فهذا له مجال آخر من الحديث. وبعد هذا الحديث المفصل عن مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي سأشرع في بيان المصطلحات التي عُقِدَ الكتاب من أجلها، وهذا أوانه، وبالله التوفيق.

مفهوم التفسير

مفهوم التفسير

تدور مادَّةُ «فَسَرَ» في لُغةِ العربِ على معنى البيانِ والكشفِ والوضوحِ (¬1)، ومما وردَ في ذلكَ: فَسَرْتُ الذِّراعَ: إذا كشفتُها. وفسَّرتُ الحديثَ: إذا بيَّنتُه. وقد زعم قومٌ أنَّ «فَسَرَ» مقلوبٌ من «سَفَرَ» (¬2)، وهذا القولُ ليسَ بسديدٍ؛ لأنَّ الأصلَ أن يكون للفظةِ ترتيبُها، ودعوى القلبِ خلافُ الأصلِ. كما أنه يكونُ لها المعنى الخاصُّ بها الذي تستقلُّ به. واشتراكُها مع غيرِها في معنى أصل المادَّةِ لا يعني أنَّها مشتقَّةٌ منها، ولو ادُّعي العكسُ لما كان هناك ما يبيِّنُ صحَّةَ إحدى الدَّعويينِ. ¬

(¬1) ينظر في ذلك: مقاييس اللُّغةِ، لابن فارس (4:504). وينظر مادة «فسر» في معاجم اللغة. (¬2) ينظر على سبيل المثال: مقدمتان في علوم القرآن (ص:173)، والبرهان في علوم القرآن (2:147)، والتيسير في قواعد علم التفسير (ص:132).

قال الآلوسيُّ (ت:1270): «والقول بأنه مقلوب السَّفر، مما لا يسفر له وجه» (¬1). والصَّحيحُ أنَّه كما بين المادَّتين تقاربٌ في اللَّفظِ، فكذلك بينهما تقاربٌ في المعنى، كما قاله الرَّاغبُ الأصفهانيُّ (ت: بعد 400) (¬2). هذا، وقد اختلفتْ عباراتُ العلماءِ في البيان عن معنى التَّفسيرِ في الاصطلاحِ، وجاءوا بعباراتٍ شَتَّى، وقد اجتهدتُ في معرفةِ الصحيحِ منها في بيانِ مصطلحِ التَّفسيرِ، ورأيتُ أنَّ المرادَ بالتَّفسيرِ بيان المعنى الَّذي أرادَه اللهُ بكلامِه، فانطلقتُ من المعنى اللُّغويِّ للَّفظةِ، وهو البيانُ أو الكشفُ أو الشَّرحُ أو الإيضاحُ، وجعلتُه أصلاً أعتمدُه في تحديدِ المرادِ بالتَّفسيرِ. وظهرَ لي بعدَ ذلك أن تكونَ أيُّ معلومةٍ فيها بيانٌ للمعنى، فإنها من التَّفسيرِ، وإن كان ليس لها أثرٌ في بيانِ المعنى فإنَّها خارجةٌ عن مفهومِ التَّفسيرِ، وإنما ذُكرت في ¬

(¬1) روح المعاني (1:4). (¬2) ينظر: مقدمة جامع التَّفاسير، للراغب، تحقيق: الدكتور أحمد حسن فرحات (ص:47).

كتبِه، إمَّا لقربها من علمِ التَّفسيرِ بكونها من علومِ القرآنِ، وإمَّا لتفنُّنِ المفسِّر بذكرِ العلمِ الذي برز فيه، فجعل تفسيره للقرآنِ ميداناً لتطبيقاتِ علمِه، وإمَّا لوجودِ علاقةٍ أخرى بينها وبين ما يذكره المفسِّرُ، وإمَّا أن لا يكون لها علاقةٌ البتَّةَ، وإنما ذكرَها المفسِّرُ بسببِ المنهجِ الذي نهجَه في تفسيرِه. وهذا البيان قد يكون بآية، وقد يكون بتفسير نبوي، وقد يكون بسنة عامة، وقد يكون بسبب نزول، وقد يكون باللغة، وقد يكون بذكر قصة الآية، وقد يكون بغيرها من المصادر التي هي من أنواع البيان عن معنى آي القرآن. وهذا يعني أن المعلومات التي يذكرها المفسرون، وهي خارجة عن حدِّ البيان للآيات = ليس من صلب التفسير، وذِكْرُهم لها في تفاسيرهم ليس حجةً في إدخالها، لهذا قد يذكر بعضهم اعتراضات على بعض المفسرين، أو يذكر تنبيهاً في عدم دخول بعض المعلومات في التفسير، ومن ذلك: 1 - قال ابن عطية الأندلسي (ت:542) في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]: «وطلاق النساء حَلُّ عصمتهنَّ. وصور ذلك وتنويعه مما لا يختصُّ بالتفسير» (¬1). ¬

(¬1) المحرر الوجيز، طـ: قطر (14:489).

2 - قال أبو حيان الأندلسي (ت:745) في تفسير قوله تعالى: {فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]: «وقد تعرَّض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً، وليس ذلك من علم التفسير، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير» (¬1). 3 - قال الشوكاني (ت:1250) في أول سورة الإسراء: «واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين ـ كابن كثير والسيوطي وغيرهما ـ في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كُتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كُتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز وذكر أسباب النُّزول وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة» (¬2). 4 - قال الطاهر بن عاشور (ت:1393) في تفسير قوله ¬

(¬1) البحر المحيط (1:169). (¬2) فتح القدير (3:208). وكتابه ـ رحمه الله ـ لم يسلم من هذه الفَضْلَةِ التي لا تدعو إليها حاجة.

نظرة في المعلومات الواردة في كتب التفسير

تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2]: «ولم يشر القرآن إلى اسم الظَّهْرِ، ولا إلى اسم الأمِّ = إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذٍ، بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد من هذه الكلمات الثلاث تجرداً واضحاً. والصور عديدة، وليست الإحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى، وليس من مهيع التفسير» (¬1). ولا شكَّ أنَّ أقوال هؤلاء تشير إلى ما ذكرته من وجود حدٍّ للتفسيرِ، ووجود معلومات زائدةٍ عن هذا الحدِّ يذكرها المفسرون. نظرة في المعلومات الواردة في كتب التفسير لقد تأمَّلتُ المعلومات الواردة في كتبِ التَّفسيرِ، فوجدت منها ما ينطبق عليه حدُّ البيان، ومنها ما لا ينطبقُ عليه حدُّ البيانِ؛ أي أنَّ عدمَ وجودِها لا يؤثِّرُ في فهم المعنى وبيانِه. وقد قمتُ بترتيبِ هذه المعلوماتِ الواردة في كتب التفسير على الشَّكلِ الآتي: ¬

(¬1) التحرير والتنوير (28:12).

1 - تفسيرُ القرآنِ، أي: بيانه بياناً مباشراً. ومن الأمثلةِ تفسيرُ لفظِ: «البروجِ» في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، فقد فسِّر لفظ البروج بأنه النُّجومُ، فيكونُ المعنى: يقسمُ ربُّنا تعالى بالسماءِ صاحبةِ النُّجومِ. فإنْ قلتَ: ما الموقفُ من الوجوهِ التَّفسيريَّةِ، هل تُعَدُّ من التَّفسيرِ؟. فالجوابُ: نعم. واحتمالُ الآيةِ لأكثرَ من وجهٍ لا يعني خروجَ هذه الأوجه عن التَّفسيرِ، بل هي منه؛ لأنَّ في كلٍّ منها بياناً، وإن اختلفتْ في تحديده. مثالُ ذلك، اختلافهم في معنى «انكدرت» من قوله تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2]، فقد ورد فيها معنيان: الأول: تناثرت، فجعلهُ من الانكدار؛ أي: الانصباب، ويشهدُ له قوله تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2]. الثاني: تغيَّرت، فجعله من الكُدرةِ، وهي التَّغيُّرُ بعد

الصَّفاء، ويشهد له قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات: 8]. وفي كلا المعنيينِ بيانٌ، فلو قلتَ بالقولِ الأولِ، لكان المعنى: «وإذا النُّجومُ تناثرت وسقطت». وإذا قلتَ بالقول الثاني، كان المعنى: «وإذا النُّجومُ تغيَّرت وذهب ضوؤها». وهذا يعني أنَّك في هذه الخلافاتِ التَّفسيريَّةِ لا ترى: هل وقع الخلافُ في المعنى المرادِ أم لا؟. وإنَّما الذي يَعْنِيكَ فيها: هل هذه الأوجهُ التَّفسيريَّةُ المختلفةُ ينطبقُ عليها حدُّ البيانِ أم لا؟. 2 - معلوماتٌ تفيدُ في تقويةِ بيانِ المعنى، وبهذا تكونُ أقربَ إلى علمِ التَّفسيرِ من غيرها، والفرق بينها وبين سابِقها: أنَّ المعنى يكونُ قد اتَّضحَ وبانَ، وهذه المعلوماتُ تزيدُه وضوحاً وتقويِّه، بحيثُ لو جهلها المفسِّرُ، فإنَّها لا تؤثِّر على فَهمِ المعنى المرادِ. ومن أمثلتِه، ما لو قال من فسَّرَ البروجَ بالنُّجومِ: أنَّ مادَّةَ: «بَرَجَ» في اللُّغةِ تدلُّ على الظهورِ والبروزِ، كقولهم: تبرَّجت المرأةُ: إذ أظهرتْ زينتها ومحاسنَها، ومنه كانتِ

النُّجومُ بروجاً؛ لظهورِها وبروزِها للعيانِ، فيكونُ إطلاقُ البروجِ على النُّجومِ من هذا البابِ. لو كُنتَ تفتقِد هذه المعلومةَ بعدَ معرفتِك أنَّ البروجَ هي النُّجومُ، لما أثَّرَ ذلك عليكَ في البيانِ عن المعنى المرادِ بالبروجِ. لكنَّ ورودَ هذه المعلومةِ يقوِّي عندك هذا التَّفسيرَ، ويبيِّنُ لك أصلَه الذي صدرَ عنه، واللهُ أعلمُ. 3 - استنباطاتٌ عامَّةٌ، في الآدابِ، والفقه، وغيرِها. ومن أمثلةِ هذه الاستنباطاتِ ما ذكرَه السُّيوطيُّ (ت:911)، قال: «قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ} [المسد: 4]، استدلَّ به الشَّافعيُّ على صحَّة أنكحةِ الكفَّارِ» (¬1). والآيةُ لم تأتِ لأجلِ هذا الحُكمِ الذي استنبطَه الإمامُ الشَّافعيُّ (ت:204). والمرادُ بهذه الاستنباطات هنا ما كانَ وراءَ الأحكامِ الصَّريحةِ في الآيةِ؛ لأنَّ بيانَ الحُكمِ الَّذي تدلُّ عليه الآيةُ صراحةً = تفسيرٌ. هذا، وسيأتي لاحقاً مزيدُ بسطٍ لموضوع الاستنباطات. ¬

(¬1) الإكليل في استنباط التَّنْزيلِ، للسيوطي (ص:230).

4 - لطائفُ ومُلَحٌ تفسيريَّة (¬1). ومن أمثلتِها، ما ذُكرَ من دلالةِ لفظ «بعث» في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، أَنَّه يفيدُ أنَّ هؤلاءِ كانوا موتى باعتقاداتِهم، فبعثَ الله لهم النَّبي صلّى الله عليه وسلّم ليحييهم. وهذه اللَّطائفُ يختلفُ في استملاحِها النَّاسُ، وليس لها ضابطٌ يُتَّفق عليه في استحسانها؛ لتعلُّقِها ـ غالباً ـ بالأذواقِ، وأذواقُ المتذوِّقينَ تختلفُ. 5 - معلوماتٌ علميَّةٌ تتعلَّقُ بعلومِ القرآنِ. لتعلُّقِ مسائلِ علومِ القرآنِ والتَّفسيرِ بالقرآنِ = يختلطُ الأمرُ على بعضِ النَّاسِ، فيعدُّ بعضَ مسائلِ علومِ القرآنِ من التَّفسيرِ، وهي ليست كذلك، والضَّابطُ في ذلكَ أنَّ أيَّ معلومةٍ من علومِ القرآنِ لها أثرٌ في فهمِ الآيةِ، فإنها تُعَدُّ من التَّفسيرِ، أَمَّا إِذا لم يكنْ لها أثرٌ في الفَهمِ، ولا يقومُ عليها بيانُ المعنى، فإنَّها من علومِ القرآنِ لا التَّفسيرِ. ¬

(¬1) ذكر ابن عطيَّةَ المحرر الوجيز، طـ: قطر (1:82) موقع هذه المُلَحِ من العلمِ، فقال: «وهذا من ملحِ التَّفسيرِ، وليسَ من متينِ العلمِ».

ومن الأمثلةِ على ذلك، ما ذكره ابن عطيَّةَ (ت:542) في أوَّل تفسيرِ سورة البقرةِ، قال: «هذه السُّورةُ مدنيَّةٌ، نزلت في مُدَدٍ شتَّى، وفيها آخرُ آيةٍ نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]. ويقال لسورةِ البقرةِ: «فسطاطُ القرآن»؛ لعِظَمِها وبهائها، وما تضمَّنته من الأحكامِ والمواعظِ. وتعلَّمَها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلومِ في ثمانية أعوامٍ. وفيها خمسمائةِ حكمٍ، وخمسة عشر مثلاً ...» (¬1). ثمَّ ذكر أحاديث في فضلها، ثمَّ قال: «وعدد آي سورةِ البقرةِ مائتانِ وخمسٌ وثمانون آية، وقيل: وستٌ وثمانون، وقيل: وسبعٌ وثمانون» (¬2). وإذا فرزتَ هذه المعلوماتِ، وجدتَ أنَّها من علومِ القرآنِ، وأنَّ جلَّها مما لا يفيدُ في بيانِ المعنى، سوى ما ذكرَ من مدنيَّتِها، فإنَّه قدْ يُحتاجُ إلى ذلكَ في بعضِ ¬

(¬1) المحرر الوجيز، طـ: قطر (1:136). (¬2) المحرر الوجيز، طـ: قطر (1:138).

المواطنِ، كادِّعاءِ نسخِ آيةٍ من آياتِها بآيةٍ مكيَّةٍ، أو غيرِ ذلكَ مما له أثرٌ في البيانِ. 6 - معلوماتٌ علميَّةٌ عامَّةٌ من شتَّى المعارفِ الإسلاميَّةِ وغيرِها، والغالبُ عليهَا أنَّها لا صلةَ لها بعلمِ التَّفسيرِ، وإنما يكونُ المفسِّرُ ممن برزَ في علمٍ من هذه العلومِ، فيحشو تفسيرَه به، فالفقيهُ يوردُ مسائل علمِ الفقهِ، والنَّحويُّ يوردُ مسائلَ علمِ النَّحوِ، والمتكلِّمُ يوردُ مسائلَ علم الكلامِ، وهكذا غيرُها من فروعِ العلومِ، خصوصاً العلوم الإسلاميَّة. ويدخلُ في هذا القسمِ كثيرٌ من التَّفاسيرِ التي اعتمدت مناهجَ مخالفةً؛ كالتَّفاسيرِ الصُّوفيَّةِ، والباطنيَّةِ، والفلسفيَّةِ، وغيرِها. والأمثلةُ في هذا النَّوعِ تطولُ، وفي هذا من الوضوحِ ما ليس في سابقِه، فمثلاً: لأجل أن ابن كثير (ت:774) محدثٌ، فإنه يورد الحديث بعد الحديث من الأحاديث الكثيرة المتعلقة بالآية، وقد علَّق عليه الشَّوكانيُّ (ت:1250) في هذا الباب، فقال: «واعلمْ أنَّه قد أطالَ كثيرٌ من المفسرين ـ كابن كثير والسُّيوطيِّ وغيرهما ـ في هذا الموضعِ بذكرِ الأحاديثِ الواردةِ في الإسراءِ على اختلافِ ألفاظِها.

وليس في ذلك كثيرُ فائدةٍ، فهي معروفةٌ في موضعِها من كتبِ الحديثِ، وهكذا أطالوا بذكرِ فضائلِ المسجدِ الحرامِ والمسجدِ الأقصى، وهو مبحثٌ آخر، والمقصودُ في كتبِ التَّفسيرِ ما يتعلَّقُ بتفسيرِ ألفاظِ الكتابِ العزيزِ، وذكرِ أسبابِ النُّزولِ، وبيان ما يؤخذُ منه من المسائلِ الشَّرعيَّةِ، وما عدا ذلك فهو فَضْلَةٌ لا تدعو إليه حاجةٌ» (¬1). وهذه الاستطراداتُ العلميَّةُ إنما يكونُ محلُّها كتبَ العلمِ الذي تنتمي إليه، فالاستطراد في المسائل الفقهية محله كتب الفقه، والاستطراد في المسائل النحوية محله كتب النحو، وهكذا. وبعد استعراضِ المعلوماتِ التي في كتبِ التَّفسيرِ، أعودُ فأقولُ: إنَّ التَّفسيرَ إنَّما هو شرحٌ وبيانٌ للقرآنِ الكريمِ، فما كانَ فيه بيانٌ، فهو تفسيرٌ، وما كان خارجاً عن حدِّ البيانِ، فإنَّه ليس من التَّفسيرِ، وإن وُجِدَ في كتبِ المفسِّرينَ. وبهذا الضَّابطِ يمكنُ تحديدُ المعلوماتِ التي هي من التَّفسيرِ، وليس بلازمٍ هنا أن يُذكرَ كلُّ ما هو من التَّفسيرِ؛ لأنَّ المرادَ ذكرُ الحدِّ الضابطِ، وليس ذكرَ منثوراتِ هذا البيانِ. ¬

(¬1) فتح القدير (3:208).

تعريفات العلماء للتفسير

وبهذا فتخصيصُ العامِّ بيانٌ، وتقييدُ المطلقِ بيانٌ، وبيانُ المجملِ بيانٌ، وتفسيرُ اللفظِ الغريبِ بيانٌ، وذكرُ سببِ النُّزولِ بيانٌ، وكلُّ ما له أثرٌ في فهم المعنى بيانٌ، وهو التَّفسيرُ. تعريفاتُ العلماءِ للتَّفسيرِ للعلماء في تعريف التَّفسيرِ تعبيراتٌ كثيرةٌ، يطولُ المقامُ بسردها (¬1)، ولقد اطَّلعتُ على جملةٍ من التَّعريفاتِ، منها: 1 - تعريفُ ابن جُزَيٍّ (ت:741)، قالَ: «معنى التَّفسيرِ: شرحُ القرآنِ، وبيانُ معناه، والإفصاحُ بما يقتضيه بنصِّه أو إشارَتِه أو نجواه» (¬2). ¬

(¬1) ينظر في تعريف التفسير: التسهيل لعلوم التنْزيل، لابن جُزَي (1:6)، البحر المحيط، لأبي حيان (1:26)، والبرهان في علوم القرآن، للزَّركشي (1:13)، (2:149 - 150)، وتفسير ابن عرفة، برواية الأبي (1:59)، والتيسير في قواعد التفسير، للكافيجي (ص:124 - 125)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (4:167 - 169)، ومفتاح السعادة، لطاش كبري زاده (2:530 - 532)، وقد نقله من الإتقان. وأبجد العلوم، للقنوجي (2:172 - 177)، والتحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (1:11)، ومناهل العرفان، للزرقاني (2:3)، أصول في التفسير، لابن عثيمين (ص:25). (¬2) التهسيل لعلوم التَّنْزيل، لابن جُزَي (1:6).

* وعرَّفَهُ أبو حيان (ت:745)، فقال: «التفسيرُ: علمٌ يُبحثُ فيه عن كيفيةِ النطقِ بألفاظِ القرآنِ، ومدلولاتِها، وأحكامِها الإفراديَّةِ والتركيبيَّةِ، ومعانيها التي تُحمَلُ عليها حالَ التركيبِ، وتتماتُ ذلك. فقولنا: «علم»: هو جنسٌ يشملُ سائرَ العلومِ. وقولنا: «يُبحثُ فيه عن كيفيَّةِ النُّطقِ بألفاظِ القرآنِ»: هذا علمُ القراءاتِ. وقولنا: «ومدلولاتها» أي: مدلولاتِ تلك الألفاظِ، وهذا علمُ اللُّغةِ الذي يُحْتاجُ إليه في هذا العلمِ. وقولنا: «وأحكامها الإفرادية والتَّركيبية»: هذا يشملُ علمَ التَّصريفِ وعلمَ الإعرابِ وعلمَ البيانِ وعلمَ البديعِ. «ومعانيها التي تحمل عليها حال التَّركيب»: شملَ بقوله: «التي تحمل عليها»: ما دلالته عليه بالحقيقةِ، وما دلالتُه عليه بالمجازِ، فإنَّ التَّركيبَ قد يقتضي بظاهره شيئاً، ويصدُّ عن الحملِ على الظَّاهرِ صادٌّ، فيحتاج لأجل ذلك أن يُحملَ على غيرِ الظَّاهرِ، وهو المجازُ. وقولنا: «وتتمات ذلك»: هو معرفةُ النَّسخِ، وسببُ

النُّزولِ، وقصةٌ توضِّحُ ما انبهَم في القرآنِ، ونحو ذلك» (¬1). * وعرَّفه الزَّرْكَشِيُّ (ت:794) في موضعينِ من كتابِه البرهانِ في علومِ القرآن، فقالَ في الموضعِ الأوَّلِ: «علمٌ يُعرفُ به فَهْمُ كتابِ اللهِ المنَزَّلِ على نبيه محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وبيانُ معانيه، واستخراجُ أحكامِه وحِكَمِهِ» (¬2). وعرَّفه في الموضعِ الثاني، فقال: «هو عِلْمُ نُزولِ الآيةِ وسورتِها وأقاصيصِها والإشاراتِ النَّازلةِ فيها، ثُمَّ ترتيبُ مكِّيِّها ومدنيِّها، ومحكمِها ومتشابِهها، وناسخِها ومنسوخِها، وخاصِّها وعامِّها، ومطلقِها ومقيدِها، ومجملِها ومفسرِها. وزادَ فيه قومٌ، فقالوا: علمُ حلالِها وحرامِها، ووعدِها ووعيدها، وأمرِها ونهيِها، وعِبَرِها وأمثالِها» (¬3). * وقال ابنُ عَرَفَة المالكي (ت:803): «... هو العلمُ بمدلولِ القرآنِ وخاصِّيَةِ كيفيةِ دلالتِه، وأسبابِ النُّزولِ، والنَّاسخِ والمنسوخِ. ¬

(¬1) البحر المحيط، لأبي حيان (1:26)، وقد نقل عنه ـ باختصار ـ الكفويُّ في الكليات، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري (ص:260). (¬2) البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1:13). (¬3) البرهان في علوم القرآن، للزركشي (2:148).

تحليل هذه التعريفات

فقولنا: خاصيةِ كيفيَّةِ دلالتِه: هي إعجازُه، ومعانيه البيانيَّةُ، وما فيه من علمِ البديعِ الذي يذكره الزَّمَخْشَرِيُّ، ومن نحا نحوه» (¬1). * وقال الكَافِيجِيُّ (ت:879): «وأمَّا التَّفسيرُ في العُرْفِ، فهو كشفُ معاني القرآنِ، وبيانُ المرادِ. والمرادُ من معاني القرآنِ أعمُّ، سواءً كانت معاني لغويَّةً أو شرعيَّةً، وسواءً كانت بالوضعِ أو بمعونةِ المقامِ وسَوْقِ الكلامِ وبقرائنِ الأحوالِ؛ نحو: السمَّاء والأرض والجنَّة والنَّار، وغير ذلك. ونحو: الأحكام الخمسة. ونحو: خواصِّ التَّركيب اللازمة له بوجه من الوجوه» (¬2). تحليل هذه التَّعريفاتِ: أوَّلاً: أنَّ بعضَ هذه التَّعريفاتِ قد نصَّ على مهمَّةِ المفسِّرِ، وضابطِ التَّفسيرِ، وهي الشَّرحُ والبيانُ والإيضاحُ. ثانياً: أنَّ بعضها قد أدخل جملةً من علومِ القرآنِ في تعريفِ التَّفسيرِ، وأنَّها قد جاءت في بعضِها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، وسبب ذلك: كثرةُ هذه العلومِ، كتعريف أبي حيَّان (ت:745) والزركشيِّ (ت:794). ¬

(¬1) تفسير ابن عرفة، برواية الأبي (1:59). (¬2) التيسير في قواعد التفسير، للكافيجي (124 - 125).

ويظهرُ أنَّ أصحابَ هذه التَّعريفاتِ لم يُميِّزوا بين التَّفسيرِ وعلوم القرآن، فأدخلوا في مصطلحِ التَّفسيرِ ما ليس منه. ثالثاً: أنَّ بعضَهم قد توسَّعَ في تعريفِه، وجعلَ بعضَ العلومِ التي ليست من علمِ التَّفسيرِ، ولا من مُهِمَّةِ المفسرِ، جعلَها من صلبِ تعريفِ التَّفسيرِ؛ كابن عرفة (ت:803) الذي جعل علم الإعجازِ من علمِ التَّفسيرِ، والكافيجيِّ (ت:879) الذي أدخل في تعريفه علم أصول الفقه. وهذا ليسَ بصحيحٍ، ويظهرُ أنَّ سببَ ذلك؛ أنهم لم يُحدِّدُوا مهمةَ المفسِّرِ، حتَّى أنَّ بعضَ من تحدَّث عن العلوم التي تلزمُ المفسِّرَ ذكرَ جملةَ العلومِ الإسلاميَّةِ التي لو كانت في مفسِّرٍ لكان مجتهداً مطلقاً في الشَّريعةِ. وهذه العلوم، وإن كان المفسِّرُ بحاجةِ شيءٍ منها، إلاَّ أنَّ من ذكرَها لم يذكر المقدارَ الذي يحتاجُه المفسِّرُ من كلِّ علمٍ منها. كما يظهر أنَّ التخصص الذي يغلب على المفسر يجعله لا يرى أحداً أحقَّ بالتفسير حتى يكتمل في العلم الذي برز هو فيه، لذا ترى الزمخشري (ت:538) لا يرى المفسر مفسراً حتى يكون له نصيب من علم المعاني وعلم البيان (أي: علم البلاغة).

قال الزمخشري: (ت:538): «ثُمَّ إن أملأَ العلوم بما يغمرُ القرائحَ، وأنهضَها بما يبهرُ الألبابَ القوارحَ من غرائبِ نكتٍ يلطفُ مسلكُها، ومستودعاتِ أسرارٍ يدقُّ سِلْكها = علمُ التفسير الذي لا يتمُّ لتعاطيه وإجالةِ النظرِ فيه كلُّ ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن. فالفقيهُ وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلمُ وإن بزَّ أهلَ الدنيا في صناعةِ الكلامِ، وحافظُ القصصِ والأخبارِ وإن كان من ابن القِرِّيَّة أحفظ، والواعظُ وإن كان من الحسنِ البصري أوعظ، والنحويُّ وإن كان أنحى من سيبويه، واللغويُّ وإن علك اللغاتِ بقوة لحييه = لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجلٌ قد برعَ في علمين مختصين بالقرآنِ، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهَّلَ في ارتيادِهما آونةً، وتعبَ في التنقيرِ عنهما أزمنةً، وبعثته على تتبُّعِ مظانِّهما هِمَّةٌ في معرفةِ لطائفِ حجةِ اللهِ، وحرصٌ على استيضاحِ معجزةِ رسولِ اللهِ، بعد أن يكونَ آخذاً من سائرِ العلومِ بحظٍ، جامعاً بين أمرين: تحقيقٍ وحفظٍ ...» (¬1). ¬

(¬1) الكشاف (1: 15 - 17).

وإذا تأمَّلت هذا العلم الذي نصَّ عليه الزمخشري (ت:538) ـ أي: علم البلاغة ـ وجدت أنه إنَّما يحتاجُه من كانَ عملُه زائداً عن مهمَّةِ التَّفسيرِ، كمن يريدُ بيانَ إعجازِ القرآنِ الكريمِ ببلاغتِهِ، فإنَّه لا شكَّ بحاجةٍ إلى التَّبحُّرِ في علم البلاغةِ ليُبيِّنَ البلاغةَ القرآنيَّةَ، ولكن هذا ليس من مهمةِ المفسِّر، واللهُ أعلمُ. ولو جُرِّدَ التَّفسيرُ من كثيرٍ من هذه المعلوماتِ، لتقاربتْ مناهجُ المفسِّرين، ولكان جلُّ الخلافِ بينهم في وجوهِ التَّفسيرِ، وترجيحِ أقوالِ المتقدِّمينَ. ولا شكَّ أنَّ هذا لو كانَ، لما كان هناكَ معلوماتٌ كثيرةٌ ومفيدةٌ مما يُرَى الآن في التَّفاسيرِ، ولذا فإنَّ هذه المرحلةَ المهمَّة ـ وهي بيانُ القرآنِ ـ يحسنُ أن تُبرز ويُعتَنَى بها، ثمَّ يمكن أن يؤتَى بعد ذلك بالمعلوماتِ التي ليست من صلبِ التَّفسير. ولو أخذتَ مجموعةَ آياتٍ، وقرأتها في عددٍ من التَّفاسيرِ، فإنَّكَ ستجدُ اتِّفاقَها في المعلوماتِ المتعلِّقةِ بالبيانِ، وإن اختلفت في طريقةِ عرضِها لها، وفي تحديدِ الوجه المرادِ بالآيةِ، وطريقتِها في التَّرجيحِ. ثمَّ ستجدُ أنَّ كلَّ تفسيرٍ يتميَّزُ بمعلوماتٍ لا تَجدُها عند الآخرِ، وهذه المعلومات لا حصرَ لها، فقد تكونُ في

علم اللُّغةِ، أو علمِ النَّحوِ، أو علم الصَّرفِ، أو علمِ البلاغةِ، أو علمِ الفقهِ، أو علم الحديثِ، أو علومٍ أخرى. كما ستجدُ تميُّزاً في ذكرِ بعضِ فوائدِ الآي والاستنباطِ منها، فقد يذكر بعضهم فوائدَ مستنبطةً لا يشيرُ إليها غيرُه، كقول ابن كثيرٍ (ت:774) في تفسير قوله تعالى: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16]، قال: «وقوله: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16]، أي: خُلُقُهم كريمٌ حَسَنٌ شريفٌ، وأخلاقهم وأفعالُهم بارَّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ [يعني: الملائكة]. ومن ها هنا ينبغي لحامل القرآنِ أن يكونَ في أفعالِه وأقوالِه على السَّدادِ والرَّشادِ» (¬1). ولمَّا كان المقصدُ من التَّعريفِ تحريرُ المرادِ بالعلمِ، كانَ ما ذكرتُ لكَ من نقدِ بعضِ التَّعريفاتِ، أمَّا ما سلكه بعضُ العلماءِ من منهجٍ في كتابةِ تفاسيرِهم، فهذا لا يوجَّهُ إليه النَّقدُ من هذه الجِهةِ؛ لأنَّه أرادَ أن يكونَ في تفسيرِه مثلُ هذه المعلوماتِ الفقهيَّةِ أو النَّحويَّةِ أو الأصوليَّةِ أو غيرِها، لكن إن جُعلتْ هذه المعلوماتُ التي هي خارجةٌ عن حدِّ البيانِ من صلبِ التَّفسيرِ، فها هنا يكونُ النِّقاشُ وتحريرُ المرادِ بمصطلحِ التَّفسيرِ. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (8:321).

زيادات المتأخرين في كتب التفسير

والمصطلحُ الذي ذكرتُه بضابطِه ـ وهو بيانُ القرآنِ ـ أقربُ إلى منهجِ تفسير السَّلفِ، إذ لا تجدُ عندهم في تفاسيرِهم تلك الاستطراداتُ التي عند المتأخِّرينَ. وقد كان الطبري (ت:310) يحرص على بيان المعنى ـ الذي هو التفسير ـ، وقد يذكره بعد جملة الآيات التي يفسرها، وقد يذكره في ترجيحاته. زيادات المتأخرين في كتب التفسير: قد تأمَّلتُ ما يكونُ من الزِّياداتِ التي زادها المتأخِّرونَ على تفاسيرِ السَّلفِ، فظهرَ لي الآتي: 1 - تقويةُ ما وردَ عن السَّلفِ من اختياراتٍ تفسيريَّةٍ، وزيادةُ الاحتجاجِ لها، سواءٌ اختارَ إحدَى هذه التَّفسيراتِ أم لم يختر. 2 - ذكر معلوماتٍ قرآنيَّةٍ لا علاقةَ لها بتفسيرِ الآيةِ مباشرةً، وإن كانت تتعلَّقُ بالآيةِ من وجهٍ آخرَ، وهو كونها من علومِ القرآنِ. 3 - التوسُّع في العلمِ الذي برزَ فيه المؤلِّفُ، والاستطرادُ في ذكر تفاصيلِ مسائلِه، حتَّى يكادُ أن يخرجَ بتفسيرِه من كونِه كتاباً في التَّفسيرِ إلى كونِه كتاباً في ذلك العلمِ الذي برع فيه.

تطبيق على سورة الكوثر

ويظهر على بعض هذه العلوم أنها مما زاده المتأخرون في التفسير على ما ورد عن السلف؛ كعلم الإعراب والتفصيلات الواردة فيه، والتوسع في المسائل اللغوية والتصريفية والاشتقاقية، والتفصيل في وجوه الأداء في القراءة، وبيان مواطن البلاغة القرآنية للدلالة على إعجازه، والتفصيل في الأحكام الفقهية التي لم يرد النصُّ عليها في القرآن، وغيرها من العلوم التي حدثت وضُبِطت مسائلها بعد جيل السلف. 4 - ذكرُ أوجهٍ تفسيريَّةٍ جديدةٍ عمَّا هو واردٌ عن السَّلفِ. 5 - ذكر جملةٍ من الاستنباطات الفقهيَّةِ والأدبيَّةِ، والاستدلال للمسائل العقدية، وغيرِها. ويمكنُ أن تظهرَ لك هذه النِّقاطُ بتأمُّلِ سورةٍ من السُّورِ، وعرضها ـ على سبيل المثال ـ على تفسيرِ الطَّبريِّ (ت:310)، وتفسيرِ القرطبيِّ (ت:671)، وتفسير أبي حيَّان (ت:745)، وتفسير الطاهر بن عاشور (ت:1393)، وسيظهرُ لك هذا جليًّا بإذن اللهِ. تطبيق على سورة الكوثر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3].

أولا- التفسير

أولاً ـ التفسيرُ: يخبر ربنا تبارك وتعالى نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك النهر العظيم في الجنة الذي اسمه الكوثر، وهو جزء من الخير الكثير الذي أعطاه إيَّاه. ثم أمره الله بأن يؤدي شكر هذه النعمة بأن تكون الصلاة والذبح له سبحانه لا كما يفعل المشركون الذين يذبحون للأصنام. ثم أخبره أنَّ مبغضه هو المنقطع عن كل خير، بخلافك أنت فيما أعطاك الله من الخير. وجوه التفسير في السورة: ليُعلم أن المراد هنا ذكرُ وجوه التفسير التي وردت في هذه الكتب، وليس المراد تصحيح هذه الوجوه أو تضعيفها؛ لأن المقام مقام بيان كونها تفسيراً فحسب، وإليك ألفاظ الآية وما ورد فيها من وجوه: الكوثر: الوجه الأول: الكوثر: الشيء الكثيرُ، ويكون المعنى: إن وهبناك شيئاً كثيراً، وهذا يشملُ كلَّ خيرٍ أعطاه اللهُ لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم من خير الدُّنيا والآخرةِ، من النبوة،

الصلاة والنحر

والقرآن، وكثرةِ الأتبَاعِ، والشفاعة، والحوضِ، وغيرِها. الوجه الثاني: الكوثرُ: النهر الذي أُعطيَه في الجَنَّةِ، ويكونُ المعنى: إنَّا وهبناك نهر الكوثرِ الذي في الجنَّةِ. وفي الكوثرِ غيرُ هذه الأقوالِ، قال أبو حيَّان معلِّقاً عليها: «وينبغي حمل هذه الأقوال على التَّمثيلِ» (¬1). الصلاة والنَّحرُ: الوجه الأول: الصلاة والنَّحرُ على عمومِهما، فيشملُ كلَّ صلاةٍ وكلَّ نحرٍ، ويكونُ المعنى: اجعل صلاتك كلَّها، وذبائحكَ كلها لله ربِّكَ. الوجه الثاني: صلِّ يوم النَّحرِ صلاةَ العيدِ لأجلِ ربِّكَ، واذبح أضحيتك بعدها. الوجه الثالث: اجعل صلاتك لله ربِّك، واجعل يديك على صدركَ، قريباً من نحركَ. الوجه الرابع: اجعل صلاتك لله ربِّك، وارفع يديك عند الافتتاح للصلاة إلى نحرك. الوجه الخامس: اجعل صلاتك لله ربِّك، واستقبل القبلةَ بنحركَ. ¬

(¬1) البحر المحيط (10:556).

الشانىء الأبتر

الشانئ الأبتر: لم يقع خلافٌ في معنى الشانئ الأبتر، وأنَّ معناه: إنَّ مبغضك هو المقطوع؛ أي: عن الخير. وما وردَ من تحديدِ بعضِ الأعيانِ الذين نزل فيهم الخطابُ لا يعني أنَّ هذه التحديدات أقوالٌ أخرى، بل هي أمثلةٌ لمن يتَّصفُ بأنه مبغضٌ للرسولِ صلّى الله عليه وسلّم، وأنَّ هذا المبغض هو الذليلُ المقطوع عن كلِّ خيرٍ. ثانياً ـ المعلومات التي تأتي بعد التَّفسيرِ: بعد هذه المعلومات التي سبقت في التَّفسيرِ ووجوههِ، فإنَّ الغالبَ عليها أنَّها تكونُ خارجةً عن حدِّ البيانِ، ومن هذه المعلومات: * حكايةُ مناسبةِ السُّورةِ لما قبلها، قال أبو حيان (ت:745): «ولما ذكر فيما قبلها [أي: سورة الماعون] وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرِّياءِ ومنع الزَّكاةِ، قَابَلَ في هذه السورةِ البخل بـ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، والسَّهوَ في الصلاةِ بقوله: {فَصَلَ}، والرِّياءِ بقوله: {لِرَّبِكِ}، ومنع الزَّكاةِ بقولِه: {وَانْحَرْ}؛ أراد: تصدَّق بلحم الأضاحي، فقابل أربعاً بأربعٍ» (¬1). ¬

(¬1) البحر المحيط (10:555).

وهذا الذي ذكره أبو حيَّان (ت:745) من مُلحِ التَّفسيرِ، وغالبُ علمِ المناسباتِ من باب المُلحِ واللَّطائِفِ؛ لأنَّ معرفتها لا تؤثِّرُ بالتَّفسيرِ، وفقدها لا ينقص من معرفته. * ذكر الطَّاهرُ بن عاشور (ت:1393) ما يتعلَّق بتسميةِ السورةِ، وأورد الآثارَ في ذلك (¬1). وتسمية السورة والاختلافُ فيها لا أثر له في تفسيرِ الآيات، بل هو من علومِ القرآنِ. * ذكر الطاهرُ بن عاشور (ت:1393) عدد آياتها (¬2)، وأنَّها أقصر سور القرآن. وكلُّ هذا لا أثر له في التَّفسيرِ، وهو من علوم القرآنِ. * ذكر الطاهرُ بن عاشور (ت:1393) أغراض السُّورةِ، وهي جملةُ الموضوعات التي طرحتها السُّورةُ (¬3). وهذا من علوم القرآنِ؛ لأنَّه لا أثر له في بيانِ الآيات. ¬

(¬1) مما يتميَّزُ به تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور أنه يذكر في مقدمة كلِّ سورةٍ الآثار الواردة في تسمية السورةِ، وسبب تسميتها بهذه الأسماء الواردة، وهو من المباحث النادرة في كتب علوم القرآنِ، بله كتب التَّفسيرِ. (¬2) كذا ذكر القرطبي أيضاً في الجامع لأحكام القرآن (20:216). (¬3) هذا المبحث، وهو أغراض السورةِ مما يتميَّز به تفسير الطاهر بن عاشور، فهو يقدِّم لكلِّ سورةٍ أغراضها التي تشتمل عليها.

* حكايةُ قراءة من قرأ «أعطيناك»، قرأها: «أنطيناك»، وهما بمعنًى، وقد ذكروا شاهداً لغويًّا لهذه القراءةِ (¬1)، وهذا لا أثر له في التفسيرِ، وهو من علمِ القراءةِ المحضِ. * وذكروا معنى الكوثر في اللغةِ وشواهده، وأنَّه بناءُ مبالغةٍ من الكثرةِ. وفي هذا تقويةٌ لتفسيرِ معنى الكوثرِ بالشَّيء الكثيرِ، وبيانٌ لوجه كونِ غيرِه من الأشياء يطلق عليها مسمَّى الكوثرِ؛ لأنَّ فيها أصلَ معنى هذا اللَّفظِ، فبيان المعنى قد تمَّ بعد معرفةِ مدلولِ اللَّفظِ، وما يُذكرُ بعد ذلك من المعاني فهي من باب تقويةِ التَّفسيرِ وتأييده. * ذكر الطاهرُ بن عاشور (ت:1393) بعض النِّكات البلاغية، فقال: «افتتاح الكلامِ بحرفِ التَّأكيدِ للاهتمام بالخبرِ. والإشعار بأنه شيء عظيمٌ، يستتبعُ الإشعار بتنويه شأن النَّبي صلّى الله عليه وسلّم كما تقدَّم في {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. والكلام مسوق مساق البشارةِ وإنشاءِ العطاءِ لا مساق الإخبار بعطاءٍ سابقٍ. ¬

(¬1) ينظر مثلاً: المحرر الوجيز، طـ: قطر (15:582)، والجامع لأحكام القرآن (20:216)، والبحر المحيط (10:555 - 556).

وضميرُ العظمةِ مشعرٌ بالامتنانِ بعطاءٍ عظيمٍ» (¬1). وهذا كلُّه خارجٌ عن حدِّ التَّفسيرِ؛ لأنَّه لا أثر له في بيانِ المعاني، وإن كان من العلوم المتعلِّقةِ بالآيةِ مباشرةً. وذكر مناسبةَ ذكر الصلاة والشكر إلى قوله: {الأَبْتَرُ}، والعدولَ عن الضمير إلى الاسم الظَّاهرِ في قوله: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ}، وفائدةَ إضافة اسم الرَّبِّ إلى النَّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكلُّ هذا من علومِ الآيةِ التي تتعلَّقُ ببلاغتها، وجهلُها لا يؤثِّرُ في فهم المعنى العَامِّ الذي هو التَّفسيرُ. وقس على ذلك غيرها من الفوائد التي ذكرها الطَّاهر بن عاشور (ت:1393) مما هو خارجٌ عن حدِّ بيانِ المعنى المرادِ بالآيةِ. * أشار القرطبيُّ (ت:671) إلى عدَّة مسائل فقهيَّة، وفصَّل في بعضِها، وهذه المسائلُ تتعلَّقُ بأحكامِ الأضحية، ـ ووضع اليمين على الشمال في الصلاةِ، والموضع الذي توضع عليه اليَدُ في الصلاةِ، وأحوالُ رفع اليَدَين، فقال: «الثانية: قد مضى القول في سورة الصافات في الأضحية وفضلها ووقت ذبحها فلا معنى لإعادة ذلك، ¬

(¬1) التحرير والتَّنوير (30:572).

وذكرنا أيضاً في سورة الحج جملة من أحكامها. قال ابن العربي: ومن عجيب الأمر أن الشافعي قال: إن من ضحَّى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ}، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: «أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعل فقد أصاب نسكنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء»، وأصحابه ينكرونه وحبذا الموافقة. الثالثة: وأما ما روي عن علي عليه السلام {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ}، قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة خرجه الدارقطني، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: لا توضع فريضة ولا نافلة لأن ذلك من باب الاعتماد، ولا يجوز في الفرض ولا يستحب في النفل. الثاني: لا يفعلها في الفريضة ويفعلها في النافلة استعانة؛ لأنه موضع ترخُّصٍ. الثالث: يفعلها في الفريضة والنافلة، وهو الصحيح؛

لأنه ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضع يده اليمنى على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره. قال ابن المنذر: وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكى ذلك عن الشافعي، واستحبَّ ذلك أصحاب الرَّأي، ورأت جماعة إرسال اليد، وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعي، قلت: وهو مروي أيضاً عن مالك. قال ابن عبد البَرِّ: إرسال اليدين ووضع اليمنى على الشمال كل ذلك من سنَّة الصلاة. الرابعة: واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد، فروي عن علي بن أبي طالب: أنه وضعهما على صدره. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السُّرَّةِ، وقال: لا بأس إن كانت تحت السُّرَّةِ. وقالت طائفة: توضع تحت السُّرَّةِ، وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز، وبه قال سفيان الثُّوريُّ وإسحاق. الخامسة: وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والسجود فاختلف في ذلك. فروى الدارقطني من حديث حميد عن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة وإذا ركع وإذا

رفع رأسه من الركوع وإذا سجد، لم يروه عن حميد مرفوعاً إلا عبد الوهاب الثقفي. والصواب: من فعل أنس. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يُكَبِّرُ، وكان يفعل ذلك حين يُكَبِّرُ للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود. قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول، وبه أقول؛ لأنه الثَّابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك، هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي. قلت: وهو المشهور من مذهب مالك لحديث ابن مسعود، خرَّجه الدارقطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل قال: حدثنا محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: «صلَّيتُ مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يرفعوا أيديهم إلا أولاً عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة».

قال إسحاق: به نأخذ في الصلاة كلها. قال الدارقطني: تفرد به محمد بن جابر، وكان ضعيفاً عن حمَّاد عن إبراهيم. وغيرُ حمَّاد يرويه عن إبراهيم مرسلاً، عن عبد الله من فعله، غير مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو الصواب. وقد روى يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة». قال الدارقطني: وإنما لُقِّنَ يزيد في آخر عمره: «ثم لم يعد» فَتَلَقَّنَهُ. وكان قد اختلط. وفي (مختصر ما ليس في المختصر) عن مالك: لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة. قال ابن القاسم: ولم أر مالكاً يرفع يديه عند الإحرام. قال: وأَحَبُّ إليَّ تركُ رفع اليدين عند الإحرام» (¬1) وكُلُّ هذا محلُّه كتبُ الفقهِ، لا كتب التَّفسيرِ، وهو ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (20:220 - 222).

فائدة معرفة مفهوم التفسير

من التَّوسُّعِ بسببِ بروع القرطبيِّ (ت:671) في علمِ الفقه، ولأجلِ أَنَّه قصد إبرازَ ما يتعلَّقُ بالآيةِ من أحكامٍ فقهيَّةٍ من أيِّ وجه كان هذا التَّعَلقُ، ولا يلزم من هذا أن يكونَ كلُّ ما ذكره من مسائل الفقه هو من التَّفسيرِ، واللهُ أعلمُ. وبعد هذا التَّطبيقِ، أرجو أن أكون قد وُفِّقتُ لتحديد مفهومِ التَّفسيرِ، وإن اختلفتَ معي في مثالٍ من الأمثلةِ التي أخرجْتها من صلبِ التَّفسرِ، فأرجو أن تكون موافقاً لي في مفهومِ التَّفسيرِ. تنبيهان: الأول: لا يعني حديثي هنا عن تحرير مصطلحِ التَّفسيرِ أنَّ المفسِّرَ يجبُ أن يقفَ على التَّفسيرِ، دونَ الشُّروع فيما يتعلَّقُ بالآية من علومٍ أخرى، وإنما مرادي هنا تحرير المصطلحِ فقط، فليُفهم هذا. الثاني: أنه لا يُعترضُ على المفسرين الذين أدخلوا ما ليس من التفسير في تفاسيرهم؛ لأنَّه كان من منهجهم في كتبهم هذه أن يذكروا هذه المعلومات، لكن يُعترضُ عليهم إن جعلوا أنَّ التفسير لا يتمُّ إلا بها. فائدة معرفة مفهوم التفسير: الفائدة الأولى: معرفة أوَّل ما يجب أن يعرفه من قرأ

في التفسير، وهو بيان المعنى الجملي؛ لأنَّه إذا صحَّ له المعنى صار أصلاً صحيحاً يعتمد عليه في الاستنباط وغيره. الفائدة الثانية: معرفة علاقة المعلومات التي يذكرها المفسرون في كتبهم بمفهوم التفسير، وبهذا يستخلص الأصل الأول الذي سبق ذكره في الفائدة الأولى. الفائدة الثالثة: معرفة العلوم التي يجب على المفسر معرفتها، ومعرفة العلوم التي يحتاجها من أراد الزيادة على التفسير. وقد كتب في موضوع العلوم التي يحتاجها المفسر بعض العلماءِ، لكنهم توسعوا في طلب هذه العلوم، وجعلوا فيها جملةَ العلومِ الشرعيةِ وعلومِ الآلة وغيرها مما يزيد عن حاجة المفسر، وهي إنما يحتاجها من أراد الزيادة عن التفسير، والدخول في التدبر والاستنباط. ومن أول من بيَّن هذه العلوم الراغب الأصفهاني (ت: بعد: 400)، فقد ذكرها تحت عنوان: «بيان الآلات التي يحتاج إليها المفسر»، وقد جعلها عشرة علوم، وهي علم اللغة، والاشتقاق والنحو، والقراءات، والسير، والحديث،

وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة (¬1). وزاد من جاء بعده بعض العلوم؛ كعلوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وجعلها ثلاثة علوم مستقلة (¬2). وإذا كانت مهمة المفسِّر بيان معاني القرآن، فإنَّه عند تأمُّل هذه العلوم، وفحصها سيظهر ما يأتي: 1 - أنَّ بعضها لا يلزم المفسِّرَ معرفتها؛ كعلم البلاغة وعلم أصول الفقه. 2 - وأنَّ بعضها يكفيه منها مبادىء العلم دون الدخول في تفصيلته؛ كعلم النحو. 3 - وأنَّ بعضها يحتاج منه جزءاً معيَّناً؛ كمعرفة دلالة الألفاظ من علم اللغة. ¬

(¬1) مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات (ص:94 - 96). (¬2) ينظر: التيسير في قواعد علم التفسير، للكافيجي، تحقيق: ناصر المطرودي (ص:144 - 147)، وقد ذكر المحقق ممن حصرها في الخمسة عشر علماً شمسَ الدين الأصفهاني في مقدمات تفسيره، وقد ذكرها كذلك السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم (4:185 - 188).

ولا شكَّ أنَّ من حصَّل هذه العلوم كان أوسع بحثاً وتقريراً في تفسيرِه؛ لكنه فيما يكون خارجَ حدِّ البيان عن معاني القرآن، والله أعلم.

مفهوم التأويل

مفهوم التأويل

تدورُ كلمةُ «أَوَلَ» في اللُّغةِ على معنى الرُّجوعِ (¬1). وهذا يعني تأويلَ الكلامِ هو الرُّجوعُ به إلى مرادِ المتكلِّمِ، وهو على قسمين: الأولُ: بيانُ مرادِ المتكلِّمِ، وهذا هو التَّفسيرُ. الثَّاني: الموجودُ الذي يؤول إليه الكلامُ، أي ظهورُ المُتكلَّمِ به إلى الواقعِ المحسوسِ. ¬

(¬1) جعل الراغبُ (ت: بعد 400) في مفردات ألفاظِ القرآنِ (ص:99) التَّأويل من الأوْلِ؛ أي: الرُّجوع إلى الأصلِ، وجعل ابن فارس (ت:395) في مقاييس اللُّغةِ (1:158) مادَّة «أول» ترجعُ إلى أصلين: ابتداءُ الأمرِ، وانتهاؤه». ويظهرُ أنَّهما يشتركانِ في معنى الرُّجوعِ الذي نصَّ عليه الرَّاغبُ (ت: بعد400)، ولو جُعِلَ أصلاً واحداً لكانَ أَوْلَى. فالأوَّل من الأشياءِ يرجعُ إليه ما بعدَه مما تأخَّرَ عنه. وآل الرَّجل: عشيرتُه التي يرجع إليها، وآلَ جسمُ الرَّجلِ: إذا نَحُفَ، كأنه يرجع إلى هذه الحالةِ، والإيالةُ: السياسةُ؛ لأنها مرجعُ الرَّعيَّةِ، والموئل: للموضع الذي يُرجَعُ إليه، وكذا غيرها مما في هذه المادَّةِ فإنه يرجع إلى هذا الأصل.

ما الفرق بين معنيي التأويل؟

فإن كانَ خبراً، كان تأويلُه وقوعُ المُخبَرِ به؛ كمن يقولُ: جاء محمَّدٌ، فتأويلُ هذا الكلامِ مجيءُ محمَّدٍ بنفسِه. وإذا كانَ طلباً (أي: أمراً أو نهياً)، كان تأويلُه أن يفعلَ هذا الطلبُ. وهذان المعنيان هما الواردان في القرآن والسنة وتفسير السلف واللغة. ما الفرق بين معنيي التأويل؟ الفرقُ بين معنيي التَّأويل السَّابقين: أنَّ تفسيرَ الكلامِ ليس هو نفس ما يوجدُ في الخارجِ، بل هو بيانه وشرحُه وكشفُ معناه. فالتَّفسيرُ من جنسِ الكلامِ، يفسِّرُ الكلامَ بكلامٍ يوضِّحُهُ. وأمَّا التَّأويلُ الذي هو فعلُ المأمورِ به، وتركُ المنهيِّ عنه، وكذا وقوعُ المخبرِ به، فليس هو من جنسِ الكلامِ (¬1). ومثال ذلك: 1 - قال الطبري (ت:310) حدثنا بشر قال: ثنا يزيد ¬

(¬1) ينظر: تفسير سورة الإخلاص، لابن تيمية، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد (ص:167 - 168).

آثار في إطلاق التأويل على التفسير

قال: ثنا سعيد عن قتادة {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص: 11]، قال: «وعده الله وهو بمكة يومئذٍ أنه سيهزم جنداً من المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر» (¬1). 2 - وقال حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة: أن عمر قال: «لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45]، جعلت أقول: أيُّ جمعٍ يهزمُ. فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع، ويقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر» (¬2). آثار في إطلاقِ التَّأويلِ على التَّفسيرِ: كثُرَ في كلامِ العلماءِ إطلاقُ التَّأويلِ على التَّفسيرِ من لدن عهد الصَّحابةِ، ومن الآثارِ الواردةِ في ذلك: * قول الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم في ابن عباس (ت:68): «اللهمَّ فقِّهُ في الدِّينِ، وعلِّمْهُ التَّأويلَ»؛ أي: تفسيرَ القرآنِ الكريمِ. قال الطَّبريُّ (ت:310): «وأمَّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلِّمهُ التَّأويل»، فإنَّه عَنَى بالتَّأويل: ما يؤولُ إليه معنى ما أنزل الله تعالى ذكره على نبيه صلّى الله عليه وسلّم من التَّنْزيلِ، وآي الفرقان، وهو ¬

(¬1) تفسير الطبري، طـ: الحلبي (23:130). (¬2) تفسير الطبري، طـ: الحلبي (7:108).

مصدر من قول القائل: أوَّلتُ هذا القول تأويلاً، وأصله من آل الأمر إلى كذا، إذا رجع إليه، ثمَّ قيل: أوَّل فلان له كذا على كذا، إذا حملها على وجْهٍ جعل مَرجعها إليها تأويلاً. ومن قولهم: أوَّل فلانٌ له كذا على كذا، قولُ أعشى بني قيس بن ثعلبة، لعلقمة بن عُلاثَة العامريِّ: وأوِّلِ الحُكْمَ على وَجْهِهِ ليسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائرِ يعني بقوله: وأوِّلِ الحُكمَ على وجهِه: وجِّهْهُ إلى وَجْهِهِ الذي هو وجه الصَّوابِ» (¬1). * وفي تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، قال أبو عِمران التُّجِيبيِّ (¬2): «كنا بمدينة الرُّومِ (¬3)، فأخرجوا إلينا صفًّا عظيماً من الرُّومِ، فخرجَ إليهم من المسلمين مثلُهم أو أكثرُ، وعلى أهلِ مصرَ عقبةُ بن عامرٍ، وعلى الجماعةِ فضالةُ بن عبيدٍ، فحملَ رجلٌ من ¬

(¬1) تهذيب الآثار، للطبري، تحقيق: محمود شاكر، مسند ابن عباس، السفر الأول (ص:183). (¬2) أسلم بن يزيد، أبو عمران التُّجيبي المصري، مولى عمير بن تميم بن جدِّ التُّجِيبي المصري، تابعيُّ ثقةٌ. تهذيب الكمال، للمزي (1:210). (¬3) يعني: القُسْطَنْطِينِيَّةَ.

المسلمينَ على صفِّ الرُّومِ حتَّى دخلَ فيهم، فصاح النَّاسُ، وقالوا: سبحانَ اللهِ يُلقي بيدِه إلى التَّهلُكةِ. فقامَ أبو أيوبَ، فقال: أيُّها النَّاس، إنَّكم تتأوَّلون هذه الآيةَ هذا التَّأويلَ، وإنما أنزلت هذه الآيةُ فينا معشرَ الأنصارِ لما أعزَّ اللهُ الإسلامَ، وكَثُرَ ناصروه، فقال بعضنا لبعضٍ سرًّا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنَّ أموالنا قد ضاعت، وإنَّ الله قد أعزَّ الإسلامَ، وكَثُرَ ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل اللهُ على نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم يردُّ علينا ما قلنا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكانت التَّهلُكةُ الإقامةَ على الأموالِ وإصلاحِها، وترْكَنا الغَزْوَ» (¬1). * ومنه قول الشَّافعيِّ (ت:204) في أكثر من موطن من كتاب الأمِّ: «وذلك ـ واللهُ أعلمُ ـ بيِّنٌ في التَّنْزيل، مُستغنًى به عن التَّأويل ...» (¬2). * وفي قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، قال الأخفشُ (ت:215): «فزعم أهلُ ¬

(¬1) سنن التِّرمذي (5:212، رقم الحديث: 2972). (¬2) كتاب الأمِّ (7:319)، وينظر: (2:28)، (4:242).

التَّأويلِ أنَّه في معنى: سفَّهَ نفسَه» (¬1). * وقال ابن الأعرابيِّ (ت:231): «التَّفسيرُ والتَّأويلُ والمعنى واحدٌ» (¬2). * وأسندَ النَّحَّاسُ (ت:338) إلى أحمد بن حنبل (ت:242)، قال: «بمصر كتابُ التَّأويلِ عن معاويةَ بنِ صالحٍ، لو جاء رجلٌ إلى مصرَ، فكتبهُ، ثمَّ انصرفَ به، ما كانت رحلتُه عندي ذهبت باطلاً» (¬3). * وعنْ شَمِرِ بن حَمْدُويَه (ت:255) (¬4) أنه قال: «ورُوِيَ لنا عنِ ابنِ المُظَفَّرِ (¬5) ـ ولم أسمعْه لغيرِهِ ـ ذَكَرَ أَنَّه يقال: ¬

(¬1) معاني القرآن، للأخفش، تحقيق: هدى قراعة (1:157). (¬2) تهذيب اللغةِ (12:407). (¬3) الناسخ والمنسوخ، للنحاس، تحقيق: الدكتور سليمان اللاحم (1:462)، وهذا الكتاب هو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. (¬4) شَمِرُ بنُ حَمدويه، أبو عمرو الهرويُّ اللُّغويُّ، لقيَ ابن الأعرابي وغيره، وروى الدواوين، كتب في اللغة كتابه الجيم، وهو كتاب أودعه فوائد جمَّةً، ولكنه ضاع ولم يبق منه إلاَّ اليسير، توفي سنة (255). ينظر: تهذيب اللغة (1:12)، إنباه الرواة (2:77 - 78). (¬5) هو الليث.

آثار في إطلاق التأويل على ما تؤول إليه حقيقة الشيء

أدركَ الشيءُ: إذا فَنِيَ (¬1). وإن صحَّ، فهو في التأويل (¬2): فَنِيَ عِلمُهم في معرفةِ الآخرةِ» (¬3). * وأشهرُ من أطلقَه على التَّفسيرِ، محمدُ بن جريرٍ الطَّبريُّ (ت:310) في كتابِه جامع البيانِ عن تأويلِ آي القرآنِ، وقد كان يطلق مصطلح «أهل التَّأويل»، ويصدِّرُ تفسيرَه للآي بقوله: «القول في تأويلِ قوله تعالى». * وجاء التَّأويلُ في تسمياتِ كثيرٍ من كتبِ التَّفسيرِ مراداً به التَّفسيرَ، كتفسيرِ ابن جرير الطبريِّ (ت:310). ونصوص العلماء في إطلاقِ التَّأويلِ مراداً به التَّفسيرُ كثيرةٌ جدًّا، لا تكادُ تنحصرُ، وما ذكرته، فإنه على سبيلِ المثالِ، واللهُ الموفِّقُ. آثار في إطلاقِ التَّأويلِ على ما تؤول إليه حقيقة الشيء: التَّأويلُ بمعنى: ما تؤولُ إليه حقيقةُ الكلامِ، هو ¬

(¬1) في كتاب العين (5:328): «الإدراكُ فناءُ الشيء، أدركَ هذا الشيءُ: فَنِيَ». (¬2) يريد تفسير قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل: 66]، وهي في قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {أدرك}. انظر: إعراب القراءات السبع (2:161). (¬3) تهذيب اللغة (10:114).

الغالبُ على معنى لفظِ التَّأويل في موارِده في القرآنِ، وقد ورد في تأويلِ الرُّؤى ثمانُ مواضع من سورةِ يوسف (¬1). ووردَ في سورةِ الكهفِ موضعانِ في قصَّةِ الخَضِرِ وموسى عليهما السَّلامُ، وهما قوله تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَاوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]، وقوله تعالى: {ذَلِكَ تَاوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]، والمعنى: سأنبئكُ بحقيقةِ ما رأيت من الأمورِ العجيبةِ التي لم تصبرْ عليها. ووردَ قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، وقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ} [يونس: 39]، وهو بمعنى الحقائق التي أخبرَ بها من الثوابِ والعقابِ. ووردَ التَّأويل في موضعينِ بمعنى العاقبةِ في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً} [النساء: 59]، وقوله تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً} [الإسراء: 35]. ¬

(¬1) ينظر الآيات (6، 21، 36، 37، 44، 45، 100، 101) من سورة يوسف.

وأمَّا موضع سورة آل عمران، فسيأتي الحديث عنه لاحقاً. هذا، ومما وردَ في الآثارِ من معنى التَّأويل: ما تؤول إليه حقيقةُ الكلامِ، ما يأتي: * أوردَ البخاري (ت:256) تحت تفسيرِ قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، عن عائشة قالت: «كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي، يتأوَّلُ القرآن» (¬1). تعني بقولها: يتأوَّل القرآن: يعملُ ويطبِّقُ ما أُمِرَ به من التَّسبيحِ والتَّحميدِ. * وعن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: «أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك، ويتأوَّل هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]» (¬2). * وفي موطأ مالك (ت:197) عن كعب الأحبار: «أنَّ ¬

(¬1) ينظر: فتح الباري، طـ: الريان (8:605). (¬2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:530).

رجلاً نزعَ نعليه، فقال: لِمَ خلعتَ نعليك، لعلَّكَ تأوَّلت هذه الآيةَ: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه: 12]، قال: ثمَّ قال كعبٌ للرجلِ: أتدري ما كانت نعلا موسى، قال مالك: لا أدري ما أجابه الرَّجل، قال كعبٌ: كانتا من جلدِ حمارٍ ميِّتٍ» (¬1). * ورُوي عن الثَّوري: أنه بلغه أنَّ أمَّ ولدِ الرَّبيعِ بن خُثَيم قالت: كان إذ جاءه السَّائل، يقول لي: يا فلانة، أعطي السَّائل سُكَّراً، فإن الرَّبيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ. قال سفيان: يتأوَّل قوله عزّ وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (¬2). * عن قتادةَ، عن أبي مازن الأزدي، قال: «انطلقتُ على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قومٌ من المسلمين جلوسٌ، فقرأ أحدهم هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، فقال أكثرُهم: لم يجيء تأويلُ هذه الآيةِ اليوم» (¬3). ¬

(¬1) الموطَّأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (2:916). (¬2) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (4:133). (¬3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (11:140)، وانظر بعده آثارٌ فيها لفظُ التَّأويلِ بهذا المعنى.

* وكذا فسَّر مكحولٌ (ت:113) هذه الآية، قال: «إنَّ تأويلَ هذه الآيةِ لم يجيء بعدُ» (¬1). * وعن أبي العالية (ت:93) في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105]، قال: «كانوا عند ابن مسعود جلوساً، فكان بين رجلين ما يكونُ بين النَّاسِ، حتَّى قامَ كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحِبه، فقال رجلٌ من جُلساءِ عبد اللهِ: ألا أقومُ فآمرُهما بالمعروفِ وأنهاهما عن المنكرِ؟. فقال رجلٌ آخرُ إلى جنبهِ: عليك بنفسك، فإنَّ الله يقولُ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. قال: فَسَمِعَهُمَا ابنُ مسعودٍ، فقال: مَهْ، لمَّا يجيء تأويلُ هذه بعدُ. إنَّ القرآنَ أُنزِلَ حيثُ أنْزِلَ، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهُنَّ قبل أن ينْزلن، ومنه آيٌ وقع تأويلُهَنَّ على عهدِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ومنه آيٌ وقع تأويلُهُنَّ بعد النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بيسيرٍ، ومنه آيٌ يقع تأويلُهنَّ بعد اليوم، ومنه آيٌ يقع تأويلُهُنَّ عند ¬

(¬1) تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (4:1227).

المصطلح المتأخر في مفهوم التأويل

السَّاعةِ على ما ذُكرَ من السَّاعةِ، ومنه آيٌ يقع تأويلُهُنَّ يوم الحسابِ على ما ذُكرَ من الحسابِ والجنَّةِ والنَّارِ. فما دامت قلوبكم واحدةٌ، وأهواؤكم واحدةٌ، لمْ تُلبسُوا شِيَعاً، ولمْ يُذَقْ بعضُكم بأسَ بعضٍ، فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوبُ والأهواءُ، وأُلبِستم شِيَعاً، وذاقَ بعضُكم بأس بعضٍ، فامرؤٌ ونفسُه، فعند ذلك جاء تأويلُ هذه الآيةِ» (¬1). المصطلحُ المتأخِّرُ في مفهومِ التَّأويل: لقد كان المعنيانِ السَّابقانِ في مفهومِ التَّأويلِ هما اللَّذان سارَ عليهما متقدِّمو الأمُّةِ من الفقهاءِ والمفسِّرينَ واللُّغويِّين (¬2)، ولم يرد عنهم غيرُ هذين المعنيين، حتى ظهر ¬

(¬1) تفسير الطبري تحقيق شاكر (11:143 - 144)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (4:1227). (¬2) لقد دخل هذا الاصطلاح الحادث في بعض كتب اللغة المتأخرة، وستجده في مادة (أول) في كتاب لسان العرب نقلاً عن ابن الأثير، وفي كتاب تاجِ العروس نقلاً عن صاحب جمع الجوامع وابن الكمال وابن الجوزي، وهذا النقول ليست من تحرير مدلول اللفظ في اللغة، بل هي ذكر لما استقر عليه مصطلح الأصوليين لمعنى التأويل، لذا لا يُغترُّ بذكرهم له في كتب اللغة، والله الموفق.

اصطلاحٌ ثالثٌ حادثٌ على اللُّغةِ ومصطلحِ القرآنِ، وقد صارَ المراد بالتَّأويلِ مشكلاً بسببِ بروز هذا المصطلحِ الحادثِ. والتَّأويلُ بالاصطلاحِ الحادثِ: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهرِه إلى معنى مرجوحٍ لقرينةٍ تدلُّ عليه. وممن ورد عنه ذلك، ابن حزم (ت:456)، قال: «التأويل: نقل اللفظ عَمَّا اقتضاه ظاهره وعَمَّا وُضِعَ له في اللُّغة = إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صحَّ ببرهان، وكان ناقله واجب الطاعة = فهو حق. وإن كان نقله بخلاف ذلك، اطُّرِحَ ولم يلتفت إليه، وحُكِمَ لذلك النَّقل بأنه باطل» (¬1). وأبو الوليد الباجي (ت:474)، قال: «التَّأويلُ: صرف الكلامِ عن ظاهره إلى وجه يحتملُه» (¬2). وقال ابن الزاغوني (ت:527) (¬3): «نقل الكلام عن ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (1:43). (¬2) الحدود، للباجي (ص:48). (¬3) أبو الحسن علي بن عبد الله بن الزاغوني، نسبة إلى قرية زاغينا من قرى بغداد.

- مثال لأثر هذا المصطلح في حمل كلام الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم عليه

وضعه وأصله السابق إلى الفهم من ظاهره في تعاريف اللغة والشرع أو العادة = إلى ما يحتاج في فهمه والعلم بالمراد به إلى قرينة تدل عليه لعائق منع من استمراره على مقتضى لفظه، وهو مأخوذ من المآل، ومن ذلك ما وقع الخطاب فيه على سبيل المجاز، ولم يكن يراد به الأصل في الحقيقة، ومنه قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]، أراد: حُبَّ العجل؛ لأنه لو أراد حمل الكلام على حقيقته لكان العجل يكون في بطونهم لا في قلوبهم؛ لأن الأعيان إنما تنتقل إلى البطن لا إلى القلب ...» (¬1). وقال ابن الجوزي (ت:597): «التأويل: العدولُ عن ظاهر اللفظِ إلى معنى لا يقتضيه؛ لدليل عليه» (¬2). * مثال لأثر هذا المصطلح في حملِ كلام الله أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم عليه: إنَّ من العجيبِ أن يُجعَلَ هذا المصطلحُ المتأخِّرُ أصلاً يُعتمدُ في تفسير القرآن وشرح السنة، ولقد حصلَ بسبِبه انحرافٌ كبيرٌ في ذلك. ¬

(¬1) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (ص:217). (¬2) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (ص:216).

ومن أمثلة ذلك ما وقع من شرح حديثِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في دعائه لابن عمِّه عبدِ اللهِ بن العبَّاسِ: «اللهمَّ فقِّهُ في الدِّينِ، وعلِّمْهُ التَّأويلَ». قال ابن الجوزي (ت:597): «قوله: وعَلِّمْهُ التَّأويلَ: فيه قولان: أحدهما: أنه التفسير. والثاني: أن التَّأويل: نقل الظَّاهر عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو من آل الشيء إلى كذا أي صار إليه» (¬1). وقال ابن الأثيرِ (ت:606): «وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»: هو من آل الشيء يؤول إلى كذا؛ أي: رجع وصار إليه. والمراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنهما «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك يتأول القرآن»: تعني أنه مأخوذ من ¬

(¬1) غريب الحديث، لابن الجوزي (1:37).

تنبيه

قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] (¬1). ومنه حديث الزهري، قال: «قلت لعروة: ما بال عائشة تُتِمُّ في السَّفر ـ يعني: الصلاة ـ قال: تأوَّلت كما تأوَّل عثمان، أراد بتأويل عثمان: ما روي عنه أنه أتَمَّ الصَّلاة بمكة في الحج، وذلك أنه نوى الإقامة بها» (¬2). قكيف يُحمل كلامُ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم على مصطلحٍ حدث بعده بمدة طويلة؟!. إنَّ مما تقع فيه الغفلةُ أنْ تُحكَّمَ مصطلحات متأخرةٌ في الظهورِ على ألفاظِ الشرعِ، أو كلام السابقين، فيقع بذلك التحريف أو التخطئةُ للعلماء، وهذا مبحث مهم من مباحث العلمِ تحتاج إلى تجليةٍ ليس هذا محلُّها، ولعل في هذا المثال غُنْيَةً وبياناً عن هذه الفكرةِ، والله الموفق. تنبيه: من الملاحظ أن صاحب لسان العرب نقل كلام ابن الأثير؛ لأن كتاب ابن الأثير أحد مصادر ابن منظور، فلا ¬

(¬1) أين نقل اللفظ عن وضعه الأصلي هنا؟! إنَّ المسألة ظاهرة، وهي أنَّه يطبِّق ما أُمرَ به من التسبيح والاستغفار. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر (1:80 - 81).

سبب ظهور هذا المصطلح الحادث

يُحتجُّ بهذا أنه وارد في معاجم اللغة، وكذا الحال في تاج العروس، فقد نقله ونقل أقوال غيره، وهذا مما دخل في هذه المعاجم اللغوية، وليس له أصل في لغة العربِ (¬1). سبب ظهور هذا المصطلح الحادث: كان سببُ ظهورِه ـ فيما يبدو ـ نشوءَ القولِ بالمجازِ الذي يقابلُه مصطلحُ الحقيقةِ عند من اعتمدَه. فحقيقةُ اللَّفظِ: ما وُضِعَ له أصلاً، فالحمارُ: اسمٌ للدَّابَّةِ المعروفةِ، إذ لا ينصرفُ الذِّهنُ إلى غيرِه عند إطلاقِ هذا اللَّفظِ. ومجازُ اللَّفظِ: ما أُريدَ به غير المعنى الموضوعِ له في أصلِ اللُّغةِ، كإطلاقِ الحمارِ على الرَّجلِ البليدِ. والتَّأويلُ بالاصطلاحِ الحادثِ: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهرِه إلى معنى مرجوحٍ لقرينةٍ تدلُّ عليه. ومن ثَمَّ، فإنَّ كلَّ استعمالٍ للمجازِ تأويلٌ، لأنه يتركُ ما يدلُّ عليه ظاهرُ اللَّفظ إلى ما يسمِّيهِ مجازاً. قال ابن حزم (ت:456): «... فقد بان بما ذكرنا: أنَّ ¬

(¬1) ينظر نقلهما في مادة (أول) من كتابيهما.

هل هناك فرق بين التفسير والتأويل؟

نقل الأمر عن الوجوب، والفَور إلى النَّدب والتراخي = هو باب واحد مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر، وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر الاستعارة والمجاز، ومنه قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، ومثل هذا كثير» (¬1). والمجازُ هو آلةُ المُؤوِّلِ التي يستخدِمها لصرفِ اللَّفظِ عن ظاهرِه إلى باطنٍ لا يدلُّ عليه اللَّفظُ في سياقِه. وهنا تعلمُ أنَّ مصطلحَ التَّأويلِ الحادِثِ ومصطلحَ المجازِ لا يكادانِ ينفكَّانِ. هل هناك فرق بين التفسير والتأويل؟ كان من آثار هذا المصطلح الحادث أن طلب بعض العلماءِ فروقاً بين التفسير والتأويل، وليس المقصود هنا استقصاء هذه الفروق التي ذكروها، ولكن سأذكر بعضها ليتبين مدى تأثير المصطلح الحادث على الفرق بين هذين المصطلحين. قال الشريف الجرجاني (ت:816) (¬2) في شرح مقدمة ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (3:386). (¬2) هو علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، صاحب كتاب التعريفات.

الكشاف: «التفسير: علم يُبحث فيه عن أحوالِ كلامِ اللهِ المجيدِ من حيثُ دلالتُه على مراده، وينقسم: إلى تفسير، وهو ما لا يدرك إلاَّ بالنقل؛ كأسباب النُّزول والقصص، فهو ما يتعلق بالرواية. وإلى تأويل، وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، وهو ما يتعلق بالدراية. فالقول في الأول بلا نقل خطأٌ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهي، وإنْ أصابَ فيهما. وأما استنباطُ المعاني على قوانين اللغةِ، فمِمَّا يُعَدُّ فَضْلاً وكمالاً» (¬1). قال صديق حسن خان (ت:1307): «واختلف في التفسير والتأويل فقال أبو عبيد وطائفة: هما بمعنى وقد أنكر ذلك قوم (¬2). ¬

(¬1) الكشاف مع حاشية للجرجاني وابن المنير (1:15). (¬2) هذا الإنكار باطل؛ لأنه قد ثبت عن العلماء المتقدمين من مفسري السلف واللغويين، وهم الحجة في إثبات مثل هذا، فكيف ينكره هؤلاء القومِ؟!. ومن أين سيأخذون معاني الألفاظِ إن لم يأخذوها من هؤلاء؟!.

وقال الراغب: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية. وقال غيره: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والتأويل: توجيهُ لفظ متوجهٍ إلى معان مختلفة إلى واحد منهما بما ظهر من الأدلة. وقال الماتريدي: التفسير: القطعُ على أن المرادَ من اللفظ هذا، والشهادةُ على الله سبحانه وتعالى أنه عنَى باللَّفظِ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة. وقال أبو طالب الثعلبي: التفسير: بيانُ وضعِ اللفظِ إمَّا حقيقةً أو مجازاً، والتأويلُ: تفسيرُ باطنِ اللَّفظِ، مأخوذ من الأَولِ، وهو الرجوعُ لعاقبةِ الأمرِ، فالتأويلُ: إخبارٌ عن حقيقةِ المرادِ، والتفسيرُ إخبارٌ عن دليلِ المرادِ؛ مثاله: قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر]، وتفسيره: أنه من الرَّصْدِ، مفعالٌ منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله سبحانه وتعالى. وقال الأصبهاني: التفسير: كشفُ معاني القرآنِ، وبيانُ المرادِ أعمُّ من أن يكونَ بحسبِ اللفظِ أو بحسبِ المعنى، والتأويل أكثره باعتبار المعنى، والتفسير: إما أن يُستعملَ في غريب الألفاظ أو في وجيزٍ يتبيَّنُ بشرحِه، وإمَّا

في كلامٍ متضمِّنٍ لقصةٍ لا يمكنُ تصويرُه إلا بمعرفتها، وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاماً، ومرة خاصاً؛ نحْو: الكفرِ المستعملِ تارةً في الجحودِ المطلق، وتارة في جحودِ الباري خاصةً، وإما في لفظ مشتركٍ بين معانٍ مختلفةٍ. وقيل: يتعلق التفسير بالرواية، والتأويل بالدراية. وقال أبو نصر القشيري: التفسير: مقصور على السماع والاتباع. والاستنباط فيما يتعلق بالتأويل. وقال قوم: ما وقع مبيَّناً في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم يسمى تفسيراً، وليس لأحد أن يتعرض إليه باجتهاد، بل يُحمل على المعنى الذي ورد، فلا يَتعدَّاه. والتأويل: ما استنبطه العلماءُ العالمون بمعنى الخطابِ، الماهرون في آلات العلوم. وقال قوم ـ منهم البغوي والكواشي ـ: هو صرف الآيةِ إلى معنى موافقٍ لما قبلها وبعدها، تحتملُه الآية، غيرِ مخالف للكتابِ والسنةِ، من طريقِ الاستنباطِ. انتهى. ولعله هو الصواب. هذا خلاصة ما ذكره أبو الخير في مقدمة علم التفسير» (¬1). ¬

(¬1) أبجد العلوم للقنوجي (2:141 - 142).

وقال الآلوسي (ت:1270): «وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف، فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم، إذ قد تعارف من غير نكير (¬1) أن التأويل: إشارةٌ قدسيةٌ، ومعارفُ سبحانيةٌ تنكشف من سُجُفِ العباراتِ للسالكين، وتنهلُّ من سُحُبِ الغيبِ على قلوب العارفين، والتفسيرُ غيرُ ذلك (¬2). وإن كان المراد الفرق بينهما: بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال. أو بوجه ما، فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعاً، وفي كل إرجاع كشفاً فافهم» (¬3). وهذه النقول تدلُّ على وجود إشكال عند هؤلاء العلماء في الفرق بين التفسير والتأويل، والذي يظهر عليها كلها أنها تخصيصاتٌ لا دليل عليها، وتفريقات لا يستقيم ¬

(¬1) هذا من غرائب الآلوسي عفا الله عنه ـ فمن أين له أنه قد تعورف على هذا من غير نكير؟!. (¬2) كأنه يجعل التأويل الإشارات التي يفسر بها المتصوفة كلام الله سبحانه، وهذا غير سديد، وليس عليه دليلٌ أنه هو التأويل لا من نقل ولا عقل. (¬3) روح المعاني (1:5).

الاحتمال الأول

لها وجه، فكلُّ واحدٍ منهم يرى ما لا يراه الآخر، وتراهم لم يثبتوا على قولٍ سوى وجود الفرق، ثمَّ اختلفوا في بيانه. وتحقيق الأمر في ذلك كما يأتي: بعد أن تبيَّنَ أنَّ التفسيرَ يتعلَّقُ ببيانِ المعنى، وأنَّ التَّأويلَ له مفهومانِ صحيحانِ: أحدُهما يوافقُ معنى التَّفسيرِ، والآخر يرادُ به ما تؤول [أي: ترجع] إليه حقيقةُ الشيء؛ أي: كيف تكونُ، فإنَّ ملاك القولِ في ذلكَ أن يُقالَ: إنَّ لهذه الفروق احتمالين: الاحتمال الأول: أن ترجع الفروق إلى أحد هذه المعاني الصحيحة المذكورة في مصطلحِ التَّأويلِ. فإن رجعتْ إلى أحدِ هذه المعاني المذكورةِ، فإنها تُقبَلُ، ولكن لا تكونُ هي حدُّ الفرقِ، بل هي جزءٌ من الفَرْقِ لا غير، وهذا يعني أنه قد يكونُ غيرُها صحيحاً؛ لأنها تذكرُ فرقاً آخرَ صحيحاً، وهو مندرجٌ في المعاني المذكورةِ في المرادِ بالتَّفسيرِ والتَّأويل. ولأضرب لك مثالاً بأحد ما ذُكر من الفروقِ، قال أبو

منصور الماتريدي (ت:330): «التفسير: القطعُ على أن المرادَ من اللفظ هذا، والشهادةُ على الله سبحانه وتعالى أنه عنَى باللَّفظِ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة». إذا فسَّرتَ قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج: 2] بأنه يوم القيامة؛ لإجماع المفسرين على ذلك، وقطعت بهذا المعنى، أليس هذا تفسيراً، أليس هذا تأويلاً بمعنى التفسيرِ. فإذا قلتَ: معنى قوله: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج: 2]؛ أي اليوم الذي وعد الله عباده بأن يبعثهم فيه، وهو يوم القيامة. أو قلت: تفسير قوله تعالى ... أو قلت: تأويل قوله تعالى ... فالتعبير عن بيان كلام الله بهذه العبارات ـ كما ترى ـ مؤدَّاهُ واحدٌ، ويُفهم منه معنى واحدٌ. وإذا جئت إلى قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15]، ورأيت أنَّ للمفسرين أقوالاً: الأول: أنَّ المراد بالخنس: النجوم والكواكب. والثاني: أنَّ المراد بها بقر الوحش والظباء.

فهذه محتملاتٌ في التفسير، واخترت أنَّ المراد بالخنسِ النجومُ والكواكبُ، وعللَّت لذلك الاختيار بأمرين: 1 - موافقة السياق، حيث ذُكرَ في لحاقِها آيات كونية، والنجوم والكواكب آيات كونية، فالنجوم والكواكب أنسبُ لهذا المعنى اللحاقي من أن تكون بقر الوحش والظباءِ. 2 - وأنَّها أظهر وأشهر للخلق من بقر الوحش والظباء، فلا أحد يخفى عليه معرفة النجومِ، وإن خفي عليه معنى الخنوس والجريان والكنوس فيها، أمَّا بقر الوحش والظباء فإنَّ بعض الناس قد لا يعرفُها وكثير منهم لا يعرف أمر خنوسها وجريانها وكنوسها. فإذا اخترت هذا المحتمل فأنت مؤوِّلٌ عند الماتريدي (ت:330). لكن هل تسمية هذا الأسلوب ـ وهو ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة ـ تأويلاً = صحيحٌ؟. ألست قد فسَّرتَ وبيَّنتَ المعنى المراد، فأنت ـ إذاً ـ باختياركَ هذا المعنى دون غيره لو قلت: تأويل هذه الآية كذا، أو تفسير هذه الآية كذا، لكان الأمر واحداً ولا فرق.

الاحتمال الثاني

وبهذا يظهر أنك سواءً قطعت أو لم تقطع، فأنت مؤوِّلٌ؛ أي: مفسرٌ، ولا معنى لتخصيص التأويل بأنه ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، والله أعلم. الاحتمال الثاني: أن لا يرجع شيءٌ من هذه الفروق إلى هذه المعاني الصحيحةِ، ومن ثمَّ، فإنَّه قولٌ غيرُ مقبولٍ؛ لأنَّه مخالفٌ لمصطلح القرآنِ، ومصطلح السَّلفِ واللُّغةِ. ولأنه لا دليلَ عليه من نقل ولا عقل. وبهذا يكونُ ما وردَ في بيانِ مصطلحِ التَّفسيرِ والتَّأويلِ الواردِ عن السَّلفِ وأهلِ اللُّغةِ أصلاً يقاسُ عليه ما يذكرُه المتأخِّرُون من فروقٍ. مسألة: هل في مصطلح التأويل الحادث حظٌّ من الصِّحة في تطبيقه على بعض الأمثلة؟ إنَّه إذا عُلِمَ أنَّ المتكلِّمَ أراد المعنى الذي يقال: إنَّه خلافُ الظَّاهرِ، فإنَّه إمَّا أن يكونَ من بيانِ كلامِ المتكلِّمِ، فيكونُ من باب التَّفسيرِ، وإمَّا أن يكونَ هو الحقيقةُ التي يؤولُ إليها الكلامُ، فإذا كان ذلك كذلك كان تأويلاً صحيحاً مندرجاً تحت هذين النَّوعينِ، وإن سُمِّيَ بهذا الاسمِ؛ لأنَّ العبرةَ بصحَّةِ المعنى المذكورِ.

وإذا ظهرَ أنَّ المفسِّرَ أخرجَ الكلامَ عن مرادِ اللهِ ورسولِه صلّى الله عليه وسلّم، كان ذلك تحريفاً، وإن سُمِّيَ تأويلاً، لأنَّ النَّظرَ هنا إلى خطأ المعنى المذكورِ، فيكونُ من التَّفسيرِ الباطلِ. قال شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة (ت:728): «وأمَّا التَّأويلُ؛ بمعنى: صرف اللَّفظِ عن مفهومِه إلى غير مفهومِه، فهذا لم يكن هو المرادُ بلفظِ التَّأويلِ في كلامِ السَّلفِ، اللَّهمَّ إلا أنه إذا عُلِمَ أنَّ المتكلِّمَ أرادَ المعنى الذي يقال أنَّه خلافُ الظَّاهرِ، جعلوه من التَّأويلِ الذي هو التَّفسيرُ؛ لكونه تفسيراً للكلامِ وبياناً لمرادِ المتكلِّمِ به، أو جعلوه من النَّوعِ الآخرِ الذي هو الحقيقةُ الثَّابتةُ في نفسِ الأمرِ التي استأثرَ اللهُ بِعِلْمِهَا؛ لكونِه مندرجاً في ذلك، لا لكونِه مخالفاً للظَّاهرِ. وكان السَّلفُ ينكرونَ التَّأويلاتِ التي تُخْرِجُ الكلامَ عن مرادِ اللهِ ورسولِه التي هي من نوعِ تحريفِ الكلمِ عن مواضعِه، فكانوا ينكرونَ التَّأويلَ الباطل الذي هو التَّفسيرُ الباطلُ، كما نُنْكِرُ قولَ من فسَّرَ كلامَ المتكلِّمِ بخلافِ مرادِهِ» (¬1). ¬

(¬1) الصَّفديَّة (1:291).

ولأضرب لك مثالاً يتضح به هذا المقال: في المراد بالشاهد في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]، قولان عن السلف: الأول: أنَّ الشاهد عبد الله بن سلام، وهو الوارد عن سعد بن أبي وقاص (ت:55)، وعبد الله بن سلام (ت:43)، وابن عباس (ت:68)، ويوسف بن عبد الله بن سلام، ومجاهد (ت:104)، والضحاك (ت:105)، وقتادة (ت:117)، وابن زيد (ت:182). الثاني: أنَّ الشاهد موسى عليه السلام، وهذا قول مسروق بن الأجدع (نحو: 63) والشَّعبي (ت:103)، واحتجَّا بأنَّ السورة مكيَّة، وشأن عبد الله بن سلام (ت:43) كان بالمدينة، وإنما هي مُحَاجَّةٌ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومه. وإذا تأمَّلت هذا الخلاف وجدتَ أنَّ قول مسروقٍ (ت: نحو: 63) والشعبي (ت:103) أنسب للسياق، وهو الأَولى لأنه يجعل الآية مكيةً في سورة مكيةٍ، ولا يُخرَجُ عن هذا إلا بدليل، وهذا يجعلك تميل إلى هذا القول. لكن يصرفك عنه أنَّ قول الجمهورِ على خلافِه، وفيهم ثلاثة من

الصحابة، وهم أعلم بتأويل معاني القرآن، وفيمَ نزل، فتختار هذا القولَ لهذه العلَّةِ، وهذا ما فعله ابن جرير الطبري (ت:310) عند هذا الاختلاف، فقال: «والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنْزيل؛ لأن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} في سياق توبيخ الله ـ تعالى ذكره ـ مشركي قريش، واحتجاجاً عليهم لنبيِّه، وهذه الآية نظيرةُ سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلَّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى. غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله بأن ذلك عنى به عبد لله بن سلام، وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به. فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني: على مثل القرآن وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمداً مكتوب

في التوراة أنه نبي تجده اليهود مكتوباً عندهم في التوراة كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي» (¬1). فإذا رجَّحت هذا وسمَّيته تأويلاً؛ لأنَّك صرفت المعنى عن ظاهر السياق لأجل قرينة أخرى، فإنَّك لم تخرج به عن المعنى الصحيح للآيةِ، وتسمية ذلك تأويلاً لا تُخرجُ هذا المثال عن أن يكون تفسيراً. مثال آخر: في تفسير قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، ورد تفسير المعتزلة الذين ينكرون رؤية الباري على خلاف المعنى الظاهر المتبادر الذي فيه إثبات النظر إلى وجه الباري تعالى، ومن ذلك تفسير الأخفش المعتزلي (ت:215) قال: «يعني ـ والله أعلم ـ بالنظرِ إلى اللهِ: إلى ما يأتيهم منْ نِعَمِهِ ورزقِهِ، وقد تقولُ: واللهِ ما أنظرُ إلا إلى اللهِ وإليك؛ أي: أنتظرُ ما عندَ اللهِ، وما عندك» (¬2). وقال: «وقولُه: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، يقول: تَنْظُرُ في رزقِها وما يأتيها من اللهِ؛ كما يقولُ الرجلُ: ما أنظرُ إلا إليك. ¬

(¬1) تفسير الطبري، طـ: الحلبي (26:12). (¬2) معاني القرآن (2:558)، وينظر (1:223، 330، 336).

ولو كان نَظَرَ البصرِ كما يقول بعضُ النَّاسِ، كانَ في الآية التي بعدها بيانُ ذلكَ، ألا ترى أنَّه قالَ: {وَوَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24 - 25]، ولم يقلْ: ووجوهٌ لا تنظرُ ولا تَرَى. وقولُه {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] يدلُّ الظَّنُّ ها هنا على أنَّ النظرَ ثَمَّ: الثقةُ باللهِ وحُسْنُ اليقينِ، ولا يدلُّ على ما قالوا. وكيفَ يكونُ ذلكَ، واللهُ يقولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]» (¬1). وهذا المثال من التأويل المذموم الذي هو باسم الانحراف أولى، فتراه صرف اللفظ عن معناه الظاهر، إلى معنى آخر؛ لأجل أنه يعتقد أنَّ الله لا يُرى يوم القيامةِ، وهذا الاعتقاد باطلٌ، لذا فإنَّ التأويل الذي ذكره الأخفش (ت:215) سيكون باطلاً، وهذا التأويل المنحرف مما لا يوافق عليه؛ لأنَّ فيه سلباً لمعاني القرآن، وإخراجاً لها عن ظاهرها بلا حجَّةٍ. وقد ردَّ الأزهريُّ (ت:370) ما فسَّرَ به الأخفشُ (ت:215)، فقال: «ومنْ قالَ: إنَّ معنى قولِه: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ¬

(¬1) معاني القرآن (1:330).

هل للتأويل بالمصطلح الحادث حد يقف عنده؟

[القيامة: 23]؛ بمعنى: مُنْتَظِرَة، فقد أَخطأَ؛ لأنَّ العربَ لا تقولُ: نَظَرْتُ إلى الشيءِ؛ بمعنى: انْتَظَرْتُهُ، إنما تقولُ: نَظَرْتُ فلاناً؛ أي: انْتَظَرْتُهُ، ومنه قولُ الحطيئةِ (¬1): وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أَبْنَاءَ صَادِرَةٍ لِلْوِرْدِ طَالَ بِهَا حَوزِي وَتَنْسَاسِي فإذا قلتَ: نَظَرْتُ إليه، لمْ يكنْ إلاَّ بالعينِ. وإذا قلتَ: نَظَرْتُ في الأمرِ، احتملَ أنْ يكونَ تَفَكُّراً وَتَدَبُّراً بالقلبِ» (¬2). هل للتأويل بالمصطلح الحادث حدٌّ يقف عنده؟ التَّأويل بالمصطلح الحادث لا حدَّ له؛ لأنَّ معتمدَه العقلُ، والعقولُ تختلفُ في مذاهبِها، وطريقتِها في فهم نصوصِ الشَّرعِ، فما لم يكن سائغاً تأويلُه عند قومٍ، هو عند غيرِهم صالحٌ لأن يؤوَّلَ؛ لأنه جارٍ على القواعدِ العقليةِ التي سارَ عليها ذلك المؤوِّلُ الذي رفضَ التَّأويلَ في هذا الموضعِ، ولا تكادُ تجدُ ضابطاً يبيِّنُ سببَ الرَّفضِ، سوى احتمالاتٍ لا تقومُ على علمٍ، ومن أمثلةِ ذلك: تحدَّث ابن عطيَّةَ (ت:542) عن الميزان في قوله تعالى: ¬

(¬1) البيت في ديوانه (ص:46). (¬2) تهذيب اللغة (14:371).

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8]، وذكر مذهبين في المرادِ بالميزانِ: الأوَّلُ أنه مجازٌ استعيرَ به اللَّفظُ للعدلِ. والثاني: أنه ميزانٌ حقيقيُّ له كفتانِ، كما هو معروفٌ من موازين الناسِ، وأنه توزنُ به الأعمالُ. ثمَّ رجَّحَ القول الثاني، فقال: «وهذا القولُ أصحُّ من الأوَّلِ من ثلاثِ جهاتٍ: أوَّلُها: أنَّ ظواهرَ كتاب الله عزّ وجل تقتضيه، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلامُ ينطق به، ومن ذلك قوله لبعضِ الصَّحابةِ ـ وقد قال له: يا رسول الله، أين أجدك في يومِ القيامةِ؟ ـ فقال: اطلبني عند الحوضِ، فإن لم تجدني، فعند الميزانِ. ولو لم يكن الميزانُ مرئيَّاً محسوساً لما أحاله رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم على الطلبِ عنده. وجهةٌ أخرى: أنَّ النَّظَرَ في الميزانِ والوزنِ والثِّقَلِ والخِفَّةِ المقترناتِ بالحسابِ لا يفسدُ شيءٌ منه، ولا تختلُّ صِحَّتُهُ. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فَلِمَ نخرجُ من حقيقةِ الأمرِ إلى مجازِه دون علَّةٍ؟.

وجهةٌ ثالثةٌ: وهي أنَّ القولَ في الميزانِ هو من عقائدِ الشَّرعِ الذي لم يُعرفْ إلاَّ سَمْعاً، وإن فتحنا فيه باب المجازِ غَمَرَتْنَا أقوالُ الملحدة والزَّنادقةِ في أنَّ الميزانَ والسِّراطَ والجنَّة والنَّار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظٌ يرادُ بها غيرُ الظَّاهرِ. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فينبغي أن يُجرى في هذه الألفاظِ إلى حملها على حقائقها ...» (¬1). وهذا الذي حَذِرَ منه ابن عطيَّةَ (ت:542) قد وقعَ، وقد اعتمدَ بعضُ الفلاسفةِ الذينَ عاشوا في ظلِّ الإسلامِ على مبدئه في التَّأويلِ، وليسَ له أن يقولَ: هذه الأمورُ إنما تُعلمُ من جهةِ السَّمعِ فقط؛ لأنَّ من يؤوِّلُ نصوص المعادِ يمكنُ أن يقولَ: للعقلِ فيها مدخلٌ. وبهذا تضطربُ الأمورُ ولا يسلمُ في الشَّريعةِ بابٌ؛ لأنَّه يمكنُ أن يُحملَ على المجازِ العقليِّ. وقد اعتمدَ على مبدأ التَّأويلِ الفاسدِ فيلسوفٌ من الفلاسفةِ الذين عاشوا في ظلِّ الإسلامِ، وهو الفيلسوفُ ابن رُشدٍ الحفيد، فقد ذكرَ في كتابه «فصل المقال فيما بين ¬

(¬1) المحرر الوجيز، طـ: قطر (5:432 - 433).

الحكمة والشريعة من الاتصال» أنَّ الشَّريعةَ على ثلاثةِ أقسامٍ: ظاهرٌ لا يجوزُ تأويله ... وظاهرٌ يجبُ على أهلِ البرهانِ تأويلُه، وحملهم إياه على ظاهره كفرٌ، وتأويل غير أهل البرهانِ له، وإخراجه عن ظاهره كفرٌ في حقِّهم أو بدعة، ومن هذا الصِّنفِ آيةُ الاستواء وحديث النُّزول ... والصِّنف الثَّالث من الشَّرع متردِدٌ بين هذين الصنفينِ، يقع فيه شكٌ، فيلحقُه قومٌ ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوزُ تأويله، ويلحقه آخرونَ بالباطنِ الذي لا يجوزُ حمله على الظاهرِ (¬1). ثمَّ قال: «فإن قيل: فإذا تبين أن الشَّرع في هذا على ثلاث مراتب، فمن أي المراتبِ الثلاثِ هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله؟. فنقول: إنَّ هذه المسألة الأمر فيها بيِّنٌ أنها من الصِّنفِ المختلَفِ فيه، وذلك أنَّا نرى قوماً ينسبون أنفسهم ¬

(¬1) ينظر: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لابن رشد (ص:27 - 28).

إلى البرهان يقولون: إنَّ الواجبَ حملُها على ظاهرِها، إذ كان ليس هناك برهان يؤدي إلى استحالة الظَّاهر فيها، وهذه طريقة الأشعريَّة. وقوم آخرون ممن يتعاطون البرهان (¬1) يتأوَّلونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً، وفي هذا الصِّنف أبو حامد (¬2) معدودٌ هو وكثيرٌ من المتصوِّفة» (¬3). وهنا ترى أنَّ الفيلسوفَ اعتمد التَّأويلَ، فما الذي يدلُّ على خطئه لو كانَ العقلُ المجرَّدُ هو المعتمدُ في ذلكَ؟!. لقد استطالَ هذا الفيلسوفَ وغيرُه على نصوصِ الوحي، وأدخلوا كثيراً من نصوصِه في باب التَّأويلِ الفاسدِ، اعتماداً على هذا المصطلحِ الحادثِ، ولم يقدرْ من سلكَ سبيلَ التَّأويلِ أن يتصدَّى لهم، بل كانَ مُنتقصاً عندهم إذا أرادَ ردَّهم عنه؛ لأنَّ الفيلسوفَ يرى أنَّه سلكَ سبيلاً هم سلكوها، وليست حكراً عليهم، بل هي مُشَاعٌ لجميعِ العقولِ، وانظر مصداقَ ذلك في كتاب الفيلسوفِ ابن رشدٍ ¬

(¬1) يقصدُ بالبرهان: الطرق الفلسفيَّةِ التي يعتمدُها. (¬2) هو الغزالي. (¬3) فصل المقال (ص:28).

تفسير آية التأويل من سورة آل عمران

الآنفِ الذِّكرِ، فقد استطالَ على الأشاعرةِ، واستخدم مبدأ التأويل الذي يستخدمونه (¬1). وإذا أردت أن تعرفَ أنَّه لا حدَّ لأوجه التَّأويلِ التي يذكرُها المؤوِّلونَ، فانظرْ في كتابِ «مجازات القرآنِ» للشَّريفِ الرَّضيِّ الرَّافضيِّ المعتزليِّ، فإنَّك ستجدُ في الكتابِ تطبيقاتِ متأوِّلٍ يستخدمُ المجازَ مطيَّةً له في تحريفِ النُّصوصِ. تفسير آية التأويل من سورة آل عمران: إن من أشهر ما وقعَ فيه الانحرافُ بسببِ مفهومِ التَّأويلِ هذا، تفسيرُ آيةِ آل عمران، وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. ¬

(¬1) ينظر في هذا الموضوعِ: موقف ابن تيمية من الأشاعرةِ، للدكتور: عبد الرحمن بن صالح المحمود (2:896 - 923)، فقد تكلَّم عنه تحت عنوان: (تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين).

وقد تتبَّعت كلامَ شيخِ الإسلامِ ابن تيميَّةَ (ت:728) في هذه الآيةِ، وتخلَّصَ عندي منه ما يأتي: 1 - أنَّ الآيةَ نزلت بسببِ النَّصارى الذين احتجُّوا بألفاظٍ توهم الجمعَ، مثل «نحن»، «إنَّا»، واستدلُّوا بها على صحَّةِ التَّثليثِ الذي يدينون به، وأنهم داخلون في من يتبعون ما تشابه منه. قال شيخ الإسلام (ت:728): «والمقصودُ هنا بيانُ بطلانِ احتجاجِ النَّصارى، وأنَّه ليس لهم في ظاهرِ القرآنِ ولا باطنِهِ حجَّةٌ، كما ليس لهم حجَّةٌ في سائرِ كتبِ اللهِ، وإنَّما تمسَّكوا بآياتٍ متشابهاتٍ، وتركوا المُحْكَمَ كما أخبر اللهُ عنهم بقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. والآية نزلت في النَّصَارى، فهم مُرَادُونَ من الآية قطعاً» (¬1). 2 - أنَّ لفظَ التَّأويل في الآيةِ يحتملُ وجهينِ صحيحين، كلاهما حقٌّ، وهما واردانِ عن السَّلفِ. الأوَّل: أنَّ التَّأويلَ بمعنى التَّفسيرِ، وبهذا يكونُ ¬

(¬1) دقائق التَّفسير (1:329).

الراسخونَ يعلمونَ تأويلَ القرآنِ؛ أي: تفسيره، ويكونُ الوقفُ على هذا القولِ على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (¬1)، وتكون الواو عاطفةً. الثَّاني: أنَّ التَّأويلَ بمعنى ما تؤول إليه حقيقةُ الأشياءِ مما استأثرَ اللهُ بعلمِه، من كيفيَّاتٍ ووقت وقوعٍ، مما أخبر عنه اللهُ في كتابِه من أخبار القيامة وأشراطِها، أو غيرِها من المغيَّبات. ويكونُ الوقفُ على هذا القولِ على لفظ الجلالةِ من قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}، وتكونُ الواو مستأنفةً؛ ¬

(¬1) إذا عَلِمْتَ صحَّةَ هذا الوجه التَّفسيريَّ، ظهرَ لك خطأُ جعلِ الوقف على لفظِ الجلالةِ من الوقف اللازم، الذي عرَّفه واضعُه «السِّجاونديُّ» بقوله: «فاللازم من الوقوف: ما لو وُصِلَ طرفاه غيَّرَ المرام وشنَّعَ معنى الكلام». علل الوقوف (1:62)، وعلى هذا سارت جلُّ المصاحف التي اعتمدت وقوفه، سوى مصحف المدينة النَّبويَّةِ الذي جعل علامة الوقف الأولى (قلى)، وفيها ترجيحٌ للمعنى الثاني على الأوَّل، لكن ليس فيها ردٌّ للمعنى الأوَّلِ كما يُفهَمُ من الوقف اللازم. والصَّوابُ أن يكونَ على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وقف معانقة، بحيثُ إذا وقف على الأول، لم يُوقف على الثاني، ويكونُ لكل وقفٍ معنى يغايرُ الآخرَ، وهذا الوقف يشتملُ على القولين الواردين عن السلف بلا ترجيحٍ بينها.

أي أنَّ جملةَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} جملةٌ مستأنفةٌ (¬1). قال شيخ الإسلامِ (ت:728): «وأما لفظ التَّأويل في التنْزيل فمعناه الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله ولهذا كان السلف يقولون: الاستواء معلوم والكيف مجهول فيثبتون العلم بالاستواء وهو التأويل الذي بمعنى التفسير وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر ويعقل ويفقهه ويقولون: الكيف مجهول وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو» (¬2). 3 - أنه قد وقع من بعض المتأخِّرينَ حملُ التَّأويل على الاصطلاحِ الحادثِ، وهو صرف اللَّفظِ عن الاحتمالِ ¬

(¬1) ينظر في هذين الوجهين وما يترتَّبُ عليهما من الوقف والإعراب: دقائق التَّفسير (1:329 - 330)، ودرء تعارض العقل والنقل (1:205 - 206)، والصفدية (1:291)، وتفسير سورة الإخلاص (ص:186 - 194). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (5:382).

الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ لدليلٍ يقترنُ بذلك، وتسميةُ هذا وحده تأويلاً هو من اصطلاحِ طائفةٍ من المتأخِّرين من الفقهاء والمتكلِّمين وغيرِهم. وقد نشأ عن ذلك أن يعتقدوا أنَّ لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالفُ مدلولَها المفهومَ منها، وانقسموا إلى فريقين: الأول: من أجازَ تأويلها، بل أوجبه في بعضِ الأحيانِ؛ لاعتقادِه أنَّ ظاهرَها يفيدُ معنى لا يصحُّ. الثاني: من قال إنَّ ذلك المعنى المراد لا يعلمه إلاَّ اللهُ، لا يعلمُه الْمَلَكُ الَّذِي نزلَ بالقرآنِ، ولا يعلمُه محمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم، ولا غيرُه من الأنبياء، ولا يعلمُه الصَّحابةُ الَّذِين نزلَ القرآنُ بلسانِهم. قال شيخ الإسلام (ت:728): «... وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى: {تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، حيث ظنُّوا أنَّ المرادَ بالتَّأويلِ صَرْفُ النُّصوصِ عن مقتضاها. وطائفةٌ تقولُ: إنَّ الرَّاسخين في العلمِ يعلمون هذا

التأويل، وهؤلاء يجوِّزُون مثل هذه التَّأويلات التي هي تأويلاتُ الجهميَّةِ النُّفاةِ. ومنهم من يوجُبهاتارةً، ويجوِّزُها تارةً. وقد يحرِّمُونها على بعض النَّاسِ، أو في بعض الأحوالِ لعارضٍ، حتَّى أنَّ الملاحدةَ من المتفلسفةِ والمتصوِّفةِ وأمثالِهم قد يحرِّمون التَّأويلاتِ، لا لأجل الإيمانِ والتَّصديقِ بمضمونِها، بل لعلمِهم بأنَّه ليس لها قانونٌ مستقيمٌ، وفي إظهارِها إفساد الخلقِ، فيرون الإمساكَ عن ذلك مصلحةً، وإن كان حقًّا في نفسِه، وهؤلاء قد يقولون: الرُّسلُ خاطبوا الخلقَ بما لا يدلُّ على الحقِّ لأن مصلحةَ الخلقِ لا تَتِمُّ إلاَّ بذلك، بل لا تَتِمُّ إلا بأنْ تَخَيَّلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجوداً في الخارجِ لنوعٍ من المصلحةِ، كما يُخَيَّلُ للنَّائمِ والصبِيِّ والقليلِ العقلِ ما لا وجودَ له؛ لنوعٍ من المناسبةِ لما له في ذلك من المصلحةِ. وطائفةٌ يقولون: هذا التَّأويلُ لا يعلمه إلا اللهُ، ثمَّ من هؤلاء من يقول تُجْرَى على ظواهرِها، ويتكلَّمُ في إبطالِ التَّأويلاتِ بكل طريقٍ. ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالفُ ظاهرَها لم يُحْمَلْ على ظاهرِه، وما حُمِلَ على ظاهرِه لم يكن له تأويلٌ يخالف ذلك، فضلاً عن أنْ يُقَال: يعلمه الله أو غيره. بل مثل هذا التَّأويلِ يقال فيه كما قال

تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 18]، فإنَّ ما كان منتفياً لا وجودَ له، لا يعلمُه اللهُ إلا منتفياً لا وجود له، لا يعلمه ثابتاً موجوداً. وسببُ هذا الاضطرابِ أنَّ لفظَ التَّأويلِ في عرفِ هؤلاءِ المتنازعين ليس معناه معنى التَّأويلِ في التَّنْزيلِ، بل ولا في عرفِ المتقدِّمين من مفسري القرآنِ، فإن أولئك كان لفظ التَّأويلِ عندهم بمعنى التَّفسيرِ، ومثل هذا التَّأويلِ يعلمُه من يعلمُ تفسيرَ القرآنِ. ولهذا لما كان مجاهدٌ إمامَ أهلِ التَّفسيرِ، وكان قد سألَ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما عن تفسيرِ القرآنِ كلِّه وفسَّرَه له = كان يقولُ: إنَّ الرَّاسخينَ في العلمِ يعلمون التَّأويلَ؛ أي التَّفسيرَ المذكورَ، وهذا هو الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله ممن يقولُ إنَّ الرَّاسخين في العلم يعلمون التَّأويل، ومرادهم به التَّفسير. وهم يثبتون الصفات، لا يقولون بتأويل الجهميَّة النُّفاة، التي هي صرفُ النُّصوصِ عن مقتضاها ومدلولِها ومعناها ... وأمَّا التَّأويلُ؛ بمعنى: صرف اللَّفظِ عن الاحتمالِ الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ؛ كتأويلِ من تأوَّلَ استوى بمعنى: استولى ونحوه، فهذا عند السَّلفِ والأئمَّةِ باطلٌ لا

علاقة المتشابه بالتأويل من خلال آية آل عمران

حقيقةَ له، بل هو من باب تحريفِ الكَلِمِ عن مواضعِه والإلحادِ في أسماءِ اللهِ وآياتِه» (¬1). علاقةُ المتشابِه بالتَّأويلِ من خلال آيةِ آل عمران: وبعد هذا التَّلخيصِ، أذكرُ مسألةً متعلِّقةً بموضوع الآيةِ والتَّأويلِ، وهي مسألةُ «المتشابه» الذي نصَّت عليه الآيةُ، في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. وسأذكرُ الأمرَ ملخَّصاً حسب حاجةِ هذا البحثِ، فأقولُ: * أوَّلاً ـ إذا كانَ التَّأويلُ بمعنى التَّفسيرِ: إذا كانَ التَّأويلُ بمعنى التَّفسيرِ، فإنَّ المتشابِه يتعلَّقُ بأمرٍ يمكنُ أنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ، وهو المعنى، فإذا خفيَ على بعضِهم شيءٌ من معناه، فهو بالنِّسبةِ لهم متشابِهٌ، ويكونُ من بابِ المتشابِه النِّسبيِّ الذي يعلمُه قومٌ دون قومٍ. وهذا ما وقع في سبب نزولِ الآيةِ مما حُكِيَ عن وفدِ ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (5:280 - 382).

نصارى نجران، من استدلالهم على كونِ عيسى ابناً لله ـ تعالى الله عمَّا يقولون ـ بما ورد من وصفِه في القرآنِ بأنَّه كلمة الله، وروح منه، واحتجاجهم على التَّثليثِ بخطاب الله عباده بصيغة الجمع «إنَّا»، و «نحن»، وغيرها. ولهذا جاء غالبُ تفسيرِ السَّلفِ لمعنى المتشابه في هذه الآية أمثلةً لشيءٍ يقعُ فيه جهلُ بعض النَّاسِ، ولا يدركونَه؛ كالمنسوخ من الآي، أو ما احتمل أكثرَ من وجهٍ في التَّفسيرِ، أو ما كانت قصَّتُه واحدةً واختلفَ التَّعبيرُ عنها؛ كما في عصا موسى التي وُصِفَتْ في حدثٍ واحدٍ بأنها حية وفي آية أخرى بأنها ثعبانٌ (¬1). ويدخلُ في المتشابه النِّسبيِّ كلُّ من أخطأ التَّأويلَ الصَّحيحَ ولم يعرفْهُ، فإنَّه بالنِّسبةِ له من المتشابهِ بغضِّ النَّظرِ عن قصدهِ، وذلك كما وقع للسَّائلِ الذي سأل ابن عباس عن آياتٍ رأى أنها يخالفُ بعضُها بعضاً، فعن سعيد بن جبير (ت:94) قال: «قال رجلٌ لابن عبَّاسٍ: إنِّي أجدُ في القرآنِ أشياءَ تَخْتَلِفُ عليَّ، قال: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ¬

(¬1) ينظر تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:174 - 179)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطيب (2:593 - 594).

وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [الأنبياء: 101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية. وقالَ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إلى قولهِ: {دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30]، فذكرَ خَلْقَ السَّماءِ قبلَ خَلْقِ الأرضِ، ثُمَّ قَالَ: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {طَائِعِينَ} [فصلت: 9 - 11]، فذكر في هذه خَلْقَ الأرضِ قبل السَّماءِ. وقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، {عَزِيزًا حَكِيمًا}، {سَمِيعًا بَصِيرًا}، فكأنه كانَ ثُمَّ مَضَى. فقال: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء: 101] في النَّفْخَةِ الأولى، ثُمَّ يُنفخُ في الصُّورِ، فصعق من في السَّماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنسابَ بينهم عند ذلك، ولا يتساءلون. ثُمَّ في النَّفخةِ الآخرةِ أقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون. وأمَّا قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، فإن الله يغفرُ لأهل الإخلاصِ ذنوبَهم، فقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فخُتِمَ على أفواهِهم، فَتَنْطِقُ أيديهم، فعند ذلك عرف أنَّ اللهَ لا يُكْتَمُ

حديثاً، وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [النساء: 42]. وخلقَ الأرضَ في يومينِ، ثم خلقَ السَّماءَ، ثُمَّ استوى إلى السَّماءِ فسواهُنَّ في يومين آخَرَين، ثُمَّ دَحَا الأرضَ، ودَحْوُهَا: أنْ أخرجَ منها الماءَ والمرعَى، وخَلَقَ الجبالَ والجِمَالَ والآكَامَ وما بينهما في يومين آخَرَينِ، فذلك قولُه: {دَحَاهَا} [النازعات: 30]، وقولُه: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] فَجُعِلَتِ الأرضُ وما فيها مِنْ شَيْءٍ في أربعةِ أيَّامٍ، وخُلِقَتِ السَّماواتُ في يومينِ. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سَمَّى نفسَه بذلك، وذلك قولُه؛ أي: لم يَزَلْ كذلك. فإنَّ اللهَ لم يُرِدْ شيئاً إلا أصابَ به الذي أرادَ، فلا يختلفْ عليك القرآنُ، فإن كلاً مِنْ عندِ اللهِ» (¬1). فهذا سائلٌ اشتبه عليه شيءٌ من القرآنِ، فرجع به إلى الراسخين في العلمِ، إلى حبرِ الأمَّةِ وترجمانِ القرآنِ، فأخبرَه بمعنى ما كان متشابهاً عنده، وكلُّه كما ترى داخلٌ في المعلومِ، وليس فيما استأثرَ اللهُ بعلمِه. ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه، ينظر: فتح الباري، طـ: الريان (8:418).

وليس الوقوعُ في المتشابه النِّسبيِّ مشكلاً، إذ لا يسلمُ أحدٌ منه؛ لأنه قد يخفى عليه كثيرٌ من المعاني، فما كان خافياً عليه، كان بالنِّسبةِ له متشابِهاً. لكن إن عمدَ إلى الآياتِ، وحرفَ مدلولها، أو عمد إلى قضيَّةٍ كليَّةٍ؛ كالقدرِ وغيرِه، وأخذَ بجزءٍ من آياتِها التي توافقُ معتقدَه، وحرَّف الآيات الأخرى أو أهملَها = قَصْدَ الزَّيغِ والتَّحريفِ والفتنةِ، كانَ مذموماً بنصِّ الآيةِ، وينطبقُ هذا على عمومِ أهلِ البِدَعِ؛ كالخوارجِ والسَّبئيَّةِ، وغيرهم. فالخوارجُ استدلُّوا ببعضِ آياتٍ على أنَّ الحكمَ لله، وجَهِلُوا وتناسوا الآياتِ الأخرى التي تثبت جواز حُكْمِ الخلقِ في بعض القضايا، فقالوا في مناظرةِ ابن عباس (ت:68) لهم: «أنه حَكَّمَ الرِّجالَ في دين اللهِ (¬1)، وقد قال الله عزّ وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57، يوسف: 40، 67]». فردَّ عليهم ابن عبَّاسٍ (ت:68)، وقال: «أرأيتم إن قرأتُ عليكم من كتابِ اللهِ المُحْكَمِ وحدَّثُتُكم من سنَّةِ نبيِّكم صلّى الله عليه وسلّم ما لا تنكرون، أترجعون؟. قالوا: نعم. ¬

(¬1) يعنون أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه.

قال: قلت: أمَّا قولُكم: إنه حَكَّمَ الرِّجالَ في دين الله، فإنه يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، أنشدكم اللهَ: أفَحُكْمُ الرِّجالِ في حقنِ دمائهم وأنفسِهم وصلاحِ ذاتِ بينهم أحقُّ، أم في أرنبٍ ثمنُها رُبْعُ دِرْهَمٍ؟!. فقالوا: اللَّهمَّ في حَقْنِ دمائهم وصلاحِ ذاتِ بينهم. قال: أخرجتُ من هذه. قالوا: اللَّهمَّ نعم ...» (¬1). فانظرْ، كيفَ ضَلُّوا بأخذِهم جزءاً من الآياتِ، وتركهم غيرَها مما يبيِّنُ فسادَ ما اعتقدوه؟! وانظر كيف ردَّهم الراسخُ في العلمِ: حبرُ الأمَّةِ ابن عبَّاسٍ (ت:68)؟! فللَّهِ دَرُّه من راسخٍ في العلمِ. والسَّبئيَّةُ حرَّفوا شيئاً من القرآنِ، وجعلوه يدلُّ على معتقداتِهم، وكذا سارَ على طريقتِهم في التَّحريفِ من جاء بعدهم من غلاةِ الرَّافضةِ ومن الباطنيَّةِ. وقد ذكر الطبريُّ (ت:310) في تاريخه شيئاً من ¬

(¬1) نصُّ المناظرةِ كاملاً في حلية الأولياء (1:318 - 319).

تحريفات عبد الله بن سبأ، ومنها قوله: «العجبُ ممن يزعمُ أنَّ عيسى يرجعُ، ويُكَذِّبُ بأنَّ محمداً يرجعُ، وقد قال اللهُ عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، فمحمَّدٌ أحقُّ بالرجوعِ من عيسى، قال: فقُبِلَ ذلك عنه، ووضَعَ لهم الرَّجعة (¬1)، فتكلَّمُوا فيها» (¬2). ولم يثبتِ البتَّةَ رجوعُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الدُّنيا بعدَ مماتِه، ولكنَّ ابن سبأ اعتمدَ على هذا الإجمال الوارد في قوله: {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ}، وجعلَه في عقيدةٍ جديدةٍ بثَّها في أصحابِه الجُهَّالِ، فقبلُوها. والواردُ عن الرَّاسخينَ في علمِ التَّفسيرِ، الذين هم أعلمُ بالتَّأويلِ: لرادُّك إلى الموتِ، أو إلى الجنَّةِ، أو إلى بلدكَ مكَّةَ (¬3)، وليس فيها مثلُ هذه العقيدةِ الفاسدة. وقد أشارَ قتادة (ت:117) إلى هذين الصِّنفين من أهل البِدَعِ، وجعلَهم مقصودينَ بهذه الآيةِ، فقال: «إن لم يكونوا الحروريَّة والسبئيَّة فلا أدري من هم، ولعمري لقد كان في ¬

(¬1) يعني أصحابه الذين شايعوه من مصر. (¬2) تاريخ الطبري (2:647). (¬3) ينظر في أقوال السلف في تفسير هذه الآية: تفسير الطبري، طـ: الحلبي (20:123 - 126).

أهلِ بدرٍ والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله بيعة الرِّضوان من المهاجرين والأنصارِ = خبرٌ لمن استخبرَ، وعبرةٌ لمن استعبرَ، لمن كان يعقل أو يبصر. إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله يومئذٍ كثير بالمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذٍ أحياء، والله إنْ خرج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قطُّ، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالؤهم فيه، بل كانوا يحدِّثون بعيب رسول الله إياهم، ونعتِه الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادوهم بألسنتهم، وتشتدُّ ـ والله ـ عليهم أيديهم إذا لقوهم، ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدَىً لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله، وجدت فيه اختلافاً كثيراً، فقد ألاصُوا (¬1) هذا الأمر منذ زمان طويل، فهل أفلحوا فيه يوماً، أو أنجحوا؟! يا سبحان الله! كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم؟ لو كانوا على هدى قد أظهره الله وأفلحه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، كلما خرج لهم قَرْنٌ أدحض الله ¬

(¬1) أي: نظروا فيه وأداروه بينهم وأرادوه من زمان طويل.

حجتهم، وأكذب أحدوثَتهم، وأهرق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحاً في قلوبهم، وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهراقَ اللهُ دماءهم. ذاكم ـ والله ـ دينُ سوءٍ فاجتنبوه، والله إنَّ اليهوديَّة لبدعة، وإنَّ النَّصرانيَّة لبدعةٌ، وإنَّ الحروريَّة لبدعةٌ، وإنَّ السَّبئيَّةَ لبدعة، ما نزل بهن كتاب، ولا سنهن نبي» (¬1). وهذا يعني أنَّ أهلَ البدعِ وقعوا في المتشابه، فأخذوا بجزءٍ من الكتابِ وحرَّفوا ما لا يوافقُ رأيهم، فالجبريُّ يثبتُ الآياتِ التي يرى فيها إثباتَ الجبرِ، ويؤوِّل غيرها من الآياتِ التي تدلُّ على خلافِ مذهبِه. والقدريُّ يثبتُ الآياتِ التي يرى فيها إثباتَ القدر، ويؤوِّل غيرها من الآياتِ التي تدلُّ على خلافِ مذهبِه. والمعتزليُّ يثبتُ معانيَ آياتٍ يرى أنها تدلُّ على مذهبِه، ويؤوِّلُ غيرها مما لا يوافقُ مذهبَه، فتراه يفسِّر قوله تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] على أنَّها تثبتُ عدم وقوعِ رؤيةِ الباري، فيعتمدها في نفي رؤيةِ الله في الآخرةِ. وإذا جاء إلى قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6:187 - 189).

ثانيا- إذا كان التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء

نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وجدته يؤوِّلها ويحرفُ معناها إلى: تنتظرُ ثوابَ ربِّها. مخالفاً بذلك التَّفسيرَ الصَّحيحَ الدَّالَّ على رؤيةِ اللهه سبحانه وتعالى. وهكذا غيرهم من أهل البدع والأهواءِ، تراهم يجعلون القرآن عضين، فيأخذون ببعضه ويتركون بعضه الآخر. وكلُّ هذه المؤوَّلاتِ يعلمُها الرَّاسخونَ في العلمِ، ويبيِّنون فسادَ أقوالِ هؤلاء الذين أخطأوا التَّأويل، وانحرفوا عن جادَّةِ الصوابِ. ثانياً ـ إذا كان التَّأويلُ بمعنى: ما تؤول إليه حقيقةُ الشيءِ: إذا كان التَّأويلُ بمعنى: ما تؤول إليه حقيقةُ الشَّيءِ، فإنَّ المتشابه يتعلَّقُ بأمرٍ لا يمكنُ أنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ، وهو ما تؤولُ إليه حقائقُ الأشياءِ التي ذكرها اللهُ في القرآنِ أو ذكرَها رسولُه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا يتعلَّقُ بالغيبيَّاتِ، وهذا النَّوعُ هو المتشابِه الكُلِّيُّ، الذي يستوي الناس جميعاً في عدمِ إدراكِه، ويتعلَّقُ بأمرينِ: وقتِ الوقوعِ، وكيفيَّةِ ما يقعُ من المغيَّباتِ؛ كوقت خروجِ الدَّابَّةِ، ونزولِ عيسى عليه السلام، ووقت قيام الساعة، وكيفيَّات كثيرٍ من الغيبيَّاتِ التي لم يُطلِعِ اللهُ عبادَهُ عليها، ككيفيَّاتِ صفاتِه العُلَى، وكيفيَّةِ الدابَّةِ التي

تخرجُ في آخرِ الزَّمانِ، وغيرِها من الكيفيَّاتِ. أمَّا إذا كان الخبرُ الصَّحيحُ وارداً في كيفيَّةٍ من كيفيَّاتِ هذه المغيَّباتِ، فإنَّها خارجةٌ من هذا القسمِ، وداخلةٌ في قسم المعلومِ. وتطلُّبُ هذا القسمِ زيغٌ؛ لأنَّه مما استأثرَ اللهُ بعلمِه، ولم يُرِدْ أنْ يُطلِعَ عبادَه عليه، فمن تعرَّضَ إلى تأويلِه، فقد افترى على اللهِ، وقال عليه بغيرِ علمٍ، ويدخلُ في ذلك من يطلب الآجالَ والمُدَدَ من الحروفِ المقطَّعةِ في أوائلِ السُّورِ، ويزعم أنَّ سرَّ المغيَّباتِ مندرجٌ تحتها، وأنَّه يمكنُ معرفةُ شيءٍ من الغيبِ عن طريقِ تفكيكها وتفسيرِها، أو من يطلبُ المغيَّباتِ بواسطة الأعدادِ المذكورةِ في القرآنِ، ويزعم أنَّه يؤخذُ منها علماً غيبيًّا؛ كبعضِ من كتبَ في ما يُسمى بالإعجاز العدديِّ في القرآن الكريمِ (¬1). كما يدخل فيه أيضاً من يطلب الحِكَمَ الخفيَّةَ التي لم يطلعِ الله عباده عليها، وذلك شامل لعموم ما جاءت به ¬

(¬1) بعضُ ما يصحُّ مما يُذكرُ فيما يسمى بالإعجاز العدديِّ هو من مُلَحِ التَّفسيرِ وليس من متينِ العلمِ، والبحثُ في هذا الموضوع موضعٌ كبيرٌ للزللِ، لذا يجيءُ أصحابُه بغرائبَ تقطعُ بأنَّها غيرُمرادةٍ أبداً؛ لأنَّه لا يُتوصَّلُ إليها إلاَّ بطرقٍ حسابيَّةٍ غير ميسَّرةٍ، والقرآن ميسَّرٌ أمرُه للذكرِ.

الشريعة؛ كمن يجتهد في معرفة سبب تحريم بعض المحرمات أو معرفةِ سببِ جَعْلِ الصلوات بهذا العدد، وجعل صلاة المغرب ثلاثاً والعصر أربعاً، وهكذا. وليس المراد هنا أن بعض الحِكَمِ لا تظهر للعبادِ، لكن المراد أنَّ تطلُّبَها والحرص عليها وتوقُّف الإيمان ببعض الأحكام عليها مما يكون من باب المتشابه الذي يتبعه الزائغون ولا يحصلون وراءه على شيء يفيدهم في العمل. والقاعدة الكبرى في باب الحكم إن لم تظهر لك أن تقول فيها: الحِكمة من فعل ذلك الأمر الشرعيِّ أمرُ الآمرِ به، وهو الله سبحانه، وبذا كان جواب الفقيهة أم المؤمنين عائشة لما سئلت: لم تقضي المرأة الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة. فقالت: كنا نؤمر بذلك. وهذا يعني أنه ما دام الله قد أمر أو نهى، فإنه يُعمل بهذا الحكم؛ لأنَّ الواجب على المسلم التسليم لشرع الله، والعمل به، لا البحث عن حِكْمَةِ تشريعِه أو التأخر في تطبيقه، أو الاعتراض عليه، فإنَّ هذا ينافي الاستسلام لله. ولما كان هذا القسمُ [أي: المتشابه الكلي] مما لا يُدركُه البشرُ، فإنه خارجٌ عن حدِّ التَّفسيرِ، وليس منه على

الإطلاقِ، وهذا الذي يقف عنده العلماءُ الرَّاسخونَ، ويقولون آمنَّا به كلٌّ من عند ربِّنا؛ لأنَّه لا يتأتَّى لهم إلا التَّسليمُ لخبرِ اللهِ وتصديقُه. وإذا تبيَّنَ هذا، عُلِمَ أنَّ اللهَ لم يخاطبْ عبادَه في كتابِه بما لا يعلمون معناه، أمَّا ما يتعلَّقُ بحقائق بعض المغيَّباتِ من وقت وقوعِها أو كيفيَّتِها، فإنَّها موجودةٌ في القرآنِ، ولكنَّها خارجةٌ عن المعنى، فلا يجوزُ بحثُها. مثالُ ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} [النمل: 82]. فمعنى الدَّابَّةِ معروفٌ، وهي الحيوانُ الذي يدبُّ على الأرضِ، وهذا هو التَّفسيرُ. لكن متى تخرجُ؟ وكيف تخرجُ؟ وما أوصافُها؟ كلُّ هذا من الغيبِ الذي استأثرَ الله بعِلمِه، فهو من المتشابِه الكُليِّ الذي يُوكَلُ عِلمَه إلى الله. وقس على هذا صفاتِ اللهِ سبحانه، فقد أخبر عن نفسه، وهو بها أعلمُ، فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].

القول في الأحرف المقطعة

فمعنى الاستواء: العلوُّ والارتفاعُ، وهذا هو التَّفسيرُ. لكن كيف استوى؟ هذا من الغيبِ الذي استأثر الله بعلمه، فهو من المتشابِه الكليِّ الذي لا يعلمُه إلاَّ اللهُ، ولذا لا تجدُ لعلماء الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومن سارَ على نهجهم تفسيراً للكيفِ، وإنما تفسيرُهم للمعنى، ومن أشهرِ ما وردَ في هذه الصِّفةِ الإلهيَّةِ، قول مالك بن أنس (ت:197) لما سئل: كيف استوى؟. فقال: «استواؤه معقولٌ، وكيفيَّتُه مجهولةٌ، وسُؤالُك عن هذا بدعةٌ، وأراك رجلَ سوءٍ» (¬1). القول في الأحرف المقطعة: وقبل أن أختم الحديث عن هذا الموضوع، أشيرُ إلى ¬

(¬1) رواه ابن عبد البرِّ بسنده، التمهيد، تحقيق: عبد الله بن الصِّدِّيق (7:183). والمحقق يخالف عقيدة ابن عبد البرِّ السلفية، فليحذر من تعليقاته. وقد رواه آخرون غيرُ ابن عبد البرِّ، منهم أبو القاسم اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (3:398)، وقد وردت الرواية عنده كالآتي: «الكيفُ غيرُ معقولٍ، والاستواءُ منه غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ، فإنِّي أخافُ أن تكونَ ضالاًّ، وأمَرَ به فأُخرِج».

ما قد يسأل عنه القارئ، وهو هل الأحرف المقطعة من المتشابه؟. الجواب: فيه تفصيل، فإن كان المراد أنها من المتشابه النسبي الذي قد يخفى على قوم، فنعم. وإن كان المراد أنها من المتشابه الكلي، فلا، ومن أدخلها في المتشابه الكلي، فقد أخطأ؛ لأن السلف قد تعرَّضوا للقول فيها، ولو كانت من المتشابه الكلي لما قالوا فيها شيئاً، وهذا من أدلِّ الدليل على خروجها عن أن تكون من المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله. ويورد بعض أعلام المتكلِّمين هنا سؤالاً: هل يجوز أن يخاطبنا الله بما لا نعلم معناه؟. أو هل في القرآن ما لا نعلم تأويله؟ (¬1). وبعضهم يبنون على هذا أنَّ الأحرف المقطعة، وغيرها من المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله، لذا يقولون في تفسيرها: الله أعلم بمراده بها. ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: مقدمة جامع التفاسير للراغب الأصفهاني، تحقيق: أحمد حسن فرحات (ص:86).

وتركيب السؤال غلط؛ لأنه لا يوجد في القرآن ما لا يُعلمُ معناه، حتى يخفى على الجميع، وما يوجد فيه مما لا يصل إليه علم البشر هو خارج عن المعنى وداخل في أمر آخر، وهو أمر الغيبيات التي سبق الإشارة إليها من وقت وقوعها وكيفياتها، وكذا بعض الحِكَمِ التي أخفاها الله على عباده، فكل هذه لا علاقة لها بفهم المعنى، بل هي خارجة عنه. وإذا تأملت الأحرف المقطعة وما قال العلماء فيها، وجدتهم فريقين: الفريق الأول: من قال: إن الله استأثر بعلمها، وفحوى قولهم أن لها معنى، لكن لا يعلمه إلاَّ الله. الفريق الثاني: من تعرَّض للحديث عنها، وذكر فيها كلاماً، وهم على قسمين: قسم يظهر من كلامهم أن لها معنى، ولها تفسير يعلمُ معناه. وقسم يجعلها حروفاً لا معنى لها؛ لأن الحرف في لغة العرب لا معنى له. والصحيح في ذلك ـ والله أعلم ـ ما لخَّصه العلاَّمةُ أبو عبد الله محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى

(ت:1421)، فقد قال في جواب له عنها: «هذه الحروف ليس لها معنى، ولها مغزى». وهذا الجواب مبني على أنَّ الحرف في لغة العرب لا معنى له، والقرآن نزل بلغتهم؛ كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، والعرب لم تجعل للحرف المفرد معنى، فحرف الصاد بمفرده لا معنى له، وكذا حرف الدال، وحرف القاف، لكن إذا جمعتها إلى بعضها تركَّب منها كلمة لها مدلول، وهي «صدق»، وهكذا غيرها من الأحرف التي هي مباني الكلام. ولما كان الحرف لا معنى له في لغتهم، فإنه لا يُتطلَّب لهذه الأحرف معنى محدَّداً تدلُّ عليه. وإذا تأمَّلت جمهور تفسير السلف، وجدته راجعاً إلى هذا التحرير الذي ذكرته لك، وقد أشار إلى ذلك بعض المحققين. قال الراغب الأصفهاني (ت: بعد 400): «... وقال: {أَلَمْ} {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2] تنبيهاً على أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام» (¬1). ¬

(¬1) مقدمة جامع التفاسير (ص:105).

وقال: «إن المفهوم من هذه الحروف، الأظهر بلا واسطة، ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة؛ كالفراء وقطرب ـ وهو قول ابن عباس وكثير من التابعين على ما نبينه من بعد ـ وهو أن هذه الحروف لما كانت عنصر الكلام ومادته التي يتركب منها، بيَّن تعالى أنَّ هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم، تنبيهاً على إعجازهم، وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم ـ مع تظاهركم ـ عن معارضته» (¬1). وقال: «وما روي عن ابن عباس أن هذه الحروف اختصار من كلمات، فمعنى: «ألم»: أنا الله أعلم، ومعنى «ألمر»: أنا الله أعلم وأرى، فإشارة منه إلى ما تقدم. وبيان ذلك ما ذكره بعض المفسرين أنَّ قصده بهذا التفسير ليس أن هذه الحروف مختصة بهذه المعاني دون غيرها، وإنما أشار بذلك إلى ما فيه الألف واللام والميم من الكلمات تنبيهاً أن هذه الحروف منبع هذه الأسماء، ولو قال: إنَّ اللام يدل على اللعن، والميم على المكر، لكان يُحمل، ولكن تحرَّى في المثال اللفظ الأحسن؛ كأنه قال: هذه الحروف هي أجزاء ذلك الكتاب. ¬

(¬1) مقدمة جامع التفاسير (ص:142).

ومثل هذا في ذكر نُبَذٍ تنبيهاً على نوعه، قول ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] أنه الماء الحار في الشتاء، ولم يُرِدْ به أن النعيم ليس إلا هذا، بل أشار إلى بعض ما هو نعيم تنبيهاً على سائره، فكذلك أشار بهذه الحروف إلى ما يتركب منها، وعلى ذلك ما رواه السُّدِّيُّ عنه أن ذلك حروف إذا رُكِّبت يحصل منها اسم الله. وكذلك ما روي عنه أنه قال: هي أقسام = غير مخالف لهذا القول، وذاك أن الأقسام الواردة في فواتح السور إنما هي بنعم، وأجوبتها تنبيه عليها، ـ فيكون قوله: {أَلَمْ} {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2] جملة في تقدير مقسم به. وقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] جوابها، ويكون إقسامه بها تنبيهاً على عِظَمِ موقعها، وعلى عجزنا عن معارضة كتابه المؤلف منها. فإن قيل: لو كان قسماً، لكان فيه حرف القسم. قيل: إن حرف القسم يُحتاج إليه إذا كان المقسم به مجروراً. فأما إذا كان مرفوعاً نحو: «ويمُ الله»، أو منصوباً نحو: «يمينَ الله»، فليس بمحتاج إلى ذلك. وما قاله زيد بن أسلم والحسن ومجاهد وابن جريج

أنها أسماء للسور، فليس بمناف للأول، فكل سورة سُمِّيت بلفظ متلو منها، فله في السورة معنى معلوم. وعلى هذا القصائد والخطب المسماة بلفظ منها ما يفيد معنى فيها. وكذلك ما قاله أبو عبيدة، وروي أيضاً عن مجاهد وحكاه قطرب والأخفش: أن هذه الفواتح دلائل على انتهاء السورة التي قبلها، وافتتاح ما بعدها، فإن ذلك يقتضي من حيث إنها لم تقع إلاَّ (¬1) في أوائل السور = يقتضي ما قالوه، ولا يوجب ذلك أن لا معنى سواه ...» (¬2). ومن هذا يتبين أن هذه الأحرف تخرج عن المتشابه الكلي، كما لا تدخل في السؤال الذي يطرحه بعض العلماء، وهو هل في القرآن ما لا يعلم معناه؟ لأنها أحرف لا تحتوي على معنى بذاتها فيطلب منها، أما إذا تركب منها الكلام، فلا يمكن أن يكون في القرآن كلام لا يعرف معناه، والله الموفق. وبقي في هذه الأحرف مسألة، وهي المغزى من هذه الأحرف، وهو على التحقيق: ما ذكر ابن كثير (ت:774)، قال: «وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل ¬

(¬1) ليس في الأصل «إلاَّ»، وقد زدتها لأن المقام يقتضيها. (¬2) مقدمة جامع التفاسير (ص:147 - 148).

السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مُرَكَّبٌ من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقد حَكَىَ هذا المذهب الرازيُّ في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقَرَّره الزمخشريُّ في كشافه، ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية. قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن. قال: وجاء منها على حرف واحد؛ كقوله: {ص} {ن} {ق}، وحرفين مثل: {حم}، وثلاثة مثل: {الم}، وأربعة مثل: {المر} و {المص}، وخمسة مثل: {كهعيص} و {حمعسق}؛ لأن أساليب كلامهم على هذا: من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك. قلت: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف، فلا بد أن

يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1 - 2]. {الم *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1 - 2]. {المص} {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 1 - 2]. {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]. {الم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1 - 2]. {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2]. {حم} {عسق} {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 1 - 3]. وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم» (¬1). وبهذا ينتهي الحديث عن الأحرف المقطعة، وبالله التوفيق. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، طـ: 3 (1:38). وقد نصر هذا القول الشنقيطي في أضواء البيان واستدل بالاستقراء الذي أشار إليه ابن كثير، ينظر: أضواء البيان (3:5 - 7).

مفهوم الاستنباط

مفهوم الاستنباط

معنى الاستنباط

بعد أن بَانَ حدُّ التفسيرِ، وعلمتَ أنَّ كثيراً مما في كتب التفسيرِ قد يكون خارجاً عن حدِّ البيانِ؛ ككثيرٍ من اللطائفِ والمُلَحِ العلميةِ، والنِّكاتِ البلاغيةِ، والاستنباطاتِ العلميةِ من فقه وآدابٍ وتربوياتٍ وهداياتٍ قرآنيةٍ وغيرِها، فاعلمْ أنَّ من أهمِّ ما هو خارجٌ عن البيانِ، ومن أنفعِه للناس بعد التفسير = علمُ الاستنباطِ من القرآنِ الذي لا حدَّ له، وقد يفتح الله على عبادِه في عصرٍ ما لم يفتحْهُ على من قبلَهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. معنى الاستنباط: تدورُ مادَّةُ «نَبَطَ» على أصلٍ واحدٍ، وهو استخراجُ شيءٍ (¬1)، والألف والسين والتاء في استنبط تدلُّ على تطلُّبِ الشيءِ لأجلِ حصولِه، وكأنَّ فيها معنى التَّكلُّفِ في إعمالِ العقلِ الذي يحتاجُه المستنبطُ حال الاستنباطِ، واللهُ أعلمُ. قال الطَّبريُّ (ت:310): «وكلُّ مستخرجٍ شيئاً كان مستتراً عن العيون أو عن معارف القلوبِ، فهو له مستنبطٌ، ¬

(¬1) ينظر: مقاييس اللُّغة (5:381)، والعباب الزاخر واللباب الفاخر، للصغاني، تحقيق: محمد حسين آل ياسين (حرف الطاء: 208).

مم يكون الاستنباط؟

يقال: استنبطتُ الرَّكِيَّة: إذا استخرجتَ ماءها» (¬1). وقال الصَّغانيُّ: «وكلُّ شيءٍ أظهرته بعد خفائه: فقد انبطتَه واستنبطتَه. وقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]؛ أي: يستخرجونه. ويقال: استنبط الفقيه: إذا استخرج الفِقهَ الباطنَ بفَهْمِه واجتهادِه» (¬2). مِمَّ يكونُ الاستنباط؟: ينقسم القرآن إلى قسمين: نص ظاهر لا يخفى، ولا يحتاج إلى تفسير، وهذا يستنبط منه مباشرة. ونص يحتاج إلى تفسيرٍ، وهذا يكون الاستنباط منه بعد بيانه وتفسيرِه. تحليل عملية الاستنباط، وذكر أنواعه المندرجة تحته: الاستنباطُ ربط كلامٍ له معنى بمدلول الآيةِ، بأي نوع ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (8:571). (¬2) العباب الزاخر واللباب الفاخر، للصغاني، تحقيق: محمدحسين آل ياسين (حرف الطاء: 207).

من أنواع الربطِ، كأن يكون بدلالة إشارةٍ أو دلالة مفهومٍ، أو غيرها. وكلُّ كلامٍ رُبِطَ بمعنى الآيةِ فإنه من هذا الباب؛ لأنَّ الذي يقول به يرى أنَّ الآيةَ دلَّت عليه بأي نوع من أنواع الدِّلالة. وقد يكون استنباطَ حكمٍ فقهيٍّ، أو يكونُ استنباطَ أدبٍ تشريعيٍّ عامٍّ، أو يكونُ استنباطَ أدبٍ أخلاقيٍّ في معاملةِ الناسِ، أو يكونُ استنباطَ فوائدَ تربويةٍ تتعلق بتزكيةِ النفوسِ، أو يكون استنباطَ فائدةٍ علميةٍ. ومن أمثلة ذلك ما يأتي: 1 - ما يُستنبط من قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، قال الجصَّاص (ت:370): «وفيها الدلالةُ على أنَّ الجَنَابَةَ لا تُنَافِي صحَّةَ الصومِ لما فيه من إباحةِ الجماعِ

من أوَّلِ الليل إلى آخره مع العلم بأنَّ المجامعَ في آخر الليل ـ إذا صادف فراغُه من الجماع طلوعَ الفجر ـ يصبح جُنُباً، ثم حُكِمَ ـ مع ذلك ـ بصحَّةِ صومه بقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}» (¬1). 2 - ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) في معرض حديثه عن الإسرائيليات، قال: «.... ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعَّفَ القولين الأوَّلَين وسكت عن الثالث، فدل على صحَّته، إذ لو كان باطلاً لردَّه كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أنَّ الاطلاع على عدَّتِهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}، فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن ¬

(¬1) أحكام القرآن، للجصاص (1:288).

أطلعه الله عليه، فلهذا قال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا}؛ أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تُستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها ويبطل الباطل، وتُذكر فائدةُ الخلاف وثمرته لئلا يطول النِّزاع، والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيُشتغل به عن الأهم. فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضاً، فإن صحَّحَ غير الصحيح عامداً فقد تعمَّد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ. كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيَّع الزمان وتكثَّر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثَوبَيْ زُورٍ، والله الموفق للصواب» (¬1). ¬

(¬1) مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عدنان زرزور (ص:100 - 102).

3 - ومنها ما ذكر السيوطي (ت:911) من جملة الاستنباطات والفوائد في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، قال: «فيها: أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرقيق والخادم في السفر. واستحباب الرحلة في طلب العلم. واستزادة العالم من العلم. واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل. ونسبة النسيان مجازاً وتأدباً عن نسبتها إلى الله تعالى. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه، ولو كان دونه في المرتبة. واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه ما لا يحتمله طبعُه. وتقديم المشيئة في الأمر. واشتراط المتبوع على التابع. وأنه يلزم الوفاء بالشرط. وأن النسيان غيرُ مأخوذ به. وأنَّ الثلاث اعتباراً في التكرار ونحوه.

حكم الاستنباط

وأنه لا بأس بطلب الغريب للطعام والضيافة. وأن صنع الجميل لا يُتركُ ولو مع اللئام. وجواز أخذ الأجرة على الأعمال. وأنَّ المسكين لا يخرج عن مسكنته بكونه له سفينة أو آلة تَكَسُّبٍ أو شيء لا يكفيه. وأنَّ الغصب حرام. وأنَّه يجوز إتلاف مال الغير وتعييبه لوقاية باقيه؛ كمال المودِع واليتيم. وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب الأخف. وأنَّ الولدَ يُحفَظُ بصلاح أبيه ...» (¬1). وهذه الاستنباطات قد تكون قريبة المأخذ تتضح بلا إعمال ذهنٍ، وقد يَدِقُّ مسلَكُها ويخفى، فتحتاجُ إلى تفهُّمٍ وإعمالِ ذهنٍ، وقد يكون فيها تكلُّفٌ، وقد تكون ضعيفةً غير مقبولة. حكم الاستنباط: هذه الاستنباطاتُ ـ ويلحقُ بها الفوائد التَّفسيريَّة ¬

(¬1) الإكليل في استنباط التنْزيل (ص:147).

القانون الكلي لصحة الاستنباط من عدمه

وغيرها مما يُرْبطُ بنصِّ الآيةِ ـ من القولِ بالرَّأي، فإن كان الاستنباط عن علمٍ، فهو من الرأي المحمود الذي دلَّت النصوص على جوازه. وإن كان الاستنباط عن جهل، أو دخل فيه الهوى فحصل فيه تحريفٌ، فإنَّه من الرَّأي المذمومِ، وهذا النوع من الرَّأي حرامٌ، وهو داخلٌ تحت قولِه تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وغيرها من النُّصوصِ الواردةِ في ذمِّ الرَّأي الذي لا دليلَ عليه، واللهُ أعلمُ. القانون الكليِّ لصحة الاستنباط من عدمه: أنت في صياغة هذا القانون أمام ثلاثةِ أمور: نصٌّ مفسَّرٌ، إمَّا تفسيراً صحيحاً، وإمَّا تفسيراً خطأً، ونصٌّ ظاهرٌ، ومعلومة مرتبطة بأحدهما. وربطُ أيِّ معلومةٍ من المعلوماتِ، والزَّعمُ أنَّ القرآنَ دلَّ عليها لا يخلو من أحوالٍ: الحالُ الأولى: أن تكون المعلومةُ بذاتها فاسدةً باطلةً، تخالفُ ما جاءت به الشريعةُ، وحكم هذه المعلومة واضحٌ، فهي باطلةٌ بذاتِها، وربطُها بآياتِ القرآنِ خطأٌ بلا إشكالٍ.

أمثلة للاستنباطات من النص الظاهر، ومن النص الذي يحتاج إلى تفسير

وقد يكون ربطها بنصٍّ ظاهرٍ، أو بتفسير صحيحٍ، أو بتفسيرٍ غيرِ صحيحٍ. الحال الثانيةُ: أن تكونَ المعلومةُ بذاتِها صحيحةً، ولا تخالفُ الشريعةَ، بل هي مما دلَّت عليه الشريعة، وهذه على قسمين: الأول: أن يكونَ ربطُها بالآيةِ صحيحاً؛ أي أن الآية دلت عليها دلالة واضحةً لا يخالِفُ فيها مخالفٌ. وقد يكون الربطُ هنا بنصٍّ ظاهرٍ، أو بتفسيرٍ صحيحٍ. الثاني: أن تكون المعلومةُ صحيحةً بذاتِها، لكنَّ ربطها بالآيةِ خطأٌ؛ لأنَّ الآيةَ لا تدلُّ عليها بحالٍ. فالمعلومةُ لو حُكيت بدون ربطها بالآيةِ لكانت صحيحةً لا يخَالَفُ في صحتها؛ لكن الذي يُخالَفُ فيه هو كون الآيةِ دلَّت عليها. وقد يكون الربطُّ هنا بنصٍّ ظاهرٍ، أو بتفسيرٍ صحيحٍ. أمثلة للاستنباطات من النص الظاهر، ومن النصِّ الذي يحتاج إلى تفسير: يمكنُ تقسيمُ الاستنباط من الآياتِ إلى أقسامٍ: أوَّلاً ـ الاستنباط من النص الظَّاهرِ الذي لا يحتاج إلى تفسير: وهو على قسمين:

1 - أن يكون الاستنباط صحيحا،

1 - أنْ يكونَ الاستنباطُ صحيحاً، ومثاله: ما ذكر السيوطي (ت:911) في قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، قال: «واستدل به الشافعي على صحة أنكحة الكفار» (¬1). 2 - أنْ لا يكون الاستنباطُ صحيحاً، ومثاله: استنباطُ بعض الصُّوفيَّة جوازَ الرَّقصِ من قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، وهذا الاستنباطُ غيرُ صحيحٍ، والمعنى المدلول عليه خطأ بذاته، وهو الرَّقصُ؛ إذ الرَّقصُ لا يجوز أصلاً. قال القرطبي (ت:671): «استدل بعض جهال المتزهدة وطغام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] على جواز الرَّقص. قال أبو الفرج الجوزي: وهذا احتجاج بارد؛ لأنه لو كان أُمِرَ بضربِ الرِّجلِ فَرَحاً كان لهم فيه شبهة، وإنما أُمِرَ بضرب الرِّجلِ ليَنْبُعَ الماءُ. قال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أُمِرَ ـ عند كشف البلاء ـ بأن يضرب برجله الأرض؛ لينبع الماء إعجازاً = من الرقص، ولئن جاز أن يكون تحريكُ رِجلٍ قد أَنْحَلَها ¬

(¬1) الإكليل في استنباط التَّنْزيل (ص:230).

ثانيا- الاستنباط من نص غير ظاهر يحتاج إلى تفسير

تَحَكُّمُ الهوامِّ دلالةً على جواز الرقص في الإسلام = جاز أن يُجعلَ قوله سبحانه لموسى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] دلالة على ضرب الجماد بالقضبان، نعوذ بالله من التَّلاعب بالشرع (¬1) ...» (¬2). • وقال الماورديُّ (ت:450): «ذهب بعض من يتفقه من المفسِّرين إلى أنَّ من وصَّى بجزءٍ من مالِه لرجلٍ، أنها وصيَّةٌ بالعُشُرِ؛ لأنَّ إبراهيمَ وضعَ أجزاءَ الطَّيْرِ على عَشرَةِ جبالٍ» (¬3). ثانياً ـ الاستنباطُ من نص غير ظاهر يحتاج إلى تفسير: وهذا النوع يكون الاستنباط منه بعد بيان المعنى؛ أي: التفسير، وهو على أقسام: 1 - أن يكونَ التفسيرُ صحيحاً، والاستنباطُ صحيحاً، وهذا كثيرٌ جِدًّا. ومثاله: ما استنبطه ابن عطيَّةَ الأندلسيُّ (ت:542) من ¬

(¬1) نقله المؤلف من كتاب ابن الجوزي: تلبيس إبليس (ص:317). (¬2) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (15: 215). (¬3) النَّكت والعيون، للماوردي، تحقيق: السيد بن عبد الرحيم بن عبد المقصود (1: 336).

2 - أن يكون التفسير صحيحا، والاستنباط غير صحيح.

قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]، قال: «وظاهرُ هذه الآيةِ يقتضي أنَّ التَّدبُّرَ من أسبابِ إنزالِ القرآنِ، فالتَّرتيلُ إذاً أفضلُ لهذا؛ إذ التَّدبُّرُ لا يكونُ إلاَّ مع التَّرتيلِ» (¬1). 2 - أن يكونَ التفسير صحيحاً، والاستنباط غير صحيح. ومثاله: ما استنبطَه ابنُ عطيَّةَ الأندلسيُّ (ت:542) من قولِه تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ *أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50]:، فبعد تفسيرِه للآيةِ تفسيراً صحيحاً، قال: «وهذه الآيةُ تَقْضِي بفسادِ وجودِ الخُنْثَى المُشْكِلِ» (¬2). والآية لا تدلُّ على ما قالَه، ولم تنفِ وجوده، وإنَّمَا تُرِكَ ذكرُ الخُنثى المُشكلِ لندرَته وقلَّتِهِ أمامَ هذهِ الأقسامِ المذكورةِ، واللهُ أعلمُ. وقال ابن العربي (ت:543) ـ وهو معاصرٌ لابن عطيَّةَ ـ: ¬

(¬1) المحرر الوجيز، طـ: قطر (12:453). (¬2) المحرر الوجيز، طـ: قطر (13:191).

3 - أن يكون التفسير غير صحيح، ويكون الاستنباط غير صحيح كذلك.

«... أنكرَه قومٌ منْ رءوسِ العوامِ، فقالوا: إنَّه لا خُنْثَى، فإنَّ اللهَ تعالى قسَّمَ الخلقَ إلى ذكرٍ وأنثى. قلنا: هذا جَهْلٌ باللُّغةِ، وغباوةٌ عنْ مَقْطَعِ الفَصَاحَةِ، وقُصُورٌ عن مَعْرِفَةِ سَعَةِ القُدْرَةِ. أمَّا قدرةُ اللهِ سبحانَهُ، فإنَّه واسعٌ عليمٌ. وأمَّا ظاهرُ القرآنِ، فلا ينفي وجودَ الخُنْثَى، لأنَّ اللهَ تعالى قال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 49]، فهذا عمومُ مدحٍ، فلا يجوزُ تخصيصُه؛ لأنَّ القدرةَ تقتضيه. وأمَّا قولُه: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50]، فهذا إخبارٌ عن الغالبِ في الموجوداتِ، وسكت عن ذكر النَّادرِ؛ لدخوله تحت عمومِ الكلامِ الأوَّلِ. والوجودُ يشهدُ له، والعيانُ يُكَذِّبُ منكرَه» (¬1). 3 - أن يكونَ التَّفسيرُ غيرَ صحيحٍ، ويكونَ الاستنباطُ غيرَ صحيحٍ كذلك. ¬

(¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي (4:1674 - 1675).

ومثاله: تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، قالت المعتزلة: إنَّ لن تفيد التأبيد، والمعنى: لن تراني أبداً، فيشمل نفيَ الرؤيةِ في الدنيا والآخرة. قال أبو الفضلِ الطَّبرسيُّ الرافضيُّ المعتزليُّ (ت:548): «{قَالَ لَنْ تَرَانِي}: هذا جوابٌ من اللهِ، ومعناه: لا تراني أبداً؛ لأنَّ «لن» ينفي على وجه التَّأبيدِ، كما قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، وقال: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]» (¬1). وتفسيرُ «لن» في هذا الموضعِ على أنَّه للتَّأبيدِ غيرُ ¬

(¬1) مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي (9:16). وقال الزمخشريُّ في تفسير هذه الآيةِ «فإن قلتَ: ما معنى «لن»؟ قلتُ: تأكيدُ النفي الَّذي تعطيه «لا»، وذلك أنَّ «لا» تنفي المستقبلَ؛ تقول: لا أفعلُ غداً، فإذا أكَّدت نفيها قلت: لن أفعل غداً. والمعنى: أنَّ فِعلهُ ينافي حالي؛ كقوله: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}، فقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} نفيٌ للرؤيةِ فيما يُستقبَلُ، و {لَنْ تَرَانِي} تأكيدٌ وبيانٌ؛ لأنَّ النفيَ منافٍ لصفاتِه». الكشاف (2:113).

4 - قد تكون الفائدة المستنبطة في ذاتها صحيحة، لكن حملها على معنى الآية غير صحيح.

صحيحٍ، وما بُنِي عليه من عدمِ جوازِ رؤيةِ الباري في الآخرةِ غيرُ صحيحٍ. وذكر القاسميُّ (ت:1332) عن معاصرٍ له: أنَّ تفسير قوله: {وَالتِّينِ} [التين: 1]: يعني به شجرةَ «بوذا» مؤسس الدِّيانة البوذيَّة. وبنى على هذا التَّفسيرِ فائدةً، وهي: أنَّ التَّرتيبَ في ذكرِها في الآيةِ باعبتارِ درجةِ صحَّتِها بالنِّسبةِ لأصولِها الأولى، فبدأ بالبوذيَّة لأنها أقلُّ درجةً في الصحَّةِ وأشدُّ الأديانِ تحريفاً عن أصلِها، ثُمَّ بالنَّصرانيَّةِ، وهي أقلُّ من البوذيَّةِ تحريفاً، ثُمَّ باليهوديَّةِ، وهي أصحُّ من النَّصرانيَّةِ، ثُمَّ بالإسلامِ، وهو أصحُّها جميعاً وأبعدُها عن التَّحريفِ والتَّبديلِ. وقد ذكر فوائد واستنباطات أخرى مبنية على هذا التَّفسيرِ الفاسدِ. وتفسيرُ هذا المفسِّرِ لهذه الآياتِ غيرُ صحيحٍ، وما بناه من الفوائد على ذلك غير صحيح أيضاً. 4 - قد تكون الفائدة المستنبطة في ذاتها صحيحة، لكن حملها على معنى الآية غير صحيح. ومثال ذلك ما فسَّر به بعضُهم قولَه تعالى: {فَلَمَّا

ثالثا- الاستنباط من ربط آيتين ببعضهما

فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [البقرة: 249]، قال: «هذه الآية مثل ضربَه الله للدُّنيا، فشبَّهها الله بالنهرِ، والشَّاربَ منه بالمائلِ إليها المستكثرِ منها، والتَّاركَ لشرِبِهِ بالمنحرفِ عنها والزاهدِ فيها، والمغترفَ بيدهِ بالآخذِ منها قدرَ الحاجةِ، وأحوالُ الثَّلاثةِ عندَ اللهِ مختلفةٌ» (¬1). قال القُرْطُبِيُّ (ت:671): «ما أحسن هذا الكلام لولا ما فيه من التَّحريف في التَّأويلِ، والخروجِ عن الظَّاهرِ، ولكن معناه صحيحٌ في غير هذا» (¬2). ثالثاً ـ الاستنباطُ من ربطِ آيتينِ ببعضهما: قد تردُ بعضُ الآياتِ مبيِّنةً لحكم ما، وتردُ آيةٌ أخرى مبيِّنةً لحكمٍ آخر، فيكونُ بجمعِ الآيتينِ بيانٌ لحكمٍ جديد لا يدلُّ عليه أحدُ الآيتين على انفرادِها. ومن الفوائدِ المستنبطةِ من الجمعِ بين آيتينِ: أنَّ أقلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ ستَّةُ أشهرٍ، وذلك لقولِه تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ¬

(¬1) تفسير القرطبي (3:251). (¬2) تفسير القرطبي (1:251).

رابعا- الاستنباط بإعمال مفهوم المخالفة

وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، وقولِه: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (ت:911): قال السيوطي: «أخرج ابنُ أبي حاتم عن معمر بن عبد الله الجُهَنيِّ، قال: تزوَّجَ رجلٌ منَّا امرأةً، فولدتْ لتمامِ ستَّةِ أشهرٍ، فانطلقَ إلى عثمان، فأمرَ برجْمِها. فقال عَلِيٌّ: أمَا سمعتَ اللهَ يقولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فكم تَجِدُ بَقِيَ إلاَّ ستَّةُ أشهرٍ. فقالَ عثمانُ: والله ما تفطَّنْتُ لهذا» (¬1). رابعاً ـ الاستنباطُ بإعمالِ مفهومِ المخالفةِ: وذلك أن يأتيَ النَّصُّ بخبرٍ أو حكمٍ، فما كانَ فيه من معنى الخبر أو الحكم المنصوص عليه مباشرةً، فهو من التَّفسيرِ، وما يُفهَمُ عنه من معانِ أحكامٍ أخرى، فهو من الاستنباطِ. ومن الفوائدِ المستنبطةِ بإعمالِ مفهومِ المخالفةِ، ¬

(¬1) الإكليل في استنباط التَّنْزيل (ص:194). وينظر: تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (7:280)، وقد ذكر ابن كثيرٍ مثله عن ابن عباسٍ (6:336)، (7:280).

مسألة في التفسير الإرشادي وفوائد الآيات

استنباط الشَّافِعِيُّ (ت:204) وقوع الرؤية من قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، قال: «فَلَمَّا أن حَجَبَوا هؤلاء في السُّخْطِ، كان في هذا دَليلٌ على أنَّهم يرونه في الرِّضا» (¬1). ولا تخلو بعض الاستنباطاتِ من البعدِ والغرابةِ في الاستنباطِ، وكم من اجتهادٍ في الاستنباطِ لم يُوفَّقْ؟. وقد مرَّ لذلك أمثلةٌ، ومما وردَ كذلك: قال ابن عطية (ت:542) في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33]: «قال المهدوي: ودلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ السَّقفَ لربِّ البيتِ الأسفلِ، إذ هو منسوبٌ إلى البيوتِ. قال القاضي أبو محمد: وهذا تَفَقُّهٌ واهنٌ» (¬2). مسألةٌ في التَّفسيرِ الإشاري (¬3) وفوائدِ الآياتِ: التَّفسيرُ الإشاريُّ يُمَثِّلُ جانباً مشكلاً في علمِ التَّفسيرِ، ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: الدكتور أحمد سعد الحمدان (3:506)، وينظر منه: (3:467 - 469). (¬2) المحرر الوجيز، طـ: قطر (13:219 - 220). (¬3) هذه النسبة التي صارت مصطلحاً مما يحتاج إلى تحرير، وقد ذكرتها هنا لشهرتها، لكن حقيقتها أنها من باب الاستنباط.

وهو في حقيقتهِ خارجٌ عن حدِّ التَّفسيرِ؛ لأنَّه يأتي بعدَ بيانِ الآيةِ أو بعد معرفةِ ظاهرِها. وتعودُ كثيرٌ من التَّفاسيرِ الإشاريَّةِ وتفاسيرِ الوُّعاظِ وما يذكرُه بعض المعاصرينَ من فوائِد الآياتِ = إلى الاستنباطِ، ومن ثَمَّ، فإنَّ حُكْمَها حُكْمُ ما سبقَ من الاستنباطات، وإنَّما أفردتها هنا لحاجتها لبيانٍ خاصٍّ، فأقولُ: هذه الفوائدُ والإشاراتُ على قسمين: القسمُ الأوَّلُ: أن تكونَ هذه الفوائد والإشارات صحيحة بذاتِها، لا تخالفُ أمراً من أمورِ الشَّريعةِ، وهي على قسمين من حيثُ ربطها بالآيةِ: أوَّلاً: أن يكونَ الرَّبطُ صحيحاً؛ أي: أن يكونَ بين الفائدة المذكورةِ والآيةِ ارتباطٌ بوجهٍ ما. ثانياً: أن يكونَ الرَّبطُ بالآيةِ غيرُ صحيحٍ، فالكلامُ باستقلاله صحيحٌ، ولكن ربطه بالآيةِ خطأٌ؛ لأنَّ الآيةَ لا تدلُّ عليه. القسمُ الثَّاني: أن تكونَ هذه الفوائد والإشارات غيرَ صحيحةً بذاتِها، لأنَّها تحملُ خطأً ما، وفي هذه الحالُ فإنَّ ربطَها بالآيِ خطأٌ قطعاً.

وبعد هذا الملخَّصِ في علاقةِ الإشاراتِ والفوائدِ بالنَّصِّ، أذكر لك ملخَّصاً لكلامِ ثلاثةٍ من الأئمَّةِ الأعلامِ في التَّفسيرِ الإشاريِّ لأهميَّةِ ما أوردُوه، ولِتَجِدَهُ مجموعاً بين يديك. أولاً ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728): 1 - أنَّ التفسيرَ المعتمدَ على الإشاراتِ المنسوبَ إلى بعضِ الأعلامِ؛ كجعفر الصَّادق (ت:148) وغيره، بعضها كلامٌ حسنٌ، وبعضُها باطلٌ مردودٌ، وبعضُها مكذوبٌ مفترى على قائله. 2 - هذه الإشاراتُ هي من بابِ الاعتبارِ والقياسِ، وإلحاقِ ما ليس بمنصوصٍ بالمنصوصِ، مثلُ الاعتبارِ والقياسِ الذي يستعمله الفقهاء في الأحكامِ. 3 - إذا كانت هذه الإشارات من جنس القياسِ الصَّحيحِ، كانت حسنة مقبولةً، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب». فإذا قيس على تطهير القلب عن الأخلاق الخبيثة كان هذا من جنس إشارات الصوفية وقياس الفقهاء. وإذا كانت من جنس القياسِ الضَّعيفِ، كان لها

حكمُه، كما ذكر من أنَّ موسى أُمِرَ مع خلعه للنَّعلين (¬1) بخلع الدنيا والآخرة. وإذا كانت تحريفاً للكلامِ على غيرِ تأويلِه، كانت باطلاً، وهي من جنس كلام القرامطةِ والباطنيَّةِ والجهميَّةِ، كقول من قال: إنَّ ما ينْزلُ على قلوب أهل المعرفة من جنس خطاب تكليم موسى وتكليمه بهذا باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها (¬2). ثانياً: ما ذكره ابن القيم (ت:751) والشاطبي: (ت:790): لقد ذكر هذان العلمان ضوابط في قبول هذه الإشارات، وهذا نصُّ قولَيهما: قال ابنُ القيِّمِ (ت:751): «وتفسير النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ: ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه: 12]. (¬2) ينظر في هذه النقاط الثلاث: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية: دقائق التفسير (2:471)، وبغية المرتاد (1:215 - 216)، (1:313 - 314)، ومجموع الفتاوى (2:28).

تفسيرٌ على اللَّفظِ، وهو الذي ينحو إليه المتأخِّرون. وتفسيرٌ على المعنى، وهو الذي يذكره السَّلفُ. وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ، وهو الذي ينحو إليه كثيرٌ منَ الصُّوفيَّةِ وغيرهم. وهذا لا بأسَ به بأربعةِ شرائط: أن لا يناقضَ معنى الآية. وأن يكون معنًى صحيحاً في نفسِهِ. وأن يكون في اللَّفظِ إشعارٌ به. وأن يكون بينه وبين معنى الآيةِ ارتباطٌ وتلازمٌ، فإذا اجتمعت هذه الأمورُ الأربعةُ كان استنباطاً حسناً» (¬1). وقال الشَّاطبيُّ (ت:790): «... وكَونُ الباطنِ هو المرادُ من الخطابِ قد ظَهَرَ أيضاً مما تقدَّم في المسألةِ قبلَها، ولكن يُشترطُ فيه شرطان: أحدهما: أن يَصِحَّ على مقتضى الظَّاهرِ المقرَّرِ في لسان العربِ، ويجري على المقاصدِ العربيَّةِ. ¬

(¬1) التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، تصحيح: طه يوسف شاهين (ص:51).

والثاني: أن يكونَ له شاهدٌ ـ نصًّا أو ظاهراً ـ في محلٍّ آخر يشهدُ لصحَّتِه من غير معارضٍ» (¬1). وقدْ ذكرَ في كلامٍ لاحقٍ ما يصلحُ أن يُضافَ إلى ضوابطِ قبول التَّفسير الإشاريِّ، وهو قوله: «... ولكن له وجه جارٍ على الصِّحَّةِ، وذلك أنَّه لم يقل إنَّ هذا هو تفسير الآيةِ ...» (¬2). هذا، وإذا لم يكن الكلامُ الَّذي ينبِّه إليه المفسِّرُ باطلاً في ذاتِه، بل كان صحيحاً في ذاته، فإنَّ عدمَ قبولِه يقعُ من جهةٍ أخرى، وهي عدم صحَّة دلالةِ الآيةِ عليه. واليوم، يقعُ في هذا بعض الوعَّاظِ، ومتطلبو فوائدِ الآياتِ، والذين يكتبونَ في بعض المجلاَّتِ الإسلاميةِ، تحت عنوان: «آية العدد» أو «إشراقة آية» أو «في ظلال آيةٍ» أو غيرها من العناوين. وإنَّك لتجدُ بعضهم يتكلَّفُ في استنباط الفوائد، ¬

(¬1) الموافقات، للشاطبي، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد (3:268). (¬2) الموافقات، للشاطبي، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد (3:286)، وقد أشار ابن تيميَّة إلى هذا الذي ذكره الشَّاطبيُّ، ينظر: بغية المرتاد (ص:313).

ويربطها بالآيةِ، ويجعل الآية تدلُّ عليها، أو يتكلَّفُ بإدخالِ بعضِ ما يراه في الواقعِ تحت حُكْمِ الآيةِ، أو قد يجعلُ الآيةَ مدخلاً لموضوعٍ من الموضوعاتِ التي يريدُ الحديث عنها، فتراه يريد الحديثَ عن الحسدِ مثلاً، ويذكر آيةً من الآياتِ التي ذكرت الحسدَ، ثمَّ ينطلقُ يتحدَّثُ عن الحسدِ بتفصيلٍ لا علاقةَ له بالآيةِ التي ذكرَها في أوَّل موضوعِه. وكلُّ هؤلاء المتكلفين ما لا يُحسنون عليهم أن يتَّقُوا الله، وأن يعلموا أنهم قد يدخلون فيمن يقول على الله بغير علم، فيكونون من أصحاب الرأي المذموم. وإذا بَانَ لك هذا، عَلِمْتَ أنَّ ما يُعابُ على من كتبَ في ما يُسمَّى بالتفسيرِ الإشاري من تكلُّفهم ربطَ أقوالِ المتصوِّفةِ بتفسيرِ الآيةِ وأنها على سبيلِ الإشارةِ، فإنه يعابُ على بعض الوُّعاظ والدعاةِ الذين يسلكون هذا المنهج، وإن اختلفت المحاملُ عندَ الفريقينِ، والله أعلم.

مفهوم التدبر

مفهوم التدبر

تدلُّ مادة «دَبَرَ» على آخرِ الشَّيءِ، ومنه دُبُرُ الشيء؛ أي آخره؛ كأدبار الصلوات. والتَّدبُّرُ: النَّظرُ في أدبارِ الشَّيء، والتفكيرُ في عاقبتِه. وقد استُعملَ في كلِّ تأمُّلٍ يقعُ من الإنسانِ في حقيقةِ الشَّيءِ أو أجزائه أو سوابقِه أو لواحقه أو أعقابه (¬1). وجاءَ على صيغةِ التَّفعُّلِ، ليدلَّ على تكلُّفِ الفعلِ، وحصولِه بعد جُهْدٍ، والتَّدبُّرُ: حصول النَّظرِ في الأمرِ المُتَدَبَّرِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ. وقد جاءَ الأمرُ بتدبُّرِ القرآنِ في أربعةِ مواضعَ من القرآنِ، والعجيبُ أنَّ آيتينِ نزلتْ في سياقِ المنافقينَ، وهما قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وجاءت آيتانِ في سياقِ الكفَّارِ، وهما قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: ¬

(¬1) ينظر: روح المعاني (5:92).

68 -]، وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]. وتحتملُ آيةُ سورةِ «ص» أن يكون المؤمنونَ داخلونَ في الأمرِ بالتَّدبُّرِ، ويشهدُ له قراءةُ من قرأ: {لتدبروا آياته} بالتاء (¬1)، بمعنى: لتتدبَّره أنت يا محمد وأتباعُك (¬2). وليس نزولُ الآيةِ في سياق غيرِ المؤمنينَ يعني أنَّ المؤمنينَ لا يُطلبُ منهم التَّدبُّرُ، بل هم مأمورونَ به، وداخلونَ في الخطاب من باب أولى؛ لأنَّهم أهلُ الانتفاعِ بتدبُّرِ القرآنِ. وإنَّما المرادُ هنا بيانُ من نزلت بشأنه الآياتُ، دون بيان صحَّةِ دخولِ المؤمنينَ في الخطابِ، واللهُ أعلمُ. والآياتُ الآمرةُ بالتَّدبُّرِ منها ما جاءَ على شيءٍ مخصوصٍ؛ كقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. ومنها ما جاءَ مطلَقاً بالتَّدبُّرِ العامِّ؛ كقوله تعالى: ¬

(¬1) هي قراءة أبي جعفر المدني من العشرة، وقد نُسِبَتْ إلى عاصم، ينظر: تفسر الطبري، طـ: الحلبي (23:153)، والمحرر الوجيز، طـ: قطر (12:452 - 453)، والنَّشر في القراءات العشر (2:361). (¬2) ينظر: تفسير الطبري، طـ: الحلبي (23:153).

{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]. والأصلُ أنَّ مرحلةَ التَّدبُّرِ تأتي بعدَ الفَهْمِ، إذ لا يُمكنُ أن يُطلبَ منك تدبُّرُ كلامٍ لا تعقِلُه، وهذا يعني أنَّه لا يوجدُ في القرآنِ ما لا يُفهَمُ معناهُ مطلقاً، وأنَّ التَّدبُّرَ يكونُ فيما يتعلَّقُ بالتَّفسيرِ؛ أي أنَّه يتعلَّقُ بالمعنى المعلومِ. قال الطبري (ت:310): «وفي حَثِّ الله عزّ وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات ـ بقوله جل ذكره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص:29]، وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27 - 28]، وما أشبه ذلك من آي القرآن، التي أمر الله عباده وحثَّهم فيها على الاعتبار بأمثال آي القرآن، والاتعاظ بمواعظه ـ ما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله من آيه. لأنه مُحَالٌ أن يُقال لمن لا يفهم ما يقال ولا يعقل تأويلَه: اعتبر بما لا فَهْمَ لك به ولا معرفةَ من القِيلِ والبيان والكلام إلا على معنى الأمر بأن يفهمه ويفقهه، ثم يتدبره ويعتبر به. فأما قبل ذلك، فمستحيل أمره بتدبره وهو بمعناه

جاهل. كما محال أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلام العرب ولا يفهمونه، لو أنشد قصيدة شعر من أشعار بعض العرب ذات أمثال ومواعظ وحكم: اعتبر بما فيها من الأمثال، وادكر بما فيها من المواعظ إلا بمعنى الأمر لها بفهم كلام العرب ومعرفته، ثم الاعتبار بما نبهها عليه ما فيها من الحكم. فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق، فمحال أمرها بما دلت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعبر. بل سواءٌ أَمْرُها بذلك وأَمْرُ بعض البهائم به، إلا بعد العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها. فكذلك ما في آي كتاب الله من العِبَرِ والحِكَمِ والأمثال والمواعظ، لا يجوز أن يقال: اعتبرْ بها إلا لمن كان بمعاني بيانه عالماً، وبكلام العرب عارفاً وإلا بمعنى الأمر لمن كان بذلك منه جاهلاً أن يعلم معاني كلام العرب، ثم يتدبره بعد، ويتعظ بحكمه وصنوف عبره. فإذ كان ذلك كذلك وكان الله ـ جل ثناؤه ـ قد أمر عبادَه بتدبُّرِه وحثَّهم على الاعتبار بأمثاله = كان معلوماً أنه لم يأمر بذلك من كان بما يَدُلُّهم عليه آيُهُ جاهلاً. وإذ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون، صَحَّ أنهم بتأويل ما لم يحجب عنهم علمه من آيه الذي

القسم الأول - التدبر والتفسير

استأثر الله بعلمه منه دون خلقه، الذي قد قدمنا صفته آنفاً = عارفون. وإذ صَحَّ ذلك، فسد قول من أنكر تفسير المفسرين من كتاب الله وتنْزيله ما لم يحجب عن خلقه تأويله» (¬1). ولربطِ هذا المبحثِ بسابق مباحث هذا الكتاب يمكن تقسيمُ مستويات التَّدبُّرِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: القسمُ الأوَّلُ ـ التدبر والتفسير: سبق الإشارةُ إلى أنَّ التدبُّر يكون بعد فهم المعنى، لكن يحسن هنا أنْ أنبِّه إلى أنه قد لا يُفهم المعنى المراد، فتحتاج إلى البحث عنه. وتطلُّب المعنى يحتاجُ نَظَراً وفِكْراً، وهذا نوع من التدبر يكون سابقاً للفهم، والله أعلم. وقد يكون عدم فهم الآية وقع من جهة جهل لغة أو سبب نزول، أو غيرها من الجهات وهذا يعني أنَّ التَّدبُّرَ يتعلَّقُ بالمعنى، وفي الغالب يكونُ هذا في فهم المتشابهِ النِّسبيِّ الذي قد يخفى على بعض الناس. وقد يكون التَّدبُّر باختيار أحد الأقوال المذكورة في ¬

(¬1) تفسير الطبري، طـ: الحلبي (1:36 - 37).

الآية، والاختيار يحتاج إلى فِكْرٍ ونَظَرٍ يدلُّ على القول الصحيح المحتمل للآية. وأمثلةِ هذا القسمِ كثيرةٌ، فمنها ما يقعُ من بحثِ آيةٍ مشكلةٍ، ومنها نقاشاتُ المفسِّرينَ التي يظهرُ فيها ترجيحُهم لوجهٍ من وجوهِ التَّفسيرِ، وغيرَها مما يحتاجُ إلى اختيارٍ من أجلِ البيانِ، وهذا ما لا تخلو منه كتب التفسير، ومن أمثلته: قال الطبري (ت:310): «القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم بما: حدثني موسى بن هارون ... عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، يقول: لم تكونوا شيئاً فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة. عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: {أَمَتَّنَا

اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: هي كالتي في البقرة: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]. ... عن حصين، عن أبي مالك في قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: خلقتنا ولم نكن شيئاً، ثم أمتَّنا، ثم أحييتنا. ... عن حصين، عن أبي مالك في قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: كانوا أمواتاً، فأحياهم الله، ثم أماتهم، ثم أحياهم. ... عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، قال: لم تكونوا شيئاً حين خلقكم، ثم يميتكم الموتة الحق، ثم يحييكم، وقوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] مثلُها. ... عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: هو قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]. ... عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية في قول الله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]، يقول: حين لم يكونوا شيئاً، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم،

ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رجعوا إليه بعد الحياة. ... عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة. ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة، فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]. وقال آخرون بما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن أبي صالح: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]، قال: يحييكم في القبر، ثم يميتكم. وقال آخرون بما: حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} الآية [البقرة: 28]. قال: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان.

وقال بعضهم بما: حدثني به يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} حتى بلغ {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173] قال: فكسبهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، قال: وانتزع ضلعاً من أضلاع آدم القُصَيرى فخلق منه حواء ـ ذكره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: وذلك قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، قال: وبثَّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقاً كثيراً، وقرأ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6]، قال: خلقاً بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر: 11]، وقرأ قول الله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، قال: يومئذٍ. قال: وقرأ قول الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7].

قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل. فأما وجه تأويل من تأول قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]؛ أي: لم تكونوا شيئاً، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميت، وهذا أمر ميت؛ يراد بوصفه بالموت: خمولُ ذِكْرِهِ ودُرُوسُ أثرِه من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمرٌ حَيٌّ وذِكْرٌ حَيٌّ؛ يراد بوصفه بذلك: أنه نَابِهٌ متعالم في الناس، كما قال أبو نخيلة السعدي: فأحييت لي ذكري وما كنت خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض يريد بقوله: فأحييت لي ذكري؛ أي: رفعته وشَهَرْتَهُ في الناس حتى نَبُهَ فصار مذكوراً حيًّا بعد أن كان خاملاً ميتاً. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]: لم تكونوا شيئاً؛ أي: كنتم خُمُولاً لا ذِكْرَ لكم، وذلك كان موتكم، فأحياكم فجعلكم بشراً أحياء تُذكرون وتُعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دُرُوسِ ذِكْرِكم، وتعفِّي آثارِكم، وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى

هيئاتها، ونفخ الروح فيها، وتصييركم بشراً كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم. وأما وجه تأويل من تأول ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم، وذلك معنى بعيد؛ لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتاب واسترجاع، وقوله جل ذكره: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] توبيخُ مستعتبٍ عبادَه، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الإنابة، ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة. وأما وجه تأويل قول قتادة ـ: ذلك أنهم كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ـ فإنه عنى بذلك: أنهم كانوا نُطَفاً لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها، وإحياؤه إياها تعالى ذكره نفخه الأرواح فيها، وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم، وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود.

وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك، وأن الإماتة الأولى عنده إعادة الله ـ جل ثناؤه ـ عبادَه في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب، والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث، وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة. وهذا تأويل، إذا تدبره المتدبر، وجده خلافاً لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، وزعم ابن زيدٍ في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا، وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين؛ أعني قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} الآية [البقرة: 28]، وقوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] في شيء؛ لأن أحداً لم يَدَّعِ أنَّ الله أمات من ذرأ يومئذٍ غير

الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث، فيكون جائزاً أن يوجَّه تأويل الآية إلى ما وَجَّهه إليه ابن زيدٍ. وقال بعضهم: الموتة الأولى: مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها، ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها، فيجعلها بشراً سوياً بعد تاراتٍ تأتي عليها، ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور، فيرد في جسده روحه، فيعود حيًّا سوياً لبعث القيامة، فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول؛ لأنهم قالوا: موت ذي الرُّوحِ مفارقة الرُّوحِ إياه، فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح، فارقته الحياة فصار ميتاً؛ كالعضو من أعضائه، مثل: اليد من يديه، والرِّجل من رِجليه، لو قطعت وأُبِينَتْ، والمقطوع ذلك منه حي، كان الذي بان من جسده ميتاً لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حيَّة بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتة، نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه، وهذا قول ووجه من

التأويل، لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم. وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]: أموات الذِّكْرِ، خمولاً في أصلاب آبائكم، نطفاً لا تُعرَفون ولا تُذكَرون، فأحياكم بإنشائكم بشراً سوياً حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتاً لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك؛ كما قال: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]؛ لأن الله ـ جل ثناؤه ـ يحييهم في قبورهم قبل حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال ـ جل ذكره ـ: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]، وقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدمنا

القسم الثاني: التدبر والاستنباط

ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه، بما قد أوضحناه قبل» (¬1). وهذا المثال ـ مع طوله ـ يبيِّن صورة التَّدبُّر الذي يكون من أجل فهم المعنى المراد. القسم الثَّاني: التَّدبُّر والاستنباط: عند تأمُّلِ عملية الاستنباط يظهر أنَّ فيها إعمال فكر ونظر، وقد يكون التدبر الذي ينتج عنه استنباط من آية ظاهرة المعنى لا تحتاجُ إلى تفسيرٍ، وقد يكون من آية ظهر معناها الصحيحُ، فيكون التدبُّر في هذه الحال بعد معرفةِ التفسير، فيتدبَّرُ المتدبر ما يحتويه معنى الآيةِ من وجوه الاستنباطاتِ والفوائد، وهو تدبُّرٌ لاستخراجِ الحِكَمِ والأحكامِ والآدابِ وغيرِها مما يستنبطُه المستنبطُ، وهذا يعني أنَّ الاستنباطات نتيجةٌ للتَّدبُّرِ. ومن أمثلةِ هذا القسم من التَّدبُّرِ، ما ذكره ابن القيِّمِ (ت:751) في كتابه «زاد المهاجر» من تفسير قصَّةِ إبراهيم عليه السلام في سورة الذَّارياتِ، قال: «فصل في: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82، محمد: 24]. ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:418 - 424).

فإن قلتَ: إنَّك قد أشرْتَ إلى مقامٍ عظيمٍ، فافتحْ لي بابَه واكشفْ لي حجابَه، وكيف تَدَبُّرُ القرآنِ وتَفَهُّمُهُ والإشرافُ على عجائبه وكنوزه؟! وهذه تفاسيرُ الأئمَّةِ بأيدينا، فهل في البيانِ غيرُ ما ذكروه؟. قلتُ: سأضرب لك أمثالاً تَحْتَذِي عليها، وتجعلها إمَاماً لك في هذا المقصدِ. قال اللهُ تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ *فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ *فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَاكُلُونَ *فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ *فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ *قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: 24 - 30]. فعهدي بكَ إذا قرأتَ هذه الآية، وتطلَّعتَ إلى معناها، وتدبَّرتها، فإنَّما تَطْلُعُ منها على أنَّ الملائكةَ أتَوا إبراهيمَ في صورةِ الأضيافِ يأكلونَ ويشربون، وبشَّرُوه بغلامٍ عليمٍ، وإنَّما امرأتُه عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة: أن اللهَ قال ذلك، ولم يتجاوزْ تَدَبُّرُكَ غير ذلك. فاسمعِ الآنَ بعضَ ما في هذه الآيات من أنواعِ الأسرارِ، وكم قد تضمَّنت من الثَّنَاءِ على إبراهيم؟.

وكيف جمعتِ الضِّيافةَ وحقوقَها؟ وما تضمَّنتْ منَ الرَّدِّ على أهلِ الباطلِ من الفلاسفةِ والمعطِّلةِ. وكيف تضمَّنتْ علماً عظيماً من أعلام النُّبوَّةِ؟. وكيف تضمَّنتْ جميعَ صفاتِ الكمالِ التي رَدَّهَا إلى العلمِ والحكمةِ؟ وكيف أشارت إلى دليلِ إمكانِ المعاد بألطفِ إشارة وأوضحِها، ثُمَّ أفصحتْ وقوعَه؟. وكيف تضمَّنتْ الإخبار عن عدلِ الرَّبِّ وانتقامِه من الأممِ المكذِّبةِ، وتضمَّنتْ ذِكْرَ الإسلامِ والإيمانِ والفرقِ بينهما، وتضمنتْ بقاءَ آياتِ الرَّبِّ الدَّالَّةِ على توحيدِه وصدقِ رُسُلِهِ وعلى اليوم الآخرِ، وتضمَّنتْ أنَّه لا ينتفعُ بهذا كلِه إلاَّ من في قلبِه خوفٌ من عذابِ الآخرةِ، وهم المؤمنون بها، وأمَّا من لا يخافُ الآخرةِ ولا يؤمنُ بها، فلا ينتفعُ بتلك الآياتِ؟ فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملةِ» (¬1). ثُمَّ بدأ يسردُ فوائدَ واستنباطاتٍ من هذه الآيات، ولولا طولُها، لذكرتُها. ¬

(¬1) زاد المهاجر إلى ربِّه، لابن القيِّم (ص:63 - 68).

القسم الثالث: - التدبر والتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء

القسم الثَّالث: ـ التدبر والتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء: أغلب ما تؤول إليه حقيقة الشيء يرتبط بما استأثر الله بعلمه، وهو ما يسمى بالمتشابِه الكليِّ، وهذا لا يمكن وقوع التدبر فيه؛ لأنَّه لا يعلمُه إلاَّ اللهُ، كما سبقَ بيانُه، ومن هنا فالتَّدبُّرُ لا يدخلُ في الغيبيَّاتِ التي استأثرَ اللهُ بعلمها؛ كزمنِ وقوعِ ما أخبرَ اللهُ بوقوعِه أو كيفيَّاتِ هذه المغيَّباتِ. وبما أنَّ هذا القسم لا يمكنُ أن يقعَ فيه تدبُّرٌ، فإنه ليسَ له مثالٌ يُحكى، واللهُ أعلمُ. وخلاصة الأمر أنَّ التدبر يقع في المعلوم، وهو معرفة التفسير والاستنباط من القرآن، أما ما لا يدركه العقل من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها فالواجب الإيمان بها دون الدخول في اجتهادات لبيانها، وهي مما لا يحصل بيانه من جهة العقل، ومتى وقع طلبها من جهته حصل الانحراف والزيغ في شرع الله. المعاني المقاربةِ للتَّدبرِ: ويقربُ من معنى التَّدبُّرِ التَّفكُّرُ والتَّذكُّرُ والنَّظرُ والتَّأملُّ والاعتبارُ والاستبصارُ، وقد وردت هذه المعاني في القرآن في مواطن.

قال ابن القيِّمِ (ت:751): «... وهذا يسمَّى تفكُّراً وتذكُّراً ونظراً وتأمُّلاً واعتباراً وتدبُّراً واستبصاراً، وهذه معانٍ متقاربةٌ تجتمعُ في شيءٍ وتتفرقُ في آخر. ويسمَّى تفكُّراً؛ لأنه استعمالُ الفكرةِ في ذلك، وإحضارُه عنده. ويسمَّى تذكُّراً؛ لأنَّه إحضارٌ للعلمِ الذي يجب مراعاته بعد ذهولِه وغيبتِه عنه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. ويسمَّى نظراً؛ لأنَّه التفاتٌ بالقلبِ إلى المنظورِ فيه. ويسمَّى تأمُّلاً؛ لأنه مراجعةٌ للنَّظرِ كرَّةً بعد كرَّةٍ، حتى يتجلَّى له وينكشفَ لقلبِه. ويُسَمَّى اعتباراً، وهو افتعالٌ من العبورِ؛ لأنَّه يَعْبُرُ منه إلى غيرِه، فَيَعْبُرُ من ذلك الذي قد فَكَّرَ فيه إلى معرفةٍ ثالثةٍ، وهي المقصود من الاعتبار، ولهذا يُسَمَّى عِبْرَةً، وهي على بناءِ الحالاتِ كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ والقِتْلَةِ إيذاناً بأنَّ هذا العلمَ والمعرفةَ قد صار حالاً لصاحبِه يَعْبُرُ منه إلى المقصودِ به، وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26]،

الفرق بين التدبر والتأثر من سماع القرآن

وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]. ويُسمَّى تدبُّراً؛ لأنَّه نظرَ في أدبارِ الأمورِ، وهي أواخرُها وعواقبها، ومنه تدبُّرُ القول ...» (¬1). الفرقُ بين التَّدبُّرِ والتَّأثُّرِ من سماعِ القرآن: يخلطُ بعضُ النَّاسِ بين التَّدبُّرِ والتَّأثُّرِ من سماعِ القرآن، فيجعلونَ القشعريرةَ التي تصيبُ الإنسان والخشوعَ الذي يلحقُه بسبب تأثيرِ القرآنِ عليه هو التَّدبُّرُ، وليسَ الأمرُ كذلك. فالتَّدبُّرُ عمليَّةٌ عقليَّةٌ تحدثُ في الذِّهنِ، والتَّأثُّرُ انفعالٌ في الجوارحِ والقلبِ، وقد يكونُ بسبب التَّدبُّرِ، وقد يكونُ بسبِ روعةِ القرآنِ ونظمه، وقد يكونُ بسبب حالِ الشَّخصِ في تلكَ اللَّحظةِ، واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1:182).

مفهوم المفسر

مفهوم المفسِّرِ

لم يحظ مصطلح المُفَسِّرِ من علماء القرآن والتفسير بتعريفٍ (¬1) كما عرَّفوا مصطلح التفسير، ويعتبر كتاب السيوطي (ت:911) طبقات المفسرين أول كتاب يجمع تراجمهم في كتاب مستقلٍّ، وقد قسم المفسرين إلى أنواع: النوع الأول: المفسرون من السلف: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين. النوع الثاني: المفسرون من المحدِّثين، وهم الذين صنفوا التفاسير مسندة مُورداً فيها أقوال الصحابة والتابعين بالإسناد. النوع الثالث: بقية المفسرين من علماء السنة، الذين ضموا إلى التفسيرِ التأويلَ (¬2) والكلامَ على معاني القرآن وأحكامه وإعرابه وغير ذلك. ¬

(¬1) انظر: قواعد الترجيح عند المفسرين، للشيخ حسين الحربي (1:33)، فقد قال في تعريف المفسر: «من له أهلية تامةٌ يعرف بها مراد الله تعالى بكلامه المتعبد بتلاوته، قدر الطاقة البشرية، وراض نفسه على مناهج المفسرين، مع معرفته جُملاً كثيرة من تفسير كتاب الله، ومارس التفسير عملياً بتعليم أو تأليف». (¬2) هذا على المصطلح الحادث، وقد سمَّاهم أصحاب هذا القسم =

النوع الرابع: من صنف تفسيراً من المبتدعة؛ كالمعتزلة والشيعة وأضرابهم (¬1). ثمَّ قال: «والذي يستحق أن يسمى من هؤلاء، القسم الأول، ثم الثاني، على أنَّ الأكثرَ في هذا القسم نَقَلَةٌ، وأما الثالث فمؤولة، ولهذا يسمون كتبهم ـ غالباً ـ بالتأويل، ولم أستوف أهل القسم الرابع، وإنما ذكرت منهم المشاهير؛ كالزمخشري والرُّماني والجبَّائي وأشباههم» (¬2). وهذا يعني أنك لو اعتمدت ما يذكره هو ومن كتب بعده في طبقات المفسرين = لقلت: المفسر: من كان له مشاركة في علم التفسير، أو كتب فيه. ويظهر أنَّ هذا سيكون من باب التسامح في المصطلح، دون التحرير له، وهذا ما يشير إليه كلام السيوطي عن الطبقة الثانية، حيث جعل أكثرهم نقلة ¬

= مؤولة كما سيأتي، وقد عرفت مما سبق أن هذا المصطلح غير صحيح، وما سيبنى عليه فإنه سيكون غير صحيح أيضاً، ومنه هذه التسمية المطلقة لمن جاء بعد السلف. (¬1) ينظر: طبقات المفسرين (ص:9 - 10). (¬2) طبقات المفسرين (ص:10).

للتفسير، ومع ذلك ذكرهم في طبقات المفسرين. ولا شكَّ أن من كتب في طبقات المفسرين لم يكن قصدُه تعريفَ المفسر، بل كان قصدُه إيرادَ من له كتابةٌ في التفسير، دون تحليلٍ لنوع هذه الكتابة، من حيث كونها نقل أو اجتهاد من المفسر. ولا تكاد تَجِدُ ضابطاً في إيراد فلان من العلماء في عِداد المفسرين، ولذا ترى من أصحاب التراجم إدخالاً لبعض الصحابة في المفسرين، وإن كان الوارد عنهم فيه قليلٌ؛ كزيد بن ثابت (ت:45) وعبد الله بن الزبير (ت:73). وقد يكون في ذلك تساهل في عَدِّهِمْ من المفسِّرين، وإذا نظرت إلى بعضهم وجدت أنه قد برز في بعض العلوم، فزيد بن ثابت (ت:45) كان مقرئاً، وهو الذي قام بكتابة المصحف، وكان فرضيًّا، فقد يكون بسبب بروزه في هذين العلمين ـ خصوصاً لعلم القراءة المتعلِّق بالقرآن ـ تُسُمِّحَ في إطلاق لقب المفسر عليه، والله أعلم. والبروزُ العلميُّ العامُّ لا يلزمُ منه البروز في علمٍ معيَّنٍ من العلومِ، بل لقد كانَ علمُ الفقه وعلمُ القراءةِ أشهرَ العلومِ التي كانَ الصحابة يعلِّمونها للتَّابعينَ، ولذا لا يُستبعدُ أنَّ من كتبَ في طبقاتِ المفسِّرين قد تأثَّر بكتاباتِ من سبقَه

الأول- طبقة المجتهدين الأول

في طبقاتِ الفقهاءِ، وأدخلَ بعضهم في علمِ التَّفسيرِ، وإنْ لم يكن من المعتنينَ به. ولا يعني إخراجُ فلان من العلماء المتقدِّمين أو المتأخِّرينَ من عِدادِ المفسِّرينَ نقصاً في حقِّه، أو حطًّا من منْزلتِه العلميَّةِ، لا يعني ذلك هذا أبداً، وعدمُ ورودِ هذه المزيَّةِ الخاصَّةِ لا يعني انتفاء المزيَّةِ العامَّةِ، وكونه من العلماءِ. ولو سبرت المفسرين المذكورين في كتب طبقات المفسرين، واطَّلعت على ما دوَّنوه من منجزاتهم في التفسير = لظهر لك أنَّهم لا يخرجون عن أربعة أنواع: الأول ـ طبقة المجتهدين الأُوَلِ: وهم مفسرو السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، الذي دونت أقوالهم في كتب التفسير المسندة. وقد كان لهؤلاء اجتهاد واضح في التفسير، وكانوا أصحاب آراءٍ فيه، فمن المفسرين من جيل الصحابة: ابن مسعود (ت:35)، وابن عباس (ت:68). ومن المفسرين من جيل التابعين: أبو العالية (ت:93)، وسعيد بن جبير (ت:94)، والشعبي (ت:103)، ومجاهد بن

جبر (ت:104)، والضحاك بن مزاحم (ت:105)، وعكرمة (ت:105)، والحسن البصري (ت:110)، وعطاء بن أبي رباح (114)، وقتادة (ت:117)، ومحمد بن كعب القرظي (ت:118)، والسدي (ت:128)، وزيد بن أسلم (ت:136)، وأبو مالك غزوان الغفاري (ت:؟). ومن المفسرين في جيل أتباع التابعين: الكلبي (ت:146)، ومقاتل بن حيان (ت:150)، ومقاتل بن سليمان (ت:150)، وابن جريج (ت:150)، وسفيان الثوري (ت:161)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت:182)، ويحيى بن سلام البصري (ت:200). وقد ظهر في عهد أتباع التابعين جمع من اللُّغويين كان لهم رأي واجتهاد في تفسير القرآن، وإن كان يغلب عليه الجانب اللغوي؛ كقطرب (ت:206)، والفراء (ت:207)، وأبي عبيدة (ت:210)، وغيرهم. وكلُّ أولئك كان لهم رأي واجتهاد في التفسير، ولم يكونوا مجرد نقلة له. كما شاركَ بعضُ المعتزلةِ في علمِ التَّفسيرِ؛ كأبي بكرٍ عبد الرحمن بن كيسان الأصمِّ (ت:201) (¬1)، ويوسفَ بن ¬

(¬1) عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم، شيخ المعتزلة، كان =

عبد الله الشَّحَّامِ (ت:233) (¬1)، وغيرهم (¬2)، وقد كان بعضُ اللُّغويِّين منهم؛ كقطرب (ت:206)، والأخفش (ت:215). ولا شكَّ أنَّ معتقداتهم العقليَّة كان لها أثرٌ على تفسيرِهم، ولم يصلْ من كتبِهم التَّفسيريَّةِ في هذه الفترةِ سوى معاني القرآنِ للأخفشِ (ت:215)، ونزعةُ الاعتزالِ واضحةٌ فيه. ¬

= ديِّناً وقوراً، صبوراً على الفقرِ، منقبضاً عن الدولة، وكان فيه ميلٌ عن أمير المؤمنين علي، مات سنة (201). المنية والأمل (ص:52)، وسير أعلام النبلاء (9: 402). (¬1) يوسف بن عبد الله بن إسحاق الشَّحَّام، من أصحاب أبي الهذيل، وأخذ عنه أبو علي الجبائي، انتهت إليه رئاسة المعتزلة في البصرة في وقته، اشتغل ناظراً في دواوين الواثق، توفي سنة (233). المنية والأمل (ص:61)، وسير أعلام النبلاء (19:552). (¬2) ورد ذكر كتاب في التفسير لعمرو بن فايد، وكتاب لموسى الأسواري، وهما معتزليان من طبقة الأصمِّ، انظر: المنية والأمل (ص:54)، ولهما ذكرٌ في كتاب البيان والتبيين، للجاحظ (1:368، 369). وقد ذُكرَ لأبي الفضل جعفر بن حرب كتابٌ في متشابه القرآن، انظر: سير أعلام النبلاء (10:550)، وكتاب في التفسير للقاسم بن الخليل الدمشقي، انظر: سير أعلام النبلاء (10:556)، وكلهم من المعتزلة.

الثاني- نقلة التفسير

الثاني ـ نَقَلَةُ التفسير: وهم جملة من المحدِّثين وغيرِهم ممن لم يكن لهم إلاَّ النقل لتفسير من سبقهم، ولم يكن لهم فيه أيَّ رأي واجتهاد، ومنهم: عبد الرزاق الصنعاني (ت:211)، حيث تجده في كتاب التفسير يسنده في أغلبه إلى قتادة (ت:117) من طريق شيخه معمر بن راشد الصنعاني (ت:154)، ولا تجد له أي نقد أو نقاشٍ لما يرويه، بل يكتفي بالإسناد إلى المفسرين، ويمكنُ أن يُطلقَ عليهم وعلى أمثالِهم «مشاركون في التَّفسيرِ». ومع ذلك تجد أنَّ الذين كتبوا في طبقات المفسِّرين يَعُدُّون عبد الرزاق الصَّنعانيِّ (ت:211) من المفسرين، وهذا فيه تَسَمُّحٌ وتجوُّزٌ، وقد فعلوا هذا مع غيره فعدُّوهم في طبقاتِ المفسِّرين؛ كعبد بن حميد (ت:249)، وابن المنذر (ت:319)، وعبد الرَّحمن بن أبي حاتم (ت:327)، وغيرهم من نَقَلَةِ التفسير الذين لم يتصدوا لترجيح الروايات ونقدها. الثالث ـ المفسر الناقد: وهو الذي يجمع مرويات المفسرين ويرجح بينها، وإمامُ هذه الطريقة ابنُ جرير الطبري (ت:310) (¬1)، حيث كان ¬

(¬1) يقول الفاضل بن الطاهر بن عاشور في كتابه: التفسير ورجاله =

الرابع- المفسر المتخير قولا واحدا

يذكر ما وصله من المرويات التفسيرية عن السلف، ثمَّ يرجح بينها بقواعد الترجيح التي تعتبر من أهم ميزات كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن. والمفسر الناقد صاحب رأي؛ لأنه يستعرض الأقوال المذكورة في الآية، ثمَّ يختار منها ما يراه راجحاً، فاختياره قولاً من الأقوال دون غيره رأيٌ واجتهادٌ منه، ولذا فهو من الذين لهم رأي في التفسير. الرابع ـ المفسر المتخيِّر قولاً واحداً: وهو أن يعمد المفسر إلى أقوال التفسير فيختار منها قولاً دون غيره، ولا يتعرَّض لنقد ما سواه، فهو في تخيره يوافق المفسر الناقد، غير أنَّ المفسر الناقد يتميز عنه بنقده الغالب لما لا يختار، وعمل المفسر المتخير شبيه بعمل بعض الفقهاء ¬

= (ص:28)، وهو يتحدث عن يحيى بن سلام البصري: «... وهو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير النقدي، أو الأثري النظري التي سار عليها ابن جرير واشتهر بها، ذلك هو تفسير يحيى بن سلام التميمي البصري الأفريقي، المتوفى سنة 200 ... فبعد أن يورد الأخبار المروية مفتتحاً إسنادها بقوله: «حدثنا»، يأتي بحكمه الاختياري مفتتحاً بقوله: «قال يحيى»، ويجعل مبنى اختياره على المعنى اللغوي، والتخريج الإعرابي ..».

لكتب مذهبهم، حيث كتب بعضهم كتاباً على قول في المذهب، وأغلب المختصرات التفسيرية، كتفسير الجلالين، من هذا النوع، ويظهر أنَّ أول من قام بهذه الطريقة علي بن أحمد الواحدي (ت:468) الذي كتب ثلاث كتب في التفيسر: الأول: البسيط، وحشد فيه الأقوال، وتعرض فيه للترجيح. الثاني: الوسيط، وهو أقلُّ عرضاً للأقوال والترجيح من البسيط. الثالث: الوجيز، وجعله على قولٍ واحدٍ، قال في مقدمته: «وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا تعجيلاً لمنفعتهم، وتحصيلاً للمثوبة في إفادتهم بما تمنوه طويلاً، فلم يغنِ عنهم أحد فتيلاً، وتاركٌ ما سوى قولٍ واحدٍ مُعْتَمَدٍ لابن عباس رحمة الله عليه، أو من هو في مثل درجته» (¬1). وبعد هذا العرض لأنواع المشاركين في علم التفسير، اجتهدت في بيان من يمكن أن ينطبق عليه هذا المصطلح منهم، فظهر لي أن يكون تعريف المفسِّر: من كان له رأي في التفسير، وكان متصدياً له. ¬

(¬1) تفسير الوجيز، للواحدي، بهامش التفسير المنير لمعالم التنزيل المسمى: مراح لبيد (ص:2).

فمن انطبق عليه أحدهما خرج بذلك عن أن يكون مفسِّراً بالمعنى المصطلح عليه للتفسير، وهو بيان معاني القرآن. فإن كان بعض المشاركينَ في التَّفسيرِ لا رأي لهم؛ كناقلي التَّفسير الذين لا رأي لهم فيه، بل كان همُّ أحدهم أن يجمع المرويات التي بَلَغَتْهُ عن السلف = فإنهم لا يدخلون في عداد من يبين كلام الله. وإن كان ممن يُقرأُ عليه كتاب من كتبِ التَّفسيرِ، وليس له عليه أيُّ تعليقٍ تفسيريٍّ = فإنَّه لا عمل له في التَّفسيرِ، وليس من المفسِّرين ما دام هذا سبيله. وإن كان له آراء، لكنها قليلة = فإنه لا يدخل في هذا المصطلح، والله أعلم. وأخيراً ... بعد هذا العرض لهذه المصطلحات، أرجو أن لا يكون فيها شيء من التمحُّل والتكلُّف، وإنما حرصت على بيانها لأنها تدعو إلى الانضباط في المعلومات، وتجعل المرء يميِّز بين المتشابه منها، فلا تتداخل عليه المعلومات، ويعرف بها كثيراً من الزيادات التي لا تدخل في المصطلح، ويبين له متى دخلت، وكيف دخلت، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

الفهارس العلمية والمراجع

فهرس معلومات الكتاب المقدمة والتطبيق 8 - الإعجاز العلمي = دلائل صدق القرآن: 8 - نسبة الإعجاز إلى العلمي فيها خلل، وقد يفهم منها أن غيره ليس علمياً: 8 - مصطلح «العلمي» أثر من آثار التغريب الذي يصف العلوم الدنيوية دون غيرها بالعلمية: 14 - من فوائد تحرير المصطلحات: بيان المصطلح بذاته، وعدم دخول ما ليس منه فيه، والتفريق بين ما يُظَنُّ أنه مترادف من هذه المصطلحات: 19 - تحديد التفسير بالمأثور بأنه تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة وبأقوال الصحابة وأقوال التابعين من المصطلحات المعاصرة: 19 - التفسير بالرأي يقابل التفسير بالمأثور عند من اصطلح عليه بهذه الأنواع الأربعة: 19 - من جعل التفسير بالمأثور يشمل هذه الأنواع الأربعة لم يبين سبب هذا التحديد: 20 - أقدم من نص على هذا التقسيم الرباعي محمد عبد العظيم الزرقاني، ثم محمد حسين الذهبي: 20 - تتابع بعض المعاصرين على هذا المصطلح:

21 - المعروف من لفظة مأثور: ما أُثِرَ عن السابقين، فكيف يكون تفسير القرآن بالقرآن مأثوراً؟: 23 - القرآن مصدر من مصادر التفسير، وهو من أحسن طرق التفسير، لكن لا يسمى التفسير به تفسيراً بالمأثور: 23 - لم يذكر أصحاب التقسيم الرباعي للمأثور تفسير أتباع التابعين: 23 - محمد حسين الذهبي يعلل لإدخال تفسير التابعين بوجود تفسيراتهم في التفاسير التي تُعنى بتفسير السلف، وهذه العلَّة تشمل أتباع التابعين، ومع ذلك لم يُدخلهم في التفسير بالمأثور: 24 - أصل هذا المصطلح مأخوذ من طرق التفسير التي ذكرها شيخ الإسلام، وهي تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، فجعلوها تفسيراً بالمأثور، وهي طرق التفيسر عند شيخ الإسلام: 27 - غفلة من مشى على مصطلح التفسير بالمأثور عن اجتهادات السلف في التفسير: 28 - التفسير الوارد عن السلف مصدر من مصادر التفسير، وهو مأثور بالنسبة لمن جاء بعدهم، لكن لا يعني كونه مأثوراً أنه لم يقع فيه اجتهاد ورأي منهم: 29 - تفسير كل طبقة هو مأثور لمن جاء بعدهم، لكنه لا يقبل لكونه مأثوراً، بل لعلل أخرى: 29 - التفسير المأثور عن ينقسم إلى قسمين: 29 - القسم الأول: المنقول المحض الذي لا رأي فيه، ويشمل تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأسباب النُّزول، وقصص الآي، والمغيبات:

29 - القسم الثاني: ما كان فيه اجتهاد، ويظهر فيما يرد عليه الاحتمال في التفسير: 29 - الرأي الوارد في تفسير السلف هو الرأي المحمود الذي يكون عن علم: 30 - وجود الأقوال الضعيفة في تفسيراتهم لا يعني أنها من الرأي المذموم: 30 - ورود بعض الأقوال الغريبة في تفسيراتهم قليلة جدًّا، وليست منهجاً ظاهراً في تفاسيرهم: 30 - الرأي الذي جاء بعد السلف قسمان: 30 - القسم الأول: الرأي المحمود المبني على علم، ويشمل الاختيار من أقوالهم والترجيح بينها، والإتيان بمعنى جديد صحيح لا يُبْطِل تفسير السلف ولا يُقصَر معنى الآية عليه: 32 - القسم الثاني: الرأي المذموم، وله صور، وغالباً ما يكون عن جهل أو هوى. 32 - وينتج من هذا: أنَّ التفسير بالرأي لا يقابل التفسير بالمأثور، وإن التفسير الوارد عن السلف يسمى مأثوراً ولا يقابله التفسير بالرأي، وأنَّ قبوله ليس لأنه مأثور فقط، بل هناك حجج أخرى مع كونه مأثوراً: 34 - نقد طريقة الشوكاني في تقسيم كتابه في التفسير إلى الرواية والدراية، وذكر ما وقع فيها من الخلل: 35 - تلخيص ما يتعلق بالتفسير المأثور: أن إطلاقه على تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى تفسير الصحابة والتابعين وأتباعهم صحيح، وإن هذا المأثور من أهم مصادر التفسير، وأنَّ المروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حجة بلا =

خلاف، وأن جملة من المروي عن السلف معتمده النقل، وأنَّ من تفسيرهم ما هو اجتهاد منهم، وهو من الرأي المحمود الذي يكون عن علم، وأن القرآن مصدر مهم من مصادر التفسير، وأن التعامل مع تفسير السلف يختلف من مصدر إلى آخر: 37 - من نتائج هذا التقسيم للمأثور: أن حُكِمَ بأنه يجب الأخذ به دون تفصيل، وأنه قد يخالف التفسير بالرأي، وأن كتب التفسير تُقسَم على هذين المصطلحين: 47 - تصحيح المسار في مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي: 47 - التفسير الذي لا يدخله الرأي: الذي لا يحتمل إلا قولاً واحداً، والمنقول الذي ليس للمفسر فيه إلا النقل؛ كتفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأسباب النُّزول، والأخبار الغيبية: 48 - التفسير الذي يدخله الرأي، وهو كل ما يدخله الاحتمال: مفهوم التفسير 53 - التفسير ليس مقلوب «سفر»: 54 - أي معلومة فيها بيان عن معنى الآية فهي تفسير 54 - أي معلومة ليس فيها بيان عن معنى الآية فليست من التفسير: 55 - وجود المعلومة في كتب التفسير ليس حجة في عدها من علم التفسير:

55 - تنبيه بعض المفسرين على بعض المعلومات الخارجة عن التفسير: 55 - ابن عطية: صور الطلاق وتنويعه مما لا يختص بالتفسير: 56 - أبو حيان: تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً ليس من علم التفسير: 56 - الشوكاني: ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء ليس مقصوداً في كتب التفسير: 57 - الطاهر بن عاشور: صور الظهار عديدة، وليست الإحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى، وليس من مهيع التفسير: 57 - المعلومات الواردة في كتب التفسير: 58 - بيان القرآن بياناً مباشراً: 59 - معلومات تفيد في تقوية بيان المعنى: 60 - استنباطات عامة في الفقه والآداب وغيرها: 61 - لطائف ومُلَح تفسيرية: 61 - معلومات علمية تتعلق بعلوم القرآن: 63 - معلومات علمية عامة في شتى المعارف الإسلامية وغيرها: 64 - التفسير: شرح وبيان للقرآن، فما كان فيه بيان، فهو تفسير، وما كان خارجاً عن حدِّ البيان، فإنه ليس من التفسير، وإن وُجِدَ في كتب المفسرين: 65 - تعريفات بعض العلماء لعلم التفسير: 68 - ملحوظات على هذه التعريفات: 68 - بعضها ذكر ضابط البيان في حدِّ التفسير:

68 - بعضها أدخل جملة من علوم القرآن في تعريف التفسير: 69 - بعضها أدخل ما ليس من مهمة المفسر في حدِّ التفسير: 71 - لو جُرِّدت كتب التفسير من المعلومات التي هي خارج حدِّ البيان لتقاربت مناهج المفسرين: 71 - المعلومات التي هي خارج حدِّ البيان معلومات علمية مفيدة، لكن يحسن إبراز صلب التفسير: 73 - مصطلح التفسير المذكور بضابطه، وهو حدُّ البيان = أقرب إلى منهج تفسير السلف، وهو الذي يعمل به الطبري في بيان المعنى الجملي للآية: 73 - زيادات المتأخرين على تفسير السلف: 73 - تقوية أحد وجوه التفسير الواردة عن السلف: 73 - ذكر معلومات قرآنية لا علاقة لها بالتفسير: 73 - التوسع في العلم الذي برز فيه المفسر: 74 - ذكر وجوه جديدة لم ترد عن السلف: 74 - ذكر جملة من الاستنباطات في العلوم الشرعية وغيرها: 74 - تطبيق حد البيان وما كان خارجاً عن هذا الحدِّ على سورة الكوثر: 85 - ليس المراد من هذا البحث أن تقف على التفسير، وإنما المراد بيان المصطلح: 85 - أنه لا يُعترض على المفسرين الذين أدخلوا هذه المعلومات الزائدة عن التفسير في كتبهم؛ لأن ذلك منهج لهم انتهجوه:

85 - فائدة معرفة مفهوم التفسير: 85 - معرفة صلب التفسير الذي هو أول وأولى ما يُعرف من علم التفسير: 86 - معرفة علاقة المعلومات الواردة في كتب التفسير بعلم التفسير: 86 - معرفة العلوم التي يجب على المفسر معرفتها: مفهوم التأويل 91 - التأويل على قسمين: بيان مراد المتكلم، وهو التفسير، والموجود الذي يؤول إليه الكلام: 92 - تفسير الكلام ليس من جنس ما يوجد في الخارج: 92 - مثال على التأويل بمعنييه: 93 - آثار في إطلاق التأويل على التفسير: 97 - آثار على إطلاق التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء: 102 - المصطلح المتأخر في مفهوم التأويل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مرجوح لقرينة تدل عليه: 104 - مثال لأثر هذا المصطلح في تفسير كلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلمه التأويل» أنه التأويل بالمعنى الحادث، وقد ورد ذلك عن ابن الجوزي وابن الأثير: 106 - صاحب لسان العرب وتاج العروس نقلا هذا المصطلح الحادث عن ابن الأثير، وليس وجوده في كتبهم حجة لغوية: 107 - سبب ظهور هذا المصطلح الحادث هو القول بالمجاز:

108 - تطلب بعض العلماء الفرق بين التفسير والتأويل بسبب المصطلح الحادث: 109 - نقول من أقوالهم في الفرق بين التفسير والتأويل: 113 - معنيا التأويل الواردان في لغة القرآن والسنة وأقوال السلف وأهل اللغة هو الأصل الذي يرجع إليه في معرفة الفرق، وعليه تعرض جميع التفريقات التي ذكرها المتأخرون: 113 - إذا رجع الفرق بين التفسير والتأويل الذي يذكره المتأخرون إلى أحد المعاني الصحيحة المذكورة فإنه يقبل، ولا يكون هو حدُّ الفرق بل جزء منه، مع ذكر مثال لهذا. 116 - وإذا لم يرجع إلى من هذه الفروق الصحيحة فإنه لا يقبل: 116 - المصطلح الحادث قد يكون صحيحاً إذا كان المراد من الكلام غير ظاهره عند المتكلم به، ويكون في كلامه ما يبين ذلك، ولا يكون من التأويل بالمصطلح الحادث، بل هو من تفسير الكلام: 117 - أما إذا لم يكن في كلامه ما يدل على ذلك، فالتأويل المزعوم لكلامه إنما هو تحريف: 117 - ذكر مثال للحالتين السابقتين: 122 - لا يوجد لمصطلح التأويل الحادث حدٌّ يقف عنده، لهذا يؤوِّل الفلاسفة أحوال الآخرة، ويؤوِّل الباطنية الشرائع إلى غير ذلك: 125 - ذكر مثال لتأويل الفلاسفة: 127 - معنى التأويل في آية سورة آل عمران:

128 - الآية نزلت بسبب وفد نصارى نجران: 128 - لفظ التأويل في الآية يحتمل وجهين صحيحين واردين عن السلف: التفسير، وما تؤول إليه حقيقة الشيء: 129 - تعليق على نوع من الوقف على لفظ الجلالة {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}، وإن الصحيح أن يُوقف عليه بالتعانق: 130 - بعض المتأخرين حمل التأويل في الآية على التأويل الحادث: 134 - علاقة المتشابه بالتأويل من خلال آية آل عمران: 134 - أن يكون التأويل بمعنى التفسير، ويكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي الذي يخفى على بعض الناس دون بعض، وهو يتعلق بمعرفة المعاني التي نزل بها القرآن أو معرفة المراد بالآية: 143 - أن يكون التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء، ويكون المراد بالمتشابه المتشابه الكلي الذي يخفى على جميع الناس، وهو ما يتعلق بما لم يُعلِمناه الله من الغيبيات: 143 - تطلُّب بعض الحكم في التشريع يدخل في المتشابه الكلي، وتطلبه قد يصل بالإنسان إلى الزيغ أو الافتراء على الله: 145 - لا يعني هذا أن الحكم لا تظهر للناس: 145 - هذا القسم مما لا يدركه البشر، وهو خارج عن حدِّ التفسير: 147 - القول في الأحرف المقطعة:

147 - الأحرف المقطعة من المتشابه النسبي لا الكلي، بدلالة تكلم السلف فيها: 149 - العلماء فريقان في الأحرف المقطعة: 149 - من يرى أن لها معنى، لكن استأثر الله به، فلا يعلمه أحد، وعلى هذا فهي من المتشابه الكلي عندهم: 149 - من تعرض لتفسيرها، وهم قسمان: من يرى أن لها تفسيراً، وهو يجتهد في بيان معناها: 149 - من يجعلها حروفاً لا معنى لها؛ لأن الحرف في لغة العرب لا معنى له. 149 - الصواب في ذلك ما لخَّصه العلامة ابن عثيمين، قال: «هذه الحروف ليس لها معنى، ولها مغزى»: 150 - جمهور تفسير السلف يرجع إلى هذا التفسير الذي ذكره ابن عثيمين: 150 - تخريج الراغب الأصفهاني لبعض أقوالهم على هذا التفسير: 153 - المغزى غير المعنى، والمغزى من إيراد هذه الأحرف التحدي والإعجاز للعرب الذين نزل القرآن بحروفهم كلامهم: 154 - الدلالة على أن المغزى منها التحدي والإعجاز أنَّه في غالب مواردها يذكر بعدها القرآن أو شيء من أحواله: الاستنباط 159 - معنى الاستنباط في اللغة: 160 - الاستنباط من القرآن يكون من نص ظاهر لا يحتاج إلى تفسير، ويكون من نص يحتاج إلى تفسير:

160 - الاستنباط ربط كلام له معنى بمدلول الآية: 161 - تشمل الاستنباطات الفقه والأدب والأخلاق والتربية وغيرها: 161 - أمثلة للاستنباطات: 166 - الاستنباط من القول بالرأي، وقد يكون من الرأي المحمود، وقد يكون من الرأي المذموم: 166 - عملية الاستنباط تشمل نصًّا مفسَّراً، ونصًّا ظاهراً، ومعلومة مرتبطة بأحدهما: • ربط المعلومة والآية لا يخلو من ثلاث أحوال: 166 - أن تكون المعلومة بذاتها فاسدة باطلة، ويكون ربطها بالآية خطأ: 167 - أن تكون المعلومة بذاتها صحيحية، وقد يكون ربطها بالآية صحيحاً، وقد لا يكون: 167 - أمثلة للاستنباطات: 168 - الاستنباط الصحيح من نص ظاهر: 168 - الاستنباط غير الصحيح من نص ظاهر: 169 - الاستنباط الصحيح من نص بعد تفسيره تفسيراً صحيحاً: 170 - الاستنباط غير الصحيح من نص بعد تفسيره تفسيراً صحيحاً: 171 - الاستنباط غير الصحيح من تفسير غير صحيح: 173 - أن تكون الفائدة صحيحة والخطأ في ربطها بالآية: 174 - الاستنباط من الجمع بين آيتين، ومثاله: 175 - الاستنباط بإعمال مفهوم المخالفة: 176 - مسألة التفسير الإشاري وفوائد الآيات:

177 - أقسام الفوائد والإشارات التي ترد على الآيات: 178 - ملخص في التفسير الإشاري من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشاطبي: 180 - شروط قبول التفسير الإشاري عند ابن القيم والشاطبي: 181 - وقوع بعض المعاصرين من الدعاة والوعاظ فيما وقع فيه أهل الإشارة من ربط بعض القضايا بالقرآن، وهو لا يدل عليها: مفهوم التدبر 185 - جاء الأمر بتدبر القرآن في أربعة مواطن: 185 - آيتان منها في سياق المنافقين، وآيتان في سياق الكفار: 186 - نزول الآية في سياق الكفار لا يعني أن المؤمنين غير مأمورين بالتدبر: 187 - مرحلة التدبر تأتي بعد الفهم: 189 - مستويات التدبر ثلاثة: 189 - تدبر المعنى الصحيح في الآية، وهذا يكون مخاطباً لفهم المعنى؛ لأن المراد منه فهم المعنى: 189 - الاستنباط هو نوع من التدبر يأتي بعد فهم المعنى وتفسيره: 202 - المتشابه الكلي، وهو ما لا يعلم معناه إلا الله لا يمكن أن يقع فيه التدبر، وهذا يعني أن التدبر إنما يقع في المعلوم دون ما استأثر الله بعلمه: 202 - يرد في القرآن معان مقاربة للتدبر كالتفكر والتذكر والنظر والاعتبار والاستبصار وغيرها:

• الفرق بين التأثر والتدبر: التدبر عملية عقلية تحدث في الذهن، والتأثر انفعال في القلب والجوارح: مفهوم المفسر 207 - لم يحظ المفسر بتعريف عند العلماء: 207 - تعريف الشيخ حسين الحربي للمفسر: من له أهلية تامة يعرف بها مراد الله تعالى بكلامه المتعبد بتلاوته، قدر الطاقة البشرية، وراض نفسه على مناهج المفسرين، مع معرفته جُملاً كثيرة من تفسير كتاب الله، ومارسَ التفسير عملياً بتعليم أو تأليف: 207 - طبقات المفسرين عن السيوطي أربع: مفسرو السلف، والمفسرين من المحدثين، وبقية علماء السنة، ومن صنف في التفسير من المبتدعة: 208 - يظهر من كلام السيوطي أن المفسر: من كان له مشاركة في التفسير أو كتب فيه: 208 - هذا الذي سار عليه السيوطي فيه تسامح؛ لأنه يجعل كثيراً من النقلَةِ مفسرين: 209 - من كتب في طبقات المفسرين لم يكن مراده تعريف المفسر، بل من كان مفسراً أو شارك في التفسير تأليفاً: 209 - لا يوجد ضابط في إيراد عالم من العلماء في عداد المفسرين: 209 - بعض من أُدخِل في طبقات المفسرين يكون ممن برز في علم من علوم القرآن؛ كعلم القراءة: 209 - البروز العلمي العامُّ لا يلزم منه البروز في علم بعينه:

• إخراج عالم من طبقات المفسرين لا يعني الانتقاص من حقه: 210 - أنواع المذكورين في طبقات المفسرين: 210 - الأول: طبقة المجتهدين الأُول، وهم مفسرو الصحابة والتابعين وأتباع التابعين: 211 - ظهر في عهد أتباع التابعين جمع من اللغويين الذين شاركوا في التفسير، وجمع من أهل البدع الذين شاركوا فيه أيضاً: 213 - الثاني: نَقَلَةُ التفسير، وهم جمع من المحدثين الذين اهتموا بنقل روايات السلف؛ كعبد الرزاق في تفسيره: 213 - الثالث: المفسر الناقد، وهو الذي يعمد إلى تضعيف الأقوال والترجيح بينها؛ كابن جرير الطبري: 214 - الرابع: المفسر المتخيِّر لقول واحد، وهو الذي يعمد إلى اختيار قول واحد دون ذكر علل الترجيح أو التضعيف؛ كالواحدي في تفسير الوجيز: 215 - المفسِّر: من كان له رأي، وكان متصدِّياً له: 216 - ناقلو التفسير يخرجون من عداد المفسرين على هذا التعريف: 216 - من قُرِئ عليه في التفسير دون أن يكون له تعليقات تفسيرية، فهو يخرج من عداد المفسرين على هذا التعريف: 216 - من كان له آراء قليلة فإنه يخرج من عداد المفسرين على هذا التعريف:

ثبت المراجع والمصادر 1 - أبجد العلوم، لصديق خان القنوجي. 2 - أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي. 3 - الإكليل في استنباط التَّنْزيل، للسيوطي. 4 - البحر المحيط، لأبي حيان، تحقيق: عرفات العشا حسونة. 5 - بغية المرتاد، لابن تيمية، تحقيق: الدكتور موسى الدويش. 6 - التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، تصحيح: طه يوسف شاهين. 7 - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور. 8 - التسهيل لعلوم التنْزيل، لابن جزي الكلبي. 9 - تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب. 10 - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة. 11 - تفسير الوجيز، للواحدي، بهامش التفسير المنير لمعالم التنْزيل المسمى: مراح لبيد. 12 - تفسير سورة الإخلاص، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، نشر الدار السلفية، بومبي/الهند، طـ1، 1406.

13 - التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي. 14 - التفسير ورجاله، للفاضل بن الطاهر بن عاشور. 15 - تهذيب الآثار، للطبري، تحقيق: محمود شاكر، مسند ابن عباس، السفر الأول. 16 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق: محمود شاكر. 17 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، طـ: الحلبي. 18 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، طـ: دار الكتب المصرية. 19 - درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم. 20 - دقائق التفسير، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد السيد الجليند. 21 - روح المعاني، للآلوسي. 22 - زاد المهاجر إلى ربِّه، لابن القيِّم. 23 - سير أعلام النبلاء، للذهبي، طـ: دار الرسالة. 24 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: الدكتور أحمد سعد الحمدان. 25 - طبقات المفسرين، للسيوطي. 26 - العباب الزاخر واللباب الفاخر، للصغاني، تحقيق: محمد حسين آل ياسين. 27 - غريب الحديث لابن الجوزي. 28 - الكشاف، للزمخشري. 29 - لباب التأويل في معاني التنْزيل، للخازن. 30 - لمحات في علوم القرآن، لمحمد لطفي الصباغ. 31 - مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان.

32 - مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع ابن قاسم. 33 - المحرر الوجيز، لابن عطية، طـ: قطر. 34 - مفتاح دار السعادة، لابن القيم. 35 - مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان داوودي. 36 - مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق: عبد السلام هارون. 37 - مقدمة جامع التفاسير، للراغب الأصفهاني، تحقيق: الدكتور أحمد حسن فرحات. 38 - مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: الدكتور عدنان زرزور. 39 - مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني. 40 - الموافقات، للشاطبي، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد. 41 - الناسخ والمنسوخ، للنحاس، تحقيق: الدكتور سلميان اللاحم. 42 - نزهة العين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لابن الجوزي، تحقيق: حاتم الضامن. 43 - النَّشر في القراءات العشر، لابن الجزري. 44 - النِّكت والعيون، للماوردي، تحقيق: السَّيد بن عبد الرحيم بن عبد المقصود. وغيرها من المراجع المذكورة في حواشي الكتاب.

§1/1